روضة الطالبين وعمدة المفتين

النووي

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْفَضْلِ وَالطَّوْلِ وَالْمِنَنِ الْجِسَامِ، الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْنَا جَزِيلَ نِعَمِهِ وَأَلْطَافِهِ الْعِظَامِ، وَأَفَاضَ عَلَيْنَا مِنْ خَزَائِنِ مُلْكِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْإِنْعَامِ، وَكَرَّمَ الْآدَمِيِّينَ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنَامِ، وَجَعَلَ فِيهِمْ قَادَةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَاجْتَبَى مَنْ لَطَفَ بِهِ مِنْهُمْ فَجَعَلَهُمْ مِنَ الْأَمَاثِلِ وَالْأَعْلَامِ، فَطَهَّرَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَدَرِ وَوَضَرِ الْآثَامِ، وَصَيَّرَهُمْ بِفَضْلِهِ مِنْ أُولِي النُّهَى وَالْأَحْلَامِ، وَوَفَّقَهُمْ لِلدَّوَامِ عَلَى مُرَاقَبَتِهِ وَلُزُومِ طَاعَتِهِ عَلَى تَكَرُّرِ السِّنِينَ وَالْأَيَّامِ، وَاخْتَارَ مِنْ جَمِيعِهِمْ حَبِيبَهُ وَخَلِيلَهُ وَعَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَحَا بِهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَأَدْحَضَ بِهِ آثَارَ الْكُفْرِ وَمَعَالِمَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، وَاخْتَصَّهُ بِالْقُرْآنِ الْعَزِيزِ الْمُعْجِزِ وَجَوَامِعِ الْكَلَامِ. فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَالْآدَابِ، وَفُرُوعِ الْأَحْكَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْوَامِ، - صَلَّى اللَّهُ

وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَآلِ كُلٍّ وَأَتْبَاعِهِمُ الْكِرَامِ، صَلَوَاتٍ مُتَضَاعِفَاتٍ دَائِمَاتٍ بِلَا انْفِصَامٍ. أَحْمَدُهُ أَبْلَغَ الْحَمْدِ وَأَكْمَلَهُ وَأَعْظَمَهُ وَأَتَمَّهُ وَأَشْمَلَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اعْتِقَادًا لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَإِذْعَانًا لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفَى مِنْ خَلِيقَتِهِ، وَالْمُخْتَارُ الْمُجْتَبَى مِنْ بَرِيَّتِهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَادَهُ شَرَفًا وَفَضْلًا لَدَيْهِ وَكَرَّمَ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَهَمِّ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَآكَدِ الْعِبَادَاتِ، وَأَوْلَى مَا أُنْفِقَتْ فِيهِ نَفَائِسُ الْأَوْقَاتِ، وَشَمَّرَ فِي إِدْرَاكِهِ وَالتَّمَكُّنِ فِيهِ أَصْحَابُ الْأَنْفُسِ الزَّكِيَّاتِ، وَبَادَرَ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ الْمُسَارِعُونَ إِلَى الْمَكْرُمَاتِ، وَسَارَعَ إِلَى التَّحَلِّي بِهِ مُسْتَبِقُو الْخَيْرَاتِ، وَقَدْ تَظَاهَرَ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ جُمَلٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمَاتِ، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمَشْهُورَاتِ، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى الْإِطْنَابِ بِذِكْرِهَا هُنَا لِكَوْنِهَا مِنَ الْوَاضِحَاتِ الْجَلِيَّاتِ. وَأَهَمُّ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْفُرُوعُ الْفِقْهِيَّاتُ، لِافْتِقَارِ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، مَعَ أَنَّهَا تَكَالِيفُ مَحْضَةٌ فَكَانَتْ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ. وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ التَّصْنِيفِ فِي الْفُرُوعِ مِنَ الْمَبْسُوطَاتِ وَالْمُخْتَصَرَاتِ، وَأَوْدَعُوا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْقَوَاعِدِ وَالْأَدِلَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ النَّفَائِسِ الْجَلِيلَاتِ، مَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِنَايَاتِ. وَكَانَتْ مُصَنَّفَاتُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي نِهَايَةٍ مِنَ الْكَثْرَةِ فَصَارَتْ مُنْتَشِرَاتٍ، مَعَ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الِاخْتِيَارَاتِ، فَصَارَ لَا يُحَقِّقُ الْمَذْهَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنَ الْمُوَفَّقِينَ الْغَوَّاصِينَ الْمُطَّلِعِينَ أَصْحَابِ الْهِمَمِ الْعَالِيَاتِ، فَوَفَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَهُ الْحَمْدُ - مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الطُّرُقَ الْمُخْتَلِفَاتِ، وَنَقَّحَ الْمَذْهَبَ أَحْسَنَ تَنْقِيحٍ، وَجَمَعَ مُنْتَشِرَهُ بِعِبَارَاتٍ وَجِيزَاتٍ، وَحَوَى جَمِيعَ مَا وَقَعَ

لَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَاتِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الْمُبَرَّزُ الْمُتَضَلِّعُ مِنْ عِلْمِ الْمَذْهَبِ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّافِعِيُّ ذُو التَّحْقِيقَاتِ، فَأَتَى فِي كِتَابِهِ (شَرْحِ الْوَجِيزِ) بِمَا لَا كَبِيرَ مَزِيدٍ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِيعَابِ مَعَ الْإِيجَازِ وَالْإِتْقَانِ وَإِيضَاحِ الْعِبَارَاتِ، فَشَكَرَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لَهُ سَعْيَهُ، وَأَعْظَمَ لَهُ الْمَثُوبَاتِ، وَجَمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مَعَ أَحْبَابِنَا فِي دَارِ كَرَامَتِهِ مَعَ أُولِي الدَّرَجَاتِ. وَقَدْ عَظُمَ انْتِفَاعُ أَهْلِ عَصْرِنَا بِكِتَابِهِ لِمَا جَمَعَهُ مِنْ جَمِيلِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنَّهُ كَبِيرُ الْحَجْمِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ. فَأَلْهَمَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ - وَلَهُ الْحَمْدُ - أَنْ أَخْتَصِرَهُ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْمُجَلَّدَاتِ، فَشَرَعْتُ فِيهِ قَاصِدًا تَسْهِيلَ الطَّرِيقِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ لِأُولِي الرَّغَبَاتِ، أَسْلُكُ فِيهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - طَرِيقَةً مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاخْتِصَارِ وَالْإِيضَاحِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَطْلُوبَاتِ، وَأَحْذِفُ الْأَدِلَّةَ فِي مُعْظَمِهِ وَأُشِيرُ إِلَى الْخَفِيِّ مِنْهَا إِشَارَاتٍ، وَأَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ فِقْهِ الْكِتَابِ حَتَّى الْوُجُوهَ الْغَرْبِيَّةَ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَقْتَصِرُ عَلَى الْأَحْكَامِ دُونَ الْمُؤَاخَذَاتِ اللَّفْظِيَّاتِ، وَأَضُمُّ إِلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاطِنِ تَفْرِيعَاتٍ وَتَتِمَّاتٍ، وَأَذْكُرُ مَوَاضِعَ يَسِيرَةً عَلَى الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ فِيهَا اسْتِدْرَاكَاتٌ، مُنَبِّهًا عَلَى ذَلِكَ - قَائِلًا فِي أَوَّلِهِ: قُلْتُ: وَفِي آخِرِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ. وَأَلْتَزِمُ تَرْتِيبَ الْكِتَابِ - إِلَّا نَادِرًا - لِغَرَضٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَاتِ، وَأَرْجُو - إِنْ تَمَّ هَذَا الْكِتَابُ - أَنَّ مَنْ حَصَّلَهُ أَحَاطَ بِالْمَذْهَبِ وَحَصَلَ لَهُ أَكْمَلُ الْوُثُوقِ

بِهِ وَأَدْرَكَ حُكْمَ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْوَاقِعَاتِ. وَمَا أَذْكُرُهُ غَرِيبًا مِنَ الزِّيَادَاتِ، غَيْرَ مُضَافٍ إِلَى قَائِلِهِ، قَصَدْتُ بِهِ الِاخْتِصَارَ، وَقَدْ بَيَّنْتُهَا فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) وَذَكَرْتُهَا فِيهِ مُضَافَاتٍ. وَحَيْثُ أَقُولُ: عَلَى الْجَدِيدِ، فَالْقَدِيمُ خِلَافُهُ، أَوِ: الْقَدِيمِ، فَالْجَدِيدُ خِلَافُهُ، أَوْ: عَلَى قَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ، فَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ. وَحَيْثُ أَقُولُ: عَلَى الصَّحِيحِ أَوِ الْأَصَحِّ، فَهُوَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَحَيْثُ أَقُولُ: عَلَى الْأَظْهَرِ، أَوِ: الْمَشْهُورِ، فَهُوَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَحَيْثُ أَقُولُ: عَلَى الْمَذْهَبِ، فَهُوَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ أَوِ الطُّرُقِ. وَإِذَا ضَعُفَ الْخِلَافُ، قُلْتُ: عَلَى الصَّحِيحِ، أَوِ الْمَشْهُورِ. وَإِذَا قَوِيَ، قُلْتُ: الْأَصَحُّ، أَوِ الْأَظْهَرُ، وَقَدْ أُصَرِّحُ بِبَيَانِ الْخِلَافِ فِي بَعْضِ الْمَذْكُورَاتِ. وَاسْتِمْدَادِي الْمَعُونَةَ وَالْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ وَالصِّيَانَةَ فِي جَمِيعِ أُمُورِي مِنْ رَبِّ الْأَرَضِينَ وَالسَّمَاوَاتِ. أَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ لِحُسْنِ النِّيَّاتِ، وَالْإِعَانَةَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ. وَتَيْسِيرَهَا وَالْهِدَايَةَ لَهَا دَائِمًا فِي ازْدِيَادٍ حَتَّى الْمَمَاتِ. وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِوَالِدَيَّ وَمَشَايِخِي وَأَقْرِبَائِي وَإِخْوَانِي وَسَائِرِ مَنْ أُحِبُّهُ وَيُحِبُّنِي فِيهِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَنْ يَجُودَ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَدَوَامِ طَاعَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَسَرَّاتِ وَأَنْ لَا يَنْزِعَ مِنَّا مَا وَهَبَهُ لَنَا وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الْمَوْهُوبَاتِ، وَأَنْ يَنْفَعَنَا أَجْمَعِينَ، وَكُلَّ مَنْ يَقْرَأُ هَذَا الْكِتَابَ بِهِ، وَأَنْ يُجْزِلَ لَنَا الْعَطِيَّاتِ، وَأَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَنَا وَجَوَارِحَنَا مِنْ جَمِيعِ الْمُخَالَفَاتِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا التَّفْوِيضَ إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ وَالْإِعْرَاضَ عَمَّا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ اللَّحَظَاتِ. اعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَحَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالنِّعْمَةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.

كتاب الطهارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الطَّهَارَةِ بَابُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) . الْفُرْقَانِ: 48. الْمُطَهِّرُ لِلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ مِنَ الْمَائِعَاتِ، الْمَاءُ الْمُطْلَقُ خَاصَّةً، وَهُوَ الْعَارِي عَنِ الْإِضَافَةِ اللَّازِمَةِ. وَقِيلَ: الْبَاقِي عَلَى وَصْفِ خِلْقَتِهِ. وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ حَدَثٍ، فَطَاهِرٌ، وَلَيْسَ بِطَهُورٍ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: طَهُورٌ فِي الْقَدِيمِ. وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي نَقْلِ الطَّهَارَةِ، كَتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ، وَالْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ، وَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ، وَمَاءِ الْمَضْمَضَةِ، طَهُورٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَمَّا مَا اغْتَسَلَتْ بِهِ كِتَابِيَّةٌ عَنْ حَيْضٍ لِتَحِلَّ لِمُسْلِمٍ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ إِعَادَةُ الْغُسْلِ إِذَا أَسْلَمَتْ، فَلَيْسَ بِطَهُورٍ. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا - وَهُوَ الْأَصَحُّ - فَوَجْهَانِ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ. وَمَا تَطَهَّرُ بِهِ لِصَلَاةِ النَّفْلِ، مُسْتَعْمَلٌ، وَكَذَا مَا تَطَهَّرُ بِهِ الصَّبِيُّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْمُسْتَعْمَلُ الَّذِي لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، لَا يُزِيلُ النَّجَسَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّجَسِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ طَاهِرٌ، لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ جُمِعَ الْمُسْتَعْمَلُ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ، عَادَ طَهُورًا فِي الْأَصَحِّ، كَمَا لَوِ انْغَمَسَ جُنُبٌ فِي قُلَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوِ انْغَمَسَ جُنُبٌ فِيمَا دُونَ قُلَّتَيْنِ حَتَّى عَمَّ جَمِيعَ بَدَنِهِ، ثُمَّ نَوَى، ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَصَارَ الْمَاءُ فِي الْحَالِ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ

الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُنْغَمِسِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَهُوَ مُشْكِلٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا لِارْتِفَاعِ الْحَدَثِ. وَلَوِ انْغَمَسَ فِيهِ جُنُبَانِ، وَنَوَيَا مَعًا بَعْدَ تَمَامِ الِانْغِمَاسِ، ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُمَا بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ نَوَى الْجُنُبُ قَبْلَ تَمَامِ الِانْغِمَاسِ، إِمَّا فِي أَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ، وَإِمَّا بَعْدَ غَمْسِ بَعْضِ الْبَدَنِ، ارْتَفَعَتْ جَنَابَةُ الْجُزْءِ الْمُلَاقِي بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا، بَلْ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الِانْغِمَاسَ وَيُرْفَعُ الْحَدَثُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَقَالَ الْخُضَرِيُّ: يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، فَلَا تَرْتَفِعُ عَنِ الْبَاقِي. قُلْتُ: وَلَوِ انْغَمَسَ جُنُبَانِ، وَنَوَى أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ، ارْتَفَعَتْ جَنَابَةُ النَّاوِي، وَصَارَ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ نَوَيَا مَعًا بَعْدَ غَمْسِ جُزْءٍ مِنْهُمَا، ارْتَفَعَ عَنْ جُزْءَيْهِمَا، وَصَارَ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِيهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا دَامَ الْمَاءُ مُتَرَدِّدًا عَلَى الْعُضْوِ، لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ. قُلْتُ: وَإِذَا جَرَى الْمَاءُ مِنْ عُضْوِ الْمُتَوَضِّئِ إِلَى عُضْوٍ، صَارَ مُسْتَعْمَلًا، حَتَّى لَوِ انْتَقَلَ مِنْ إِحْدَى الْيَدَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، صَارَ مُسْتَعْمَلًا، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهٌ شَاذٌّ مَحْكِيٌّ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ. مِنَ (الْبَيَانِ) أَنَّهُ لَا يَصِيرُ، لِأَنَّ الْيَدَيْنِ كَعُضْوٍ.

وَلَوِ انْفَصَلَ مِنْ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْجُنُبِ إِلَى بَعْضِهَا، فَوَجْهَانِ ; الْأَصَحُّ عِنْدَ صَاحِبَيِ (الْحَاوِي) وَ (الْبَحْرِ) : لَا يَصِيرُ. وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ يَصِيرُ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ نَقَلَهُ قَصْدًا، صَارَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ غَمَسَ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ غَسْلِ الْوَجْهِ، لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا. وَإِنْ غَمَسَهَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوَجْهِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، صَارَ مُسْتَعْمَلًا. وَإِنْ نَوَى الِاغْتِرَافَ، لَمْ يَصِرْ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَصِيرُ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ. وَالْجُنُبُ بَعْدَ النِّيَّةِ، كَمُحْدِثٍ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ. وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ الْحَنَفِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ نِيَّةِ

فصل

الْوُضُوءِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِيرُ. وَالثَّانِي: لَا يَصِيرُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ نَوَى، صَارَ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بَدَلَ مَسْحِهِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ، كَمَا لَوِ اسْتَعْمَلَ فِي طَهَارَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ حَاجَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِيمَا يَطْرَأُ عَلَى الْمَاءِ وَضَابِطُ الْفَصْلِ: أَنَّ مَا يَسْلُبُ اسْمَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، يُمْنَعُ الطَّهَارَةُ بِهِ، وَمَا لَا، فَلَا. فَمِنْ ذَلِكَ الْمُتَغَيِّرُ تَغَيُّرًا يَسِيرًا بِمَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، كَالزَّعْفَرَانِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ طَهُورٌ، وَالْمُتَغَيِّرُ كَثِيرًا بِمَا يُجَاوِرُهُ وَلَا يَخْتَلِطُ بِهِ، كَعُودٍ، وَدُهْنٍ، وَشَمْعٍ، طَهُورٌ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالْكَافُورُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: يَذُوبُ فِي الْمَاءِ وَيَخْتَلِطُ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَذُوبُ. فَالْأَوَّلُ يَمْنَعُ، وَالثَّانِي كَالْعُودِ. وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِمَا لَا يُمْكِنُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ، كَالطِّينِ، وَالطُّحْلُبِ، وَالْكِبْرِيتِ، وَالنُّورَةِ، وَالزِّرْنِيخِ، فِي مَقَرِّ الْمَاءِ وَمَمَرِّهِ، وَالتُّرَابِ الَّذِي يَثُورُ وَيَنْبَثُّ فِي الْمَاءِ، وَالْمُتَغَيِّرِ بِطُولِ الْمُكْثِ، وَالْمُسَخَّنِ، فَطَهُورٌ. قُلْتُ: وَلَا كَرَاهَةَ فِي اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُتَغَيِّرَاتِ بِمَا لَا يُصَانُ عَنْهُ، وَلَا فِي مَاءِ الْبَحْرِ وَمَاءِ زَمْزَمَ، وَلَا فِي الْمُسَخَّنِ وَلَوْ بِالنَّجَاسَةِ. وَيُكْرَهُ شَدِيدُ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُشَمَّسُ فِي الْحِيَاضِ وَالْبِرَكِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي الْأَوَانِي مَكْرُوهٌ

عَلَى الْأَصَحِّ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، وَالْأَوَانِي الْمُنْطَبِعَةِ كَالنُّحَاسِ إِلَّا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي يُكْرَهُ مُطْلَقًا. قُلْتُ: الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ لِلْكَرَاهَةِ دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ، فَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ، وَتَخْتَصُّ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْبَدَنِ، وَتَزُولُ بِتَبْرِيدِهِ عَلَى أَصَحِّ الْأَوْجُهِ، وَفِي الثَّالِثِ: يُرَاجَعُ الْأَطِبَّاءُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِمَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْجِصِّ، تَغَيُّرًا كَثِيرًا، بِحَيْثُ يَسْلُبُ اسْمَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، فَلَيْسَ بِطَهُورٍ. وَلَوْ حَلِفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً، لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِهِ. وَيَكْفِي تَغَيُّرُ الطَّعْمِ أَوِ اللَّوْنِ أَوِ الرَّائِحَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْغَرِيبِ الضَّعِيفِ يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهَا، وَعَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ اللَّوْنُ وَحْدَهُ يَسْلُبُ، وَكَذَا الطَّعْمُ مَعَ الرَّائِحَةِ. وَفِي الْجِصِّ، وَالنُّورَةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهَا لَا تَضُرُّ. وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِالتُّرَابِ الْمَطْرُوحِ قَصْدًا، فَطَهُورٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: عَلَى الْمَشْهُورِ. وَالْمُتَغَيِّرُ بِالْمِلْحِ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا يَسْلُبُ الْجَبَلِيُّ مِنْهُ دُونَ الْمَائِيِّ. وَالثَّانِي: يَسْلُبَانِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَسْلُبَانِ. وَالْمُتَغَيِّرُ بِوَرَقِ الْأَشْجَارِ الْمُتَنَاثِرَةِ بِنَفْسِهَا إِنْ لَمْ تَتَفَتَّتْ فِي الْمَاءِ، فَهِيَ كَالْعُودِ، فَيَكُونُ طَهُورًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِنْ تَفَتَّتَتْ وَاخْتَلَطَتْ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ: لَا يَضُرُّ. وَالثَّانِي: يَضُرُّ. وَالثَّالِثُ: يَضُرُّ الرَّبِيعِيُّ دُونَ الْخَرِيفِيِّ. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ. وَإِنْ طُرِحَتِ الْأَوْرَاقُ قَصْدًا، ضَرَّ. 0 وَقِيلَ: عَلَى الْأَوْجُهِ.

فَرْعٌ إِذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ الْكَثِيرِ أَوِ الْقَلِيلِ مَائِعٌ يُوَافِقُهُ فِي الصِّفَاتِ، كَمَاءِ الْوَرْدِ الْمُنْقَطِعِ الرَّائِحَةِ، وَمَاءِ الشَّجَرِ، وَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: إِنْ كَانَ الْمَائِعُ قَدْرًا لَوْ خَالَفَ الْمَاءَ فِي طَعْمٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ لَتَغَيَّرَ التَّغَيُّرَ الْمُؤَثِّرَ، سَلَبَ الطَّهُورِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤَثِّرُ مَعَ تَقْدِيرِ الْمُخَالِفَةِ، لَمْ يَسْلُبْ. وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ الْمَائِعُ أَقَلَّ مِنَ الْمَاءِ، لَمْ يَسْلُبْ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ، سَلَبَ. وَحَيْثُ لَمْ يَسْلُبْ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْجَمِيعَ. وَقِيلَ: يَجِبُ أَنْ يَبْقَى قَدْرُ الْمَائِعِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ وَحْدَهُ يَكْفِي لِوَاجِبِ الطَّهَارَةِ، فَلَهُ اسْتِعْمَالُ الْجَمِيعِ، وَإِلَّا بَقِيَ. فَإِنْ جَوَّزْنَا الْجَمِيعَ، وَمَعَهُ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَمَّلَهُ بِمَائِعٍ يَهْلَكُ فِيهِ لَكَفَاهُ - لَزِمَهُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَزِيدَ قِيمَةُ الْمَائِعِ عَلَى ثَمَنِ مَاءِ الطَّهَارَةِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي اسْتِعْمَالِ الْجَمِيعِ فِيمَا إِذَا اسْتُهْلِكَتِ النَّجَاسَةُ الْمَائِعَةُ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ. وَفِيمَا إِذَا اسْتُهْلِكَ الْخَلِيطُ الطَّاهِرُ فِي الْمَاءِ، لِقِلَّتِهِ مَعَ مُخَالَفَةِ أَوْصَافِهِ أَوْصَافَ الْمَاءِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَاءُ الْكَثِيرُ، لِمُوَافَقَةِ النَّجَاسَةِ لَهُ فِي الْأَوْصَافِ، فَالِاعْتِبَارُ بِتَقْدِيرِ الْمُخَالَفَةِ بِلَا خِلَافٍ، لِغِلَظِ النَّجَاسَةِ، وَاعْتَبَرُوا فِي النَّجَاسَةِ بِالْمُخَالِفِ أَشَدَّهُ صِفَةً، وَفِي الطَّاهِرِ اعْتَبَرُوا الْوَسَطَ الْمُعْتَدِلَ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الطَّعْمِ حِدَّةُ الْخَلَّ، وَلَا فِي الرَّائِحَةِ ذَكَاءُ الْمِسْكِ. قُلْتُ: الْمُتَغَيِّرُ بِالْمَنِيِّ لَيْسَ بِطَهُورٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ تَطَهَّرَ بِالْمَاءِ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْهُ الْمِلْحُ قَبْلَ أَنْ يَجْمُدَ، جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْقُلَّتَيْنِ، وَفَوْقَهُمَا، وَدُونَهُمَا. وَلَوْ أُغْلِيَ الْمَاءُ، فَارْتَفَعَ مِنْ غَلَيَانِهِ بُخَارٌ، وَتَوَلَّدَ

باب

مِنْهُ رَشْحٌ، فَوَجْهَانِ. الْمُخْتَارُ مِنْهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ (الْبَحْرِ) أَنَّهُ طَهُورٌ. وَالثَّانِي: طَاهِرٌ لَيْسَ بِطَهُورٍ. وَلَوْ رَشَحَ مِنْ مَائِعٍ آخَرَ، فَلَيْسَ بِطَهُورٍ بِلَا خِلَافٍ، كَالْعَرَقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابٌ بَيَانُ النَّجَاسَاتِ وَالْمَاءِ النَّجِسِ الْأَعْيَانُ: جَمَادٌ، وَحَيَوَانٌ، فَالْجَمَادُ: مَا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ، وَلَا كَانَ حَيَوَانًا، وَلَا جُزْءًا مِنْ حَيَوَانٍ، وَلَا خَرَجَ مِنْ حَيَوَانٍ، فَكُلُّهُ طَاهِرٌ، إِلَّا الْخَمْرَ، وَكُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٍ. وَفِي النَّبِيذِ وَجْهٌ شَاذٌّ مَذْكُورٌ فِي (الْبَيَانِ) أَنَّهُ طَاهِرٌ. لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي إِبَاحَتِهِ. وَفِي الْخَمْرِ الْمُحْتَرَمَةِ وَجْهٌ شَاذٌّ، وَكَذَا فِي بَاطِنِ الْعُنْقُودِ الْمُسْتَحِيلِ خَمْرًا وَجْهٌ أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَأَمَّا الْحَيَوَانَاتُ، فَطَاهِرَةٌ، إِلَّا الْكَلْبَ، وَالْخِنْزِيرَ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ، أَنَّ الدُّودَ الْمُتَوَلِّدَ مِنَ الْمَيْتَةِ نَجِسُ الْعَيْنِ، كَوَلَدِ الْكَلْبِ، وَهَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ: الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ. وَأَمَّا الْمَيْتَاتُ، فَكُلُّهَا نَجِسَةٌ، إِلَّا السَّمَكَ وَالْجَرَادَ، فَإِنَّهُمَا طَاهِرَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا الْآدَمِيَّ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِلَّا الْجَنِينَ الَّذِي يُوجَدُ مَيْتًا بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالصَّيْدَ الَّذِي لَا تُدْرَكُ ذَكَاتُهُ، فَإِنَّهُمَا طَاهِرَانِ بِلَا خِلَافٍ.

وَأَمَّا الْمَيْتَةُ الَّتِي لَا نَفْسَ لَهَا سَائِلَةً، كَالذُّبَابِ وَغَيْرِهِ. فَهَلْ تُنَجِّسُ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ إِذَا مَاتَتْ فِيهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ. الْأَظْهَرُ لَا تُنَجِّسُهُ، وَهَذَا فِي حَيَوَانٍ أَجْنَبِيٍّ مِنَ الْمَائِعِ، أَمَّا مَا مَنْشَؤُهُ فِيهِ، فَلَا يُنَجِّسُهُ بِلَا خِلَافٍ. فَلَوْ أُخْرِجَ مِنْهُ وَطُرِحَ فِي غَيْرِهِ، أَوْ رُدَّ إِلَيْهِ، عَادَ الْقَوْلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: تُنَجَّسُ الْمَائِعَ، فَهِيَ نَجِسَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُنَجِّسُهُ، فَهِيَ أَيْضًا نَجِسَةٌ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ. ثُمَّ لَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ هَذَا الْحَيَوَانِ بَيْنَ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الطَّعَامِ، كَدُودِ الْخَلِّ، وَالتُّفَّاحِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، كَالذُّبَابِ، وَالْخُنْفُسَاءِ، لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي تَنْجِيسِ مَا مَاتَا فِيهِ، وَفِي جَوَازِ أَكْلِهِ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمُتَوَلَّدِ، لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَفِي الْمُتَوَلَّدِ أَوْجُهٌ. الْأَصَحُّ: يَحِلُّ أَكْلُهُ مَعَ مَا تَوَلَّدُ مِنْهُ، وَلَا يَحِلُّ مُنْفَرِدًا. وَالثَّانِي: يَحِلُّ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: يَحْرُمُ مُطْلَقًا. وَالْأَوْجَهُ جَارِيَةٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِطَهَارَةِ هَذَا الْحَيَوَانِ عَلَى قَوْلِ الْقَفَّالِ، أَوْ بِنَجَاسَتِهِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ.

قُلْتُ: وَلَوْ كَثُرَتِ الْمَيْتَةُ الَّتِي لَا نَفْسَ لَهَا سَائِلَةً، فَغَيَّرَتِ الْمَاءَ أَوِ الْمَائِعَ، وَقُلْنَا: لَا تُنَجِّسُهُ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ، فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ. الْأَصَحُّ تُنَجِّسُهُ، لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِالنَّجَاسَةِ. وَالثَّانِي: لَا تُنَجِّسُهُ، وَيَكُونُ الْمَاءُ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهِّرٍ، كَالْمُتَغَيِّرِ بِالزَّعْفَرَانِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ كَالْمُتَغَيِّرِ بِوَرَقِ الشَّجَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ فِي أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْأَصْلُ أَنَّ مَا انْفَصَلَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ نَجِسٌ، وَيُسْتَثْنَى الشَّعْرُ الْمَجْزُوزُ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فِي الْحَيَاةِ، وَالصُّوفُ، وَالْوَبَرُ، وَالرِّيشُ، فَكُلُّهَا طَاهِرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْمُتَنَاثِرُ وَالْمَنْتُوفُ طَاهِرٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُسْتَثْنَى أَيْضًا شَعْرُ الْآدَمِيِّ، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنْهُ، وَمِنَ السَّمَكِ، وَالْجَرَادِ، وَمَشِيمَةُ الْآدَمِيِّ، فَهَذِهِ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الشُّعُورِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي نَجَاسَةِ الشَّعْرِ بِالْمَوْتِ.

فَرْعٌ فِي الْمُنْفَصِلِ عَنْ بَاطِنِ الْحَيَوَانِ هُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ اجْتِمَاعٌ، وَاسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَرْشَحُ رَشْحًا. وَالثَّانِي: يَسْتَحِيلُ وَيَجْتَمِعُ فِي الْبَاطِنِ ثُمَّ يَخْرُجُ. فَالْأَوَّلُ، كَاللُّعَابِ، وَالدَّمْعِ، وَالْعَرَقِ، وَالْمُخَاطِ، فَلَهُ حُكْمُ الْحَيَوَانِ الْمُتَرَشِّحِ مِنْهُ، إِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ، وَإِلَّا، فَطَاهِرٌ. وَالثَّانِي: كَالدَّمِ، وَالْبَوْلِ، وَالْعُذْرَةِ، وَالرَّوْثِ، وَالْقَيْءِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا نَجِسَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ، أَيْ: مَأْكُولُ اللَّحْمِ وَغَيْرُهُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثَهُ طَاهِرَانِ. وَهُوَ [أَحَدُ] قَوْلَيْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَالْمَعْرُوفُ مِنَ الْمَذْهَبِ النَّجَاسَةُ. وَهَلْ يُحْكُمُ بِنَجَاسَةِ هَذِهِ الْفَضَلَاتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: نَعَمْ. وَفِي بَوْلِ السَّمَكِ، وَالْجَرَادِ، وَدَمِهِمَا وَرَوْثِهِمَا، وَرَوْثِ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةً، وَالدَّمِ الْمُتَحَلِّبِ مِنَ الْكَبِدِ، وَالطِّحَالِ، وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: النَّجَاسَةُ. وَأَمَّا اللَّبَنُ، فَطَاهِرٌ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَجِسٌ مِنَ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ، وَطَاهِرٌ مِنَ الْآدَمِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: نَجِسٌ. وَلَكِنْ يُرَبَّى بِهِ الصَّبِيُّ لِلضَّرُورَةِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْآدَمِيِّ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ، فَلَبَنُهُ نَجِسٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: طَاهِرٌ. وَأَمَّا الْإِنْفَحَةُ، فَإِنْ أُخِذَتْ مِنَ السَّخْلَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا،

أَوْ بَعْدَ أَكْلِهَا غَيْرَ اللَّبَنِ، فَنَجِسَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ أُخِذَتْ مِنَ السَّخْلَةِ الْمَذْبُوحَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ غَيْرَ اللَّبَنِ، فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ طَهَارَتُهَا. وَأَمَّا الْمَنِيُّ، فَمِنَ الْآدَمِيِّ طَاهِرٌ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِي مَنِيِّ الْمَرْأَةِ خَاصَّةً، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. لَكِنْ إِنْ قُلْنَا: رُطُوبَةُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ نَجِسَةٌ، نَجُسَ مَنِيُّهَا بِمُلَاقَاتِهَا، كَمَا لَوْ بَالَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَغْسِلْ ذَكَرَهُ بِالْمَاءِ، فَإِنَّ مَنِيَّهُ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ الْمَحَلِّ النَّجِسِ. وَأَمَّا مَنِيُّ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، فَمِنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعِ أَحَدِهِمَا نَجِسٌ، وَمِنْ غَيْرِهِمَا فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا نَجِسٌ. وَالثَّانِي: طَاهِرٌ. وَالثَّالِثُ: طَاهِرٌ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، نَجِسٌ مِنْ غَيْرِهِ، كَاللَّبَنِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَالْأَكْثَرِينَ، الْوَجْهُ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْبَيْضُ، فَطَاهِرٌ مِنَ الْمَأْكُولِ، وَفِي غَيْرِهِ الْوَجْهَانِ فِي مَنِيِّهِ، وَيَجْرِيَانِ فِي بِزْرِ الْقَزِّ، فَإِنَّهُ أَصْلُ الدُّودِ، كَالْبَيْضِ. وَأَمَّا دُودُ الْقَزِّ، فَطَاهِرٌ بِلَا خِلَافٍ، كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَأَمَّا الْمِسْكُ فَطَاهِرٌ، وَفِي فَأْرَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي حَيَاةِ الظَّبْيَةِ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: الطَّهَارَةُ، كَالْجَنِينِ. فَإِنِ انْفَصَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَنَجِسَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، كَاللَّبَنِ. وَطَاهِرَةٌ فِي وَجْهٍ، كَالْبَيْضِ الْمُتَصَلِّبِ، وَأَمَّا الزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى السِّرْجِينِ. فَقَالَ الْأَصْحَابُ: لَيْسَ هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ، لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ. فَإِذَا غُسِلَ، طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَلَ، فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ.

قُلْتُ: الْقَيْحُ نَجِسٌ، وَكَذَا مَاءُ الْقُرُوحِ إِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَدُخَانُ النَّجَاسَةِ نَجِسٌ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ: مَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ. وَلَيْسَتْ رُطُوبَةُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَالْعَلَقَةُ، بِنَجِسٍ فِي الْأَصَحِّ، وَلَا الْمُضْغَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْمِرَّةُ نَجِسَةٌ، وَكَذَا حَرَّةُ الْبَعِيرِ. وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ فَمِ النَّائِمِ، فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا، فَنَجِسٌ. وَإِلَّا فَطَاهِرٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ كَانَ مِنَ اللَّهَوَاتِ، فَطَاهِرٌ، أَوْ مِنَ الْمَعِدَةِ، فَنَجِسٌ. وَيُعْرَفُ كَوْنُهُ مِنَ اللَّهَوَاتِ بِأَنْ يَنْقَطِعَ إِذَا طَالَ نَوْمُهُ. وَإِذَا شَكَّ، فَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّجَاسَةِ، وَالِاحْتِيَاطُ غَسْلُهُ. وَإِذَا حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ، وَعَمَّتْ بَلْوَى شَخْصٍ بِهِ، لِكَثْرَتِهِ مِنْهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِدَمِ الْبَرَاغِيثِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ، وَنَظَائِرِهِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ: لَوْ أَكَلَتْ بَهِيمَةٌ حَبًّا ثُمَّ أَلْقَتْهُ صَحِيحًا، فَإِنْ كَانَتْ صَلَابَتُهُ بَاقِيَةً، بِحَيْثُ لَوْ زُرِعَ نَبَتَ، فَعَيْنُهُ طَاهِرَةٌ، وَيَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ غِذَاءً لَهَا فَمَا تَغَيَّرَ إِلَى فَسَادٍ، فَصَارَ كَمَا لَوِ ابْتَلَعَ نَوَاةً. وَإِنْ زَالَتْ صَلَابَتُهُ، بِحَيْثُ لَا يَنْبُتُ، فَنَجِسُ الْعَيْنِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَالْوَسَخُ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْآدَمِيِّ فِي حَمَّامٍ وَغَيْرِهِ، لَهُ حُكْمُ مَيْتَتِهِ، وَكَذَا الْوَسَخُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ لَهُ حُكْمُ مَيْتَتِهِ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا قَطْعًا، كَالْعَرَقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاكِدَ: قَلِيلٌ، وَكَثِيرٌ، فَالْكَثِيرُ: قُلَّتَانِ، وَالْقَلِيلُ: دُونَهُ. وَالْقُلَّتَانِ: خَمْسُ قِرَبٍ. وَفِي قَدْرِهَا بِالْأَرْطَالِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: خَمْسُمِائَةِ رَطْلٍ بِالْبَغْدَادِيِّ. وَالثَّانِي: سِتُّمِائَةٍ. قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ. وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ، وَالْغَزَالِيُّ. وَالثَّالِثُ: أَلْفُ رَطْلٍ. قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ تَقْرِيبٌ، فَلَا يَضُرُّ نُقْصَانُ الْقَدْرِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ بِنُقْصَانِهِ تَفَاوُتٌ فِي التَّغَيُّرِ بِالْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُغَيَّرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَحْدِيدٌ: فَيَضُرُّ أَيُّ شَيْءٍ نَقَصَ. قُلْتُ: الْأَشْهَرُ - تَفْرِيعًا عَلَى التَّقْرِيبِ - أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ نَقْصِ رَطْلَيْنِ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ وَنَحْوُهَا، وَقِيلَ: مِائَةُ رَطْلٍ. وَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ وَشَكَّ: هَلْ هُوَ قُلَّتَانِ، أَمْ لَا؟ فَالَّذِي جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ (الْحَاوِي) وَآخَرُونَ: أَنَّهُ نَجِسٌ، لِتَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ. وَلِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ احْتِمَالَانِ، وَالْمُخْتَارُ، بَلِ الصَّوَابُ: الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ، وَشَكَكْنَا فِي نَجَاسَةٍ مُنَجِّسَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ. وَقَدْرُ الْقُلَّتَيْنِ بِالْمِسَاحَةِ: ذِرَاعٌ وَرُبُعٌ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ الْمَاءُ الْقَلِيلُ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، تَغَيَّرَ أَمْ لَا. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤَثِّرَةِ، كَالْمَيْتَةِ الَّتِي لَا نَفْسَ لَهَا سَائِلَةً، وَنَجَاسَةٍ لَا يُدْرِكُهَا طَرْفٌ، وَوُلُوغِ هِرَّةٍ تَنْجُسُ فَمُهَا ثُمَّ غَابَتْ وَاحْتُمِلَ طَهَارَتُهُ، فَلَا يَنْجُسُ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا سَبَقَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَسَيَأْتِي الْأُخْرَيَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ، الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْكَثِيرُ، فَيَنْجُسُ بِالتَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ لِلْإِجْمَاعِ، سَوَاءً قَلَّ التَّغَيُّرُ أَمْ كَثُرَ، وَسَوَاءً تَغَيَّرَ الطَّعْمُ أَوِ اللَّوْنُ أَوِ الرَّائِحَةُ، وَكُلُّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ هَاهُنَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّاهِرِ. وَسَوَاءً كَانَتِ النَّجَاسَةُ الْمُلَاقِيَةُ مُخَالِطَةً أَمْ مُجَاوِرَةً، وَفِي الْمُجَاوَرَةِ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهَا لَا تُنَجِّسُهُ. وَأَمَّا إِذَا تَرَوَّحَ الْمَاءُ بِجِيفَةٍ مُلْقَاةٍ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، فَلَا يَنْجُسُ، لِعَدَمِ الْمُلَاقَاةِ، وَإِنْ لَاقَى الْكَثِيرُ النَّجَاسَةَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لِقِلَّةِ النَّجَاسَةِ وَاسْتِهْلَاكِهَا، لَمْ يَنْجُسْ، وَيُسْتَعْمَلُ جَمِيعُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى وَجْهٍ يُبَقَّى قَدْرُ النَّجَاسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِمُوَافَقَتِهَا الْمَاءَ فِي الْأَوْصَافِ، قُدِّرَ بِمَا يُخَالِفُ، كَمَا سَبَقَ فِي (بَابِ الطَّاهِرِ) . وَأَمَّا إِذَا تَغَيَّرَ بَعْضُهُ، فَالْأَصَحُّ نَجَاسَةُ جَمِيعِ الْمَاءِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي (الْمُهَذَّبِ) وَغَيْرِهِ. وَفِي وَجْهٍ لَا يَنْجُسُ إِلَّا الْمُتَغَيِّرُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَصَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَآخَرُونَ: أَنَّ الْمُتَغَيِّرَ، كَنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ. فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ قُلَّتَيْنِ، فَنَجِسٌ وَإِلَّا، فَطَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنْ زَالَ تَغَيُّرُ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ بِنَفْسِهِ، طَهُرَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَطْهُرُ. وَهُوَ شَاذٌّ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ، لِطَرْحِ الْمِسْكِ

فِيهِ، أَوْ طَعْمُهَا، لِطَرْحِ الْخَلِّ، أَوْ لَوْنُهَا، لِطَرْحِ الزَّعْفَرَانِ، لَمْ يَطْهُرْ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ ذَهَبَ التَّغَيُّرُ بِطَرْحِ التُّرَابِ، فَقَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا لَا يَطْهُرُ، لِلشَّكِّ فِي زَوَالِ التَّغَيُّرِ. وَإِنْ ذَهَبَ بِالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَا يَغْلُبُ وَصْفَ التَّغَيُّرِ، فَهُوَ كَالتُّرَابِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: كَالْمِسْكِ. ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ التُّرَابِ إِذَا كَانَ التَّغَيُّرُ بِالرَّائِحَةِ. وَأَمَّا تَغَيُّرُ اللَّوْنِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ التُّرَابُ قَطْعًا. وَالْأُصُولُ الْمُعْتَمَدَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ هَذَا التَّفْصِيلِ. قُلْتُ: بَلْ قَدْ صَرَّحَ الْمَحَامِلِيُّ، وَالْفُورَانِيُّ، وَآخَرُونَ: بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي التَّغَيُّرِ بِالصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ النَّجَاسَةُ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ، كَنُقْطَةِ خَمْرٍ، وَبَوْلٍ يَسِيرَةٍ، لَا تُبْصَرُ لِقِلَّتِهَا وَكَذُبَابَةٍ تَقَعُ عَلَى نَجَاسَةٍ، ثُمَّ تَطِيرُ عَنْهَا، هَلْ يُنَجِّسُ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ كَالنَّجَاسَةِ الْمُدْرَكَةِ، أَمْ يُعْفَى عَنْهَا؟ فِيهِ سَبْعُ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: يُعْفَى عَنْهَا فِيهِمَا. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: فِيهِمَا قَوْلَانِ. وَالرَّابِعُ: تُنَجِّسُ الْمَاءَ، وَفِي الثَّوْبِ قَوْلَانِ، وَالْخَامِسُ: يُنَجِّسُ الثَّوْبَ، وَفِي الْمَاءِ قَوْلَانِ، وَالسَّادِسُ: يُنَجِّسُ الْمَاءَ دُونَ الثَّوْبِ. وَالسَّابِعُ: عَكْسُهُ. وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ الْعَفْوَ فِيهِمَا، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ - عِنْدَ الْمُعْظَمِ - خِلَافُهُ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ الْمَاءُ الْقَلِيلُ النَّجِسُ إِذَا كُوثِرَ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ، نُظِرَ، إِنْ كُوثِرَ بِغَيْرِ الْمَاءِ، لَمْ يَطْهُرْ، بَلْ لَوْ كَمَّلَ الطَّاهِرُ النَّاقِصَ عَنْ قُلَّتَيْنِ بِمَاءِ وَرْدٍ بَلَغَهُمَا بِهِ وَصَارَ مُسْتَهْلَكًا، ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ، نَجُسَ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَإِنَّمَا لَا تَقْبَلُ النَّجَاسَةَ قُلَّتَانِ مِنَ الْمَاءِ الْمَحْضِ. وَإِنْ كُوثِرَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، عَادَ مُطَهِّرًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: هُوَ كَمَاءِ الْوَرْدِ. وَإِنْ كُوثِرَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ، طَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ، عَادَ مُطَهِّرًا بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ؟ فِيهِ خِلَافُ التَّبَاعُدِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ وَلَا تَغَيُّرَ فِيهِ. أَمَّا إِذَا كُوثِرَ فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى نَجَاسَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُكَاثَرُ بِهِ مُطَهِّرًا، وَأَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُورِدَهُ عَلَى النَّجِسِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ فَإِنِ اخْتَلَّ أَحَدُ الشُّرُوطِ، فَنَجِسٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا إِذَا كُوثِرَ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ هُوَ الْأَصَحُّ، وَعِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكَاثَرَةِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، دُونَ الْخَلْطِ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُ الْبَعْضَيْنِ صَافِيًا، وَالْآخَرُ كَدِرًا، وَانْضَمَّا، زَالَتِ النَّجَاسَةُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الِاخْتِلَاطِ الْمَانِعِ مِنَ التَّمْيِيزِ. وَمَتَى حَكَمْنَا بِالطَّهَارَةِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ فَفُرِّقَ، لَمْ يَضُرَّ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ.

فَرْعٌ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الرَّاكِدِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ، فَقَوْلَانِ: أَظْهَرَهُمَا وَهُوَ الْقَدِيمُ، أَنَّهُ يَجُوزُ الِاغْتِرَافُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ، وَلَا يَجِبُ التَّبَاعُدُ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَالثَّانِي: الْجَدِيدُ: يَجِبُ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ النَّجَاسَةِ بِقَدْرِ قُلَّتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكْفِي فِي الْبَحْرِ التَّبَاعُدُ بِشِبْرٍ نَظَرًا إِلَى الْعُمْقِ، بَلْ يَتَبَاعَدُ قَدْرًا لَوْ حُسِبَ مِثْلُهُ فِي الْعُمْقِ وَسَائِرِ الْجَوَانِبِ لَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ. فَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مُنْبَسِطًا بِلَا عُمْقٍ، تَبَاعَدَ طُولًا وَعَرْضًا قَدْرًا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ الْعُمْقِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَجِبُ أَنْ يَبْعُدَ إِلَى مَوْضِعٍ يَعْلَمُ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَمْ تَنْتَشِرْ إِلَيْهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَقَطْ، فَعَلَى الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ الِاغْتِرَافُ مِنْهُ. وَعَلَى الْقَدِيمِ: يَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عَنْ غَيْرِ تَبَاعُدٍ، مَعَ الْقَطْعِ بِطَهَارَةِ الْجَمِيعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَبْنِيًّا عَلَى خِلَافٍ فِي نَجَاسَتِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، نُقِلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ.

قُلْتُ: هَذَا التَّوَقُّفُ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ عَجَبٌ، فَقَدْ جَزَمَ وَصَرَّحَ بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ جَمَاعَاتٌ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَاحِبُ (الْحَاوِي) وَالْمَحَامِلِيُّ، وَصَاحِبَا (الشَّامِلِ) وَ (الْبَيَانِ) وَآخَرُونَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ. وَقَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ عَلَى قَوْلِ التَّبَاعُدِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُجْتَنَبُ نَجِسًا، كَذَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْبَغَوِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. حَتَّى قَالَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ: لَوْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَقَطْ، كَانَ نَجِسًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِذَا غُمِسَ كُوزٌ مُمْتَلِئٌ مَاءً نَجِسًا فِي مَاءٍ كَثِيرٍ طَاهِرٍ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعَ الرَّأْسِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَعُودُ طَهُورًا، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقَهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ. وَإِذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ طَهُورٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، فَهَلْ يَصْلُحُ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ زَمَانٍ يَزُولُ فِيهِ التَّغَيُّرُ لَوْ كَانَ مُتَغَيِّرًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: الثَّانِي. وَيَكُونُ الزَّمَانُ فِي الضَّيِّقِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْوَاسِعِ. فَإِنْ كَانَ مَاءُ الْكُوزِ مُتَغَيِّرًا، فَلَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ تَغَيُّرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْكُوزُ غَيْرَ مُمْتَلِئٍ، فَمَا دَامَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ، فَلَا اتِّصَالَ، وَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ. قُلْتُ: إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِي فِيهِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي الْمُكَاثَرَةِ.

قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : وَلَوْ كَانَ مَاءُ الْكُوزِ طَاهِرًا، فَغَمَسَهُ فِي مَاءٍ نَجِسٍ يَنْقُصُ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ بِقَدْرِ مَاءِ الْكُوزِ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ النَّجِسِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مَاءُ الْبِئْرِ كَغَيْرِهِ فِي قَبُولِ النَّجَاسَةِ وَزَوَالِهَا، فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَتَنَجَّسَ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْزَحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ، فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا، وَقَدْ تَنَجَّسَ جُدْرَانُ الْبِئْرِ أَيْضًا، بِالنَّزْحِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِيَزْدَادَ فَيَبْلُغَ حَدَّ الْكَثْرَةِ. وَإِنْ كَانَ نَبْعُهَا قَلِيلًا لَا تُتَوَقَّعُ كَثْرَتُهُ، صُبَّ فِيهَا مَاءٌ لِيَبْلُغَ الْكَثْرَةَ، وَيَزُولَ التَّغَيُّرُ إِنْ كَانَ تَغَيَّرَ. وَطَرِيقُ زَوَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاتِّفَاقِ وَالْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا طَاهِرًا، وَتَفَتَّتْ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا، فَقَدْ يَبْقَى عَلَى طَهُورِيَّتِهِ لِكَثْرَتِهِ، وَعَدَمِ التَّغَيُّرِ، لَكِنْ يَتَعَذَّرُ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَنْزَحُ دَلْوًا إِلَّا وَفِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَقَى الْمَاءُ كُلُّهُ، لِيَخْرُجَ الشَّعْرُ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فَوَّارَةً، وَتَعَذَّرَ نَزْحُ الْجَمِيعِ، نُزِحَ مَا يَغْلُبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الشَّعْرَ خَرَجَ كُلُّهُ مَعَهُ، فَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبِئْرِ وَمَا يَحْدُثُ، طَهُورٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَيْقَنِ النَّجَاسَةِ، وَلَا مَظْنُونِهَا، وَلَا يَضُرُّ احْتِمَالُ بَقَاءِ الشَّعْرِ. فَإِنْ تَحَقَّقَ شَعْرًا بَعْدَ ذَلِكَ، حُكِمَ بِهِ. فَأَمَّا قَبْلَ النَّزْحِ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ دَلْوٍ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ، لَكِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهُ، فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ الْقَوْلَانِ فِي تَقَابُلِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّعْرِ تَفْرِيعٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ. فَإِنْ لَمْ تُنَجِّسْهُ، فُرِضَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَجْزَاءِ.

فصل

فَصْلٌ فِي الْمَاءِ الْجَارِي هُوَ ضَرْبَانِ: مَاءُ الْأَنْهَارِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَمَاءُ [الْأَنْهَارِ] الْعَظِيمَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالنَّجَاسَةُ الْوَاقِعَةُ فِيهِ مَائِعَةٌ وَجَامِدَةٌ، وَالْمَائِعَةُ: مُغَيِّرَةٌ وَغَيْرُهَا. فَالْمُغَيِّرَةُ: تُنَجِّسُ الْمُتَغَيِّرَ. وَحُكْمُ غَيْرِهِ مَعَهُ كَحُكْمِهِ مَعَ النَّجَاسَةِ الْجَامِدَةِ. وَغَيْرُ الْمُغَيِّرَةِ: إِنْ كَانَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ لِلْمُوَافَقَةِ فِي الْأَوْصَافِ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي الرَّاكِدِ. إِنْ كَانَ لِقِلَّةِ النَّجَاسَةِ وَامِّحَاقِهَا فِيهِ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ كَالرَّاكِدِ. وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا يَنْجُسُ. وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلَا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ طَاهِرٌ مُطْلَقًا، وَفِي الْقَدِيمِ: لَا يَنْجُسُ الْجَارِي إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ. قُلْتُ: وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ الطَّهَارَةَ، مِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْجَامِدَةُ، كَالْمَيْتَةِ، فَإِنْ غَيَّرَتِ الْمَاءَ، نَجَّسَتْهُ، وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، فَتَارَةً تَقِفُ، وَتَارَةً تَجْرِي مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ جَرَتْ جَرْيَةً، فَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا طَاهِرَانِ. وَمَا عَلَى يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا وَفَوْقَهَا وَتَحْتَهَا، إِنْ كَانَ قَلِيلًا، فَنَجِسٌ، وَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ، فَقِيلَ: طَاهِرٌ، وَقِيلَ: عَلَى قَوْلَيِ التَّبَاعُدِ. وَإِنْ وَقَفَتِ النَّجَاسَةُ، وَجَرَى الْمَاءُ عَلَيْهَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجَارِيَةِ، وَيَزِيدُ هَاهُنَا أَنَّ الْجَارِيَ عَلَى النَّجَاسَةِ وَهُوَ قَلِيلٌ، يَنْجُسُ بِمُلَاقَاتِهَا، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ

باب

إِلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ فِي مَوْضِعِ قُلَّتَانِ مِنْهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَ وَاغْتَرَفَ مِنْ مَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ قُلَّتَانِ، جَازَ اسْتِعْمَالُهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَعَلَيْهِ يُقَالُ: مَاءٌ هُوَ أَلْفُ قُلَّةٍ، نَجِسٌ بِلَا تَغَيُّرٍ، فَهَذِهِ صُورَتُهُ. أَمَّا النَّهْرُ الْعَظِيمُ، فَلَا يُجْتَنَبُ فِيهِ شَيْءٌ، وَلَا حَرِيمَ النَّجَاسَةِ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ فِي التَّبَاعُدِ عَمَّا حَوَالَيِ النَّجَاسَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يُجْزِئُ، وَوَجْهٌ أَنَّهُ يَجِبُ اجْتِنَابُ الْحَرِيمِ خَاصَّةً، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ، وَطَرَدَهُ فِي حَرِيمِ الرَّاكِدِ أَيْضًا. وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ اجْتِنَابُ الْحَرِيمِ فِي الْجَارِي، وَلَا فِي الرَّاكِدِ. ثُمَّ الْعَظِيمُ: مَا أَمْكَنَ التَّبَاعُدُ فِيهِ عَنْ جَوَانِبِ النَّجَاسَةِ كُلِّهَا بِقُلَّتَيْنِ. وَالْمُعْتَدِلُ: مَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ. وَمِنَ الْمُعْتَدِلِ: النَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ حَافَّتَيْهِ قُلَّتَانِ فَقَطْ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْمُعْتَدِلُ: مَا يُمْكِنُ تَغَيُّرُهُ بِالنَّجَاسَاتِ الْمُعْتَادَةِ. وَالْعَظِيمُ: مَا لَا يُمْكِنُ تَغَيُّرُهُ بِهَا. وَأَمَّا الْحَرِيمُ: فَمَا يُنْسَبُ إِلَى النَّجَاسَةِ بِتَحْرِيكِهِ إِيَّاهَا، وَانْعِطَافِهِ عَلَيْهَا، وَالْتِفَافِهِ بِهَا. قُلْتُ: غَيْرُ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَإِنْ كَثُرَ. وَإِنَّمَا لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ لِقُوَّتِهِ. وَلَوْ تَوَضَّأَ مِنْ بِئْرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْهَا دَجَاجَةً مُنْتَفِخَةً، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعِيدَ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِالْمَاءِ النَّجِسِ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابٌ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ النَّجِسُ ضَرْبَانِ: نَجِسُ الْعَيْنِ، وَغَيْرُهُ، فَنَجِسُ الْعَيْنِ: لَا يَطْهُرُ بِحَالٍ، إِلَّا الْخَمْرَ، فَتَطْهُرُ بِالتَّخَلُّلِ، وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ. وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ وَالدَّمَ الَّذِي هُوَ حَشْوُ الْبَيْضَةِ،

إِذَا نَجَّسْنَا الثَّلَاثَةَ فَاسْتَحَالَتْ حَيَوَانَاتٍ. وَأَمَّا غَيْرُ نَجِسِ الْعَيْنِ، فَضَرْبَانِ: نَجَاسَةٌ عَيْنِيَّةٌ، وَحُكْمِيَّةٌ، فَالْحُكْمِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَيَقَّنَ وُجُودَهَا وَلَا تُحَسُّ، كَالْبَوْلِ إِذَا جَفَّ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ رَائِحَةٌ وَلَا أَثَرٌ، فَيَكْفِي إِجْرَاءُ الْمَاءِ عَلَى مَحَلِّهَا مَرَّةً، وَيُسَنُّ ثَانِيَةً، وَثَالِثَةً. وَأَمَّا الْعَيْنِيَّةُ: فَلَا بُدَّ مِنْ مُحَاوَلَةِ إِزَالَةِ مَا وُجِدَ مِنْهَا مِنْ طَعْمٍ، وَلَوْنٍ، وَرِيحٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَبَقِيَ طَعْمٌ، لَمْ يَطْهُرْ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ وَحْدَهُ وَهُوَ سَهْلُ الْإِزَالَةِ، لَمْ يَطْهُرْ. وَإِنْ كَانَ عُسْرُهَا، كَدَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، وَرُبَّمَا لَا يَزُولُ بَعْدَ الْمُبَالَغَةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِالْحَتِّ وَالْقَرْصِ، طَهُرَ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ، وَالْحَتُّ وَالْقَرْصُ لَيْسَا بِشَرْطٍ، بَلْ مُسْتَحَبَّانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: هُمَا شَرْطٌ، وَإِنْ بَقِيَتِ الرَّائِحَةُ وَحْدَهَا وَهِيَ عَسِرَةُ الْإِزَالَةِ، كَرَائِحَةِ الْخَمْرِ، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا يَطْهُرُ. وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ مَعًا، لَمْ يَطْهُرْ عَلَى الصَّحِيحِ، ثُمَّ الصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ، إِنَّ مَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ مَعَ بَقَاءِ لَوْنٍ أَوْ رَائِحَةٍ، فَهُوَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَجِسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي (التَّتِمَّةِ) ثُمَّ بَعْدَ زَوَالِ الْعَيْنِ يُسَنُّ غَسْلُهُ، ثَانِيَةً، وَثَالِثَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حُصُولِ الطَّهَارَةِ عَصْرُ الثَّوْبِ عَلَى الْأَصَحِّ، بِنَاءً عَلَى طَهَارَةِ الْغُسَالَةِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالضَّعِيفِ: إِنَّ الْعَصْرَ شَرْطٌ، قَامَ مَقَامَهُ الْجَفَافُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي زَوَالِ الْمَاءِ. فَرْعٌ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ بِالْعَصْرِ أَوْ دُونَهُ: هُوَ فِيمَا إِذَا وَرَدَ الْمَاءُ عَلَى الْمَحَلِّ، أَمَّا إِذَا وَرَدَ الْمَاءُ الْمَحَلَّ النَّجِسَ، كَالثَّوْبِ يُغْمَسُ فِي إِجَّانَةٍ فِيهَا مَاءٌ وَيُغْسَلُ فِيهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَطْهُرُ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَطْهُرُ، وَلَوْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِيهِ وَالْمَاءُ دُونَ قُلَّتَيْنِ، نَجُسَ الْمَاءُ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ.

فَرْعٌ إِذَا أَصَابَ الْأَرْضَ بَوْلٌ فَصُبَّ عَلَيْهَا مَاءٌ غَمَرَهُ وَاسْتُهْلِكَ فِيهِ، طَهُرَتْ بَعْدَ نُضُوبِ الْمَاءِ، وَقَبْلَهُ وَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا: الْعَصْرُ لَا يَجِبُ، طَهُرَتْ. وَإِنْ قُلْنَا: وَاجِبٌ، لَمْ يَطْهُرْ. فَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ عَلَى الْجَفَافِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَغِيضَ الْمَاءُ كَالثَّوْبِ الْمَعْصُورِ. وَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمَصْبُوبُ غَامِرًا لِلنَّجَاسَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ سَبْعَةَ أَضْعَافِ الْبَوْلِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الْوَاحِدِ ذَنُوبٌ، وَعَلَى بَوْلِ الِاثْنَيْنِ ذَنُوبَانِ، وَعَلَى هَذَا أَبَدًا، ثُمَّ الْخَمْرُ، وَسَائِرُ النَّجَاسَاتِ الْمَائِعَةِ كَالْبَوْلِ، يَطْهُرُ الْأَرْضُ عَنْهَا بِغَمْرِ الْمَاءِ بِلَا تَقْدِيرٍ عَلَى الْمَذْهَبِ. فَرْعٌ اللَّبَنُ النَّجِسُ: ضَرْبَانِ. مُخْتَلِطٌ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ، كَالرَّوْثِ وَعِظَامِ الْمَيْتَةِ، وَغَيْرُ مُخْتَلِطٍ. فَالْأَوَّلُ: نَجِسٌ لَا طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ، لِعَيْنِ النَّجَاسَةِ. فَإِنْ طُبِخَ، فَالْمَذْهَبُ - وَهُوَ الْجَدِيدُ - أَنَّهُ عَلَى نَجَاسَتِهِ. وَفِي الْقَدِيمِ قَوْلٌ: أَنَّ الْأَرْضَ النَّجِسَةَ تَطْهُرُ بِزَوَالِ النَّجَاسَةِ، بِالشَّمْسِ، وَالرِّيحِ، وَمُرُورِ الزَّمَنِ. فَخَرَّجَ أَبُو زَيْدٍ، وَالْخُضَرِيُّ، وَآخَرُونَ مِنْهُ قَوْلًا: إِنَّ النَّارَ تُؤَثِّرُ، فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ بِالطَّبْخِ. فَعَلَى الْجَدِيدِ: لَوْ غُسِلَ، لَمْ يَطْهُرْ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ وَالْقَفَّالُ: يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْمُخْتَلِطِ، كَالْمَعْجُونِ بِمَاءٍ نَجِسٍ، أَوْ بَوْلٍ، فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، كَالْعَجِينِ بِمَائِعٍ نَجِسٍ. هَذَا إِنْ لَمْ يُطْبَخْ، فَإِنْ طُبِخَ، طَهُرَ - عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي زَيْدٍ - ظَاهِرُهُ، وَكَذَا بَاطِنُهُ، عَلَى الْأَظْهَرِ، وَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ، فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ، وَإِنَّمَا يَطْهُرُ بَاطِنُهُ بِأَنْ يُدَقَّ حَتَّى يَصِيرَ تُرَابًا، ثُمَّ يُفَاضُ الْمَاءُ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ بَعْدَ الطَّبْخِ رَخْوًا لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْمَاءِ، فَهُوَ كَمَا قَبْلَ الطَّبْخِ. قُلْتُ: إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صَقِيلًا، كَسَيْفٍ، وَسِكِّينٍ، وَمِرْآةٍ، لَمْ يَطْهُرْ بِالْمَسْحِ عِنْدَنَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهَا. وَلَوْ سُقِيَتْ سِكِّينٌ مَاءً نَجِسًا، ثُمَّ غَسَلَهَا، طَهُرَ ظَاهِرُهَا. وَهَلْ يَطْهُرُ بَاطِنُهَا بِمُجَرَّدِ الْغَسْلِ، أَمْ لَا يَطْهُرُ حَتَّى يَسْقِيَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً بِمَاءٍ طَهُورٍ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ طُبِخَ لَحْمٌ بِمَاءٍ نَجِسٍ، صَارَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ نَجِسًا، وَفِي كَيْفِيَّةِ طَهَارَتِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُغْسَلُ ثُمَّ يُعْصَرُ، كَالْبِسَاطِ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يُغْلَى بِمَاءٍ طَهُورٍ. وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْمُتَوَلِّي، فِي مَسْأَلَتَيِ السِّكِّينِ وَاللَّحْمِ: بِأَنَّهُ يَجِبُ سَقْيُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَإِغْلَاؤُهُ. وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الِاكْتِفَاءَ بِالْغَسْلِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي (الْأُمِّ) فِي (بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ) : لَوْ أَحَمَى حَدِيدَةً ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهَا سُمًّا نَجِسًا، أَوْ غَمَسَهَا فِيهِ فَشَرِبَتْهُ، ثُمَّ غُسِلَتْ بِالْمَاءِ ; طَهُرَتْ، لِأَنَّ الطَّهَارَاتِ كُلَّهَا إِنَّمَا جُعِلَتْ مَا يَظْهَرُ، لَيْسَ عَلَى الْأَجْوَافِ. هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَإِذَا شَرَطْنَا سَقْيَ السِّكِّينِ، جَازَ أَنْ يُقْطَعَ بِهَا الْأَشْيَاءُ الرَّطْبَةُ قَبْلَ السَّقْيِ، كَمَا يُقْطَعُ الْيَابِسَةُ. وَلَوْ أَصَابَتِ الزِّئْبَقَ نَجَاسَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَقَطَّعْ ; طَهُرَ

بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَقَطَّعْ، كَالدُّهْنِ، لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، ذَكَرَهُ الْمَحَامِلِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ. وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ الَّتِي لَمْ يَعْصِ بِالتَّلَطُّخِ بِهَا فِي بَدَنِهِ، لَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا. وَيُسْتَحَبُّ الْمُبَادَرَةُ بِهَا. قَالَ الْمُتَوَلِّي، وَغَيْرُهُ: لِلْمَاءِ قُوَّةٌ عِنْدَ الْوُرُودِ عَلَى النَّجَاسَةِ، فَلَا يَنْجُسُ بِمُلَاقَاتِهَا، بَلْ يَبْقَى مُطَهَّرًا، فَلَوْ صَبَّهُ عَلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنْ ثَوْبٍ فَانْتَشَرَتِ الرُّطُوبَةُ فِي الثَّوْبِ، لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ مَوْضِعِ الرُّطُوبَةِ، وَلَوْ صُبَّ الْمَاءُ فِي إِنَاءٍ نَجِسٍ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ، فَهُوَ طَهُورٌ. فَإِذَا أَدَارَهُ عَلَى جَوَانِبِهِ، طَهُرَتِ الْجَوَانِبُ كُلُّهَا. قَالَ: وَلَوْ غُسِلَ ثَوْبٌ عَنْ نَجَاسَةٍ، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ عَقِبَ عَصْرِهِ. هَلْ يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِ الثَّوْبِ، أَمْ يَكْفِي غَسْلُ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ؟ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْوَاجِبُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْغَسْلُ، إِلَّا فِي بَوْلِ صَبِيٍّ لَمْ يَطْعَمْ، وَلَمْ يَشْرَبْ سِوَى اللَّبَنِ، فَيَكْفِي فِيهِ الرَّشُّ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِصَابَةِ الْمَاءِ جَمِيعَ مَوْضِعِ الْبَوْلِ. ثُمَّ لَا يُرَادُّهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ، الْأُولَى: النَّضْحُ الْمُجَرَّدُ. الثَّانِيَةُ: النَّضْحُ مَعَ الْغَلَبَةِ وَالْمُكَاثَرَةِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ السَّيَلَانُ، فَلَا حَاجَةَ فِي الرَّشِّ إِلَى الثَّالِثَةِ قَطْعًا، وَيَكْفِي الْأُولَى عَلَى وَجْهٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَلْحَقُ بِبَوْلِ الصَّبِيِّ ; بَوْلُ الصَّبِيَّةِ؟ بَلْ يَتَعَيَّنُ غَسْلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: وَفِي (التَّتِمَّةِ) وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّ الصَّبِيَّ، كَالصَّبِيَّةِ، فَيَجِبُ الْغَسْلُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَبَوْلُ الْخُنْثَى كَالْأُنْثَى مِنْ أَيِّ فَرْجَيْهِ خَرَجَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ طَهَارَةُ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَوْ تَنَجَّسَ بِدَمِهِ، أَوْ بَوْلِهِ، أَوْ عَرَقِهِ، أَوْ شَعْرِهِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَجْزَائِهِ وَفَضَلَاتِهِ، أَنْ يُغْسَلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، إِحْدَاهُنَّ بِتُرَابٍ، وَفِيمَا سِوَى الْوُلُوغِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَكْفِي غَسْلُهُ مَرَّةً، كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ. وَالْخِنْزِيرُ، كَالْكَلْبِ عَلَى الْجَدِيدِ، وَفِي الْقَدِيمِ: يَكْفِي مَرَّةً كَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْقَدِيمُ كَالْجَدِيدِ، وَلَا يَقُومُ الصَّابُونُ وَالْأُشْنَانُ وَنَحْوُهُمَا مَقَامَ التُّرَابِ عَلَى الْأَظْهَرِ، كَالتَّيَمُّمِ. وَيَقُومُ فِي الثَّانِي: كَالدِّبَاغِ وَالِاسْتِنْجَاءِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ وَجَدَ تُرَابًا، لَمْ يَقُمْ. وَإِلَّا قَامَ. وَقِيلَ: يَقُومُ فِيمَا يُفْسِدُهُ التُّرَابُ، كَالثِّيَابِ، دُونَ الْأَوَانِي. أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَاءِ وَغَسَلَهُ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. الْأَصَحُّ: لَا يَطْهُرُ. وَالثَّانِي: يَطْهُرُ. وَالثَّالِثُ: يَطْهُرُ عِنْدَ عَدَمِ التُّرَابِ دُونَ وُجُودِهِ. وَلَا يَكْفِي غَمْسُ الْإِنَاءِ وَالثَّوْبِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَكْفِي التُّرَابُ النَّجِسُ عَلَى الْأَصَحِّ، كَالتَّيَمُّمِ. وَلَوْ تَنَجَّسَتْ أَرْضٌ تُرَابِيَّةٌ بِنَجَاسَةِ الْكَلْبِ، كَفَى الْمَاءُ وَحْدَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، إِذْ لَا مَعْنَى لِتَعْفِيرِ التُّرَابِ، وَلَا يَكْفِي فِي اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ ذَرُّهُ عَلَى الْمَحَلِّ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَائِعٍ يَمْزُجُهُ بِهِ، لِيَصِلَ التُّرَابُ بِوَاسِطَتِهِ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَحَلِّ. فَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ مَاءً ; حَصَلَ الْغَرَضُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ، كَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَغَسَلَهُ سِتًّا بِالْمَاءِ، لَمْ يَكْفِ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ غَسَلَ السَّبْعَ بِالْخَلِّ وَالتُّرَابِ. قُلْتُ: لَوْ وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ كِلَابٌ، أَوْ كَلْبٌ مَرَّاتٍ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ يَكْفِيهِ لِلْجَمِيعِ سَبْعٌ. وَالثَّانِي: يَجِبُ لِكُلِّ وَلْغَةٍ سَبْعٌ. وَالثَّالِثُ: يَكْفِي لِوَلَغَاتِ الْكَلْبِ الْوَاحِدِ سَبْعٌ، وَيَجِبُ لِكُلِّ كَلْبٍ سَبْعٌ. وَلَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ أُخْرَى فِي الْإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، كَفَى سَبْعٌ، وَلَوْ كَانَتْ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ عَيْنِيَّةً، كَدَمِهِ، فَلَمْ تَزَلْ إِلَّا بِسِتِّ غَسْلَاتٍ مَثَلًا، فَهَلْ يَحْسِبُ ذَلِكَ سِتًّا أَمْ وَاحِدَةً، أَمْ لَا يَحْسِبُ شَيْئًا؟ فِيهِ

ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: وَاحِدَةٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ فِي غَيْرِ السَّابِعَةِ. وَالْأُولَى أَوْلَى. وَلَوْ وَلَغَ فِي مَاءٍ لَمْ يَنْقُصْ بِوُلُوغِهِ عَنْ قُلَّتَيْنِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ. وَلَوْ وَلَغَ فِي شَيْءٍ نَجَّسَهُ، فَأَصَابَ ذَلِكَ الشَّيْءُ آخَرَ، وَجَبَ غَسْلُهُ سَبْعًا. وَلَوْ وَلَغَ فِي طَعَامٍ جَامِدٍ، أَلْقَى مَا أَصَابَهُ وَمَا حَوْلَهُ، وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِذَا لَمْ يُرِدِ اسْتِعْمَالَ الْإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ، لَا يَجِبُ إِرَاقَتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي (الْحَاوِي) وَجْهٌ أَنَّهُ يَجِبُ إِرَاقَتُهُ عَلَى الْفَوْرِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِالْأَمْرِ بِإِرَاقَتِهِ. وَلَوْ وَلَغَ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ مُتَغَيِّرٍ بِالنَّجَاسَةِ، ثُمَّ أَصَابَ ذَلِكَ الْمَاءُ ثَوْبًا، قَالَ الرُّويَانِيُّ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: يَجِبُ غَسْلُهُ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالنَّجَاسَةِ، كَخَلٍّ تَنَجَّسَ، وَلَوْ وَلَغَ حَيَوَانٌ تَوَلَّدَ مِنْ كَلْبٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ مِنْ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ، فَقَدْ نَقَلَ فِيهِ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) الْخِلَافَ فِي الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَلْبًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ سُؤْرُ الْهِرَّةِ طَاهِرٌ، لِطَهَارَةِ عَيْنِهَا، وَلَا يُكْرَهُ، فَلَوْ تَنَجَّسَ فَمُهَا، ثُمَّ وَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ أَنَّهَا إِنْ غَابَتْ وَاحْتُمِلَ وُلُوغُهَا فِي مَاءٍ يُطَهِّرُ فَمَهَا، ثُمَّ وَلَغَتْ، لَمْ تُنَجِّسْهُ، وَإِلَّا نَجَّسَتْهُ. وَالثَّانِي: تُنَجِّسُهُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: عَكْسُهُ. قُلْتُ: وَغَيْرُ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ، كَالْمَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ فِي غُسَالَةِ النَّجَاسَةِ إِنْ تَغَيَّرَ بَعْضُ أَوْصَافِهَا بِالنَّجَاسَةِ، فَنَجِسَةٌ. وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ، فَطَاهِرَةٌ بِلَا خِلَافٍ. قُلْتُ: وَمُطَهِّرَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ دُونَهُمَا، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَقِيلَ: أَوْجُهٍ. أَظْهَرُهَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ، أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْمَحَلِّ بَعْدَ الْغَسْلِ، إِنْ كَانَ نَجِسًا بَعْدُ، فَنَجِسَةٌ. وَإِلَّا، فَطَاهِرَةٌ غَيْرُ مُطَهِّرَةٍ. وَالثَّانِي: - وَهُوَ الْقَدِيمُ - حُكْمُهَا حُكْمُهَا قَبْلَ الْغَسْلِ، فَيَكُونُ مُطَهِّرَةً. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَحَلِّ قَبْلَ الْغَسْلِ، فَيَكُونُ نَجِسَةً. وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ غُسَالَةُ وُلُوغِ الْكَلْبِ، فَإِذَا وَقَعَ مِنَ الْغَسْلَةِ الْأُولَى شَيْءٌ عَلَى ثَوْبٍ، أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى غَسْلِهِ عَلَى الْقَدِيمِ. وَيُغْسَلُ لِحُصُولِ الْمَرَّةِ وَطَهُورِيَّةِ الْبَاقِي سِتًّا عَلَى الْجَدِيدِ، وَسَبْعًا عَلَى الْمُخَرَّجِ. وَلَوْ وَقَعَ مِنَ السَّابِعَةِ، لَمْ يُغْسَلْ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي. وَيُغْسَلُ عَلَى الثَّالِثِ مَرَّةً. وَمَتَى وَجَبَ الْغَسْلُ عَنْهَا، فَإِنْ سَبَقَ التَّعْفِيرُ، لَمْ يَجِبْ لِطَهُورِيَّتِهِ، وَإِلَّا وَجَبَ. وَفِي وَجْهٍ، لِكُلِّ غَسْلَةٍ سَبْعٌ، حُكْمُ الْمَحَلِّ، فَيُغْسَلُ مِنْهَا مَرَّةً، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ غَسْلَةِ التَّعْفِيرِ وَغَيْرِهَا. فَرْعٌ إِذَا لَمْ تَتَغَيَّرِ الْغُسَالَةُ، وَلَكِنْ زَادَ وَزْنُهَا، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا الْقَطْعُ بِالنَّجَاسَةِ. وَالثَّانِي عَلَى الْأَقْوَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ هُوَ فِي الْمُسْتَعْمَلِ، فِي وَاجِبِ الطَّهَارَةِ.

باب

أَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَنْدُوبِهَا، كَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، فَطَهُورٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ. بَابٌ الِاجْتِهَادُ فِي الْمَاءِ الْمُشْتَبَهِ إِذَا اشْتَبَهَ إِنَاءَانِ: طَاهِرٌ، وَنَجِسٌ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ أَحَدِهِمَا إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ، وَظُهُورِ عَلَامَةٍ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ طَهَارَتَهُ، وَنَجَاسَةَ الْمَتْرُوكِ. وَالثَّانِي: يَكْفِي ظَنُّ الطَّهَارَةِ بِلَا عَلَامَةٍ. وَالثَّالِثُ: يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا بِلَا اجْتِهَادٍ وَلَا ظَنٍّ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ نَجَاسَةَ أَحَدِهِمَا بِمُشَاهَدَتِهَا، أَوْ ظَنِّهَا بِإِخْبَارِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ مِنْ حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ، أَوِ امْرَأَةٍ. وَفِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُمَيِّزِ، وَيُقْبَلُ الْأَعْمَى بِلَا خِلَافٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَالِ الْمُخْبِرِ أَنَّهُ لَا يُخْبِرُ عَنْ حَقِيقَةٍ، وَسَوَاءٌ أَخْبَرَهُ بِنَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ، أَمْ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ اشْتَبَهَ، فَيَجْتَهِدُ فِي الْجَمِيعِ. وَلَوِ انْصَبَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ صَبَّهُ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يَجْتَهِدُ فِي الْبَاقِي. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ، بَلْ يَتَيَمَّمُ. وَالثَّالِثُ: يَسْتَعْمِلُهُ بِلَا اجْتِهَادٍ عَمَلًا بِالْأَصْلِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَالْأَكْثَرِينَ - أَوِ الْكَثِيرِينَ -: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ، بَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ وَإِنْ لَمْ يَرُقْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلِلِاجْتِهَادِ شُرُوطٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لِلْعَلَامَةِ مَجَالٌ، كَالْأَوَانِي، وَالثِّيَابِ. أَمَّا إِذَا اخْتَلَطَ بَعْضُ مَحَارِمِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ أَجْنَبِيَّاتٍ مَحْصُورَاتٍ، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِالِاجْتِهَادِ. الثَّانِي: أَنْ يَتَأَيَّدَ الِاجْتِهَادُ بِاسْتِصْحَابِ الطَّهَارَةِ. فَلَوِ اشْتَبَهَ مَاءٌ بِبَوْلٍ، أَوْ بِمَاءِ وَرْدٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ، أَوْ لَبَنُ بَقَرٍ بِلَبَنِ أَتَانٍ. لَمْ يَجْتَهِدْ عَلَى الصَّحِيحِ، بَلْ يَتَيَمَّمُ فِي مَسْأَلَةِ الْبَوْلِ. وَفِي مَسْأَلَةِ مَاءِ الْوَرْدِ يَتَوَضَّأُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَرَّةً. وَقِيلَ: يَجْتَهِدُ. وَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ عَلَامَةٍ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي أَوَّلِ الْبَابِ. الثَّالِثُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْيَقِينِ، فَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، جَازَ الِاجْتِهَادُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَجُوزُ فِي الْمُشْتَبَهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ ثَالِثٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، أَوْ كَانَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ أَوِ اشْتَبَهَ ثَوْبَانِ وَمَعَهُ ثَالِثٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، أَوْ قُلَّتَانِ: طَاهِرَةٌ، وَنَجِسَةٌ، وَأَمْكَنَ خَلْطُهُمَا بِلَا تَغَيُّرٍ، أَوِ اشْتَبَهَ مَاءٌ مُطْلَقٌ بِمُسْتَعْمَلٍ، أَوْ بِمَاءِ وَرْدٍ، قُلْنَا: يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْجَمِيعِ. الرَّابِعُ: أَنْ تَظْهَرَ عَلَامَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ اشْتِرَاطُ الْعَلَامَةِ، فَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ، تَيَمَّمَ بَعْدَ إِرَاقَةِ الْمَاءَيْنِ، أَوْ صَبِّ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ ; وَجَبَتْ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْأَعْمَى، فَيَجْتَهِدُ عَلَى الْأَظْهَرِ. فَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ، قَلَّدَ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقَلِّدُ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُقَلِّدُهُ، فَوَجْهَانِ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَيُصَلِّي، وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ. وَالثَّانِي: يُخَمِّنُ وَيَتَوَضَّأُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قَالَ: وَيُعِيدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَةُ إِنَاءٍ، اسْتُحِبَّ أَنْ يُرِيقَ الْآخَرَ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ وَصَلَّى بِالْأَوَّلِ الصُّبْحَ، فَحَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْأَوَّلِ شَيْءٌ، لَمْ يَجِبِ الِاجْتِهَادُ لِلظُّهْرِ. فَلَوِ اجْتَهَدَ فَظَنَّ طَهَارَةَ الْبَاقِي، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُ، وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ، وَلَا يَتَيَمَّمُ فَيَغْسِلُ جَمِيعَ مَا أَصَابَهُ الْمَاءُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، وَعَلَى هَذَا لَا يُعِيدُ وَاحِدَةً مِنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَعَلَى الْمَنْصُوصِ: لَا يُعِيدُ الْأُولَى، وَلَا الثَّانِيَةَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. أَمَّا إِذَا بَقِيَ مِنَ الْأَوَّلِ شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ يَكْفِي طَهَارَتَهُ، فَهُوَ كَمَا إِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الِاجْتِهَادُ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ. وَإِذَا صَلَّاهَا بِالتَّيَمُّمِ، وَجَبَ قَضَاؤُهَا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي لَا يَكْفِي، فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ، كَانَ كَالْكَافِي، وَإِلَّا كَانَ كَمَا إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْأَوَّلِ شَيْءٌ. وَلَوْ صَبَّ الْمَاءَ الْبَاقِيَ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَوَّلِ، أَوِ الْبَاقِيَ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ، ثُمَّ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَتَيَقَّنُ نَجَاسَتَهُ وَلَا طَهَارَتَهُ، وَالْغَالِبُ فِي مِثْلِهِ النَّجَاسَةُ، فِيهِ قَوْلَانِ، لِتَعَارُضِ الْأَصْلِ. وَالظَّاهِرُ: أَظْهَرُهُمَا: الطَّهَارَةُ، عَمَلًا بِالْأَصْلِ، فَمِنْ ذَلِكَ ثِيَابُ مُدْمِنِي الْخَمْرِ وَأَوَانِيهِمْ، وَثِيَابُ الْقَصَّابِينَ، وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَا يَتَوَقُّونَ النَّجَاسَةَ وَطِينَ الشَّوَارِعِ حَيْثُ لَا يَسْتَيْقِنُ، وَمَقْبَرَةٌ شَكَّ فِي نَبْشِهَا، وَأَوَانِي الْكُفَّارِ الْمُتَدَيِّنِينَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ كَالْمَجُوسِ، وَثِيَابُ الْمُنْهَمِكِينَ فِي الْخَمْرِ، وَالتَّلَوُّثُ بِالْخِنْزِيرِ مِنَ الْيَهُودِ

وَالنَّصَارَى - وَلَا يَلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - فَإِنْ أَلْحَقْنَا غَلَبَةَ الظَّنِّ بِالْيَقِينِ، وَاشْتَبَهَ إِنَاءٌ طَاهِرٌ بِإِنَاءٍ الْغَالِبُ فِي مِثْلِهِ النَّجَاسَةُ، اجْتَهَدَ فِيهِمَا. وَإِنْ رَجَّحْنَا الْأَصْلَ ; فَهُمَا طَاهِرَانِ، وَرُبَّمَا أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ النَّجَاسَةُ، لَكِنْ لَهُ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ غَلَبَةُ الظَّنِّ مُسْتَنِدَةً إِلَى كَوْنِ الْغَالِبِ فِي مِثْلِهِ النَّجَاسَةَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ، حَتَّى لَوْ رَأَى ظَبْيَهُ تَبُولُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْهُ، فَجَاءَهُ، فَوَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا، وَشَكَّ ; هَلْ تَغَيَّرَ بِالْبَوْلِ، أَمْ بِغَيْرِهِ؟ ، فَهُوَ نَجِسٌ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. قُلْتُ: الْجُمْهُورُ حَكَمُوا بِالنَّجَاسَةِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إِنْ كَانَ عَهِدَهُ عَنْ قُرْبٍ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، فَهُوَ النَّجِسُ. وَإِنْ لَمْ يَعْهَدْهُ أَصْلًا، أَوْ طَالَ عَهْدُهُ، فَهُوَ طَاهِرٌ، لِاحْتِمَالِ التَّغَيُّرِ بِطُولِ الْمُكْثِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الرَّافِعِيَّ اخْتَصَرَ هَذَا الْبَابَ جِدًّا، وَتَرْكَ أَكْثَرَ مَسَائِلِهِ. وَأَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أُشِيرُ إِلَى مُعْظَمِ مَا تَرَكَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْمُشْتَبَهَيْنِ مِنَ الطَّعَامَيْنِ، وَالدُّهْنَيْنِ، وَنَحْوِهِمَا، فِي الْجِنْسِ، وَالْجِنْسَيْنِ، كَلَبَنٍ وَخَلٍّ تَنَجَّسَ أَحَدُهُمَا، وَثَوْبٍ وَتُرَابٍ، وَطَعَامٍ وَمَاءٍ، وَلَنَا وَجْهٌ مُنْكَرٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْجِنْسَيْنِ. حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَلَّطَهُ، وَلَوِ اشْتَبَهَ لَبَنَانِ وَمَعَهُ ثَالِثٌ مُتَيَقَّنُ الطَّهَارَةِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إِلَى شُرْبِهِ، جَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا، وَإِنِ اضْطُرَّ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَاءَيْنِ وَمَعَهُ ثَالِثٌ. وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِنَجَاسَةِ أَحَدِ الْمُشْتَبَهَيْنِ بِعَيْنِهِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ، عَمِلَ بِهِ، وَلَمْ يَجُزِ الِاجْتِهَادُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ، فَقَالَ عَدْلٌ: وَلَغَ الْكَلْبُ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ، وَقَالَ آخَرُ: فِي ذَاكَ دُونَ هَذَا، حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِمَا، لِاحْتِمَالِ الْوُلُوغِ فِي وَقْتَيْنِ، فَإِنْ عَيَّنَا وَقْتًا بِعَيْنِهِ، عَمِلَ بِقَوْلِ أَوْثَقِهِمَا عِنْدَهُ عَلَى الْمُخْتَارِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. فَإِنِ اسْتَوَيَا، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُسْقِطُ خَبَرَهُمَا، وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِمَا، وَفِيهِ طُرُقٌ لِلْأَصْحَابِ،

وَتَفْرِيعَاتٌ طَوِيلَةٌ أَوْضَحْتُهَا فِي شَرْحَيِ (الْمُهَذَّبِ) وَ (التَّنْبِيهِ) وَلَوْ قَالَ عَدْلٌ: وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ، هَذَا الْكَلْبُ فِي وَقْتِ كَذَا، فَقَالَ آخَرُ: كَانَ هَذَا الْكَلْبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِبَلَدٍ آخَرَ، فَالْأَصَحُّ طَهَارَةُ الْإِنَاءِ، لِلتَّعَارُضِ، وَالثَّانِي: النَّجَاسَةُ لِاشْتِبَاهِ الْكِلَابِ. وَلَوْ أَدْخَلَ الْكَلْبُ رَأَسَهُ فِي الْإِنَاءِ، وَأَخْرَجَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ وُلُوغَهُ، فَإِنْ كَانَ فَمُهُ يَابِسًا، فَالْمَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا، فَالْأَصَحُّ: الطَّهَارَةُ لِلْأَصْلِ. وَالثَّانِي: النَّجَاسَةُ، لِلظَّاهِرِ. وَإِذَا تَوَضَّأَ بِالْمَظْنُونِ طَهَارَتُهُ، ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا، أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ، لَزِمَهُ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَغَسْلُ مَا أَصَابَهُ الْمَاءُ مِنْ بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ. وَيَكْفِيهِ الْغَسْلَةُ الْوَاحِدَةُ عَنِ النَّجَاسَةِ وَالْحَدَثِ جَمِيعًا إِذَا نَوَى الْحَدَثَ، عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، خِلَافَ مَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلَتَيْنِ. وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ فِي (الْوَسِيطِ) وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَا تَجِبُ إِعَادَةُ هَذِهِ الصَّلَاةِ، كَنَظِيرِهِ مِنَ الْقِبْلَةِ. وَلَوْ تَوَضَّأَ بِأَحَدِ الْمُشْتَبَهَيْنِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، وَصَلَّى، وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَبَانَ أَنِّ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ هُوَ الطَّاهِرُ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ قَطْعًا، وَلَا وُضُوءُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِتَلَاعُبِهِ، وَكَنَظِيرِهِ فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ. وَلَوِ اشْتَبَهَ الْإِنَاءَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ، فَظَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ طَهَارَةَ إِنَاءٍ بِاجْتِهَادِهِ، لَمْ يَقْتَدِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. فَلَوْ كَانَتِ الْآنِيَةُ ثَلَاثَةً، نَجِسٌ وَطَاهِرَانِ، فَاجْتَهَدَ فِيهَا ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَتَوَضَّأَ كُلٌّ بِإِنَاءٍ، وَأَمَّهُمَا وَاحِدٌ فِي الصُّبْحِ، وَآخَرُ فِي الظُّهْرِ، وَآخَرُ فِي الْعَصْرِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ.

الصَّحِيحُ الْأَشْهَرُ: قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ: يَصِحُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ الَّتِي أَمَّ فِيهَا. وَالِاقْتِدَاءُ الْأَوَّلُ، وَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي لِلْبُطْلَانِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ الْقَاصِّ: لَا يَصِحُّ لَهُ إِلَّا الَّتِي أَمَّ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: تَصِحُّ الَّتِي أَمَّ فِيهَا. وَالِاقْتِدَاءُ الْأَوَّلُ إِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ. فَإِنِ اقْتَدَى ثَانِيًا، بَطَلَا جَمِيعًا. وَإِنْ زَادَتِ الْآنِيَةُ وَالْمُجْتَهِدُونَ، أَوْ سَمِعَ مِنَ الرِّجَالِ صَوْتَ حَدَثٍ، فَتَنَاكَرُوهُ، فَحُكْمُ كُلِّهِ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ كُلَّ هَذَا بِأَمْثِلَتِهِ وَأَدِلَّتِهِ فِي شَرْحَيِ (الْمُهَذَّبِ) وَ (التَّنْبِيهِ) . وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ (صِفَةِ الْأَئِمَّةِ) وَهَذَا الْمَوْضِعُ أَنْسَبُ. وَلَوْ وَجَدَ قِطْعَةَ لَحْمٍ مُلْقَاةً، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَجُوسٌ وَمُسْلِمُونَ، فَنَجِسَةٌ، فَإِنْ تَمَحَّضَ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي خِرْقَةٍ، أَوْ مِكْتَلٍ، فَطَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُلْقَاةً مَكْشُوفَةً، فَنَجِسَةٌ. وَلَوِ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّيَاتِ بَلَدٍ، أَوْ إِنَاءُ بَوْلٍ بِأَوَانِي بَلَدٍ، فَلَهُ أَخْذُ بَعْضِهَا بِالِاجْتِهَادِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِلَى أَيِّ حَدٍّ يَنْتَهِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي (الْبَحْرِ) أَصَحُّهُمَا إِلَى أَنْ يَبْقَى وَاحِدٌ. وَالثَّانِي: إِلَى أَنْ يَبْقَى قَدْرٌ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَاطُ بِهِ ابْتِدَاءً، مَنَعَ الْجَوَازَ. وَلَوْ كَانَ لَهُ دِنَّانِ فِيهِمَا مَائِعٌ، فَاغْتَرَفَ مِنْهُمَا فِي إِنَاءٍ، فَرَأَى فِيهِ فَأْرَةً لَا يُدْرَى مِنْ أَيِّهِمَا هِيَ، تَحَرَّى، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهَا مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ اغْتَرَفَ بِمِغْرَفَتَيْنِ، فَالْآخَرُ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ بِمِغْرَفَةٍ، فَإِنْ ظَهَرَ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّ الْفَأْرَةَ فِي الثَّانِي، فَالْأَوَّلُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِلَّا، فَهُمَا نَجِسَانِ. وَقَدْ أَكْثَرْتُ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْبَابِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، فَبَقِيَتْ مِنْهُ بَقَايَا حَذَفْتُهَا كَرَاهَةَ كَثْرَةِ الْإِطَالَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

باب

بَابٌ الْأَوَانِي هِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: الْمُتَّخَذُ مِنْ جِلْدٍ، وَالْجِلْدُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ فِي حَالَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إِذَا ذُكِّيَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ، فَجِلْدُهُ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ كَلَحْمِهِ، وَلَوْ ذُكِّيَ غَيْرُ مَأْكُولٍ، فَجِلْدُهُ نَجِسٌ كَلَحْمِهِ. قُلْتُ: وَلَوْ ذَبَحَ حِمَارًا زَمَنًا، أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ، لِلتَّوَصُّلِ إِلَى دَبْغِ جِلْدِهِ، لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُدْبَغَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ، فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا جِلْدَ كَلْبٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، وَفَرْعَهُمَا، فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ قَطْعًا، وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّ الْآدَمِيَّ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، طَهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ مُنْكَرٌ فِي (التَّتِمَّةِ) أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يَنْجُسُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالدَّبْغِ لِإِزَالَةِ الزُّهُومَةِ، ثُمَّ قَالَ الْأَصْحَابُ: يُعْتَبَرُ فِي الدِّبَاغِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءٍ: نَزْعُ الْفُضُولِ، وَتَطْيِيبُ الْجِلْدِ، وَصَيْرُورَتُهُ بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ، لَمْ يَعُدِ الْفَسَادُ وَالنَّتَنُ. وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى نَزْعِ الْفُضُولِ، لِاسْتِلْزَامِهِ الطِّيبَ وَالصَّيْرُورَةَ. قَالُوا: وَيَكُونُ الدِّبَاغُ بِالْأَشْيَاءِ الْحَرِّيفَةِ، كَالشَّبِّ، وَالْقَرَظِ، وَقُشُورِ الرُّمَّانِ، وَالْعَفْصِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِشَبٍّ أَوْ قَرَظٍ، وَهُوَ غَلَطٌ، وَيَحْصُلُ بِمُتَنَجِّسٍ، وَبِنَجِسِ الْعَيْنِ، كَذَرْقِ حَمَامٍ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا، وَلَا يَكْفِي التَّجْمِيدُ بِالتُّرَابِ، أَوْ

الشَّمْسِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ الدِّبَاغِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجِبُ الْغَسْلُ بَعْدَهُ إِنْ دَبَغَ بِنَجِسٍ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ دَبَغَ بِطَاهِرٍ عَلَى الْأَصَحِّ، فَعَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يَغْسِلْهُ، يَكُونُ طَاهِرَ الْعَيْنِ، كَثَوْبٍ نَجِسٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَوْجَبْنَا الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الدِّبَاغِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسَ الْعَيْنِ، وَهَلْ يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ نَقْعِهِ فِي الْمَاءِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْأَدْوِيَةِ ثَانِيًا؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَالْآخَرُ: احْتِمَالٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْمُرَادُ نَقْعُهُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْغَسْلَ بَعْدَ الدِّبَاغِ، اشْتُرِطَ سَلَامَتُهُ مِنَ التَّغَيُّرِ بِأَدْوِيَةِ الدِّبَاغِ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ إِذَا أَوْجَبْنَا اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ الدِّبَاغِ. فَرْعٌ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ قَطْعًا، وَبَاطِنُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ الْجَدِيدِ. فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَائِعَاتِ، وَيُصَلَّى فِيهِ. وَمَنَعَ الْقَدِيمُ: طَهَارَةَ الْبَاطِنِ، وَالصَّلَاةَ، وَالْبَيْعَ، وَاسْتِعْمَالَهُ فِي الْمَائِعِ. قُلْتُ: أَنْكَرَ جَمَاهِيرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَكَثِيرُونَ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ هَذَا الْقَدِيمَ، وَقَطَعُوا بِطَهَارَةِ الْبَاطِنِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ أَكْلُ الْمَدْبُوغِ عَلَى الْجَدِيدِ، إِنْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ، وَإِلَّا فَلَا، عَلَى الْمَذْهَبِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ تَحْرِيمُ أَكْلِ جِلْدِ الْمَأْكُولِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَسَائِلُ مِنْهَا: الدِّبَاغُ بِالْمِلْحِ.

نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَصَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَقَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْحُصُولِ، وَلَا يَفْتَقِرُ الدِّبَاغُ إِلَى فِعْلٍ. فَلَوْ أَلْقَتِ الرِّيحُ الْجِلْدَ فِي مَدْبَغَةٍ، فَانْدَبَغَ، طَهُرَ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ فِي الْيَابِسَاتِ، لَكِنْ يُكْرَهُ، وَيَجُوزُ هِبَتُهُ، كَمَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الدِّبَاغِ، فَفِي إِجَارَتِهِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الشَّعْرُ وَالْعَظْمُ ; أَمَّا الشَّعْرُ، وَالصُّوفُ، وَالْوَبَرُ، وَالرِّيشُ، فَيَنْجُسُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَكَذَا الْعَظْمُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: كَالشَّعْرِ. فَإِنْ نَجَّسْنَا الشَّعْرَ، فَفِي شَعْرِ الْآدَمِيِّ قَوْلَانِ. أَوْ وَجْهَانِ. بِنَاءً عَلَى نَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ شَعْرُهُ بِالْمَوْتِ، وَلَا بِالْإِبَانَةِ. فَإِنْ نَجَّسْنَا، عُفِيَ عَنْ شَعْرَةٍ وَشَعْرَتَيْنِ. فَإِنْ كَثُرَ، لَمْ يُعْفَ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ مِنَ الشَّعْرِ النَّجِسِ فِي الْمَاءِ، وَالثَّوْبِ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ، وَضَبْطُ الْيَسِيرِ: الْعُرْفُ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَعَلَّ الْقَلِيلَ مَا يَغْلِبُ انْتِتَافُهُ مَعَ اعْتِدَالِ الْحَالِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْعَفْوِ، هَلْ يَخْتَصُّ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ، أَمْ يَعُمُّ الْجَمِيعَ؟ وَالْأَصَحُّ: التَّعْمِيمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا نَجَّسْنَا شَعْرَ الْآدَمِيِّ، فَالصَّحِيحُ: طَهَارَةُ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا نَجَّسْنَا شَعْرَ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، فَدَبْغُ الْجِلْدِ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ، لَمْ يُطَهِّرِ الشَّعْرَ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِذَا لَمْ تَنْجُسِ الشُّعُورُ، فَفِي شَعْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعِهِمَا وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: النَّجَاسَةُ. سَوَاءٌ انْفَصَلَ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَأَمَّا الْإِنَاءُ مِنَ الْعَظْمِ، فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا،

جَازَ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَطَهَارَتُهُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالذَّكَاةِ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ، إِلَّا إِذَا قُلْنَا (بِالضَّعِيفِ) : إِنَّ عِظَامَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْإِنَاءِ مِنَ الْعَظْمِ النَّجِسِ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ، لَكِنْ يُكْرَهُ، كَمَا قُلْنَا فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَيَجُوزُ إِيقَادُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ. وَلَوْ رَأَى شَعْرًا لَمْ يَعْلَمْ طَهَارَتَهُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، فَطَاهِرٌ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَنَجِسٌ. أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الطَّهَارَةُ، وَلَوْ بَاعَ جِلْدَ مَيْتَةٍ بَعْدَ دِبَاغِهِ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ، وَقُلْنَا: يَجُوزُ بَيْعُ الْجِلْدِ، وَلَا يَطْهُرُ الشَّعْرُ بِالدِّبَاغِ، فَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ الْجِلْدَ دُونَ شَعْرِهِ صَحَّ، وَلَوْ قَالَ: الْجِلْدُ مَعَ شَعْرِهِ، فَفِي صِحَّةِ بَيْعِ الْجِلْدِ الْقَوْلَانِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا وَأَطْلَقَ صَحَّ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِنَاءُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ; يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فِي (الْقَدِيمِ) وَكَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ فِي (الْجَدِيدِ) وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ. وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ، وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيمِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَسَوَاءٌ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْوُضُوءِ، وَالْأَكْلِ بِمِلْعَقَةِ الْفِضَّةِ، وَالتَّطَيُّبِ بِمَاءِ الْوَرْدِ مِنْ قَارُورَةِ الْفِضَّةِ، وَالتَّجَمُّرِ بِمِجْمَرَةِ الْفِضَّةِ إِذَا احْتَوَى عَلَيْهَا. وَلَا حَرَجَ فِي إِتْيَانِ الرَّائِحَةِ مِنْ بُعْدٍ، وَيَحْرُمُ اتِّخَاذُ الْإِنَاءِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ عَلَى الْأَصَحِّ، فَلَا يَسْتَحِقُّ صَانِعُهُ أُجْرَةً، وَلَا أَرْشَ عَلَى كَاسِرِهِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَحْرُمُ، فَتَجِبُ الْأُجْرَةُ وَالْأَرْشُ، وَيَحْرُمُ تَزْيِينُ الْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ وَالْمَجَالِسِ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَحْرُمُ الْإِنَاءُ الصَّغِيرُ، كَالْمُكْحُلَةِ، وَظَرْفُ الْغَالِيَةِ مِنَ الْفِضَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يَحْرُمُ الْأَوَانِي مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ، كَالْفَيْرُوزَجِ، وَالْيَاقُوتِ، وَالزَّبَرْجَدِ، وَنَحْوِهَا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ: لَا يَحْرُمُ مَا نَفَاسَتُهُ لِصَنْعَتِهِ، وَلَا يُكْرَهُ لَوِ اتَّخَذَ إِنَاءً مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَمَوَّهَهُ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، إِنْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ، حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِلَّا ;

فَوَجْهَانِ. وَلَوِ اتَّخَذَهُ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، وَمَوَّهَهُ بِنُحَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ غُشِّيَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ بِالنُّحَاسِ، فَطَرِيقَانِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا يَحْرُمُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: لَا يَحْرُمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ، فِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: إِنْ كَانَتِ الضَّبَّةُ صَغِيرَةً وَعَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا يُكْرَهُ. وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً فَوْقَ الْحَاجَةِ ; حَرُمَ. وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَوْقَ الْحَاجَةِ أَوْ كَبِيرَةً قَدَرَ الْحَاجَةِ، فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: يُكْرَهُ. وَالثَّانِي: يَحْرُمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنْ كَانَتِ الضَّبَّةُ تَلْقَى فَمَ الشَّارِبِ حَرُمَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّالِثُ: يُكْرَهُ، وَلَا يَحْرُمُ بِحَالٍ. وَالرَّابِعُ: يَحْرُمُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. قُلْتُ: أَصَحُّ الْأَوْجُهِ وَأَشْهَرُهَا، الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَعْنَى الْحَاجَةِ: غَرَضُ إِصْلَاحِ مَوْضِعِ الْكَسْرِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْعَجْزُ عَنِ التَّضْبِيبِ بِغَيْرِ الْفِضَّةِ، فَإِنَّ الِاضْطِرَارَ يُبِيحُ اسْتِعْمَالَ أَصْلِ إِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَفِي ضَبْطِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ. وَالثَّانِي: مَا يَلْمَعُ عَلَى بُعْدٍ كَبِيرٍ، وَمَا لَا فَصَغِيرٌ. وَالثَّالِثُ: مَا اسْتَوْعَبَ جُزْءًا مِنَ الْإِنَاءِ، كَأَسْفَلِهِ، أَوْ عُرْوَتِهِ، أَوْ شَفَتِهِ كَبِيرٌ، وَمَا لَا فَصَغِيرٌ. قُلْتُ: الثَّالِثُ: أَشْهَرُ. وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِذَهَبٍ ; فَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ بِتَحْرِيمِهِ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ كَالْفِضَّةِ. قُلْتُ: قَدْ قَطَعَ بِتَحْرِيمِ الْمُضَبَّبِ بِالذَّهَبِ - بِكُلِّ حَالٍ - جَمَاعَاتٌ غَيْرُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، مِنْهُمْ صَاحِبُ (الْحَاوِي) وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَالْعَبْدَرِيُّ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ مُطْلَقًا. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَلْ يُسَوَّى بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ؟ قِيَاسُ الْبَابِ: نَعَمْ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: لَا، فَإِنَّ قَلِيلَ الذَّهَبِ كَكَثِيرِ الْفِضَّةِ، فَيُقَوَّمُ ضَبَّةُ الْفِضَّةِ الْمُبَاحَةِ، وَيُبَاحُ قَدْرُهَا مِنَ الذَّهَبِ ; وَلَوِ اتَّخَذَ لِلْإِنَاءِ حَلْقَةَ فِضَّةٍ، أَوْ سِلْسِلَةً، أَوْ رَأْسًا. قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : يَجُوزُ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ. قُلْتُ: قَدْ وَافَقَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) جَمَاعَةً، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ شَرِبَ بِكَفَّيْهِ وَفِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ، أَوْ فِي فَمِهِ دَرَاهِمُ، أَوْ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي شُرِبَ مِنْهُ، لَمْ يُكْرَهْ. وَلَوْ أَثْبَتَ الدَّرَاهِمَ فِي الْإِنَاءِ بِالْمَسَامِيرِ، فَهُوَ كَالضَّبَّةِ. وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِجَوَازِهِ. وَلَوْ بَاعَ إِنَاءَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، صَحَّ بَيْعُهُ. وَلَوْ تَوَضَّأَ مِنْهُ، صَحَّ وُضُوءُهُ، وَعَصَى بِالْفِعْلِ. وَلَوْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ، عَصَى بِالْفِعْلِ، وَكَانَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَلَالًا. وَطَرِيقُهُ فِي اجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ، أَنْ يَصُبَّ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ فِي إِنَاءٍ آخَرَ، وَيُسْتَعْمَلُ الْمَصْبُوبُ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

باب

بَابٌ صِفَةُ الْوُضُوءِ لَهُ فُرُوضٌ وَسُنَنٌ. فَالْفُرُوضُ سِتَّةٌ. الْأَوَّلُ: النِّيَّةُ: وَهِيَ فَرْضٌ فِي طَهَارَاتِ الْأَحْدَاثِ، وَلَا تَجِبُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَا يَصِحُّ وُضُوءُ كَافِرٍ أَصْلِيٍّ، وَلَا غُسْلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَصِحَّانِ عَلَى وَجْهٍ. وَيَصِحُّ الْغُسْلُ دُونَ الْوُضُوءِ عَلَى وَجْهٍ، فَيُصَلِّي بِهِ إِذَا أَسْلَمَ. وَالْكِتَابِيَّةُ الْمُغْتَسِلَةُ مِنَ الْحَيْضِ لِحَلِّ وَطْئِهَا لِزَوْجٍ مُسْلِمٍ، كَغَيْرِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يَصِحُّ طَهَارَةُ الْمُرْتَدِّ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ تَوَضَّأَ مُسْلِمٌ أَوْ تَيَمَّمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ: يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ دُونَ الْوُضُوءِ. وَالثَّانِي: يَبْطُلَانِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَبْطُلَانِ. وَلَا يَبْطُلُ الْغُسْلُ بِالرِّدَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْوُضُوءِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. أَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ غَسْلِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ. فَإِنْ قَارَنَتِ الْجُزْءَ الْمَذْكُورَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ وَلَمْ تَبْقَ بَعْدَهُ، صَحَّ وُضُوءُهُ، لَكِنْ لَا يُثَابُ عَلَى سُنَنِ الْوُضُوءِ الْمُتَقَدِّمَةِ. قُلْتُ: وَفِي (الْحَاوِي) وَجْهٌ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ تَقَدَّمَتِ النِّيَّةُ مِنْ أَوَّلِ الْوُضُوءِ وَاسْتَصْحَبَهَا إِلَى غَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ، صَحَّ، وَحَصَلَ ثَوَابُ السُّنَنِ، وَإِنِ اقْتَرَنَتْ بِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ التَّسْمِيَةُ، وَالسِّوَاكُ، وَغَسْلُ الْكَفِّ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، ثُمَّ عَزَبَتْ قَبْلَ الْوَجْهِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: لَا يَصِحُّ وُضُوءُهُ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ. وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ إِنِ اقْتَرَنَتْ بِالْمَضْمَضَةِ أَوِ الِاسْتِنْشَاقِ دُونَ مَا قَبْلَهُمَا. وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّ مَا قَبْلَهُمَا لَيْسَ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، بَلْ مَنْدُوبَةٌ فِي أَوَّلِهِ، لَا مِنْهُ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا مِنْ سُنَنِهِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، هُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَنْغَسِلْ مَعَهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْوَجْهِ، فَإِنِ انْغَسَلَ بِنِيَّةِ الْوَجْهِ، أَجْزَأَهُ وَلَا يَضُرُّ الْعُزُوبُ بَعْدَهُ. وَإِنْ

لَمْ يَنْوِ بِالْمَغْسُولِ الْوَجْهَ، أَجْزَأَهُ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَةِ غَسْلِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مَعَ الْوَجْهِ، عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ ; فَالْوُضُوءُ ضَرْبَانِ: وُضُوءُ رَفَاهِيَةٍ ; وَوُضُوءُ ضَرُورَةٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَيَنْوِي أَحَدَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: رَفْعُ الْحَدَثِ، أَوِ الطَّهَارَةُ عَنِ الْحَدَثِ. وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَاسِحُ خُفٍّ، لَمْ يُجْزِئْهُ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ، بَلْ تَتَعَيَّنُ نِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ، وَلَوْ نَوَى رَفْعَ بَعْضِ الْأَحْدَاثِ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَصِحُّ وُضُوءُهُ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ لَمْ يَنْفِ مَا عَدَاهُ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا، وَالرَّابِعُ: إِنْ نَوَى رَفْعَ الْأَوَّلِ، صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَالْخَامِسُ: إِنْ نَوَى الْأَخِيرَ، صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. هَذَا إِذَا كَانَ الْحَدَثُ الْمَنْوِيُّ وَاقِعًا مِنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، بِأَنْ بَالَ وَلَمْ يَنَمْ، فَنَوَى حَدَثَ النَّوْمِ، فَإِنْ كَانَ غَالِطًا، صَحَّ وُضُوءُهُ قَطْعًا. وَإِنْ تَعَمَّدَ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. الْأَمْرُ الثَّانِي: اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ، أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَا تُبَاحُ إِلَّا بِالطَّهَارَةِ، كَالطَّوَافِ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَالشُّكْرِ. فَإِذَا نَوَى أَحَدَهَا، ارْتَفَعَ حَدَثُهُ، وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ بِنِيَّةِ الِاسْتِبَاحَةِ، وَهُوَ غَلَطٌ. وَإِنْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ صَلَاةٍ بِعَيْنِهَا، وَلَمْ يَنْفِ غَيْرَهَا، صَحَّ الْوُضُوءُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا. وَإِنْ نَفَى أَيْضًا، صَحَّ، عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَصِحُّ فِي الثَّانِي، وَيَصِحُّ فِي الثَّالِثِ، لِمَا نَوَى فَقَطْ، وَلَوْ نَوَى مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ، كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ، وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَتِهِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ نَوَى تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ. فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَلَوْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فَتَوَضَّأَ مُحْتَاطًا فَتَيَقَّنَ الْحَدَثَ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ مُتَرَدِّدًا وَقَدْ زَالَتِ الضَّرُورَةُ بِالتَّيَقُّنِ. وَلَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ، وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ بَانَ مُحْدِثًا، أَجْزَأَهُ قَطْعًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَدَثِ فَلَا يَضُرُّ التَّرَدُّدُ مَعَهُ. وَلَوْ نَوَى مَا لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ، كَدُخُولِ السُّوقِ، لَمْ يَصِحَّ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: فَرْضُ الْوُضُوءِ، أَوْ أَدَاءُ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ كَافٍ قَطْعًا وَإِنْ كَانَ النَّاوِي صَبِيًّا.

فَرْعٌ إِذَا نَوَى أَحَدَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَقَصَدَ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ بِلَا قَصْدٍ، بِأَنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَالتَّبَرُّدَ، أَوْ رَفْعَ الْجَنَابَةِ وَالتَّبَرُّدَ، فَالصَّحِيحُ: صِحَّةُ طَهَارَتِهِ. وَلَوِ اغْتَسَلَ جُنُبٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَنَابَةِ، حَصَلَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى نِيَّةِ الْجَنَابَةِ، حَصَلَتِ الْجُمُعَةُ أَيْضًا فِي الْأَظْهَرِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا تَحْصُلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ نَوَى بِصَلَاتِهِ الْفَرْضَ، وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، حَصَلَا قَطْعًا، وَلَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ، ثُمَّ نَوَى فِي أَثْنَاءِ طَهَارَتِهِ التَّبَرُّدَ. فَإِنْ كَانَ ذَاكِرَ النِّيَّةِ، رُفِعَ الْحَدَثُ، فَهُوَ كَمَنْ نَوَاهُمَا ابْتِدَاءً، فَيَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَ غَافِلًا، لَمْ يَصِحَّ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ. أَمَّا وُضُوءُ الضَّرُورَةِ ; فَهُوَ وُضُوءُ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ، وَالْأَفْضَلُ: أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ وَاسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ. وَفِي الْوَاجِبِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجِبُ نِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ دُونَ رَفْعِ الْحَدَثِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَتْ. ثُمَّ إِنْ نَوَتْ فَرِيضَةً وَاحِدَةً، صَحَّ قَطْعًا، لِأَنَّهُ مُقْتَضَى طَهَارَتِهَا. وَإِنْ نَوَتْ نَافِلَةً مُعَيَّنَةً وَنَفَتْ غَيْرَهَا، فَعَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي غَيْرِهَا. فَرْعٌ لَوْ كَانَ يَتَوَضَّأُ ثَلَاثًا، فَنَسِيَ لُمْعَةً فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَانْغَسَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ يَقْصِدُ التَّنَفُّلَ، أَوِ انْغَسَلَتْ فِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ، فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: فِي الصُّورَةِ الْأُولَى يُجْزِئُهُ، وَفِي مَسْأَلَةِ التَّجْدِيدِ لَا يُجْزِئُهُ.

قُلْتُ: وَلَوْ نَسِيَ اللُّمْعَةِ فِي وُضُوئِهِ أَوْ غُسْلِهِ، ثُمَّ نَسِيَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، أَوِ اغْتَسَلَ، فَأَعَادَ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ بِنِيَّةِ الْحَدَثِ، أَجْزَأَهُ، وَتَكْمُلُ طَهَارَتُهُ بِلَا خِلَافٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ فَرَّقَ النِّيَّةَ عَلَى أَعْضَائِهِ، فَنَوَى عِنْدَ الْوَجْهِ رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْهُ، وَعِنْدَ الْيَدِ وَالرَّأْسِ وَالرِّجْلِ كَذَلِكَ، صَحَّ وُضُوءُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْخِلَافُ فِي مُطْلَقِ التَّفْرِيقِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَقِيلَ: هُوَ فِيمَنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ، وَنَفَى غَيْرَهُ، دُونَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَإِذَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ اللُّمْعَةِ: لَا يُعْتَدُّ بِالْمَغْسُولِ فِي الثَّانِيَةِ، فَهَلْ يَبْطُلُ مَا مَضَى، أَمْ يَبْنِي عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَا تَفْرِيقِ النِّيَّةِ، إِنْ جَوَّزْنَا التَّفْرِيقَ، جَازَ الْبِنَاءُ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَا يُشْتَرَطُ إِضَافَةُ الْوُضُوءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ، وَيَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي سُنَنِ الْوُضُوءِ. فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَلْبِ، أَجْزَأَهُ، أَوِ اللِّسَانِ، فَلَا. وَإِنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ حَدَثٌ، أَوْ تَبَرُّدٌ، وَفِي قَلْبِهِ خِلَافُهُ، فَالِاعْتِبَارُ بِالْقَلْبِ، وَلَوْ نَوَى الطَّهَارَةَ وَلَمْ يَقُلْ: عَنِ الْحَدَثِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَلَوْ نَوَتِ الْمُغْتَسِلَةُ عَنِ الْحَيْضِ تَمْكِينَ زَوْجٍ مِنْ وَطْئِهَا، فَأَوْجُهٌ. الْأَصَحُّ: تَسْتَبِيحُ الْوَطْءَ وَالصَّلَاةَ وَكُلَّ شَيْءٍ يَقِفُ عَلَى الْغُسْلِ. وَالثَّانِي: لَا تَسْتَبِيحُ شَيْئًا. وَالثَّالِثُ: تَسْتَبِيحُ الْوَطْءَ وَحْدَهُ. وَلَوْ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ بِوُضُوئِهِ صَلَاةً، وَأَنْ لَا يُصَلِّيَهَا، لَمْ يَصِحَّ، لِتَلَاعُبِهِ وَتَنَاقُضِهِ. وَلَوْ أُلْقِيَ إِنْسَانٌ فِي نَهْرٍ مُكْرَهًا فَنَوَى فِيهِ رَفْعَ الْحَدَثِ، صَحَّ وُضُوءُهُ. وَلَوْ غَسَلَ الْمُتَوَضِّئُ أَعْضَاءَهُ إِلَّا رِجْلَيْهِ، ثُمَّ سَقَطَ فِي نَهْرٍ فَانْغَسَلَتَا وَهُوَ ذَاكِرٌ النِّيَّةَ، صَحَّ، وَإِلَّا، لَمْ يَحْصُلْ غَسْلُ رِجْلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ، وَنَوَى الصَّلَاةَ وَدَفَعَ غَرِيمَهُ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ. قَالَهُ فِي (الشَّامِلِ) وَلَوْ نَوَى قَطَعَ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، لَمْ يَبْطُلْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَكَذَا فِي أَثْنَائِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَسْتَأْنِفُ النِّيَّةَ لِمَا بَقِيَ إِنْ جَوَّزْنَا تَفْرِيقَهَا وَإِلَّا اسْتَأْنَفَ الْوُضُوءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَرْضُ الثَّانِي: غَسْلَ الْوَجْهِ، وَيَجِبُ اسْتِيعَابُهُ بِالْغَسْلِ وَحْدَهُ، مِنْ مَبْدَأِ تَسْطِيحِ الْجَبْهَةِ إِلَى مُنْتَهَى الذَّقْنِ طُولًا، وَمِنَ الْأُذُنِ إِلَى الْأُذُنِ عَرْضًا، وَتَدْخُلُ الْغَايَتَانِ فِي حَدِّ الطُّولِ، وَلَا تَدْخُلَانِ فِي الْعَرْضِ، فَلَيْسَتِ النَّزْعَتَانِ مِنَ الْوَجْهِ، وَهُمَا: الْبَيَاضَانِ الْمُكْتَنِفَانِ لِلنَّاصِيَةِ أَعْلَى الْجَبِينَيْنِ، وَلَا مَوْضِعُ الصَّلَعِ، وَهُوَ: مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الشَّعْرُ فَوْقَ ابْتِدَاءِ التَّسْطِيحِ. وَأَمَّا الصُّدْغَانِ وَهُمَا: فِي جَانِبَيِ الْأُذُنِ يَتَّصِلَانِ بِالْعِذَارَيْنِ مِنْ فَوْقٍ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْوَجْهِ. وَلَوْ نَزَلَ الشَّعْرُ فَعَمَّ الْجَبْهَةَ أَوْ بَعْضَهَا، وَجَبَ غَسْلُ مَا دَخَلَ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَا يَجِبُ إِلَّا إِذَا عَمَّهَا. وَمَوْضِعُ التَّحْذِيفِ: مِنَ الرَّأْسِ، لَا مِنَ الْوَجْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَهُوَ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ الْخَفِيفُ بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعِذَارِ وَالنَّزْعَةِ. وَأَمَّا شُعُورُ الْوَجْهِ، فَقِسْمَانِ: حَاصِلَةٌ فِي حَدِّ الْوَجْهِ، وَخَارِجَةٌ عَنْهُ. وَالْحَاصِلَةُ نَادِرَةُ الْكَثَافَةِ وَغَيْرُهَا. فَالنَّادِرَةُ: كَالْحَاجِبَيْنِ، وَالْأَهْدَابِ، وَالشَّارِبَيْنِ، وَالْعِذَارَيْنِ، وَهُمَا: الْمُحَاذِيَانِ لِلْأُذُنَيْنِ بَيْنَ الصُّدْغِ وَالْعَارِضِ، فَيَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِ هَذِهِ الشُّعُورِ وَبَاطِنِهَا مَعَ الْبَشَرَةِ تَحْتَهَا وَإِنْ كَثُفَتْ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ مَنْبَتِ كَثِيفِهَا، وَغَيْرُ النَّادِرَةِ ; شَعْرُ الذَّقْنِ وَالْعَارِضَيْنِ، وَهُمَا: الشَّعْرَانِ الْمُنْحَطَّانِ عَنْ مُحَاذَاةِ الْأُذُنَيْنِ. فَإِنْ كَانَ خَفِيفًا، وَجَبَ غَسْلُ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ مَعَ الْبَشَرَةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا، وَجَبَ غَسْلُ ظَاهِرِ الشَّعْرِ فَقَطْ، وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَقِيلَ وَجْهٌ: إِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الْبَشَرَةِ أَيْضًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلَوْ خَفَّ بَعْضُهُ وَكَثَفَ بَعْضُهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ لِلْخَفِيفِ حُكْمَ الْخَفِيفِ الْمُتَمَحِّضِ، وَلِلْكَثِيفِ حُكْمَ الْكَثِيفِ الْمُتَمَحِّضِ. وَالثَّانِي: لِلْجَمِيعِ حُكْمَ الْخَفِيفِ. وَأَمَّا ضَبْطُ الْخَفِيفِ وَالْكَثِيفِ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، أَنَّ الْخَفِيفَ: مَا تَتَرَاءَى الْبَشَرَةُ تَحْتَهُ فِي مَجْلِسِ التَّخَاطُبِ. وَالْكَثِيفُ: مَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَفِيفَ: مَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى مَنْبَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ. وَالْكَثِيفُ:

مَا لَا يَصِلُهُ إِلَّا بِمُبَالَغَةٍ، وَيَلْحَقُ بِالنَّادِرِ فِي حُكْمِهِ الْمَذْكُورِ لِحْيَةُ امْرَأَةٍ، وَخُنْثَى مُشْكِلٌ، وَكَذَا عَنْفَقَةُ الرَّجُلِ الْكَثِيفَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: هِيَ كَشَعْرِ الذَّقْنِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْخَارِجَةُ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ مِنَ اللِّحْيَةِ، وَالْعَارِضِ، وَالْعِذَارِ، وَالسِّبَالِ طُولًا وَعَرْضًا، وَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَهُوَ غَسْلُ ظَاهِرِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَقِيلَ: يَجِبُ غَسْلُ الْوَجْهِ الْبَاطِنِ مِنَ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا، وَقِيلَ: يَجِبُ غَسْلُ السِّبَالِ قَطْعًا. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجِبُ غَسْلُ جُزْءٍ مِنْ رَأْسِهِ، وَرَقَبَتِهِ، وَمَا تَحْتَ ذَقْنِهِ مَعَ الْوَجْهِ، لِيَتَحَقَّقَ اسْتِيعَابُهُ. وَلَوْ قُطِعَ أَنْفُهُ، أَوْ شَفَتُهُ، لَزِمَهُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ بِالْقَطْعِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْغَسْلُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ سِلْعَةٌ وَنَزَلَتْ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ، لَزِمَهُ غَسْلُ جَمِيعِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي النَّازِلِ قَوْلَانِ. وَيَجِبُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنْ حُمْرَةِ الشَّفَتَيْنِ، وَيُسْتَحَبُّ غَسْلُ النَّزْعَتَيْنِ. وَلَوْ خُلِقَ لَهُ وَجْهَانِ، وَجَبَ غَسْلُهُمَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَرْضُ الثَّالِثُ: غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ، فَإِنْ قُطِعَ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ، فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ غَسْلُ بَاقِي الْعَضُدِ، لِئَلَّا يَخْلُوَ الْعُضْوُ مِنْ طَهَارَةٍ. وَإِنْ قُطِعَ مِنْ تَحْتِ الْمِرْفَقِ، وَجَبَ غَسْلُ بَاقِي مَحَلِّ الْفَرْضِ. وَإِنْ قُطِعَ مِنْ مَفْصَلِ الْمِرْفَقِ، وَجَبَ غَسْلُ رَأْسِ الْعَظْمِ الْبَاقِي عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ يَدَانِ مِنْ جَانِبٍ، فَتَارَةً تَتَمَيَّزُ الزَّائِدَةُ عَنِ الْأَصْلِيَّةِ، وَتَارَةً لَا. فَإِنْ تَمَيَّزَتْ وَخَرَجَتْ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، إِمَّا مِنَ السَّاعِدِ، وَإِمَّا مِنَ الْمِرْفَقِ، وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ الْأَصْلِيَّةِ، كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ، وَالسِّلْعَةِ، سَوَاءٌ جَاوَزَ طُولُهَا الْأَصْلِيَّةَ، أَمْ لَا. وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ فَوْقِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَلَمْ تُحَاذِ مَحَلَّ الْفَرْضِ، لَمْ يَجِبْ غَسْلُ شَيْءٍ مِنْهَا. وَإِنْ حَاذَتْهُ، وَجَبَ غَسْلُ الْمُحَاذِي وَحْدَهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ، وَجَبَ غَسْلُهُمَا مَعًا.

سَوَاءٌ خَرَجَتَا مِنَ الْمَنْكِبِ، أَوِ الْكُوعِ، أَوِ الذِّرَاعِ. وَمِنْ أَمَارَاتِ الزَّائِدَةِ، أَنْ تَكُونَ فَاحِشَةَ الْقِصَرِ، وَالْأُخْرَى مُعْتَدِلَةً. وَمِنْهَا نَقْصُ الْأَصَابِعِ، وَمِنْهَا فَقْدُ الْبَطْشِ وَضَعْفُهُ. قُلْتُ: وَلَوْ طَالَتْ أَظْفَارُهُ وَخَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ، وَجَبَ غَسْلُ الْخَارِجِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ ; كَالشَّعْرِ النَّازِلِ مِنَ اللِّحْيَةِ. وَلَوْ نَبَتَ عَلَى ذِرَاعِهِ، أَوْ رِجْلِهِ، شَعْرٌ كَثِيفٌ، وَجَبَ غَسْلُ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ مَعَ الْبَشَرَةِ تَحْتَهُ، لِنُدُورِهِ. وَلَوْ تَوَضَّأَ، ثُمَّ قُطِعَتْ يَدُهُ، أَوْ رِجْلُهُ، أَوْ حُلِقَ رَأْسُهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَطْهِيرُ مَا انْكَشَفَ. فَإِنْ تَوَضَّأَ، لَزِمَهُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ. وَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِهِ ثُقْبٌ، لَزِمَهُ غَسْلُ بَاطِنِهِ، لِأَنَّهُ صَارَ ظَاهِرًا. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْأَقْطَعُ وَالْمَرِيضُ عَلَى الْوُضُوءِ، لَزِمَهُ تَحْصِيلُ مَنْ يُوَضِّئُهُ، إِمَّا مُتَبَرِّعًا، وَإِمَّا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ إِذَا وَجَدَهَا. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ، أَوْ وَجَدَهُ وَلَمْ يَجِدِ الْأُجْرَةَ، أَوْ وَجَدَهَا فَطُلِبَ أَكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، لَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ، وَيُعِيدَ، لِنُدُورِهِ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّيَمُّمِ، صَلَّى عَلَى حَالِهِ وَأَعَادَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَرْضُ الرَّابِعُ: مَسْحُ الرَّأْسِ، وَالْوَاجِبُ مِنْهُ: مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَلَوْ بَعْضُ شَعْرَةٍ، أَوْ قَدْرُهُ مِنَ الْبَشَرَةِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يُشْتَرَطُ ثَلَاثُ شَعْرَاتٍ. وَعَلَى هَذَا الشَّاذِّ: لَا يُشْتَرَطُ قَدْرُهَا مِنَ الْبَشَرَةِ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ. وَحَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَشَرَةِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً بِالشَّعْرِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَشَرْطُ الشَّعْرِ الْمَمْسُوحِ، أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ لَوْ مُدَّ، سَبْطًا كَانَ أَوْ جَعْدًا، وَلَا يَضُرُّ مُجَاوَزَتُهُ مَنْبَتَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بَدَلَ مَسْحِهِ، أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ قَطْرَةً وَلَمْ تَسِلْ عَلَيْهِ، أَوْ وَضَعَ يَدَهُ الَّتِي عَلَيْهَا الْمَاءُ، عَلَى رَأْسِهِ وَلَمْ يُمِرَّهَا، أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الرَّأْسِ قَطْعًا، وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ الْخُفِّ، فَإِنَّ غَسْلَهُ تَعْيِيبٌ.

قُلْتُ: وَلَا تَتَعَيَّنُ الْيَدُ لِلْمَسْحِ، بَلْ يَجُوزُ بِأُصْبُعٍ، أَوْ خَشَبَةٍ، أَوْ خِرْقَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا. وَيُجْزِئُهُ مَسْحُ غَيْرِهِ لَهُ. وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي الْمَسْحِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ رَأْسَانِ أَجْزَأَهُ مَسْحُ أَحَدِهِمَا. وَقِيلَ: يَجِبُ مَسْحُ جُزْءٍ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَرْضُ الْخَامِسُ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ. وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصَلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ الَّذِي فَوْقَ مُشْطِ الْقَدَمِ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ مُنْكَرٌ، بَلْ غَلَطٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحُكْمُ الرِّجْلِ الزَّائِدَةِ مَا سَبَقَ فِي الْيَدِ. وَمُرَادُ الْأَصْحَابِ بِقَوْلِهِمْ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَرْضٌ، إِذَا لَمْ يَمْسَحْ عَلَى الْخُفِّ، أَوْ أَنَّ الْأَصْلَ الْغَسْلُ وَالْمَسْحُ بَدَلٌ. فَرْعٌ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حَدَثَانِ: أَصْغَرُ. وَأَكْبَرُ. فِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: يَكْفِيهِ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ وَحْدَهُ، وَلَا تَرْتِيبَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ نِيَّةُ الْحَدَثَيْنِ إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْغُسْلِ. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ وُضُوءٌ مُرَتَّبٌ، وَغَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ. فَإِنْ شَاءَ قَدَّمَ الْوُضُوءَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ. وَالرَّابِعُ: يَجِبُ وُضُوءٌ مُرَتَّبٌ، وَغَسْلُ بَاقِي الْبَدَنِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَقَعَ الْحَدَثَانِ مَعًا، أَوْ سَبَقَ الْأَصْغَرُ، وَأَمَّا إِذَا سَبَقَ الْأَكْبَرُ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْخِلَافِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالِاكْتِفَاءِ بِالْغُسْلِ. وَلَوْ غَسَلَ جَمِيعَ بَدَنِهِ إِلَّا رِجْلَيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَجَبَ وُضُوءٌ كَامِلٌ لِلْحَدَثِ، وَغَسَلَ الرِّجْلَيْنِ لِلْجَنَابَةِ، يُقَدِّمُ أَيُّهُمَا شَاءَ، فَتَكُونُ الرِّجْلُ مَغْسُولَةً مَرَّتَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالرَّابِعِ، وَجَبَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ بَعْدَ أَعْضَاءِ

الْوُضُوءِ، وَيَكُونُ غَسْلُهُمَا وَاقِعًا عَنِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ جَمِيعًا. وَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ عَنِ الْجَنَابَةِ، وَغَسْلُ سَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَنِ الْحَدَثِ، فَإِنْ شَاءَ قَدَّمَ الرِّجْلَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُمَا، أَوْ وَسَّطَهُمَا. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَأْتِيُّ بِهِ وُضُوءًا خَالِيًا عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يُغْسَلَانِ عَنِ الْجَنَابَةِ خَاصَّةً، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالرِّجْلَيْنِ، بَلْ لَوْ غَسَلَ الْجُنُبُ مِنْ بَدَنِهِ مَا سِوَى الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، أَوِ الْيَدَيْنِ وَالرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، كَانَ حُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَنَّهُ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ الثَّلَاثَةِ. وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الرِّجْلَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْجَمِيعِ، وَقِيلَ: يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْجَمِيعِ، فَيَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ بَعْدَ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَرْضُ السَّادِسُ: التَّرْتِيبُ: فَلَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا لَمْ يَصِحَّ وُضُوءُهُ، لَكِنْ يُعْتَدُّ بِالْوَجْهِ وَمَا غَسَلَهُ بَعْدَهُ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَلَوْ تَرَكَهُ نَاسِيًا، فَقَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ الْجَدِيدُ لَا يُجْزِئُهُ. وَلَوْ غَسَلَ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ أَعْضَاءَهُ دُفْعَةً بِإِذْنِهِ، لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا الْوَجْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي يَحْصُلُ الْجَمِيعُ. أَمَّا إِذَا غَسَلَ الْمُحْدِثُ جَمِيعَ بَدَنِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَ حُصُولُ التَّرْتِيبِ، بِأَنِ انْغَمَسَ فِي الْمَاءِ وَمَكَثَ زَمَانًا يَتَأَتَّى فِيهِ التَّرْتِيبُ أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ، بِأَنِ انْغَمَسَ وَلَمْ يَمْكُثْ، أَوْ غَسَلَ أَسَافِلَهُ قَبْلَ أَعَالِيهِ، لَمْ يَجْزِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا خِلَافَ فِي الِاعْتِدَادِ بِغَسْلِ الْوَجْهِ فِي الصُّورَتَيْنِ إِذَا قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ. فَإِنْ نَوَى الْجَنَابَةَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ. وَالثَّانِي لَا يُجْزِئُهُ بِحَالٍ إِلَّا الْوَجْهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَسْأَلَةِ الِانْغِمَاسِ بِلَا مُكْثٍ الْإِجْزَاءُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ بَلَلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنِيًّا وَمَذْيًا، وَاشْتَبَهَ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يَجِبُ الْوُضُوءُ فَقَطْ، فَلَوْ عَدَلَ إِلَى الْغُسْلِ، كَانَ كَمُحْدِثٍ يَغْتَسِلُ. وَالثَّانِي: يَجِبُ الْوُضُوءُ، وَغَسْلُ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَغَسْلُ مَا أَصَابَهُ الْبَلَلُ. وَالثَّالِثُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْتِزَامِ حُكْمِ الْمَنِيِّ، وَحُكْمِ الْمَذْيِ. فَإِنِ اخْتَارَ الْوُضُوءَ وَجَبَ التَّرْتِيبُ فِيهِ، وَغَسَلَ مَا أَصَابَهُ. وَقِيلَ: لَا يَجِبَانِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَوْلَجَ خُنْثَى مُشْكِلٌ فِي دُبُرِ رَجُلٍ، فَهُمَا بِتَقْدِيرِ ذُكُورَةِ الْخُنْثَى جُنُبَانِ، وَإِلَّا فَمُحْدِثَانِ. وَإِذَا تَوَضَّآ، وَجَبَ عَلَيْهِمَا التَّرْتِيبُ، وَفِيهِ الْوَجْهُ الْمُتَقَدِّمُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَنُ الْوُضُوءِ، فَكَثِيرَةٌ: إِحْدَاهَا: السِّوَاكُ. وَهُوَ: سُنَّةٌ مُطْلَقًا، وَلَا يُكْرَهُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ لِصَائِمٍ. وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ فِي أَحْوَالٍ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرَ الْفَمِ، وَعِنْدَ الْوُضُوءِ وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ، وَعِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ اصْفِرَارِ الْأَسْنَانِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْفَمُ، وَعِنْدَ تَغَيُّرِ الْفَمِ بِنَوْمٍ، أَوْ طُولِ سُكُوتٍ، أَوْ تَرْكِ أَكْلٍ، أَوْ أَكَلَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَحْصُلُ السِّوَاكُ بِخِرْقَةٍ، وَكُلِّ خَشِنٍ مُزِيلٍ، لَكِنَّ الْعُودَ أَوْلَى، وَالْأَرَاكُ مِنْهُ أَوْلَى، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ بِيَابِسٍ نُدِّيَ بِالْمَاءِ، وَلَا يَحْصُلُ بِأُصْبُعٍ خَشِنَةٍ عَلَى أَصَحِّ الْأَوْجُهِ. وَالثَّالِثُ: يَحْصُلُ عِنْدَ عَدَمِ الْعُودِ، وَنَحْوِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ عَرْضًا. قُلْتُ: كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الِاسْتِيَاكَ طُولًا. وَلَنَا قَوْلٌ غَرِيبٌ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ

السِّوَاكُ لِصَائِمٍ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِجَانِبِ فَمِهِ الْأَيْمَنِ، وَأَنْ يُعَوَّدَ الصَّبِيُّ السِّوَاكَ لِيَأْلَفَهُ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَاكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُمِرَّ السِّوَاكَ عَلَى سَقْفِ حَلْقِهِ إِمْرَارًا لَطِيفًا، وَعَلَى كَرَاسِيِّ أَضْرَاسِهِ. وَيَنْوِيَ بِالسِّوَاكِ السُّنَّةَ. وَيُسَنُّ السِّوَاكُ أَيْضًا عِنْدَ دُخُولِهِ بَيْتَهُ، وَاسْتِيقَاظِهِ مِنْ نَوْمِهِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ فِي ابْتِدَاءِ وَضَوْئِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، فَلَوْ نَسِيَهَا فِي الِابْتِدَاءِ، أَتَى بِهَا مَتَى ذَكَرَهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ، كَمَا فِي الطَّعَامِ. فَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا. فَهَلْ يُشْرَعُ التَّدَارُكُ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ. قُلْتُ: قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ فِيهِ احْتِمَالٌ عَجِيبٌ، فَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ يَتَدَارَكُ فِي الْعَمْدِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ فِي (الْمَجْمُوعِ) وَالْجُرْجَانِيُّ فِي (التَّحْرِيرِ) وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا حَتَّى عِنْدَ الْجِمَاعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الثَّالِثَةُ: غَسْلُ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ. سَوَاءٌ قَامَ مِنَ النَّوْمِ وَشَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْيَدِ وَأَرَادَ غَمَسَ يَدِهِ فِي الْإِنَاءِ، أَمْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ إِنْ أَرَادَ غَمْسَ يَدَيْهِ فِي إِنَاءٍ قَبْلَ غَسْلِهِمَا، كُرِهَ إِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ طَهَارَتَهُمَا. فَإِنْ تَيَقَّنَهَا، فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ لَا يُكْرَهُ الْغَمْسُ. قُلْتُ: وَلَا تَزُولُ الْكَرَاهَةُ إِلَّا بِغَسْلِهِمَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْغَمْسِ. نَصَّ عَلَيْهِ الْبُوَيْطِيُّ، وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا كَانَ الْمَاءُ فِي إِنَاءٍ كَبِيرٍ، أَوْ صَخْرَةٍ مُجَوَّفَةٍ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصُبَّ مِنْهُ عَلَى يَدِهِ، وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَغْتَرِفُ بِهِ، اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ، أَوْ أَخَذَ الْمَاءَ بِفَمِهِ، أَوْ طَرَفِ ثَوْبٍ نَظِيفٍ وَنَحْوِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، ثُمَّ أَصْلُ هَذِهِ السُّنَّةِ يَحْصُلُ بِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى الْفَمِ، وَالْأَنْفِ. سَوَاءً كَانَ بِغَرْفَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ. وَفِي الْأَفْضَلِ طَرِيقَانِ. الصَّحِيحُ: أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ أَفْضَلُ. وَالثَّانِي: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَلُ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْفَصْلُ أَفْضَلُ قَطْعًا. وَفِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَتَمَضْمَضُ مِنْ غَرْفَةٍ ثَلَاثًا، وَيَسْتَنْشِقُ مِنْ أُخْرَى ثَلَاثًا. وَالثَّانِي: بِسِتِّ غَرَفَاتٍ، وَتَقْدِيمُ الْمَضْمَضَةِ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ شَرْطٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ.

وَفِي كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ: بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ، يَتَمَضْمَضُ مِنْ كُلِّ غَرْفَةٍ، وَيَسْتَنْشِقُ. وَالثَّانِي: بِغَرْفَةٍ يَتَمَضْمَضُ مِنْهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ يَسْتَنْشِقُ مِنْهَا ثَلَاثًا، وَقِيلَ: بَلْ يَتَمَضْمَضُ مِنْهَا ثُمَّ يَسْتَنْشِقُ مَرَّةً، ثُمَّ كَذَلِكَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ، أَنَّ الْجَمْعَ بِثَلَاثٍ أَفْضَلُ، كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُصَرِّحَةٌ بِهِ وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، فَيَبْلُغُ مَاءُ الْمَضْمَضَةِ أَقْصَى الْحَنَكِ، وَوَجْهَيِ الْأَسْنَانِ، وَتَمُرُّ الْأُصْبُعُ عَلَيْهَا، وَيَصْعَدُ مَاءُ الِاسْتِنْشَاقِ بِنَفْسِهِ إِلَى الْخَيْشُومِ مَعَ إِدْخَالِ الْإِصْبَعِ الْيُسْرَى، وَإِزَالَةِ مَا هُنَاكَ مِنْ أَذًى. فَإِنْ كَانَ صَائِمًا لَمْ يُبَالِغْ فِيهِمَا. قُلْتُ: وَلَوْ جَعَلَ الْمَاءَ فِي فِيهِ وَلَمْ يُدِرْهُ، حَصَلَتِ الْمَضْمَضَةُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ: التَّكْرَارُ ثَلَاثًا فِي الْمَغْسُولِ وَالْمَمْسُوحِ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ، وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يُكَرِّرُ مَسْحَ الرَّأْسِ، وَوَجْهٌ أَشَذُّ مِنْهُ: أَنَّهُ لَا يُكَرِّرُهُ، وَلَا مَسْحَ الْأُذُنَيْنِ. وَلَوْ شَكَّ هَلْ غَسَلَ وَلَا مَسَحَ مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، أَمْ ثَلَاثًا؟ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: بِالْأَكْثَرِ. قُلْتُ: تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: تَحْرُمُ، وَقِيلَ: هِيَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْغَسْلَةُ مَرَّةً، وَإِذَا اسْتَوْعَبَتِ الْعُضْوَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

السَّابِعَةُ: تَخْلِيلُ مَا لَا يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَنَابِتِهِ، مِنْ شُعُورِ الْوَجْهِ، بِالْأَصَابِعِ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يَجِبُ التَّخْلِيلُ. قُلْتُ: مُرَادُ قَائِلِهِ ; وُجُوبُ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى الْمَنْبَتِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ: تَقْدِيمُ الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. وَأَمَّا الْأُذُنَانِ وَالْخَدَّانِ، فَيُطَهَّرَانِ دُفْعَةً. فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ، قَدَّمَ الْيَمِينَ. قُلْتُ: وَالْكَفَّانِ، كَالْأُذُنَيْنِ وَفِي (الْبَحْرِ) وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الْأُذُنِ الْيُمْنَى. وَلَوْ قَدَّمَ مَسْحَ الْأُذُنِ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ، لَمْ يَحْصُلْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ: تَطْوِيلُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ. فَالْغُرَّةُ: غَسْلُ مُقَدِّمَاتِ الرَّأْسِ وَصَفْحَةِ الْعُنُقِ مَعَ الْوَجْهِ. وَالتَّحْجِيلُ: غَسْلُ بَعْضِ الْعَضُدَيْنِ مَعَ الذِّرَاعَيْنِ، وَبَعْضُ السَّاقَيْنِ مَعَ الرِّجْلَيْنِ. وَغَايَتُهُ: اسْتِيعَابُ الْعَضُدِ وَالسَّاقِ، وَقَالَ كَثِيرُونَ: الْغُرَّةُ: غَسْلُ بَعْضِ الْعَضُدِ وَالسَّاقِ فَقَطْ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. الْعَاشِرَةُ: اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ. وَالسُّنَّةُ فِي كَيْفِيَّتِهِ: أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، وَيُلْصِقُ سَبَّابَتَهُ بِالْأُخْرَى، وَإِبْهَامَيْهِ عَلَى صُدْغَيْهِ، ثُمَّ يَذْهَبُ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى الْمُبْتَدَأِ، فَالذَّهَابُ وَالرَّدُّ مَسْحَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا الِاسْتِحْبَابُ لِمَنْ لَهُ شَعْرٌ يَنْقَلِبُ بِالذَّهَابِ وَالرَّدِّ، وَيَصِلُهُ الْبَلَلُ. أَمَّا مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ، أَوْ لَهُ شَعْرٌ لَا يَنْقَلِبُ، لِقَصَرِهِ، أَوْ طُولِهِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الذَّهَابِ. فَلَوْ رَدَّ، لَمْ يُحْسَبْ ثَانِيَةً، وَلَوْ لَمْ يَرُدَّ نَزَعَ مَا عَلَى رَأْسِهِ مِنْ عِمَامَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، مَسَحَ مَا يَجِبُ مِنَ الرَّأْسِ.

وَيُسَنُّ تَتْمِيمُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنَ النَّاصِيَةِ. وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى الْعِمَامَةِ قَطْعًا. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ. وَلَوْ أَخَذَ بِأَصَابِعِهِ مَاءً لِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَمْسَكَ بَعْضَ أَصَابِعِهِ فَلَمْ يَمْسَحْهُ بِهَا، فَمَسْحُ الْأُذُنِ بِمَائِهَا، كَفَى لِأَنَّهُ جَدِيدٌ، وَيَمْسَحُ الصِّمَاخَيْنِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ: يَكْفِي مَسْحُهُمَا بِبَقِيَّةِ بَلَلِ الْأُذُنِ. قُلْتُ: وَيَمْسَحُ الصِّمَاخَيْنِ ثَلَاثًا، وَنَقَلُوا: أَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كَانَ يَغْسِلُ أُذُنَيْهِ مَعَ وَجْهِهِ، وَيَمْسَحُهُمَا مَعَ رَأْسِهِ وَمُنْفَرِدَتَيْنِ احْتِيَاطًا فِي الْعَمَلِ بِمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا، وَفِعْلُهُ هَذَا حَسَنٌ. وَقَدْ غَلِطَ مَنْ غَلَّطَهُ فِيهِ زَاعِمًا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. وَدَلِيلُ ابْنِ سُرَيْجٍ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى اسْتِحْبَابِ غَسْلِ النَّزْعَتَيْنِ مَعَ الْوَجْهِ، مَعَ أَنَّهُمَا يَمْسَحَانِ فِي الرَّأْسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَسْحُ الرَّقَبَةِ. وَهَلْ هُوَ سُنَّةٌ، أَمْ أَدَبٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَالسُّنَّةُ وَالْأَدَبُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَصْلِ الِاسْتِحْبَابِ، لَكِنَّ السُّنَّةَ يَتَأَكَّدُ شَأْنُهَا، وَالْأَدَبُ دُونَ ذَلِكَ. ثُمَّ الْأَكْثَرُونَ، عَلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ بِبَاقِي بَلَلِ الرَّأْسِ، أَوِ الْأُذُنِ، وَقِيلَ: بِمَاءٍ جَدِيدٍ. قُلْتُ: وَذَهَبَ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، إِلَى أَنَّهَا لَا تُمْسَحُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ وَمُتَقَدِّمُو الْأَصْحَابِ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُسْرَى مِنْ أَسْفَلِ الرِّجْلِ، مُبْتَدِئًا بِخِنْصَرِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى، خَاتِمًا بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى. وَقِيلَ: يُخَلِّلُ مَا بَيْنَ كُلِّ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ بِأُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ يَدِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمْهُورُ تَخْلِيلَ أَصَابِعِ

الْيَدَيْنِ، وَاسْتَحَبَّهُ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ حَسَنٌ. فَعَلَى هَذَا تَخْلِيلُهَا بِالتَّشْبِيكِ بَيْنَهَا. وَلَوْ كَانَتْ أَصَابِعُ رِجْلَيْهِ مُلْتَفَّةً لَا يَصِلُ الْمَاءُ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالتَّخْلِيلِ، وَجَبَ الْإِيصَالُ. وَإِنْ كَانَتْ مُلْتَحِمَةً، لَمْ يَجِبْ فَتْقُهَا، وَلَا يُسْتَحَبُّ. قُلْتُ: بَلْ لَا يَجُوزُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الدَّعَوَاتُ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، فَيَقُولُ عِنْدَ الْوَجْهِ: اللَّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهِي يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. وَعِنْدَ الْيَدِ الْيُمْنَى: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كِتَابِي بِيَمِينِي، وَحَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا. وَعِنْدَ الْيُسْرَى: اللَّهُمَّ لَا تُعْطِنِي كِتَابِي بِشَمَالِي، وَلَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي. وَعِنْدَ الرَّأْسِ: اللَّهُمَّ حَرِّمْ شَعْرِي وَبَشَرِي عَلَى النَّارِ. وَعِنْدَ الْأُذُنَيْنِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. وَعِنْدَ الرِّجْلَيْنِ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَدَمِي عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ الْأَقْدَامُ. قُلْتُ: هَذَا الدُّعَاءُ، لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْجُمْهُورُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: تَرْكُ الِاسْتِعَانَةِ، وَهَلْ تُكْرَهُ الِاسْتِعَانَةُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا اسْتَعَانَ بِمَنْ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُكْرَهُ. أَمَّا إِذَا اسْتَعَانَ بِمَنْ يَغْسِلُ لَهُ الْأَعْضَاءَ، فَمَكْرُوهٌ قَطْعًا. وَإِنِ اسْتَعَانَ بِهِ فِي إِحْضَارِ الْمَاءِ ; فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَحَيْثُ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، فَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَانَةِ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَرْكُ التَّنْشِيفِ. وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ، وَلَا يُكْرَهُ. وَالثَّالِثُ: يُكْرَهُ التَّنْشِيفُ، وَيُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ. وَالرَّابِعُ: يُكْرَهُ فِي الصَّيْفِ دُونَ الشِّتَاءِ. وَالْخَامِسُ: يُسْتَحَبُّ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنْ لَا يَنْفُضَ يَدَهُ وَالنَّفْضُ: مَكْرُوهٌ. قُلْتُ: فِي النَّفْضِ أَوْجُهٌ. الْأَرْجَحُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ، تَرْكُهُ وَفِعْلُهُ سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: مَكْرُوهٌ. وَالثَّالِثُ: تَرْكُهُ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: فِي مَنْدُوبَاتٍ أُخَرَ، مِنْهَا: أَنْ يَقُولَ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْمَاءَ طَهُورًا، وَأَنْ يَسْتَصْحِبَ النِّيَّةَ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَأَنْ يَجْمَعَ فِي النِّيَّةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَأَنْ يَتَعَهَّدَ الْمُوقَيْنِ بِالسَّبَّابَتَيْنِ، وَيُحَرِّكَ الْخَاتَمَ، وَيَتَعَهَّدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، وَيَبْدَأُ فِي الْوَجْهِ بِأَعْلَاهُ، وَفِي الرَّأْسِ بِمُقَدَّمِهِ، وَفِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، إِنْ صَبَّهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ صَبَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بَدَأَ بِالْمِرْفَقِ وَالْكَعْبِ. وَأَنْ لَا يَنْقُصَ مَاءُ الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ، وَأَنْ لَا يُسْرِفَ، وَلَا يَزِيدَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَلَا يَتَكَلَّمَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ، وَلَا يَلْطُمُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ، وَلَا يَتَوَضَّأَ فِي مَوْضِعٍ يُرْجِعُ إِلَيْهِ رَشَاشَ الْمَاءِ، وَأَنْ يُمِرَّ يَدَهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْفَرَاغِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُعْظَمَ هَذِهِ السُّنَنِ يَجِيءُ مِثْلُهَا فِي الْغُسْلِ، وَفِي التَّسْمِيَةِ وَجْهٌ: أَنَّهَا لَا تُسْتَحَبُّ فِي الْغُسْلِ.

فَرْعٌ التَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ بَيْنَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، لَا يَضُرُّ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا الْكَثِيرُ، عَلَى الْجَدِيدِ الْمَشْهُورِ. وَالْكَثِيرُ: هُوَ أَنْ يَمْضِيَ زَمَنٌ يَجِفُّ فِيهِ الْمَغْسُولُ مَعَ اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَمِزَاجِ الشَّخْصِ. وَالْقَلِيلُ: دُونَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: تُؤْخَذُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ مِنَ الْعُرْفِ. وَقِيلَ: الْكَثِيرُ: مُضِيُّ زَمَنٍ يُمْكِنُ فِيهِ إِتْمَامُ الطَّهَارَةِ. وَمُدَّةُ التَّفْرِيقِ تُعْتَبَرُ مِنْ آخِرِ الْمَأْتِيِّ بِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ. وَلَوْ فَرَّقَ بِعُذْرٍ، كَنَفَادِ الْمَاءِ، لَمْ يَضُرَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَحَيْثُ جَازَ التَّفْرِيقُ، فَبَنَى، لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ فِي الْأَصَحِّ. وَالْمُوَالَاةُ فِي الْغُسْلِ، كَهِيَ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ مُطْلَقًا بِلَا خِلَافٍ. قُلْتُ: بَقِيَتْ مَسَائِلُ مُهِمَّةٌ مِنْ صِفَةِ الْوُضُوءِ. مِنْهَا: غَسْلُ الْعَيْنَيْنِ. فِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: سُنَّةٌ. وَالثَّانِي: مُسْتَحَبٌّ. وَالثَّالِثُ: لَا يَفْعَلُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِرِجْلِهِ كَعْبٌ، أَوْ لِيَدِهِ مِرْفَقٌ، اعْتَبَرَ قَدْرَهُ، وَلَوْ تَشَقَّقَتْ رِجْلُهُ، فَجَعَلَ فِي شُقُوقِهَا شَمْعًا أَوْ حِنَّاءً، وَجَبَ إِزَالَةُ عَيْنِهِ، فَإِنْ بَقِيَ لَوْنُ الْحِنَّاءِ، لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعُضْوِ دُهْنٌ مَائِعٌ فَجَرَى الْمَاءُ عَلَى الْعُضْوِ، وَلَمْ يَثْبُتْ، صَحَّ وُضُوءُهُ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَ أَظْفَارِهِ وَسَخٌ يَمْنَعُ وَصُولَ الْمَاءِ، لَمْ يَصِحَّ وُضُوءُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَدَّمَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ عَلَى غَسْلِ الْكَفِّ، لَمْ يُحْسَبِ الْكَفُّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ شَكَّ فِي غَسْلِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ فِي أَثْنَاءِ الطَّهَارَةِ، لَمْ يُحْسَبْ لَهُ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ لَا يَضُرُّهُ الشَّكُّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُشْتَرَطُ فِي غَسْلِ الْأَعْضَاءِ: جَرَيَانُ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ بِلَا خِلَافٍ. وَيَرْتَفِعُ الْحَدَثُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَتَوَقَّفُ عَلَى فَرَاغِ الْأَعْضَاءِ، وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ. وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ أَنْ يُصَلِّيَ عَقِبَهُ رَكْعَتَيْنِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ.

باب

بَابٌ الِاسْتِنْجَاءُ الِاسْتِنْجَاءُ وَاجِبٌ. وَلِقَضَاءِ الْحَاجَةِ آدَابٌ. مِنْهَا: أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ عَنِ الْعُيُونِ بِشَجَرَةٍ، أَوْ بَقِيَّةِ جِدَارٍ، وَنَحْوِهِمَا، فَإِنْ كَانَ فِي بِنَاءٍ يُمْكِنُ تَسْقِيفُهُ، كَفَى، وَلَوْ جَلَسَ فِي وَسَطِ عَرْصَةِ دَارٍ وَاسِعَةٍ، أَوْ بُسْتَانٍ، فَلْيَسْتُرْ بِقَدْرِ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ، وَلْيَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ فَمَا دُونَهَا. وَلَوْ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَتَسَتَّرَ بِهَا، أَوْ جَلَسَ فِي وَهْدَةٍ، أَوْ نَهْرٍ، أَوْ أَرْخَى ذَيْلَهُ، حَصَلَ الْغَرَضُ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَسْتَقْبِلَ الشَّمْسَ، وَلَا الْقَمَرَ بِفَرْجِهِ، لَا فِي الصَّحْرَاءِ وَلَا فِي الْبُنْيَانِ. وَهُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ. قَالَ جَمَاعَةٌ: وَيَجْتَنِبُ الِاسْتِدْبَارَ أَيْضًا. وَالْجُمْهُورُ: اقْتَصَرُوا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ. وَمِنْهَا: إِنْ كَانَ فِي بِنَاءٍ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ سَاتِرٌ، فَالْأَدَبُ أَنْ لَا يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرَهَا. فَإِنْ كَانَ فِي صَحْرَاءَ وَلَمْ يَسْتَتِرْ بِشَيْءٍ، حَرُمَ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا، وَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ فِي الْبِنَاءِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَتَخَلَّى فِي مُتَحَدَّثِ النَّاسِ، وَأَنْ لَا يَبُولَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ الْكَثِيرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقَلِيلِ أَشَدُّ، وَفِي اللَّيْلِ أَشَدُّ. وَأَنْ لَا يَبُولَ فِي ثُقْبٍ، وَأَنْ لَا يَجْلِسَ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ لِغَائِطٍ، وَلَا بَوْلٍ، وَلَا يَبُولَ فِي مَهَبِّ رِيحٍ. وَأَنْ يَعْتَمِدَ فِي جُلُوسِهِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَأَنْ يُعِدَّ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ عِنْدَهُ قَبْلَ جُلُوسِهِ، وَأَنْ لَا يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ، مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ; بَلْ يَنْتَقِلُ عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ يَسْتَنْجِي بِالْحَجَرِ، لَمْ يَنْتَقِلْ. قُلْتُ: هَذَا فِي غَيْرِ الْأَخْلِيَةِ الْمُتَّخَذَةِ لِذَلِكَ. أَمَّا الْأَخْلِيَةُ، فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهَا لِلْمَشَقَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنَالُهُ رَشَاشٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَنْ لَا يَسْتَصْحِبَ مَا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَوْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَخَاتَمٍ وَدِرْهَمٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا الْأَدَبُ بِالْبُنْيَانِ، بَلْ يَعُمُّ الصَّحْرَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ. فَلَوْ غَفَلَ عَنْ نَزْعِ الْخَاتَمِ حَتَّى اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، ضَمَّ كَفَّهُ عَلَيْهِ. وَأَنْ يُقَدِّمَ فِي الدُّخُولِ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَفِي الْخُرُوجِ الْيُمْنَى، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْأَدَبِ، الصَّحْرَاءُ وَالْبُنْيَانُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَيُقَدِّمُ الْيُسْرَى إِذَا بَلَغَ مَقْعَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَيُقَدِّمُ الْيُمْنَى فِي انْصِرَافِهِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْبُنْيَانِ. وَأَنْ يَسْتَبْرِئَ بِتَنَحْنُحٍ، وَنَتْرِ ذَكَرِهِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْبَوْلِ، وَيُكْرَهُ حَشْوُ الْإِحْلِيلِ بِقُطْنٍ وَنَحْوِهِ. قُلْتُ: يُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاسْتِدْبَارُهُ، بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ، وَلَا يَحْرُمُ، وَلَا يُكْرَهُ الْجِمَاعُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَلَا مُسْتَدْبِرَهَا، لَا فِي بِنَاءٍ وَلَا فِي صَحْرَاءَ عِنْدَنَا. وَاسْتِصْحَابُ مَا عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخَلَاءِ مَكْرُوهٌ، لَا حَرَامٌ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ: (بَاسِمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ) . وَيَقُولُ إِذَا خَرَجَ: (غُفْرَانَكَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي) . وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْبُنْيَانُ وَالصَّحْرَاءُ، وَلَا يَرْفَعُ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الْأَرْضِ، وَيُسْبِلُهُ عَلَيْهِ إِذَا قَامَ قَبْلَ انْتِصَابِهِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ قَبْلَ خُرُوجِهِ، إِلَّا لِضَرُورَةٍ. فَإِنْ عَطَسَ حَمَدَ اللَّهَ تَعَالَى بِقَلْبِهِ، وَلَا يُحَرِّكُ لِسَانَهُ، وَكَذَا يَفْعَلُ فِي حَالِ الْجِمَاعِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ النَّاسِ، وَأَنْ يَبُولَ فِي مَكَانٍ لَيِّنٍ لَا يَرْتَدُّ عَلَيْهِ فِيهِ بَوْلُهُ. وَيُكْرَهُ فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَعِنْدَ الْقُبُورِ، وَيَحْرُمُ الْبَوْلُ عَلَى الْقَبْرِ. وَفِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلَاءَ حَافِيًا. وَلَا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، وَأَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَلَا إِلَى فَرْجِهِ، وَلَا إِلَى السَّمَاءِ، وَلَا يَعْبَثَ بِيَدِهِ، وَلَا يُكْرَهُ الْبَوْلُ فِي الْإِنَاءِ، وَيُكْرَهُ قَائِمًا بِلَا عُذْرٍ، وَيُكْرَهُ إِطَالَةُ الْقُعُودِ عَلَى الْخَلَاءِ.

فصل

فَصْلٌ فِيمَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْبَدَنِ نَجَسٌ لَا يَنْقُضُ الطُّهْرَ، لَمْ يُجْزِئْ فِيهِ الْحَجَرُ. وَأَمَّا الْخَارِجُ الَّذِي يَنْقُضُ الطُّهْرَ، فَإِنْ كَانَ رِيحًا، لَمْ يَجِبِ الِاسْتِنْجَاءُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ، وَخَرَجَ مِنْ مُنْفَتَحِ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، فَفِي إِجْزَاءِ الْحَجَرِ فِيهِ خِلَافٌ، يَأْتِي فِي الْبَابِ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ السَّبِيلَيْنِ، يُوجِبُ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى، كَالْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَجَبَ الْغُسْلُ، وَلَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْحَجَرِ. قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) وَغَيْرُهُ: بِجَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ. وَفَائِدَتُهُ فِيمَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا وَاسْتَنْجَتْ بِالْحَجَرِ، ثُمَّ تَيَمَّمَتْ لِسَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ، صَلَّتْ وَلَا إِعَادَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ أَوْجَبَ الصُّغْرَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلَوِّثًا كَدُودٍ، وَحَصَاةٍ بِلَا رُطُوبَةٍ، لَمْ يَجِبِ الِاسْتِنْجَاءُ عَلَى الْأَظْهَرِ. قُلْتُ: وَالْبَعْرَةُ الْيَابِسَةُ، كَالْحَصَاةِ، وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَآخَرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ مُلَوِّثًا نَادِرًا، كَالدَّمِ، وَالْقَيْحِ، وَالْمَذْيِ، فَثَلَاثَةُ طُرُقٍ. وَالطَّرِيقُ الصَّحِيحُ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُجْزِئُهُ الْحَجَرُ. وَالثَّانِي: يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُ الْحَجَرُ قَطْعًا. وَالثَّالِثُ: إِنْ خَرَجَ النَّادِرُ مُخْتَلِطًا بِالْمُعْتَادِ، كَفَى الْحَجَرُ. وَإِنْ تَمَحَّضَ النَّادِرُ، تَعَيَّنَ الْمَاءُ. وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ مُلَوِّثًا مُعْتَادًا وَلَمْ يُجَاوِزِ الْمَخْرَجَ، فَلَهُ الِاقْتِصَارُ

فصل

عَلَى الْحَجَرِ قَطْعًا. وَكَذَا إِنْ جَاوَزَ الْمَخْرَجَ، وَلَمْ يُجَاوِزِ الْمُعْتَادَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَشَذَّ بَلْ غَلَطَ مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ. فَإِنْ جَاوَزَ الْمُعْتَادَ، وَلَمْ يَخْرُجِ الْغَائِطُ عَنِ الْأَلْيَتَيْنِ، أَجْزَأَ الْحَجَرُ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا. وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ قَطْعًا. وَالْبَوْلُ: كَالْغَائِطِ، وَالْحَشَفَةُ: كَالْأَلْيَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِذَا جَاوَزَ الْبَوْلُ الثُّقْبَ، تَعَيَّنَ الْمَاءُ قَطْعًا. وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ جَاوَزَ الْغَائِطُ الْأَلْيَتَيْنِ، وَالْبَوْلُ الْحَشَفَةَ، تَعَيَّنَ الْمَاءُ قَطْعًا لِنُدُورِهِ، سَوَاءً الْمُجَاوِزُ، وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ فِي غَيْرِ الْمُجَاوِزِ: الْخِلَافُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَحَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَجَرِ فَشَرْطُهُ: أَنْ لَا تَنْتَقِلَ النَّجَاسَةُ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَتْهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ، وَأَنْ لَا يَجِفَّ مَا عَلَى الْمَخْرَجِ. فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُهُمَا، تَعَيَّنَ الْمَاءُ قَطْعًا. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْجَافُّ بِحَيْثُ يَقْلَعُهُ الْحَجَرُ، أَجْزَأَ الْحَجَرُ. فَصْلٌ فِيمَا يُسْتَنْجَى بِهِ غَيْرَ الْمَاءِ وَلَهُ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، فَلَوِ اسْتَنْجَى بِنَجِسٍ، تَعَيَّنَ بَعْدَهُ الْمَاءُ، عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: يُجْزِئُهُ الْحَجَرُ إِنْ كَانَ النَّجِسُ جَامِدًا. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُنَشِّفًا قَالِعًا لِلنَّجَاسَةِ، فَلَا يُجْزِئُ زُجَاجٌ، وَقَصَبٌ، وَحَدِيدٌ أَمْلَسُ، وَفَحْمٌ رَخْوٌ، وَتُرَابٌ مُتَنَاثِرٌ، وَيُجْزِئُ فَحْمٌ وَتُرَابٌ صُلْبَانِ. وَقِيلَ فِي التُّرَابِ وَالْفَحْمِ: قَوْلَانِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَإِنِ اسْتَنْجَى بِمَا لَا يَقْلَعُ، لَمْ يُجْزِئْهُ وَإِنْ أَنْقَى. فَإِنْ نَقَلَ النَّجَاسَةَ، تَعَيَّنَ الْمَاءُ، وَإِلَّا أَجْزَأَ الْحَجَرُ. وَلَوِ اسْتَنْجَى بِرَطْبٍ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الصَّحِيحِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مُحْتَرَمًا، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَطْعُومٍ، كَالْخُبْزِ، وَالْعَظْمِ. وَلَا بِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ عِلْمٌ، كَحَدِيثٍ، وَفِقْهٍ، وَفِي جُزْءِ الْحَيَوَانِ

فصل

الْمُتَّصِلِ بِهِ، كَالْيَدِ وَالْعَقِبِ، وَذَنَبِ حِمَارٍ، وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ بِيَدِ نَفْسِهِ، دُونَ يَدِ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: عَكْسُهُ. وَيَجُوزُ بِقِطْعَةِ ذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ، وَجَوْهَرٍ نَفِيسٍ خَشِنَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا يَجُوزُ بِالدِّيبَاجِ قَطْعًا. وَإِنِ اسْتَنْجَى بِمُحْتَرَمٍ، عَصَى، وَلَا يُجْزِئُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لَكِنْ يُجْزِئُهُ الْحَجَرُ بَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ يَنْقُلَ النَّجَاسَةَ، وَأَمَّا الْجِلْدُ الطَّاهِرُ، فَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَدْبُوغًا، جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ. وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَلَوِ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ، ثُمَّ غَسَلَهُ وَيَبُسَ، جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَإِنِ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَبْقَ عَلَى الْمَحَلِّ شَيْءٌ، فَاسْتَعْمَلَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَلَمْ يَتَلَوَّثَا، جَازَ اسْتِعْمَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ عَلَى الصَّحِيحِ. فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ إِذَا اسْتَنْجَى بِجَامِدٍ، وَجَبَ الْإِنْقَاءُ، وَاسْتِيفَاءٌ بِثَلَاثِ مَسَحَاتٍ بِأَحْرُفِ حَجَرٍ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، أَوْ بِأَحْجَارٍ. وَلَوْ حَصَلَ الْإِنْقَاءُ بِدُونِ الثَّلَاثِ، وَجَبَ ثَلَاثٌ. وَفِي وَجْهٍ: يَكْفِي الْإِنْقَاءُ، وَهُوَ شَاذٌّ، أَوْ غَلَطٌ. وَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْإِنْقَاءُ بِثَلَاثٍ، وَجَبَتِ الزِّيَادَةُ. فَإِنْ حَصَلَ بِرَابِعٍ، اسْتُحِبَّ الْإِتْيَانُ بِخَامِسٍ وَلَا يَجِبُ. وَفِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: يَمْسَحُ بِكُلِّ حَجَرٍ جَمِيعَ الْمَحَلِّ، فَيَضَعُهُ عَلَى مُقَدَّمِ الصَّفْحَةِ الْيُمْنَى، وَيُدِيرُهُ عَلَى الصَّفْحَتَيْنِ إِلَى أَنْ يَصِلَ مَوْضِعَ ابْتِدَائِهِ، وَيَضَعُ الثَّانِيَ عَلَى مُقَدَّمِ الصَّفْحَةِ الْيُسْرَى، وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَمْسَحُ بِالثَّالِثِ الصَّفْحَتَيْنِ وَالْمَسْرُبَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمْسَحُ بِحَجَرٍ الصَّفْحَةَ الْيُمْنَى، وَبِالثَّانِي الْيُسْرَى، وَبِالثَّالِثِ الْوَسَطَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يَمْسَحَ بِالْأَوَّلِ مِنْ مُقَدَّمِ الْمَسْرُبَةِ إِلَى آخِرِهَا.

وَبِالثَّانِي مِنْ آخِرِهَا إِلَى أَوَّلِهَا، وَيُحَلِّقُ بِالثَّالِثِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَيَجُوزُ عِنْدَ كُلِّ قَائِلٍ الْعُدُولُ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ الْأُخْرَى، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ. قُلْتُ: وَقِيلَ: يَجُوزُ الْعُدُولُ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى دُونَ عَكْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَضَعَ الْحَجَرَ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ بِقُرْبِ النَّجَاسَةِ، ثُمَّ يُمِرُّهُ عَلَى الْمَحَلِّ، وَيُدِيرُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا. فَإِنْ أَمَرَّهُ وَنَقَلَ النَّجَاسَةَ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، تَعَيَّنَ الْمَاءُ، فَإِنْ أَمَرَّ وَلَمْ يُدِرْهُ وَلَمْ يَنْقُلْ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ. وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنَ الْإِدَارَةِ. فَرْعٌ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْيَسَارِ. فَإِنِ اسْتَنْجَى بِمَاءٍ، صَبَّهُ بِالْيُمْنَى، وَمَسَحَ بِالْيُسْرَى. وَإِنِ اسْتَنْجَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَوْلٍ، أَوْ غَائِطٍ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ غَائِطٍ بِالْحَجَرِ، مَسَحَ بِيَسَارِهِ، وَلَمْ يَسْتَعِنْ بِيَمِينِهِ فِي شَيْءٍ. وَإِذَا اسْتَنْجَى الرَّجُلُ مِنَ الْبَوْلِ بِجِدَارٍ أَوْ صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمْسَكَ الذَّكَرَ بِيَسَارِهِ وَمَسَحَهُ عَلَى ثَلَاثِ مَوَاضِعَ. وَإِذَا اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ صَغِيرٍ، أَمْسَكَهُ بَيْنَ عَقِبَيْهِ، أَوْ إِبْهَامَيْ رِجْلَيْهِ، أَوْ تَحَامَلَ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَالذَّكَرُ فِي يَسَارِهِ. فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ وَاضْطَرَّ إِلَى إِمْسَاكِ الْحَجَرِ بِيَدِهِ، أَمْسَكَهُ بِالْيُمْنَى، وَأَخَذَ الذَّكَرَ بِالْيُسْرَى، وَحَرَّكَ الْيَسَارَ وَحْدَهَا. فَإِنْ حَرَّكَ الْيُمْنَى، أَوْ حَرَّكَهُمَا جَمِيعًا، كَانَ مُسْتَنْجِيًا بِالْيَمِينِ. وَقِيلَ: يَأْخُذُ الذَّكَرَ بِالْيَمِينِ، وَالْحَجَرَ بِالْيَسَارِ وَيُحَرِّكُهَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

فَرْعٌ الْأَفْضَلُ: أَنْ يَجْمَعَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْجَامِدِ، وَيُقَدِّمَ الْجَامِدَ. فَإِنِ اقْتَصَرَ، فَالْمَاءُ أَفْضَلُ. فَرْعٌ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مِنَ الْغَائِطِ، كَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْحَجَرِ فِي الْبَوْلِ، إِلَّا إِذَا قُلْنَا: مَنِ انْفَتَحَ لَهُ دُونَ الْمَعِدَةِ مَخْرَجٌ، مَعَ انْفِتَاحِ الْأَصْلِيِّ، يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ، وَيَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْحَجَرِ. أَمَّا الرَّجُلُ، فَمُخَيَّرٌ فِي فَرْجَيْهِ، بَيْنَ الْمَاءِ وَالْحَجَرِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ الْبِكْرُ، وَكَذَا الثَّيِّبُ. فَإِنَّ مَخْرَجَ بَوْلِهَا، فَوْقَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ. وَالْغَالِبُ أَنَّهَا إِذَا بَالَتْ، نَزَلَ الْبَوْلُ إِلَى مَدْخَلِ الذَّكَرِ. فَإِنْ تَحَقَّقَتْ ذَلِكَ، تَعَيَّنَ الْمَاءُ، وَإِلَّا جَازَ الْحَجَرُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ غَسْلُ مَا يَظْهَرُ إِذَا جَلَسَتْ عَلَى الْقَدَمَيْنِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَجِبُ عَلَى الثَّيِّبِ غَسْلُ بَاطِنِ فَرْجِهَا. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنْجِيَ قَبْلَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، فَإِنْ قَدَّمَهُمَا عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ ; صَحَّ الْوُضُوءُ، دُونَ التَّيَمُّمِ، عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ. وَالثَّانِي: يَصِحَّانِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَصِحَّانِ. وَلَوْ تَيَمَّمَ وَعَلَى يَدَيْهِ نَجَاسَةٌ، فَهُوَ كَالتَّيَمُّمِ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ قَطْعًا، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ. وَإِذَا أَوْجَبْنَاهُ فِي الدُّودَةِ، وَالْحَصَاةِ، وَالْبَعْرَةِ، أَجْزَأَهُ الْحَجَرُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الدَّمِ وَغَيْرِهِ مِنَ النَّادِرِ، وَهَذَا أَشْهَرُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ وَقَعَ الْخَارِجُ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ تَرَشَّشَ مِنْهُ شَيْءٌ فَارْتَفَعَ إِلَى الْمَحَلِّ، أَوْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ أُخْرَى، تَعَيَّنَ الْمَاءُ، لِخُرُوجِهِ عَمَّا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ الْمُسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ بِقُبُلِهِ، وَيُدَلِّكَ يَدَهُ بَعْدَ غَسْلِ الدُّبُرِ، وَيَنْضَحَ فَرْجَهُ، أَوْ سَرَاوِيلَهُ

باب

بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ دَفْعًا لِلْوَسْوَاسِ. وَيَعْتَمِدُ فِي غَسْلِ الدُّبُرِ عَلَى أُصْبُعِهِ الْوُسْطَى، وَيَسْتَعْمِلُ مِنَ الْمَاءِ مَا يَغْلُبُ عَلَى الظَّنِّ زَوَالُ النَّجَاسَةِ بِهِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْبَاطِنِ، وَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ زَوَالُ النَّجَاسَةِ، ثُمَّ شَمَّ مِنْ يَدِهِ رِيحَهَا، فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَحَلِّ كَمَا هِيَ فِي الْيَدِ، أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابٌ الْأَحْدَاثُ الْحَدَثُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَعَلَى مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ. فَيُقَالُ: حَدَثٌ أَكْبَرُ، وَحَدَثٌ أَصْغَرُ، وَإِذَا أُطْلِقَ، كَانَ الْمُرَادُ الْأَصْغَرَ غَالِبًا، وَهُوَ مُرَادُنَا هُنَا. وَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ عِنْدَنَا بِخَارِجٍ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَلَا بِقَهْقَهَةِ الْمُصَلِّي، وَلَا بِأَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ، وَلَا بِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَفِي لَحْمِ الْجَزُورِ قَوْلٌ قَدِيمٌ شَاذٌّ. قُلْتُ: هَذَا الْقَدِيمُ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فِي الْمَذْهَبِ، فَهُوَ قَوِيٌّ فِي الدَّلِيلِ، فَإِنَّ فِيهِ حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ لَيْسَ عَنْهُمَا جَوَابٌ شَافٍ. وَقَدِ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا الْمُحَدِّثِينَ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ كُلَّ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي شَرْحِ (الْمُهَذَّبِ) وَهَذَا الْقَدِيمُ مِمَّا أَعْتَقِدُ رُجْحَانَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا يَنْتَقِضُ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: الْخَارِجُ مَنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، عَيْنًا كَانَ، أَوْ رِيحًا، مِنْ قُبُلِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، أَوْ دُبُرِهِمَا، نَادِرًا كَانَ، كَالدَّمِ وَالْحَصَى، أَوْ مُعْتَادًا، نَجِسَ الْعَيْنِ، أَوْ طَاهِرَهَا، كَالدُّودِ وَالْحَصَى، إِلَّا الْمَنِيَّ، فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِخُرُوجِهِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ أَيْضًا، وَدُبُرُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، كَغَيْرِهِ.

فَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ مِنْ قُبُلَيْهِ، نَقَضَ. وَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَلَهُ حُكْمُ الْمُنْفَتِحِ تَحْتَ الْمَعِدَةِ. فَرْعٌ إِذَا انْسَدَّ السَّبِيلُ الْمُعْتَادُ وَانْفَتَحَ ثُقْبُهُ تَحْتَ الْمَعِدَةِ، وَخَرَجَ مِنْهُ الْمُعْتَادُ، وَهُوَ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، نَقَضَ قَطْعًا، وَإِنْ خَرَجَ نَادِرٌ، كَدَمٍ وَدُودٍ وَرِيحٍ، نَقَضَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِنِ انْفَتَحَ فَوْقَ الْمَعِدَةِ مَعَ انْسِدَادِ الْمُعْتَادِ، أَوْ تَحْتَهَا مَعَ انْفِتَاحِهِ، لَمْ يَنْقُضِ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ مِنْهُ، عَلَى الْأَظْهَرِ، فَإِنْ نَقَضَ، فَفِي النَّادِرِ الْقَوْلَانِ، وَإِنِ انْفَتَحَ فَوْقَهَا مَعَ انْفِتَاحِ الْأَصْلِيِّ، لَمْ يَنْقُضْ قَطْعًا. قُلْتُ: ذَهَبَ كَثِيرُونَ مِنَ الْأَصْحَابِ إِلَى أَنَّ فِيهِ طَرِيقَيْنِ. الثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الرِّيحَ، مِنَ الْخَارِجِ الْمُعْتَادِ، وَمُرَادُهُمْ بِتَحْتِ الْمَعِدَةِ: مَا تَحْتَ السُّرَّةِ، وَبِفَوْقِهَا: السُّرَّةُ، وَمُحَاذَاتُهَا، وَمَا فَوْقَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَيْثُ نَقَضْنَا، فَهَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ عَلَى الْحَجَرِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَقِيلَ: أَوْجُهٌ، الْأَظْهَرُ: لَا. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ فِي الْمُعْتَادِ دُونَ النَّادِرِ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ بِمَسِّهِ، وَلَا الْغُسْلُ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ، وَلَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ فَوْقَ السُّرَّةِ، أَوْ مُحَاذِيًا لَهَا، وَلَا يَثْبُتُ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ قَطْعًا، سِوَى الْغُسْلِ عَلَى وَجْهٍ. وَقِيلَ: يَثْبُتُ الْمَهْرُ وَسَائِرُ أَحْكَامِ الْوَطْءِ. قُلْتُ: لَوْ أَخْرَجَتْ دُودَةٌ رَأْسَهَا مِنْ فَرْجِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ، انْتَقَضَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْخُنْثَى الْوَاضِحُ: إِذَا خَرَجَ مِنْ فَرْجِهِ الزَّائِدِ شَيْءٌ، فَلَهُ حُكْمُ مُنْفَتِحٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ. وَلَوْ خَرَجَ مِنْ أَحَدِ قُبُلَيْ مُشْكِلٍ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَيَنْتَقِضُ قَطْعًا وَقِيلَ: عَكْسُهُ. وَمَنْ لَهُ ذَكَرَانِ، يَنْتَقِضُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

النَّاقِضُ الثَّانِي: زَوَالُ الْعَقْلِ، فَإِنْ كَانَ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَالسُّكْرِ، نَقَضَ بِكُلِّ حَالٍ. وَالسُّكْرُ النَّاقِضُ: مَا لَا شُعُورَ مَعَهُ دُونَ أَوَائِلِ النَّشْوَةِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ السُّكْرَ لَا يَنْقُضُ بِحَالٍ، وَهُوَ غَلَطٌ. وَأَمَّا النَّوْمُ، فَحَقِيقَتُهُ: اسْتِرْخَاءُ الْبَدَنِ، وَزَوَالُ الِاسْتِشْعَارِ، وَخَفَاءُ كَلَامِ مَنْ عِنْدَهُ. وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ النُّعَاسُ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، فَإِنَّهُمَا لَا يَنْقُضَانِ بِحَالٍ، فَإِنْ نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَهُ مِنْ مَقَرِّهِ، لَمْ يَنْقُضْ. وَقِيلَ: إِنِ اسْتَنَدَ إِلَى مَا يَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ، نَقَضَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ نَامَ غَيْرَ مُمَكِّنٍ مَقْعَدَهُ، نَقَضَ. وَفِي قَوْلٍ: لَا يَنْقُضُ النَّوْمُ عَلَى هَيْئَةٍ مِنْ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ. وَفِي قَوْلٍ: لَا يَنْقُضُ فِي الصَّلَاةِ كَيْفَ كَانَ. وَفِي قَوْلٍ: لَا يَنْقُضُ النَّوْمُ قَائِمًا. وَفِي قَوْلٍ: يَنْقُضُ وَإِنْ كَانَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَهُ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ. قُلْتُ: لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ قَلِيلِ النَّوْمِ وَكَثِيرِهِ. وَلَوْ نَامَ مُحْتَبِيًا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: لَا يَنْتَقِضُ. وَالثَّالِثُ: يَنْتَقِضُ وُضُوءُ نَحِيفِ الْأَلْيَيْنِ دُونَ غَيْرِهِ. وَلَوْ نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ فَزَالَتْ إِحْدَى أَلْيَتَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِانْتِبَاهِ، انْتَقَضَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، أَوْ مَعَهُ، أَوْ شَكَّ، لَمْ يَنْتَقِضْ. وَلَوْ شَكَّ، هَلْ نَامَ أَمْ نَعَسَ؟ أَوْ هَلْ نَامَ مُمَكِّنًا أَمْ لَا؟ لَمْ يَنْتَقِضْ. وَلَوْ نَامَ عَلَى قَفَاهُ مُلْصِقًا مَقْعَدَهُ بِالْأَرْضِ، انْتَقَضَ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَثْفِرًا بِشَيْءٍ، انْتَقَضَ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنَ النَّوْمِ مُمَكِّنًا لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النَّاقِضُ الثَّالِثُ: لَمْسُ بَشَرَةِ امْرَأَةٍ مُشْتَهَاةٍ، فَإِنْ لَمَسَ شَعْرًا، أَوْ سِنًّا، أَوْ ظُفُرًا، أَوْ عُضْوًا مُبَانًا مِنِ امْرَأَةٍ، أَوْ بَشَرَةَ صَغِيرَةٍ لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ، عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ لَمَسَ مُحَرَّمًا بِنَسَبٍ، أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِنْ لَمَسَ مَيْتَةً، أَوْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى، أَوْ عُضْوًا أَشَلَّ، أَوْ زَائِدًا، أَوْ لَمَسَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، أَوْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، انْتَقَضَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ،

وَيَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي انْتِقَاضِ طُهْرِهَا بِلَمْسِهَا مِنَ الرَّجُلِ مَا يَنْقُضُهُ مِنْهَا. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهَا لَا تَزَالُ مَلْمُوسَةً، فَإِذَا لَمَسَتْ رَجُلًا، كَانَ فِي انْتِقَاضِهَا الْقَوْلَانِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قُلْتُ: وَلَوِ الْتَقَتْ بَشَرَتَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِحَرَكَةٍ مِنْهُمَا، انْتَقَضَتَا قَطْعًا وَلَيْسَ فِيهِمَا مَلْمُوسٌ. وَلَوْ لَمَسَ الشَّيْخُ الْفَاقِدُ لِلشَّهْوَةِ شَابَّةً، أَوْ لَمَسَتِ الْفَاقِدَةُ لِلشَّهْوَةِ شَابًّا، أَوِ الشَّابَّةُ شَيْخًا لَا يُشْتَهَى، انْتَقَضَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْمُرَاهِقُ، وَالْخَصِيُّ، وَالْعِنِّينُ، يَنْقُضُونَ وَيَنْتَقِضُونَ. وَلَوْ لَمَسَ الرَّجُلُ أَمْرَدَ حَسَنَ الصُّورَةِ بِشَهْوَةٍ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ شَكَّ هَلْ هُوَ لَامِسٌ أَوْ مَلْمُوسٌ؟ فَهُوَ مَلْمُوسٌ، أَوْ هَلْ لَمَسَ مُحَرَّمًا، أَوْ أَجْنَبِيَّةً؟ فَمُحَرَّمٌ. وَلَوْ لَمَسَ مُحَرَّمًا بِشَهْوَةٍ، فَكَلَمْسِهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ. وَلَمْسُ اللِّسَانِ، وَلَحْمِ الْأَسْنَانِ، وَاللَّمْسُ بِهِ، يَنْتَقِضُ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النَّاقِضُ الرَّابِعُ: مَسُّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ، فَيَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ إِذَا مَسَّ بِبَطْنِ كَفِّهِ فَرْجَ آدَمِيٍّ، مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، قُبُلًا كَانَ الْمَمْسُوسُ، أَوْ دُبُرًا. وَفِي فَرْجِ الصَّغِيرِ، وَالْمَيِّتِ، وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَفِي الدُّبُرِ قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ. وَالْمُرَادُ بِالدُّبُرِ: مُلْتَقَى الْمَنْفَذِ، وَمَسُّ مَحَلِّ الْجَبِّ يَنْقُضُ قَطْعًا إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ شَاخِصٌ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ، نَقَضَ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَسُّ الذَّكَرِ الْمَقْطُوعِ وَالْأَشَلِّ، وَالْمَسُّ بِالْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَنَاسِيًا، نَاقِضٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ مَسَّ بِبَاطِنِ أُصْبُعٍ زَائِدَةٍ، إِنْ كَانَتْ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَصَابِعِ، نَقَضَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِلَّا فَلَا، عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ كَانَ لَهُ كَفَّانِ عَامِلَتَانِ، نَقَضَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَامِلَةً نَقَضَتْ دُونَ الْأُخْرَى. وَقِيلَ: فِي الزَّائِدَةِ خِلَافٌ مُطْلَقًا. وَلَا يَنْقُضُ مَسُّ دُبُرِ الْبَهِيمَةِ قَطْعًا، وَلَا قُبُلِهَا، عَلَى الْجَدِيدِ الْمَشْهُورِ. قُلْتُ: أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْخِلَافَ فِي فَرْجِ الْبَهِيمَةِ، وَلَمْ يَخُصُّوا بِهِ الْقُبُلَ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْقُضُ مَسُّهُ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي فَرْجِهَا، لَمْ يَنْقُضْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

هَذَا كُلُّهُ فِي الْمَسِّ بِبَطْنِ كَفِّهِ، فَإِنْ مَسَّ بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ، أَوْ بِمَا بَيْنَهَا، أَوْ بِحَرْفِهَا، أَوْ حَرْفِ الْكَفِّ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمَنْ نَقَضَ بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ قَالَ: بَاطِنُ الْكَفِّ: مَا بَيْنَ الْأَظْفَارِ وَالزَّنْدِ طُولًا. وَمَنْ لَمْ يَنْقُضْ بِهِ يَقُولُ: هُوَ الْقَدْرُ الْمُنْطَبِقُ إِذَا وَضَعْتَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، مَعَ تَحَامُلٍ يَسِيرٍ. وَأَمَّا الْمَمْسُوسُ فَرْجُهُ، فَلَا يَنْتَقِضُ قَطْعًا. قُلْتُ: وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ، كَالْمَلْمُوسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا مَسَّ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَرْجَ وَاضِحٍ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ، وَإِنْ مَسَّ فَرْجَيْ نَفْسِهِ، انْتَقَضَ، أَوْ أَحَدَهُمَا، فَلَا. وَإِنْ مَسَّ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ مَسَّ الْآخَرَ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: يَجِبُ قَضَاؤُهُمَا، وَلَوْ مَسَّ أَحَدَهُمَا وَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ مَسَّ الْآخَرَ، وَصَلَّى الظُّهْرَ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ، أَعَادَ الظُّهْرَ قَطْعًا فَقَطْ، أَمَّا إِذَا مَسَّ الْوَاضِحُ خُنْثَى، فَإِنْ مَسَّ مِنْهُ مَا لَهُ مِثْلُهُ، انْتَقَضَ، وَإِلَّا فَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ الرَّجُلِ بِمَسِّ ذَكَرِ الْخُنْثَى وَالْمَرْأَةِ بِفَرْجِهِ، وَلَا عَكْسَ. هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَاسِّ وَالْخُنْثَى مَحْرَمِيَّةٌ، أَوْ غَيْرُهَا مِمَّا يَمْنَعُ النَّقْضَ، وَحَيْثُ نَقَضْنَا الْوَاضِحَ، فَالْخُنْثَى مَمْسُوسٌ لَا مَلْمُوسٌ، وَلَوْ مَسَّ الْمُشْكِلُ فَرْجَيْ مُشْكِلٍ، أَوْ فَرْجَ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ مُشْكِلٍ، انْتَقَضَ. وَلَوْ مَسَّ أَحَدٌ فَرْجَيْ مُشْكِلٍ، لَمْ يَنْتَقِضْ. وَلَوْ مَسَّ أَحَدُ الْمُشْكِلَيْنِ فَرْجَ صَاحِبِهِ، وَمَسَّ الْآخَرُ ذَكَرَ الْأَوَّلِ، انْتَقَضَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، لَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ: الطَّهَارَةُ.

مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْيَقِينِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّكِّ، فَلَوْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ، وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، أَوْ عَكْسُهُ، عَمِلَ بِالْيَقِينِ فِيهِمَا. وَلَوْ ظَنَّ الْحَدَثَ بَعْدَ يَقِينِ الطَّهَارَةِ، فَكَالشَّكِّ، فَلَهُ الصَّلَاةُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَجَبَ الْوُضُوءُ، وَهَذَا شَاذٌّ، بَلْ غَلَطٌ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا إِذَا مَسَّ الْخُنْثَى فَرْجَهُ مَرَّتَيْنِ، وَشَكَّ، هَلِ الْمَمْسُوسُ ثَانِيًا الْأَوَّلُ، أَمِ الْآخَرُ؟ أَوْ شَكَّ مَنْ نَامَ قَاعِدًا، ثُمَّ تَمَايَلَ وَانْتَبَهَ، أَيُّهُمَا كَانَ أَسْبَقُ؟ أَوْ شَكَّ هَلْ مَا رَآهُ رُؤْيَا، أَمْ حَدِيثُ نَفْسٍ؟ أَوْ هَلْ لَمَسَ الْبَشَرَةَ، أَمِ الشَّعْرَ؟ فَلَا يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ فِي جَمِيعِ هَذَا. وَكَذَا الشَّكُّ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ. وَلَوْ تَيَقَّنَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَدَثًا، وَطَهَارَةً، وَلَمْ يَعْلَمْ أَسْبَقَهُمَا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا، وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مُحْدِثًا، فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا فَالْآنَ مُحْدِثٌ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَادُ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ، وَإِلَّا فَمُتَطَهِّرٌ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَجَبَ الْوُضُوءُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا نَظَرَ إِلَى مَا بَعْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَجَبَ الْوُضُوءُ. وَالثَّالِثُ: لَا نَظَرَ إِلَى مَا قَبْلَ الطُّلُوعِ، بَلْ يَجِبُ الْوُضُوءُ بِكُلِّ حَالٍ. قُلْتُ: الْوَجْهُ الثَّانِي: غَلَطٌ صَرِيحٌ، وَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِالْعَمَلِ بِمَا تَيَقَّنَ بُطْلَانَهُ؟ ! وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا. وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: يَعْمَلُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ دَلَائِلَهُ فِي شَرْحِ (الْمُهَذَّبِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ فِي بَيَانِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِزَوَالِ إِشْكَالِهِ صُوَرٌ. مِنْهَا: خُرُوجُ الْبَوْلِ. فَإِنْ بَالَ بِفَرْجِ الرِّجَالِ وَحْدَهُ ; فَهُوَ رَجُلٌ، أَوْ بِفَرْجِ النِّسَاءِ، فَامْرَأَةٌ. فَإِنْ بَالَ بِهِمَا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا دَلَالَةَ فِيهِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَدُلُّ لِلسَّابِقِ إِنِ اتَّفَقَ انْقِطَاعُهُمَا، وَلِلْمُتَأَخِّرِ إِنِ اتَّفَقَ ابْتِدَاؤُهُمَا، فَإِنْ سَبَقَ وَاحِدٌ وَتَأَخَّرَ آخَرُ، فَلِلسَّابِقِ، فَإِنِ اتَّفَقَا فِيهِمَا وَزَادَ أَحَدُهُمَا، أَوْ زَرَّقَ بِهِمَا، أَوْ رَشَّشَ، فَلَا دَلَالَةَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى الثَّانِي: يُعْمَلُ بِالْكَثْرَةِ، وَيُجْعَلُ بِالتَّزْرِيقِ رَجُلًا، وَبِالتَّرْشِيشِ امْرَأَةً. فَإِنِ اسْتَوَى قَدْرُهُمَا، أَوْ زَرَّقَ بِوَاحِدٍ وَرَشَّشَ بِآخَرَ، فَلَا دَلَالَةَ. وَمِنْهَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ وَالْحَيْضِ فِي وَقْتِهِمَا. فَإِنْ أَمْنَى بِفَرْجِ الرِّجَالِ، فَرَجُلٌ، أَوْ بِفَرْجِ النِّسَاءِ، أَوْ حَاضَ، فَامْرَأَةٌ بِشَرْطِ تَكَرُّرِهِ. فَإِنْ أَمْنَى مِنْهُمَا، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا دَلَالَةَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ أَمْنَى مِنْهُمَا بِصِفَةِ مَنِيِّ الرِّجَالِ، فَرَجُلٌ، أَوْ بِصِفَةِ مَنِيِّ النِّسَاءِ، فَامْرَأَةٌ. فَإِنْ أَمْنَى مِنْ أَحَدِهِمَا بِصِفَةٍ، وَمِنَ الْآخَرِ بِالصِّفَةِ الْأُخْرَى، فَلَا دَلَالَةَ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْمَنِيِّ مُطْلَقًا وَهُوَ شَاذٌّ. وَمِنْهَا خُرُوجُ الْوَلَدِ، وَهُوَ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْأُنُوثَةِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْعَلَامَاتِ. وَلَوْ تَعَارَضَ الْبَوْلُ بِالْحَيْضِ، أَوِ الْمَنِيِّ، فَالْأَصَحُّ: لَا دَلَالَةَ. وَالثَّانِي يُقَدَّمُ الْبَوْلُ. وَمِنْهَا نَبَاتُ اللِّحْيَةِ، وَنُهُودُ الثَّدْيِ، وَتَفَاوُتُ الْأَضْلَاعِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا. وَالثَّانِي: اللِّحْيَةُ تَدُلُّ، أَوْ نُقْصَانُ ضِلْعٍ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ لِلذُّكُورَةِ، وَالنُّهُودُ وَتَسَاوِي الْأَضْلَاعِ لِلْأُنُوثَةِ. وَلَا يَدُلُّ عَدَمُ اللِّحْيَةِ وَالنُّهُودِ فِي وَقْتِهِمَا عَلَى الْأُنُوثَةِ وَالذُّكُورَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَمِنْهَا الْمَيْلُ. فَإِذَا قَالَ: أَمِيلُ إِلَى النِّسَاءِ، فَرَجُلٌ، أَوْ إِلَى الرِّجَالِ، فَامْرَأَةٌ، بِشَرْطِ الْعَجْزِ عَنِ الْأَمَارَاتِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَيْلِ. وَلَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ. وَفِي وَجْهٍ: يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُمَيِّزِ ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ.

فصل

فُرُوعٌ أَحَدُهَا: إِذَا بَلَغَ وَوَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ أَحَدَ الْمَيْلَيْنِ، لَزِمَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ. فَإِنْ أَخَّرَ، عَصَى. الثَّانِي: يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِالتَّشَهِّي، وَإِنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا يَجِدُهُ. الثَّالِثُ: إِذَا قَالَ: أَمِيلُ إِلَيْهِمَا، أَوْ لَا أَمِيلُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، اسْتَمَرَّ الْإِشْكَالُ. الرَّابِعُ: إِذَا أَخْبَرَ بِمَيْلٍ، لَزِمَهُ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ إِلَّا أَنْ يُخْبِرَ بِالذُّكُورَةِ، ثُمَّ يَلِدُ، أَوْ يَظْهَرُ بِهِ حَمْلٌ، فَيَبْطُلُ قَوْلُهُ، كَمَا لَوْ حُكِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَلَامَاتِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْحَمْلُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَبْطُلُ. الْخَامِسُ: لَوْ حَكَمْنَا بِقَوْلِهِ، ثُمَّ ظَهَرَتْ عَلَامَةُ غَيْرِ الْحَمْلِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهَا، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَبْقَى عَلَى قَوْلِهِ. قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا أَخْبَرَ بِمَيْلِهِ، عَمَلْنَا بِهِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلَا نَرُدُّهُ لِتُهْمَةٍ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ صَبِيٌّ بِبُلُوغِهِ لِلْإِمْكَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ، وَالسُّجُودِ، وَالطَّوَافِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَحَمْلِهِ، وَيَحْرُمُ مَسُّ حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ، وَمَا بَيْنَ سُطُورِهِ، وَحَمْلِهِ بِالْعَلَاقَةِ قَطْعًا وَيَحْرُمُ مَسُّ الْجِلْدِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْغِلَافِ، وَالصُّنْدُوقِ وَالْخَرِيطَةِ، إِذَا كَانَ فِيهِنَّ الْمُصْحَفُ، عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَلَّبَ أَوْرَاقَهُ بِعُودٍ، حَرُمَ عَلَى الْأَصَحِّ.

قُلْتُ: قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ: الرَّاجِحُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ حَامِلٍ وَلَا مَاسٍّ. وَلَوْ لَفَّ كُمَّهُ عَلَى يَدِهِ، وَقَلَّبَ بِهِ الْوَرَقَ، حَرُمَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَحْرُمُ حَمْلُ الْمُصْحَفِ فِي جُمْلَةِ مَتَاعٍ، عَلَى الْأَصَحِّ. وَكِتَابَةُ الْقُرْآنِ عَلَى شَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ، وَلَا حَمْلٍ، جَائِزَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجُوزُ مَسُّ التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَحَمْلُهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَا يَحْرُمُ مَسُّ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَمْلُهُ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى التَّطَهُّرُ لَهُ. وَأَمَّا مَا كُتِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا لِلدِّرَاسَةِ، كَالدَّرَاهِمِ الْأَحَدِيَّةِ، وَالثِّيَابِ، وَالْعِمَامَةِ، وَالطَّعَامِ، وَالْحِيطَانِ، وَكُتُبِ الْفِقْهِ، وَالْأُصُولِ، فَلَا يَحْرُمُ مَسُّهُ، وَلَا حَمْلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَكَذَا لَا يَحْرُمُ كُتُبُ التَّفْسِيرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ، حَرُمَ قَطْعًا. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ بِخَطٍّ مُتَمَيِّزٍ، حَرُمَ الْحَمْلُ قَطْعًا. قُلْتُ: مُقْتَضَى هَذَا الْكَلَامِ، أَنَّ الْأَصَحَّ: أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ، وَهَذَا مُنْكَرٌ. بَلِ الصَّوَابُ: الْقَطْعُ بِالتَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مُصْحَفًا، فَفِي مَعْنَاهُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا صَاحِبُ (الْحَاوِي) وَآخَرُونَ. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ (الْبَحْرِ) عَنِ الْأَصْحَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْرُمُ عَلَى الْبَالِغِ مَسُّ، وَحَمْلُ اللَّوْحِ الْمَكْتُوبِ فِيهِ قُرْآنٌ، لِلدِّرَاسَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْمُعَلِّمِ مَنْعُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَاللَّوْحِ اللَّذَيْنِ يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا، وَحَمْلِهِمَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُ الطَّعَامِ، وَهَدْمُ الْحَائِطِ الْمَنْقُوشِ بِالْقُرْآنِ. قُلْتُ: وَيُكْرَهُ إِحْرَاقُ الْخَشَبَةِ الْمَنْقُوشَةِ بِهِ. وَيُكْرَهُ كِتَابَتُهُ عَلَى الْحِيطَانِ، سَوَاءٌ الْمَسْجِدُ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى الثِّيَابِ، وَيَحْرُمُ كِتَابَتُهُ بِشَيْءٍ نَجِسٍ. وَلَوْ كَانَ عَلَى بَعْضِ بَدَنِ الْمُتَطَهِّرِ نَجَاسَةٌ حَرُمَ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِمَوْضِعِهَا، وَلَا يَحْرُمُ بِغَيْرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَمَنْ

باب

لَمْ يَجِدْ مَاءً، وَلَا تُرَابًا، يُصَلِّي لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ. وَلَوْ خَافَ عَلَى الْمُصْحَفِ مِنْ غَرَقٍ، أَوْ حَرْقٍ، أَوْ نَجَاسَةٍ، أَوْ كَافِرٍ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الطَّهَارَةِ، أَخَذَهُ مَعَ الْحَدَثِ لِلضَّرُورَةِ. بَابٌ الْغُسْلُ مُوجِبَاتُهُ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: الْمَوْتُ. وَيَأْتِي فِي الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي: الْحَيْضُ. ثُمَّ وُجُوبُهُ بِخُرُوجِ الدَّمِ، أَمْ بِانْقِطَاعِهِ؟ أَمِ الْخُرُوجُ مُوجِبٌ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ. وَالنِّفَاسُ كَالْحَيْضِ فِي الْغُسْلِ وَمُعْظَمِ الْأَحْكَامِ. وَالثَّالِثُ: إِذَا أَلْقَتِ الْحَامِلُ وَلَدًا، أَوْ عَلَقَةً، أَوْ مُضْغَةً، وَلَمْ تَرَ دَمًا، وَلَا بَلَلًا، لَزِمَهَا الْغُسْلُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالرَّابِعُ: الْجَنَابَةُ، وَهِيَ بِأَمْرَيْنِ: الْجِمَاعُ، وَالْإِنْزَالُ. أَمَّا الْجِمَاعُ، فَتَغْيِيبُ قَدْرِ الْحَشَفَةِ فِي أَيِّ فَرْجٍ كَانَ، سَوَاءٌ غُيِّبَ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ، أَوْ بَهِيمَةٍ، أَوْ دُبُرِهِمَا، أَوْ دُبُرِ رَجُلٍ، أَوْ خُنْثَى، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ. وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِأَيِّ ذَكَرٍ دَخَلَ فَرْجَهَا، حَتَّى ذَكَرِ الْبَهِيمَةِ، وَالْمَيِّتِ، وَالصَّبِيِّ. وَعَلَى الرَّجُلِ الْمُولَجِ فِي دُبُرِهِ. وَلَا يَجِبِ إِعَادَةُ غَسْلِ الْمَيِّتِ الْمُولَجِ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَيَصِيرُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ الْمُولِجَانِ، أَوِ الْمُولَجُ فِيهِمَا جُنُبَيْنِ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنِ اغْتَسَلَ الصَّبِيُّ وَهُوَ مُمَيِّزٌ، صَحَّ غُسْلُهُ، وَلَا يَجِبُ إِعَادَتُهُ إِذَا بَلَغَ. وَمَنْ كَمُلَ مِنْهُمَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ. وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ بِالْغُسْلِ فِي الْحَالِ، كَمَا يَأْمُرُهُ بِالْوُضُوءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

هَذَا كُلُّهُ إِذَا غَيَّبَ قَدْرَ الْحَشَفَةِ، فَإِنْ غَيَّبَ دُونَهَا، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ تَغْيِيبَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ مِنْ مَقْطُوعِهَا لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَإِنَّمَا يُوجِبُهُ تَغْيِيبُ جَمِيعِ الْبَاقِي، إِنْ كَانَ قَدْرُ الْحَشَفَةِ فَصَاعِدًا. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ مَشْهُورٌ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ (الْحَاوِي) عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ لَفَّ عَلَى ذَكَرِهِ خِرْقَةً فَأَوْلَجَهُ، وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَى أَصَحِّ الْأَوْجُهِ، وَلَا يَجِبُ فِي الثَّانِي. وَالثَّالِثُ إِنْ كَانَتِ الْخِرْقَةُ خَشِنَةً، وَهِيَ الَّتِي تَمْنَعُ وُصُولَ بَلَلِ الْفَرْجِ إِلَى الذَّكَرِ، وَتَمْنَعُ وُصُولَ الْحَرَارَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، لَمْ يَجِبْ، وَإِلَّا وَجَبَ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ (الْبَحْرِ) : وَتَجْرِي هَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ وَلَوْ أَوْلَجَ خُنْثَى فِي فَرْجِ خُنْثَى أَوْ دُبُرِهِ، أَوْ أَوْلَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَرْجِ صَاحِبِهِ، أَوْ دُبُرِهِ، فَلَا غُسْلَ، وَلَا وُضُوءَ عَلَى أَحَدٍ، إِلَّا مِنْ نَزْعِ الذَّكَرِ مِنْ دُبُرِهِ، فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، لِخُرُوجِ خَارِجٍ مِنْ دُبُرِهِ. قُلْتُ: وَكَذَا إِذَا نَزَعَ مِنْ قُبُلِهِ. وَقُلْنَا: الْمُنْفَتِحُ تَحْتَ الْمَعِدَةِ يَنْتَقِضُ الْخَارِجُ مِنْهُ مَعَ انْفِتَاحِ الْأَصْلِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ أَوْلَجَ الْخُنْثَى فِي بَهِيمَةٍ، أَوِ امْرَأَةٍ، أَوْ دُبُرِ رَجُلٍ، فَلَا غُسْلَ عَلَى أَحَدٍ. وَعَلَى الْمَرْأَةِ الْوُضُوءُ بِالنَّزْعِ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ عَلَى الْخُنْثَى، وَالرَّجُلُ الْمُولَجُ فِيهِ. وَلَوْ أَوْلَجَ رَجُلٌ فِي فَرْجِ خُنْثَى، فَلَا غُسْلَ، وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِمَا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ. وَلَوْ أَوْلَجَ رَجُلٌ فِي فَرْجِ خُنْثَى، وَالْخُنْثَى فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ، فَالْخُنْثَى جُنُبٌ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ غَيْرُ جُنُبَيْنِ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ الْوُضُوءُ بِالنَّزْعِ. قُلْتُ: إِذَا أَوْلَجَ ذَكَرًا أَشَلَّ، وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرًا مَقْطُوعًا، فَوَجْهَانِ، كَمَسِّهِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ذَكَرَانِ يَبُولُ بِهِمَا، فَأَوْلَجَ أَحَدُهُمَا، وَجَبَ الْغُسْلُ، وَلَوْ كَانَ يَبُولُ بِأَحَدِهِمَا، وَجَبَ الْغَسْلُ لَوْ كَانَ بِإِيلَاجِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ حِكَمٌ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْأَمْرُ الثَّانِي: الْجَنَابَةُ بِإِنْزَالِ الْمَنِيِّ. وَسَوَاءٌ خَرَجَ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ، أَوْ ثُقْبَةٍ فِي الصُّلْبِ، أَوِ الْخُصْيَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ الْمُعْتَادِ، لَهُ حُكْمُ الْمُنْفَتِحِ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ الْأَحْدَاثِ، فَيَعُودُ فِيهِ الْخِلَافُ وَالتَّفْصِيلُ. وَالصُّلْبُ هُنَا كَالْمَعِدَةِ هُنَاكَ. ثُمَّ لِلْمَنِيِّ خَوَاصُّ ثَلَاثٌ. أَحَدُهَا: رَائِحَةٌ كَرَائِحَةِ الْعَجِينِ وَالطَّلْعِ رَطْبًا، وَكَرَائِحَةِ بَيَاضِ الْبَيْضِ يَابِسًا. الثَّانِيَةُ: التَّدَفُّقُ بِدُفُعَاتٍ. الثَّالِثَةُ: التَّلَذُّذُ بِخُرُوجِهِ، وَاسْتِعْقَابُهُ فُتُورُ الذَّكَرِ، وَانْكِسَارُ الشَّهْوَةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُ الْخَوَاصِّ، بَلْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ تَكْفِي فِي كَوْنِهِ مَنِيًّا بِلَا خِلَافٍ. وَلَهُ صِفَاتٌ أُخَرُ، كَالْبَيَاضِ وَالثَّخَانَةِ فِي مَنِيِّ الرَّجُلِ، وَالرِّقَّةِ وَالِاصْفِرَارِ فِي مَنِيِّ

الْمَرْأَةِ فِي حَالِ الِاعْتِدَالِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ مِنْ خَوَاصِّهِ، فَعَدَمُهَا لَا يَنْفِيهِ، وَوُجُودُهَا لَا يَقْتَضِيهِ. فَلَوْ زَالَتِ الثَّخَانَةُ وَالْبَيَاضُ لِمَرَضٍ، أَوْ خَرَجَ عَلَى لَوْنِ الدَّمِ لِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ، وَجَبَ الْغُسْلُ اعْتِمَادًا عَلَى بَعْضِ الْخَوَاصِّ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهَا عَلَى لَوْنِ الدَّمِ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَلَوْ تَنَبَّهَ مِنْ نَوْمِهِ فَلَمْ يَرَ إِلَّا الثَّخَانَةَ وَالْبَيَاضَ، فَلَا غُسْلَ، لِأَنَّ الْوَدْيَ يُشَارِكُ الْمَنِيَّ فِيهِمَا، بَلْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ جَعْلِهِ مَنِيًّا وَمَذْيًا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي آخِرِ صِفَةِ الْوُضُوءِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْمَنِيُّ، لِكَوْنِ الْمَذْيِ لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، أَوْ لِتَذَكُّرِ جِمَاعٍ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يُحْتَمَلُ أَنْ تُسْتَصْحَبَ الطَّهَارَةُ، وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الظَّنِّ. وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ مُقْتَضَى كَلَامِ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ. وَلَوْ أَنْزَلَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَتْ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ، وَجَبَ الْغُسْلُ ثَانِيًا قَطْعًا. سَوَاءٌ خَرَجَتْ قَبْلَ الْبَوْلِ، أَوْ بَعْدَهُ. فَرْعٌ الْمَرْأَةُ ; كَالرَّجُلِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِخُرُوجِ مَنِيِّهَا. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: لَا تَعْرِفُ مَنِيَّهَا إِلَّا بِالتَّلَذُّذِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا: يَطَّرِدُ فِي مَعْرِفَةِ مَنِيِّهَا الْخَوَاصُّ الثَّلَاثُ، كَالرَّجُلِ. وَلَوِ اغْتَسَلَتْ مِنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مَنِيُّ الرَّجُلِ، لَزِمَهَا الْغُسْلُ عَلَى الْمَذْهَبِ بِشَرْطَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ ذَاتَ شَهْوَةٍ دُونَ الصَّغِيرَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَقْضِيَ شَهْوَتَهَا بِذَلِكَ الْجِمَاعِ، كَنَائِمَةٍ وَمُكْرَهَةٍ. فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ، لَمْ يَجِبِ الْغُسْلُ قَطْعًا.

فصل

فَرْعٌ إِذَا اسْتَدْخَلَتْ مَنِيًّا فِي قُبُلِهَا أَوْ دُبُرِهَا، لَمْ يَلْزَمْهَا الْغُسْلُ عَلَى الْمَذْهَبِ. فَرْعٌ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَدِيدِ الْمَشْهُورِ، وَلَا بِجُنُونٍ وَإِغْمَاءٍ عَلَى الْمَذْهَبِ. قُلْتُ: لَوْ رَأَى الْمَنِيَّ فِي ثَوْبِهِ، أَوْ فِرَاشٍ لَا يَنَامُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ احْتِلَامًا، لَزِمَهُ الْغُسْلُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجِبُ إِعَادَةُ كُلِّ صَلَاةٍ لَا يُحْتَمَلُ حُدُوثُ الْمَنِيِّ بَعْدَهَا. وَيُسْتَحَبُّ إِعَادَةُ كُلِّ صَلَاةٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ فِيهَا. ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ وَالْأَصْحَابَ أَطْلَقُوا الْمَسْأَلَةَ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا إِذَا رَأَى الْمَنِيَّ فِي بَاطِنِ الثَّوْبِ، فَإِنْ رَآهُ فِي ظَاهِرِهِ، فَلَا غُسْلَ، لِاحْتِمَالِ إِصَابَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ يَنَامُ مَعَهُ فِي الْفِرَاشِ مَنْ يَجُوزُ كَوْنُ الْمَنِيِّ مِنْهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْغُسْلُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَا، وَلَوْ أَحَسَّ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ وَنُزُولِهِ، فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْحَالِ، وَلَا عَلِمَ خُرُوجَهُ بَعْدَهُ، فَلَا غُسْلَ عِنْدَنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ، وَشَيْئَانِ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ. فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَيَحْرُمُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضَ آيَةٍ عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ، فَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْجُنُبُ مَاءً وَلَا تُرَابًا، فَهَلْ يُبَاحُ لَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاتِهِ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: يَحْرُمُ كَمَا يَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَيْهَا قَطْعًا، وَيَأْتِي بِالتَّسْبِيحِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، لِأَنَّهُ عَاجِزٌ شَرْعًا.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَرَأَ شَيْئًا مِنْهُ وَلَمْ يَقْصِدِ الْقُرْآنَ، جَازَ، كَقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ قَالَ: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) الزُّخْرُفِ: الْآيَةُ 13. عَلَى قَصْدِ سُنَّةِ الرُّكُوبِ. وَلَوْ جَرَى هَذَا عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ قُرْآنًا وَلَا ذِكْرًا، جَازَ. وَيَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَثْبَتَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ فَمُ غَيْرِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ نَجِسًا، فَفِي تَحْرِيمِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ. وَلَا تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْحَمَّامِ. وَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ مَا يُسْتَحَبُّ تِلَاوَتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، فَحَرَامٌ عَلَى الْجُنُبِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْعُبُورُ، لَكِنْ يُكْرَهُ إِلَّا لِغَرَضٍ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ طَرِيقَهُ إِلَى مَقْصِدِهِ، أَوْ أَقْرَبَ الطَّرِيقَيْنِ إِلَيْهِ، وَفِي وَجْهٍ: إِنَّمَا يَجُوزُ الْعُبُورُ إِذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ سِوَاهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَيَحْرُمُ التَّرَدُّدُ فِي جَوَانِبِهِ، فَإِنَّهُ كَالْمُكْثِ. وَيَجُوزُ الْمُكْثُ لِلضَّرُورَةِ، بِأَنْ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ، فَاحْتَلَمَ وَلَمْ يُمْكِنِ الْخُرُوجُ، لِإِغْلَاقِ الْبَابِ، أَوْ خَوْفِ الْعَسَسِ، أَوْ غَيْرِهِ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الْمَالِ. وَيَجِبُ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِنْ وَجَدَ غَيْرَ تُرَابِ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَتَيَمَّمُ بِتُرَابِهِ. قُلْتُ: يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ النَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي (الْأُمِّ) وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَلَوِ احْتَلَمَ فِي مَسْجِدٍ لَهُ بَابَانِ، أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى آخَرَ لِغَرَضٍ، لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضٌ، لَمْ يُكْرَهْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ فَضْلُ مَاءِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ طَهُورٌ لَا كَرَاهَةَ فِي اسْتِعْمَالِهِ. وَيَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يُجَامِعَ، وَأَنْ يَنَامَ، وَيَأْكُلَ، وَيَشْرَبَ، لَكِنْ يُسَنُّ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ غَسْلِ فَرْجِهِ وَالْوُضُوءِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُسْتَحَبُّ هَذَا الْوُضُوءُ، وَ [كَذَا] غُسْلُ الْفَرْضِ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا، صَارَتْ كَالْجُنُبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ أَقَلُّهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: النِّيَّةُ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ فُرُوعِهَا فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ أَوَّلِ الْغُسْلِ الْمَفْرُوضِ، فَإِنِ اقْتَرَنَتْ بِهِ كَفَى، وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي السُّنَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْمَفْرُوضِ وَعَزَبَتْ قَبْلَهُ، فَوَجْهَانِ، كَمَا فِي الْوُضُوءِ، ثُمَّ إِنْ نَوَى رَفْعَ الْجَنَابَةِ، أَوْ رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، أَوْ نَوَتِ الْحَائِضُ رَفْعَ حَدَثِ الْحَيْضِ، صَحَّ الْغُسْلُ. وَإِنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْجَنَابَةِ وَلَا غَيْرِهَا، صَحَّ غُسْلُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ مُتَعَمِّدًا، لَمْ يَصِحَّ غُسْلُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ غَلَطَ، فَظَنَّ حَدَثَهُ الْأَصْغَرَ، لَمْ تَرْتَفِعِ الْجَنَابَةُ عَنْ غَيْرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ. وَفِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَرْتَفِعُ، وَأَصَحُّهُمَا: يَرْتَفِعُ عَنِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، دُونَ الرَّأْسِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَنِ الْغُسْلِ، كَالصَّلَاةِ، وَالطَّوَافِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَجْزَأَهُ. وَلَوْ نَوَتِ الْحَائِضُ اسْتِبَاحَةَ الْوَطْءِ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ نَوَى مَا لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْغُسْلُ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ نَوَى مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ، كَالْعُبُورِ

فِي الْمَسْجِدِ، وَالْأَذَانِ، وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدِ، لَمْ يُجْزِئِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا سَبَقَ فِي الْوُضُوءِ. وَلَوْ نَوَى الْغُسْلَ الْمَفْرُوضَ، أَوْ فَرِيضَةَ الْغُسْلِ، أَجْزَأَهُ قَطْعًا. الثَّانِي: اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِالْغَسْلِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ صِمَاخَيِ الْأُذُنَيْنِ، وَالشُّقُوقِ فِي الْبَدَنِ، وَكَذَا مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ مِنَ الْأَقْلَفِ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ أَنْفِ الْمَجْدُوعِ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا، وَكَذَا مَا يَبْدُو مِنَ الثَّيِّبِ إِذَا قَعَدَتْ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، عَلَى أَصَحِّ الْأَوْجُهِ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَجِبُ غَسْلُ مَا وَرَاءَ مُلْتَقَى الشَّفْرَيْنِ، وَعَلَى الثَّالِثِ: يَجِبُ فِي غُسْلِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ خَاصَّةً، لِإِزَالَةِ دَمِهِمَا، وَلَا يَجِبُ مَا وَرَاءَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَطْعًا، وَلَا الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ. وَيَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ جَمِيعَ الشُّعُورِ الَّتِي عَلَى الْبَشَرَةِ، وَإِلَى مَنَابِتِهَا، وَإِنْ كَثَفَتْ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ شَعْرٍ نَبَتَ فِي الْعَيْنِ، وَيُسَامَحُ بِبَطْنِ الْعُقَدِ الَّتِي عَلَى الشَّعْرَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى وَجْهٍ يَجِبُ قَطْعُهَا. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ صَاحِبُ (الْبَحْرِ) وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَطْعُهَا بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي شَرْحِ (الْمُهَذَّبِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجِبُ نَقْضُ الظَّفَائِرِ إِنْ لَمْ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا إِلَّا بِالنَّقْضِ، وَلَا يَجِبُ إِنْ وَصَلَ. أَمَّا أَكْمَلُ الْغُسْلَ فَيَحْصُلُ بِأُمُورٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَغْسِلَ مَا عَلَى بَدَنِهِ مِنْ أَذًى أَوَّلًا، كَالْمَنِيِّ وَنَحْوِهِ مِنَ الْقَذَرِ الطَّاهِرِ، وَكَذَا النَّجِسُ. وَتَقْدِيمُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْغُسْلِ. فَلَوْ غَسَلَ غَسْلَةً وَاحِدَةً بِنْيَةِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، طَهُرَ عَنِ النَّجَسِ. وَلَا يَطْهُرُ عَنِ الْحَدَثِ عَلَى الْمَذْهَبِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَطْهُرُ عَنِ الْحَدَثِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا قُلْنَا: الْغَسْلَةُ الْوَاحِدَةُ تَكْفِي عَنِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، كَانَ تَقْدِيمُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْكَمَالِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَكْفِي، لَمْ تَكُنِ الْإِزَالَةُ مِنَ الْكَمَالِ، وَلَا مِنَ الْأَرْكَانِ، بَلْ تَكُونُ شَرْطًا، خِلَافًا لِكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، حَيْثُ قَالُوا: وَاجِبَاتُ الْغُسْلِ ثَلَاثَةٌ: غَسْلُ النَّجَاسَةِ إِنْ كَانَتْ، وَالنِّيَّةُ، وَالِاسْتِيعَابُ. الثَّانِي: أَنْ يَتَوَضَّأَ، كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ. وَتَحْصُلُ سُنَّةُ الْوُضُوءِ سَوَاءٌ أَخَّرَ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ إِلَى الْفَرَاغِ، أَوْ فَعَلَهُ بَعْدَ مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْأُذُنِ. وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ. قَوْلَانِ. الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ. ثُمَّ إِنْ تَجَرَّدَتِ الْجَنَابَةُ عَنِ الْحَدَثِ، فَالْوُضُوءُ مَنْدُوبٌ. وَإِنِ اجْتَمَعَا، فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي آخِرِ بَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ الْخِلَافَ فِي انْدِرَاجِهِ فِي الْغُسْلِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يَنْدَرِجُ، فَالْوُضُوءُ مَنْدُوبٌ، وَيُعَدُّ مِنْ سُنَنِ الْغُسْلِ. وَإِنْ أَوْجَبْنَا الْوُضُوءَ، امْتَنَعَ عَدُّهُ مِنْ سُنَنِ الْغُسْلِ، فَإِنَّهُ لَا صَائِرَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بِوُضُوءَيْنِ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى وُضُوءٍ. فَإِنْ شَاءَ قَدَّمَهُ عَلَى الْغُسْلِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ. وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ إِفْرَادِ الْوُضُوءِ بِالنِّيَّةِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالِانْدِرَاجِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِفْرَادِهِ بِنِيَّةٍ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ تَجَرَّدَتِ الْجَنَابَةُ، نَوَى بِوُضُوئِهِ سُنَّةَ الْغُسْلِ، وَإِنِ اجْتَمَعَا، نَوَى بِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ تَجَرُّدُ الْجَنَابَةِ فِي صُوَرٍ. مِنْهَا أَنْ يُولِجَ فِي بَهِيمَةٍ أَوْ دُبُرِ رَجُلٍ. وَمِنْهَا أَنْ يَلُفَّ عَلَى ذَكَرِهِ خِرْقَةً وَيُولِجَهُ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ. وَمِنْهَا إِذَا أَنْزَلَ الْمُتَوَضِّئُ الْمَنِيَّ بِنَظَرٍ، أَوْ فِكْرٍ، أَوْ فِي النَّوْمِ قَاعِدًا. وَأَمَّا جِمَاعُ الْمَرْأَةِ بِلَا حَائِلٍ، فَيَقَعُ بِهِ الْحَدَثَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: تَقْتَضِي الْجَنَابَةُ فَقَطْ، وَيَكُونُ اللَّمْسُ مَغْمُورًا. الثَّالِثُ: أَنْ تَتَعَهَّدَ مَوَاضِعَ الِانْعِطَافِ، وَالِالْتِوَاءِ، كَالْأُذُنَيْنِ، وَغُضُونِ الْبَطْنِ، وَمَنَابِتِ الشَّعْرِ. وَيُخَلِّلَ أُصُولَ الشَّعْرِ بِالْمَاءِ قَبْلَ إِفَاضَتِهِ.

الرَّابِعُ: يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، وَيَكُونُ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ ثَلَاثًا، كَالْوُضُوءِ، فَإِنِ اغْتَسَلَ فِي نَهْرٍ وَنَحْوِهِ، انْغَمَسَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُدَلِّكُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مَا يَصِلُ يَدَهُ. وَلَا يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُ الْغُسْلِ عَلَى الصَّحِيحِ. الْخَامِسُ: إِذَا اغْتَسَلَتْ عَنْ حَيْضٍ، أَوْ نِفَاسٍ، يُسَنُّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ طِيبًا وَتَجْعَلَهُ فِي قُطْنَةٍ، أَوْ نَحْوِهَا، وَتُدْخِلَهَا فَرْجَهَا، وَالْمِسْكُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ، فَطِيبًا آخَرَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ، فَطِينًا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَالْمَاءُ كَافٍ. السَّادِسُ: مَاءُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مَاءُ الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ، وَمَاءُ الْغُسْلِ عَنْ صَاعٍ تَقْرِيبًا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْمُدُّ هُنَا: رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: رِطْلَانِ. وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَصْحِبَ النِّيَّةَ إِلَى آخِرِ الْغُسْلِ، وَأَنْ لَا يَغْتَسِلَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْفَرَاغِ: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ سُنَنٌ كَثِيرَةٌ تَدْخُلُ هُنَا. قُلْتُ: لَا يَجُوزُ الْغُسْلُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ إِلَّا مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ. وَيَجُوزُ فِي الْخَلْوَةِ مَكْشُوفُهَا، وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ. وَلَوْ تَرَكَ الْمُغْتَسِلُ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، أَوِ الْوُضُوءَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: فَقَدْ أَسَاءَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَدَارَكَ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ تَرْتِيبٌ فِي أَعْضَاءِ الْمُغْتَسِلِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ثُمَّ بِالرَّأْسِ وَأَعَالِي

الْبَدَنِ. وَلَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ غُسْلِهِ، جَازَ أَنْ يُتِمَّهُ، وَلَا يَمْنَعُ الْحَدَثُ صِحَّتَهُ، لَكِنْ لَا يُصَلِّي حَتَّى يَتَوَضَّأَ. وَيَجُوزُ الْغُسْلُ مِنْ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ قَبْلَ الْبَوْلِ، وَالْأَفْضَلُ بَعْدَهُ لِئَلَّا يَخْرُجَ بَعْدَهُ مَنِيٌّ. وَلَا يَجِبُ غَسْلُ دَاخِلِ الْعَيْنِ، وَحُكْمُ اسْتِحْبَابِهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْوُضُوءِ. وَلَوْ غَسَلَ بَدَنَهُ إِلَّا شَعْرَةً أَوْ شَعْرَاتٍ ثُمَّ نَتَفَهَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ وَصَلَ أَصْلَهَا، أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا لَزِمَهُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ. وَفِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّبَّاغِ: يَجِبُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَفِي (الْبَيَانِ) وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجِبُ. وَالثَّانِي: لَا لِفَوَاتِ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ، كَمَنْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ رِجْلَهُ فَقُطِعَتْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب التيمم

كِتَابُ التَّيَمُّمِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ. الْأَوَّلُ: فِيمَا يُبِيحُهُ. وَإِنَّمَا يُبَاحُ بِالْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِتَعَذُّرِهِ، أَوْ بِعُسْرِهِ، لِخَوْفِ ضَرَرٍ ظَاهِرٍ. وَأَسْبَابُ الْعَجْزِ سَبْعَةٌ. أَحَدُهَا: فَقْدُ الْمَاءِ. وَلِلْمُسَافِرِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَيَقَّنَ عَدَمَ الْمَاءِ حَوْلَهُ، كَبَعْضِ رِمَالِ الْبَوَادِي، فَيَتَيَمَّمُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الْمَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ. الثَّانِي: أَنْ يَجُوزَ وُجُودُهُ تَجْوِيزًا بَعِيدًا، أَوْ قَرِيبًا، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الطَّلَبِ قَطْعًا. وَيُشْتَرَطُ فِي الطَّلَبِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ بِنَفْسِهِ، وَيَكْفِيهِ طَلَبُ مَنْ أَذِنَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يَكْفِيهِ طَلَبُ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ قَطْعًا. وَالطَّلَبُ: أَنْ يُفَتِّشَ رَحْلَهُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ، نَظَرَ يَمِينًا، وَشِمَالًا، وَقُدَّامًا، وَخَلْفًا، إِنِ اسْتَوَى مَوْضِعُهُ، وَيَخُصُّ مَوَاضِعَ الْخُضْرَةِ، وَاجْتِمَاعَ الطَّيْرِ بِمَزِيدِ احْتِيَاطٍ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَوِ الْمَوْضِعُ، نُظِرَ، إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، لَوْ تَرَدَّدَ، لَمْ يَجِبِ التَّرَدُّدُ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ، وَجَبَ التَّرَدُّدُ إِلَى حَدٍّ يَلْحَقُهُ غَوْثُ الرِّفَاقِ مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّشَاغُلِ بِشُغْلِهِمْ، وَالتَّفَاوُضِ فِي أَقْوَالِهِمْ. وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاسْتِوَاءِ الْأَرْضِ وَاخْتِلَافِهَا صُعُودًا وَهُبُوطًا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ رُفْقَةٌ، وَجَبَ سُؤَالُهُمْ إِلَى أَنْ يَسْتَوْعِبَهُمْ، أَوْ يَضِيقَ الْوَقْتُ

فَلَا يَبْقَى إِلَّا مَا يَسَعُ تِلْكَ الصَّلَاةَ فِي الْأَصَحِّ. وَفِي وَجْهٍ: إِلَى أَنْ يَبْقَى مَا يَسَعُ رَكْعَةً. وَفِي وَجْهٍ: يَسْتَوْعِبُهُمْ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَجِبُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّفْقَةِ بِعَيْنِهِ، بَلْ يُنَادِي فِيهِمْ: مَنْ مَعَهُ مَاءٌ؟ مَنْ يَجُودُ بِالْمَاءِ؟ وَنَحْوِهِ. حَتَّى قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: لَوْ قَلَّتِ الرُّفْقَةُ، لَمْ يَطْلُبْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ بَعَثَ النَّازِلُونَ ثِقَةً يَطْلُبُ لَهُمْ، كَفَاهُمْ كُلَّهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَتَى عَرَفَ مَعَهُمْ مَاءً، وَجَبَ اسْتِيهَابُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ تَيَمُّمٌ وَطَلَبٌ. فَإِنْ سَبَقَ، نَظَرَ، إِنْ جَرَى أَمْرٌ يُحْتَمَلُ بِسَبَبِهِ حُصُولُ مَاءٍ، بِأَنِ انْتَقَلَ مِنْ مَوْضِعِهِ، أَوْ طَلَعَ رَكْبٌ، أَوْ سَحَابَةٌ، وَجَبَ الطَّلَبُ أَيْضًا. لَكِنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ تَيَقَّنَ بِالطَّلَبِ أَنْ لَا مَاءَ فِيهِ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ حُدُوثَهُ فِيهِ، لَمْ يَجِبِ الطَّلَبُ مِنْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَإِنْ لَمْ يَجْرِ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ، نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ تَيَقَّنَ عَدَمَ الْمَاءِ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ كَانَ ظَنَّهُ، وَجَبَ عَلَى الْأَصَحِّ، لَكِنَّهُ أَخَفُّ طَلَبًا مِنَ الْأَوَّلِ. وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ تَخَلَّلَ بَيْنَ التَّيَمُّمَيْنِ زَمَنٌ طَوِيلٌ، أَوْ قَصِيرٌ، أَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ حَوَالَيْهِ. وَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ. الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةٍ يَنْتَشِرُ إِلَيْهَا النَّازِلُونَ لِلْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالرَّعْيِ، فَيَجِبُ السَّعْيُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ. وَهَذَا فَوْقَ حَدِّ الْغَوْثِ الَّذِي يَقْصِدُهُ عِنْدَ التَّوَهُّمِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: لَعَلَّهُ يَقْرُبُ مِنْ نِصْفِ فَرْسَخٍ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا، بِحَيْثُ لَوْ سَعَى إِلَيْهِ فَاتَهُ فَرْضُ الْوَقْتِ، فَيَتَيَمَّمُ عَلَى الْمَذْهَبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ، وَخَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لَوْ تَوَضَّأَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي (التَّهْذِيبِ) وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُعِيدُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. ثُمَّ الْأَشْبَهُ بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ، أَنَّ الِاعْتِبَارَ

فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ لَوْ كَانَ نَازِلًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَلَا بَأْسَ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاقِيتِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَلَا بِاخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ فِي السُّهُولَةِ وَالصُّعُوبَةِ. فَإِنْ كَانَ التَّيَمُّمُ لِفَائِتَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ، اعْتُبِرَ بِوَقْتِ الْفَرِيضَةِ الْحَاضِرَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوِ انْتَهَى إِلَى الْمَنْزِلِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَالْمَاءُ فِي حَدِّ الْقُرْبِ، وَجَبَ قَصْدُهُ وَالْوُضُوءُ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ فِي رَحْلِهِ، فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ، وَنَقَلَهُ عَنْ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ، مِنَ اعْتِبَارِ أَوَّلِ الْوَقْتِ لَيْسَ كَمَا قَالَهُ، بَلِ الظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِوَقْتِ الطَّلَبِ. هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كُتُبِهِمُ الْمَشْهُورَةِ وَالْمَهْجُورَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (الْأُمِّ) وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ عِبَارَتَهُ وَعِبَارَتَهُمْ: وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَاءٍ، وَلَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْوَقْتِ، وَلَا ضَرَرًا، لَزِمَهُ طَلَبُهُ. هَذَا نَصُّهُ وَنَصُّهُمْ، وَهُوَ صَرِيحٌ، أَوْ كَالصَّرِيحِ فِيمَا قُلْتُهُ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ ذَلِكَ وَأَتْقَنْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ، فَيَزِيدُ عَلَى مَا يَنْتَشِرُ إِلَيْهِ النَّازِلُونَ، وَيَقْصُرُ عَنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ. فَهَلْ يَجِبُ قَصْدُهُ، أَمْ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ؟ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَى يَمِينِ الْمَنْزِلِ أَوْ يَسَارِهِ، وَجَبَ. وَإِنْ كَانَ صَوْبَ مَقْصِدِهِ، لَمْ يَجِبْ، فَقِيلَ بِظَاهِرِ النَّصَّيْنِ، وَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ. وَالْمَذْهَبُ جَوَازُ التَّيَمُّمِ وَإِنْ عَلِمَ وُصُولَهُ إِلَى الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ. وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لِلسَّائِرِ إِلَى جِهَةِ الْمَاءِ، فَالنَّازِلُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ أَوْلَى. وَالسَّائِرُ وَهُوَ عَلَى يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ أَوْلَى، هَذَا فِي الْمُسَافِرِ. أَمَّا الْمُقِيمُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لَوْ سَعَى إِلَى الْمَاءِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْقَضَاءِ. ثُمَّ إِذَا قُلْنَا فِي الْمُسَافِرِ بِالْمَذْهَبِ: وَهُوَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ مُطْلَقًا، فَإِنْ تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ آخِرَ الْوَقْتِ، فَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِيُؤَدِّيَهَا بِالْوُضُوءِ. وَفِي (التَّتِمَّةِ) وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّ تَقْدِيمَهَا بِالتَّيَمُّمِ أَفْضَلُ، لِفَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنِ الْمَاءَ، وَلَكِنْ رَجَا، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: التَّقْدِيمُ أَفْضَلُ. وَمَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. أَمَّا إِذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ أَوَّلَ الْوَقْتِ،

وَبِالْوُضُوءِ مَرَّةً أُخْرَى آخِرَهُ، فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي إِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ. وَإِنْ ظَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ، أَوْ تَسَاوَى احْتِمَالُ وَجُودِهِ وَعَدَمِهِ، فَالتَّقْدِيمُ أَفْضَلُ قَطْعًا. وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ نَقْلُ الْقَوْلَيْنِ، فِيمَا إِذَا لَمْ يَظُنَّ الْوُجُودَ. وَلَا وُثُوقَ بِهَذَا النَّقْلِ. قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَصَاحِبُ (الْحَاوِي) وَ (الْمَحَامِلِيُّ) وَآخَرُونَ بِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا تَسَاوَى الِاحْتِمَالُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا تَعْجِيلُ الْمُتَوَضِّئِ وَغَيْرِهِ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُنْفَرِدًا، وَتَأْخِيرُهَا لِانْتِظَارِ الْجَمَاعَةِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ. قِيلَ: التَّقْدِيمُ أَفْضَلُ، وَقِيلَ: التَّأْخِيرُ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ. قُلْتُ: قَطَعَ مُعْظَمُ الْعِرَاقِيِّينَ، بِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِلْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ. وَمُعْظَمُ الْخُرَاسَانِيِّينَ، بِأَنَّ التَّقْدِيمَ مُنْفَرِدًا أَفْضَلُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ كَالتَّيَمُّمِ. فَإِنْ تَيَقَّنَ الْجَمَاعَةَ آخِرَ الْوَقْتِ، فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ. وَإِنْ ظَنَّ عَدَمَهَا، فَالتَّقْدِيمُ أَفْضَلُ. وَإِنْ رَجَاهَا، فَقَوْلَانِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَسَّطَ فَيُقَالُ: إِنْ فَحُشَ التَّأْخِيرُ، فَالتَّقْدِيمُ أَفْضَلُ. وَإِنْ خَفَّ، فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ. وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ، إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى صَلَاةٍ. فَأَمَّا إِذَا صَلَّى أَوَّلَ الْوَقْتِ مُنْفَرِدًا، وَآخِرَهُ مَعَ الْجَمَاعَةِ، فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي الْفَضِيلَةِ، وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ، فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ) وَغَيْرِهِ. قَالَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) : قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْقَوْلَانِ فِي التَّيَمُّمِ، يَجْرِيَانِ فِي مَرِيضٍ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ، وَرَجَاهُ آخِرَ الْوَقْتِ، أَوْ رَجَا الْعُرْيَانُ السُّتْرَةَ آخِرَهُ، هَلِ الْأَفْضَلُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى حَالِهِمَا، أَمِ التَّأْخِيرُ؟ قَالَ: وَلَا يَتْرُكُ التَّرَخُّصَ بِالْقَصْرِ فِي السَّفَرِ. وَإِنْ عَلِمَ إِقَامَتَهُ آخِرَ الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ: قَالَ صَاحِبُ (الْفُرُوعِ) : إِنْ خَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ لَوْ أَكْمَلَ الْوُضُوءَ، فَإِدْرَاكُهَا أَوْلَى مِنَ الِانْحِبَاسِ، لِإِكْمَالِهِ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ حَاضِرًا، بِأَنْ يَزْدَحِمَ مُسَافِرُونَ عَلَى بِئْرٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهَا إِلَّا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، لِضِيقِ الْمَوْقِفِ، أَوِ اتِّحَادِ الْآلَةِ، فَإِنْ تَوَقَّعَ حُصُولَ نَوْبَتِهِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ يَجِبُ الصَّبْرُ لِيَتَوَضَّأَ. وَنَصَّ فِي عُرَاةٍ مَعَهُمْ ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَتَنَاوَبُونَهُ، أَنَّهُ يَصْبِرُ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَيُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ. وَنَصَّ فِي جَمَاعَةٍ فِي مَوْضِعٍ ضَيِّقٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَائِمًا إِلَّا وَاحِدٌ، أَنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ قَاعِدًا، إِذَا عَلِمَ أَنَّ نَوْبَتَهُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ. وَهَذَا يُخَالِفُ النَّصَّيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، فَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّ فِي الْجَمِيعِ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ، وَعَارِيًا، وَقَاعِدًا، لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ. وَالثَّانِي: يَصْبِرُ، لِلْقُدْرَةِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، فَيَصْبِرُ لِلْوُضُوءِ وَاللُّبْسِ، دُونَ الْقِيَامِ، لِسُهُولَةِ أَمْرِهِ. وَقَالَ كَثِيرُونَ: لَا نَصَّ فِي مَسْأَلَةِ الْبِئْرِ، وَنَصَّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَأَلْحَقُوا الْوُضُوءَ بِالْقِيَامِ لِحُصُولِ بَدَلِهِمَا. فَقَالُوا: يَتَيَمَّمُ فِي الْوَقْتِ وَيُصَلِّي. وَأَجْرَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا لَاحَ لِلْمُسَافِرِ الْمَاءُ، وَلَا عَائِقَ دُونَهُ، وَلَكِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِهِ، فَاتَهُ الْوَقْتُ. وَهَذَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْخِلَافِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، مِنَ الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُنَاكَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ إِجْرَاءُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَمِيعِ. وَأَظْهَرُهُمَا: يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ، وَعَارِيًا، وَقَاعِدًا، وَلَا إِعَادَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي (التَّهْذِيبِ) فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، قَوْلَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِذَا وَجَدَ الْجُنُبُ، أَوِ الْمُحْدِثُ مَا لَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ، وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، ثُمَّ يَجِبُ التَّيَمُّمُ بَعْدَهُ لِلْبَاقِي، فَيَغْسِلُ الْمُحْدِثُ وَجْهَهُ، ثُمَّ يَدَيْهِ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَيَغْسِلُ الْجُنُبُ مِنْ جَسَدِهِ مَا شَاءَ. وَالْأَوْلَى: أَعْضَاءُ الْوُضُوءِ. فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا

فصل

جُنُبًا، وَوَجَدَ مَا يَكْفِي الْوُضُوءَ وَحْدَهُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يُدْخِلُ الْأَصْغَرَ فِي الْأَكْبَرِ، فَهُوَ كَالْجُنُبِ الْمَحْضِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُدْخِلُ، تَوَضَّأَ بِهِ عَنِ الْأَصْغَرِ، وَتَيَمَّمَ عَنِ الْجَنَابَةِ، يُقَدِّمُ أَيُّهُمَا شَاءَ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا صَلَحَ الْمَوْجُودُ لِلْغُسْلِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُحْدِثُ إِلَّا ثَلْجًا، أَوْ بَرَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِذَابَتِهِ، لَمْ يَجِبِ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا، تَيَمَّمَ عَنِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِ الرَّأْسَ، ثُمَّ تَيَمَّمَ لِلرِّجْلَيْنِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَجَدَ تُرَابًا. فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ، وَجَبَ اسْتِعْمَالُ النَّاقِصِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. قُلْتُ: وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا تُرَابًا لَا يَكْفِيهِ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً، وَوَجَدَ مَا يَشْتَرِي بِهِ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ، فَفِي وُجُوبِهِ الْقَوْلَانِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً، وَلَا تُرَابًا، فَفِي وُجُوبِ شِرَاءِ بَعْضِ مَا يَكْفِي مِنَ الْمَاءِ الطَّرِيقَانِ. وَلَوْ تَيَمَّمَ، ثُمَّ رَأَى مَا لَا يَكْفِيهِ، فَإِنِ احْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفِيهِ، بَطَلَ تَيَمُّمُهُ، وَإِنْ عَلِمَ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهِ، أَنَّهُ لَا يَكْفِيهِ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي اسْتِعْمَالِهِ. إِنْ أَوْجَبْنَاهُ، بَطَلَ. وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَاتٌ، وَوَجَدَ مَا يَغْسِلُ بَعْضَهَا، وَجَبَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ كَانَ جُنُبًا، أَوْ مُحْدِثًا، أَوْ حَائِضًا، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، وَوَجَدَ مَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا، تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ، فَيَغْسِلُهَا ثُمَّ يَتَيَمَّمُ. فَلَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ غَسَلَهَا، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبَقِيَتْ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ، اسْتَقْصَيْتُهَا فِي شَرْحَيِ (الْمُهَذَّبِ) وَ (التَّنْبِيهِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ يَصْلُحُ لِطَهَارَتِهِ، فَأَتْلَفَهُ بِإِرَاقَةٍ، أَوْ شُرْبٍ، أَوْ تَنْجِيسٍ، تَيَمَّمَ قَطْعًا. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْإِتْلَافُ قَبْلَ الْوَقْتِ مُطْلَقًا، أَوْ بَعْدَهُ لِغَرَضٍ، كَشُرْبٍ لِلْحَاجَةِ، أَوْ غَسْلِ ثَوْبٍ لِلنَّظَافَةِ، أَوْ تَبَرُّدٍ، أَوِ اشْتَبَهَ الْإِنَاءَانِ وَاجْتَهَدَ، وَلَمْ

يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ، فَأَرَاقَهُمَا، أَوْ صَبَّ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْوَقْتِ لِغَيْرِ غَرَضٍ، فَلَا إِعَادَةَ أَيْضًا، عَلَى الْأَصَحِّ، لِفَقْدِهِ. وَقِيلَ: يَجِبُ لِعِصْيَانِهِ قَطْعًا. وَلَوِ اجْتَازَ بِمَاءٍ فِي الْوَقْتِ، فَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَلَمَّا بَعُدَ مِنْهُ، صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، لَمْ يُعِدْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَهُوَ شَاذٌّ. وَلَوْ وَهَبَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، أَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِلْمُتَّهَبِ وَالْمُشْتَرَى، كَعَطَشٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا حَاجَةَ لِلْبَائِعِ إِلَى ثَمَنِهِ، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يَصِحَّانِ. فَإِنْ صَحَّ، فَحُكْمُهُ فِي الْقَضَاءِ، حُكْمُ الْإِرَاقَةِ. وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ، لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ، مَا دَامَ الْمَاءُ فِي يَدِ الْمُبْتَاعِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ، وَعَلَيْهِ الِاسْتِرْدَادُ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ وَتَيَمَّمَ، وَجَبَ الْقَضَاءُ. وَإِنْ أُتْلِفَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ كَالْإِرَاقَةِ. ثُمَّ فِي الْمَقْضِيِّ فِي الصُّوَرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ: تُقْضَى الصَّلَاةُ الَّتِي فَوْتُ الْمَاءِ فِي وَقْتِهَا. وَالثَّانِي: تُقْضَى أَغْلَبُ مَا يُؤَدِّيهِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. وَالثَّالِثُ: تُقْضَى كُلُّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا بِالتَّيَمُّمِ. قُلْتُ: وَإِذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ لَا يَصِحُّ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ، بَلْ يُؤَخِّرُهُ إِلَى وُجُودِ الْمَاءِ، أَوْ حَالَةٍ يَسْقُطُ الْفَرْضُ فِيهَا بِالتَّيَمُّمِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ هِبَةُ هَذَا الْمَاءِ، وَتَلَفَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّبَبُ الثَّانِي: الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، فَإِذَا كَانَ بِقُرْبِهِ مَا يَخَافُ مِنْ قَصْدِهِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوِهِ، مِنْ سَبُعٍ، أَوْ عَدُوٍّ. أَوْ عَلَى مَالِهِ الَّذِي مَعَهُ، أَوِ الْمُخَلَّفِ فِي رَحْلِهِ، مِنْ غَاصِبٍ، أَوْ سَارِقٍ. أَوْ كَانَ فِي سَفِينَةٍ، وَخَافَ لَوِ اسْتَقَى مِنَ الْبَحْرِ فَلَهُ التَّيَمُّمُ. وَلَوْ خَافَ مِنْ قَصْدِهِ الِانْقِطَاعَ عَنْ رُفْقَتِهِ، تَيَمَّمَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ ضَرَرٌ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرَرٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ وَهَبَ الْمَاءَ لِعَادِمِهِ، وَجَبَ قَبُولُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ أُعِيرَ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ، وَجَبَ قَبُولُهُ قَطْعًا. وَقِيلَ: إِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْمُسْتَعَارِ عَلَى ثَمَنِ الْمَاءِ، لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ. وَلَوْ أُقْرِضَ الْمَاءَ،

وَجَبَ قَبُولُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ ثَمَنَ الْمَاءِ، أَوْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ، لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ. وَكَذَا لَوْ وَهَبَهُ الْأَبُ، أَوِ الِابْنُ، عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ أُقْرِضَ ثَمَنَ الْمَاءِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ. وَكَذَا إِنْ كَانَ مُوسِرًا بِمَالٍ غَائِبٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ بِيعَ الْمَاءَ بِنَسِيئَةٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَجَبَ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ، أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مُمْتَدًّا إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى بَلَدِ مَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وَجَدَ ثَمَنَ الْمَاءِ، وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، أَوْ نَفَقَةِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ مَعَهُ، أَوْ لِمُؤْنَةٍ مِنْ مُؤَنِ سَفَرِهِ، فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ، لَمْ يَجِبْ شِرَاؤُهُ. وَإِنْ فَضَلَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَجَبَ الشِّرَاءُ إِنْ بِيعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَيَصْرِفُ إِلَيْهِ أَيَّ نَوْعٍ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ. وَإِنْ بِيعَ بِزِيَادَةٍ، لَمْ يَجِبِ الشِّرَاءُ وَإِنْ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهَا، وَجَبَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ بِيعَ نَسِيئَةً، وَزِيدَ بِسَبَبِ الْأَجَلِ مَا يَلِيقُ بِهِ، فَهُوَ ثَمَنُ مِثْلِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي ضَبْطِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْجُهٌ. الْأَصَحُّ: أَنَّهُ ثَمَنُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَتِلْكَ الْحَالَةِ. وَالثَّانِي: ثَمَنُ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْرُ أُجْرَةِ نَقْلِهِ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَمْ يَتَقَدَّمِ الْغَزَالِيَّ أَحَدٌ بِاخْتِيَارِهِ إِيَّاهُ. وَلَوْ بِيعَ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ، أَوْ أُجِّرَهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَأُجْرَتِهِ، وَجَبَ الْقَبُولُ. فَإِنْ زَادَ، لَمْ يَجِبْ. كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَلَوْ قِيلَ: يَجِبُ التَّحْصِيلُ مَا لَمْ يُجَاوِزِ الزِّيَادَةُ ثَمَنَ مِثْلِ الْمَاءِ، لَكَانَ حَسَنًا. وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا وَقَدَرَ عَلَى شَدِّهِ فِي الدَّلْوِ لِيَسْتَقِيَ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَلْوٌ وَأَمْكَنَ إِدْلَاؤُهُ فِي الْبِئْرِ لِيَبْتَلَّ، وَيَعْصُرَ مَا يُوَضِّئُهُ، لَزِمَهُ،

فَلَوْ لَمْ يَصِلِ الْمَاءَ وَأَمْكَنَ شَقُّهُ، وَشَدُّ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، لَزِمَهُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ فِي الثَّوْبِ نَقْصٌ يَزِيدُ عَلَى أَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ: ثَمَنُ الْمَاءِ، وَأُجْرَةُ الْحَبْلِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ، لِعَطَشٍ وَنَحْوِهِ. فِيهِ مَسَائِلُ: أَحَدُهَا: إِذَا وَجَدَ مَاءً وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لِعَطَشِهِ، أَوْ عَطَشِ رَفِيقِهِ، أَوْ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ فِي الْحَالِ، أَوْ فِي الْمَآلِ بِعِوَضٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ، جَازَ التَّيَمُّمُ. وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ: تَرَدُّدًا فِي التَّزَوُّدِ لِعَطَشِ رَفِيقِهِ. وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِجَوَازِهِ. وَضَبْطُ الْحَاجَةِ يُقَاسُ بِمَا سَيَأْتِي فِي (الْمَرَضِ الْمُبِيحِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِلْعَطْشَانِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ قَهْرًا، إِذَا لَمْ يَبْذُلْهُ. وَغَيْرُ الْمُحْتَرَمِ مِنَ الْحَيَوَانِ، هُوَ الْحَرْبِيُّ، وَالْمُرْتَدُّ، وَالْخِنْزِيرُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَسَائِرُ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا. وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يَجْمَعَهُ وَيَشْرَبَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الزُّجَاجِيُّ - بِضَمِّ الزَّايِ - وَالْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ مَاءَانِ: طَاهِرٌ، وَنَجِسٌ، وَعَطَشَ، تَوَضَّأَ بِالطَّاهِرِ، وَشَرِبَ النَّجِسَ. قُلْتُ: ذَكَرَ الشَّاشِيُّ كَلَامَ الْمَاوَرْدِيِّ هَذَا، ثُمَّ أَنْكَرَهُ، وَاخْتَارَ: أَنَّهُ يَشْرَبُ الطَّاهِرَ وَيَتَيَمَّمُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، أَمَّا قَبْلُهُ، فَيَشْرَبُ الطَّاهِرَ بِلَا خِلَافٍ. صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ فِي غَدِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُهُ، فَهَلْ لَهُ التَّزَوُّدُ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: جَوَازُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِذَا مَاتَ رَجُلٌ لَهُ مَاءٌ وَرُفْقَتُهُ عِطَاشٌ، شَرِبُوهُ وَيَمَّمُوهُ وَأَدَّوْا ثَمَنَهُ فِي مِيرَاثِهِ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى الْبَلَدِ، وَأَرَادَ بِالثَّمَنِ الْقِيمَةَ، مَوْضِعَ الْإِتْلَافِ وَوَقْتَهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ مِثْلَ الْقِيمَةِ.

الثَّالِثَةُ: إِذَا أَوْصَى، أَوْ وَكَّلَ بِصَرْفِ مَاءٍ إِلَى أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَحَضَرَ مَيِّتٌ، وَجُنُبٌ، وَحَائِضٌ، وَمَنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، وَمُحْدِثٌ، فَالْمَيِّتُ وَصَاحِبُ النَّجَاسَةِ أَوْلَاهُمْ، وَالْمَيِّتُ أَوْلَاهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ. فَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ أَيْضًا نَجَاسَةٌ، فَهُوَ أَوْلَى قَطْعًا. وَلَا يُشْتَرَطُ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَيِّتِ قَبُولُ وَارِثٍ، كَمَا لَوْ تَطَوَّعَ إِنْسَانٌ بِكَفَنِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ. وَلَوْ مَاتَ اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَكَانَ قَبْلَ مَوْتِهِمَا مَاءٌ يَكْفِي أَحَدَهُمَا، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى. فَإِنْ مَاتَا مَعًا، أَوْ وُجِدَ الْمَاءُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، فَأَفْضَلُهُمَا أَوْلَى، فَإِنِ اسْتَوَيَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا. أَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ: الْحَائِضُ أَوْلَى. وَالثَّانِي: الْجُنُبُ. وَالثَّالِثُ: سَوَاءٌ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ، وَالْآخَرُ الْقُرْعَةَ، فَإِنْ لَمْ نُوجِبِ اسْتِعْمَالَ النَّاقِصِ، أُقْرِعَ. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، أُقْرِعَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: يُقَسَّمُ. وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْقِسْمَةِ، جَازَ إِنْ أَوْجَبْنَا اسْتِعْمَالَ النَّاقِصِ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوِ اجْتَمَعَ جُنُبٌ وَمُحْدِثٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَكْفِي لِلْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ، فَالْمُحْدِثُ أَوْلَى إِنْ لَمْ نُوجِبِ اسْتِعْمَالَ النَّاقِصِ، وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَأَوْجُهٌ. الْأَصَحُّ: الْمُحْدِثُ أَوْلَى. وَالثَّانِي: الْجُنُبُ. وَالثَّالِثُ: سَوَاءٌ. وَإِنْ لَمْ يَكْفِ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَالْجُنُبُ أَوْلَى إِنْ أَوْجَبْنَا اسْتِعْمَالَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ. وَإِنْ كَفَى وَفَضَلَ عَنِ الْوُضُوءِ شَيْءٌ دُونَ الْغُسْلِ، فَالْجُنُبُ أَوْلَى إِنْ لَمْ نُوجِبِ اسْتِعْمَالَ النَّاقِصِ، وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ. فَعَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ. أَصَحُّهَا: الْجُنُبُ أَوْلَى. وَإِنْ فَضَلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ وَاحِدٍ، أَوْ كَفَى الْجُنُبَ دُونَ الْمُحْدِثِ، فَالْجُنُبُ أَوْلَى قَطْعًا. وَلَوِ انْتَهَى هَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجُونَ إِلَى مَاءٍ مُبَاحٍ، وَاسْتَوَوْا فِي إِحْرَازِهِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، مَلَكُوهُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْذُلَ نَصِيبَهُ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَحْوَجَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، إِلَّا إِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُ النَّاقِصِ. كَذَا قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: إِنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَقْدِيمُ الْأَحْوَجِ فَالْأَحْوَجِ كَالْوَصِيَّةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ. وَأَرَادَ الْأَصْحَابُ: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَقْدِيمُ الْأَحْوَجِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تَنَازَعُوا، كَانَ كَمَا قَالَهُ

إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُنَازِعَهُمْ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَيَقُولَ: لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ مَاءٍ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ لِلطَّهَارَةِ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: الْعَجْزُ بِسَبَبِ الْجَهْلِ، هَذَا قَدْ جَعَلَهُ الْغَزَالِيُّ سَبَبًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ هُوَ سَبَبًا، فَإِنَّ السَّبَبَ هُوَ ظَنُّ الْعَدَمِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ. وَأَمَّا قَضَاءُ الصَّلَاةِ، فَأَمْرٌ آخَرُ. وَاللَّائِقُ ذِكْرُهُ فِي آخِرِ سَبَبِ الْفَقْدِ، أَوْ فِيمَا يُقْضَى مِنَ الصَّلَوَاتِ. قُلْتُ: بَلْ لَهُ هُنَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِهِ، إِذَا أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ أَوْ مَاءَهُ، فَهَذَا مِنْ وَجْهٍ كَالْوَاجِدِ، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَمِنْ وَجْهٍ عَادِمٌ، فَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي (الْأَسْبَابِ الْمُبِيحَةِ) لِلْإِقْدَامِ عَلَى التَّيَمُّمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: لَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، أَوْ عَلِمَ مَوْضِعَ نُزُولِهِ بِئْرًا، فَنَسِيَهَا، وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: تَجِبُ الْإِعَادَةُ قَطْعًا. وَأَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. الْجَدِيدُ الْمَشْهُورُ وُجُوبُهَا، كَنِسْيَانِ عُضْوِ الطَّهَارَةِ، وَسَاتِرِ الْعَوْرَةِ. وَلَوْ نَسِيَ ثَمَنَ الْمَاءِ، فَكَنِسْيَانِ الْمَاءِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ. الثَّانِيَةُ: لَوْ أُدْرِجَ فِي رَحْلِهِ مَاءٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ عَلِمَ، أَوْ تَيَمَّمَ، ثُمَّ عَلِمَ بِقُرْبِهِ بِئْرًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهَا، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا إِعَادَةَ. وَأَصَحُّهُمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا إِعَادَةَ. الثَّالِثَةُ: لَوْ أَضَلَّ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، إِنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي الطَّلَبِ، وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ. وَإِنْ أَمْعَنَ حَتَّى ظَنَّ الْعَدَمَ، وَجَبَتْ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: الْأَصَحُّ. الرَّابِعَةُ: أَضَلَّ رَحْلَهُ فِي الرِّحَالِ، إِنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي الطَّلَبِ، أَعَادَ، وَإِنْ أَمْعَنَ،

فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَقِيلَ: إِنْ وَجَدَهُ قَرِيبًا، أَعَادَ، وَإِلَّا فَلَا. السَّبَبُ الْخَامِسُ: الْمَرَضُ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: مَا يَخَافُ مَعَهُ مِنَ الْوُضُوءِ فَوْتَ الرَّوَحِ، أَوْ فَوْتَ عُضْوٍ، أَوْ مَنْفَعَةِ عُضْوٍ، فَبِيحَ التَّيَمُّمُ. وَلَوْ خَافَ مَرَضًا مَخُوفًا، تَيَمَّمَ عَلَى الْمَذْهَبِ. الثَّانِي: أَنْ يَخَافَ زِيَادَةَ الْعِلَّةِ، وَهُوَ كَثْرَةُ أَلَمٍ، وَإِنْ لَمْ تَزِدِ الْمُدَّةُ، أَوْ يَخَافُ بُطْءَ الْبُرْءِ، وَهُوَ طُولُ مُدَّةِ الْمَرَضِ. وَإِنْ لَمْ يَزِدِ الْأَلَمُ، أَوْ يَخَافُ شِدَّةَ الضَّنَا، وَهُوَ الْمَرَضُ الْمُدْنِفُ الَّذِي يَجْعَلُهُ زَمَنًا، أَوْ يَخَافُ حُصُولَ شَيْنٍ قَبِيحٍ، كَالسَّوَادِ عَلَى عُضْوٍ ظَاهِرٍ، كَالْوَجْهِ وَغَيْرِهِ، مِمَّا يَبْدُو فِي حَالِ الْمِهْنَةِ، فَفِي الْجَمِيعِ ثَلَاثُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: جَوَازُ التَّيَمُّمِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ قَطْعًا. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ قَطْعًا. الثَّالِثُ: أَنْ يَخَافَ شَيْئًا يَسِيرًا، كَأَثَرِ الْجُدَرِيِّ، وَسَوَادٍ قَلِيلٍ. أَوْ شَيْنًا قَبِيحًا عَلَى غَيْرِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، أَوْ يَكُونُ بِهِ مَرَضٌ لَا يَخَافُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَعَهُ مَحْذُورًا فِي الْعَاقِبَةِ. وَإِنْ كَانَ يَتَأَلَّمُ فِي الْحَالِ بِجِرَاحَةٍ، أَوْ بَرْدٍ، أَوْ حَرٍّ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي كَوْنِ الْمَرَضِ مُرَخِّصًا، عَلَى مَعْرِفَةِ نَفْسِهِ إِنْ كَانَ عَارِفًا. وَيَجُوزُ اعْتِمَادُ طَبِيبٍ حَاذِقٍ، بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ، وَالْبُلُوغِ، وَالْعَدَالَةِ، وَيُعْتَمَدُ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يُعْتَمَدُ الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ، أَوِ الْفَاسِقُ. وَوَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَبِيبَيْنِ.

فَرْعٌ إِذَا عَمَّتِ الْعِلَّةُ أَعْضَاءَ الطَّهَارَةِ، اقْتَصَرَ عَلَى التَّيَمُّمِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَعْضِ، غَسَلَ الصَّحِيحَ. وَفِي الْعَلِيلِ، كَلَامٌ مَذْكُورٌ فِي (الْجَرِيحِ) . قُلْتُ: وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ طَبِيبٌ بِشَرْطِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ السَّبَخِيُّ: لَا يَتَيَمَّمُ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا السَّبَبِ بَيْنَ الْحَاضِرِ، وَالْمُسَافِرِ، وَالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَالْأَكْبَرِ، وَلَا إِعَادَةَ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّبَبُ السَّادِسُ: إِلْقَاءُ الْجَبِيرَةِ. وَهِيَ تَكُونُ لِكَسْرٍ، أَوِ انْخِلَاعٍ. وَتَارَةً يَحْتَاجُ إِلَى الْجَبِيرَةِ عَلَى الْكَسْرِ أَوِ الِانْخِلَاعِ، وَتَارَةً لَا يَحْتَاجُ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْحَاجَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَرَضِ. فَالْحَالَةُ الْأُولَى: إِذَا احْتَاجَ، وَوَضَعَ الْجَبِيرَةَ، فَإِمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى نَزْعِهَا عِنْدَ الطَّهَارَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْمَرَضِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ، لَمْ يُكَلَّفِ النَّزْعَ. وَيُرَاعِي فِي طَهَارَتِهِ أُمُورًا. الْأَوَّلُ: غَسْلُ الصَّحِيحِ. وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: يَجِبُ غَسْلُ مَا يُمْكِنُ حَتَّى مَا تَحْتَ أَطْرَافِ الْجَبِيرَةِ مِنَ الصَّحِيحِ، بِأَنْ يَضَعَ خِرْقَةً مَبْلُولَةً عَلَيْهَا، وَيَعْصِرَهَا لِتَغْسِلَ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ بِالْمُتَقَاطِرِ. الثَّانِي: مَسْحُ الْجَبِيرَةِ بِالْمَاءِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ وَوَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، بَلْ يَكْفِي الْغَسْلُ مَعَ التَّيَمُّمِ. فَعَلَى الصَّحِيحِ: إِنْ كَانَ جُنُبًا، مَسَحَ مَتَى شَاءَ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا، مَسَحَ إِذَا وَصَلَ إِلَى غَسْلِ الْعُضْوِ

الَّذِي عَلَيْهِ الْجَبِيرَةُ. وَيَجِبُ اسْتِيعَابُ الْجَبِيرَةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَالْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَكْفِي مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ: كَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَالْخُفِّ، وَلَا تَتَقَدَّرُ مُدَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: تَتَقَدَّرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلْمُسَافِرِ، وَبِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْحَاضِرِ. وَالْخِلَافُ فِيمَا إِذَا تَأَتَّى النَّزْعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ بِلَا ضَرَرٍ. فَإِنْ حَصَلَ ضَرَرٌ، لَمْ يَجِبْ قَطْعًا. وَإِنْ تَأَتَّى فِي كُلِّ طَهَارَةٍ، وَجَبَ النَّزْعُ قَطْعًا. الثَّالِثُ: التَّيَمُّمُ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ. فَفِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: يَجِبُ. وَالثَّانِي: لَا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: إِنْ كَانَ مَا تَحْتَ الْجَبِيرَةِ عَلِيلًا، بِحَيْثُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ لَوْ ظَهَرَ، لَمْ يَجِبِ التَّيَمُّمُ، وَإِلَّا وَجَبَ. وَإِذَا وَجَبَ، فَلَوْ كَانَتِ الْجَبِيرَةُ عَلَى مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ، لَمْ يَجِبْ مَسْحُهَا بِالتُّرَابِ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ إِنْ كَانَ جُنُبًا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ قَدَّمَ غَسْلَ الصَّحِيحِ عَلَى التَّيَمُّمِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ. وَعَلَى الثَّانِي: يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُ الْغَسْلِ. وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي الْجُنُبِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ عُضْوٍ حَتَّى يُتِمَّ طَهَارَتَهُ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ كَانَتِ الْجَبِيرَةُ عَلَى الْوَجْهِ، وَجَبَ تَقْدِيمُ التَّيَمُّمِ عَلَى غَسْلِ الْيَدَيْنِ. فَإِنْ شَاءَ غَسَلَ صَحِيحَ الْوَجْهِ، ثُمَّ تَيَمَّمَ عَنْ عَلِيلِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَكَسَ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَجَبَ تَقْدِيمُ التَّيَمُّمِ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ غَسْلِ الْوَجْهِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى عُضْوَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ جَبَائِرَ، تَعَدَّدَ التَّيَمُّمُ. فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْوَجْهِ جَبِيرَةٌ، وَعَلَى الْيَدِ جَبِيرَةٌ، غَسَلَ صَحِيحَ الْوَجْهِ، وَتَيَمَّمَ عَنْ عَلِيلِهِ. ثُمَّ الْيَدُ كَذَلِكَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، يَكْفِي تَيَمُّمُ وَاحِدٍ وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْجَبَائِرُ. قُلْتُ: وَلَوْ عَمَّتِ الْجِرَاحَاتُ أَعْضَاءَهُ الْأَرْبَعَةَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ: يَكْفِيهِ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ عَنِ الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ سَقَطَ التَّرْتِيبُ لِسُقُوطِ الْغُسْلِ. قَالُوا: وَلَوْ عَمَّتِ الرَّأْسَ، وَلَمْ تَعُمَّ الْأَعْضَاءَ الثَّلَاثَةَ، وَجَبَ غَسْلُ صَحِيحِ الْأَعْضَاءِ، وَأَرْبَعُ تَيَمُّمَاتٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قَالَ صَاحِبُ (الْبَحْرِ) : فَإِذَا تَيَمَّمَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ

أَرْبَعَ تَيَمُّمَاتٍ، وَصَلَّى، ثُمَّ حَضَرَتْ فَرِيضَةٌ أُخْرَى، أَعَادَ التَّيَمُّمَاتِ الْأَرْبَعَةَ، فَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُ صَحِيحِ الْوَجْهِ، وَيُعِيدُ مَا بَعْدَهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْغُسْلِ، فِيهِ خِلَافٌ سَيَأْتِي قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) : وَإِذَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ فِي يَدَيْهِ، اسْتُحِبَّ أَنْ تُجْعَلَ كُلُّ يَدٍ كَعُضْوٍ، فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ، ثُمَّ صَحِيحَ الْيُمْنَى، وَتَيَمَّمَ عَنْ جَرِيحِهَا، ثُمَّ يُطَهِّرُ الْيُسْرَى غَسْلًا وَتَيَمُّمًا، وَكَذَا الرِّجْلَانِ. وَهَذَا حَسَنٌ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْيُمْنَى سُنَّةٌ، فَإِذَا اقْتَصَرَ عَلَى تَيَمُّمٍ، فَقَدْ طَهَّرَهُمَا دُفْعَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ، إِنَّمَا يَكْفِي بِشَرْطَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَأْخُذَ تَحْتَ الْجَبِيرَةِ مِنَ الصَّحِيحِ، إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلِاسْتِمْسَاكِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَضَعَهَا عَلَى طُهْرٍ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُشْتَرَطُ الْوَضْعُ عَلَى طُهْرٍ، وَالصَّحِيحُ اشْتِرَاطُهُ. فَيَجِبُ النَّزْعُ، وَاسْتِئْنَافُ الْوَضْعِ عَلَى طُهْرٍ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَيَتْرُكُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ بَعْدَ الْبُرْءِ عَلَى الْمَذْهَبِ، بِخِلَافِ الْوَضْعِ عَلَى طُهْرٍ عَلَى الْأَظْهَرِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَزْعِ الْجَبِيرَةِ عِنْدَ الطُّهْرِ، فَإِنْ قَدَرَ بِلَا ضَرَرٍ، وَجَبَ النَّزْعُ، وَغَسَلَ الصَّحِيحَ إِنْ أَمْكَنَ، وَمَسَحَهُ بِالتَّيَمُّمِ إِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يُمْكِنْ غَسْلُهُ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَحْتَاجَ إِلَى الْجَبِيرَةِ، وَيَخَافَ مِنْ إِيصَالِ الْمَاءِ، فَيَغْسِلُ الصَّحِيحَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَتَلَطَّفُ بِوَضْعِ خِرْقَةٍ مَبْلُولَةٍ، وَيَتَحَامَلُ عَلَيْهَا، لِيَغْسِلَ بِالْمُتَقَاطِرِ بَاقِيَ الصَّحِيحِ. وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِأُجْرَةٍ، كَالْأَقْطَعِ. وَفِي افْتِقَارِهِ إِلَى التَّيَمُّمِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى. وَلَا يَجِبُ مَسْحُ مَوْضِعِ الْعِلَّةِ بِالْمَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ مِنْهُ. كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَلِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصٌّ سِيَاقُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا التَّيَمُّمَ، وَالْعِلَّةُ فِي مَحَلِّ التَّيَمُّمِ، أَمَرَّ التُّرَابَ عَلَيْهِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ لِلْجِرَاحَةِ أَفْوَاهٌ مُنْفَتِحَةٌ، وَأَمْكَنَ إِمْرَارُ التُّرَابِ عَلَيْهَا، وَجَبَ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ ثُبُوتِ خِلَافٍ فِي وُجُوبِ التَّيَمُّمِ غَلَطٌ.

وَلَمْ أَرَهُ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ. فَالصَّوَابُ: الْجَزْمُ بِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لِئَلَّا يَبْقَى مَوْضِعُ الْكَسْرِ بِلَا طَهَارَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّبَبُ السَّابِعُ: الْجِرَاحَةُ. اعْلَمْ أَنَّ الْجِرَاحَةَ قَدْ تَحْتَاجُ إِلَى لُصُوقٍ، مِنْ خِرْقَةٍ، وَقُطْنَةٍ، وَنَحْوِهِمَا، فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْجَبِيرَةِ فِي كُلِّ مَا سَبَقَ. وَقَدْ لَا تَحْتَاجُ، فَيَجِبُ غَسْلُ الصَّحِيحِ، وَالتَّيَمُّمُ عَنِ الْجَرِيحِ. وَلَا يَجِبُ مَسْحُ الْجَرِيحِ بِالْمَاءِ، وَلَا يَجِبُ وَضْعُ اللُّصُوقِ، أَوِ الْجَبِيرَةِ عَلَيْهِ، لِيَمْسَحَ عَلَيْهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: وَأَوْجَبَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَنْ هُوَ مُتَطَهِّرٌ وَأَرْهَقَهُ حَدَثٌ، وَمَعَهُ مَاءٌ يَكْفِيهِ لِمَا عَدَا رِجْلَيْهِ، وَمَعَهُ خُفٌّ ; فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لُبْسُ الْخُفِّ. وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. فَرْعٌ إِذَا غَسَلَ الصَّحِيحَ، وَتَيَمَّمَ لِمَرَضٍ، أَوْ كَسْرٍ، أَوْ جُرْحٍ، مَعَ الْمَسْحِ عَلَى حَائِلٍ، أَوْ دُونَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ، وَصَلَّى فَرِيضَةً بِطَهَارَتِهِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهَا مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ التَّيَمُّمِ لِلْفَرِيضَةِ الْأُخْرَى. وَهَلْ يَجِبُ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا، أَوِ الْغُسْلِ إِنْ كَانَ جُنُبًا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، فَلَيْسَ عَلَى الْجُنُبِ غَيْرُ التَّيَمُّمِ إِلَى أَنْ يُحْدِثَ، وَفِي الْمُحْدِثِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: كَالْجُنُبِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ أَنْ يُعِيدَ مَعَ التَّيَمُّمِ كُلَّ عُضْوٍ يَجِبُ تَرْتِيبُهُ عَلَى الْعُضْوِ الْمَجْرُوحِ. قُلْتُ: بَلِ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهُ كَالْجُنُبِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَإِذَا كَانَ جُنُبًا، وَالْجِرَاحَةُ فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، فَغَسَلَ الصَّحِيحَ، وَتَيَمَّمَ لِلْجَرِيحِ، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةً، لَزِمَهُ الْوُضُوءُ، وَلَا يَلْزَمَهُ التَّيَمُّمُ، لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ

عَنْ غَيْرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَدَثُ. وَلَوْ صَلَّى فَرِيضَةً، ثُمَّ أَحْدَثَ، تَوَضَّأَ لِلنَّافِلَةِ، وَلَا يَتَيَمَّمَ. وَكَذَا حُكْمُ الْفَرَائِضِ كُلِّهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَطَهَّرُ الْعَلِيلُ كَمَا ذَكَرْنَا فَبَرُأَ، وَهُوَ عَلَى طَهَارَتِهِ، غَسَلَ مَوْضِعَ الْعُذْرِ، جُنُبًا كَانَ أَوْ مُحْدِثًا، وَيَغْسِلُ الْمُحْدِثُ مَا بَعْدَ الْعَلِيلِ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي اسْتِئْنَافِهِمَا الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ، الْقَوْلَانِ فِي نَازِعِ الْخُفِّ. وَلَوْ تَحَقَّقَ الْبُرْءُ بَعْدَ الطَّهَارَةِ، بَطَلَ تَيَمُّمُهُ، وَوَجَبَ غَسْلُ الْمَوْضِعِ. وَحُكْمُ الِاسْتِئْنَافِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ تَوَهَّمَ الِانْدِمَالَ، فَرَفَعَ اللُّصُوقَ، فَرَآهُ لَمْ يَنْدَمِلْ، لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ تَوَهُّمِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ، لِأَنَّ تَوَهُّمَ الْمَاءِ يُوجِبُ طَلَبَهُ. وَتَوَهُّمُ الِانْدِمَالِ، لَا يُوجِبُ الْبَحْثَ عَنْهُ. كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَتَوَقَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا يَجِبُ الْبَحْثُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ الْبَابُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ لَهُ سَبْعَةُ أَرْكَانٍ. الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: التُّرَابُ. وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا خَالِصًا، غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ. فَالتُّرَابُ مُتَعَيَّنٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ، مِنَ الْأَحْمَرِ، وَالْأَسْوَدِ، وَالْأَصْفَرِ، وَالْأَغْبَرِ، وَطِينِ الدَّوَاةِ، وَطِينِ الْأَرْمَنِيِّ الَّذِي يُؤْكَلُ تَدَاوِيًا وَسَفَهًا، وَالْبَطْحَاءِ وَهُوَ التُّرَابُ الَّذِي فِي مَسِيلِ الْمَاءِ، وَالسَّبَخُ الَّذِي لَا يُنْبِتُ دُونَ الَّذِي يَعْلُوهُ مِلْحٌ. وَلَوْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ، أَوْ جِدَارٍ، وَنَحْوِهِمَا، وَارْتَفَعَ غُبَارٌ، كَفَى. وَالتُّرَابُ الَّذِي أَخْرَجَتْهُ الْأَرَضَةُ مِنْ مَدَرٍ، يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، كَالتُّرَابِ الْمَعْجُونِ بِالْخَلِّ إِذَا جَفَّ، يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِالنُّورَةِ، وَالْجِصِّ، وَالزَّرْنِيخِ،

وَسَائِرِ الْمَعَادِنِ، وَالذَّرِيرَةِ، وَالْأَحْجَارِ الْمَدْقُوقَةِ، وَالْقَوَارِيرِ الْمَسْحُوقَةِ، وَشِبْهِهَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي وَجْهٍ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَهُوَ غَلَطٌ، وَلَوْ أَحْرَقَ التُّرَابَ حَتَّى صَارَ رَمَادًا، أَوْ سَحَقَ الْخَزَفَ، فَصَارَ نَاعِمًا، لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ. وَلَوْ شَوَى الطِّينَ وَسَحَقَهُ، فَفِي التَّيَمُّمِ بِهِ وَجْهَانِ. وَكَذَا لَوْ أَصَابَ التُّرَابَ نَارٌ، فَاسْوَدَّ، وَلَمْ يَحْتَرِقْ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ فِي الْأُولَى، الْجَوَازُ. وَالصَّحِيحُ فِي الْأَخِيرَةِ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الرَّمْلُ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ خَشِنًا لَا يَرْتَفِعُ مِنْهُ غُبَارٌ، لَمْ يَكْفِ ضَرْبُ الْيَدِ عَلَيْهِ. وَإِنِ ارْتَفَعَ، كَفَى. وَقِيلَ: قَوْلَانِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا كَوْنُهُ طَاهِرًا، فَلَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَا يَصِحُّ بِنَجِسٍ مُطْلَقًا. فَإِنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ كَلْبٍ تُرَابٌ، فَإِنْ عَلِمَ الْتِصَاقَهُ بِرُطُوبَةٍ عَلَيْهِ، مِنْ مَاءٍ، أَوْ عَرَقٍ، أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ. وَإِنْ عَلِمَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي اجْتِمَاعِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ. قُلْتُ: كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ، أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ بِجَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَلَيْسَ هَنَا ظَاهِرٌ يُعَارِضُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ خَالِصًا، فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَشُوبُ بِزَعْفَرَانٍ، وَدَقِيقٍ، وَنَحْوِهِمَا. وَإِنْ كَثُرَ الْمُخَالِطُ، لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا إِنْ قَلَّ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْكَثِيرُ: مَا يَظْهَرُ فِي التُّرَابِ. وَالْقَلِيلُ: مَا لَا يَظْهَرُ. وَلَمْ أَرَ لِغَيْرِهِ فِيهِ ضَبْطًا. وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ كَمَا فِي الْمَاءِ، لَكَانَ مَسْلَكًا. وَأَمَّا كَوْنُهُ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْمُسْتَعْمَلُ: مَا لَصَقَ بِالْعُضْوِ. وَكَذَا مَا تَنَاثَرَ عَنْهُ، عَلَى الْأَصَحِّ.

الرُّكْنُ الثَّانِي: قَصْدُ التُّرَابِ. فَلَا بُدَّ مِنْهُ. فَلَوْ وَقَفَ فِي مَهَبِّ رِيحٍ، فَسَفَتْ عَلَيْهِ تُرَابًا، فَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ بِنِيَّةِ التَّيَمُّمِ، إِنْ كَانَ وَقَفَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَإِنْ قَصَدَ تَحْصِيلَ التُّرَابِ، لَمْ يُجْزِئْهُ أَيْضًا، عَلَى الْأَصَحِّ، أَوِ الْأَظْهَرِ. وَلَوْ يَمَّمَهُ غَيْرُهُ. إِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَالْوُقُوفِ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ. وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ لِعُذْرٍ، كَقَطْعٍ، وَغَيْرِهِ، جَازَ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، جَازَ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: نَقْلُ التُّرَابِ الْمَمْسُوحِ بِهِ إِلَى الْعُضْوِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَجْهِ تُرَابٌ، فَرَدَّدَهُ عَلَيْهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَإِنْ نَقَلَهُ مِنْهُ إِلَى الْيَدِ، أَوْ مِنَ الْيَدِ إِلَيْهِ، أَوْ أَخَذَهُ مِنَ الْوَجْهِ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ سَفَتِ الرِّيحُ تُرَابًا عَلَى كُمِّهِ، فَمَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ، أَوْ أَخَذَ التُّرَابَ مِنَ الْهَوَاءِ بِإِثَارَةِ الرِّيحِ، جَازَ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ نَقَلَهُ مِنْ عُضْوٍ غَيْرِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ إِلَيْهَا جَازَ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ تَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ لِعُذْرٍ، جَازَ. وَكَذَا لِغَيْرِ عُذْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: النِّيَّةُ. فَلَا بُدَّ مِنْهَا، فَإِنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ، أَوْ نَوَى الْجُنُبُ رَفْعَ الْجَنَابَةِ، لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ مَعًا، فَيَسْتَبِيحُهُمَا، وَلَهُ التَّنَفُّلُ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ وَبَعْدَهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَا يَتَنَفَّلُ بَعْدَ الْوَقْتِ إِنْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ مُعَيَّنَةً. وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْفَرِيضَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَعَلَى هَذَا لَوْ نَوَى الْفَرْضَ مُطْلَقًا، صَلَّى أَيَّةَ فَرِيضَةٍ شَاءَ. وَلَوْ نَوَى مُعَيَّنَةً، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ غَيْرَهَا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ الْفَرِيضَةَ، سَوَاءً كَانَتْ إِحْدَى الْخَمْسِ، أَوْ مَنْذُورَةً وَلَا تَخْطُرُ لَهُ النَّافِلَةُ، فَتُبَاحُ الْفَرِيضَةُ. وَكَذَا النَّافِلَةُ قَبْلَهَا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبَعْدَهَا عَلَى

الْمَذْهَبِ فِي الْوَقْتِ، وَكَذَا بَعْدَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ تَيَمَّمَ لِفَائِتَتَيْنِ، أَوْ مَنْذُورَتَيْنِ، اسْتَبَاحَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَسْتَبِيحُ شَيْئًا. وَلَوْ تَيَمَّمَ لِفَائِتَةٍ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ. أَوْ لِفَائِتَةِ الظُّهْرِ، فَكَانَتِ الْعَصْرَ، لَمْ تَصِحَّ. قُلْتُ: فَلَوْ ظَنَّ عَلَيْهِ فَائِتَةً، وَلَمْ يَجْزِمْ بِهَا، فَتَيَمَّمَ لَهَا، ثُمَّ ذَكَرَهَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: لَا يَصِحُّ. وَصَحَّحَهُ الشَّاشِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ النَّفْلَ، فَلَا يَسْتَبِيحُ بِهِ الْفَرْضَ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: قَطْعًا. فَإِنْ أَبَحْنَاهُ، فَالنَّفْلُ أَوْلَى، وَإِلَّا اسْتَبَاحَ النَّفْلَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ نَوَى مَسَّ الْمُصْحَفِ، أَوْ سُجُودَ التِّلَاوَةِ، أَوِ الشُّكْرَ، أَوْ نَوَى الْجُنُبُ الِاعْتِكَافَ، أَوْ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَهُوَ كَنِيَّةِ النَّفْلِ، فَلَا يَسْتَبِيحُ الْفَرْضَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَيَسْتَبِيحُ مَا نَوَى عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الْآخَرِ يَسْتَبِيحُ الْجَمِيعَ. وَلَوْ تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَهُوَ كَنِيَّةِ النَّفْلِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ تَيَمَّمَتْ مُنْقَطِعَةُ الْحَيْضِ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَكُونُ كَالتَّيَمُّمِ لِلنَّافِلَةِ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ الصَّلَاةَ فَحَسْبُ، فَلَهُ حُكْمُ التَّيَمُّمِ لِلنَّفْلِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: هُوَ كَمَنْ نَوَى النَّفْلَ وَالْفَرْضَ مَعًا. أَمَّا إِذَا نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَوْ إِقَامَةَ التَّيَمُّمِ الْمَفْرُوضِ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَلَوْ نَوَى التَّيَمُّمَ وَحْدَهُ، لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَلَوْ تَيَمَّمَ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، ظَانًّا أَنَّ حَدَثَهُ أَصْغَرُ، فَكَانَ أَكْبَرَ، أَوْ عَكْسَهُ، صَحَّ قَطْعًا، لِأَنَّ مُوجِبَهُمَا وَاحِدٌ. وَلَوْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصَحِّ. ذَكَرُهُ الْمُتَوَلِّي. وَلَوْ أَجْنَبَ فِي سَفَرِهِ وَنَسِيَ، وَكَانَ يَتَيَمَّمُ وَقْتًا، وَيَتَوَضَّأُ وَقْتًا، أَعَادَ صَلَوَاتِ الْوُضُوءِ فَقَطْ، لِمَا ذَكَرْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَأَخَّرَ النِّيَّةُ عَنْ أَوَّلِ فِعْلٍ مَفْرُوضٍ فِي التَّيَمُّمِ.

وَأَوَّلُ أَفْعَالِهِ الْمَفْرُوضَةِ نَقْلُ التُّرَابِ. وَلَوْ قَارَنَتْهُ وَعَزَبَتْ قَبْلَ مَسْحِ شَيْءٍ مِنَ الْوَجْهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ تَقَدَّمَتْ عَلَى أَوَّلِ فِعْلٍ مَفْرُوضٍ، فَهُوَ كَمِثْلِهِ فِي الْوُضُوءِ. الرُّكْنُ الْخَامِسُ: مَسْحُ الْوَجْهِ. وَيَجِبُ اسْتِيعَابُهُ. وَلَا يَجِبُ إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى مَنَابِتِ الشُّعُورِ الَّتِي يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَيَجِبُ إِيصَالُهُ إِلَى ظَاهِرِ مَا اسْتَرْسَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، كَمَا فِي الْوُضُوءِ. الرُّكْنُ السَّادِسُ: مَسْحُ الْيَدَيْنِ. وَيَجِبُ اسْتِيعَابُهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا هَذَا، وَالْقَدِيمُ يَمْسَحُهُمَا إِلَى الْكُوعَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَكَرَّرَ لَفْظُ الضَّرْبَتَيْنِ فِي الْإِخْبَارِ، فَجَرَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ عَلَى الظَّاهِرِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ النَّقْصُ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ، وَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ. وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ آخَرُونَ: أَنَّ الْوَاجِبَ إِيصَالُ التُّرَابِ، سَوَاءٌ حَصَلَ بِضَرْبَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ، وَلَا يَنْقُصُ. وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ. ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَتَانِ لِلْيَدَيْنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: وُجُوبُ الضَّرْبَتَيْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ. وَصُورَةُ الِاقْتِصَارِ عَلَى ضَرْبَةٍ بِخِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَصُورَةُ الضَّرْبِ لَيْسَتْ مُتَعَيِّنَةً. فَلَوْ وَضَعَ الْيَدَ عَلَى تُرَابٍ نَاعِمٍ وَعَلَقَ بِهَا غُبَارٌ، كَفَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِأَعْلَى الْوَجْهِ. وَأَمَّا الْيَدَانِ، فَيَضَعُ أَصَابِعَ الْيُسْرَى سِوَى الْإِبْهَامِ، عَلَى ظُهُورِ أَصَابِعِ الْيُمْنَى سِوَى الْإِبْهَامِ، بِحَيْثُ لَا تَخْرُجُ أَنَامِلُ الْيُمْنَى عَنْ مُسَبِّحَةِ الْيُسْرَى، وَيُمِرُّهَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُمْنَى، فَإِذَا بَلَغَتِ الْكُوعَ، ضَمَّ أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ إِلَى حَرْفِ الذِّرَاعِ. وَيُمِرُّهَا إِلَى الْمِرْفَقِ، ثُمَّ يُدِيرُ كَفَّهُ إِلَى بَطْنِ الذِّرَاعِ فَيُمِرُّهَا عَلَيْهِ وَإِبْهَامُهُ مَرْفُوعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَ الْكُوعَ، مَسَحَ بِبَطْنِ إِبْهَامِ الْيُسْرَى ظَهَرَ إِبْهَامِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَضَعُ أَصَابِعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَيَمْسَحُهَا كَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، لَكِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ.

وَأَمَّا تَفْرِيقُ الْأَصَابِعِ، فَيَفْعَلُهُ فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا الْأُولَى، فَالْأَصَحُّ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَهُ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّفْرِيقُ فِيهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُسْتَحَبُّ. ثُمَّ قَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ: هُوَ جَائِزٌ، حَتَّى لَوْ لَمْ يُفَرِّقْ فِي الثَّانِيَةِ، كَفَاهُ التَّفْرِيقُ فِي الْأُولَى بَيْنَ الْأَصَابِعِ. وَقَالَ قَلِيلُونَ، مِنْهُمُ الْقَفَّالُ: لَا يَجُوزُ: وَلَوْ فَعَلَهُ، لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ. ثُمَّ إِذَا فَرَّقَ فِي الضَّرْبَتَيْنِ وَجَوَّزْنَاهُ، أَوْ فِي الثَّانِيَةِ وَحْدَهَا، يُسْتَحَبُّ تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ مَسْحِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَوْ لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِمَا، وَفَرَّقَ فِي الْأُولَى وَحْدَهَا، وَجَبَ التَّخْلِيلُ، ثُمَّ يَمْسَحُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِالْأُخْرَى. وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَوَاجِبٌ عَلَى الْآخَرِ. وَالْوَاجِبُ إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ كَيْفَ كَانَ، سَوَاءٌ حَصَلَ بِيَدٍ، أَوْ خِرْقَةٍ، أَوْ خَشَبَةٍ. وَلَا يُشْتَرَطُ إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ كَانَ يَمْسَحُ بِيَدِهِ فَرَفَعَهَا فِي أَثْنَاءِ الْعُضْوِ، ثُمَّ رَدَّهَا، جَازَ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى أَخْذِ تُرَابٍ جَدِيدٍ فِي الْأَصَحِّ. الرُّكْنُ السَّابِعُ: التَّرْتِيبُ. فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْوَجْهِ عَلَى الْيَدَيْنِ. فَلَوْ تَرَكَهُ نَاسِيًا لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا فِي الْوُضُوءِ. وَلَا يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ فِي أَخْذِ التُّرَابِ لِلْعُضْوَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَلَوْ ضَرَبَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَمْكَنَهُ مَسْحُ الْوَجْهِ بِيَمِينِهِ، وَيَمِينُهُ بِيَسَارِهِ، جَازَ. فَرْعٌ لَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ أَخْذِ التُّرَابِ قَبْلَ مَسْحِ وَجْهِهِ، بَطَلَ أَخْذُهُ، وَعَلَيْهِ النَّقْلُ ثَانِيَةً. وَلَوْ يَمَّمَهُ غَيْرُهُ حَيْثُ يَجُوزُ، فَأَحْدَثَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ أَخْذِ التُّرَابِ قَبْلَ الْمَسْحِ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يَضُرُّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ الْأَخْذُ بِحَدَثِ الْآمِرِ. وَلَوْ ضَرَبَ

يَدَهُ عَلَى بَشَرَةِ امْرَأَةٍ يَنْقُضُ وَعَلَيْهَا تُرَابٌ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَمْنَعُ الْتِقَاءَ الْبَشَرَتَيْنِ صَحَّ تَيَمُّمُهُ. وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ، لَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ: يَصِحُّ أَخْذُهُ لِلْوَجْهِ. فَإِنْ ضَرَبَ بَعْدَهُ لِلْيَدِ، بَطَلَ. وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ. فَرْعٌ لِلتَّيَمُّمِ سُنَنٌ سَبَقَ بَعْضُهَا فِي كَيْفِيَّةِ مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَبَقِيَ مِنْهَا التَّسْمِيَةُ، وَتَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَإِمْرَارُ التُّرَابِ عَلَى الْعَضُدِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْمُوَالَاةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَتَخْفِيفُ التُّرَابِ الْمَأْخُوذِ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، وَأَنْ لَا يُكَرِّرَ الْمَسْحَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَنْ لَا يَرْفَعَ الْيَدَ عَنِ الْعُضْوِ الْمَمْسُوحِ حَتَّى يَتِمَّ مَسْحُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: هُوَ وَاجِبٌ. وَقَدْ سَبَقَ. وَأَنْ يَنْزِعَ خَاتَمَهُ فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى. قُلْتُ: وَأَمَّا الضَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ، فَيَجِبُ نَزْعُهُ فِيهَا، وَلَا يَكْفِي تَحْرِيكُهُ، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ، لِأَنَّ التُّرَابَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ. ذَكَرُهُ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) وَغَيْرُهُ. وَمِنْ مَنْدُوبَاتِهِ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ. وَيَنْبَغِي اسْتِحْبَابُ الشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَهُ، كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ. وَلَوْ كَانَتْ يَدُهُ نَجِسَةً، وَضَرَبَ بِهَا عَلَى تُرَابٍ وَمَسَحَ وَجْهَهُ، جَازَ فِي الْأَصَحِّ. وَلَا يَجُوزُ مَسْحُ النَّجِسَةِ قَطْعًا، كَمَا لَا يَصِحُّ غَسْلُهَا عَنِ الْوُضُوءِ مَعَ بَقَاءِ النَّجَاسَةِ. وَلَوْ تَيَمَّمَ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، لَمْ يَبْطُلْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ كَرِدَّةِ الْمُتَيَمِّمِ. وَلَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ هِيَ ثَلَاثَةٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَبْطُلُ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ الْوُضُوءُ. ثُمَّ هُوَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، كَتَيَمُّمِ الْمَرِيضِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَ عَدَمِهِ، أَوِ الْخَوْفِ فِي تَحْصِيلِهِ، أَوِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا. فَالْأَوَّلُ: لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ رُؤْيَةُ الْمَاءِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَيَبْطُلُ بِتَوَهُّمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا إِذَا رَأَى سَرَابًا فَتَوَهَّمَهُ مَاءً، أَوْ أَطْبَقَتْ بِقُرْبِهِ غَمَامَةٌ، أَوْ طَلَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ مَاءٌ، هَذَا إِذَا لَمْ يُقَارِنِ التَّوَهُّمَ مَانِعٌ مِنَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ قَارَنَهُ، لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ، كَمَا إِذَا رَأَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعَطَشِ، أَوْ دُونَهُ حَائِلٌ، مِنْ سَبُعٍ، أَوْ عَدُوٍّ، أَوْ قَعْرِ بِئْرٍ يَعْلَمُ حَالَ رُؤْيَتِهِ تَعَذُّرَ تَحْصِيلِهِ، أَوْ سَمِعَ إِنْسَانًا يَقُولُ: أَوْدَعَنِي فُلَانٌ مَاءً وَهُوَ يَعْلَمُ غَيْبَةَ فُلَانٍ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا. أَمَّا إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُغْنِيَةً عَنِ الْقَضَاءِ، كَصَلَاةِ الْحَاضِرِ بِالتَّيَمُّمِ، بَطَلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: يُتِمُّهَا وَيُعِيدُ. وَإِنْ كَانَتْ مُغْنِيَةً كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ، فَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَلَا تَيَمُّمُهُ. فَلَوْ نَوَى فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ الْإِقَامَةَ بَعْدَ وِجْدَانِ الْمَاءِ، أَوْ نَوَى الْقَصْرَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ، ثُمَّ نَوَى الِائْتِمَامَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا. وَحَيْثُ لَمْ تَبْطُلْ وَكَانَتْ فَرِيضَةً، هَلْ يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهَا لِيَتَوَضَّأَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الْخُرُوجُ أَفْضَلُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ الْخُرُوجُ، لَكِنَّ الِاسْتِمْرَارَ أَفْضَلُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ قَلَبَهَا نَفْلًا وَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، فَهُوَ أَفْضَلُ. وَإِنْ أَرَادَ إِبْطَالَهَا مُطْلَقًا، فَالِاسْتِمْرَارُ أَفْضَلُ. وَالرَّابِعُ: يَحْرُمُ قَطْعُهَا مُطْلَقًا.

وَالْخَامِسُ: إِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ، حَرُمَ الْخُرُوجُ، وَإِلَّا لَمْ يَحْرُمْ. قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَطَرَدَهُ فِي كُلِّ مُصَلٍّ، سَوَاءً الْمُتَيَمِّمُ وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ اخْتِيَارٌ لَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ بِهِ أَحَدٌ، وَاعْتَرَفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِهَذَا، وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، وَخِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَقَدْ نَصَّ فِي (الْأُمِّ) وَنَقَلَهُ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَالْغَزَالِيُّ فِي (الْبَسِيطِ) عَنِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِالْفَرِيضَةِ فِي أَوْلِ وَقْتِهَا، قَطَعَهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ نَقْلَهُ، وَدَلَائِلَهُ فِي شَرْحِ (الْمُهَذَّبِ) . . . . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا أَتَمَّ الْفَرِيضَةَ بِالتَّيَمُّمِ، وَبَقِيَ الْمَاءُ الَّذِي رَآهُ إِلَى أَنْ سَلَّمَ، بِطَلَ تَيَمُّمُهُ، فَلَا يَسْتَبِيحُ بِهِ نَافِلَةً، حَتَّى حَكَى الرُّويَانِيُّ عَنْ وَالِدِهِ: أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ. قُلْتُ: وَفِيمَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ الثَّانِيَةَ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إِذَا فَنِيَ الْمَاءُ قَبْلَ سَلَامِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى يَسْتَبِيحَ النَّافِلَةَ أَيْضًا، وَإِنْ عَلِمَ بِفَنَائِهِ قَبْلَ سَلَامِهِ، فَفِي بُطْلَانِ تَيَمُّمِهِ وَمَنْعِهِ النَّافِلَةَ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: مَنْعُهُ النَّافِلَةَ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ. . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إِذَا رَأَى الْمَاءَ وَهُوَ فِي نَافِلَةٍ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: إِنْ كَانَ نَوَى عَدَدًا، أَتَمَّهُ وَلَمْ يَزِدْ، وَإِلَّا اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ. وَالثَّانِي: لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ نَوَاهُ. وَالثَّالِثُ: لَهُ أَنْ يَزِيدَ مَا شَاءَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ. وَالرَّابِعُ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. الْحُكْمُ الثَّانِي - فِيمَا يُؤَدَّى بِالتَّيَمُّمِ - لَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ إِلَّا فَرِيضَةً وَاحِدَةً، وَسَوَاءً كَانَتِ الْفَرِيضَتَانِ مُتَّفِقَتَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَتَيْنِ، كَصَلَاتَيْنِ، وَطَوَافَيْنِ، أَوْ صَلَاةٍ وَطَوَافٍ. أَوْ مُتَّفِقَيْنِ، كَظَهْرَيْنِ، أَوْ مَكْتُوبَةٍ وَمَنْذُورَةٍ، أَوْ مَنْذُورَتَيْنِ،

فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِتَيَمُّمٍ. وَفِي قَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَجُوزُ فِي مَنْذُورَتَيْنِ، وَفِي مَنْذُورَةٍ وَمَكْتُوبَةٍ، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يَجُوزُ فِي فَوَائِتَ وَفَائِتَةٍ وَمُؤَدَّاةٍ. وَالصَّبِيُّ كَالْبَالِغِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. الثَّانِي: يَجْمَعُ بَيْنَ مَكْتُوبَتَيْنِ بِتَيَمُّمٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بِتَيَمُّمٍ بَيْنَ فَرِيضَةٍ وَنَوَافِلَ. وَأَمَّا رَكْعَتَا الطَّوَافِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّهُمَا سُنَّةٌ، فَلَهُمَا حُكْمُ النَّوَافِلِ. وَإِنْ قُلْنَا: وَاجِبَتَانِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَكَذَا لَا يَجْمَعُ بَيْنَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَصَلَاتِهَا عَلَى الْأَصَحِّ. إِذَا شَرَطْنَا الطَّهَارَةَ فِي الْخُطْبَةِ. وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ طُرُقٍ. أَحَدُهَا: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَهَا حُكْمُ النَّافِلَةِ مُطْلَقًا، فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَوَاتِ الْجَنَائِزِ، وَبَيْنَ جَنَائِزَ وَمَكْتُوبَةٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ. وَيَجُوزُ صَلَاتُهَا قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَيَجُوزُ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَالثَّانِي: لَهَا حُكْمُ الْفَرَائِضِ. فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: إِنْ تَعَيَّنَتْ، فَكَالْفَرَائِضِ، وَإِلَّا فَكَالنَّوَافِلِ. وَالثَّالِثُ: لَهَا حُكْمُ النَّوَافِلِ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقُعُودُ فِيهَا، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بِتَيَمُّمٍ بِكُلِّ حَالٍ. وَلَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَتَيْنِ صَلَاةً وَاحِدَةً، فَقِيلَ: يَجُوزُ قَطْعًا، وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ. فَرْعٌ إِذَا نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صَلَوَاتٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً، كَظُهْرٍ مِنْ أُسْبُوعٍ، لَزِمَهُ ظُهْرٌ وَاحِدَةٌ بِتَيَمُّمٍ. وَإِنْ نَسْيَ صَلَاةً مِنَ الْخَمْسِ، لَزِمَهُ الْخَمْسُ، وَكَفَاهُ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ لِلْجَمِيعِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَجِبُ خَمْسَةُ تَيَمُّمَاتٍ. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: الْخِلَافُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ تَعْيِينَ الْفَرِيضَةِ الَّتِي تَيَمَّمَ لَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، لَزِمَهُ خَمْسُ تَيَمُّمَاتٍ قَطْعًا. وَيُحْتَمَلُ خِلَافُ مَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ. قُلْتُ: هَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، قَدْ حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ الْمَرْزُبَانِ،

وَاخْتَارَ الدَّارِمِيُّ طَرْدَ الْخِلَافِ وَإِنْ أَوْجَبْنَا التَّعْيِينَ. وَهَذَا أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ نَسِيَ صَلَاتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ مِنَ الْخَمْسِ، لَزِمَهُ الْخَمْسُ. فَإِنْ قُلْنَا: فِي الْوَاحِدَةِ يَلْزَمُهُ خَمْسُ تَيَمُّمَاتٍ. فَكَذَا هَاهُنَا. وَإِنْ قُلْنَا يَكْفِيهِ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْخَمْسِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يَقْتَصِرُ عَلَى تَيَمُّمَيْنِ، وَيَزِيدُ فِي الصَّلَوَاتِ، فَيُصَلِّي بِالْأَوَّلِ الصُّبْحَ وَالظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ. وَبِالثَّانِي: الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: وَهُوَ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ عَمِلَ بِقَوْلِ ابْنِ الْقَاصِّ، وَإِنْ شَاءَ [عَمِلَ] بِقَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ. فَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَاصِّ فِي «التَّلْخِيصِ» : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ تَيَمُّمَيْنِ، وَيُصَلِّي بِكُلِّ وَاحِدٍ الْخَمْسَ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَالْمُسْتَحْسَنُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ: طَرِيقَةُ ابْنِ الْحَدَّادِ. وَعَلَيْهَا يُفَرِّعُونَ مَا زَادَ مِنَ الْمَنْسِيِّ. وَلَهَا ضَابِطٌ، وَشَرْطٌ. فَضَابِطُهَا: أَنْ تَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الْمَنْسِيِّ فِيهِ عَدَدًا لَا يَنْقُصُ عَمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَنْسِيِّ فِيهِ بَعْدَ إِسْقَاطِ الْمَنْسِيِّ، وَيَنْقَسِمُ الْمَجْمُوعُ صَحِيحًا عَلَى الْمَنْسِيِّ. مِثَالُهُ: مَسْأَلَتُنَا، الْمَنْسِيُّ صَلَاتَانِ، وَالْمَنْسِيُّ فِيهِ خَمْسٌ، تَزِيدُهُ ثَلَاثَةً، لِأَنَّهُ لَا تَنْقُصُ عَمَّا يَبْقَى مِنَ الْخَمْسِ بَعْدَ إِسْقَاطِ الِاثْنَيْنِ بَلْ تُسَاوِيهِ. وَالْمَجْمُوعُ: وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، يَنْقَسِمُ عَلَى الِاثْنَيْنِ صَحِيحًا. وَلَوْ صَلَّى عَشْرًا كَمَا قَالَهُ الْوَجْهُ الشَّاذُّ، أَجْزَأَهُ، وَكَانَ قَدْ زَادَ خَيْرًا لِدُخُولِهِ فِي الضَّابِطِ. وَأَمَّا شَرْطُهَا: فَإِنْ يَبْتَدِئْ مِنَ الْمَنْسِيِّ فِيهِ بِأَيَّةِ صَلَاةٍ شَاءَ، وَيُصَلِّي بِكُلِّ تَيَمُّمٍ مَا تَقْتَضِيهِ الْقِسْمَةُ، وَيَتْرُكُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مَا ابْتَدَأَ بِهِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَأْتِي فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَوَاتِ. وَلَوْ نَسِيَ ثَلَاثَ صَلَوَاتٍ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَعَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْقَاصِّ، يُصَلِّي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخَمْسِ بِتَيَمُّمٍ، وَعَلَى الْوَجْهِ الشَّاذِّ: يَتَيَمَّمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يُصَلِّي بِكُلِّ وَاحِدٍ الْخَمْسَ، وَعَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْحَدَّادِ، يَقْتَصِرُ عَلَى ثَلَاثِ تَيَمُّمَاتٍ، وَيُصَلِّي بِالْأَوَّلِ: الصُّبْحَ وَالظُّهْرَ وَالْعَصْرَ. وَبِالثَّانِي: الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ

فصل

وَالْمَغْرِبَ. وَبِالثَّالِثِ: الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. وَلَهُ مُخَالَفَةُ هَذَا التَّرْتِيبِ إِذَا وَفَّى بِالشَّرْطِ. أَمَّا إِذَا نَسِيَ صَلَاتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخَمْسِ مَرَّتَيْنِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ: يَجِبُ لِكُلِّ صَلَاةٍ تَيَمُّمٌ، فَيَتَيَمَّمُ عَشْرَ تَيَمُّمَاتٍ. وَعَلَى الصَّحِيحِ: يَكْفِيهِ تَيَمُّمَانِ يُصَلِّي بِكُلِّ وَاحِدٍ الْخَمْسَ، وَلَا يَكْتَفِي بِثَمَانِ صَلَوَاتٍ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْمَنْسِيَّيْنِ، صُبْحَيْنِ أَوْ عِشَاءَيْنِ، وَمَا صَلَّاهُمَا إِلَّا مَرَّةً مَرَّةً. أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ، هَلِ الْفَائِتَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، أَمْ مُتَّفِقَتَانِ؟ فَيَلْزَمُهُ الْأَحْوَطُ، وَهُوَ أَنَّهُمَا مُتَّفِقَتَانِ. أَمَّا إِذَا تَرَكَ صَلَاةً مَفْرُوضَةً، أَوْ طَوَافًا مَفْرُوضًا، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ، فَيَأْتِي بِطَوَافٍ، وَبِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الضَّعِيفِ: بِسِتِّ تَيَمُّمَاتٍ، وَلَوْ صَلَّى مُنْفَرِدًا بِتَيَمُّمٍ، ثُمَّ أَرَادَ إِعَادَتَهَا مَعَ جَمَاعَةٍ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ، جَازَ إِنْ قُلْنَا: الثَّانِيَةُ سُنَّةٌ. وَكَذَا إِنْ قُلْنَا: الْفَرْضُ إِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، كَالْمَنْسِيَّةِ. وَلَوْ صَلَّى الْفَرْضَ بِالتَّيَمُّمِ عَلَى وَجْهٍ، يَجِبُ مَعَهُ الْقَضَاءُ، وَأَرَادَ الْقَضَاءَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْفَرْضُ الْأَوَّلُ جَازَ. وَإِنْ قُلْنَا: الثَّانِي أَوْ كِلَاهُمَا فَرْضٌ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ قُلْنَا: أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي إِذَا قُلْنَا: الثَّانِيَةُ فَرْضٌ أَنْ يَجُوزَ، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ فَرْضٍ وَنَافِلَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِفَرِيضَةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَوْ فَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ لِلْفَرْضِ، وَلَا لِلنَّفْلِ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَكُونُ وَقْتُ الْأُولَى وَقْتًا لِلثَّانِيَةِ. وَلَوْ تَيَمَّمَ لِلظُّهْرِ فَصَلَّاهَا، ثُمَّ تَيَمَّمَ لِلْعَصْرِ لِيَجْمَعَهَا، فَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ فِعْلِهَا، بَطَلَ الْجَمْعُ وَالتَّيَمُّمُ. وَوَقْتُ الْفَائِتَةِ

بِتَذَكُّرِهَا. وَلَوْ تَيَمَّمَ لِمُؤَدَّاةٍ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَصَلَّاهَا بِهِ فِي آخِرِهِ، جَازَ قَطْعًا. نَصَّ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ فِي (الْحَاوِي) وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، كَالْمُسْتَحَاضَةِ. وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَيَمَّمَ لِفَائِتَةٍ ضَحْوَةً، فَلَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى دَخَلَتِ الظُّهْرُ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الظُّهْرَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِلظُّهْرِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً، قِيلَ: يَسْتَبِيحُهَا بِهِ قَطْعًا. وَقِيلَ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّ تَعْيِينَ الْفَرِيضَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. فَإِنْ شَرَطْنَاهُ، لَمْ يَصِحَّ غَيْرُ مَا نَوَاهُ. أَمَّا النَّوَافِلُ: فَمُؤَقَّتَةٌ وَغَيْرُهَا. أَمَّا الْمُؤَقَّتَةُ: فَكَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَصَلَاةِ الْعِيدِ، وَالْكُسُوفِ. وَأَوْقَاتُهَا مَعْرُوفَةٌ. وَوَقْتُ الِاسْتِسْقَاءِ، الِاجْتِمَاعُ لَهَا فِي الصَّحْرَاءِ. وَوَقْتُ الْجِنَازَةِ: انْقِضَاءُ الْغُسْلِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْمَوْتُ، عَلَى الثَّانِي، فَإِنْ تَيَمَّمَ لِمُؤَقَّتَةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَإِنْ تَيَمَّمَ لَهَا فِي وَقْتِهَا، اسْتَبَاحَهَا، وَفِي اسْتِبَاحَةِ الْفَرْضِ، الْقَوْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ. فَإِنِ اسْتَبَاحَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ تَيَمُّمُهُ فِي وَقْتِ الْفَرِيضَةِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ لِفَائِتَةِ ضَحْوَةٍ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤَقَّتَةِ، فَيَتَيَمَّمُ لَهَا كُلَّ وَقْتٍ، إِلَّا وَقْتَ الْكَرَاهَةِ، فَلَا يَصِحُّ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ لِلنَّافِلَةِ وَحْدَهَا صَحِيحٌ. وَفِيهِ الْوَجْهُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي. قُلْتُ: وَلَوْ تَيَمَّمَ لِنَافِلَةٍ لَا سَبَبَ لَهَا قَبْلَ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، لَمْ تَبْطُلْ بِدُخُولِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، بَلْ يَسْتَبِيحُهَا بَعْدَهُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ أَخَذَ التُّرَابَ قَبْلَ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ مَسَحَ الْوَجْهَ فِي الْوَقْتِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ أَخْذَ التُّرَابِ مِنْ وَاجِبَاتِ

التَّيَمُّمِ، فَلَا يَصِحُّ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَلَوْ تَيَمَّمَ شَاكًّا فِي الْوَقْتِ، وَصَادَفَهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَكَذَا لَوْ طَلَبَ شَاكًّا فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، لَمْ يَصِحَّ الطَّلَبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: قَضَاءُ الصَّلَاةِ لَعُذْرٍ ضَرْبَانِ: عَامٌّ، وَنَادِرٌ. فَالْعَامُّ: لَا قَضَاءَ مَعَهُ، كَصَلَاةِ مُسَافِرٍ مُحْدِثٍ، أَوْ جُنُبٍ بِالتَّيَمُّمِ - لِعَدَمِ مَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ. وَفِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ أَوْجُهٌ. الْأَصَحُّ: يَجِبُ التَّيَمُّمُ وَالْقَضَاءُ. وَالثَّانِي: يَتَيَمَّمُ وَلَا يَقْضِي. وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ. وَقَصِيرُ السَّفَرِ كَطَوِيلِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مَعَهُ قَوْلَانِ - وَكَصَلَاةِ الْمَرِيضِ بِالتَّيَمُّمِ، أَوْ قَاعِدًا، أَوْ مُضْطَجِعًا، وَالصَّلَاةُ بِالْإِيمَاءِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ. وَأَمَّا النَّادِرُ: فَقِسْمَانِ. قِسْمٌ يَدُومُ غَالِبًا، وَقِسْمٌ لَا يَدُومُ. فَمَا يَدُومُ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ، كَالِاسْتِحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ، وَالْمَذْيِ، وَالْجُرْحِ السَّائِلِ، وَاسْتِرْخَاءِ الْمَقْعَدِ، وَدَوَامِ خُرُوجِ الْحَدَثِ، سَوَاءً كَانَ لَهُ بَدَلٌ، أَمْ لَا. وَمَا لَا يَدُومُ نَوْعَانِ. نَوْعٌ مَعَهُ بَدَلٌ، وَنَوْعٌ لَا بَدَلَ مَعَهُ، فَمَا لَا بَدَلَ مَعَهُ يُوجِبُ الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ صُوَرٌ. مِنْهَا: مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً، وَلَا تُرَابًا. وَفِيهِ أَقْوَالٌ. الْمَشْهُورُ: وُجُوبُ الصَّلَاةِ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ. وَالثَّانِي: تَحْرُمُ الصَّلَاةُ. وَالثَّالِثُ: تُسْتَحَبُّ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى هَذَيْنِ. وَالرَّابِعُ: تَجِبُ الصَّلَاةُ بِلَا قَضَاءٍ، وَإِذَا قُلْنَا: يُصَلِّي، لَا يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ، وَلَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَلَا وَطْءُ الْحَائِضِ، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى مَاءٍ أَوْ تُرَابٍ فِي الصَّلَاةِ، بَطَلَتْ. وَمِنْهَا: الْمَرْبُوطُ عَلَى خَشَبَةٍ، وَمَنْ شُدَّ وَثَاقُهُ بِالْأَرْضِ، يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ وَيُعِيدُ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ. إِنْ صَلَّى مُسْتَقْبَلًا الْقِبْلَةَ، لَمْ يُعِدْ، وَإِلَّا عَادَ. قَالَ: وَكَذَا الْغَرِيقُ يُصَلِّي عَلَى خَشَبَةٍ بِالْإِيمَاءِ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ نَحْوَهُ. وَمِنْهَا: مَنْ عَلَى جُرْحِهِ نَجَاسَةٌ يَخَافُ التَّلَفَ مِنْ غَسْلِهَا، أَوْ حُبِسَ فِي

مَوْضِعٍ وَصَلَّى فِيهِ عَلَى النَّجَاسَةِ لِلضَّرُورَةِ، فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي الْقَدِيمِ: لَا يَجِبُ إِعَادَةُ صَلَاةٍ وَجَبَتْ فِي الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلَّةً. وَأَمَّا مَا مَعَهُ بَدَلٌ فَصُوَرٌ: مِنْهَا: الْمُقِيمُ إِذَا تَيَمَّمَ لِعَدَمِ الْمَاءِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، لَإِنَّ فَقْدَ الْمَاءِ فِي الْإِقَامَةِ نَادِرٌ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُسَافِرِ، لَإِنَّ فَقْدَ الْمَاءِ فِيهِ يَعُمُّ. هَذَا هُوَ الضَّابِطُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِالسَّفَرِ، أَوِ الْإِقَامَةِ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ فِي مَفَازَةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ يُعْدَمُ فِيهِ الْمَاءُ غَالِبًا، وَطَالَتْ إِقَامَتُهُ وَصَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ، فَلَا إِعَادَةَ. وَلَوْ دَخَلَ الْمُسَافِرُ فِي طَرِيقِهِ قَرْيَةً، وَعُدِمَ الْمَاءُ وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ السَّفَرِ بَاقِيًا. وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْحَابِ: الْمُقِيمُ يَقْضِي، وَالْمُسَافِرُ لَا يَقْضِي، فَمُرَادُهُمْ: الْغَالِبُ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَحَقِيقَتُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَمِنْهَا: التَّيَمُّمُ لِعُذْرٍ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعُضْوِ سَاتِرٌ مِنْ جَبِيرَةٍ، أَوْ لُصُوقٍ، فَلَا إِعَادَةَ. وَإِنْ كَانَ سَاتِرٌ مِنْ جَبِيرَةٍ وَنَحْوِهَا، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ إِنْ وَضَعَهَا عَلَى طُهْرٍ، فَلَا إِعَادَةَ، وَإِلَّا وَجَبَتْ. وَالثَّانِي: لَا يُعِيدُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: يُعِيدُ. وَقَالَ ابْنُ الْوَكِيلِ مِنْ أَصْحَابِنَا: الْخِلَافُ إِذَا لَمْ يَتَيَمَّمْ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: يَجِبُ التَّيَمُّمُ، فَتَيَمَّمَ، فَلَا إِعَادَةَ قَطْعًا. وَالْمَذْهَبُ طَرْدُ الْخِلَافِ مُطْلَقًا. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْجَبِيرَةُ عَلَى مَحَلِّ التَّيَمُّمِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ، أَعَادَ بِلَا خِلَافٍ. وَمِنْهَا: التَّيَمُّمُ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِعَادَةَ. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ عَلَى الْحَاضِرِ دُونَ الْمُسَافِرِ. أَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ وَوَجْهٌ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يُصَلِّي قَائِمًا وَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَالثَّانِي: يُصَلِّي قَاعِدًا. وَهَلْ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ أَمْ يُومِئُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ حُبِسَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ، لَوْ سَجَدَ لَسَجَدَ عَلَى نَجَاسَةٍ. وَفِيمَا لَوْ

وَجَدَ ثَوْبًا طَاهِرًا لَوْ فَرَشَهُ عَلَى النَّجَاسَةِ، لَبَقِيَ عَارِيًا. وَفِيمَا لَوْ وَجَدَ الْعَارِي ثَوْبًا نَجِسًا، هَلْ يُصَلِّي فِيهِ، أَمْ عَارِيًا؟ ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: الْعُرْيَانُ لَا يُتِمُّ الْأَرْكَانَ، أَعَادَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ خِلَافُ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا. وَإِنْ قُلْنَا: يُتِمُّهَا، فَلَا إِعَادَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ. سَوَاءً كَانَ فِي السَّفَرِ أَوِ الْحَضَرِ مِمَّنْ يَعْتَادُ الْعُرْيَ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَعْتَادُ الْعُرْيَ. وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يَعْتَادُ الْعُرْيَ. قُلْتُ: وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَرِيضُ مَنْ يُحَوِّلُهُ لِلْقِبْلَةِ، لَزِمَهُ الصَّلَاةُ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَهُوَ شَاذٌّ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: ثُمَّ مَا حَكَمْنَا مِنَ الْأَعْذَارِ: بِأَنَّهُ دَائِمٌ، وَأَسْقَطْنَا بِهِ الْفَرْضَ فَزَالَ بِسُرْعَةٍ، فَهُوَ كَدَائِمٍ، وَمَا حَكَمْنَا أَنَّهُ لَا يَدُومُ فَدَامَ، فَلَهُ حُكْمُ مَا لَمْ يَدُمْ إِلْحَاقًا لِشَاذِّ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ. ثُمَّ كُلُّ صَلَاةٍ أَوْجَبْنَاهَا فِي الْوَقْتِ، وَأَوْجَبْنَا إِعَادَتَهَا، فَهَلِ الْفَرْضُ الْأُولَى، أَمِ الثَّانِيَةُ، أَمْ كِلَاهُمَا، أَمْ إِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الثَّانِيَةُ. وَعِنْدَ الْقَفَّالِ وَالْفُورَانِيِّ وَابْنِ الصَّبَّاغِ: كِلَاهُمَا، وَهُوَ أَفْقَهُ، فَإِنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهِمَا - وَهَذِهِ مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ لَا يُسْتَحَبُّ (فِيهَا) تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْمَذْهَبِ - وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَفِي الْمُسْتَظْهَرِيِّ: وَجْهَانِ. وَيُتَصَوَّرُ فِي مَرِيضٍ وَجَرِيحٍ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ تَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، إِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَرْضًا ثُمَّ أَرَادَ نَفْلًا، وَيُتَصَوَّرُ فِي مُتَيَمِّمٍ لِعَدَمِ الْمَاءِ إِذَا صَلَّى فَرْضًا وَلَمْ يُفَارِقْ مَوْضِعَهُ، وَلَمْ نُوجِبْ طَلَبًا لِتَحَقُّقِهِ الْعَدَمَ أَوْ لَمْ نُوجِبْهُ ثَانِيًا. وَحُكْمُ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ كَهُوَ فِي الْوُضُوءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، اسْتُحِبَّ مَسْحُ الْعَضُدِ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِرْفَقٌ، اسْتَطْهَرَ حَتَّى يَعْلَمَ. وَلَوْ وَجَدَ الْمُسَافِرُ عَلَى الطَّرِيقِ خَابِيَةَ مَاءٍ مُسَبَّلَةٍ، تَيَمَّمَ، وَلَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُوضَعُ لِلشُّرْبِ. ذَكَرُهُ الْمُتَوَلِّي، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ. وَلَوْ مُنِعَ مِنَ الْوُضُوءِ إِلَّا مَنْكُوسًا، فَهَلْ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ، أَمْ عَلَيْهِ غَسْلُ الْوَجْهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ، حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ وَالِدِهِ.

باب

قَالَ: وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ إِذَا امْتَثَلَ الْمَأْمُورُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَفِي الْقَضَاءِ نَظَرٌ، لِنُدُورِهِ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ مَا ذَكَرَهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ غُصِبَ مَاؤُهُ وَلَا قَضَاءَ. قَالَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) وَ (الْبَحْرِ) : لَوْ مَاتَ رَجُلٌ مَعَهُ مَاءٌ لِنَفْسِهِ لَا يَكْفِيهِ لِبَدَنِهِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا اسْتِعْمَالَ النَّاقِصِ، لَزِمَ رُفْقَتَهُ غُسْلُهُ بِهِ، وَإِلَّا يَمَّمُوهُ. فَإِنْ غَسَّلُوهُ بِهِ، ضَمِنُوا قِيمَتَهُ لِوَارِثِهِ. وَلَوْ تَيَمَّمَ لِمَرَضٍ فَبَرُأَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَكَرُؤْيَةِ الْمَاءِ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ. وَلَوْ تَيَمَّمَ عَنْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ، ثُمَّ أَحْدَثَ، حُرُمَ مَا يَحْرُمُ عَلَى مُحْدِثٍ. وَلَا يَحْرُمُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ. وَلَوْ تَيَمَّمَ جُنُبٌ فَرَأَى مَاءً، حَرُمَتِ الْقِرَاءَةُ، وَكُلُّ مَا كَانَ حَرَامًا، حَتَّى يَغْتَسِلَ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: لَيْسَ أَحَدٌ يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِصَلَاةِ فَرْضٍ دُونَ نَفْلٍ، إِلَّا مَنْ عُدِمَ مَاءً وَتُرَابًا، أَوْ سُتْرَةً طَاهِرَةً، أَوْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ عَجَزَ عَنْ إِزَالَتِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابٌ مَسْحُ الْخُفِّ وَهُوَ جَائِزٌ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُبْسُهُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ. فَلَوْ غَسَلَ رِجْلًا فَلَبِسَ خُفَّهَا، ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ، فَلَوْ نَزَعَ الْأُولَى ثُمَّ لَبِسَهَا، كَفَاهُ، وَجَازَ الْمَسْحُ بَعْدَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ نَزْعِهِمَا. وَلَوْ أَدْخَلَ الرِّجْلَيْنِ سَاقَيِ الْخُفَّيْنِ بِلَا غَسْلٍ، ثُمَّ غَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَهُمَا قَرَارَ الْخُفِّ، صَحَّ لُبْسُهُ، وَجَازَ الْمَسْحُ. وَلَوْ لَبِسَ مُتَطَهِّرًا، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ وُصُولِ الرِّجْلِ قَدَمَ الْخُفِّ، أَوْ مَسَحَ بِشَرْطِهِ، ثُمَّ أَزَالَ الْقَدَمَ مِنْ مَقَرِّهَا وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضُ شَيْءٌ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ: جَوَازُ الْمَسْحِ فِي الثَّانِيَةِ، وَمَنْعُهُ فِي الْأُولَى. وَالثَّانِي: يَجُوزُ

فِيهِمَا. وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ فِيهِمَا. وَلَوْ لَبِسَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ عَلَى وُضُوئِهَا، ثُمَّ أَحْدَثَتْ بِغَيْرِ الِاسْتِحَاضَةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ مَسْحُهَا لِضَعْفِ طَهَارَةِ لُبْسِهَا. وَالصَّحِيحُ: الْمَنْصُوصُ جَوَازُهُ. فَعَلَى هَذَا لَوِ انْقَطَعَ دَمُهَا، وَشُفِيَتْ قَبْلَ الْمَسْحِ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَحَيْثُ جَوَّزْنَا، فَإِنَّمَا يَسْتَبِيحُ بِلُبْسِهَا الْمَسْحَ لِمَا شَاءَتْ مِنَ النَّوَافِلِ، وَلِفَرِيضَةٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ صَلَّتْ بِوُضُوءِ اللُّبْسِ فَرِيضَةً، بِأَنْ أَحْدَثَتْ بَعْدَ وُضُوئِهَا وَلُبْسِهَا قَبْلَ أَنْ تُصَلِّيَ تِلْكَ الْفَرِيضَةَ وَلَا غَيْرَهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، فَإِنْ أَحْدَثَتْ بَعْدَ فِعْلِ الْفَرِيضَةِ، مَسَحَتْ، وَاسْتَبَاحَتِ النَّوَافِلَ، وَلَا تَسْتَبِيحُ فَرِيضَةً مَقْضِيَّةً، وَلَا مُؤَدَّاةً تَحْضُرُ. فَإِنْ أَرَادَتْ فَرِيضَةً، وَجَبَ نَزْعُ الْخُفِّ، وَاسْتِئْنَافُ اللُّبْسِ بِطَهَارَةٍ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهَا تَسْتَوْفِي مُدَّةَ الْمَسْحِ يَوْمًا وَلَيْلَةً حَضَرًا، وَثَلَاثَةً سَفَرًا، وَلَكِنْ تُعِيدُ الْوُضُوءَ وَالْمَسْحَ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ. وَفِي مَعْنَى طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، طَهَارَةُ سَلَسِ الْبَوْلِ، وَكُلُّ مَنْ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ، وَكَذَا الْوُضُوءُ الْمَضْمُومُ إِلَيْهِ التَّيَمُّمُ لِجِرَاحَةٍ أَوْ كَسْرٍ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمُهَا بِلَا فَرْقٍ. وَأَمَّا مَنْ مَحَّضَ التَّيَمُّمَ بِلَا وُضُوءٍ، فَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ غَيْرِ إِعْوَازِ الْمَاءِ، فَهُوَ كَالْمُسْتَحَاضَةِ. وَإِنْ كَانَ لِلْإِعْوَازِ، فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: هُوَ كَهِيَ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الْمَسْحَ أَصْلًا. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَلْبُوسُ صَالِحًا لِلْمَسْحِ، وَصَلَاحِيَّتُهُ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَسْتُرَ مَحَلَّ فَرْضِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، فَلَوْ قَصُرَ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، لَمْ يَجُزْ قَطْعًا، وَفِي الْمَخْرُوقِ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: جَوَازُ الْمَسْحِ مَا لَمْ يَتَفَاحَشِ الْخَرْقُ، بِأَنْ لَا يَتَمَاسَكَ فِي الرِّجْلِ، وَلَا يَتَأَتَّى الْمَشْيُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: التَّفَاحُشُ: أَنْ يَبْطُلَ اسْمُ الْخُفِّ. وَالْجَدِيدُ: الْأَظْهَرُ لَا يَجُوزُ إِذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَإِنْ قَلَّ. وَلَوْ تَخَرَّقَتِ الْبِطَانَةُ أَوِ الظِّهَارَةُ، جَازَ الْمَسْحُ إِنْ كَانَ الْبَاقِي صَفِيقًا، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَيُقَاسُ عَلَى هَذَا مَا إِذَا تَخَرَّقَ مِنَ الظِّهَارَةِ مَوْضِعٌ، وَمِنَ الْبِطَانَةِ مَوْضِعٌ آخَرُ لَا يُحَاذِيهِ. أَمَّا الْخُفُّ الْمَشْقُوقُ الْقَدَمِ إِذَا شُدَّ مَحَلُّ الشَّقِّ بِالشَّرَجِ، فَإِنْ ظَهَرَ

شَيْءٌ مَعَ الشَّدِّ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ. وَإِلَّا جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. فَلَوْ فَتَحَ الشَّرَجَ، بَطَلَ الْمَسْحُ فِي الْحَالِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا، بِحَيْثُ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُ فِي حَوَائِجِهِ عِنْدَ الْحَطِّ وَالتِّرْحَالِ، فَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى اللَّفَائِفِ وَالْجَوَارِبِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ صُوفٍ وَلِبْدٍ، وَكَذَا الْجَوَارِبُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْجِلْدِ الَّذِي يُلْبَسُ مَعَ الْمُكَعَّبِ، وَهِيَ جَوَارِبُ الصُّوفِيَّةِ، لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا حَتَّى يَكُونَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهَا، وَيَمْنَعُ نُفُوذَ الْمَاءِ إِنْ شَرَطْنَاهُ، إِمَّا لِصَفَاقَتِهَا، وَإِمَّا لِتَجْلِيدِ الْقَدَمَيْنِ وَالنَّعْلِ عَلَى الْأَسْفَلِ، أَوِ الْإِلْصَاقِ عَلَى الْمُكَعَّبِ. وَقِيلَ: فِي اشْتِرَاطِ تَجْلِيدِ الْقَدَمِ مَعَ صَفَاقَتِهَا قَوْلَانِ. وَلَوْ تَعَذَّرَ الْمَشْيُ فِيهِ لِسَعَتِهِ الْمُفْرِطَةِ، أَوْ ضِيقِهِ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ تَعَذَّرَ لِغِلَظِهِ، أَوْ ثِقَلِهِ، كَالْخَشَبِ وَالْحَدِيدِ، أَوْ لِتَحْدِيدِ رَأْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَجُزْ. وَلَوِ اتَّخَذَ لَطِيفًا مِنْ خَشَبٍ، أَوْ حَدِيدٍ يَتَأَتَّى الْمَشْيُ فِيهِ، جَازَ قَطْعًا. وَلَوْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُفِّ، بِأَنْ لَفَّ عَلَى رِجْلِهِ قِطْعَةَ أَدَمٍ وَشَدَّهَا، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: - فِي أَوْصَافَ مُخْتَلَفٍ فِيهَا - فَالْخُفُّ الْمَغْصُوبُ، وَالْمَسْرُوقُ، وَخُفُّ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، يَصِحُّ الْمَسْحُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْخُفُّ مِنْ جِلْدِ كَلْبٍ أَوْ مَيْتَةٍ قَبْلَ الدِّبَاغِ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ قَطْعًا، لَا لِمَسِّ مُصْحَفٍ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَلَوْ وُجِدَتْ فِي الْخُفِّ شَرَائِطُهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْمَاءِ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاخْتَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ. قُلْتُ: وَلَوْ لَبِسَ وَاسِعَ الرَّأْسِ يَرَى مِنْ رَأْسِهِ الْقَدَمَ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَجُوزُ عَلَى خُفٍّ زُجَاجٍ قَطْعًا إِذَا أَمْكَنَ مُتَابِعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ الْجُرْمُوقُ: هُوَ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ غَالِبًا. فَإِذَا لَبِسَ خُفًّا فَوْقَ خُفٍّ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَعْلَى صَالِحًا لِلْمَسْحِ عَلَيْهِ دُونَ الْأَسْفَلِ، لِضَعْفِهِ، أَوْ لِخَرْقِهِ، فَالْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَى خَاصَّةً. الثَّانِي: عَكْسُهُ، فَالْمَسْحُ عَلَى الْأَسْفَلِ خَاصَّةً. فَلَوْ مَسَحَ الْأَعْلَى فَوَصَلَ الْبَلَلُ إِلَى الْأَسْفَلِ، فَإِنْ قَصَدَ مَسْحَ الْأَسْفَلِ، أَجْزَأَهُ. وَكَذَا إِنْ قَصْدَهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ قَصَدَ الْأَعْلَى، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَاحِدًا، بَلْ قَصَدَ الْمَسْحَ فِي الْجُمْلَةِ، أَجْزَأَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِقَصْدِهِ إِسْقَاطَ فَرَضِ الرِّجْلِ بِالْمَسْحِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَصْلُحَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَيَتَعَذَّرُ الْمَسْحُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَصْلُحَا كِلَاهُمَا، فَفِي الْمَسْحِ عَلَى الْأَعْلَى وَحْدَهُ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ جَوَازُهُ، وَالْجَدِيدُ: مَنْعُهُ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْجَدِيدُ، وَصَحَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي شَرْحِ (الْفُرُوعِ) الْقَدِيمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِيهِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ. أَظْهَرُهَا: أَنَّ الْجُرْمُوقَ بَدَلٌ عَنِ الْخُفِّ، وَالْخُفُّ بَدَلٌ عَنِ الرِّجْلِ. وَالثَّانِي: الْأَسْفَلُ كَلِفَافَةٍ، وَالْأَعْلَى هُوَ الْخُفُّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا كَخُفٍّ وَاحِدٍ، فَالْأَعْلَى ظِهَارَةٌ، وَالْأَسْفَلُ بِطَانَةٌ. وَتَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَعَانِي مَسَائِلُ. مِنْهَا: لَوْ لَبِسَهُمَا مَعًا عَلَى طَهَارَةٍ فَأَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَسْحِ الْأَسْفَلِ، جَازَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ دُونَ الْآخَرَيْنِ. وَمِنْهَا: لَوْ لَبِسَ الْأَسْفَلَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَالْأَعْلَى عَلَى حَدَثٍ، فَفِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْأَعْلَى طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ. وَأَصَحُّهُمَا فِيهِ وَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ

وَالثَّانِي: لَمْ يَجُزْ. وَبِالثَّالِثِ: يَجُوزُ. فَلَوْ لَبِسَ الْأَسْفَلَ بِطَهَارَةٍ، ثُمَّ أَحْدَثَ وَمَسَحَهُ، ثُمَّ لَبِسَ الْجُرْمُوقَ، فَهَلْ يَجُوزُ مَسْحُهُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: يُبْنَى عَلَى الْمَعَانِي إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ أَوِ الثَّالِثِ جَازَ. وَبِالثَّانِي: لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: يُبْنَى الْجَوَازُ عَلَى هَذَا الثَّانِي، عَلَى أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ يَرْفَعُ الْحَدَثَ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: يَرْفَعُ، جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. الطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْبِنَاءِ عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا مَسْحَ الْأَعْلَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ إِحْدَاثِ أَوَّلِ لُبْسِهِ الْأَسْفَلَ، وَفِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَسْفَلِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَمِنْهَا: لَوْ لَبِسَ الْأَسْفَلَ عَلَى حَدَثٍ، وَغَسَلَ رِجْلَهُ فِيهِ، ثُمَّ لَبِسَ الْأَعْلَى عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، فَلَا يَجُوزُ مَسْحُ الْأَسْفَلِ قَطْعًا، وَلَا مَسْحُ الْأَعْلَى إِنْ قُلْنَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَوِ الثَّالِثِ. وَبِالثَّانِي يَجُوزُ. وَمِنْهَا: لَوْ تَخَرَّقَ الْأَعْلَى مِنَ الرِّجْلَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ نَزَعَهُ مِنْهُمَا بَعْدَ مَسْحِهِ وَبَقِيَ الْأَسْفَلُ بِحَالِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، لَمْ يَجِبْ نَزْعُ الْأَسْفَلِ، بَلْ يَجِبُ مَسْحُهُ، وَهَلْ يَكْفِيهِ مَسْحُهُ أَمْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي نَازِعِ الْخُفَّيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، وَجَبَ نَزْعُ الْأَسْفَلِ أَيْضًا وَغَسْلُ الْقَدَمَيْنِ. وَفِي اسْتِئْنَافِ الْوُضُوءِ الْقَوْلَانِ، فَحَصَلَ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: لَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَالثَّانِي: يَجِبُ مَسْحُ الْأَسْفَلِ فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ الْمَسْحُ وَاسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ. وَالرَّابِعُ: يَجِبُ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ. وَالْخَامِسُ: يَجِبُ ذَلِكَ مَعَ اسْتِئْنَافِ الْوُضُوءِ. وَمِنْهَا: لَوْ تَخَرَّقَ الْأَعْلَى مِنْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ أَوْ نَزَعَهُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، وَجَبَ نَزْعُ الْأَسْفَلِ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الرِّجْلِ، وَوَجَبَ نَزْعُهُمَا مِنَ الرِّجْلِ الْأُخْرَى، وَغَسْلُ الْقَدَمَيْنِ. وَفِي اسْتِئْنَافِ الْوُضُوءِ الْقَوْلَانِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ نَزْعُ الْأَعْلَى مِنَ الرِّجْلِ الْأُخْرَى؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا نَعَمْ، كَمَنْ نَزَعَ إِحْدَى الْخُفَّيْنِ. فَإِذَا نَزَعَهُ، عَادَ الْقَوْلَانِ: فِي أَنَّهُ (هَلْ) يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ، أَمْ يَكْفِيهِ مَسْحُ الْأَسْفَلِ؟ وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ نَزْعُ الثَّانِي.

وَفِي وَاجِبِهِ الْقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: مَسْحُ الْأَسْفَلِ الَّذِي نَزَعَ أَعْلَاهُ. وَالثَّانِي اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ، وَمَسْحُ هَذَا الْأَسْفَلِ، وَالْأَعْلَى مِنَ الرِّجْلِ الْأُخْرَى. وَمِنْهَا: لَوْ تَخَرَّقَ الْأَسْفَلُ مِنْهُمَا، لَمْ يَضُرَّ عَلَى الْمَعَانِي كُلِّهَا. فَإِنْ تَخَرَّقَ مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَجَبَ نَزْعُ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجْلِ الْأُخْرَى، لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، قَالَهُ فِي (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرِهِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا إِذَا تَخَرَّقَ الْأَعْلَى مِنْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَقَدْ حَكُوا وَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ نَزْعِهِ مِنَ الْأُخْرَى، فَلْيُحْكَمْ بِطَرْدِهِمَا هُنَا. ثُمَّ إِذَا نَزَعَ، فَفِي وَاجِبِهِ الْقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: مَسْحُ الْخُفِّ الَّذِي نُزِعَ الْأَعْلَى مِنْ فَوْقِهِ. وَالثَّانِي: اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ وَالْمَسْحِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَعْلَى الَّذِي تَخَرَّقَ الْأَسْفَلُ تَحْتَهُ. وَمِنْهَا: لَوْ تَخَرَّقَ الْأَسْفَلُ وَالْأَعْلَى مِنَ الرِّجْلَيْنِ، أَوْ مِنْ إِحْدَاهُمَا، لَزِمَ نَزْعُ الْجَمِيعِ عَلَى الْمَعَانِي كُلِّهَا، لَكِنْ إِنْ قُلْنَا بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ، وَكَانَ الْخَرْقَانِ فِي مَوْضِعَيْنِ غَيْرِ مُتَحَاذِيَيْنِ، لَمْ يَضُرَّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَمِنْهَا: لَوْ تَخَرَّقَ الْأَعْلَى مِنْ رِجْلٍ، وَالْأَسْفَلُ مِنَ الْأُخْرَى، فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّالِثِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، نَزَعَ الْأَعْلَى الْمُتَخَرِّقَ، وَأَعَادَ مَسْحَ مَا تَحْتَهُ. وَهَلْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ، أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْوُضُوءِ مَاسِحًا عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَعْلَى مِنَ الرِّجْلِ الْأُخْرَى؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِ مَسْحِ الْجُرْمُوقِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ بَيْنَهُمَا وَمَسَحَ الْخُفَّ الْأَسْفَلَ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ تَخَرَّقَ الْأَسْفَلَانِ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ التَّخَرُّقِ عَلَى طَهَارَةِ لُبْسِهِ الْأَسْفَلَ، مَسَحَ الْأَعْلَى، لِأَنَّهُ صَارَ أَصْلًا لِخُرُوجِ الْأَسْفَلِ عَنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْمَسْحِ. وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا، لَمْ يَجُزْ مَسْحُ الْأَعْلَى، كَاللُّبْسِ عَلَى حَدَثٍ. وَإِنْ كَانَ عَلَى طَهَارَةِ مَسْحٍ، فَوَجْهَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَدِيمِ. أَمَّا إِذَا لَبِسَ جُرْمُوقًا فِي رِجْلٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْخُفِّ فِي الْأُخْرَى، فَعَلَى الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ مَسْحُ الْجُرْمُوقِ. وَعَلَى الْقَدِيمِ: يُبْنَى عَلَى الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ فِي خُفٍّ، وَغَسْلُ الرِّجْلِ الْأُخْرَى. وَعَلَى الثَّالِثِ يَجُوزُ، وَكَذَا عَلَى الثَّانِي عَلَى الْأَصَحِّ.

فصل

قُلْتُ: وَإِذَا جَوَّزْنَا الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ، فَكَذَا إِذَا لَبِسَ ثَانِيًا وَثَالِثًا. وَلَوْ لَبِسَ الْخُفَّ فَوْقَ الْجَبِيرَةِ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسْحِ أَمَّا أَقَلُّهُ، فَمَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ مِنْ مَحَلِّ فَرْضِ الْغَسْلِ فِي الرِّجْلِ، إِلَّا أَسْفَلَهَا، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ قَطْعًا، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ. وَإِلَّا الْعَقِبَ، فَلَا يُجْزِئُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: هُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنَ الْأَسْفَلِ، وَقِيلَ: أَوْلَى بِالْمَنْعِ. قُلْتُ: وَحَرْفُ الْخُفِّ كَأَسْفَلِهِ. قَالَهُ فِي (التَّهْذِيبِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْأَكْمَلُ: فَمَسْحُ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ اسْتِيعَابُ جَمِيعِهِ سُنَّةً عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُسْتَحَبُّ مَسْحُ الْعَقِبِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ: الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: قَطْعًا. وَلَوْ كَانَ عِنْدَ الْمَسْحِ عَلَى أَسْفَلِهِ نَجَاسَةٌ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. وَيُجْزِئُ غَسْلُ الْخُفِّ عَنْ مَسْحِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، لَكِنْ يُكْرَهُ. وَيُكْرَهُ أَيْضًا تَكْرَارُ الْمَسْحِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُهُ ثَلَاثًا كَالرَّأْسِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَتَعَيَّنُ الْيَدُ لِلْمَسْحِ، بَلْ يَجُوزُ بِخِرْقَةٍ وَخَشَبَةٍ وَغَيْرِهِمَا. وَلَوْ وَضَعَ يَدَهُ الْمُبْتَلَّةَ وَلَمْ يُمِرَّهَا، أَوْ قَطَّرَ الْمَاءَ عَلَيْهِ، أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الرَّأْسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمَسْحِ يُبَاحُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ لِلصَّلَاةِ، وَسَائِرِ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْوُضُوءِ. وَلَهُ الْمَسْحُ إِلَى إِحْدَى غَايَاتٍ أَرْبَعٍ: الْأُولَى: مُضِيُّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ عَلَى الْمَشْهُورِ الْجَدِيدِ. وَفِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ. وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الْجَدِيدِ. وَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ. وَأَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ الْمُقِيمُ أَنْ يُصَلِّيَ مِنَ الْفَرَائِضِ الْمُؤَدَّاةِ، سِتُّ صَلَوَاتٍ إِنْ لَمْ يَجْمَعْ. فَإِنْ جَمَعَ لِمَطَرٍ، فَسَبْعٌ، وَالْمُسَافِرُ سِتَّ عَشْرَةَ، وَبِالْجَمْعِ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَأَمَّا الْمَقْضِيَّاتُ فَلَا تَنْحَصِرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسَافِرَ إِنَّمَا يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا، وَغَيْرَ مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ قَصُرَ سَفَرُهُ، مَسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً، مَسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَمْسَحُ شَيْئًا. وَيُجْزِئُ الْوَجْهَانِ فِي الْعَاصِي بِالْإِقَامَةِ، كَالْعَبْدِ الْمَأْمُورِ بِالسَّفَرِ إِذَا أَقَامَ. فَرْعٌ إِذَا لَبِسَ الْخُفَّ فِي الْحَضَرِ، ثُمَّ سَافَرَ، وَمَسَحَ فِي السَّفَرِ، مَسَحَ مَسْحَ مُسَافِرٍ، سَوَاءً كَانَ أَحْدَثَ فِي الْحَضَرِ، أَمْ لَا، وَسَوَاءً سَافَرَ بَعْدَ الْحَدَثِ وَخُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، أَمْ لَا، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِنْ أَحْدَثَ فِي الْحَضَرِ، مَسَحَ مَسْحَ مُقِيمٍ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ فِي الْحَضَرِ وَلَمْ يُصَلِّ، ثُمَّ سَافَرَ، مَسَحَ مَسْحَ مُقِيمٍ. أَمَّا إِذَا مَسَحَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ، فَيُتِمُّ مَسْحَ مُقِيمٍ. وَالِاعْتِبَارُ فِي الْمَسْحِ بِتَمَامِهِ، فَلَوْ مَسَحَ إِحْدَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَرِ، ثُمَّ سَافَرَ وَمَسَحَ الْآخَرَ فِي السَّفَرِ، فَلَهُ مَسْحُ مُسَافِرٍ، لِأَنَّهُ تَمَّ مَسْحُهُ فِي السَّفَرِ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ عَلَى أَحَدِ الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَرِ، هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) . لَكِنَّ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ، مَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَاخْتَارَهُ الشَّاشِيُّ: أَنَّهُ يَمْسَحُ مَسْحَ مُقِيمٍ، لِتَلَبُّسِهِ بِالْعِبَادَةِ فِي الْحَضَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إِذَا مَسَحَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَقَامَ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَأَكْثَرَ، فَقَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ، وَيُجْزِئُهُ مَا مَضَى. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، تَمَّمَهَا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَمْسَحُ ثُلْثَ مَا بَقِيَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ مُطْلَقًا. وَلَوْ شَكَّ الْمَاسِحُ فِي السَّفَرِ أَوِ الْحَضَرِ فِي انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ، وَجَبَ الْأَخْذُ بِانْقِضَائِهَا. وَلَوْ شَكَّ الْمُسَافِرُ هَلِ ابْتَدَأَ الْمَسْحَ فِي الْحَضَرِ، أَمِ السَّفَرِ؟ أَخَذَ بِالْحَضَرِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَلَوْ مَسَحَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي شَاكًّا، وَصَلَّى بِهِ، ثُمَّ عَلِمَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَنَّهُ كَانَ ابْتَدَأَ فِي السَّفَرِ، لَزِمَهُ إِعَادَةُ مَا صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي. وَلَهُ الْمَسْحُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَإِنْ كَانَ مَسَحَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى الطَّهَارَةِ فَلَمْ يُحْدِثْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الثَّالِثِ بِذَلِكَ الْمَسْحِ، لِأَنَّهُ صَحِيحٌ. فَإِنْ كَانَ أَحْدَثَ فِي الثَّانِي، وَمَسَحَ شَاكًّا، وَبَقِيَ عَلَى تِلْكَ الطَّهَارَةِ، لَمْ يَصِحَّ مَسْحُهُ، فَيَجِبُ إِعَادَةُ الْمَسْحِ. وَفِي وُجُوبِ اسْتِئْنَافِ الْوُضُوءِ الْقَوْلَانِ فِي الْمُوَالَاةِ. وَقَالَ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) يُجْزِئُهُ الْمَسْحُ مَعَ الشَّكِّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. الْغَايَةُ الثَّانِيَةُ: نَزْعُ الْخُفَّيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةِ مَسْحٍ، لَزِمَهُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِ الْقَوْلَيْنِ، فَقِيلَ: بِنَفْسَيْهِمَا، وَقِيلَ: مَبْنِيَّانِ عَلَى تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ، وَضَعَّفَهُ الْأَصْحَابُ. وَقِيلَ: عَلَى أَنَّ بَعْضَ الطَّهَارَةِ هَلْ يَخْتَصُّ بِالِانْتِقَاضِ، أَمْ يَلْزَمُهُ مِنَ انْتِقَاضِ بَعْضِهَا انْتِقَاضُ جَمِيعِهَا؟ وَقِيلَ: مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنِ الرِّجْلِ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرْفَعُ، اقْتَصَرَ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَإِلَّا اسْتَأْنَفَ الْوُضُوءَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنِ الرِّجْلِ، كَمَسْحِ

الرَّأْسِ. وَلَوْ خَرَجَ الْخُفُّ عَنْ صَلَاحِيَةِ الْمَسْحِ، لِضَعْفِهِ، أَوْ تَخَرُّقِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ كَنَزْعِهِ. وَلَوِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ، أَوْ ظَهَرَتِ الرِّجْلَ وَهُوَ فِي صَلَاةٍ، بَطَلَتْ. فَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُدَّةِ إِلَّا مَا يَسَعُ رَكْعَةً، فَافْتَتَحَ رَكْعَتَيْنِ، فَهَلْ يَصِحُّ الِافْتِتَاحُ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، أَمْ لَا تَنْعَقِدُ؟ وَجْهَانِ فِي (الْبَحْرِ) أَصَحُّهُمَا: الِانْعِقَادُ. وَفَائِدَتُهُمَا: أَنَّهُ لَوِ اقْتَدَى بِهِ إِنْسَانٌ عَالِمٌ بِحَالِهِ، ثُمَّ فَارَقَهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، أَمْ لَا تَنْعَقِدُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَفِيمَا لَوْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى رَكْعَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْغَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَلْزَمَ الْمَاسِحَ غُسْلُ جَنَابَةٍ، أَوْ حَيْضٍ، أَوْ نِفَاسٍ، فَيَجِبُ اسْتِئْنَافُ اللُّبْسِ بَعْدَهُ. الْغَايَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا نُجِّسَتْ رِجْلُهُ فِي الْخُفِّ وَلَمْ يُمْكِنْ غَسْلُهَا فِيهِ، وَجَبَ النَّزْعُ لِغَسْلِهَا. فَإِنْ أَمْكَنَ غَسْلُهَا فِيهِ فَغَسَلَهَا، لَمْ يَبْطُلِ الْمَسْحُ. فَرْعٌ سَلِيمُ الرِّجْلَيْنِ إِذَا لَبِسَ خُفًّا فِي إِحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ مَسْحُهُ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا رِجْلٌ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَى خُفِّهَا، وَلَوْ بَقِيَتْ مِنَ الرِّجْلِ الْأُخْرَى بَقِيَّةٌ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ حَتَّى يُوَارِيَهَا بِمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلِيلَةً، بِحَيْثُ لَا يَجِبُ غَسْلُهَا، فَلَبِسَ الْخُفَّ فِي الصَّحِيحَةِ، قَطَعَ الدَّارِمِيُّ بِصِحَّةِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ. وَصَاحِبُ (الْبَيَانِ) بِالْمَنْعِ. وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَنِ الرِّجْلِ الْعَلِيلَةِ، فَهِيَ كَالصَّحِيحَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الحيض

كِتَابُ الْحَيْضِ فِيهِ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ. الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ. أَمَّا سِنُّ الْحَيْضِ، فَأَقَلُّهُ اسْتِكْمَالُ تِسْعِ سِنِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَا رَأَتْهُ قَبْلَهُ دَمُ فَسَادٍ. وَالثَّانِي: بِالطَّعْنِ فِي أَوَّلِ التَّاسِعَةِ. وَالثَّالِثُ: مُضِيُّ نِصْفِ التَّاسِعَةِ. وَالْمُرَادُ: السُّنُونَ الْقَمَرِيَّةُ عَلَى الْأَوْجُهِ كُلِّهَا. وَهَذَا الضَّبْطُ لِلتَّقْرِيبِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَلَوْ كَانَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الدَّمِ وَاسْتِكْمَالِ التِّسْعِ عَلَى الصَّحِيحِ مَا لَا يَسَعُ حَيْضًا وَطُهْرًا، كَانَ ذَلِكَ الدَّمُ حَيْضًا، وَإِلَّا فَلَا. وَسَوَاءٌ فِي سِنِّ الْحَيْضِ الْبِلَادُ الْحَارَّةُ، وَغَيْرُهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: فِي الْبَارِدَةِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْوَجْهُ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ الَّتِي لَا يُعْهَدُ ذَلِكَ فِي مِثْلِهَا، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ. وَأَكْثَرُهُ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَغَالِبُهُ: سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ. وَأَقَلُّ الطُّهْرِ بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَغَالِبُهُ: تَمَامُ الشَّهْرِ بَعْدَ الْحَيْضِ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ. وَلَوْ وَجَدْنَا امْرَأَةً تَحِيضُ عَلَى الِاطِّرَادِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَوْ بِطُهْرٍ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ: لَا عِبْرَةَ بِهِ. وَالثَّانِي: يَتْبَعُهُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ وَافَقَ ذَلِكَ مَذْهَبَ بَعْضِ السَّلَفِ، أَتْبَعْنَاهُ. وَإِلَّا فَلَا. وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْمُعْتَمَدُ: وَعَلَيْهِ تَفْرِيعُ مَسَائِلِ

فصل

الْحَيْضِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا لَوْ رَأَتِ النَّقَاءَ يَوْمًا، وَالدَّمَ يَوْمًا عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، لَا نَجْعَلُ كُلَّ نَقَاءٍ طُهْرًا كَامِلًا. فَصْلٌ يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ. وَلَوْ أَرَادَتِ الْعُبُورَ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ لِعَدَمِ إِحْكَامِهَا الشَّدَّ، أَوْ لِغَلَبَةِ الدَّمِ، حَرُمَ الْعُبُورُ عَلَيْهَا، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِهَا، بَلِ الْمُسْتَحَاضَةُ، وَالسَّلَسُ، وَمَنْ بِهِ جِرَاحَةٌ نَضَّاخَةٌ، يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الْعُبُورُ إِذَا خَافُوا التَّلْوِيثَ. فَإِنْ أَمِنَتِ الْحَائِضُ التَّلْوِيثَ، جَازَ الْعُبُورُ عَلَى الصَّحِيحِ، كَالْجُنُبِ وَمَنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يَخَافُ تَلْوِيثَهَا. وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا الصَّوْمُ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ. وَهَلْ يُقَالُ: إِنَّهُ وَاجِبٌ حَالَ الْحَيْضِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْجَمَاهِيرُ: أَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا، بَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِالْحَائِضِ، فَضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ، فَيَحْرُمُ وَيَبْقَى تَحْرِيمُهُ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ الْحَيْضُ، وَتَغْتَسِلَ، أَوْ تَتَيَمَّمَ عِنْدَ عَجْزِهَا عَنِ الْغُسْلِ. فَلَوْ لَمْ تَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا، صَلَّتِ الْفَرِيضَةَ، وَحَرُمَ وَطْؤُهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَمَتَى جَامَعَ فِي الْحَيْضِ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَقَوْلَانِ. الْمَشْهُورُ الْجَدِيدُ: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ، بَلْ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ جَامَعَ فِي إِقْبَالِ الدَّمِ، أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ إِنْ جَامَعَ فِي إِدْبَارِهِ. وَالْقَدِيمُ: يَلْزَمُهُ غَرَامَةٌ. وَفِيهَا قَوْلَانِ. الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا مَا قَدَّمْنَا اسْتِحْبَابَهُ فِي الْجَدِيدِ. وَالثَّانِي: عِتْقُ رَقَبَةٍ بِكُلِّ حَالٍ. ثُمَّ الدِّينَارُ الْوَاجِبُ، أَوْ

الْمُسْتَحَبُّ، مِثْقَالُ الْإِسْلَامِ مِنَ الذَّهَبِ الْخَالِصِ، يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى وَاحِدٍ. وَعَلَى قَوْلِ الْوُجُوبِ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ. وَفِي الْمُرَادِ بِإِقْبَالِ الدَّمِ وَإِدْبَارِهِ: وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّ إِقْبَالَهُ: أَوَّلُهُ وَشَدَّتُهُ. وَإِدْبَارُهُ: ضَعْفُهُ وَقُرْبُهُ مِنَ الِانْقِطَاعِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: إِقْبَالُهُ: مَا لَمْ يَنْقَطِعْ، وَإِدْبَارُهُ: إِذَا انْقَطَعَ وَلَمْ تَغْتَسِلْ. أَمَّا إِذَا وَطِئَهَا نَاسِيًا، أَوْ جَاهِلًا التَّحْرِيمَ، أَوِ الْحَيْضَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَطْعًا. وَقِيلَ: يَجِيءُ وَجْهٌ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ: أَنَّهُ يَجِبُ الْغُرْمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الِاسْتِمْتَاعُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ. وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ حَرَامٌ. وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ التَّعَدِّي إِلَى الْفَرْجِ لِوَرَعٍ، أَوْ لِقِلَّةِ شَهْوَةٍ، لَمْ يَحْرُمْ، وَإِلَّا حَرُمَ. وَحُكِيَ الثَّانِي قَوْلًا قَدِيمًا. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ، وَهُوَ جَائِزٌ، أَصَابَهُ دَمُ الْحَيْضِ، أَمْ لَمْ يُصِبْهُ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَوْضِعِ الْمُتَلَطِّخِ بِالدَّمِ. وَمِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ: أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ، وَأَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ مَا دَامَ الدَّمُ مُسْتَمِرًّا، إِلَّا الْأَغْسَالَ الْمَشْرُوعَةَ، لِمَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةٍ، كَالْإِحْرَامِ، وَالْوُقُوفِ، فَإِنَّهَا تُسْتَحَبُّ لِلْحَائِضِ، وَإِذَا قُلْنَا بِالضَّعِيفِ: إِنَّ الْحَائِضَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَلَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ إِذَا أَجْنَبَتْ لِتَقْرَأَ. وَمِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ: أَنَّهُ يُوجِبُ الْبُلُوغَ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِدَّةُ وَالِاسْتِبْرَاءُ، وَيَكُونُ الطَّلَاقُ فِيهِ بِدْعِيًّا، وَحُكْمُ النِّفَاسِ حُكْمُ الْحَيْضِ إِلَّا فِي إِيجَابِ الْبُلُوغِ وَمَا بَعْدَهُ. قُلْتُ: وَمِنْ أَحْكَامِهِ: مَنْعُ وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَمَنْعُ قَطْعِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ: وَحُكْمُ النِّفَاسِ حُكْمُ الْحَيْضِ إِلَّا فِي إِيجَابِ الْبُلُوغِ، وَمَا بَعْدَهُ، يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الطَّلَاقُ فِيهِ بِدْعِيًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ بِدْعِيٌّ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِيَ بِدْعِيَّتَهُ فِي الْحَيْضِ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ (الطَّلَاقِ) بِكَوْنِهِ بِدْعِيًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

وَإِذَا انْقَطَعَ الْحَيْضُ، ارْتَفَعَ تَحْرِيمُ الصَّوْمِ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ، وَكَذَا الطَّلَاقُ، وَسُقُوطُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الِاسْتِمْتَاعِ وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الطَّهَارَةِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَزُولُ بِانْقِطَاعِ الْحَيْضِ، تَحْرِيمُ الْعُبُورِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا قُلْنَا بِتَحْرِيمِهِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ فِي (الْحَاوِي) وَ (النِّهَايَةِ) أَنَّهُ لَا يَزُولُ تَحْرِيمُهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي الِاسْتِحَاضَةِ الِاسْتِحَاضَةُ: قَدْ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ دَمٍ تَرَاهُ الْمَرْأَةُ غَيْرَ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. سَوَاءً اتَّصَلَ بِالْحَيْضِ الْمُجَاوِزِ أَكْثَرَهُ أَمْ لَمْ يَتَّصِلْ، كَالَّذِي تَرَاهُ لِسَبْعِ سِنِينَ مَثَلًا. وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْمُتَّصِلِ بِهِ خَاصَّةً، وَيُسَمَّى غَيْرُهُ: دَمُ فَسَادٍ، وَلَا تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْخَارِجُ حَدَثٌ دَائِمٌ، كَسَلَسِ الْبَوْلِ، فَلَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ، وَيَجُوزُ وَطْؤُهَا، وَإِنَّمَا أَثَرُ الْحَدَثِ الدَّائِمِ: الِاحْتِيَاطُ فِي الطَّهَارَةِ، وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ، فَتَغْسِلُ الْمُسْتَحَاضَةُ فَرْجَهَا قَبْلَ الْوُضُوءِ أَوِ التَّيَمُّمِ، وَتَحْشُوهُ بِقُطْنَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ دَفْعًا لِلنَّجَاسَةِ وَتَقْلِيلًا. فَإِنِ انْدَفَعَ بِهِ الدَّمُ، وَإِلَّا شَدَّتْ مَعَ ذَلِكَ خِرْقَةً فِي وَسَطِهَا، وَتَلَجَّمَتْ بِأُخْرَى مَشْقُوقَةِ الطَّرَفَيْنِ، فَكُلُّ هَذَا وَاجِبٌ، إِلَّا أَنْ تَتَأَذَّى بِالشَّدِّ أَوْ تَكُونَ صَائِمَةً فَتَتْرُكُ الْحَشْوَ وَتَقْتَصِرُ عَلَى الشَّدِّ. وَسَلَسُ الْبَوْلِ يُدْخِلُ قُطْنَةً فِي إِحْلِيلِهِ، فَإِنِ انْقَطَعَ، وَإِلَّا عَصَبَ مَعَ ذَلِكَ رَأْسَ الذَّكَرِ. ثُمَّ تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ بَعْدَ الِاحْتِيَاطِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَيَلْزَمُهَا تَقْدِيمُ هَذَا الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَيَجِبُ الْوُضُوءُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ، وَلَهَا مَا شَاءَتْ مِنَ النَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ طَهَارَتُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: تُجْزِئُهَا الطَّهَارَةُ قَبْلَ الْوَقْتِ إِذَا انْطَبَقَ آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُبَادِرَ بِالصَّلَاةِ عَقِبَ طَهَارَتِهَا. فَإِنْ تَطَهَّرَتْ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَصَلَّتْ فِي

آخِرَهُ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ تَأْخِيرُهَا لِسَبَبِ الصَّلَاةِ، كَالْأَذَانِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَانْتِظَارِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَضُرَّ، وَإِلَّا فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ. وَالثَّالِثُ: الْجَوَازُ مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ. أَمَّا تَجْدِيدُ غَسْلِ الْفَرْجِ، وَحَشْوِهِ، وَشَدِّهِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ، فَإِنْ زَالَتِ الْعِصَابَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا زَوَالًا لَهُ وَقْعٌ، أَوْ ظَهَرَ الدَّمُ فِي جَوَانِبِهَا، وَجَبَ التَّجْدِيدُ. وَإِنْ لَمْ تَزَلْ، وَلَا ظَهَرَ الدَّمُ، أَوْ زَالَتْ زَوَالًا يَسِيرًا، وَجَبَ التَّجْدِيدُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ. كَمَا يَجِبُ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ أَحْدَثَتْ بِرِيحٍ وَنَحْوِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلِّيَ، فَلَوْ بَالَتْ، وَجَبَ التَّجْدِيدُ قَطْعًا. وَلَوْ خَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ بَعْدَ الشَّدِّ لِغَلَبَةِ الدَّمِ، لَمْ يَبْطُلْ وُضُوؤُهَا. وَإِنْ كَانَ لِتَقْصِيرِهَا فِي الشَّدِّ، بَطَلَ، وَكَذَا لَوْ زَالَتِ الْعِصَابَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا لَضَعْفِ الشَّدِّ، وَزَادَ خُرُوجُ الدَّمِ بِسَبَبِهِ. وَلَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي صَلَاةٍ، بَطَلَتْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ فَرِيضَةٍ، حَرُمَ النَّفْلُ بَعْدَهَا. فَرْعٌ طَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ تَبْطُلُ بِالشِّفَاءِ، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَوِ اتَّصَلَ الشِّفَاءُ بِآخِرِ الْوُضُوءِ، لَمْ يَبْطُلْ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلَوْ شُفِيَتْ فِي صَلَاةٍ، بَطَلَتْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَمَتَى انْقَطَعَ دَمُهَا وَهِيَ تَعْتَادُ الِانْقِطَاعَ وَالْعَوْدَ، أَوْ لَا تَعْتَادُهُ، لَكِنْ أَخْبَرَهَا بِهِ مَنْ يُعْتَمَدُ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الِانْقِطَاعِ يَسِيرَةً لَا تَسَعُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ الَّتِي تَطَهَّرَتْ لَهَا، فَلَهَا الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ. فَلَوِ امْتَدَّ الِانْقِطَاعُ، بَانَ بُطْلَانُ الطَّهَارَةِ، وَوَجَبَ قَضَاءُ الصَّلَاةِ. وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الِانْقِطَاعِ تَسَعُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ، لَزِمَهَا إِعَادَةُ الْوُضُوءِ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ. فَلَوْ عَادَ الدَّمُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، قَبْلَ الْإِمْكَانِ، لَمْ يَجِبْ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ عَلَى الْأَصَحِّ. لَكِنْ لَوْ شَرَعَتْ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ هَذَا الِانْقِطَاعِ، وَلَمْ تُعِدِ الْوُضُوءَ، فَعَادَ الدَّمُ قَبْلَ الْفَرَاغِ، وَجَبَ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ. أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ

دَمُهَا وَهِيَ لَا تَعْتَادُ الِانْقِطَاعَ وَالْعَوْدَ، وَلَمْ يُخْبِرْهَا أَهْلُ الْبَصَرِ بِالْعَوْدِ، فَيَجِبُ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ. فَلَوْ عَادَ الدَّمُ قَبْلَ إِمْكَانِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ وُضُوءَهَا السَّابِقَ يَبْقَى عَلَى صِحَّتِهِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ إِعَادَتُهُ. وَلَوْ خَالَفَتْ أَمْرَنَا، وَشَرَعَتْ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْوُضُوءِ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَعُدِ الدَّمُ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا، لِظُهُورِ الشِّفَاءِ. وَكَذَا إِنْ عَادَ بَعْدَ مُضِيِّ إِمْكَانِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، لِتَمَكُّنِهَا مِنَ الصَّلَاةِ بِلَا حَدَثٍ، وَكَذَا إِنْ عَادَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِتَرَدُّدِهَا عِنْدَ الشُّرُوعِ. وَلَوْ تَوَضَّأَتْ عِنْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا وَهِيَ لَا تَدْرِي أَنَّهُ شِفَاءٌ، أَمْ لَا؟ فَسَبِيلُهَا أَنْ تَنْظُرَ هَلْ تَعْتَادُ الِانْقِطَاعَ، وَتَجْرِيَ عَلَى مُقْتَضَى الْحَالَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا. قُلْتُ: وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَا تَسْتَبِيحُ النَّفْلَ بِحَالٍ. وَإِنَّمَا اسْتَبَاحَتِ الْفَرِيضَةَ مَعَ الْحَدَثِ الدَّائِمِ لِلضَّرُورَةِ. وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ أَنَّهَا تَسْتَبِيحُ النَّوَافِلَ مُسْتَقِلَّةً، وَتَبَعًا لِلْفَرِيضَةِ مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا، وَبَعْدَهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ طَهَارَتَهَا تُبِيحُ الصَّلَاةَ وَلَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ. وَالثَّانِي: تَرْفَعُهُ. وَالثَّالِثُ: تَرْفَعُ الْمَاضِيَ دُونَ الْمُقَارَنِ وَالْمُسْتَقْبَلِ. وَإِذَا كَانَ دَمُهَا يَنْقَطِعُ فِي وَقْتٍ، وَيَسِيلُ فِي وَقْتٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصَلِّيَ وَقْتَ سَيَلَانِهِ، بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ وَتُصَلِّيَ فِي وَقْتِ انْقِطَاعِهِ، إِلَّا أَنْ تَخَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ، فَتَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي فِي سَيَلَانِهِ. فَإِنْ كَانَتْ تَرْجُو انْقِطَاعَهُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَهَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ تُعَجِّلَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، أَمْ تُؤَخِّرُهَا إِلَى آخِرِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي (التَّتِمَّةِ) ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي مِثْلِهِ فِي التَّيَمُّمِ. قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) لَوْ كَانَ سَلَسُ الْبَوْلِ، بِحَيْثُ لَوْ صَلَّى قَائِمًا سَالَ بَوْلُهُ، وَلَوْ صَلَّى قَاعِدًا، اسْتَمْسَكَ، فَهَلْ يُصَلِّي قَائِمًا، أَمْ قَاعِدًا؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: قَاعِدًا حِفْظًا لِلطَّهَارَةِ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي الْمُسْتَحَاضَاتِ هُنَّ أَرْبَعٌ: الْأُولَى: الْمُبْتَدَأَةُ الْمُمَيِّزَةُ وَهِيَ: الَّتِي تَرَى الدَّمَ عَلَى نَوْعَيْنِ، أَوْ أَنْوَاعٍ، أَحَدُهَا أَقْوَى، فَتُرَدُّ إِلَى التَّمْيِيزِ، فَتَكُونُ حَائِضًا فِي أَيَّامِ الْقَوِيِّ، مُسْتَحَاضَةً فِي أَيَّامِ الضَّعِيفِ. وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِالتَّمْيِيزِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَزِيدَ الْقَوِيُّ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِيُمْكِنَ جَعْلُهُ حَيْضًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَنْقُصَ الضَّعِيفُ عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِيُمْكِنَ جَعْلُهُ طُهْرًا بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ الضَّعِيفِ، أَنْ لَا تَكُونَ مُتَّصِلَةً فَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا أَسْوَدَ، وَيَوْمَيْنِ أَحْمَرَ، وَهَكَذَا أَبَدًا، فَجُمْلَةُ الضَّعِيفِ فِي الشَّهْرِ تَزِيدُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، لَكِنْ لَا يُعَدُّ هَذَا تَمْيِيزًا لِعَدَمِ اتِّصَالِهِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشُّرُوطَ ثَلَاثَةٌ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ. وَلَنَا وَجْهَانِ شَاذَّانِ بِاشْتِرَاطِ شَرْطٍ رَابِعٍ. أَحَدُهُمَا قَالَهُ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَلَّا يَزِيدَ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا. فَإِنْ زَادَ، سَقَطَ التَّمْيِيزُ. وَالثَّانِي: مَذْكُورٌ فِي (النِّهَايَةِ) : أَنَّ الدَّمَيْنِ إِنْ كَانَا تِسْعِينَ يَوْمًا فَمَا دُونَهَا، عَمَلْنَا بِالتَّمْيِيزِ، فَإِنْ جَاوَزَ تِسْعِينَ، ابْتَدَأَتْ حَيْضَةٌ أُخْرَى بَعْدَ التِّسْعِينَ. وَجُعِلَ دَوْرُهَا تِسْعِينَ أَبَدًا. وَفِي الْمُعْتَبَرِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا هُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ الْقُوَّةَ تَحْصُلُ بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: اللَّوْنُ، وَالرَّائِحَةُ، وَالثَّخَانَةُ. فَالْأَسْوَدُ أَقْوَى مِنَ الْأَشْقَرِ. وَالْأَشْقَرُ أَقْوَى مِنَ الْأَصْفَرِ وَمِنَ الْأَكْدَرِ إِذَا جَعَلْنَاهُمَا حَيْضًا. وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ أَقْوَى مِمَّا لَا رَائِحَةَ لَهُ. وَالثَّخِينُ أَقْوَى مِنَ الرَّقِيقِ. وَلَوْ كَانَ دَمُهَا بَعْضُهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ، وَبَعْضُهُ خَالِيًا عَنْ جَمِيعِهَا، فَالْقَوِيُّ

هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَةِ. وَلَوْ كَانَ لِلْبَعْضِ صِفَةٌ، وَلِلْبَعْضِ صِفَتَانِ، فَالْقَوِيُّ مَا لَهُ صِفَتَانِ. فَإِنْ كَانَ لِلْبَعْضِ صِفَتَانِ، وَلِلْبَعْضِ ثَلَاثٌ، فَالْقَوِيُّ مَا لَهُ الثَّلَاثُ. وَإِنْ وُجِدَ لِبَعْضِهِ صِفَةٌ، وَلِبَعْضِهِ أُخْرَى، فَالْقَوِيُّ: السَّابِقُ مِنْهُمَا. كَذَا ذَكَرَهُ فِي (التَّتِمَّةِ) وَهُوَ مَوْضِعُ تَأَمُّلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقُوَّةِ اللَّوْنُ وَحْدَهُ، وَادَّعَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَيْضًا الْغَزَالِيُّ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ التَّمْيِيزِ، فَتَارَةً يَتَقَدَّمُ الدَّمُ الْقَوِيُّ، وَتَارَةً الضَّعِيفُ. فَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَوِيُّ، نُظِرَ. فَإِنِ اسْتَمَرَّ بَعْدَهُ ضَعِيفٌ وَاحِدٌ، بِأَنْ رَأَتْ خَمْسَةً سَوَادًا، ثُمَّ حُمْرَةً مُسْتَمِرَّةً، فَحَيْضُهَا السَّوَادُ. وَالْحُمْرَةُ طُهْرٌ وَإِنْ طَالَ زَمَانُهَا، وَفِيهِ الْوَجْهَانِ الشَّاذَّانِ الْمُتَقَدِّمَانِ عَنِ (التَّتِمَّةِ) وَ (النِّهَايَةِ) وَإِنْ وُجِدَ بَعْدَهُ ضَعِيفَانِ، وَأَمْكَنَ جَعْلُ أَوَّلِهِمَا مَعَ الْقَوِيِّ حَيْضًا، بِأَنْ رَأَتْ خَمْسَةً سَوَادًا، ثُمَّ خَمْسَةً حُمْرَةً، ثُمَّ صُفْرَةً مُطْبِقَةً، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنَّ الْقَوِيَّ مَعَ الضَّعِيفِ الْأَوَّلِ حَيْضٌ. وَالثَّانِي: وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: حَيْضُهَا الْقَوِيُّ وَحْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُمَا، بِأَنْ رَأَتْ خَمْسَةً سَوَادًا، ثُمَّ أَحَدَ عَشَرَ حُمْرَةً، ثُمَّ صُفْرَةً مُطْبِقَةً، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ حَيْضَهَا السَّوَادُ. وَقِيلَ: فَاقِدَةُ التَّمْيِيزِ، فَكَأَنَّهَا رَأَتْ سِتَّةَ عَشَرَ أَسْوَدَ. أَمَّا إِذَا تَقَدَّمَ بَعْدَ الْقَوِيِّ أَضْعَفُ الضَّعِيفَيْنِ، فَرَأَتْ سَوَادًا، ثُمَّ صُفْرَةً، ثُمَّ حُمْرَةً، فَإِنَّهُ يُبْنَى عَلَى مَا إِذَا تَوَسَّطَتِ الْحُمْرَةُ. فَإِنْ أَلْحَقْنَاهَا بِمَا بَعْدَهُ، وَقُلْنَا: الْحَيْضُ هُوَ السَّوَادُ وَحْدَهُ، فَهُنَا أَوْلَى. وَإِنْ أَلْحَقْنَاهَا بِالسَّوَادِ، فَحُكْمُهَا كَمَا إِذَا رَأَتْ سَوَادًا، ثُمَّ حُمْرَةً، ثُمَّ عَادَ السَّوَادُ. وَذَلِكَ يُعْلَمُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شُرُوطِ التَّمْيِيزِ. أَمَّا إِذَا تَقَدَّمَ الضَّعِيفُ أَوَّلًا، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَمَا تَقَدَّمَهُ، بِأَنْ رَأَتْ خَمْسَةً حُمْرَةً، ثُمَّ خَمْسَةً سَوَادًا، ثُمَّ حُمْرَةً مُطْبِقَةً، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ: أَنَّ الْحُكْمَ لِلَّوْنِ، فَحَيْضُهَا السَّوَادُ، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَطُهْرٌ

وَالثَّانِي: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَحَيْضُهَا السَّوَادُ وَمَا قَبْلَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا فَاقِدَةٌ لِلتَّمْيِيزِ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ، بِأَنْ رَأَتْ خَمْسَةً حُمْرَةً، ثُمَّ أَحَدَ عَشَرَ سَوَادًا، فَإِنْ قُلْنَا فِي حَالَةِ الْإِمْكَانِ، حَيْضُهَا السَّوَادُ، فَهُنَا أَوْلَى. وَإِنْ قُلْنَا بِالْآخَرَيْنِ، فَفَاقِدَةٌ لِلتَّمْيِيزِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَقِيلَ: حَيْضُهَا الْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مُرَاعَاةً لِلْأَوَّلِيَّةِ. فَلَوْ صَارَ السَّوَادُ سِتَّةَ عَشَرَ، فَفَاقِدَةٌ لِلتَّمْيِيزِ بِالِاتِّفَاقِ، إِلَّا عَلَى الشَّاذِّ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْأَوَّلِيَّةَ. وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ تَقْدِيمُ اللَّوْنِ، فَرَأَتِ الْمُبْتَدَأَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ حُمْرَةً، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ سَوَادًا، تَرَكَتِ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ. فَإِنْ زَادَ السَّوَادُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، فَقَدْ فَاتَ التَّمْيِيزُ، فَيُرَدُّ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي قَوْلٍ، وَإِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ أَيْضًا بَعْدَ الشَّهْرِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَوْ سِتًّا، أَوْ سَبْعًا. وَلَا يُتَصَوَّرُ مُسْتَحَاضَةٌ تُؤْمَرُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ، إِلَّا هَذِهِ. فَرْعٌ وَإِذَا بَلَغَتِ الْمَرْأَةُ سِنَّ الْحَيْضِ، فَرَأَتْ دَمًا، لَزِمَهَا تُرْكُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْوَطْءِ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الدَّمِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا يُتْرُكُ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ حَتَّى تَرَى الدَّمَ يَوْمًا وَلَيْلَةً. فَعَلَى الصَّحِيحِ لَوِ انْقَطَعَ لِدُونِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بَانَ أَنَّهُ لَيْسَ حَيْضًا، فَتَقْضِي الصَّلَاةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ الْمُمَيِّزَةَ لَا تَشْتَغِلُ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عِنْدَ انْقِلَابِ الدَّمِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الضَّعْفِ، لِاحْتِمَالِ انْقِطَاعِ الضَّعِيفِ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ حَيْضًا، فَتَتَرَبَّصُ إِلَى انْقِضَاءِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ. فَإِنِ انْقَضَتْ وَالدَّمُ مُسْتَمِرٌّ، عَرَفْنَا أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ، فَتَقْضِي صَلَوَاتِ مَا زَادَ عَلَى الدَّمِ الْقَوِيِّ. هَذَا حُكْمُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ، فَبِانْقِلَابِ الدَّمِ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ، وَلَا يَخْرُجُ ذَلِكَ عَلَى

الْخِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْعَادَةِ بِمَرَّةٍ، فَلَوِ اتَّفَقَ الشِّفَاءُ فِي بَعْضِ الْأَدْوَارِ، فَانْقَطَعَ الدَّمُ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، فَالضَّعِيفُ حَيْضٌ مَعَ الْقَوِيِّ، كَالشَّهْرِ الْأَوَّلِ. وَسَوَاءٌ فِي كَوْنِ جَمِيعِهِ حَيْضًا إِذَا لَمْ يُجَاوِزْ، وَتَقَدَّمَ الضَّعِيفُ أَوِ الْقَوِيُّ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَعَلَى الشَّاذِّ إِنْ تَقَدَّمَ الْقَوِيُّ، فَالْجَمِيعُ حَيْضٌ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الضَّعِيفُ، وَبَعْدَهُ قَوِيٌّ وَحْدَهُ، أَوْ قَوِيٌّ، ثُمَّ ضَعِيفٌ آخَرُ، كَمَنْ رَأَتْ خَمْسَةً حُمْرَةً، ثُمَّ خَمْسَةً سَوَادًا، ثُمَّ خَمْسَةً حُمْرَةً، فَحَيْضُهَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: السَّوَادُ. وَفِي الثَّانِيَةِ: السَّوَادُ وَمَا بَعْدَهُ. فَرْعٌ مَفْهُومُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَمَا صَرَّحَ بِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِانْقِلَابِ الدَّمِ الْقَوِيِّ ضَعِيفًا، أَنْ تَتَمَحَّضَ ضَعِيفًا، حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ خُطُوطٌ مِنَ السَّوَادِ، وَظَهَرَتْ خُطُوطٌ مِنَ الْحُمْرَةِ، لَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَيْضِ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ إِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ السَّوَادِ أَصْلًا. الْمُسْتَحَاضَةُ الثَّانِيَةُ: مُبْتَدَأَةٌ لَا تَمْيِيزَ لَهَا بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ دَمِهَا بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ يَكُونَ قَوِيًّا وَضَعِيفًا، وَفُقِدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ التَّمْيِيزِ، فَيُنْظَرُ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ وَقْتَ ابْتِدَاءِ الدَّمِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُتَحَيِّرَةِ - وَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ عَرَفَتْهُ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: تَحِيضُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالثَّانِي: سِتًّا أَوْ سَبْعًا وَعَلَى هَذَا فِي السِّتِّ أَوِ السَّبْعِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لِلتَّخْيِيرِ، فَتَحِيضُ إِنْ شَاءَتْ سِتًّا وَإِنْ شَاءَتْ سَبْعًا، وَأَصَحُّهُمَا لَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ، بَلْ إِنْ كَانَتْ عَادَةُ النِّسَاءِ سِتًّا، تَحَيَّضَتْ سِتًّا، وَإِنْ كَانَتْ سَبْعًا، فَسَبْعًا. وَفِي النِّسَاءِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: نِسَاءُ عَشِيرَتِهَا مِنَ الْأَبَوَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَشِيرَةٌ، فَنِسَاءُ بَلَدِهَا. وَالثَّانِي: نِسَاءُ الْعَصَبَاتِ خَاصَّةً. وَالثَّالِثُ: نِسَاءُ بَلَدِهَا وَنَاحِيَتِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْمُعْتَبَرَاتُ يَحِضْنَ كُلُّهُنَّ سِتًّا أَوْ سَبْعًا، أَخَذَتْ بِهِ. وَإِنْ

نَقَصَتْ عَادَتَهُنَّ كُلُّهُنَّ عَنْ سِتٍّ، أَوْ زَادَتْ عَلَى سَبْعٍ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تُرَدُّ إِلَى سِتٍّ فِي صُورَةِ النَّقْصِ، وَسَبْعٍ فِي الزِّيَادَةِ. وَالثَّانِي: تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهِنَّ. وَلَوِ اخْتَلَفَتْ عَادَتُهُنَّ، فَحَاضَ بَعْضُهُنَّ سِتًّا، وَبَعْضُهُنَّ سَبْعًا، رُدَّتْ إِلَى الْأَغْلَبِ. فَإِنِ اسْتَوَى الْبَعْضَانِ، أَوْ حَاضَ بَعْضُهُنَّ دُونَ سِتٍّ، وَبَعْضُهُنَّ فَوْقَ سَبْعٍ، رُدَّتْ إِلَى السِّتِّ. هَذَا بَيَانُ مَرَدِّهَا فِي الْحَيْضِ. أَمَّا الطُّهْرُ: فَإِنْ قُلْنَا: تُرَدُّ فِي الْحَيْضِ إِلَى غَالِبِهِ، فَكَذَا فِي الطُّهْرِ، فَتُرَدُّ إِلَى ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَإِنْ رَدَدْنَاهَا فِي الْحَيْضِ إِلَى الْأَقَلِّ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ طُهْرَهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ تَتِمَّةُ الشَّهْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ، أَوْ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: عَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ الْأَرْبَعُ وَالْعِشْرُونَ. وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ تَرْدِيدُهُ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَالْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِ وَالْعِشْرِينَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ نَصٌّ غَرِيبٌ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ أَقَلُّ الطُّهْرِ. فَعَلَى هَذَا دَوْرُهَا سِتَّةَ عَشَرَ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ ابْتِدَاءَ مَرَدِّهَا فِي الْحَيْضِ فِي حِينِ رَأَتِ الدَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمْ مُتَمَيِّزًا فُقِدَ مِنْهُ شَرْطُ التَّمْيِيزِ. وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ الضَّعِيفُ، وَجَاوَزَ الْقَوِيُّ بَعْدَهُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَابْتِدَاءُ حَيْضِهَا مِنْ أَوَّلِ الْقَوِيِّ. فَرْعٌ غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ كَالْمُمَيِّزَةِ فِي تَرْكِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ إِلَى تَمَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ جَاوَزَهَا الدَّمُ، تَبَيَّنَّا الِاسْتِحَاضَةَ، فَإِنْ رَدَدْنَاهَا إِلَى أَقَلِّ الْحَيْضِ، قَضَتْ صَلَوَاتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ رَدَدْنَاهَا إِلَى السِّتِّ أَوِ السَّبْعِ، قَضَتْ صَلَوَاتِ تِسْعَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ. وَأَمَّا الشَّهْرُ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ، فَإِنْ وَجَدَتْ فِيهِ تَمْيِيزًا بِشَرْطِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْمَرَدِّ أَوْ بَعْدَهُ، فَهِيَ فِي ذَلِكَ الدَّوْرِ: مُبْتَدَأَةٌ مُمَيِّزَةٌ. وَإِنِ اسْتَمَرَّ فَقْدُ التَّمْيِيزِ، وَجَبَ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الْمَرَدِّ، الْغُسْلُ، وَالصَّوْمُ، وَالصَّلَاةُ. فَإِنْ شُفِيَتْ فِي بَعْضِ الشُّهُورِ، قَبْلَ مُجَاوَزَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، بَانَ أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَاضَةٍ فِي ذَلِكَ

الشَّهْرِ، وَجَمِيعُ دَمِهَا فِيهِ حَيْضٌ، فَتَقْضِي مَا صَامَتْهُ فِي أَيَّامِ الدَّمِ. وَتَبَيَّنَّا أَنَّ غُسْلَهَا لَمْ يَصِحَّ، وَلَا تَأْثَمُ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْوَطْءِ، فِيمَا وَرَاءَ الْمَرَدِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي الْحَيْضِ لِجَهْلِهَا. وَإِنْ لَمْ تُشْفَ، فَهَلْ يَلْزَمُهَا الِاحْتِيَاطُ فِيمَا وَرَاءَ الْمَرَدِّ إِلَى تَمَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَمْ تَكُونُ طَاهِرًا كَسَائِرِ الْمُسْتَحَاضَاتِ الطَّاهِرَاتِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي. فَإِنْ قُلْنَا: تَحْتَاطُ، لَمْ تَحِلَّ لِلزَّوْجِ، إِلَّا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلَا تَقْضِي فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَوَائِتَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ. وَيَلْزَمُهَا أَدَاءُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَتَقْضِي الصَّوْمَ كُلَّهُ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَحْتَاطُ، صَامَتْ وَصَلَّتْ، وَلَا تَقْضِيهِمَا، وَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا، وَلَهَا قَضَاءُ الْفَوَائِتِ. وَيُبَاحُ وَطْؤُهَا. الْمُسْتَحَاضَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَادَةُ غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ، فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا. وَلَهَا حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا تَخْتَلِفَ عَادَتُهَا، فَإِنْ تَكَرَّرَتْ عَادَةُ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا مِرَارًا، رُدَّتْ إِلَيْهَا فِي قَدْرِ الْحَيْضِ، وَالطُّهْرِ، وَوَقْتِهَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا، أَنْ تَحِيضَ أَيَّامًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوْ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَأَكْثَرَ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ الدَّوْرُ عَلَى تِسْعِينَ يَوْمًا، وَسَنُعِيدُ الْمَسْأَلَةَ فِي النِّفَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ. فَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْعَادَةَ تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ. وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ مَرَّتَيْنِ. وَالثَّالِثُ: لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ. فَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ خَمْسًا، فَحَاضَتْ فِي شَهْرٍ سِتًّا، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ بَعْدَهُ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْعَادَةَ بِمَرَّةٍ، رُدَّتْ إِلَى السِّتِّ، وَإِلَّا، فَإِلَى الْخَمْسِ. ثُمَّ الْمُعْتَادَةُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شُهُورِ اسْتِحَاضَتِهَا، تَتَرَبَّصُ كَالْمُبْتَدَأَةِ، لِجَوَازِ انْقِطَاعِ دَمِهَا عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِنْ جَاوَزَهَا، قَضَتْ صَلَوَاتِ مَا وَرَاءَ الْعَادَةِ. وَأَمَّا الشَّهْرُ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ، فَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ عِنْدَ مُضِيِّ الْعَادَةِ. وَلَا يَجِيءُ هُنَا قَوْلُ الِاحْتِيَاطِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ، لِقُوَّةِ الْعَادَةِ.

الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَخْتَلِفَ عَادَتُهَا، وَلَهَا صُوَرٌ. مِنْهَا: أَنْ تَسْتَمِرَّ لَهَا عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ مُنْتَظِمَةٌ بِأَنْ كَانَتْ تَحِيضُ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَةً، ثُمَّ فِي شَهْرٍ خَمْسَةً، وَفِي شَهْرٍ سَبْعَةً، ثُمَّ فِي الرَّابِعِ ثَلَاثَةً، ثُمَّ فِي الْخَامِسِ خَمْسَةً، وَفِي السَّادِسِ سَبْعَةً، وَهَكَذَا أَبَدًا، فَهَلْ تُرَدُّ بَعْدَ الِاسْتِحَاضَةِ إِلَى هَذِهِ الْعَادَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تُرَدُّ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ، سَوَاءً كَانَتْ عَادَتُهَا مُنْتَظِمَةً عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، أَمْ عَلَى تَرْتِيبٍ آخَرَ، بِأَنْ كَانَتْ تَرَى خَمْسَةً، ثُمَّ ثَلَاثَةً، ثُمَّ سَبْعًا، ثُمَّ تَعُودُ الْخَمْسَةُ. وَسَوَاءٌ رَأَتْ كُلَّ قَدْرٍ مَرَّةً، كَمَا ذَكَرْنَا، أَمْ مَرَّتَيْنِ، بِأَنْ تَرَى فِي شَهْرَيْنِ ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً. وَفِي شَهْرَيْنِ بَعْدَهُمَا خَمْسَةً خَمْسَةً، وَفِي شَهْرَيْنِ بَعْدَهُمَا سَبْعَةً سَبْعَةً. ثُمَّ مَحَلُّ الْوَجْهَيْنِ إِذَا تَكَرَّرَتِ الْعَادَةُ الدَّائِرَةُ. فَأَمَّا إِذَا رَأَتِ الْأَقْدَارَ الثَّلَاثَةَ، فِي ثَلَاثَةِ أَدْوَارٍ، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ فِي الرَّابِعِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تُرَدُّ إِلَى الْأَقْدَارِ، لِأَنَّا إِنْ أَثْبَتْنَا الْعَادَةَ بِمَرَّةٍ، فَالْأَخِيرُ يَنْسَخُ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ لَمْ نُثْبِتْهَا بِمَرَّةٍ، فَلِأَنَّهُ لَمْ تَتَكَرَّرِ الْأَقْدَارُ لِتَصِيرَ عَادَةً، وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: أَقَلُّ مَا تَسْتَقِيمُ فِيهِ الْعَادَةُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَإِنْ رَأَتْ هَذِهِ الْأَقْدَارَ مَرَّتَيْنِ، فَأَقَلُّهُ سَنَةٌ. ثُمَّ إِذَا قُلْنَا: تُرَدُّ إِلَى هَذِهِ الْعَادَةِ، فَاسْتُحِيضَتْ عَقِبَ شَهْرِ الثَّلَاثَةِ، رُدَّتْ فِي أَوَّلِ شُهُورِ الِاسْتِحَاضَةِ إِلَى الْخَمْسَةِ. وَفِي الثَّانِي: إِلَى السَّبْعَةِ. وَفِي الثَّالِثِ: إِلَى الثَّلَاثَةِ. وَإِنِ اسْتُحِيضَتْ بَعْدَ شَهْرِ الْخَمْسَةِ، رُدَّتْ إِلَى السَّبْعَةِ، ثُمَّ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ الْخَمْسَةِ. وَإِنِ اسْتُحِيضَتْ بَعْدَ شَهْرِ السَّبْعَةِ، رُدَّتْ إِلَى الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ الْخَمْسَةِ، ثُمَّ السَّبْعَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُرَدُّ إِلَيْهَا، فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: تُرَدُّ إِلَى مَا قَبْلَ الِاسْتِحَاضَةِ أَبَدًا. وَالثَّانِي: إِلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِلِاسْتِحَاضَةِ. فَإِنِ اسْتُحِيضَتْ بَعْدَ شَهْرِ الْخَمْسَةِ، رُدَّتْ إِلَى الثَّلَاثَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا كَالْمُبْتَدَأَةِ. وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ بَعْدَ الْبَحْثِ لِغَيْرِهِ، وَلَا لِشَيْخِهِ، بَلِ الْمَذْهَبُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ فِي كُلِّ الطُّرُقِ، أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى الْقَدْرِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الِاسْتِحَاضَةِ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا

الِاحْتِيَاطُ فِيمَا بَيْنَ أَقَلِّ الْعَادَاتِ وَأَكْثَرِهَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا. كَصَاحِبَةِ الْعَادَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْتَاطُ بَعْدَ الْرَدِّ. وَالثَّانِي: يَجِبُ. فَعَلَى هَذَا، يَجْتَنِبُهَا الزَّوْجُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ إِلَى انْقِضَاءِ السَّبْعَةِ. ثُمَّ إِنِ اسْتُحِيضَتْ بَعْدَ شَهْرِ الثَّلَاثَةِ، تَحَيَّضَتْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتُصَلِّي، وَتَصُومُ. وَتَغْتَسِلُ مَرَّةً أُخْرَى فِي آخِرِ الْخَمْسَةِ، وَمَرَّةً أُخْرَى فِي آخِرِ السَّبْعَةِ. وَتَقْضِي صَوْمَ السَّبْعَةِ دُونَ صَلَاتِهَا. وَإِنِ اسْتُحِيضَتْ بَعْدَ شَهْرِ الْخَمْسَةِ، تَحَيَّضَتْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةً. ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتُصَلِّي، وَتَصُومُ، وَتَغْتَسِلُ مَرَّةً أُخْرَى فِي آخِرِ السَّابِعِ، وَتَقْضِي صَوْمَ السَّبْعَةِ، وَتَقْضِي صَلَوَاتِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ؛ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْحَيْضِ فِيهِمَا، وَلَمْ تُصَلِّ فِيهِمَا. وَإِنِ اسْتُحِيضَتْ بَعْدَ شَهْرِ السَّبْعَةِ، تَحَيَّضَتْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ سَبْعَةً، وَاغْتَسَلَتْ فِي آخِرِ السَّابِعِ، وَقَضَتْ صِيَامَ السَّبْعَةِ، وَصَلَوَاتِ الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ وَالسَّادِسِ وَالسَّابِعِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا ذَكَرَتِ الْعَادَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ. فَإِنْ نَسِيَتْهَا، تَحَيَّضَتْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ فِي آخِرِ الْخَامِسِ، وَآخِرِ السَّابِعِ. وَتَتَوَضَّأُ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِكُلِّ فَرِيضَةٍ. سَوَاءٌ قُلْنَا: تَرُدُّ إِلَى الْعَادَةِ الدَّائِرَةِ، أَمْ لَا؟ هَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا مَخْصُوصٌ بِقَوْلِنَا: تَرُدُّ إِلَى الدَّائِرَةِ فَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: تَرُدُّ إِلَى مَا قَبْلَ الِاسْتِحَاضَةِ، فَقِيلَ: هُنَا تَرُدُّ إِلَى أَقَلِّ الْعَادَاتِ. وَقِيلَ: هِيَ كَمُبْتَدَأَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلَانِ فِي أَمْرِهَا بِالِاحْتِيَاطِ إِلَى آخِرِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ. أَنْ لَا تَكُونَ تِلْكَ الْعَادَاتُ مُنْتَظِمَةً. بَلْ تَتَقَدَّمُ هَذِهِ مَرَّةً، وَهَذِهِ مَرَّةً. فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: إِنْ لَمْ نَرُدَّهَا فِي حَالِ الِانْتِظَامِ إِلَى الْعَادَةِ الدَّائِرَةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَتَرَدُّ إِلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الِاسْتِحَاضَةِ. وَإِنْ رَدَدْنَا الْمُنْتَظِمَةَ إِلَى الدَّائِرَةِ، فَغَيْرُ الْمُنْتَظِمَةِ كَنَاسِيَةِ النَّوْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَتَحْتَاطُ كَمَا سَبَقَ. وَذَكَرَ غَيْرُهُمَا أَوْجُهًا، أَصَحَّهَا: الرَّدُّ

إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِحَاضَةِ، بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْعَادَةِ بِمَرَّةٍ. وَالثَّانِي: تَرُدُّ إِلَى الْمُتَقَدِّمِ إِنْ تَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً، وَإِلَّا فَإِلَى الْأَقَلِّ. وَالثَّالِثُ، أَنَّهَا كَالْمُبْتَدَأَةِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، أَوِ الثَّانِي، احْتَاطَتْ إِلَى آخِرِ أَكْثَرِ الْعَادَاتِ. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْمُبْتَدَأَةِ، فَفِي الِاحْتِيَاطِ إِلَى آخِرِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْمُبْتَدَأَةِ. هَذَا إِذَا عَرَفَتِ الْقَدْرَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الِاسْتِحَاضَةِ، فَإِنْ نَسِيَتْهُ، فَوَجْهَانِ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: تَرُدُّ إِلَى أَكْثَرِ الْعَادَاتِ. وَقِيلَ: كَالْمُبْتَدَأَةِ، فَعَلَى الثَّانِي فِي الِاحْتِيَاطِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْمُبْتَدَأَةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجِبُ الِاحْتِيَاطُ إِلَى آخِرِ أَكْثَرِ الْعَادَاتِ. وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ، فَحَصَلَ مِنَ الْمَجْمُوعِ خِلَافٌ فِي أَنَّهَا: هَلْ تَحْتَاطُ فِي الْحَالِ الثَّانِي، سَوَاءٌ عَرَفَتِ الْقَدْرَ الْمُتَقَدِّمَ، أَمْ نَسِيَتْهُ؟ وَإِذَا احْتَاطَتْ، فَإِلَى آخِرِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، أَوْ آخِرِ الْمَقَادِيرِ فِيهِ. وَفِي حَالَةِ الِانْتِظَامِ، سَوَاءٌ نَسِيَتْ أَوْ عَلِمَتِ الْخِلَافُ. لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْعِلْمِ فِي حَالَةِ الِانْتِظَامِ، أَنَّهَا لَا تَحْتَاطُ. وَالصَّحِيحُ: عِنْدَ النِّسْيَانِ. وَفِي حَالَةِ عَدَمِ الِانْتِظَامِ، أَنَّهَا تَحْتَاطُ لَكِنْ إِلَى آخِرِ الْأَقْدَارِ، لَا إِلَى تَمَامِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ. هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ الْعَادَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الدَّائِرَةِ. وَمِنَ الْمُخْتَلِفَةِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُتَقَدِّمِ مِنْ عَادَتِهَا، اخْتِلَافُ قَدْرٍ أَوْ وَقْتٍ. وَتُسَمَّى: الْمُتَنَقِّلَةَ. فَمِنْ صُوَرِهَا، لَوْ كَانَتْ تَحِيضُ أَوَّلَ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةً وَتَطْهُرُ بَاقِيهِ، فَحَاضَتْ فِي دَوْرٍ أَرْبَعَةً مِنَ الْخَمْسَةِ، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْعَادَةَ بِمَرَّةٍ، رَدَدْنَاهَا إِلَى مَا قَبْلَ الِاسْتِحَاضَةِ، وَإِلَّا فَإِلَى الْعَادَةِ الْقَدِيمَةِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَرَأَتْ فِي دَوْرٍ سِتَّةً، وَفِي دَوْرٍ بَعْدَهُ سَبْعَةً، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْعَادَةَ بِمَرَّةٍ، رَدَدْنَاهَا إِلَى السَّبْعَةِ. وَإِنْ لَمْ نُثْبِتْهَا إِلَّا بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ، رَدَدْنَاهَا إِلَى الْخَمْسَةِ. وَإِنْ أَثْبَتْنَاهَا بِمَرَّتَيْنِ، فَالْأَصَحُّ: تَرُدُّ إِلَى السِّتَّةِ. وَالثَّانِي: إِلَى الْخَمْسَةِ. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا، فَحَاضَتْ فِي دَوْرِ الْخَمْسَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَدْ تَغَيَّرَ وَقْتُ حَيْضِهَا، وَصَارَ دَوْرُهَا الْمُتَقَدِّمُ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، خَمْسَةً حَيَضٌ، وَالْبَاقِي طُهْرٌ. فَإِنْ تَكَرَّرَ هَذَا، بِأَنْ حَاضَتْ فِي الدَّوْرِ الْآخَرِ الْخَمْسَةَ الثَّالِثَةَ هَكَذَا مِرَارًا، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ، رَدَّتْ إِلَيْهِ، فَتَحِيضُ مِنْ أَوَّلِ الدَّمِ الدَّائِمِ

الْخَمْسَةَ، وَتَطْهُرُ ثَلَاثِينَ، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، بَلِ اسْتَمَرَّ الدَّمُ فِي الدَّوْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْخَمْسَةِ الثَّانِيَةِ، فَوَجْهَانِ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا تَحِيضُ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَإِذَا جَاءَ الشَّهْرُ الثَّانِي، ابْتَدَأَتْ مِنْهُ دَوْرَهَا الْقَدِيمَ حَيْضًا وَطُهْرًا. وَالصَّحِيحُ، قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّا نُحَيِّضُهَا خَمْسَةً مِنِ ابْتِدَاءِ الدَّمِ الْمُبْتَدِئِ مِنَ الْخَمْسَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ إِنْ أَثْبَتْنَا الْعَادَةَ بِمَرَّةٍ، حَكَمْنَا بِالطُّهْرِ ثَلَاثِينَ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهِ الدَّوْرَ أَبَدًا. وَإِنْ لَمْ نُثْبِتْهَا بِمَرَّةٍ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ بَعْدَهَا طُهْرٌ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَكَرِّرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ طُهْرَهَا بَاقِي الشَّهْرِ لَا غَيْرَ، وَتَحِيضُ الْخَمْسَةَ الْأُولَى مِنَ الشَّهْرِ الثَّانِي، وَتُرَاعِي عَادَتَهَا الْقَدِيمَةَ قَدْرًا وَوَقْتًا. وَلَوْ رَأَتِ الْخَمْسَةَ الثَّانِيَةَ دَمًا، وَانْقَطَعَ، وَطَهُرَتْ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ، وَعَادَ الدَّمُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَقَدْ صَارَ دَوْرُهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ بِأَنْ رَأَتِ الْخَمْسَةَ الْأُولَى مِنَ الشَّهْرِ بَعْدَهُ دَمًا وَطَهُرَتْ عِشْرِينَ، وَهَكَذَا مِرَارًا، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ، رَدَّتْ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، بِأَنْ رَأَتِ الْخَمْسَةَ الْأُولَى، فَاسْتَمَرَّ، فَالْخَمْسَةُ الْأُولَى حَيْضٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الطُّهْرُ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْعَادَةَ بِمَرَّةٍ، فَهُوَ عِشْرُونَ، وَإِلَّا فَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا، فَطَهُرَتْ بَعْدَ خَمْسَتِهَا الْمَعْهُودَةِ عِشْرِينَ، وَعَادَ الدَّمُ فِي الْخَمْسَةِ الْأَخِيرَةِ، فَقَدْ تَغَيَّرَ وَقْتُ حَيْضِهَا بِالتَّقَدُّمِ، وَصَارَ دَوْرُهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ الدَّوْرُ، بِأَنْ رَأَتِ الْخَمْسَةَ الْأَخِيرَةَ دَمًا، وَانْقَطَعَ، وَطَهُرَتْ عِشْرِينَ، وَهَكَذَا مِرَارًا، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ، رَدَّتْ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، بَلِ اسْتَمَرَّ الدَّمُ الْعَائِدُ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ فِي هَذَا وَنَظَائِرِهِ. أَصَحُّهَا: تَحِيضُ خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِهِ، وَتَطْهُرُ عِشْرِينَ، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَالثَّانِي: تَحِيضُ خَمْسَةً، وَتَطْهُرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ. وَالثَّالِثُ: تَحِيضُ عَشَرَةً مِنْهُ، وَتَطَهُرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ تُحَافِظُ عَلَى الدَّوْرِ الْقَدِيمِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْخَمْسَةَ الْأَخِيرَةَ اسْتِحَاضَةٌ. وَتَحِيضُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةً، وَتَطْهُرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ عَلَى عَادَتِهَا الْقَدِيمَةِ. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا، وَحَاضَتْ خَمْسَتَهَا، وَطَهُرَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ عَادَ الدَّمُ، وَاسْتَمَرَّ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: أَنَّ يَوْمًا مِنْ أَوَّلِ الدَّمِ الْعَائِدِ،

اسْتِحَاضَةٌ، تَكْمِيلًا لِلطُّهْرِ. وَخَمْسَةً بَعْدَهُ حَيْضٌ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرٌ، وَصَارَ دَوْرُهَا عِشْرِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ اسْتِحَاضَةٌ، وَالْعَشَرَةَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الشَّهْرِ مَعَ خَمْسَةٍ مِنَ الشَّهْرِ بَعْدَهُ حَيْضٌ، ثُمَّ تَطْهُرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَتُحَافِظُ عَلَى دَوْرِهَا الْقَدِيمِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ اسْتِحَاضَةٌ، وَبعْدَهُ خَمْسَةٌ حَيْضٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ طُهْرٌ، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَالرَّابِعُ: جَمِيعُ الدَّمِ الْعَائِدِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ اسْتِحَاضَةٌ. وَتَفْتَتِحُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ دَوْرَهَا الْقَدِيمَ. الْمُسْتَحَاضَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُعْتَادَةُ الذَّاكِرَةُ الْمُمَيِّزَةُ. إِنِ اتَّفَقَتْ عَادَتُهَا وَالتَّمْيِيزُ بِأَنْ كَانَتْ تَحِيضُ خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَتَطْهُرُ بَاقِيَهُ، فَاسْتُحِيضَتْ، وَرَأَتْ خَمْسَهَا سَوَادًا، وَبَاقِيَ الشَّهْرِ حُمْرَةً، فَحَيْضُهَا تِلْكَ الْخَمْسَةَ. وَإِنْ لَمْ تَتَوَافَقِ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ، بِأَنْ كَانَتْ تَحِيضُ خَمْسَةً، فَرَأَتْ فِي دَوْرٍ عَشَرَةً سَوَادًا، ثُمَّ حُمْرَةً مُسْتَمِرَّةً، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: تَعْمَلُ بِالتَّمْيِيزِ، فَحَيْضُهَا الْعَشَرَةُ. وَالثَّانِي: بِالْعَادَةِ، فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَوَّلِهِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، عُمِلَ بِالدَّلَالَتَيْنِ، وَإِلَّا سَقَطَتَا، وَكَانَتْ كَمُبْتَدَأَةٍ لَا تَمْيِيزَ لَهَا، وَفِيهَا الْقَوْلَانِ. مِثَالُ إِمْكَانِ الْجَمْعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَشَرَةِ السَّوَادِ وَعَدَمِ إِمْكَانِهِ، بِأَنْ تَرَى خَمْسَتَهَا حُمْرَةً، وَأَحَدَ عَشَرَ عَقِبَهَا سَوَادًا. أَمَّا إِذَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ، بِأَنْ رَأَتْ عِشْرِينَ فَصَاعِدًا دَمًا ضَعِيفًا، ثُمَّ خَمْسَةً قَوِيًّا، ثُمَّ ضَعِيفًا، وَعَادَتُهَا الْقَدِيمَةُ خَمْسَةٌ، فَقَدْرَ الْعَادَةِ حَيْضٌ لِلْعَادَةِ، وَالْقَوِيُّ حَيْضٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا طُهْرًا كَامِلًا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَمِنْهُمْ مَنْ بَنَى هَذِهِ الصُّورَةَ عَلَى السَّابِقَةِ، فَقَالَ: إِنْ قَدَّمْنَا التَّمْيِيزَ، فَحَيْضُهَا خَمْسَةُ السَّوَادِ، وَطُهْرُهَا الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَصَارَ دَوْرُهَا خَمْسِينَ. وَإِنْ قَدَّمْنَا الْعَادَةَ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، خَمْسَةٌ وَبَعْدَهَا عِشْرُونَ طُهْرًا، وَإِنْ جَمَعْنَا فَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْأَوْلَى بِالْعَادَةِ وَخَمْسَةُ السَّوَادِ بِالتَّمْيِيزِ.

فَرْعٌ. الْعَادَةُ الَّتِي تَرُدُّ إِلَيْهَا الْمُعْتَادَةُ، لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ عَادَةَ حَيْضٍ وَطُهْرٍ صَحِيحَيْنِ بِلَا اسْتِحَاضَةٍ، بَلْ قَدْ تَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَفَادَةً مِنَ التَّمْيِيزِ، بِأَنْ تَرَى الْمُبْتَدَأَةُ خَمْسَةً سَوَادًا، ثُمَّ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ حُمْرَةً، وَهَكَذَا مِرَارًا، ثُمَّ يَسْتَمِرُّ السَّوَادُ وَالْحُمْرَةُ فِي بَعْضِ الشُّهُورِ، فَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّ عَادَتَهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ، فَتَرُدُّ إِلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَعَلَى الشَّاذِّ: هِيَ كَمُبْتَدَأَةٍ غَيْرِ مُمَيِّزَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا، فَرَأَتْ فِي بَعْضِ الْأَدْوَارِ عَشَرَةً سَوَادًا، وَبَاقِي الشَّهْرِ حُمْرَةً، ثُمَّ اسْتَمَرَّ السَّوَادُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ، فَقَالَ الْأَئِمَّةُ: فَحَيْضُهَا عَشَرَةُ السَّوَادِ، وَمَرَدُّهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَشَرَةٌ. وَلَوِ اعْتَادَتْ خَمْسَةً سَوَادًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ الدَّمُ، ثُمَّ رَأَتْ فِي بَعْضِ الْأَدْوَارِ عَشَرَةً، رَدَّتْ فِي ذَلِكَ الدَّوْرِ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَفِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ إِشْكَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّورَةَ الثَّانِيَةَ، يَنْبَغِي أَنْ تَخْرُجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي اجْتِمَاعِ الْعَادَةِ وَالتَّمْيِيزِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَدَّهَا إِلَى الْعَشَرَةِ فِي الصُّورَةِ الْأَوْلَى، طَاهِرٌ إِذَا أَثْبَتْنَا الْعَادَةَ بِمَرَّةٍ، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَلَا تَكْتَفِيَ بِسَبْقِ الْعَشَرَةِ مَرَّةً. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا: هَذِهِ عَادَةٌ تَمْيِيزِيَّةٌ، فَتَنْسَخُهَا مَرَّةٌ، فَلَا يَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ كَغَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ، إِذَا تَغَيَّرَتْ عَادَتُهَا الْقَدِيمَةُ مَرَّةً، فَإِنَّا نَحْكُمُ بِالْحَالَةِ النَّاجِزَةِ. وَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: لِمَ اخْتُصَّ الْخِلَافُ بِغَيْرِ التَّمْيِيزِيَّةِ؟ . قُلْتُ: قَدْ نَقَلَ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَتَخْرِيجِهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْعَادَةِ بِمَرَّةٍ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَالسَّرَخْسِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ الْمَقْدِسِيُّ وَصَاحِبُ (الْبَيَانِ) وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ)

فصل

وَنَقَلْتُ فِيهِ عِبَارَاتِهِمْ. وَعَجَبٌ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ، كَوْنُهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْخِلَافَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ. الصُّفْرَةُ: شَيْءٌ كَالصَّدِيدِ، تَعْلُوهُ صُفْرَةٌ. وَالْكُدْرَةُ: شَيْءٌ كَدِرٌ. وَلَيْسَا عَلَى لَوْنِ الدِّمَاءِ، وَهُمَا حَيْضٌ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي غَيْرِهَا أَوْجُهٌ: الصَّحِيحُ: أَنَّ لَهَا حُكْمَ السَّوَادِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهَا حُكْمُهُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ سَبَقَ دَمٌ قَوِيٌّ مِنْ سَوَادٍ، أَوْ حُمْرَةٍ، فَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ بَعْدَهُ حَيْضٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَالرَّابِعُ: إِنْ سَبَقَهُمَا دَمٌ قَوِيٌّ وَتَعَقَّبَهُمَا قَوِيٌّ، فَهُمَا حَيْضٌ وَإِلَّا فَلَا. وَعَلَى الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ: يَكْفِي فِي تَقَدُّمِ الْقَوِيِّ وَتَأَخُّرِهِ أَيُّ قَدْرٍ كَانَ، وَلَوْ لَحْظَةً عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَالْمُبْتَدَأَةُ فِي مَرَدِّهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ: الْأَقَلُّ وَالْغَالِبُ إِذَا رَأَتِ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ، كَالْمُعْتَادَةِ فِيمَا وَرَاءَ الْعَادَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: كَأَيَّامِ الْعَادَةِ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُعْتَادَةِ النَّاسِيَةِ. النَّاسِيَةُ ضَرْبَانِ: مُمَيِّزَةٌ، وَغَيْرُهَا. فَالْمُمَيِّزَةُ: تَرُدُّ إِلَى التَّمْيِيزِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: هِيَ كَغَيْرِ مُمَيِّزَةٍ، أَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ، فَلَهَا أَحْوَالٌ:

الْأَوَّلُ: أَنْ تَنْسَى عَادَتَهَا قَدْرًا وَوَقْتًا، لِغَفْلَةٍ، أَوْ عِلَّةٍ، أَوْ جُنُونٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتُسَمَّى: الْمُتَحَيِّرَةُ وَالْمُحَيَّرَةُ، وَفِي حُكْمِهَا طَرِيقَانِ. جَحْدُهُمَا: أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالِاحْتِيَاطِ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ. الْمَشْهُورُ: الِاحْتِيَاطُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَالْمُبْتَدَأَةِ، فَيَكُونُ فِيمَا تَرُدُّ إِلَيْهَا الْقَوْلَانِ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَالثَّانِي: سِتٌّ، أَوْ سَبْعٌ. وَقِيلَ: تَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَطْعًا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا أَوَّلَ الْهِلَالِ، حَتَّى لَوْ أَفَاقَتِ الْمَجْنُونَةُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ، كَانَ بَاقِي الشَّهْرِ اسْتِحَاضَةً. هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: قَوْلُ الْقَفَّالِ: ضَعِيفٌ؛ لِاحْتِمَالِ الْإِفَاقَةِ فِي الْحَيْضِ. وَكَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ أَوَّلِ الْهِلَالِ تَحَكُّمٌ. وَهَذَا مِمَّا ضُعِّفَ بِهِ أَصْلُ هَذَا الْقَوْلِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فِي أَمْرِهَا بِالِاحْتِيَاطِ فِي انْقِضَاءِ الْمَرَدِّ إِلَى آخِرِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، الْقَوْلَانِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ. وَمَتَى أَطْلَقْنَا الشَّهْرَ فِي مَسَائِلِ الْمُسْتَحَاضَاتِ، أَرَدْنَا بِهِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. سَوَاءٌ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ أَوَّلِ الْهِلَالِ، أَمْ لَا. وَلَا نَعْنِي بِهِ الشَّهْرَ الْهِلَالِيَّ، إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُ الِاحْتِيَاطِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ، وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ، فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ. الْأَوَّلُ: يَحْرُمُ وَطْؤُهَا أَبَدًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ. فَعَلَى الصَّحِيحِ، لَوْ وَطِئَ فَلَا كَفَّارَةَ قَطْعًا. وَالِاسْتِمْتَاعُ بِغَيْرِ الْوَطْءِ لَهَا فِيهِ حُكْمُ الْحَائِضِ. الثَّانِي: يَحْرُمُ عَلَيْهَا مَسُّ الْمُصْحَفِ، وَالْقِرَاءَةُ خَارِجَ الصَّلَاةِ إِذَا حَرَّمْنَاهَا عَلَى الْحَائِضِ. وَلَا تَحْرُمُ فِي الصَّلَاةِ الْفَاتِحَةُ، وَلَا تَحْرُمُ السُّورَةُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَحُكْمُهَا فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ حُكْمُ الْحَائِضِ. الثَّالِثُ: يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ أَبَدًا، وَلَا تَحْرُمُ النَّوَافِلُ عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ تَحْرُمُ. وَقِيلَ: يَحْرُمُ غَيْرُ الرَّاتِبَةِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي نَفْلِ الصَّوْمِ وَالطَّوَافِ. وَيَجِبُ الْغُسْلُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ، وَيُشْتَرَطُ وُقُوعُهُ فِي الْوَقْتِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يَجُوزُ غُسْلُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ، إِذَا انْطَبَقَ أَوَّلُ الصَّلَاةِ عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِ الْغُسْلِ، وَيَلْزَمُهَا الْمُبَادَرَةُ بِالصَّلَاةِ عَقِبَ الْغُسْلِ عَلَى وَجْهٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ. لَكِنْ إِنْ أَخَّرَتْ،

لَزِمَهَا لِتِلْكَ الصَّلَاةِ وُضُوءٌ آخَرُ إِذَا لَمْ نُجَوِّزْ لِلْمُسْتَحَاضَةِ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنِ الطَّهَارَةِ. الرَّابِعُ: يَجِبُ عَلَيْهَا صَوْمُ جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَيُحْسَبُ لَهَا مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عَلَى الْمَنْصُوصِ وَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ، وَتَأَوَّلُوا النَّصَّ عَلَى مَا إِذَا عَلِمَتْ أَنَّ دَمَهَا كَانَ يَنْقَطِعُ فِي اللَّيْلِ، فَإِنْ نَقَصَ الشَّهْرُ، حَصَلَ عَلَى الْأَوَّلِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَعَلَى الثَّانِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَقَالَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) : تَحْصُلُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَوَافَقَهُ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) وَهُوَ غَلَطٌ. قُلْتُ: لَمْ يَغْلَطْ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) ، بَلْ كَلَامُهُ مَحْمُولٌ عَلَى شَهْرٍ تَامٍّ. وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي شَرْحِ (الْمُهَذَّبِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إِذَا أَدَّتْهَا فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ، فَعَلَى هَذَا تَغْتَسِلُ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الصُّبْحِ وَتُصَلِّيهَا، ثُمَّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ تَغْتَسِلُ وَتُعِيدُهَا. وَلَا يُشْتَرَطُ الْبِدَارُ بِالْإِعَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، بَلْ مَتَى أَعَادَتْهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ أَوَّلِ الصُّبْحِ أَجْزَأَهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَأْخِيرُ جَمِيعِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ عَنِ الْوَقْتِ. بَلْ لَوْ وَقَعَ بَعْضُهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ، جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ دُونَ تَكْبِيرَةٍ، إِذَا قُلْنَا: تَلْزَمُ الصَّلَاةُ بِإِدْرَاكِ تَكْبِيرَةٍ أَوْ دُونِ رَكْعَةٍ، إِذَا قُلْنَا: لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فُرِضَ الِانْقِطَاعُ قَبْلَ الثَّانِيَةِ، فَقَدِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْهَا، وَالِانْقِطَاعُ لَا يَتَكَرَّرُ وَإِنْ فُرِضَ فِي أَثْنَائِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، كَذَا قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَكَ أَنْ تَقُولَ أَشْكَالًا. الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ، يَتَقَدَّمُهَا الْغُسْلُ، فَإِذَا وَقَعَ بَعْضُهَا فِي الْوَقْتِ، وَالْغُسْلُ سَابِقٌ جَازَ أَنْ يَقَعَ الِانْقِطَاعُ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ مِنْ حِينِئِذٍ قَدْرَ رَكْعَةٍ أَوْ تَكْبِيرَةٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى زَمَنِ الْغُسْلِ سِوَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْهُ، وَإِلَى الْجُزْءِ الْوَاقِعِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ. وَيُقَالُ: إِنْ كَانَ ذَاكَ دُونَ مَا يَلْزَمُ بِهِ الصَّلَاةَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يَقْتَصِرُ النَّظَرُ عَلَى جُزْءِ الصَّلَاةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ

لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُونَ تَكْبِيرَةٍ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ دُونَ رَكْعَةٍ. هَذَا الْكَلَامُ فِي الصُّبْحِ. وَأَمَّا الْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ فَيُصَلِّيهِمَا مَرَّتَيْنِ كَذَلِكَ. وَأَمَّا الظُّهْرُ، فَلَا يَكْفِي وُقُوعُهَا الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَلَا وُقُوعُ الْمَغْرِبِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْعِشَاءِ؛ لِاحْتِمَالِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِي الْوَقْتِ الْمَفْرُوضِ، فَيَلْزَمُ الظُّهْرُ مَعَ الْعَصْرِ، أَوِ الْمَغْرِبُ مَعَ الْعِشَاءِ، فَيَجِبُ إِعَادَةُ الظُّهْرِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ إِعَادَةُ الْعَصْرِ فِيهِ. وَهُوَ بَعْدَ ذَهَابِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَتُعِيدُ الْمَغْرِبَ بَعْدَ ذَهَابِ وَقْتِ الْعِشَاءِ. ثُمَّ إِذَا أَعَادَتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ نُظِرَ: إِنْ قَدَّمَتْهُمَا عَلَى أَدَاءِ الْمَغْرِبِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِلظُّهْرِ، وَتَتَوَضَّأَ لِلْعَصْرِ، وَتَغْتَسِلَ لِلْمَغْرِبِ. وَإِنَّمَا كَفَى لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ غُسْلٌ؛ لِأَنَّ دَمَهَا إِنِ انْقَطَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَقَدِ اغْتَسَلَتْ بَعْدَهُ. وَإِنِ انْقَطَعَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا ظُهْرٌ وَلَا عَصْرٌ. وَإِنَّمَا لَزِمَهَا إِعَادَةُ الْغُسْلِ لِلْمَغْرِبِ؛ لِاحْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ فِي خِلَالِ الظُّهْرِ، أَوِ الْعَصْرِ، أَوْ عَقِيبَهُمَا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا قَضَتِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ قَبْلَ أَدَاءِ الصُّبْحِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُصَلِّيَةً الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مَرَّتَيْنِ بِثَمَانِيَةِ أَغْسَالٍ وَوُضُوءَيْنِ. وَإِنْ أَخَّرَتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ عَنْ أَدَاءِ الْمَغْرِبِ، اغْتَسَلَتْ لِلْمَغْرِبِ، وَكَفَاهَا ذَلِكَ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ إِنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ لَمْ تَعُدْ إِلَى إِتْمَامِ مُدَّةِ الطُّهْرِ. وَإِنِ انْقَطَعَ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا ظُهْرٌ وَلَا عَصْرٌ، لَكِنْ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَسَائِرِ الْمُسْتَحَاضَاتِ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، إِذَا أَخَّرَتْهُمَا عَنِ الصُّبْحِ. وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُصَلِّيَةً الْخَمْسَ مَرَّتَيْنِ. بِالْغُسْلِ سِتًّا، وَبِالْوُضُوءِ أَرْبَعًا. ثُمَّ بِالطَّرِيقِ الثَّانِي تَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَأَمَّا بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَخَّرَتِ الْمَغْرِبَ وَالصُّبْحَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهِمَا لِتَقْدِيمِهَا الْقَضَاءَ عَلَيْهِمَا، فَتَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَدَاهُمَا، وَأَمَّا هُمَا فَقَدْ قَالَ فِي (النِّهَايَةِ) : إِذَا أَخَّرَتِ الصَّلَوَاتِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ حَتَّى مَضَى مَا يَسَعُ الْغُسْلَ، فَتِلْكَ الصَّلَاةُ لَمْ يَكْفِ فِعْلُهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى التَّصْوِيرِ السَّابِقِ؛ لِاحْتِمَالِ طُهْرِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ حُدُوثُ الْحَيْضِ فَتَجِبُ الصَّلَاةُ، وَتَكُونُ

الْمَرَّتَانِ وَاقِعَتَيْنِ فِي الْحَيْضِ. بَلْ تَحْتَاجُ إِلَى فِعْلِهَا مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بِغُسْلَيْنِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ الرَّفَاهِيَةِ وَالضَّرُورَةِ قَبْلَ تَمَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ الْمَرَّةَ الْأُولَى. وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ فِي أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ آخِرِ الصَّلَاةِ الْمَرَّةَ الْأَوْلَى فَتَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ. وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَوِ اقْتَصَرَتْ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوَائِلِ أَوْقَاتِهَا وَلَمْ تَقْضِ شَيْئًا حَتَّى مَضَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَوْ مَضَى شَهْرٌ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا لِكُلِّ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِلَّا قَضَاءُ صَلَوَاتِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ إِلَّا لِاحْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْقِطَاعُ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَّا مَرَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ بِهِ قَضَاءُ صَلَاتَيْ جَمْعٍ، وَهُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، أَوِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ. فَإِذَا أُشْكِلَ الْحَالُ أَوْجَبْنَا قَضَاءَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ صَلَاتَيْنِ مِنْ خَمْسٍ. وَلَوْ كَانَتْ تُصَلِّي فِي أَوْسَاطِ الْأَوْقَاتِ لَزِمَهَا أَنْ تَقْضِيَ لِلْخَمْسَةَ عَشَرَ صَلَوَاتِ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَطْرَأَ الْحَيْضُ فِي وَسَطِ صَلَاةٍ فَيَبْطُلَ، وَيَنْقَطُعَ فِي وَسَطِ أُخْرَى فَيَجِبُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مِثْلَيْنِ. وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاتَانِ مُتَمَاثِلَتَانِ، لَمْ تُعْرَفْ عَيْنَهُمَا، لَزِمَهُ صَلَوَاتُ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ لَوْ فُرِضَ ابْتِدَاءُ الْحَيْضِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُدْرِكْ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُهَا. الْخَامِسُ: إِذَا أَرَادَتْ قَضَاءَ صَوْمِ يَوْمٍ، فَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةٍ؛ فَتَصُومُ يَوْمًا وَتُفْطِرُ يَوْمًا وَتَصُومُ الثَّالِثَ ثُمَّ السَّابِعَ عَشَرَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الثَّالِثُ لِلصَّوْمِ الثَّانِي، وَلَا السَّابِعَ عَشَرَ لِلصَّوْمِ الثَّالِثِ. بَلْ لَهَا أَنْ تَصُومَ بَدَلَ الثَّالِثِ، يَوْمًا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ الْخَامِسَ عَشَرَ. وَبَدَلَ السَّابِعَ عَشَرَ، يَوْمًا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَلِّفُ مِنْ أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ مِثْلَ مَا بَيْنَ صَوْمِهَا الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ. فَلَوْ صَامَتِ الْأَوَّلَ

وَالثَّالِثَ وَالثَّامِنَ عَشَرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُخَلِّفَ عَنْ أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ يَوْمَانِ وَلَيْسَ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إِلَّا يَوْمٌ. فَلَوْ صَامَتِ الْأَوَّلَ وَالرَّابِعَ وَالثَّامِنَ عَشَرَ أَوِ السَّابِعَ عَشَرَ جَازَ. وَلَوْ صَامَتِ الْأَوَّلَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ فَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَلَهَا أَنْ تَصُومَ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ، وَلَهَا أَنْ تَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، غَيْرَ السَّادِسَ عَشَرَ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنْ يَكْفِيَهَا فِي صَوْمِ الْيَوْمِ، أَنْ تَصُومَ يَوْمَيْنِ، بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُحْسَبُ لَهَا مِنْ رَمَضَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَقَطَعَ الْجَمَاهِيرُ: بِأَنَّهُ لَا يَكْفِي الْيَوْمَانِ؛ لِاحْتِمَالِ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَانْقِطَاعِهِ فِي السَّادِسَ عَشَرَ. وَتَأَوَّلُوا النَّصَّ، عَلَى مَا إِذَا عَلِمَتِ الِابْتِدَاءَ وَالِانْقِطَاعَ فِي اللَّيْلِ. أَمَّا إِذَا أَرَادَتْ قَضَاءَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ فَتُضَعِّفُ مَا عَلَيْهَا، وَتَزِيدُ يَوْمَيْنِ، فَتَصُومُ نِصْفَ الْجُمُوعِ مُتَوَالِيًا مَتَى شَاءَتْ، وَتَصُومُ النِّصْفَ الْآخَرَ مِنْ أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ. فَإِذَا أَرَادَتْ يَوْمَيْنِ صَامَتْ ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَةً مَتَى شَاءَتْ ثُمَّ أَفْطَرَتْ تَمَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ صَامَتِ السَّادِسَ عَشَرَ وَالسَّابِعَ عَشَرَ وَالثَّامِنَ عَشَرَ. وَإِنْ أَرَادَتْ ثَلَاثَةً صَامَتْ أَرْبَعَةً ثُمَّ أَرْبَعَةً، أَوَّلُهَا السَّادِسَ عَشَرَ. وَإِنْ أَرَادَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، صَامَتِ الشَّهْرَ كُلَّهُ. وَلَوْ أَنَّهَا صَامَتْ مَا عَلَيْهَا عَلَى الْوَلَاءِ مَتَى شَاءَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَأَعَادَتْهُ مِنْ أَوَّلِ السَّابِعَ عَشَرَ، وَصَامَتْ بَيْنَهُمَا يَوْمَيْنِ مُجْتَمِعِينَ، أَوْ مُتَفَرِّقَيْنَ، إِمَّا مُتَّصِلِينَ بِالصَّوْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، وَإِمَّا غَيْرُ مُتَّصِلِينَ، لَخَرَجَتْ عَنِ الْعُهْدَةِ. هَذَا كُلُّهُ فِي قَضَاءِ الصَّوْمِ الَّذِي لَا تَتَابُعَ فِيهِ، وَأَمَّا الْمُتَتَابِعُ بِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْرًا يَقَعُ فِي شَهْرٍ، صَامَتْهُ عَلَى الْوَلَاءِ، ثُمَّ صَامَتْهُ مَرَّةً أُخْرَى مِنَ السَّابِعَ عَشَرَ. مِثَالُهُ: عَلَيْهَا يَوْمَانِ مُتَتَابِعَانِ. تَصُومُ يَوْمَيْنِ، وَتَصُومُ السَّابِعَ عَشَرَ، وَالثَّامِنَ عَشَرَ، وَتَصُومُ بَيْنَهُمَا يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ، صَامَتْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا مُتَوَالِيَةً. أَمَّا إِذَا أَرَادَتْ تَحْصِيلَ صَلَاةٍ فَائِتَةٍ أَوْ مَنْذُورَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً صَلَّتْهَا بِغُسْلٍ مَتَى شَاءَتْ ثُمَّ أَمْهَلَتْ زَمَانًا يَسَعُ الْغُسْلَ، وَتِلْكَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ تُعِيدُهَا

بِغُسْلٍ آخَرَ، بِحَيْثُ تَقَعُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ الْأُولَى. وَتُمْهِلُ مِنْ أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ قَدْرَ الْإِمْهَالِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ تُعِيدُهَا بِغُسْلٍ آخَرَ قَبْلَ تَمَامِ شَهْرٍ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى. وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُؤَخَّرَ الثَّالِثَةَ عَنْ أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ أَكْثَرَ مِنَ الزَّمَانِ الْمُتَخَلِّلِ بَيْنَ آخِرِ الْمَرَّةِ الْأُولَى وَأَوَّلِ الثَّانِيَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّوْمِ. وَإِنْ أَرَادَتْ صَلَوَاتٍ فَلَهَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُنْزِلَهَا مَنْزِلَةَ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ فَتُصَلِّيَهَا مُتَوَالِيَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَاحِدَةِ. وَتَغْتَسِلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِلصَّلَاةِ الْأُولَى، وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَهَا. وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتِ الصَّلَوَاتُ، أَوِ اخْتَلَفَتْ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: يُنْظَرُ مَا عَلَيْهَا، إِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ، ضَعَّفَتْهُ وَزَادَتْ صَلَاتَيْنِ، وَصَلَّتْ نِصْفَ الْجُمْلَةِ مُتَوَالِيًا. ثُمَّ النِّصْفَ الْآخَرَ مِنْ أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ أَوَّلِ الشُّرُوعِ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ. مِثَالُهُ: عَلَيْهَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ صُبْحٍ تُضَعِّفُهَا وَتَزِيدُ صَلَاتَيْنِ، فَتُصَلِّي سِتًّا مَتَى شَاءَتْ، وَسِتًّا أَوَّلَ السَّادِسَ عَشَرَ. وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ مُخْتَلِفًا صَلَّتْ مَا عَلَيْهَا بِأَنْوَاعِهِ مُتَوَالِيًا مَتَى شَاءَتْ، ثُمَّ صَلَّتْ صَلَاتَيْنِ، مَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِمَّا عَلَيْهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَقَعَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ أَوَّلِ الشُّرُوعِ. وَتُمْهِلُ مِنْ أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ زَمَانًا يَسَعُ الصَّلَاةَ الْمُفْتَتَحَ بِهَا ثُمَّ تُعِيدُ مَا عَلَيْهَا عَلَى تَرْتِيبِ فِعْلِهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. مِثَالُهُ: عَلَيْهَا ظُهْرَانِ وَثَلَاثُ أَصْبَاحٍ، تُصَلِّي الْخَمْسَ مَتَى شَاءَتْ، ثُمَّ تُصَلِّي بَعْدَهَا فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ صُبْحَيْنِ وَظُهْرَيْنِ، وَتُمْهِلُ مِنَ السَّادِسَ عَشَرَ مَا يَسَعُ صُبْحًا، ثُمَّ تُعِيدُ الْخَمْسَ كَمَا فَعَلَتْ أَوَّلًا. وَفِي هَذَا الطَّرِيقِ، تَفْتَقِرُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَى غُسْلٍ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الطَّوَافُ فَكَالصَّلَاةِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ عَدَدًا، وَيُصَلِّي مَعَ كُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْهِ وَيَكْفِي غُسْلٌ وَاحِدٌ لِلطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْهِ إِنْ لَمْ نُوجِبِ الرَّكْعَتَيْنِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُمَا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ وُضُوءٌ لِلرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ غُسْلٌ آخِرُ لَهُمَا. وَالثَّالِثُ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ.

السَّادِسُ: فِي عِدَّةِ الْمُتَحَيِّرَةِ. الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فِي الْحَالِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: تَقْعُدُ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ. فَرْعٌ: اعْلَمْ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ مَالَ إِلَى رَدِّ الْمُتَحَيِّرَةِ إِلَى مَرَدِّ الْمُبْتَدَأَةِ فِي قَدْرِ الْحَيْضِ، وَإِنْ لَمْ نَجْعَلِ الْهِلَالَ، ابْتِدَاءَ دَوْرِهَا. وَمِمَّا اسْتُشْهِدَ بِهِ، مَسْأَلَةُ عِدَّتِهَا، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَقْرِيبِ أَمْرِهَا مِنَ الْمُبْتَدَأَةِ فِي عَدَدِ الْحَيْضِ، وَالطُّهْرِ. وَهَذَا تَوَسَّطٌ بَيْنَ الْقَوْلِ الضَّعِيفِ، وَالِاحْتِيَاطِ التَّامِّ. وَفِيهِ تَخْفِيفُ أَمْرِهَا، فِي الْمَحْسُوبِ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّ غَايَةَ حَيْضِهَا عَلَى هَذَا سَبْعَةٌ يَفْسَدُ بِهِ ثَمَانِيَةٌ، فَيَحْصُلُ لَهَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الْكَامِلِ، اثْنَانِ وَعِشْرُونَ يَوْمًا. وَكَذَا قَضَاءُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَيَكْفِيهَا عَلَى هَذَا، إِذَا أَرَادَتْ صَوْمَ يَوْمٍ، أَنْ تَصُومَ يَوْمَيْنِ، بَيْنَهُمَا سَبْعَةٌ. لَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مَا تَقَدَّمَ. قُلْتُ: قَدْ أَتْقَنَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، بَابَ الْمُتَحَيِّرَةِ وَلَخَّصَ مَقَاصِدَهُ فِي أَوْرَاقٍ قَلِيلَةٍ. وَقَدْ بَسَطْتُ أَنَا فِي شَرْحِ (الْمُهَذَّبِ) جَمِيعَ مَسَائِلِهِ. وَذَكَرْتُ فِي عِدَّتِهَا طَرِيقَةً أُخْرَى، اخْتَارَهَا الدَّارِمِيُّ، فِيهَا إِنْكَارٌ عَلَى الْأَصْحَابِ فِي الْمَذْكُورِ هُنَا. وَكَذَا فِي صَوْمِهَا الْمُتَتَابِعِ، وَكَذَا فِي غَيْرِ الْمُتَتَابِعِ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ، أَنَّ مَنْ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمَيْنِ، يَحْصُلُ لَهَا ذَلِكَ بِصِيَامِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ؛ فَتَصُومُ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ وَالسَّابِعَ عَشَرَ وَالتَّاسِعَ عَشَرَ، وَتُخْلِي الرَّابِعَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ، يَبْقَى بَيْنَهُمَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، تَصُومُ مِنْهَا يَوْمًا أَيُّهَا شَاءَتْ. ثُمَّ بُسِطَ تَفْرِيعُ ذَلِكَ وَتَقْسِيمُهُ، وَعَلَى زَوْجِ الْمُتَحَيِّرَةِ نَفَقَتُهَا. وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا؛ لِأَنَّ جِمَاعَهَا مُتَوَقَّعٌ - بِخِلَافِ الرَّتْقَاءِ - وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ طَاهِرَةٍ خَلْفَ مُتَحَيِّرَةٍ، وَلَا صَلَاةُ مُتَحَيِّرَةٍ خَلْفَ

مُتَحَيِّرَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى الصَّحِيحِ، إِنْ قُلْنَا: يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا إِذَا أَفْطَرَتْ لِإِرْضَاعٍ عَلَى الصَّحِيحِ، إِنْ أَوْجَبْنَاهَا عَلَى غَيْرِهَا. وَلَا يَصِحُّ جَمْعُهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالسَّفَرِ أَوِ الْمَطَرِ فِي وَقْتِ الْأُولَى. وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمٍ، فَشَرَعَتْ فِي الصِّيَامِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَصَامَتْ يَوْمًا شَكَّتْ بَعْدَ فَرَاغِهَا مِنْهُ، هَلْ نَوَتْ صَوْمَهُ أَمْ لَا؟ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ شَكٌّ بَعْدَ الْفَرَاغِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَصِحُّ. لِأَنَّ هَذَا الصِّيَامَ، كَيَوْمٍ وَاحِدٍ. فَصَارَ كَالشَّكِّ فِي أَثْنَائِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الثَّانِي: لِلنَّاسِيَةِ أَنْ تَحْفَظَ زَمَنَ عَادَتِهَا. وَضَابِطُهُ، أَنَّ كُلَّ زَمَنٍ تُيُقِّنَ فِيهِ الْحَيْضُ، ثَبَتَ فِيهِ أَحْكَامُ الْحَيْضِ كُلُّهَا. وَكُلُّ زَمَنٍ تُيُقِّنَ فِيهِ الطُّهْرُ، ثَبَتَ فِي حُكْمُ الطُّهْرِ. لَكِنْ بِهَا حَدَثٌ دَائِمٌ، وَكُلُّ زَمَنٍ يَحْتَمِلُ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ، فَهِيَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ، كَالْحَائِضِ. وَفِي لُزُومِ الْعِبَادَاتِ، كَالطَّاهِرِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الزَّمَنُ مُحْتَمِلًا لِلِانْقِطَاعِ، وَجَبَ الْغُسْلُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ، وَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ. فَإِذَا عَيَّنَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَالَتْ: كَانَ حَيْضِي يَبْتَدِئُ لِأَوَّلِهَا، وَكَذَا كُلُّ ثَلَاثِينَ بَعْدَهَا، فَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مِنْ أَوَّلِ الثَّلَاثِينَ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَبَعْدَهُ يَحْتَمِلُ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ. وَالِانْقِطَاعُ إِلَى آخِرِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَبَعْدَهُ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، طُهْرٌ بِيَقِينٍ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ، وَالْمُرَادُ بِالشَّهْرِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَيَّامُ الَّتِي تُعَيِّنُهَا هِيَ، لَا الشَّهْرُ الْهِلَالِيُّ. وَلَوْ عَيَّنَتْ ثَلَاثِينَ، وَقَالَتْ: أَعْلَمُ أَنَّ الدَّمَ كَانَ يَنْقَطِعُ آخِرَ كُلِّ شَهْرٍ، فَالنِّصْفُ الْأَوَّلُ طُهْرٌ بِيَقِينٍ. وَبَعْدَهُ يَحْتَمِلُ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ دُونَ الِانْقِطَاعِ. وَلَيْلَةُ الثَّلَاثِينَ وَيَوْمُهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ. وَلَوْ قَالَتْ: كُنْتُ أَخْلِطُ شَهْرًا بِشَهْرٍ، أَيْ كُنْتُ فِي آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ، وَلَحْظَةٍ مِنْ آخِرِهِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ. وَلَحْظَةٍ مِنْ آخِرِ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَلَحْظَةٍ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةِ السَّادِسَ عَشَرَ طُهْرٌ بِيَقِينٍ. وَمَا بَيْنَ اللَّحْظَةِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَاللَّحْظَةِ مِنْ آخِرِ الْخَامَسَ

عَشْرَ يَحْتَمِلُ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ وَالِانْقِطَاعَ. وَمَا بَيْنَ اللَّحْظَةِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةِ السَّادِسَ عَشَرَ، وَاللَّحْظَةِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، يَحْتَمِلُهُمَا دُونَ الِانْقِطَاعِ. وَلَوْ قَالَتْ: كُنْتُ أَخْلِطُ شَهْرًا بِشَهْرٍ طُهْرًا، فَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَلَهَا لَحَظَتَا طُهْرٍ بِيَقِينٍ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ، وَآخِرِهِ. ثُمَّ قُدِّرَ أَقَلُّ الْحَيْضِ بَعْدَ اللَّحْظَتَيْنِ، لَا يُمْكِنُ فِيهِ الِانْقِطَاعُ، وَبَعْدَهُ يَحْتَمِلُ. وَلَوْ قَالَتْ: كُنْتُ أَخْلِطُ شَهْرًا بِشَهْرٍ حَيْضًا، أَوْ كُنْتُ الْيَوْمَ الْخَامِسَ حَائِضًا، فَلَحْظَةٌ مِنْ كُلِّ آخِرِ شَهْرٍ إِلَى آخِرِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنَ الَّذِي بَعْدَهُ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَلَحْظَةٌ مِنْ آخِرِ الْخَامِسَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا كَمَا سَبَقَ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَحْفَظَ قَدْرَ عَادَتِهَا. وَإِنَّمَا تَخْرُجُ الْحَافِظَةُ عَنِ التَّحَيُّرِ بِحِفْظِ قَدْرِ الدَّوْرِ وَابْتِدَائِهِ وَقَدْرِ الْحَيْضِ. إِذْ لَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةٌ وَأَضْلَلْتُهَا فِي دَوْرِي وَلَا أَعْرِفُ سِوَى هَذَا فَلَا فَائِدَةَ فِي حِفْظِهَا لِاحْتِمَالِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالِانْقِطَاعِ كُلَّ زَمَانٍ. وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةٌ وَدَوْرِي ثَلَاثُونَ لَا أَعْرِفُ ابْتِدَاءَهُ. وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةٌ وَابْتِدَاؤُهُ يَوْمَ كَذَا وَلَا أَعْرِفُ قَدْرَهُ. فَإِنْ حَفِظَتْهُمَا مَعَ قَدْرِ الْحَيْضِ فَإِضْلَالُهَا بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِإِضْلَالِ الْحَيْضِ. وَالْإِضْلَالُ قَدْ يَكُونُ فِي كُلِّ الدَّوْرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهِ. فَإِنْ كَانَ فِي كُلِّهِ، فَكُلُّهُ يَحْتَمِلُ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ، وَقَدْرُ الْحَيْضِ مِنْ أَوَّلِ الدَّوْرِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ وَبَعْدَهُ يَحْتَمِلُهُ. مِثَالُهُ: قَالَتْ: دَوْرِي ثَلَاثُونَ، أَوَّلُهَا كَذَا، وَحَيْضِي عَشَرَةٌ. فَعَشَرَةٌ فِي أَوَّلِهَا، لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ، وَالْبَاقِي يَحْتَمِلُهُ، وَالْجَمِيعُ يَحْتَمِلُ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ. فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي إِحْدَى عَشَرَاتِ الشَّهْرِ فَهَذِهِ كَالْأُولَى، إِلَّا أَنَّ احْتِمَالَ الِانْقِطَاعِ هُنَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي آخِرِ كُلِّ عَشَرَةٍ. وَمِثَالُ الْإِضْلَالِ فِي بَعْضِ الدَّوْرِ أَنْ تَقُولَ: أَضْلَلْتُ عَشَرَةً، فِي عِشْرِينَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَالْعَشَرَةُ الْأَخِيرَةُ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَالْعِشْرُونَ تَحْتَمِلُ الْحَيْضَ

وَالطُّهْرَ. وَلَا يُمْكِنُ الِانْقِطَاعُ فِي الْأُولَى وَيُمْكِنُ فِي الثَّانِيَةِ. وَلَوْ قَالَتْ: أَضْلَلْتُ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي عِشْرِينَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَالْعَشَرَةُ الْأَخِيرَةُ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَالْخَمْسَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ حَيْضٌ بِيَقِينٍ. فَالْأُولَى تَحْتَمِلُ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ دُونَ الِانْقِطَاعِ، وَالرَّابِعَةُ تَحْتَمِلُ الْجَمِيعَ، وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةٌ وَكُنْتُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ عَشَرَ طَاهِرًا، فَخَمْسَةٌ مِنْ أَوَّلِ الدَّوْرِ تَحْتَمِلُ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ دُونَ الِانْقِطَاعِ، وَمَا بَعْدَهُ تَحْتَمِلُ الْجَمِيعَ إِلَى آخِرِ الثَّانِي عَشَرَ. ثُمَّ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ، طُهْرٌ بِيَقِينٍ. وَمِنْ أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ تَحْتَمِلُ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ دُونَ الِانْقِطَاعِ. وَمِنْهُ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ تَحْتَمِلُ الْجَمِيعَ، وَمَتَى كَانَ الْقَدْرُ الَّذِي أَضَلَّتْهُ، زَائِدًا عَلَى نِصْفِ الْمُضَلِّ فِيهِ حَصَلَ حَيْضٌ بِيَقِينٍ مِنْ وَسَطِهِ، وَهُوَ الزَّائِدُ عَلَى النِّصْفِ مَعَ مَثَلِهِ. فَهَذَا ضَابِطُهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثَالَهُ فِي قَوْلِهَا: أَضْلَلْتُ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي عِشْرِينَ. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي التَّلْفِيقِ. إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فَرَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً. أَوْ يَوْمَيْنِ وَيَوْمَيْنِ. فَتَارَةً يُجَاوِزُ التَّقَطُّعَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَتَارَةً لَا يُجَاوِزُهَا. فَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْهَا، فَقَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْجَمِيعَ حَيْضٌ. وَيُسَمَّى قَوْلَ السَّحْبِ. وَالثَّانِي: حَيْضُهَا الدِّمَاءَ خَاصَّةً. وَأَمَّا النَّقَاءُ فَطُهْرٌ. وَيُسَمَّى: قَوْلَ التَّلْفِيقِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا نَجْعَلُ النَّقَاءَ طُهْرًا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْغُسْلِ وَنَحْوِهَا دُونَ الْعِدَّةِ. وَالطَّلَاقُ فِيهِ بِدْعِيُّ. ثُمَّ الْقَوْلَانِ: إِنَّمَا هُمَا فِي النَّقَاءِ الزَّائِدِ عَلَى الْفَتْرَةِ الْمُعْتَادَةِ. فَأَمَّا الْفَتْرَةُ الْمُعْتَادَةُ بَيْنَ دَفْعَتَيِ الدَّمِ فَحَيْضٌ بِلَا خِلَافٍ.

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتْرَةِ وَالنَّقَاءِ دَمُ الْحَيْضِ يَجْتَمِعُ فِي الرَّحِمِ، ثُمَّ الرَّحِمُ يَقْطُرُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْفَتْرَةُ مَا بَيْنَ ظُهُورِ دَفْعَةٍ وَانْتِهَاءِ أُخْرَى مِنَ الرَّحِمِ إِلَى الْمَنْفَذِ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ النَّقَاءُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَرُبَّمَا تَرَدَّدَ النَّاظِرُ، فِي أَنَّ مُطْلَقَ الزَّائِدِ، هَلْ يَخْرُجُ عَنِ الْفَتْرَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ؟ . قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْفَتْرَةَ هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَنْقَطِعُ فِيهَا جَرَيَانُ الدَّمِ، وَيَبْقَى أَثَرٌ، بِحَيْثُ لَوْ أَدْخَلَتْ فِي فَرْجِهَا قُطْنَةً، لَخَرَجَ عَلَيْهَا أَثَرُ الدَّمِ مِنْ حُمْرَةٍ، أَوْ صُفْرَةٍ، أَوْ كُدْرَةٍ، فَهَذِهِ حَالَةُ حَيْضٍ قَطْعًا طَالَتْ أَمْ قَصُرَتْ. وَالنَّقَاءُ: أَنْ يَصِيرَ فَرْجُهَا بِحَيْثُ لَوْ أَدْخَلَتِ الْقُطْنَةَ، لَخَرَجَتْ بَيْضَاءَ، فَهَذَا الضَّبْطُ، هُوَ الَّذِي ضَبَطَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي (الْأُمِّ) وَالشُّيُوخُ الثَّلَاثَةُ: أَبُو حَامِدِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَصَاحِبُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ، وَصَاحِبُهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي تَعَالِيقِهِمْ. فَلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا فَرْقَ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الدَّمِ وَالنَّقَاءِ، أَوْ يَزِيدَ أَحَدُهُمَا لَوْ رَأَتْ صُفْرَةً، أَوْ كُدْرَةً بَيْنَ سَوَادَيْنِ، وَقُلْنَا: إِنَّهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ لَيْسَتْ حَيْضًا فَهِيَ كَالنَّقَاءِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالسَّحْبِ، فَشَرْطُهُ كَوْنُ النَّقَاءِ مُحْتَوِشًا بِدَمَيْنِ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ. فَإِنْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ طُهْرٌ بِلَا خِلَافٍ. مِثَالُهُ: رَأَتِ (الدَّمَ) يَوْمًا وَيَوْمًا إِلَى الثَّالِثَ عَشَرَ، وَلَمْ يَعُدِ الدَّمُ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ فَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ طُهْرٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ النَّقَاءَ فِيهِمَا لَمْ يَتَعَقَّبْهُ دَمٌ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ.

فَرْعٌ: الدِّمَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ إِنْ بَلَغَ مَجْمُوعُهَا أَقَلَّ الْحَيْضِ، نُظِرَ، إِنْ بَلَغَ الْأَوَّلُ وَالْآخَرُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَقَلَّ الْحَيْضِ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: النَّقَاءُ هُنَا حَيْضٌ قَطْعًا. وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ، إِذَا لَمْ يَبْلُغْ كُلُّ طَرَفٍ الْأَقَلَّ. وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْأَقَلَّ، بِأَنْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا، وَنِصْفَهُ نَقَاءً إِلَى آخِرِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَثَلَاثَةُ طُرُقٍ: أَصَحُّهَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. فَعَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ: حَيْضُهَا أَنْصَافُ الدَّمِ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ. وَعَلَى السَّحْبِ، حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ، فَإِنَّ النِّصْفَ الْأَخِيرَ لَمْ يَحْتَوِشْهُ دَمَانِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنْ لَا حَيْضَ أَصْلًا، وَكُلُّهُ دَمُ فَسَادٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَوَسُّطَهُمَا قَدْرَ أَقَلِّ الْحَيْضِ مُتَّصِلًا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِلَّا فَالْجَمِيعُ دَمُ فَسَادٍ. وَإِنْ بَلَغَ أَحَدُهُمَا الْأَقَلَّ دُونَ الْآخَرِ، فَثَلَاثَةُ طُرُقٍ؛ أَصَحُّهَا طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: مَا بَلَغَهُ حَيْضٌ، وَمَا سِوَاهُ دَمُ فَسَادٍ. وَالثَّالِثُ: إِنْ بَلَغَ الْأَوَّلُ أَقَلَّ الْحَيْضِ، فَالْجَمِيعُ حَيْضٌ. وَإِنْ بَلَغَ الْآخَرُ، فَهُوَ حَيْضٌ دُونَ مَا سِوَاهُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا بَلَغَ مَجْمُوعُ الدِّمَاءِ أَقَلَّ الْحَيْضِ. فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، فَطَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ لَفَّقْنَا، فَلَا حَيْضَ، وَكَذَا إِنْ سَحَبْنَا، عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الضَّعِيفِ: الدَّمُ وَالنَّقَاءُ كُلُّهُ حَيْضٌ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنْ لَا حَيْضَ. فَحَصَلَ فِي الْمُعْتَبَرِ مِنَ الدَّمَيْنِ لِنَجْعَلَ مَا بَيْنَهُمَا حَيْضًا عَلَى قَوْلِ السَّحْبِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: يُشْتَرَطُ بُلُوغُ مَجْمُوعِ الدِّمَاءِ قَدْرَ أَقَلِّ الْحَيْضِ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّمَيْنِ قَدْرَ أَقَلِّ الْحَيْضِ، حَتَّى لَوْ رَأَتْ دَمًا نَاقِصًا عَنِ الْأَقَلِّ، وَدَمَيْنِ آخَرَيْنِ غَيْرَ نَاقِصِينِ، فَالْأَوَّلُ: دَمُ فَسَادٍ، وَالْآخَرَانِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ النَّقَاءِ، حَيْضٌ. وَالثَّالِثُ: لَا يُشْتَرَطُ، بَلْ لَوْ كَانَ مَجْمُوعُ الدِّمَاءِ، نِصْفَ يَوْمٍ، أَوْ أَقَلَّ، فَهِيَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ النَّقَاءِ حَيْضٌ، عَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ. قَالَهُ الْأَنْمَاطِيُّ.

وَالرَّابِعُ: يُشْتَرَطُ بُلُوغُ أَوَّلِهِمَا، وَحَدُّهُ أَقَلُّ الْحَيْضِ. وَالْخَامِسُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقَلَّ الْحَيْضِ. وَالسَّادِسُ: يُشْتَرَطُ الْأَقَلُّ فِي الْأَوَّلِ أَوِ الْأَخِيرِ أَوِ الْوَسَطِ. فَرْعٌ: إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمُبْتَدَأَةِ، فَعِنْدَ انْقِطَاعِهِ وَهُوَ بَالِغٌ أَقَلَّ الْحَيْضِ، يَلْزَمُهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْغُسْلُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَلَهَا الطَّوَافُ وَالْجِمَاعُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَحِلُّ الْجِمَاعُ إِذَا قُلْنَا بِالسَّحْبِ. ثُمَّ إِذَا عَادَ الدَّمُ تَرَكَتِ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَالْجِمَاعَ وَغَيْرَهَا، وَبَيَّنَّا عَلَى قَوْلِ السَّحْبِ وُقُوعَ الْعِبَادَاتِ وَالْجِمَاعِ فِي الْحَيْضِ. لَكِنْ لَا تَأْثَمُ وَتَقْضِي الصَّوْمَ وَالطَّوَافَ دُونَ الصَّلَاةِ. وَعَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ: مَا مَضَى صَحِيحٌ وَلَا قَضَاءَ. وَهَكَذَا حُكْمُ الِانْقِطَاعِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ، وَمَا بَعْدَهُمَا فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ: أَنَّ مَا سِوَى الِانْقِطَاعِ الْأَوَّلِ، يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ بِمَاذَا ثَبَتَتْ. فَإِذَا ثَبَتَتْ، تَوَقَّفْنَا فِي الْغُسْلِ، وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ارْتِقَابًا لِلْعُودِ. وَأَمَّا الشَّهْرُ الثَّانِي، وَمَا بَعْدَهُ، فَعَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ: لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ. وَعَلَى السَّحْبِ، فِي الدَّوْرِ الثَّانِي، طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا: يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعَادَةِ، إِنْ أَثْبَتْنَاهَا بِمَرَّةٍ، فَقَدْ عَرَّفَنَا التَّقَطُّعَ بِالشَّهْرِ الْأَوَّلِ، فَلَا تَغْتَسِلُ، وَلَا تُصَلِّي وَلَا تَصُومُ، حَمَلًا عَلَى عَوْدِ الدَّمِ. فَإِنْ لَمْ يَعُدْ بَانَ أَنَّهَا كَانَتْ طَاهِرَةً فَتَقْضِي الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ. وَإِنْ لَمْ نُثْبِتْهَا بِمَرَّةٍ، فَحُكْمُهَا كَمَا مَضَى فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ. وَمَا بَعْدَهُ، تَثْبُتُ الْعَادَةُ بِالْمَرَّتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ. فَلَا تَغْتَسِلُ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ، وَلَا تُصَلِّي. وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَثْبُتُ الْعَادَةُ إِلَّا بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ، لَمْ يَخْفَ قِيَاسُهُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ التَّقَطُّعَ وَإِنْ تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، فَحُكْمُ الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ حُكْمُ الْأُولَى. قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ.

فصل

قُلْتُ: قَطَعَ بِالطَّرِيقِ الثَّانِي، الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَصَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَغَيْرُهُمَا. وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي (الْأُمِّ) وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الِانْقِطَاعُ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّمِ أَقَلَّ الْحَيْضِ، فَإِنْ رَأَتِ الْمُبْتَدَأَةُ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا، وَانْقَطَعَ، وَقُلْنَا بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِ السَّحْبِ، لَا غُسْلَ عَلَيْهَا عِنْدَ الِانْقِطَاعِ الْأَوَّلِ، وَتَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي. وَفِي سَائِرِ الِانْقِطَاعَاتِ إِذَا بَلَغَ مَجْمُوعُ مَا سَبَقَ دَمًا وَنَقَاءً أَقَلَّ الْحَيْضِ، صَارَ حُكْمُهَا مَا سَبَقَ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى. وَعَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ: لَا غُسْلَ فِي الِانْقِطَاعِ الْأَوَّلِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِشَكِّنَا فِي الْحَيْضِ، وَفِي سَائِرِ الِانْقِطَاعَاتِ إِذَا بَلَغَ مَا سَبَقَ مِنَ الدَّمِ وَحْدَهُ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَلْزَمُهَا الْغُسْلُ وَقَضَاءُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَحُكْمُ الدَّوْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى. فَصْلٌ إِذَا جَاوَزَ الدَّمُ بِصِفَةِ التَّلْفِيقِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ صَارَتْ مُسْتَحَاضَةً؛ كَغَيْرِهَا إِذَا جَاوَزَ دَمُهَا، وَلَا صَائِرَ إِلَى الِالْتِقَاطِ مِنْ جَمِيعِ الشَّهْرِ وَإِنْ لَمْ يَزِدْ مَبْلَغُ الدَّمِ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ. وَإِذَا صَارَتْ مُسْتَحَاضَةً فَالْفَرْقُ بَيْنَ حَيْضِهَا وَاسْتِحَاضَتِهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْعَادَةِ أَوِ التَّمْيِيزِ كَغَيْرِ ذَاتِ التَّلْفِيقِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِ اتَّصَلَ الدَّمُ الْمُجَاوِزُ بِدَمِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ. وَإِنِ انْفَصَلَ بِتَخَلُّلِ نَقَاءٍ فَالْمُجَاوِزُ اسْتِحَاضَةٌ. وَجَمِيعُ مَا فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الدِّمَاءِ حَيْضٌ. وَفِي نَقَائِهَا الْقَوْلَانِ. مِثَالُ الْمُتَّصِلِ: رَأَتْ سِتَّةً دَمًا، ثُمَّ سِتَّةً نَقَاءً، ثُمَّ سِتَّةً دَمًا. وَمِثَالُ غَيْرِ الْمُتَّصِلِ: رَأَتْ يَوْمًا، وَيَوْمًا، فَالسَّادِسَ عَشَرَ نَقَاءٌ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَحْمُودِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ فِي الْجَمِيعِ، وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ. فَالْمُسْتَحَاضَاتٍ خَمْسٌ:

الْأُولَى: الْمُعْتَادَةُ الْحَافِظَةُ عَادَتَهَا. وَهِيَ ضَرْبَانِ: (الضَّرْبُ الْأَوَّلُ) عَادَةٌ لَا يَنْقَطِعُ فِيهَا. (وَالثَّانِي) عَادَةٌ مُنْقَطِعَةٌ. فَالَّتِي لَا يَنْقَطِعُ لَهَا كُلَّ عَادَةٍ، تَرُدُّ إِلَيْهَا عِنْدَ الْإِطْبَاقِ. وَالْمُجَاوِزَةُ تَرُدُّ إِلَيْهَا عِنْدَ التَّقَطُّعِ وَالْمُجَاوَزَةِ. ثُمَّ عَلَى قَوْلِ السَّحْبِ: كُلُّ دَمٍ يَقَعُ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ وَكُلُّ نَقَاءٍ يَتَخَلَّلُ دَمَيْنِ فِيهَا فَهُوَ حَيْضٌ. وَالنَّقَاءُ الَّذِي لَا يَتَخَلَّلُ لَيْسَ بِحَيْضٍ. وَأَيَّامُ الْعَادَةِ كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ عِنْدَ عَدَمِ الْمُجَاوَزَةِ، فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ. وَعَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ: فِيمَا يُجْعَلُ حَيْضًا وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: قَدْرُ عَادَتِهَا مِنَ الدِّمَاءِ الْوَاقِعَةِ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ. فَإِنْ لَمْ تَبْلُغِ الدِّمَاءُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ قَدْرَ عَادَتِهَا جُعِلَ الْمَوْجُودُ فِيهَا حَيْضًا. وَالثَّانِي: حَيْضُهَا الدِّمَاءَ الْوَاقِعَةَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ لَا غَيْرَ. مِثَالُهُ: كَانَتْ تَحِيضُ خَمْسَةً مُتَوَالِيَةً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَيُقْطَعُ دَمُهَا يَوْمًا يَوْمًا، فَعَلَى السَّحْبِ: حَيْضُهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَوَّلِ الدَّوْرِ. وَعَلَى التَّلْفِيقِ: مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ حَيْضُهَا الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ وَالسَّابِعُ وَالتَّاسِعُ. وَعَلَى التَّلْفِيقِ مِنَ الْعَادَةِ: حَيْضُهَا الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ. وَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ سِتَّةً، فَعَلَى السَّحْبِ: حَيْضُهَا خَمْسَةٌ، وَسَقَطَ السَّادِسُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُحْتَوِشًا بِدَمَيْ حَيْضٍ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ. وَعَلَى التَّلْفِيقِ مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ: حَيْضُهَا أَيَّامَ الدِّمَاءِ، آخِرُهَا الْحَادِيَ عَشَرَ. وَعَلَى التَّلْفِيقِ مِنَ الْعَادَةِ: حَيْضُهَا الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ. وَلَوِ انْتَقَلَتْ عَادَتُهَا بِتَقَدُّمٍ، أَوْ تَأَخُّرٍ، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ، عَادَ الْخِلَافُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَالَةِ الْإِطْبَاقِ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْعَادَةُ. مِثَالُ التَّقَدُّمِ: كَانَ عَادَتُهَا خَمْسَةً مِنْ ثَلَاثِينَ، فَرَأَتْ فِي بَعْضِ الْأَشْهُرِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ دَمًا، وَالْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَهُ نَقَاءً، وَهَكَذَا إِلَى أَنِ انْقَطَعَ دَمُهَا، وَجَاوَزَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: حَيْضُهَا أَيَّامُهَا الْقَدِيمَةُ، وَمَا قَبْلَهَا اسْتِحَاضَةٌ. فَإِنْ سَحَبْنَا فَحَيْضُهَا الْيَوْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ.

قَالَ الْجُمْهُورُ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ -: تَنْتَقِلُ الْعَادَةُ بِمَرَّةٍ. فَإِنْ سَحْبَنَا، فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ مُتَوَالِيَةٌ. أَوَّلُهَا: الثَّلَاثُونَ، وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْعَادَةِ، فَحَيْضُهَا الثَّلَاثُونَ. وَالثَّانِي، وَالرَّابِعُ، إِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، ضَمَمْنَا إِلَيْهَا السَّادِسَ، وَالثَّامِنَ. وَمِثَالُ التَّأَخُّرِ: أَنْ تَرَى فِي بَعْضِ الْأَشْهُرِ، الْيَوْمَ الْأَوَّلَ: نَقَاءً. وَالثَّانِي: دَمًا، وَاسْتَمَرَّ التَّقَطُّعُ. فَعِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ: الْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ. وَعَلَى الْمَذْهَبِ: إِنْ سَحَبْنَا فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ مُتَوَالِيَةٌ، أَوَّلُهَا الثَّانِي، وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْعَادَةِ فَالثَّانِي وَالرَّابِعُ وَالسَّادِسُ. وَهُوَ: إِنْ خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ الْقَدِيمَةِ، فَبِالتَّأَخُّرِ انْتَقَلَتْ عَادَتُهَا، وَصَارَ الثَّانِي أَوَّلَهَا وَالسَّادِسَ آخِرَهَا، وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ ضَمَمْنَا إِلَيْهَا الثَّامِنَ وَالْعَاشِرَ. وَقَدْ صَارَ طُهْرُهَا السَّابِقُ عَلَى الِاسْتِحَاضَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، سِتَّةً وَعِشْرِينَ، وَفِي صُورَةِ التَّقَدُّمِ، أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ. وَلَوْ لَمْ يَتَقَدَّمِ الدَّمُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَلَا تَأَخَّرَ، لَكِنْ تَقَطَّعَ هُوَ وَالنَّقَاءُ يَوْمَيْنِ يَوْمَيْنِ، لَمْ يَعُدْ خِلَافُ أَبِي إِسْحَاقَ، بَلْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ سَحْبَنَا، فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ مُتَوَالِيَةٌ. وَالسَّادِسُ اسْتِحَاضَةٌ، كَالدِّمَاءِ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْعَادَةِ، فَحَيْضُهَا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالْخَامِسُ، وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْخَمْسَ عَشْرَ، ضَمَمْنَا إِلَيْهَا السَّادِسَ وَالتَّاسِعَ. وَحُكِيَ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْخَامِسَ لَا يُجْعَلُ حَيْضًا إِذَا لَفَّقْنَا مِنَ الْعَادَةِ وَلَا التَّاسِعَ إِذَا لَفَّقْنَا مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُمَا ضَعُفَا بِاتِّصَالِهِمَا بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ. وَيُجْرَى هَذَا الْوَجْهُ فِي كُلِّ نَوْبَةِ دَمٍ يَخْرُجُ بَعْضُهَا عَنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ، إِنِ اقْتَصَرْنَا عَلَيْهَا، أَوْ عَنِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ إِنِ اعْتَبَرْنَاهَا. هَذَا بَيَانُ حَيْضِهَا. فَأَمَّا قَدْرُ طُهْرِهَا بَعْدَهُ، إِلَى اسْتِئْنَافِ حَيْضَةٍ أُخْرَى، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ التَّقَطُّعُ، بِحَيْثُ يَنْطَبِقُ الدَّمُ عَلَى أَوَّلِ الدَّوْرِ، فَهُوَ ابْتِدَاءُ الْحَيْضَةِ الْأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَنْطَبِقْ، فَابْتِدَاؤُهَا أَقْرَبُ نَوْبِ الدِّمَاءِ إِلَى الدَّوْرِ، تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، فَابْتِدَاءُ حَيْضِهَا النَّوْبَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ، ثُمَّ قَدْ يَتَّفِقُ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فِي بَعْضِ أَدْوَارِ الِاسْتِحَاضَةِ، دُونَ بَعْضٍ. وَطَرَائِقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ

نَوْبَةَ دَمٍ وَنَقَاءٍ، وَتَطْلُبَ عَدَدًا صَحِيحًا يَحْصُلُ مِنْ مَضْرُوبِ مَجْمُوعِ النَّوْبَتَيْنِ فِيهِ مِقْدَارُ دَوْرِهَا، فَإِنْ وَجَدَتْهُ، فَاعْلَمِ انْطِبَاقَ الدَّمِ عَلَى أَوَّلِ الدَّوْرِ، وَإِلَّا، فَاضْرِبْهُ فِي عَدَدٍ يَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْهُ أَقْرَبَ إِلَى دَوْرِهَا، زَائِدًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا. وَاجْعَلْ حَيْضَهَا الثَّانِي، أَقْرَبَ الدِّمَاءِ إِلَى أَوَّلِ الدَّوْرِ، فَإِنِ اسْتَوَى طَرَفُ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فَالِاعْتِبَارُ بِالزَّائِدِ؛ مِثَالُهُ: عَادَتُهَا خَمْسَةٌ مِنْ ثَلَاثِينَ، وَتَقَطَّعَا يَوْمًا يَوْمًا وَجَاوَزَ، فَنَوْبَةُ الدَّمِ يَوْمٌ، وَنَوْبَةُ النَّقَاءِ مِثْلُهُ. وَتَجِدُ عَدَدًا إِذَا ضَرَبْتَ الِاثْنَيْنِ فِيهِ بَلَغَ ثَلَاثِينَ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَيُعْلَمُ انْطِبَاقُ الدَّمِ، عَلَى أَوَّلِ دَوْرِهَا أَبَدًا، مَا دَامَ التَّقَطُّعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَانْقَطَعَ يَوْمَيْنِ يَوْمَيْنِ، فَلَا تَجِدُ عَدَدًا يَحْصُلُ مِنْ ضَرْبِ أَرْبَعَةٍ فِيهِ ثَلَاثُونَ. فَاطْلُبْ مَا يُقَرِّبُ الْحَاصِلَ فِيهِ مِنَ الضَّرْبِ فِيهِ مِنْ ثَلَاثِينَ وَهُنَا عَدَدَانِ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ، أَحَدُهُمَا: يَحْصُلُ مِنْهُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ. وَالْآخَرُ: اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ. فَاسْتَوَى طَرَفَا الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، فَخُذْ بِالزِّيَادَةِ، وَاجْعَلْ أَوَّلَ الْحَيْضَةِ الْأُخْرَى، الثَّالِثَ وَالثَّلَاثِينَ. وَحِينَئِذٍ، يَعُودُ خِلَافُ أَبِي إِسْحَاقَ، لِتَأَخُّرِ الْحَيْضِ، فَحَيْضُهَا عِنْدَهُ فِي الدَّوْرِ الثَّانِي، هُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فَقَطْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ، فَإِنْ سَحْبَنَا فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ مُتَوَالِيَةٌ أَوَّلُهَا الثَّالِثُ. وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْعَادَةِ فَحَيْضُهَا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالسَّابِعُ. وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ ضَمَمْنَا إِلَيْهَا الثَّامِنَ وَالْحَادِيَ عَشَرَ. ثُمَّ فِي الدَّوْرِ الثَّالِثِ، يَنْطَبِقُ الدَّمُ عَلَى أَوَّلِ الدَّوْرِ، فَلَا يَبْقَى خِلَافُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الدَّوْرِ الْأَوَّلِ. وَفِي الدَّوْرِ الرَّابِعِ يَتَأَخَّرُ الْحَيْضُ وَيَعُودُ الْخِلَافُ وَعَلَى هَذَا أَبَدًا. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَرَأَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا، وَأَرْبَعَةً نَقَاءً فَمَجْمُوعُ النَّوْبَتَيْنِ سَبْعَةٌ. وَلَا تَجِدُ عَدَدًا إِذَا ضَرَبْتَ السَّبْعَةَ فِيهِ بَلَغَ ثَلَاثِينَ، فَاضْرِبْهُ فِي أَرْبَعَةٍ، لِتَبْلُغَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ. وَاجْعَلْ أَوَّلَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ، التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَيْضُ عَلَى أَوَّلِ الدَّوْرِ.

فَعَلَى قِيَاسِ أَبِي إِسْحَاقَ مَا قَبْلَ الدَّوْرِ اسْتِحَاضَةٌ، وَحَيْضُهَا الْيَوْمُ الْأَوَّلُ فَقَطْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ، لَا يَخْفَى. وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا سِتَّةً مِنْ ثَلَاثِينَ، وَيُقَطَّعُ الدَّمُ فِي بَعْضِ الْأَدْوَارِ، سِتَّةً سِتَّةً، وَجَاوَزَ، فَفِي الدَّوْرِ الْأَوَّلِ حَيْضُهَا السِّتَّةُ الْأُولَى بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الدَّوْرُ الثَّانِي، فَإِنَّهَا تَرَى سِتَّةً مِنْ أَوَّلِهِ نَقَاءٌ، وَهِيَ أَيَّامُ الْعَادَةِ. فَعِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ: لَا حَيْضَ لَهَا فِي هَذَا الدَّوْرِ أَصْلًا، وَعَلَى الْمَذْهَبِ، وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: تَحِيضُهَا السِّتَّةَ الثَّانِيَةَ، عَلَى قَوْلَيِ السَّحْبِ وَالتَّلْفِيقِ جَمِيعًا. وَالثَّانِي: حَيْضُهَا السِّتَّةُ الْأَخِيرَةُ مِنَ الدَّوْرِ الْأَوَّلِ. وَيَجِيءُ هَذَا الْوَجْهُ، حَيْثُ خَلَا جَمِيعَ أَيَّامِ الْعَادَةِ عَنِ الْحَيْضِ. هَذَا كُلُّهُ، إِذَا لَمْ يَنْقُصِ الدَّمُ الْمَوْجُودُ فِي زَمَنِ الْعَادَةِ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ. فَإِنْ نَقَصَ، بِأَنْ كَانَتْ عَادَتُهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَرَأَتْ فِي بَعْضِ الْأَدْوَارِ يَوْمًا دَمًا، وَلَيْلَةً نَقَاءً. وَاسْتُحِيضَتْ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ عَلَى قَوْلِ السَّحْبِ، الْأَصَحُّ لَا حَيْضَ لَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَالثَّانِي، تَعُودُ إِلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ. وَالثَّالِثُ: حَيْضُهَا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَاللَّيْلَةُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ، فَلَا حَيْضَ لَهَا إِنْ لَفَّقْنَا عَلَى الْعَادَةِ. فَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ؛ حَيْضُهَا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَجَعَلْنَا اللَّيْلَةَ بَيْنَهُمَا طُهْرًا. قُلْتُ: قَوْلُهُ: لَا حَيْضَ لَهَا إِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْعَادَةِ هُوَ الْأَصَحُّ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ وَجْهًا آخَرَ عَنِ الْمَحْمُودِيِّ: أَنَّهُ تَلَفُّقٌ مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ. وَادَّعَى فِي (الْوَسِيطِ) أَنَّهُ لَا طَرِيقَ غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْعَادَةُ الْمُتَقَطِّعَةُ. فَإِذَا اسْتَمَرَّتْ لَهَا عَادَةٌ مُتَقَطِّعَةٌ قَبْلَ الِاسْتِحَاضَةِ، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ مَعَ التَّقَطُّعِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ التَّقَطُّعُ بَعْدَ الِاسْتِحَاضَةِ كَالتَّقَطُّعِ قَبْلَهَا، فَمَرَدُّهَا قَدْرُ حَيْضِهَا عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ. مِثَالُهُ: كَانَتْ تَرَى ثَلَاثَةً دَمًا، وَأَرْبَعَةً نَقَاءً، وَثَلَاثَةً دَمًا، وَتَطْهُرُ عِشْرِينَ، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ، وَالتَّقَطُّعُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنْ سَحْبَنَا كَانَ حَيْضِهَا قَبْلَ الِاسْتِحَاضَةِ

عَشَرَةً، وَكَذَا بَعْدَهَا. وَإِنْ لَفَّقْنَا، كَانَ حَيْضُهَا سِتَّةً، بِتَوَسُّطٍ بَيْنَ نِصْفَيْهَا أَرْبَعَةٍ، وَكَذَا الْآنَ. فَإِنِ اخْتَلَفَ التَّقَطُّعُ، بِأَنْ تَقَطَّعَ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ الْأَدْوَارِ يَوْمًا يَوْمًا، ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ، فَإِنْ سَحْبَنَا، فَحَيْضُهَا الْآنَ تِسْعَةُ أَيَّامٍ. وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْعَادَةِ، فَحَيْضُهَا الْأَوَّلُ، وَالثَّالِثُ، وَالتَّاسِعُ، إِذْ لَيْسَ لَهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا الْقَدِيمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ دَمٌ، إِلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ ضَمَمْنَا إِلَيْهَا الْخَامِسَ وَالسَّابِعَ وَالْحَادِيَ عَشَرَ. الْمُسْتَحَاضَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُبْتَدَأَةُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا تُصَلِّي وَتَصُومُ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ الْأَوَّلِ. وَكَذَا فِي سَائِرِ الِانْقِطَاعِ الْوَاقِعِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ. فَإِذَا جَاوَزَ دَمُهَا الْخَمْسَةَ عَشَرَ الْمُنْقَطِعَةَ عَلِمَتِ اسْتِحَاضَتَهَا. فَإِنْ قُلْنَا: تَرُدُّ الْمُبْتَدَأَةُ، إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَكَانَ التَّقَطُّعُ يَوْمًا يَوْمًا فَحَيْضُهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالْبَاقِي طُهْرٌ. وَإِنْ قُلْنَا: تَرُدُّ إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ، فَإِنْ سَحَبْنَا، وَرَدَدْنَاهَا إِلَى سِتٍّ، فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ مُتَوَالِيَةٌ؛ لِأَنَّ السَّادِسَ نَقَاءٌ لَمْ يَحْتَوِشْهُ دَمَانِ فِي الْمَرَدِّ. وَإِنْ رَدَدْنَاهَا إِلَى سَبْعٍ، فَحَيْضُهَا سَبْعٌ مُتَوَالِيَةٌ. وَإِنْ لَفَّقْنَاهَا مِنَ الْعَادَةِ، وَرَدَدْنَاهَا إِلَى سِتٍّ، فَحَيْضُهَا الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ. وَإِنْ رَدَدْنَاهَا إِلَى سَبْعٍ، ضَمَمْنَا إِلَيْهَا السَّابِعَ. وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَرَدَدْنَاهَا إِلَى سِتٍّ، فَحَيْضُهَا سِتَّةٌ مِنْ أَيَّامِ الدِّمَاءِ. وَإِنْ رَدَدْنَاهَا إِلَى سَبْعٍ، فَحَيْضُهَا سَبْعَةٌ مِنْ أَيَّامِ الدِّمَاءِ. وَكُلُّ هَذَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعْتَادَةِ. وَابْتِدَاءُ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ، طَرِيقُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُعْتَادَةِ. ثُمَّ إِنْ صَامَتْ، وَصَلَّتْ فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ حَتَّى جَاوَزَ الدَّمُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَتَرَكَتْهَا فِي أَيَّامِ الدَّمِ كَمَا أَمَرْنَاهَا، قَضَتْ صِيَامَ أَيَّامِ الدَّمِ بَعْدَ الْمَرَدِّ، وَصَلَوَاتُهَا بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا صَلَوَاتُ أَيَّامِ النَّقَاءِ، فَلَا تَقْضِيهَا، وَلَا تَقْضِي صِيَامَهَا أَيْضًا إِنْ لَفَّقْنَا. وَكَذَا إِنْ سَحَبْنَا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي الْأَدْوَارِ كُلِّهَا. خَرَجَ مِنْ هَذَا، أَنَّا إِنْ حَكَمْنَا بِالتَّلْفِيقِ، لَمْ تَقْضِ مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَّا صَلَوَاتِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ وَصِيَامَهَا. وَإِنْ رَدَدْنَا الْمُبْتَدَأَةَ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ أَيَّامُ الدَّمِ سِوَى الْأُولَى. وَإِنْ رَدَدْنَاهَا إِلَى

سِتٍّ، أَوْ سَبْعٍ فَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْعَادَةِ، وَكَانَ الرَّدُّ إِلَى سِتٍّ، قَضَتْ صِيَامَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ وَصَلَوَاتِهَا. وَإِنْ رَدَّتْ إِلَى سَبْعٍ، قَضَتِ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ عَنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَرَدَّتْ إِلَى سِتٍّ، قَضَتْهُمَا عَنْ يَوْمَيْنِ. وَإِنْ رَدَّتْ إِلَى سَبْعٍ فَعَنْ يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا إِذَا سَحَبْنَا، فَإِنْ رَدَدْنَاهَا إِلَى يَوْمٍ، قَضَتْ صَلَوَاتِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ أَيَّامُ الدِّمَاءِ سِوَى الْأَوَّلِ. وَفِي الصَّوْمِ قَوْلَانِ: الْأَظْهَرُ: تَقْضِي ثَمَانِيَةً فَقَطْ. وَهِيَ أَيَّامُ الدِّمَاءِ. وَالثَّانِي: تَقْضِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ. وَإِنْ رَدَدْنَاهَا إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ. فَإِنْ رَدَّتْ إِلَى سِتٍّ قَضَتْ صَلَوَاتِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ. وَهِيَ أَيَّامُ الدِّمَاءِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فِيهَا بَعْدَ الْمَرَدِّ. فَإِنْ رَدَّتْ إِلَى سَبْعٍ، قَضَتْ صَلَوَاتِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَعَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: تَقْضِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ. وَعَلَى أَظْهَرِهِمَا: إِنْ رَدَّتْ إِلَى سِتٍّ قَضَتْ صِيَامَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهَا أَيَّامَ الدِّمَاءِ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَيَوْمَانِ نَقَاءٌ وَقَعَا فِي الْمَرَدِّ لِتَبَيُّنَ الْحَيْضِ فِيهِمَا. وَإِنْ رَدَّتْ إِلَى سَبْعٍ، قَضَتْ صِيَامَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا. الْمُسْتَحَاضَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُبْتَدَأَةُ الْمُمَيِّزَةُ. تَمْيِيزُهَا تَارَةً يَكُونُ مَعَ وُجُودِ شُرُوطِ التَّمْيِيزِ كُلِّهَا، وَتَارَةً بِفَقْدِ بَعْضِهَا. فَإِنْ فُقِدَ بِأَنْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ، وَيَوْمًا أَحْمَرَ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، فَقَدْ فَاتَ أَحَدُ الشُّرُوطِ. وَهُوَ عَدَمُ مُجَاوَزَةِ الْقَوِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَلَهَا حُكْمُ الْمُبْتَدَأَةِ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَإِنْ وُجِدَتْ شُرُوطُ التَّمْيِيزِ كُلُّهَا، فَإِنْ سَحْبَنَا فَحَيْضُهَا الدِّمَاءُ الْقَوِيَّةُ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ، مَعَ النَّقَاءِ الْمُتَخَلِّلِ، أَوِ الضَّعِيفِ الْمُتَخَلِّلِ. وَإِنْ لَفَّقْنَا فَحَيْضُهَا الْقَوِيُّ دُونَ مَا تَخَلَّلَهُ. مِثَالُهُ: رَأَتْ يَوْمًا سَوَادًا، وَيَوْمًا حُمْرَةً، إِلَى آخِرِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ اسْتَمَرَّتِ الْحُمْرَةُ وَحْدَهَا مُتَّصِلَةً أَوْ مُنْقَطِعَةً، فَإِنْ سَحْبَنَا، فَحَيْضُهَا جَمِيعُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ. وَإِنْ لَفَّقْنَا، فَأَيَّامُ السَّوَادِ الثَّمَانِيَةُ.

الْمُسْتَحَاضَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُمَيِّزَةُ الْمُعْتَادَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْمُمَيِّزَةِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا تَقْطَعُ فِي دَمِهَا، بَلْ يُرَجَّحُ التَّمْيِيزُ أَوِ الْعَادَةُ. وَحُكْمُ هَذِهِ حُكْمُ تِلْكَ بِلَا فَرْقٍ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ قُلْنَا بِهِ صَارَتْ كَالْمُنْفَرِدَةِ بِهِ. الْمُسْتَحَاضَةُ الْخَامِسَةُ: النَّاسِيَةُ قَدْ تَنْسَى عَادَتَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ، وَقَدْ تَنْسَاهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، كَمَا فِي حَالَةِ الْإِطْبَاقِ، فَالْمُتَحَيِّرَةُ يَعُودُ فِيهَا الْقَوْلَانِ فِي حَالَةِ الْإِطْبَاقِ. وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ كَالْمُبْتَدَأَةِ، فَحُكْمُهَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُبْتَدَأَةِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ: إِنَّهَا تَحْتَاطُ، بَنَيْنَا أَمْرَهَا عَلَى قَوْلِي التَّلْفِيقِ. فَإِنْ سَحْبَنَا احْتَاطَتْ فِي أَزْمِنَةِ الدَّمِ، مِنَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَالَةِ الْإِطْبَاقِ بِلَا فَرْقٍ. وَتَحْتَاطُ فِي زَمَنِ النَّقَاءِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ زَمَنٍ مِنْهُ يَحْتَمِلُ الْحَيْضَ. لَكِنْ لَا تُؤْمَرُ بِالْغُسْلِ زَمَنَ النَّقَاءِ، وَلَا تُؤْمَرُ أَيْضًا فِيهِ بِتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ، بَلْ يَكْفِيهَا لِكُلِّ نَقَاءٍ الْغُسْلُ فِي أَوَّلِهِ. وَإِنْ لَفَّقْنَا، فَعَلَيْهَا أَنْ تَحْتَاطَ فِي أَيَّامِ الدَّمِ، وَعِنْدَ كُلِّ انْقِطَاعٍ. وَأَمَّا أَزْمِنَةَ النَّقَاءِ فَهِيَ طَاهِرٌ فِيهَا فِي الْجِمَاعِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا النَّاسِيَةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَتَحْتَاطُ عَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ، مَعَ رِعَايَةِ مَا تَذْكُرُهُ. مِثَالُهُ: قَالَتْ: أَضْلَلْتُ خَمْسَةً فِي الْعَشَرَةِ الْأُولَى مِنَ الشَّهْرِ وَتَقَطَّعَ الدَّمُ وَالنَّقَاءُ يَوْمًا يَوْمًا، وَاسْتُحِيضَتْ، فَإِنْ سَحْبَنَا، فَالْعَاشِرُ طُهْرٌ؛ لِأَنَّهُ نَقَاءٌ لَمْ يَحْتَوِشْهُ دَمُ حَيْضٍ. وَلَا غُسْلَ فِي الْخَمْسَةِ الْأُولَى، لِتَعَذُّرِ الِانْقِطَاعِ. فَإِذَا انْقَضَتِ اغْتَسَلَتْ. وَلَا تَغْتَسِلُ بَعْدَهَا فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ. وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ السَّابِعِ وَالتَّاسِعِ. وَلَا تَغْتَسِلُ فِي أَثْنَائِهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْعَادَةِ، فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَا عَلَى قَوْلِ السَّحْبِ. إِلَّا أَنَّهَا طَاهِرٌ فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ فِي كُلِّ حُكْمٍ. وَأَنَّهَا تَغْتَسِلُ عَقِبَ كُلِّ نَوْبَةٍ مِنْ نُوَبِ الدَّمِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ الْخَمْسَةِ

فصل

عَشَرَ، فَحَيْضُهَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ. وَهِيَ: الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ وَالسَّابِعُ وَالتَّاسِعُ، عَلَى تَقْدِيرِ انْطِبَاقِ الْحَيْضِ عَلَى الْخَمْسَةِ الْأُولَى. وَعَلَى تَقْدِيرِ تَأَخُّرِهِ إِلَى الْخَمْسَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَمْسَةِ الثَّانِيَةِ إِلَّا يَوْمَا دَمٍ؛ وَهُمَا السَّابِعُ وَالتَّاسِعُ، فَتَضُمُّ إِلَيْهَا الْحَادِيَ عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ. فَهِيَ إِذًا حَائِضٌ فِي السَّابِعِ، وَالتَّاسِعِ، لِتَيَقُّنِ دُخُولِهِمَا فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي النِّفَاسِ. أَكْثَرُهُ سِتُّونَ يَوْمًا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَحَكَى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ أَرْبَعُونَ. وَغَالِبُهُ: أَرْبَعُونَ. وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، بَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ النِّفَاسِ لِمَا وَجَدَتْهُ، وَإِنْ قَلَّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: أَقَلُّهُ: أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ. وَسَوَاءٌ فِي حُكْمِ النِّفَاسِ، كَانَ الْوَلَدُ كَامِلَ الْخِلْقَةِ أَوْ نَاقِصَهَا أَوْ مَيْتًا وَأَلْقَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً. وَقَالَ الْقَوَابِلُ: إِنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، فَالدَّمُ الْمَوْجُودُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ. فَصْلٌ مَا تَرَاهُ الْحَامِلُ مِنَ الدَّمِ عَلَى تَرْتِيبِ أَدْوَارِهَا، فِيهِ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ. وَالْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ حَيْضٌ. وَسَوَاءٌ مَا تَرَاهُ قَبْلَ الْحَمْلِ وَبَعْدَهَا، عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَا بَعْدَ الْحَرَكَةِ، فَأَمَّا قَبْلَهَا، فَحَيْضٌ قَطْعًا. ثُمَّ عَلَى

الْقَدِيمِ: هُوَ حَدَثٌ دَائِمٌ، كَسَلَسِ الْبَوْلِ. وَعَلَى الْجَدِيدِ: يَحْرُمُ فِيهِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ. وَتَثْبُتُ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ. وَلَا يَحْرُمُ فِيهِ الطَّلَاقُ. قُلْتُ: عَدَمُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ لِصَاحِبِ الْحَمْلِ. فَإِنْ كَانَ (لَهَا) عِدَّتَانِ، فَفِي انْقِضَاءِ إِحْدَاهُمَا بِالْحَيْضِ عَلَى الْحَمْلِ خِلَافٌ. وَتَفْصِيلُهُ يَأْتِي فِي كِتَابِ (الْعِدَّةِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ هُنَا فِي شَرْحَيِ (الْمُهَذَّبِ) وَ (التَّنْبِيهِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى الْجَدِيدِ، إِذَا رَأَتِ الدَّمَ، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَهُوَ حَيْضٌ قَطْعًا. وَكَذَا إِنْ وَلَدَتْ قَبْلَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، أَوْ مُتَّصِلًا بِآخِرِ الدَّمِ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا. وَعَلَى الثَّانِي: يَكُونُ دَمَ فَسَادٍ وَلَيْسَ بِنِفَاسٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ لَا يَسْبِقُ الْوِلَادَةَ، بَلْ هُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِبَ الْوِلَادَةِ. وَقَطَعَ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ، بِأَنَّ مَا يَبْدُو عِنْدَ الطَّلْقِ، لَيْسَ بِنِفَاسٍ. وَقَالُوا: ابْتِدَاءُ النِّفَاسِ يُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ انْفِصَالِ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ هُوَ حَيْضًا أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: أَنَّهُ نِفَاسٌ. وَفِي وَجْهٍ: حَيْضٌ. وَأَمَّا الدَّمُ الْخَارِجُ مَعَ الْوَلَدِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: أَنَّهُ كَالْخَارِجِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نِفَاسٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَالْخَارِجِ بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ نِفَاسٌ، وَجَبَ بِهِ الْغُسْلُ، وَبَطَلَ بِهِ الصَّوْمُ، وَإِنْ لَمْ تَرَ بَعْدَهُ دَمًا أَصْلًا. وَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ بِنِفَاسٍ، لَمْ يَجِبْ بِهِ الْغُسْلُ، وَلَمْ يَبْطُلِ الصَّوْمُ. فَحَصَلَ مِنَ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ النِّفَاسِ أَوْجُهًا: أَحَدُهَا: مِنْ وَقْتِ الدَّمِ الْبَادِئِ عِنْدَ الطَّلْقِ. وَالثَّانِي: مِنَ الْخَارِجِ مَعَ ظُهُورِ الْوَلَدِ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ: مِنِ انْفِصَالِ الْوَلَدِ. وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهًا: أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ الدَّمَ أَيَّامًا، ثُمَّ ظَهَرَ الدَّمُ، فَابْتِدَاءُ

فصل

مُدَّةِ النِّفَاسِ، تُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ خُرُوجِ الدَّمِ، لَا مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ. فَهَذَا وَجْهٌ رَابِعٌ. وَمَوْضِعُهُ، إِذَا كَانَتِ الْأَيَّامُ الْمُتَخَلِّلَةُ دُونَ أَقَلِّ الطُّهْرِ. فَصْلٌ فِي الدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ، وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَيْسَ بِنِفَاسٍ. وَالثَّانِي: نِفَاسٌ. فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِنِفَاسٍ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُبْنَى عَلَى دَمِ الْحَامِلِ. فَإِنْ جَعَلْنَاهُ حَيْضًا، فَهَذَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: مَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ دَمَ فَسَادٍ، مَعَ قَوْلِنَا: الْحَامِلُ تَحِيضُ. وَإِذَا قُلْنَا: هُوَ نِفَاسٌ، فَمَا بَعْدَ الْوَلَدِ الثَّانِي مَعَهُ، نِفَاسٌ وَاحِدٌ، أَمْ نِفَاسَانِ؟ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: نِفَاسَانِ. وَلَا تُبَالِي مُجَاوَزَةَ الدَّمِ سِتِّينَ مِنَ الْوِلَادَةِ الْأُولَى. الثَّانِي: نِفَاسٌ وَاحِدٌ. فَعَلَى هَذَا إِذَا زَادَ الدَّمُ عَلَى سِتِّينَ مِنَ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ، فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: مَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ، إِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بَيْنَ الدَّمَّيْنِ دُونَ السِّتِّينَ، فَإِنْ بَلَغَتْ سِتِّينَ، فَالثَّانِي: نِفَاسٌ آخَرُ قَطْعًا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا فَرْقَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، قَوْلُ الصَّيْدَلَانِيِّ. وَلَمْ يَحْكِهِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ عَلَى وَجْهِهِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: اتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ بَعْدَ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا. إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا سِتُّونَ. وَاخْتَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا. وَضَعَّفَ قَوْلَ وَالِدِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِي بَعْدَ السِّتِّينَ، وَقُلْنَا بِاتِّخَاذِ النِّفَاسِ، فَمَا بَعْدَهُ اسْتِحَاضَةٌ. وَلَوْ سَقَطَ عُضْوٌ مِنَ الْوَلَدِ، وَبَاقِيهِ مُجْتَنٌّ، وَرَأَتْ بَيْنَهُمَا دَمًا، فَفِي كَوْنِهِ نِفَاسًا، الْوَجْهَانِ فِي الدَّمِ بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا جَاوَزَ دَمُ النُّفَسَاءِ سِتِّينَ، فَقَدِ اخْتَلَطَ نِفَاسُهَا بِاسْتِحَاضَتِهَا. وَطَرِيقُ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَفِي وَجْهٍ: نِفَاسُهَا سِتُّونَ. وَمَا بَعْدَهَا اسْتِحَاضَةٌ إِلَى تَمَامِ طُهْرِهَا الْمُعْتَادِ، أَوِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً، وَمَا بَعْدَهُ حَيْضٌ. فِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: نِفَاسُهَا سِتُّونَ. وَمَا بَعْدَهَا حَيْضٌ مُتَّصِلٌ بِهِ. وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى تَضْعِيفِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْمُسْتَحَاضَاتِ: خَمْسٌ. الْأُولَى: الْمُعْتَادَةُ. فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً أَرْبَعِينَ مَثَلًا، كَانَ نِفَاسُهَا الْآنَ أَرْبَعِينَ. وَلَهَا فِي الْحَيْضِ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُعْتَادَةً فِيهِ، فَطُهْرُهَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، قَدْرَ عَادَتِهَا فِي الطُّهْرِ، ثُمَّ تَحِيضُ قَدْرَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً فِيهِ، فَتَجْعَلُ الْقَدْرَ الَّذِي تَرُدُّ إِلَيْهِ الْمُبْتَدَأَةُ فِي الطُّهْرِ، طُهْرًا لَهَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ. وَالَّذِي تَرُدُّ إِلَيْهِ فِي الْحَيْضِ، حَيْضًا لَهَا بَعْدَهُ. ثُمَّ الْخِلَافُ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْعَادَةُ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَادَةِ وَالتَّمْيِيزِ إِذَا اجْتَمَعَا يَجْرِي هُنَا كَمَا فِي الْحَيْضِ. وَلَوْ وَلَدَتْ مِرَارًا وَلَمْ تَرَ دَمًا، ثُمَّ وَلَدَتْ وَاسْتُحِيضَتْ، لَمْ يَكُنْ عَدَمُ النِّفَاسِ عَادَةً، بَلْ هِيَ مُبْتَدَأَةٌ فِيهِ، كَالَّتِي لَمْ تَلِدْ أَصْلًا. الْمُسْتَحَاضَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ: الْمُبْتَدَأَةُ الْمُمَيِّزَةُ، وَغَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ. أَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ، فَتَرُدُّ إِلَى لَحْظَةٍ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِلَى أَرْبَعِينَ عَلَى الثَّانِي. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَفِي قَوْلٍ غَرِيبٍ: تَرُدُّ إِلَى سِتِّينَ. وَفِي وَجْهٍ: إِلَى اللَّحْظَةِ جَزْمًا. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ النُّفَسَاءُ مُعْتَادَةً فِي الْحَيْضِ حُسِبَ لَهَا بَعْدَ مَرَدِّ النِّفَاسِ طُهْرُهَا ثُمَّ حَيْضُهَا الْمُعْتَادَانِ. وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فِيهِ، أَقَمْنَا طُهْرَهَا ثُمَّ حَيْضَهَا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حَالُ الْمُبْتَدَأَةِ. وَأَمَّا الْمُمَيِّزَةُ

فَتَرُدُّ إِلَى التَّمْيِيزِ بِشَرْطِهِ. كَالْحَائِضِ، وَشَرْطُ تَمْيِيزِ النُّفَسَاءِ، أَنْ لَا يَزِيدَ الْقَوِيُّ عَلَى سِتِّينَ يَوْمًا. وَلَا ضَبْطَ فِي أَقَلِّهِ، وَلَا أَقَلِّ الضَّعِيفِ. الْمُسْتَحَاضَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُعْتَادَةُ الْمُمَيِّزَةُ. تَقَدَّمَ حُكْمُهَا هُنَا فِي الْمُعْتَادَةِ. الْمُسْتَحَاضَةُ الْخَامِسَةُ: النَّاسِيَةُ لِعَادَةِ نِفَاسِهَا، فِيهَا الْقَوْلَانِ، كَنَاسِيَةِ الْحَيْضِ. فَعَلَى قَوْلٍ تَرُدُّ إِلَى مَرَدِّ الْمُبْتَدَأَةِ. وَرَجَّحَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هُنَا. وَعَلَى قَوْلٍ: تُؤْمَرُ بِالِاحْتِيَاطِ. وَعَلَى هَذَا، إِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فِي الْحَيْضِ أَيْضًا، وَجَبَ الِاحْتِيَاطُ أَبَدًا. وَكَذَا إِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً فِي الْحَيْضِ نَاسِيَةً عَادَتَهَا. وَإِنْ كَانَتْ ذَاكِرَةً لِعَادَةِ الْحَيْضِ، فَهِيَ كَنَاسِيَةِ وَقْتِ الْحَيْضِ، الْعَارِفَةِ بِقَدْرِهِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا. فَرْعٌ: إِذَا انْقَطَعَ دَمُ النُّفَسَاءِ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُجَاوِزَ سِتِّينَ، فَيُنْظَرُ، إِنْ لَمْ تَبْلُغْ مُدَّةُ النَّقَاءِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَلَّ الطُّهْرِ، بِأَنْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا، وَيَوْمًا نَقَاءً، فَأَزْمِنَةُ الدَّمِ نِفَاسٌ قَطْعًا. وَفِي النَّقَاءِ الْقَوْلَانِ كَالْحَيْضِ. وَإِنْ بَلَغَتْهُ، بِأَنْ رَأَتْ عَقِبَ الْوِلَادَةِ دَمًا أَيَّامًا، ثُمَّ رَأَتِ النَّقَاءَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَصَاعِدًا، ثُمَّ عَادَ الدَّمُ فَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعَائِدَ دَمُ حَيْضٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نِفَاسٌ. وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ الدَّمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا، ثُمَّ رَأَتْهُ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ حَيْضًا فَلَا نِفَاسَ لَهَا أَصْلًا. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ: لَوْ نَقَصَ الْعَائِدُ فِي الصُّورَتَيْنِ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نِفَاسٌ لِتَعَذُّرِ جَعْلِهِ حَيْضًا. وَلَوْ زَادَ الْعَائِدُ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ. فَيُنْظَرُ، أَهِيَ مُعْتَادَةٌ، أَمْ مُبْتَدَأَةٌ؟ وَيَحْكُمُ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ. وَإِنْ جَعْلَنَا الْعَائِدَ نِفَاسًا، فَمُدَّةُ النَّقَاءِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ

فِي التَّلْفِيقِ. إِنْ سَحَبْنَا فَنِفَاسٌ، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَطُهْرٌ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: هُوَ طُهْرٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تُجَاوِزَ سِتِّينَ؛ فَإِنْ بَلَغَ زَمَنُ النَّقَاءِ فِي السِّتِّينَ أَقَلَّ الطُّهْرِ، ثُمَّ جَاوَزَ الْعَائِدَ، فَالْعَائِدُ حَيْضٌ قَطْعًا وَلَا يَجِئُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةٌ مُمَيِّزَةٌ، رَدَّتْ إِلَى التَّمْيِيزِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَيِّزَةً فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ. وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً رَدَّتْ إِلَى الْعَادَةِ. وَفِي الْأَحْوَالِ يُرَاعَى قَوْلَا التَّلْفِيقِ. فَإِنْ سَحْبَنَا، فَالدِّمَاءُ فِي أَيَّامِ الْمَرَدِّ مَعَ النَّقَاءِ نِفَاسٌ. وَإِنْ لَفَّقْنَا فَتُلَفَّقُ مِنْ أَيَّامِ الْمَرَدِّ، أَمْ مِنْ أَيَّامِ السِّتِّينَ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَيْضِ. قُلْتُ: وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي النِّفَاسِ، كَهِيَ فِي الْحَيْضِ وِفَاقًا وَخِلَافًا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَبِهِ صَرَّحَ الْفَوْرَانِيُّ، وَالْبَغَوَيُّ، وَصَاحِبُ (الْعُدَّةِ) ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ: بِأَنَّهَا نِفَاسٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ شَاهِدٌ لِلنِّفَاسِ، بِخِلَافِ الْحَيْضِ. وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ النُّفَسَاءِ، وَاغْتَسَلَتْ، أَوْ تَيَمَّمَتْ حَيْثُ يَجُوزُ، فَلِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا فِي الْحَالِ بِلَا كَرَاهَةٍ. حَتَّى قَالَ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَ (الْبَحْرِ) : لَوْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ سَاعَةً، وَانْقَطَعَ، لَزِمَهُ الْغُسْلُ، وَحَلَّ الْوَطْءُ. فَإِنْ خَافَتْ عَوْدَ الدَّمِ، اسْتُحِبَّ لَهُ التَّوَقُّفُ احْتِيَاطًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الصلاة.

كِتَابُ الصَّلَاةِ. فِيهِ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ. الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْمَوَاقِيتِ. أَمَّا وَقْتُ الظُّهْرِ، فَيَدْخُلُ بِالزَّوَالِ. وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الظِّلِّ بَعْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ أَوْ حُدُوثِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ ظِلٌّ. وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، كَمَكَّةَ، وَصَنْعَاءَ الْيَمَنِ، فِي أَطْوَلِ أَيَّامِ السَّنَةِ. وَيَخْرُجُ وَقْتُهَا إِذَا صَارَ ظِلُّ الشَّخْصِ مِثْلَهُ سِوَى الظِّلِّ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الزَّوَالِ إِنْ كَانَ ظِلٌّ وَمَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَقْتُ اخْتِيَارٍ. وَأَمَّا الْعَصْرُ فَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِخُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ بِلَا خِلَافٍ، وَيَمْتَدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَخْرُجُ وَقْتُهَا إِذَا صَارَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ. وَعَلَى الصَّحِيحِ: لَهَا أَرْبَعَةُ أَوْقَاتٍ، وَقْتُ فَضِيلَةٍ، وَهُوَ الْأَوَّلُ، وَوَقْتُ اخْتِيَارٍ، إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّهُ مِثْلَيْهِ. وَبَعْدَهُ جَوَازٌ بِلَا كَرَاهَةٍ، إِلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ. وَمِنْ الِاصْفِرَارِ، إِلَى الْغُرُوبِ: وَقْتُ كَرَاهَةٍ، يُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ بِلَا خِلَافٍ. وَالِاعْتِبَارُ بِسُقُوطِ قُرْصِهَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الصَّحَارِي. وَأَمَّا فِي الْعُمْرَانِ، وَقُلَلِ الْجِبَالِ، فَالِاعْتِبَارُ، بِأَنْ لَا يُرَى شَيْءٌ مِنْ شُعَاعِهَا عَلَى الْجُدْرَانِ، وَيُقْبِلُ الظَّلَامُ مِنَ الْمَشْرِقِ. وَفِي آخِرِ

وَقْتِهَا قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: أَنَّهُ يَمْتَدُّ إِلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ. وَالْجَدِيدُ: أَنَّهُ إِذَا مَضَى قَدْرَ وَضَوْءٍ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ وَأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَخَمْسِ رَكَعَاتٍ انْقَضَى الْوَقْتُ. وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ، لَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ، فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ بَعْدَ الْغُرُوبِ بِقَدْرِ اشْتِغَالِهِ بِهَا. وَالِاعْتِبَارُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، بِالْوَسَطِ الْمُعْتَدِلِ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَكْلُ لُقَمٍ يَكْسِرُ بِهَا حِدَّةَ الْجُوعِ. وَفِي وَجْهٍ: مَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ كَالطَّهَارَةِ وَالسِّتْرَةِ، يَسْقُطُ مِنْ الِاعْتِبَارِ. وَفِي وَجْهٍ: يُعْتَبَرُ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لَا خَمْسَ. وَهُمَا شَاذَّانِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ عَلَى الْجَدِيدِ: لَوْ شَرَعَ فِي الْمَغْرِبِ فِي الْوَقْتِ الْمَضْبُوطِ، فَهَلْ لَهُ اسْتَدَامَتُهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْوَقْتِ؟ إِنْ قُلْنَا: الصَّلَاةُ الَّتِي يَقَعُ بَعْضُهَا فِي الْوَقْتِ، وَبَعْضُهَا بَعْدَهُ أَدَاءً وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إِلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْوَقْتِ بَعْضُهَا، فَلَهُ ذَلِكَ قَطْعًا. وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَفِي الْمَغْرِبِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يَجُوزُ مَدُّهَا إِلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ. وَالثَّانِي: مَنْعُهُ كَغَيْرِهَا. ثُمَّ الْأَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْجَدِيدُ. وَاخْتَارَ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ الْقَدِيمَ، وَرَجَّحُوهُ، وَعِنْدَهُمُ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا يُفْتَى فِيهِ عَلَى الْقَدِيمِ. قُلْتُ: الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، مُصَرِّحَةٌ بِمَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَتَأْوِيلُ بَعْضِهَا مُتَعَذَّرٌ، فَهُوَ الصَّوَابُ. وَمِمَّنِ اخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْخَطَابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْغَزَالِيُّ فِي (الْإِحْيَاءِ) وَالْبَغَوَيُّ فِي (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْعِشَاءُ، فَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِمَغِيبِ الشَّفَقِ. وَهُوَ الْحُمْرَةُ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: الْبَيَاضُ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِزَوَالِ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ. قَالَ: وَالشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ، تَعْقُبُهَا حُمْرَةٌ، ثُمَّ تَرِقُّ حَتَّى تَنْقَلِبَ صُفْرَةً، ثُمَّ يَبْقَى الْبَيَاضُ. قَالَ: وَبَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، إِلَى زَوَالِ الصُّفْرَةِ، كَمَا بَيْنَ الصُّبْحِ الصَّادِقِ، وَطُلُوعِ قَرْنِ الشَّمْسِ. وَبَيْنَ زَوَالِ الصُّفْرَةِ، إِلَى انْمِحَاقِ الْبَيَاضِ، قَرِيبٌ مِمَّا بَيْنُ الصُّبْحِ الصَّادِقِ، وَالْكَاذِبِ. هَذَا قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ، وَيَدُلُّ

عَلَيْهِ نَصُّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ الْحُمْرَةُ. ثُمَّ غُرُوبُ الشَّفَقِ، ظَاهِرٌ، فِي مُعْظَمِ النَّوَاحِي. أَمَّا السَّاكِنُونَ بِنَاحِيَةٍ تَقْصُرُ لَيَالِيهِمْ، وَلَا يَغِيبُ عَنْهُمُ الشَّفَقُ، فَيُصَلُّونَ الْعِشَاءَ إِذَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ قَدْرَ مَا يَغِيبُ فِيهِ الشَّفَقُ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا وَقْتُ الِاخْتِيَارِ لِلْعِشَاءِ، فَيَمْتَدُّ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِلَى نِصْفِهِ عَلَى الثَّانِي. وَيَبْقَى وَقْتُ الْجَوَازِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَخْرُجُ الْوَقْتُ بِذَهَابِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ. وَأَمَّا وَقْتُ الصُّبْحِ فَيَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ. وَيَتَمَادَى وَقْتُ الِاخْتِيَارِ إِلَى أَنْ يَسْفُرَ. وَالْجَوَازُ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعِنْدَ الْإِصْطَخْرِيِّ يَخْرُجُ وَقْتُ الْجَوَازِ بِالْإِسْفَارِ. فَعَلَى الصَّحِيحِ، لِلصُّبْحِ أَرْبَعَةُ أَوْقَاتٍ، فَضِيلَةٌ أَوَّلَهُ، ثُمَّ اخْتِيَارٌ إِلَى الْإِسْفَارِ، ثُمَّ جَوَازٌ بِلَا كَرَاهَةٍ إِلَى طُلُوعِ الْحُمْرَةِ، ثُمَّ كَرَاهَةٌ وَقْتَ طُلُوعِ الْحُمْرَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ. قُلْتُ: مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ صَلَوَاتِ النَّهَارِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ لِلْمَغْرِبِ عِشَاءٌ، وَأَنْ يُقَالَ لِلْعِشَاءِ عَتَمَةٌ. وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يُقَالَ لِلصُّبْحِ الْفَجْرُ أَوِ الصُّبْحُ، وَهُمَا أَوْلَى مِنَ الْغَدَاةِ. وَلَا تَقُولُ: الْغَدَاةُ مَكْرُوهٌ. وَيُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ، إِلَّا فِي خَيْرٍ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى. فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَصْحَابُ: أَنَّهَا الصُّبْحُ. وَقَالَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) : نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا الصُّبْحُ. وَصَحَّتِ الْأَحَادِيثُ، أَنَّهَا الْعَصْرُ. وَمَذْهَبُهُ، إِتْبَاعُ الْحَدِيثِ، فَصَارَ مَذْهَبُهُ: أَنَّهَا الْعَصْرُ. قَالَ: وَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. كَمَا وَهَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ تَجِبُ الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهَا إِلَى آخِرِهِ. فَلَوْ أَخَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ، لَمْ يَأْثَمْ بِتَأْخِيرِهَا عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ الْحَجِّ. وَلَوْ وَقَعَ بَعْضُ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَبَعْضُهَا خَارِجَ الْوَقْتِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْوَاقِعُ فِي الْوَقْتِ رَكْعَةً فَصَاعِدًا، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ جَمِيعَ الصَّلَاةِ أَدَاءٌ. وَالثَّانِي: جَمِيعُهَا قَضَاءٌ. وَالثَّالِثُ: مَا فِي الْوَقْتِ أَدَاءٌ، وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ. وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ فِي الْوَقْتِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، فَالْمَذْهَبُ الْجَزْمُ بِأَنَّ الْجَمِيعَ قَضَاءٌ. وَقِيلَ: هُوَ كَالرَّكْعَةِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: الْجَمِيعُ قَضَاءٌ، أَوِ الْخَارِجُ، لَمْ يَجُزْ لِلْمُسَافِرِ قَصْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ عَلَى قَوْلِنَا: لَا يَجُوزُ قَصْرُ الْمَقْضِيَّةَ. وَلَوْ أَرَادَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى حَدٍّ يُخْرِجُ بَعْضَهَا عَنِ الْوَقْتِ، إِنْ قُلْنَا كُلُّهَا قَضَاءٌ أَوِ الْبَعْضُ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا. وَإِنْ قُلْنَا: الْجَمِيعُ أَدَاءٌ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِيهِ تَرْدِيدُ جَوَابٍ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. وَلَوْ شَرَعَ فِيهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ جَمِيعَهَا، فَمَدُّهَا بِتَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ، لَمْ يَأْثَمْ قَطْعًا. وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَجْهٌ: أَنَّهُ يَأْثَمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ، وَفِيمَا يَحْصُلُ بِهِ فَضِيلَةُ أَوَّلِهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: يَحْصُلُ بِأَنْ يَشْتَغِلَ أَوَّلَ دُخُولِ الْوَقْتِ بِأَسْبَابِ الصَّلَاةِ، كَالطَّهَارَةِ وَالْأَذَانِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ يُصَلِّي. وَلَا يُشْتَرَطُ عَلَى هَذَا تَقْدِيمُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، عَلَى الْأَصَحِّ. وَشَرَطَهُ

أَبُو مُحَمَّدٍ. وَلَا يَضُرُّ الشُّغْلُ الْخَفِيفُ، كَأَكْلِ لُقَمٍ، وَكَلَامٍ قَصِيرٍ. وَلَا يُكَلَّفُ الْعَجَلَةَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَبْقَى وَقْتُ الْفَضِيلَةِ إِلَى نِصْفِ الْوَقْتِ. كَذَا أَطْلَقَهُ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِلَى نِصْفِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا قَدَّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهُ تَقْدِيمُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، لِتَنْطَبِقَ الصَّلَاةُ عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَعَلَى هَذَا قِيلَ: لَا يَنَالُ الْمُتَيَمِّمُ فَضِيلَةَ الْأَوَّلِيَّةَ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ الثَّالِثُ، غَلَطٌ صَرِيحٌ. مُخَالِفٌ لِلسُنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْمَذْكُورُ مِنْ فَضِيلَةِ التَّعْجِيلِ هُوَ فِي الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَتَعْجِيلُهَا أَيْضًا أَفْضَلُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي: تَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ، مَا لَمْ يُجَاوَزْ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا الظُّهْرُ، فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّعْجِيلُ، فِي غَيْرِ شِدَّةِ الْحَرِّ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي شِدَّةِ الْحَرِّ، يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْإِبْرَادَ رُخْصَةٌ. وَأَنَّهُ لَوْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ، وَصَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، كَانَ أَفْضَلَ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْإِبْرَادَ سُنَّةٌ. وَهُوَ: أَنْ يُؤَخِّرَ إِقَامَةَ الْجَمَاعَةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَأْتِيهِ النَّاسُ مِنْ بَعْدُ، بِقَدْرِ مَا يُقْطَعُ لِلْحِيطَانِ ظَلَّ يَمْشِي فِيهِ طَالِبُ الْجَمَاعَةِ. وَلَا يُؤَخَّرُ عَنِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الْوَقْتِ. فَلَوْ قَرُبَتْ مَنَازِلُهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ حَضَرَ جَمَاعَةٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَأْتِيهِمْ غَيْرُهُمْ، لَا يُبْرِدُونَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَكَذَا لَوْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي ظِلٍّ، أَوْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا فَلَا إِبْرَادَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَخْتَصُّ بِاسْتِحْبَابِ الْإِبْرَادِ بِالْبِلَادِ الْحَارَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَلَا تُلْحَقُ الْجُمُعَةُ بِالظُّهْرِ، فِي الْإِبْرَادِ عَلَى الْأَصَحِّ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ لِغَيْمٍ، أَوْ حَبْسٍ فِي مُظْلِمٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، اجْتَهَدَ فِيهِ، وَاسْتَدَلَّ بِالدَّرْسِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَوْرَادِ وَشِبْهِهَا. وَمِنَ الْأَمَارَاتِ صِيَاحُ الدِّيكِ الْمُجَرَّبِ إِصَابَةُ صِيَاحِهِ الْوَقْتَ. وَكَذَا أَذَانُ الْمُؤَذِّنِينَ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ إِذَا كَثُرُوا، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ - لِكَثْرَتِهِمْ - أَنَّهُمْ لَا يُخْطِئُونَ. وَالْأَعْمَى يَجْتَهِدُ فِي الْوَقْتِ كَالْبَصِيرِ. وَإِنَّمَا يَجْتَهِدَانِ، إِذَا لَمْ يُخْبِرْهُمَا ثِقَةٌ بِدُخُولِ الْوَقْتِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ. فَلَوْ قَالَ: رَأَيْتُ الْفَجْرَ طَالِعًا، أَوِ الشَّفَقَ غَارِبًا، لَمْ يَجُزْ الِاجْتِهَادُ، وَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ. فَإِنْ أَخْبَرَ عَنِ اجْتِهَادٍ، لَمْ يَجُزْ لِلْبَصِيرِ الْقَادِرِ عَلَى الِاجْتِهَادِ تَقْلِيدُهُ، وَيَجُوزُ لِلْأَعْمَى عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْمُؤَذِّنُ الثِّقَةُ الْعَالِمُ بِالْمَوَاقِيتِ فِي يَوْمِ الصَّحْوِ كَالْمُخْبِرِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَفِي الْغَيْمِ كَالْمُجْتَهِدِ. وَحَكَى فِي (التَّهْذِيبِ) وَجْهَيْنِ فِي تَقْلِيدِ الْمُؤَذِّنِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْبَصِيرِ وَالْأَعْمَى. وَقَالَ الْأَصَحُّ الْجَوَازُ. وَذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ. وَالتَّفْصِيلُ الْمُتَقَدِّمُ أَقْرَبُ وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، مَا صَحَّحَهُ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) . وَقَدْ نَقَلَهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَصَحَّحَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبُ (الْعُدَّةِ) وَغَيْرُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَيْثُ لَزِمَ الِاجْتِهَادُ فَصَلَّى بِلَا اجْتِهَادٍ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ صَادَفَ الْوَقْتَ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلَالَةٌ، أَوْ كَانَتْ فَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ، صَبَرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ دُخُولُ الْوَقْتِ. وَالِاحْتِيَاطُ: أَنْ يُؤَخِّرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ خَرَجَ الْوَقْتُ، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى الصَّبْرِ إِلَى اسْتِيقَانِ دُخُولِ الْوَقْتِ، جَازَ الِاجْتِهَادُ عَلَى الصَّحِيحِ كَالْأَوَانِي.

فصل

قُلْتُ: لَوْ عَلِمَ الْمُنَجِّمُ دُخُولَ الْوَقْتِ بِالْحِسَابِ. حَكَى صَاحِبُ (الْبَيَانِ) أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ حَيْثُ جَازَ الِاجْتِهَادُ فَصَلَّى بِهِ إِنْ لَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَالَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ بَانَ وُقُوعُ صَلَاتِهِ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. لَكِنَّ الْوَاقِعَةَ بَعْدَهُ قَضَاءٌ عَلَى الْأَصَحِّ. فَلَوْ كَانَ مُسَافِرًا وَقَصَرَهَا وَجَبَ إِعَادَتُهَا تَامَّةً. إِذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ قَصْرِ الْقَضَاءِ. وَإِنْ بَانَ وُقُوعُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ وَأَدْرَكَهُ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ وَجُوبُهَا وَمِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ يَجْرِي فِيمَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ أَنَّ صَلَاتَهُ وَقَعَتْ قَبْلَ الْوَقْتِ، إِنْ أَخْبَرَهُ عَنْ عِلْمٍ وَمُشَاهَدَةٍ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَلَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي وَقْتِ أَصْحَابِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ: وَهِيَ: الصِّبَا وَالْكُفْرُ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ. وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ تُوجَدَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَيَخْلُوَ عَنْهَا آخِرَهُ، بِأَنْ تَطْهُرَ عَنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ رَكْعَةٍ لَزِمَهَا فَرْضُ الْوَقْتِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الرَّكْعَةِ أَخَفُّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَشَرْطُ

الْوُجُوبِ: أَنْ تَمْتَدَّ السَّلَامَةُ مِنَ الْمَانِعِ قَدْرَ إِمْكَانِ الطِّهَارَةِ، وَتِلْكَ الصَّلَاةِ. فَإِنْ عَادَ مَانِعٌ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَجِبْ. مِثَالُهُ: بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ جُنَّ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ ثُمَّ عَادَ جُنُونُهُ، أَوْ طَهُرَتْ ثُمَّ جُنَّتْ، أَوْ أَفَاقَتْ مَجْنُونَةٌ ثُمَّ حَاضَتْ، فَإِنْ مَضَى فِي حَالِ السَّلَامَةِ مَا يَسَعُ طَهَارَةً وَأَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَجَبَتِ الْعَصْرُ، وَإِلَّا فَلَا. هَذَا إِذَا كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْوَقْتِ قَدْرَ رَكْعَةٍ. فَإِنْ كَانَ قَدْرَ تَكْبِيرَةٍ، أَوْ فَوْقَهَا دُونَ رَكْعَةٍ، فَفِي وُجُوبِ الْفَرْضِ قَوْلَانِ. الْأَظْهَرُ: الْوُجُوبُ بِالشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الرَّكْعَةِ. وَيَسْتَوِي فِي الْوُجُوبِ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ أَوْ مَا دُوْنَهَا جَمِيعُ الصَّلَوَاتِ. فَإِنْ كَانَتِ الْمُدْرَكَةُ صُبْحًا أَوْ ظُهْرًا أَوْ مَغْرِبًا قُصِرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهَا. وَإِنْ كَانَتْ عَصْرًا أَوْ عِشَاءً وَجَبَ مَعَ الْعَصْرِ الظُّهْرُ، وَمَعَ الْعِشَاءِ الْمَغْرِبُ. وَبِمَاذَا يَجِبُ الظُّهْرُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَجِبُ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْعَصْرُ. وَهُوَ رَكْعَةٌ قَبْلَ الْغُرُوبِ عَلَى قَوْلٍ، وَتَكْبِيرَةٌ عَلَى قَوْلٍ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ إِلَّا بِإِدْرَاكِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا يَجِبُ بِهِ الْعَصْرُ، وَتَكُونُ الْأَرْبَعُ لِلظُّهْرِ، وَالرَّكْعَةُ أَوِ التَّكْبِيرَةُ لِلْعَصْرِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: الْأَرْبَعُ لِلْعَصْرِ وَالرَّكْعَةُ أَوِ التَّكْبِيرَةُ لِلظُّهْرِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ، فِي الْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الْمَغْرِبَ مَعَهَا كَالظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ. فَإِنْ قُلْنَا: بِالْأَظْهَرِ، وَجَبَتِ الْمَغْرِبُ بِمَا تَجِبُ الْعِشَاءُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، وَقُلْنَا الرَّكَعَاتُ الْأَرْبَعُ الزَّائِدَةُ لِلظُّهْرِ، اعْتَبَرْنَا هُنَا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لِلْمَغْرِبِ مَعَ مَا تَلْزَمُ بِهِ الْعِشَاءُ، وَإِنْ قُلْنَا الْأَرْبَعُ لِلْعَصْرِ اعْتَبَرْنَا أَرْبَعًا لِلْعَشَاءِ. وَهَلْ يُعْتَبَرُ مَعَ الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ لِلُزُومِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ، أَوْ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِدْرَاكُ زَمَنِ الطَّهَارَةِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا. وَإِذَا جُمِعَتِ الْأَقْوَالُ، حَصَلَ فِيمَا يَلْزَمُ بِهِ كُلَّ صَلَاةٍ مِنْ إِدْرَاكِ آخِرِ وَقْتِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: قَدْرُ تَكْبِيرَةٍ. وَالثَّانِي: تَكْبِيرَةٌ وَطَهَارَةٌ. وَالثَّالِثُ: رَكْعَةٌ. وَالرَّابِعُ: رَكْعَةٌ وَطَهَارَةٌ. وَفِيمَا يَلْزَمُ بِهِ الظُّهْرُ مَعَ الْعَصْرِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ. هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ. وَالْخَامِسُ: قَدْرُ

أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَتَكْبِيرَةٍ. وَالسَّادِسُ: هَذَا وَزَمَنُ طَهَارَةٍ. وَالسَّابِعُ: قَدْرُ خَمْسِ رَكَعَاتٍ. وَالثَّامِنُ: هَذَا وَزَمَنُ طَهَارَةٍ. وَفِيمَا يَلْزَمُ الْمَغْرِبَ مَعَ الْعِشَاءِ اثْنَا عَشَرَ قَوْلًا، هَذِهِ الثَّمَانِيَةُ. وَالتَّاسِعُ: ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَتَكْبِيرَةٌ. وَالْعَاشِرُ: هَذَا وَزَمَنُ طَهَارَةٍ. وَالْحَادِيَ عَشَرَ: أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ. وَالثَّانِيَ عَشَرَ: هَذَا وَزَمَنُ طَهَارَةٍ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ زَوَالُ الْعُذْرِ قَبْلَ أَدَاءِ صَلَاةِ الْوَقْتِ. وَهَذَا يَكُونُ حَالَ مَنْ سِوَى الصَّبِيِّ، مِنْ أَصْحَابِ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّهَا كَمَا تَمْنَعَ الْوُجُوبَ تَمْنَعُ الصِّحَّةَ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ إِذَا صَلَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا وَلَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي: تَجِبُ. قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: سَوَاءٌ قَلَّ الْبَاقِي مِنَ الْوَقْتِ، أَمْ كَثُرَ. وَالثَّالِثُ: قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنْ بَلَغَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ تِلْكَ الصَّلَاةَ، وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ. وَإِلَّا فَلَا. أَمَّا إِذَا بَلَغَ بِالسِّنِّ فِي أَثْنَائِهَا، فَالصَّحِيحُ، وَظَاهِرُ النَّصِّ، وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَجِبُ إِتْمَامُهَا، وَيُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ الْإِتْمَامُ، وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ. وَالثَّالِثُ قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنْ بَقِيَ مَا يَسَعُ الصَّلَاةَ، وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ. وَإِلَّا فَلَا. هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ. أَمَّا إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ بَلَغَ، وَأَمْكَنَتْهُ الْجُمُعَةُ. فَإِنْ قُلْنَا: فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ تَجِبُ الْإِعَادَةُ وَجَبَتِ الْجُمُعَةُ. وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ كَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ إِذَا صَلَّيَا الظُّهْرَ، ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُمَا، وَأَمْكَنَتْهُمَا الْجُمُعَةُ، لَا تَلْزَمُهُمَا قَطْعًا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَخْلُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ يَطْرَأُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَطْرَأَ، وَهُوَ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ طَرَيَانُ الْكُفْرِ الْمُسْقِطِ لِلْإِعَادَةِ. فَإِذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ، قَبْلَ أَنْ تُصَلِّيَ، نُظِرَ فِي

الْقَدْرِ الْمَاضِي مِنَ الْوَقْتِ. إِنْ كَانَ قَدْرًا يَسَعُ تِلْكَ الصَّلَاةَ، وَجَبَ الْقَضَاءُ، إِذَا طَهُرَتْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَتْ جَمِيعَ الْوَقْتِ. ثُمَّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُعْتَبَرِ: أَخَفُّ مَا يُمْكِنُ مِنَ الصَّلَاةِ. حَتَّى لَوْ طَوَّلَتْ صَلَاتَهَا فَحَاضَتْ فِيهَا وَقَدْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُهَا لَوْ خَفَّقَهَا وَجَبَ الْقَضَاءُ. وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مُسَافِرًا فَطَرَأَ عَلَيْهِ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ، بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَقْصُورَةِ مَا يَسَعُ رَكْعَتَيْنِ، لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَصَرَ أَمْكَنَهُ أَدَاؤُهَا. وَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهَا، إِمْكَانُ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ، إِلَّا إِذَا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ طَهَارَةِ صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ. كَالْمُتَيَمِّمِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ. قُلْتُ: ذَكَرَ فِي (التَّتِمَّةِ) فِي اشْتِرَاطِ زَمَنِ الطَّهَارَةِ، لِمَنْ يُمْكِنُهُ تَقْدِيمُهَا وَجْهَيْنِ، وَهُمَا كَالْخِلَافِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ. وَلَا فَرْقَ، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ التَّقْدِيمُ فَلَا يَجِبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاضِي مِنَ الْوَقْتِ لَا يَسَعُ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعُ الْجَمَاهِيرُ. وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: حُكْمُ أَوَّلِ الْوَقْتِ، حُكْمُ آخِرِهِ. فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ أَوْ تَكْبِيرَةٍ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَغَلَّطَهُ الْأَصْحَابُ. أَمَّا الْعَصْرُ فَلَا يَجِبُ بِإِدْرَاكِ الظُّهْرِ، وَلَا الْعِشَاءُ بِإِدْرَاكِ الْمَغْرِبِ. وَلَوْ أَدْرَكَ جَمِيعَ وَقْتِهَا عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ. وَقَالَ الْبَلْخِيُّ إِذَا أَدْرَكَ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ طَرَأَ الْعُذْرُ، لَزِمَهُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ جَمِيعًا. كَمَا يَلْزَمُ الْأُولَى بِإِدْرَاكِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ، لَا يَصْلُحُ لِلْعَصْرِ، إِلَّا إِذَا صَلَّيْتَ الظُّهْرَ جَمْعًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ، إِذَا أَدْرَكَ مِنْ وَقْتِهَا مَا يَسَعُهَا، لَا يَخْتَصُّ بِأَوَّلِهِ. بَلْ لَوْ كَانَ الْمُدْرِكُ مِنْ وَسَطِهِ لَزِمَتِ الصَّلَاةُ، مِثْلُ إِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ وَعَادَ جُنُونُهُ فِي الْوَقْتِ، أَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ ثُمَّ جُنَّ، أَوْ أَفَاقَتْ مَجْنُونَةٌ

ثُمَّ حَاضَتْ. وَقَدْ تَلْزَمُ الظُّهْرُ بِإِدْرَاكِ أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ، كَمَا تَلْزَمُ بِآخِرِهِ، بِأَنْ أَفَاقَ مُغْمًى عَلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ مَا يَسَعُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ. فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا، فَالْمُعْتَبِرُ قَدْرُ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ. وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا يَقْصِرُ، كَفَاهُ قَدْرُ أَرْبَعٍ. وَتُقَاسُ الْمَغْرِبُ مَعَ الْعِشَاءِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، بِالظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعُمَّ السَّبَبُ جَمِيعَ وَقْتِ الرَّفَاهِيَةِ، وَوَقْتِ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْجَمْعُ. أَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ. فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَجَوَازَهَا وَلَا قَضَاءَ. وَأَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ فُرُوعِ الشَّرْعِ عَلَى الصَّحِيحِ. لَكِنْ إِذَا أَسْلَمَ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَلَاةِ أَيَّامِ الْكُفْرِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَلَوَاتِ أَيَّامِ الرِّدَّةِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ أَدَاءً وَلَا قَضَاءً. وَلَا يُؤْمَرُ أَحَدٌ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِفِعْلِهَا، إِلَّا الصَّبِيُّ وَالصِّبْيَةُ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهَا إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهَا إِذَا بَلَغَ عَشْرًا. قَالَ الْأَئِمَّةُ: فَيَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ الْأَوْلَادِ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالشَّرَائِعَ بَعْدَ السَّبْعِ، وَالضَّرْبَ عَلَى تَرْكِهَا بَعْدَ الْعَشْرِ، وَيُؤْمَرُ بِالصَّوْمِ إِنْ أَطَاقَهُ كَمَا يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ. وَأُجْرَةُ تَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى الْأَبِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى الْأُمِّ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْأُجْرَةَ مَنْ مَالِ الصَّبِيِّ، عَلَى تَعْلِيمِ مَا سِوَى الْفَاتِحَةِ وَالْفَرَائِضِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَدَبِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ فِي مَالِ الصَّبِيِّ. وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ وَالصِّبْيَةُ، مُمَيِّزِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَلَا قَضَاؤُهَا، سَوَاءٌ قَلَّ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ أَوْ كَثُرَ إِذَا اسْتَغْرَقَ الْوَقْتَ. وَلَوْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ، كَشُرْبٍ مُسْكِرٍ أَوْ دَوَاءٍ مُزِيلٍ لِلْعَقْلِ، وَجَبَ

الْقَضَاءُ. هَذَا إِذَا تَنَاوَلَ الدَّوَاءَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَعَلِمَ أَنَّ الشَّرَابَ مُسْكِرٌ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَ الشَّرَابِ مُسْكِرًا أَوْ كَوْنَ الدَّوَاءِ مُزِيلًا، فَلَا قَضَاءَ، كَالْإِغْمَاءِ. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ جِنْسَهُ مُسْكِرٌ، وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يُسْكِرُ، وَجَبَ الْقَضَاءُ، لِتَقْصِيرِهِ. وَلَوْ وَثَبَ مِنْ مَوْضِعِ لِحَاجَةٍ فَزَالَ عَقْلُهُ، فَلَا قَضَاءَ. وَإِنْ فَعَلَهُ عَبَثًا وَجَبَ الْقَضَاءُ. فَرْعٌ لَوِ ارْتَدَّ ثُمَّ جُنَّ ثُمَّ أَفَاقَ وَأَسْلَمَ، وَجَبَ قَضَاءُ أَيَّامِ الْجُنُونِ وَمَا قَبْلَهَا، تَغْلِيطًا عَلَيْهِ. وَلَوْ سَكِرَ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ قَضَاءُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا السُّكْرُ. وَفِيمَا بَعْدَهَا مِنْ مُدَّةِ الْجُنُونِ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَلَوِ ارْتَدَّتْ ثُمَّ حَاضَتْ، أَوْ سَكِرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ لَمْ تَقْضِ أَيَّامَ الْحَيْضِ. وَلَوْ شَرِبَتْ دَوَاءً حَتَّى حَاضَتْ، لَمْ يَلْزَمْهَا الْقَضَاءُ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَرِبَتْ دَوَاءً حَتَّى أَلْقَتْ جَنِينًا وَنَفَسَتْ لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ عَزِيمَةٌ. وَالْحَاصِلُ، أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّرْكِ، لَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقَضَاءِ. فَإِذَا لَمْ يُؤْمَرُ كَانَ تَخْفِيفًا. وَمَنْ أُمِرَ بِالتَّرْكِ، فَامْتَثَلَ الْأَمْرَ لَا يَتَوَجَّهُ أَمْرُهُ بِالْقَضَاءِ إِلَّا لِحَائِضٍ، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرْكِ الصَّوْمِ وَبِقَضَائِهِ. وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ لِلنَّصِّ.

فصل

فَصْلٌ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ. وَهِيَ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ قَدْرَ رُمْحٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الشَّاذِّ: تَزُولُ الْكَرَاهَةُ، بِطُلُوعِ قُرْصِ الشَّمْسِ بِتَمَامِهِ. وَالثَّانِي: اسْتِوَاءُ الشَّمْسِ. وَالثَّالِثُ: عِنْدَ الِاصْفِرَارِ حَتَّى يَتِمَّ غُرُوبُهَا. وَالرَّابِعُ: بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَالْخَامِسُ: بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ. وَفِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ إِذَا قُدِّمَ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، طَالَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، وَإِذَا أَخَّرَهُمَا قَصَرَ. هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ لِأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ: أَنَّ الْأَوْقَاتِ خَمْسَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِي الصُّبْحِ وَجْهَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، سِوَى رَكْعَتِي سُنَّةِ الصُّبْحِ. سَوَاءٌ صَلَّى الصُّبْحَ وَسُنَّتَهَا أَمْ لَا. قَالَ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) هَذَا الْوَجْهُ: هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَالثَّانِي: يُكْرَهُ ذَلِكَ لِمَنْ صَلَّى السُّنَّةَ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ الْفَرِيضَةَ. وَالصَّحِيحُ: مَا سَبَقَ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ الْجُمْهُورِ. فَرْعٌ: النَّهْيُ وَالْكَرَاهَةُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، إِنَّمَا هُوَ فِي صَلَاةٍ لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ، فَأَمَّا مَا لَهَا سَبَبٌ فَلَا كَرَاهَةَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ، أَيْ: سَبَبٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى هَذِهِ

الْأَوْقَاتِ، أَوْ مُقَارِنٌ لَهَا، وَالَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا هِيَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ مُتَقَدِّمٌ وَلَا مُقَارِنٌ. وَقَدْ يُفَسَّرُ قَوْلُهُمْ: لَا سَبَبَ لَهَا، بِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَخُصَّهَا بِوَضْعٍ وَشَرْعِيَّةٍ، بَلْ هِيَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً. فَمِنْ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ الْفَائِتَةُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، قَضَاءُ الْفَرَائِضِ، وَالسُّنَنِ، وَالنَّوَافِلِ الَّتِي اتَّخَذَهَا الْإِنْسَانُ وِرْدًا لَهُ. وَتَجُوزُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ وَسُجُودُ الشُّكْرِ وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ. وَلَوْ تَطَهَّرَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَلَا تُكَرَهُ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ فِيهَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: تُكْرَهُ كَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ. وَقَدْ يَمْنَعُ الْأَوَّلَ الْكَرَاهَةُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ. وَيُكْرَهُ رَكْعَتَا الْإِحْرَامِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَمَّا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، فَإِنِ اتَّفَقَ دُخُولُهُ لِغَرَضٍ، كَاعْتِكَافٍ أَوْ دَرْسِ عِلْمٍ أَوِ انْتِظَارِ صَلَاةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تُكْرَهْ. وَإِنْ دَخَلَ لَا لِحَاجَةٍ، بَلْ لِيُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ فَقَطْ، فَوَجْهَانِ: أَقْيَسُهُمَا: الْكَرَاهَةُ. كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْفَائِتَةَ لِيَقْضِيَهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ. وَمِنَ الْأَصْحَابِ، مَنْ لَمْ يُفْصِّلْ، وَيَجْعَلْ فِي التَّحِيَّةِ وَجْهَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَيُنْسَبُ الْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ. قُلْتُ: هَذِهِ الطَّرِيقَةُ غَلَطٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ فَاتَتْهُ رَاتِبَةٌ أَوْ نَافِلَةٌ اتَّخَذَهَا وِرْدًا فَقَضَاهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَهَلْ لَهُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى مَثَلِهَا فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَهُ رَكْعَتَا الظُّهْرِ، فَقَضَاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ وَدَاوَمَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، وَتِلْكَ الصَّلَاةُ مِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فصل

فَصْلٌ الصَّلَاةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ يُسْتَثْنَى مِنْهَا زَمَانٌ وَمَكَانٌ؛ أَمَّا الزَّمَانُ فَعِنْدَ الِاسْتِوَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةَ، وَلَا يَلْحَقُ بِهِ بَاقِي الْأَوْقَاتِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ أَلْحَقْنَا جَازَ التَّنَفُّلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، فَهَلْ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ لِكُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَيْسَ فِي الْجَامِعِ. وَأَمَّا مَنْ فِي الْجَامِعِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي: يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يُبَكِّرَ ثُمَّ يَغْلِبُهُ النُّعَاسُ. وَقِيلَ: يَكْفِي النُّعَاسُ بِلَا تَبْكِيرٍ. وَأَمَّا الْمَكَانُ فَمَكَّةُ - زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا - لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا فِي شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ سَوَاءٌ صَلَاةُ الطَّوَافِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا يُبَاحُ رَكْعَتَا الطَّوَافِ. وَالصَّوَابُ، الْأَوَّلُ. وَالْمُرَادُ بِمَكَّةَ، جَمِيعُ الْحَرَمِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا يُسْتَثْنَى نَفْسُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ: مَتَّى ثَبَتَتِ الْكَرَاهَةُ فَتَحْرُمُ بِالصَّلَاةِ الْمَكْرُوهَةِ لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَى الْأَصَحِّ. كَصَوْمِ الْعِيدِ، وَتَنْعَقِدُ عَلَى الثَّانِي كَالصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنْ قُلْنَا: تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ صَحَّ نَذْرُهُ وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا صَحَّ نَذْرُهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ فِي وَقْتٍ آخَرَ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ يَذْبَحُهَا بِسِكِّينٍ مَغْصُوبٍ يَصِحُّ نَذْرُهُ، وَيَذْبَحُهَا بِغَيْرِ مَغْصُوبٍ. وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً مُطْلَقَةً فَلَهُ فِعْلُهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ قَطْعًا، فَإِنَّ لَهَا سَبَبًا.

قُلْتُ: النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حَيْثُ أَثْبَتْنَاهُ مَكْرُوهًا، كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي (الْإِقْنَاعِ) وَصَاحِبُ (الذَّخَائِرِ) وَآخَرُونَ: وَهُوَ مُقْتَضَى النَّهْيِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَالثَّانِي: كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَبِهِ قَطَعَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ شَاذٌّ مَتْرُوكٌ، عِلَّتُهُ [أَنَّهُ] مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرُونَ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الْبَاقِينَ. الْبَابُ الثَّانِي فِي الْأَذَانِ. الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ سُنَّتَانِ عَلَى أَصَحِّ الْأَوْجُهِ، وَفَرْضَا كِفَايَةٍ عَلَى الثَّانِي. وَالثَّالِثُ: هُمَا سُنَّةٌ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ، وَفَرْضَا كِفَايَةٍ فِيهَا. فَإِذَا قُلْنَا: سُنَّةٌ، فَاتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا، لَمْ يُقَاتَلُوا عَلَى الْأَصَحِّ، كَسَائِرِ السُّنَنِ. وَإِذَا قُلْنَا: فَرْضُ كِفَايَةٍ، قُوتِلُوا عَلَى تَرْكِهَا بِلَا خِلَافٍ. وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْإِثْمُ عَنْهُمْ، بِإِظْهَارِهَا فِي الْبَلْدَةِ، أَوِ الْقَرْيَةِ، بِحَيْثُ يَعْلَمُ جَمِيعُ أَهْلِهَا، أَنَّهُ قَدْ أُذِّنَ فِيهَا لَوْ أَصْغَوْا. فَفِي الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ، يَكْفِي فِي مَوْضِعٍ، وَفِي الْبَلَدِ الْكَبِيرِ، لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ. وَإِذَا قُلْنَا: الْأَذَانُ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي الْجُمُعَةِ، فَقِيلَ: الْوَاجِبُ، هُوَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ. وَقِيلَ: يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِالْأَذَانِ الْمَأْتِيِّ بِهِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ. أَمَّا مَا يُؤَذِّنُ لَهُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلْجَمَاعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَوَاتِ الرِّجَالِ فِي كُلِّ مَكْتُوبَةٍ مُؤَدَّاةٍ. فَإِنْ فَقَدَ بَعْضَ هَذِهِ الْقُيُودِ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ. أَمَّا الْمُنْفَرِدُ فِي الصَّحْرَاءِ،

أَوْ بَلَدٍ، فَيُؤَذِّنُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ فِي الْجَدِيدِ. وَقِيلَ: لَا يُؤَذِّنُ فِي الْقَدِيمِ. وَفِي وَجْهٍ: إِنْ رَجَا حُضُورَ جَمَاعَةٍ أَذَّنَ وَإِلَّا فَلَا. هَذَا إِذَا لَمْ يَبْلُغُ الْمُنْفَرِدُ أَذَانَ الْمُؤَذِّنِينَ، فَإِنْ بَلَغَهُ، فَالْخِلَافُ مُرَتَّبٌ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يُؤَذِّنَ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُؤَذِّنُ، فَهَلْ يُقِيمُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَإِنْ قُلْنَا: يُؤَذِّنُ، فَهَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ؟ نُظِرَ، إِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ أُقِيمَتْ فِيهِ جَمَاعَةٌ وَانْصَرَفُوا لَمْ يَرْفَعْ، لِئَلَّا يُوهِمَ دُخُولَ وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى. وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: يَرْفَعُ. وَالثَّانِي: إِنْ رَجَا جَمَاعَةً رَفَعَ، وَإِلَّا فَلَا. أَمَّا إِذَا أُقِيمَتْ جَمَاعَةٌ فِي مَسْجِدٍ، فَحَضَرَ قَوْمٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ لَمْ يُكْرَهْ لَهُمْ إِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كُرِهَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا أَقَامُوا جَمَاعَةً مَكْرُوهَةً أَوْ غَيْرَ مَكْرُوهَةٍ، فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُسَنُّ لَهُمُ الْأَذَانُ. وَأَظْهَرُهُمَا: يُسَنُّ، وَلَا يُرْفَعُ فِيهِ الصَّوْتُ، لِخَوْفِ اللَّبْسِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَسْجِدُ مَطْرُوقًا أَوْ غَيْرَ مَطْرُوقٍ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: حَيْثُ قُلْنَا فِي الْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ، فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ، وَأَذَانُ الرَّاتِبِ: لَا يَرْفَعُ الصَّوْتَ، لَا نَعْنِي بِهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ الرَّفْعُ، بَلْ نَعْنِي بِهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَرْفَعَ. وَإِذَا قُلْنَا: الْمُنْفَرِدُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَلَا نَعْنِي بِهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَرْفَعَ، فَإِنَّ الرَّفْعَ أَوْلَى فِي حَقِّهِ. وَلَكِنْ نَعْنِي، أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ دُونَ الرَّفْعِ. أَمَّا جَمَاعَةُ النِّسَاءِ، فَفِيهَا أَقْوَالٌ: الْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ فِي (الْأُمِّ) وَ (الْمُخْتَصَرِ) : يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْإِقَامَةُ، دُونَ الْأَذَانِ. فَلَوْ أَذَّنَتْ عَلَى هَذَا، وَلَمْ تَرْفَعْ صَوْتَهَا، لَمْ يُكْرَهْ. وَكَانَ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: لَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ. وَالثَّالِثُ: يُسْتَحَبَّانِ مَعًا. وَلَوْ صَلَّتِ امْرَأَةٌ مُنْفَرِدَةً. إِنْ قُلْنَا: الرَّجُلُ الْمُنْفَرِدُ. لَا يُؤَذِّنُ فَهِيَ أَوْلَى. وَإِلَّا فَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِحَالٍ، فَوْقَ مَا تُسْمِعُ صَوَاحِبَهَا. وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا غَيْرُ الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فَلَا أَذَانَ لَهَا وَلَا إِقَامَةَ. سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْذُورَةً أَوْ سُنَّةً، سَوَاءٌ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ كَالْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، أَمْ لَمْ يُسَنَّ كَالضُّحَى. لَكِنْ يُنَادَى لِلْعِيدِ

وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. وَكَذَا يُنَادَى لِلتَّرَاوِيحِ، إِذَا صُلِّيَتْ جَمَاعَةً. وَفِي اسْتِحْبَابِ هَذَا النِّدَاءِ فِي الْجِنَازَةِ، وَجْهَانِ: قُلْتُ: الْأَصَحُّ، لَا يُسْتَحَبُّ. وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي (الْأُمِّ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْفَرِيضَةُ الْفَائِتَةُ، فَيُقِيمُ لَهَا بِلَا خِلَافٍ. وَفِي الْأَذَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ لَا يُؤَذِّنُ، وَالْقَدِيمُ يُؤَذِّنُ، وَالثَّالِثُ نَصُّهُ فِي (الْإِمْلَاءِ) إِنْ رَجَا اجْتِمَاعَ جَمَاعَةٍ يُصَلُّونَ مَعَهُ أَذَّنَ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الْأَئِمَّةُ: الْأَذَانُ فِي الْجَدِيدِ، حَقُّ الْوَقْتِ. وَفِي الْقَدِيمِ، حَقُّ الْفَرِيضَةِ. وَفِي (الْإِمْلَاءِ) حَقُّ الْجَمَاعَةِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلْفَائِتَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَصَحَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا أُقِيمَتِ الْفَائِتَةُ جَمَاعَةً سَقَطَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ، وَلَوْ قَضَى فَوَائِتَ، فَعَلَى التَّوَالِي أَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ قَطْعًا بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يُؤَذِّنُ لِغَيْرِ الْأُولَى قَطْعًا. وَفِي الْأُولَى هَذِهِ الْأَقْوَالُ، وَلَوْ وَالَى بَيْنَ فَرِيضَةِ الْوَقْتِ وَمَقْضِيَّةٍ، فَإِنْ قَدَّمَ فَرِيضَةَ الْوَقْتِ أَذَّنَ لَهَا وَأَقَامَ لِلْمَقْضِيَّةِ، وَإِنْ قَدَّمَ الْمَقْضِيَّةَ أَقَامَ لَهَا. وَفِي الْأَذَانِ لَهَا الْأَقْوَالُ، وَأَمَّا فَرِيضَةُ الْوَقْتِ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ قُلْنَا: يُؤَذِّنُ لِلْمَقْضِيَّةِ، لَمْ يُؤَذِّنْ لِفَرِيضَةِ الْوَقْتِ وَإِلَّا أُذِّنَ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ لِفَرِيضَةِ الْوَقْتِ بَعْدَ الْمَقْضِيَّةِ بِكُلِّ حَالٍ. قُلْتُ: إِلَّا أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنِ الْمَقْضِيَّةِ، بِحَيْثُ يَطُولُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلْحَاضِرَةِ قَطْعًا بِكُلِّ حَالٍ. كَذَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إِذَا جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيِ الْجَمْعِ بِسَفَرٍ أَوْ مَطَرٍ، فَإِنْ قَدَّمَ الثَّانِيَةَ إِلَى وَقْتِ الْأُولَى أَذَّنَ لِلْأُولَى وَأَقَامَ لِلثَّانِيَةِ، وَإِنْ أَخَّرَ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ

فصل

أَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَلَا يُؤَذِّنُ لِلثَّانِيَةِ، وَفِي الْأَذَانِ لِلْأُولَى الْأَقْوَالُ فِي الْفَائِتَةِ. وَالْأَظْهَرُ: لَا يُؤَذِّنُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَنْقَدِحُ أَنْ يُقَالَ: يُؤَذِّنُ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنْ لِلْفَائِتَةِ. قُلْتُ: بَلِ الْأَظْهَرُ، أَنَّهُ يُؤَذِّنُ. فَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ. بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى رِوَايَةِ أُسَامَةَ، وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِإِقَامَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ ثِقَةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْ غَيْرَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَخَرَّجَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا: أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صَلَاتَيِ الْجَمْعِ، قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ. قُلْتُ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا سَبِيلَ إِلَى تَوَالِي أَذَانَيْنِ، إِلَّا فِي صُورَةٍ عَلَى قَوْلٍ، وَهِيَ إِذَا صَلَّى فَائِتَةً قُبَيْلَ الزَّوَالِ، وَأَذَّنَ لَهَا عَلَى قَوْلٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا، زَالَتِ الشَّمْسُ، فَأَرَادَ إِقَامَةَ الظُّهْرِ، أَذَّنَ لَا مَحَالَةَ. هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ، وَيُتَصَوَّرُ التَّوَالِي قَطْعًا فِيمَا لَوْ أَخَّرُوا الْمُؤَدَّاةَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، فَأَذَّنُوا لَهَا، وَصَلَّوْهَا، ثُمَّ دَخَلَتْ فَرِيضَةٌ أُخْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْأَذَانِ. فِيهِ مَسَائِلٌ: الْأُولَى: الْأَذَانُ، مَثْنَى، وَالْإِقَامَةُ فُرَادَى، وَالْمُرَادُ: مُعْظَمُ الْأَذَانِ مَثْنَى، وَإِلَّا، فَقَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فِي آخِرِهِ مَرَّةً، وَالتَّكْبِيرُ فِي أَوَّلِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. فَكَذَا الْمُرَادُ مُعْظَمَ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، وَلَفْظُ الْإِقَامَةِ بِالتَّثْنِيَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ فِي الْجَدِيدِ. وَقَالَ: فِي الْقَدِيمِ يَقُولُ هَذِهِ

الْكَلِمَاتِ مَرَّةً، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَفْرَدَ فِي الْقَدِيمِ الْإِقَامَةَ دُونَ التَّكْبِيرِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ: أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ فِي الْأَذَانِ، ثَنَّى جَمِيعَ كَلِمَاتِ الْإِقَامَةِ، وَإِلَّا أَفْرَدَهَا، وَاخْتَارَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا. الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ تَرْتِيلُ الْأَذَانِ، وَإِدْرَاجُ الْإِقَامَةِ. فَالتَّرْتِيلُ: تَبْيِينُ كَلِمَاتِهِ بِلَا بُطْءٍ يُجَاوِزُ الْحَدَّ، وَالْإِدْرَاجُ: أَنْ يَحْدُرَهَا بِلَا فَصْلٍ. الثَّالِثَةُ: يُرَجِّعُ فِي أَذَانِهِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، بِصَوْتٍ مَخْفُوضٍ ثُمَّ يَرْفَعُهُ، وَيَأْتِي بِهِمَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالتَّرْجِيعُ سُنَّةٌ. لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَفْسُدْ أَذَانُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: الْمَشْهُورُ. الرَّابِعَةُ: التَّثْوِيبُ: أَنْ يَقُولَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ الَّذِي يُفْتَى بِهِ: أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالْجَدِيدُ: لَيْسَ سُنَّةً. ثُمَّ ظَاهَرُ إِطْلَاقِ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّثْوِيبَ يَشْمَلُ الْأَذَانَ الَّذِي قَبْلَ الْفَجْرِ وَالَّذِي بَعْدَهُ، وَصَرَّحَ فِي (التَّهْذِيبِ) بِأَنَّهُ إِذَا ثُوِّبَ فِي الْأَذَانِ الْأَوَّلِ، لَا يُثَوَّبُ فِي الثَّانِي عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ إِنَّ التَّثْوِيبَ لَيْسَ بِشَرْطٍ. هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي اشْتِرَاطِهِ احْتِمَالٌ، وَهُوَ بِالْخِلَافِ، أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيعِ. الْخَامِسَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يُؤْذِّنَ وَيُقِيمَ قَائِمًا مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ. فَلَوْ تَرَكَ الْقِيَامَ وَالِاسْتِقْبَالَ مَعَ الْقُدْرَةِ، صَحَّ أَذَانُهُ وَإِقَامَتُهُ، عَلَى الْأَصَحِّ، لَكِنْ يُكْرَهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ مُسَافِرًا، فَلَا بَأْسَ بِأَذَانِهِ رَاكِبًا، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُعْتَدُّ بِهِمَا. قُلْتُ: أَذَانُ الْمُضْطَجِعِ، كَالْقَاعِدِ. إِلَّا أَنَّهُ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يَصِحُّ وَإِنْ صَحَّ أَذَانُ الْقَاعِدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ: يُسَنُّ الِالْتِفَاتُ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ يَمِينًا وَشَمَالًا، فَيَلْوِي رَأْسَهُ وَعُنُقَهُ، وَلَا يُحَوِّلْ صَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَلَا يُزِيلُ قَدَمَهُ عَنْ مَكَانِهَا، وَفِي كَيْفِيَّةِ

الِالْتِوَاءِ، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا، يَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، وَالثَّانِي: يَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، وَالثَّالِثُ، قَوْلُ الْقَفَّالِ: يَقْسِمُ كُلَّ حَيْعَلَةٍ عَلَى الْجِهَتَيْنِ، فَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، مَرَّةً عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ مَرَّةً عَنْ يَسَارِهِ. ثُمَّ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، مَرَّةً عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ مَرَّةً عَنْ يَسَارِهِ. وَيُسْتَحَبُّ الِالْتِفَاتُ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يُسْتَحَبُّ عَلَى الثَّانِي، إِلَّا أَنْ يَكْبُرَ الْمَسْجِدُ وَيَحْتَاجَ إِلَيْهِ. قُلْتُ: وَإِذَا شَرَعَ فِي الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعٍ، تَمَّمَهَا فِيهِ، وَلَا يَمْشِي فِي أَثْنَائِهَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يُبَالِغَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ مَا لَمْ يُجْهِدْهُ، وَأَمَّا الْإِجْزَاءُ، فَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفَسِهِ، أَجْزَأَهُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الِاقْتِصَارُ عَلَى إِسْمَاعِ النَّفْسِ، يَمْنَعُ كَوْنَ الْمَأْتِيِّ بِهِ أَذَانًا وَإِقَامَةً، فَلْيَزِدْ عَلَيْهِ قَدْرَ مَا يُسْمِعُ مَنْ عِنْدَهُ. وَالْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْمُنْفَرِدِ، أَنَّهُ هَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ؟ هُوَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ الرَّفْعُ؟ وَعَلَى قَوْلِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ بِلَا رَفْعٍ؟ . أَمَّا إِذَا أَذَّنَ لِجَمَاعَةٍ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: لَا يُجْزِئُ الْإِسْرَارُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، لِفَوَاتِ الْإِعْلَامِ، وَالثَّانِي: لَا بَأْسَ بِالْإِسْرَارِ. كَالْإِسْرَارِ بِقِرَاءَةِ صَلَاةٍ جَهْرِيَّةٍ، وَالثَّالِثُ: لَا بَأْسَ بِالْإِسْرَارِ بِالْكَلِمَةِ، وَالْكَلِمَتَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُ الْإِسْرَارُ بِالْجَمِيعِ. وَأَمَّا الْإِقَامَةُ، فَلَا يَكْفِي فِيهَا إِسْمَاعُ النَّفْسِ عَلَى الْأَصَحِّ أَيْضًا. لَكِنَّ الرَّفْعَ فِيهَا أَخْفَضُ مِنَ الْأَذَانِ.

الثَّامِنَةُ: تَرْتِيبُ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ شَرْطٌ فَلَوْ عَكَسَ لَمْ يَصِحَّ أَذَانُهُ. لَكِنْ يُبْنَى عَلَى الْمُنْتَظِمِ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ فِي خِلَالِهِ، أَتَى بِالْمَتْرُوكِ، وَأَعَادَ مَا بَعْدَهُ. التَّاسِعَةُ: الْمُوَالَاةُ بَيْنَ كَلِمَاتِهِ مَأْمُورٌ بِهَا، فَإِنْ سَكَتَ بَيْنِهِمَا يَسِيرًا، لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ طَالَ فَفِي بُطْلَانِ أَذَانِهِ قَوْلَانِ. وَلَوْ تَكَلَّمَ بَيْنِهَا كَلَامًا يَسِيرًا، لَمْ يَضُرَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي تَنْزِيلِ الْكَلَامِ الْيَسِيرِ - إِذَا رَفَعَ بِهِ الصَّوْتَ - مَنْزِلَةَ السُّكُوتِ الطَّوِيلِ. وَإِنْ تَكَلَّمَ طَوِيلًا، فَقَوْلَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى السُّكُوتِ الطَّوِيلِ، وَأَوْلَى بِالْبُطْلَانِ. وَلَوْ خَرَجَ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ عَنْ أَهْلِيَّتِهِ بِإِغْمَاءٍ أَوْ نَوْمٍ، فَإِنْ زَالَ عَنْ قُرْبٍ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ طَالَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ جَوَّزُوا الْبِنَاءَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، مَعَ طُولِ الْفَصْلِ، وَحَكَوْهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. لَكِنَّ الْأَشْبَهَ وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ عِنْدَ الْفَصْلِ الطَّوِيلِ، وَحُمِلَ النَّصُّ عَلَى الْفَصْلِ الْيَسِيرِ، وَمَعَ الطُّولِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يُسْتَحَبُّ الِاسْتِئْنَافُ. وَكَذَا يُسْتَحَبُّ فِي السُّكُوتِ وَالْكَلَامِ الْكَثِيرِينَ إِذَا لَمْ نُوجِبْهُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَا يَسِيرَيْنِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي أَذَانِهِ بِشَيْءٍ أَصْلًا فَلَوْ عَطَسَ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ وَيَبْنِي. وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ أَوْ عَطَسَ لَمْ يَجُبْهُ وَلَمْ يُشَمِّتْهُ حَتَّى يَفْرُغَ. فَإِنْ أَجَابَهُ أَوْ شَمَّتْهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِمَصْلَحَةٍ لَمْ يُكْرَهْ، وَكَانَ تَارِكًا لِلْمُسْتَحَبِّ، وَلَوْ رَأَى أَعْمَى يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي بِئْرٍ وَجَبَ إِنْذَارُهُ. فَرْعٌ: إِذَا لَمْ نَحْكُمُ بِبُطْلَانِ الْأَذَانِ بِالْفَصْلِ الْمُتَخَلِّلِ، فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَوِ الْمَشْهُورِ.

فصل

فَرْعٌ: لَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْأَذَانِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَأَقَامَ، جَازَ. لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ، أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِأَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ، بَلْ يُعِيدَهُمَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ تُورِثُ شُبْهَةً فِي حَالِهِ، وَلَوِ ارْتَدَّ فِي خِلَالِ الْأَذَانِ، لَمْ يَصِحَّ بِنَاؤُهُ عَلَيْهِ فِي الرِّدَّةِ. فَإِنْ أَسْلَمَ وَبَنَى عَلَيْهِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ جَازَ الْبِنَاءُ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ: وَقِيلَ: قَوْلَانِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْبِنَاءَ، فَفِي بِنَاءِ غَيْرِهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْفَرْعِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ فِي خِلَالِ الْأَذَانِ. فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْمُؤَذِّنِ وَآدَابِهِ. وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا ذِكْرًا، وَإِذَا نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَذَانِ إِنْ كَانَ عِيسَوِيًّا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ. وَلَا يَصِحُّ أَذَانُ السَّكْرَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَصِحُّ أَذَانُ مَنْ هُوَ فِي أَوَّلِ النَّشْوَةِ، وَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْمَرْأَةِ، وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، لِلرِّجَالِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَأَمَّا أَذَانُهَا لِنَفْسِهَا، أَوْ جَمَاعَةِ نِسَاءٍ، فَتَقَدَّمَ حُكْمُهُ، وَيَصِحُّ أَذَانُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ فِي الْمَذْهَبِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَ (الْعُدَّةِ) وَغَيْرِهِمَا: يُكْرَهُ أَذَانُ الصَّبِيِّ، مَا لَمْ يَبْلُغْ. كَمَا يُكْرَهُ أَذَانُ الْفَاسِقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا آدَابُهُ: فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا، فَإِنْ أَذَّنَ أَوْ أَقَامَ مُحْدِثًا، أَوْ

جُنُبًا، كُرِهَ، وَصَحَّ أَذَانُهُ، وَالْكَرَاهَةُ فِي الْجُنُبِ أَشَدُّ، وَفِي الْإِقَامَةِ أَشَدُّ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا، حَسَنَ الصَّوْتِ، وَأَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ. مِنْ مَنَارَةٍ أَوْ سَطْحٍ، وَنَحْوِهِمَا، وَأَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ عَدْلًا وَهُوَ: الثِّقَةُ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلَادِ مَنْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْأَذَانَ فِيهِمْ، إِذَا وُجِدَ، وَكَانَ عَدْلًا صَالِحًا لَهُ، وَأَنْ يُصَلِّيَ الْمُؤَذِّنُ، وَمَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْأَذَانِ. ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتٍ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ، وَالْفَضِيلَةَ، وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، وَأَنْ يُجِيبَ كُلَّ مِنْ سَمِعَ الْأَذَانَ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، أَوْ حَائِضًا، فَيَقُولُ: مِثْلَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ فِي جَمِيعِ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، إِلَّا فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَإِلَّا فِي كَلِمَتِيِ الْإِقَامَةِ. فَيَقُولُ: أَقَامَهَا اللَّهُ، وَأَدَامَهَا، وَجَعَلَنِي مِنْ صَالِحِي أَهْلِهَا، وَإِلَّا فِي التَّثْوِيبِ، فَيَقُولُ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، وَفِي وَجْهٍ، يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. فَإِنْ كَانَ فِي قِرَاءَةٍ، أَوْ ذِكْرٍ، اسْتُحِبَّ قَطْعُهُمَا لِيُجِيبَ، وَلَوْ كَانَ فِي صَلَاةٍ، لَمْ يُجِبْ حَتَّى يَفْرُغَ، فَإِنْ أَجَابَ، كُرِهَ عَلَى الْأَظْهَرِ، لَكِنْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إِنْ أَجَابَ بِمَا اسْتَحْبَبْنَاهُ؛ لِأَنَّهَا أَذْكَارٌ. فَلَوْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، أَوِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ. قُلْتُ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، تَبْطُلُ. صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَجَابَ فِي خِلَالِ الْفَاتِحَةِ، وَجَبَ اسْتِئْنَافُهَا؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مَحْبُوبَةٍ. قُلْتُ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُجِيبِ، أَنْ يُجِيبَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ عَقِبَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَنْ سَمِعَ أَذَانَ الْمَغْرِبِ: اللَّهُمَّ هَذَا إِقْبَالُ لَيْلِكَ،

وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ، وَأَصْوَاتُ دَعَاتِكَ: فَاغْفِرْ لِي، وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَأَنْ يَتَحَوَّلَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لِلْإِقَامَةِ. فَرْعٌ: الْأَذَانُ وَالْإِمَامَةُ كِلَاهُمَا فِيهِ فَضْلٌ، وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: الْإِمَامَةُ أَفْضَلُ. وَالثَّانِي: الْأَذَانُ، وَالثَّالِثُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَالرَّابِعُ: إِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقِيَامَ بِحُقُوقِ الْإِمَامَةِ، وَجَمَعَ خِصَالَهَا، فَهِيَ أَفْضَلُ، وَإِلَّا، فَالْأَذَانُ. قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَالْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْمَسْعُودِيُّ. قُلْتُ: كَذَا رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ (الْمُحَرَّرِ) الْإِمَامَةَ، وَالْأَصَحُّ: تَرْجِيحُ الْأَذَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي (الْأُمِّ) عَلَى كَرَاهَةِ الْإِمَامَةِ، فَقَالَ: أُحِبُّ الْأَذَانَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ) وَأَكْرَهُ الْإِمَامَةَ لِلضَّمَانِ وَمَا عَلَى الْإِمَامِ فِيهَا، هَذَا نَصُّهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْجَمْعُ فبَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ كَجٍّ، فَقَالَ: الْأَفْضَلُ لِمَنْ صَلَحَ لَهُمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْأَذَانَ لِقَوْمٍ وَالْإِمَامَةَ لِآخَرِينَ. قُلْتُ: صَرَّحَ بِكَرَاهَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْبَغَوَيُّ، وَصَرَّحَ بِاسْتِحْبَابِ جَمْعِهِمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَصَحُّ: اسْتِحْبَابُهُ، وَفِيهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ فِي التِّرْمِذِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ التَّطَوُّعُ بِالْأَذَانِ، فَإِنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ رَزَقَةُ الْإِمَامُ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ خُمُسُ خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَكَذَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا لِلْمَصَالِحِ، وَإِنَّمَا يَرْزُقُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَعَلَى قَدْرِهَا. وَلَوْ وَجَدَ فَاسِقًا يَتَطَوَّعُ وَأَمِينًا لَا يَتَطَوَّعُ، فَلَهُ أَنْ يَرْزُقَ الْأَمِينَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ وَجَدَ أَمِينًا يَتَطَوَّعُ وَأَمِينًا أَحْسَنَ مِنْهُ صَوْتًا لَا يَتَطَوَّعُ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرْزُقَهُ؟ وَجْهَانِ: قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: نَعَمْ، وَالْقَفَّالُ: لَا. قُلْتُ: قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَصَحُّ إِنْ رَآهُ الْإِمَامُ مَصْلَحَةً، لِظُهُورِ تَفَاوُتِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ مَسَاجِدُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُ النَّاسِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، رَزَقَ عَدَدًا مِنَ الْمُؤَذِّنِينَ، يَحْصُلُ بِهِمِ الْكِفَايَةُ، وَيَتَأَدَّى الشِّعَارُ، وَإِنْ أَمْكَنَ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجْمَعُ وَيَرْزُقُ وَاحِدًا. وَالثَّانِي، يَرْزُقُ الْجَمِيعَ، لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ الْمَسَاجِدُ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ سَعَةٌ، بَدَأَ بِالْأَهَمِّ، وَهُوَ رِزْقُ مُؤَذِّنِ الْجَامِعِ وَأَذَانُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَهَمُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَرْزُقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَيَجُوزُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الرَّعِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ، لَا حَجْرَ فَيُرْزَقُ كَمْ شَاءَ، وَمَتَى شَاءَ، وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْأَذَانِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلِآحَادِ النَّاسِ مَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ، وَمَنْ أَذَّنَ لَهُ: وَلَا يَجُوزُ لِآحَادِ النَّاسِ: وَإِذَا

جَوَّزْنَا لِلْإِمَامِ الِاسْتِئْجَارَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ حَيْثُ يَجُوزُ الرِّزْقُ خِلَافًا وَوِفَاقًا. قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتُؤَذِّنَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَوِ اسْتَأْجَرَ وَاحِدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، فَفِي اشْتِرَاطِ بَيَانِ الْمُدَّةِ وَجْهَانِ: قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الِاشْتِرَاطُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْإِقَامَةُ تَدْخُلُ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِلْأَذَانِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِلْإِقَامَةِ إِذْ لَا كُلْفَةَ فِيهَا، بِخِلَافِ الْأَذَانِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ بِصَافِيَةٍ عَنِ الْإِشْكَالِ. فَرْعٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْمَسْجِدِ مُؤَذِّنَانِ، وَمِنْ فَوَائِدِهِمَا: أَنْ يُؤَذِّنَ أَحَدُهُمَا لِلصُّبْحِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَالْآخَرُ بَعْدَهُ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى اثْنَيْنِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى أَرْبَعَةٍ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنِ اسْتِحْبَابِ عَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَأَنْكَرَهُ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَقَالُوا: إِنَّمَا الضَّبْطُ بِالْحَاجَةِ وَرُؤْيَةِ الْمَصْلَحَةِ. فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ فَعَلَهُ، وَإِنْ رَأَى الِاقْتِصَارَ عَلَى اثْنَيْنِ لَمْ يَزِدْ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا تَرَتَّبَ الْأَذَانَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَرَاسَلُوا، بَلْ إِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ تَرَتَّبُوا فِيهِ، فَإِنْ تَنَازَعُوا الِابْتِدَاءَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا أَذَّنُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَارِهِ. وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَقَفُوا مَعًا وَأَذَّنُوا، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ اخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ إِلَى تَهْوِيشٍ. فَإِنْ أَدَّى، لَمْ

يُؤَذِّنْ إِلَّا وَاحِدٌ. فَإِنْ تَنَازَعُوا، أُقْرِعَ، وَأَمَّا الْإِقَامَةُ، فَإِنْ أَذَّنُوا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِهَا، إِنْ كَانَ هُوَ الْمُؤَذِّنُ الرَّاتِبُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُؤَذِّنٌ رَاتِبٌ. إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ غَيْرَ الرَّاتِبِ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ الرَّاتِبَ أَوْلَى، وَالثَّانِي: الْأَوَّلُ أَوْلَى. وَلَوْ أَقَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ غَيْرُ مِنْ لَهُ وِلَايَةِ الْإِقَامَةِ اعْتُدَّ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ، وَعَلَى الشَّاذِّ: لَا يُعْتَدُّ بِالْإِقَامَةِ مِنْ غَيْرِ السَّابِقِ بِالْأَذَانِ تَخْرِيجًا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْطُبَ وَاحِدٌ وَيُصَلِّيَ آخَرُ. أَمَّا إِذَا أَذَّنُوا مَعًا، فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى إِقَامَةِ وَاحِدٍ، وَإِلَّا أُقْرِعَ، وَلَا يُقِيمُ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ إِلَّا وَاحِدٌ، إِلَّا إِذَا لَمْ تَحْصُلِ الْكِفَايَةُ بِوَاحِدٍ. وَقِيلَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُقِيمُوا مَعًا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى التَّهْوِيشِ. فَرْعٌ: وَقْتُ الْأَذَانِ مَنُوطٌ بِنَظَرِ الْمُؤَذِّنِ، لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مُرَاجَعَةِ الْإِمَامِ، وَوَقْتُ الْإِقَامَةِ مَنُوطٌ بِالْإِمَامِ، وَإِنَّمَا يُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ بِإِشَارَتِهِ. فَرْعٌ. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ هُنَا أَنْسَبُ. قَالَ: صَلَاةُ الصُّبْحِ تَخْتَصُّ بِالْأَذَانِ بِأُمُورٍ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ أَذَانِهَا عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ، وَذَكَرَ فِي (الْبَيَانِ) وَجْهًا: أَنَّهُ إِنْ جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدٍ بِالْأَذَانِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يُقَدَّمْ أَذَانُهَا؛ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ، وَهَذَا غَرِيبٌ. ثُمَّ فِي وَقْتِ جَوَازِ التَّقْدِيمِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: يُقَدَّمُ فِي الشِّتَاءِ لِسَبْعٍ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِي الصَّيْفِ: لِنِصْفِ سَبْعٍ، وَهَذَا الضَّبْطُ، تَقْرِيبٌ لَا تَحْدِيدٌ. وَالثَّانِي: يَدْخُلُ بِذَهَابِ وَقْتِ

الِاخْتِيَارِ لِلْعِشَاءِ، وَهُوَ ثُلْثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُهُ. وَالثَّالِثُ: وَقْتُهُ النِّصْفُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ. وَالرَّابِعُ: جَمِيعُ اللَّيْلِ وَقْتٌ لَهُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَاعْتَبَرَ السَّبْعَ مُطْلَقًا تَقْرِيبًا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَاعْتَمَدَ مَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ حَدِيثًا بَاطِلًا مُحَرَّفًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْإِقَامَةُ لِلصُّبْحِ، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْفَجْرِ بِلَا خِلَافٍ، وَيُسَنُّ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلصُّبْحِ مَرَّتَيْنِ، فَيُؤَذِّنَ أَحَدُ الْمُؤَذِّنِينَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَالْآخَرُ بَعْدَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَرَّةٍ قَبْلَ الصُّبْحِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ قَبْلَ الصُّبْحِ وَبَعْضِهَا بَعْدَهُ، وَإِذَا اقْتَصَرَ عَلَى مَرَّةٍ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الصُّبْحِ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. قُلْتُ: بَقِيَتْ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْأَذَانِ. يُكْرَهُ التَّثْوِيبُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ. قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : لَوْ زَادَ فِي الْأَذَانِ ذِكْرًا، أَوْ زَادَ فِي عَدَدِهِ، لَمْ يَفْسُدْ أَذَانُهُ. قَالَ غَيْرُهُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ الْمُؤَذِّنُ كُلَّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِنَفَسِ وَاحِدٍ، وَأَمَّا بَاقِي الْأَلْفَاظِ، فَيُفْرِدُ كُلَّ كَلِمَةٍ بِصَوْتٍ لِطُولِ لَفْظِهَا بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ. قَالَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) : وَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ مَطِيرَةٌ، أَوْ ذَاتُ رِيحٍ وَظُلْمَةٍ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: إِذَا فَرَغَ مِنْ أَذَانِهِ: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ. فَإِنْ قَالَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ بَعْدَ الْحَيْعَلَةِ فَلَا بَأْسَ. وَكَذَا قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَاسْتَبْعَدَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَوْلَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ، وَلَيْسَ هُوَ بِبَعِيدٍ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ وَالسُّنَّةُ. فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي آخِرِ أَبْوَابِ الْأَذَانِ، فِي (الْأُمِّ) : وَقَدْ ثَبَتَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ. إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَقُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ. فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟ ! فَقَدَ

فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي؛ يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَى مُؤَذِّنًا وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ، لَمْ يُكْرَهْ. وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْأَذَانُ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ، وَيُكْرَهُ قَوْلُهُ: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَلَوْ لُقِّنَ الْأَذَانُ صَحَّ، وَلَوْ أَذَّنَ بِالْعَجَمِيَّةِ وَهُنَاكَ مَنْ يُحْسِنُ بِالْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ، وَإِلَّا فَيَصِحُّ. وَلَوْ قَالَ: اللَّهُ الْأَكْبَرُ صَحَّ، وَتَرْكُهُ فِي السَّفَرِ أَخَفُّ مِنَ الْحَضَرِ، وَتَرْكُ الْمَرْأَةِ الْإِقَامَةَ أَخَفُّ مِنْ تَرْكِ الرَّجُلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ. وَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْفَرِيضَةِ، إِلَّا فِي شِدَّةِ خَوْفِ الْقِتَالِ الْمُبَاحِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الْخَوْفِ، وَشَرْطٌ لِصِحَّةِ النَّافِلَةِ، إِلَّا فِي الْخَوْفِ، وَالسَّفَرِ الْمُبَاحِ. وَالْعَاجِزُ كَالْمَرِيضِ لَا يَجِدُ مَنْ يُوَجِّهُهُ، وَالْمَرْبُوطُ عَلَى خَشَبَةٍ، يُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَإِنْ خَافَ انْقِطَاعًا عَنْ رُفْقَتِهِ لَوْ نَزَلَ لَهَا، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ، وَلَا تَصِحُّ الْمَنْذُورَةُ، وَلَا الْجِنَازَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، عَلَى الْمَذْهَبِ فِيهِمَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا فِي التَّيَمُّمِ. فَرْعٌ: شَرْطُ الْفَرِيضَةِ أَنْ يَكُونَ مُصَلِّيهَا مُسْتَقِرًّا. فَلَا تَصِحُّ مِنَ الْمَاشِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَلَا مِنَ الرَّاكِبِ الْمُخِلِّ بِقِيَامٍ أَوِ اسْتِقْبَالٍ، فَإِنِ اسْتَقْبَلَ وَأَتَمَّ الْأَرْكَانَ فِي

فصل

هَوْدَجٍ أَوْ سَرِيرٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا عَلَى دَابَّةٍ وَاقِفَةٍ، صَحَّتِ الْفَرِيضَةُ، عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ صَاحِبَا (الْمُعْتَمِدِ) وَ (التَّهْذِيبِ) ، وَصَاحِبَا (التَّتِمَّةِ) ، وَ (الْبَحْرِ) ، وَغَيْرُهُمْ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ. وَبِهِ قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ. فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ سَائِرَةً لَمْ تَصِحَّ الْفَرِيضَةُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَتَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي السَّفِينَةِ الْجَارِيَةِ وَالزَّوْرَقِ الْمَشْدُودِ عَلَى السَّاحِلِ قَطْعًا. وَكَذَا فِي السَّرِيرِ الَّذِي يَحْمِلُهُ رِجَالٌ، وَفِي الْأُرْجُوحَةِ الْمَشْدُودَةِ بِالْحِبَالِ، وَالزَّوْرَقِ الْجَارِي، لِلْمُقِيمِ بِبَغْدَادَ وَنَحْوِهِ، عَلَى الْأَصَحِّ فِي الثَّلَاثَةِ. فَصْلٌ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ مَاشِيًا، وَعَلَى الرَّاحِلَةِ سَائِرَةً إِلَى جِهَةِ مَقْصِدِهِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ، وَكَذَا الْقَصِيرِ، عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَضَرِ عَلَى الصَّحِيحِ، بَلْ لَهَا فِيهِ حُكْمُ الْفَرِيضَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْقِيَامَ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ لِلرَّاكِبِ وَالْمَاشِي فِي الْحَضَرِ مُتَرَدِّدًا فِي جِهَةِ مَقْصِدِهِ. وَاخْتَارَ الْقَفَّالُ الْجَوَازَ، بِشَرْطِ الِاسْتِقْبَالِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَحَيْثُ جَازَتِ النَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَجَمِيعُ النَّوَافِلِ سَوَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. وَعَلَى الضَّعِيفِ: لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ. أَمَّا رَاكِبُ السَّفِينَةِ فَلَا يَجُوزُ تَنَفُّلُهُ فِيهَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ لِتَمَكُّنِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكَذَا مِنْ تَمَكَّنَ فِي هَوْدَجٍ عَلَى دَابَّةٍ، عَلَى الصَّحِيحِ. وَاسْتَثْنَى صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) مَلَّاحَ السَّفِينَةِ الَّتِي يُسَيِّرُهَا، وَجَوَّزَ تَنَفُّلَهُ حَيْثُ تَوَجَّهَ لِحَاجَةٍ. قُلْتُ: وَاسْتَثْنَاهُ أَيْضًا صَاحِبُ (الْحَاوِي) وَغَيْرُهُ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: إِذَا لَمْ يَتَمَكَنِ الْمُتَنَفِّلُ رَاكِبًا مِنْ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاسْتِقْبَالِ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ، فَفِي وُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: إِنْ سَهُلَ، وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا. فَالسَّهْلُ: بِأَنْ تَكُونَ [الدَّابَّةُ] وَاقِفَةً وَأَمْكَنَ انْحِرَافُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَحْرِيفُهَا، أَوْ كَانَتْ سَائِرَةً وَبِيَدِهِ زِمَامُهَا، وَهِيَ سَهْلَةٌ. وَغَيْرُ السَّهْلِ أَنْ تَكُونَ مَقْطُورَةً أَوْ صَعْبَةً، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ أَصْلًا وَالثَّالِثُ: يَجِبُ مُطْلَقًا. فَإِنْ تَعَذَّرَ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الْقِبْلَةِ أَوْ إِلَى طَرِيقِهِ أَحْرَمَ كَمَا هُوَ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِهِمَا، لَمْ يَجُزِ الْإِحْرَامُ إِلَّا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَالِاعْتِبَارُ بِاسْتِقْبَالِ الرَّاكِبِ دُونَ الدَّابَّةِ، فَلَوِ اسْتَقْبَلَ عِنْدَ التَّحَرُّمِ، أَجْزَأَهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ مُنْحَرِفَةً عَنِ الْقِبْلَةِ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً. وَإِذَا شَرَطْنَا الِاسْتِقْبَالَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، لَمْ نَشْتَرِطْهُ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيمَا سِوَاهُمَا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ لُزُومُ جِهَةِ الْمَقْصِدِ فِي جَمِيعِهَا، إِذَا لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ. وَتَتَبَّعَ مَا يَعْرِضُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ مَعَاطِفَ، وَلَا يُشْتَرَطُ سُلُوكُهُ فِي نَفْسِ الطَّرِيقِ، بَلِ الشَّرْطُ جِهَةُ الْمَقْصِدِ. فَرْعٌ: لَيْسَ لِرَاكِبِ التَّعَاسِيفِ تَرْكُ الِاسْتِقْبَالِ فِي شَيْءٍ مِنْ نَافِلَتِهِ، وَهُوَ الْهَائِمُ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ تَارَةً، وَيَسْتَدْبِرُ تَارَةً، وَلَيْسَ لَهُ مَقْصِدٌ مَعْلُومٌ. فَلَوْ كَانَ لَهُ مَقْصِدٌ

مَعْلُومٌ، لَكِنْ لَمْ يَسِرْ فِي طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، فَلَهُ التَّنَفُّلُ مُسْتَقْبِلًا جِهَةَ مَقْصِدِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقًا مَضْبُوطًا، فَقَدْ لَا يُؤَدِّي سَيْرُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ. فَرْعٌ: إِذَا انْحَرَفَ الْمُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ عَنِ الْقِبْلَةِ، نُظِرَ، إِنِ اسْتَدْبَرَهَا أَوْ تَحَوَّلَ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا، أَوْ عَادَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ عَلَى قُرْبٍ، لَمْ تَبْطُلْ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ، بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. كَكَلَامِ النَّاسِي. وَإِنْ أَمَالَهُ غَيْرُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ قَهْرًا، فَعَادَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ بَعْدَ الطُّولِ، بَطَلَتْ، وَكَذَا عَلَى الْقُرْبِ، عَلَى الْأَصَحِّ، لِنُدُورِهِ. كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكَلَامِ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِنُدُورِهِ. وَلَوِ انْحَرَفَ الْمُتَنَفِّلُ مَاشِيًا عَنْ مَقْصِدِهِ، أَوْ حَرَّفَ دَابَّتَهُ، فَإِنْ كَانَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، لَمْ يَضُرَّهُ. وَإِنْ كَانَ إِلَى غَيْرِهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ غَالِطًا، ظَنَّ أَنَّ الَّذِي تَوَجَّهَ إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَعَادَ عَلَى قُرْبٍ لَمْ تَبْطُلْ. وَإِنْ طَالَ بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوِ انْحَرَفَ بِجِمَاحِ الدَّابَّةِ، وَطَالَ الزَّمَانُ، بَطَلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ كَالْإِمَالَةِ قَهْرًا. وَإِنْ قَصَرَ لَمْ تَبْطُلْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِعُمُومِ الْجِمَاحِ. وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ، فَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ، سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَإِنْ قَصَرَ، فَوَجْهَانِ: الْمَنْصُوصُ: لَا يَسْجُدُ، وَفِي صُورَةِ الْجِمَاحِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: يَسْجُدُ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ طَالَ سَجَدَ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّفْلَ يَدْخُلُهُ سُجُودُ السَّهْوِ. فَرْعٌ: هَذَا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ هُوَ فِي اسْتِقْبَالِ الرَّاكِبِ عَلَى سَرْجٍ وَنَحْوِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى عُرْفِ الدَّابَّةِ، وَلَا عَلَى السَّرْجِ وَالْإِكَافِ، بَلْ يَنْحَنِي

لِلرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنَ الرُّكُوعِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّمَكُّنِ مَحْتُومٌ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَبْلُغَ غَايَةَ وُسْعِهِ فِي الِانْحِنَاءِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَرْكَانِ، فَكَيْفِيَّتُهَا ظَاهِرَةٌ. وَأَمَّا الرَّاكِبُ فِي مَرْقَدٍ وَنَحْوِهِ، مِمَّا يَسْهُلُ فِيهِ الِاسْتِقْبَالُ، وَإِتْمَامُ الْأَرْكَانِ، فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَإِتْمَامُ الْأَرْكَانِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ، وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ، وَهُوَ مَنْصُوصٌ. وَأَمَّا الْمَاشِي فَفِيهِ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَهُ التَّشَهُّدُ مَاشِيًا، وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ التَّشَهُّدُ أَيْضًا قَاعِدًا وَلَا يَمْشِي إِلَّا حَالَةَ الْقِيَامِ. وَالثَّالِثُ: لَا يُشْتَرَطُ اللُّبْثُ بِالْأَرْضِ فِي شَيْءٍ، وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كَالرَّاكِبِ، وَأَمَّا اسْتِقْبَالُهُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي وَجَبَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَفِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ غَيْرَ الْقِيَامِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ اسْتَقْبَلَ فِي الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا يَجِبُ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّالِثِ لَمْ يُشْتَرَطِ الِاسْتِقْبَالُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْإِحْرَامِ. وَالسَّلَامُ وَحُكْمُهُ فِيهِمَا حُكْمُ رَاكِبٍ بِيَدِهِ الزِّمَامُ. وَإِذَا لَمْ نُوجِبِ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ شَرَطْنَا مُلَازِمَةَ جِهَةِ مَقْصِدِهِ. فَرْعٌ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يُلَاقِي بَدَنَ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ وَثِيَابِهِ مِنَ السَّرْجِ وَغَيْرِهِ طَاهِرًا، وَلَوْ بَالَتِ الدَّابَّةُ أَوْ وَطِئَتْ نَجَاسَةً أَوْ كَانَ عَلَى السَّرْجِ نَجَاسَةٌ فَسَتَرَهَا، وَصَلَّى عَلَيْهِ لَمْ يَضُرَّ. وَلَوْ أَوْطَأَهَا الرَّاكِبُ نَجَاسَةً لَمْ يَضُرَّ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ وَطِئَ مُصَلٍّ مَاشِيًا نَجَاسَةً عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِيَاطُ فِي الْمَشْيِ. وَلَوِ انْتَهَى إِلَى نَجَاسَةٍ يَابِسَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ عَنْهَا مَعْدِلًا، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا فِيهِ احْتِمَالٌ؛ فَإِنْ كَانَتْ رَطِبَةً فَمَشَى عَلَيْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

فصل

فَرْعٌ: يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ النَّفْلِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا دَوَامُ السَّفَرِ، فَلَوْ بَلَغَ الْمَنْزِلَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، اشْتُرِطَ إِتْمَامُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ مُتَمَكِّنًا، وَيَنْزِلُ إِنْ كَانَ رَاكِبًا. وَلَوْ دَخَلَ بَلَدَ إِقَامَتِهِ، فَعَلَيْهِ النُّزُولُ، وَإِتْمَامُ الصَّلَاةِ مُسْتَقْبِلًا بِأَوَّلِ دُخُولِهِ الْبُنْيَانَ، إِلَّا إِذَا جَوَّزْنَا لِلْمُقِيمِ التَّنَفُّلَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِقَرْيَةٍ. وَلَوْ مَرَّ بِقَرْيَةٍ مُجْتَازًا فَلَهُ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ رَاكِبًا، فَإِنْ كَانَ لَهُ بِهَا أَهْلٌ، فَهَلْ يَصِيرُ مُقِيمًا بِدُخُولِهَا؟ قَوْلَانِ. إِنْ قُلْنَا: يَصِيرُ، وَجَبَ النُّزُولُ وَالْإِتْمَامُ مُسْتَقْبِلًا؛ قُلْتُ: الْأَظْهَرُ، لَا يَصِيرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَيْثُ أَمَرْنَاهُ بِالنُّزُولِ، فَذَلِكَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْبِنَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ، فَلَوْ أَمْكَنَ الِاسْتِقْبَالُ، وَإِتْمَامُ الْأَرْكَانِ عَلَيْهَا وَهِيَ وَاقِفَةٌ، جَازَ. وَيُشْتَرَطُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا. فَلَوْ رَكَّضَ الدَّابَّةَ لِلْحَاجَةِ فَلَا بَأْسَ، وَلَوْ أَجْرَاهَا بِلَا عُذْرٍ أَوْ كَانَ مَاشِيًا، فَعَدَا بِلَا عُذْرٍ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ فِي اسْتِقْبَالِ الْمُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ: وَلَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَتَصِحَّ الْفَرِيضَةُ وَالنَّافِلَةُ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالنَّفْلُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ خَارِجَهَا، وَكَذَا الْفَرْضُ إِنْ لَمْ يَرْجُ جَمَاعَةً فَإِنْ رَجَاهَا فَخَارِجُهَا أَفْضَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَيَّ جِدَارٍ شَاءَ، وَلَهُ اسْتِقْبَالُ الْبَابِ، إِنْ كَانَ مَرْدُودًا، أَوْ مَفْتُوحًا، وَلَهُ عَتَبَةٌ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ تَقْرِيبًا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَتَبَةِ، أَنْ تَكُونَ بِقَدْرِ قَامَةِ الْمُصَلِّي طُولًا وَعَرْضًا، وَوَجْهٌ: أَنَّهُ يَكْفِي شُخُوصُهَا بِأَيِّ قَدْرٍ كَانَ. الْحَالُ الثَّانِي: لَوِ انْهَدَمَتِ الْكَعْبَةُ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - وَبَقِيَ مَوْضِعُهَا عَرْصَةً فَوَقَفَ خَارِجَهَا وَصَلَّى إِلَيْهَا جَازَ. فَإِنْ صَلَّى فِيهَا فَلَهُ حُكْمُ السَّطْحِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَقِفَ عَلَى سَطْحِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ شَاخِصٌ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَ شَاخِصٌ مِنْ نَفْسِ الْكَعْبَةِ فَلَهُ حُكْمُ الْعَتَبَةِ. إِنْ كَانَ ثُلْثَيْ ذِرَاعٍ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ. وَلَوْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَتَاعًا، وَاسْتَقْبَلَهُ، لَمْ يَكْفِ، وَلَوِ اسْتَقْبَلَ بَقِيَّةَ حَائِطٍ أَوْ شَجَرَةٍ ثَابِتَةٍ جَازَ، وَلَوْ جَمَعَ تُرَابَ الْعَرْصَةِ وَاسْتَقْبَلَهُ أَوْ حَفَرَ حُفْرَةً وَوَقَفَ فِيهَا، أَوْ وَقَفَ فِي آخِرِ السَّطْحِ، أَوِ الْعَرْصَةِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَهُوَ مُرْتَفِعٌ عَنْ مَوْقِفِهِ جَازَ. وَلَوِ اسْتَقْبَلَ حَشِيشًا نَابِتًا عَلَيْهَا أَوْ خَشَبَةً أَوْ عَصًا مَغْرُوزَةً غَيْرَ مُسَمَّرَةٍ، لَمْ يَكْفِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَصَا مُثَبَّتَةً، أَوْ مُسَمَّرَةً، كَفَتْ قَطْعًا. لَكِنْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ خَرَجَ بَعْضُ بَدَنِهِ عَنْ مُحَاذَاتِهَا، كَانَ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، فِيمَنْ خَرَجَ بَعْضُ بَدَنِهِ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ. قُلْتُ: لَمْ يَجْزِمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ. بَلْ قَالَ: فِي هَذَا، تَرَدُّدٌ ظَاهِرٌ عِنْدِي. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْعَصَا؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ مُسْتَقْبِلًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ طَرَفِ الرُّكْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُصَلِّيَ عِنْدَ طَرَفِ رُكْنِ الْكَعْبَةِ، وَبَعْضُ بَدَنِهِ يُحَاذِيهِ، وَبَعْضُهُ يَخْرُجُ عَنْهُ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ وَقَفَ الْإِمَامُ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الْمَقَامِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَوَقَفَ الْقَوْمُ خَلْفَهُ مُسْتَدِيرِينَ بِالْبَيْتِ، جَازَ، وَلَوْ وَقَفُوا

فِي أُخْرَيَاتِ الْمَسْجِدِ، وَامْتَدَّ صَفٌّ طَوِيلٌ، جَازَ، وَإِنْ وَقَفُوا بِقُرْبِهِ، وَامْتَدَّ الصَّفُّ، فَصَلَاةُ الْخَارِجِينَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ بَاطِلَةٌ. الْحَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. فَإِنْ عَايَنَ الْكَعْبَةَ، كَمَنْ يُصَلِّي عَلَى [جَبَلِ] أَبِي قُبَيْسٍ، صَلَّى إِلَيْهَا، وَلَوْ بَنَى مِحْرَابَهُ عَلَى الْعِيَانِ صَلَّى إِلَيْهِ أَبَدًا، وَلَا يَحْتَاجُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ إِلَى الْمُعَايَنَةِ، وَفِي مَعْنَى الْمُعَايِنِ مَنْ نَشَأَ بِمَكَّةَ وَتَيَقَّنَ إِصَابَةَ الْكَعْبَةِ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا حَالَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ وَلَا تَيَقَّنِ الْإِصَابَةَ فَلَهُ اعْتِمَادُ الْأَدِلَّةِ وَالْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ إِنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ أَصْلِيٌّ كَالْجَبَلِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الْحَائِلُ طَارِئًا كَالْبِنَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِلْمَشَقَّةِ فِي تَكْلِيفِ الْمُعَايَنَةِ. الْحَالُ السَّادِسُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَدِينَةِ، فَمِحْرَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْكَعْبَةِ. فَمَنْ يُعَايِنْهُ، يَسْتَقْبِلْهُ، وَيُسَوِّي مِحْرَابَهُ عَلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى الْعِيَانِ، أَوِ الِاسْتِدْلَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْكَعْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ بِحَالٍ. وَفِي مَعْنَى الْمَدِينَةِ، سَائِرُ الْبِقَاعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ضَبَطَ الْمِحْرَابَ، وَكَذَا الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ جَادَّتُهُمْ يَتَعَيَّنُ اسْتِقْبَالُهَا وَلَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ. وَكَذَا الْقَرْيَةُ الصَّغِيرَةُ، إِذَا نَشَأَ فِيهَا قُرُونٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا اعْتِمَادَ عَلَى عَلَامَةٍ بِطَرِيقٍ يَنْدُرُ مُرُورُ النَّاسِ بِهِ، أَوْ يَسْتَوِي مُرُورُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ بِهِ أَوْ بِقَرْيَةٍ خَرِبَةٍ، لَا يُدْرَى، بَنَاهَا الْمُسْلِمُونَ أَوِ الْكُفَّارُ؟ بَلْ يَجْتَهِدُ. ثُمَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي مَنَعْنَا الِاجْتِهَادَ فِيهَا فِي الْجِهَةِ، هَلْ يَجُوزُ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ إِنْ كَانَ مِحْرَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَلَوْ تَخَيَّلَ حَاذِقٌ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ فِيهِ تَيَامُنًا أَوْ تَيَاسُرًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَخَيَالُهُ بَاطِلٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الْبِلَادِ، فَيَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ فِي الْكُوفَةِ خَاصَّةً، وَالرَّابِعُ: لَا يَجُوزُ فِي الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، لِكَثْرَةِ مَنْ دَخَلَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

الْحَالُ السَّابِعُ: إِذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ لَا يَقِينَ فِيهِ. اعْلَمْ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى يَقِينِ الْقِبْلَةِ، لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ، وَفِيمَنِ اسْتَقْبَلَ حَجَرَ الْكَعْبَةِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا، وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْبَيْتِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ هُوَ مَظْنُونٌ. ثُمَّ الْيَقِينُ، قَدْ يَحْصُلُ بِالْمُعَايَنَةِ، وَبِغَيْرِهَا. كَالنَّاشِئِ بِمَكَّةَ، الْعَارِفِ يَقِينًا بِأَمَارَاتٍ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ، لَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ قَوْلِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْقَادِرِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُخْبِرُهُ بِالْقِبْلَةِ عَنْ عِلْمٍ، اعْتَمَدَهُ، وَلَمْ يَجْتَهِدْ، بِشَرْطِ عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ، يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ، وَلَا يُقْبَلُ كَافِرٌ قَطْعًا، وَلَا فَاسِقٌ وَلَا صَبِيٌّ، وَلَا مُمَيِّزٌ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْخَبَرُ صَرِيحَ لَفْظٍ، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً، كَالْمِحْرَابِ الْمُعْتَمَدِ، وَسَوَاءٌ فِي الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ، أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَغَيْرُهُمْ. حَتَّى الْأَعْمَى يَعْتَمِدُ الْمِحْرَابَ إِذَا عَرَفَهُ بِاللَّمْسِ حَيْثُ يَعْتَمِدُهُ الْبَصِيرُ، وَكَذَا الْبَصِيرُ فِي الظُّلْمَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) : إِنَّمَا يَعْتَمِدُ الْأَعْمَى عَلَى الْمَسِّ، فِي مِحْرَابٍ رَآهُ قَبْلَ الْعَمَى. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاهَدَهُ، لَمْ يَعْتَمِدْهُ، وَلَوِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَوَاضِعُ لَمْسِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى يُخْبِرَهُ غَيْرُهُ صَرِيحًا. فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَأَعَادَ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَجَدَ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ عِلْمٍ، وَهُوَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْعَاجِزُ مَنْ يُخْبِرُهُ فَتَارَةً يَقْدِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَتَارَةً لَا يَقْدِرُ. فَإِنْ قَدِرَ، لَزِمَهُ وَاسْتَقْبَلَ مَا ظَنَّهُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ إِلَّا بِأَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِيهَا كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ، وَأَضْعَفُهَا الرِّيَاحُ لِاخْتِلَافِهَا. وَأَقْوَاهَا الْقُطْبُ، وَهُوَ نَجْمٌ صَغِيرٌ فِي بَنَاتِ نَعْشٍ الصُّغْرَى، بَيْنَ الْفَرْقَدَيْنِ وَالْجَدْيِ إِذَا جَعَلَهُ الْوَاقِفُ خَلْفَ أُذُنِهِ الْيُمْنَى، كَانَ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ إِنْ كَانَ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ وَهَمْدَانَ وَقَزْوِينَ وَطَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ، وَمَا وَالَاهَا.

وَلَيْسَ لِلْقَادِرِ عَلَى الِاجْتِهَادِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ. فَإِنْ فَعَلَ وَجَبَ قَضَاءُ الصَّلَاةِ، وَسَوَاءٌ خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ أَمْ لَمْ يَخَفْهُ. لَكِنْ إِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى كَيْفَ كَانَ وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِيهِ وَجْهٌ لِابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يُقَلِّدُ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوَاتِ، وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: يَصْبِرُ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ الْقِبْلَةُ، وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، وَلَوْ خَفِيَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ لِغَيْمٍ أَوْ ظُلْمَةٍ أَوْ تُعَارُضِ أَدِلَّةٍ فَثَلَاثَةُ طُرُقٍ؛ أَصَحُّهَا: قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لَا يُقَلِّدُ، وَالثَّانِي: يُقَلِّدُ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: يُقَلِّدُ، وَالثَّالِثُ: يُصَلِّي بِلَا تَقْلِيدٍ كَيْفَ كَانَ وَيَقْضِي. فَإِنْ قُلْنَا: يُقَلِّدُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذِهِ الطُّرُقُ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ، وَقَبْلَ ضِيقِهِ، يَصْبِرُ، وَلَا يُقَلِّدُ قَطْعًا، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ. قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ مِنَ التَّيَمُّمِ أَوَّلَ الْوَقْتِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَعَلُّمِ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ، كَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْأَدِلَّةَ، وَلَا لَهُ أَهْلِيَّةُ مَعْرِفَتِهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ عَارِفٍ بِالْأَدِلَّةِ، سَوَاءٌ فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَهُ تَقْلِيدُ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ، وَالتَّقْلِيدُ: قَبُولُ قَوْلِهِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الِاجْتِهَادِ. فَلَوْ قَالَ بَصِيرٌ: رَأَيْتُ الْقُطْبَ، أَوْ رَأَيْتُ الْخَلْقَ الْعَظِيمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُصَلُّونَ إِلَى هُنَا، كَانَ الْأَخْذُ بِهِ قَبُولَ خَبَرٍ لَا تَقْلِيدًا. وَلَوِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدَيْنِ، قَلَّدَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْأَوْلَى تَقْلِيدُ الْأَوْثَقِ وَالْأَعْلَمِ، وَقِيلَ: يَجِبُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: يُصَلِّي مَرَّتَيْنِ إِلَى الْجِهَتَيْنِ، وَأَمَّا الْمُتَمَكِّنُ مَنْ تَعَلَّمَ أَدِلَّةَ الْقِبْلَةِ فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ أَمْ عَيْنٍ؟ وَالْأَصَحُّ: فَرْضُ عَيْنٍ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ؛ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ سَفَرًا فَفَرْضُ عَيْنٍ؛ لِعُمُومِ حَاجَةِ الْمُسَافِرِ إِلَيْهَا، وَكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَفَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ السَّلَفَ أَلْزَمُوا آحَادَ النَّاسِ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، صَلَّى بِالتَّقْلِيدِ، وَلَا يَقْضِي كَالْأَعْمَى، وَإِنْ قُلْنَا: فَرْضُ عَيْنٍ، لَمْ يَجُزِ التَّقْلِيدُ. فَإِنْ قَلَّدَ قَضَى لِتَقْصِيرِهِ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ التَّعَلُّمِ، فَهُوَ كَالْعَالَمِ إِذَا تَحَيَّرَ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهِ. فَرْعٌ: الْمُصَلِّي بِالِاجْتِهَادِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ لَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ، أَعْرَضَ عَنْهُ وَاعْتَمَدَ الْجِهَةَ الَّتِي يَعْلَمُهَا أَوْ يَظُنُّهَا الْآنَ. وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ بَلْ ظَنَّ أَنَّ الصَّوَابَ جِهَةً أُخْرَى؛ فَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الِاجْتِهَادِ الثَّانِي عِنْدَهُ أَوْضَحَ مِنَ الْأَوَّلِ الْآنَ، اعْتَمَدَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْضَحَ اعْتَمَدَهُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يُصَلِّي إِلَى الْجِهَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ. فَإِنْ تَيَقَّنَهُ، وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ، سَوَاءٌ تَيَقَّنَ الصَّوَابَ أَيْضًا، أَمْ لَا. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ، وَتَيَقَّنَ الصَّوَابَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الصَّوَابَ فَلَا إِعَادَةَ قَطْعًا. وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ، وَلَوْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ الَّذِي قَلَّدَهُ الْأَعْمَى، فَهُوَ كَتَيَقُّنِ خَطَأِ الْمُجْتَهِدِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ بَلْ ظَنَّهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. فَلَوْ صَلَّى أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِاجْتِهَادَاتٍ فَلَا إِعَادَةَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ: يَجِبُ إِعَادَةُ الْأَرْبَعِ. وَقِيلَ: يَجِبُ إِعَادَةُ غَيْرِ الْأَخِيرَةِ، وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ، سَوَاءٌ أَوْجَبْنَا تَجْدِيدَ الِاجْتِهَادِ، أَمْ لَمْ نُوجِبْهُ فَفَعَلَهُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ الْخَطَأُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: يَظْهَرُ الصَّوَابُ مُقْتَرِنًا بِظُهُورِ الْخَطَأِ. فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ مُتَيَقَّنًا،

بَنَيْنَاهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَيَقُّنِ الْخَطَأِ بَعْدَ الْفَرَاغِ. فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَنْحَرِفُ إِلَى جِهَةِ الصَّوَابِ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَالثَّانِي: تَبْطُلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَطَأُ مُتَيَقَّنًا، بَلْ مَظْنُونًا، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَوِ الْقَوْلَيْنِ، الْأَصَحُّ: يَنْحَرِفُ، وَيَبْنِي، وَعَلَى هَذَا: الْأَصَحُّ لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِاجْتِهَادَاتٍ فَلَا إِعَادَةَ كَالصَّلَوَاتِ، وَخَصَّ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) الْوَجْهَيْنِ بِمَا إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الثَّانِي أَوْضَحَ مِنَ الْأَوَّلِ. قَالَ: فَإِنِ اسْتَوَيَا تَمَّمَ صَلَاتَهُ إِلَى الْجِهَةِ الْأُولَى وَلَا إِعَادَةَ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ الصَّوَابُ مَعَ الْخَطَأِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوَابِ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى الْقُرْبِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ عَلَى الْقُرْبِ فَهَلْ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ وَأَوْلَى بِالِاسْتِئْنَافِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ هُنَا وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مِثَالُهُ: عَرَفَ أَنَّ قِبْلَتَهُ يَسَارَ الْمَشْرِقِ فَذَهَبَ الْغَيْمُ وَظَهَرَ كَوْكَبٌ قَرِيبٌ مِنَ الْأُفُقِ هُوَ مُسْتَقْبِلُهُ، فَعَلِمَ الْخَطَأَ يَقِينًا وَلَمْ يَعْلَمِ الصَّوَابَ؛ إِذْ يُحْتَمَلُ كَوْنُ الْكَوْكَبِ فِي الْمَشْرِقِ وَيُحْتَمَلُ الْمَغْرِبِ. لَكِنْ يُعْرَفُ الصَّوَابُ عَلَى قُرْبٍ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَشْرِقٌ، أَوْ يَنْحَطُّ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْرِبٌ وَيَعْرِفُ بِهِ الْقِبْلَةَ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُطْبِقَ الْغَيْمُ عَقِبَ الْكَوْكَبِ. فَرْعٌ. [فِي الْمَطْلُوبِ بِالِاجْتِهَادِ] قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: جِهَةُ الْكَعْبَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا: عَيْنُهَا. اتَّفَقَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقَفَّالُ عَلَى تَصْحِيحِهِ وَلَوْ ظَهَرَ الْخَطَأُ فِي التَّيَامُنِ أَوِ التَّيَاسُرِ، فَإِنْ كَانَ

ظُهُورُهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَظَهَرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ، لَمْ يُؤَثِّرْ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهَا انْحَرَفَ وَأَتَمَّهَا قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ ظُهُورٌ بِالْيَقِينِ، وَقُلْنَا: الْفَرْضُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنُهَا، فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَالِاسْتِئْنَافِ فِي الْأَثْنَاءِ الْقَوْلَانِ. قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُ: وَلَا يُسْتَيْقَنُ الْخَطَأُ فِي الِانْحِرَافِ مَعَ الْبُعْدِ عَنْ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا يُظَنُّ، وَمَعَ الْقُرْبِ يُمْكِنُ التَّيَقُّنُ وَالظَّنُّ، وَهَذَا كُلُّهُ كَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ اخْتِلَافٍ أَطْلَقَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ: أَنَّهُ هَلْ يُتَيَقَّنُ الْخَطَأُ فِي الِانْحِرَافِ مِنْ غَيْرِ مُعَايَنَةِ الْكَعْبَةِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ وَالْبُعْدِ؟ فَقَالُوا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِالْمُعَايَنَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: يَتَصَوَّرُ. فَرْعٌ: إِذَا صَلَّى بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ أَرَادَ فَرِيضَةً أُخْرَى حَاضِرَةً أَوْ فَائِتَةً، وَجَبَ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ قِيلَ الْوَجْهَانِ، إِذَا لَمْ يُفَارِقْ مَوْضِعَهُ. فَإِنْ فَارَقَهُ وَجَبَ إِعَادَتُهُ قَطْعًا كَالتَّيَمُّمِ. وَلَكِنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّافِلَةِ قَطْعًا وَلَوْ رَأَى اجْتِهَادَ رَجُلَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ، عَمِلَ كُلٌّ بِاجْتِهَادِهِ، وَلَا يَقْتَدِي بِصَاحِبِهِ، وَلَوِ اجْتَهَدَ جَمَاعَةٌ، وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُهُمْ فَأَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مَأْمُومٍ لَزِمَهُ الْمُفَارَقَةُ، وَيَنْحَرِفُ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَلْ لَهُ الْبِنَاءُ، أَمْ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَهَلْ هُوَ مُفَارِقٌ بِعُذْرٍ، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِتَرْكِهِ كَمَالَ الْبَحْثِ؟ وَجْهَانِ: قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْإِمَامِ انْحَرَفَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بَانِيًا أَوْ مُسْتَأْنِفًا، عَلَى الْخِلَافِ، وَيُفَارِقُهُ الْمَأْمُومُونُ، وَلَوِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ فِي التَّيَامُنِ، وَالتَّيَاسُرِ،

وَالْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا عَلَى الْمُجْتَهِدِ رِعَايَةَ ذَلِكَ، فَهُوَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْجِهَةِ، فَلَا يَقْتَدِي أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ، وَلَوْ شَرَعَ الْمُقَلِّدُ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّقْلِيدِ فَقَالَ لَهُ عَدْلٌ أَخْطَأَ بِكَ فُلَانُ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَنِ اجْتِهَادٍ. فَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْأَوَّلِ أَرْجَحَ عِنْدِهِ لِزِيَادَةِ عَدَالَتِهِ أَوْ هِدَايَتِهِ لِلْأَدِلَّةِ أَوْ مِثْلِهِ، أَوْ لَمْ يَعْرِفْ هَلْ هُوَ مِثْلُهُ أَمْ لَا؟ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الثَّانِي، وَهَلْ تَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ؟ يَبْنِي عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ إِذَا وَجَدَ مُجْتَهِدَيْنِ، هَلْ يَجِبُ الْأَخْذُ بِأَعْلَمِهِمَا، أَمْ يَتَخَيَّرُ؟ فَإِنْ قُلْنَا: بِالْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا فَفِيهِ خِلَافٌ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَرْجَحَ، فَهُوَ كَتَغَيُّرِ اجْتِهَادِ الْبَصِيرِ، فَيَنْحَرِفُ، وَيَجِئُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَبْنِي، أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ وَلَوْ قَالَ لَهُ الْمُجْتَهِدُ الثَّانِي بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، لَمْ يَلْزَمِ الْإِعَادَةَ قَطْعًا وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَرْجَحَ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُخْبِرَ عَنْ عِلْمٍ وَمُعَايَنَةٍ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْأَوَّلِ أَقْوَى عِنْدِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَنْ يَقُولَ لِلْأَعْمَى: أَنْتَ مُصَلٍّ إِلَى الشَّمْسِ، وَالْأَعْمَى يَعْلَمُ أَنَّ قِبْلَتَهُ إِلَى غَيْرِ الشَّمْسِ، فَيَلْزَمُ الِاسْتِئْنَافَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ قَالَ الثَّانِي: أَنْتَ عَلَى الْخَطَأِ قَطْعًا، وَجَبَ قَبُولُهُ قَطْعًا، وَسَوَاءٌ أَخْبَرَهُ هَذَا الْقَاطِعُ بِالْخَطَأِ عَنِ الصَّوَابِ، مُتَيَقِّنًا أَوْ مُجْتَهِدًا، يَجِبُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْأَوَّلِ بَطَلَ بِقَطْعِ هَذَا. وَكُلُّ الْمَذْكُورِ فِي الْحَالَيْنِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا أَخْبَرَ الثَّانِي بِالْخَطَأِ وَالصَّوَابِ جَمِيعًا. فَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنِ الْخَطَأِ وَحْدَهُ، عَلَى صُورَةٍ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَلَمْ يُخْبِرْ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ بِالصَّوَابِ، فَهُوَ كَاخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفَرْعِ.

الْبَابُ الرَّابِعُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ. الصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ وَسُنَنٍ تُسَمَّى أَبْعَاضًا، وَسُنَنٍ لَا تُسَمَّى أَبْعَاضًا. فَالْأَرْكَانُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، سَبْعَةَ عَشَرَ. النِّيَّةُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالْقِيَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالرُّكُوعُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَالِاعْتِدَالُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَالسُّجُودُ، وَالطَّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَالْقُعُودُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَالتَّشَهُّدُ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَالسَّلَامُ، وَتَرْتِيبُهَا هَكَذَا. وَمَنْ فَرَضَ فِيهَا الْمُوَالَاةَ، وَنِيَّةَ الْخُرُوجِ أَلْحَقَهُمَا بِالْأَرْكَانِ، وَضَمَّ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) وَالْقَفَّالُ، إِلَى الْأَرْكَانِ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ، مَنْ جَعَلَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ شَرْطًا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا رُكْنٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا الْأِبْعَاضُ، فَسِتَّةٌ. أَحَدُهَا: الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ، وَفِي الْوَتْرِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالثَّانِي: الْقِيَامُ لِلْقُنُوتِ، وَالثَّالِثُ: التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَالرَّابِعُ: الْجُلُوسُ لَهُ، وَالْخَامِسُ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، إِذَا قُلْنَا تُسَنُّ، وَالصَّلَاةُ عَلَى آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ إِذَا قُلْنَا هِيَ سُنَّةٌ فِيهِمَا، وَأَمَّا السُّنَنُ الَّتِي لَيْسَتْ أَبْعَاضًا، فَمَا يُشْرَعُ سِوَى مَا قَدَّمْنَاهُ.

فصل

فَصْلٌ فِي النِّيَّةِ: يَجِبُ مُقَارَنَتُهَا التَّكْبِيرَ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْمُقَارَنَةِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَ النِّيَّةَ بِالْقَلْبِ، مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ بِاللِّسَانِ، وَيَفْرَغُ مِنْهَا، مَعَ فَرَاغِهِ مِنْهُ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُجِبْ هَذَا، بَلْ لَا يَجُوزُ لِئَلَّا يَخْلُوَ أَوَّلُ التَّكْبِيرِ عَنْ تَمَامِ النِّيَّةِ. فَعَلَى هَذَا قِيلَ: يَجِبُ أَنْ تُقَدَّمَ النِّيَّةُ عَلَى التَّكْبِيرِ، وَلَوْ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ لَا يَجِبُ ذَلِكَ، بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْمُقَارَنَةِ، وَسَوَاءٌ قَدَّمَ أَمْ لَمْ يُقَدِّمْ، يَجِبُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ إِلَى انْقِضَاءِ التَّكْبِيرِ عَلَى الْأَصَحِّ وَعَلَى الثَّانِي لَا يَجِبُ. وَالنِّيَّةُ: هِيَ الْقَصْدُ فَيَحْضُرُ الْمُصَلِّي فِي ذِهْنِهِ ذَاتَ الصَّلَاةِ، وَمَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ مِنْ صِفَاتِهَا كَالظُّهْرِيَّةِ وَالْفَرْضِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا. ثُمَّ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعُلُومَ، قَصْدًا مُقَارِنًا لِأَوَّلِ التَّكْبِيرِ. وَلَا يَجِبُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَاقِضٍ لَهَا، وَلَوْ نَوَى فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، الْخُرُوجَ مِنْهَا، بَطَلَتْ. وَإِنْ تَرَدَّدَ فِي أَنْ يَخْرُجَ أَوْ يَسْتَمِرَّ بَطَلَتْ، وَالْمُرَادُ بِالتَّرَدُّدِ: أَنْ يَطْرَأَ شَكٌّ مُنَاقِضٌ لِلْجَزْمِ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يَجْرِي فِي الْفِكْرِ، أَنَّهُ لَوْ تَرَدَّدَ فِي الصَّلَاةِ، كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْمُوَسْوَسُ، وَقَدْ يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَلَا مُبَالَاةَ بِذَلِكَ، قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَلَوْ نَوَى فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى الْخُرُوجَ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ عَلَّقَ الْخُرُوجَ بِشَيْءٍ يُوجَدُ فِي صَلَاتِهِ قَطْعًا، بَطَلَتْ فِي الْحَالِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى الشَّاذِّ لَا تَبْطُلُ فِي الْحَالِ، بَلْ لَوْ رَفَضَ هَذَا التَّرَدُّدَ قَبْلَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْغَايَةِ الْمَنَوِيَّةِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ عَلَّقَ الْخُرُوجَ بِدُخُولِ شَخْصٍ وَنَحْوِهِ، مِمَّا يُحْتَمَلُ حُصُولُهُ فِي الصَّلَاةِ وَعَدَمُهُ، بَطَلَتْ فِي الْحَالِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ هَكَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِلَا خِلَافٍ، وَكَمَا لَوْ عَلَّقَ بِهِ الْخُرُوجَ

مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْحَالِ قَطْعًا. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ فِي الْحَالِ، وَهَلْ تَبْطُلُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ إِذَا وُجِدَتْ وَهُوَ ذَاهِلٌ عَنِ التَّعْلِيقِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا، وَأَصَحُّهُمَا وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ تَبْطُلُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَظْهَرُ عَلَى هَذَا، أَنْ يُقَالَ: تَبَيَّنَ بِالصِّفَةِ بُطْلَانُهَا مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ. أَمَّا إِذَا وُجِدَتْ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلتَّعْلِيقِ، فَتَبْطُلُ قَطْعًا. وَلَوْ نَوَى فَرِيضَةً، أَوْ سُنَّةً رَاتِبَةً، ثُمَّ نَوَى فِيهَا فَرِيضَةً أُخْرَى أَوْ رَاتِبَةً، بَطَلَتِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَلَمْ تَحْصُلِ الْمَنْوِيَّةُ، وَفِي بَقَاءِ أَصْلِ الصَّلَاةِ نَافِلَةً قَوْلَانِ نَذْكُرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ تَرَدَّدَ الصَّائِمُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ صَوْمِهِ، أَوْ عَلَّقَةُ عَلَى دُخُولِ شَخْصٍ وَنَحْوِهِ، لَمْ يُبْطِلْ عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَلَوْ جَزَمَ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنْهُ، لَمْ يَبْطُلْ عَلَى الْأَصَحِّ، كَالْحَجِّ، فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ قَطْعًا. وَلَوْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، هَلْ أَتَى بِكَمَالِ النِّيَّةِ، أَمْ تَرَكَهَا، أَوْ تَرَكَ بَعْضَ شُرُوطِهَا؟ نُظِرَ، إِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَتَى بِكَمَالِهَا قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا عَلَى الشَّكِّ وَقَصْرِ الزَّمَانِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ طَالَ بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ لِانْقِطَاعِ نَظْمِهَا. وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ أَنْ أَتَى عَلَى الشَّكِّ بِرُكْنٍ فِعْلِيٍّ، كَالرُّكُوعِ، أَوِ السُّجُودِ، بَطَلَتْ، وَإِنْ أَتَى بِقَوْلِيٍّ، كَالْقِرَاءَةِ، وَالتَّشَهُّدِ، بَطَلَتْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ. قُلْتُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَوْ شَكَّ، هَلْ نَوَى ظُهْرًا، أَوْ عَصْرًا؟ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ تَيَقَّنَهَا، فَعَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ. فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ. أَمَّا الْفَرِيضَةُ، فَيَجِبُ فِيهَا قَصْدُ أَمْرَيْنِ بِلَا خِلَافٍ. أَحَدُهُمَا: فِعْلُ الصَّلَاةِ، لِتَمْتَازَ عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَلَا يَكْفِي إِحْضَارُ نَفْسِ الصَّلَاةِ بِالْبَالِ، غَافِلًا عَنِ الْفِعْلِ. وَالثَّانِي: تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الْمَأْتِيِّ بِهَا، وَلَا تُجْزِئُهُ نِيَّةُ فَرِيضَةِ الْوَقْتِ عَنْ نِيَّةِ الظُّهْرِ، أَوِ الْعَصْرِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَةَ الَّتِي يَتَذَكَّرُهَا تُشَارِكُهَا فِي كَوْنِهَا فَرِيضَةَ الْوَقْتِ. وَلَا تَصِحُّ الظُّهْرُ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الصَّوَابِ. وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الظُّهْرِ، وَلَا تَصِحُّ بِنِيَّةِ الظُّهْرِ الْمَقْصُورَةِ إِنْ قُلْنَا إِنَّهَا صَلَاةٌ بِحِيَالِهَا، وَإِنْ قُلْنَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ صَحَّتْ. وَاخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ أُمُورٍ سِوَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. أَحَدُهَا: الْفَرْضِيَّةُ، وَهُوَ شَرْطٌ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، سَوَاءٌ كَانَ النَّاوِي بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الصَّلَاةُ قَضَاءً أَمْ أَدَاءً. الثَّانِي: الْإِضَافَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ أَوْ فَرِيضَةُ اللَّهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ. الثَّالِثُ: الْقَضَاءُ وَالْأَدَاءُ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، بَلْ تَصِحُّ أَدَاءً بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَعَكْسِهِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْأَدَاءِ فِي الْأَدَاءِ، وَنِيَّةِ الْقَضَاءِ فِي الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ. أَمَّا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ الْأَدَاءِ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَعَكْسِهِ، فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ جَرَتْ هَذِهِ النِّيَّةُ عَلَى لِسَانِهِ أَوْ فِي قَلْبِهِ، وَلَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ قَطْعًا، وَإِنْ قَصَدَ حَقِيقَةَ مَعْنَاهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ قَطْعًا لِتَلَاعُبِهِ. قُلْتُ: مُرَادُ الْأَصْحَابِ بِقَوْلِهِمْ: يَصِحُّ الْقَضَاءُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ وَعَكْسِهِ مَنْ

نَوَى ذَلِكَ جَاهِلَ الْوَقْتِ لِغَيْمٍ وَنَحْوِهِ، وَالْإِلْزَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ حُكْمُهُ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ مُرَادَهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعُ: التَّعَرُّضُ لِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ. الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ، وَهُوَ غَلَطٌ. لَكِنْ لَوْ نَوَى الظُّهْرَ ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسَةً لَمْ تَنْعَقِدْ، وَأَمَّا النَّافِلَةُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَهَا وَقْتٌ أَوْ سَبَبٌ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ فِعْلِ الصَّلَاةِ، وَالتَّعْيِينِ. فَيَنْوِي صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ أَوِ الْخُسُوفِ أَوْ عِيدِ الْفِطْرِ أَوِ النَّحْرِ أَوِ الضُّحَى، وَغَيْرِهَا، وَفِي الرَّوَاتِبِ يُعَيَّنُ بِالْإِضَافَةِ. فَيَقُولُ: سُنَّةُ الْفَجْرِ، أَوْ رَاتِبَةُ الظُّهْرِ، أَوْ سُنَّةُ الْعِشَاءِ، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَكْفِي فِيمَا عَدَا رَكْعَتِيِ الْفَجْرِ مِنَ الرَّوَاتِبِ، نِيَّةُ أَصْلِ الصَّلَاةِ، لِتَأَكُّدِ رَكْعَتِيِ الْفَجْرِ، فَأُلْحِقَتْ بِالْفَرَائِضِ. وَأَمَّا الْوَتْرُ، فَيَنْوِي سُنَّةَ الْوَتْرِ، وَلَا يُضِيفُهَا إِلَى الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ. فَإِنْ أَوْتَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، نَوَى بِالْجَمِيعِ الْوَتْرَ، كَمَا يَنْوِي فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ، وَفِي وَجْهٍ: يَنْوِي بِمَا قَبْلَ الْوَاحِدَةِ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَفِي وَجْهٍ: يَنْوِي بِهِ سُنَّةَ الْوَتْرِ، وَفِي وَجْهٍ: مُقَدِّمَةَ الْوَتْرِ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ، دُونَ الِاشْتِرَاطِ، وَفِي اشْتِرَاطِ نِيَّةٍ النَّفْلِيَّةِ فِي هَذَا الضَّرْبِ وَالْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْفَرِيضَةِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ. فَيَكْفِي فِيهَا نِيَّةُ فِعْلِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا هُنَا خِلَافًا فِي اشْتِرَاطِ التَّعَرُّضِ لِلنَّفْلِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُقْتَضَى اشْتِرَاطِ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْفَرْضِ، اشْتِرَاطُ النَّفْلِيَّةِ هُنَا. قُلْتُ: الصَّوَابُ، الْجَزْمُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النَّفْلِيَّةِ فِي الضَّرْبَيْنِ، وَلَا وَجْهَ لِلِاشْتِرَاطِ فِي الْأَوَّلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: النِّيَّةُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْقَلْبِ، وَلَا يَكْفِي فِيهَا نُطْقُ اللِّسَانِ مَعَ غَفْلَةِ الْقَلْبِ، وَلَا يُشْتَرَطُ وَلَا يَضُرُّ مُخَالَفَتُهُ الْقَلْبَ. كَمَنْ قَصَدَ بِقَلْبِهِ الظُّهْرَ، وَجَرَى لِسَانُهُ بِالْعَصْرِ انْعَقَدَ ظُهْرُهُ، وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ نُطْقُ اللِّسَانِ وَهُوَ غَلَطٌ. وَلَوْ عَقَّبَ النِّيَّةَ بِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، بِالْقَلْبِ، أَوْ بِاللِّسَانِ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّبَرُّكَ، وَوُقُوعَ الْفِعْلِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ قَصَدَ الشَّكَّ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. فَرْعٌ: مَنْ أَتَى بِمَا يُنَافِي الْفَرِيضَةَ، دُونَ النَّفْلِيَّةِ فِي أَوَّلِ صَلَاتِهِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهَا، وَبَطَلَ فَرْضُهُ، هَلْ تَبْقَى صَلَاتُهُ نَافِلَةً، أَمْ تَبْطُلُ؟ قَوْلَانِ. اخْتَلَفَ فِي الْأَصَحِّ مِنْهُمَا الْأَصْحَابُ بِحَسَبِ الصُّوَرِ: فَمِنْهَا: إِذَا تَحَرَّمَ بِالظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، فَالْأَظْهَرُ: الْبُطْلَانُ. وَإِنْ جَهِلَ فَالْأَظْهَرُ انْعِقَادُهَا نَافِلَةً. وَمِثْلُهُ: لَوْ وَجَدَ الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ رَاكِعًا، فَأَتَى بِبَعْضِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي الرُّكُوعِ، لَا يَنْعَقِدُ الْفَرْضُ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ، فَالْأَظْهَرُ: الْبُطْلَانُ، وَإِلَّا فَالْأَظْهَرُ: انْعِقَادُهَا نَفْلًا. وَمِنْهَا: لَوْ أَحْرَمَ بِفَرِيضَةٍ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ أُقِيمَتْ جَمَاعَةٌ، فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِيُدْرِكَهَا، فَالْأَظْهَرُ: صِحَّتُهَا نَفْلًا. وَمِنْهَا: لَوْ وَجَدَ الْمُصَلِّي قَاعِدًا خِفَّةً فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَقُمْ، أَوْ أَحْرَمَ الْقَادِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِالْفَرْضِ قَاعِدًا، أَوْ قَلَبَ الْمُصَلِّي فَرْضَهُ نَفْلًا بِلَا سَبَبٍ، فَالْأَظْهَرُ الْبُطْلَانُ فِي الثَّلَاثَةِ.

فصل

فَصْلٌ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. أَمَّا الْقَادِرُ عَلَيْهَا، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ كَلِمَةُ التَّكْبِيرِ، وَلَا يُجْزِئُ مَا قَرُبَ مِنْهَا، كَـ: الرَّحْمَنُ أَجَلُّ، وَالرَّبُّ أَعْظَمُ، أَوِ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ أَكْبَرُ، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يُجْزِئُهُ: الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ، أَوِ: الرَّحِيمُ أَكْبَرُ، وَلَوْ قَالَ: اللَّهُ الْأَكْبَرُ، أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ. كَمَا لَوْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَوِ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ، وَلَوْ قَالَ: اللَّهُ الْجَلِيلُ أَكْبَرُ، أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ، فِيمَا إِذَا أَدْخَلَ بَيْنَ كَلِمَتِيِ التَّكْبِيرِ لَفْظًا آخَرَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، بِشَرْطِ أَنْ يَقِلَّ لَفْظُهُ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْبَرُ. فَإِنْ طَالَ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ أَكْبَرُ، لَمْ يُجْزِئْهُ قَطْعًا، لِخُرُوجِهِ عَنِ اسْمِ التَّكْبِيرِ، وَلَوْ قَالَ: أَكْبَرُ اللَّهُ، أَوِ: الْأَكْبَرُ اللَّهُ، لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَقِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ الْأَوَّلُ، وَفِي الثَّانِي الطَّرِيقَانِ، وَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ فِي لَفْظِ التَّكْبِيرِ، عَنْ وَقْفَةٍ بَيْنَ كَلِمَتَيْهِ، وَعَنْ زِيَادَةٍ تُغَيِّرُ الْمَعْنَى، بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، بِمَدِّ هَمْزَةِ اللَّهِ. أَوِ: اللَّهُ أَكْبَارُ، أَوْ يَزِيدُ وَاوًا سَاكِنَةً، أَوْ مُتَحَرِّكَةً بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ، وَلَا يَضُرُّ الْمَدُّ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يُكَبِّرَ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُكَبِّرَ قَائِمًا حَيْثُ يَجِبُ الْقِيَامُ، وَلَا يُجْزِئُهُ تَرْجَمَةُ التَّكْبِيرِ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ كَلِمَةِ التَّكْبِيرِ أَوْ بَعْضِهَا فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ كَسْبُ الْقُدْرَةِ. فَإِنْ كَانَ بِخَرَسٍ أَوْ نَحْوِهِ، حَرَّكَ لِسَانَهُ، وَشَفَتَيْهِ، وَلَهَاتَهُ بِالتَّكْبِيرِ قَدْرَ إِمْكَانِهِ، وَإِنْ كَانَ نَاطِقًا لَا يُطَاوِعُهُ لِسَانُهُ، أَتَى بِتَرْجَمَةِ التَّكْبِيرِ، وَلَا يَعْدِلُ إِلَى ذِكْرٍ آخَرَ. ثُمَّ جَمِيعُ اللُّغَاتِ فِي الترْجَمَةِ

سَوَاءٌ، فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: إِنْ أَحْسَنَ السُّرْيَانِيَّةَ أَوِ الْعِبْرَانِيَّةَ تَعَيَّنَتْ؛ لِشَرَفِهَا بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ بِهَا، وَالْفَارِسِيَّةُ بَعْدَهُمَا أَوْلَى مِنَ التُّرْكِيَّةِ وَالْهِنْدِيَّةِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُمْكِنَهُ الْقُدْرَةَ بِتَعَلُّمٍ، أَوْ نَظَرَ فِي مَوْضِعِ كُتِبَ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّكْبِيرِ، فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ لَا يَجِدُّ فِيهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ، لَزِمَهُ السَّيْرَ إِلَى قَرْيَةٍ يَتَعَلَّمُ بِهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَالثَّانِي: يَكْفِيهِ التَّرْجَمَةُ. وَلَا يَجُوزُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِمَنْ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ فِي آخِرِهِ، وَإِذَا صَلَّى بِالتَّرْجَمَةِ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ فَلَا إِعَادَةَ، وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِي، فَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ التَّعَلُّمِ لِبَلَادَةِ ذِهْنِهِ، أَوْ قِلَّةِ مَا أَدْرَكَهُ مِنَ الْوَقْتِ، فَلَا إِعَادَةَ أَيْضًا، وَإِنْ أَخَّرَ التَّعَلُّمَ مَعَ التَّمَكُّنِ وَضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى بِالتَّرْجَمَةِ وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالصَّوَابِ. قُلْتُ: وَمِنْ فُرُوعِ الْفَصْلِ، مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) وَالْبَغَوَيُّ، وَالْأَصْحَابُ. أَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، أَوْ أَكْثَرَ، دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِالْأَوْتَارِ، وَبَطَلَتْ بِالْأَشْفَاعِ. وَصُورَتُهُ، أَنْ يَنْوِيَ بِكُلِّ تَكْبِيرَةٍ، افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَنْوِ الْخُرُوجَ عَنِ الصَّلَاةِ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ. فَبِالْأُولَى: دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَبِالثَّانِيَةِ: خَرَجَ، وَبِالثَّالِثَةِ: دَخَلَ، وَبِالرَّابِعَةِ: خَرَجَ، وَبِالْخَامِسَةِ: دَخَلَ، وَبِالسَّادِسَةِ: خَرَجَ وَهَكَذَا أَبَدًا؛ لِأَنَّ مَنِ افْتَتَحَ صَلَاةً ثُمَّ نَوَى افْتِتَاحَ صَلَاةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ نَوَى افْتِتَاحَ الصَّلَاتَيْنِ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ، فَبِالنِّيَّةِ يَخْرُجُ، وَبِالتَّكْبِيرِ يَدْخُلُ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ بِالتَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا افْتِتَاحًا، وَلَا خُرُوجًا، صَحَّ دُخُولُهُ بِالْأُولَى، وَبَاقِي التَّكْبِيرَاتِ ذِكْرٌ لَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَرْفَعُهُمَا بِحَيْثُ تُحَاذِي أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ أَعْلَى أُذُنَيْهِ، وَإِبْهَامَاهُ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ، وَكَفَّاهُ مَنْكِبَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَنْهُمْ: يَرْفَعُهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ. وَأَمَّا حِكَايَةُ الْغَزَالِيِّ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، فَمُنْكَرَةٌ، وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ أَوْ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمِعْصَمِ رَفَعَ السَّاعِدَ، وَإِنْ قُطِعَ مِنَ الْمِرْفَقِ رَفَعَ الْعَضُدَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّفْعُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمَشْرُوعِ أَوْ نَقْصٌ أَتَى بِالْمُمْكِنِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا أَتَى بِالزِّيَادَةِ. قُلْتُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ كَفُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ عِنْدَ الرَّفْعِ، قَالَهُ فِي (التَّتِمَّةِ) وَيُسْتَحَبُّ الرَّفْعُ لِكُلِّ مُصَلٍّ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ، مُفْتَرَضٍ وَمُتَنَفِّلٍ، إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي وَقْتِ الرَّفْعِ، أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: يَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ مَعَ إِرْسَالِ الْيَدَيْنِ، وَيَنْهِيهِ مَعَ انْتِهَائِهِ، وَالثَّانِي: يَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيَدَاهُ قَارَّتَانِ، ثُمَّ يُرْسِلُهُمَا، وَصَحَّحَهُ الْبَغَوَيُّ. وَالثَّالِثُ: يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ، وَيُنْهِيهِمَا مَعًا، وَالرَّابِعُ: يَبْتَدِئُهُمَا مَعًا، وَيُنْهِي التَّكْبِيرَ مَعَ انْتِهَاءِ الْإِرْسَالِ. وَالْخَامِسُ وَهُوَ الْأَصَحُّ: يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَلَا اسْتِحْبَابَ فِي الِانْتِهَاءِ، فَإِنْ فَرَغَ مِنَ التَّكْبِيرِ قَبْلَ تَمَامِ الرَّفْعِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَتَمَّ الْبَاقِي، وَإِنْ فَرَغَ مِنْهُمَا، حَطَّ يَدَيْهِ وَلَمْ يَسْتَدِمِ الرَّفْعَ. وَلَوْ تَرَكَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ، حَتَّى أَتَى بِبَعْضِ التَّكْبِيرِ، رَفَعَهُمَا فِي الْبَاقِي، فَإِنْ أَتَمَّهُ، لَمْ يَرْفَعْ بَعْدَهُ، وَيُسْتَحَبُّ كَشْفُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرَّفْعِ، وَأَنْ يُفَرِّقَ أَصَابِعَهُمَا تَفْرِيقًا وَسَطًا، وَأَنْ لَا يُقَصِّرَ

فصل

التَّكْبِيرَ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمْ، وَلَا يُمَطِّطَهُ بِأَنْ يُبَالِغَ فِي مَدِّهِ، بَلْ يَأْتِيَ بِهِ مُبَيَّنًا. وَالْأَوْلَى فِيهِ: الْحَذْفُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى الشَّاذِّ: الْمَدُّ أَوْلَى. فَرْعٌ: السُّنَّةُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، حَطُّ الْيَدَيْنِ، وَوَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَيَقْبِضُ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى كُوعَ الْيُسْرَى وَبَعْضَ رُسْغِهَا وَسَاعِدِهَا. قَالَ الْقَفَّالُ: وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ بَسْطِ أَصَابِعِ الْيُمْنَى فِي عَرْضِ الْمَفْصِلِ، وَبَيْنَ نَشْرِهَا فِي صَوْبِ السَّاعِدِ. ثُمَّ يَضَعُ يَدَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا تَحْتَ صَدْرِهِ وَفَوْقَ سُرَّتِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الشَّاذِّ: تَحْتَ سُرَّتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَ يَدَيْهِ، هَلْ يُرْسِلُهُمَا إِرْسَالًا بَلِيغًا ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ رَفْعَهُمَا إِلَى تَحْتِ صَدْرِهِ وَوَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، أَمْ يُرْسِلُهُمَا إِرْسَالًا خَفِيفًا إِلَى تَحْتِ صَدْرِهِ فَحَسْبُ، ثُمَّ يَضَعُ؟ . قُلْتُ: الْأَصَحُّ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي الْقِيَامِ اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَامَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُومُ الْقُعُودُ مَقَامَهُ فِي النَّافِلَةِ، وَفِي الْفَرِيضَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقِيَامِ، الِانْتِصَابُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ الِاسْتِقْلَالُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَنِدُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي (التَّهْذِيبِ) ، وَغَيْرِهِ لَا يُشْتَرَطُ. فَلَوِ اسْتَنَدَ إِلَى جِدَارٍ أَوِ إِنْسَانٍ، بِحَيْثُ لَوْ رَفَعَ السِّنَادَ لَسَقَطَ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ وَلَا يَصِحُّ

مَعَ الْإِسْنَادِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ بِحَالٍ، وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رَفَعَ السِّنَادَ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِلَّا فَلَا. هَذَا فِي اسْتِنَادٍ لَا يَسْلُبُ اسْمَ الْقِيَامِ. فَإِنِ اسْتَنَدَ مُتَّكِئًا، بِحَيْثُ لَوْ رَفَعَ قَدَمَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ لَأَمْكَنَهُ الْبَقَاءُ، فَهَذَا مُعَلِّقٌ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ وَلَيْسَ بِقَائِمٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، فَيَجِبُ أَنْ يَنْتَصِبَ مُتَّكِئًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ فِي هَذَا الْحَالِ، بَلْ لَهُ الصَّلَاةُ قَاعِدًا، وَأَمَّا الِانْتِصَابُ الْمَشْرُوطُ، فَلَا يُخِلُّ بِهِ إِطْرَاقُ الرَّأْسِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ، نَصْبُ فَقَارِ الظَّهْرِ، فَلَيْسَ لِلْقَادِرِ أَنْ يَقِفَ مَائِلًا إِلَى الْيَمِينِ أَوِ الْيَسَارِ، زَائِلًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَامِ، وَلَا أَنْ يَقِفَ مُنْحَنِيًا فِي حَدِّ الرَّاكِعِينَ. فَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ انْحِنَاؤُهُ حَدَّ الرُّكُوعِ، لَكِنْ كَانَ إِلَيْهِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الِانْتِصَابِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ لِلْقِيَامِ إِلَّا بِمُعِينٍ، ثُمَّ لَا يَتَأَذَّى بِالْقِيَامِ، لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَنْ يُقِيمُهُ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَبَرِّعًا، لَزِمَهُ الِاسْتِئْجَارُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ إِنْ وَجَدَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا فِي الْقَادِرِ عَلَى الِانْتِصَابِ. فَأَمَّا الْعَاجِزُ، كَمَنْ تَقَوَّسَ ظَهْرُهُ لِزَمَانَةٍ أَوْ كِبَرٍ، وَصَارَ فِي حَدِّ الرَّاكِعِينَ فَيَلْزَمُهُ الْقِيَامُ. فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوعَ، زَادَ فِي الِانْحِنَاءِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَصَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَ (التَّهْذِيبِ) وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا. قَالَا: فَإِنْ قَدَرَ عِنْدَ الرُّكُوعِ عَلَى الِارْتِفَاعِ إِلَى حَدِّ الرَّاكِعِينَ لَزِمَهُ، وَلَوْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ الْقِيَامِ لِعِلَّةٍ بِظَهْرِهِ تَمْنَعُ الِانْحِنَاءَ لَزِمَهُ الْقِيَامُ، وَيَأْتِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِحَسَبَ الطَّاقَةِ، فَيَحْنِي صُلْبَهُ قَدْرَ الْإِمْكَانِ. فَإِنْ لَمْ يُطِقْ، حَنَى رَقَبَتَهُ، وَرَأْسَهُ، فَإِنِ احْتَاجَ فِيهِ إِلَى شَيْءٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، أَوْ إِلَى أَنْ يَمِيلَ إِلَى جَنْبِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يُطِقِ الِانْحِنَاءَ أَصْلًا أَوْمَأَ إِلَيْهِمَا.

قُلْتُ: وَإِذَا أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ وَالِاضْطِجَاعُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْقُعُودُ، قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) يَأْتِي بِالْقُعُودِ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ قُعُودٌ وَزِيَادَةٌ. وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ لِلصَّحِيحِ أَنْ يَقُومَ عَلَى إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَيَصِحُّ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَلْصِقَ الْقَدَمَيْنِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَتَطْوِيلُ الْقِيَامِ عِنْدَنَا أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَتَطْوِيلُ السُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ الرُّكُوعِ. وَإِذَا طَوَّلَ الثَّلَاثَةَ زِيَادَةً عَلَى مَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْجَمِيعَ يَكُونُ وَاجِبًا، وَالثَّانِي: يَقَعُ مَا زَادَ سُنَّةً، وَمِثْلُهُ الْخِلَافُ فِي مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَفِي الْبَعِيرِ الْمُخْرَجِ فِي الزَّكَاةِ عَنْ خَمْسٍ، وَفِي الْبَدَنَةِ الْمُضَحَّى بِهَا بَدَلًا عَنْ شَاةٍ مَنْذُورَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: إِذَا عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، عَدَلَ إِلَى الْقُعُودِ، وَلَا يَنْقُصُ ثَوَابُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَلَا نَعْنِي بِالْعَجْزِ، عَدَمَ تَأَتِّي الْقِيَامِ، بَلْ خَوْفَ الْهَلَاكِ، أَوْ زِيَادَةَ الْمَرَضِ، أَوْ لُحُوقَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، أَوْ خَوْفَ الْغَرَقِ وَدَوَرَانِ الرَّأْسِ فِي حَقِّ رَاكِبِ السَّفِينَةِ. قُلْتُ: الَّذِي اخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ضَبْطِ الْعَجْزِ: أَنْ يَلْحَقَهُ بِالْقِيَامِ مَشَقَّةٌ تُذْهِبُ خُشُوعَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ جَلَسَ لِلْغُزَاةِ رَقِيبٌ يَرْقُبُ الْعَدُوَّ، فَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَلَوْ قَامَ لَرَآهُ الْعَدُوُّ، أَوْ جَلَسَ الْغُزَاةُ فِي مَكْمَنٍ، وَلَوْ قَامُوا رَآهُمُ الْعَدُوُّ وَفَسَدَ التَّدْبِيرُ، فَلَهُمُ الصَّلَاةُ قُعُودًا، وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ لِنُدُورِهِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) فِي غَيْرِ الرَّقِيبِ: إِنْ خَافَ لَوْ قَامَ أَنْ يَقْصِدَهُ

الْعَدُوُّ، وَصَلَّى قَاعِدًا، أَجَزَّأَتْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ صَلَّى الْكَمِينُ فِي وَهْدَةٍ قُعُودًا، فَفِي صِحَّتِهَا قَوْلَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِذَا قَعَدَ الْمَعْذُورُ، لَا يَتَعَيَّنُ لِقُعُودِهِ هَيْئَةٌ، بَلْ يُجْزِئُهُ جَمِيعُ هَيْئَاتِ الْقُعُودِ. لَكِنْ يُكْرَهُ الْإِقْعَاءُ فِي هَذَا الْقُعُودِ، وَفِي جَمِيعِ قَعَدَاتِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْمُرَادِ بِالْإِقْعَاءِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: أَنَّهُ الْجُلُوسُ عَلَى الْوَرِكَيْنِ وَنَصْبُ الْفَخِذَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ: أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَفْرِشَ رِجْلَيْهِ، وَيَضَعَ إِلَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَقْعُدَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ، هُوَ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَغَلَطٌ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) : أَنَّ الْإِقْعَاءَ سُنَّةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِمَا قَالَهُ الثَّانِي، وَنَصَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي (البُوَيْطِيِّ) وَ (الْإِمْلَاءِ) فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَالْإِقْعَاءُ ضَرْبَانِ؛ مَكْرُوهٌ وَغَيْرُهُ. فَالْمَكْرُوهُ: الْمَذْكُورُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَغَيْرُهُ: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْأَفْضَلِ مِنْ هَيْئَاتِ الْقُعُودِ، قَوْلَانِ، وَوَجْهَانِ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: وَهُوَ أَصَحُّ الْجَمِيعِ: يَقْعُدُ مُفْتَرِشًا. وَثَانِيهِمَا: مُتَرَبِّعًا، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: مُتَوَرِّكًا، وَثَانِيهِمَا: نَاصِبًا رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، جَالِسًا عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي قُعُودِ النَّافِلَةِ. وَأَمَّا رُكُوعُ الْقَاعِدِ، فَأَقَلُّهُ أَنْ يَنْحَنِيَ قَدْرَ مَا يُحَاذِي وَجْهَهُ مَا قُدَّامَ رُكْبَتَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَكْمَلَهُ، أَنْ يَنْحَنِيَ بِحَيْثُ تُحَاذِي جَبْهَتُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ، وَأَمَّا سُجُودُهُ، فَكَسُجُودِ الْقَائِمِ. هَذَا إِذَا قَدَرَ الْقَاعِدُ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنْ عَجَزَ لِعِلَّةٍ بِظَهْرِهِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَعَلَ الْمُمْكِنَ مِنْ الِانْحِنَاءِ. وَلَوْ قَدَرَ الْقَاعِدُ عَلَى الرُّكُوعِ،

وَعَجَزَ عَنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، نُظِرَ، إِنْ قَدَرَ عَلَى أَقَلِّ رُكُوعِ الْقَاعِدِ وَأَكْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَتَى بِالْمُمْكِنِ، مَرَّةً عَنِ الرُّكُوعِ، وَمَرَّةً عَنِ السُّجُودِ، وَلَا يَضُرُّ اسْتِوَاؤُهُمَا. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى زِيَادَةٍ عَلَى كَمَالِ الرُّكُوعِ، وَجَبَ الِاقْتِصَارُ فِي الِانْحِنَاءِ لِلرُّكُوعِ عَلَى قَدْرِ الْكَمَالِ، لِيَتَمَيَّزَ عَنِ السُّجُودِ. وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُقَرِّبَ جَبْهَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ لِلسُّجُودِ أَكْثَرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. حَتَّى قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ قَدَرَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى صُدْغِهِ، أَوْ عَظْمِ رَأْسِهِ الَّذِي فَوْقَ الْجَبْهَةِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَتْ جَبْهَتُهُ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْضِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. قُلْتُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي (الْأُمِّ) وَالْأَصْحَابُ: لَوْ قَدَرَ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا مُنْفَرِدًا، وَإِذَا صَلَّى مَعَ الْجَمَاعَةِ احْتَاجَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْضَهَا مِنْ قُعُودٍ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا. فَإِنْ صَلَّى مَعَ الْجَمَاعَةِ وَقَعَدَ فِي بَعْضِهَا صَحَّتْ، وَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ وَإِذَا زَادَ عَجَزَ صَلَّى بِالْفَاتِحَةِ. فَلَوْ شَرَعَ فِي السُّورَةِ فَعَجَزَ قَعَدَ وَلَا يَلْزَمُهُ قَطْعُ السُّورَةِ لِيَرْكَعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ فِيمَا إِذَا عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْقِيَامِ، يَتَحَقَّقُ بِتَعَذُّرِهِ، أَوْ لُحُوقِ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ الْجُمْهُورُ: وَالْعَجْزُ عَنِ الْقُعُودِ، يَحْصُلُ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْعَجْزُ عَنِ الْقِيَامِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا يَكْفِي ذَلِكَ، بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَمُ تَصَوُّرِ الْقُعُودِ، أَوْ خِيفَةُ الْهَلَاكِ، أَوِ الْمَرَضُ الطَّوِيلُ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ صَلَاتِهِ، وَجْهَانِ: وَقِيلَ: قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: يَضْطَجِعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ وَمُقَدَّمِ بَدَنِهِ الْقِبْلَةَ، كَالْمَيِّتِ فِي لَحْدِهِ. فَلَوْ خَالَفَ، وَاضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، صَحَّ، إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ. وَالثَّانِي:

أَنَّهُ يَسْتَلْقِي عَلَى ظَهْرِهِ، وَيَجْعَلُ رِجْلَيْهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَرْفَعُ وِسَادَتَهُ قَلِيلًا، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْقَادِرِ عَلَى الِاضْطِجَاعِ وَالِاسْتِلْقَاءِ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا عَلَى أَحَدِهِمَا، أَتَى بِهِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الْخِلَافُ فِي الْكَيْفِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، بِخِلَافِ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي كَيْفِيَّةِ الْقُعُودِ، فَإِنَّهُ فِي الْأَفْضَلِ، لِاخْتِلَافِ اسْتِقْبَالٍ بِهَذَا دُونَ ذَاكَ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ، وَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَضْطَجِعُ عَلَى جَنْبِهِ، وَأَخْمَصَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. ثُمَّ إِذَا صَلَّى عَلَى هَيْئَةٍ مِنْ هَذِهِ الْهَيْئَاتِ، وَقَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَتَى بِهِمَا، وَإِلَّا أَوْمَأَ بِهِمَا مُنْحَنِيًا، وَقَرَّبَ جَبْهَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَ [جَعَلَ] السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْإِشَارَةِ بِالرَّأْسِ أَوْمَأَ بِطَرَفِهِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَحْرِيكِ الْأَجْفَانِ، أَجْرَى أَفْعَالَ الصَّلَاةِ عَلَى قَلْبِهِ. فَإِنِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ، أَجْرَى الْقُرْآنَ وَالْأَذْكَارَ عَلَى قَلْبِهِ، وَمَا دَامَ عَاقِلًا، لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ، إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ: مَا قَدَّمْنَاهُ. فَرْعٌ: الْقَادِرُ عَلَى الْقِيَامِ، إِذَا أَصَابَهُ رَمَدٌ، وَقَالَ لَهُ طَبِيبٌ مَوْثُوقٌ بِهِ: إِنْ صَلَّيْتَ مُستَلْقِيًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَمْكَنَ مُدَاوَاتُكَ، وَإِلَّا خِيفَ عَلَيْكَ الْعَمَى جَازَ لَهُ الِاضْطِجَاعُ وَالِاسْتِلْقَاءُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ صَلَّيْتَ قَاعِدًا، أُمْكِنْتَ. فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَجُوزُ الْقُعُودُ قَطْعًا، وَمَفْهُومُ كَلَامِ غَيْرِهِ: أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.

فَرْعٌ: لَوْ عَجَزَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ عَنِ الْقِيَامِ، قَعَدَ وَبَنَى، وَلَوْ صَلَّى قَاعِدًا، فَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فِي أَثْنَائِهَا، قَامَ وَبَنَى، وَكَذَا لَوْ صَلَّى مُضْطَجِعًا، فَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ أَتَى بِالْمَقْدُورِ وَبَنَى. ثُمَّ إِذَا تَبَدَّلَ الْحَالُ بِالنَّقْصِ إِلَى الْكَمَالِ، بِأَنْ قَدَرَ الْقَاعِدُ عَلَى الْقِيَامِ لِخِفَّةِ الْمَرَضِ، نُظِرَ، إِذَا اتَّفَقَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، قَامَ وَقَرَأَ قَائِمًا. وَكَذَا إِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ، قَامَ وَقَرَأَ بَقِيَّةَ الْفَاتِحَةِ فِي حَالِ الْقِيَامِ، وَيَجِبُ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِي النُّهُوضِ إِلَى أَنْ يَنْتَصِبَ مُعْتَدِلًا. فَلَوْ قَرَأَ فِي نُهُوضِهِ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ، فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ. وَإِنْ قَدَرَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، لَزِمَهُ الْقِيَامُ لِيَهْوِيَ مِنْهُ إِلَى الرُّكُوعِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي هَذَا الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ. وَيُسْتَحَبُّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، أَنْ يُعِيدَ الْفَاتِحَةَ لِيَقَعَ فِي حَالِ الْكَمَالِ، وَلَوْ وَجَدَ الْخِفَّةَ فِي رُكُوعِهِ قَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطُّمَأْنِينَةِ لَزِمَهُ الِارْتِفَاعُ إِلَى حَدِّ الرَّاكِعِينَ عَنْ قِيَامٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ قَائِمًا ثُمَّ يَرْكَعَ، لِئَلَّا يَزِيدَ رُكُوعًا، وَلَوْ فَعَلَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الطُّمَأْنِينَةِ، فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إِلَى رُكُوعِ الْقَائِمِينَ. وَلَوْ وَجَدَ الْخِفَّةَ فِي الِاعْتِدَالِ عَنِ الرُّكُوعِ قَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطُّمَأْنِينَةِ، لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ، لِيَعْتَدِلَ وَيَطْمَئِنَّ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُومَ لِيَسْجُدَ عَنْ قِيَامٍ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ لِئَلَّا يَطُولَ الِاعْتِدَالُ، وَهُوَ رُكْنٌ قَصِيرٌ. فَإِنِ اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ الْقُنُوتِ، لَمْ يَقْنُتْ قَاعِدًا. فَإِنْ فَعَلَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. بَلْ يَقُومُ، وَيَقْنُتُ. أَمَّا إِذَا تَبَدَّلَ الْحَالُ مِنَ الْكَمَالِ إِلَى النَّقْصِ، بِأَنْ عَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْمُمْكِنِ. فَإِنِ اتَّفَقَ الْعَجْزُ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ، وَجَبَ إِدَامَةُ الْقِرَاءَةِ فِي هُوِيِّهِ.

فصل

فَرْعٌ: يَجُوزُ فِعْلُ النَّافِلَةِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ. لَكِنْ ثَوَابُهَا يَكُونُ نِصْفَ ثَوَابِ الْقَائِمِ، وَلَوْ تَنَفَّلَ مُضْطَجِعًا، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ الْمُضْطَجِعُ فِي الْفَرِيضَةِ، يَأْتِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمَا، وَهُنَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ الِاضْطِجَاعِ يَجْرِي فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِيمَاءِ. لَكِنِ الْأَصَحُّ مَنْعُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِيمَاءِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: مَا عِنْدِي أَنَّ مَنْ جَوَّزَ الِاضْطِجَاعَ، يُجَوِّزُ الِاقْتِصَارَ فِي الْأَرْكَانِ الذِّكْرِيَّةِ كَالتَّشَهُّدِ وَالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ. ثُمَّ يَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَاهُ النَّوَافِلُ كُلُّهَا، الرَّاتِبَةُ وَغَيْرُهَا، عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْجِنَازَةِ. فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي إِذَا كَبَّرَ أَنْ يَقُولَ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ، وَهُوَ (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، وَلَا يَزِيدُ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا، إِذَا لَمْ يَعْلَمْ رِضَى الْمَأْمُومِينَ بِالزِّيَادَةِ. فَإِنْ عَلِمَ رِضَاهُمْ، أَوْ كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا، اسْتَحَبَّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِيَ، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ،

فصل

وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ: أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: السُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ) . ثُمَّ يَقُولُ: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ. . .) إِلَى آخِرِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا حَتَّى شَرَعَ فِي التَّعَوُّذِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَدَارَكْهُ فِي بَاقِي الرَّكَعَاتِ، وَلَوْ أَدْرَكَ مَسْبُوقٌ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ وَكَبَّرَ وَقَعَدَ فَسَلَّمَ الْإِمَامُ لِأَوَّلِ قُعُودِهِ قَامَ، وَلَا يَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ قُعُودِهِ لَا يَقْعُدُ، وَيَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَسَوَاءٌ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ الْفَرِيضَةُ وَجَمِيعُ النَّوَافِلِ. قُلْتُ: ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ، وَتَعَوَّذَ، عَادَ إِلَيْهِ مِنَ التَّعَوُّذِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. لَكِنْ لَوْ خَالَفَ فَأَتَى بِهِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَلَوْ أَحْرَمَ مَسْبُوقٌ، فَأَمَّنَ الْإِمَامُ عَقِيبَ إِحْرَامِهِ، أَمَّنَ مَعَهُ، وَأَتَى بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ؛ لِأَنَّ التَّأْمِينَ يَسِيرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ بَعْدَ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، أَنْ يَتَعَوَّذَ فَيَقُولَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَقُولُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ، وَيَحْصُلُ التَّعَوُّذُ، بِكُلِّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ

فصل

الرَّجِيمِ. وَلَا يَجْهَرُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ، وَلَا فِي الْجَهْرِيَّةِ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ فِيهَا كَالتَّسْمِيَةِ وَالتَّأْمِينِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، وَلَا تَرْجِيحَ. وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَارُ قَطْعًا. ثُمَّ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَعَوُّذٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَهُوَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى آكَدُ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرُّويَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَقِيلَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي: يَتَعَوَّذُ فِي الْأُولَى فَقَطْ. فَإِنْ تَرَكَهُ فِيهَا عَمْدًا، أَوْ سَهْوًا، أَتَى بِهِ فِي الثَّانِيَةِ. فَصْلٌ ثُمَّ بَعْدَ التَّعَوُّذِ يَقْرَأُ، وَلِلْمُصَلِّي حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالثَّانِي: لَا يَقْدِرُ. فَأَمَّا الْقَادِرُ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ قِرَاءَتِهَا فِي الْقِيَامِ، أَوْ مَا يَقَعُ بَدَلًا عَنْهُ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهَا تَرْجَمَتُهَا وَلَا غَيْرُهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَسْتَوِي فِي تَعَيُّنِ الْفَاتِحَةِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ، فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ. وَلَنَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي الْجَهْرِيَّةِ. وَوَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي السَّرِيَّةِ أَيْضًا. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ فِي الْجَهْرِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ أَصَمَّ أَوْ بَعِيدًا لَا يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ جَهَرَ الْإِمَامُ فِي السِّرِّيَّةِ أَوْ عَكَسَ فَالْأَصَحُّ وَظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِفِعْلِ الْإِمَامِ. وَالثَّانِي: بِصِفَةِ أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا لَمْ يَقْرَأِ الْمَأْمُومُ، هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّعَوُّذُ؟ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ سِرِّيٌّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ لَا يُسْتَحَبُّ، لِعَدَمِ الْقِرَاءَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا قُلْنَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ فِي الْجَهْرِيَّةِ، فَلَا يَجْهَرُ بِحَيْثُ يَغْلِبُ جَهْرُهُ، بَلْ يُسِرُّ

بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا، فَإِنَّ هَذَا أَدْنَى الْقِرَاءَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ لَهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَاتِحَةَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ إِلَّا فِي رَكْعَةِ الْمَسْبُوقِ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَإِنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي رَكْعَتِهِ وَتَصِحُّ، وَهَلْ يُقَالُ يَحْمِلُهَا عَنْهُ الْإِمَامُ أَمْ لَمْ تَجِبْ أَصْلًا؟ وَجْهَانِ، قُلْتُ أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آيَةً كَامِلَةً مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا بَاقِي السُّورِ، سِوَى (بَرَاءَةٌ) فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا آيَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ أَيْضًا، وَفِي قَوْلٍ أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ، وَقِيلَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ فِي أَوَائِلِهَا، وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا قُرْآنٌ، وَالسُّنَّةُ: أَنْ تَجْهَرَ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ فِي الْفَاتِحَةِ، وَفِي السُّورَةِ بَعْدَهَا. فَرْعٌ: تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بِجَمِيعِ حُرُوفِهَا وَتَشْدِيدَاتِهَا. فَلَوْ أَسْقَطَ مِنْهَا حَرْفًا، أَوْ خَفَّفَ مُشَدَّدًا، أَوْ أَبْدَلَ حَرْفًا بِحَرْفٍ، لَمْ تَصِحَّ قِرَاءَتُهُ، وَسَوَاءٌ فِيهِ الضَّادُ وَغَيْرُهُ. وَفِي وَجْهٍ لَا يَضُرُّ إِبْدَالُ الضَّادِ بِالظَّاءِ، وَلَوْ لَحَنَ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى كَضَمِّ تَاءِ (أَنْعَمْتَ) أَوْ كَسْرِهَا، أَوْ كَسْرِ كَافِ (إِيَّاكَ) لَمْ يُجْزِئْهُ، وَتَبْطُلْ صَلَاتُهُ إِنْ تَعَمَّدَ، وَيَجِبُ إِعَادَةُ الْقِرَاءَةِ، إِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ، وَتُجْزِئُ بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ. وَتَصِحُّ بِالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَغْيِيرُ مَعْنًى، وَلَا زِيَادَةُ حَرْفٍ، وَلَا نُقْصَانُهُ.

فَرْعٌ: يَجِبُ تَرْتِيبٌ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ. فَلَوْ قَدَّمَ مُؤَخَّرًا، إِنْ تَعَمَّدَ، بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ وَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا، وَإِنْ سَهَا لَمْ يَعْتَدَّ بِالْمُؤَخَّرِ، وَيَبْنِي عَلَى الْمُرَتَّبِ إِلَّا أَنْ يُطَوِّلَ فَيَسْتَأْنِفَ الْقِرَاءَةَ، وَلَوْ أَخَلَّ بِتَرْتِيبِ التَّشَهُّدِ، نُظِرَ، إِنْ غَيَّرَ تَغْيِيرًا مُبْطِلًا لِلْمَعْنَى، لَمْ يَحْسِبْ مَا جَاءَ بِهِ، وَإِنْ تَعَمَّدَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْطُلِ الْمَعْنَى أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ فِيهِ قَوْلَانِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي الْفَاتِحَةِ أَيْضًا: إِنْ غَيَّرَ التَّرْتِيبَ تَغْيِيرًا يُبْطِلُ الْمَعْنَى، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَالتَّشَهُّدِ. فَرْعٌ: تَجِبُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِهَا فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا، فَيُنْظَرُ، إِنْ سَكَتَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ طَالَتْ مُدَّةُ السُّكُوتِ، بِأَنْ يَشْعُرَ بِقَطْعِهِ الْقِرَاءَةَ أَوْ إِعْرَاضِهِ عَنْهَا مُخْتَارًا، أَوْ لِعَائِقٍ، بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ، وَلَزِمَ اسْتِئْنَافُهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الشَّاذِّ الْمَنْقُولِ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ: لَا تَبْطُلُ. فَإِنْ قَصُرَتْ مُدَّةُ السُّكُوتِ، لَمْ يُؤْثَرْ قَطْعُهَا، وَإِنْ نَوَى قَطْعَ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يَسْكُتْ لَمْ تَبْطُلْ قَطْعًا. وَإِنْ نَوَى قَطْعَهَا وَسَكَتَ يَسِيرًا، بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ. وَلَوْ أَتَى بِتَسْبِيحٍ أَوْ تَهْلِيلٍ فِي أَثْنَائِهَا أَوْ قَرَأَ آيَةً أُخْرَى بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ، قَلَّ ذَلِكَ أَمْ كَثُرَ. هَذَا فِيمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُصَلِّي. فَأَمَّا مَا أُمِرَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَتِهَا، كَتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ لِتَأْمِينِ الْإِمَامِ، وَسُجُودِهِ لِلتِّلَاوَةِ، وَفَتْحِهِ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ، وَسُؤَالِهِ

الرَّحْمَةَ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ آيَتَهَا، وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْعَذَابِ عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَتَهُ، فَإِذَا وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَبْطُلِ الْمُوَالَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الصَّحِيحِ فِي اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِلْمَأْمُومِ، وَعَلَى وَجْهٍ: لَا يُسْتَحَبُّ، وَلَا يَطَّرِدُ الْخِلَافُ فِي كُلِّ مَنْدُوبٍ، فَإِنَّ الْحَمْدَ عِنْدَ الْعُطَاسِ مَنْدُوبٌ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ فَعَلَهُ، قَطَعَ الْمُوَالَاةَ، وَلَكِنْ يَخْتَصُّ بِالْمَنْدُوبَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالصَّلَاةِ لِمَصْلَحَتِهَا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُخِلَّ بِالْمُوَالَاةِ نَاسِيًا، وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ، أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ نَاسِيًا، فِيهِ قَوْلَانِ. الْمَشْهُورُ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، وَلَا يَعْتَدُّ لَهُ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ. بَلْ إِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا رَكَعَ، عَادَ إِلَى الْقِيَامِ وَقَرَأَ، وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ قِيَامِهِ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، صَارَتِ (الثَّانِيَةُ) أُولَاهُ، وَلَغَتِ الْأُولَى. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ، وَأَمَّا تَرْكُ الْمُوَالَاةِ نَاسِيًا، فَالصَّحِيحُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَضُرُّ، وَلَهُ الْبِنَاءُ، سَوَاءٌ قُلْنَا: يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْفَاتِحَةِ نَاسِيًا، أَمْ لَا. وَمَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ تَنْقَطِعُ بِالنِّسْيَانِ إِذَا قُلْنَا: لَا يُعْذَرُ بِهِ فِي تَرْكِ الْفَاتِحَةِ. فَرْعٌ: مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، يَلْزَمُهُ كَسْبُ الْقُدْرَةِ بِتَعَلُّمٍ، أَوْ تَوَسُّلٍ إِلَى مُصْحَفٍ، يَقْرَؤُهَا مِنْهُ بِشِرَاءٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوِ اسْتِعَارَةٍ. فَإِنْ كَانَ فِي لَيْلٍ أَوْ ظُلْمَةٍ لَزِمَهُ تَحْصِيلُ السِّرَاجِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. فَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، لَزِمَهُ إِعَادَةُ كُلِّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَهَا. فَإِنْ تَعَذَّرَتِ الْفَاتِحَةُ لِتَعَذُّرِ التَّعَلُّمِ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ بَلَادَتِهِ أَوْ عَدَمِ الْمُعَلِّمِ وَالْمُصْحَفِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ تَرْجَمَةُ الْفَاتِحَةِ، بَلْ يُنْظَرُ؛ إِنْ أَحْسَنَ قُرْآنًا غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، لَزِمَهُ قِرَاءَةُ سَبْعِ آيَاتٍ، وَلَا يُجْزِئُهُ دُونَ سَبْعٍ وَإِنْ كَانَتْ آيَاتٍ طِوَالًا. وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ

لَا يَنْقُصَ حُرُوفُ كُلِّ الْآيَاتِ عَنْ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ الْآيَاتِ السَّبْعِ، بِقَدْرِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ آيَتَيْنِ مَقَامَ آيَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْدِلَ حُرُوفَ كُلِّ آيَةٍ مِنْ حُرُوفِ آيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَتَكُونُ مِثْلَهَا أَوْ أَطْوَلَ، وَالثَّالِثُ: يَكْفِي سَبْعُ آيَاتٍ نَاقِصَاتِ الْحُرُوفِ، كَمَا يَكْفِي صَوْمُ يَوْمٍ قَصِيرٍ عَنْ طَوِيلٍ. ثُمَّ إِنْ أَحْسَنَ سَبْعَ آيَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ إِلَى الْمُتَفَرِّقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ إِلَّا مُتَفَرِّقَةً أَتَى بِهَا، وَاسْتَدْرَكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: لَوْ كَانَتِ الْآيَةُ الْمُفْرَدَةُ لَا تُفِيدُ مَعْنًى مَنْظُومًا إِذَا قُرِئَتْ وَحْدَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ نَظَرَ) [الْمُدَّثِّرِ: 21] فَيَظْهَرُ أَنْ لَا نَأْمُرَهُ بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَنَجْعَلَهُ كَمَنْ لَا يُحْسِنُ قِرَاءَةً أَصْلًا. قُلْتُ: قَدْ قَطَعَ جَمَاعَةٌ بِأَنْ تُجْزِئَهُ الْآيَاتُ الْمُتَفَرِّقَةُ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْمُتَوَالِيَةَ، سَوَاءٌ فَرَّقَهَا مِنْ سُورَةٍ أَوْ سُورٍ؛ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَأَبُو عَلِيٍّ البَنْدَنِيجِيُّ، وَصَاحِبُ (الْبَيَانِ) وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي (الْأُمِّ) وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا لَوْ كَانَ الَّذِي يُحْسِنُهُ دُونَ السَّبْعِ، كَآيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا يَقْرَأُ مَا يُحْسِنُهُ، وَيَأْتِي بِالذِّكْرِ عَنِ الْبَاقِي، وَالثَّانِي: يُكَرِّرُ مَا يَحْفَظُهُ حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرَ الْفَاتِحَةِ. أَمَّا الَّذِي لَا يُحْسِنُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالذِّكْرِ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، وَفِي الذِّكْرِ الْوَاجِبِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَيَكْفِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ، وَيَجِبُ مَعَهَا كَلِمَتَانِ مِنَ الذِّكْرِ، لِيَصِيرَ سَبْعَةَ أَنْوَاعٍ مَقَامَ سَبْعِ آيَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ أَنْوَاعُ الذِّكْرِ لَا أَلْفَاظٌ مُفْرَدَةٌ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنَ الذِّكْرِ، وَلَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُنْقِصَ حُرُوفَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؟

وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: يُشْتَرَطُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا يُرَاعِي هُنَا إِلَّا الْحُرُوفُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَحْسَنَ قِرَاءَةَ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّهُ يُرَاعِي الْآيَاتِ، وَفِي الْحُرُوفِ الْخِلَافُ. وَقَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : يَجِبُ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الذِّكْرِ. يُقَامُ كُلُّ نَوْعٍ مُقَامَ آيَةٍ، وَهَذَا أَقْرَبُ، وَهَلِ الدُّعَاءُ الْمَحْضُ كَالذِّكْرِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، يَقُومُ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا. وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالذِّكْرِ الْمَأْتِيِّ بِهِ شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْبَدَلِيَّةِ، كَمَنِ اسْتَفْتَحَ، أَوْ تَعَوَّذَ عَلَى قَصْدِ تَحْصِيلِ سُنَّتِهِمَا، وَلَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ قَصْدُ الْبَدَلِيَّةِ فِيهِمَا، وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَذْكَارِ عَلَى الْأَصَحِّ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا الذِّكْرِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ ثُمَّ يَرْكَعَ، وَلَوْ أَحْسَنَ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يُحْسِنْ بَدَلًا، وَجَبَ تَكْرِيرُ مَا أَحْسَنَ قَدْرَ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ أَحْسَنَ لْبَاقِيهَا بَدَلًا فَوَجْهَانِ: وَقِيلَ: قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يُكَرِّرُهُ، وَأَصَحُّهُمَا يَأْتِي بِهِ وَبِبَدَلِ الْبَاقِي؛ فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَحْسَنَ النِّصْفَ الثَّانِي مِنَ الْفَاتِحَةِ دُونَ الْأَوَّلِ، أَتَى بِالذِّكْرِ بَدَلًا عَنِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَأْتِي بِالنِّصْفِ الثَّانِي. فَلَوْ عَكَسَ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: يُكَرِّرُ مَا يُحْسِنُهُ، فَيُكَرِّرُ الْمَحْفُوظَ مَرَّةً بَدَلًا، وَمَرَّةً أَصْلًا. وَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ، كَرَّرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْأَصَحِّ: فَيَأْتِي بِهِ، ثُمَّ بِالذِّكْرِ بَدَلًا. هَذَا كُلُّهُ إِذَا اسْتَمَرَّ الْعَجْزُ، فَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، بِتَلْقِينٍ، أَوْ مُصْحَفٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَلِ، لَزِمَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْبَدَلِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الضَّعِيفِ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ، بِقَدْرِ مَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَدْ مَضَتْ تِلْكَ الرَّكْعَةُ عَلَى الصِّحَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَلِ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، كَمَا إِذَا قَدَرَ الْمُكَفِّرُ عَلَى الْإِعْتَاقِ، بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّوْمِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ.

فَرْعٌ: يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنْهَا آمِينَ، بِالْمَدِّ أَوِ الْقَصْرِ بِلَا تَشْدِيدِ فِيهِمَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ (وَلَا الضَّالِّينَ) بِسَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ، لِيُمَيِّزَهَا عَنِ الْقُرْآنِ، وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابِهَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ، وَيَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ تَبَعًا لِلْقِرَاءَةِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَجْهَرُ، وَقِيلَ قَوْلَانِ. وَقِيلَ إِنْ لَمْ يَجْهَرِ الْإِمَامُ جَهَرَ لِيُنَبِّهَهُ وَإِلَّا، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ إِنْ كَثُرَ الْقَوْمُ جَهَرُوا، وَإِلَّا فَلَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ تَأْمِينُ الْمَأْمُومِ، مَعَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. فَإِنْ فَاتَهُ أَمَّنَ عَقِبَ تَأْمِينِهِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ تَرَكَ التَّأْمِينَ، حَتَّى اشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ، فَاتَ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ، وَفِي (الْحَاوِي) وَغَيْرِهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ مَا لَمْ يَرْكَعْ. قَالَ فِي (الْأُمِّ) : فَإِنْ قَالَ آمِينَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ كَانَ حَسَنًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: يُسَنُّ لِلْإِمَامِ، وَالْمُنْفَرِدِ، قِرَاءَةُ شَيْءٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَالْأُولَيَيْنِ مِنْ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَيَحْصُلُ أَصْلُ الِاسْتِحْبَابِ، بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ سُورَةً كَامِلَةً أَفْضَلُ. حَتَّى إِنَّ السُّورَةَ الْقَصِيرَةَ أَوْلَى مِنْ قَدْرِهَا مِنْ طَوِيلَةٍ، وَهَلْ تُسَنُّ السُّورَةُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ؟ قَوْلَانِ؛ الْقَدِيمُ وَبِهِ أَفْتَى الْأَكْثَرُونَ: لَا تُسَنُّ، وَالْجَدِيدُ تُسَنُّ لَكِنَّهَا تَكُونُ أَقْصَرَ، وَلَا يُفَضِّلِ الرَّكْعَةَ

الْأَوْلَى عَلَى الثَّانِيَةِ بِزِيَادَةِ الْقِرَاءَةِ، وَلَا الثَّالِثَةَ عَلَى الرَّابِعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ، هُوَ الرَّاجِعُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ. لَكِنَّ الْأَصَحَّ: التَّفْضِيلُ. فَقَدْ صَحَّ فِيهِ الْحَدِيثُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْمُحَقِّقُونَ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ. لَكِنَّ الْقَاضِي أَبَا الطَّيِّبِ خَصَّ الْخِلَافَ بِتَفْضِيلِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ، وَنَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى اسْتِوَاءِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصُّبْحِ، بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، كَ (الْحُجُرَاتِ) وَفِي الظُّهْرِ بِقَرِيبٍ مِنَ الصُّبْحِ، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِهِ، وَيُسَنُّ فِي صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى (آلَمَ تَنْزِيلُ) وَفِي الثَّانِيَةِ: (هَلْ أَتَى) بِكَمَالِهِمَا. وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَلَا يَقْرَأِ السُّورَةَ فِيمَا يَجْهَرُ فِي الْإِمَامِ إِذَا سَمِعَهُ، بَلْ يَسْتَمِعْهُ، وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ سِرِّيَّةً، أَوْ جَهْرِيَّةً، وَلَمْ يَسْمَعِ الْمَأْمُومُ قِرَاءَتَهُ لِبُعْدِهِ، أَوْ صَمَمِهِ، قَرَأَهَا عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: لَوْ قَرَأَ السُّورَةَ، ثُمَّ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ، لَمْ تُحْسَبِ السُّورَةُ، عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ. وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالشَّيْخُ نَصْرُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الِاعْتِدَادِ بِهَا، وَجْهَيْنِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْمَرْأَةُ لَا تَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ رِجَالٌ أَجَانِبُ. فَإِنْ كَانَتْ خَالِيَةً، أَوْ عِنْدَهَا نِسَاءٌ، أَوْ رِجَالٌ مَحَارِمُ، جَهَرَتْ. وَفِي وَجْهٍ: تُسِرُّ مُطْلَقًا، وَحَيْثُ قُلْنَا: تُسِرُّ، فَجَهَرَتْ، لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ. وَأَمَّا نَوَافِلُ النَّهَارِ الْمُطْلَقَةِ، فَيُسَرُّ فِيهَا قَطْعًا، وَأَمَّا نَوَافِلُ اللَّيْلِ، فَقَالَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) يَجْهَرُ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَيُسْتَثْنَى مَا إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مُصَلُّونَ، أَوْ نِيَامٌ يُهَوِّشُ عَلَيْهِمْ فَيُسِرُّ، وَيُسْتَثْنَى التَّرَاوِيحُ، فَيُجْهَرُ فِيهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ. يُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ فِي الصَّلَاةِ، وَخَارِجِهَا، إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ، أَنْ يَسْأَلَ الرَّحْمَةَ: أَوْ بِآيَةِ عَذَابٍ، أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ. أَوْ بِآيَةِ تَسْبِيحٍ، أَنْ يُسَبِّحَ. أَوْ بِآيَةٍ مَثَلٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ، وَإِذَا قَرَأَ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) [التِّينِ: 8] قَالَ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، وَإِذَا قَرَأَ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [الْمُرْسَلَاتِ: 50] قَالَ: آمَنَّا بِاللَّهِ، وَالْمَأْمُومُ، يَفْعَلُ ذَلِكَ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَصْلٌ فِي الرُّكُوعِ. أَقَلُّهُ، أَنْ يَنْحَنِيَ بِحَيْثُ تَنَالُ رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ، وَلَوْ أَرَادَ وَضْعَهُمَا عَلَيْهِمَا، وَهَذَا عِنْدَ اعْتِدَالِ الْخِلْقَةِ وَسَلَامَةِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَلَوِ انْخَنَسَ وَأَخْرَجَ رُكْبَتَيْهِ وَهُوَ مَائِلٌ مُنْتَصِبٌ، وَصَارَ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ لَنَالَتْ رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُكُوعًا؛ لَأَنَّ نِيلَهُمَا لَمْ يَحْصُلْ بِالِانْحِنَاءِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ مَزَجَ الِانْحِنَاءَ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَانَ التَّمَكُّنُ مِنْ وَضْعِ الرَّاحَتَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ بِهِمَا جَمِيعًا، لَمْ يَكُنْ رُكُوعًا أَيْضًا. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْحِنَاءِ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ إِلَّا بِمُعَيَّنٍ، أَوْ بِاعْتِمَادٍ عَلَى شَيْءٍ أَوْ بِأَنْ يَنْحَنِيَ عَلَى شِقِّهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ، انْحَنَى الْقَدْرَ الْمُمْكِنَ، فَإِنْ عَجَزَ، أَوْمَأَ بِطَرَفِهِ عَنْ قِيَامِ.

هَذَا بَيَانُ رُكُوعِ الْقَائِمِ، وَأَمَّا رُكُوعُ الْقَاعِدِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَقَلِّهِ، وَأُكْمِلُهُ فِي فَصْلِ الْقِيَامِ. وَتَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ، وَأَقَلُّهَا: أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى تَسْتَقِرَّ أَعْضَاؤُهُ فِي هَيْئَةِ الرُّكُوعِ، وَيَنْفَصِلَ هُوِيُّهُ عَنِ ارْتِفَاعِهِ مِنْهُ. فَلَوْ جَاوَزَ حَدَّ أَقَلِّ الرُّكُوعِ، فَزَادَ فِي الْهُوِيِّ ثُمَّ ارْتَفَعَ، وَالْحَرَكَاتُ مُتَّصِلَةٌ، لَمْ تَحْصُلِ الطُّمَأْنِينَةُ، وَلَا يَقُومُ زِيَادَةُ الْهُوِيِّ مَقَامَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بَهُوِيِّهِ غَيْرَ الرُّكُوعِ. فَلَوْ قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ آيَةَ سَجْدَةٍ، فَهَوَى لِيَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ مَا بَلَغَ حَدَّ الرَّاكِعِينَ أَنْ يَرْكَعَ، لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ عَنِ الرُّكُوعِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقِيَامِ، ثُمَّ يَرْكَعُ. وَأَمَّا أَكْمَلُ الرُّكُوعِ، فَأَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْهَيْئَةِ، وَالثَّانِي: فِي الذِّكْرِ. أَمَّا الْهَيْئَةُ: فَأَنْ يَنْحَنِيَ بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهْرُهُ وَعُنُقُهُ وَيَمُدُّهُمَا كَالصَّفِيحَةِ، وَيَنْصُبَ سَاقَيْهِ إِلَى الْحَقْوِ، وَلَا يَثْنِي رُكْبَتَيْهِ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَأْخُذَهُمَا بِهِمَا، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ حِينَئِذٍ، وَيُوَجِّهَهَا نَحْوَ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ مَقْطُوعَةً أَوْ عَلِيلَةً فَعَلَ بِالْأُخْرَى مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ لَمْ يَمْكُنْهُ وَضْعُهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ أَرْسَلَهُمَا، وَيُجَافِي الرَّجُلُ مَرْفِقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلَا تُجَافِي الْمَرْأَةُ وَلَا الْخُنْثَى. الْأَمْرُ الثَّانِي: الذِّكْرُ: فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ لِلرُّكُوعِ، وَيَبْتَدِئَ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْهُوِيِّ، وَهَلْ يَمُدُّ التَّكْبِيرَ؟ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ: لَا يَمُدُّهُ، بَلْ يَحْذِفْهُ، وَالْجَدِيدُ الصَّحِيحُ: يُسْتَحَبُّ مَدُّهُ إِلَى تَمَامِ الْهُوِيِّ، حَتَّى لَا يَخْلُوَ جُزْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ عَنْ ذِكْرٍ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي جَمِيعِ تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ، هَلْ يَمُدُّهَا إِلَى الرُّكْنِ الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ، أَمْ لَا؟ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِذَا ابْتَدَأَ التَّكْبِيرَ، وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ الرَّفْعِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُضِيفُ إِلَيْهِ: وَبِحَمْدِهِ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ: اللَّهُمَّ لَكَ

فصل

رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ (لَكَ) سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي، وَشَعْرِي، وَبَشَرِي، وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدِّمِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا أَتَمُّ الْكَمَالِ. ثُمَّ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ إِنَّمَا تُسْتَحَبُّ لِلْمُنْفَرِدِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: خَمْسٍ، إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْمَأْمُومُونُ بِالتَّطْوِيلِ، فَيَسْتَوْفِيَ الْكَمَالَ، وَتُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَصِلَ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ بِآخِرِ السُّورَةِ، بَلْ يَسْكُتُ بَيْنَهُمَا سَكْتَةً لَطِيفَةً، وَيَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ قَائِمًا مَعَ ابْتِدَاءِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ. فَإِنْ تَرَكَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ التَّكْبِيرِ لَمْ يَرْفَعْهُمَا، وَإِنْ ذَكَرَ قَبْلَ فَرَاغِهِ رَفَعَ، وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْكَفَّيْنِ، لَمْ يَبْلُغْ بِيَدَيْهِ رُكْبَتَيْهِ، لِئَلَّا يُغَيِّرَ هَيْئَةَ الرُّكُوعِ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ لِكُلِّ مُصَلٍّ؛ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَمُضْطَجِعٍ وَمُومٍ. وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْأُمِّ) قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الذِّكْرُ فِي الرُّكُوعِ، تَسْبِيحَةٌ وَاحِدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي الِاعْتِدَالِ عَنِ الرُّكُوعِ: وَهُوَ رُكْنٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ، وَالِاعْتِدَالُ الْوَاجِبُ: أَنْ يَعُودَ بَعْدَ رُكُوعِهِ إِلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ، سَوَاءٌ صَلَّى قَائِمًا، أَوْ قَاعِدًا. فَلَوْ رَكَعَ عَنْ قِيَامٍ فَسَقَطَ فِي رُكُوعِهِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَطْمَئِنَّ فِي رُكُوعِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الرُّكُوعِ وَيَطْمَئِنَّ، ثُمَّ يَعْتَدِلَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ اطْمَأَنَّ، فَيَعْتَدِلَ قَائِمًا وَيَسْجُدَ، وَلَوْ رَفَعَ الرَّاكِعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ سَجَدَ وَشَكَّ هَلْ تَمَّ اعْتِدَالُهُ؟ وَجَبَ أَنْ يَعْتَدِلَ قَائِمًا، وَيُعِيدَ السُّجُودَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الِاعْتِدَالِ، كَالرُّكُوعِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي قَلْبِي مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الِاعْتِدَالِ شَيْءٌ، وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِ مَا يَقْتَضِي تَرَدُّدًا فِيهَا، وَالْمَعْرُوفُ الصَّوَابُ وُجُوبُهَا. وَيَجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِارْتِفَاعِهِ شَيْئًا آخَرَ. فَلَوْ رَأَى فِي رُكُوعِهِ حَيَّةً، فَرَفَعَ فَزَعًا مِنْهَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. وَيَجِبُ أَنْ لَا يُطَوِّلَ الِاعْتِدَالَ، فَإِنْ طَوَّلَهُ، فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ خِلَافٌ يُذْكَرُ فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الِاعْتِدَالِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ صِفَةِ الرَّفْعِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ رَفْعِهِمَا، مَعَ ابْتِدَاءِ رَفْعِ الرَّأْسِ. فَإِذَا اعْتَدَلَ قَائِمًا حَطَّهُمَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي ارْتِفَاعِهِ لِلِاعْتِدَالِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا، قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أَوْ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمَلْءَ الْأَرْضِ، وَمَلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. يَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابِ هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ الْإِمَامِ وَلَهُ إِذَا رَضِيَ الْقَوْمُ أَنْ يَزِيدَ، فَيَقُولُ: أَهَّلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، حَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، كُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ إِلَّا بِرِضَاهُمْ. قُلْتُ: هَكَذَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ: حَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، كُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، وَالَّذِي فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ: أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ. بِزِيَادَةِ أَلْفٍ فِي (أَحَقُّ) وَوَاوٍ فِي (وَكُلُّنَا) وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ. لَكِنْ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَوْلَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: وَلَوْ قَالَ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ: سَمِعَ لَهُ، بَدَلَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، أَجْزَأَهُ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَقُولُ فِي الرَّفْعِ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِنْ شَاءَ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أَوْ: لَكَ الْحَمْدُ رَبَّنَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) : يَجْهَرُ الْإِمَامُ بِـ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَيُسِرُّ بِـ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَيُسِرُّ الْمَأْمُومُ بِهِمَا

فصل

جَمِيعًا، وَلَوْ أَتَى بِالرُّكُوعِ الْوَاجِبِ، فَعَرَضَتْ عِلَّةٌ مَنَعَتْهُ الِانْتِصَابَ، سَجَدَ مِنْ رُكُوعِهِ، وَسَقَطَ الِاعْتِدَالُ، لِتَعَذُّرِهِ. فَلَوْ زَالَتِ الْعِلَّةُ قَبْلَ بُلُوغِ جَبْهَتِهِ لِلْأَرْضِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ وَيَنْتَصِبَ قَائِمًا وَيَعْتَدِلَ، ثُمَّ يَسْجُدَ، وَإِنْ زَالَتْ بَعْدَ وَضْعِ جَبْهَتِهِ عَلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الِاعْتِدَالِ، بَلْ سَقَطَ عَنْهُ، فَإِنْ خَالَفَ، فَعَادَ إِلَيْهِ قَبْلَ تَمَامِ سُجُودِهِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ تَبْطُلْ وَيَعُودُ إِلَى السُّجُودِ. قَالَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : وَلَوْ تَرَكَ الِاعْتِدَالَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فِي النَّافِلَةِ، فَفِي صِحَّتِهَا وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى صَلَاتِهَا مُضْطَجِعًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي الْقُنُوتِ. وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الصُّبْحِ، وَكَذَلِكَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْوَتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَفْظُهُ: (اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فَيَمُنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِّي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي، وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكَتْ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ) هَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَزَادَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: (وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ) قَبْلَ (تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ) وَبَعْدَهُ: (فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا قَضَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) .

قُلْتُ: قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَا بَأْسَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ، وَالْبَنْدَنِيجِيُّ، وَآخَرُونَ: مُسْتَحَبَّةٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَغْلِيطِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، فِي إِنْكَارِ (لَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ) وَقَدْ جَاءَتْ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ كَانَ إِمَامًا لَمْ يَخُصَّ نَفْسَهُ، بَلْ يَذَكُرْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهَلْ تُسَنُّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ؟ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: تُسَنُّ، وَهَلْ تَتَعَيَّنُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ فِي الْقُنُوتِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَتَعَيَّنُ، كَكَلِمَاتِ التَّشَهُّدِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ: لَا تَتَعَيَّنُ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ قَنَتَ بِمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ حَسَنًا، وَحُكِيَ وَجْهٌ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ، وَهَذَا غَرِيبٌ، وَغَلَطٌ. أَمَّا غَيْرُ الصُّبْحِ مِنَ الْفَرَائِضِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ إِنْ نَزَلَ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ، كَالْوَبَاءِ وَالْقَحْطِ، قَنَتُوا، وَإِلَّا فَلَا، وَالثَّانِي: يَقْنُتُونَ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: لَا يَقْنُتُونَ مُطْلَقًا. ثُمَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْكَلَامَ وَالْخِلَافَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الْجَوَازِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْعُرُ إِيرَادَهُ بِالِاسْتِحْبَابِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، اسْتِحْبَابُهُ، وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) وَنَقَلَهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي (الْإِمْلَاءِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، هَلْ يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْجَهْرُ، وَالثَّانِي: لَا، كَالتَّشَهُّدِ، وَالدَّعَوَاتِ وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَيُسِرُّ بِهِ قَطْعًا. ذَكَرَهُ الْبَغَوَيُّ. وَأَمَّا الْمَأْمُومُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجْهَرُ الْإِمَامُ، قَنَتَ، وَإِنْ قُلْنَا: يَجْهَرُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُؤْمِنُ، وَلَا يَقْنُتُ. وَالثَّانِي: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ التَّأْمِينِ وَالْقُنُوتِ. فَعَلَى الْأَصَحِّ: هَلْ يُؤَمِّنُ فِي الْجَمِيعِ؟ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ، يُؤَمِّنُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي هُوَ دُعَاءٌ، وَأَمَّا الثَّنَاءُ، فَيُشَارِكُهُ فِيهِ، أَوْ يَسْكُتُ. وَالثَّانِي: يُؤَمِّنُ فِي الْجَمِيعِ. فَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ لِبُعْدٍ، أَوْ غَيْرِهِ وَقُلْنَا: لَوْ سَمِعَ لَأَمَّنَ، فَهُنَا وَجْهَانِ:

فصل

أَحَدُهُمَا: يَقْنُتُ، وَالثَّانِي: يُؤَمِّنُ كَالْوَجْهَيْنِ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ إِذَا لَمْ يَسْمَعِ الْإِمَامَ، وَأَمَّا غَيْرُ الصُّبْحِ إِذَا قَنَتَ فِيهَا، فَالرَّاجِحُ أَنَّهَا كُلَّهَا كَالصُّبْحِ سِرِّيَّةً كَانَتْ، أَوْ جَهْرِيَّةً. وَمُقْتَضَى إِيرَادِهِ فِي (الْوَسِيطِ) أَنَّهُ يُسِرُّ فِي السِّرِّيَّةِ، وَفِي الْجَهْرِيَّةِ الْخِلَافُ، وَهَلْ يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوتِ، وَمَسْحُ الْوَجْهِ بِهِمَا إِذَا فَرَغَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: يُسْتَحَبُّ الرَّفْعُ، دُونَ الْمَسْحِ. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبَّانِ، وَالثَّالِثُ: لَا يُسْتَحَبَّانِ. قُلْتُ: لَا يُسْتَحَبُّ مَسْحُ غَيْرِ وَجْهِهِ قَطْعًا. بَلْ نَصَّ جَمَاعَةٌ عَلَى كَرَاهَتِهِ. وَلَوْ قَنَتَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ يَنْوِي بِهَا الْقُنُوتَ، وَقُلْنَا: لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ لَفْظٌ، فَإِنْ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ دُعَاءً أَوْ شِبْهَهُ كَانَ قُنُوتًا، وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ كَآيَةِ الدَّيْنِ وَ (تَبَّتْ) فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي (الْحَاوِي) الصَّحِيحُ: لَا يَكُونُ قُنُوتًا، وَلَوْ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ كَانَ مَالِكِيًّا يَرَى ذَلِكَ أَجْزَأَهُ. وَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا لَا يَرَاهُ، لَمْ يُحْسَبْ عَلَى الصَّحِيحِ، بَلْ يُعِيدُهُ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَهَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ فِي (الْأُمِّ) : يَسْجُدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي السُّجُودِ. هُوَ رُكْنٌ وَلَهُ أَقَلُّ وَأَكْمَلُ. أَمَّا أَقَلُّهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يَجِبُ أَنْ يَضَعَ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجَبْهَةِ، مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَفِي وَجْهٍ: لَا يَكْفِي بَعْضَ الْجَبْهَةِ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. وَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْجَبْهَةِ الْجَبِينَانِ، وَهُمَا جَانِبَا الْجَبْهَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي وَضْعِ الْجَبْهَةِ الْإِمْسَاسُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَتَحَامَلَ عَلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ بِثِقَلِ رَأْسِهِ وَعُنُقِهِ، حَتَّى تَسْتَقِرَّ جَبْهَتُهُ.

فَلَوْ سَجَدَ عَلَى قُطْنٍ، أَوْ حَشِيشٍ، أَوْ شَيْءٍ مَحْشُوٍّ بِهِمَا، وَجَبَ أَنْ يَتَحَامَلَ حَتَّى يَنْكَبِسَ، وَيَظْهَرَ أَثَرُهُ عَلَى يَدٍ لَوْ فَرَضَتْ تَحْتَ ذَلِكَ الْمَحْشُوِّ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: عِنْدِي أَنَّهُ يَكْفِي إِرْخَاءُ رَأْسِهِ وَلَا يُقِلُّهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّحَامُلِ كَيْفَ فُرِضَ مَحَلَّ السُّجُودَ. وَهَلْ يَجِبُ وَضْعُ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ عَلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ. فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، كَفَى وَضْعُ جُزْءٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَالِاعْتِبَارُ فِي الْيَدِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ بِبُطُونِ الْأَصَابِعِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ، اعْتَمَدَ عَلَى مَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَيَرْفَعُ مَا شَاءَ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْجُدَ مَعَ رَفْعِ الْجَمِيعِ. هَذَا هُوَ الْغَالِبُ، أَوِ الْمَقْطُوعُ بِهِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: وُجُوبُ الْوَضْعِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ: إِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ وَضْعُهَا، فَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْجَبْهَةِ وَحْدَهَا أَجْزَأَهُ، وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) : لَوْ لَمْ يَضَعْ شَيْئًا مِنْهَا، أَجْزَأَهُ. وَمِنْ صُوَرِ رَفْعِهَا كُلِّهَا إِذَا رَفَعَ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَوَضَعَ ظَهْرَ الْكَفَّيْنِ، أَوْ حَرَّفَهُمَا فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ رَفْعِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَجِبُ وَضْعُ الْأَنْفِ عَلَى الْأَرْضِ. قُلْتُ: وَحَكَى صَاحِبُ (الْبَيَانِ) قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ يَجِبُ وَضْعُ الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ مَكْشُوفًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجِبُ أَنْ يَكْشِفَ مِنَ الْجَبْهَةِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَيُبَاشِرَ بِهِ مَوْضِعَ السُّجُودِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْكَشْفُ إِذَا لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِ السُّجُودِ حَائِلٌ مُتَّصِلٌ بِهِ يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِهِ، فَلَوْ سَجَدَ عَلَى طَرَفِ عِمَامَتِهِ، أَوْ ذَيْلِهِ الْمُتَحَرِّكِ بِحَرَكَتِهِ، لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّكْ بِحَرَكَتِهِ قِيَامًا وَقُعُودًا، أَجْزَأَهُ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ عَلَى جَبْهَتِهِ جِرَاحَةٌ فَعَصَبَهَا وَسَجَدَ عَلَى الْعِصَابَةِ أَجْزَأَهُ،

وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَتِ الْإِعَادَةُ مَعَ الْإِيمَاءِ لِلْعُذْرِ فَهُنَا أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا وَضْعَ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، لَمْ يَجِبْ كَشْفُهُمَا قَطْعًا، وَإِذَا أَوْجَبْنَا وَضْعَ الْكَفَّيْنِ، لَمْ يَجِبْ كَشْفُهُمَا أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ. فَإِذَا أَوْجَبْنَاهُ كَفَى كَشْفُ بَعْضٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا وَضَعَ الْجَبْهَةَ وَسَائِرَ الْأَعْضَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَهُ ثَلَاثُ صُوَرٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ أَعَالِيهِ أَعْلَى مِنْ أَسَافِلِهِ، بِأَنْ يَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى ارْتِفَاعٍ، فَيُصَيِّرَ رَأْسُهُ أَعْلَى مِنْ حَقْوِهِ فَلَا يُجْزِئُهُ، لِعَدَمِ اسْمِ السُّجُودِ كَمَا لَوْ أَكَبَّ وَمَدَّ رِجْلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَسَافِلُ أَعْلَى مِنَ الْأَعَالِي، فَهَذِهِ هَيْئَةُ التَّنْكِيسِ، وَهِيَ الْمَطْلُوبَةُ، وَمَهْمَا كَانَ الْمَكَانُ مُسْتَوِيًا، كَانَ الْحَقْوُ أَعْلَى، وَلَوْ كَانَ مَوْضِعَ الرَّأْسِ مُرْتَفِعًا، قَلِيلًا، فَقَدْ تَرْتَفِعُ أَسَافِلُهُ، وَتَحْصُلُ هَذِهِ الْهَيْئَةُ أَيْضًا. الثَّالِثَةُ: أَنْ تَتَسَاوَى أَعَالِيهِ وَأَسَافِلُهِ، لِارْتِفَاعِ مَوْضِعِ الْجَبْهَةِ، وَعَدَمِ رَفْعِهِ الْأَسَافِلَ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، وَإِذَا تَعَذَّرَتِ الْهَيْئَةُ الْمَطْلُوبَةُ لِمَرَضٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ وَضْعُ وِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا، لِيَضَعَ الْجَبْهَةَ عَلَيْهَا، أَمْ يَكْفِي إِنْهَاءُ الرَّأْسِ إِلَى الْحَدِّ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى شَيْءٍ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ الْوُجُوبُ، وَالْأَشْبَهُ بِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ الِاكْتِفَاءُ بِإِنْهَاءِ الرَّأْسِ. وَلَوْ عَجَزَ عَنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَدَرَ عَلَى وَضْعِهَا، عَلَى وِسَادَةٍ مَعَ النُّكْسِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ عَجَزَ عَنْ الِانْحِنَاءِ، أَشَارَ بِالرَّأْسِ، ثُمَّ بِالطَّرَفِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي السُّجُودِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهُوِيِّهِ غَيْرَ السُّجُودِ، فَلَوْ سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ الِاعْتِدَالِ قَبْلَ قَصْدِ الْهُوِيِّ، لَمْ يُحْسَبْ، بَلْ

يَعُودُ إِلَى الِاعْتِدَالِ وَيَسْجُدُ مِنْهُ، وَلَوْ هَوَى لِيَسْجُدَ، فَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ بِجَبْهَتِهِ، نُظِرَ، إِنْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ بِنِيَّةِ الِاعْتِمَادِ، لَمْ يُحْسَبْ عَنِ السُّجُودِ، وَإِنْ لَمْ تَحْدُثْ هَذِهِ النِّيَّةُ حُسِبَ، وَلَوْ هَوَى لِيَسْجُدَ، فَسَقَطَ عَلَى جَنْبِهِ، فَانْقَلَبَ وَأَتَى بِصُورَةِ السُّجُودِ فَإِنْ قَصَدَ السُّجُودَ اعْتُدَّ بِهِ، وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِقَامَةَ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. قُلْتُ: إِذَا قَصَدَ الِاسْتِقَامَةَ لَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَقْصِدَهَا قَاصِدًا صَرْفَ ذَلِكَ عَنِ السُّجُودِ فَلَا يُجْزِئُهُ قَطْعًا وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِعْلًا لَا يُزَادُ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا. قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ الِاسْتِقَامَةَ، وَلَا يَقْصِدَ صَرْفَهُ عَنِ السُّجُودِ، بَلْ يَغْفُلُ عَنْهُ، فَلَا يُجْزِئُهُ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَلَكِنْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَعْتَدِلَ جَالِسًا ثُمَّ يَسْجُدَ. وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُومَ لِيَسْجُدَ مِنْ قِيَامٍ عَلَى الظَّاهِرِ، فَلَوْ قَامَ كَانَ زَائِدًا قِيَامًا مُتَعَمِّدًا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ. هَذَا بَيَانُ الْحَالَتَيْنِ. وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ السُّجُودَ وَلَا الِاسْتِقَامَةَ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنِ السُّجُودِ قَطْعًا، وَالْعَجَبُ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ فِي كَوْنِهِ تَرَكَ اسْتِيفَاءَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ الَّتِي أَلْحَقْتُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: وَأَمَّا أَكْمَلُ السُّجُودِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَا يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّاجِدِ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ، وَيَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ مَعَ ابْتِدَاءِ الْهُوِيِّ، وَهَلْ يَمُدُّهُ أَوْ يَحْذِفُهُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ. وَلَا يَرْفَعُ الْيَدَ مَعَ التَّكْبِيرِ هُنَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: (سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى) ثَلَاثًا وَهَذَا أَدْنَى الْكَمَالِ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ: (اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ،

سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) وَالْإِمَامُ يَقْتَصِرُ عَلَى التَّسْبِيحِ، إِلَّا أَنْ يَرْضَوْا. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُفْرِدِ، أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الدُّعَاءِ فِي سُجُودِهِ، وَأَنْ يَضَعَ كُلُّ سَاجِدٍ الْأَنْفَ مَعَ الْجَبْهَةِ مَكْشُوفًا، وَأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَيَرْفَعَ الرَّجُلُ مَرْفِقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَبَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ تَضُمُّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَأَنْ يَضَعَ السَّاجِدُ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ بِإِزَاءِ مَنْكِبَيْهِ، وَأَصَابِعُهُ مُلْتَصِقٌ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ مُسْتَطِيلَةٌ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَسُنَّةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ، إِذَا كَانَتْ مَنْشُورَةً فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ التَّفْرِيجُ الْمُقْتَصِدُ، إِلَّا فِي حَالَةِ السُّجُودِ فَإِنَّهُ يُلْصِقُهَا. قُلْتُ وَإِلَّا فِي التَّشَهُّدِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ أَصَابِعَ الْيُسْرَى، تَكُونُ كَهَيْئَاتِهَا فِي السُّجُودِ، وَكَذَا أَصَابِعُهُمَا فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَرْفَعُ السَّاجِدُ ذِرَاعَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ، وَلَا يَفْتَرِشُهُمَا، وَيَنْصِبُ الْقَدَمَيْنِ، وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَهُمَا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ تَوْجِيهُهَا، بِالتَّحَامُلِ عَلَيْهَا، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى بُطُونِهَا، وَقَالَ فِي (النِّهَايَةِ) الَّذِي صَحَّحَهُ الْأَئِمَّةُ: أَنْ يَضَعَ أَطْرَافَ الْأَصَابِعِ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَحَامُلٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَكُونُ بَيْنَهُمَا شِبْرٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: (سُبُّوحٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ) وَأَنْ يُبْرِزَ قَدَمَيْهِ مِنْ ذَيْلِهِ فِي السُّجُودِ وَيَكْشِفَهُمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا خُفٌّ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي سُجُودٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ، شَعْرَهُ أَوْ ثِيَابَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ فَإِذَا فَرَغَ مِنَ السُّجُودِ، رَفَعَ فَاعْتَدَلَ جَالِسًا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَهَذَا الِاعْتِدَالُ وَاجِبٌ، وَيَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالرَّفْعِ شَيْئًا آخَرَ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُطَوِّلَ الْجُلُوسَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسَ مُفْتَرِشًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ ضَعِيفٍ يُضْجِعُ قَدَمَيْهِ وَيَجْلِسُ عَلَى صُدُورِهِمَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، قَرِيبًا مِنْ رُكْبَتَيْهِ مَنْشُورَتِيِ الْأَصَابِعِ، وَلَوِ انْعَطَفَتْ أَطْرَافُهَا عَلَى الرُّكْبَةِ فَلَا بَأْسَ، وَلَوْ تَرَكَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ جَانِبِي فَخِذَيْهِ كَانَ كَإِرْسَالِهِمَا فِي الْقِيَامِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي جُلُوسِهِ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي) . فَصْلٌ ثُمَّ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مِثْلَ الْأُولَى، فِي وَاجِبَاتِهَا وَمَنْدُوبَاتِهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ. فَإِنْ كَانَتْ سَجْدَةً لَا يَعْقُبُهَا تَشَهُّدٌ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَجْلِسَ عَقِبَهَا جَلْسَةً لَطِيفَةً تُسَمَّى جَلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ. وَفِي قَوْلٍ: لَا تُسَنُّ هَذِهِ الْجَلْسَةُ، بَلْ يَقُومُ مِنَ السُّجُودِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بِالْمُصَلِّي ضَعْفٌ لِكِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ جَلَسَ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجْلِسُ، ابْتَدَأَ التَّكْبِيرَ مَعَ ابْتِدَاءِ الرَّفْعِ وَفَرَغَ مِنْهُ مَعَ اسْتِوَائِهِ قَائِمًا. وَإِنْ قُلْنَا: يَجْلِسُ فَفِي التَّكْبِيرِ أَوْجُهٌ؛ أَصَحُّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا، وَيَمُدُّهُ إِلَى أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا وَيُخَفِّفُ الْجَلْسَةَ حَتَّى لَا يَخْلُوَ جُزْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ عَنْ ذِكْرٍ. وَالثَّانِي: يَرْفَعُ غَيْرَ

فصل

مُكَبِّرٍ، وَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ جَالِسًا، وَيَمُدُّهُ إِلَى أَنْ يَقُومَ. وَالثَّالِثُ: يَرْفَعُ مُكَبِّرًا، وَإِذَا جَلَسَ قَطَعَهُ وَقَامَ بِلَا تَكْبِيرٍ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ، بِلَا خِلَافٍ، وَالسُّنَّةُ فِي هَذِهِ الْجَلْسَةِ: الِافْتِرَاشُ، وَسَوَاءٌ قَامَ مِنَ الْجِلْسَةِ أَوْ مِنَ السَّجْدَةِ يُسَنُّ أَنْ يَقُومَ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ. قُلْتُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الصَّحِيحُ: أَنَّهَا جَلْسَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَالتَّشَهُّدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَغَيْرُهُ: يُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَالَ الْقِيَامِ وَيَعْتَمِدَ عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي التَّشَهُّدِ وَالْجُلُوسِ لَهُ. هُمَا ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَهُمَا فَرْضَانِ. وَالثَّانِي: فِي أَثْنَائِهَا، وَهُمَا سُنَّتَانِ، ثُمَّ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْقُعُودِ هَيْئَةٌ لِلْإِجْزَاءِ، بَلْ كَيْفَ قَعَدَ أَجْزَأَهُ. لَكِنَّ السُّنَّةَ فِي قُعُودِ آخَرِ الصَّلَاةِ التَّوَرُّكُ، وَفِي أَثْنَائِهَا الِافْتِرَاشُ. وَالِافْتِرَاشُ: أَنْ يَضَعَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى بِحَيْثُ يَلِي ظَهْرَهَا الْأَرْضُ، وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَيَنْصِبَ الْيُمْنَى، وَيَضَعَ أَطْرَافَ أَصَابِعِهَا عَلَى الْأَرْضِ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الْقِبْلَةِ. وَالتَّوَرُّكُ: أَنْ يُخْرِجَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا عَلَى هَيْئَةِ الِافْتِرَاشِ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ، وَيُمَكِّنَ وَرِكَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذَا جَلَسَ الْمَسْبُوقُ فِي آخِرِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ: يَفْتَرِشُ. وَالثَّانِي: يَتَوَرَّكُ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ جُلُوسُهُ مَحَلَّ تَشَهُّدٍ لِلْمَسْبُوقِ، افْتَرَشَ، وَإِلَّا تَوَرَّكَ؛ لِأَنَّ جُلُوسَهُ بِمُجَرَّدِ الْمُتَابِعَةِ، فَيُتَابِعُ فِي الْهَيْئَةِ. وَإِذَا جَلَسَ مَنْ عَلَيْهِ سُجُودُ سَهْوٍ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، افْتَرَشَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَتَوَرَّكَ عَلَى

الثَّانِي، وَالسُّنَّةُ فِي التَّشَهُّدَيْنِ جَمِيعًا: أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَالْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَنْشُرَ أَصَابِعَ الْيُسْرَى وَيَجْعَلَهَا قَرِيبَةً مِنْ طَرَفِ الرُّكْبَةِ، بِحَيْثُ يُسَاوِي رُؤُوسُهَا الرُّكْبَةَ، وَهَلْ يُفْرِجُهَا أَوْ يَضُمُّهَا؟ وَجْهَانِ: الْأَشْهَرُ: يُفَرِّجُ تَفْرِيجًا مُقْتَصِدًا، وَلَا يُؤْمَرُ بِالتَّفْرِيجِ الْفَاحِشِ فِي مَوْضِعٍ مَا، وَالثَّانِي: يَضُمُّهَا لِيَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي، أَصَحُّ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْيَدُ الْيُمْنَى فَيَضَعُهَا عَلَى طَرَفِ الرُّكْبَةِ الْيُمْنَى وَيَقْبِضُ خِنْصَرَهَا، وَبِنْصَرَهَا، وَيُرْسِلُ الْمُسَبِّحَةَ، وَفِيمَا يَفْعَلُ بِالْإِبْهَامِ وَالْوُسْطَى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يَقْبِضُ الْوُسْطَى مَعَ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصَرِ، وَيُرْسِلُ الْإِبْهَامَ مَعَ الْمُسَبِّحَةِ. وَالثَّانِي: يُحَلِّقُ بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَالْوُسْطَى، وَفِي كَيْفِيَّةِ التَّحْلِيقِ، وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يُحَلِّقُ بَيْنَهُمَا بِرَأْسَيْهِمَا، وَالثَّانِي: يَضَعُ أُنْمُلَةَ الْوُسْطَى بَيْنَ عُقْدَتِيِ الْإِبْهَامِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ يَقْبِضُهُمَا أَيْضًا، وَفِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِ الْإِبْهَامِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يَضَعُهَا بِجَنْبِ الْمُسَبِّحَةِ، كَأَنَّهُ عَاقِدٌ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ، وَالثَّانِي: يَضَعُهَا عَلَى أُصْبُعِهِ الْوُسْطَى، كَأَنَّهُ عَاقِدٌ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ، وَكَيْفَ فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الْهَيْئَاتِ، فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ. قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ مُسَبِّحَتَهُ فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، إِذَا بَلَغَ هَمْزَةَ: (إِلَّا اللَّهُ) وَهَلْ يُحَرِّكُهَا عِنْدَ الرَّفْعِ؟ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: لَا يُحَرِّكُهَا، وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يُشِيرُ بِهَا فِي جَمِيعِ التَّشَهُّدِ. قُلْتُ: وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّهُ لَا يُحَرِّكُهَا فَحَرَّكَهَا، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَتُكْرَهُ الْإِشَارَةُ بِمُسَبِّحَةِ الْيُسْرَى، حَتَّى لَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيُمْنَى، لَمْ يُشِرْ بِمُسَبِّحَةِ الْيُسْرَى لَأَنَّ سُنَّتَهَا الْبَسْطُ دَائِمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .

فَرْعٌ: التَّشَهُّدُ الَّذِي يَعْقُبُهُ السَّلَامُ وَاجِبٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَجِبُ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَانِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَالثَّانِي وَاجِبَةٌ، وَهَلْ تُسَنُّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: تُسَنُّ وَإِلَّا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا قُلْنَا: لَا تُسَنُّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَوَّلِ، وَلَا فِي الْقُنُوتِ، فَأَتَى بِهَا فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ أَوْجَبْنَا الصَّلَاةَ عَلَى الْآلِ فِي الْأَخِيرَةِ، وَلَمْ نَسُنَّهَا فِي الْأَوَّلِ، فَأَتَى بِهَا فِيهِ، فَقَدْ نَقَلَ رُكْنًا إِلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ، كَلَامٌ يَأْتِي فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَآلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبٍ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي وَجْهٍ: أَنَّهُمْ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ. فَرْعٌ. فِي أَكْمَلِ التَّشَهُّدِ، وَأَقَلِّهِ. أَمَّا أُكْمَلُهُ، فَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. هَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ) (السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَلَوْ تَشْهَدُ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوْ بِتَشَهُّدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، جَازَ. لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ.

وَتَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ. . .) وَذَكَرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. إِلَّا أَنَ فِي آخِرِهِ (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) . وَتَشَهُّدِ عُمَرَ (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ. . .) وَذَكَرَهُ كَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الْأَفْضَلَ: أَنْ يَقُولَ: (التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الزَّاكِيَاتُ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ. . . .) ذَكَرَهُ لِيَكُونَ جَامِعًا لَهَا كُلِّهَا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ التَّحِيَّاتِ: (بَاسِمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ) ، وَيُرْوَى (بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ) وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُهُمْ: أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ التَّسْمِيَةَ. وَأَمَّا أَقَلُّهُ، فَنَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ) . هَكَذَا نَقَلَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوَيُّ. إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ) ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالصَّيْدَلَانِيُّ، وَأَسْقَطَا كَلِمَةَ: (وَبَرَكَاتُهُ) وَقَالَا: (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) . وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَقَلُّهُ: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، سَلَامٌ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ) ، وَأَسْقُطُ بَعْضُهُمْ: «السَّلَامُ» الثَّانِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: (سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) ، وَأَسْقَطَ بَعْضُهُمْ: (الصَّالِحِينَ) ، وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ. قُلْتُ: وَرُوِيَ: (سَلَامٌ عَلَيْكِ) وِ (سَلَامٌ عَلَيْنَا) وَرُوِيَ: (السَّلَامُ) بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِمَا، وَهَذَا أَكْثَرُ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ، وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ هُنَا بِخِلَافِ سَلَامِ التَّحَلُّلِ. قَالُوا: وَالْأَفْضَلُ هُنَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِكَثْرَتِهِ وَزِيَادَتِهِ، وَمُوَافَقَتِهِ سَلَامَ التَّحَلُّلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: أَقَلُّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَقُولَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ) أَوْ (صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ) أَوْ (صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) ، وَفِي وَجْهٍ: يَكْفِي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) ، وَأَقَلُّ الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ أَنْ يَقُولَ (وَآلِهِ) وَأَكْمَلُهَا أَنْ يَقُولَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) . وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُمُورُ الْآخِرَةِ أَفْضَلُ، وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ فِي مِثْلِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي جَارِيَةً صِفَتُهَا كَذَا، وَيَمِيلُ إِلَى الْمَنْعِ، وَأَنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ جَوَازُ الْجَمِيعِ. لَكِنْ مَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَحَبُّ مِنْ غَيْرِهِ. وَمِنْهُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ - وَفِيهِ أَيْضًا (وَمَا أَعْلَنْتُ) مُقَدَّمٌ عَلَى (مَا أَسْرَرْتُ) - وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) . وَأَيْضًا: (اللَّهُمَّ (إِنِّي) أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) . وَأَيْضًا: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ) . وَأَيْضًا: (اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكِ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . ثُمَّ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَحَبٌّ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ. لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ أَقَلَّ مِنَ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمَا. فَإِنْ زَادَ لَمْ يَضُرَّ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا فَيُكْرَهُ التَّطْوِيلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ، أَنْ لَا يَدْعُوَ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُنْفَرِدِ الدُّعَاءُ،

وَلَا بَأْسَ بِتَطْوِيلِهِ، هَذَا كُلُّهُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَيُكْرَهُ فِيهِ الدُّعَاءُ، بَلْ لَا يَزِيدُ عَلَى لَفْظِ التَّشَهُّدِ إِلَّا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قُلْنَا: هِيَ سُنَّةٌ فِيهِ، وَعَلَى الْآلِ عَلَى وَجْهٍ. قُلْتُ: إِطَالَةُ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ مَكْرُوهَةٌ كَمَا ذُكِرَ. فَلَوْ طَوَّلَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَلَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ، سَوَاءٌ طَوَّلَهُ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لَا يَجُوزُ لِمَنْ عَرَفَ التَّشَهُّدَ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَنْ يَعْدِلَ إِلَى تَرْجَمَتِهِ، فَإِنْ عَجَزَ، أَتَى بِتَرْجَمَتِهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الْآلِ، إِذَا أَوْجَبْنَاهَا كَالتَّشَهُّدِ. وَأَمَّا مَا عَدَّا الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ، إِذَا عَجَزَ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فَقِسْمَانِ: دُعَاءٌ وَغَيْرُهُ؛ فَأَمَّا الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: تَجُوزُ التَّرْجَمَةُ عَنْهُ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ تَرْجَمْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَنْ أَحْسَنَهَا وَلِغَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَرِعَ دَعْوَةً بِالْعَجَمِيَّةِ يَدْعُو بِهَا قَطْعًا. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَذْكَارِ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ وَالتَّسْبِيحَاتِ فَأَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِتَرْجَمَتِهَا الْعَاجِزُ، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَالثَّالِثُ: يُتَرْجِمُ لِمَا يُجْبَرُ بِالسُّجُودِ دُونَ غَيْرِهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ لِلْعَاجِزِ، وَمَنْعُهُ فِي الْقَادِرِ. ثُمَّ إِذَا قَامَ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ قَامَ مُكَبِّرًا، وَهَلْ يَمُدُّهُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي فَصْلِ الرُّكُوعِ. ثُمَّ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي هَذَا الْقِيَامِ، وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِيهِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ فِي الرُّكُوعِ، وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ)

فصل

وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الصَّحِيحُ أَوِ الصَّوَابُ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ أَطْنَبْتُ فِي إِيضَاحِهِ فِي شَرْحِ (الْمُهَذَّبِ) . وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، وَفِي الثُّلَاثِيَّةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَفِي الثُّنَائِيَّةِ إِحْدَى عَشْرَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي السَّلَامِ. قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ رُكْنٌ، وَأَقَلُّهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، بِالتَّنْوِينِ، أَجْزَأَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا يُجْزِئُ: سَلَامُ عَلَيْكَ، وَلَا: سَلَامِي عَلَيْكُمْ، وَلَا: سَلَامُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَلَا: سَلَامُ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. إِلَّا قَوْلَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِغَائِبٍ، وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا يَجِبُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ، لَمْ يَجُبْ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ فِي نِيَّةِ الْخُرُوجِ، وَلَوْ عَيَّنَ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ عَمْدًا،

بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا، سَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَسَلَّمَ ثَانِيًا، وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَجِبُ نِيَّةُ الْخُرُوجِ لَا يَضُرُّ الْخَطَأُ فِي التَّعْيِينِ، وَإِذَا قُلْنَا: يَجِبُ، فَيَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ مُقْتَرِنًا بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، فَإِنْ قَدَّمَهَا عَلَى السَّلَامِ، أَوْ سَلَّمَ بِلَا نِيَّةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ نَوَى قَبْلَ السَّلَامِ الْخُرُوجَ عِنْدَهُ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لَكِنْ لَا يَكْفِيهِ، بَلْ تَجِبُ النِّيَّةُ مَعَ السَّلَامِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي، أَنْ يُوقِعَ السَّلَامَ فِي حَالَةِ الْقُعُودِ. أَمَّا أَكْمَلُ السَّلَامِ فَأَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَيُسَنُّ تَسْلِيمُهُ ثَانِيَةً، عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: لَا يَزِيدُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ آخَرَ: يُسَلِّمُ غَيْرُ الْإِمَامِ وَاحِدَةً، وَكَذَا الْإِمَامُ إِنْ قَلَّ الْقَوْمُ، وَلَا لَغَطَ عِنْدَهُمْ، وَإِلَّا، فَتَسْلِيمَتَيْنِ. فَإِذَا قُلْنَا يُسَلِّمُ وَاحِدَةً جَعَلَهَا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَإِنْ قُلْنَا تَسْلِيمَتَيْنِ، فَإِحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ، وَيَبْتَدِئُ بِالسَّلَامِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ بِحَيْثُ يَنْقَضِي السَّلَامُ مَعَ تَمَامِ الِالْتِفَاتِ، وَيَلْتَفِتُ حَتَّى يَرَى مِنْ كُلِّ جَانِبٍ خَدَّهُ الْوَاحِدَ، عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: خَدَّاهُ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ، أَنْ يَنْوِيَ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، السَّلَامُ عَلَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمُسْلِمِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَبِالثَّانِيَةِ، مِنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنْهُمْ، وَيَنْوِي الْمَأْمُومُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَخْتَصُّ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، نَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ، الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ يَسَارِهِ يَنْوِيهِ بِالْأُولَى، وَإِنْ كَانَ مُحَاذِيًا لَهُ، نَوَاهُ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ، وَبِالْأُولَى أَفْضَلُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْوِيَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ الرَّدَّ عَلَى بَعْضٍ، وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ، فَيَنْوِي بِهِمَا السَّلَامَ، عَلَى مَنْ عَلَى جَانِبَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَنْوِيَ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ نُوجِبْهَا. قُلْتُ: السُّنَّةُ: أَنْ يُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَقِبَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الذِّكْرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ أَوْضَحْتُهَا فِي كِتَابِ (الْأَذْكَارِ) وَيُسَنُّ الدُّعَاءُ بَعْدَ السَّلَامِ سِرًّا إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُرِيدُ تَعْلِيمَ الْحَاضِرِينَ الدُّعَاءَ فَيَجْهَرَ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَيُسْتَحَبُّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ عَقِبَ الْفَرِيضَةِ، أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى

فصل

بَيْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَيُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ يُصَلِّي وَرَاءَهُ نِسَاءٌ، أَنْ يَمْكُثَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى يَنْصَرِفْنَ، وَإِذَا أَرَادَ الِانْصِرَافَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ انْصَرَفَ إِلَى جِهَةِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ، فَجِهَةُ الْيَمِينِ أَفْضَلُ. وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى، فَقَدِ انْقَطَعَتْ مُتَابِعَةُ الْمَأْمُومِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ سَلَّمَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَدَامَ الْجُلُوسَ لِلتَّعَوُّذِ وَالدُّعَاءِ وَأَطَالَ ذَلِكَ، وَلَوِ اقْتَصَرَ الْإِمَامُ عَلَى تَسْلِيمَةٍ اسْتُحِبَّ لِلْمَأْمُومِ تَسْلِيمَتَانِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي الْخُشُوعُ فِي صَلَاتِهِ، وَأَنْ يُدِيمَ نَظَرَهُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ لَهُ تَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ، وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا بِنَشَاطٍ، وَفَرَاغِ قَلْبِهِ مِنَ الشَّوَاغِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ فَرِيضَةٍ وَجَبَ قَضَاؤُهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَهَا عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا فَفِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قَضَى فَائِتَةَ اللَّيْلِ بِاللَّيْلِ جَهَرَ، وَإِنْ قَضَى فَائِتَةَ النَّهَارِ بِالنَّهَارِ أَسَرَّ، وَإِنْ قَضَى فَائِتَةَ النَّهَارِ لَيْلًا أَوْ عَكَسَ فَالِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ الْقَضَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى الثَّانِي بِوَقْتِ الْفَوَائِتِ. قُلْتُ: صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَإِنْ كَانَتْ نَهَارِيَّةً، فَهِيَ فِي الْقَضَاءِ جَهْرِيَّةٌ وَلِوَقْتِهَا، حُكْمُ اللَّيْلِ فِي الْجَهْرِ، وَإِطْلَاقُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُسْتَحَبُّ فِي قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ التَّرْتِيبُ، وَلَا يَجُبْ فِي قَضَائِهَا وَلَا بَيْنَ فَرِيضَةِ الْوَقْتِ وَالْمَقْضِيَّةِ. فَإِنْ دَخَلَ وَقْتُ فَرِيضَةٍ وَتَذَكَّرَ فَائِتَةً، فَإِنِ اتَّسَعَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ اسْتُحِبَّ الْبَدَاءَةُ بِالْفَائِتَةِ، وَإِنْ ضَاقَ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْحَاضِرَةِ، وَلَوْ

تَذَكَّرَ الْفَائِتَةَ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْحَاضِرَةِ، أَتَمَّهَا، ضَاقَ الْوَقْتُ، أَمِ اتَّسَعَ، ثُمَّ يَقْضِي الْفَائِتَةَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيدَ الْحَاضِرَةَ بَعْدَهَا. قُلْتُ: وَلَوْ شَرَعَ فِي الْفَائِتَةِ مُعْتَقِدًا أَنَّ فِي الْوَقْتِ سَعَةً فَبَانَ ضِيقُهُ، وَجَبَ قَطْعُهَا وَالشُّرُوعُ فِي الْحَاضِرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى الشَّاذِّ يَجِبُ إِتْمَامُ الْفَائِتَةِ. وَلَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً وَهُنَاكَ جَمَاعَةٌ يُصَلُّونَ فِي الْحَاضِرَةِ، وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْفَائِتَةَ أَوَّلًا مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ، وَالْقَضَاءُ خَلْفَ الْأَدَاءِ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ فَاسْتُحِبَّ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ. وَلَوْ فَاتَهُ صَلَوَاتٌ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْقُصُ عَنْ عَشْرِ صَلَوَاتٍ وَلَا تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ الْعَشْرُ، وَأَصَحُّهُمَا: الْعِشْرُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى فَرَائِضَ وَسُنَنٍ، كَمَا سَبَقَ، وَلَهَا شُرُوطٌ سَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي بَابِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : شُرُوطُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا، خَمْسَةٌ: الطَّهَارَةُ عَنِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَالْعِلْمُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا بِالِاجْتِهَادِ وَنَحْوِهِ، وَالْخَامِسُ: الْعِلْمُ بِفَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ وَمَعْرِفَةِ أَعْمَالِهَا. قَالَ: فَإِنْ جَهَلَ فَرْضِيَّةَ أَصْلِ الصَّلَاةِ، أَوْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ فَرِيضَةٌ، لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَرْضِيَّةَ الصَّلَاةِ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَكَذَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ فَرْضِيَّةَ الْوُضُوءِ. أَمَّا إِذَا عَلِمَ فَرْضِيَّةَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَرْكَانَهَا، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا سُنَّةً، وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَ بَعْضَهَا فَرْضًا، وَبَعْضَهَا سُنَّةً، وَلَا يَعْرِفُ تَمْيِيزَهَا، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ قَطْعًا. صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَ (التَّهْذِيبِ) . الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَقِدَ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا فَرْضًا، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ وَأَصَحُّهُمَا: تَصِحُّ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ أَدَّى سُنَّةً بِاعْتِقَادِ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ. قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْ صَلَاتَهُ،

فَفِي صِحَّةِ وُضُوئِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَجْهَانِ: هَكَذَا ذَكَرُوا هَذِهِ الْمَسَائِلَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْعَامِّيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي (الْفَتَاوَى) : الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ فَرَائِضَ صَلَاتِهِ مِنْ سُنَنِهَا، تَصِحُّ صَلَاتُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْصِدَ التَّنَفُّلَ بِمَا هُوَ فَرْضٌ. فَإِنْ نَوَى التَّنَفُّلَ بِهِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، فَإِذَا غَفَلَ عَنِ التَّفْصِيلِ، فَنِيَّةُ الْجُمْلَةِ فِي الِابْتِدَاءِ كَافِيَةٌ. هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَوَاهِرُ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَمَنْ بَعْدِهِمْ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَلْزَمَ الْأَعْرَابَ ذَلِكَ، وَلَا أَمَرَ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيهَا. وَشُرُوطُهَا ثَمَانِيَةٌ: أَحَدُهَا: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ أَوْ ظَنُّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا فِي بَابَيْهِمَا. الثَّالِثُ: طَهَارَةُ الْحَدَثِ، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ (الطَّهَارَةِ) بَيَانُ حُصُولِهَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا عِنْدَ إِحْرَامِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ، عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا، وَإِنْ أَحْرَمَ مُتَطَهِّرًا ثُمَّ أَحْدَثَ بِاخْتِيَارِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، عَمْدًا كَانَ حَدَثُهُ أَوْ سَهْوًا، عَلِمَ بِالصَّلَاةِ أَمْ نَسِيَهَا، وَإِنْ أَحْدَثَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، بِأَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ، بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ الْجَدِيدِ، وَلَا تَبْطُلُ عَلَى الْقَدِيمِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ أَصَغَرَ أَوْ أَكَبَرَ، بَلْ يَتَطَهَّرُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ. فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرُّكُوعِ مَثَلًا، فَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الرُّكُوعِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ لَمْ يَكُنِ اطْمَأَنَّ، وَجَبَ الْعَوْدُ إِلَى الرُّكُوعِ، وَإِنْ كَانَ اطْمَأَنَّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِذَا ذَهَبَ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ لِيَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ لَزِمَهُ أَنْ يَسْعَى فِي تَقْرِيبِ الزَّمَانِ، وَتَقْلِيلِ الْأَفْعَالِ بِحَسَبَ الْإِمْكَانِ،

وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ تَطَهُّرِهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، إِنْ قَدَرَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَقْرَبَ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَمْ يَسْتَخْلِفْ، أَوْ مَأْمُومًا يَقْصِدُ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ فَلَهُمَا الْعَوْدُ. وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْمَاءِ وَاسْتِقَائِهِ وَنَحْوِهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدْوُ وَالْبِدَارُ الْخَارِجُ عَنْ الِاقْتِصَادِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَاءِ، وَلَوْ أَخْرَجَ تَمَامَ الْحَدَثِ الْأَوَّلِ مُتَعَمِّدًا، لَمْ يُمْنَعِ الْبِنَاءَ عَلَى الْمَنْصُوصِ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ يُمْنَعُ، وَلَوْ أَحْدَثَ حَدَثًا آخَرَ فَفِي مَنْعِهِ الْبِنَاءَ وَجْهَانِ. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعُ الْقَدِيمِ، هَذَا كُلُّهُ فِي صَاحِبِ (طَهَارَةِ الرَّفَاهِيَةِ) . أَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهَا، فَلَا يَضُرُّ حَدَثُهَا الْمُقَارَنُ وَلَا الْحَادِثُ عَلَى تَفْصِيلِهِ السَّابِقِ. فَرْعٌ: مَا سِوَى الْحَدَثِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُنَاقِضَةِ لِلصَّلَاةِ، إِذَا طَرَأَ فِيهَا، أَبْطَلَهَا قَطْعًا إِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، إِذَا نُسِبَ فِيهِ إِلَى تَقْصِيرٍ، كَمَنْ مَسَحَ خُفَّهُ، فَانْقَضَتْ مُدَّتُهُ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ دَخَلَ فِيهَا وَهُوَ يُدَافِعُ الْحَدَثَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْتَّمَاسُكِ إِلَى فَرَاغِهَا، وَلَوْ تَخَرَّقَ خُفُّ الْمَاسِحِ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ عَلَى قَوْلِي سَبَقَ الْحَدَثَ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ قَطْعًا. أَمَّا إِذَا طَرَأَ مُنَاقِضٌ لَا بِاخْتِيَارِهِ وَلَا بِتَقْصِيرِهِ، فَإِنْ أَزَالَهُ فِي الْحَالِ، كَمَنِ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَسَتَرَهَا فِي الْحَالِ، أَوْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ، فَنَفَضَهَا فِي الْحَالِ، أَوْ أَلْقَى الثَّوْبَ الَّذِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ. وَإِنْ نَحَّاهَا بِيَدِهِ، أَوْ كُمِّهِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنِ احْتَاجَ فِي إِزَالَتِهِ إِلَى زَمَنٍ، بِأَنْ يُنَجِّسَ ثَوْبَهُ أَوْ بَدَنَهُ نَجَاسَةٌ يَجِبُ غَسْلُهَا. أَوْ أَبْعَدَتِ الرِّيحُ ثَوْبَهُ، فَعَلَى قَوْلِي سَبَقَ الْحَدَثُ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ دَمٌ مُتَدَفِّقٌ، وَلَمْ يُلَوِّثْ بَشَرَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: طَهَارَةُ النَّجَسِ. النَّجَاسَةُ قِسْمَانِ؛ وَاقِعَةٌ فِي مَظِنَّةِ الْعَفْوِ، وَغَيْرُهَا. أَمَّا الْوَاقِعَةُ فِي غَيْرِ مَظِنَّةِ الْعَفْوِ، فَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فِي الثَّوْبِ، وَالْبَدَنِ، وَالْمَكَانِ. فَإِنْ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ وَعَرَفَ مَوْضِعَهَا، فَطَرِيقُ إِزَالَتِهَا، الْغَسْلُ كَمَا سَبَقَ. فَلَوْ قَطَعَ مَوْضِعَهَا، أَجْزَأَهُ. وَيُلْزَمُهُ ذَلِكَ إِذَا تَعَذَّرَ الْغَسْلُ وَأَمْكَنَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ بِالظَّاهِرِ مِنْهُ، وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الثَّوْبِ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ مِنَ الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ وَاحْتَمَلَ وُجُوَدَهَا فِي كُلِّ جُزْءٍ وَجَبَ غَسْلُ الْجَمِيعِ وَلَا يُجْزِئُهُ التَّحَرِّي. فَلَوْ شَقَّ الثَّوْبَ نِصْفَيْنِ، لَمْ يُجْزِئِ التَّحَرِّي فِيهِمَا. وَلَوْ أَصَابَ شَيْءٌ رَطْبٌ طَرَفًا مِنْ هَذَا الثَّوْبِ، لَمْ يُنَجَّسِ الرَّطْبُ؛ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ نَجَاسَةَ مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ. وَلَوْ غَسَلَ إِحْدَى نِصْفَيْهِ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ، ثُمَّ غَسَلَ النِّصْفَ الْآخَرَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ الْجَمِيعِ، وَغَسَلَهُ هَكَذَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَطْهُرُ حَتَّى يَغْسِلَ النِّصْفَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ إِنْ غَسَلَ مَعَ النِّصْفِ الثَّانِي الْقَدْرَ الَّذِي يُجَاوِرُهُ مِنَ الْأَوَّلِ طَهُرَ الْكُلُّ. وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى النِّصْفَيْنِ فَقَدْ طَهُرَ الطَّرَفَانِ، وَبَقِيَ الْمُنْتَصَفُ نَجِسًا فِي صُورَةِ الْيَقِينِ، وَمُجْتَنَبًا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَلَوْ نَجِسَ أَحَدُ مَوْضِعَيْنِ مُنْحَصِرَيْنِ، أَوْ مَوَاضِعَ، وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ كَأَحَدِ كُمَّيْهِ، فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى نَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا فَغَسَلَهُ وَصَلَّى فِيهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَلَوْ فَصَلَ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ عَنِ الثَّوْبِ صَارَا كَالثَّوْبَيْنِ. فَإِنْ غَسَلَ مَا ظَنَّهُ نَجِسًا وَصَلَّى فِيهِ جَازَ، وَإِنْ صَلَّى فِيمَا ظَنَّهُ طَاهِرًا جَازَ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا نَجِسَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ أَوْ أَحَدُ أَصَابِعِهِ، وَغَسَلَ مَا ظَنَّ نَجَاسَتَهُ وَصَلَّى، وَفِيمَا لَوِ اجْتَهَدَ فِي ثَوْبَيْنِ، وَغَسَلَ النَّجِسَ، وَصَلَّى فِيهِمَا مَعًا. لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا الْجَوَازُ بِخِلَافِ الْكُمَّيْنِ؛ لِضَعْفِ أَثَرِ الِاجْتِهَادِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ غَسَلَ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ بِالِاجْتِهَادِ، وَفَصَلَهُ عَنِ الثَّوْبِ، فَجَوَازُ الصَّلَاةِ فِيمَا لَمْ يَغْسِلْهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَوْ غَسَلَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ بِالِاجْتِهَادِ،

جَازَتِ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوِ اشْتَبَهَ ثَوْبَانِ أَوْ أَثْوَابٌ، بَعْضُهَا طَاهِرٌ وَبَعْضُهَا نَجِسٌ، اجْتَهَدَ كَمَا سَبَقَ فِي الْأَوَانِي. فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ، وَأَمْكَنَهُ غَسْلُ وَاحِدٍ لِيُصَلِّيَ فِيهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا نَجِسًا، وَنَذْكُرُهُ فِي الشَّرْطِ الْخَامِسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ: وَلَنَا وَجْهٌ، أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ تِلْكَ فِي كُلِّ ثَوْبٍ مَرَّةً، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ يَتْرُكُ الثِّيَابَ، وَيُصَلِّي عُرْيَانًا، وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ ظَنَّ طَهَارَةَ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ، وَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، عَمِلَ بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ الثَّانِي عَلَى الْأَصَحِّ، كَالْقِبْلَةِ. قُلْتُ: وَلَا يَجِبُ إِعَادَةُ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ - وَكَذَا لَوْ كَثُرَتِ الثِّيَابُ، وَالصَّلَوَاتُ - بِالِاجْتِهَادِ الْمُخْتَلِفِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْقِبْلَةِ. وَلَوْ تَلِفَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ الْمُشْتَبِهَيْنِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ، لَمْ يُصَلِّ فِي الْآخَرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: مَا لَبِسَهُ الْمُصَلِّي، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، وَأَنْ لَا يُلَاقِيَ شَيْئًا نَجِسًا، سَوَاءٌ تَحَرَّكَ بِحَرَكَتِهِ فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، أَوْ لَمْ يَتَحَرَّكْ بَعْضُ أَطْرَافِهِ كَذُنَابَةِ الْعِمَامَةِ. فَلَوْ أَصَابَ طَرَفَ الْعِمَامَةِ الَّذِي لَا يَتَحَرَّكُ أَرْضًا نَجِسَةً، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ قَبَضَ طَرَفَ حَبْلٍ أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ شَدَّهُ فِي يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ أَوْ وَسَطِهِ، وَطَرَفُهُ الْآخَرُ نَجِسٌ أَوْ مُتَّصِلٌ بِالنَّجَاسَةِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الطَّرَفُ نَجِسًا، أَوْ مُتَّصِلًا بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ، بِأَنْ كَانَ فِي عُنُقِ كَلْبٍ، بَطَلَتْ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِطَاهِرٍ، وَذَلِكَ الطَّاهِرُ مُتَّصِلًا بِنَجَاسَةٍ، بِأَنْ شَدَّ فِي سَاجُورٍ، أَوْ خِرْقَةٍ، وَهُمَا فِي عُنُقِ كَلْبٍ أَوْ شَدَّهُ فِي

عُنُقِ حِمَارٍ عَلَيْهِ حِمْلٌ نَجِسٌ لَمْ تَبْطُلْ. وَالْأَوْجَهُ جَارِيَةٌ، سَوَاءٌ تَحَرَّكَ الطَّرَفُ بِحَرَكَتِهِ أَمْ لَا، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَطَعَ بِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، وَمَنْ تَابَعَهُمَا بِالْبُطْلَانِ إِذَا تَحَرَّكَ، وَخَصُّوا الْخِلَافَ بِمَا لَا يَتَحَرَّكُ. وَقَطَعَ الْبَغَوَيُّ بِالْبُطْلَانِ فِي صُورَةِ الشَّدِّ، وَخَصَّ الْخِلَافَ بِصُورَةِ الْقَبْضِ بِالْيَدِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: إِنْ كَانَ الْكَلْبُ صَغِيرًا أَوْ مَيْتًا، وَطَرَفُ الْحَبَلِ مَشْدُودٌ بِهِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا حَيًّا بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ الْحَبْلُ مَشْدُودًا فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ مِنْ سَفِينَةٍ فِيهَا نَجَاسَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً تَنْجَرُّ بِجَرِّهِ، فَهِيَ كَالْكَلْبِ. وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً. لَمْ تَبْطُلْ عَلَى الصَّحِيحِ. كَمَا لَوْ شَدَّ فِي بَابِ دَارٍ فِيهَا نَجَاسَةٌ، وَاتَّفَقَتِ الطَّوَائِفُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ رَأْسَ الْحَبْلِ تَحْتَ رِجْلِهِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ. فَرْعٌ: مَنِ انْكَسَرَ عَظْمُهُ فَجَبَرَهُ بِعَظْمٍ طَاهِرٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ جَبَرَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ نُظِرَ، إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْجَبْرِ وَلَمْ يَجِدْ عَظْمًا طَاهِرًا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَهُوَ مَعْذُورٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ نَزْعُهُ. وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ أَوْ وَجَدَ طَاهِرًا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَجَبَ نَزْعُهُ إِنْ لَمْ يَخَفِ الْهَلَاكَ وَلَا تَلَفَ عُضْوٍ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الْمَحْذُورَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ وَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ مَعَهُ، وَلَا مُبَالَاةَ بِالْأَلَمِ الَّذِي يَجِدُهُ وَلَا يَخَافُ مِنْهُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكْتَسِيَ اللَّحْمُ أَوْ لَا يَكْتَسِيَهُ، وَمَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا اكْتَسَى اللَّحْمُ لَمْ يَجِبِ النَّزْعُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ الْهَلَاكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَجْهٌ شَاذٌّ لَنَا. وَإِنْ خَافَ مِنَ النَّزْعِ الْهَلَاكَ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، لَمْ يَجِبِ النَّزْعُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا

النَّزْعَ، فَمَاتَ قَبْلَهُ، لَمْ يُنْزَعْ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، سَوَاءٌ اسْتَتَرَ بِاللَّحْمِ، أَمْ لَا. وَقِيلَ: إِنِ اسْتَتَرَ، لَمْ يُنْزَعْ قَطْعًا. وَعَلَى الشَّاذِّ: يَجِبُ النَّزْعُ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ. وَمُدَاوَاةُ الْجُرْحِ بِالدَّوَاءِ النَّجِسِ، وَخِيَاطَتُهُ بِخَيْطٍ نَجِسٍ، كَالْوَصْلِ بِعَظْمٍ نَجِسٍ، فَيَجِبُ النَّزْعُ حَيْثُ يَجِبُ نَزْعُ الْعَظْمِ، وَكَذَا لَوْ شَقَّ مَوْضِعًا مِنْ بَدَنِهِ، وَجَعَلَ فِيهِ دَمًا. وَكَذَا لَوْ وَشَمَ يَدَهُ بِالْعِظَامِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ عِنْدَ الْغَرْزِ، وَفِي تَعْلِيقِ الْفَرَّاءِ، أَنَّهُ يُزَالُ الْوَشْمُ بِالْعِلَاجِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا بِالْجُرْحِ، لَا يَجْرَحُ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ. فَرْعٌ: وَصْلُ الْمَرْأَةِ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ نَجِسٍ، أَوْ بِشَعْرٍ آدَمِيٍّ، حَرَامٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ لِكَرَامَتِهِ، بَلْ يُدْفَنُ شَعْرُهُ وَغَيْرُهُ. وَسَوَاءٌ فِي هَذَيْنِ الْمُزَوَّجَةُ وَغَيْرُهَا، وَأَمَّا الشَّعْرُ الطَّاهِرُ لِغَيْرِ الْآدَمِيِّ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا سَيِّدٍ، حَرُمَ الْوَصْلُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: يُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: إِنْ وَصَلَتْ بِإِذْنِهِ جَازَ، وَإِلَّا حَرُمَ. وَالثَّانِي: يُحَرَّمُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: لَا يَحْرُمُ وَلَا يُكْرَهُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا تَحْمِيرُ الْوَجْنَةِ، فَإِنْ كَانَتْ خَلِيَّةً مِنَ الزَّوْجِ أَوِ السَّيِّدِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا، وَفَعَلَتْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَجَائِزٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ كَالْوَصْلِ. وَأَمَّا الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ وَتَطْرِيفِ الْأَصَابِعِ فَأَلْحَقُوهُ بِالتَّحْمِيرِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَجْعِيدُ الشَّعْرِ، وَلَا بَأْسَ بِتَصْفِيفِ الطُّرَرِ وَتَسْوِيَةِ الْأَصْدَاغِ. وَأَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْقَوْلَ بِاسْتِحْبَابِ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ لَهَا بِكُلِّ حَالٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ، عَلَى تَفْصِيلٍ نَذْكُرُهُ فِي (فَصْلِ سُنَنِ الْإِحْرَامِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْوَشْمُ، فَحَرَامٌ مُطْلَقًا. وَالْوَشْرُ: وَهُوَ تَحْدِيدُ طَرَفِ الْأَسْنَانِ وَتَرْقِيقُهَا، كَالْوَصْلِ بِشَعْرٍ طَاهِرٍ.

فَرْعٌ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا يُلَاقِي بَدَنَ الْمُصَلِّي وَثَوْبَهُ، وَتَحْتَهُ وَفَوْقَهُ وَجَوَانِبَهُ، طَاهِرًا. فَلَوْ وَقَفَ بِحَيْثُ يَمَسُّهُ فِي صَلَاتِهِ جِدَارٌ، أَوْ سَقْفٌ نَجِسٌ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ تَحْتَهُ نَجَاسَةٌ، أَوْ عَلَى طَرَفٍ مِنْهُ نَجَاسَةٌ، أَوْ عَلَى سَرِيرٍ قَوَائِمُهُ عَلَى نَجَاسَةٍ، لَمْ يَضُرَّ، سَوَاءٌ تَحَرَّكَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ بِحَرَكَتِهِ، أَمْ لَا، وَلَوْ نَجِسَ أَحَدُ الْبَيْتَيْنِ، وَاشْتَبَهَ، تَحَرَّى، كَالثَّوْبَيْنِ. وَإِنِ اشْتَبَهَ مَكَانٌ مِنْ بَيْتٍ أَوْ بِسَاطٍ لَمْ يَجُزِ التَّحَرِّي عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: يَجُوزُ، كَمَا لَوِ اشْتَبَهَ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ. وَلَوْ كَانَ مَا يُلَاقِي بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ طَاهِرًا، وَمَا يُحَاذِي صَدْرَهُ أَوْ بَطْنَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ فِي سُجُودِهِ أَوْ غَيْرِهِ نَجِسًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ بَسَطَ عَلَى النَّجَاسَةِ ثَوْبًا مُهَلْهَلَ النَّسْجِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَصَلَتْ مَمَاسَّةُ النَّجَاسَةِ مِنَ الْفُرَجِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ، وَحَصَلَتِ الْمُحَاذَاةُ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. فَرْعٌ. فِي مُوَاطِنَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا: أَحَدُهَا: الْمَزْبَلَةُ، وَالْمَجْزَرَةُ، وَالنَّهْيُ فِيهِمَا لِنَجَاسَةِ الْمَوْضِعِ. فَلَوْ فَرَشَ ثَوْبًا أَوْ بِسَاطًا طَاهِرًا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنْ تُكْرَهُ بِسَبَبِ النَّجَاسَةِ تَحْتَهُ. الثَّانِي: قَارِعَةُ الطَّرِيقِ، لِلنَّهْيِ عَنْهَا مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: غَلَبَةُ النَّجَاسَةِ، وَالثَّانِي: اشْتِغَالُ الْقَلْبِ بِسَبَبِ مُرُورِ النَّاسِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ: جَرَى النَّهْيُ فِي جَوَادِ الطُّرُقِ فِي الْبَرَارِي، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي: فَلَا، وَفِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي

الشَّوَارِعِ مَعَ غَلَبَةِ النَّجَاسَةِ الْقَوْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ لِتَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ. فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا فَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ، وَإِلَّا فَلِلتَّحْرِيمِ. فَلَوْ بَسَطَ شَيْئًا طَاهِرًا، صَحَّتِ الصَّلَاةُ قَطْعًا وَتَبْقَى الْكَرَاهَةُ لِشَغْلِ الْقَلْبِ. وَالثَّالِثُ: بَطْنُ الْوَادِي، وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِلْخَوْفِ السَّالِبِ لِلْخُشُوعِ، بِسَبَبِ سَيْلٍ يُتَوَقَّعُ، فَإِنْ لَمْ يُتَوَقَّعْ سَيْلٌ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ لَا كَرَاهَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْكَرَاهَةَ لِمُطْلَقِ النَّهْيِ. قُلْتُ: اتَّبَعَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ الْغَزَالِيَّ وَإِمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي إِثْبَاتِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَجِئْ فِي هَذَا نَهْيٌ أَصْلًا. وَالْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَوَاطِنِ السَّبْعَةِ، لَيْسَ فِيهِ الْوَادِي، بَلْ فِيهِ الْمَقْبَرَةُ بَدَلًا مِنْهُ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ ذَكَرَ الْوَادِيَ وَحَذَفَ الْمَقْبَرَةَ. وَالْحَدِيثُ مِنْ أَصْلِهِ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي وَادٍ خَاصٍّ، وَهُوَ الَّذِي نَامَ (فِيهِ) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ عَنِ الصُّبْحِ حَتَّى فَاتَتْ، وَقَالَ: (اخْرُجُوا بِنَا مِنْ هَذَا الْوَادِي) وَصَلَّى خَارِجَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعُ: الْحَمَّامُ. قِيلَ: سَبَبُ النَّهْيِ كَثْرَةُ النَّجَاسَةِ وَالْوَسَخِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَأْوَى الشَّيْطَانِ، وَفِي الْمَسْلَخِ وَجْهَانِ: إِنْ قُلْنَا بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ لَمْ يُكْرَهْ، وَإِلَّا كُرِهَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ بِكُلِّ حَالٍ فِي الْمَسْلَخِ وَالْحَمَّامِ إِذَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ. الْخَامِسُ: ظَهْرُ الْكَعْبَةِ وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي بَابِ الِاسْتِقْبَالِ. السَّادِسُ: أَعْطَانُ الْإِبِلِ، وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي تُنَحَّى إِلَيْهَا الْإِبِلُ الشَّارِبَةُ لِيَشْرَبَ غَيْرُهَا. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ سِيقَتْ فَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَلَا تُكْرَهُ فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ، وَهُوَ: مَأْوَاهَا لَيْلًا، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ فِي الْغَنَمِ مِثْلُ عَطَنِ الْإِبِلِ. وَحُكْمُهُ حُكْمُ مُرَاحِهَا، وَحُكْمُ مَأْوَى الْإِبِلِ لَيْلًا حُكْمُ عَطَنِهَا. لَكِنَّ الْكَرَاهِيَةَ فِي الْعَطَنِ أَشَدُّ، وَمَتَى صَلَّى فِي الْعَطَنِ أَوِ الْمُرَاحِ وَنَجُسَ

بِالْبَوْلِ أَوِ الْبَعْرِ أَوْ غَيْرِهِمَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَإِلَّا صَحَّتْ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِي الْكَرَاهَةِ. السَّابِعُ: الْمَقْبَرَةُ، وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا بِكُلِّ حَالٍ. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَنْبُوشَةٍ، أَوْ بُسِطَ عَلَيْهَا طَاهِرًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مَوْضِعَ صَلَاتِهِ مَنْبُوشٌ لَمْ تَصِحَّ. وَإِنْ شَكَّ فِي نَبْشِهِ، صَحَّتْ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقَبْرِ فِي الصَّلَاةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: النَّجَاسَةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَظِنَّةِ الْعَفْوِ، وَهُوَ أَضْرُبٌ. الْأَوَّلُ: الْأَثَرُ الْبَاقِي عَلَى مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ بَعْدَ الْحَجَرِ، يُعْفَى عَنْهُ مَعَ نَجَاسَتِهِ. فَلَوْ لَاقَى مَاءً قَلِيلًا نَجَّسَهُ، وَلَوْ حَمَلَهُ مُصَلٍّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا حُمِلَ مِنْ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ مَعْفُوٌّ عَنْهَا، وَيَقْرُبُ مِنْهَا الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ عَرِقَ وَتَلَوَّثَ بِمَحَلِّ النَّجْوِ غَيْرُهُ. لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا الْعَفْوُ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ، بِخِلَافِ حَمْلِ غَيْرِهِ، وَلَوْ حَمَلَ حَيَوَانًا لَا نَجَاسَةَ عَلَيْهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَنَجَّسَ مَنْفَذُهُ بِالْخَارِجِ فَوَجْهَانِ: الْأَصَحُّ عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي (التَّتِمَّةِ) : لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: صِحَّتُهَا. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وَقَعَ هَذَا الْحَيَوَانُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَوْ مَائِعٍ آخَرَ وَخَرَجَ حَيًّا، لَمْ يُنَجِّسْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِلْمَشَقَّةِ فِي صِيَانَةِ الْمَاءِ وَالْمَائِعِ. وَلَوْ حَمَلَ بَيْضَةً صَارَ حَشْوُهَا دَمًا، وَظَاهِرُهَا طَاهِرٌ، أَوْ حَمَلَ عُنْقُودًا اسْتَحَالَ بَاطِنُ حَبَّاتِهِ خَمْرًا، وَلَا رَشْحَ عَلَى ظَاهِرِهَا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي كُلِّ اسْتِتَارٍ خِلْقِيٍّ، وَلَوْ حَمَلَ قَارُورَةً مُصَمَّمَةَ الرَّأْسِ بِرَصَاصٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَفِيهَا نَجَاسَةٌ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ صَمَّمَهَا بِخِرْقَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ قَطْعًا، وَلَوْ صَمَّمَهَا بِشَمْعٍ قِيلَ: إِنَّهُ كَالرَّصَاصِ، وَقِيلَ: كَالْخِرْقَةِ، وَلَوْ حَمَلَ حَيَوَانًا مَذْبُوحًا بَعْدَ غَسْلِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَوْضِعِ الذَّبْحِ وَغَيْرِهِ لَمْ تَصِحَّ قَطْعًا.

الضَّرْبُ الثَّانِي: طِينُ الشَّوَارِعِ. فَتَارَةً يَعْلَمُ نَجَاسَتَهُ، وَتَارَةً يَظُنُّهَا، وَتَارَةً لَا قَطْعًا يَعْلَمُهَا وَلَا يَظُنُّهَا. فَالثَّالِثُ: لَا يَضُرُّ. وَالْمَظْنُونُ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَالنَّجِسُ يُعْفَى قَلِيلُهُ دُونَ كَثِيرِهِ. وَالْقَلِيلُ: مَا يُتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعَادَةِ، وَيَخْتَلِفُ بِالْوَقْتِ وَبِمَوْضِعِهِ فِي الْبَدَنِ. وَذَكَرَ الْأَئِمَّةُ لَهُ تَقْرِيبًا، فَقَالُوا: الْقَلِيلُ مَا لَا يُنْسَبُ صَاحِبُهُ إِلَى سَقْطَةٍ أَوْ كَبْوَةٍ أَوْ قِلَّةٍ تُحْفَظُ. فَإِنْ نُسِبَ فَكَثِيرَةٌ، وَلَوْ أَصَابَ أَسْفَلَ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلِ نَجَاسَةٌ فَدَلَّكَهُ بِالْأَرْضِ حَتَّى ذَهَبَتْ أَجْزَاؤُهَا، فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَالْقَدِيمُ: يَصِحُّ بِشُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلنَّجَاسَةِ جِرْمٌ يَلْتَصِقُ بِهِ. أَمَّا الْبَوْلُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَكْفِي دَلْكُهُ بِحَالٍ، وَالثَّانِي: أَنْ يُدَلِّكَهُ فِي حَالِ الْجَفَافِ، وَمَا دَامَ رَطْبًا لَا يَكْفِي الدَّلْكُ قَطْعًا، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُصُولُ النَّجَاسَةِ بِالْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ. فَلَوْ تَعَمَّدَ تَلْطِيخَ الْخُفِّ بِهَا، وَجَبَ الْغَسْلُ قَطْعًا. وَالْقَوْلَانِ جَارِيَانِ فِيمَا أَصَابَ أَسْفَلَ الْخُفِّ وَأَطْرَافَهُ مِنْ طِينِ الشَّوَارِعِ - الْمُتَيَقَّنِ النَّجَاسَةِ - الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يُعْفَى عَنْهُ وَسَائِرِ النَّجَاسَةِ الْغَالِبَةِ فِي الطُّرُقِ كَالرَّوْثِ وَغَيْرِهِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: دَمُ الْبَرَاغِيثِ، يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَفِي كَثِيرِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْعَفْوُ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي دَمِ الْقَمْلِ وَالْبَعُوضِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَفِي وَنِيمِ الذُّبَابِ وَبَوْلِ الْخُفَّاشِ. وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا فَعَرِقَ وَانْتَشَرَ اللَّطْخُ بِسَبَبِهِ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَفِي ضَبْطِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ خِلَافٌ. فَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: الْقَلِيلُ: قَدْرُ دِينَارٍ، وَفِي قَدِيمٍ آخَرَ: مَا دُونُ الْكَفِّ، وَعَلَى الْجَدِيدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكَثِيرُ: مَا يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَإِمْعَانِ طَلَبٍ، وَالْقَلِيلُ دُونَهُ، وَأَصَحُّهُمَا الرُّجُوعُ إِلَى الْعَادَةِ، فَمَا يَقَعُ التَّلَطُّخُ بِهِ غَالِبًا وَيَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَقَلِيلٌ. فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْبِلَادِ، وَعَلَى الثَّانِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ الْوَسَطُ الْمُعْتَدِلُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مِنَ

الْأَوْقَاتِ وَالْبِلَادِ، وَعَلَى الثَّانِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يُعْتَبَرُ الْوَسَطُ الْمُعْتَدِلُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَالْبِلَادِ مَا يَنْدُرُ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ يَتَفَاحَشُ، وَأَصَحُّهُمَا: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْبِلَادِ وَيَجْتَهِدُ الْمُصَلِّي هَلْ هُوَ قَلِيلٌ أَمْ كَثِيرٌ؟ . الضَّرْبُ الرَّابِعُ: دَمُ البَثَرَاتِ وَقِيحُهَا وَصَدِيدُهَا كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ، فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ قَطْعًا، وَعَنْ كَثِيرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ عَصَرَ بَثْرَةً، فَخَرَجَ مَا فِيهَا، عُفِيَ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَصَابَهُ دَمُ غَيْرِهِ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلَا عَفْوَ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْعَفْوُ، وَلَوْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمِ نَفْسِهِ، لَا مِنَ الْبَثَرَاتِ، بَلْ مِنَ الدَّمَامِيلِ وَالْقُرُوحِ وَمَوْضِعِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ كَدَمِ الْبَثَرَاتِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَوْلَى، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّهُ لَا يُلْتَحَقُ بِدَمِ الْبَثَرَاتِ. بَلْ إِنْ كَانَ مِمَّا يَدُومُ مِثْلُهَا غَالِبًا، فَهِيَ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَسَبَقَ حُكْمُهُ فِي بَابِ الْحَيْضِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَدُومُ غَالِبًا، فَهُوَ كَدَمِ الْأَجْنَبِيِّ، لَا يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ وَفِي قَلِيلِهِ الْخِلَافُ. قُلْتُ الْأَصَحُّ أَنَّهُ كَدَمِ الْبَثَرَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحُكْمُ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ حُكْمُ الدَّمِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الْقُرُوحُ وَالنَّفَّاطَاتُ فَإِنْ كَانَ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِلَّا فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالطَّهَارَةِ، وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ طَهَارَتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الضَّرْبُ الْخَامِسُ: إِذَا صَلَّى وَعَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ نَجَاسَةٌ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهَا، وَهُوَ لَا يَدْرِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهَا وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِنْ عَلِمَهَا ثُمَّ نَسِيَهَا وَجَبَتْ قَطْعًا، وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْإِعَادَةَ، وَجَبَتْ إِعَادَةُ كُلِّ صَلَاةٍ تَيَقَّنَ أَنَّهُ صَلَّاهَا مَعَ النَّجَاسَةِ، وَإِذَا احْتَمَلَ أَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَمَا صَلَّى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. الضَّرْبُ السَّادِسُ: فِي أَنْوَاعٍ مُتَفَرِّقَةٍ، مِنْهَا النَّجَاسَةُ الَّتِي تَسْتَصْحِبُهَا الْمُسْتَحَاضَةُ، وَسَلَسُ الْبَوْلِ، وَمِنْهَا إِذَا كَانَ عَلَى جُرْحِهِ دَمٌ كَثِيرٌ يَخَافُ مِنْ إِزَالَتِهِ. وَمِنْهَا، إِذَا تَلَطَّخَ سِلَاحُهُ بِالدَّمِ فِي صَلَاةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ. وَمِنْهَا: الشَّعْرُ الَّذِي يُنْتَفُ وَلَا يَخْلُو عَنْهُ ثَوْبُهُ وَبَدَنُهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ دَمِ الْبَرَاغِيثِ. وَمِنْهَا: الْقَدْرُ الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ مِنَ الْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ الدَّمِ، وَفِيهِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ (كِتَابِ الطَّهَارَةِ) . قُلْتُ: إِذَا كَانَ عَلَى جُرْحِهِ دَمٌ كَثِيرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا يُعْفَى عَنْهُ، وَخَافَ مِنْ غَسْلِهِ صَلَّى بِهِ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَيَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْخَلْوَةِ، وَفِي الْخَلْوَةِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْخَلْوَةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ بَطَلَتْ. قُلْتُ: وَلَوْ صَلَّى فِي سُتْرَةٍ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا خَرْقٌ تَبِينُ مِنْهُ الْعَوْرَةُ، وَجَبَتْ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلِمَهَا ثُمَّ نَسِيَهَا، أَمْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهَا، وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ عَلِمَ النَّجَاسَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَلَوِ احْتَمَلَ حُدُوثَ الْخَرْقِ بَعْدَ السَّلَامِ فَلَا إِعَادَةَ قَطْعًا. وَيَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لِلْحَاجَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ - حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا - مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَفِي وَجْهٍ: الرُّكْبَةُ وَالسُّرَّةُ عَوْرَةٌ، وَفِي وَجْهٍ: الرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ دُونَ السُّرَّةِ، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ مُنْكَرٍ قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنَّ عَوْرَةَ الرَّجُلِ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ فَقَطْ. قُلْتُ: لَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ مَشْهُورٌ: أَنَّ السُّرَّةَ عَوْرَةٌ دُونَ الرُّكْبَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَجَمِيعُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ إِلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ؛ ظَهْرُهُمَا وَبَطْنُهُمَا إِلَى الْكُوعَيْنِ. وَلَنَا قَوْلٌ، وَقِيلَ وَجْهٌ: أَنَّ بَاطِنَ قَدَمِهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَيْسَ الْقَدَمَانِ بِعَوْرَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُسْتَوْلَدَةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ بَعْضَهَا رَقِيقًا، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا عَوْرَتُهَا كَعَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَالثَّانِي: كَعَوْرَةِ الْحُرَّةِ إِلَّا رَأْسَهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَالثَّالِثُ: مَا يَنْكَشِفُ فِي حَالِ خِدْمَتِهَا وَتَصَرُّفِهَا كَالرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ وَالسَّاعِدِ وَطَرَفِ السَّاقِ، فَلَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَمَا عَدَاهُ عَوْرَةٌ. وَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشَكِلُ فَإِنْ كَانَ رَقِيقًا وَقُلْنَا: عَوْرَةُ الْأَمَةِ كَعَوْرَةِ الرَّجُلِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتُرَ إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا أَوْ رَقِيقًا، وَقُلْنَا: عَوْرَةُ الْأَمَةِ أَكْثَرُ مِنْ عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَجَبَ سَتْرُ الزِّيَادَةِ عَلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ الْأُنُوثَةِ. فَلَوْ خَالَفَ، فَلَمْ يَسْتُرْ إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ وَجْهَانِ: قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا تَصِحُّ لِأَنَّ السَّتْرَ شَرْطٌ وَشَكَكْنَا فِي حُصُولِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ. فِي صِفَةِ السُّتْرَةِ وَالسِّتْرِ: وَيَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، بِمَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاظِرِ وَلَوْنِ الْبَشَرَةِ، فَلَا يَكْفِي الثَّوْبُ الرَّقِيقُ الَّذِي يُشَاهَدُ مِنْ وَرَائِهِ سَوَادُ الْبَشَرَةِ وَبَيَاضُهَا، وَلَا الْغَلِيظُ الْمُهَلْهَلُ النَّسِيجِ الَّذِي يُظْهِرُ بَعْضَ الْعَوْرَةِ مِنْ فُرَجِهِ، وَلَوْ سَتَرَ اللَّوْنَ وَوَصَفَ حَجْمَ الْبَشَرَةِ فَلَا بَأْسَ. وَلَوْ وَقَفَ فِي مَاءٍ صَافٍ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، إِلَّا إِذَا غَلَبَتِ الْخُضْرَةُ لِتَرَاكُمِ الْمَاءِ. فَإِنِ انْغَمَسَ إِلَى عُنُقِهِ، وَمَنَعَتِ الْخُضْرَةُ رُؤْيَةَ لَوْنِ الْبَشَرَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ صَلَّى فِي مَاءٍ كَدَرٍ صَحَّتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَصُورَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَاءِ، أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ يُصَلِّيَ عَلَى جَنَازَةٍ، وَلَوْ طَيَّنَ عَوْرَتَهُ فَاسْتَتَرَ اللَّوْنُ أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ، سَوَاءٌ وَجَدَ ثَوْبًا أَمْ لَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا وَنَحْوَهُ وَأَمْكَنَهُ التَّطَيُّنُ وَجَبَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَمَّا صِفَةُ السَّتْرِ، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: السَّتْرُ يُعْتَبَرُ مِنْ فَوْقُ، وَمِنَ الْجَوَانِبِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الذَّيْلُ وَالْإِزَارُ حَتَّى لَوْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ مُتَّسِعِ الذَّيْلِ، وَكَانَ عَلَى طَرَفِ سَطْحٍ يَرَى عَوْرَتَهُ مَنْ نَظَرِ إِلَيْهِ مِنْ أَسْفَلُ جَازَ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَتَوَقَّفَ فِي صُورَةِ السَّطْحِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّاشِيُّ. وَلَوْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ وَاسِعِ الْجَيْبِ، تُرَى عَوْرَتُهُ مِنَ الْأَعْلَى فِي الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَطَرِيقُهُ أَنْ يَزِرَّ جَيْبَهُ، أَوْ يَشُدَّ وَسَطَهُ، أَوْ يَسْتُرَ مَوْضِعَ الْجَيْبِ بِشَيْءٍ يُلْقِيهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاسِعَ الْجَيْبِ، لَكِنْ كَانَ عَلَى صَدْرِ الْقَمِيصِ أَوْ ظَهْرِهِ خَرْقٌ يَبْدُو مِنْهُ الْعَوْرَةُ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ كَانَ الْجَيْبُ بِحَيْثُ تُرَى الْعَوْرَةُ مِنْهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَكِنْ يَمْنَعُ مِنْهَا لِحْيَتُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى إِزَارِهِ ثُقْبٌ، فَجَمَعَ عَلَيْهِ

الثَّوْبَ بِيَدِهِ، فَلَوْ سَتَرَ الثُّقْبَ بِيَدِهِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي اللِّحْيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْقَمِيصُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ مِنْهُ الْعَوْرَةُ عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَلَا يَظْهَرُ فِي الْقِيَامِ فَهَلْ تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ، ثُمَّ إِذَا رَكَعَ تَبْطُلُ، أَمْ لَا تَنْعَقِدُ أَصْلًا؟ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوِ اقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَفِيمَا لَوْ أَلْقَى ثَوْبًا عَلَى عَاتِقِهِ قَبْلَ الرُّكُوعِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي السَّاتِرِ أَنْ يَشْمَلَ الْمَسْتُورَ إِمَّا بِاللُّبْسِ كَالثَّوْبِ وَالْجِلْدِ، وَإِمَّا بِغَيْرِهِ كَالتَّطَيُّنِ. فَأَمَّا الْفُسْطَاطُ الضَّيِّقُ وَنَحْوُهُ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ، وَلَوْ وَقَفَ فِي جُبٍّ، وَصَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعَ الرَّأْسِ تَظْهَرُ مِنْهُ الْعَوْرَةُ لَمْ تَجُزْ. وَإِنْ كَانَ ضَيِّقَ الرَّأْسِ، فَقَالَ فِي (التَّتِمَّةِ) : تَجُوزُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَجُوزُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْجَوَازُ، وَلَوْ حَفَرَ فِي الْأَرْضِ حُفْرَةً، وَوَقَفَ فِيهَا لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، إِنْ رَدَّ التُّرَابَ بِحَيْثُ سَتَرَ الْعَوْرَةَ جَازَ، وَإِلَّا فَكَالْجُبِّ. وَلَوْ سُتِرَ بِزُجَاجٍ يُرَى مِنْهُ لَوْنُ الْبَشَرَةِ لَمْ يَصِحَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُصَلِّي مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، صَلَّى عَارِيًا وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ بَابِ (التَّيَمُّمِ) كَيْفِيَّةُ صَلَاتِهِ وَالْقَضَاءِ. وَلَوْ حَضَرَ جَمْعٌ مِنَ الْعُرَاةِ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً، وَيَقِفُ إِمَامُهُمْ وَسَطُهُمْ، كَجَمَاعَةِ النِّسَاءِ، وَهَلْ يُسَنُّ لِلْعُرَاةِ الْجَمَاعَةُ أَمِ الْأَصَحُّ الْأَوْلَى أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى؟ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ: الِانْفِرَادُ أَفْضَلُ، وَالْجَدِيدُ: الْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ. قُلْتُ: هَكَذَا حَكَى جَمَاعَةٌ عَنِ الْجَدِيدِ، وَالْمُخْتَارُ مَا حَكَاهُ الْمُحَقِّقُونَ عَنِ الْجَدِيدِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَالِانْفِرَادَ سَوَاءٌ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إِذَا كَانُوا بِحَيْثُ يَتَأَتَّى نَظَرُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، فَلَوْ كَانُوا عُمْيًا أَوْ فِي ظُلْمَةٍ، اسْتُحِبَّتْ لَهُمُ الْجَمَاعَةُ بِلَا خِلَافٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ لَابِسٌ أَمَّهُمْ، وَوَقَفُوا خَلْفَهُ صَفًّا وَاحِدًا. فَإِنْ خَالَفُوا، فَأَمَّهُمْ عَارٍ، وَاقْتَدَى بِهِ اللَّابِسُ جَازَ. وَلَوِ اجْتَمَعَ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ لَمْ يُصَلُّوا مَعًا، لَا فِي صَفٍّ وَلَا فِي صَفَّيْنِ، بَلْ يُصَلِّي الرِّجَالُ، وَتَكُونُ النِّسَاءُ جَالِسَاتٍ خَلْفَهُمْ مُسْتَدْبِرَاتِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي النِّسَاءُ وَيَجْلِسُ الرِّجَالُ خَلْفَهُنَّ مُسْتَدْبِرِينَ. فَرْعٌ: إِذَا وَجَدَ الْمُصَلِّي مَا يَسْتُرُ بَعْضَ الْعَوْرَةِ، لَزِمَهُ سَتْرُ الْمُمْكِنِ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَوْجُودُ يَكْفِي السَّوْأَتَيْنِ بَدَأَ بِهِمَا، وَلَا يَعْدِلُ إِلَى غَيْرِهِمَا. فَإِنْ كَانَ يَكْفِي إِحْدَاهُمَا فَقَطْ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يَسْتُرُ الْقُبُلَ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَالثَّانِي: الدُّبُرَ، وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ. قُلْتُ: وَلَنَا وَجْهٌ ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتُرُ الْقُبُلَ، وَالرَّجُلُ الدُّبُرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْخُنْثَى الْمُشَكِلُ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يَسْتُرُ قُبُلَيْهِ وَدُبُرَهُ سَتَرَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا مَا يَسْتُرُ وَاحِدًا، وَقُلْنَا يَسْتُرُ الْقُبُلَ، سَتَرَ أَيَّ قُبُلَيْهِ شَاءَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتُرَ آلَةَ الرِّجَالِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ، وَآلَةَ النِّسَاءِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ السَّوْأَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْفَخِذِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ تَقْدِيمِ إِحْدَى السَّوْأَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى: هَلْ هُوَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؟ أَمْ عَلَى الِاشْتِرَاطِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ.

فَرْعٌ: لَوْ كَانَتْ أَمَةً تُصَلِّي مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، فَعَتَقَتْ خِلَالَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى السُّتْرَةِ، مَضَتْ فِي صَلَاتِهَا كَالْعَاجِزِ. فَإِنْ كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى السُّتْرَةِ، وَلَمْ تَشْعُرْ بِقُدْرَتِهَا عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ تَشْعُرْ بِالْعِتْقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنَ الصَّلَاةِ، فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ جَاهِلًا. وَقِيلَ: يَجِبُ قَطْعًا، وَإِنْ عَلِمَتِ السُّتْرَةَ وَالْعِتْقَ، فَإِنْ كَانَ الْخِمَارُ قَرِيبًا، فَطَرَحَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا أَوْ طَرَحَهُ غَيْرُهَا مَضَتْ فِي صَلَاتِهَا. وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا أَوِ احْتَاجَتْ فِي السَّتْرِ إِلَى أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ، وَمَضَى مُدَّةٌ فِي التَّكَشُّفِ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ فِي سَبْقِ الْحَدَثِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّهَا تَبْنِي، فَلَهَا السَّعْيُ فِي طَلَبِ السَّاتِرِ، كَمَا تَسْعَى فِي طَلَبِ الْمَاءِ، وَإِنْ وَقَفَتْ حَتَّى أَتَيَتْ بِهِ، نُظِرَ، إِنْ وَصَلَهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَصِلُهُ لَوْ سَعَتْ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ زَادَتْ فَوَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: لَا يَجُوزُ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهَا، وَيَنْبَغِي أَنَّ يَطَّرِدَ هَذَا الْخِلَافُ وَالتَّفْصِيلُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ عِنْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَاكَ. وَلَوْ دَخَلَ الْعَارِي فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ وَجَدَ السُّتْرَةَ فِي خِلَالِهَا، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي (الْأَمَةِ) تَعْتَقُ وَهِيَ وَاجِدَةٌ لِلسُّتْرَةِ. قُلْتُ: إِذَا كَانَتِ السُّتْرَةُ قَرِيبَةً، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَنَاوُلُهَا إِلَّا بِاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهَا إِذَا لَمْ يُنَاوِلْهَا غَيْرُهَا، قَالَهُ فِي (الشَّامِلِ) . وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إِنْ صَلَّيْتِ صَلَاةً صَحِيحَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ قَبْلَهَا، فَصَلَّتْ كَاشِفَةَ الرَّأْسِ عَاجِزَةً صَحَّتْ وَعَتَقَتْ، أَوْ قَادِرَةً صَحَّتْ، وَلَا عِتْقَ لِلدَّوْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ. فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ: لَيْسَ لِلْعَارِي أَخْذُ الثَّوْبِ مِنْ مَالِكِهِ قَهْرًا. فَلَوْ وَهَبَهُ لَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ. ثُمَّ لَهُ رَدُّهُ عَلَى الْوَاهِبِ قَهْرًا. وَفِي وَجْهٍ: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ، وَلَوْ أَعَارَهُ لَزِمَهُ قَبُولُهُ. فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ وَصَلَّى عَارِيًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. قُلْتُ: وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَبُولُ الْعَارِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَاعَهُ أَوْ أَجَّرَهُ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْمَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّيَمُّمِ، وَإِقْرَاضُ الثَّوْبِ كَإِقْرَاضِ الثَّمَنِ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى شِرَاءِ الثَّوْبِ وَالْمَاءِ، وَلَمْ يَقْدِرْ إِلَّا عَلَى أَحَدِهِمَا اشْتَرَى الثَّوْبَ. وَلَوْ أَوْصَى بِثَوْبِهِ لِأَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَالْمَرْأَةُ أَوْلَى مِنَ الْخُنْثَى، وَالْخُنْثَى أَوْلَى مِنَ الرَّجُلِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا نَجِسًا، وَلَمْ يَجِدْ مَا يَغْسِلُهُ بِهِ، فَقَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: يُصَلِّي عَارِيًا بِلَا إِعَادَةٍ. وَالثَّانِي: يُصَلِّي فِيهِ وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبَ حَرِيرٍ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُصَلِّي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ. قُلْتُ: وَيَجِبُ لُبْسُهُ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ عَنِ الْأَبْصَارِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ لُبْسُ الثَّوْبِ النَّجِسِ لِلسَّتْرِ عَنْهَا، وَفِي الْخَلْوَةِ إِذَا أَوْجَبْنَا السَّتْرَ فِيهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي أَحْسَنِ مَا يَجِدُهُ مِنْ ثِيَابِهِ، وَيَتَعَمَّمُ وَيَتَقَمَّصُ وَيَرْتَدِي. فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى ثَوْبَيْنِ، فَالْأَفْضَلُ قَمِيصٌ وَرِدَاءٌ، أَوْ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ

فصل

فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدٍ، فَالْقَمِيصُ أَوْلَى. ثُمَّ الْإِزَارُ، ثُمَّ السَّرَاوِيلُ، ثُمَّ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ إِنْ كَانَ وَاسِعًا، الْتَحَفَ بِهِ وَخَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا، عَقَدَهُ فَوْقَ سُرَّتِهِ، وَيَجْعَلُ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْئًا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَرْأَةُ فِي قَمِيصٍ سَابِغٍ وَخِمَارٍ، وَتَتَّخِذَ جِلْبَابًا كَثِيفًا فَوْقَ ثِيَابِهَا يَتَجَافَى عَنْهَا، وَلَا يُبَيِّنَ حَجْمَ أَعْضَائِهَا. قُلْتُ: لَوْ لَمْ يَجِدِ الْعَارِي إِلَّا ثَوْبًا لِغَيْرِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ لُبْسُهُ، بَلْ يُصَلِّي عَارِيًا وَلَا يُعِيدُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً، وَوَجَدَ حَشِيشًا يُمْكِنُهُ عَمَلُ سُتْرَةٍ مِنْهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ مَحْبُوسًا فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ وَمَعَهُ ثَوْبٌ لَا يَكْفِي الْعَوْرَةَ وَسَتْرَ النَّجَاسَةَ، فَقَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: يَبْسُطُهُ عَلَى النَّجَاسَةِ وَيُصَلِّي عَارِيًا وَلَا إِعَادَةَ. وَالثَّانِي: يُصَلِّي فِيهِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَيُعِيدُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبٌ فَأَتْلَفَهُ، أَوْ خَرَقَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَصَى وَيُصَلِّي عَارِيًا. وَفِي الْإِعَادَةِ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ أَرَاقَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ سَفَهًا وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ فِيهِ صُوَرٌ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُلَثَّمًا، وَالْمَرْأَةُ مُتَنَقِّبَةً، وَأَنْ يُغَطِّيَ فَاهَ إِلَّا أَنْ يَتَثَاءَبَ، فَإِنَّ السُّنَّةَ حِينَئِذٍ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ، فَالصَّمَّاءُ: أَنْ يُجَلِّلْ بَدَنَهُ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ يَرْفَعُ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، وَاشْتِمَالُ الْيَهُودِ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ طَرَفَيْهِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الشَّرْطُ السَّادِسُ السُّكُوتُ عَنِ الْكَلَامِ لِلْمُتَكَلِّمِ فِي الصَّلَاةِ، حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: بِغَيْرِ عُذْرٍ - فَيُنْظَرُ - إِنْ نَطَقَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. إِلَّا إِذَا كَانَ مُفْهِمًا، كَقَوْلِهِ: (ق) (ش) فَإِنَّهُ تَبْطُلُ، وَإِنْ نَطَقَ بِحَرْفَيْنِ بَطَلَتْ؛

أَفْهَمَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُفْهِمٌ وَغَيْرُهُ، وَلَوْ نَطَقَ بِحَرْفٍ وَمَدَّهُ بَعْدَهُ فَالْأَصَحُّ: الْبُطْلَانُ. وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ أَتْبَعَهُ بِصَوْتٍ غَفْلٍ لَا يَقَعُ عَلَى صُورَةِ الْمَدِّ لَمْ تَبْطُلْ. وَإِنْ أَتْبَعَهُ بِحَقِيقَةِ الْمَدِّ بَطَلَتْ، وَفِي التَّنَحْنُحِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: إِنْ بَانَ مِنْهُ حَرَفَانُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي، لَا تَبْطُلُ وَإِنْ بَانَ حَرَفَانُ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ فَمُهُ مُطْبَقًا لَمْ تَبْطُلْ، وَإِنْ فَتَحَهُ وَبَانَ حَرَفَانُ بَطَلَتْ، وَإِلَّا فَلَا. وَحَيْثُ أَبْطَلْنَا، فَذَلِكَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ. فَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا، فَلَا بَأْسَ، وَلَوْ تَعَذَّرَتِ الْقِرَاءَةُ إِلَّا بِالتَّنَحْنُحِ تَنَحْنَحَ، وَهُوَ مَعْذُورٌ. وَإِنْ أَمْكَنَتِ الْقِرَاءَةُ وَتَعَذَّرَ الْجَهْرُ إِلَّا بِالتَّنَحْنُحِ، فَلَيْسَ بِعُذْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ تَنَحْنَحَ الْإِمَامُ وَظَهَرَ مِنْهُ حَرَفَانُ، فَهَلْ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَدُومَ عَلَى مُتَابَعَتِهِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْعِبَادَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَأَمَّا الضَّحِكُ وَالْبُكَاءُ وَالنَّفْخُ وَالْأَنِينُ، فَإِنْ بَانَ مِنْهُ حَرَفَانُ بَطَلَتْ وَإِلَّا فَلَا، وَسَوَاءٌ بَكَى لِلدُّنْيَا أَوْ لِلْآخِرَةِ. الْحَالُ الثَّانِي: فِي الْكَلَامِ بِعُذْرٍ فَمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ غَلَبَهُ الضَّحِكُ أَوِ السُّعَالُ، فَبَانَ مِنْهُ حَرَفَانُ أَوْ تَكَلَّمَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَسِيرًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَثُرَتْ بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالرُّجُوعُ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ إِلَى الْعُرْفِ وَالْجَهْلِ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ. إِنَّمَا هُوَ عُذْرٌ فِي حَقِّ قَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ. فَإِنْ طَالَ عَهْدُهُ بِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِتَقْصِيرِهِ فِي التَّعَلُّمِ، وَلَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا. وَلَوْ جَهِلَ كَوْنَ التَّنَحْنُحِ مُبْطِلًا فَهُوَ مَعْذُورٌ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِخَفَاءِ حُكْمِهِ عَلَى الْعَوَامِّ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ جِنْسَ الْكَلَامِ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ مُحَرَّمٌ فَهُوَ مَعْذُورٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكَلَامِ فَقَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: تَبْطُلُ لِنُدُورِهِ، وَكَمَا لَوْ

أَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ أَوْ قَاعِدًا فَإِنَّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ قَطْعًا. وَلَوْ تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، بِأَنْ قَامَ الْإِمَامُ فِي مَوْضِعِ الْقُعُودِ، فَقَالَ الْمَأْمُومُ: اقْعُدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَيْسَ هُوَ بِعُذْرٍ، فَإِنَّ طَرِيقَهُ التَّسْبِيحُ، وَلَوْ أَشْرَفَ إِنْسَانٌ عَلَى الْهَلَاكِ، فَأَرَادَ إِنْذَارَهُ وَتَنْبِيهَهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ إِلَّا بِالْكَلَامِ وَجَبَ الْكَلَامُ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ خَاطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَصْرِهِ مُصَلِّيًا لَزِمَهُ الْجَوَابُ بِالنُّطْقِ فِي الْحَالِ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَلَوْ قَالَ: «آهٍ» مِنْ خَوْفِ النَّارِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ مَتَى نَابَ الرَّجُلَ الْمُصَلِّيَ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ، بِأَنْ رَأَى أَعْمَى يَقَعُ فِي بِئْرٍ، أَوِ اسْتَأْذَنَهُ إِنْسَانٌ فِي الدُّخُولِ، أَوْ أَرَادَ إِعْلَامَ غَيْرِهِ أَمْرًا، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَبِّحَ، وَالْمَرْأَةُ تُصَفِّقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَالتَّصْفِيقُ: أَنْ تَضْرِبَ بَطْنَ كَفِّهَا الْيُمْنَى، عَلَى ظَهْرِ كَفِّهَا الْيُسْرَى. وَقِيلَ: تَضْرِبُ أَكْثَرَ أَصَابِعِهَا الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ أَصَابِعِهَا الْيُسْرَى. وَقِيلَ: تَضْرِبُ أُصْبُعَيْنِ عَلَى ظَهْرِ الْكَفِّ. وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَضْرِبَ بَطْنَ كَفٍّ عَلَى بَطْنِ كَفٍّ. فَإِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ بَطَلَتْ صَلَاتُهَا لِمُنَافَاتِهِ. فَرْعٌ الْكَلَامُ الْمُبْطِلُ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ هُوَ مَا سِوَى الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا. فَلَوْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ قَاصِدًا الْقِرَاءَةَ، أَوِ الْقِرَاءَةَ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ، كَتَنْبِيهِ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوِ الْفَتْحِ عَلَى مَنْ أُرْتِجَ عَلَيْهِ، أَوْ تَفْهِيمِ أَمْرٍ

كَقَوْلِهِ لِجَمَاعَةٍ يَسْتَأْذِنُونَ فِي الدُّخُولِ: (ادْخَلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ) الْحِجْرِ: 46. أَوْ يَقُولُ: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) مَرْيَمَ: 12. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ قَدِ انْتَهَى فِي قِرَاءَتِهِ إِلَى تِلْكَ الْآيَةِ، أَوْ أَنَشَأَ قِرَاءَتَهَا حِينَئِذٍ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ مَعَ الْقِرَاءَةِ شَيْئًا آخَرَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلَوْ قَصَدَ الْإِفْهَامَ وَالْإِعْلَامَ فَقَطْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ أَتَى بِكَلِمَاتٍ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى نَظْمِهَا، وَتُوجَدُ مُفْرَدَاتُهَا، كَقَوْلِهِ: (يَا إِبْرَاهِيمُ) (سَلَامٌ) (كُنْ) بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا حُكْمُ الْقُرْآنِ بِحَالٍ. وَأَمَّا الْأَذْكَارُ وَالتَّسْبِيحَاتُ وَالْأَدْعِيَةُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَا يَضُرُّ، سَوَاءٌ الْمَسْنُونُ وَغَيْرُهُ. لَكِنْ مَا فِيهِ خِطَابُ مَخْلُوقٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ. فَلَوْ سَلَّمَ عَلَى إِنْسَانٍ أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَيَرُدُّ السَّلَامَ بِالْإِشَارَةِ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ وَلَوْ قَالَ: عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَضُرَّ. وَلَوْ قَالَ لِلْعَاطِسِ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَمْ يَضُرَّ. وَلَوْ قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ بَطَلَتْ عَلَى الْمَشْهُورِ. فَرْعٌ السُّكُوتُ الْيَسِيرُ فِي الصَّلَاةِ لَا يَضُرُّ بِحَالٍ، وَكَذَا الْكَثِيرُ عَمْدًا، إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ بِأَنْ نَسِيَ شَيْئًا فَسَكَتَ لِيَتَذَكَّرَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَكَذَا إِنْ سَكَتَ لِغَيْرِ عُذْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ سَكَتَ كَثِيرًا نَاسِيًا، وَقُلْنَا: عَمْدُهُ مُبْطِلٌ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ. وَالثَّانِي: عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ الْمُفْهِمَةَ، كَالنُّطْقِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، وَلَا تَبْطُلُ بِهَا الصَّلَاةُ عَلَى الصَّحِيحِ.

الشَّرْطُ السَّابِعُ: الْكَفُّ عَنِ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ. اعْلَمْ أَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ جِنْسِهَا. وَالثَّانِي: لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا. فَالْأَوَّلُ: إِذَا فَعَلَهُ نَاسِيًا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، كَمَنْ زَادَ رُكُوعًا، أَوْ سُجُودًا أَوْ رَكْعَةً. وَإِنْ تَعَمَّدَهُ بَطَلَتْ، سَوَاءٌ قَلَّ أَمْ كَثُرَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. وَالْقَلِيلُ لَا يُبْطِلُ. وَفِي ضَبْطِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: الْقَلِيلُ مَا لَا يَسَعُ زَمَانُهُ فِعْلَ رَكْعَةٍ. وَالْكَثِيرُ مَا يَسَعُهَا. وَالثَّانِي: كُلُّ عَمَلٍ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى كِلْتَا يَدَيْهِ، كَرَفْعِ الْعِمَامَةِ، وَحَلِّ أُنْشُوطَةِ السَّرَاوِيلِ فَقَلِيلٌ. وَمَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ كَتَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ، وَعَقْدِ الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ فَكَثِيرٌ. وَالثَّالِثُ: الْقَلِيلُ مَا لَا يَظُنُّ النَّاظِرُ إِلَيْهِ أَنَّ فَاعِلَهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ. وَالْكَثِيرُ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا. وَضُعِّفَ هَذَا بِأَنَّ مَنْ رَآهُ يَحْمِلُ صَبِيًّا، أَوْ يَقْتُلُ حَيَّةً، أَوْ عَقْرَبًا، يَتَخَيَّلُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ، وَهَذَا لَا يَضُرُّ قَطْعًا. وَالرَّابِعُ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الرُّجُوعَ فِيهِ إِلَى الْعَادَةِ. فَلَا يَضُرُّ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ قَلِيلًا كَالْإِشَارَةِ بِرَدِّ السَّلَامِ، وَخَلْعِ النَّعْلِ، وَلِبْسِ الثَّوْبِ الْخَفِيفِ، وَنَزْعِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالُوا: الْفِعْلَةُ الْوَاحِدَةُ، كَالْخُطْوَةِ وَالضَّرْبَةِ، قَلِيلٌ قَطْعًا. وَالثَّلَاثُ: كَثِيرٌ قَطْعًا. وَالِاثْنَتَانِ: مِنَ الْقَلِيلِ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ إِنَّمَا يُبْطِلُ إِذَا تَوَالَى. فَإِنْ تَفَرَّقَ بِأَنْ خَطَا خُطْوَةً، ثُمَّ بَعْدَ زَمَنٍ خَطَا أُخْرَى، أَوْ خُطْوَتَيْنِ ثُمَّ خُطْوَتَيْنِ بَيْنَهُمَا زَمَنٌ، وَقُلْنَا: إِنَّهُمَا قَلِيلٌ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، لَمْ يَضُرَّ قَطْعًا. وَحَدُّ التَّفْرِيقِ: أَنْ يُعَدَّ الثَّانِي مُنْقَطِعًا عَنِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : عِنْدِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا قَدْرُ رَكْعَةٍ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي لَا تُبْطِلُ، مَا لَمْ يَتَفَاحَشْ، فَإِنْ أَفْرَطَتْ كَالْوَثْبَةِ

الْفَاحِشَةِ أَبْطَلَتْ قَطْعًا. وَكَذَا قَوْلُهُمْ: الثَّلَاثُ الْمُتَوَالِيَةُ تُبْطِلُ. أَرَادَ: وَالْخُطُوَاتُ وَنَحْوُهَا. فَأَمَّا الْحَرَكَاتُ الْخَفِيفَةُ، كَتَحْرِيكِ الْأَصَابِعِ فِي سُبْحَةٍ، أَوْ حَكَّةٍ، أَوْ حَلٍّ وَعَقْدٍ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَإِنْ كَثُرَتْ مُتَوَالِيَةً. وَالثَّانِي: تُبْطِلُ كَغَيْرِهَا. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعُدُّ الْآيَاتِ فِي صَلَاتِهِ عَقْدًا بِالْيَدِ لَمْ تَبْطُلْ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا إِذَا تَعَمَّدَ الْفِعْلَ الْكَثِيرَ، فَأَمَّا إِذَا فَعَلَهُ نَاسِيًا، فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ النَّاسِيَ كَالْعَامِدِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ فِي كَلَامِ النَّاسِي. وَقِيلَ: أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ لَا يُؤَثِّرُ. وَمَا زَادَ وَانْتَهَى إِلَى السَّرَفِ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ الْفِعْلِ فِي غَيْرِ شِدَّةِ الْخَوْفِ. أَمَّا فِيهَا فَيُحْتَمَلُ الرَّكْضُ وَالْعَدْوُ لِلْحَاجَةِ. وَفِي غَيْرِ الْحَاجَةِ كَلَامٌ يَأْتِي فِي بَابِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَضُرَّ، بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَحْفَظِ الْفَاتِحَةَ كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ قَلَّبَ الْأَوْرَاقَ أَحْيَانًا لَمْ يَضُرَّ. وَلَوْ نَظَرَ فِي مَكْتُوبٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَرَدَّدَ مَا فِيهِ فِي نَفْسِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ إِذَا كَثُرَ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ، وَهُوَ شَاذٌّ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ مِنْ جِدَارٍ، أَوْ سَارِيَةٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا. وَيَدْنُو مِنْهَا بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَإِنْ كَانَ فِي صَحْرَاءَ، غَرَزَ عَصًا وَنَحْوَهَا، أَوْ جَمَعَ شَيْئًا مِنْ رَحْلِهِ أَوْ مَتَاعِهِ. وَلْيَكُنْ قَدْرَ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا شَاخِصًا، خَطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا، أَوْ بَسَطَ مُصَلًّى. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: لَا عِبْرَةَ بِالْخَطِّ. وَالصَّوَابُ مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْخَطِّ كَمَا إِذَا اسْتَقْبَلَ شَيْئًا شَاخِصًا. قُلْتُ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ: فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْخَطِّ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ فِي (الْقَدِيمِ)

وَ (سُنَنِ) حَرْمَلَةَ: يُسْتَحَبُّ. وَنَفَاهُ فِي (الْبُوَيْطِيِّ) لِاضْطِرَابِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ وَضَعْفِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي صِفَةِ الْخَطِّ. فَقِيلَ: يُجْعَلُ مِثْلَ الْهِلَالِ. وَقِيلَ: يُمَدُّ طُولًا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ. وَقِيلَ: يَمُدُّهُ يَمِينًا وَشِمَالًا. وَالْمُخْتَارُ اسْتِحْبَابُ الْخَطِّ، وَأَنْ يَكُونَ طُولًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِذَا صَلَّى إِلَى سُتْرَةٍ، مَنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُرُورِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ. وَكَذَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَطِّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: كَالْعَصَا. وَهَلْ هُوَ مَنْعُ تَحْرِيمٍ، أَوْ تَنْزِيهٍ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: مَنْعُ تَحْرِيمٍ. وَلِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْفَعَهُ، وَيَضْرِبَهُ عَلَى الْمُرُورِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سُتْرَةٌ، أَوْ كَانَتْ وَتَبَاعَدَ مِنْهَا، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الدَّفْعُ لِتَقْصِيرِهِ. قُلْتُ: وَلَا يَحْرُمُ حِينَئِذٍ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وَجَدَ الدَّاخِلُ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ الثَّانِي وَيَقِفَ فِيهَا، لِتَقْصِيرِ أَصْحَابِ الثَّانِي بِتَرْكِهَا. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُرُورِ وَالْأَمْرُ بِالدَّفْعِ إِذَا وَجَدَ الْمَارُّ سَبِيلًا سِوَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَازْدَحَمَ النَّاسُ فَلَا نَهْيَ عَنِ الْمُرُورِ وَلَا يُشْرَعُ الدَّفْعُ. وَتَابَعَ الْغَزَالِيُّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ عَلَى هَذَا، وَهُوَ مُشْكِلٌ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي (الْبُخَارِيِّ) خِلَافُهُ. وَأَكْثَرُ كُتُبِ الْأَصْحَابِ سَاكِتَةٌ عَنْ تَقْيِيدِ الْمَنْعِ بِمَا إِذَا وَجَدَ سِوَاهُ سَبِيلًا. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ السَّبِيلِ وَعَدَمِهِ. فَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ صَرِيحٌ فِي الْمَنْعِ. وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ يُخَالِفُهُ، وَلَا فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ لِغَيْرِ الْإِمَامِ مَا يُخَالِفُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِمُرُورِ شَيْءٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، سَوَاءً مَرَّ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ كَلْبٌ أَوْ حِمَارٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِذَا صَلَّى إِلَى سُتْرَةٍ فَالسُّنَّةُ

فصل

أَنْ يَجْعَلَهَا مُقَابِلَةً لِيَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ وَلَا يَصْمُدَ لَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّامِنُ: الْإِمْسَاكُ عَنِ الْأَكْلِ. فَلَوْ أَكَلَ شَيْئًا، وَإِنْ قَلَّ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا تَبْطُلُ بِالْقَلِيلِ، وَهُوَ غَلَطٌ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ، أَوْ نَزَلَتْ نُخَامَةٌ مِنْ رَأْسِهِ فَابْتَلَعَهَا عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. فَإِنْ أَكَلَ مَغْلُوبًا، بِأَنْ جَرَى الرِّيقُ بِبَاقِي الطَّعَامِ، أَوْ نَزَلَتِ النُّخَامَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إِمْسَاكُهَا لَمْ تَبْطُلْ. وَإِنْ أَكَلَ نَاسِيًا، أَوْ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، فَإِنْ قَلَّ لَمْ تَبْطُلْ. وَإِنْ كَثُرَ بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَتُعْرَفُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ بِالْعُرْفِ. وَلَوْ وَصَلَ شَيْءٌ إِلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ مَضْغٍ وَابْتِلَاعٍ، بِأَنْ وَضَعَ فِي فَمِهِ سُكَّرَةً فَذَابَتْ وَنَزَلَتْ إِلَى جَوْفِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَعَلَى هَذَا تَبْطُلُ بِكُلِّ مَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَضْغَ وَحْدَهُ فِعْلٌ يُبْطِلُ الْكَثِيرُ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَصِلْ شَيْءٌ إِلَى الْجَوْفِ، حَتَّى لَوْ كَانَ يَمْضُغُ عِلْكًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ لَمْ يَمْضُغْهُ، وَكَانَ جَدِيدًا يَذُوبُ فَهُوَ كَالسُّكَّرَةِ. وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ أَمْسَكَ فِي فَمِهِ إِجَّاصَةً. فَصْلٌ وَلِلْمُحْدِثِ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ. قُلْتُ: وَكَذَا النَّوْمُ بِلَا كَرَاهَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَقَدَّمَ حُكْمُ مُكْثِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَعُبُورِهِمَا. وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، أَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ دُخُولِ حَرَمِ مَكَّةَ بِحَالٍ، سَوَاءٌ مَسَاجِدُهُ وَغَيْرُهَا. وَلَهُ دُخُولُ مَسَاجِدِ غَيْرِ الْحَرَمِ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ. وَلَيْسَ لَهُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ عَلَى الصَّحِيحِ. فَإِنْ فَعَلَهُ عُزِّرَ. قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : لَوْ جَلَسَ فِيهِ الْحَاكِمُ لِلْحُكْمِ، فَلِلذِّمِّيِّ دُخُولُهُ لِلْمُحَاكَمَةِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَيُنَزَّلُ جُلُوسُهُ مَنْزِلَةَ إِذْنِهِ. وَإِذَا اسْتَأْذَنَ لِنَوْمٍ أَوْ

أَكْلٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْذَنَ لَهُ. وَإِنِ اسْتَأْذَنَ لِسَمَاعِ قُرْآنٍ أَوْ عِلْمٍ أَذِنَ لَهُ رَجَاءَ إِسْلَامِهِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا، فَإِنْ كَانَ فَهَلْ يُمْنَعُ مِنَ الْمُكْثِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَالْكَافِرَةُ الْحَائِضَةُ تُمْنَعُ حَيْثُ تُمْنَعُ الْمُسْلِمَةُ، وَكَذَا الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِهِ. قُلْتُ: وَلَا يُمْنَعُ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ مِنْ دُخُولِ الْمُصَلَّى الَّذِي لَيْسَ بِمَسْجِدٍ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ فِي بَابِ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي تَحْرِيمِهِ وَجْهَيْنِ. وَأَجْرَاهُمَا فِي مَنْعِ الْكَافِرِ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَقَدْ ذَكَرْتُ جُمَلًا مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَسْجِدِ فِي بَابِ مَا يُوجِبُ الْغَسْلَ، مِنْ شَرْحِ (الْمُهَذَّبِ) . وَأَنَا أُشِيرُ إِلَى أَحْرُفٍ مِنْ بَعْضِهَا، فَيُكْرَهُ نَقْشُ الْمَسْجِدِ، وَاتِّخَاذُ الشُّرُفَاتِ لَهُ. وَلَا بَأْسَ بِإِغْلَاقِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَالْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ. فَإِنْ خَالَفَ فَبَصَقَ فَقَدِ ارْتَكَبَ النَّهْيَ، فَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهُ فِي رَمْلِ الْمَسْجِدِ وَتُرَابِهِ. وَلَوْ مَسَحَهُ بِيَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا كَانَ أَفْضَلَ. وَيُكْرَهُ لِمَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ - دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِلَا ضَرُورَةٍ مَا لَمْ يَذْهَبْ رِيحُهُ. وَيُكْرَهُ غَرْسُ الشَّجَرِ فِيهِ. فَإِنْ غُرِسَ قَطَعَهُ الْإِمَامُ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَيُكْرَهُ حَفْرُ الْبِئْرِ فِيهِ، وَيُكْرَهُ عَمَلُ الصَّنَائِعِ، وَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِ وَالْوُضُوءِ إِذَا لَمْ يَتَأَذَّ بِهِ النَّاسُ. وَيُقَدِّمُ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَفِي الْخُرُوجِ الْيُسْرَى، وَيَدْعُو بِالدَّعَوَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِيهِ. وَلِحَائِطِ الْمَسْجِدِ مِنْ خَارِجِهِ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ السَّادِسُ فِي السَّجَدَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ صُلْبِ الصَّلَاةِ هُنَّ ثَلَاثٌ. الْأُولَى: سُجُودُ السَّهْوِ، وَهُوَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ شَيْئَانِ: تَرْكُ مَأْمُورٍ، وَارْتِكَابُ مَنْهِيٍّ. أَمَّا تَرْكُ الْمَأْمُورِ فَقِسْمَانِ: تَرْكُ رُكْنٍ وَغَيْرِهِ. أَمَّا الرُّكْنُ فَلَا يَكْفِي عَنْهُ السُّجُودُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَدَارُكِهِ. ثُمَّ قَدْ يَقْتَضِي الْحَالُ السُّجُودَ بَعْدَ التَّدَارُكِ، وَقَدْ لَا يَقْتَضِيهِ. كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا غَيْرُ الرُّكْنِ فَأَبْعَاضٌ وَغَيْرُهَا. فَالْأَبْعَاضُ: تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي أَوَّلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ مَجْبُورَةٌ بِالسُّجُودِ إِنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا سَهْوًا قَطْعًا. وَكَذَلِكَ إِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَمَّا غَيْرُ الْأَبْعَاضِ مِنَ السُّنَنِ، فَلَا يَسْجُدُ لِتَرْكِهَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ. وَلَنَا قَوْلٌ قَدِيمٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يَسْجُدُ لِتَرْكِ كُلِّ مَسْنُونٍ، ذِكْرًا كَانَ أَوْ عَمَلًا. وَوَجْهُهُ: أَنَّ مَنْ نَسِيَ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سَجَدَ. وَأَمَّا الْمَنْهِيُّ فَقِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَمْدِهِ. كَالِالْتِفَاتِ، وَالْخُطْوَةِ، وَالْخُطْوَتَيْنِ. وَالثَّانِي: تَبْطُلُ بِعَمْدِهِ، كَالْكَلَامِ، وَالرُّكُوعِ الزَّائِدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَقْتَضِيَ سَهْوُهُ السُّجُودَ. وَالثَّانِي: يَقْتَضِيهِ إِذَا لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ. وَقَوْلُنَا: إِذَا لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ، احْتِرَازٌ مِنْ كَثِيرِ الْفِعْلِ، وَالْأَكْلِ، وَالْكَلَامِ، فَإِنَّهَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِعَمْدِهَا. وَكَذَلِكَ بِسَهْوِهَا عَلَى الْأَصَحِّ؛ فَلَا سُجُودَ. وَاحْتِرَازٌ مِنَ الْحَدَثِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَمْدَهُ وَسَهْوَهُ يُبْطِلَانِ الصَّلَاةَ وَلَا سُجُودَ.

فَرْعٌ الِاعْتِدَالُ عَنِ الرُّكُوعِ رُكْنٌ قَصِيرٌ، أُمِرَ الْمُصَلِّي بِتَخْفِيفِهِ. فَلَوْ أَطَالَهُ عَمْدًا بِالسُّكُوتِ أَوِ الْقُنُوتِ أَوْ بِذِكْرٍ آخَرَ لَيْسَ بِرُكْنٍ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إِلَّا حَيْثُ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّطْوِيلِ بِالْقُنُوتِ، أَوْ فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ قَنَتَ عَمْدًا فِي اعْتِدَالِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَطَلَتْ. وَإِنْ طَوَّلَ بِذِكْرٍ آخَرَ لَا يَقْصِدُ الْقُنُوتَ لَمْ تَبْطُلْ. قُلْتُ: ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَّلَ الِاعْتِدَالَ جِدًّا. فَالرَّاجِحُ دَلِيلًا جَوَازُ إِطَالَتِهِ بِالذِّكْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ نَقَلَ رُكْنًا ذِكْرِيًّا إِلَى رُكْنٍ طَوِيلٍ، بِأَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَوْ بَعْضَهَا، فِي الرُّكُوعِ أَوِ الْجُلُوسِ آخِرَ الصَّلَاةِ، أَوْ قَرَأَ التَّشَهُّدَ أَوْ بَعْضَهُ فِي الْقِيَامِ عَمْدًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا تَبْطُلُ قَطْعًا. وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ نَقَلَهُ إِلَى الِاعْتِدَالِ وَلَمْ يُطِلْ، بِأَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَوْ بَعْضَ التَّشَهُّدِ. فَلَوِ اجْتَمَعَ الْمَعْنِيَّانِ بِطُولِ الِاعْتِدَالِ بِالْفَاتِحَةِ أَوِ التَّشَهُّدِ، بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: قَطْعًا. وَأَمَّا الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ رُكْنٌ قَصِيرٌ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُمَا. وَالثَّانِي: طَوِيلٌ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَالْجُمْهُورُ. فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا فَلَا بَأْسَ بِتَطْوِيلِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَفِي تَطْوِيلِهِ عَمْدًا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الِاعْتِدَالِ. وَإِذَا قُلْنَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِعَمْدِهِ، فَلَوْ فُرِضَ ذَلِكَ سَهْوًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ، فَهَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَسَائِرِ مَا لَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَسْجُدُ. وَتُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ قَوْلِنَا: مَا لَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ، لَا يُسْجَدُ لِسَهْوِهِ.

فصل

فَصْلٌ التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ بَعْدَ الْمَتْرُوكِ، حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا تَرَكَهُ. فَإِنْ تَذَكَّرَ السَّهْوَ قَبْلَ فِعْلِ مِثْلِ الْمَتْرُوكِ اشْتَغَلَ عِنْدَ التَّذَكُّرِ بِالْمَتْرُوكِ، وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ فِعْلِ مِثْلِهِ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى تَمَّتِ الرَّكْعَةُ السَّابِقَةُ بِهِ، وَلَغَا مَا بَيْنَهُمَا. هَذَا إِذَا عَرَفَ عَيْنَ الْمَتْرُوكِ وَمَوْضِعَهُ. فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَخَذَ بِأَدْنَى الْمُمْكِنِ وَأَتَى بِالْبَاقِي. وَفِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، إِلَّا إِذَا وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ، بِأَنْ تَرَكَ رُكْنًا وَأَشْكَلَ عَيْنُهُ وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ النِّيَّةَ أَوْ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ. وَإِلَّا إِذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ هُوَ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَ قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ، سَلَّمَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى سُجُودِ السَّهْوِ. وَلَوْ تَذَكَّرَ فِي قِيَامِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنَ الْأُولَى، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَا عِنْدَ تَذَكُّرِهِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَلَسَ عَقِبَ السَّجْدَةِ الْمَفْعُولَةِ، فَهَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَسْجُدَ عَنْ قِيَامٍ، أَمْ لَا بُدَّ أَنْ يَجْلِسَ مُطْمَئِنًّا، ثُمَّ يَسْجُدُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَإِنْ كَانَ جَلَسَ عَقِبَ [السَّجْدَةِ] الْمَفْعُولَةِ - وَقَصَدَ بِهِ الْجَلْسَةَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ - ثُمَّ غَفَلَ فَقَامَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَكْفِيهِ السُّجُودُ عَنْ قِيَامٍ. وَقِيلَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ قَصَدَ بِجَلْسَتِهِ الِاسْتِرَاحَةَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَكْفِيهِ السُّجُودُ عَنْ قِيَامٍ، وَيُجْزِئُهُ جَلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ عَنِ الْوَاجِبِ. كَمَا لَوْ جَلَسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ يَظُنُّهُ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنِ الْأَخِيرِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ الْجُلُوسُ مُطْمَئِنًّا. وَلَوْ شَكَّ، هَلْ جَلَسَ؟ فَهُوَ كَمَا إِذَا لَمْ يَجْلِسْ. أَمَّا إِذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ سُجُودِهِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ تَرْكَهُ سَجْدَةً مِنَ الْأُولَى، فَيَنْظُرُ، إِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ مَعًا، أَوْ فِي الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا، فَقَدْ تَمَّ بِمَا فَعَلَهُ رَكْعَتُهُ الْأُولَى،

وَلَغَا مَا بَيْنَهُمَا. ثُمَّ إِنْ كَانَ جَلَسَ فِي الْأُولَى بِنِيَّةِ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، أَوْ بِنِيَّةِ الِاسْتِرَاحَةِ إِذَا قُلْنَا: تُجْزِئُ عَنِ الْوَاجِبِ، فَتَمَامُهَا بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى. وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ، أَوْ جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَقُلْنَا: لَا يُجْزِئُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَوْ تَذَكَّرَ فِي الْقِيَامِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، يَجْلِسُ ثُمَّ يَسْجُدُ فَتَمَامُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى هُنَا بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ قُلْنَا هُنَاكَ: يَسْجُدُ عَنْ قِيَامٍ فَتَمَامُهَا بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى. وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا إِذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ السَّجْدَةِ الْأُولَى فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَرَكْعَتُهُ غَيْرُ تَامَّةٍ، فَيَسْجُدُ سَجْدَةً، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى رَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَرَكْعَتُهُ تَامَّةٌ، فَيَقُومُ إِلَى ثَانِيَةٍ. فَرْعٌ لَوْ تَذَكَّرَ فِي جُلُوسِ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ، أَنَّهُ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ يُحْسَبُ لَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ، وَحَالٌ رَكْعَتَانِ، وَحَالٌ رَكْعَتَانِ إِلَّا سَجْدَةً. فَلَوْ تَيَقَّنَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الثَّالِثَةِ، وَثِنْتَيْنِ مِنَ الرَّابِعَةِ، صَحَّتِ الرَّكْعَتَانِ الْأُولَيَانِ، وَحَصَلَتِ الثَّالِثَةُ، لَكِنْ لَا سُجُودَ فِيهَا، وَلَا فِيمَا بَعْدَهَا. فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لِتَتِمَّ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى رَكْعَةٍ رَابِعَةٍ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ، لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنَ الْأُولَى، وَسَجْدَةً مِنَ الثَّانِيَةِ، وَسَجْدَتَيْنِ مِنَ الرَّابِعَةِ. وَكَذَا لَوْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّانِيَةِ، وَوَاحِدَةً مِنَ الثَّالِثَةِ، وَثِنْتَيْنِ مِنَ الرَّابِعَةِ. أَمَّا إِذَا تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً، فَيَحْصُلُ رَكْعَتَانِ، فَيُتِمُّ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةَ بِالرَّابِعَةِ. وَمِثْلُهُ لَوْ تَرَكَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَثِنْتَيْنِ مِنَ الْأُولَى أَوِ الثَّالِثَةِ، أَوْ ثِنْتَيْنِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَوَاحِدَةً مِنَ الْأُولَى، وَأُخْرَى مِنَ الثَّالِثَةِ، أَوْ ثِنْتَيْنِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَوَاحِدَةً مِنَ الثَّالِثَةِ، وَأُخْرَى مِنَ الرَّابِعَةِ، أَوْ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْأُولَى، وَثِنْتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُمَا غَيْرَ مُتَوَالِيَتَيْنِ، أَوْ وَاحِدَةً مِنَ الْأُولَى، وَوَاحِدَةً مِنَ الثَّانِيَةِ، وَثِنْتَيْنِ مِنَ الثَّالِثَةِ، أَوْ وَاحِدَةً مِنَ الثَّانِيَةِ

، وَثِنْتَيْنِ مِنَ الثَّالِثَةِ، وَوَاحِدَةً مِنَ الرَّابِعَةِ، فَيَحْصُلُ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ رَكْعَتَانِ، وَيَقُومُ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ. أَمَّا إِذَا تَرَكَ مِنَ الْأُولَى وَاحِدَةً، وَمِنَ الثَّانِيَةِ ثِنْتَيْنِ، وَمِنَ الرَّابِعَةِ وَاحِدَةً، أَوْ مِنَ الْأُولَى ثِنْتَيْنِ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ وَاحِدَةً، وَمِنَ الرَّابِعَةِ أُخْرَى. وَكَذَا كُلُّ صُورَةٍ تَرَكَ ثِنْتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ، وَثِنْتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ غَيْرِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، فَيَحْصُلُ رَكْعَتَانِ إِلَّا سَجْدَةً. فَيَسْجُدُهَا ثُمَّ يَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا عَرَفَ مَوَاضِعَ السَّجَدَاتِ. فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ، أَخَذَ بِالْأَشَدِّ، فَيَأْتِي بِسَجْدَةٍ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَلْزَمُهُ سَجْدَتَانِ، ثُمَّ رَكْعَتَانِ. وَهُوَ غَلَطٌ شَاذٌّ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ قَدْ جَلَسَ عَقِبَ السَّجَدَاتِ الْمَفْعُولَاتِ كُلِّهِنَّ عَلَى قَصْدِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، أَوْ عَلَى قَصْدِ جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، إِذَا قُلْنَا: تُجْزِئُ عَنِ الْوَاجِبِ، أَوْ قُلْنَا: إِنَّ الْقِيَامَ يَقُومُ مَقَامَ الْجَلْسَةِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجْلِسْ فِي بَعْضِ الرَّكَعَاتِ أَوْ لَمْ يَجْلِسْ فِي غَيْرِ الرَّابِعَةِ، وَقُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّ الْقِيَامَ لَا يَكْفِي عَنِ الْجِلْسَةِ، فَلَا يُحْسَبُ مَا بَعْدَ السَّجْدَةِ الْمَفْعُولَةِ إِلَى أَنْ يَجْلِسَ. حَتَّى لَوْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً، وَلَمْ يَجْلِسْ إِلَّا فِي الْأَخِيرَةِ، أَوْ جَلَسَ بِنِيَّةِ الِاسْتِرَاحَةِ، أَوْ جَلَسَ فِي الثَّانِيَةِ بِنِيَّةِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَقُلْنَا: الْفَرْضُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّفْلِ، لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِمَّا فَعَلَ إِلَّا رَكْعَةٌ نَاقِصَةٌ سَجْدَةً. ثُمَّ هَذَا الْجُلُوسُ الَّذِي تَذَكَّرَ فِيهِ، يَقُومُ مَقَامَ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. فَيَسْجُدُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ. أَمَّا إِذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا مِنَ الْأَخِيرَةِ، سَجَدَهَا، وَاسْتَأْنَفَ التَّشَهُّدَ إِنْ كَانَ تَشَهَّدَ، وَإِنْ عَلِمَهَا مِنْ غَيْرِ الْأَخِيرَةِ، أَوْ شَكَّ، لَزِمَهُ رَكْعَةٌ. وَإِنْ تَذَكَّرَ تَرْكَ سَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتَا مِنَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، كَفَاهُ سَجْدَتَانِ وَإِنْ كَانَتَا مِنْ غَيْرِ الْأَخِيرَةِ. فَإِنْ كَانَتَا مِنْ رَكْعَةٍ، لَزِمَهُ رَكْعَةٌ. وَإِنْ كَانَتَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ، فَقَدْ يَكْفِيهِ رَكْعَةٌ، بِأَنْ يَكُونَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ. وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ، بِأَنْ يَكُونَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ غَيْرِ مُتَوَالِيَتَيْنِ. فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ، لَزِمَهُ رَكْعَتَانِ. وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ، فَقَدْ يَقْتَضِي الْحَالُ حُصُولَ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَةً، بِأَنْ تَكُونَ

ثِنْتَانِ مِنَ الْأُولَى، أَوِ الثَّانِيَةِ، أَوِ الثَّالِثَةِ، وَوَاحِدَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ. فَيَسْجُدُ سَجْدَةً، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ. وَقَدْ يَقْتَضِي حُصُولَ ثَلَاثٍ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ، بِأَنْ تَكُونَ سَجْدَةٌ مِنَ الْأُولَى، وَثِنْتَانِ مِنَ الرَّابِعَةِ. وَقَدْ يَقْتَضِي حُصُولَ رَكْعَتَيْنِ فَقَطْ، بِأَنْ يَكُونَ الثَّلَاثُ، مِنَ الثَّلَاثِ الْأُولَيَاتِ. فَإِنْ أَشْكَلَ، لَزِمَهُ هَذَا الْأَشَدُّ. وَإِنْ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ، فَقَدْ تَحْصُلُ رَكْعَتَانِ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ بِأَنْ تَكُونَ وَاحِدَةٌ مِنَ الْأُولَى، وَثِنْتَانِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَثِنْتَانِ مِنَ الرَّابِعَةِ. وَقَدْ يَحْصُلُ رَكْعَةٌ فَقَطْ بِأَنْ يَتْرُكَ سَجْدَةً مِنَ الْأُولَى، وَثِنْتَيْنِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَثِنْتَيْنِ مِنَ الثَّالِثَةِ. فَإِنْ أَشْكَلَ، لَزِمَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ. وَقَالَ فِي (الْمُهَذَّبِ) : يَلْزَمُهُ سَجْدَتَانِ، وَرَكْعَتَانِ، وَهُوَ غَلَطٌ. وَلَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ، حَصَلَ رَكْعَةٌ فَقَطْ. وَإِنْ تَرَكَ سَبْعًا، حَصَلَ رَكْعَةٌ إِلَّا سَجْدَةً. وَإِنْ تَرَكَ ثَمَانِيًا، حَصَلَ رَكْعَةٌ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ. ثُمَّ هَذَا الْحُكْمُ يَطَّرِدُ لَوْ تَذَكَّرَ السَّهْوَ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَلَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ. فَإِنْ طَالَ، وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْفَصْلِ. وَيُمْكِنُ عَدُّهَا مِنْ قِسْمِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ - لِأَنَّ التَّرْتِيبَ مَأْمُورٌ بِهِ، فَتَرْكُهُ عَمْدًا مُبْطِلٌ، فَسَهْوُهُ يَقْتَضِي السُّجُودَ - وَمِنِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ، لِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ التَّرْتِيبَ، فَقَدْ زَادَ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْأَرْكَانِ. فَرْعٌ تَقَدَّمَ أَنَّ فَوَاتَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ يَقْتَضِي سُجُودَ السَّهْوِ. فَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ نَاسِيًا لِلتَّشَهُّدِ، أَوْ جَلَسَ، وَلَمْ يَقْرَأِ التَّشَهُّدَ، وَنَهَضَ نَاسِيًا، ثُمَّ تَذَكَّرَ، فَتَارَةً يَتَذَكَّرُ بَعْدَ الِانْتِصَابِ قَائِمًا، وَتَارَةً قَبْلَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، لَمْ تَجُزِ الْعَوْدَةُ إِلَى الْقُعُودِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَفِي وَجْهٍ: يَجُوزُ الْعَوْدُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْقِرَاءَةِ. وَالْأَوْلَى: أَنْ لَا يَعُودَ. وَهَذَا الْوَجْهُ: شَاذٌّ مُنْكَرٌ. فَعَلَى الصَّحِيحِ: إِنْ عَادَ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ عَادَ نَاسِيًا، لَمْ تَبْطُلْ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ

عِنْدَ تَذَكُّرِهِ وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ. وَإِنْ عَادَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ كَالنَّاسِي. وَالثَّانِي: كَالْعَامِدِ. هَذَا حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ. وَالْإِمَامُ فِي مَعْنَاهُ، فَلَا يَرْجِعُ بَعْدَ الِانْتِصَابِ. وَلَا يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتَخَلَّفَ لِلتَّشَهُّدِ. فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. فَإِنْ نَوَى مُفَارَقَتَهُ لِيَتَشَهَّدَ، جَازَ وَكَانَ مُفَارِقًا بِعُذْرٍ. وَلَوِ انْتَصَبَ مَعَ الْإِمَامِ، فَعَادَ الْإِمَامُ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ الْعَوْدُ، بَلْ يَنْوِي مُفَارَقَتَهُ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِرَهُ قَائِمًا حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ عَادَ نَاسِيًا؟ وَجْهَانِ سَبَقَ مِثْلُهُمَا فِي التَّنَحْنُحِ. قُلْتُ: فَإِنْ عَادَ الْمَأْمُومُ مَعَ الْإِمَامِ، عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ عَادَ نَاسِيًا، أَوْ جَاهِلًا، لَمْ تَبْطُلْ. وَلَوْ قَعَدَ الْمَأْمُومُ، فَانْتَصَبَ الْإِمَامُ ثُمَّ عَادَ، لَزِمَ الْمَأْمُومَ الْقِيَامُ، لِأَنَّهُ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ بِانْتِصَابِ الْإِمَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَعَدَ الْإِمَامُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَقَامَ الْمَأْمُومُ نَاسِيًا، أَوْ نَهَضَا، فَتَذَكَّرَ الْإِمَامُ، فَعَادَ قَبْلَ الِانْتِصَابِ وَانْتَصَبَ الْمَأْمُومُ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ الْعَوْدُ إِلَى التَّشَهُّدِ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ. فَإِنْ لَمْ يَعُدْ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَمُتَابِعُوهُ، وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) . وَالثَّانِي: يَحْرُمُ الْعَوْدُ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ، وَلَا يَجِبُ. وَلَوْ قَامَ الْمَأْمُومُ قَاصِدًا، فَقَدْ قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: بِأَنَّهُ يَحْرُمُ الْعَوْدُ. كَمَا لَوْ رَكَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ، أَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَهُ عَمْدًا، يَحْرُمُ الْعَوْدُ. فَإِنْ عَادَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ زَادَ رُكْنًا عَمْدًا. فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا، بِأَنْ سَمِعَ صَوْتًا، فَظَنَّ أَنَّ الْإِمَامَ رَكَعَ، فَرَكَعَ، فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَعْ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي جَوَازِ الرُّكُوعِ وَجْهَانِ. وَقَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَآخَرُونَ: فِي وُجُوبِ الرُّجُوعِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجِبُ. فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، بَلْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ. وَلِلنِّزَاعِ فِي صُورَةِ قَصْدِ الْقِيَامِ، مَجَالٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ أَصْحَابَنَا الْعِرَاقِيِّينَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَكَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ عَمْدًا، اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْقِيَامِ لِيَرْكَعَ مَعَ الْإِمَامِ، فَجَعَلُوهُ مُسْتَحَبًّا.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَتَذَكَّرَ قَبْلَ الِانْتِصَابِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَرْجِعُ إِلَى التَّشَهُّدِ. وَالْمُرَادُ بِالِانْتِصَابِ، الِاعْتِدَالُ وَالِاسْتِوَاءُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي وَجْهٍ: الْمُرَادُ بِهِ: أَنْ يَصِيرَ إِلَى حَالٍ هِيَ أَرْفَعُ مِنْ حَدِّ أَقَلِّ الرُّكُوعِ. ثُمَّ إِذَا عَادَ قَبْلَ الِانْتِصَابِ، هَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَسْجُدُ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ، مِنْهُمُ الْقَفَّالُ: إِنْ صَارَ إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الْقُعُودِ، ثُمَّ عَادَ، سَجَدَ. وَإِنْ كَانَ إِلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ، أَوْ كَانَتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ، لَمْ يَسْجُدْ، لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ إِلَى الْقِيَامِ أَقَرِبَ فَقَدْ أَتَى بِفِعْلٍ يُغَيِّرُ نَظْمَ الصَّلَاةِ، (وَ) لَوْ تَعَمَّدَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَبْطَلَ الصَّلَاةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَآخَرُونَ: إِنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدِّ الرَّاكِعِينَ لَمْ يَسْجُدْ. وَإِنْ عَادَ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ سَجَدَ. وَالْمُرَادُ بِحَدِّ الرُّكُوعِ أَكْمَلُهُ لَا أَقَلُّهُ. بَلْ لَوْ قَرُبَ فِي ارْتِفَاعِهِ مِنْ حَدِّ أَكْمَلِ الرُّكُوعِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ، فَهُوَ فِي حَدِّ الرَّاكِعِينَ، صَرَّحَ بِهِ فِي (النِّهَايَةِ) . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ، مَعَ عِبَارَةِ الْقَفَّالِ وَرُفْقَتِهِ مُتَقَارِبَتَانِ، وَالْأُولَى أَوْفَى بِالْغَرَضِ، وَهِيَ أَظْهَرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلَيْنِ، وَبِهَا قَطَعَ فِي (التَّهْذِيبِ) وَهِيَ كَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَحَمْلِهِمَا عَلَى الْحَالَيْنِ. ثُمَّ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَالَتَيْنِ هُوَ فِيمَا إِذَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، وَنَهَضَ نَاسِيًا. فَأَمَّا إِذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الِانْتِصَابِ وَالِاعْتِدَالِ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ مَا صَارَ إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ لَمْ تَبْطُلْ. وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا، فَافْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ فَرَغَ مِنَ التَّشَهُّدِ، وَجَاءَ وَقْتُ الثَّالِثَةِ، لَمْ يَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الْقِرَاءَةِ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَشَهَّدْ، فَلَهُ الْعَوْدُ إِلَى قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ. وَتَرْكُ الْقُنُوتِ يُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِذَا نَسِيَهُ، ثُمَّ تَذَكَّرَ بَعْدَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَجُزِ الْعَوْدُ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَلَهُ الْعَوْدُ. ثُمَّ إِنْ عَادَ بَعْدَ بُلُوغِهِ حَدَّ الرَّاكِعِينَ، سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَلَا.

فَرْعٌ إِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ عَنْ قِيَامٍ ظَانًّا أَنَّهُ أَتَى بِالسَّجْدَتَيْنِ، فَتَشَهَّدَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَالَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، لَزِمَهُ تَدَارُكُ السَّجْدَتَيْنِ، ثُمَّ إِعَادَةُ التَّشَهُّدِ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِالرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، بَلْ لَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ، أَوْ ثُلَاثِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ يَتَدَارَكُ السَّجْدَتَيْنِ، وَيُعِيدُ التَّشَهُّدَ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي مَوْضِعِهِ، إِلَّا أَنَّ إِعَادَةَ التَّشَهُّدِ هُنَا سُنَّةٌ. وَلَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي رَكْعَةٍ لَا يَعْقُبُهَا تَشَهُّدٌ، فَإِذَا تَذَكَّرَ، تَدَارَكَ السَّجْدَتَيْنِ وَقَامَ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. أَمَّا إِذَا جَلَسَ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، أَوِ الثَّالِثَةِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ، وَقَرَأَ التَّشَهُّدَ أَوْ بَعْضَهُ ثُمَّ تَذَكَّرَ، فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، لِأَنَّهُ زَادَ قُعُودًا طَوِيلًا. فَلَوْ لَمْ يُطِلْ لَمْ يَسْجُدْ. وَالتَّطْوِيلُ: أَنْ يَزِيدَ عَلَى جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ. أَمَّا إِذَا تَرَكَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ وَتَشَهَّدَ، ثُمَّ تَذَكَّرَ، فَيَتَدَارَكُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ، وَيُعِيدُ التَّشَهُّدَ. وَهَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: السُّجُودُ. وَلَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ، لَكِنْ طَوَّلَ الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ - سَجَدَ لِلسَّهْوِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. أَمَّا إِذَا جَلَسَ عَنْ قِيَامٍ وَلَمْ يَتَشَهَّدْ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَيَشْتَغِلُ بِالسَّجْدَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُمَا عَلَى تَرْتِيبِ صَلَاتِهِ. ثُمَّ إِنْ طَالَ جُلُوسُهُ، سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَإِنْ لَمْ يَطُلْ، بَلْ كَانَ فِي حَدِّ جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ لَمْ يَسْجُدْ، لِأَنَّ تَعَمُّدَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، بِخِلَافِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْقِيَامِ. فَرْعٌ إِذَا قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ فِي رُبَاعِيَّةٍ نَاسِيًا، ثُمَّ تَذَكَّرَ قَبْلَ السَّلَامِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجُلُوسِ، وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ، وَيُسَلِّمَ، سَوَاءً تَذَكَّرَ فِي قِيَامِ الْخَامِسَةِ، أَوْ

فصل في قاعدة متكررة في أبواب الفقه

رُكُوعِهَا، أَوْ سُجُودِهَا. وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ الْجُلُوسِ فِيهَا، سَجَدَ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ سَلَّمَ. وَأَمَّا التَّشَهُّدُ، فَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ الْجُلُوسِ، وَالتَّشَهُّدِ فِي الْخَامِسَةِ، لَمْ يُعِدْهُ، وَإِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ التَّشَهُّدِ فِي الْخَامِسَةِ، وَلَمْ يَكُنْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ، كَفَاهُ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. هَذَا إِنْ تَشَهَّدَ بِنِيَّةِ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَإِنْ كَانَ بِنِيَّةِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا كَانَ بِنِيَّةِ الْأَخِيرِ يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَتِهِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي تَأَدِّي الْفَرْضِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَتِهِ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ، أَوِ الْأَكْثَرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَرَكَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ فِي السُّجُودِ، فَهَلْ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى الْقِيَامِ لِيَرْكَعَ مِنْهُ، أَمْ يَكْفِيَهُ أَنْ يَقُومَ رَاكِعًا؟ وَجْهَانِ لِابْنِ سُرَيْجٍ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي قَاعِدَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَهِيَ أَنَّا إِذَا تَيَقَّنَا وُجُودَ شَيْءٍ أَوْ عَدَمَهُ، ثُمَّ شَكَّكْنَا فِي تَغَيُّرِهِ وَزَوَالِهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، فَإِنَّا نَسْتَصْحِبُ الْيَقِينَ الَّذِي كَانَ، وَنَطْرَحُ الشَّكَّ، فَإِذَا شَكَّ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ يَنْجَبِرُ تَرْكُهُ بِالسُّجُودِ، وَهُوَ الْأَبْعَاضُ، فَالْأَصْلُ، أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : هَذَا إِذَا كَانَ الشَّكُّ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ مُعَيَّنٍ، فَأَمَّا إِذَا شَكَّ، هَلْ تَرَكَ مَأْمُورًا، أَمْ لَا؟ فَلَا يَسْجُدُ كَمَا لَوْ شَكَّ: هَلْ سَهَا، أَمْ لَا؟

وَلَوْ شَكَّ فِي ارْتِكَابِ مَنْهِيٍّ، كَالسَّلَامِ وَالْكَلَامِ نَاسِيًا، فَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَلَا سُجُودَ. وَلَوْ تَيَقَّنَ السَّهْوَ، وَشَكَّ هَلْ سَجَدَ لَهُ، أَمْ لَا؟ فَلْيَسْجُدْ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ السُّجُودِ. وَلَوْ شَكَّ هَلْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ سَجْدَةً، أَمْ سَجْدَتَيْنِ؟ سَجَدَ أُخْرَى. قُلْتُ: وَلَوْ تَيَقَّنَ السَّهْوَ، وَشَكَّ هَلْ هُوَ تَرْكُ مَأْمُورٍ، أَوِ ارْتِكَابُ مَنْهِيٍّ - سَجَدَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا، أَمْ أَرْبَعًا، أَخَذَ بِالْأَقَلِّ، وَأَتَى بِالْبَاقِي، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَلَا يَنْفَعُهُ الظَّنُّ، وَلَا أَثَرَ لِلِاجْتِهَادِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ فِيهِ بِقَوْلِ غَيْرِهِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: أَنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ جَمْعٍ كَثِيرٍ كَانُوا يَرْقُبُونَ صَلَاتَهُ. وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ إِذَا قَامَ إِلَى رَكْعَةٍ ظَنَّهَا رَابِعَةً، وَعِنْدَ الْقَوْمِ أَنَّهَا خَامِسَةٌ، فَنَبَّهُوهُ، لَا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يَرْجِعُ إِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ السُّجُودِ، إِذَا شَكَّ: هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا، أَمْ أَرْبَعًا؟ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَطَائِفَةٌ: الْمُعْتَمَدُ فِيهِ الْخَبَرُ، وَلَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ. وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ. وَقَالَ الْقَفَّالُ، وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَآخَرُونَ: سَبَبُهُ: التَّرَدُّدُ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا، هَلْ هِيَ رَابِعَةٌ، أَمْ زَائِدَةٌ تُوجِبُ السُّجُودَ، وَهَذَا التَّرَدُّدُ يَقْتَضِي الْجَبْرَ بِالسُّجُودِ. قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ زَالَ التَّرَدُّدُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَعَرَفَ أَنَّ الَّتِي يَأْتِي بِهَا رَابِعَةٌ، لَمْ يَسْجُدْ عَلَى الْأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَسْجُدُ. وَضَبَطَ أَصْحَابُ هَذَا الْوَجْهِ صُورَةَ الشَّكِّ وَزَوَالِهِ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَا فَعَلَهُ مِنْ وَقْتِ عُرُوضِ الشَّكِّ إِلَى زَوَالِهِ، مَا لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ، فَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. فَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ سَجَدَ. مِثَالُهُ: شَكَّ فِي قِيَامِهِ فِي الظُّهْرِ أَنَّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ ثَالِثَةٌ، أَمْ رَابِعَةٌ؟ فَرَكَعَ وَسَجَدَ عَلَى هَذَا الشَّكِّ، وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْقِيَامِ إِلَى رَكْعَةٍ أُخْرَى أَخْذًا بِالْيَقِينِ، ثُمَّ

تَذَكَّرَ قَبْلَ الْقِيَامِ أَنَّهَا ثَالِثَةٌ، أَوْ رَابِعَةٌ، فَلَا يَسْجُدُ، لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ عَلَى الشَّكِّ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ حَتَّى قَامَ، سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الَّتِي قَامَ إِلَيْهَا رَابِعَةٌ، لِأَنَّ احْتِمَالَ الزِّيَادَةِ وَكَوْنَهَا خَامِسَةً كَانَ ثَابِتًا حِينَ قَامَ. قُلْتُ: وَلَوْ شَكَّ الْمَسْبُوقُ، هَلْ أَدْرَكَ رُكُوعَ الْإِمَامِ، أَمْ لَا؟ فَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا تُحْسَبُ لَهُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي (الْفَتَاوَى) : فَعَلَى هَذَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، كَمَا لَوْ شَكَّ، هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا، أَمْ أَرْبَعًا؟ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ ظَاهِرٌ. وَلَا يُقَالُ: يَتَحَمَّلُهُ عَنْهُ الْإِمَامُ، لِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ شَاكٌّ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا شَكَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، أَوْ فِي فِعْلِ رُكْنٍ، فَالْأَصْلُ: أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، فَيَجِبُ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ وَقَعَ هَذَا الشَّكُّ بَعْدَ السَّلَامِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا أَثَرَ لِهَذَا الشَّكِّ. وَقِيلَ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: هَذَا. وَالثَّانِي: يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ. فَإِنْ كَانَ الْفَصْلُ قَرِيبًا بَنَى. وَإِنْ طَالَ اسْتَأْنَفَ. وَالثَّالِثُ: إِنْ قَرُبَ الْفَصْلُ، وَجَبَ الْبِنَاءُ. وَإِنْ طَالَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا ضَبْطُ طُولِ الْفَصْلِ، فَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا وَفِيمَا إِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا، وَذَكَرَهُ بَعْدَ السَّلَامِ. وَفِي قَدْرِهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا، نَصَّهُ فِي (الْأُمِّ) : يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ. وَالثَّانِي، نَصَّهُ فِي (الْبُوَيْطِيِّ) : أَنَّ الطَّوِيلَ مَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ رَكْعَةٍ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الطَّوِيلَ: قَدْرُ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا. ثُمَّ إِذَا جَوَّزْنَا الْبِنَاءَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَعْدَ السَّلَامِ، أَوْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَيَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ. وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّ الْقَدْرَ الْمَنْقُولَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي

فصل

الْفَصْلِ مُحْتَمَلٌ. فَإِنْ زَادَ، فَلَا. وَالْمَنْقُولُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ وَمَضَى إِلَى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، وَرَاجَعَ ذَا الْيَدَيْنِ، وَسَأَلَ الْجَمَاعَةَ، فَأَجَابُوا. فَصْلٌ لَا يَتَكَرَّرُ السُّجُودُ بِتَكَرُّرِ السَّهْوِ، بَلْ يَكْفِي سَجْدَتَانِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، سَوَاءً تَكَرَّرَ نَوْعٌ، أَوْ أَنْوَاعٌ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: لَا تَتَعَدَّدُ حَقِيقَةُ السُّجُودِ. وَقَدْ تَتَعَدَّدُ صُورَتُهُ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: الْمَسْبُوقُ إِذَا سَجَدَ مَعَ الْإِمَامِ، يُعِيدُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَمِنْهَا: لَوْ سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ بَانَ قَبْلَ السَّلَامِ خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ، فَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُمْ يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا، وَيُعِيدُونَ سُجُودَ السَّهْوِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا: لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ سَهَا فِي صَلَاتِهِ، فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ بَانَ قَبْلَ السَّلَامِ أَنَّهُ لَمْ يَسْهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثَانِيًا، لِأَنَّهُ زَادَ سَجْدَتَيْنِ سَهْوًا. وَالثَّانِي: لَا يَسْجُدُ، وَيَكُونُ السُّجُودُ جَابِرًا لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ. وَمِنْهَا: لَوْ سَهَا الْمُسَافِرُ فِي الصَّلَاةِ الْمَقْصُورَةِ، فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ، أَوْ صَارَ مُقِيمًا بِانْتِهَاءِ السَّفِينَةِ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ، وَجَبَ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَيُعِيدُ السُّجُودَ قَطْعًا. وَمِنْهَا: لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ سَهَا قَبْلَ السَّلَامِ بِكَلَامٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فَفِي وَجْهٍ: يُعِيدُ السُّجُودَ. وَالْأَصَحُّ: لَا يُعِيدُهُ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ، أَوْ سَلَّمَ نَاسِيًا بَيْنَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، أَوْ فِيهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يُعِيدُهُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي الْمُعَادِ فَيَتَسَلْسَلُ. وَلَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ ثَلَاثًا، لَمْ يَسْجُدْ لِهَذَا السَّهْوِ. وَكَذَا لَوْ شَكَّ، هَلْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ سَجْدَةً، أَمْ سَجْدَتَيْنِ، فَأَخَذَ بِالْأَقَلِّ، وَسَجَدَ أُخْرَى، ثُمَّ تَحَقَّقَ أَنَّهُ كَانَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، لَمْ يُعِدِ السُّجُودَ.

فصل

وَمِنْهَا: لَوْ ظَنَّ سَهْوَهُ بِتَرْكِ الْقُنُوتِ مَثَلًا، فَسَجَدَ لَهُ، فَبَانَ قَبْلَ السَّلَامِ أَنَّ سَهْوَهُ بِغَيْرِهِ، أَعَادَ السُّجُودَ عَلَى وَجْهٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُجْبَرْ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَبْرِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يُعِيدُهُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ جَبْرَ الْخَلَلِ. قُلْتُ: وَلَوْ شَكَّ، هَلْ سَهَا، أَمْ لَا؟ فَجَهِلَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، أُمِرَ بِالسُّجُودِ ثَانِيًا لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا سَهَا الْمَأْمُومُ خَلْفَ الْإِمَامِ، لَمْ يَسْجُدْ، وَيَتَحَمَّلُ الْإِمَامُ سَهْوَهُ. وَلَوْ سَهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ لَمْ يَتَحَمَّلْ، لِانْقِطَاعِ الْقُدْوَةِ، وَكَذَا الْمَأْمُومُ الْمُوَافِقُ، إِذَا تَكَلَّمَ سَاهِيًا عَقِبَ سَلَامِ الْإِمَامِ. وَكَذَا الْمُنْفَرِدُ إِذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي جَمَاعَةٍ، وَجَوَّزْنَا ذَلِكَ، فَلَا يَتَحَمَّلُ الْإِمَامُ سَهْوَهُ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا ظَنَّ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ سَلَّمَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ، فَسَلَّمَ مَعَهُ، فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَهَا فِي حَالِ الْقُدْوَةِ. وَلَوْ تَيَقَّنَ فِي التَّشَهُّدِ أَنَّهُ تَرَكَ الرُّكُوعَ أَوِ الْفَاتِحَةَ مِنْ رَكْعَةٍ نَاسِيًا، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، لِأَنَّهُ سَهَا فِي حَالِ الِاقْتِدَاءِ. وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ، فَسَلَّمَ الْمَسْبُوقُ سَهْوًا، ثُمَّ تَذَكَّرَ، بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَسَجَدَ، لِأَنَّ سَهْوَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْقُدْوَةِ. وَلَوْ ظَنَّ الْمَسْبُوقُ أَنَّ الْإِمَامَ سَلَّمَ، بِأَنْ سَمِعَ صَوْتًا ظَنَّهُ سَلَامَهُ، فَقَامَ لِيَتَدَارَكَ مَا عَلَيْهِ، وَكَانَ مَا عَلَيْهِ رَكْعَةً مَثَلًا، فَأَتَى بِهَا وَجَلَسَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُسَلِّمْ بَعْدَ تَبَيُّنِ أَنَّ ظَنَّهُ كَانَ خَطَأً، فَهَذِهِ الرَّكْعَةُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا. لِأَنَّهَا مَفْعُولَةٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَإِنَّ وَقْتَ التَّدَارُكِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْقُدْوَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، قَامَ إِلَى التَّدَارُكِ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْقُدْوَةِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَسَلَّمَ الْإِمَامُ وَهُوَ قَائِمٌ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِي صَلَاتِهِ، أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقُعُودِ، ثُمَّ يَقُومَ؟ وَجْهَانِ.

فصل

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ جَوَّزْنَا الْمُضِيَّ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْقِرَاءَةِ. فَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ فِي قِيَامِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى أَتَمَّ الرَّكْعَةَ. إِنْ جَوَّزْنَا الْمُضِيَّ، فَرَكْعَتُهُ مَحْسُوبَةٌ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ الْقُعُودُ، لَمْ يُحْسَبْ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِلزِّيَادَةِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَعَلِمَ فِي الْقِيَامِ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُسَلِّمْ بَعْدُ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ رَجَعَ، فَهُوَ الْوَجْهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَادَى وَيَنْوِيَ الِانْفِرَادَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي قَطْعِ الْقُدْوَةِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الرُّجُوعُ. لِأَنَّ نُهُوضَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، فَيَرْجِعُ، ثُمَّ يَقْطَعُ الْقُدْوَةَ إِنْ شَاءَ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ، لِأَنَّ النُّهُوضَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْقِيَامُ فَمَا بَعْدَهُ. هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ. فَلَوْ لَمْ يُرِدْ قَطْعَ الْقُدْوَةِ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ: وُجُوبُ الرُّجُوعِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ رَجَعَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ قَائِمًا سَلَامَ الْإِمَامِ. وَجَوَازُ الِانْتِظَارِ قَائِمًا مُشْكِلٌ، لِلْمُخَالَفَةِ الظَّاهِرَةِ. فَإِنْ كَانَ قَرَأَ قَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَالِ، لَمْ يَعْتَدَّ بِقِرَاءَتِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، بَلْ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: وُجُوبُ الرُّجُوعِ فِي الْحَالَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ، لَحِقَ سَهْوُهُ الْمَأْمُومَ وَيُسْتَثْنَى صُورَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: إِذَا بَانَ الْإِمَامُ مُحْدِثًا، فَلَا يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنِ الْمَأْمُومِ أَيْضًا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ سَبَبَ سُجُودِ الْإِمَامِ، وَيَتَيَقَّنَ غَلَطَهُ فِي ظَنِّهِ، كَمَا إِذَا ظَنَّ الْإِمَامُ تَرْكَ بَعْضِ الْأَبْعَاضِ، وَالْمَأْمُومُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ، فَلَا يُوَافِقُهُ إِذَا سَجَدَ. ثُمَّ إِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ

فِي غَيْرِ الصُّورَتَيْنِ، لَزِمَ الْمَأْمُومُ مُوَافَقَتَهُ فِيهِ. فَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَسَوَاءً عَرَفَ الْمَأْمُومُ سَهْوَ الْإِمَامِ، أَمْ لَمْ يَعْرِفْهُ. فَمَتَى سَجَدَ الْإِمَامُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ سَجْدَتَيْنِ، وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ، حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ سَهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَامَ وَأَتَى بِرَكْعَةٍ خَامِسَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ، حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ رَكْعَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ الْحَالَ هُنَاكَ لَمْ يَجُزْ مُتَابَعَتُهُ، لَأَنَّ الْمَأْمُومَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ يَقِينًا. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ، أَوْ شَاكًّا فِي تَرْكِ رُكْنٍ كَالْفَاتِحَةِ، فَقَامَ الْإِمَامُ إِلَى الْخَامِسَةِ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ فِيهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ إِلَّا سَجْدَةً، سَجَدَ الْمَأْمُومُ أُخْرَى، حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ نَسِيَ. وَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ السُّجُودَ لِسَهْوِهِ، سَجَدَ الْمَأْمُومُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَخَرَجَ قَوْلٌ: أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ. وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى السُّجُودِ، نَظَرَ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمَأْمُومُ مَعَهُ نَاسِيًا، وَافَقَهُ فِي السُّجُودِ. فَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ، فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ سَلَّمَ نَاسِيًا لِلسُّجُودِ فَعَادَ إِلَيْهِ: هَلْ يَعُودُ إِلَى حُكْمِ الصَّلَاةِ؟ وَإِنْ سَلَّمَ الْمَأْمُومُ عَمْدًا مَعَ عِلْمِهِ بِالسَّهْوِ، لَمْ يَلْزَمْهُ مُتَابَعَتُهُ. وَلَوْ لَمْ يُسَلِّمِ الْمَأْمُومُ، فَعَادَ الْإِمَامُ لِيَسْجُدَ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ أَنْ سَجَدَ الْمَأْمُومُ لِلسَّهْوِ، لَمْ يُتَابِعْهُ، لِأَنَّهُ قَطَعَ صَلَاتَهُ عَنْ صَلَاتِهِ بِالسُّجُودِ. وَإِنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ الْمَأْمُومُ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُتَابَعَتُهُ، بَلْ يَسْجُدُ مُنْفَرِدًا. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ مُتَابَعَتُهُ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ سَبَقَ الْإِمَامَ حَدَثٌ بَعْدَمَا سَهَا، أَتَمَّ الْمَأْمُومُ صَلَاتَهُ، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ. تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. قُلْتُ: وَلَوْ سَهَا الْمَأْمُومُ، ثُمَّ سَبَقَ الْإِمَامَ حَدَثٌ، لَمْ يَسْجُدِ الْمَأْمُومُ، لِأَنَّ الْإِمَامَ حَمَلَهُ. وَإِنْ قَامَ الْإِمَامُ إِلَى خَامِسَةٍ سَاهِيًا، فَنَوَى الْمَأْمُومُ مُفَارَقَتَهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْإِمَامِ فِي ارْتِفَاعِهِ حَدَّ الرَّاكِعِينَ، سَجَدَ الْمَأْمُومُ لِلسَّهْوِ. وَإِنْ نَوَاهَا قَبْلَهُ، فَلَا سُجُودَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ حَنَفِيًّا، وَجَوَّزْنَا الِاقْتِدَاءَ بِهِ، فَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ، لَمْ يُسَلِّمْ مَعَهُ الْمَأْمُومُ، بَلْ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَا يَنْتَظِرُ سُجُودَ الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ فَارَقَهُ بِسَلَامِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ مَسْبُوقًا، وَسَهَا الْإِمَامُ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ، وَسَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، لَزِمَ الْمَسْبُوقَ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ الْمَعْرُوفِ. وَعَلَى الشَّاذِّ: لَا يَسْجُدُ. فَعَلَى الصَّحِيحِ: إِذَا سَجَدَ مَعَهُ، يُعِيدُ السُّجُودَ فِي آخِرِ صَلَاةِ نَفْسِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. فَإِنْ لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ، لَمْ يَسْجُدِ الْمَسْبُوقُ فِي آخِرِ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَهَلْ يَسْجُدُ فِي آخِرِ صَلَاةِ نَفْسِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْمَأْمُومِ الْمُوَافِقِ، إِذَا لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ: هَلْ يَسْجُدُ؟ أَمَّا إِذَا سَهَا الْإِمَامُ قَبْلَ اقْتِدَاءِ الْمَسْبُوقِ، فَهَلْ يَلْحَقُ الْمَسْبُوقَ حُكْمُ سَهْوِهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا. فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ، لَمْ يَسْجُدْ هُوَ أَصْلًا. وَإِنْ سَجَدَ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ مَعَهُ. وَالثَّانِي: يَسْجُدُ مَعَهُ، لَكِنْ لَا يُعِيدُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ: يَلْحَقُهُ حُكْمُ سَهْوِهِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ، سَجَدَ مَعَهُ. وَهَلْ يُعِيدُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَإِنْ لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ، سَجَدَ هُوَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَإِذَا قُلْنَا: الْمَسْبُوقُ يُعِيدُ السُّجُودَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، فَاقْتَدَى بِهِ بَعْدَ انْفِرَادِهِ مَسْبُوقٌ آخَرُ، وَبِالْآخَرِ آخَرُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْجُدُ لِمُتَابَعَتِهِ إِمَامَهُ، ثُمَّ يَسْجُدُ فِي آخِرِ صَلَاةِ نَفْسِهِ. وَلَوْ سَهَا الْمَسْبُوقُ فِي تَدَارُكِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ فِي آخِرِ صَلَاةِ نَفْسِهِ، سَجَدَ لِسَهْوِهِ سَجْدَتَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ فِي آخِرِهَا، فَكَمْ يَسْجُدُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: سَجْدَتَانِ. وَالثَّانِي: أَرْبَعٌ. وَلَوِ انْفَرَدَ الْمُصَلِّي بِرَكْعَةٍ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ، وَسَهَا فِيهَا، ثُمَّ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ، وَجَوَّزْنَا الِاقْتِدَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَسَهَا إِمَامُهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الرَّابِعَةِ، وَسَهَا فِيهَا، فَكَمْ يَسْجُدُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. الْأَصَحُّ. سَجْدَتَانِ. وَالثَّانِي: أَرْبَعٌ. وَالثَّالِثُ: سِتٌّ. فَإِنْ كَانَ سَجَدَ الْإِمَامُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهُ، فَيَكُونُ قَدْ أَتَى فِي صَلَاتِهِ بِثَمَانِ سَجَدَاتٍ لِلسَّهْوِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ. وَكَذَا

فصل في كيفية سجود السهو ومحله

الْمَسْبُوقُ إِذَا اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ، وَسَهَا الْإِمَامُ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمَسْبُوقُ، ثُمَّ صَارَ الْإِمَامُ مُتِمًّا قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَأَتَمَّ، وَأَعَادَ سُجُودَ السَّهْوِ، وَأَعَادَ مَعَهُ الْمَسْبُوقُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الرَّابِعَةِ، وَسَهَا فِيهَا، وَقُلْنَا: يَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، فَقَدْ أَتَى بِثَمَانِي سَجَدَاتٍ. فَإِنْ سَهَا بَعْدَهَا بِكَلَامٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَفَرَّعْنَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا سَهَا بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ، يَسْجُدُ، صَارَتِ السَّجَدَاتُ عَشْرًا. وَقَدْ يَزِيدُ عَدَدُ السُّجُودِ عَلَى هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى الْوُجُوهِ الضَّعِيفَةِ. قُلْتُ: إِذَا قُلْنَا: يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ، فَهَلْ هُمَا عَنْ سَهْوِهِ فِي انْفِرَادِهِ وَسَهْوِ إِمَامِهِ أَمْ عَنْ سَهْوِ إِمَامِهِ فَقَطْ، أَمْ عَنْ سَهْوِهِ فَقَطْ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا صَاحِبُ (الْبَيَانِ) . الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: الْأَوَّلُ، فَإِنْ قُلْنَا: عَنْ أَحَدِهِمَا فَقَطْ، فَنَوَى الْآخَرُ عَالِمًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: عَنْهُمَا، فَنَوَى أَحَدُهُمَا، لَمْ تَبْطُلْ، لَكِنَّهُ تَارِكٌ لِسُجُودِ الْأَخِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ سُجُودِ السَّهْوِ وَمَحَلِّهِ أَمَّا كَيْفِيَّتُهُ، فَهُوَ سَجْدَتَانِ بَيْنَهُمَا جَلْسَةٌ، يُسَنُّ فِي هَيْئَتِهَا الِافْتِرَاشُ، وَبَعْدَهُمَا إِلَى أَنْ يُسَلِّمَ، يَتَوَرَّكُ. وَكَتَبَ الْأَصْحَابُ سَاكِتَةً عَنِ الذِّكْرِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمَحْبُوبَ فِيهَا، هُوَ الْمَحْبُوبُ فِي سَجَدَاتِ صُلْبِ الصَّلَاةِ، كَسَائِرِ مَا سَكَتُوا عَنْهُ مِنْ وَاجِبَاتِ السُّجُودِ وَمَحْبُوبَاتِهِ. وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ يَحْكِي: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِيهِمَا: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَنَامُ وَلَا يَسْهُو. وَهَذَا لَائِقٌ بِالْحَالِ. وَفِي مَحَلِّهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَظْهَرُهَا: قَبْلَ السَّلَامِ. وَالثَّانِي: إِنْ سَهَا بِزِيَادَةٍ، سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، وَإِنْ سَهَا بِنَقْصٍ، سَجَدَ قَبْلَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ، إِنْ شَاءَ قَبْلَهُ، وَإِنْ شَاءَ بَعْدَهُ.

وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْجَدِيدُ. وَالْآخَرَانِ: قَدِيمَانِ. ثُمَّ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْإِجْزَاءِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي الْأَفْضَلِ. ثُمَّ إِذَا قُلْنَا: قَبْلَ السَّلَامِ، فَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، نَظَرَ فَإِنْ سَلَّمَ عَامِدًا، فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: أَنَّهُ فَوَّتَ السُّجُودَ. وَالثَّانِي: إِنْ قَصُرَ الْفَصْلُ سَجَدَ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا سَجَدَ، فَلَا يَكُونُ عَائِدًا إِلَى الصَّلَاةِ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَلَّمَ نَاسِيًا وَسَجَدَ، فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا، وَإِنْ سَلَّمَ نَاسِيًا وَطَالَ الزَّمَانُ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: لَا يَسْجُدُ. وَالْقَدِيمُ: يَسْجُدُ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ، وَتَذَكَّرَ عَلَى قُرْبٍ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ لَا يَسْجُدَ، فَذَاكَ، وَالصَّلَاةُ مَاضِيَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَحَصَلَ التَّحَلُّلُ بِالسَّلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يُسَلِّمُ مَرَّةً أُخْرَى. وَذَلِكَ السَّلَامُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَسْجُدُ. وَالثَّانِي: لَا يَسْجُدُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ هُنَا، أَوْ بِالْقَدِيمِ عِنْدَ طُولِ الْفَصْلِ، فَسَجَدَ، فَهَلْ يَكُونُ عَائِدًا إِلَى حُكْمِ الصَّلَاةِ؟ وَجْهَانِ. أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ (التَّهْذِيبِ) : لَا يَكُونُ عَائِدًا. وَأَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يَكُونُ عَائِدًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ، وَصَحَّحَهُ الْقَفَّالُ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ فِي (الْفَتَاوَى) وَالرُّويَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَسَائِلُ. مِنْهَا: لَوْ تَكَلَّمَ عَامِدًا، أَوْ أَحْدَثَ فِي السُّجُودِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَلَا تَبْطُلُ عَلَى الْأَوَّلِ. وَمِنْهَا: لَوْ كَانَ السَّهْوُ فِي صَلَاةِ جُمُعَةٍ، وَخَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِي السُّجُودِ، فَاتَتِ الْجُمُعَةُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَمِنْهَا: لَوْ كَانَ مُسَافِرًا يَقْصُرُ وَنَوَى الْإِتْمَامَ فِي السُّجُودِ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، دُونَ الْأَوَّلِ. وَمِنْهَا: هَلْ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ؟ وَهَلْ يَتَشَهَّدُ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي: لَمْ يُكَبِّرْ، وَلَمْ يَتَشَهَّدْ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، كَبَّرَ، وَفِي التَّشَهُّدِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَتَشَهَّدُ. وَقَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ، سَوَاءً قُلْنَا بِتَشَهُّدٍ، أَمْ لَا. وَأَمَّا حَدُّ طُولِ الْفَصْلِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِيمَنْ تَرَكَ رُكْنًا نَاسِيًا ثُمَّ

تَذَكَّرَ بَعْدَ السَّلَامِ أَوْ شَكَّ فِيهِ. وَالْأَصَحُّ: الرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ. وَحَاوَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ضَبْطَ الْعُرْفِ، فَقَالَ: إِذَا مَضَى زَمَنٌ يَغْلُبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ أَضْرَبَ عَنِ السُّجُودِ قَصْدًا، أَوْ نِسْيَانًا، فَهَذَا طَوِيلٌ، وَإِلَّا فَقَصِيرٌ. قَالَ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يُفَارِقِ الْمَجْلِسَ، فَإِنْ فَارَقَ ثُمَّ تَذَكَّرَ عَلَى قُرْبِ الزَّمَانِ فَفِيهِ احْتِمَالٌ عِنْدِي لِأَنَّ الزَّمَانَ قَرِيبٌ لَكِنَّ مُفَارَقَتَهُ الْمَجْلِسَ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ الْإِضْرَابَ عَنِ السُّجُودِ قَالَ: وَلَوْ سَلَّمَ وَأَحْدَثَ ثُمَّ انْغَمَسَ فِي مَاءٍ عَلَى قُرْبِ الزَّمَانِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدَثَ فَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَطُلِ الزَّمَانُ، وَقَدْ نُقِلَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْفَصْلِ بِالْمَجْلِسِ. فَإِنْ لَمْ يُفَارِقْهُ، سَجَدَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ. وَإِنْ فَارَقَهُ، لَمْ يَسْجُدْ وَإِنْ قَرُبَ الزَّمَانُ. لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ شَاذٌّ. وَالَّذِي اعْتَمَدَهُ الْأَصْحَابُ، الْعُرْفُ. قَالُوا: وَلَا تَضُرُّ مُفَارَقَةُ الْمَجْلِسِ، وَاسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِنَا: سُجُودُ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: بَعْدَهُ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ عَلَى قُرْبٍ، فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ، عَادَ الْخِلَافُ. وَإِذَا سَجَدَ، فَلَا يُحْكَمُ بِالْعَوْدِ إِلَى الصَّلَاةِ بِلَا خِلَافٍ. هَلْ يَتَحَرَّمُ لِلسَّجْدَتَيْنِ، وَيَتَشَهَّدُ، وَيُسَلِّمُ؟ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: حُكْمُهُ حُكْمُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ. ثُمَّ إِذَا رَأَيْنَا التَّشَهُّدَ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ. وَالثَّانِي: يَتَشَهَّدُ قَبْلَهُمَا، لِيَلِيَهُمَا السَّلَامُ. قُلْتُ: هَذِهِ مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ مِنَ الْبَابِ. مِنْهَا أَنَّ السَّهْوَ فِي الصَّلَاةِ النَّفْلُ، كَالْفَرْضِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: طَرِيقَانِ. الْجَدِيدُ كَذَلِكَ، وَفِي الْقَدِيمِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: لَا يَسْجُدُ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَاحِبَا (الشَّامِلِ) وَ (الْمُهَذَّبِ) . وَلَوْ سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ وَأَحْرَمَ بِأُخْرَى، ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا مِنَ الْأُولَى، لَمْ تَنْعَقِدِ الثَّانِيَةُ. وَأَمَّا الْأُولَى، فَإِنْ قَصُرَ الْفَصْلُ بُنِيَ عَلَيْهَا. وَإِنْ طَالَ، وَجَبَ اسْتِئْنَافُهَا. وَلَوْ جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، وَشَكَّ: هَلْ هُوَ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ،

أَمِ الثَّانِي، فَتَشَهَّدَ شَاكًّا، ثُمَّ قَامَ، فَبَانَ الْحَالُ، سَجَدَ لِلسَّهْوِ، سَوَاءً بَانَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، أَوِ الْآخَرُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ بَانَ الْأَوَّلُ، فَقَدْ قَامَ شَاكًّا فِي زِيَادَةِ هَذَا الْقِيَامِ. وَإِنْ بَانَ الْحَالُ وَهُوَ بَعْدُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، فَلَا سُجُودَ. وَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْقَصْرَ، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ نَاسِيًا، وَنَسِيَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً، حَصَلَتْ لَهُ الرَّكْعَتَانِ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، فَيُسَلِّمُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ. وَكَذَا لَوْ صَلَّى الْجُمُعَةَ أَرْبَعًا نَاسِيًا، وَنَسِيَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً، سَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَسَلَّمَ. وَلَوْ سَهَا سَهْوَيْنِ، أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةٍ، وَالْآخَرُ بِنَقْصٍ، وَقُلْنَا: يَسْجُدُ لِلزِّيَادَةِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَلِلنَّقْصِ قَبْلَهُ، سَجَدَ هُنَا قَبْلَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. وَالثَّانِي. بَعْدَهُ. وَبِهِ قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ قَالَ: وَكَذَا الزِّيَادَةُ الْمُتَوَهَّمَةُ، كَمَنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ. وَلَوْ أَرَادَ الْقُنُوتَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ لِنَازِلَةٍ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - وَقُلْنَا بِهِ، فَنَسِيَهُ لَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ عَلَى الْأَصَحِّ. ذَكَرَهُ فِي (الْبَحْرِ) . وَلَوْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُ مَا كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ، فَاسْتَأْنَفَ التَّكْبِيرَ وَالصَّلَاةَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ كَبَّرَ أَوَّلًا، فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ، لَمْ يُفْسِدِ الْأُولَى، وَتَمَّتْ بِالثَّانِيَةِ. وَإِنْ عَلِمَ قَبْلَ فَرَاغِ الثَّانِيَةِ، عَادَ إِلَى الْأُولَى، فَأَكْمَلَهَا، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ فِي الْحَالَيْنِ. نَقَلَهُ فِي (الْبَحْرِ) عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ، وَهِيَ سُنَّةٌ، وَعَدَدُ السَّجَدَاتِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ عَلَى الْجَدِيدِ الصَّحِيحِ. لَيْسَ مِنْهَا (ص) وَمِنْهَا: سَجْدَتَانِ فِي (الْحَجِّ) . وَثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: إِحْدَى عَشْرَةَ، أَسْقَطَ سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ السَّجَدَاتِ خَمْسَ عَشْرَةَ، ضُمَّ إِلَيْهَا سَجْدَةُ (ص) ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ، فَإِنْ سَجَدَ فِيهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَحَسَنٌ.

قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْجُدَ فِي (ص) خَارِجَ الصَّلَاةِ. وَهُوَ مُرَادُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ: حَسَنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ سَجَدَ فِي (ص) فِي الصَّلَاةِ جَاهِلًا، أَوْ نَاسِيًا، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ كَانَ عَامِدًا، بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ سَجَدَ إِمَامُهُ فِي (ص) لِكَوْنِهِ يَعْتَقِدُهَا، لَمْ يُتَابِعْهُ بَلْ يُفَارِقْهُ أَوْ يَنْتَظِرْهُ قَائِمًا. وَإِذَا انْتَظَرَهُ قَائِمًا، فَهَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ لَا يَسْجُدُ، لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَا سُجُودَ لِسَهْوِهِ. وَوَجْهُ السُّجُودِ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ إِمَامَهُ زَادَ فِي صَلَاتِهِ جَاهِلًا. وَحَكَى صَاحِبُ (الْبَحْرِ) وَجْهًا: أَنَّهُ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ (ص) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَوَاضِعُ السَّجَدَاتِ بَيِّنَةٌ لَا خِلَافَ فِيهَا، إِلَّا الَّتِي فِي (حم السَّجْدَةِ) فَالْأَصَحُّ: أَنَّهَا عَقِبَ (لَا يَسْأَمُونَ) . وَالثَّانِي: عَقِبَ (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) . فَرْعٌ يُسَنُّ السُّجُودُ لِلْقَارِئِ، وَالْمُسْتَمِعِ لَهُ، سَوَاءً كَانَ الْقَارِئُ فِي الصَّلَاةِ، أَمْ لَا. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يَسْجُدُ الْمُسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ مَنْ فِي الصَّلَاةِ. وَيُسَنُّ لِلْمُسْتَمِعِ إِلَى قِرَاءَةِ الْمُحْدِثِ، وَالصَّبِيِّ، وَالْكَافِرِ، عَلَى الْأَصَحِّ. وَسَوَاءً سَجَدَ الْقَارِئُ، أَمْ لَمْ يَسْجُدْ، يُسَنُّ لِلْمُسْتَمِعِ السُّجُودُ، لَكِنَّهُ إِذَا سَجَدَ كَانَ آكَدَ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: لَا يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ إِذَا لَمْ يَسْجُدِ الْقَارِئُ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ

الْحَرَمَيْنِ. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَمِعُ، بَلْ يَسْمَعُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ، وَلَا يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ تَأَكُّدَهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَمِعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْمُسْتَمِعِ. وَالثَّالِثُ: لَا يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ أَصْلًا. أَمَّا الْمُصَلِّي، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا سَجَدَ لِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ. فَلَوْ لَمْ يَسْجُدْ فَرَكَعَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَسْجُدَ، لَمْ يَجُزْ. فَلَوْ كَانَ قَبْلَ بُلُوغِهِ حَدَّ الرَّاكِعِينَ، جَازَ. وَلَوْ هَوَى لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ، جَازَ، كَمَا لَوْ قَرَأَ بَعْضَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُتْمِمْهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ. وَلَوْ أَصْغَى الْمُنْفَرِدُ بِالصَّلَاةِ لِقِرَاءَةِ قَارِئٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، لَمْ يَسْجُدْ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْإِصْغَاءِ، فَإِنْ سَجَدَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا، فَهُوَ كَالْمُنْفَرِدِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يُكْرَهُ لَهُ قِرَاءَةُ آيَةٍ لِسَجْدَةٍ، لَا فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَلَا فِي السِّرِّيَّةِ. وَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ، سَجَدَ الْمَأْمُومُ. فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِذَا لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ، لَمْ يَسْجُدِ الْمَأْمُومُ. وَلَوْ فَعَلَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَيَحْسُنُ الْقَضَاءُ إِذَا فَرَغَ وَلَا يَتَأَكَّدُ. وَلَوْ سَجَدَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمَأْمُومُ حَتَّى رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، لَمْ يَسْجُدْ. وَإِنْ عَلِمَ وَهُوَ بَعْدُ فِي السُّجُودِ، سَجَدَ. وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ فِي الْهُوِيِّ، وَرَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ، رَجَعَ مَعَهُ وَلَمْ يَسْجُدْ، وَكَذَا الضَّعِيفُ الَّذِي هَوَى مَعَ الْإِمَامِ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَرَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ، قَبْلَ انْتِهَائِهِ إِلَى الْأَرْضِ لِبُطْءِ حَرَكَتِهِ، يَرْجِعُ مَعَهُ، وَلَا يَسْجُدُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي مَأْمُومًا، فَلَا يَسْجُدُ لِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ. بَلْ يُكْرَهُ لَهُ قِرَاءَةُ السَّجْدَةِ. وَلَا يَسْجُدُ لِقِرَاءَةِ غَيْرِ الْإِمَامِ، بَلْ يُكْرَهُ لَهُ الْإِصْغَاءُ إِلَيْهَا. وَلَوْ سَجَدَ لِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ، أَوْ قِرَاءَةِ غَيْرِ إِمَامِهِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. فَرْعٌ إِذَا قَرَأَ آيَاتِ السَّجَدَاتِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، سَجَدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ كَرَّرَ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، نَظَرَ، إِنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى، كَفَاهُ

فصل في شرائط سجود التلاوة وكيفيته

سُجُودٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ سَجَدَ لِلْأُولَى، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ: يَسْجُدُ مَرَّةً أُخْرَى، لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ. وَالثَّانِي: يَكْفِيهِ الْأُولَى. وَالثَّالِثُ: إِنْ طَالَ الْفَصْلُ، سَجَدَ أُخْرَى، وَإِلَّا فَتَكْفِيهِ الْأُولَى. وَلَوْ كَرَّرَ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ فِي رَكْعَةٍ، فَكَالْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَكَالْمَجْلِسَيْنِ. وَلَوْ قَرَأَ مَرَّةً فِي الصَّلَاةِ، وَمَرَّةً خَارِجَهَا فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَسَجَدَ لِلْأُولَى، فَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِلْأَصْحَابِ، وَإِطْلَاقُهُمْ يَقْتَضِي طَرْدَ الْخِلَافِ فِيهِ. فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَكَيْفِيَّتِهِ أَمَّا شُرُوطُهُ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى شُرُوطِ الصَّلَاةِ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَالنَّجَسِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَغَيْرِهَا بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ، فَلَهُ حَالَانِ. حَالٌ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. وَحَالٌ فِيهَا. فَالْأَوَّلُ: يَنْوِي وَيُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي هَذِهِ التَّكْبِيرَةِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، كَمَا يَفْعَلُ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ أُخْرَى لِلْهُوِيِّ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الْيَدِ. ثُمَّ تَكْبِيرُ الْهُوِيِّ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَفِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّهَا شَرْطٌ. وَالثَّانِي: مُسْتَحَبَّةٌ. وَالثَّالِثُ: لَا تُشْرَعُ أَصْلًا. قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ. وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ وَيَنْوِيَ قَائِمًا وَيُكَبِّرَ، ثُمَّ يَهْوِي إِلَى السُّجُودِ مِنْ قِيَامٍ. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُمَا. قُلْتُ: قَدْ قَالَهُ أَيْضًا صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَ (التَّتِمَّةِ) وَأَنْكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ،

وَغَيْرُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَمْ أَرَ لِهَذَا ذِكْرًا، وَلَا أَصْلًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ، هُوَ الْأَصْوَبُ، فَلَمْ يَذْكُرْ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا هَذَا الْقِيَامَ، وَلَا ثَبَتَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ. فَالِاخْتِيَارُ تَرْكُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: (سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ) . وَأَنْ يَقُولَ: (اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاقْبَلْهَا مِنِّي، كَمَا قَبِلْتَهَا مِنْ عَبْدِكِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَوْ قَالَ مَا يَقُولُ فِي سُجُودِ صَلَاتِهِ، جَازَ. ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، كَمَا يَرْفَعُ مِنْ سُجُودِ الصَّلَاةِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ السَّلَامُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُشْتَرَطُ، فَعَلَى هَذَا فِي اشْتِرَاطِ التَّشَهُّدِ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يُشْتَرَطُ. وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يَقُولُ: فِي اشْتِرَاطِ السَّلَامِ وَالتَّشَهُّدِ، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يُشْتَرَطُ السَّلَامُ دُونَ التَّشَهُّدِ. وَإِذَا قُلْنَا: التَّشَهُّدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ؟ وَجْهَانِ. حَكَاهُمَا فِي (النِّهَايَةِ) قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يُسْتَحَبُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ لِلْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ، مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ، فَكَذَا يُكَبِّرُ عِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ كَمَا يَفْعَلُ فِي سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ لِلْهُوِيِّ، وَلَا لِلرَّفْعِ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَامَ، وَلَا يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا، ثُمَّ يَرْكَعَ. وَلَا بُدَّ مِنِ انْتِصَابِهِ قَائِمًا، ثُمَّ يَرْكَعُ. فَإِنَّ الْهُوِيَّ مِنْ قِيَامٍ وَاجِبٌ.

فصل

فَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ عَقِبَ قِرَاءَةِ آيَةِ سَجْدَةٍ، أَوِ اسْتِمَاعِهَا. فَإِنْ أَخَّرَ، وَقَصُرَ الْفَصْلُ، سَجَدَ. وَإِنْ طَالَ، فَاتَتْ. وَهَلْ تُقْضَى؟ قَوْلَانِ. حَكَاهُمَا صَاحِبُ (التَّقْرِيبِ) أَظْهَرُهُمَا - وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَآخَرُونَ: لَا تُقْضَى، لِأَنَّهَا لِعَارِضٍ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْكُسُوفِ. وَضَبْطُ طُولِ الْفَصْلِ، يُؤْخَذُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ. وَلَوْ كَانَ الْقَارِئُ، أَوِ الْمُسْتَمِعُ، مُحْدِثًا عِنْدَ التِّلَاوَةِ فَإِنْ تَطَهَّرَ عَلَى قُرْبٍ، سَجَدَ. وَإِلَّا فَالْقَضَاءُ عَلَى الْخِلَافِ. وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قَارِئٌ آيَةَ سَجْدَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، هَلْ يَقْضِي سُجُودَ التِّلَاوَةِ؟ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَقْضِيهِ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، لِأَنَّ قِرَاءَةَ غَيْرِ إِمَامِهِ، لَا تَقْتَضِي سُجُودَهُ. وَإِذَا لَمْ نُجِزْ مَا يَقْتَضِي السُّجُودَ أَدَاءً، فَالْقَضَاءُ بَعِيدٌ. وَقَالَ صَاحِبُ (التَّقْرِيبِ) : وَفِيهِ الْقَوْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ. وَقَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : يَحْسُنُ أَنْ يَقْضِيَ وَلَا يَتَأَكَّدَ، كَمَا يُجِيبُ الْمُؤَذِّنُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ. قُلْتُ: إِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ، سَجَدَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَرَأَهَا فِي الرُّكُوعِ، أَوِ السُّجُودِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْجُدُ. وَلَوْ قَرَأَ السَّجْدَةَ، فَهَوَى لِيَسْجُدَ، فَشَكَّ، هَلْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ؟ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْقِيَامِ، فَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ. وَلَوْ قَرَأَ خَارِجَ الصَّلَاةِ السَّجْدَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ، لَا يَسْجُدُ عِنْدَنَا. وَإِذَا سَجَدَ الْمُسْتَمِعُ مَعَ الْقَارِئِ، لَا يَرْتَبِطُ بِهِ، وَلَا يَنْوِي الِاقْتِدَاءَ بِهِ، وَلَهُ الرَّفْعُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَهُ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً، أَوْ آيَتَيْنِ فِيهِمَا سَجْدَةٌ، لِيَسْجُدَ، فَلَمْ أَرَ فِيهِ كَلَامًا لِأَصْحَابِنَا. وَفِي كَرَاهَتِهِ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ، أَوْضَحْتُهُ فِي كِتَابِ (آدَابِ الْقُرْآنِ) .

وَمُقْتَضَى مَذْهَبِنَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، لَمْ يُكْرَهْ. وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ فِي وَقْتِ كَرَاهَتِهَا، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَا لِغَرَضٍ سِوَى صَلَاةِ التَّحِيَّةِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ الصَّلَاةُ. هَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ غَرَضٌ سِوَى السُّجُودِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ، فَلَا كَرَاهَةَ مُطْلَقًا قَطْعًا، وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَسْجُدْ، وَسَلَّمَ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْجُدَ مَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ. فَإِنْ طَالَ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ. وَلَوْ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ قَبْلَ بُلُوغِ السَّجْدَةِ وَلَوْ بِحَرْفٍ، لَمْ يَصِحَّ سُجُودُهُ. وَلَوْ قَرَأَ بَعْدَ السَّجْدَةِ آيَاتٍ، ثُمَّ سَجَدَ جَازَ مَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ. وَلَوْ قَرَأَ سَجْدَةً، فَسَجَدَ، فَقَرَأَ فِي سُجُودِهِ سَجْدَةً أُخْرَى، لَا يَسْجُدُ ثَانِيًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: حَكَاهُ فِي (الْبَحْرِ) أَنَّهُ يَسْجُدُ. قَالَ صَاحِبُ (الْبَحْرِ) : إِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ السَّجْدَةَ فِي صَلَاةٍ سِرِّيَّةٍ، اسْتُحِبَّ تَأْخِيرُ السُّجُودِ إِلَى فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ. قَالَ: وَقَدِ اسْتَحَبَّ أَصْحَابُنَا لِلْخَطِيبِ إِذَا قَرَأَ سَجْدَةً، أَنْ يَتْرُكَ السُّجُودَ لِمَا فِيهِ مِنْ كُلْفَةِ النُّزُولِ عَنِ الْمِنْبَرِ وَالصُّعُودِ. قَالَ: وَلَوْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، لَمْ يَسْجُدْ فِيهَا. وَهَلْ يَسْجُدُ بَعْدَ الْفَرَاغِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَسْجُدُ. وَأَصْلُهُمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَا تُشْرَعُ، هَلْ يَسْجُدُ لِتِلَاوَتِهَا؟ وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّجْدَةُ الثَّالِثَةُ: سَجْدَةُ الشُّكْرِ: سُجُودُ الشُّكْرِ سُنَّةٌ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ نِعْمَةٍ، أَوِ انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ، مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَكَذَا إِذَا رَأَى مُبْتَلًى بِبَلِيَّةٍ، أَوْ بِمَعْصِيَةٍ. وَلَا يُسَنُّ عِنْدَ اسْتِمْرَارِ النِّعَمِ. وَإِذَا سَجَدَ لِنِعْمَةٍ، أَوِ انْدِفَاعِ بَلِيَّةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، اسْتُحِبَّ إِظْهَارُ السُّجُودِ. وَإِنْ سَجَدَ لِبَلِيَّةٍ فِي غَيْرِهِ، وَصَاحِبُ الْبَلِيَّةِ غَيْرُ مَعْذُورٍ، كَالْفَاسِقِ، أَظْهَرَ السُّجُودَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَعَلَّهُ يَتُوبُ. وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا، كَصَاحِبِ الزَّمَانَةِ، أَخْفَاهُ لِئَلَّا

يَتَأَذَّى. وَيَفْتَقِدُ سُجُودُ الشُّكْرِ إِلَى شُرُوطِ الصَّلَاةِ. وَكَيْفِيَّتُهُ كَكَيْفِيَّةِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ. وَلَا يَجُوزُ سُجُودُ الشُّكْرِ فِي الصَّلَاةِ بِحَالٍ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ سَجَدَ فِي الصَّلَاةِ لِلشُّكْرِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. فَلَوْ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ لِيَسْجُدَ بِهَا لِلشُّكْرِ، فَفِي جَوَازِ السُّجُودِ، وَجْهَانِ. فِي (الشَّامِلِ) وَ (الْبَيَانِ) أَصَحُّهُمَا: يَحْرُمُ، وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ، فِيمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ لِيُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ فِي جَوَازِ سُجُودِ الشُّكْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِالْإِيمَاءِ [فِي جَوَازِ سُجُودِ الشُّكْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِالْإِيمَاءِ] وَجْهَانِ. كَالتَّنَفُّلِ مُضْطَجِعًا مَعَ الْقُدْرَةِ. وَلَوْ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، إِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ نَافِلَةٍ، جَازَ قَطْعًا تَبَعًا لَهَا، وَإِلَّا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي سَجْدَةِ الشُّكْرِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ فِيهِمَا، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَ (الْعُدَّةِ) وَالْخِلَافُ فِيمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِيمَاءِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَرْقَدٍ، وَأَتَمَّ السُّجُودَ، جَازَ قَطْعًا. وَأَمَّا الْمَاشِي فِي السَّفَرِ فَيَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : لَوْ تَصَدَّقَ صَاحِبُ هَذِهِ النِّعْمَةِ أَوْ صَلَّى شُكْرًا، فَحَسَنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ لَوْ خَضَعَ إِنْسَانٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَتَقَرَّبَ بِسَجْدَةٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ حَرَامٌ، كَالتَّقَرُّبِ بِرُكُوعٍ مُفْرَدٍ وَنَحْوِهِ. وَصَحَّحَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ، قَالَهُ صَاحِبُ (التَّقْرِيبِ) قَالَ: وَإِذَا فَاتَتْ سَجْدَةُ الشُّكْرِ، فَفِي قَضَائِهَا الْخِلَافُ فِي قَضَاءِ النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ. وَقَطَعَ غَيْرُهُ بِعَدَمِ الْقَضَاءِ. قُلْتُ: وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْخِلَافِ فِي تَحْرِيمِ السَّجْدَةِ، مَا يَفْعَلُ بَعْدَ صَلَاةِ وَغَيْرُهُ. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرُونَ مِنَ الْجَهَلَةِ الظَّالِمِينَ، مِنَ السُّجُودِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَشَايِخِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ قَطْعًا بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ غَيْرِهَا. وَسَوَاءٌ قَصَدَ السُّجُودَ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ غَفَلَ. وَفِي بَعْضِ صُوَرِهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ عَافَانَا اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ السَّابِعُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ الْأَصْحَابِ فِي تَطَوُّعِ الصَّلَاةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ بِخُصُوصِيَّتِهِ، بَلْ يُنْشِؤُهُ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً. وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: مَا عَدَا الْفَرَائِضَ، ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، سُنَنٌ، وَهِيَ الَّتِي وَاظَبَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمُسْتَحَبَّاتٌ، وَهِيَ الَّتِي فَعَلَهَا أَحْيَانًا، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا. وَتَطُوُّعَاتٌ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَادِفُ بَيْنَ لَفْظَيِ النَّافِلَةِ وَالتَّطَوُّعِ، وَيُطْلِقُهُمَا عَلَى مَا سِوَى الْفَرَائِضِ.

قُلْتُ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: السُّنَّةُ، وَالْمُسْتَحَبُّ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالتَّطَوُّعُ، وَالنَّفْلُ وَالْمُرَغَّبُ فِيهِ، وَالْحَسَنُ، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَهُوَ مَا رَجَّحَ الشَّرْعُ فِعْلَهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَجَازَ تَرْكُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الرَّوَاتِبِ مَا هِيَ؟ فَقِيلَ: هِيَ النَّوَافِلُ الْمُوَقَّتَةُ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَعُدَّ مِنْهَا التَّرَاوِيحُ، وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ، وَالضُّحَى. وَقِيلَ: هِيَ السُّنَنُ التَّابِعَةُ لِلْفَرَائِضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا سِوَى فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، قِسْمَانِ. مَا يُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ كَالْعِيدَيْنِ، وَالْكُسُوفَيْنِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ. وَلَهَا أَبْوَابٌ مَعْرُوفَةٌ، وَمَا لَا يُسَنُّ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، وَهِيَ رَوَاتِبُ مَعَ الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا الرَّوَاتِبُ، فَالْوَتْرُ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَتْرِ، فَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي عَدَدِهَا، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: عَشْرُ رَكَعَاتٍ، رَكْعَتَانِ قَبْلَ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَصَ رَكْعَتَيِ الْعِشَاءِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْبُوَيْطِيِّ) وَبِهِ قَالَ الْخُضَرِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَى الْعَشْرِ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أُخْرَيَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا، وَلَيْسَ خِلَافُهُمْ فِي أَصْلِ الِاسْتِحْبَابِ، بَلْ إِنَّ الْمُؤَكَّدَ مِنَ الرَّوَاتِبِ مَاذَا؟ مَعَ أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ. وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَجَمَاعَةٌ: أَدْنَى الْكَمَالِ: عَشْرُ رَكَعَاتٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. وَأَتَمُّ الْكَمَالِ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهُوَ الْوَجْهُ الْخَامِسُ. وَفِي اسْتِحْبَابِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَجْهَانِ. وَبِالِاسْتِحْبَابِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الطُّوسِيُّ، وَأَبُو زَكَرِيَّا السُّكَّرِيُّ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ، اسْتِحْبَابُهُمَا، فَفِي مَوَاضِعَ مِنْ (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) عَنْ [عَبْدِ اللَّهِ] بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ) قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ الْوَتْرُ سُنَّةٌ. وَيَحْصُلُ بِرَكْعَةٍ، وَبِثَلَاثٍ، وَبِخَمْسٍ، وَبِسَبْعٍ، وَبِتِسْعٍ، وَبِإِحْدَى عَشْرَةَ، فَهَذَا أَكْثَرُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: أَكْثَرُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَكْثَرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ زَادَ، لَمْ يَصِحَّ وَتْرُهُ. وَإِذَا زَادَ عَلَى رَكْعَةٍ، فَأَوْتَرَ بِثَلَاثٍ فَأَكْثَرَ مَوْصُولَةً، فَالصَّحِيحُ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ تَشَهُّدًا وَاحِدًا فِي الْأَخِيرَةِ، وَلَهُ تَشَهُّدٌ آخَرُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُجْزِئُ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَشَهُّدٍ وَاحِدٍ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَجُوزُ لِمَنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، أَنْ يَتَشَهَّدَ تَشَهُّدَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ. فَإِنْ فَعَلَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى تَشَهُّدٍ أَوْ يُسَلِّمُ فِي التَّشَهُّدَيْنِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُنْكَرَانِ، وَالصَّوَابُ جَوَازُ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَلَكِنْ: هَلِ الْأَفْضَلُ تَشَهُّدٌ أَمْ تَشَهُّدَانِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَرْجَحُهَا عِنْدَ الرُّويَانِيِّ: تَشَهُّدٌ. وَالثَّانِي: تَشَهُّدَانِ. وَالثَّالِثُ: هُمَا فِي الْفَضِيلَةِ سَوَاءٌ. أَمَّا إِذَا زَادَ عَلَى تَشَهُّدَيْنِ، وَجَلَسَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَنْقُولِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَنَافِلَةٍ كَثِيرَةِ الرَّكَعَاتِ. أَمَّا إِذَا أَرَادَ الْإِيتَارَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، فَهَلِ الْأَفْضَلُ فَصْلُهَا بِسَلَامَيْنِ، أَمْ وَصْلُهَا بِسَلَامٍ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الْفَصْلُ أَفْضَلُ. وَالثَّانِي: الْوَصْلُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا، فَالْفَصْلُ، وَإِنْ صَلَّاهَا بِجَمَاعَةٍ، فَالْوَصْلُ. وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ. وَهَلِ الثَّلَاثُ الْمَوْصُولَةُ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَةٍ فَرْدَةٍ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: أَنَّ الثَّلَاثَ أَفْضَلُ. وَالثَّانِي: الْفَرْدَةُ. قَالَ فِي (النِّهَايَةِ) : وَغَلَا هَذَا الْقَائِلُ فَقَالَ: الْفَرْدَةُ أَفْضَلُ مِنْ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مَوْصُولَةً. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا، فَالْفَرْدَةُ. وَإِنْ كَانَ إِمَامًا، فَالثَّلَاثُ الْمَوْصُولَةُ.

فَرْعٌ فِي وَقْتِ الْوَتْرِ [فِي وَقْتِ الْوَتْرِ] وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْعِشَاءَ، إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. فَإِنْ أَوْتَرَ قَبْلَ فِعْلِ الْعِشَاءِ، لَمْ يَصِحَّ وَتْرُهُ، سَوَاءً تَعَمَّدَ، أَوْ سَهَا وَظَنَّ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ، أَوْ صَلَّاهَا ظَانًّا أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ، ثُمَّ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْوَتْرَ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فِي الْعِشَاءِ، فَوَتْرُهُ بَاطِلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَدْخُلُ وَقْتُ الْوَتْرِ بِدُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ قَبْلَهَا. وَلَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَنَفَّلَ، صَحَّ وَتْرُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَتَقَدَّمَهُ نَافِلَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ وَتْرًا، كَانَ تَطَوُّعًا. كَذَا قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ غَالِطًا، هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، أَمْ تَكُونُ نَفْلًا؟ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْوَتْرُ آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ. فَإِنْ كَانَ لَا تَهَجُّدَ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوتِرَ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْعِشَاءِ وَرَاتِبَتِهَا، وَيَكُونُ وَتْرُهُ آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْوَتْرَ، كَذَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ: اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَقْدِيمَ الْوَتْرِ. فَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ نَقْلُهُمَا عَلَى مَنْ لَا يَعْتَادُ قِيَامَ اللَّيْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ. وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ، وَكُلٌّ شَائِعٌ. وَإِذَا أَوْتَرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، ثُمَّ قَامَ وَتَهَجَّدَ، لَمْ يُعِدِ الْوَتْرَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يُصَلِّي فِي أَوَّلِ قِيَامِهِ رَكْعَةً يُشَفِّعُهُ، ثُمَّ يَتَهَجَّدُ مَا شَاءَ، ثُمَّ يُوتِرُ ثَانِيًا، وَيُسَمَّى هَذَا: نَقْضُ الْوَتْرِ. وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي (الْأُمِّ) وَ (الْمُخْتَصَرِ) : أَنَّ الْوَتْرَ يُسَمَّى: تَهَجُّدًا: وَقِيلَ: الْوَتْرُ غَيْرُ التَّهَجُّدِ.

فَرْعٌ إِذَا اسْتَحْبَبْنَا الْجَمَاعَةَ فِي التَّرَاوِيحِ، يُسْتَحَبُّ الْجَمَاعَةُ أَيْضًا فِي الْوَتْرِ بَعْدَهَا. وَأَمَّا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ الْجَمَاعَةُ. وَقِيلَ: فِي اسْتِحْبَابِهَا، وَجْهَانِ مُطْلَقًا. حَكَاهُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ فِي الْوَتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنْ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، قَنَتَ فِيهَا، وَإِنْ أَوْتَرَ بِأَكْثَرَ، قَنَتَ فِي الْأَخِيرَةِ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يَقْنُتُ فِي جَمِيعِ رَمَضَانَ، وَوَجْهٌ: أَنَّهُ يَقْنُتُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. قَالَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ، وَأَبُو مَنْصُورِ بْنُ مِهْرَانَ. وَالصَّحِيحُ: اخْتِصَاصُ الِاسْتِحْبَابِ بِالنِّصْفِ الثَّانِي مِنْ رَمَضَانَ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ. وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، كَرَاهَةُ الْقُنُوتِ فِي غَيْرِ هَذَا النِّصْفِ. وَلَوْ تَرَكَ الْقُنُوتَ فِي مَوْضِعٍ نَسْتَحِبُّهُ، سَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ قَنَتَ فِي غَيْرِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ - وَقُلْنَا: لَا يُسْتَحَبُّ - سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَجُوزُ الْقُنُوتُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِهِ فِي غَيْرِ النِّصْفِ. قَالَ: وَهَذَا اخْتِيَارُ مَشَايِخِ طَبَرِسْتَانَ، وَاسْتَحْسَنَهُ. وَفِي مَوْضِعِ الْقُنُوتِ فِي الْوَتْرِ، أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي [سُنَنِ] (حَرْمَلَةَ) . وَالثَّانِي: قَبْلَ الرُّكُوعِ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ.

وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا قَدَّمَهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْنُتُ بِلَا تَكْبِيرٍ. وَالثَّانِي: يُكَبِّرُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ يَقْنُتُ. وَلَفْظُ الْقُنُوتِ: هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ. وَاسْتَحَبَّ الْأَصْحَابُ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ قُنُوتَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنَسْتَهْدِيكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، نَشْكُرُكَ وَلَا نَكْفُرُكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ. اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخْشَى عَذَابَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ. اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ، وَثَبِّتْهُمْ عَلَى مِلَّةِ رَسُولِكَ، وَأَوْزِعْهُمْ أَنْ يُوفُوا بِعَهْدِكَ الَّذِي عَاهَدْتَهُمْ عَلَيْهِ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، إِلَهَ الْحَقِّ، وَاجْعَلْنَا مِنْهُمْ) . وَهَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَدِّمَ قُنُوتَ عُمَرَ عَلَى قُنُوتِ الصُّبْحِ، أَمْ يُؤَخِّرُهُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: يُقَدِّمُهُ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ شُيُوخِهِمْ، تَأْخِيرَهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: تَأْخِيرُهُ، لِأَنَّ قُنُوتَ الصُّبْحِ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَتْرِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: (اللَّهُمَّ عَذِّبِ الْكَفَرَةَ) لِلْحَاجَةِ إِلَى التَّعْمِيمِ فِي أَزْمَانِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: يَزِيدُ فِي الْقُنُوتِ (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَاسْتَحْسَنَهُ. وَحُكْمُ الْجَهْرِ بِالْقُنُوتِ، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ وَغَيْرُهُمَا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الصُّبْحِ.

فصل في النوافل التي يسن فيها الجماعة

وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُولَى: (سَبِّحْ) . وَفِي الثَّانِيَةِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) . وَفِي الثَّالِثَةِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) . وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. فَصْلٌ فِي النَّوَافِلِ الَّتِي يُسَنُّ فِيهَا الْجَمَاعَةُ اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ النَّوَافِلِ مُطْلَقًا الْعِيدَانِ، ثُمَّ الْكُسُوفَانِ، ثُمَّ الِاسْتِسْقَاءُ. وَأَمَّا التَّرَاوِيحُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُسَنُّ فِيهَا الْجَمَاعَةُ، فَالرَّوَاتِبُ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: يُسَنُّ فِيهَا، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: التَّرَاوِيحُ أَفْضَلُ. قُلْتُ: كُسُوفُ الشَّمْسِ أَفْضَلُ مِنْ خُسُوفِ الْقَمَرِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَمِنَ التَّطَوُّعِ الَّذِي لَا يُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ، صَلَاةُ الضُّحَى. وَأَقَلُّهَا: رَكْعَتَانِ، وَأَفْضَلُهَا: ثَمَانٍ، وَأَكْثَرُهَا: اثْنَا عَشَرَ، وَيُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَوَقْتُهَا مِنْ حِينِ تَرْتَفِعُ الشَّمْسُ إِلَى الِاسْتِوَاءِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَقْتُ الضُّحَى مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إِلَى ارْتِفَاعِهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَوَقْتُهَا الْمُخْتَارُ إِذَا مَضَى رُبْعُ النَّهَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ بِرَكْعَتَيْنِ، وَلَوْ صَلَّى الدَّاخِلُ فَرِيضَةً، أَوْ وِرْدًا، أَوْ سُنَّةً، وَنَوَى التَّحِيَّةَ مَعَهَا، حَصَلَا جَمِيعًا. وَكَذَا إِنْ لَمْ يَنْوِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَطَّرِدَ

فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَنْ نَوَى غُسْلَ الْجَنَابَةِ: هَلْ يَحْصُلُ لَهُ الْجُمُعَةُ وَالْعِيدُ إِذَا لَمْ يَنْوِهِمَا؟ وَلَوْ صَلَّى الدَّاخِلُ عَلَى جِنَازَةٍ، أَوْ سَجَدَ لِتِلَاوَةٍ، أَوْ شُكْرٍ، أَوْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، لَمْ يَحْصُلِ التَّحِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: وَمَنْ تَكَرَّرَ دُخُولُهُ الْمَسْجِدَ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِرَارًا. قَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابِهِ (اللُّبَابِ) : أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ التَّحِيَّةُ مَرَّةً. وَقَالَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : لَوْ تَكَرَّرَ دُخُولُهُ، يُسْتَحَبُّ التَّحِيَّةُ كُلَّ مَرَّةٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: وَتُكْرَهُ التَّحِيَّةُ فِي حَالَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إِذَا دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي الْمَكْتُوبَةِ. وَالثَّانِي: إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهَا عَنِ الطَّوَافِ. وَمِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، أَنَّهُ لَوْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ التَّحِيَّةِ، وَطَالَ الْفَصْلُ، لَمْ يَأْتِ بِهَا كَمَا سَيَأْتِي: أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ قَضَاؤُهَا. وَإِنْ لَمْ يَطُلْ، فَالَّذِي قَالَهُ الْأَصْحَابُ: أَنَّهَا تَفُوتُ بِالْجُلُوسِ، فَلَا يَفْعَلُهَا. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ فِي كِتَابِهِ الْمُصَنَّفِ فِي الْعِبَادَاتِ: أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ التَّحِيَّةَ وَجَلَسَ، فَذَكَرَ بَعْدَ سَاعَةٍ، صَلَّاهَا. وَهَذَا غَرِيبٌ. وَفِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) وَ (مُسْلِمٍ) مَا يُؤَيِّدُهُ فِي حَدِيثِ الدَّاخِلِ يَوْمَ الْجُمُعَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهُ رَكْعَتَا الْإِحْرَامِ، وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ، إِذَا لَمْ نُوجِبْهُمَا. قُلْتُ: وَمِنْهُ رَكْعَتَانِ عَقِبَ الْوُضُوءِ، يَنْوِي بِهِمَا سُنَّةَ الْوُضُوءِ. وَمِنْهُ سُنَّةُ الْجُمُعَةِ قَبْلَهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَبَعْدَهَا أَرْبَعٌ. كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ فِي (الْمِفْتَاحِ) وَآخَرُونَ. وَيَحْصُلُ أَيْضًا بِرَكْعَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا. وَالْعُمْدَةُ فِيمَا بَعْدَهَا، حَدِيثُ (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) وَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْجُمُعَةَ فَصَلُّوا بَعْدَهَا أَرْبَعًا) وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا قَبْلَهَا، فَالْعُمْدَةُ فِيهِ، الْقِيَاسُ عَلَى الظُّهْرِ. وَيُسْتَأْنَسُ فِيهِ بِحَدِيثِ (سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ) : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَمِنْهُ رَكْعَتَا الِاسْتِخَارَةِ. ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) . وَمِنْهُ رَكْعَتَا صَلَاةِ الْحَاجَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ أَوْكَدُ مَا لَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ: السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ. وَأَفْضَلُ الرَّوَاتِبِ: الْوَتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. وَأَفْضَلُهُمَا: الْوَتْرُ عَلَى الْجَدِيدِ الصَّحِيحِ. وَالْقَدِيمُ: سُنَّةُ الْفَجْرَ. وَفِي وَجْهٍ: هُمَا سَوَاءٌ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ تَلِي الْوَتْرَ فِي الْفَضِيلَةِ. وَفِي وَجْهٍ قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ تُقَدَّمُ عَلَى سُنَّةِ الْفَجْرِ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ قَوِيٌّ. فَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ) وَفِي رِوَايَةٍ (الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ بَعْدَ الرَّوَاتِبِ الْمَذْكُورَةِ الضُّحَى. ثُمَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ، كَرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَرَكْعَتَيِ الْإِحْرَامِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. فَصْلٌ التَّرَاوِيحُ، عِشْرُونَ رَكْعَةً بِعَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ. قُلْتُ: فَلَوْ صَلَّى أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ، لَمْ يَصِحَّ. ذَكَرُهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي (الْفَتَاوَى) لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ. وَيَنْوِي التَّرَاوِيحَ، أَوْ قِيَامَ رَمَضَانَ. وَلَا يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، بَلْ يَنْوِي رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ فِي كُلِّ تَسْلِيمَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَقُومُونَ بِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، مِنْهَا

فصل

ثَلَاثٌ لِلْوَتْرِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَلِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي التَّرَاوِيحِ الْجَمَاعَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ. وَالثَّانِي: الِانْفِرَادُ أَفْضَلُ. ثُمَّ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالصَّيْدَلَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: الْخِلَافُ فِيمَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، وَلَا يَخَافُ الْكَسَلَ عَنْهَا، وَلَا تَخْتَلُّ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ بِتَخَلُّفِهِ. فَإِنْ فَقَدَ بَعْضَ هَذَا، فَالْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ قَطْعًا. وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، ثَالِثُهَا: هَذَا الْفَرْقُ. وَيَدْخُلُ وَقْتُ التَّرَاوِيحِ بِالْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. فَصْلٌ التَّطُوُّعَاتُ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ، وَلَا وَقْتٍ، لَا حَصْرَ لِأَعْدَادِهَا، وَلَا الرَّكَعَاتِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا. فَإِذَا شَرَعَ فِي تَطَوُّعٍ، وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا، فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَةٍ، وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَصَاعِدًا. وَلَوْ صَلَّى عَدَدًا لَا يَعْلَمُهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، صَحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْإِمْلَاءِ) . وَلَوْ نَوَى رَكْعَةً، أَوْ عَدَدًا قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا، فَلَهُ ذَلِكَ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ غَلَطٌ. ثُمَّ إِذَا نَوَى عَدَدًا، فَلَهُ أَنْ يَزِيدَ، وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ. فَمَنْ أَحْرَمَ بِرَكْعَةٍ، فَلَهُ جَعْلُهَا عَشْرًا. أَوْ بِعَشْرٍ، فَلَهُ جَعْلُهَا وَاحِدَةً، بِشَرْطِ تَغْيِيرِ النِّيَّةِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ. فَلَوْ زَادَ أَوْ نَقَصَ قَبْلَ تَغَيُّرِ النِّيَّةِ عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. مِثَالُهُ: نَوَى رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ لِثَالِثَةٍ بِنِيَّةِ الزِّيَادَةِ، جَازَ. وَلَوْ قَامَ قَبْلَهَا عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ قَامَ نَاسِيًا، عَادَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ. فَلَوْ بَدَا لَهُ فِي الْقِيَامِ أَنْ يَزِيدَ. فَهَلْ يُشْتَرَطُ الْعَوْدُ إِلَى الْقُعُودِ ثُمَّ يَقُومُ مِنْهُ، أَمْ لَهُ الْمُضِيُّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ. وَلَوْ زَادَ رَكْعَتَيْنِ سَهْوًا، ثُمَّ نَوَى إِكْمَالَ أَرْبَعٍ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. وَمَا سَهَا بِهِ لَا يُحْسَبُ. وَلَوْ نَوَى أَرْبَعًا، ثُمَّ غَيَّرَ نِيَّتَهُ، وَسَلَّمَ عَنْ رَكْعَتَيْنِ، جَازَ. وَلَوْ سَلَّمَ قَبْلَ تَغْيِيرِ النِّيَّةِ عَمْدًا،

بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنَّ سَلَّمَ سَاهِيًا، أَتَمَّ أَرْبَعًا، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ. فَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ السَّلَامِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ ثَانِيًا، فَإِنَّ سَلَامَهُ الْأَوَّلَ غَيْرُ مَحْسُوبٍ. ثُمَّ إِنْ تَطَوَّعَ بِرَكْعَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّشَهُّدِ. وَإِنْ زَادَ عَلَى رَكْعَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَشَهُّدٍ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ. وَهَذَا التَّشَهُّدُ رُكْنٌ. وَلَهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا فِي الْفَرَائِضِ الرُّبَاعِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ وَتْرًا، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّشَهُّدِ فِي الْأَخِيرَةِ أَيْضًا. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِيهِ احْتِمَالٌ، وَالظَّاهِرُ جَوَازُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَجْوِيزَ التَّشَهُّدِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُ الْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيُّ. وَفِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَصْحَابِ مَا يَقْتَضِي مَنْعَهُ. قُلْتُ: (الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ) ، مَنْعُهُ، فَإِنَّهُ اخْتِرَاعُ صُورَةٍ فِي الصَّلَاةِ لَا عَهْدَ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى تَشَهُّدٍ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ. وَأَمَّا التَّشَهُّدُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالُوا: هُوَ الْأَفْضَلُ، وَإِنْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَشَهُّدٍ. وَذَكَرَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) ، وَ (التَّهْذِيبِ) وَجَمَاعَةٌ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى تَشَهُّدَيْنِ بِحَالٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، إِنْ كَانَ الْعَدَدُ شَفْعًا وَإِنْ كَانَ وَتْرًا، لَمْ يَجُزْ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَةٍ. وَالْمَذْهَبُ: جَوَازُ الزِّيَادَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَحَكَى صَاحِبُ (الْبَيَانِ) وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ إِلَّا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. ثُمَّ إِنْ صَلَّى بِتَشَهُّدٍ، قَرَأَ السُّورَةَ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا، وَإِنْ صَلَّى بِتَشَهُّدَيْنِ، فَهَلْ يَقْرَأُ فِيمَا بَعْدُ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الْفَرَائِضِ. وَالْأَفْضَلُ: أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، سَوَاءً كَانَ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ. وَلَوْ نَوَى صَلَاةَ تَطَوُّعٍ، وَلَمْ يَنْوِ رَكْعَةً، وَلَا رَكَعَاتٍ، فَهَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَةٍ؟ قَالَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ نَذَرَ صَلَاةً مُطْلَقَةً، هَلْ يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِرَكْعَةٍ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ؟ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِالْجَوَازِ.

فصل في أوقات النوافل الراتبة

قُلْتُ: إِنَّمَا ذَكَرَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ: هَلْ يُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَةٍ، أَمْ لَا يُكْرَهُ؟ وَجَزَمَ بِالْجَوَازِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ سَائِرُ الْأَصْحَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي أَوْقَاتِ النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ وَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: رَاتِبَةٌ تَسْبِقُ الْفَرِيضَةَ فَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِدُخُولِ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ، وَيَبْقَى جَوَازُهَا مَا بَقِيَ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ. وَوَقْتُ اخْتِيَارِهَا مَا قَبْلَ الْفَرِيضَةِ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّ سُنَّةَ الصُّبْحِ يَبْقَى وَقْتُ أَدَائِهَا إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الرَّوَاتِبُ الَّتِي بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِفِعْلِ الْفَرِيضَةِ، وَيَخْرُجُ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا. وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْوَتْرَ يَبْقَى أَدَاءً إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ. وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ يَخْرُجُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. فَرْعٌ النَّافِلَةُ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، وَإِنَّمَا تُفْعَلُ لِسَبَبٍ عَارِضٍ، كَصَلَاةِ الْكُسُوفَيْنِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَهَذَا لَا مَدْخَلَ لِلْقَضَاءِ فِيهِ. وَالثَّانِي: مُؤَقَّتَةٌ، كَالْعِيدِ، وَالضُّحَى، وَالرَّوَاتِبِ التَّابِعَةِ لِلْفَرَائِضِ. وَفِي قَضَائِهَا أَقْوَالٌ. وَأَظْهَرُهَا: تُقْضَى. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: مَا اسْتَقَلَّ، كَالْعِيدِ، وَالضُّحَى، قُضِيَ. وَمَا كَانَ تَبَعًا كَالرَّوَاتِبِ، فَلَا. وَإِذَا قُلْنَا: تُقْضَى، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا تُقْضَى أَبَدًا. وَالثَّانِي: تُقْضَى صَلَاةُ النَّهَارِ. مَا لَمْ تَغْرُبْ شَمْسُهُ، وَفَائِتُ اللَّيْلِ مَا لَمْ يَطْلُعْ

فَجْرُهُ. فَيَقْضِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مَا دَامَ النَّهَارُ بَاقِيًا. وَالثَّالِثُ: يَقْضِي كُلَّ تَابِعٍ مَا لَمْ يُصَلِّ فَرِيضَةً مُسْتَقْبَلَةً، فَيَقْضِي الْوَتْرَ مَا لَمْ يُصَلِّ الصُّبْحَ، وَيَقْضِي سُنَّةَ الصُّبْحِ مَا لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ، وَالْبَاقِي عَلَى هَذَا الْمِثَالِ. وَقِيلَ: عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، بِدُخُولِ وَقْتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، لَا بِفِعْلِهَا. قُلْتُ: يُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا فِعْلُ الرَّوَاتِبِ، فِي السَّفَرِ، كَالْحَضَرِ. وَالسُّنَّةُ: أَنْ يَضْطَجِعَ بَعْدَ سُنَّةِ الْفَجْرِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَصَلَ بَيْنَهُمَا، لِحَدِيثٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً، حَدَّثَنِي، وَإِلَّا اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤَذَّنَ بِالصَّلَاةِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يُخَفِّفَ السُّورَةَ فِيهِمَا. فَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ. . .) . الْآيَاتِ. وَفِي الثَّانِيَةِ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا. . .) وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأُولَى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) . وَفِي الثَّانِيَةِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فَكِلَاهُمَا سُنَّةٌ. وَنَصَّ فِي (الْبُوَيْطِيِّ) عَلَى الثَّانِيَةِ. وَفِي سُنَّةِ الْمَغْرِبِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) . وَكَذَا فِي رَكْعَتَيِ الِاسْتِخَارَةِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَتَطَوُّعُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ. فَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ نِصْفَيِ اللَّيْلِ، فَالنِّصْفُ الثَّانِي أَفْضَلُ، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ الثَّلَاثَةَ، فَالْأَوْسَطُ، وَأَفْضَلُ مِنْهُ السُّدُسُ الرَّابِعُ، وَالْخَامِسُ. ثَبَتَ ذَلِكَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) . وَيُكْرَهُ قِيَامُ اللَّيْلِ كُلِّهِ دَائِمًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخِلَّ بِصَلَاةٍ فِي اللَّيْلِ وَإِنْ قَلَّتْ. وَالنَّفْلُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَامَ لِتَهَجُّدٍ، أَنْ يُوقِظَ لَهُ مَنْ يَطْمَعُ بِتَهَجُّدِهِ إِذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا. وَيُسْتَحَبُّ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب صلاة الجماعة

كِتَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ اعْلَمْ أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا، لَا تَخْتَلِفُ بِالْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ، لَكِنَّ الْجَمَاعَةَ أَفْضَلُ. فَالْجَمَاعَةُ فَرْضُ عَيْنٍ فِي الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَكْتُوبَاتِ، فَفِيهَا أَوْجُهٌ. الْأَصَحُّ: أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَالثَّانِي: سُنَّةٌ. وَالثَّالِثُ: فَرْضُ عَيْنٍ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. فَإِنْ قُلْنَا: فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ إِقَامَتِهَا، قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ، وَلَمْ يَسْقُطِ الْحَرَجُ إِلَّا إِذَا أَقَامُوهَا، بِحَيْثُ يَظْهَرُ هَذَا الشِّعَارُ بَيْنَهُمْ. فَفِي الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ يَكْفِي إِقَامَتُهَا فِي مَوْضِعٍ، وَفِي الْكَبِيرَةِ، وَالْبِلَادِ، تُقَامُ فِي الْمَحَالِّ. فَلَوْ أَطْبَقُوا عَلَى إِقَامَتِهَا فِي الْبُيُوتِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ. وَخَالَفَهُ بَعْضُهُمْ، إِذَا ظَهَرَتْ فِي الْأَسْوَاقِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا سُنَّةٌ فَتَرَكُوهَا، لَمْ يُقَاتَلُوا عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَصَحُّ. وَلَوْ أَقَامَ الْجَمَاعَةَ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَأَظْهَرُوهَا فِي كُلِّ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَحْضُرْهَا جُمْهُورُ الْمُقِيمِينَ بِالْبَلَدِ، حَصَلَتِ الْجَمَاعَةُ، وَلَا إِثْمَ عَلَى الْمُتَخَلِّفِينَ. كَمَا إِذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ. وَأَمَّا أَهْلُ الْبَوَادِي، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: عِنْدِي فِيهِمْ نَظَرٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَتَعَرَّضُونَ لِهَذَا الْفَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَتَعَرَّضُونَ لَهُ إِذَا كَانُوا سَاكِنِينَ. قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسَافِرِينَ لَا يَتَعَرَّضُونَ لِهَذَا الْفَرْضِ، وَكَذَا إِذَا قَلَّ عَدَدُ سَاكِنِي قَرْيَةٍ. هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ.

وَالْمُخْتَارُ أَنَّ أَهْلَ الْبَوَادِي السَّاكِنِينَ، كَأَهْلِ الْقَرْيَةِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ بَدْوٍ، لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ، إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا حُكْمُ الرِّجَالِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ، فَلَا تُفْرَضُ عَلَيْهِنَّ الْجَمَاعَةُ، لَا فَرْضَ عَيْنٍ، وَلَا كِفَايَةٍ. وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ. ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: كَاسْتِحْبَابِهَا لِلرِّجَالِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِنَّ، كَتَأَكُّدِهَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ. فَلَا يُكْرَهُ لَهُنَّ تَرْكُهَا، وَيُكْرَهُ تَرْكُهَا لِلرِّجَالِ، مَعَ قَوْلِنَا: هِيَ لَهُمْ سُنَّةٌ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تَقِفَ إِمَامَتُهُنَّ وَسَطَهُنَّ، وَجَمَاعَتُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ. فَإِنْ أَرَدْنَ حُضُورَ الْمَسْجِدِ مَعَ الرِّجَالِ، كُرِهَ لِلشَّوَابِّ، دُونَ الْعَجَائِزِ. وَإِمَامَةُ الرِّجَالِ لَهُنَّ، أَفْضَلُ مِنْ إِمَامَةِ النِّسَاءِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ بِهِنَّ غَيْرُ مَحْرَمٍ. قُلْتُ: الْخِلَافُ فِي كَوْنِ الْجَمَاعَةِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، أَمْ عَيْنٍ، أَمْ سُنَّةً، هُوَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ الْمُؤَدَّيَاتِ، أَمَّا الْمَنْذُورَةُ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ فِي بَابِ الْآذَانِ فِي مَسْأَلَةِ لَا يُؤَذَّنُ لِمَنْذُورَةٍ. وَأَمَّا الْمَقْضِيَّةُ، فَلَيْسَتِ الْجَمَاعَةُ فِيهَا فَرْضَ عَيْنٍ، وَلَا كِفَايَةٍ قَطْعًا، وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ قَطْعًا. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الصُّبْحَ جَمَاعَةً حِينَ فَاتَتْهُمْ بِالْوَادِي. وَأَمَّا الْقَضَاءُ خَلْفَ الْأَدَاءِ وَعَكْسُهُ، فَجَائِزٌ عِنْدَنَا، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. لَكِنَّ الْأَوْلَى الِانْفِرَادُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا النَّوَافِلُ، فَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ مَا يُشْرَعُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، مِنْهَا، وَمَا لَا يُشْرَعُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا يُشْرَعُ، لَا تُسْتَحَبُّ فَلَوْ صُلِّيَ هَذَا النَّوْعُ جَمَاعَةً جَازَ، وَلَا يُقَالُ مَكْرُوهٌ، فَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا صَلَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ بِرَفِيقِهِ، أَوْ زَوْجَتِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، حَازَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، لَكِنَّهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ. وَحَيْثُ كَانَ الْجَمْعُ مِنَ الْمَسَاجِدِ أَكْثَرَ فَهُوَ أَفْضَلُ. وَلَوْ كَانَ بِقُرْبِهِ مَسْجِدٌ قَلِيلُ الْجَمْعِ، وَبِالْبُعْدِ مَسْجِدٌ كَثِيرُ الْجَمْعِ، فَالْبَعِيدُ أَفْضَلُ، إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَتَعَطَّلَ جَمَاعَةُ الْقَرِيبِ بِعُدُولِهِ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ إِمَامًا، أَوْ يَحْضُرَ النَّاسُ بِحُضُورِهِ، فَالْقَرِيبُ أَفْضَلُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِمَامُ الْبَعِيدِ مُبْتَدِعًا، كَالْمُعْتَزِلِيِّ وَغَيْرِهِ، قَالَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ: وَكَذَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ حَنَفِيًّا، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ بَعْضِ الْأَرْكَانِ، بَلْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْحَنَفِيِّ وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْحَنَفِيِّ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ رِعَايَةَ مَسْجِدِ الْجِوَارِ أَفْضَلُ بِكُلِّ حَالٍ. فَرْعٌ إِذَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ، أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا يُدْرِكُ إِلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ. وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ الْمُحَافَظَةُ عَلَى إِدْرَاكِ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ. وَفِيمَا يُدْرِكُهَا بِهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا بِأَنْ يَشْهَدَ تَكْبِيرَةَ الْإِمَامِ، وَيَشْتَغِلَ عَقِبَهَا بِعَقْدِ صَلَاتِهِ. فَإِنْ أَخَّرَ لَمْ يُدْرِكْهَا. وَالثَّانِي: بِأَنْ يُدْرِكَ الرُّكُوعَ الْأَوَّلَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُدْرِكَ شَيْئًا مِنَ

فصل

الْقِيَامِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَشْغَلَهُ أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ لَمْ يُدْرِكْ بِالرُّكُوعِ. وَإِنْ مَنَعَهُ عُذْرٌ، أَوْ سَبَبٌ لِلصَّلَاةِ، كَالطَّهَارَةِ أَدْرَكَ بِهِ. قُلْتُ: وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَجْهًا خَامِسًا: أَنَّهُ يُدْرِكُهَا مَا لَمْ يَشْرَعِ الْإِمَامُ فِي الْفَاتِحَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي (الْبَسِيطِ) فِي الْوَجْهِ الثَّانِي: وَالثَّالِثُ، هُمَا فِيمَنْ لَمْ يَحْضُرْ إِحْرَامَ الْإِمَامِ، فَأَمَّا مَنْ حَضَرَ وَأَخَّرَ، فَقَدْ فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ التَّكْبِيرَةِ وَإِنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ خَافَ فَوْتَ هَذِهِ التَّكْبِيرَةِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْرِعَ، لِيُدْرِكَهَا، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ: أَنَّهُ لَا يُسْرِعُ، بَلْ يَمْشِي بِسَكِينَةٍ، كَمَا لَوْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَهَا. فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخَفِّفَ الصَّلَاةَ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ الْأَبْعَاضِ وَالْهَيْئَاتِ. فَإِنْ رَضِيَ الْقَوْمُ بِالتَّطْوِيلِ وَكَانُوا مُنْحَصِرِينَ، لَا يَدْخُلُ فِيهِمْ غَيْرُهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِالتَّطْوِيلِ. وَلَوْ طَوَّلَ الْإِمَامُ فَلَهُ أَحْوَالٌ. مِنْهَا: أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ سُوقٍ، أَوْ مَحَلَّةٍ فَيُطَوِّلَ لِيَلْحَقَ آخَرُونَ تَكْثُرُ بِهِمُ الْجَمَاعَةُ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ. وَمِنْهَا: أَنْ يَؤُمَّ فِي مَسْجِدٍ يَحْضُرُهُ رَجُلٌ شَرِيفٌ، فَيُطَوِّلَ لِيَلْحَقَ الشَّرِيفُ، فَيُكْرَهُ أَيْضًا. وَمِنْهَا: أَنْ يُحِسَّ فِي صَلَاتِهِ بِمَجِيءِ رَجُلٍ يُرِيدُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ. فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ رَاكِعًا، فَهَلْ يَنْتَظِرُهُ لِيُدْرِكَ الرُّكُوعَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَآخَرِينَ: لَا يَنْتَظِرُهُ، وَالثَّانِي: يَنْتَظِرُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفْحُشَ التَّطْوِيلُ

فصل

، وَأَنْ يَكُونَ الْمَسْبُوقُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ حِينَ الِانْتِظَارِ. فَإِنْ كَانَ خَارِجَهُ لَمْ يَنْتَظِرْهُ قَطْعًا وَبِشَرْطِ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قَصَدَ التَّوَدُّدَ وَاسْتِمَالَتَهُ فَلَا يَنْتَظِرُهُ قَطْعًا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ دَاخِلٍ وَدَاخِلٍ. وَقِيلَ: إِنْ عَرَفَ الدَّاخِلَ بِعَيْنِهِ لَمْ يَنْتَظِرْهُ، وَإِلَّا انْتَظَرَهُ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُلَازِمًا لِلْجَمَاعَةِ، انْتَظَرَهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْقَوْلَيْنِ. فَقَالَ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ: لَيْسَ الْقَوْلَانِ فِي اسْتِحْبَابِ الِانْتِظَارِ، بَلْ أَحَدُهُمَا: يُكْرَهُ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يُكْرَهُ. وَقِيلَ: أَحَدُهُمَا، يُسْتَحَبُّ. وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ. وَقِيلَ: أَحَدُهُمَا يُسْتَحَبُّ. وَالثَّانِي: يُكْرَهُ. وَقِيلَ: لَا يَنْتَظِرُهُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الِانْتِظَارِ فِي الْقِيَامِ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَضُرَّ الِانْتِظَارُ بِالْمَأْمُومِينَ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ، انْتَظَرَ قَطْعًا، وَإِلَّا فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَنْتَظِرُ فَانْتَظَرَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي بُطْلَانِهَا قَوْلَانِ. وَلَوْ أَحَسَّ بِالدَّاخِلِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَهُوَ كَالرُّكُوعِ. وَإِنْ أَحَسَّ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ كَالْقِيَامِ وَالسُّجُودِ، وَغَيْرِهِمَا، لَمْ يَنْتَظِرْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: هُوَ كَالرُّكُوعِ. وَقِيلَ: الْقِيَامُ كَالرُّكُوعِ، دُونَ غَيْرِهِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَنْتَظِرُ، فَفِي الْبُطْلَانِ مَا سَبَقَ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ انْتِظَارُهُ فِي الرُّكُوعِ وَالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مِنَ الْخَمْسِ مُنْفَرِدًا ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً يُصَلُّونَهَا، اسْتُحِبَّ أَنْ يُعِيدَهَا مَعَهُمْ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ مُنْكَرٌ: أَنَّهُ يُعِيدُ الظُّهْرَ وَالْعِشَاءَ فَقَطْ. وَوَجْهٌ:

فصل

يُعِيدُهُمَا مَعَ الْمَغْرِبِ. وَلَوْ صَلَّى جَمَاعَةً ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً أُخْرَى، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ: يُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ كَالْمُنْفَرِدِ. وَالثَّانِي: لَا. فَعَلَى هَذَا تُكْرَهُ إِعَادَةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ فِي الْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةُ فَضِيلَةٍ لِكَوْنِ الْإِمَامِ أَعْلَمَ أَوْ أَوْرَعَ، أَوِ الْجَمْعِ أَكْثَرَ، أَوِ الْمَكَانِ أَشْرَفَ، اسْتُحِبَّ الْإِعَادَةُ وَإِلَّا فَلَا. وَالرَّابِعُ: يُسْتَحَبُّ إِعَادَةُ مَا عَدَا الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ. وَإِذَا اسْتَحْبَبْنَا الْإِعَادَةَ لِمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا، أَوْ جَمَاعَةً، فَفِي فَرْضِهِ قَوْلَانِ، وَوَجْهَانِ. أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الْجَدِيدُ فَرْضُهُ الْأُولَى. وَالْقَدِيمُ: فَرْضُهُ إِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى يَحْتَسِبُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَرُبَّمَا قِيلَ: يَحْتَسِبُ بِأَكْمَلِهِمَا. وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا فَرْضٌ. وَالثَّانِي: إِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا، فَالْفَرْضُ الثَّانِيَةُ لِكَمَالِهَا. ثُمَّ إِنْ فَرَّعْنَا عَلَى غَيْرِ الْجَدِيدِ، نَوَى الْفَرْضَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا أَعَادَهَا كَالْمَرَّةِ الْأُولَى. وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى الْجَدِيدِ، فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ: يَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ أَيْضًا. وَالثَّانِي: اخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَنْوِي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ. وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْفَرْضِ فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا. فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُعِيدُهَا كَالْمَرَّةِ الْأُولَى. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ إِلَى رَكْعَةٍ أُخْرَى إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ: اخْتِيَارُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى إِذَا رَأَى مَنْ يُصَلِّي تِلْكَ الْفَرِيضَةَ وَحْدَهُ، أَنْ يُصَلِّيَهَا مَعَهُ لِيَحْصُلَ لَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، سَوَاءً قُلْنَا سُنَّةٌ، أَوْ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ عَامٍّ أَوْ خَاصٍّ، فَمِنَ الْعَامِّ: الْمَطَرُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا. وَمِنْهُ الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ. وَبَعْضُ الْأَصْحَابِ يَقُولُ: الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ، وَلَيْسَ

ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اشْتِرَاطِ الظُّلْمَةِ. وَمِنْهُ الْوَحْلُ الشَّدِيدُ وَسَيَأْتِي فِي الْجُمُعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهُ، السَّمُومُ، وَشِدَّةُ الْحَرِّ فِي الظُّهْرِ. فَإِنْ أَقَامُوا الْجَمَاعَةَ وَلَمْ يُبْرِدُوا، أَوْ أَبْرَدُوا، أَوْ بَقِيَ الْحَرُّ الشَّدِيدُ، فَلَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ. وَمِنْهُ شِدَّةُ الْبَرْدِ سَوَاءً فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَمِنَ الْأَعْذَارِ الْخَاصَّةِ: الْمَرَضُ، وَلَا يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ حَدًّا يُسْقِطُ الْقِيَامَ فِي الْفَرِيضَةِ، بَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يَلْحَقَهُ مَشَقَّةٌ كَمَشَقَّةِ الْمَاشِي فِي الْمَطَرِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُمَرَّضًا، وَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي (الْجُمُعَةِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ عَلَى مَنْ يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْهُ مِنْ سُلْطَانٍ، أَوْ غَيْرِهِ، مِمَّنْ يَظْلِمُهُ، أَوْ يَخَافُ مِنْ غَرِيمٍ يَحْبِسُهُ، أَوْ يُلَازِمُهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَلَهُ التَّخَلُّفُ. وَلَا عِبْرَةَ بِالْخَوْفِ مِمَّنْ يُطَالِبُهُ بِحَقٍّ هُوَ ظَالِمٌ فِي مَنْعِهِ، بَلْ عَلَيْهِ الْحُضُورُ وَيُوَفِّيهِ ذَلِكَ الْحَقَّ. وَيَدْخُلُ فِي الْخَوْفِ عَلَى الْمَالِ، مَا إِذَا كَانَ خُبْزُهُ فِي التَّنُّورِ، أَوْ قِدْرُهُ عَلَى النَّارِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَتَعَهَّدُهُمَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ لَوْ ظَفَرَ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ لِقَتْلِهِ، وَكَانَ يَرْجُو الْعَفْوَ مَجَّانًا، أَوْ عَلَى مَالٍ لَوْ غَيَّبَ وَجْهَهُ أَيَّامًا، فَلَهُ التَّخَلُّفُ بِذَلِكَ. وَفِي مَعْنَاهُ حَدُّ الْقَذْفِ دُونَ حَدِّ الزِّنَا، وَمَا لَا يَقْبَلُ الْعَفْوَ. وَاسْتَشْكَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ جَوَازَ التَّغَيُّبِ لِمَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ. وَمِنْهَا: أَنْ يُدَافِعَ أَحَدَ الْأَخْبَثَيْنِ أَوِ الرِّيحَ. وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّغَ نَفْسَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي وَإِنْ فَاتَتِ الْجَمَاعَةُ. فَلَوْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُقَدِّمُ الصَّلَاةَ. وَالثَّانِي: الْأَوْلَى أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، ثُمَّ يَقْضِي. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْمُدَافَعَةِ، وَسَلَبَتْ خُشُوعَهُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بِهِ جُوعٌ، أَوْ عَطَشٌ شَدِيدٌ، وَحَضَرَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ،

باب صفة الأئمة

وَتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهِ، فَيَبْدَأُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الشِّبَعَ، بَلْ يَأْكُلُ لُقَمًا يَكْسِرُ حِدَّةَ جُوعِهِ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مِمَّا يُؤْتَى عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، كَالسَّوِيقِ، وَاللَّبَنِ. فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لَوِ اشْتَغَلَ، فَوَجْهَانِ، كَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِيًا لَا لِبَاسَ لَهُ، فَيُعْذَرُ فِي التَّخَلُّفِ، سَوَاءً وَجَدَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، أَمْ لَا. وَمِنْهَا: أَنْ يُرِيدَ السَّفَرَ وَتَرْتَحِلَ الرُّفْقَةُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ نَاشِدَ ضَالَّةٍ يَرْجُو الظَّفَرَ، إِنْ تَرَكَ الْجَمَاعَةَ، أَوْ وَجَدَ مَنْ غَصَبَ مَالَهُ، وَأَرَادَ اسْتِرْدَادَهُ مِنْهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ أَكَلَ بَصَلًا أَوْ كُرَّاثًا أَوْ نَحْوَهُمَا، وَلَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَةُ الرَّائِحَةِ بِغَسْلٍ وَمُعَالَجَةٍ، فَإِنْ كَانَ مَطْبُوخًا فَلَا. وَمِنْهَا: غَلَبَةُ النَّوْمِ. قُلْتُ: أَمَّا الثَّلْجُ، فَإِنْ بَلَّ الثَّوْبَ فَعُذْرٌ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ فِي (الْحَاوِي) : وَالزَّلْزَلَةُ عُذْرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابُ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ صِفَةُ الْأَئِمَّةِ ضَرْبَانِ: مَشْرُوطَةٌ وَمُسْتَحَبَّةٌ. فَأَمَّا الْمَشْرُوطَةُ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ تَارَةً تَكُونُ بَاطِلَةً فِي اعْتِقَادِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَتَارَةً تَكُونُ صَحِيحَةً. فَالْأَوَّلُ كَصَلَاةِ الْمُحْدِثِ، وَالْجُنُبِ، وَمَنْ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ

وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ عَلِمَ حَالَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ. وَلَوْ صَلَّى لَمْ يَصِرْ بِالصَّلَاةِ مُسْلِمًا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَالثَّانِي: إِذَا صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ صَارَ مُسْلِمًا. هَذَا إِذَا لَمْ يُسْمَعُ مِنْهُ كَلِمَتَا الشَّهَادَتَيْنِ، فَإِنْ سُمِعَتَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةً فِي اعْتِقَادِهِ دُونَ اعْتِقَادِ الْمَأْمُومِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَلَهُ صُورَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْفُرُوعِ الِاجْتِهَادِيَّةِ. بِأَنْ مَسَّ الْحَنَفِيُّ فَرْجَهُ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، أَوْ تَرَكَ الِاعْتِدَالَ، أَوِ الطُّمَأْنِينَةَ، أَوْ قَرَأَ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، فَفِي صِحَّةِ صَلَاةِ الشَّافِعِيِّ خَلْفَهُ وَجْهَانِ. قَالَ الْقَفَّالُ: يَصِحُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا يَصِحُّ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَبِهِ قَطَعَ الرُّويَانِيُّ فِي (الْحِلْيَةِ) وَالْغَزَالِيُّ فِي (الْفَتَاوَى) . وَلَوْ صَلَّى عَلَى وَجْهٍ لَا يُصَحِّحُهُ، وَالشَّافِعِيُّ يُصَحِّحُهُ، بِأَنِ احْتَجَمَ، وَصَلَّى، فَعِنْدَ الْقَفَّالِ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الشَّافِعِيِّ بِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَامِدٍ: يَصِحُّ، اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِ الْمَأْمُومِ. وَقَالَ الْأَوْدَنِيُّ، وَالْحَلِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِذَا أَمَّ وَلِيُّ الْأَمْرِ، أَوْ نَائِبُهُ فَتَرَكَ الْبَسْمَلَةَ. وَالْمَأْمُومُ يَرَى وُجُوبَهَا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ خَلْفَهُ عَالِمًا كَانَ أَوْ عَامِّيًّا، وَلَيْسَ لَهُ الْمُفَارَقَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَهَذَا حَسَنٌ. أَمَّا إِذَا حَافَظَ الْحَنَفِيُّ عَلَى جَمِيعِ مَا يَعْتَقِدُ الشَّافِعِيُّ وُجُوبَهُ وَاشْتِرَاطَهُ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الشَّافِعِيِّ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْأَسْفَرَايِينِيُّ: لَا يَصِحُّ. وَلَوْ شَكَّ، هَلْ أَتَى بِالْوَاجِبَاتِ، أَمْ لَا؟ فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ كَمَا إِذَا عَلِمَ إِتْيَانَهُ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَمَا إِذَا عَلِمَ تَرْكَهَا، فَالْحَاصِلُ فِي اقْتِدَاءِ الشَّافِعِيِّ بِالْحَنَفِيِّ، أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: الصِّحَّةُ. وَالثَّانِي: الْبُطْلَانُ. وَالْأَصَحُّ: إِنْ حَافَظَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ أَوْ شَكَكْنَا صَحَّ. وَإِلَّا فَلَا. وَالرَّابِعُ: إِنْ حَافَظَ صَحَّ. وَإِلَّا فَلَا. وَلَوِ اقْتَدَى الْحَنَفِيُّ بِالشَّافِعِيِّ، فَصَلَّى الشَّافِعِيُّ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ عِنْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيِّ، بِأَنِ احْتَجَمَ، فَفِي صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ

الْخِلَافُ. وَإِذَا صَحَّحْنَا اقْتِدَاءَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَصَلَّى الشَّافِعِيُّ الصُّبْحَ خَلْفَ حَنَفِيٍّ، وَمَكَثَ الْحَنَفِيُّ بَعْدَ الرُّكُوعِ قَلِيلًا، وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَقْنُتَ فِيهِ فَعَلَ، وَإِلَّا تَابَعَهُ. وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، إِنِ اعْتَبَرْنَا اعْتِقَادَ الْمَأْمُومِ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا اعْتِقَادَ الْإِمَامِ فَلَا. وَلَوْ صَلَّى الْحَنَفِيُّ خَلْفَ الشَّافِعِيِّ الصُّبْحَ، فَتَرَكَ الْإِمَامُ الْقُنُوتَ سَاهِيًا، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، تَابَعَهُ الْمَأْمُومُ، وَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ سُجُودَ السَّهْوِ، سَجَدَ الْمَأْمُومُ إِنِ اعْتَبَرْنَا اعْتِقَادَ الْإِمَامِ، وَإِلَّا فَلَا. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْفُرُوعِ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ غَيْرِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، كَرَجُلَيْنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمَا فِي الْقِبْلَةِ، أَوْ فِي إِنَاءَيْنِ: طَاهِرٍ، وَنَجِسٍ، فَلَوْ كَثُرَتِ الْآنِيَةُ وَالْمُجْتَهِدُونَ، وَاخْتَلَفُوا بِأَنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً: طَاهِرَانِ، وَنَجِسٌ، فَظَنَّ كُلُّ رَجُلٍ طَهَارَةَ وَاحِدٍ فَحَسْبُ، وَأَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ فِي صَلَاةٍ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ: قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ وَالْأَكْثَرِينَ: تَصِحُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا أَمَّ فِيهِ، وَالِاقْتِدَاءُ الْأَوَّلُ يُبْطِلُ الثَّانِي. وَالثَّانِي: قَوْلُ صَاحِبِ (التَّلْخِيصِ) : لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ أَصْلًا. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ الْأَوَّلُ إِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ. فَإِنِ اقْتَدَى ثَانِيًا، لَزِمَهُ إِعَادَتُهُمَا. أَمَّا إِذَا ظَنَّ طَهَارَةَ اثْنَيْنِ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ مُسْتَعْمِلَ الْمَظْنُونِ طَهَارَتُهُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَا يَصِحُّ بِالثَّالِثِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ كَانَتِ الْآنِيَةُ خَمْسَةً، وَالنَّجِسُ مِنْهَا وَاحِدٌ، فَظَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ طَهَارَةَ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَظُنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَرْبَعَةِ، وَأَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ فِي صَلَاةٍ، فَعِنْدَ صَاحِبِ (التَّلْخِيصِ) وَالْمَرْوَزِيِّ: يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ مَا اقْتَدَوْا بِهِ. وَعِنْدَ ابْنِ الْحَدَّادِ: يَجِبُ إِعَادَةُ الِاقْتِدَاءِ الْأَخِيرِ فَقَطْ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: هَذِهِ الْأَوْجُهُ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا إِذَا سُمِعَ صَوْتٌ مِنْ خَمْسَةِ أَنْفُسٍ وَتَنَاكَرُوهُ. فَأَمَّا الْآنِيَةُ: فَلَا تُبْطِلُ إِلَّا الِاقْتِدَاءَ الْأَخِيرَ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ كَانَ النَّجِسُ مِنَ الْآنِيَةِ الْخَمْسَةِ اثْنَيْنِ، صَحَّتْ صَلَاةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَلْفَ اثْنَيْنِ، وَبَطَلَتْ خَلْفَ اثْنَيْنِ. وَلَوْ كَانَ النَّجِسُ ثَلَاثَةً، صَحَّتْ خَلْفَ وَاحِدٍ فَحَسْبُ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَلَا يَخْفَى قَوْلُ الْآخَرِينَ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةً فِي اعْتِقَادِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فَتَارَةً يُغْنِي عَنِ الْقَضَاءِ، وَتَارَةً لَا يُغْنِي. فَإِنْ لَمْ تُغْنِ كَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا، لَمْ يَجُزِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ لِلْمُتَوَضِّئِ وَلَا لِلْمُتَيَمِّمِ الَّذِي لَا يَقْضِي. وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا. وَمِثْلُهُ: الْمُقِيمُ الْمُتَيَمِّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ، وَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ ثُمَّ صَلَّى لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَالْعَارِي، وَالْمَرْبُوطُ عَلَى خَشَبَةٍ إِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِمُ الْإِعَادَةَ. وَإِنْ أَغْنَتْ عَنِ الْقَضَاءِ. فَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا، لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ. وَلَوْ رَأَى رَجُلَيْنِ يُصَلِّيَانِ جَمَاعَةً، وَشَكَّ أَيُّهُمَا الْإِمَامُ، لَمْ يَجُزِ الِاقْتِدَاءُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْإِمَامُ. وَلَوِ اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُصَلِّينَ أَنَّهُ مَأْمُومٌ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُمَا. وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ إِمَامٌ، صَحَّتْ. وَلَوْ شَكَّ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ إِمَامٌ، أَمْ مَأْمُومٌ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُمَا. وَإِنْ شَكَّ أَحَدُهُمَا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَأَمَّا الْآخَرُ، فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ إِمَامٌ صَحَّتْ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُومٍ، فَتَارَةً يُخِلُّ بِالْقِرَاءَةِ، وَتَارَةً لَا يُخِلُّ، فَإِنْ أَخَلَّ بِأَنْ كَانَ أُمِّيًّا، فَفِي صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْقَارِئِ بِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: لَا تَصِحُّ. وَالْقَدِيمُ: إِنْ كَانَتْ سِرِّيَّةً صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّالِثُ: مُخَرَّجٌ أَنَّهُ يَصِحُّ مُطْلَقًا. هَكَذَا نَقَلَ الْجُمْهُورُ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الثَّالِثَ، وَعَكَسَ الْغَزَالِيُّ، فَجَعَلَ الثَّانِيَ ثَالِثًا، وَالثَّالِثَ ثَانِيًا، وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ. قُلْتُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ جَارِيَةٌ سَوَاءً عَلِمَ الْمَأْمُومُ كَوْنَ الْإِمَامِ أُمِّيًّا، أَمْ لَا هَكَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَغَيْرُهُ. وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) : الْأَقْوَالُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ أُمِّيًّا، فَإِنْ عَلِمَ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّ: مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْ بَعْضَهَا، لِخَرَسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَرَتُّ. وَهُوَ الَّذِي يُدْغِمُ حَرْفًا بِحَرْفٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِدْغَامِ. وَقَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) :

هُوَ الَّذِي يُبْدِلُ الرَّاءَ بِالتَّاءِ. وَالْأَلْثَغُ: وَهُوَ الَّذِي يُبْدِلُ حَرْفًا بِحَرْفٍ، كَالسِّينِ بِالثَّاءِ، وَالرَّاءِ بِالْغَيْنِ، وَمَنْ فِي لِسَانِهِ رَخَاوَةٌ تَمْنَعُهُ التَّشْدِيدَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ فِي اقْتِدَاءِ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ هُوَ فِيمَنْ لَمْ يُطَاوِعْهُ لِسَانُهُ، أَوْ طَاوَعَهُ وَلَمْ يَمْضِ زَمَنٌ يُمْكِنُ التَّعَلُّمُ فِيهِ. فَأَمَّا إِذَا مَضَى زَمَنٌ وَقَصَّرَ بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ، فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ حِينَئِذٍ مَقْضِيَّةٌ، كَصَلَاةِ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا. وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ أُمِّيٍّ بِأُمِّيٍّ مِثْلِهِ. وَلَوْ حَضَرَ رَجُلَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحْسِنُ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ إِنْ كَانَ مَا يُحْسِنُهُ ذَا، يُحْسِنُهُ ذَاكَ، جَازَ اقْتِدَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ، وَإِنْ أَحْسَنَ كُلُّ وَاحِدٍ غَيْرَ مَا يُحْسِنُهُ الْآخَرُ، فَاقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، كَاقْتِدَاءِ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ. وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ الْأَرَتُّ بِالْأَلْثَغِ، وَعَكْسُهُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَارِئٌ مَا لَا يُحْسِنُهُ صَاحِبُهُ. وَتُكْرَهُ إِمَامَةُ التَّمْتَامِ، وَالْفَأْفَاءِ، وَالِاقْتِدَاءُ يَصِحُّ بِهِمَا. قُلْتُ: التَّمْتَامُ، مَنْ يُكَرِّرُ التَّاءَ، وَالْفَأْفَاءُ، مَنْ يُكَرِّرُ الْفَاءَ، وَيَتَرَدَّدُ فِيهَا، وَهُوَ بِهَمْزَتَيْنِ بَعْدَ الْفَاءَيْنِ، بِالْمَدِّ فِي آخِرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتُكْرَهُ إِمَامَةُ مَنْ يَلْحَنُ فِي الْقِرَاءَةِ ثُمَّ يُنْظَرُ: إِنْ كَانَ لَحْنًا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى كَرَفْعِ الْهَاءِ مِنَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَصَلَاةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ. وَإِنْ كَانَ يُغَيِّرُ كَضَمِّ تَاءِ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أَوْ كَسْرِهَا، تُبْطِلُهُ. كَقَوْلِهِ: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِينَ. فَإِنْ كَانَ يُطَاوِعُهُ لِسَانُهُ، وَيُمْكِنُهُ التَّعَلُّمُ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ قَصَّرَ وَضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى وَقَضَى، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يُطَاوِعْهُ لِسَانُهُ، أَوْ لَمْ يَمْضِ مَا يُمْكِنُ التَّعَلُّمُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْفَاتِحَةِ، فَصَلَاةُ مِثْلِهِ خَلْفَهُ صَحِيحَةٌ، وَصَلَاةُ صَحِيحِ اللِّسَانِ خَلْفَهُ صَلَاةُ قَارِئٍ خَلْفَ أُمِّيٍّ. وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ قِيلَ: لَيْسَ لِهَذَا اللَّاحِنِ قِرَاءَةٌ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ مِمَّا يَلْحَنُ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ بِلَا ضَرُورَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُخِلَّ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ فَإِنْ كَانَ رَجُلًا، صَحَّ اقْتِدَاءُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِهِ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةٌ، صَحَّ

اقْتِدَاءُ النِّسَاءِ بِهَا، وَلَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ الرِّجَالِ وَلَا الْخُنْثَى. وَإِنْ كَانَ خُنْثَى، جَازَ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِهِ. وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ وَلَا خُنْثَى آخَرَ بِهِ. فَرْعٌ حَيْثُ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُتَيَمِّمًا، أَوْ مَاسِحَ خُفٍّ، وَالْمَأْمُومُ مُتَوَضِّئًا غَاسِلًا رِجْلَهُ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِسَلِسِ الْبَوْلِ، وَالطَّاهِرَةِ بِالْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرِ الْمُتَحَيِّرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. كَمَا يَجُوزُ قَطْعًا بِمَنِ اسْتَنْجَى بِالْأَحْجَارِ، وَمَنْ عَلَى ثَوْبِهِ، أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ مَعْفُوٌّ عَنْهَا. وَيَصِحُّ صَلَاةُ الْقَائِمِ خَلْفَ الْقَاعِدِ، أَوِ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ خَلْفَ الْمُضْطَجَعِ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إِذَا عَرَفَ الْمَأْمُومُ حَالَ الْإِمَامِ فِي الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا. فَأَمَّا إِذَا ظَنَّ شَيْئًا، فَبَانَ خِلَافُهُ، فَلَهُ صُوَرٌ: مِنْهَا: إِذَا اقْتَدَى رَجُلٌ بِخُنْثَى مُشْكِلٍ، وَجَبَ الْقَضَاءُ، فَلَوْ لَمْ يَقْضِ حَتَّى بَانَ الْخُنْثَى رَجُلًا، لَمْ يَسْقُطِ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا اقْتَدَى خُنْثَى بِامْرَأَةٍ، وَلَمْ يَقْضِ حَتَّى بَانَ امْرَأَةً، وَفِيمَا إِذَا اقْتَدَى خُنْثَى بِخُنْثَى، وَلَمْ يَقْضِ الْمَأْمُومُ حَتَّى بَانَ امْرَأَةً وَالْإِمَامُ رَجُلًا. وَمِنْهَا: لَوِ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ مُتَطَهِّرًا، فَبَانَ بَعْدَ الصَّلَاةِ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا، فَلَا قَضَاءَ عَلَى الْمَأْمُومِ. وَلَنَا قَوْلٌ: إِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَالِمًا بِحَدَثِهِ، لَزِمَ الْمَأْمُومُ الْقَضَاءَ وَإِلَّا فَلَا. وَالْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ: أَنْ لَا قَضَاءَ مُطْلَقًا. قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ الشَّاذُّ نَقَلَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) قَالَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ

(التَّلْخِيصِ) قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا النَّقْلُ غَلَطٌ. وَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا حَكَى الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَ مَالِكٍ: أَنَّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ إِنْ تَعَمَّدَ الْإِمَامُ، وَلَيْسَ مَذْهَبًا لَهُ. وَالصَّوَابُ: إِثْبَاتُ الْقَوْلِ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي (الْبُوَيْطِيِّ) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْمَأْمُومُ حَدَثَ الْإِمَامِ أَصْلًا. فَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَتَفَرَّقَا، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ نَاسِيًا، وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ قَطْعًا. وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. فَإِنْ كَانَ فِيهَا، فَفِيهِ كَلَامٌ يَأْتِي فِي بَابِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: لَوِ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ قَارِئًا فَبَانَ أُمِّيًّا، وَقُلْنَا: لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ، فَفِي الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تَجِبُ. قَطَعَ بِهِ فِي (التَّهْذِيبِ) ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ، سَوَاءً كَانَتِ الصَّلَاةُ سِرِّيَّةً، أَوْ جَهْرِيَّةً. وَلَوِ اقْتَدَى بِمَنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهُ فِي جَهْرِيَّةٍ، فَلَمْ يَجْهَرْ، وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْأُمِّ) وَقَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَارِئًا لَجَهَرَ. فَلَوْ سَلَّمَ وَقَالَ: أَسْرَرْتُ وَنَسِيتُ الْجَهْرَ، لَمْ تَجِبِ الْإِعَادَةُ لَكِنْ تُسْتَحَبُّ. وَلَوْ بَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ذُكُورَةُ الْخُنْثَى، فَفِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ الرَّجُلِ، الْقَوْلَانِ، كَمَا بَعُدَ الْفَرَاغُ. وَلَوْ بَانَ فِي أَثْنَائِهَا كَوْنُهُ جُنُبًا، أَوْ مُحْدِثًا، فَلَا قَضَاءَ وَيَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ الْمُفَارَقَةَ فِي الْحَالِ، وَيَبْنِيَ. وَلَوْ بَانَ أُمِّيًّا، وَقُلْنَا: لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ، فَكَالْمُحْدِثِ وَإِلَّا فَكَالْخُنْثَى. وَمِنْهَا لَوِ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ رَجُلًا، فَبَانَ امْرَأَةً أَوْ خُنْثَى، وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ. وَقِيلَ: لَا تَجِبُ إِذَا بَانَ خُنْثَى وَهُوَ شَاذٌّ. وَلَوْ ظَنَّهُ مُسْلِمًا، فَبَانَ كَافِرًا يَتَظَاهَرُ بِكُفْرِهِ كَالْيَهُودِيِّ، وَجَبَ الْقَضَاءُ. وَإِنْ كَانَ يُخْفِيهِ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، كَالزِّنْدِيقِ، وَالْمُرْتَدِّ، لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ هُوَ الْأَقْوَى دَلِيلًا. لَكِنَّ الَّذِي صَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ، وُجُوبُ الْقَضَاءِ. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ،

وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ، وَصَاحِبَا (الْحَاوِي) وَ (الْعُدَّةِ) وَغَيْرُهُمْ وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَانَ عَلَى بَدَنِ الْإِمَامِ أَوْ ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً، فَهُوَ كَمَنْ بَانَ مُحْدِثًا، وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: عِنْدِي فِيهِ احْتِمَالٌ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَخْفَى. قُلْتُ: وَقَطَعَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرِهِمَا، بِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَالْحَدَثِ. وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْخِفْيَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَشَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، إِلَى أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً، فَهِيَ كَمَسْأَلَةِ الزِّنْدِيقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ إِذَا بَانَ كَافِرًا، أَوِ امْرَأَةً. قُلْتُ: وَلَوْ بَانَ مَجْنُونًا، وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ. فَلَوْ كَانَ لَهُ حَالَةُ جُنُونٍ وَحَالَةُ إِفَاقَةٍ، أَوْ حَالُ إِسْلَامٍ وَحَالُ رِدَّةٍ، وَاقْتَدَى بِهِ وَلَمْ يَدْرِ فِي أَيِّ حَالَيْهِ كَانَ، فَلَا إِعَادَةَ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَجْهَلُ إِسْلَامَهُ، فَلَا إِعَادَةَ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ أَسْلَمَ، فَقَالَ بَعْدَ الْفَرَاغِ: لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ حَقِيقَةً، أَوْ أَسْلَمْتُ ثُمَّ ارْتَدَدْتُ، فَلَا إِعَادَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، وَلَكِنَّ الْبَالِغَ أَوْلَى مِنْهُ. وَيَصِحُّ بِالْعَبْدِ بِلَا كَرَاهَةٍ، لَكِنَّ الْحُرَّ أَوْلَى، هَذَا إِذَا أَمَّا فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ. وَإِمَامَةُ الْأَعْمَى صَحِيحَةٌ، وَهُوَ وَالْبَصِيرُ سَوَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ

فصل في الصفات المستحبة في الإمام

بِهِ الْجُمْهُورُ. وَالثَّانِي: الْبَصِيرُ أَوْلَى، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ. وَالثَّالِثُ: الْأَعْمَى أَوْلَى، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ. فَصْلٌ فِي الصِّفَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ فِي الْإِمَامِ الْأَسْبَابُ الَّتِي يَتَرَجَّحُ بِهَا الْإِمَامُ سِتَّةٌ: الْفِقْهُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالْوَرَعُ، وَالسِّنُّ، وَالنَّسَبُ، وَالْهِجْرَةُ. فَأَمَّا الْفِقْهُ وَالْقِرَاءَةُ، فَظَاهِرَانِ. وَأَمَّا الْوَرَعُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الْعَدَالَةِ، بَلْ مَا يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ وَالْعِفَّةِ. وَأَمَّا السِّنُّ، فَالْمُعْتَبَرُ سِنٌّ مَضَى فِي الْإِسْلَامِ، فَلَا يُقَدَّمُ شَيْخٌ أَسْلَمَ الْيَوْمَ، عَلَى شَابٍّ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا عَلَى شَابٍّ أَسْلَمَ أَمْسِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الشَّيْخُوخَةُ، بَلِ النَّظَرُ إِلَى تَفَاوُتِ السِّنِّ، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى اعْتِبَارِهَا. وَأَمَّا النَّسَبُ، فَنَسَبُ قُرَيْشٍ مُعْتَبَرٌ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي غَيْرِهِمْ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُعْتَبَرُ كُلُّ نَسَبٍ يُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ، كَالْعُلَمَاءِ، وَالصُّلَحَاءِ. فَعَلَى هَذَا الْهَاشِمِيُّ وَالْمُطَّلِبِيُّ يُقَدَّمَانِ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ، وَسَائِرُ قُرَيْشٍ يُقَدَّمُونَ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ، وَسَائِرُ الْعَرَبِ يُقَدَّمُونَ عَلَى الْعَجَمِ. وَالثَّانِي: لَا يُعْتَبَرُ مَا عَدَا قُرَيْشًا. وَأَمَّا الْهِجْرَةُ، فَيُقَدَّمُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ. وَمَنْ تَقَدَّمَتْ هِجْرَتُهُ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَتْ. وَكَذَلِكَ الْهِجْرَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ - مُعْتَبَرَةٌ، وَأَوْلَادُ مَنْ هَاجَرَ أَوْ تَقَدَّمَتْ هِجْرَتُهُ، مُقَدَّمُونَ عَلَى أَوْلَادِ غَيْرِهِمْ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مَسَائِلُ. فَإِذَا اجْتَمَعَ عَدْلٌ وَفَاسِقٌ، فَالْعَدْلُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ وَإِنِ اخْتَصَّ الْفَاسِقُ بِزِيَادَةِ الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ وَسَائِرِ الْخِصَالِ، بَلْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَتُكْرَهُ أَيْضًا خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَا يُكَفَّرُ بِبِدْعَتِهِ. وَأَمَّا الَّذِي يُكَفَّرُ بِبِدْعَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ. وَحُكْمُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ. وَعَدَّ صَاحِبُ (الْإِفْصَاحِ) مَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، أَوْ يَنْفِي شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى - كَافِرًا. وَكَذَا جَعَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَمُتَابِعُوهُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ مِمَّنْ يُكَفَّرُ. وَالْخَوَارِجُ لَا يُكَفَّرُونَ. وَيُحْكَى الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَأَطْلَقَ الْقَفَّالُ وَكَثِيرُونَ مِنَ الْأَصْحَابِ، الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِأَهْلِ الْبِدَعِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُكَفَّرُونَ. قَالَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَصَاحِبُ (الْعُدَّةِ) هُوَ الصَّحِيحُ أَوِ الصَّوَابُ. فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ. وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَمُنَاكَحَتِهِمْ، وَمُوَارَثَتِهِمْ، وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تَأَوَّلَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُحَقِّقِينَ، مَا جَاءَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْ تَكْفِيرِ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ، لَا كُفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْأَوْرَعِ مَعَ الْأَفْقَهِ وَالْأَقْرَأِ وَجْهَانِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا مُقَدَّمَانِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَصَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَ (التَّهْذِيبِ) : يُقَدَّمُ عَلَيْهِمَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَلَوِ اجْتَمَعَ مَنْ لَا يَقْرَأُ إِلَّا مَا يَكْفِي الصَّلَاةَ وَلَكِنَّهُ صَاحِبُ فِقْهٍ كَثِيرٍ،

وَآخَرُ يُحْسِنُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَهُوَ قَلِيلُ الْفِقْهِ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ: أَنَّ الْأَفْقَهَ أَوْلَى، وَالثَّانِي: هُمَا سَوَاءٌ. فَأَمَّا مَنْ جَمَعَ الْفِقْهَ وَالْقِرَاءَةَ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِأَحَدِهِمَا قَطْعًا. وَالْفِقْهُ وَالْقِرَاءَةُ يُقَدَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّسَبِ وَالسِّنِّ وَالْهِجْرَةِ. وَعَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ: أَنَّ السِّنَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْفِقْهِ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ، فَفِيهِ طُرُقٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَجَمَاعَةٌ: لَا خِلَافَ فِي تَقْدِيمِ السِّنِّ وَالنَّسَبِ عَلَى الْهِجْرَةِ. فَلَوْ تَعَارَضَ سِنٌّ وَنَسَبٌ، كَشَابٍّ قُرَشِيٍّ، وَشَيْخٍ غَيْرِ قُرَشِيٍّ، فَالْجَدِيدُ: تَقْدِيمُ الشَّيْخِ، وَالْقَدِيمُ: الشَّابِّ. وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ هَذَا الْقَدِيمَ، وَعَكَسَ صَاحِبَا (التَّتِمَّةِ) وَ (التَّهْذِيبِ) فَقَالَا: الْهِجْرَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّسَبِ وَالسِّنِّ. وَفِيهِمَا الْقَوْلَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ، مِنْهُمْ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) : الْجَدِيدُ: يُقَدَّمُ السِّنُّ، ثُمَّ النَّسَبُ، ثُمَّ الْهِجْرَةُ، وَالْقَدِيمُ: يُقَدَّمُ النِّسَبُ، ثُمَّ الْهِجْرَةُ، ثُمَّ السِّنُّ. أَمَّا إِذَا تَسَاوَيَا فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَاتِ، فَيُقَدَّمُ بِنَظَافَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَنِ الْأَوْسَاخِ، وَبِطَيِّبِ الصَّنْعَةِ، وَحُسْنِ الصَّوْتِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْفَضَائِلِ. وَحَكَى الْأَصْحَابُ عَنْ بَعْضِ مُتَقَدِّمِي الْعُلَمَاءِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ. فَقِيلَ: أَحْسَنُهُمْ وَجْهًا، وَقِيلَ: أَحْسَنُهُمْ ذِكْرًا بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ فِي (التَّتِمَّةِ) : تُقَدَّمُ نَظَافَةُ الثَّوْبِ، ثُمَّ حُسْنُ الصَّوْتِ، ثُمَّ حُسْنُ الصُّورَةِ. فَرْعٌ الْوَالِي فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنِ اخْتَصَّ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِالْخِصَالِ الَّذِي سَبَقَتْ. وَيُقَدَّمُ الْوَالِي عَلَى إِمَامِ الْمَسْجِدِ وَمَالِكِ الدَّارِ وَنَحْوِهِمَا، إِذَا أَذِنَ

الْمَالِكُ فِي إِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِي مِلْكِهِ. فَلَوْ أَذِنَ الْوَالِي فِي تَقَدُّمِ غَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ. ثُمَّ يُرَاعَى فِي الْوُلَاةِ تَفَاوُتُ الدَّرَجَةِ، فَالْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى مِنَ الْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ. وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْمَالِكَ أَوْلَى مِنَ الْوَالِي. وَالْمَشْهُورُ، تَقْدِيمُ الْوَالِي. وَلَوِ اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي مَوْضِعٍ مَمْلُوكٍ لَيْسَ فِيهِمْ وَالٍ، فَسَاكِنُ الْمَوْضِعِ بِحَقٍّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّقَدُّمِ مِنَ الْأَجَانِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلتَّقَدُّمِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، سَوَاءً كَانَ السَّاكِنُ عَبْدًا أَسْكَنَهُ سَيِّدُهُ، أَوْ حُرًّا مَالِكًا، أَوْ مُسْتَعِيرًا، أَوْ مُسْتَأْجِرًا. وَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ شَخْصَيْنِ وَهُمَا حَاضِرَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَالْمُسْتَعِيرُ مِنَ الْآخَرِ، فَلَا يَتَقَدَّمُ غَيْرُهُمَا إِلَّا بِإِذْنِهِمَا، وَلَا أَحَدُهُمَا إِلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ. فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ إِلَّا أَحَدُهُمَا، فَهُوَ الْأَحَقُّ. وَلَوِ اجْتَمَعَ مَالِكُ الدَّارِ وَالْمُسْتَأْجِرُ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ أَوْلَى، وَالثَّانِي: الْمَالِكُ. وَلَوِ اجْتَمَعَ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْمُعِيرَ أَوْلَى، وَالثَّانِي: الْمُسْتَعِيرُ. وَلَوْ حَضَرَ السَّيِّدُ وَعَبْدُهُ السَّاكِنُ، فَالسَّيِّدُ أَوْلَى قَطْعًا، سَوَاءً الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ حَضَرَ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ فِي دَارِ الْمُكَاتَبِ، فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى. وَلَوْ حَضَرَ قَوْمٌ فِي مَسْجِدٍ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ إِمَامُهُ، اسْتُحِبَّ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِ لِيَحْضُرَ. فَإِنْ خِيفَ فَوَاتُ أَوَّلِ الْوَقْتِ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ غَيْرُهُ. قُلْتُ: تَقَدُّمُ غَيْرِهِ مُسْتَحَبٌّ إِنْ لَمْ يُخَفْ فِتْنَةٌ، فَإِنْ خِيفَتْ صَلُّوا فُرَادَى. وَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا مَعَهُ إِنْ حَضَرَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في شروط الاقتداء وآدابه

فَصْلٌ فِي شُرُوطِ الِاقْتِدَاءِ وَآدَابِهِ فَأَمَّا الشُّرُوطُ، فَسَبْعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ عَلَى الْإِمَامِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ. فَإِنْ تَقَدَّمَ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ. وَلَوْ تَقَدَّمَ فِي خِلَالِهَا بَطَلَتْ. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ. وَالْمُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ قَلِيلًا إِنْ كَانَ وَحْدَهُ. فَإِنِ ائْتَمَّ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، اصْطَفُّوا خَلْفَهُ. وَلَوْ تَسَاوَى الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَالِاعْتِبَارُ فِي التَّقَدُّمِ وَالْمُسَاوَاةِ بِالْعَقِبِ، فَلَوِ اسْتَوَيَا فِي الْعَقِبِ، وَتَقَدَّمَتْ أَصَابِعُ الْمَأْمُومِ، لَمْ يَضُرَّ. وَإِنْ تَأَخَّرَتْ أَصَابِعُ الْمَأْمُومِ عَنْ أَصَابِعِ الْإِمَامِ، وَتَقَدَّمَ عَقِبُهُ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: تَصِحُّ قَطْعًا. وَفِي الْوَسِيطِ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْكَعْبِ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. هَذَا فِيمَنْ بَعُدَ عَنِ الْكَعْبَةِ. فَإِنْ صَلُّوا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَيَقِفَ النَّاسُ مُسْتَدِيرِينَ بِالْكَعْبَةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إِلَيْهَا، نُظِرَ: إِنْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْإِمَامُ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ؛ الْقَدِيمُ وَالْجَدِيدُ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى غَيْرِهَا، فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ قَطْعًا. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ وَقَفَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، فَإِنْ كَانَ وَجْهُ الْمَأْمُومِ إِلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ، أَوْ وَجْهُهُ إِلَى وَجْهِهِ، أَوْ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِهِ، وَلَيْسَ الْمَأْمُومُ أَقْرَبَ إِلَى الْجِدَارِ، صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْجِدَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْ كَانَ ظَهْرُهُ إِلَى وَجْهِ الْإِمَامِ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ وَقَفَ الْإِمَامُ فِي الْكَعْبَةِ، وَالْمَأْمُومُ خَارِجَهَا جَازَ، وَلَهُ التَّوَجُّهُ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ وَلَوْ وَقَفَا بِالْعَكْسِ، جَازَ أَيْضًا، لَكِنْ إِنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْإِمَامُ، عَادَ الْقَوْلَانِ.

فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَحْضُرْ مَعَ الْإِمَامِ إِلَّا ذَكَرٌ، فَلْيَقِفْ عَنْ يَمِينِهِ بَالِغًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا، وَلَوْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ خَلْفَهُ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. فَإِنْ جَاءَ مَأْمُومٌ آخَرُ، وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ وَأَحْرَمَ. ثُمَّ إِنْ أَمْكَنَ تَقَدُّمِ الْإِمَاِ وَتَأَخُّرِ الْمَأْمُومِينَ لِسِعَةِ الْمَكَانِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ - تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، أَوْ أَيُّهُمَا أَوْلَى؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ: تَأَخُّرُهُمَا. وَالثَّانِي: تَقَدُّمُهُ. قَالَهُ الْقَفَّالُ، لِأَنَّهُ يُبْصِرُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا التَّقَدُّمُ، أَوِ التَّأَخُّرُ لِضِيقِ الْمَكَانِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، فَعَلَ الْمُمْكِنَ، وَهَذَا فِي الْقِيَامِ. أَمَّا إِذَا لَحِقَ الثَّانِي فِي التَّشَهُّدِ، أَوِ السُّجُودِ، فَلَا تَقَدُّمَ وَلَا تَأَخُّرَ حَتَّى يَقُومُوا. وَلَوْ حَضَرَ مَعَهُ فِي الِابْتِدَاءِ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ، اصْطَفَّا خَلْفَهُ. وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ إِلَّا إِنَاثٌ، صَفَّهُنَّ خَلْفَهُ، سَوَاءٌ الْوَاحِدَةُ وَجَمَاعَتُهُنَّ. وَإِنْ حَضَرَ مَعَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الرَّجُلِ. وَإِنْ حَضَرَ مَعَهُ امْرَأَةٌ وَرَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ، قَامَ الرَّجُلَانِ، أَوِ الرَّجُلُ وَالصَّبِيُّ خَلْفَ الْإِمَامِ صَفًّا، وَقَامَتْ هِيَ خَلْفَهُمَا. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ، وَامْرَأَةٌ، وَخُنْثَى، وَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْخُنْثَى خَلْفَهُمَا، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْخُنْثَى. وَإِنْ حَضَرَ رِجَالٌ وَصِبْيَانٌ، وَقَفَ الرِّجَالُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي صَفٍّ، أَوْ صُفُوفٍ. وَالصِّبْيَانُ خَلْفَهُمْ، وَفِي وَجْهٍ: يَقِفُ بَيْنَ كُلِّ رَجُلَيْنِ صَبِيٌّ لِيَتَعَلَّمُوا أَفْعَالَ الصَّلَاةِ. وَلَوْ حَضَرَ مَعَهُمْ نِسَاءٌ، أُخِّرَ صَفُّ النِّسَاءِ عَنِ الصِّبْيَانِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الرِّجَالُ عُرَاةً، فَإِنْ كَانُوا، وَقَفَ إِمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ وَصَارُوا صَفًّا. وَأَمَّا النِّسَاءُ الْخُلَّصُ، إِذَا أَقَمْنَ جَمَاعَةً، فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ كَيْفَ يَقِفْنَ. وَأَنَّ إِمَامَتَهُنَّ تَقِفُ وَسَطَهُنَّ.

قُلْتُ: وَلَوْ صَلَّى خُنْثَى بِنِسَاءٍ، تَقَدَّمَ عَلَيْهِنَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكُلُّ هَذَا اسْتِحْبَابٌ، وَمُخَالَفَتُهُ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ. فَرْعٌ إِذَا دَخَلَ رَجُلٌ وَالْجَمَاعَةُ فِي الصَّلَاةِ، كُرِهَ أَنْ يَقِفَ مُنْفَرِدًا، بَلْ إِنْ وَجَدَ فُرْجَةً، أَوْ سِعَةً فِي الصَّفِّ، دَخَلَهَا. وَلَهُ أَنْ يَخْرِقَ الصَّفَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فُرْجَةٌ وَكَانَتْ فِي صَفٍّ قُدَّامَهُ، لِتَقْصِيرِهِمْ بِتَرْكِهَا. فَلَوْ لَمْ يَجِدْ فِي الصَّفِّ سِعَةً، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَقِفُ مُنْفَرِدًا، وَلَا يَجْذِبُ إِلَى نَفْسِهِ أَحَدًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْبُوَيْطِيِّ) وَالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ: يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ وَاحِدًا. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَجْرُورِ أَنْ يُسَاعِدَهُ. وَإِنَّمَا يَجُرُّهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ. وَلَوْ وَقَفَ مُنْفَرِدًا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعِلْمُ بِالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. ثُمَّ الْعِلْمُ قَدْ يَكُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْإِمَامِ، أَوْ مُشَاهَدَةِ بَعْضِ الصُّفُوفِ، وَقَدْ يَكُونُ بِسَمَاعِ صَوْتِ الْإِمَامِ، أَوْ صَوْتِ الْمُتَرْجِمِ فِي حَقِّ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ الَّذِي لَا يُشَاهِدُ لِظُلْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَدْ يَكُونُ بِهِدَايَةِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ أَعْمَى، أَوْ أَصَمَّ فِي ظُلْمَةٍ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: اجْتِمَاعُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الْمَوْقِفِ. وَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَا فِي مَسْجِدٍ، صَحَّ الِاقْتِدَاءُ، قَرُبَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا أَمْ بَعُدَتْ لِكِبَرِ الْمَسْجِدِ، وَسَوَاءً اتَّحَدَ الْبِنَاءُ أَمِ اخْتَلَفَ، كَصَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَصُفَّتِهِ، أَوْ مَنَارَتِهِ وَسِرْدَابٍ فِيهِ، أَوْ سَطْحِهِ وَسَاحَتِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ السَّطْحُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا، فَهُوَ كَمِلْكٍ مُتَّصِلٍ بِالْمَسْجِدِ، وَقَفَ أَحَدُهُمَا فِيهِ، وَالْآخَرُ فِي الْمَسْجِدِ. وَسَيَأْتِي فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَشَرْطُ الْبِنَاءَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، أَنْ يَكُونَ

باب أحدهما نافذا إلى الآخر. وإلا، فلا يعدان مسجدا واحدا. وإذا حصل هذا الشرط، فلا فرق بين أن يكون الباب بينهما مفتوحا، أو مردودا مغلقا، أو غير مغلق. وفي وجه ضعيف: إن كان مغلقا، لم يجز الاقتداء. ووجه مثله فيما إذا كان أحدهما على السطح، وباب المرقى مغلقا. ولو كانا في مسجدين، يحول بينهما نهر، أو طريق، أو حائط المسجد من غير باب نافذ من أحدهما إلى الآخر، فهو كما إذا وقف أحدهما في مسجد، والآخر في ملك. وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن كان في المسجد نهر، فإن حفر النهر بعد المسجد، فهو مسجد فلا يضر، وإن حفر قبل مصيره مسجدا، فهما مسجدان غير متصلين. قال الشيخ أبو محمد: لو كان في جوار المسجد مسجد آخر منفرد بإمام، ومؤذن، وجماعة، فلكل واحد مع الآخر حكم الملك المتصل بالمسجد. وهذا كالضابط الفارق بين المسجد والمسجدين. فظاهره يقتضي تغاير الحكم، إذا انفرد بالأمور المذكورة، وإن كان باب أحدهما نافذا إلى الآخر.

بَابُ أَحَدِهِمَا نَافِذًا إِلَى الْآخَرِ. وَإِلَّا، فَلَا يُعَدَّانِ مَسْجِدًا وَاحِدًا. وَإِذَا حَصَلَ هَذَا الشَّرْطُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَابُ بَيْنَهُمَا مَفْتُوحًا، أَوْ مَرْدُودًا مُغْلَقًا، أَوْ غَيْرَ مُغْلَقٍ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: إِنْ كَانَ مُغْلَقًا، لَمْ يَجُزِ الِاقْتِدَاءُ. وَوَجْهٌ مِثْلُهُ فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَلَى السَّطْحِ، وَبَابُ الْمَرْقَى مُغْلَقًا. وَلَوْ كَانَا فِي مَسْجِدَيْنِ، يَحُولُ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ، أَوْ طَرِيقٌ، أَوْ حَائِطُ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ بَابٍ نَافِذٍ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، فَهُوَ كَمَا إِذَا وَقَفَ أَحَدُهُمَا فِي مَسْجِدٍ، وَالْآخَرُ فِي مِلْكٍ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ نَهْرٌ، فَإِنْ حُفِرَ النَّهْرُ بَعْدَ الْمَسْجِدِ، فَهُوَ مَسْجِدٌ فَلَا يَضُرُّ، وَإِنْ حُفِرَ قَبْلَ مَصِيرِهِ مَسْجِدًا، فَهُمَا مَسْجِدَانِ غَيْرُ مُتَّصِلَيْنِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَوْ كَانَ فِي جِوَارِ الْمَسْجِدِ مَسْجِدٌ آخَرُ مُنْفَرِدٌ بِإِمَامٍ، وَمُؤَذِّنٍ، وَجَمَاعَةٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مَعَ الْآخَرِ حُكْمُ الْمِلْكِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَسْجِدِ. وَهَذَا كَالضَّابِطِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدَيْنِ. فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَغَايُرَ الْحُكْمِ، إِذَا انْفَرَدَ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ كَانَ بَابُ أَحَدِهِمَا نَافِذًا إِلَى الْآخَرِ. قُلْتُ: الَّذِي صَرَّحَ بِهِ كَثِيرُونَ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَصَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَ (التَّتِمَّةِ) ، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ الْمَسَاجِدَ الَّتِي يُفْتَحُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، لَهَا حُكْمُ مَسْجِدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا رَحْبَةُ الْمَسْجِدِ، فَعَدَّهَا الْأَكْثَرُونَ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فَرْقًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ طَرِيقٌ أَمْ لَا. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: إِنِ انْفَصَلَتْ فَهِيَ كَمَسْجِدٍ آخَرَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي فَضَاءٍ فَيَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ تَقْرِيبًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: تَحْدِيدٌ. وَالتَّقْرِيبُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُرْفِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَعَلَى الثَّانِي: مِمَّا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ

فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَلَوْ وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ صَفَّانِ، أَوْ شَخْصَانِ، أَحَدُهُمَا وَرَاءَ الْآخَرِ، فَالْمَسَافَةُ الْمَذْكُورَةُ تُعْتَبَرُ بَيْنَ الصَّفِّ الْأَخِيرِ، أَوِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، أَوِ الشَّخْصِ الْأَخِيرِ وَالْأَوَّلِ، وَلَوْ كَثُرَتِ الصُّفُوفُ، وَبَلَغَ مَا بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْأَخِيرِ فَرْسَخًا جَازَ. وَفِي وَجْهٍ: يُعْتَبَرُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالصَّفِّ الْأَخِيرِ إِذَا لَمْ تَكُنِ الصُّفُوفُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْإِمَامِ مُتَّصِلَةً عَلَى الْعَادَةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ. وَلَوْ حَالَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، أَوِ الصَّفَّيْنِ نَهْرٌ يُمْكِنُ الْعُبُورُ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ إِلَى الْآخَرِ بِلَا سِبَاحَةٍ، بِالْوُثُوبِ، أَوِ الْخَوْضِ، أَوِ الْعُبُورِ عَلَى جِسْرٍ - صَحَّ الِاقْتِدَاءُ. وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى سِبَاحَةٍ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَارِعٌ مَطْرُوقٌ، لَمْ يَضُرَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَسَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، كَانَ الْفَضَاءُ مَوَاتًا أَوْ وَقْفًا، أَوْ مِلْكًا، أَوْ بَعْضُهُ مَوَاتًا، وَبَعْضُهُ مِلْكًا، أَوْ بَعْضُهُ وَقْفًا. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يُشْتَرَطُ فِي السَّاحَةِ الْمَمْلُوكَةِ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ، وَفِي وَجْهٍ: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ إِنْ كَانَتْ لِشَخْصَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مُطْلَقًا. وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ كَانَ الْفَضَاءُ مَحُوطًا عَلَيْهِ أَوْ مُسَقَّفًا، كَالْبُيُوتِ الْوَاسِعَةِ أَوْ غَيْرَ مَحُوطٍ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا فِي غَيْرِ فَضَاءٍ فَإِذَا وَقَفَ أَحَدُهُمَا فِي صَحْنِ دَارٍ أَوْ صُفَّتِهَا وَالْآخَرُ فِي بَيْتٍ، فَمَوْقِفُ الْمَأْمُومِ قَدْ يَكُونُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ أَوْ يَسَارِهِ، وَقَدْ يَكُونُ خَلْفَهُ. وَفِيهِ طَرِيقَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: قَالَهَا الْقَفَّالُ وَأَصْحَابُهُ، وَابْنُ كَجٍّ، وَحَكَاهَا أَبُو عَلِيٍّ فِي (الْإِفْصَاحِ) عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَا إِذَا وَقَفَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، أَنْ يَتَّصِلَ الصَّفُّ مِنَ الْبِنَاءِ الَّذِي فِيهِ الْإِمَامُ، إِلَى الْبِنَاءِ الَّذِي فِيهِ الْمَأْمُومُ، بِحَيْثُ لَا تَبْقَى فُرْجَةٌ تَسَعُ وَاقِفًا، فَإِنْ بَقِيَتْ فُرْجَةٌ لَا تَسَعُ وَاقِفًا، لَمْ يَضُرَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَتَبَةٌ عَرِيضَةٌ تَسَعُ وَاقِفًا، اشْتُرِطَ وُقُوفُ مُصَلٍّ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْفُرْجَةِ الْيَسِيرَةِ. وَأَمَّا إِذَا وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَفِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْبُطْلَانُ. وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ إِذَا اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ وَتَلَاحَقَتْ. وَمَعْنَى اتِّصَالِهَا، أَنْ يَقِفَ رَجُلٌ أَوْ صَفٌّ فِي آخِرِ الْبِنَاءِ

الَّذِي فِيهِ الْإِمَامُ، وَرَجُلٌ أَوْ صَفٌّ فِي أَوَّلِ الْبِنَاءِ الَّذِي فِيهِ الْمَأْمُومُ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ. وَالثَّلَاثُ لِلتَّقْرِيبِ. فَلَوْ زَادَ مَا لَا يَتَبَيَّنُ فِي الْحِسِّ بِلَا ذَرْعٍ لَمْ يَضُرَّ. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَشْرُوعُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. وَإِذَا وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ، فَلَوْ كَانَ فِي بِنَاءِ الْمَأْمُومِ بَيْتٌ عَنِ الْيَمِينِ، أَوِ الشِّمَالِ، اعْتُبِرَ الِاتِّصَالُ بِتَوَاصُلِ الْمَنَاكِبِ. هَذِهِ طَرِيقَةٌ. الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ أَصْحَابِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَمُعْظَمِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الصَّفِّ فِي الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، وَلَا اتِّصَالُ الصُّفُوفِ فِي الْمَوَاقِفِ خَلْفَهُ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ: الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ عَلَى الضَّبْطِ الْمَذْكُورِ فِي الصَّحْرَاءِ. قُلْتُ: الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا إِذَا كَانَ بَيْنَ الْبِنَاءَيْنِ بَابٌ نَافِذٌ فَوَقَفَ بِحِذَائِهِ صَفٌّ أَوْ رَجُلٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ جِدَارٌ أَصْلًا كَالصَّحْنِ مَعَ الصُّفَّةِ، فَلَوْ حَالَ حَائِلٌ يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ وَالْمُشَاهَدَةَ، لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِاتِّفَاقِ الطَّرِيقَتَيْنِ، وَإِنْ مَنَعَ الِاسْتِطْرَاقَ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ كَالْمُشَبَّكِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا صَحَّ اقْتِدَاءُ الْوَاقِفِ فِي الْبِنَاءِ الْآخَرِ، إِمَّا بِشَرْطٍ، وَإِمَّا دُونَهُ - صَحَّتْ صَلَاةُ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ تَبَعًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبِنَاءِ الَّذِي فِيهِ الْإِمَامُ جِدَارٌ، وَتَكُونُ الصُّفُوفُ مَعَ هَذَا الْوَاقِفِ كَالْمَأْمُومِينَ مَعَ الْإِمَامِ، حَتَّى لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، إِنْ تَأَخَّرَ عَنْ سَمْتِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ، إِذْ لَمْ يُجَوَّزْ تَقَدُّمُ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَكْبِيرُهُمْ عَلَى تَكْبِيرِهِ. أَمَّا إِذَا وَقَفَ الْإِمَامُ فِي صَحْنِ الدَّارِ، وَالْمَأْمُومُ فِي مَكَانٍ عَالٍ مِنْ سَطْحٍ، أَوْ طَرَفِ صُفَّةٍ مُرْتَفِعَةٍ، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَبِمَاذَا يَحْصُلُ الِاتِّصَالُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا، قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: إِنْ كَانَ رَأْسُ الْوَاقِفِ فِي السُّفْلِ يُحَاذِي رُكْبَةَ الْوَاقِفِ فِي الْعُلُوِّ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ، إِنْ حَاذَى رَأَسُ الْأَسْفَلِ قَدَمَ الْأَعْلَى صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ إِمَامُ

الْحَرَمَيْنِ: الْأَوَّلُ مُزَيَّفٌ لَا وَجْهَ لَهُ، وَالِاعْتِبَارُ، بِمُعْتَدِلِ الْقَامَةِ. حَتَّى لَوْ كَانَ قَصِيرًا، أَوْ قَاعِدًا فَلَمْ يُحَاذِ، وَلَوْ قَامَ فِيهِ مُعْتَدِلُ الْقَامَةِ، لَحَصَلَتِ الْمُحَاذَاةُ، كَفَى. وَحَيْثُ لَا يَمْنَعُ الِانْخِفَاضُ الْقُدْوَةَ، وَكَانَ بَعْضُ الَّذِينَ يَحْصُلُ بِهِمُ الِاتِّصَالُ عَلَى سَرِيرٍ أَوْ مَتَاعٍ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَضُرَّ. وَلَوْ كَانَا فِي الْبَحْرِ وَالْإِمَامُ فِي سَفِينَةٍ وَالْمَأْمُومُ فِي أُخْرَى وَهُمَا مَكْشُوفَتَانِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ إِذَا لَمْ يَزِدْ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، كَالصَّحْرَاءِ، وَتَكُونُ السَّفِينَتَانِ كَدِكَّتَيْنِ فِي الصَّحْرَاءِ، يَقِفُ الْإِمَامُ عَلَى إِحْدَاهُمَا، وَالْمَأْمُومُ عَلَى الْأُخْرَى. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ سَفِينَةُ الْإِمَامِ مَشْدُودَةً بِسَفِينَةِ الْمَأْمُومِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَإِنْ كَانَتَا مُسَقَّفَتَيْنِ فَهُمَا كَالدَّارَيْنِ، وَالسَّفِينَةُ الَّتِي فِيهَا بُيُوتٌ، كَالدَّارِ ذَاتِ الْبُيُوتِ. وَحُكْمُ الْمَدَارِسِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْخَانَاتِ حُكْمُ الدُّورِ. وَالسُّرَادِقَاتُ فِي الصَّحْرَاءِ، كَالسَّفِينَةِ الْمَكْشُوفَةِ، وَالْخِيَامُ كَالْبُيُوتِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَالْآخَرُ خَارِجَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ فِي مَسْجِدٍ، وَالْمَأْمُومُ فِي مَوَاتٍ مُتَّصِلٍ بِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ جَازَ، إِذَا لَمْ تَزِدِ الْمَسَافَةُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ آخِرِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي، مِنْ آخِرِ صَفٍّ فِي الْمَسْجِدِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْإِمَامُ فَمِنْ مَوْقِفِهِ. وَعَلَى الثَّالِثِ، مِنْ حَرِيمِ الْمَسْجِدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوَاتِ. وَحَرِيمُهُ: الْمَوْضِعُ الْمُتَّصِلُ بِهِ، الْمُهَيَّأُ لِمَصْلَحَتِهِ، كَانْصِبَابِ الْمَاءِ إِلَيْهِ، وَطَرْحِ الْقِمَامَاتِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا جِدَارُ الْمَسْجِدِ، لَكِنَّ الْبَابَ النَّافِذَ بَيْنَهُمَا مَفْتُوحٌ، فَوَقَفَ بِحِذَائِهِ جَازَ، وَلَوِ اتَّصَلَ صَفٌّ بِالْوَاقِفِ فِي الْمُحَاذَاةِ، وَخَرَجُوا عَنِ الْمُحَاذَاةِ جَازَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجِدَارِ بَابٌ أَوْ كَانَ وَلَمْ يَقِفْ بِحِذَائِهِ بَلْ عَدَلَ عَنْهُ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا يَمْنَعُ. وَأَمَّا الْحَائِلُ غَيْرَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ، فَيَمْنَعُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَابٌ مُغْلَقٌ

فَهُوَ كَالْجِدَارِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ وَالْمُشَاهَدَةَ. وَإِنْ كَانَ مَرْدُودًا غَيْرَ مُغْلَقٍ، فَهُوَ مَانِعٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ دُونَ الِاسْتِطْرَاقِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُشَبَّكٌ، فَهُوَ مَانِعٌ مِنَ الِاسْتِطْرَاقِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ. فَفِي الصُّورَتَيْنِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ مَانِعٌ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْمَوَاتِ. فَلَوْ وَقَفَ الْمَأْمُومُ فِي شَارِعٍ مُتَّصِلٍ بِالْمَسْجِدِ، فَهُوَ كَالْمَوَاتِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الصَّفِّ مِنَ الْمَسْجِدِ بِالطَّرِيقِ. وَلَوْ وَقَفَ فِي حَرِيمِ الْمَسْجِدِ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي (التَّهْذِيبِ) : أَنَّهُ كَالْمَوَاتِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْفَضَاءَ الْمُتَّصِلَ بِالْمَسْجِدِ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا، فَوَقَفَ الْمَأْمُومُ فِيهِ، لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ حَتَّى يَتَّصِلَ الصَّفُّ مِنَ الْمَسْجِدِ بِالْفَضَاءِ. وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الصَّفِّ مِنْ سَطْحِ الْمَسْجِدِ، بِالسَّطْحِ الْمَمْلُوكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ فِي دَارٍ مَمْلُوكَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْمَسْجِدِ، يُشْتَرَطُ الِاتِّصَالُ بِأَنْ يَقِفَ وَاحِدٌ فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ مُتَّصِلٌ بِعَتَبَةِ الدَّارِ، وَآخَرُ فِي الدَّارِ مُتَّصِلٌ بِالْعَتَبَةِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَوْقِفُ رَجُلٍ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْفَضَاءِ مُشْكِلٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْمَوَاتِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّارِ، فَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: جِدَارُ الْمَسْجِدِ لَا يَمْنَعُ، كَمَا قَالَ فِي الْمَوَاتِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَائِلٌ. وَيَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ إِذَا كَانَ فِي حَدِّ الْقُرْبِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ. فَمِنْ شُرُوطِ الِاقْتِدَاءِ: أَنْ يَنْوِيَ الْمَأْمُومُ الْجَمَاعَةَ أَوِ الِاقْتِدَاءَ، وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ صَلَاتُهُ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرِنَ هَذِهِ النِّيَّةَ بِالتَّكْبِيرِ كَسَائِرِ مَا يَنْوِيهِ، فَإِنْ تَرَكَ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ، انْعَقَدَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى هَذَا لَوْ شَكَّ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ فِي نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ نَظَرَ إِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ فِعْلًا عَلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ أَنْ أَحْدَثَ فِعْلًا عَلَى مُتَابَعَتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ فِي حَالِ الشَّكِّ لَهُ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ، وَلَيْسَ لَهُ الْمُتَابَعَةُ. حَتَّى لَوْ عَرَضَ هَذَا الشَّكُّ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ سَلَامُهُ عَلَى سَلَامِ الْإِمَامِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِالْمُتَابَعَةِ - هُوَ إِذَا انْتَظَرَ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ لِيَرْكَعَ

وَيَسْجُدَ مَعَهُ. فَأَمَّا إِذَا اتَّفَقَ انْقِضَاءُ فِعْلِهِ، مَعَ انْقِضَاءِ فِعْلِهِ فَهَذَا لَا يُبْطِلُ قَطْعًا. لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَابَعَةً. وَالْمُرَادُ: الِانْتِظَارُ الْكَثِيرُ. فَأَمَّا الْيَسِيرُ فَلَا يَضُرُّ. وَهَلْ تَجِبُ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ فِي الْجُمُعَةِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: وَجُوبُهَا. وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِجَمَاعَةٍ فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهَا. فَرْعٌ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُعَيِّنَ فِي نِيَّتِهِ الْإِمَامَ، بَلْ يَكْفِي نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ الْحَاضِرِ، فَلَوْ عَيَّنَ فَأَخْطَأَ، بِأَنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ، فَبَانَ عَمْرًا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. كَمَا لَوْ عَيَّنَ الْمَيِّتَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَأَخْطَأَ، لَا تَصِحُّ. وَلَوْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْحَاضِرِ، وَاعْتَقَدَ زَيْدًا فَكَانَ غَيْرَهُ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ. كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْفَرَسَ فَكَانَ بَغْلًا. قُلْتُ: الْأَرْجَحُ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ اخْتِلَافُ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِيمَا يَأْتِيَانِ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَدِيَ الْمُؤَدِّي بِالْقَاضِي وَعَكْسُهُ، وَالْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ وَعَكْسُهُ.

فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ الْإِمَامَةَ، سَوَاءً اقْتَدَى بِهِ الرِّجَالُ أَوِ النِّسَاءُ. وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ عَنْ أَبِي حَفْصٍ الْبَابَشَامِيِّ، وَالْقَفَّالُ: أَنَّهُ تَجِبُ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ عَلَى الْإِمَامِ. وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ بِأَنَّهُمَا يَشْتَرِطَانِهَا فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ، وَهَذَا شَاذٌّ مُنْكَرٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ. لَكِنْ هَلْ تَكُونُ صَلَاتُهُ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ يَنَالُ بِهَا فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ إِذَا لَمْ يَنْوِهَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَنَالُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: فِيمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا، وَاقْتَدَى بِهِ جَمْعٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ، يَنَالُ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُمْ نَالُوهَا بِسَبَبِهِ، وَهَذَا كَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ. وَمِنْ فَوَائِدِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، هَلْ تَصِحُّ جُمُعَتُهُ؟ الْأَصَحُّ: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ. وَلَوْ نَوَى الْإِمَامَةَ وَعَيَّنَ فِي نِيَّتِهِ الْمُقْتَدِيَ فَبَانَ خِلَافُهُ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّ غَلَطَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى تَرْكِهَا. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: تَوَافُقُ نَظْمِ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَرْكَانِ، فَلَوِ اخْتَلَفَتْ صَلَاتَا الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، بِأَنِ اقْتَدَى مُفْتَرِضٌ بِمَنْ يُصَلِّي جِنَازَةً، أَوْ كُسُوفًا، لَمْ تَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَتَصِحُّ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ الْقَفَّالِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا اقْتَدَى بِمُصَلِّي الْجِنَازَةِ لَا يُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرَاتِ وَالْأَذْكَارِ بَيْنَهَا، بَلْ إِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ، يَتَخَيَّرُ بَيْنَ إِخْرَاجِ نَفْسِهِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، وَبَيْنَ انْتِظَارِ سَلَامِ الْإِمَامِ. وَإِذَا اقْتَدَى بِمُصَلِّي الْكُسُوفِ، تَابَعَهُ فِي الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ إِنْ شَاءَ رَفَعَ رَأَسَهُ مَعَهُ وَفَارَقَهُ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَهُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: يَنْتَظِرُهُ فِي الرُّكُوعِ إِلَى أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ، وَيَعْتَدِلُ مَعَهُ عَنْ رُكُوعِهِ الثَّانِي، وَلَا يَنْتَظِرُهُ

بَعْدَ الرَّفْعِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الرُّكْنِ الْقَصِيرِ. أَمَّا إِذَا اتَّفَقَتِ الصَّلَاتَانِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَيُنْظَرُ إِنِ اتَّفَقَ عَدَدُهُمَا كَالظُّهْرِ خَلْفَ الْعَصْرِ أَوِ الْعِشَاءِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ. وَإِنْ كَانَ عَدَدُ رَكَعَاتِ الْإِمَامِ أَقَلَّ كَالظُّهْرِ خَلْفَ الصُّبْحِ جَازَ. وَإِذَا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ، قَامَ الْمَأْمُومُ وَأَتَمَّ صَلَاةَ نَفْسِهِ كَالْمَسْبُوقِ. وَيُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الْقُنُوتِ. وَلَوْ أَرَادَ مُفَارَقَتَهُ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِالْقُنُوتِ جَازَ. وَإِذَا اقْتَدَى فِي الظُّهْرِ بِالْمَغْرِبِ، وَانْتَهَى الْإِمَامُ إِلَى الْجُلُوسِ الْأَخِيرِ، تَخَيَّرَ الْمَأْمُومُ فِي الْمُتَابَعَةِ وَالْمُفَارَقَةِ كَالْقُنُوتِ. وَإِنْ كَانَ عَدَدُ رَكَعَاتِ الْمَأْمُومِ أَقَلَّ كَالصُّبْحِ خَلْفَ الظُّهْرِ، فَالْمَذْهَبُ جَوَازُهُ وَقِيلَ: قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: جَوَازُهُ. وَالثَّانِي: بُطْلَانُهُ. فَإِذَا صَحَّحْنَا، وَقَامَ الْإِمَامُ إِلَى الثَّالِثَةِ، تَخَيَّرَ الْمَأْمُومُ، إِنْ شَاءَ فَارَقَهُ وَسَلَّمَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَهُ لِيُسَلِّمَ مَعَهُ. قُلْتُ: انْتِظَارُهُ أَفْضَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَقْنُتَ فِي الثَّانِيَةِ، بِأَنْ وَقَفَ الْإِمَامُ يَسِيرًا، قَنَتَ. وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ لِيَقْنُتَ. وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ خَلْفَ الظُّهْرِ، فَإِذَا قَامَ الْإِمَامُ إِلَى الرَّابِعَةِ، لَمْ يُتَابِعْهُ بَلْ يُفَارِقُهُ، وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ التَّشَهُّدَ وَيَنْتَظِرَهُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُقْتَدِي بِالصُّبْحِ خَلْفَ الظُّهْرِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُحْدِثُ تَشَهُّدًا لَمْ يَفْعَلْهُ الْإِمَامُ. وَلَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ خَلْفَ التَّرَاوِيحِ، جَازَ. فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ إِلَى بَاقِي صَلَاتِهِ، وَالْأَوْلَى أَنَّ يُتِمَّهَا مُنْفَرِدًا. فَلَوْ قَامَ الْإِمَامُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ، فَنَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهِ ثَانِيًا، فَفِي جَوَازِهِ الْقَوْلَانِ، فِيمَنْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ اقْتَدَى فِي أَثْنَائِهِمَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُقْتَدِي بِمَنْ يُصَلِّي الْعِيدَ أَوِ الِاسْتِسْقَاءَ، هَلْ هُوَ كَمَنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ؟ أَمْ كَمَنْ يُصَلِّي الْجِنَازَةَ وَالْكُسُوفَ؟ قُلْتُ: الصَّحِيحُ: أَنَّهُ كَالصُّبْحِ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) . وَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَاتِ الزَّائِدَةَ، لَا يُتَابِعُهُ الْمَأْمُومُ، فَإِنْ تَابَعَهُ لَمْ يَضُرَّهُ، لِأَنَّ الْأَذْكَارَ لَا تَضُرُّ.

وَلَوْ صَلَّى الْعِيدَ خَلْفَ الصُّبْحِ الْمَقْضِيَّةِ جَازَ، وَيُكَبِّرُ التَّكْبِيرَاتِ الزَّائِدَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ السَّادِسُ: الْمُوَافَقَةُ. فَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، نَظَرَ إِنْ تَرَكَ فَرْضًا، فَقَامَ فِي مَوْضِعِ الْقُعُودِ، أَوْ بِالْعَكْسِ وَلَمْ يَرْجِعْ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ، لِأَنَّهُ إِنْ تَعَمَّدَ، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ سَهَا، فَفِعْلُهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُبْطِلْهَا. وَلَوْ تَرَكَ سُنَّةً وَكَانَ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَا تَخَلُّفٌ فَاحِشٌ، كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَأْتِ بِهَا الْمَأْمُومُ، فَإِنْ فَعَلَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ سُجُودَ السَّهْوِ، أَتَى بِهِ الْمَأْمُومُ، لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْقُدْوَةِ، وَلِذَلِكَ يُسَلِّمُ التَسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ إِذَا تَرَكَهَا الْإِمَامُ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّخَلُّفُ لَهَا يَسِيرًا، كَجَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ فَلَا بَأْسَ، كَمَا لَا بَأْسَ بِزِيَادَتِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَكَذَا لَا بَأْسَ بِتَخَلُّفِهِ لِلْقُنُوتِ إِذَا لَحِقَهُ عَلَى قُرْبٍ، بِأَنْ لَحِقَهُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى. الشَّرْطُ السَّابِعُ: الْمُتَابَعَةُ، فَيَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ، فَلَا يَتَقَدَّمُ فِي الْأَفْعَالِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُتَابَعَةِ: أَنْ يَجْرِيَ عَلَى أَثَرِ الْإِمَامِ، بِحَيْثُ يَكُونُ ابْتِدَاؤُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، مُتَأَخِّرًا عَنِ ابْتِدَاءِ الْإِمَامِ بِهِ، وَمُتَقَدِّمًا عَلَى فَرَاغِهِ مِنْهُ. فَلَوْ خَالَفَ فَلَهُ أَحْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَارِنَهُ، فَإِنْ قَارَنَهُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَوْ شَكَّ هَلْ قَارَنَهُ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ تَأَخَّرَ فَبَانَ مُقَارَنَتُهُ لَمْ تَنْعَقِدْ. وَيُشْتَرَطُ تَأَخُّرُ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْمَأْمُومِ، عَنْ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُكَبِّرَ حَتَّى يُسَوُّوا الصُّفُوفَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِهِ مُلْتَفِتًا يَمِينًا وَشِمَالًا. وَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْإِقَامَةِ، قَامَ النَّاسُ فَاشْتَغَلُوا بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ. وَأَمَّا مَا عَدَا التَّكْبِيرَ، فَغَيْرُ السَّلَامِ تَجُوزُ الْمُقَارَنَةُ فِيهِ، وَلَكِنْ تُكْرَهُ، وَتَفُوتُ بِهَا فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، وَفِي السَّلَامِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: جَوَازُهَا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْإِمَامِ، فَإِنْ تَخَلَّفَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، نَظَرَ إِنْ

تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنَيْنِ بَطَلَتْ قَطْعًا. وَمِنْ صُوَرِ التَّخَلُّفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ وَهُوَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ، فَيَشْتَغِلُ بِإِتْمَامِهَا، وَكَذَا التَّخَلُّفُ لِلِاشْتِغَالِ بِتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَأَمَّا بَيَانُ صُوَرِ التَّخَلُّفِ بِرُكْنٍ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ الرُّكْنِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، فَالْقَصِيرُ: الِاعْتِدَالُ عَنِ الرُّكُوعِ، وَكَذَا الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالطَّوِيلُ: مَا عَدَاهُمَا. ثُمَّ الطَّوِيلُ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ. وَفِي الْقَصِيرِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَمَالَ الْإِمَامُ إِلَى الْجَزْمِ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا، بَلْ تَابِعٌ لِغَيْرِهِ. وَبِهِ قَطَعَ فِي (التَّهْذِيبِ) . فَإِذَا رَكَعَ الْإِمَامُ، ثُمَّ رَكَعَ الْمَأْمُومُ وَأَدْرَكَهُ فِي رُكُوعِهِ فَلَيْسَ هَذَا تَخَلُّفًا بِرُكْنٍ، فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ قَطْعًا. فَلَوِ اعْتَدَلَ الْإِمَامُ، وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ قَائِمٌ، فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ، اخْتَلَفُوا فِي مَأْخَذِهِمَا، فَقِيلَ: مَأْخَذُهُمَا: التَّرَدُّدُ فِي أَنَّ الِاعْتِدَالَ رُكْنٌ مَقْصُودٌ أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: مَقْصُودٌ فَقَدْ فَارَقَ الْإِمَامُ رَكْنًا، وَاشْتَغَلَ بِرُكْنٍ آخَرَ مَقْصُودٍ، فَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْمُتَخَلِّفِ. وَإِنْ قُلْنَا: غَيْرُ مَقْصُودٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَفْرَغْ مِنَ الرُّكُوعِ، لَأَنَّ الَّذِي هُوَ فِيهِ تَبَعٌ لَهُ، فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَقِيلَ: مَأْخَذُهُمَا الْوَجْهَانِ، فِي أَنَّ التَّخَلُّفَ بِرُكْنٍ يُبْطِلُ أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: يُبْطِلُ فَقَدْ تَخَلَّفَ بِرُكْنِ الرُّكُوعِ تَامًّا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَمَا دَامَ فِي الِاعْتِدَالِ، لَمْ يُكْمِلِ الرُّكْنَ الثَّانِيَ، فَلَا تَبْطُلُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ لَا تَبْطُلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا هَوَى إِلَى السُّجُودِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ، وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ قَائِمٌ، فَعَلَى الْمَأْخَذِ الْأَوَّلِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ فِي رُكْنٍ مَقْصُودٍ، وَعَلَى الثَّانِي: تَبْطُلُ، لِأَنَّ رُكْنَ الِاعْتِدَالِ قَدْ تَمَّ. هَكَذَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ. وَقِيَاسُهُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا ارْتَفَعَ عَنْ حَدِّ الرُّكُوعِ وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ فِي الْقِيَامِ فَقَدْ حَصَلَ التَّخَلُّفُ بِرُكْنٍ وَإِنْ لَمْ يَعْتَدِلِ الْإِمَامُ فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ التَّخَلُّفَ بِرُكْنٍ مُبْطِلًا.

أَمَّا إِذَا انْتَهَى الْإِمَامُ إِلَى السُّجُودِ، وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ فِي الْقِيَامِ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ قَطْعًا. ثُمَّ إِذَا اكْتَفَيْنَا بِابْتِدَاءِ الْهُوِيِّ عَنِ الِاعْتِدَالِ، وَابْتِدَاءِ الِارْتِفَاعِ عَنْ حَدِّ الرُّكُوعِ، فَالتَّخَلُّفُ بِرُكْنَيْنِ: هُوَ أَنْ يَتِمَّ لِلْإِمَامِ رُكْنَانِ، وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ فِيمَا قَبْلَهُمَا، وَبِرُكْنٍ: هُوَ أَنْ يَتِمَّ لِلْإِمَامِ الرُّكْنُ الَّذِي سَبَقَ وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ فَلِلتَّخَلُّفِ شَرْطٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ لَا يُلَابِسَ - مَعَ تَمَامِهِمَا أَوْ تَمَامِهِ - رُكْنًا آخَرَ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ صَاحِبِ (التَّهْذِيبِ) تَرْجِيحُ الْبُطْلَانِ فِيمَا إِذَا تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ كَامِلٍ مَقْصُودٍ، كَمَا إِذَا اسْتَمَرَّ فِي الرُّكُوعِ حَتَّى اعْتَدَلَ الْإِمَامُ وَسَجَدَ. هَذَا كُلُّهُ فِي التَّخَلُّفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ. أَمَّا الْأَعْذَارُ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا: الْخَوْفُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ بَطِيءَ الْقِرَاءَةِ، وَالْإِمَامُ سَرِيعَهَا، فَيَرْكَعُ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُتَابِعُهُ وَيَسْقُطُ عَنِ الْمَأْمُومِ بَاقِيهَا. فَعَلَى هَذَا لَوِ اشْتَغَلَ بِإِتْمَامِهَا، كَانَ مُتَخَلِّفًا بِلَا عُذْرٍ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهَا، وَيَسْعَى خَلْفَ الْإِمَامِ عَلَى نَظْمِ صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ مَقْصُودَةٍ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُخْرِجُ نَفْسَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ لِتَعَذُّرِ الْمُوَافَقَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَهُ أَنْ يَدُومَ عَلَى مُتَابَعَتِهِ. وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُرَاعِي نَظْمَ صَلَاتِهِ، وَيَجْرِي عَلَى أَثَرِهِ. وَبِهَذَا أَفْتَى الْقَفَّالُ. وَأَصَحُّهُمَا: يُوَافِقُهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ، ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ. وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ، كَالْقَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الزِّحَامِ. وَمِنْهَا أَخْذُ التَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ مَقْصُودَةٍ، فَإِنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الزِّحَامِ، إِنَّمَا هُمَا إِذَا رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَبْلَ ذَلِكَ لَا يُوَافِقُهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّخَلُّفُ قَبْلَهُ بِالسَّجْدَتَيْنِ وَالْقِيَامِ. وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَلَا يُجْعَلُ التَّخَلُّفُ بِغَيْرِ الْمَقْصُودِ مُؤَثِّرًا. وَأَمَّا مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَقْصُودِ وَغَيْرِهِ، أَوْ يُفَرِّقُ وَيَجْعَلُ الْجُلُوسَ مَقْصُودًا، أَوْ رُكْنًا طَوِيلًا، فَالْقِيَاسُ عَلَى أَصْلِهِ،

التَّقْدِيرُ بِأَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ أَخْذًا مِنْ مَسْأَلَةِ الزِّحَامِ. وَلَوِ اشْتَغَلَ الْمَأْمُومُ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، فَلَمْ يُتِمَّ الْفَاتِحَةَ لِذَلِكَ فَرَكَعَ الْإِمَامُ، فَيُتِمُّ الْفَاتِحَةَ كَبَطِيءِ الْقِرَاءَةِ. وَكَانَ هَذَا فِي الْمَأْمُومِ الْمُوَافِقِ. أَمَّا الْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ قَائِمًا وَخَافَ رُكُوعَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرَأَ الِاسْتِفْتَاحَ، بَلْ يُبَادِرُ إِلَى الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ رَكَعَ الْإِمَامُ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ فَأَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يَرْكَعُ مَعَهُ وَتَسْقُطُ بَاقِي الْفَاتِحَةِ، وَالثَّانِي: يُتِمُّهَا. وَأَصَحُّهَا: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنَ الِاسْتِفْتَاحِ، قَطَعَ الْفَاتِحَةَ وَرَكَعَ، وَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ. وَإِنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنْهُ، لَزِمَهُ بِقَدْرِهِ مِنَ الْفَاتِحَةِ لِتَقْصِيرِهِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْقَفَّالِ وَالْمُعْتَبَرِينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ. فَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ إِتْمَامُ الْفَاتِحَةِ، فَتَخَلَّفَ لِيَقْرَأَ كَانَ تَخَلُّفًا بِعُذْرٍ، فَإِنْ لَمْ يُتِمَّهَا وَرَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَرْكَعُ فَاشْتَغَلَ بِإِتْمَامِهَا، كَانَ مُتَخَلِّفًا بِلَا عُذْرٍ. وَإِنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِالرُّكُوعِ، وَقَرَأَ هَذَا الْمَسْبُوقُ الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ لَحِقَهُ فِي الِاعْتِدَالِ، لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إِذَا قُلْنَا: التَّخَلُّفُ بِرُكْنٍ لَا يُبْطِلُ كَمَا فِي غَيْرِ الْمَسْبُوقِ. وَالثَّانِي: يُبْطِلُ، لِأَنَّهُ تَرَكَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا فَاتَتْ بِهِ رَكْعَةٌ، فَكَانَ كَالتَّخَلُّفِ بِرَكْعَةٍ. وَمِنْهَا: الزِّحَامُ، وَسَيَأْتِي فِي الْجُمُعَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: النِّسْيَانُ. فَلَوْ رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ نَسِيَ الْفَاتِحَةَ أَوْ شَكَّ فِي قِرَاءَتِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ، لِأَنَّهُ فَاتَ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، قَامَ وَتَدَارَكَ مَا فَاتَهُ. وَلَوْ تَذَكَّرَ أَوْ شَكَّ بَعْدَ أَنْ رَكَعَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَرْكَعْ هُوَ، لَمْ تَسْقُطِ الْقِرَاءَةُ بِالنِّسْيَانِ. وَمَاذَا يَفْعَلُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَرْكَعُ مَعَهُ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ فَقَضَى رَكْعَةً، وَأَصَحُّهُمَا: يُتِمُّهَا، وَبِهِ أَفْتَى الْقَفَّالُ. وَعَلَى هَذَا تَخَلُّفُهُ تَخَلُّفُ مَعْذُورٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى الثَّانِي: تَخَلُّفُ غَيْرِ مَعْذُورٍ لِتَقْصِيرِهِ بِالنِّسْيَانِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْإِمَامِ بِالرُّكُوعِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ

فَيَنْظُرُ؛ إِنْ لَمْ يَسْبِقْ بِرُكْنٍ كَامِلٍ، بِأَنْ رَكَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ، فَلَمْ يَرْفَعْ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ - لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: تَبْطُلُ إِنْ تَعَمَّدَ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ، فَهَلْ يَعُودُ؟ وَجْهَانِ. الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقِيَامِ وَيَرْكَعَ مَعَهُ. وَالثَّانِي: وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبَا (النِّهَايَةِ) وَ (التَّهْذِيبِ) : لَا يَجُوزُ الْعَوْدُ، فَإِنْ عَادَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعَوْدِ وَالدَّوَامِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ الْعَوْدُ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ سَبَقَ بِرُكْنَيْنِ فَصَاعِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ كَانَ عَامِدًا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ. وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا، أَوْ جَاهِلًا، لَمْ تَبْطُلْ، لَكِنْ لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ، فَيَأْتِي بِهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَلَا يَخْفَى بَيَانُ التَّقَدُّمِ بِرُكْنَيْنِ مِنْ قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّخَلُّفِ. وَمَثَّلَ أَئِمَّتُنَا الْعِرَاقِيُّونَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا رَكَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ سَجَدَ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي الرُّكُوعِ وَلَا فِي الِاعْتِدَالِ، وَهَذَا يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدِّرَ مِثْلَهُ فِي التَّخَلُّفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِالتَّقَدُّمِ، لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِيهِ أَفْحَشُ. وَإِنْ سَبَقَ بِرُكْنٍ مَقْصُودٍ، بِأَنْ رَكَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَرَفَعَ وَالْإِمَامُ فِي الْقِيَامِ ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى رَفَعَ الْإِمَامُ، وَاجْتَمَعَا فِي الِاعْتِدَالِ، فَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَجَمَاعَةٌ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. قَالُوا: فَإِنْ سَبَقَ بِرُكْنٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ كَالِاعْتِدَالِ، بِأَنِ اعْتَدَلَ وَسَجَدَ، وَالْإِمَامُ بَعْدُ فِي الرُّكُوعِ، أَوْ سَبَقَ بِالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، بِأَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الْأُولَى، وَجَلَسَ وَسَجَدَ الثَّانِيَةَ وَالْإِمَامُ بَعْدُ فِي الْأُولَى، فَوَجْهَانِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَآخَرُونَ: التَّقَدُّمُ بِرُكْنٍ لَا يُبْطِلُ كَالتَّخَلُّفِ بِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ وَأَشْهَرُ. وَحُكِيَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. هَذَا فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، فَأَمَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، فَالسَّبْقُ بِهَا مُبْطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْفَاتِحَةُ وَالتَّشَهُّدُ، فَفِي السَّبْقِ بِهِمَا أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: لَا يَضُرُّ، بَلْ يُجْزِئَانِ. وَالثَّانِي: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ. وَالثَّالِثُ: لَا تَبْطُلُ. وَيَجِبُ إِعَادَتُهُمَا مَعَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهَا.

فَرْعٌ الْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْفَاتِحَةِ بَلْ يَهْوِي لِلرُّكُوعِ وَيُكَبِّرُ لَهُ تَكْبِيرَةً أُخْرَى. وَكَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ قَائِمًا فَكَبَّرَ فَرَكَعَ الْإِمَامُ بِمُجَرَّدِ تَكْبِيرِهِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى تَكْبِيرَةٍ، فَلَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ بِهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ بِشَرْطِ أَنْ يُوقِعَهَا فِي حَالِ الْقِيَامِ. الثَّانِي: يَنْوِي تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ فَلَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ. الثَّالِثُ: يَنْوِيهِمَا، فَلَا تَنْعَقِدُ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ. الرَّابِعُ: لَا يَنْوِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، بَلْ يُطْلِقُ التَّكْبِيرَةَ. فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي (الْأُمِّ) وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: لَا تَنْعَقِدُ. وَالثَّانِي: تَنْعَقِدُ لِقَرِينَةِ الِافْتِتَاحِ، وَمَالَ إِلَيْهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. فَرْعٌ إِذَا أَخْرَجَ الْمَأْمُومُ نَفْسَهُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، سَوَاءً فَارَقَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، هَذَا جُمْلَتُهُ. وَتَفْصِيلُهُ: أَنَّ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالْمُفَارَقَةِ طَرِيقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: لَا تَبْطُلُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ، عَلَى طُرُقٍ. أَصَحُّهَا: هُمَا فِيمَنْ فَارَقَ بِغَيْرِ عُذْرٍ. فَأَمَّا الْمَعْذُورُ فَيَجُوزُ قَطْعًا. وَقِيلَ: هُمَا فِي الْمَعْذُورِ. فَأَمَّا غَيْرُهُ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ قَطْعًا. وَقِيلَ: هُمَا فِيهِمَا، وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْأَعْذَارُ كَثِيرَةٌ، وَأَقْرَبُ - مُعْتَبَرًا - أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَا جَوَّزَ تَرْكَ الْجَمَاعَةِ ابْتِدَاءً، جَوَّزَ الْمُفَارَقَةَ. وَأَلْحَقُوا بِهِ مَا إِذَا

تَرَكَ الْإِمَامُ سُنَّةً مَقْصُودَةً، كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالْقُنُوتِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَصْبِرْ عَلَى طُولِ الْقِرَاءَةِ لِضَعْفٍ أَوْ شُغْلٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عُذْرٌ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا قَطَعَ الْمَأْمُومُ الْقُدْوَةَ وَالْإِمَامُ بَعْدُ فِي الصَّلَاةِ. أَمَّا إِذَا انْقَطَعَتْ بِحَدَثِ الْإِمَامِ، وَنَحْوِهِ، فَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ قَطْعًا بِكُلِّ حَالٍ. فَرْعٌ إِذَا أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا نَظَرَ إِنْ كَانَ فِي فَرِيضَةِ الْوَقْتِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَحْبَبْتُ أَنْ يُكْمِلَ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمَ، فَتَكُونَ لَهُ نَافِلَةً، وَيَبْتَدِئَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ. وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَقْطَعَ الْفَرِيضَةَ وَيَقْلِبَهَا نَفْلًا. وَفِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ خِلَافٌ قَدَّمْنَاهُ فِي مَسَائِلِ النِّيَّةِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ. ثُمَّ هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ ثُلَاثِيَّةً، أَوْ رُبَاعِيَّةً، وَلَمْ يُصَلِّ بَعْدُ رَكْعَتَيْنِ. فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ رَكْعَتَيْنِ، أَوْ ذَاتَ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ، وَقَدْ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا، ثُمَّ يَدْخُلُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي فَائِتَةٍ، لَمْ يُسْتَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ لِيُصَلِّيَ تِلْكَ الْفَائِتَةِ جَمَاعَةً، لِأَنَّ الْفَائِتَةَ لَا يُشْرَعُ لَهَا الْجَمَاعَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَعَ فِي فَائِتَةٍ فِي يَوْمِ غَيْمٍ، فَانْكَشَفَ الْغَيْمُ، وَخَافَ فَوْتَ الْحَاضِرَةِ، فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ عَنْ رَكْعَتَيْنِ، وَيَشْتَغِلُ بِالْحَاضِرَةِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ: لَا يُشْرَعُ لَهَا الْجَمَاعَةُ، يُحْمَلُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ فِي نَافِلَةٍ وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ، فَإِنْ لَمْ يَخْشَ فَوْتَهَا أَتَمَّهَا. وَإِنْ خَشِيَهُ، قَطَعَهَا وَدَخَلَ فِي الْجَمَاعَةِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُسَلِّمْ مِنْ صَلَاتِهِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا مُنْفَرِدًا، بَلِ اقْتَدَى فِي خِلَالِهَا، فَالْمَذْهَبُ جَوَازُهُ. وَهَذَا جُمْلَتُهُ. فَأَمَّا تَفْصِيلُهُ

فَفِي صِحَّةِ هَذَا الِاقْتِدَاءِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِبُطْلَانِهِ وَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ. وَأَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: فِيهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: جَوَازُهُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى طُرُقٍ، فَقِيلَ: هُمَا فِيمَا إِذَا لَمْ يَرْكَعِ الْمُنْفَرِدُ فِي انْفِرَادِهِ. فَإِنْ رَكَعَ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا. وَقِيلَ: هُمَا بَعْدَ رُكُوعِهِ. فَأَمَّا قَبْلَهُ فَيَجُوزُ قَطْعًا. وَقِيلَ: هُمَا إِذَا اتَّفَقَا فِي الرَّكْعَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا، فَكَانَ الْإِمَامُ فِي رَكْعَةٍ، وَالْمَأْمُومُ فِي أُخْرَى مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا لَمْ يَجُزْ قَطْعًا. وَالطَّرِيقُ الرَّابِعُ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَإِذَا صَحَّحْنَا الِاقْتِدَاءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَاخْتَلَفَا فِي الرَّكْعَةِ، قَعَدَ الْمَأْمُومُ فِي مَوْضِعِ قُعُودِ الْإِمَامِ، وَقَامَ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ، فَإِنْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ أَوَّلًا، لَمْ يُتَابِعِ الْإِمَامَ فِي الزِّيَادَةِ، بَلْ إِنْ شَاءَ فَارَقَهُ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَهُ فِي التَّشَهُّدِ وَطَوَّلَ الدُّعَاءَ وَسَلَّمَ مَعَهُ. فَإِنْ تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَوَّلًا قَامَ الْمَأْمُومُ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمَسْبُوقُ، وَإِذَا سَهَا الْمَأْمُومُ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ لَمْ يَتَحَمَّلْ عَنْهُ الْإِمَامُ، بَلْ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ سَجَدَ هُوَ لِسَهْوِهِ، وَإِنْ سَهَا بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ حَمَلَ عَنْهُ. وَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ لَحِقَ الْمَأْمُومَ وَيَسْجُدُ مَعَهُ، وَيُعِيدُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ كَالْمَسْبُوقِ. فَرْعٌ مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ، كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّبْغِيُّ - بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَإِسْكَانِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، كِلَاهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا -: لَا يُدْرِكُ الرَّكْعَةَ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ. وَهَذَا شَاذٌّ مُنْكَرٌ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ: إِدْرَاكُهَا، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرُّكُوعُ مَحْسُوبًا لِلْإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ

فِي الْجُمُعَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ الْمُرَادُ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ، أَنْ يَلْتَقِيَ هُوَ وَإِمَامُهُ فِي حَدِّ أَقَلِّ الرُّكُوعِ. حَتَّى لَوْ كَانَ هُوَ فِي الْهُوِيِّ، وَالْإِمَامُ فِي الِارْتِفَاعِ، وَقَدْ بَلَغَ هُوِيُّهُ حَدَّ الْأَقَلِّ قَبْلَ أَنْ يَرْتَفِعَ الْإِمَامُ عَنْهُ، كَانَ مُدْرِكًا، وَإِنْ لَمْ يَلْتَقِيَا فِيهِ فَلَا. هَكَذَا قَالَهُ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَطْمَئِنَّ قَبْلَ ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ عَنِ الْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ. هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ فِي (الْبَيَانِ) وَبِهِ أَشْعَرَ كَلَامُ كَثِيرٍ مِنَ النَّقَلَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُونَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ. وَلَوْ كَبَّرَ وَانْحَنَى وَشَكَّ هَلْ بَلَغَ الْحَدَّ الْمُعْتَبَرَ قَبْلَ ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ عَنْهُ؟ فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَكُونُ مُدْرِكًا. وَالثَّانِي: يَكُونُ. فَأَمَّا إِذَا أَدْرَكَهُ فِيمَا بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ قَطْعًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَهُ فِي الرُّكْنِ الَّذِي أَدْرَكَهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُحْسَبْ لَهُ. قُلْتُ: وَإِذَا أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، لَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ فِي الْجُلُوسِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ مَعَهُ قَطْعًا، وَيُسَنَّ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ. فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، فَلَوْ أَدْرَكَهُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ أَوِ التَّشَهُّدِ، فَهَلْ يُكَبِّرُ لِلِانْتِقَالِ إِلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَحْسُوبٍ لَهُ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ، وَيُخَالِفُ مَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِي الِاعْتِدَالِ فَمَا بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ مَعَهُ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ مُكَبِّرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْسُوبًا، لِأَنَّهُ لِمُوَافَقَةِ الْإِمَامِ. وَلِذَلِكَ نَقُولُ: يُوَافِقُهُ فِي قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ وَفِي التَّسْبِيحَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا قَامَ الْمَسْبُوقُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ الْجُلُوسُ الَّذِي قَامَ مِنْهُ مَوْضِعَ

جُلُوسِ الْمَسْبُوقِ، بِأَنْ أَدْرَكَهُ فِي الثَّالِثَةِ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ، أَوْ ثَانِيَةِ الْمَغْرِبِ، قَامَ مُكَبِّرًا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ، بِأَنْ أَدْرَكَهُ فِي الْأَخِيرَةِ، أَوِ الثَّانِيَةِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ، قَامَ بِلَا تَكْبِيرٍ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ، لَمْ يَجُزِ الْمُكْثُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ. فَإِنْ مَكَثَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ، لَمْ يَضُرَّ الْمُكْثُ. وَالسُّنَّةُ لِلْمَسْبُوقِ: أَنْ يَقُومَ عَقِبَ تَسْلِيمَتَيِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ الثَّانِيَةَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُومَ عَقِبَ الْأُولَى. وَإِنْ قَامَ قَبْلَ تَمَامِهَا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ تَعَمَّدَ الْقِيَامَ. وَمَا يُدْرِكُهُ الْمَسْبُوقُ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ آخِرُهَا، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ، فَإِذَا قَامَ لِإِتْمَامِ الْبَاقِي، يَجْهَرُ فِي الثَّانِيَةِ وَيَتَشَهَّدُ، وَيُسِرُّ فِي الثَّالِثَةِ. وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ، وَقَنَتَ مَعَ الْإِمَامِ، أَعَادَ الْقُنُوتَ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ، ثُمَّ قَامَ لِلتَّدَارُكِ، يَقْرَأُ السُّورَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَقِيلَ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ، وَقِيلَ: هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِئَلَّا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنِ السُّورَةِ. قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ. وَحُكِيَ قَوْلٌ غَرِيبٌ: أَنَّهُ يَجْهَرُ. وَالْجَمَاعَةُ فِي الصُّبْحِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، ثُمَّ الْعِشَاءُ، ثُمَّ الْعَصْرُ، لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَسْجِدِ إِمَامٌ رَاتِبٌ، كُرِهَ لِغَيْرِهِ إِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ مَطْرُوقًا، فَلَا بَأْسَ. وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْأَذَانِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلُ قَوْمًا وَأَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، فَإِنْ كَرِهَهُ الْأَقَلُّ، أَوِ النِّصْفُ، لَمْ تُكْرَهْ إِمَامَتُهُ. وَالْمُرَادُ أَنْ يَكْرَهُوهُ لِمَعْنًى مَذْمُومٍ فِي الشَّرْعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَالْعَتْبُ عَلَيْهِمْ وَلَا كَرَاهَةَ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّمَا يُكْرَهُ إِذَا لَمْ يُنَصِّبْهُ الْإِمَامُ، فَإِنْ نَصَّبَهُ فَلَا يُبَالِي بِكَرَاهَةِ أَكْثَرِهِمْ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ نَصَّبَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ يَكْرَهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ حُضُورَهُ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ الْحُضُورُ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَرْتَبِطُ بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ

الْإِمَامِ أَعْلَى مِنْ مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ، وَكَذَا عَكْسُهُ، فَإِنِ احْتَاجَ الْإِمَامُ إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ لِيُعَلِّمَهُمْ صِفَةَ الصَّلَاةِ، أَوِ الْمَأْمُومُ لِيُبَلِّغَ الْقَوْمَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ اسْتُحِبَّ. وَأَفْضَلُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، ثُمَّ مَا قَرُبَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ الْخُلَّصُ، فَإِنْ كَانَ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ، فَأَفْضَلُ صُفُوفِهِنَّ آخِرُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب صلاة المسافر

كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ كَغَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ لَهُ التَّرَخُّصَ بِالْقَصْرِ وَالْجَمْعِ، فَالْقَصْرُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَالسَّبَبُ الْمُجَوِّزُ لَهُ السَّفَرُ الطَّوِيلُ الْمُبَاحُ. فَأَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ رَبْطِ الْقَصْدِ بِمَقْصِدٍ مَعْلُومٍ، فَلَا رُخْصَةَ لِهَائِمٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، وَإِنْ طَالَ سَفَرُهُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الْهَائِمَ إِذَا بَلَغَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ لَهُ الْقَصْرُ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. أَمَّا ابْتِدَاءُ السَّفَرِ، فَيُعْرَفُ بِتَفْصِيلِ الْمَوْضِعِ الَّذِي مِنْهُ الِارْتِحَالُ. فَإِنِ ارْتَحَلَ مِنْ بَلْدَةٍ لَهَا سُورٌ مُخْتَصٌّ بِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَتِهِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلَ السُّورِ مَزَارِعُ، أَوْ مَوَاضِعُ خَرِبَةٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ دَاخِلِ السُّورِ مَعْدُودٌ مِنْ نَفْسِ الْبَلَدِ، مَحْسُوبٌ مِنْ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ، فَإِذَا فَارَقَ السُّورَ تَرَخَّصَ إِنْ لَمْ يَكُنْ خَارِجَهُ دُورٌ مُتَلَاصِقَةٌ أَوْ مَقَابِرُ، فَإِنْ كَانَتْ فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ بِمُفَارَقَةِ السُّورِ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ الدُّورِ وَالْمَقَابِرِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْغَزَالِيُّ وَكَثِيرُونَ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَلَدِ سُورٌ، أَوْ كَانَ فِي غَيْرِ صَوْبِ مَقْصِدِهِ، فَابْتِدَاءُ سَفَرِهِ بِمُفَارَقَةِ الْعُمْرَانِ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتٌ مُتَّصِلٌ وَلَا مُنْفَصِلٌ. وَالْخَرَابُ الَّذِي يَتَخَلَّلُ الْعِمَارَاتِ مَعْدُودٌ مِنَ الْبَلَدِ، كَالنَّهْرِ الْحَائِلِ بَيْنَ جَانِبَيِ الْبَلَدِ، فَلَا يَتَرَخَّصُ بِالْعُبُورِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. فَإِنْ كَانَتْ أَطْرَافُ الْبَلْدَةِ خَرِبَةً، وَلَا عِمَارَةَ وَرَاءَهَا، فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا بُدَّ مِنْ

مُجَاوَزَتِهَا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : لَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ إِقَامَةٍ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ بَقَايَا الْحِيطَانِ قَائِمَةً، وَلَمْ يَتَّخِذُوا الْخَرَابَ مَزَارِعَ الْعُمْرَانِ، وَلَا هَجَرُوهُ بِالتَّحْوِيطِ عَلَى الْعَامِرِ وَالْخَرَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يُشْتَرَطْ مُجَاوَزَتُهَا بِلَا خِلَافٍ. وَلَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَوَّطَةً، إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهَا قُصُورٌ أَوْ دُورٌ يَسْكُنُهَا مُلَّاكُهَا بَعْضَ فُصُولِ السَّنَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَتِهَا حِينَئِذٍ. وَلَنَا وَجْهٌ فِي (التَّتِمَّةِ) : أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْبَلْدَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. هَذَا حُكْمُ الْبَلْدَةِ. وَأَمَّا الْقَرْيَةُ فَلَهَا حُكْمُ الْبَلْدَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ وَلَا الْمَزَارِعِ الْمُحَوَّطَةِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ. وَشَذَّ الْغَزَالِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ فَقَالَ: إِنْ كَانَتِ الْمَزَارِعُ، أَوِ الْبَسَاتِينُ مُحَوَّطَةً، اشْتُرِطَ مُجَاوَزَتُهَا. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْمَزَارِعِ الْمُحَوَّطَةِ، وَلَا الْبَسَاتِينِ غَيْرِ الْمُحَوَّطَةِ، وَيُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ الْمُحَوَّطَةِ. وَلَوْ كَانَ قَرْيَتَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ فَهُمَا كَمَحَلَّتَيْنِ فَيَجِبُ مُجَاوَزَتُهُمَا جَمِيعًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ فَجَاوَزَ قَرْيَتَهُ، كَفَى وَإِنْ كَانَتَا فِي غَايَةِ التَّقَارُبِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِذَا تَقَارَبَتَا اشْتُرِطَ مُفَارَقَتُهُمَا. وَلَوْ جَمَعَ سُورٌ قُرًى مُتَفَاصِلَةً لَمْ يُشْتَرَطْ مُجَاوَزَةُ السُّورِ. وَكَذَا لَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ فِي بَلْدَتَيْنِ مُتَقَارِبَتَيْنِ. وَلِهَذَا قُلْنَا أَوَّلًا: إِنِ ارْتَحَلَ مِنْ بَلْدَةٍ لَهَا سُورٌ مُخْتَصٌّ بِهَا. وَأَمَّا الْمُقِيمُ فِي الصَّحَارَى، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُفَارَقَةِ الْبُقْعَةِ الَّتِي فِيهَا رَحْلُهُ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ. فَإِنْ سَكَنَ وَادِيًا وَسَافَرَ فِي عُرْضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَةِ عُرْضِ الْوَادِي، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَهَذَا عَلَى الْغَالِبِ فِي اتِّسَاعِ الْوَادِي. فَإِنْ أَفْرَطَتِ السِّعَةُ لَمْ يُشْتَرَطْ إِلَّا مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ الَّذِي يُعَدُّ مَوْضِعَ نُزُولِهِ، أَوْ مَوْضِعَ الْحُلَّةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا. كَمَا لَوْ سَافَرَ فِي طُولِ الْوَادِي. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: كَلَامُ الشَّافِعِيِّ مُجْرًى عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَجَانِبَا الْوَادِي كَسُورِ الْبَلَدِ. وَلَوْ كَانَ نَازِلًا فِي رَبْوَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَهْبِطَ، وَإِنْ

كَانَ فِي وَهْدَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْعَدَ، وَهَذَا عِنْدَ الِاعْتِدَالِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَادِي. وَلَا فَرْقَ فِي اعْتِبَارِ مُجَاوَزَةِ عُرْضِ الْوَادِي وَالصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ بَيْنَ الْمُنْفَرِدِ فِي خَيْمَةٍ وَمَنْ فِي أَهْلِ خِيَامٍ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي أَهْلِ خِيَامٍ كَالْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ، فَإِنَّمَا يَتَرَخَّصُ إِذَا فَارَقَ الْخِيَامَ، مُجْتَمِعَةً كَانَتْ أَوْ مُتَفَرِّقَةً إِذَا كَانَتْ حُلَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أَبْنِيَةِ الْبَلَدِ. وَلَا يُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهُ لِحُلَّةٍ أُخْرَى، بَلِ الْحُلَّتَانِ كَالْقَرْيَتَيْنِ. وَضَبَطَ الصَّيْدَلَانِيُّ التَّفَرُّقَ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ، بِأَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَجْتَمِعُونَ لِلسَّمَرِ فِي نَادٍ وَاحِدٍ، وَيَسْتَعِينُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَإِنْ كَانُوا بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَهِيَ حُلَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَيُعْتَبَرُ مَعَ مُجَاوَزَةِ الْخِيَامِ مَرَافِقُهَا، كَمَطْرَحِ الرَّمَادِ وَمَلْعَبِ الصِّبْيَانِ وَالنَّادِي وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ، فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَوَاضِعِ إِقَامَتِهِمْ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْخِيَامِ، بَلْ يَكْفِي مُفَارَقَةُ خَيْمَتِهِ. فَرْعٌ إِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُنْيَانَ الْبَلْدَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا لِحَاجَةٍ، فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ إِقَامَةٌ أَصْلًا، فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِالرُّجُوعِ وَلَا بِالْحُصُولِ فِيهَا. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ وَطَنَهُ، فَلَيْسَ لَهُ التَّرَخُّصُ فِي رُجُوعِهِ، وَإِنَّمَا يَتَرَخَّصُ إِذَا فَارَقَهَا ثَانِيًا. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ ذَاهِبًا، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَكُونَ وَطَنَهُ، لَكِنَّهُ أَقَامَ بِهَا مُدَّةً، فَهَلْ لَهُ التَّرَخُّصُ فِي رُجُوعِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، صَحَّحَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ فِي (التَّتِمَّةِ) . وَالثَّانِي: لَا، وَقَطَعَ بِهِ فِي (التَّهْذِيبِ) وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ لَا يَتَرَخَّصُ إِذَا عَادَ، فَلَوْ نَوَى الْعَوْدَ وَلَمْ يَعُدْ بَعْدُ لَمْ يَتَرَخَّصْ وَصَارَ بِالنِّيَّةِ مُقِيمًا، وَلَا فَرْقَ

فصل في انتهاء السفر الذي يقطع الترخص

بَيْنَ حَالَتَيِ الرُّجُوعِ وَالْحُصُولِ فِي الْبَلْدَةِ فِي التَّرَخُّصِ وَعَدَمِهِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَوْضِعِ الرُّجُوعِ إِلَى الْوَطَنِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ. فَإِنْ كَانَتْ فَهُوَ مُسَافِرٌ مُسْتَأْنِفٌ فَيَتَرَخَّصُ. فَصْلٌ فِي انْتِهَاءِ السَّفَرِ الَّذِي يَقْطَعُ التَّرَخُّصَ وَيَحْصُلُ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: الْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ، وَالضَّبْطُ فِيهِ: أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي شَرَطْنَا مُفَارَقَتَهُ فِي إِنْشَاءِ السَّفَرِ مِنْهُ. وَفِي مَعْنَى الْوَطَنِ: الْوُصُولُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَافِرُ إِلَيْهِ إِذَا عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ الْقَدْرَ الْمَانِعَ مِنَ التَّرَخُّصِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَمْ يَنْتَهِ سَفَرُهُ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ حَصَلَ فِي طَرِيقِهِ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ لَهُ بِهَا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ، فَهَلْ يَنْتَهِي سَفَرُهُ بِدُخُولِهَا؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا. وَلَوْ مَرَّ فِي طَرِيقِ سَفَرِهِ بِوَطَنِهِ، بِأَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَنَوَى أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ خَرَجَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةٍ، فَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِدُخُولِهَا. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: فِيهِ الْقَوْلَانِ كَبَلَدِ أَهْلِهِ. فَعَلَى أَحَدِهِمَا: الْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ لَا يُوجِبُ انْتِهَاءَ السَّفَرِ، إِلَّا إِذَا كَانَ عَازِمًا عَلَى الْإِقَامَةِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ. فَإِذَا نَوَى فِي طَرِيقِهِ الْإِقَامَةَ مُطْلَقًا انْقَطَعَ سَفَرُهُ فَلَا يَقْصُرُ. فَلَوْ أَنْشَأَ السَّيْرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ سَفَرٌ جَدِيدٌ فَلَا يَقْصُرُ إِلَّا إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ. هَذَا إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لَهَا مِنْ بَلْدَةٍ

أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ وَادٍ يُمْكِنُ الْبَدَوِيُّ النُّزُولَ فِيهِ لِلْإِقَامَةِ. فَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَنَحْوُهَا، فَفِي انْقِطَاعِ السَّفَرِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: انْقِطَاعُهُ. وَلَوْ نَوَى إِقَامَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَقَلَّ، لَمْ يَصِرْ مُقِيمًا قَطْعًا وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: إِنْ نَوَى إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، صَارَ مُقِيمًا. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ نِيَّةً دُونَ الْأَرْبَعَةِ لَا تَقْطَعُ السَّفَرَ وَإِنْ زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ كَثِيرُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ كَيْفَ تُحْسَبُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرِهِ، أَحَدُهُمَا: يُحْسَبُ مِنْهَا يَوْمَا الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ كَمَا يُحْسَبُ يَوْمُ الْحَدَثِ وَيَوْمُ نَزْعِ الْخُفِّ مِنْ مُدَّةِ الْمَسْحِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُحْسَبَانِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ دَخَلَ يَوْمَ السَّبْتِ وَقْتَ الزَّوَالِ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَقْتَ الزَّوَالِ صَارَ مُقِيمًا. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَصِيرُ (مُقِيمًا) ، وَإِنْ دَخَلَ ضَحْوَةَ السَّبْتِ وَخَرَجَ عَشِيَّةَ الْأَرْبِعَاءِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: مَتَى نَوَى إِقَامَةً زَائِدَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَارَ مُقِيمًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ زِيَادَةٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُ الْأَرْبَعَةَ، ثُمَّ الْأَيَّامُ الْمُحْتَمَلَةُ مَعْدُودَةٌ مَعَ لَيَالِيهَا. وَإِذَا نَوَى مَا لَا يُحْتَمَلُ صَارَ مُقِيمًا فِي الْحَالِ. وَلَوْ دَخَلَ لَيْلًا لَمْ يَحْسِبْ بَقِيَّةَ اللَّيْلَةِ وَيَحْسِبِ الْغَدَ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِ، أَمَّا الْمُحَارِبُ إِذَا نَوَى إِقَامَةَ قَدْرٍ يَصِيرُ غَيْرُهُ بِهِ مُقِيمًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ كَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يَقْصُرُ أَبَدًا. قُلْتُ: وَلَوْ نَوَى الْعَبْدُ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوِ الزَّوْجَةُ أَوِ الْجَيْشُ وَلَمْ يَنْوِ السَّيِّدُ وَلَا الزَّوْجُ وَلَا الْأَمِيرُ، فَفِي لُزُومِ الْإِتْمَامِ فِي حَقِّهِمْ وَجْهَانِ. الْأَقْوَى: أَنَّ لَهُمُ الْقَصْرَ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَقِلُّونَ، فَنِّيَّتُهُمْ كَالْعَدَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: صُورَةُ الْإِقَامَةِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ شُغْلٌ فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَأَقَامَ لَهُ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْجُوَ فَرَاغَ شُغْلِهِ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الِارْتِحَالِ عِنْدَ فَرَاغِهِ. وَالثَّانِي: يَعْلَمُ أَنَّ شُغْلَهُ لَا يَنْقَضِي فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، غَيْرَ

يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، كَالتَّفَقُّهِ وَالتِّجَارَةِ الْكَثِيرَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَالْأَوَّلُ: لَهُ الْقَصْرُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ. وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ طَرِيقَانِ. الصَّحِيحُ مِنْهُمَا: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: يَجُوزُ الْقَصْرُ أَبَدًا سَوَاءً فِيهِ الْمُقِيمُ عَلَى الْقِتَالِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقِتَالِ وَالْمُقِيمُ لِتِجَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ أَصْلًا. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ: يَجُوزُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَطْ، وَقِيلَ: سَبْعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: عِشْرِينَ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِي (الْمُحَارِبِ) وَيَقْطَعُ بِالْمَنْعِ فِي غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِي: فَإِنْ كَانَ مُحَارِبًا وَقُلْنَا فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ: لَا يَقْصُرُ، فَهُنَا أَوْلَى. وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَرَخَّصُ أَبَدًا. وَالثَّانِي: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحَارِبٍ، كَالْمُتَفَقِّهِ وَالتَّاجِرِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَتَرَخَّصُ أَصْلًا. وَقِيلَ: هُوَ كَالْمُحَارِبِ، وَهُوَ غَلَطٌ. فَرْعٌ وَأَمَّا كَوْنُ السَّفَرِ طَوِيلًا فَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَالطَّوِيلُ: ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَهِيَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَهِيَ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ. فَالْمِيلُ: أَرْبَعَةُ آلَافِ خُطْوَةٍ، وَالْخُطْوَةُ: ثَلَاثَةُ أَقْدَامٍ. وَهَلْ هَذَا الضَّبْطُ تَحْدِيدٌ، أَمْ تَقْرِيبٌ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: تَحْدِيدٌ. وَحُكِيَ قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْقَصْرَ يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، بِشَرْطِ الْخَوْفِ. وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ لَا يَقْصُرَ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ضَبْطِهِ بِهِ. وَالْمَسَافَةُ فِي الْبَحْرِ مِثْلُ الْمَسَافَةِ فِي الْبَرِّ وَإِنْ قَطَعَهَا فِي لَحْظَةٍ. فَإِنْ شَكَّ فِيهَا اجْتَهَدَ. قُلْتُ: وَلَوْ حَبَسَتْهُمُ الرِّيحُ فِيهِ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: هُوَ كَالْإِقَامَةِ فِي الْبَرِّ بِغَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَسَافَةَ الرُّجُوعِ لَا تُحْسَبُ، فَلَوْ قَصَدَ مَوْضِعًا عَلَى مَرْحَلَةٍ بِنِيَّةِ أَنْ لَا يُقِيمَ فِيهِ فَلَيْسَ لَهُ الْقَصْرُ لَا ذَاهِبًا وَلَا رَاجِعًا، وَإِنْ كَانَ يَنَالُهُ مَشَقَّةُ مَرْحَلَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى سَفَرًا طَوِيلًا. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَقْصُرُ إِذَا كَانَ الذَّهَابُ وَالرُّجُوعُ مَرْحَلَتَيْنِ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. وَيُشْتَرَطُ عَزْمُهُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى قَطْعِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَلَوْ خَرَجَ لِطَلَبِ آبِقٍ أَوْ غَرِيمٍ وَيَنْصَرِفُ مَتَى لَقِيَهُ وَلَا يَعْرِفُ مَوْضِعَهُ لَمْ يَتَرَخَّصْ وَإِنْ طَالَ سَفَرُهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْهَائِمِ: فَإِذَا وَجَدَهُ وَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى بَلَدِهِ وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ، يُرَخَّصُ إِذَا ارْتَحَلَ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. فَلَوْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ السَّفَرِ يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلْقَاهُ قَبْلَ مَرْحَلَتَيْنِ تَرَخَّصَ، فَلَوْ نَوَى مَسَافَةَ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ الْغَرِيمَ رَجَعَ نَظَرَ: إِنْ نَوَى ذَلِكَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ عُمْرَانِ الْبَلَدِ لَمْ يَتَرَخَّصْ، وَبَعْدَ مُفَارَقَةِ الْعُمْرَانِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَتَرَخَّصُ مَا لَمْ يَجِدْهُ فَإِذَا وَجَدَهُ صَارَ مُقِيمًا. وَكَذَا لَوْ نَوَى قَصْدَ مَوْضِعٍ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ وَسَطَ الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَخْرَجِهِ إِلَى الْمَقْصِدِ الثَّانِي مَسَافَةُ الْقَصْرِ يَتَرَخَّصُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ تَرَخَّصَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ مَا لَمْ يَدْخُلْهُ. قُلْتُ: هَذَا إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ نَوَى دُونَهَا فَهُوَ سَفَرٌ وَاحِدٌ فَلَهُ الْقَصْرُ فِي جَمِيعِ طَرِيقِهِ، وَفِي الْبَلَدِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا سَافَرَ الْعَبْدُ بِسَيْرِ الْمَوْلَى، وَالْمَرْأَةُ بِسَيْرِ الزَّوْجِ، وَالْجُنْدِيُّ بِسَيْرِ الْأَمِيرِ وَلَا يَعْرِفُونَ مَقْصِدَهُمْ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ التَّرَخُّصُ. فَلَوْ نَوَوْا مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَلَا عِبْرَةَ بِنِيَّةِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْجُنْدِيِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الْأَمِيرِ وَقَهْرِهِ، فَإِنْ عَرَفُوا مَقْصِدَهُمْ فَنَوَوْا فَلَهُمُ الْقَصْرُ.

قُلْتُ: وَإِذَا أَسَرَ الْكُفَّارُ رَجُلًا فَسَارُوا بِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهِ لَمْ يَقْصُرْ. وَإِنْ سَارَ مَعَهُمْ يَوْمَيْنِ قَصَرَ بَعْدَ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَلَوْ عَلِمَ الْبَلَدَ الَّذِي يَذْهَبُونَ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنَّهُ إِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ هَرَبَ لَمْ يَقْصُرْ قَبْلَ مَرْحَلَتَيْنِ. وَإِنْ نَوَى قَصْدَ ذَلِكَ الْبَلَدِ أَوْ غَيْرَهُ - وَلَا مَعْصِيَةَ فِي قَصْدِهِ - قَصَرَ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَرْحَلَتَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ لِمَقْصِدِهِ طَرِيقَانِ يَبْلُغُ أَحَدُهُمَا مَسَافَةَ الْقَصْرِ دُونَ الْآخَرِ فَسَلَكَ الْأَبْعَدَ، نَظَرَ؛ إِنْ كَانَ لِغَرَضٍ كَالْأَمْنِ أَوِ السُّهُولَةِ أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ عِيَادَةٍ تَرَخَّصَ. وَكَذَا لَوْ قَصَدَ التَّنَزُّهَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي اعْتِبَارِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضٌ سِوَى التَّرَخُّصِ فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَتَرَخَّصُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا يَتَرَخَّصُ قَطْعًا. وَلَوْ بَلَغَ بِكُلِّ وَاحِدٍ الْمَسَافَةَ فَسَلَكَ الْأَبْعَدَ لِغَيْرِ غَرَضٍ تَرَخَّصَ فِي جَمِيعِهِ قَطْعًا. فَرْعٌ إِذَا خَرَجَ إِلَى بَلَدٍ وَالْمَسَافَةُ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ أَنْ يَرْجِعَ انْقَطَعَ سَفَرُهُ فَلَا يَجُوزُ الْقَصْرُ مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. فَإِذَا فَارَقَهُ فَهُوَ سَفَرٌ جَدِيدٌ. فَإِنَّمَا يَقْصُرُ إِذَا تَوَجَّهَ مِنْهُ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ، سَوَاءً رَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ أَوِ اسْتَمَرَّ إِلَى مَقْصِدِهِ الْأَوَّلِ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَلَوْ خَرَجَ إِلَى بَلَدٍ لَا يُقْصَرُ إِلَيْهِ الصَّلَاةُ ثُمَّ نَوَى

فصل

مُجَاوَزَتَهُ إِلَى مَا يُقْصَرُ إِلَيْهِ الصَّلَاةُ، فَابْتِدَاءُ سَفَرِهِ مِنْ حِينِ غَيَّرَ النِّيَّةَ، فَإِنَّمَا يَتَرَخَّصُ إِذَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى الْمَقْصِدِ الثَّانِي مَرْحَلَتَانِ. وَلَوْ خَرَجَ إِلَى سَفَرٍ طَوِيلٍ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لَمْ يَتَرَخَّصْ. فَصْلٌ وَأَمَّا كَوْنُ السَّفَرِ مُبَاحًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، سَوَاءً كَانَ طَاعَةً أَوْ تِجَارَةً، وَلَا يَتَرَخَّصُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، كَهَرَبِ الْعَبْدِ مِنْ مَوْلَاهُ، وَالْمَرْأَةِ مِنَ الزَّوْجِ، وَالْغَرِيمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ، وَالْمُسَافِرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَوْ لِلزِّنَى أَوْ قَتْلِ الْبَرِيءِ. وَأَمَّا الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مُبَاحًا وَيَرْتَكِبُ الْمَعَاصِيَ فِي طَرِيقِهِ فَلَهُ التَّرَخُّصُ. وَلَوْ أَنْشَأَ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ جَعَلَهُ مَعْصِيَةً فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَرَخَّصُ. وَلَوْ أَنْشَأَ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ ثُمَّ تَابَ وَغَيَّرَ قَصْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ صَوْبِ السَّفَرِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: ابْتِدَاءُ سَفَرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. إِنْ كَانَ مِنْهُ إِلَى مَقْصِدِهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ - تَرَخَّصَ، وَإِلَّا فَلَا. وَقِيلَ: فِي التَّرَخُّصِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ نَوَى مُبَاحًا ثُمَّ جَعَلَهُ مَعْصِيَةً. ثُمَّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ، وَلَا يُفْطِرُ، وَلَا يَتَنَفَّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَلَا يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي: لَا يَمْسَحُ أَصْلًا. وَلَيْسَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِبَاحَتِهَا بِالتَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ. كَمَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ الْعَاصِي عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ الْعَاصِي لِقُدْرَتِهِ عَلَى التَّوْبَةِ. قُلْتُ: وَلَا تَسْقُطُ الْجُمُعَةُ عَنِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ، وَفِي تَيَمُّمِهِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

وَمِمَّا أُلْحِقُ بِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، أَنْ يُتْعِبَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَيُعَذِّبَ دَابَّتَهُ بِالرَّكْضِ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ. ذَكَرَ الصَّيْدَلَانِيُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ يَتَنَقَّلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ لَمْ يَتَرَخَّصْ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: السَّفَرُ لِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْبِلَادِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا لَيْسَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ. فَصْلٌ الْقَصْرُ جَائِزٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ مُؤَدَّاةٍ فِي السَّفَرِ أَدْرَكَ وَقْتَهَا فِيهِ. فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ فَلَا قَصْرَ فِيهِمَا بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْمَقْضِيَّةُ فَإِنْ فَاتَتْ فِي الْحَضَرِ وَقَضَاهَا فِي السَّفَرِ لَمْ يَقْصُرْ، خِلَافًا لِلْمُزَنِي. وَإِنْ شَكَّ هَلْ فَاتَتْ فِي السَّفَرِ أَوِ الْحَضَرِ؟ لَمْ يَقْصُرْ أَيْضًا. وَإِنْ فَاتَتْ فِي السَّفَرِ فَقَضَاهَا فِيهِ أَوْ فِي الْحَضَرِ، فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: إِنْ قَضَى فِي السَّفَرِ قَصَرَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي: يُتِمُّ فِيهِمَا، وَالثَّالِثُ: يَقْصُرُ فِيهِمَا. وَالرَّابِعُ: إِنْ قَضَى ذَلِكَ فِي السَّفَرِ قَصَرَ، وَإِنْ قَضَى فِي الْحَضَرِ أَوْ سَفَرٍ آخَرَ أَتَمَّ. فَإِنْ قُلْنَا: يُتِمُّ فِيهِمَا، فَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ فَخَرَجَ الْوَقْتُ فِي أَثْنَائِهَا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي يَقَعُ بَعْضُهَا فِي الْوَقْتِ أَدَاءً أَمْ قَضَاءً. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ فِي الْوَقْتِ رَكْعَةٌ فَأَدَاءٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَهَا فَقَضَاءٌ. فَإِنْ قُلْنَا: قَضَاءٌ لَمْ يَقْصُرْ. وَإِنْ قُلْنَا: أَدَاءٌ قَصَرَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) : يُتِمُّ. فَرْعٌ

إِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ وَقَدْ مَضَى مِنْهُ مَا يُمْكِنُ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَالنَّصُّ أَنَّ لَهُ الْقَصْرَ. وَنَصَّ فِيمَا إِذَا أَدْرَكَتْ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ ثُمَّ حَاضَتْ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ، وَكَذَا سَائِرُ أَصْحَابِ الْعُذْرِ. فَقَالَ الْأَصْحَابُ: فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ: الْعَمَلُ بِظَاهِرِ النَّصَّيْنِ، وَالثَّانِي: فِيهِمَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ الْحَائِضَ الصَّلَاةُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ الْإِتْمَامُ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ وَيَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ: إِنْ سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَمْ يَقْصُرْ. وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ قَصَرَ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ. أَمَّا إِذَا سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قُلْنَا: كُلُّهَا أَدَاءٌ قَصَرَ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ دُونَ مَا يَسَعُ الصَّلَاةَ وَسَافَرَ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ الْقَصْرُ إِنْ قُلْنَا: تَمْتَنِعُ لَوْ مَضَى مَا يَسَعُ الصَّلَاةَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَاضَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْقَدْرِ النَّاقِصِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ عُرُوضَ السَّفَرِ لَا يُنَافِي إِتْمَامَ الصَّلَاةِ، وَعُرُوضَ الْحَيْضِ يُنَافِيهِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ شَاذٌّ مَرْدُودٌ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَقْصُرُ هُنَا بِلَا خِلَافٍ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّهُ يَقْصُرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ لِلْقَصْرِ أَرْبَعُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَقْتَدِيَ بِمُتِمٍّ، فَإِنْ فَعَلَهُ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَالِاقْتِدَاءُ فِي لَحْظَةٍ يُتَصَوَّرُ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا أَنْ يُدْرِكَ الْإِمَامَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، أَوْ يُحْدِثَ الْإِمَامُ عَقِبَ اقْتِدَائِهِ وَيَنْصَرِفَ. وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يَقْضِي الصُّبْحَ، مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا، لَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: الْجُمُعَةُ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ قَصَرَ، وَإِلَّا فَهِيَ كَالصُّبْحِ. قُلْتُ: وَسَوَاءً كَانَ إِمَامُ الْجُمُعَةِ مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا، فَهَذَا حُكْمُهُ. وَلَوْ نَوَى الظُّهْرَ مَقْصُورَةً خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ مَقْصُورَةً جَازَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْمُقْتَدِي تَارَةً يَعْلَمُ حَالَ إِمَامِهِ وَتَارَةً يَجْهَلُهَا. فَإِنْ عَلِمَ، نَظَرَ: إِنْ عَلِمَهُ مُقِيمًا أَوْ ظَنَّهُ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. فَلَوِ اقْتَدَى بِهِ وَنَوَى الْقَصْرَ انْعَقَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَغَتْ نِيَّةُ الْقَصْرِ. بِخِلَافِ الْمُقِيمِ يَنْوِي الْقَصْرَ، لَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْرِ، وَالْمُسَافِرُ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَضُرَّهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ. كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ أَوْ صَارَ مُقِيمًا. وَإِنْ عَلِمَهُ أَوْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا أَوْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ خَلْفَهُ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِتْمَامُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ الْقَصْرُ. وَلَوْ عَرَضَ هَذَا التَّرَدُّدُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمِ الْإِتْمَامُ. وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ نِيَّتَهُ فَعَلَّقَ عَلَيْهَا فَنَوَى إِنْ قَصَرَ قَصَرْتُ، وَإِنْ أَتَمَّ أَتْمَمْتُ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: جَوَازُ التَّعْلِيقِ، فَإِنْ أَتَمَّ الْإِمَامُ أَتَمَّ، وَإِنْ قَصَرَ قَصَرَ. فَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَوْ أَفْسَدَهَا

ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ نَوَيْتُ الْقَصْرَ، فَلِلْمَأْمُومِ الْقَصْرُ. وَإِنْ قَالَ: كُنْتُ نَوَيْتُ الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَإِنِ انْصَرَفَ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْمَأْمُومِ مَا نَوَاهُ، فَالْأَصَحُّ: لُزُومُ الْإِتْمَامِ. قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَالثَّانِي: جَوَازُ الْقَصْرِ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُقِيمٌ، بَلْ شَكَّ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَإِنْ بَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا قَاصِرًا. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ إِذَا بَانَ قَاصِرًا جَازَ الْقَصْرُ وَهُوَ شَاذٌّ. فَرْعٌ إِذَا اقْتَدَى بِمُقِيمٍ أَوْ مُسَافِرٍ مُتِمٍّ ثُمَّ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَوْ بَانَ مُحْدِثًا أَوْ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ فَاسْتَأْنَفَهَا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَلَوِ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا فَبَانَ مُقِيمًا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ لِتَقْصِيرِهِ، فَإِنَّ شِعَارَ الْمُسَافِرِ ظَاهِرٌ. وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مُقِيمٌ مُحْدِثٌ، نَظَرَ: إِنْ بَانَ كَوْنُهُ مُقِيمًا أَوَّلًا لَزِمَ الْإِتْمَامُ. وَإِنْ بَانَ كَوْنُهُ مُحْدِثًا أَوَّلًا أَوْ بَانَا مَعًا، فَطَرِيقَانِ. أَشْهَرُهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: لَهُ الْقَصْرُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَهُ الْقَصْرُ قَطْعًا، إِذْ لَا قُدْوَةَ. وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ مُقِيمًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ ثُمَّ سَافَرَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَلَهُ الْقَصْرُ، لِعَدَمِ الشُّرُوعِ الصَّحِيحِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَعَ فِيهَا مُقِيمًا ثُمَّ عَرَضَ سَبَبٌ مُفْسِدٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، لِالْتِزَامِهِ ذَلِكَ بِالشُّرُوعِ الصَّحِيحِ. وَلَوِ اقْتَدَى بِمُقِيمٍ ثُمَّ بَانَ حَدَثُ الْمَأْمُومِ فَلَهُ الْقَصْرُ. وَكَذَا لَوِ اقْتَدَى بِمَنْ يَعْرِفُهُ مُحْدِثًا وَيَظُنُّهُ مُقِيمًا فَلَهُ الْقَصْرُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شُرُوعُهُ.

فَرْعٌ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْإِمَامُ إِذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِحَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ مَنْ يُتِمُّ بِالْمَأْمُومِينَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْجُمُعَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِذَا أَمَّ مُسَافِرٌ مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِرُعَافٍ أَوْ سَبْقِ حَدَثٍ فَاسْتَخْلَفَ مُقِيمًا لَزِمَ الْمُسَافِرِينَ الْمُقْتَدِينَ الْإِتْمَامُ. كَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهٌ، لِأَنَّا سَنَذْكُرُ وَجْهًا فِي مَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْخَلِيفَةِ. فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ الْإِتْمَامُ إِذَا نَوَوُا الِاقْتِدَاءَ. وَإِنَّمَا فَرَّعَ الْأَصْحَابُ عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِالْخَلِيفَةِ لَا تَجِبُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَالرُّعَافُ فَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْتَضِي وُجُوبَ إِتْمَامِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَالْأَكْثَرُونَ: أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ غَسْلِ الدَّمِ، وَيَقْتَدِيَ بِالْخَلِيفَةِ، إِمَّا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، وَإِمَّا اسْتِئْنَافًا عَلَى الْجَدِيدِ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، لِأَنَّهُ اقْتَدَى بِمُقِيمٍ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَقْتَدِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِتْمَامُ عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ عَمَلًا بِظَاهِرِ النَّصِّ، لِأَنَّ فَرْعَهُ مُتِمٌّ فَهُوَ أَوْلَى، وَغَلَّطَهُ الْأَصْحَابُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَدِيمِ، إِنْ سَبَقَ الْحَدَثُ لَا يُبْطِلُهَا، فَيَكُونُ الرَّاعِفُ فِي انْصِرَافِهِ فِي حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ بِخَلِيفَتِهِ الْمُقِيمِ. وَضَعَّفَهُ الْأَصْحَابُ أَيْضًا، فَإِنَّ الْبِنَاءَ إِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى الْقَدِيمِ، وَالِاسْتِخْلَافَ لَا يَجُوزُ عَلَى الْقَدِيمِ. وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنْ يُحِسَّ الْإِمَامُ بِالرُّعَافِ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّمِ فَيَسْتَخْلِفَ ثُمَّ يَخْرُجَ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، لِأَنَّهُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِمُقِيمٍ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ. وَضَعَّفَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُ اسْتِخْلَافٌ قَبْلَ الْعُذْرِ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْإِحْسَاسُ بِهِ عُذْرٌ. وَمَتَى حَضَرَ إِمَامٌ حَالُهُ أَكْمَلُ جَازَ اسْتِخْلَافُهُ.

قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مُقِيمًا. فَلَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ وَلَا اسْتَخْلَفَ الْمَأْمُومُونَ بَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ فُرَادَى. وَجَازَ لِلْمُسَافِرِينَ مِنْهُمْ وَالرَّاعِفِ الْقَصْرُ قَطْعًا. وَكَذَا لَوِ اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا أَوِ اسْتَخْلَفَهُ الْقَوْمُ قَصَرَ الْمُسَافِرُونَ وَالرَّاعِفُ. فَلَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفِ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ وَاسْتَخْلَفَ الْقَوْمُ مُقِيمًا، فَوَجْهَانِ. حَكَاهُمَا صَاحِبُ (الْحَاوِي) أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَاسْتِخْلَافِ الرَّاعِفِ عَلَى مَا مَضَى. وَأَصَحُّهُمَا: يَجُوزُ لِلرَّاعِفِ هُنَا الْقَصْرُ بِلَا خِلَافٍ إِذَا لَمْ يَقْتَدِ بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فَرْعًا لَهُ. وَلَوِ اسْتَخْلَفَ الْمُقِيمُونَ مُقِيمًا وَالْمُسَافِرُونَ مُسَافِرًا جَازَ. وَلِلْمُسَافِرِينَ الْقَصْرُ خَلْفَ إِمَامِهِمْ، وَكَذَا لَوْ تَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ أَوْ أَكْثَرَ وَأَمَّ كُلَّ فِرْقَةٍ إِمَامٌ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: نِيَّةُ الْقَصْرِ. فَلَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ. وَلَا يَجِبُ اسْتِدَامَةُ ذِكْرِهَا، لَكِنْ يُشْتَرَطُ الِانْفِكَاكُ عَمَّا يُخَالِفُ الْجَزْمَ بِهَا. فَلَوْ نَوَى الْقَصْرَ أَوَّلًا، ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ، أَوْ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ، أَوْ شَكَّ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْحَالِ أَنَّهُ نَوَاهُ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَلَوِ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ الْإِمَامُ إِلَى ثَالِثَةٍ، نَظَرَ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَوَى الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَاهٍ، بِأَنْ كَانَ حَنَفِيًّا لَا يَرَى الْإِتْمَامَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ، وَيَتَخَيَّرُ إِنْ شَاءَ خَرَجَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَهُ حَتَّى يَعُودَ. فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ أَتَمَّ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْإِمَامِ فِي سَهْوِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ لَهُ. وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا هُوَ فِيهِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ لَهُ، كَالْمَسْبُوقِ إِذَا أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الصَّلَاةِ رَكْعَةً، فَقَامَ الْإِمَامُ سَهْوًا إِلَى رَكْعَةٍ زَائِدَةٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْبُوقِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي تَدَارُكِ مَا عَلَيْهِ. فَلَوْ شَكَّ هَلْ قَامَ سَاهِيًا أَمْ مُتِمًّا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَلَوْ نَوَى الْقَصْرَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ إِلَى ثَالِثَةٍ نَظَرَ: إِنْ حَدَثَ مَا يُوجِبُ الْإِتْمَامَ كَنِيَّةِ الْإِتْمَامِ أَوِ الْإِقَامَةِ أَوْ حُصُولِهِ بِدَارِ الْإِقَامَةِ فِي السَّفِينَةِ، فَقَامَ لِذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ وَاجِبَهُ. فَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَامَ

باب الجمع بين الصلاتين

عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. كَمَا لَوْ قَامَ الْمُقِيمُ الْمَذْكُورُ إِلَى رَكْعَةٍ خَامِسَةٍ، أَوْ قَامَ الْمُتَنَفِّلُ إِلَى رَكْعَةٍ زَائِدَةٍ قَبْلَ تَغْيِيرِ النِّيَّةِ. وَإِنْ قَامَ سَهْوًا ثُمَّ ذَكَرَ لَزِمَهُ أَنْ يَعُودَ، وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمَ. فَلَوْ بَدَا لَهُ بَعْدَ التَّذَكُّرِ أَنْ يُتِمَّ عَادَ إِلَى الْقُعُودِ ثُمَّ نَهَضَ مُتِمًّا. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِي قِيَامِهِ. فَلَوْ صَلَّى ثَالِثَةً وَرَابِعَةً سَهْوًا وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ فَتَذَكَّرَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَهُوَ قَاصِرٌ، وَرَكْعَتَاهُ الزَّائِدَتَانِ غَيْرُ مَحْسُوبَتَيْنِ. فَلَوْ نَوَى الْإِتْمَامَ، لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِهَا. فَلَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي أَثْنَائِهَا، أَوِ انْتَهَتْ بِهِ السَّفِينَةُ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ، أَوْ سَارَتْ بِهِ مَنْ دَارِ الْإِقَامَةِ فِي أَثْنَائِهَا، أَوْ شَكَّ هَلْ نَوَى الْإِقَامَةَ أَمْ لَا؟ أَوْ دَخَلَ بَلَدًا وَشَكَّ هَلْ هُوَ مَقْصُودُهُ أَمْ لَا؟ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْعِلْمُ بِجَوَازِ الْقَصْرِ. فَلَوْ جَهِلَ جَوَازَهُ فَقَصَرَ لَمْ يَصِحَّ لِتَلَاعُبِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْأُمِّ) . قُلْتُ: وَيَلْزَمُهُ إِعَادَةُ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا، لِإِلْزَامِهِ الْإِتْمَامَ. وَالصُّورَةُ فِيمَنْ نَوَى الظُّهْرَ مُطْلَقًا ثُمَّ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ عَمْدًا. أَمَّا لَوْ نَوَى جَاهِلَ الْقَصْرِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ مُتَلَاعِبًا، فَيُعِيدُهَا مَقْصُورَةً إِذَا عَلِمَ الْقَصْرَ بَعْدَ شُرُوعِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، تَقْدِيمًا فِي وَقْتِ الْأُولَى، أَوْ تَأْخِيرًا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ. وَلَا يَجُوزُ فِي الْقَصِيرِ عَلَى

الْأَظْهَرِ. وَالْأَفْضَلُ لِلسَّائِرِ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَنْ يُؤَخِّرَهَا إِلَى الثَّانِيَةِ، وَلِلنَّازِلِ فِي وَقْتِهَا تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ. وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا جَمْعُ الصُّبْحِ إِلَى غَيْرِهَا، وَلَا الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا الْحُجَّاجُ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَذَلِكَ الْجَمْعُ بِسَبَبِ السَّفَرِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: بِسَبَبِ النُّسُكِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَفِي جَمْعِ الْمَكِّيِّ الْقَوْلَانِ، لِأَنَّ سَفَرَهُ قَصِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُ الْعَرَفِيُّ بِعَرَفَةَ، وَلَا الْمُزْدَلِفِيُّ بِمُزْدَلِفَةَ، لِأَنَّهُ وَطَنُهُ. وَهَلْ يَجْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبُقْعَةِ الْأُخْرَى، فِيهِ الْقَوْلَانِ كَالْمَكِّيِّ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، جَازَ الْجَمْعُ لِجَمِيعِهِمْ. وَمِنَ الْأَصْحَابِ يَقُولُ: فِي جَمْعِ الْمَكِّيِّ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: مَنْعُهُ. وَالْقَدِيمُ: جَوَازُهُ. وَعَلَى الْقَدِيمِ فِي الْعَرَفِيِّ وَالْمُزْدَلِفِيِّ وَجْهَانِ. وَالْمَذْهَبُ: مَنْعُ جَمِيعِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَحُكْمُ الْجَمْعِ فِي الْبُقْعَتَيْنِ حُكْمُهُ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ. وَيَتَخَيَّرُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالِاخْتِيَارُ: التَّقْدِيمُ بِعَرَفَةَ وَالتَّأْخِيرُ بِمُزْدَلِفَةَ. فَرْعٌ إِذَا جَمَعَ الْمُسَافِرُ فِي وَقْتِ الْأُولَى، اشْتُرِطَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: التَّرْتِيبُ فَيَبْدَأُ بِالْأُولَى. فَلَوْ بَدَأَ بِالثَّانِيَةِ لَمْ يَصِحَّ. وَتَجِبُ إِعَادَتُهَا بَعْدَ الْأُولَى. وَلَوْ بَدَأَ بِالْأُولَى ثُمَّ صَلَّى الثَّانِيَةَ فَبَانَ فَسَادُ الْأُولَى، فَالثَّانِيَةُ فَاسِدَةٌ أَيْضًا. الْأَمْرُ الثَّانِي: نِيَّةُ الْجَمْعِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُشْتَرَطُ. وَيَكْفِي حُصُولُهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْأُولَى أَوْ فِي أَثْنَائِهَا أَوْ مَعَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا، وَلَا يَكْفِي بَعْدَ التَّحَلُّلِ. وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّهَا تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْأُولَى، وَوَجْهٌ: أَنَّهَا تَجُوزُ فِي أَثْنَائِهَا وَلَا

تَجُوزُ مَعَ التَّحَلُّلِ، وَوَجْهٌ: أَنَّهَا تَجُوزُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالثَّانِيَةِ. وَهُوَ قَوْلٌ خَرَّجَهَ الْمُزَنِيُّ لِلشَّافِعِيِّ. وَوَجْهٌ آخَرُ لِأَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ: أَنَّ نِيَّةَ الْجَمْعِ لَا تُشْتَرَطُ أَصْلًا. قُلْتُ: قَالَ الدَّارِمِيُّ: لَوْ نَوَى الْجَمْعَ، ثُمَّ نَوَى تَرْكَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأُولَى، ثُمَّ نَوَى الْجَمْعَ ثَانِيًا، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الْمُوَالَاةُ. وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ اشْتِرَاطُهَا. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ: يَجُوزُ الْجَمْعُ وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الْأُولَى. وَحَكَى عَنْ نَصِّهِ فِي (الْأُمِّ) : أَنَّهُ إِذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي بَيْتِهِ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ، وَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ جَازَ. وَالْمَعْرُوفُ: اشْتِرَاطُ الْمُوَالَاةِ، فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ الطَّوِيلُ وَلَا يَضُرُّ الْيَسِيرُ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: حَدَّ أَصْحَابُنَا الْيَسِيرَ بِقَدْرِ الْإِقَامَةِ. وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ: أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْفَصْلِ إِلَى الْعَادَةِ. وَقَدْ تَقْتَضِي الْعَادَةُ احْتِمَالَ زِيَادَةٍ عَلَى قَدْرِ الْإِقَامَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ جُمْهُورَ الْأَصْحَابِ، جَوَّزُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ، وَقَالُوا: لَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالطَّلَبِ وَالتَّيَمُّمِ لَكِنْ يُخَفَّفُ الطَّلَبُ. وَمَنَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ جَمْعَ الْمُتَيَمِّمِ لِلْفَصْلِ بِالطَّلَبِ. وَمَتَى طَالَ الْفَصْلُ امْتَنَعَ ضَمُّ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى، وَيَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهَا إِلَى وَقْتِهَا، سَوَاءً طَالَ بِعُذْرٍ كَالسَّهْوِ وَالْإِغْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَلَوْ جَمَعَ فَتَذَكَّرَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُمَا أَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا مِنَ الْأُولَى، بَطَلَتَا جَمِيعًا، وَلَهُ إِعَادَتُهُمَا جَامِعًا. وَلَوْ تَذَكَّرَ تَرْكَهُ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ قَرُبَ الْفَصْلُ تَدَارَكَ وَمَضَتِ الصَّلَاتَانِ عَلَى الصِّحَّةِ. وَإِنْ طَالَ بَطَلَتِ الثَّانِيَةُ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ لِطُولِ الْفَصْلِ بِالثَّانِيَةِ الْبَاطِلَةِ، فَيُعِيدُهَا فِي وَقْتِهَا. فَلَوْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى أَمْ مِنَ الثَّانِيَةِ لَزِمَهُ إِعَادَتُهُمَا لِاحْتِمَالِ التَّرْكِ مِنَ الْأُولَى. وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ: يَجُوزُ كَمَا لَوْ أُقِيمَتْ جُمُعَتَانِ فِي بَلَدٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ السَّابِقَةَ مِنْهُمَا، يَجُوزُ إِعَادَةُ الْجُمُعَةِ فِي قَوْلٍ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، فَلَوْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُشْتَرَطِ التَّرْتِيبُ وَلَا الْمُوَالَاةُ وَلَا نِيَّةُ الْجَمْعِ حَالَ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَتُشْتَرَطُ

الثَّلَاثَةُ عَلَى الثَّانِي، فَعَلَى الِاشْتِرَاطِ لَوْ أَخَلَّ بِوَاحِدٍ مِنْهَا صَارَتِ الْأُولَى قَضَاءً، فَلَا يَجُوزُ قَصْرُهَا إِنْ لَمْ نُجَوِّزْ قَصْرَ الْقَضَاءِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ فِي وَقْتِ الْأُولَى كَوْنَ التَّأْخِيرِ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ. فَلَوْ أَخَّرَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ، أَوْ ضَاقَ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ مَا تَكُونُ الصَّلَاةُ فِيهِ أَدَاءً عَصَى وَصَارَتِ الْأُولَى قَضَاءً. فَرْعٌ إِذَا جَمَعَ تَقْدِيمًا، فَصَارَ فِي أَثْنَاءِ الْأُولَى أَوْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الثَّانِيَةِ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ أَوْ وَصُولِ السَّفِينَةِ دَارَ الْإِقَامَةِ - بَطَلَ الْجَمْعُ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُ الثَّانِيَةِ إِلَى وَقْتِهَا، وَأَمَّا الْأُولَى فَصَحِيحَةٌ. فَلَوْ صَارَ مُقِيمًا فِي أَثْنَاءِ الثَّانِيَةِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ الْجَمْعُ، كَمَا يَمْتَنِعُ الْقَصْرُ بِالْإِقَامَةِ فِي أَثْنَائِهَا. فَعَلَى هَذَا، هَلْ تَكُونُ الثَّانِيَةُ نَفْلًا أَمْ تَبْطُلُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ كَنَظَائِرِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَبْطُلُ الْجَمْعُ صِيَانَةً لَهَا عَنِ الْبُطْلَانِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ، بِخِلَافِ الْقَصْرِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْإِتْمَامِ لَا يُبْطِلُ فَرْضِيَّةَ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. أَمَّا إِذَا صَارَ مُقِيمًا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِقَامَةُ فِي أَثْنَائِهَا لَا تُؤَثِّرُ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يَبْطُلُ الْجَمْعُ، كَمَا لَوْ قَصَرَ ثُمَّ أَقَامَ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَآخَرُونَ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَقَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ، إِمَّا فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَإِمَّا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ مُضِيِّ إِمْكَانِ فِعْلِهَا. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِمْكَانِ فِعْلِهَا لَمْ تَجِبْ إِعَادَتُهَا بِلَا خِلَافٍ. وَصَرَّحَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ مَهْمَا بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا جَمَعَ تَقْدِيمًا. فَلَوْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَصَارَ مُقِيمًا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُمَا لَمْ يَضُرَّ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْفَرَاغِ صَارَتِ الْأُولَى قَضَاءً.

فصل

فَصْلٌ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، بِعُذْرِ الْمَطَرِ. وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ دُونَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَسَوَاءً عِنْدَنَا قَوِيُّ الْمَطَرِ وَضَعِيفُهُ إِذَا بَلَّ الثَّوْبَ، وَالشَّفَّانُ مَطَرٌ وَزِيَادَةٌ. قُلْتُ: الشَّفَّانُ - بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَآخِرُهُ نُونٌ - وَهُوَ بَرْدُ رِيحٍ فِيهِ نَدْوَةٌ، وَكَذَا قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَطَرٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَطَرًا وَزِيَادَةً، فَكَأَنَّ الرَّافِعِيَّ قَلَّدَ صَاحِبَ (التَّهْذِيبِ) فِي إِطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُنْكَرَةِ. وَصَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: الشَّفَّانُ لَهُ حُكْمُ الْمَطَرِ لِتَضَمُّنِهِ الْقَدْرَ الْمُبِيحَ مِنَ الْمَطَرِ وَهُوَ مَا يَبُلُّ الثَّوْبَ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الشَّفَّانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ إِنْ كَانَا يَذُوبَانِ فَكَالْمَطَرِ، وَإِلَّا فَلَا. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يُرَخِّصَانِ بِحَالٍ. ثُمَّ هَذِهِ الرُّخْصَةُ لِمَنْ يُصَلِّي جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ يَأْتِيهِ مِنْ بُعْدٍ وَيَتَأَذَّى بِالْمَطَرِ فِي إِتْيَانِهِ. فَأَمَّا مَنْ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ مَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ فِي كِنٍّ، أَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي بَابِ دَارِهِ، أَوْ صَلَّى النِّسَاءُ فِي بُيُوتِهِنَّ جَمَاعَةً، أَوْ حَضَرَ جَمِيعُ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ وَصَلُّوا أَفْرَادًا، فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: عَلَى الْأَظْهَرِ. ثُمَّ إِنْ أَرَادَ الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، فَشُرُوطُهُ كَمَا تَقَدَّمَتْ فِي جَمْعِ السَّفَرِ. وَإِنْ أَرَادَ تَأْخِيرَ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ كَالسَّفَرِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْأَظْهَرِ الْجَدِيدِ، وَيَجُوزُ عَلَى الْقَدِيمِ. فَإِذَا جَوَّزْنَاهُ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: يُصَلِّي الْأُولَى مَعَ الثَّانِيَةِ، سَوَاءً اتَّصَلَ الْمَطَرُ أَوِ انْقَطَعَ. وَقَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) :

إِذَا انْقَطَعَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ، وَيُصَلِّي الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا كَالْمُسَافِرِ إِذَا أَخَّرَ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ ثُمَّ أَقَامَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: لَوِ انْقَطَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ فِعْلِهَا امْتَنَعَ الْجَمْعُ وَصَارَتِ الْأُولَى قَضَاءً كَمَا لَوْ صَارَ مُقِيمًا. وَعَكَسَ صَاحِبُ (الْإِبَانَةِ) مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ. وَفِي جَوَازِهِ فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَجْهَانِ. وَهَذَا نَقْلٌ مُنْكَرٌ. وَأَمَّا إِذَا جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمَطَرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاتَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ وُجُودُهُ أَيْضًا عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْأُولَى عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ وَقَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُمْ. وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ. وَنَقَلَهُ فِي (النِّهَايَةِ) عَنْ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ. وَلَا يَضُرُّ انْقِطَاعُهُ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ. هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي طُرُقِهِمْ. وَنَقَلَ فِي (النِّهَايَةِ) عَنْ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ أَنَّهُ قَالَ: فِي انْقِطَاعِهِ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي طَرَيَانِ الْإِقَامَةِ فِي جَمْعِ السَّفَرِ. وَضَعَّفَهُ وَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: إِذَا لَمْ يُشْتَرَطُ دَوَامُ الْمَطَرِ فِي الْأُولَى فَأَوْلَى أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ لَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ الْأُولَى وَلَا مَطَرَ ثُمَّ مَطَرَتْ فِي أَثْنَائِهَا فَفِي جَوَازِ الْجَمْعِ الْقَوْلَانِ فِي نِيَّةِ الْجَمْعِ فِي أَثْنَاءِ الْأُولَى. وَاخْتَارَ ابْنُ الصَّبَّاغِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ مَا قَدَّمْنَاهُ. فَرْعٌ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعَصْرِ لِلْمَطَرِ، فَإِذَا قُدِّمَ الْعَصْرُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمَطَرِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) : وَلَا يُشْتَرَطُ

وُجُودُهُ فِي الْخُطْبَتَيْنِ، وَقَدْ يُنَازَعُ فِيهِ ذَهَابًا إِلَى جَعْلِهِمَا بَدَلَ الرَّكْعَتَيْنِ. قَالَ: وَإِنْ أَرَادَ تَأْخِيرَ الْجُمُعَةِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ جَازَ إِذَا جَوَّزْنَا تَأْخِيرَ الظُّهْرِ، فَيَخْطُبُ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَيُصَلِّي. فَرْعٌ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِالْمَرَضِ وَلَا الْخَوْفِ وَلَا الْوَحْلِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ بِالْمَرَضِ وَالْوَحْلِ. مِمَّنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ. فَعَلَى هَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَاعِيَ الْأَرْفَقَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ يُحَمُّ مَثَلًا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَدَّمَهَا إِلَى الْأُولَى بِالشَّرَائِطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَخَّرَهَا إِلَى الثَّانِيَةِ. قُلْتُ: الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بِالْمَرَضِ ظَاهِرٌ مُخْتَارٌ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ) . وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ الْكَبِيرِ الشَّاشِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ جَوَازَ الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْخَوْفِ، وَالْمَطَرِ، وَالْمَرَضِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ إِذَا جَمَعَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ صَلَّى سُنَّةَ الظُّهْرِ ثُمَّ سُنَّةَ الْعَصْرِ ثُمَّ يَأْتِي بِالْفَرِيضَتَيْنِ. وَفِي جَمْعِ الْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ يُصَلِّي الْفَرِيضَتَيْنِ ثُمَّ سُنَّةَ الْمَغْرِبِ ثُمَّ سُنَّةَ الْعِشَاءِ ثُمَّ الْوِتْرَ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَشَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّهُ يُصَلِّي سُنَّةَ الظُّهْرِ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ، ثُمَّ الْعَصْرَ، ثُمَّ سُنَّةَ الظُّهْرِ الَّتِي بَعْدَهَا، ثُمَّ سُنَّةَ الْعَصْرِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ سُنَّةُ الظُّهْرِ الَّتِي بَعْدَهَا، قَبْلَ فِعْلِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ بِفِعْلِ الظُّهْرِ؟ ! وَكَذَا سُنَّةُ الْعَصْرِ لَا يَدْخُلُ وَقْتُهَا إِلَّا بِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ الْمَجْمُوعَةِ إِلَى الظُّهْرِ إِلَّا بِفِعْلِ الظُّهْرِ الصَّحِيحَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الرُّخَصُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ أَرْبَعٌ: الْقَصْرُ، وَالْفِطْرُ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَالْجَمْعُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالَّتِي تَجُوزُ فِي الْقَصْرِ أَيْضًا أَرْبَعٌ: تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ - وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِالسَّفَرِ - وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالتَّيَمُّمُ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا.

فصل

فَصْلٌ الْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي: الْإِتْمَامُ. وَفِي وَجْهٍ: هُمَا سَوَاءٌ. وَاسْتَثْنَى الْأَصْحَابُ صُوَرًا مِنَ الْخِلَافِ. مِنْهَا: إِذَا كَانَ السَّفَرُ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ قَطْعًا. نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَجِدَ مِنْ نَفْسِهِ كَرَاهَةَ الْقَصْرِ، فَيَكَادُ يَكُونُ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ، فَالْقَصْرُ لِهَذَا أَفْضَلُ قَطْعًا، بَلْ يُكْرَهُ لَهُ الْإِتْمَامُ إِلَى أَنْ تَزُولَ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الرُّخَصِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَمِنْهَا: الْمَلَّاحُ الَّذِي يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ، وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ فِي سَفِينَةٍ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ الْإِتْمَامُ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْأُمِّ) . وَفِيهِ خُرُوجٌ مِنَ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ، لَا يُجَوِّزُ لَهُ الْقَصْرُ. قُلْتُ: وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) عَنْ صَاحِبِ (الْفُرُوعِ) : أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَا وَطَنَ لَهُ، وَعَادَتُهُ السَّيْرُ أَبَدًا فَلَهُ الْقَصْرُ، وَلَكِنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ: أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ أَطَاقَهُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْطَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ. قُلْتُ: وَتَرْكُ الْجَمْعِ أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ، فَيُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا، لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةً مِنَ التَّابِعِينَ لَا يُجَوِّزُونَهُ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ: الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) . قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي (الْبَسِيطِ) :

لَا خِلَافَ أَنَّ تَرْكَ الْجَمْعِ أَفْضَلُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا جَمَعَ كَانَتِ الصَّلَاتَانِ أَدَاءً، سَوَاءً جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ فِي (الْوَسِيطِ) وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْمُؤَخَّرَةَ تَكُونُ قَضَاءً. وَغَسْلُ الرِّجْلِ أَفْضَلُ مِنْ مَسْحِ الْخُفِّ، إِلَّا إِذَا تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ، أَوْ شَكَّ فِي جَوَازِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْكِتَابِ، لَوْ نَوَى الْكَافِرُ أَوِ الصَّبِيُّ السَّفَرَ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَبَلَغَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَلَهُمَا الْقَصْرُ فِي بَقِيَّتِهِ. وَلَوْ نَوَى مُسَافِرَانِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَأَحَدُهُمَا يَعْتَقِدُ انْقِطَاعَ الْقَصْرِ بِهَا، كَالشَّافِعِيِّ، وَالْآخَرُ لَا يَعْتَقِدُهُ كَالْحَنَفِيِّ، كُرِهَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالثَّانِي. فَإِنِ اقْتَدَى صَحَّ. فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ قَامَ الْمَأْمُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ. وَلَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي الْبَلَدِ لِلْخَوْفِ وَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي الْخَوْفِ إِلَى رَكْعَةٍ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي (مُسْلِمٍ) : (فُرِضَتِ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً) مَعْنَاهُ: رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ، وَيَنْفَرِدُ الْمَأْمُومُ بِأُخْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب صلاة الجمعة

كِتَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ ثَلَاثَةٌ أَبْوَابٍ: [الْبَابُ الْأَوَّلُ] فِي شُرُوطِهَا اعْلَمْ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَرْضُ عَيْنٍ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا: أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَحُكِيَ قَوْلًا، وَغَلَّطُوا حَاكِيَهُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَا يَجُوزُ حِكَايَةُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ كَالْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فِي الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ ; إِلَّا أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: اشْتِرَاطُ أُمُورٍ زَائِدَةٍ لِصِحَّتِهَا. وَالثَّانِي: اشْتِرَاطُ أُمُورٍ زَائِدَةٍ لِوُجُوبِهَا. وَالثَّالِثُ: آدَابٌ تُشْرَعُ فِيهَا. وَهَذَا الْبَابُ لِشُرُوطِ الصِّحَّةِ. وَهِيَ سِتَّةٌ: الْأَوَّلُ: الْوَقْتُ: فَلَا تُقْضَى الْجُمُعَةُ عَلَى صُورَتِهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَوَقْتُهَا: وَقْتُ الظُّهْرِ. وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ، أَوْ شَكُّوا فِي خُرُوجِهِ، لَمْ يَشْرَعُوا فِيهَا. وَلَوْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا لَا يَسَعُ خُطْبَتَيْنِ وَرَكْعَتَيْنِ يُقْتَصَرُ فِيهِمَا عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، لَمْ يَشْرَعُوا فِيهَا، بَلْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» . وَلَوْ شَرَعُوا فِيهَا فِي الْوَقْتِ، وَوَقَعَ بَعْضُهَا خَارِجَهُ، فَاتَتِ الْجُمُعَةُ قَطْعًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ إِتْمَامُهَا ظُهْرًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ: أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الظُّهْرِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ، يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ حِينَئِذٍ،

وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ نِيَّةِ الظُّهْرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمُخَرَّجِ، فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، أَمْ تَنْقَلِبُ نَفْلًا؟ قَوْلَانِ مَذْكُورَانِ فِي نَظَائِرِهِ، تَقَدَّمَا فِي أَوَّلِ «صِفَةِ الصَّلَاةِ» وَلَوْ شَكَّ هَلْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ؟ أَتَمَّهَا جُمُعَةً عَلَى الصَّحِيحِ، وَظُهْرًا عَلَى الثَّانِي. وَلَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ الَّذِي أَدْرَكَ رَكْعَةً لِيَأْتِيَ بِالثَّانِيَةِ، فَخَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ سَلَامِهِ، أَتَمَّهَا ظُهْرًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَجُمُعَةً عَلَى الثَّانِي. وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى فِي الْوَقْتِ، وَالثَّانِيَةَ خَارِجَهُ، صَحَّتْ جُمُعَتُهُمْ. وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ الْأُولَى خَارِجَ الْوَقْتِ، فَاتَتْ جُمُعَةُ الْجَمِيعِ. وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ وَبَعْضُ الْمَأْمُومِينَ الْأُولَى فِي الْوَقْتِ، وَسَلَّمَهَا بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ خَارِجَهُ، فَمَنْ سَلَّمَهَا خَارِجَهُ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ بُطْلَانُ صَلَاتِهِمْ. وَأَمَّا الْإِمَامُ وَمَنْ سَلَّمَ مَعَهُ فِي الْوَقْتِ، فَإِنْ بَلَغُوا عَدَدًا تَصِحُّ بِهِمُ الْجُمُعَةُ، صَحَّتْ لَهُمْ، وَإِلَّا فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَسْأَلَةِ الِانْفِضَاضِ. ثُمَّ سَلَامُهُ وَسَلَامُهُمْ خَارِجَ الْوَقْتِ، إِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ، تَعَذَّرَ بِنَاءُ الظُّهْرِ عَلَيْهِ قَطْعًا، لِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنْ يُغَيِّرُوا النِّيَّةَ إِلَى النَّفْلِ وَيُسَلِّمُوا، فَفِيهِ مَا سَبَقَ. وَإِنْ كَانَ عَنْ جَهْلٍ مِنْهُ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. وَهَلْ يَبْنِي، أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: دَارُ الْإِقَامَةِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ دَارُ الْإِقَامَةِ، وَهِيَ الْأَبْنِيَةُ الَّتِي يَسْتَوْطِنُهَا الْعَدَدُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ، سَوَاءٌ فِيهِ الْبِلَادُ، وَالْقُرَى، وَالْأَسْرَابُ الَّتِي يَتَّخِذُهَا وَطَنًا، وَسَوَاءٌ فِيهِ الْبِنَاءُ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ طِينٍ، أَوْ خَشَبٍ. وَأَمَّا أَهْلُ الْخِيَامِ النَّازِلُونَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَيَتَنَقَّلُونَ فِي الشِّتَاءِ وَغَيْرِهِ، فَلَا تَصِحُّ جُمُعَتُهُمْ فِيهَا، فَإِنْ كَانُوا لَا يُفَارِقُونَهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ وَتَجِبُ. وَلَوِ انْهَدَمَتْ أَبْنِيَةُ الْقَرْيَةِ، أَوِ الْبَلَدِ، فَأَقَامَ أَهْلُهَا عَلَى الْعِمَارَةِ، لَزِمَهُمُ الْجُمُعَةُ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانُوا فِي مَظَالٍّ، أَوْ غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاسْتِيطَانِ. وَلَا يُشْتَرَطُ إِقَامَتُهَا فِي مَسْجِدٍ، وَلَا فِي كُنٍّ، بَلْ يَجُوزُ فِي فَضَاءٍ مَعْدُودٍ مِنْ خِطَّةِ الْبَلَدِ، فَأَمَّا الْمَوْضِعُ الْخَارِجُ عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْخَارِجُ لِلسَّفَرِ قَصَرَ، فَلَا يَجُوزُ إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَسْبِقَ الْجُمُعَةَ، وَلَا يُقَارِنُهَا أُخْرَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا يَجْمَعُ فِي مِصْرَ - وَإِنْ عَظُمَ، وَكَثُرَتْ مَسَاجِدُهُ - إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا بَغْدَادُ، فَقَدْ دَخَلَهَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُمْ يُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ. وَقِيلَ: فِي ثَلَاثَةٍ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَمْرِهَا عَلَى أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا جَازَتِ الزِّيَادَةُ فِيهَا عَلَى جُمُعَةٍ، لِأَنَّهَا بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ يَشُقُّ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْجُمُعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، إِذَا كَثُرَ النَّاسُ وَعَسُرَ اجْتِمَاعُهُمْ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا. وَمِمَّنْ رَجَّحَهُ: الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ، وَالْحَنَّاطِيُّ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَتَشْدِيدِ النُّونِ - وَالْقَاضِي الرُّويَانِيُّ، وَالْغَزَّالِيُّ. وَالثَّانِي: إِنَّمَا جَازَتِ الزِّيَادَةُ فِيهَا، لِأَنَّ نَهْرَهَا يَحُولُ بَيْنَ جَانِبَيْهَا فَيَجْعَلُهَا كَبَلْدَتَيْنِ. قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ ابْنُ سَلَمَةَ. وَعَلَى هَذَا لَا يُقَامُ فِي كُلِّ جَانِبٍ إِلَّا جُمُعَةٌ. فَكُلُّ بَلَدٍ حَالَ بَيْنَ جَانِبَيْهِ نَهْرٌ يُحْوِجُ إِلَى السِّبَاحَةِ، فَهُوَ كَبَغْدَادَ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَانِبَانِ كَبَلَدَيْنِ، لَقَصَرَ مَنْ عَبَرَ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، وَالْتَزَمَ ابْنُ سَلَمَةَ الْمَسْأَلَةَ، وَجَوَّزَ الْقَصْرَ. وَالثَّالِثُ: إِنَّمَا جَازَتِ الزِّيَادَةُ، لِأَنَّهَا كَانَتْ قُرًى مُتَفَرِّقَةً، ثُمَّ اتَّصَلَتِ الْأَبْنِيَةُ، فَأُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا الْقَدِيمُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ تَعَدُّدُ الْجُمُعَةِ فِي كُلِّ بَلَدٍ هَذَا شَأْنُهُ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ أَبُو حَامِدٍ بِمَا اعْتَرَضَ عَلَى الثَّانِي. وَيُجَابُ بِمَا أُجِيبَ فِي الثَّانِي. وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» . وَالرَّابِعُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْكِرِ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَيْسَ لِمُجْتَهِدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ. وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُتَقَدِّمُ. وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَطَبَقَتُهُ، لَكِنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَحَيْثُ مَنَعْنَا الزِّيَادَةَ عَلَى جُمُعَةٍ، فَعَقَدُوا جُمُعَتَيْنِ، فَلَهُ صُوَرٌ. أَحَدُهَا: أَنْ تَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا فَهِيَ الصَّحِيحَةُ. وَالثَّانِيَةُ: بَاطِلَةٌ. وَبِمَ يُعْرَفُ السَّبْقُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: بِالْإِحْرَامِ. وَالثَّانِي: بِالسَّلَامِ. وَالثَّالِثُ:

بِالشُّرُوعِ فِي الْخُطْبَةِ، وَلَمْ يَحْكِ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ هَذَا الثَّالِثَ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَالِاعْتِبَارُ بِالْفَرَاغِ مِنْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. فَلَوْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِهَمْزَةِ التَّكْبِيرَةِ، وَالْأُخْرَى بِالرَّاءِ مِنْهَا، فَالصَّحِيحَةُ هِيَ السَّابِقَةُ بِالرَّاءِ، عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: السَّابِقَةُ بِالْهَمْزَةِ. ثُمَّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَوْجُهِ، لَوْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا، وَكَانَ السُّلْطَانُ مَعَ الْأُخْرَى، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ السَّابِقَةَ هِيَ الصَّحِيحَةُ، وَلَا أَثَرَ لِلسُّلْطَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الَّتِي مَعَهَا السُّلْطَانُ، هِيَ الصَّحِيحَةُ. وَلَوْ دَخَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الْجُمُعَةِ، فَأُخْبِرُوا أَنَّ طَائِفَةً سَبَقَتْهُمْ بِمَا ذَكَرْنَا، اسْتُحِبَّ لَهُمُ اسْتِئْنَافُ الظُّهْرِ. وَهَلْ لَهُمْ أَنْ يُتِمُّوهَا ظُهْرًا؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، فِيمَا إِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُمْ فِي الْجُمُعَةِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَقَعَ الْجُمُعَتَانِ مَعًا، فَبَاطِلَتَانِ، وَتُسْتَأْنَفُ جُمُعَةٌ إِنْ وَسِعَ الْوَقْتُ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُشْكِلَ الْحَالُ، وَلَا يَدْرِي اقْتَرَنَتَا، أَمْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا، فَيُعِيدُونَ الْجُمُعَةَ أَيْضًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جُمُعَةٍ مُجَزَّئَةٍ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَقَدْ حَكَمَ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّهُمْ إِذَا أَعَادُوا الْجُمُعَةَ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهُمْ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِاحْتِمَالِ تَقَدُّمِ إِحْدَاهُمَا، فَلَا تَصِحُّ أُخْرَى، وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُمْ بِهَا. فَسَبِيلُ الْيَقِينِ: أَنْ يُقِيمُوا جُمُعَةً، ثُمَّ يُصَلُّوا ظُهْرًا. الرَّابِعَةُ: أَنْ تَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا، ثُمَّ تَلْتَبِسُ، فَلَا تَبْرَأُ وَاحِدَةٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَنِ الْعُهْدَةِ، خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ. ثُمَّ مَاذَا عَلَيْهِمْ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: أَنَّ عَلَيْهِمُ الظُّهْرَ. وَالثَّانِي: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الصُّورَةِ الْخَامِسَةِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. الْخَامِسَةُ: أَنْ تَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا وَلَا يَتَعَيَّنَ، بِأَنْ سَمِعَ مَرِيضَانِ، أَوْ مُسَافِرَانِ، تَكْبِيرَتَيْنِ مُتَلَاحِقَتَيْنِ وَهُمَا خَارِجَ الْمَسْجِدَيْنِ، فَأَخْبَرَاهُمْ بِالْحَالِ وَلَمْ يَعْرِفَا الْمُتَقَدِّمَةَ، فَلَا تَبْرَأُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا عَنِ الْعُهْدَةِ، خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ أَيْضًا. وَمَاذَا عَلَيْهِمْ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا فِي «الْوَسِيطِ» : أَنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ الْجُمُعَةَ. وَالثَّانِي: يُصَلُّونَ الظُّهْرَ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَهُوَ الْقِيَاسُ.

قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَالَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ: لَوْ كَانَ الْإِمَامُ فِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ، تَرَتَّبَ عَلَى الصُّورَةِ الْأُولَى. فَإِنْ قُلْنَا: الَّتِي فِيهَا الْإِمَامُ هِيَ الصَّحِيحَةُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَأَخُّرِهَا، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ لِحُضُورِهِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْعَدَدُ. فَلَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ. وَنَقَلَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» قَوْلًا عَنِ الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ: إِمَامٍ، وَمَأْمُومَيْنِ. وَلَمْ يُثْبِتْهُ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْأَرْبَعِينَ: الذُّكُورَةُ، وَالتَّكْلِيفُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِقَامَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَطُّنِ. وَصِفَةُ التَّوَطُّنِ: أَنْ لَا يَظْعَنُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، إِلَّا لِحَاجَةٍ. فَلَوْ كَانُوا يَنْزِلُونَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ صَيْفًا، وَيَرْتَحِلُونَ شِتَاءً، أَوْ عَكْسَهُ، فَلَيْسُوا مُسْتَوْطِنِينَ ; فَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ. وَفِي انْعِقَادِهَا بِالْمُقِيمِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلِ الْمَوْضِعَ وَطَنًا لَهُ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَتَنْعَقِدُ بِالْمَرْضَى عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ: لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ، كَالْعَبِيدِ. فَعَلَى هَذَا، صِفَةُ الصِّحَّةِ شَرْطٌ خَامِسٌ. ثُمَّ الصَّحِيحُ، أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْبَعِينَ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَى الْأَرْبَعِينَ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ هَذَا الْخِلَافَ قَوْلَيْنِ. الثَّانِي الْقَدِيمُ. فَرْعٌ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ فِي الصَّلَاةِ - وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ - مُعْتَبَرٌ فِي الْكَلِمَاتِ الْوَاجِبَةِ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَاسْتِمَاعِ الْقَوْمِ لَهَا. فَلَوْ حَضَرَ الْعَدَدُ، ثُمَّ انْفَضُّوا كُلُّهُمْ، أَوْ بَعْضُهُمْ، وَبَقِيَ دُونَ أَرْبَعِينَ، فَتَارَةً يَنْقُصُونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَتَارَةً فِيهَا، وَتَارَةً بَعْدَهَا، وَتَارَةً فِي الصَّلَاةِ، فَإِنِ انْفَضُّوا قَبْلَ افْتِتَاحِ الْخُطْبَةِ، لَمْ يُبْتَدَأْ بِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ أَرْبَعُونَ،

وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهَا، فَلَا خِلَافَ أَنَّ الرُّكْنَ الْمَأْتِيَّ بِهِ فِي غَيْبَتِهِمْ غَيْرُ مَحْسُوبٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَقَصَ الْعَدَدُ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ فِيهَا خِلَافًا، لِأَنَّ كُلًّا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ، فَسُومِحَ بِنَقْصِ الْعَدَدِ فِيهَا. وَالْخَطِيبُ لَا يَخْطُبُ لِنَفْسِهِ، إِنَّمَا الْغَرَضُ: اسْتِمَاعُ النَّاسِ، فَمَا جَرَى وَلَا مُسْتَمِعَ فَاتَ فِيهِ الْغَرَضُ، فَلَمْ يُحْتَمَلْ. ثُمَّ إِنْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ، بَنَى عَلَى خُطْبَتِهِ، وَبَعْدَ طُولِهِ، قَوْلَانِ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِأَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْخُطْبَةِ وَاجِبَةٌ، أَمْ لَا؟ وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَيَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ. وَالثَّانِي: غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَيَبْنِي. وَبَنَى جَمَاعَةٌ الْقَوْلَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ بَدَلٌ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ فَيَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ، أَمْ لَا، فَلَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ فَوَاتِ الْمُوَالَاةِ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَلَوْ لَمْ يَعُدِ الْأَوَّلُونَ، وَاجْتَمَعَ بَدَلَهُمْ أَرْبَعُونَ، وَجَبَ اسْتِئْنَافُ الْخُطْبَةِ ; طَالَ الْفَصْلُ أَمْ قَصُرَ. أَمَّا إِذَا انْفَضُّوا بَعْدَ فَرَاغِ الْخُطْبَةِ، فَإِنْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ، صَلَّى الْجُمُعَةَ بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ. وَإِنْ عَادُوا بَعْدَ طُولِهِ، فَفِي اشْتِرَاطِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ قَوْلَانِ. الْأَظْهَرُ: الِاشْتِرَاطُ. فَلَا يُمْكِنُ الصَّلَاةُ بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ. وَعَلَى الثَّانِي: يُصَلِّي بِهَا. ثُمَّ نَقَلَ الْمَازِنِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ تَبْتَدِئَ الْخُطْبَةُ، ثُمَّ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ. وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَالْقَفَّالُ، وَالْأَكْثَرُونَ: يَجِبُ أَنْ يُعِيدَ الْخُطْبَةَ، وَيُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمُعَةَ لِتَمَكُّنِهِ. قَالُوا: وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ: أَوْجَبْتُ، وَلَكِنَّهُ صُحِّفَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِأَحْبَبْتُ: أَوْجَبْتُ. قَالُوا: وَقَوْلُهُ: صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجِبُ إِعَادَةُ الْخُطْبَةِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ لِلْقُدْرَةِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي «الْإِفْصَاحِ» : لَا تَجِبُ إِعَادَةُ الْخُطْبَةِ، وَلَا الْجُمُعَةُ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبَّانِ عَمَلًا بِظَاهِرِ النَّصِّ. وَدَلِيلُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فِي تَرْكِ الْخُطْبَةِ، خَوْفُ الِانْفِضَاضِ ثَانِيًا، فَسَقَطَتْ بِهَذَا الْعُذْرِ، وَحَصَلَ خِلَافٌ فِي وُجُوبِ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، كَمَا اخْتَصَرَهُ الْغَزَّالِيُّ، فَقَالَ: إِنْ شَرَطْنَا الْمُوَالَاةَ، وَلَمْ تُعَدِ الْخُطْبَةُ، أَتَمَّ الْمُنْفَضُّونَ. وَهَلْ يَأْثَمُ الْخَطِيبُ؟ قَوْلَانِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَمُتَابِعِيهِ، وَأَنَّ الْخَطِيبَ يَأْثَمُ إِذَا لَمْ يُعِدْ، - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَسَوَاءٌ طَالَ الْفَصْلُ وَالْخَطِيبُ سَاكِتٌ، أَوْ مُسْتَمِرٌّ فِي الْخُطْبَةِ، ثُمَّ لَمَّا عَادُوا أَعَادَ مَا جَرَى مِنْ وَاجِبِهَا فِي حَالِ الِانْفِضَاضِ. أَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ، ثُمَّ حَضَرَ أَرْبَعُونَ آخَرُونَ وَأَحْرَمُوا، ثُمَّ انْفَضَّ الْأَوَّلُونَ، فَلَا يَضُرُّ، بَلْ يُتِمُّ الْجُمُعَةَ، سَوَاءٌ كَانَ اللَّاحِقُونَ سَمِعُوا الْخُطْبَةَ، أَمْ لَا. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا يَمْتَنِعُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: يُشْتَرَطُ بَقَاءُ أَرْبَعِينَ سَمِعُوا الْخُطْبَةَ، فَلَا تَسْتَمِرُّ الْجُمُعَةُ إِذَا كَانَ اللَّاحِقُونَ لَمْ يَسْمَعُوهَا. فَأَمَّا إِذَا انْفَضُّوا وَلَحِقَ أَرْبَعُونَ عَلَى الِاتِّصَالِ، فَقَدْ قَالَ فِي (الْوَسِيطِ) : تَسْتَمِرُّ الْجُمُعَةُ. لَكِنْ يُشْتَرَطُ هُنَا أَنْ يَكُونَ اللَّاحِقُونَ سَمِعُوا الْخُطْبَةَ. أَمَّا إِذَا انْفَضُّوا فَنَقَصَ الْعَدَدُ فِي بَاقِي الصَّلَاةِ، فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ مَنْصُوصَةٍ وَمُخَرَّجَةٍ. أَظْهَرُهَا: تَبْطُلُ الْجُمُعَةُ وَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي جَمِيعِهَا. فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَحْرَمَ الْإِمَامُ، وَتَبَطَّأَ الْمُقْتَدُونَ، ثُمَّ أَحْرَمُوا، فَإِنْ تَأَخَّرَ تَحَرُّمُهُمْ عَنْ رُكُوعِهِ، فَلَا جُمُعَةَ. وَإِنْ لَمْ يَتَأَخَّرُوا عَنْ رُكُوعِهِ، فَقَالَ الْقَفَّالُ: تَصِحُّ الْجُمُعَةُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَطُولَ الْفَصْلُ بَيْنَ إِحْرَامِهِ وَإِحْرَامِهِمْ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الشَّرْطُ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّ الْفَصْلُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَّالِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنْ بَقِيَ اثْنَانِ مَعَ الْإِمَامِ، أَتَمَّ الْجُمُعَةَ، وَإِلَّا بَطَلَتْ. وَالثَّالِثُ: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ، لَمْ تَبْطُلْ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَنْصُوصَةٌ. الْأَوَّلَانِ فِي الْجَدِيدِ. وَالثَّالِثُ: الْقَدِيمَ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ: كَوْنُهُمَا بِصِفَةِ الْكَمَالِ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : فِي اشْتِرَاطِ الْكَمَالِ احْتِمَالٌ، لِأَنَّا اكْتَفَيْنَا بِاسْمِ الْجَمَاعَةِ. قُلْتُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ حَكَاهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَجْهًا مُحَقَّقًا لِأَصْحَابِنَا، حَتَّى لَوْ بَقِيَ

صَبِيَّانِ، أَوْ صَبِيٌّ، كَفَى. وَالصَّحِيحُ: اشْتِرَاطُ الْكَمَالِ. قَالَ فِي «النِّهَايَةِ» : احْتِمَالُ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَالرَّابِعُ: لَا تَبْطُلُ وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ. وَالْخَامِسُ: إِنْ كَانَ الِانْفِضَاضُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَطَلَتِ الْجُمُعَةُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا، لَمْ تَبْطُلْ، وَيُتِمُّ الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ وَحْدَهُ، وَكَذَا مَنْ مَعَهُ إِنْ بَقِيَ مَعَهُ أَحَدٌ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْجَمَاعَةُ. فَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ بِالْعَدَدِ فُرَادَى. وَشُرُوطُ الْجَمَاعَةِ: عَلَى مَا سَبَقَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ السُّلْطَانِ، وَلَا إِذْنُهُ فِيهَا. وَحَكَى فِي (الْبَيَانِ) قَوْلًا قَدِيمًا: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا خَلْفَ الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ أَذِنَ لَهُ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. ثُمَّ لِإِمَامِ الْجُمُعَةِ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، أَوْ مُسَافِرًا، فَإِنْ تَمَّ بِهِ الْعَدَدُ، لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ تَمَّ بِغَيْرِهِ، صَحَّتْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ. وَالثَّانِي: الْبُطْلَانُ. هَذَا إِذَا صَلَّيَا الْجُمُعَةَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَا الظُّهْرَ. فَإِنْ كَانَا صَلَّيَا ظُهْرَ يَوْمِهِمَا، فَهُمَا مُتَنَفِّلَانِ بِالْجُمُعَةِ. وَفِي الْجُمُعَةِ خَلْفَهُمَا مَا يَأْتِي فِي الْمُتَنَفِّلِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا، أَوْ مُتَنَفِّلًا، فَإِنْ تَمَّ الْعَدَدُ بِهِ، لَمْ تَصِحَّ، وَإِنْ تَمَّ دُونَهُ، صَحَّتْ عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَوَازَ فِي الْمُتَنَفِّلِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الصَّبِيِّ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ وَلَا نَقْصَ فِيهِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلُّوا الْجُمُعَةَ خَلَفَ مَنْ يُصَلِّي صُبْحًا، أَوْ عَصْرًا، فَكَالْمُتَنَفِّلِ. وَقِيلَ: تَصِحُّ قَطْعًا، لِأَنَّهُ يُصَلِّي فَرْضًا. وَلَوْ صَلَّوْا خَلْفَ مُسَافِرٍ يَقْصُرُ الظُّهْرَ، جَازَ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْجُمُعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: صَلَاةٌ عَلَى حِيَالِهَا، فَكَالصُّبْحِ. الْحَالُ الرَّابِعُ: إِذَا بَانَ الْإِمَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا، فَإِنْ تَمَّ الْعَدَدُ بِهِ، لَمْ تَصِحَّ. وَإِنْ تَمَّ دُونَهُ، فَالْأَظْهَرُ: الصِّحَّةُ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْأُمِّ) ،

وَصَحَّحَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وَالثَّانِي: لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ، وَالْإِمَامُ غَيْرُ مُصَلٍّ، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهَا لَيْسَتْ شَرْطًا. وَغَايَتُهُ أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا فُرَادَى. وَالْمَنْعُ هُنَا أَقْوَى مِنْهُ فِي مَسْأَلَةِ الِاقْتِدَاءِ بِالصَّبِيِّ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ الْمُرَجِّحُونَ لِلْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْجَمَاعَةِ، وَثُبُوتَ حُكْمِهَا فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ الْجَاهِلِ بِحَالِهِ. وَقَالُوا: لَا يَمْنَعُ نَيْلَ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا غَيْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْجَمَاعَةِ. وَعَلَى الْأَظْهَرِ، قَالَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) : لَوْ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِأَرْبَعِينَ، فَبَانَ أَنَّ الْمَأْمُومِينَ مُحْدِثُونَ، صَحَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ بَانُوا عَبِيدًا، أَوْ نِسَاءً، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسْهُلُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ. وَقِيَاسُ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى الْمَنْعِ: أَنْ لَا تَصِحَّ جُمُعَةُ الْإِمَامِ لِبُطْلَانِ الْجَمَاعَةِ. الْحَالُ الْخَامِسُ: إِذَا قَامَ الْإِمَامُ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ إِلَى رَكْعَةٍ زَائِدَةٍ سَهْوًا، فَاقْتَدَى بِهِ إِنْسَانٌ فِيهَا، وَأَدْرَكَ جَمِيعَ الرَّكْعَةِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِسَهْوِهِ، لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، حُسِبَتْ لَهُ الرَّكْعَةُ، وَيَبْنِي عَلَيْهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الرَّكْعَةُ مَحْسُوبَةً لِلْإِمَامِ كَالْمُحْدِثِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ بَانَ الْإِمَامُ كَافِرًا، أَوِ امْرَأَةً، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ بِحَالٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: لَا تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ، وَلَا تُحْسَبُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ لِلْمَأْمُومِ. فَلَوْ جَرَى هَذَا فِي الْجُمُعَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ لَا يُدْرِكُ بِهِ الرَّكْعَةَ، لَمْ يُدْرِكْ بِهِ هُنَا الْجُمُعَةَ، وَلَا تُحْسَبُ عَنِ الظُّهْرِ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا: يُدْرِكُهَا فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ، فَهَلْ تُحْسَبُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ عَنِ الْجُمُعَةِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُحْدِثِ. وَاخْتَارَ ابْنُ الْحَدَّادِ: أَنَّهَا لَا تُحْسَبُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ لَمْ يَذْكُرُوا فِي الْمُحْدِثِ إِذَا لَمْ تَحْصُلِ الْجُمُعَةُ: أَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي بِهِ مُنْعَقِدَةٌ، وَأَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ يُحْسَبُ عَنِ الظُّهْرِ، حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ الْحَالُ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى قُرْبٍ، يُتِمُّهَا ظُهْرًا إِذَا جَوَّزْنَا بِنَاءَ الظُّهْرِ عَلَى الْجُمُعَةِ. وَمُقْتَضَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ: الِانْعِقَادُ وَالِاحْتِسَابُ عَنِ الظُّهْرِ.

فَرْعٌ إِذَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ رُكُوعَ الْإِمَامِ فِي ثَانِيَةِ الْجُمُعَةِ، كَانَ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ. فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، أَتَى بِثَانِيَةٍ، وَإِذَا أَدْرَكَهُ بَعْدَ رُكُوعِهَا، لَمْ يُدْرِكِ الْجُمُعَةَ، وَيَقُومُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ إِلَى أَرْبَعٍ لِلظُّهْرِ، وَكَيْفَ يَنْوِي هَذَا الْمُدْرِكُ بَعْدَ الرُّكُوعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَنْوِي الْجُمُعَةَ مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ. وَالثَّانِي: الظُّهْرَ، لِأَنَّهَا الْحَاصِلَةُ. فَلَوْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى أُخْرَى، وَعَلِمَ فِي التَّشَهُّدِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ، نَظَرَ، إِنْ عَلِمَهَا مِنَ الثَّانِيَةِ، فَهُوَ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ، فَيَسْجُدُ سَجْدَةً، وَيُعِيدُ التَّشَهُّدَ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمُ. وَإِنْ عَلِمَهَا مِنَ الْأُولَى، أَوْ شَكَّ، لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ، وَحَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ مِنَ الظُّهْرِ. وَلَوْ أَدْرَكَهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَشَكَّ هَلْ سَجَدَ مَعَهُ سَجْدَةً، أَمْ سَجْدَتَيْنِ؟ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمِ الْإِمَامُ، سَجَدَ بَعْدَ سَجْدَةٍ أُخْرَى، وَكَانَ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ. وَإِنْ سَلَّمَ الْإِمَامُ، لَمْ يُدْرِكِ الْجُمُعَةَ، فَيَسْجُدُ وَيُتِمُّ الظُّهْرَ. أَمَّا إِذَا أَدْرَكَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ الْإِمَامَ فِي رُكُوعٍ غَيْرِ مَحْسُوبٍ، كَرُكُوعِ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ، وَرُكُوعِ الْإِمَامِ السَّاهِي بِزِيَادَةِ رَكْعَةٍ، وَقُلْنَا: إِنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهَا كُلَّهَا، حُسِبَتْ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ. وَالثَّانِي: يُدْرِكُهَا. فَلَوْ أَدْرَكَ رُكُوعَ ثَانِيَةِ الْجُمُعَةِ، فَبَانَ الْإِمَامُ مُحْدِثًا، وَقُلْنَا: لَوْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ بِكَمَالِهَا مَعَ الْمُحْدِثِ فِي الْجُمُعَةِ حُسِبَتْ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، الْأَصَحُّ: لَا يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ عَنِ الصَّلَاةِ بِحَدَثٍ تَعَمَّدَهُ، أَوْ سَبَقَهُ، أَوْ بِسَبَبِ غَيْرِهِ، أَوْ بِلَا سَبَبٍ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ، فَفِي جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا الْجَدِيدُ: يَجُوزُ. وَالْقَدِيمُ: لَا يَجُوزُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ. وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الْجُمُعَةِ، وَالْمَذْهَبُ: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ. فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِخْلَافَ، أَتَمَّ الْقَوْمُ صَلَاتَهُمْ فُرَادَى. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْخَلِيفَةِ صَالِحًا لِإِمَامَةِ الْقَوْمِ. فَلَوِ اسْتَخْلَفَ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ امْرَأَةً، فَهُوَ لَغْوٌ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ إِلَّا أَنْ يَقْتَدُوا بِهَا. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيُشْتَرَطُ حُصُولُ الِاسْتِخْلَافِ عَلَى قُرْبٍ. فَلَوْ فَعَلُوا عَلَى الِانْفِرَادِ رُكْنًا ; امْتَنَعَ الِاسْتِخْلَافُ بَعْدَهُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْخَلِيفَةِ مِمَّنِ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ قَبْلَ حَدَثِهِ؟ قَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ: إِنِ اسْتَخْلَفَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّالِثَةِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ مَنْ لَمْ يَقْتَدِ بِهِ جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُمْ فِي التَّرْتِيبِ، وَإِنِ اسْتَخْلَفَهُ فِي الثَّانِيَةِ، أَوِ الْأَخِيرَةِ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْقِيَامِ، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الْقُعُودِ. وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْخَلِيفَةِ مِمَّنِ اقْتَدَى بِهِ. وَبِهِ قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَزَادَ فَقَالَ: لَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ أَجْنَبِيًّا فَتَقَدَّمَ، لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً، بَلْ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ صَلَاةً، جَازَ عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ فِيهَا. فَلَوِ اقْتَدَى بِهِ الْقَوْمُ، فَهُوَ اقْتِدَاءُ مُنْفَرِدِينَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ، لِأَنَّ قُدْوَتَهُمُ انْقَطَعَتْ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ عَنِ الصَّلَاةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْخَلِيفَةِ مُقْتَدِيًا فِي الْأُولَى، بَلْ يَجُوزُ اسْتِخْلَافُ الْمَسْبُوقِ. ثُمَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ نَظْمِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَيَقْعُدُ فِي مَوْضِعِ قُعُودِهِ، وَيَقُومُ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الصَّلَاةِ، حَتَّى لَوْ لَحِقَ الْإِمَامَ فِي ثَانِيَةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِيهَا، وَاسْتَخْلَفَهُ ; قَنَتَ وَقَعَدَ فِيهَا لِلتَّشَهُّدِ، ثُمَّ يَقْنُتُ فِي الثَّانِيَةِ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ سَهَا

قَبْلَ اقْتِدَائِهِ، أَوْ بَعْدَهُ، سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَأَعَادَ فِي آخِرِ صَلَاةِ نَفْسِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِذَا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ، قَامَ لِتَدَارُكِ مَا عَلَيْهِ. وَهُمْ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءُوا فَارَقُوهُ وَسَلَّمُوا، وَإِنْ شَاءُوا صَبَرُوا جُلُوسًا لِيُسَلِّمُوا مَعَهُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا عَرَفَ الْمَسْبُوقُ نَظْمَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَرْجَحُهُمَا دَلِيلًا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ: أَصَحُّهُمَا: جَوَازُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فَإِنْ جَوَّزْنَا، رَاقَبَ الْقَوْمَ إِذَا أَتَمَّ الرَّكْعَةَ، فَإِنْ هَمُّوا بِالْقِيَامِ، قَامَ، وَإِلَّا قَعَدَ. وَسَهْوُ الْخَلِيفَةِ قَبْلَ حَدَثِ الْإِمَامِ، يَحْمِلُهُ الْإِمَامُ. وَسَهْوُهُ بَعْدَهُ يَقْتَضِي السُّجُودَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَوْمِ. وَسَهْوُ الْقَوْمِ قَبْلَ حَدَثِ الْإِمَامِ وَبَعْدَ الِاسْتِخْلَافِ، مَحْمُولٌ، وَبَيْنَهُمَا غَيْرُ مَحْمُولٍ، بَلْ يَسْجُدُ السَّاهِي بَعْدَ سَلَامِ الْخَلِيفَةِ. هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ. أَمَّا الِاسْتِخْلَافُ فِي الْجُمُعَةِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ: فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِنْ أَحْدَثَ فِي الْأُولَى، أَتَمَّ الْقَوْمُ صَلَاتَهُمْ ظُهْرًا. وَإِنْ أَحْدَثَ فِي الثَّانِيَةِ، أَتَمَّهَا جُمُعَةً مَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً. وَلَنَا قَوْلٌ: أَنَّهُمْ يُتِمُّونَهَا جُمُعَةً فِي الْحَالَيْنِ. وَوَجْهٌ: أَنَّهُمْ يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا فِي الْحَالَيْنِ. وَإِنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ، نُظِرَ، إِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَقْتَدِ بِهِ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ جُمُعَةٍ بَعْدَ جُمُعَةٍ. وَفِي صِحَّةِ ظُهْرِ هَذَا الْخَلِيفَةِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الظُّهْرَ هَلْ تَصِحُّ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ، فَهَلْ تَبْقَى نَفْلًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَبْقَى فَاقْتَدَى بِهِ الْقَوْمُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ. فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا وَكَانَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ. وَفِي صِحَّةِ الظُّهْرِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الظُّهْرِ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ. وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَاقْتَدَوْا بِهِ، كَانَ هَذَا اقْتِدَاءً طَارِئًا عَلَى الِانْفِرَادِ. وَفِيهِ الْخِلَافُ الْجَارِي فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَفِيهِ شَيْءٌ

آخَرُ، وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ فِي الْجُمُعَةِ بِمَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ، أَوِ النَّافِلَةَ، وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ. أَمَّا إِذَا اسْتَخْلَفَ مَنِ اقْتَدَى بِهِ قَبْلَ الْحَدَثِ، فَيَنْظُرُ، إِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْخُطْبَةَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ اسْتِخْلَافُهُ، كَمَا لَوِ اسْتَخْلَفَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا لِيُصَلِّيَ بِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. وَنَقَلَ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي هَذَا الْخِلَافِ قَوْلَيْنِ: الْمَنْعَ عَنِ الْبُوَيْطِيِّ، وَالْجَوَازَ عَنْ أَكْثَرِ الْكُتُبِ. وَالْخِلَافُ فِي مُجَرَّدِ حُضُورِ الْخُطْبَةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِمَاعُهَا بِلَا خِلَافٍ، وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَإِنْ كَانَ حَضَرَ الْخُطْبَةَ، أَوْ لَمْ يَحْضُرْهَا، وَجَوَّزْنَا اسْتِخْلَافَهُ، نُظِرَ، إِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى، جَازَ وَتَمَّتْ لَهُمُ الْجُمُعَةُ، سَوَاءٌ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي الْأُولَى أَمِ الثَّانِيَةِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ ضَعِيفٍ: أَنَّ الْخَلِيفَةَ يُصَلِّي الظُّهْرَ، وَالْقَوْمَ يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ. وَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَدْرَكَهُ فِي الثَّانِيَةِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ اسْتِخْلَافُ مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْخُطْبَةَ، لَمْ يَجُزِ اسْتِخْلَافُ هَذَا الْمَسْبُوقِ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا - وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ - الْجَوَازُ. فَعَلَى هَذَا، يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ. وَفِي الْخَلِيفَةِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُتِمُّهَا جُمُعَةً. وَالثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: لَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً. فَعَلَى هَذَا، يُتِمُّهَا ظُهْرًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يُتِمُّهَا ظُهْرًا. وَالثَّانِي: لَا. فَعَلَى هَذَا، هَلْ تَبْطُلُ، أَمْ تَنْقَلِبُ نَفْلًا؟ قَوْلَانِ. فَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا، امْتَنَعَ اسْتِخْلَافُ الْمَسْبُوقِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ، وَالْخَلِيفَةُ مَسْبُوقٌ، يُرَاعِي نَظْمَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَيَجْلِسُ إِذَا صَلَّى رَكْعَةً وَيَتَشَهَّدُ، فَإِذَا بَلَغَ مَوْضِعَ السَّلَامِ، أَشَارَ إِلَى الْقَوْمِ، وَقَامَ إِلَى رَكْعَةٍ أُخْرَى إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ، وَإِلَى ثَلَاثٍ إِنْ قُلْنَا: صَلَاتُهُ ظُهْرٌ. وَالْقَوْمُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا فَارَقُوهُ وَسَلَّمُوا، وَإِنْ شَاءُوا ثَبَتُوا جَالِسِينَ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِمْ. وَلَوْ دَخَلَ مَسْبُوقٌ وَاقْتَدَى بِهِ فِي

الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي اسْتَخْلَفَ فِيهَا، صَحَّتْ لَهُ الْجُمُعَةُ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ لِلْخَلِيفَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ الْأَصْحَابُ: هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى صِحَّةِ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مُصَلِّي الظُّهْرِ. وَتَصِحُّ جُمُعَةُ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَعَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ رَكْعَةً بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُمْ لَوِ انْفَرَدُوا بِالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، كَانُوا مُدْرِكِينَ لِلْجُمُعَةِ، فَلَا يَضُرُّ اقْتِدَاؤُهُمْ فِيهَا بِمُصَلِّي الظُّهْرِ أَوِ النَّفْلِ. فَرْعٌ هَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقُدْوَةِ بِالْخَلِيفَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يُشْتَرَطُ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ، لِأَنَّهُمْ بِحَدَثِ الْأَوَّلِ صَارُوا مُنْفَرِدِينَ. وَإِذَا لَمْ يَسْتَخْلِفِ الْإِمَامُ، قَدَّمَ الْقَوْمُ وَاحِدًا بِالْإِشَارَةِ. وَلَوْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ بِنَفْسِهِ، جَازَ، وَتَقْدِيمُ الْقَوْمِ أَوْلَى مِنَ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ، لِأَنَّهُمُ الْمُصَلُّونَ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ وَاحِدًا، وَالْقَوْمُ آخَرَ، فَأَظْهَرُ الِاحْتِمَالَيْنِ: أَنَّ مَنْ قَدَّمَهُ الْقَوْمُ أَوْلَى. فَلَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفِ الْإِمَامُ، وَلَا الْقَوْمُ، وَلَا تَقَدَّمَ أَحَدٌ، فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعًا عَلَى مَنْعِ الِاسْتِخْلَافِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيَجِبُ عَلَى الْقَوْمِ تَقْدِيمُ وَاحِدٍ إِنْ كَانَ خُرُوجُ الْإِمَامِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ. وَإِنْ كَانَ فِي الثَّانِيَةِ، لَمْ يَجِبِ التَّقْدِيمُ، وَلَهُمُ الِانْفِرَادُ بِهَا كَالْمَسْبُوقِ. وَقَدْ حَكَيْنَا فِي الصُّورَتَيْنِ خِلَافًا، تَفْرِيعًا عَلَى مَنْعِ الِاسْتِخْلَافِ، فَيَتَّجِهُ عَلَيْهِ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ التَّقْدِيمِ وَعَدَمِهِ.

فَرْعٌ هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ. فَلَوْ أَحْدَثَ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي، إِنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ فِي الصَّلَاةِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ، بَلْ إِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ، خَطَبَ بِهِمْ آخَرُ وَصَلَّى، وَإِلَّا صَلَّوُا الظُّهْرَ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: إِنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ فِي الصَّلَاةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَفِيهِ الْخِلَافُ. وَعَكَسَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فَقَالَ: إِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ فِي الصَّلَاةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَفِيهِ الْخِلَافُ. وَالْمَذْهَبُ: اسْتِوَاؤُهُمَا. ثُمَّ إِذَا جَوَّزْنَا، فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ سَمِعَ الْخُطْبَةَ، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ. وَلِهَذَا، لَوْ بَادَرَ أَرْبَعُونَ مِنَ السَّامِعِينَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ، فَعَقَدُوا الْجُمُعَةَ، انْعَقَدَتْ لَهُمْ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ. وَإِنَّمَا يَصِيرُ غَيْرُ السَّامِعِ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ، إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ. وَحَكَى صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَجْهَيْنِ فِي اسْتِخْلَافِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ. وَلَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، وَشَرْطُنَا الطَّهَارَةُ فِيهَا، فَهَلْ يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ؟ إِنْ مَنَعْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ كَالصَّلَاةِ. فَرْعٌ لَوْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ فَارَقَهُ بِعُذْرٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ، وَقُلْنَا: لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالْمُفَارَقَةِ، أَتَمَّهَا جُمُعَةً كَمَا لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ.

فصل

فَرْعٌ إِذَا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَتِمَّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ، فَأَرَادُوا اسْتِخْلَافَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ، إِنْ لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِخْلَافَ لِلْإِمَامِ، لَمْ يَجُزْ لَهُمْ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ فِي الْجُمُعَةِ، بِأَنْ كَانُوا مَسْبُوقِينَ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْشَأُ بَعْدَ جُمُعَةٍ. وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا، بِأَنْ كَانُوا مَسْبُوقِينَ، أَوْ مُقِيمِينَ، وَهُوَ مُسَافِرٌ، فَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ حَصَلَتْ، وَإِذَا أَتَمُّوهَا فُرَادَى نَالُوا فَضْلَهَا. فَصْلٌ إِذَا مَنَعَتْهُ الزَّحْمَةُ فِي الْجُمُعَةِ السُّجُودَ عَلَى الْأَرْضِ مَعَ الْإِمَامِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، نُظِرَ، إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ، أَوْ رِجْلِهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: يَتَخَيَّرُ، إِنْ شَاءَ سَجَدَ عَلَى الظَّهْرِ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ لِيَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ: إِنَّمَا يَسْجُدُ عَلَى ظَهْرِ غَيْرِهِ، إِذَا قَدَرَ عَلَى رِعَايَةِ هَيْئَةِ السَّاجِدِينَ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَالْمَأْتِيُّ بِهِ لَيْسَ بِسُجُودٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا يَضُرُّ ارْتِفَاعُ الظَّهْرِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ هَيْئَةِ السَّاجِدِينَ لِلْعُذْرِ. وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنَ السُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَسْجُدْ، فَهُوَ تَخَلُّفٌ بِغَيْرِ عُذْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: بِعُذْرٍ. وَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا عَلَى الظَّهْرِ، فَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ لِهَذَا الْعُذْرِ، وَيُتِمَّهَا ظُهْرًا، فَفِي صِحَّتِهَا قَوْلَانِ، لِأَنَّهَا ظُهْرٌ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَظْهَرُ مَنْعُهُ مِنَ الِانْفِرَادِ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْجُمُعَةِ وَاجِبَةٌ، فَالْخُرُوجُ مِنْهَا عَمْدًا مَعَ تَوَقُّعِ إِدْرَاكِهَا

لَا وَجْهَ لَهُ. فَأَمَّا إِذَا دَامَ عَلَى الْمُتَابَعَةِ، فَمَا يَصْنَعُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَنْتَظِرُ التَّمَكُّنَ. وَالثَّانِي: يُومِئُ السُّجُودَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ كَالْمَرِيضِ. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. فَإِذَا قُلْنَا: بِالصَّحِيحِ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَمَكَّنُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ رُكُوعِ الْإِمَامِ فِي الثَّانِيَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَتَمَكَّنُ إِلَى رُكُوعِهِ. فَفِي الْحَالِ الْأَوَّلِ يَسْجُدُ عِنْدَ تَمَكُّنِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ سُجُودِهِ، فَلِلْإِمَامِ أَحْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدُ فِي الْقِيَامِ، فَيَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ، فَإِنْ أَتَمَّهَا رَكَعَ مَعَهُ، وَجَرَى عَلَى مُتَابَعَتِهِ، وَلَا بَأْسَ بِهَذَا التَّخَلُّفِ لِلْعُذْرِ. وَإِنْ رَكَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ إِتْمَامِهَا، فَهَلْ لَهُ حُكْمُ الْمَسْبُوقِ؟ وَجْهَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْمَسْبُوقِ فِي بَابِ (صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ) . قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَهُ حُكْمُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْحَالُ الثَّانِي: لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ فِي الرُّكُوعِ. فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ يَدَعُ الْقِرَاءَةَ، وَيَرْكَعُ مَعَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَحَلَّهَا، فَسَقَطَتْ عَنْهُ كَالْمَسْبُوقِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ قِرَاءَتُهَا، وَيَسْعَى وَرَاءَ الْإِمَامِ، وَهُوَ مُتَخَلِّفٌ بِعُذْرٍ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَارِغًا مِنَ الرُّكُوعِ وَلَمْ يُسَلِّمْ، فَإِنْ قُلْنَا فِي الْحَالِ الثَّانِي: هُوَ كَالْمَسْبُوقِ، تَابِعٌ الْإِمَامَ فِيمَا هُوَ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ مَحْسُوبًا لَهُ، بَلْ يَقُومُ عِنْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ إِلَى رَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ هُوَ كَالْمَسْبُوقِ، اشْتَغَلَ بِتَرْتِيبِ صَلَاةِ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ قَطْعًا. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُتَحَلِّلًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ رَكْعَةٌ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، ثُمَّ سَلَّمَ الْإِمَامُ فِي الْحَالِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُ التَّخَلُّفَ، وَأَمَرْنَاهُ بِالْجَرَيَانِ عَلَى تَرْتِيبِ صَلَاةِ نَفْسِهِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرَائِضِ، فَعَسَاهُ يُدْرِكُ الْإِمَامَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ الْإِتْيَانُ بِالسُّنَنِ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَسَطِ مِنْهَا. الْحَالُ الثَّانِي لِلْمَأْمُومِ: أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ مِنَ السُّجُودِ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ، وَفِيهِ

قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُتَابِعُهُ فَيَرْكَعُ مَعَهُ. وَالثَّانِي: لَا يَرْكَعُ مَعَهُ بَلْ يَسْجُدُ، وَيُرَاعِي تَرْتِيبَ صَلَاةِ نَفْسِهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَتَارَةً يُوَافِقُ مَا أَمَرْنَاهُ، وَتَارَةً يُخَالِفُ. فَإِنْ وَافَقَ وَرَكَعَ مَعَهُ، فَأَيُّ الرُّكُوعَيْنِ يَحْتَسِبُ؟ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ: بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: بِالثَّانِي. فَإِنْ قُلْنَا: بِالثَّانِي، حَصَلَتْ لَهُ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا. فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، ضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَتَمَّتْ جُمُعَةً بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالْأَوَّلِ، حَصَلَتْ رَكْعَةً مُلَفَّقَةً مِنْ رُكُوعِ الْأُولَى، وَسُجُودِ الثَّانِيَةِ. وَفِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِالْمُلَفَّقَةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تُدْرَكُ. أَمَّا إِذَا خَالَفَ مَا أَمَرْنَاهُ، فَاشْتَغَلَ بِالسُّجُودِ وَتَرْتِيبِ نَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ وَاجِبَهُ الْمُتَابَعَةُ، وَلَمْ يَنْوِ مُفَارَقَتَهُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَيَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِالْجُمُعَةِ إِنْ أَمْكَنَهُ إِدْرَاكُ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ. وَإِنْ نَوَى مُفَارَقَتَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ، قَوْلَانِ سَبَقَا. فَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ، لَمْ تَصِحَّ جُمُعَتُهُ. وَفِي صِحَّةِ ظُهْرِهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ إِذَا تَعَذَّرَ إِتْمَامُهَا، هَلْ يَجُوزُ إِتْمَامُهَا ظُهْرًا؟ وَعَلَى أَنَّ الظُّهْرَ هَلْ تَصِحُّ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ؟ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، فَمَا أَتَى بِهِ مِنَ السُّجُودِ، لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. ثُمَّ إِنْ فَرَغَ وَالْإِمَامُ بَعْدُ فِي الرُّكُوعِ، لَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ. فَإِنْ تَابَعَهُ وَرَكَعَ مَعَهُ، فَالتَّفْرِيعُ كَمَا سَبَقَ لَوْ لَمْ يَسْجُدْ، وَإِنْ لَمْ يَرْكَعْ مَعَهُ، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ فَرَغَ مِنَ الرُّكُوعِ، نَظَرَ، إِنْ رَاعَى تَرْتِيبَ نَفْسِهِ، بِأَنْ قَامَ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ، وَقَرَأَ، وَرَكَعَ، وَسَجَدَ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَأْتِي بِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُتَابَعَةِ. وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ لِتَمَامِ الرَّكْعَةِ، وَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ، نَأْمُرُهُ بِالْمُتَابَعَةِ بِكُلِّ حَالٍ. وَكَمَا لَا يُحْسَبُ لَهُ السُّجُودُ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ، لِكَوْنِ فَرْضِهِ الْمُتَابَعَةَ، وَجَبَ أَنْ لَا يُحْسَبَ وَالْإِمَامُ فِي رُكْنٍ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ: إِذَا فَعَلَ هَذَا الْمَذْكُورَ، تَمَّ لَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا رَكْعَةٌ، لَكِنْ فِيهَا نُقْصَانَانِ. أَحَدُهُمَا: التَّلْفِيقُ، فَإِنَّ رُكُوعَهَا مِنَ الْأُولَى، وَسُجُودَهَا مِنَ

الثَّانِيَةِ، وَفِي الْمُلَفَّقَةِ الْخِلَافُ. وَالثَّانِي: نَقْصُهَا بِالْقُدْوَةِ الْحُكْمِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُتَابِعِ الْإِمَامَ فِي مُعْظَمِ رَكْعَتِهِ مُتَابَعَةً حِسِّيَّةً، بَلْ حُكْمِيَّةً. وَفِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِالرَّكْعَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَجْهَانِ، كَالْمُلَفَّقَةِ، أَصَحُّهُمَا: الْإِدْرَاكُ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي مُطْلَقِ الْقُدْوَةِ الْحُكْمِيَّةِ، فَإِنَّ السُّجُودَ فِي حَالِ قِيَامِ الْإِمَامِ، لَيْسَ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُتَابَعَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجُمُعَةَ تُدْرَكُ بِهِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا جَرَى عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِمَا. فَأَمَّا إِذَا فَرَغَ مِنْهُمَا وَالْإِمَامُ سَاجِدٌ، فَتَابَعَهُ فِي سَجْدَتَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَأْمُرُهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَتُحْسَبَانِ لَهُ، وَيَكُونُ الْحَاصِلُ رَكْعَةً مُلَفَّقَةً، وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ، وَافَقَهُ. فَإِذَا سَلَّمَ، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَتَمَّتْ لَهُ الرَّكْعَةُ، وَلَا جُمُعَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ رَكْعَةٌ وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ. وَكَذَا يَفْعَلُ لَوْ وَجَدَهُ قَدْ سَلَّمَ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا: يُتَابِعُ الْإِمَامَ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَا يُتَابِعُهُ بَلْ يَسْجُدُ وَيُرَاعِي تَرْتِيبَ نَفْسِهِ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفَ مَا أَمَرْنَاهُ، فَيَرْكَعُ مَعَ الْإِمَامِ. فَإِنْ تَعَمَّدَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْجُمُعَةِ إِنْ أَمْكَنَهُ إِدْرَاكُ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا، أَوْ جَاهِلًا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِرُكُوعِهِ. فَإِذَا سَجَدَ مَعَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، حُسِبَتْ لَهُ السَّجْدَتَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى الشَّاذِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِمَا. فَعَلَى الصَّحِيحِ تَحْصُلُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ. وَفِي الْإِدْرَاكِ بِهَا الْوَجْهَانِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُوَافِقَ مَا أَمَرْنَاهُ فَيَسْجُدُ، فَهَذِهِ قُدْوَةٌ حُكْمِيَّةٌ. وَفِي الْإِدْرَاكِ بِهَا، الْوَجْهَانِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنَ السُّجُودِ، فَلِلْإِمَامِ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَارِغًا مِنَ الرُّكُوعِ، إِمَّا فِي السُّجُودِ، وَإِمَّا فِي التَّشَهُّدِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجْرِي عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ، فَيَقُومُ، وَيَقْرَأُ، وَيَرْكَعُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيمَا هُوَ فِيهِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، اشْتَغَلَ بِتَدَارُكِ مَا عَلَيْهِ، وَبِهَذَا

قَطَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ الْإِمَامُ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ السُّجُودِ قَدْ هَوَى لِلسُّجُودِ فَتَابَعَهُ، فَقَدْ وَالَى بَيْنَ أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ: فَهَلِ الْمَحْسُوبُ لِإِتْمَامِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، السَّجْدَتَانِ الْأُولَيَانِ، أَمِ الْأُخْرَيَانِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأُولَيَانِ. وَالثَّانِي: الْأُخْرَيَانِ. فَعَلَى هَذَا، يَعُودُ الْخِلَافُ فِي الْمُلَفَّقَةِ. الْحَالُ الثَّانِي: لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ رَاكِعًا بَعْدُ. فَهَلْ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ كَالْمَسْبُوقِ؟ أَوْ يَشْتَغِلُ بِتَرْتِيبِ صَلَاةِ نَفْسِهِ فَيَقْرَأُ؟ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، يُسَلِّمُ مَعَهُ، وَتَتِمُّ جُمُعَتُهُ. وَعَلَى الثَّانِي: يَقْرَأُ وَيَسْعَى لِيَلْحَقَهُ، وَهُوَ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ. فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنِ الْمَزْحُومُ مِنَ السُّجُودِ حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ، تَابَعَهُ فِي السُّجُودِ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، فَالْحَاصِلُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ، وَإِلَّا فَغَيْرُ مُلَفَّقَةٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ السُّجُودِ حَتَّى تَشَهَّدَ الْإِمَامُ فَيَسْجُدُ. ثُمَّ إِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ، أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ، وَإِلَّا فَلَا. قُلْتُ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ رَفَعَ الْمَزْحُومُ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، فَسَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَعْتَدِلَ الْمَزْحُومُ، فَفِيهِ احْتِمَالٌ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. أَمَّا إِذَا كَانَ الزِّحَامُ فِي سُجُودِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ صَلَّى الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ، فَيَسْجُدُ مَتَى تَمَكَّنَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَجُمُعَتُهُ صَحِيحَةٌ. فَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا، لَحِقَهُ فِي الثَّانِيَةِ. فَإِنْ تَمَكَّنَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، سَجَدَ وَأَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ، وَإِلَّا فَلَا جُمُعَةَ لَهُ. أَمَّا إِذَا زُحِمَ عَنْ رُكُوعِ الْأُولَى حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ،

فَيَرْكَعُ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: وَيُعْتَدُّ لَهُ بِالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَسْقُطُ الْأُولَى. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَاصِلُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ. فَرْعٌ إِذَا عَرَضَتْ حَالَةٌ فِي الصَّلَاةِ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهَا جُمُعَةً فِي صُوَرِ الزِّحَامِ وَغَيْرِهَا، فَهَلْ تَتِمُّ صَلَاتُهُ ظُهْرًا؟ قَوْلَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِأَصْلٍ. وَهُوَ: أَنَّ الْجُمُعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، أَمْ صَلَاةٌ عَلَى حِيَالِهَا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ اقْتَضَاهُمَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ. قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا: صَلَاةٌ بِحِيَالِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِنْ قُلْنَا: ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، فَإِذَا فَاتَ بَعْضُ شُرُوطِ الْجُمُعَةِ، أَتَمَّهَا ظُهْرًا كَالْمُسَافِرِ إِذَا فَاتَ شَرْطُ قَصْرِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: فَرْضٌ عَلَى حِيَالِهِ، فَهَلْ يُتِمُّهَا؟ وَجْهَانِ. وَالصَّحِيحُ مُطْلَقًا: أَنَّهُ يُتِمُّهَا ظُهْرًا. لَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَ قَلْبَهَا ظُهْرًا، أَمْ تَنْقَلِبُ بِنَفْسِهَا ظُهْرًا؟ وَجْهَانِ فِي (النِّهَايَةِ) . قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يُشْتَرَطُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يُتِمُّهَا ظُهْرًا، فَهَلْ تَبْطُلُ، أَمْ تَبْقَى نَفْلًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَظَائِرَهَا. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَوْلُ الْبَطَلَانِ، لَا يَنْتَظِمُ تَفْرِيعُهُ إِذَا أَمَرْنَاهُ فِي صُورَةِ الزِّحَامِ بِشَيْءٍ فَامْتَثَلَ، فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا خَالَفَ.

فَرْعٌ التَّخَلُّفُ بِالنِّسْيَانِ، هَلْ هُوَ كَالتَّخَلُّفِ بِالزِّحَامِ؟ قِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِعُذْرِهِ. وَالثَّانِي: لَا لِنُدُورِهِ وَتَفْرِيطِهِ. وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا. فَإِنْ تَأَخَّرَ سُجُودُهُ عَنْ سَجْدَتَيِ الْإِمَامِ بِالنِّسْيَانِ ثُمَّ سَجَدَ فِي حَالِ قِيَامِ الْإِمَامِ فَحُكْمُهُ كَالزِّحَامِ، وَكَذَا لَوْ تَأَخَّرَ لِمَرَضٍ. وَإِنْ بَقِيَ ذَاهِلًا حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: كَالْمَزْحُومِ، فَيَرْكَعُ مَعَهُ عَلَى قَوْلٍ، وَيُرَاعِي تَرْتِيبَ نَفْسِهِ فِي قَوْلٍ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: يَتْبَعُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمُتَابَعَةِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا الطَّرِيقُ أَظْهَرُ. فَرْعٌ الزِّحَامُ يَجْرِي فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَهُ فِي الْجُمُعَةِ، لِأَنَّ الزَّحْمَةَ فِيهَا أَكْثَرُ، وَلِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا وُجُوهٌ مَنِ الْإِشْكَالِ لَا يَجْرِي فِي غَيْرِهَا، مِثْلَ الْخِلَافِ فِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِالْمُلَفَّقَةِ، وَالْحُكْمِيَّةِ وَبِنَائِهَا عَلَى أَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، أَمْ لَا؟ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهَا شَرْطٌ، وَلَا يُمْكِنُ الْمُفَارَقَةُ مَا دَامَ يَتَوَقَّعُ إِدْرَاكَ الْجُمُعَةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَإِذَا زُحِمَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: يَرْكَعُ مَعَهُ قَطْعًا. وَقِيلَ: يُرَاعِي تَرْتِيبَ نَفْسِهِ قَطْعًا. الشَّرْطُ السَّادِسُ: الْخُطْبَةُ. فَمِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ: تَقْدِيمُ خُطْبَتَيْنِ. وَأَرْكَانُ الْخُطْبَةِ خَمْسَةٌ. أَحَدُهَا: حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ الْحَمْدِ. وَالثَّانِي: الصَّلَاةُ

عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ الصَّلَاةِ. وَحُكِيَ فِي (النِّهَايَةِ) عَنْ كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: مَا يُوهِمُ أَنَّهُمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ وَجْهًا مَجْزُومًا بِهِ. الثَّالِثُ: الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ لَفْظُ الْوَصِيَّةِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: لَا يَتَعَيَّنُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَوَاصَى بِهِ مُنْكِرُو الشَّرَائِعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَنْعِ مِنَ الْمَعَاصِي. وَلَا يَجِبُ فِي الْمَوْعِظَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، بَلْ لَوْ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ كَفَى، وَأَبْدَى الْإِمَامُ فِيهِ احْتِمَالًا، وَلَا تَرَدُّدَ فِي أَنَّ كَلِمَتَيِ الْحَمْدِ، وَالصَّلَاةِ، كَافِيَتَانِ. وَلَوْ قَالَ: وَالصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ، أَوْ عَلَى النَّبِيِّ، أَوْ رَسُولِ اللَّهِ، كَفَى. وَلَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلرَّحْمَنِ، أَوِ الرَّحِيمِ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْغَزَّالِيِّ: أَنَّهُ لَا يَكْفِيهِ، وَلَمْ أَرَهُ مَسْطُورًا، وَلَيْسَ هُوَ بِبَعِيدٍ كَمَا فِي كَلِمَةِ التَّكْبِيرِ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ، لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِحْدَاهُمَا كَافِيَةٌ، وَهُوَ شَاذٌّ. الرَّابِعُ: الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ رُكْنٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ، وَحُكِيَ عَنْ نَصِّهِ فِي (الْإِمْلَاءِ) . وَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالثَّانِيَةِ. فَلَوْ دَعَا فِي الْأُولَى لَمْ يُحْسَبْ، وَيَكْفِي مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَأَرَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَخْصِيصِهِ بِالسَّامِعِينَ، بِأَنْ يَقُولَ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ. الْخَامِسُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ. وَهِيَ رُكْنٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي: لَيْسَتْ بِرُكْنٍ، بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ. فَعَلَى الْأَوَّلِ أَقَلُّهَا آيَةٌ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، سَوَاءٌ كَانَتْ وَعْدًا، أَوْ وَعِيدًا، أَوْ حُكْمًا، أَوْ قِصَّةً. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا يَبْعُدُ الِاكْتِفَاءُ بِشَطْرِ آيَةٍ طَوِيلَةٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: (ثُمَّ نَظَرَ) [الْمُدَّثِّرِ: 21] لَمْ يَكْفِ، وَإِنْ عُدَّ آيَةً، بَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهَا مُفْهِمَةً. وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْأُمِّ) : تَجِبُ فِي إِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا. وَالثَّانِي: تَجِبُ فِيهِمَا. وَالثَّالِثُ: تَجِبُ فِي الْأَوَّلِ خَاصَّةً، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي (الْمُخْتَصَرِ) : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْخُطْبَةِ سُورَةَ (ق) .

قُلْتُ: قَالَ الدَّارِمِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ (ق) فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى. وَالْمُرَادُ قِرَاءَتُهَا بِكَمَالِهَا، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَنْوَاعِ الْمَوَاعِظِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ، نَزَلَ وَسَجَدَ. فَلَوْ كَانَ الْمِنْبَرُ عَالِيًا، لَوْ نَزَلَ لَطَالَ الْفَصْلُ، لَمْ يَنْزِلْ، لَكِنْ يَسْجُدُ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَإِلَّا تَرَكَ السُّجُودَ. فَلَوْ نَزَلَ وَطَالَ الْفَصْلُ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْمُوَالَاةِ. وَلَا تَدْخُلُ الْقِرَاءَةُ فِي الْأَرْكَانِ الْمَذْكُورَةِ. حَتَّى لَوْ قَرَأَ آيَةً فِيهَا مَوْعِظَةٌ، وَقَصَدَ إِيقَاعَهَا عَنِ الْجِهَتَيْنِ، لَمْ يُجْزِئْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَاتٍ تَشْتَمِلُ عَلَى الْأَرْكَانِ الْمَطْلُوبَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى خُطْبَةً. وَلَوْ أَتَى بِبَعْضِهَا فِي ضِمْنِ آيَةٍ لَمْ يَمْتَنِعْ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْخُطْبَةِ كُلِّهَا بِالْعَرَبِيَّةِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: اشْتِرَاطُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، خَطَبَ بِغَيْرِهَا. وَيَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم ُ الْخُطْبَةَ الْعَرَبِيَّةَ، كَالْعَاجِزِ عَنِ التَّكْبِيرِ بِالْعَرَبِيَّةِ. فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةُ إِمْكَانِ التَّعَلُّمِ وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا، عَصَوْا كُلُّهُمْ، وَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ. فَرْعٌ شُرُوطُ الْخُطْبَةِ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: الْوَقْتُ. وَهُوَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ، فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ. الثَّانِي: تَقْدِيمُ الْخُطْبَتَيْنِ عَلَى الصَّلَاةِ. الثَّالِثُ: الْقِيَامُ فِيهِمَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَنِيبَ. وَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا لِلْعَجْزِ، جَازَ كَالصَّلَاةِ. وَيَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، سَوَاءٌ قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، أَوْ سَكَتَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنَّمَا قَعَدَ لِعَجْزِهِ، فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَانَ الْإِمَامُ جُنُبًا، وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ تَصِحُّ الْخُطْبَةُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَهُوَ شَاذٌّ.

الرَّابِعُ: الْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا، وَتَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، فَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا لِعَجْزِهِ، لَمْ يَضْطَجِعْ بَيْنَهُمَا لِلْفَصْلِ، بَلْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ، وَالسَّكْتَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْقَائِمَ أَيْضًا يَكْفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ. الْخَامِسُ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْخُطْبَةِ الطَّهَارَةُ عَنِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ؟ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: اشْتِرَاطُ كُلِّ ذَلِكَ. ثُمَّ قِيلَ: الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمَا بَدَلٌ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: عَلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْخُطْبَةِ شَرْطٌ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ شَرَطْنَا الْمُوَالَاةَ، شَرَطْنَا الطَّهَارَةَ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : يَطَّرِدُ الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْجَنَابَةِ، وَخَصَّهُ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) بِالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، قَالَ: فَأَمَّا الْجُنُبُ، فَلَا تُحْسَبُ خُطْبَتُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ شَرْطٌ، وَلَا تُحْسَبُ قِرَاءَةُ الْجُنُبِ، وَهَذَا أَوْضَحُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ، أَوِ الصَّوَابُ، قَوْلُ صَاحِبِ (التَّتِمَّةِ) وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي (الْمُحَرَّرِ) وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَآخَرُونَ: بِأَنَّهُ لَوْ بَانَ لَهُمْ بَعْدَ فَرَاغِ الْجُمُعَةِ أَنَّ إِمَامَهُمْ كَانَ جُنُبًا، أَجْزَأَتْهُمْ. وَنَقَلُهُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالْأَصْحَابُ عَنْ نَصِّهِ فِي (الْأُمِّ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ إِذَا شَرَطْنَا الطَّهَارَةَ، فَسَبَقَهُ حَدَثٌ فِي الْخُطْبَةِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا يَأْتِي بِهِ فِي حَالِ الْحَدَثِ. وَفِي بِنَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الْخِلَافُ الَّذِي سَبَقَ. فَلَوْ تَطَهَّرَ وَعَادَ، وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ وَشَرَطْنَا الْمُوَالَاةَ، فَإِنْ لَمْ يَطُلْ، أَوْ لَمْ نَشْرُطِ الْمُوَالَاةَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاسْتِئْنَافُ. السَّادِسُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، فَلَوْ خَطَبَ سِرًّا بِحَيْثُ لَمْ يُسْمِعْ غَيْرَهُ، لَمْ تُحْسَبْ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَفِي وَجْهٍ: تُحْسَبُ وَهُوَ غَلَطٌ. فَعَلَى الصَّحِيحِ، الشَّرْطُ أَنْ يُسْمِعَ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ. فَلَوْ رَفَعَ صَوْتَهُ قَدْرَ مَا يَبْلُغُ، وَلَكِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ

أَوْ بَعْضُهُمْ صُمًّا، فَوَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا تَصِحُّ، كَمَا لَوْ بَعُدُوا. وَالثَّانِي: تَصِحُّ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا، فَكَلَّمَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ، فَلَمْ يَسْمَعْ لِصَمَمِهِ، حَنِثَ، وَكَمَا لَوْ سَمِعُوا الْخُطْبَةَ، وَلَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَاهَا، فَإِنَّهَا تَصِحُّ. وَيَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يُقْبِلُوا بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الْإِمَامِ، وَيُنْصِتُوا، وَيَسْمَعُوا. وَالْإِنْصَاتُ: هُوَ السُّكُوتُ. وَالِاسْتِمَاعُ: هُوَ شَغْلُ السَّمْعِ بِالسَّمَاعِ. وَهَلِ الْإِنْصَاتُ فَرْضٌ، وَالْكَلَامُ حَرَامٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ وَ (الْإِمْلَاءُ) : وُجُوبُ الْإِنْصَاتِ، وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ. وَالْجَدِيدُ: أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ بِحَرَامٍ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِنْصَاتُ قَطْعًا. وَالْجُمْهُورُ أَثْبَتُوا الْقَوْلَيْنِ. وَهَلْ يَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَى الْخَطِيبِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: لَا يَحْرُمُ قَطْعًا. وَالثَّانِي: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. ثُمَّ جَمِيعُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مُهِمٌّ نَاجِزٌ. فَأَمَّا إِذَا رَأَى أَعْمَى يَقَعُ فِي بِئْرٍ، أَوْ عَقْرَبًا تَدِبُّ عَلَى إِنْسَانٍ، فَأَنْذَرَهُ، أَوْ عَلَّمَ إِنْسَانًا شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ، أَوْ نَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ، فَهَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ بِلَا خِلَافٍ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ. لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِشَارَةِ، وَلَا يَتَكَلَّمَ مَا أَمْكَنَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْكَلَامِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ. وَيَجُوزُ الْكَلَامُ قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْإِمَامِ بِالْخُطْبَةِ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُمَا. فَأَمَّا فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، فَطَرِيقَانِ، قَطَعَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَالْغَزَّالِيُّ، بِالْجَوَازِ. وَأَجْرَى الْمَحَامِلِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَآخَرُونَ فِيهِ الْخِلَافَ. وَيَجُوزُ لِلدَّاخِلِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، أَنْ يَتَكَلَّمَ مَا لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ مَكَانًا. وَالْقَوْلَانِ فِيمَا بَعْدَ قُعُودِهِ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَيَنْبَغِي لِلدَّاخِلِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، أَنْ لَا يُسَلِّمَ، فَإِنْ سَلَّمَ، حَرُمَتْ إِجَابَتُهُ بِاللَّفْظِ، وَيُسْتَحَبُّ بِالْإِشَارَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ. وَفِي تَشْمِيتِ

الْعَاطِسِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: تَحْرِيمُهُ، كَرَدِّ السَّلَامِ. وَالثَّانِي: اسْتِحْبَابُهُ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ وَلَا يُسْتَحَبُّ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَا يُشَمِّتِ الْعَاطِسَ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ. فَلَا يُتْرَكُ لَهَا الْإِنْصَاتُ الْوَاجِبُ. وَفِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عَلَى مَنْ لَا يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ، وَالتِّلَاوَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ، نَصَّ عَلَيْهِ وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ. وَقَالُوا: الْبَعِيدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِنْصَاتِ، وَبَيْنَ الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْقَرِيبِ. هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَدِيمِ. فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَيَجُوزُ رَدُّ السَّلَامِ، وَالتَّشْمِيتُ بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ فِي رَدِّ السَّلَامِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا عِنْدَ صَاحِبِ (التَّهْذِيبِ) : وُجُوبُهُ. وَالثَّانِي: اسْتِحْبَابُهُ. وَالثَّالِثُ: جَوَازُهُ بِلَا اسْتِحْبَابٍ. وَقَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ. وَالْأَصَحُّ: اسْتِحْبَابُ التَّشْمِيتِ. وَحَيْثُ حَرَّمْنَا الْكَلَامَ فَتَكَلَّمَ، أَثِمَ، وَلَا تَبْطُلُ جُمُعَتُهُ بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ قَالَ الْغَزَّالِيُّ: هَلْ يَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَى مَنْ عَدَا الْأَرْبَعِينَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ بَعِيدٌ فِي نَفْسِهِ، وَمُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَهُ الْأَصْحَابُ. أَمَّا بُعْدُهُ فِي نَفْسِهِ، فَلِأَنَّ كَلَامَهُ مَفْرُوضٌ فِي السَّامِعِينَ لِلْخُطْبَةِ. وَإِذَا حَضَرَ جَمَاعَةٌ يَزِيدُونَ عَلَى أَرْبَعِينَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَرْبَعِينَ مِنْهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ، فَيَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ قَطْعًا. وَالْخِلَافُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ، بَلِ الْوَجْهُ: الْحُكْمُ بِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ، أَوْ بِأَرْبَعِينَ مِنْهُمْ لَا عَلَى التَّعْيِينِ. وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِنَقْلِ الْأَصْحَابِ، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ لِلْأَصْحَابِ إِلَّا إِطْلَاقَ قَوْلَيْنِ فِي السَّامِعِينَ، وَوَجْهَيْنِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ كَمَا سَبَقَ.

فَرْعٌ إِذَا صَعِدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ، أَلَّا يَفْتَتِحَهَا، سَوَاءٌ كَانَ صَلَّى السُّنَّةَ، أَمْ لَا، وَمَنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ خَفَّفَهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَلَامِ - حَيْثُ قُلْنَا: لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ مَا لَمْ تَبْتَدِئِ الْخُطْبَةُ - وَبَيْنَ الصَّلَاةِ أَنَّ قَطْعَ الْكَلَامِ هَيِّنٌ مَتَى ابْتَدَأَ الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَفُوتُ سَمَاعُ أَوَّلِ الْخُطْبَةِ إِلَى أَنْ يُتِمَّهَا. قُلْتُ: وَسَوَاءٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ مَنْ يَسْمَعُهَا، وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ، وَيُخَفِّفَهَا. فَلَوْ كَانَ مَا صَلَّى السُّنَّةَ، صَلَّاهَا وَحَصَلَتِ التَّحِيَّةُ. وَلَوْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ، لَمْ يُصَلِّ، لِئَلَّا يَفُوتَهُ أَوَّلُ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَسَوَاءٌ فِي اسْتِحْبَابِ التَّحِيَّةِ. قُلْنَا: يَجِبُ الْإِنْصَاتُ، أَمْ لَا؟ فَرْعٌ فِي أُمُورٍ اخْتُلِفَ فِي إِيجَابِهَا فِي الْخُطْبَةِ. مِنْهَا: كَوْنُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَمِنْهَا: نِيَّةُ الْخُطْبَةِ وَفَرْضِيَّتُهَا، اشْتَرَطَهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَمِنْهَا: التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، فَأَوْجَبَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُ، أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَمْدِ، ثُمَّ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةِ. وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ، وَلَا بَيْنَهُمَا

وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا. وَقَطَعَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) وَآخَرُونَ: بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ أَصْلًا. قَالُوا: لَكِنَّ الْأَفْضَلَ الرِّعَايَةُ. قُلْتُ: قَطَعَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) وَكَثِيرُونَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ وَنَقَلَهُ فِي (الْحَاوِي) عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ الْأَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ فِي سُنَنِ الْخُطْبَةِ فَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مِنْبَرٍ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ عَلَى يَمِينِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْإِمَامُ. وَيُكْرَهُ الْمِنْبَرُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُضَيِّقُ عَلَى الْمُصَلِّينَ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَسْجِدُ مُتَّسِعُ الْخِطَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْبَرٌ، خَطَبَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ. وَمِنْهَا: أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: إِذَا بَلَغَ فِي صُعُودِهِ الدَّرَجَةَ الَّتِي تَلِي مَوْضِعَ الْقُعُودِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْمَوْضِعُ: الْمُسْتَرَاحَ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَمِنْهَا: أَنْ يَجْلِسَ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَى الْمُسْتَرَاحِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ، اشْتَغَلَ الْمُؤَذِّنُ بِالْأَذَانِ، وَيُدِيمُ الْإِمَامُ الْجُلُوسَ إِلَى فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ. قَالَ صَاحِبُ (الْإِفْصَاحِ) وَالْمَحَامِلِيُّ: الْمُسْتَحَبُّ، أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ لِلْجُمُعَةِ وَاحِدًا. وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْغَزَّالِيُّ، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، إِشْعَارٌ بِاسْتِحْبَابِ تَعْدِيدِ الْمُؤَذِّنِينَ. وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ بَلِيغَةً غَيْرَ مُؤَلَّفَةٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُبْتَذَلَةِ، وَلَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الْغَرِيبَةِ الْوَحْشِيَّةِ، بَلْ قَرِيبَةً مِنَ الْأَفْهَامِ.

وَمِنْهَا: أَنْ لَا يُطَوِّلَهَا وَلَا يُخَفِّفَهَا، بَلْ تَكُونُ مُتَوَسِّطَةً. وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ، وَيَسْتَقْبِلَ النَّاسَ فِي خُطْبَتَيْهِ، وَلَا يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. وَلَوْ خَطَبَ مُسْتَدْبِرَ النَّاسِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ. قُلْتُ: وَطَرَدَ الدَّارِمِيُّ هَذَا الْوَجْهَ، فِيمَا إِذَا اسْتَدْبَرُوهُ، أَوْ خَالَفُوهُ، وَهُوَ الْهَيْئَةُ الْمَشْرُوعَةُ فِي ذَلِكَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ قَدْرَ سُورَةِ (الْإِخْلَاصِ) نَصَّ عَلَيْهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَجِبُ هَذَا الْقَدْرُ وَحُكِيَ عَنْ نَصِّهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى سَيْفٍ، أَوْ عَصًا، أَوْ نَحْوِهِمَا. قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : يَقْبِضُهُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى. وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَكْثَرُونَ بِأَيَّتِهِمَا يَقْبِضُهُ. قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ كَمَا قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: وَيَشْغَلُ يَدَهُ الْأُخْرَى بِحَرْفِ الْمِنْبَرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا، سَكَّنَ يَدَيْهِ وَجَسَدَهُ، بِأَنْ يَجْعَلَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، أَوْ يُقِرَّهُمَا مُرْسَلَتَيْنِ. وَالْغَرَضُ، أَنْ يَخْشَعَ، وَلَا يَعْبَثَ بِهِمَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يُقْبِلُوا عَلَى الْخَطِيبِ مُسْتَمِعِينَ، لَا يَشْتَغِلُونَ بِشَيْءٍ آخَرَ، حَتَّى يُكْرَهُ الشُّرْبُ لِلتَّلَذُّذِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ لِلْعَطَشِ، لَا لِلْخَطِيبِ، وَلَا لِلْقَوْمِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَأْخُذَ فِي النُّزُولِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَيَأْخُذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ، وَيَبْتَدِرَ لِيَبْلُغَ الْمِحْرَابَ مَعَ فَرَاغِ الْمُقِيمِ. قُلْتُ: يُكْرَهُ فِي الْخُطْبَةِ أُمُورٌ ابْتَدَعَهَا الْجَهَلَةُ. مِنْهَا: الْتِفَاتُهُمْ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَالدَّقُّ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ فِي صُعُودِهِ، وَالدُّعَاءُ إِذَا انْتَهَى إِلَى صُعُودِهِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. وَرُبَّمَا تَوَهَّمُوا أَنَّهَا سَاعَةُ الْإِجَابَةِ، وَهَذَا جَهْلٌ، فَإِنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ إِنَّمَا هِيَ بَعْدَ جُلُوسِهِ، كَمَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَمِنْهَا: الْمُجَازَفَةُ فِي أَوْصَافِ السَّلَاطِينِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ. وَأَمَّا أَصْلُ الدُّعَاءِ

لِلسُّلْطَانِ، فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَالِاخْتِيَارُ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُجَازَفَةٌ فِي وَصْفِهِ، وَلَا نَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بِصَلَاحِ وُلَاةِ الْأَمْرِ. وَمِنْهَا: مُبَالَغَتُهُمْ فِي الْإِسْرَاعِ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا الِاحْتِبَاءُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَالَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) : لَا يُكْرَهُ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. فَقَدْ صَحَّ فِي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ) وَالتِّرْمِذِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نَهَى عَنِ الِاحْتِبَاءِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ) ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: نَهَى عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَجْلِبُ النَّوْمَ فَيُعَرِّضُ طَهَارَتَهُ لِلنَّقْضِ، وَيَمْنَعُهُ اسْتِمَاعَ الْخُطْبَةِ. وَيُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمِنْبَرُ وَاسِعًا، أَنْ يَقُومَ عَلَى يَمِينِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) . وَيُكْرَهُ لِلْخَطِيبِ أَنْ يُشِيرَ بِيَدِهِ. قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتِمَ الْخُطْبَةَ بِقَوْلِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. وَذَكَرَ صَاحِبَا (الْعُدَّةِ) وَ (الْبَيَانِ) : أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ إِذَا وَصَلَ الْمِنْبَرَ، أَنْ يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَصْعَدَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ غَرِيبٌ وَشَاذٌّ وَمَرْدُودٌ، فَإِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْمَنْقُولِ عَنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَلَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْخَطِيبِ، قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) فِي بِنَاءِ غَيْرِهِ عَلَى خُطْبَتِهِ، الْقَوْلَانِ فِي الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ، اسْتُؤْنِفَتِ الْخُطْبَةُ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، اشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَبْنِي سَمِعَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ. هَذَا كَلَامُهُ فِي (التَّهْذِيبِ) . وَالْمُخْتَارُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ هُنَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْبَابُ الثَّانِي فِيمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ لِوُجُوبِهَا خَمْسَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: التَّكْلِيفُ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ. قُلْتُ: وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، كَالْمَجْنُونِ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا ظُهْرًا كَغَيْرِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى عَبْدٍ قِنٍّ، أَوْ مُدَبَّرٍ، أَوْ مَكَاتَبٍ. قُلْتُ: وَيُسْتَحَبُّ إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ حُضُورَهَا، وَلَا يَجِبُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثُ: الذُّكُورَةُ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا خُنْثَى. الرَّابِعُ: الْإِقَامَةُ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ، وَلِلْعَبْدِ، وَلِلصَّبِيِّ، حُضُورُهَا إِذَا أَمْكَنَ. الْخَامِسُ: الصِّحَّةُ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى مَرِيضٍ، وَلَوْ فَاتَتْ بِتَخَلُّفِهِ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ. ثُمَّ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، لَا تَنْعَقِدُ بِهِ إِلَّا الْمَرِيضُ. وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلٌ شَاذٌّ، قَدَّمْنَاهُ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ لِلْجُمُعَةِ. وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ، أَعْذَارٌ تَأْتِي قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَكِنْ تَنْعَقِدُ لِجَمِيعِهِمْ، وَيُجْزِيهِمْ عَنِ الظُّهْرِ إِلَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَصِحُّ فِعْلُهُ. ثُمَّ إِذَا حَضَرَ الصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ، وَالْعَبِيدُ، وَالْمُسَافِرُونَ الْجَامِعَ، فَلَهُمُ الِانْصِرَافُ، وَيُصَلُّونَ الظُّهْرَ. وَخَرَّجَ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) وَجْهًا فِي الْعَبْدِ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ إِذَا حَضَرَ. وَقَالَ فِي (النِّهَايَةِ) : وَهَذَا غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ. فَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَقَدْ أَطْلَقَ كَثِيرُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْصِرَافُ بَعْدَ حُضُورِهِ، بَلْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ. وَقَالَ

إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ حَضَرَ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَلَهُ الِانْصِرَافُ، وَإِنْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَقَامَتِ الصَّلَاةُ، لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ. فَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّلُ زَمَنٌ بَيْنَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَالصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ مَزِيدُ مَشَقَّةٍ فِي الِانْتِظَارِ، لَزِمَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا التَّفْصِيلُ حَسَنٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْمُطْلِقِينَ مُنَزَّلًا عَلَيْهِ. وَأَلْحَقُوا بِالْمَرْضَى أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ الْمُلْحَقَةِ بِالْمَرَضِ، وَقَالُوا: إِذَا حَضَرُوا، لَزِمَتْهُمُ الْجُمُعَةُ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا، إِنْ لَمْ يَزِدْ ضَرَرُ الْمَعْذُورِ بِالصَّبْرِ إِلَى إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَّهُ الِانْصِرَافُ وَإِقَامَةُ الظُّهْرِ فِي مَنْزِلِهِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَشْرَعُوا فِي الْجُمُعَةِ، فَإِنْ أَحْرَمَ الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُمُ الْجُمُعَةُ بِالْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَرَادُوا الِانْصِرَافَ، قَالَ فِي (الْبَيَانِ) : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَفِي الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْمَرِيُّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمَا، لِأَنَّ صَلَاتَهُمَا انْعَقَدَتْ عَنْ فَرْضِهِمَا، فَيَتَعَيَّنُ إِتْمَامُهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي فَرْضٍ لِأَوَّلِ الْوَقْتِ، لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ، فَهُنَا أَوْلَى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ كُلُّ مَا أَمْكَنَ تَصَوُّرُهُ فِي الْجُمُعَةِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُرَخَّصَةِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، يُرَخَّصُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ. أَمَّا الْوَحْلُ الشَّدِيدُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الْجُمُعَةِ. حَكَاهُ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) وَقَالَ: بِهِ أَفْتَى أَئِمَّةُ طَبَرِسْتَانَ. أَمَّا التَّمْرِيضُ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَرِيضِ مَنْ يَتَعَهَّدُهُ، وَيَقُومُ بِأَمْرِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ قَرِيبًا وَهُوَ مُشْرِفٌ عَلَى الْمَوْتِ،

أَوْ غَيْرُ مُشْرِفٍ لَكِنْ يَسْتَأْنِسُ بِهِ، فَلَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ وَيَحْضُرُ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتِئْنَاسٌ، فَلَيْسَ لَهُ التَّخَلُّفُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، لَمْ يَجُزِ التَّخَلُّفُ بِحَالٍ. وَالْمَمْلُوكُ، وَالزَّوْجَةُ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ مُصَاهَرَةٌ، وَالصَّدِيقُ، كَالْقَرِيبِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرِيضِ مُتَعَهِّدٌ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ لَوْ غَابَ عَنْهُ، فَهُوَ عُذْرٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَرِيضُ قَرِيبًا، أَوْ أَجْنَبِيًّا، لِأَنَّ إِنْقَاذَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْهَلَاكِ، فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ لَا يَبْلُغُ دَفْعُهُ مَبْلَغَ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ عُذْرٌ أَيْضًا. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عُذْرٌ فِي الْقَرِيبِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ كَانَ لَهُ مُتَعَهِّدٌ، لَكِنْ لَمْ يَفْرُغْ لِخِدْمَتِهِ، لِاشْتِغَالِهِ بِشِرَاءِ الْأَدْوِيَةِ، أَوِ الْكَفَنِ، وَحَفْرِ الْقَبْرِ إِذَا كَانَ مَنْزُولًا بِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَهِّدٌ. فَرْعٌ يَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ الْجُمُعَةُ إِذَا وَجَدَ مَرْكُوبًا، مِلْكًا أَوْ بِإِجَارَةٍ، أَوْ إِعَارَةٍ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الرُّكُوبُ، وَكَذَا الشَّيْخُ الضَّعِيفُ. وَيَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى إِذَا وَجَدَ قَائِدًا مُتَبَرِّعًا، أَوْ بِأُجْرَةٍ، وَلَهُ مَالٌ، وَإِلَّا فَقَدْ أَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْمَشْيَ بِالْعَصَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ، لَزِمَهُ. فَرْعٌ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ عَبْدٌ، لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، لَزِمَهُ الْجُمُعَةُ الْوَاقِعَةُ فِي نَوْبَتِهِ، وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ.

فَرْعٌ الْغَرِيبُ إِذَا قَامَ بِبَلَدٍ، وَاتَّخَذَهُ وَطَنًا، صَارَ لَهُ حُكْمُ أَهْلِهِ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَانْعِقَادِهَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْهُ وَطَنًا، بَلْ عَزْمُهُ الرُّجُوعُ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ - يَخْرُجُ بِهَا مِنْ كَوْنِهِ مُسَافِرًا - قَصِيرَةٍ، أَوْ طَوِيلَةٍ، كَالتَّاجِرِ، وَالْمُتَفَقِّهِ، لَزِمَهُ الْجُمُعَةُ، وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ الْقَرْيَةُ إِذَا كَانَ فِيهَا أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، لَزِمَهُمُ الْجُمُعَةُ. فَإِنْ أَقَامُوهَا فِي قَرْيَتِهِمْ، فَذَاكَ. وَإِنْ دَخَلُوا الْمِصْرَ فَصَلَّوْهَا فِيهِ، سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ، وَكَانُوا مُسِيئِينَ، لِتَعْطِيلِهِمُ الْجُمُعَةَ فِي قَرْيَتِهِمْ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسِيئِينَ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُ جُمُعَةً فِي قَرْيَةٍ، فَفِيمَا فَعَلُوهُ، خُرُوجٌ مِنَ الْخِلَافِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، فَلَهُمْ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْلُغُهُمُ النِّدَاءُ مِنْ مَوْضِعٍ تُقَامُ فِيهِ جُمُعَةٌ مِنْ بَلَدٍ، أَوْ قَرْيَةٍ، فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ. وَالْمُعْتَبَرُ نِدَاءُ مُؤَذِّنٍ عَالِي الصَّوْتِ يَقِفُ عَلَى طَرَفِ الْبَلَدِ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي يَلِي تِلْكَ الْقَرْيَةَ، وَيُؤَذِّنُ عَلَى عَادَتِهِ، وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةٌ، وَالرِّيَاحُ رَاكِدَةٌ. فَإِذَا سَمِعَ صَوْتَهُ مِنَ الْقَرْيَةِ مَنْ أَصْغَى إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَصَمَّ، وَلَا جَاوَزَ سَمْعُهُ حَدَّ الْعَادَةِ، وَجَبَتِ الْجُمُعَةُ عَلَى أَهْلِهَا. وَفِي وَجْهٍ: الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَقِفَ الْمُؤَذِّنُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، وَوَجْهٌ يَقِفُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ. وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ كَمَنَارَةٍ أَوْ سُورٍ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يُعْتَبَرُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: سَمِعْتُ شُيُوخَنَا يَقُولُونَ:

لَا يُعْتَبَرُ إِلَّا بِطَبَرِسْتَانَ، فَإِنَّهَا بَيْنَ أَشْجَارٍ وَغِيَاضٍ تَمْنَعُ بُلُوغَ الصَّوْتِ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ قَرْيَةً عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ يَسْمَعُ أَهْلُهَا النِّدَاءَ لِعُلُوِّهَا، بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَرْضِ لَمَا سَمِعُوا، أَوْ كَانَتْ قَرْيَةً فِي وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ لَا يَسْمَعُ أَهْلُهَا النِّدَاءَ لِانْخِفَاضِهَا، بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ عَلَى اسْتِوَاءٍ لَسَمِعُوا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَتَجِبُ فِي الثَّانِيَةِ، اعْتِبَارًا بِتَقْدِيرِ الِاسْتِوَاءِ. وَالثَّانِي: وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: عَكْسُهُ، اعْتِبَارًا بِنَفْسِ السَّمَاعِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْلُغِ النِّدَاءُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا أَهْلُ الْخِيَامِ إِذَا لَزِمُوا مَوْضِعًا، وَلَمْ يُفَارِقُوهُ، وَقُلْنَا: لَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ مَوْضِعَهُمْ، فَهُمْ كَأَهْلِ الْقُرَى. وَإِذَا لَمْ يَبْلُغُوا أَرْبَعِينَ، إِنْ سَمِعُوا النِّدَاءَ، لَزِمَتْهُمُ الْجُمُعَةُ، وَإِلَّا فَلَا. قُلْتُ: وَإِذَا سَمِعَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ النَّاقِصُونَ عَنِ الْأَرْبَعِينَ النِّدَاءَ مِنْ بَلَدَيْنِ، فَأَيُّهُمَا حَضَرُوا جَازَ، وَالْأَوْلَى حُضُورُ أَكْثَرِهِمَا جَمَاعَةً. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ الْعُذْرُ الْمُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ يُبِيحُهُ وَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ الزَّوَالِ، إِلَّا السَّفَرُ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ إِنْشَاؤُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَهَلْ يَجُوزُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ؟ قَوْلَانِ. قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَحَرْمَلَةُ: يَجُوزُ. وَفِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا. هَذَا فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ. أَمَّا الطَّاعَةُ وَاجِبًا كَانَ كَالْحَجِّ، أَوْ مَنْدُوبًا، فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ، فَقَطَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا بِجَوَازِهِ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْعِرَاقِيِّينَ، أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ كَالْمُبَاحِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: يَحْرُمُ، فَلَهُ شَرْطَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَنْقَطِعَ عَنِ الرُّفْقَةِ، وَلَا يَنَالُهُ ضَرَرٌ فِي تَخَلُّفِهِ لِلْجُمُعَةِ. فَإِنِ انْقَطَعَ، وَفَاتَ سَفَرُهُ بِذَلِكَ، أَوْ نَالَهُ ضَرَرٌ، فَلَهُ الْخُرُوجُ بَعْدَ الزَّوَالِ بِلَا خِلَافٍ.

كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ: فِي جَوَازِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِخَوْفِ الِانْقِطَاعِ عَنِ الرُّفْقَةِ، وَجْهَانِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ طَرِيقِهِ. فَإِنْ أَمْكَنَتْ، فَلَا مَنْعَ بِحَالٍ. قُلْتُ: تَحْرِيمُ السَّفَرِ الْمُبَاحِ، وَالطَّاعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَحَيْثُ حَرَّمْنَاهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَسَافَرَ، كَانَ عَاصِيًا، فَلَا يَتَرَخَّصُ مَا لَمْ تَفُتِ الْجُمُعَةُ. ثُمَّ حَيْثُ كَانَ فَوَاتُهَا، يَكُونُ ابْتِدَاءُ سَفَرِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ الْمَعْذُورُونَ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ، ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَوَقَّعُ زَوَالَ عُذْرِهِ، كَالْعَبْدِ، وَالْمَرِيضُ يَتَوَقَّعُ الْخِفَّةَ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ إِلَى الْيَأْسِ مِنْ إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ، لِاحْتِمَالِ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا. وَيَحْصُلُ الْيَأْسُ بِرَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ الثَّانِي عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الشَّاذِّ: يُرَاعَى تَصَوُّرُ الْإِدْرَاكِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا، فَانْتَهَى الْوَقْتُ إِلَى حَدِّ لَوْ أَخَذَ فِي السَّعْيِ لَمْ يُدْرِكِ الْجُمُعَةَ، حَصَلَ الْفَوَاتُ فِي حَقِّهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ لَا يَرْجُو زَوَالَ عُذْرِهِ كَالْمَرْأَةِ، وَالزَّمِنِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِفَضِيلَةِ الْأَوَّلِيَّةِ. قُلْتُ: هَذَا اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: هَذَا الضَّرْبُ كَالْأَوَّلِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ صَلَاةُ الْكَامِلِينَ فَقُدِّمَتْ. وَالِاخْتِيَارُ التَّوَسُّطُ. فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ هَذَا الشَّخْصُ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَا يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ

وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْهَا، اسْتُحِبَّ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ. وَإِنْ كَانَ لَوْ تَمَكَّنَ، أَوْ نَشِطَ حَضَرَهَا، اسْتُحِبَّ التَّأْخِيرُ، كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِذَا اجْتَمَعَ مَعْذُورُونَ، اسْتُحِبَّ لَهُمُ الْجَمَاعَةُ فِي ظُهْرِهِمْ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاسْتُحِبَّ لَهُمْ إِخْفَاءُ الْجَمَاعَةِ لِئَلَّا يُتَّهَمُوا. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا إِذَا كَانَ عُذْرُهُمْ خَفِيًّا، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، فَلَا تُهْمَةَ. وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّ الْإِخْفَاءَ مُطْلَقًا. ثُمَّ إِذَا صَلَّى الْمَعْذُورُ الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، صَحَّتْ ظُهْرُهُ. فَلَوْ زَالَ عُذْرُهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْجُمُعَةِ، لَمْ تَلْزَمْهُ، إِلَّا فِي الْخُنْثَى إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ بَانَ رَجُلًا، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْجُمُعَةِ، فَتَلْزَمُهُ. وَالْمُسْتَحَبُّ لِهَؤُلَاءِ، حُضُورُ الْجُمُعَةِ بَعْدَ فِعْلِهِمُ الظُّهْرَ. فَإِنْ صَلَّوُا الْجُمُعَةَ، فَفَرْضُهُمُ الظُّهْرُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَحْتَسِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا شَاءَ. أَمَّا إِذَا زَالَ الْعُذْرُ فِي أَثْنَاءِ الظُّهْرِ، فَقَالَ الْقَفَّالُ: هُوَ كَرُؤْيَةِ الْمُتَيَمِّمِ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي خِلَافًا فِي بُطْلَانِ الظُّهْرِ، كَالْخِلَافِ فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَجْهَيْنِ هُنَا. وَالْمَذْهَبُ، اسْتِمْرَارُ صِحَّةِ الظُّهْرِ. وَهَذَا الْخِلَافُ، تَفْرِيعٌ عَلَى إِبْطَالِ ظُهْرِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ إِذَا صَلَّاهَا قَبْلَ فَوَاتِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ. فَإِنْ لَمْ نُبْطِلْهَا، فَالْمَعْذُورُ أَوْلَى. فَرْعٌ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، لَمْ تَصِحَّ ظُهْرُهُ عَلَى الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَتَصِحُّ عَلَى الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَالَ الْأَصْحَابُ: الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ الْأَصْلِيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَاذَا؟ فَالْجَدِيدُ: أَنَّهُ الْجُمُعَةُ. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ الظُّهْرُ، وَأَنَّ الْجُمُعَةَ بَدَلٌ. ثُمَّ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَوْ تَرَكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْبَلْدَةِ الْجُمُعَةَ، وَصَلَّوُا الظُّهْرَ، أَثِمُوا كُلُّهُمْ، وَصَحَّتْ ظُهْرُهُمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَإِنَّ الْخِلَافَ فِي تَرْكِ

آحَادِهِمُ الْجُمُعَةَ مَعَ إِقَامَتِهَا بِجَمَاعَةٍ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَأَنَّ ظُهْرَهَا لَا تَصِحُّ عَلَى الْجَدِيدِ، لِأَنَّهُمْ صَلَّوْهَا وَفَرْضُ الْجُمُعَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمْ. فَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْجَدِيدِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْأَمْرُ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ قَائِمٌ. فَإِنْ حَضَرَهَا، فَذَاكَ، وَإِنْ فَاتَتْ، قَضَى الظُّهْرَ. وَهَلْ يَكُونُ مَا فَعَلَهُ أَوَّلًا بَاطِلًا، أَمْ تَنْقَلِبُ نَفْلًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي نَظَائِرِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الْأَمْرَ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ قَائِمٌ أَيْضًا. وَمَعْنَى صِحَّةِ الظُّهْرِ، الِاعْتِدَادُ بِهَا فِي الْجُمُعَةِ، بِحَيْثُ لَوْ فَاتَتِ الْجُمُعَةُ أَجَزَأَتْهُ. وَقِيلَ: فِي سُقُوطِ الْأَمْرِ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ، قَوْلَانِ. وَبِهَذَا قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ، أَوْ قُلْنَا: يَسْقُطُ، فَصَلَّى الْجُمُعَةَ، فَفِي الْفَرْضِ مِنْهُمَا طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْفَرْضُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَيَحْتَسِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: الْفَرْضُ: الظُّهْرُ. وَالثَّانِي: الْجُمُعَةُ. وَالثَّالِثُ: كِلَاهُمَا فَرْضٌ. وَالرَّابِعُ: أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، كَالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ. فَإِنْ صَلَّاهَا بَعْدَ رُكُوعِ الْإِمَامِ فِي الثَّانِيَةِ، وَقَبْلَ سَلَامِهِ، فَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بُطْلَانُهَا، يَعْنِي عَلَى الْجَدِيدِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَوَّزَهَا. وَإِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْبَلْدَةِ جَمِيعًا مِنَ الْجُمُعَةِ، وَصَلَّوُا الظُّهْرَ، فَالْفَوَاتُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ ضِيقِهِ، بِحَيْثُ لَا يَسَعُ إِلَّا الرَّكْعَتَيْنِ.

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ شَرَائِطِهَا الْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ كَغَيْرِهَا فِي الْأَرْكَانِ، وَتَمْتَازُ بِأُمُورٍ مَنْدُوبَةٍ. أَحَدُهَا: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ، وَوَقْتُهُ بَعْدَ الْفَجْرِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَانْفَرَدَ فِي (النِّهَايَةِ) بِحِكَايَةِ وَجْهٍ: أَنَّهُ يُجْزِئُ قَبْلَ الْفَجْرِ كَغُسْلِ الْعِيدِ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. وَيُسْتَحَبُّ تَقْرِيبُ الْغُسْلِ مِنَ الرَّوَاحِ إِلَى الْجُمُعَةِ. ثُمَّ الصَّحِيحُ: إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ أَحَدٍ كَغُسْلِ الْعِيدِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ حَاضِرٍ، سَوَاءٌ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَحَضَرَهَا، وَوَجْهٌ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهَا لِعُذْرٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ الْغُسْلِ، لَمْ يَبْطُلِ الْغُسْلُ، فَيَتَوَضَّأُ. قُلْتُ: وَكَذَا لَوْ أَجْنَبَ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يَبْطُلُ، فَيَغْتَسِلُ لِلْجَنَابَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَعَامَّةُ الْأَصْحَابِ: إِذَا عَجَزَ عَنِ الْغُسْلِ لِنَفَادِ الْمَاءِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، أَوْ لِقُرُوحٍ فِي بَدَنِهِ، تَيَمَّمَ وَحَازَ الْفَضِيلَةَ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ، هُوَ الظَّاهِرُ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ. وَرَجَّحَ الْغَزَّالِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ.

فَرْعٌ: مِنَ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ، أَغْسَالُ الْحَجِّ، وَغُسْلُ الْعِيدَيْنِ، وَيَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَمَّا الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ. وَالْجَدِيدُ: اسْتِحْبَابُهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ. فَعَلَى هَذَا، غُسْلُ الْجُمُعَةِ، وَالْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، آكَدُ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ، وَأَيُّهُمَا آكَدُ؟ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ آكَدُ. وَالْقَدِيمُ: غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ صَاحِبِ (التَّهْذِيبِ) ، وَالرُّويَانِيِّ، وَالْأَكْثَرِينَ. وَرَجَّحَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَآخَرُونَ الْجَدِيدَ. وَفِي وَجْهٍ: هُمَا سَوَاءٌ. قُلْتُ: الصَّوَابُ، الْجَزْمُ بِتَرْجِيحِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، لِكَثْرَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ. وَفِيهَا الْحَثُّ الْعَظِيمُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ) وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ) . وَأَمَّا الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، فَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا. ثُمَّ مِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ، وَلَوْ حَضَرَ إِنْسَانٌ مَعَهُ مَاءٌ، يَدْفَعُهُ لِأَحْوَجِ النَّاسِ وَهُنَاكَ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا يُرِيدُهُ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَالْآخَرُ لِلْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ، فَإِنْ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ غُسْلٌ بِجَنَابَةٍ، أَوْ حَيْضٍ، لَزِمَهُ الْغُسْلُ وَلَا يُجْزِئُهُ غُسْلُهُ فِي الْكُفْرِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِلَّا، اسْتُحِبَّ لَهُ الْغُسْلُ لِلْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجِبُ. وَوَقْتُ الْغُسْلِ، بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ: يَغْتَسِلُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ صَرِيحٌ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ حَكَاهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ قَالَهُ،

وَقَدْ أَشْبَعْتُ الْقَوْلَ فِي إِبْطَالِهِ وَالشَّنَاعَةِ عَلَى قَائِلِهِ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) وَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِالْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ لِيَفْعَلَ غُسْلًا لَا يَصِحُّ مِنْهُ؟ ! - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنَ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ، الْغُسْلُ لِلْإِفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْغُسْلِ حِكَايَةً وَجْهٌ فِي وُجُوبِهِمَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُمَا سُنَّةٌ. وَمِنْهَا: الْغُسْلُ مِنَ الْحِجَامَةِ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْحَمَّامِ. ذَكَرَ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) عَنِ الْقَدِيمِ اسْتِحْبَابَهُمَا، وَالْأَكْثَرُونَ لَمْ يَذْكُرُوهُمَا. قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : قِيلَ: الْمُرَادُ بِغُسْلِ الْحَمَّامِ، إِذَا تَنَوَّرَ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ فَيَعْرَقُ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ. قُلْتُ: وَقِيلَ: الْغُسْلُ مِنَ الْحَمَّامِ، هُوَ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ مَاءً عِنْدَ إِرَادَتِهِ الْخُرُوجَ تَنَظُّفًا، كَمَا اعْتَادَهُ الْخَارِجُونَ مِنْهُ. وَالْمُخْتَارُ: الْجَزْمُ بِاسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ مِنَ الْحِجَامَةِ وَالْحَمَّامِ. فَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ (جَمْعِ الْجَوَامِعِ) فِي مَنْصُوصَاتِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أُحِبُّ الْغُسْلَ مِنَ الْحِجَامَةِ وَالْحَمَّامِ، وَكُلِّ أَمْرٍ غَيَّرَ الْجَسَدَ، وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ، إِلَى أَنَّ حِكْمَتَهُ، أَنَّ ذَلِكَ يُغَيِّرُ الْجَسَدَ وَيُضْعِفُهُ، وَالْغُسْلُ يَشُدُّهُ وَيُنْعِشُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ، وَفِي كُلِّ حَالٍ تُغَيِّرُ رَائِحَةَ الْبَدَنِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْأَمْرُ الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الْبُكُورِ إِلَى الْجَامِعِ، وَالسَّاعَةُ الْأُولَى أَفْضَلُ مِنَ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ الثَّالِثَةُ فَمَا بَعْدَهَا. وَتُعْتَبَرُ السَّاعَاتُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَالثَّالِثُ: مِنَ الزَّوَالِ. ثُمَّ، لَيْسَ الْمُرَادُ عَلَى الْأَوْجُهِ

بِالسَّاعَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْعِشْرِينَ، بَلْ تَرْتِيبُ الدَّرَجَاتِ، وَفَضْلُ السَّابِقِ عَلَى الَّذِي يَلِيهِ، لِئَلَّا يَسْتَوِيَ فِي الْفَضِيلَةِ رَجُلَانِ جَاءَا فِي طَرَفَيْ سَاعَةٍ. وَالْأَمْرُ الثَّالِثُ: التَّزَيُّنُ، فَيُسْتَحَبُّ التَّزَيُّنُ لِلْجُمُعَةِ، بِأَخْذِ الشَّعْرِ، وَالظُّفُرِ، وَالسِّوَاكِ، وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ الثِّيَابِ، وَأَوْلَاهَا الْبِيضُ. فَإِنْ لَبِسَ مَصْبُوغًا، فَمَا صُبِغَ غَزْلُهُ، ثُمَّ نُسِجَ كَالْبُرْدِ، لَا مَا صُبِغَ مَنْسُوجًا. وَيُسْتَحَبُ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ مَا عِنْدَهُ، وَيُسْتَحَبَّ أَنْ يَزِيدَ الْإِمَامُ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ، وَيَتَعَمَّمَ، وَيَرْتَدِيَ. وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ قَصَدَ الْجُمُعَةَ، الْمَشْيُ عَلَى سَكِينَةٍ مَا لَمْ يَضِقِ الْوَقْتُ، وَلَا يَسْعَى إِلَيْهَا، وَلَا إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَرْكَبُ فِي جُمُعَةٍ، وَلَا عِيدٍ، وَلَا جِنَازَةٍ، وَلَا عِيَادَةِ مَرِيضٍ، إِلَّا لِعُذْرٍ. وَإِذَا رَكِبَ، سَيَّرَهَا عَلَى سُكُونٍ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ (الْفَاتِحَةِ) : سُورَةَ (الْجُمُعَةِ) . وَفِي الثَّانِيَةِ: (الْمُنَافِقِينَ) . وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: إِنَّهُ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) . وَفِي الثَّانِيَةِ: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قُلْتُ: عَجَبٌ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كَيْفَ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ ذَاتَ قَوْلَيْنِ، قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ؟ ! وَالصَّوَابُ: أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ. فَقَدْ ثَبَتَ كُلُّ ذَلِكَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ يَقْرَأُ هَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ، وَهَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ، أَنَّ الرَّبِيعَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ رَاوِي الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ قَالَ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَخْتَارُ (الْجُمُعَةَ) وَ (الْمُنَافِقِينَ) وَلَوْ قَرَأَ (سَبِّحْ) وَ (هَلْ أَتَاكَ) كَانَ حَسَنًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَلَوْ نَسِيَ سُورَةَ (الْجُمُعَةِ) فِي الْأُولَى، قَرَأَهَا مَعَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ قَرَأَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الْأُولَى، قَرَأَ (الْجُمُعَةَ) فِي الثَّانِيَةِ. قُلْتُ: وَلَا يُعِيدُ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الثَّانِيَةِ. وَقَوْلُهُ: لَوْ نَسِيَ (الْجُمُعَةَ) فِي الْأُولَى، مَعْنَاهُ: تَرَكَهَا، سَوَاءٌ كَانَ نَاسِيًا، أَوْ عَامِدًا، أَوْ جَاهِلًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ: يَنْبَغِي لِلدَّاخِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ إِلَّا إِذَا كَانَ إِمَامًا، أَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةٌ لَا يَصِلُهَا بِغَيْرِ تَخَطٍّ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ أَحَدًا لِيَجْلِسَ مَوْضِعَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَأْخُذُ لَهُ مَوْضِعًا، فَإِذَا جَاءَ يُنَحِّي الْمَبْعُوثَ. وَإِنْ فُرِشَ لِرَجُلٍ ثَوْبٌ، فَجَاءَ آخَرُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يُنَحِّيَهُ وَيَجْلِسَ مَكَانَهُ. قَالَ فِي (الْبَيَانِ) : وَلَا يَرْفَعُهُ، لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي ضَمَانِهِ. وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَضَرَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِذِكْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. وَيُكْثِرُ الدُّعَاءَ يَوْمَهَا، رَجَاءَ أَنْ يُصَادِفَ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ. قُلْتُ: اخْتُلِفَ فِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ عَلَى مَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ. وَالصَّوَابُ مِنْهَا: مَا ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَةِ (الْكَهْفِ) يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا. وَلَا يَصِلُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةٍ، بَلْ يَفْصِلُ بِالتَّحَوُّلِ إِلَى مَكَانٍ، أَوْ بِكَلَامٍ وَنَحْوِهِ.

فَرْعٌ: يُكْرَهُ الْبَيْعُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَبْلَ الصَّلَاةِ. فَإِذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَشَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْأَذَانِ، حَرُمَ الْبَيْعُ. وَلَوْ تَبَايَعَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ دُونَ الْآخَرِ، أَثِمَا جَمِيعًا. وَلَا يُكْرَهُ الْبَيْعُ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَإِذَا حَرُمَ فَبَاعَ، صَحَّ بَيْعُهُ. قُلْتُ: غَيْرُ الْبَيْعِ مِنَ الصَّنَائِعِ وَالْعُقُودِ وَغَيْرِهَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ. وَلَوْ أُذِّنَ قَبْلَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، لَمْ يَحْرُمِ الْبَيْعُ. وَحَيْثُ حَرَّمْنَا الْبَيْعَ، فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ جَلَسَ لَهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ. أَمَّا إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ، فَقَامَ يَقْصِدُ الْجُمُعَةَ، فَبَايَعَ فِي طَرِيقِهِ وَهُوَ يَمْشِي، أَوْ قَعَدَ فِي الْجَامِعِ وَبَاعَ، فَلَا يَحْرُمُ. صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، لَكِنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ، عَلَى الْأَظْهَرِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ: لَا بَأْسَ عَلَى الْعَجَائِزِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ إِذَا أَذِنَ أَزْوَاجُهُنَّ، وَيَحْتَرِزْنَ عَنِ الطِّيبِ وَالتَّزَيُّنِ. قُلْتُ: يُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، أَوْ يَعْبَثَ حَالَ ذَهَابِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِهِ لَهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي (الْأُمِّ) وَالْأَصْحَابُ: إِذَا قَعَدَ إِنْسَانٌ فِي

الْجَامِعِ فِي مَوْضِعِ الْإِمَامِ، أَوْ فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أُمِرَ بِالْقِيَامِ. وَكَذَا لَوْ قَعَدَ وَوَجْهُهُ إِلَى النَّاسِ وَالْمَكَانُ ضَيِّقٌ، أُمِرَ بِالتَّحَوُّلِ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ فِي (الْبَيَانِ) : وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ. . .) [الْأَحْزَابِ: 56] جَازَ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَرْفَعَ بِهَا صَوْتَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

كتاب صلاة الخوف

كِتَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ اعْلَمْ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْخَوْفَ يَقْتَضِي صَلَاةً مُسْتَقِلَّةً، كَقَوْلِنَا: صَلَاةُ الْعِيدِ، وَلَا أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَغَيُّرِ قَدْرِ الصَّلَاةِ، وَوَقْتِهَا، كَقَوْلِنَا: صَلَاةُ السَّفَرِ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الْفَرَائِضِ، بَلْ فِي إِقَامَتِهَا بِالْجَمَاعَةِ، وَاحْتِمَالِ أُمُورٍ فِيهَا كَانَتْ لَا تُحْتَمَلُ. ثُمَّ هُوَ فِي الْأَكْثَرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إِقَامَةِ مُطْلَقِ الْفَرَائِضِ، بَلْ فِي إِقَامَتِهَا بِالْجَمَاعَةِ كَمَا نُفَصِّلُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: صَلَاةُ الْخَوْفِ مَنْسُوخَةٌ، وَمَذْهَبُنَا: أَنَّهَا بَاقِيَةٌ. وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ. الْأَوَّلُ: صَلَاةُ بَطْنِ نَخْلٍ. وَهِيَ: أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ فِرْقَتَيْنِ. فِرْقَةً فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَفِرْقَةً يُصَلِّي بِهَا جَمِيعَ الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ رَكْعَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا، فَإِذَا سَلَّمَ بِهِمْ، ذَهَبُوا إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الْفِرْقَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ مَرَّةً ثَانِيَةً، تَكُونُ لَهُ نَافِلَةً وَلَهُمْ فَرِيضَةً. وَإِنَّمَا يُنْدَبُ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ وَالْعَدُوُّ قَلِيلٌ، وَأَنْ يُخَافَ هُجُومُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَجُوزُ بِغَيْرِ خَوْفٍ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الصَّلَاةَ هَكَذَا إِنَّمَا يُنْدَبُ إِلَيْهَا وَتُخْتَارُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: صَلَاةُ عُسْفَانَ. وَهِيَ: أَنْ يُرَتِّبَهُمُ الْإِمَامُ صَفَّيْنِ وَيُحْرِمَ بِالْجَمِيعِ، فَيُصَلُّوا مَعَهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الِاعْتِدَالِ عَنْ رُكُوعِ الْأُولَى، فَإِذَا سَجَدَ، سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الثَّانِي، وَلَمْ يَسْجُدِ الصَّفُّ الْأَوَّلُ، بَلْ يَحْرُسُوا لَهُمْ قِيَامًا، فَإِذَا قَامَ الْإِمَامُ وَالسَّاجِدُونَ، سَجَدَ أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَلَحِقُوهُ، وَقَرَأَ الْجَمِيعُ مَعَهُ وَرَكَعُوا وَاعْتَدَلُوا، فَإِذَا سَجَدَ، سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْحَارِسُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَحَرَسَ الْآخَرُونَ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، سَجَدُوا، وَلَحِقُوهُ وَتَشَهَّدُوا كُلُّهُمْ مَعَهُ وَسَلَّمَ بِهِمْ. هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (الْمُخْتَصَرِ) . وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ، فَأَخَذَ كَثِيرُونَ بِهَا، مِنْهُمْ أَصْحَابُ الْقَفَّالِ، وَتَابَعَهُمُ الْغَزَّالِيُّ، وَقَالُوا: هِيَ مَنْقُولَةٌ عَنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ بِعُسْفَانَ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ خِلَافُ الثَّابِتِ فِي السُّنَّةِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ أَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ سَجَدُوا مَعَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالصَّفَّ الثَّانِي سَجَدُوا مَعَهُ الثَّانِيَةَ، وَالشَّافِعِيُّ عَكَسَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَالْمَذْهَبُ مَا ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ قَوْلِي مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ فَاطْرَحُوهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا هِيَ صَلَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُسْفَانَ، بَلْ قَالَ: وَهَذَا نَحْوُ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُسْفَانَ، فَأَشْبَهَ تَجْوِيزُهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُمَا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ: جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَيْفِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ، فَأَشَارَ إِلَى جَوَازِهِمَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الْمَشْهُورُ: أَنَّ الْحِرَاسَةَ فِي السُّجُودِ خَاصَّةً، وَأَنَّ الْجَمِيعَ يَرْكَعُونَ مَعَهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُمْ يَحْرُسُونَ فِي الرُّكُوعِ أَيْضًا، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لِهَذِهِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ. أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ

الْقِبْلَةِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى جَبَلٍ، أَوْ مُسْتَوًى مِنَ الْأَرْضِ لَا يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ عَنْ أَبْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ كَثْرَةٌ، لِتَسْجُدَ طَائِفَةٌ وَتَحْرُسَ أُخْرَى، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى صَفَّيْنِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ صُفُوفًا كَثِيرَةً، ثُمَّ يَحْرُسُ صَفَّانِ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْرُسَ جَمِيعُ مَنْ فِي الصَّفِّ، بَلْ لَوْ حَرَسَتْ فِرْقَتَانِ مِنْ صَفٍّ وَاحِدٍ عَلَى الْمُنَاوَبَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، جَازَ. فَلَوْ تَوَلَّى الْحِرَاسَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ، فَفِي صَلَاةِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ. فَرْعٌ لَوْ تَأَخَّرَ الْحَارِسُونَ أَوَّلًا إِلَى الصَّفِّ الثَّانِي فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَقَدَّمَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ لِيَحْرُسُوا، جَازَ إِذَا لَمْ تَكْثُرْ أَفْعَالُهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّفِّ الثَّانِي خُطْوَتَيْنِ، وَيَتَأَخَّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ خُطْوَتَيْنِ وَيَنْفُذَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ. وَهَلْ هَذَا التَّقَدُّمُ أَفْضَلُ، أَمْ مُلَازَمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مَكَانَهُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَالْمَسْعُودِيُّ، وَالْغَزَّالِيُّ، وَآخَرُونَ: التَّقَدُّمُ أَفْضَلُ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: الْمُلَازَمَةُ أَفْضَلُ. وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا أَدَلُّ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ يُحْرَسُ فِي الْأَوَّلِ. فَأَمَّا عَلَى اخْتِيَارِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ يَسْجُدُونَ فِي الْأُولَى، فَإِنَّ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَتَقَدَّمُ الصَّفُّ الثَّانِي، وَيَتَأَخَّرُ الْأَوَّلُ فَتَكُونُ الْحِرَاسَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِمَّنْ خَلْفَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ وَرَدَ الْخَبَرُ. قُلْتُ: ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) تَقَدُّمُ الصَّفِّ الثَّانِي، وَتَأَخُّرُ الْأَوَّلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: صَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ. وَهِيَ: تَارَةً تَكُونُ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ، إِمَّا الصُّبْحُ، وَإِمَّا مَقْصُورَةٌ. وَتَارَةً فِي ذَاتِ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ. فَأَمَّا ذَاتُ رَكْعَتَيْنِ، فَيُفَرِّقُ الْإِمَامُ النَّاسَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَيَنْحَازُ بِفِرْقَةٍ إِلَى حَيْثُ لَا يَبْلُغُهُمْ سِهَامُ الْعَدُوِّ، فَيَفْتَحُ بِهِمُ الصَّلَاةَ وَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً. هَذَا الْقَدْرُ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ. وَفِيمَا يَفْعَلُ بَعْدَ ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ إِذَا قَامَ الْإِمَامُ إِلَى الثَّانِيَةِ، خَرَجَ الْمُقْتَدُونَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا وَذَهَبُوا إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءُوا أُولَئِكَ فَاقْتَدَوْا بِهِ فِي الثَّانِيَةِ. وَيُطِيلُ الْإِمَامُ الْقِيَامَ إِلَى لُحُوقِهِمْ، فَإِذَا لَحِقُوهُ، صَلَّى بِهِمُ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا وَأَتَمُّوا الثَّانِيَةَ وَهُوَ يَنْتَظِرُهُمْ، فَإِذَا لَحِقُوهُ، سَلَّمَ بِهِمْ. هَذِهِ رِوَايَةُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ، لَمْ يُتِمَّ الْمُقْتَدُونَ بِهِ الصَّلَاةَ، بَلْ يَذْهَبُونَ إِلَى مَكَانِ إِخْوَانِهِمْ وَجَاءَ الْعَدُوُّ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَيَقِفُونَ سُكُوتًا، وَتَجِيءُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ فَتُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَهُ الثَّانِيَةَ. فَإِذَا سَلَّمَ، ذَهَبَتْ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَ الْأَوَّلُونَ إِلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَذَهَبُوا إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى إِلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّوا. وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ. ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، اخْتَارَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى لِسَلَامَتِهَا مِنْ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ، وَلِأَنَّهَا أَحْوَطُ لِأَمْرِ الْحَرْبِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ: أَنَّهُ إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، تَشَهَّدَ بِهِمْ وَسَلَّمَ، ثُمَّ هُمْ يَقُومُونَ إِلَى تَمَامِ صَلَاتِهِمْ، كَالْمَسْبُوقِ، وَقَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُمْ يَقُومُونَ إِذَا بَلَغَ الْإِمَامُ مَوْضِعَ السَّلَامِ وَلَمْ يُسَلِّمْ بَعْدُ. وَهَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى صِفَةِ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ؟ قَوْلَانِ. الْمَشْهُورُ: الصِّحَّةُ، لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْآخَرِ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَإِنَّ النَّسْخَ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَيْسَتْ عَزِيمَةً لَا بُدَّ مِنْهَا، بَلْ لَوْ صَلَّى بِطَائِفَةٍ، وَصَلَّى غَيْرُهُ بِالْبَاقِينَ، أَوْ صَلَّى بَعْضُهُمْ، أَوْ كُلُّهُمْ مُنْفَرِدِينَ، جَازَ قَطْعًا، لَكِنْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْمَحُونَ

بِتَرْكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَرَتُّبِهِمْ هَكَذَا، لِتُحَصِّلَ طَائِفَةٌ فَضِيلَةَ التَّكْبِيرِ مَعَهُ، وَالْأُخْرَى فَضِيلَةَ التَّسْلِيمِ مَعَهُ. وَهَذَا النَّوْعُ مَوْضِعُهُ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، أَوْ فِيهَا وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَائِلٌ يَمْنَعُ رُؤْيَتَهُمْ لَوْ هَجَمُوا. فَرْعٌ الطَّائِفَةُ الْأُولَى يَنْوُونَ مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ إِذَا قَامُوا مَعَهُ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَانْتَصَبُوا قِيَامًا. وَلَوْ فَارَقُوهُ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنَ السُّجُودِ، جَازَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ، فَإِذَا قَامُوا إِلَى رَكْعَتِهِمُ الثَّانِيَةِ، لَا يَنْفَرِدُونَ عَنِ الْإِمَامِ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَفِيهِ شَيْءٌ يَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَرْعٌ إِذَا قَامَ الْإِمَامُ إِلَى الثَّانِيَةِ، هَلْ يَقْرَأُ فِي انْتِظَارِهِ مَجِيءَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، أَمْ يُؤَخِّرُ لِيَقْرَأَ مَعَهُمْ؟ فِيهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ بَعْدَهَا، فَإِذَا جَاءُوا قَرَأَ مِنَ السُّورَةِ قَدْرَ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةً قَصِيرَةً، ثُمَّ رَكَعَ. وَالثَّانِي: لَا يَقْرَأُ شَيْئًا، بَلْ يَشْتَغِلُ بِمَا شَاءَ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: يَقْرَأُ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَرَادَ قِرَاءَةَ سُورَةٍ طَوِيلَةٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، قَرَأَ وَمَدَّهَا، وَإِنْ أَرَادَ قَصِيرَةً، انْتَظَرَهُمْ. وَلَوْ لَمْ يَنْتَظِرْهُمْ وَأَدْرَكُوهُ فِي الرُّكُوعِ، أَدْرَكُوا الرَّكْعَةَ. وَهَلْ

يَتَشَهَّدُ فِي انْتِظَارِهِ فَرَاغَ الثَّانِيَةِ مِنْ رَكْعَتِهِمْ إِذَا قُلْنَا: يُفَارِقُونَهُ، قَبْلَ التَّشَهُّدِ؟ فِيهِ طُرُقٌ. الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ، وَقِيلَ: فِيهِ الطَّرِيقَانِ الْأَوَّلَانِ فِي الْقِرَاءَةِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا قُلْنَا: لَا يَتَشَهَّدُ، اشْتَغَلَ فِي مُدَّةِ الِانْتِظَارِ بِالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخَفِّفَ الْأُولَى، وَيُسْتَحَبُّ لِلطَّائِفَتَيْنِ التَّخْفِيفُ فِيمَا يَنْفَرِدُونَ بِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ بِهِمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي الْأَمْنِ هَلْ تَصِحُّ؟ أَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ، فَفِيهَا طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: صَحِيحَةٌ قَطْعًا، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: فِي صِحَّتِهَا قَوْلَانِ، لِأَنَّهُ يَنْتَظِرُهُمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهَا الْقَوْلَانِ فِيمَنْ فَارَقَ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنْ قُلْنَا: صَلَاةُ الْإِمَامِ تَبْطُلُ، بَطَلَ اقْتِدَاؤُهُمْ، وَإِلَّا، انْعَقَدَ، ثُمَّ تُبْنَى صَلَاتُهُمْ إِذَا قَامُوا إِلَى الثَّانِيَةِ عَلَى خِلَافٍ يَأْتِي أَنَّهُمْ مُنْفَرِدُونَ بِهَا، أَمْ فِي حُكْمِ الِاقْتِدَاءِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الِانْفِرَادُ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَالثَّانِي: الِاقْتِدَاءُ بَعْدَ الِانْفِرَادِ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالثَّانِي، بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، لِأَنَّهُمُ انْفَرَدُوا بِرَكْعَةٍ وَهُمْ فِي الْقُدْوَةِ. وَلَوْ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ فِي الْأَمْنِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، بَطَلَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ قَطْعًا. فَرْعٌ إِذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْخَوْفِ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَعَكْسُهُ. وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ.

فَإِنْ قُلْنَا: بِالْأُولَى رَكْعَةً، فَارَقَتْهُ إِذَا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَتُتِمُّ لِنَفْسِهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي ذَاتِ الرَّكْعَتَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ، جَازَ أَنْ يَنْتَظِرَ الثَّانِيَةَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَجَازَ أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ فِي الْقِيَامِ الثَّالِثِ. وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الِانْتِظَارُ فِي الْقِيَامِ. وَعَلَى هَذَا هَلْ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ، أَمْ يَصْبِرُ إِلَى لُحُوقِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ. فَرْعٌ إِذَا كَانَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ رُبَاعِيَّةً، بِأَنْ كَانَتْ فِي الْحَضَرِ، أَوْ أَرَادُوا الْإِتْمَامَ فِي السَّفَرِ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، وَيُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَنْتَظِرَ الثَّانِيَةَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، أَمْ فِي الْقِيَامِ الثَّالِثِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْمَغْرِبِ. وَيَتَشَهَّدُ بِكُلِّ طَائِفَةٍ بِلَا خِلَافٍ. فَلَوْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ، وَصَلَّى بِكُلِّ فِرْقَةٍ رَكْعَةً، بِأَنْ صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً، ثُمَّ فَارَقَتْهُ، وَصَلَّتْ ثَلَاثًا وَسَلَّمَتْ، وَانْتَظَرَ قَائِمًا فَرَاغَهَا وَذَهَابَهَا وَمَجِيءَ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ صَلَّى بِالثَّانِيَةِ الثَّانِيَةَ، وَانْتَظَرَ جَالِسًا فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، أَوْ قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ صَلَّى بِالثَّالِثَةِ الثَّالِثَةَ، وَانْتَظَرُوا فِي قِيَامِ الرَّابِعَةِ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ صَلَّى بِالرَّابِعَةِ الرَّابِعَةَ، وَانْتَظَرَهُمْ فِي التَّشَهُّدِ، فَأَتَمُّوا وَسَلَّمَ بِهِمْ، فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ، فَعَلَى هَذَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: شَرْطُهُ الْحَاجَةُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ، فَهُوَ كَفِعْلِهِمْ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ، كَالثَّانِيَةِ فِي ذَاتِ الرَّكْعَتَيْنِ، فَيَعُودُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ قَبْلَ التَّشَهُّدِ، أَوْ يَتَشَهَّدُونَ مَعَهُ، أَوْ يَقُومُونَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ إِلَى مَا عَلَيْهِمْ، وَتَتَشَهَّدُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مَعَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي تُفَارِقُهُ قَبْلَ التَّشَهُّدِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ، وَفِي الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ فَارَقَ الْإِمَامَ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، فَصَلَاةُ الْإِمَامِ

بَاطِلَةٌ. قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: تَبْطُلُ بِالِانْتِظَارِ الْوَاقِعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: بِالْوَاقِعِ فِي الرَّابِعَةِ. فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ بِمَعْنَى الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى قَدْرِ رَكْعَةٍ مِنَ انْتِظَارِهِ الثَّانِي. وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ، فَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ صَحِيحَةٌ، لِأَنَّهُمْ فَارَقُوهُ قَبْلَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ، وَصَلَاةُ الرَّابِعَةِ بَاطِلَةٌ، إِنْ عَلِمَتْ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّالِثَةُ كَالرَّابِعَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَكَالْأَوَّلَيْنِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ. قُلْتُ: جَزَمَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ بِصِحَّةِ صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، بَلْ فِيهِمَا الْقَوْلَانِ فِيمَنْ فَارَقَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، كَمَا قُلْنَا فِي الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ عَلَى قَوْلِ صِحَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَصَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَآخَرُونَ وَجْهًا ضَعِيفًا أَنَّ الْمُبْطِلَ لِلطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ انْتِظَارٌ رَابِعٌ وَإِنْ جَهِلَتْ كَوْنَهُ مُبْطِلًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ فَرَّقَهُمْ فِي الْمَغْرِبِ ثَلَاثَ فِرَقٍ، وَصَلَّى بِكُلِّ فِرْقَةٍ رَكْعَةً، وَقُلْنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، فَصَلَاةُ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ صَحِيحَةٌ عِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَتَبْطُلُ الثَّالِثَةُ إِنْ عَلِمُوا بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَإِذَا اخْتُصِرَتِ الرُّبَاعِيَّةُ، قُلْتُ: فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: صِحَّةُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا. وَالثَّانِي: صِحَّةُ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَالطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: بُطْلَانُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَصِحَّةُ صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ. وَالْفَرْقُ فِي حَقِّ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمُوا بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، أَمْ لَا. وَالرَّابِعُ: صِحَّةُ الثَّالِثَةِ لَا مَحَالَةَ، وَالْبَاقِي، كَالْقَوْلِ الثَّالِثِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ. قُلْتُ: وَقَوْلٌ خَامِسٌ: وَهُوَ بُطْلَانُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ. وَلَوْ فَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَصَلَّى بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً، بِالثَّانِيَةِ ثَلَاثًا، أَوْ عَكْسُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: صَحَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَجَمِيعُهُمْ بِلَا خِلَافٍ، وَكَانَتْ مَكْرُوهَةً، وَيَسْجُدُ الْإِمَامُ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ سُجُودَ السَّهْوِ، لِلْمُخَالَفَةِ

بِالِانْتِظَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ. وَقُلْنَا: لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ، فَعَلَيْهِمْ سُجُودُ السَّهْوِ. وَقَالَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَكْرُوهَةٌ، لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ قَالَ: وَهَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: إِذَا فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ تَصِحُّ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَقَدِ انْتَظَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَيَكُونُ كَمَنْ قَنَتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. قَالَ: وَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ، فَعَلَى التَّفْصِيلِ فِيمَا إِذَا فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شَاذٌّ، وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْخَوْفُ فِي بَلَدٍ وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ: أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا عَلَى هَيْئَةِ صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَقِيلَ: فِي جَوَازِهَا قَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. ثُمَّ لِلْجَوَازِ شَرْطَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْطُبَ بِجَمِيعِهِمْ، ثُمَّ يُفَرِّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، أَوْ يَخْطُبَ بِفِرْقَةٍ، وَيَجْعَلَ مِنْهَا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا. فَأَمَّا لَوْ خَطَبَ بِفِرْقَةٍ وَصَلَّى بِأُخْرَى، فَلَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْفِرْقَةُ الْأُولَى أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا، فَلَوْ نَقَصَتْ عَنِ الْأَرْبَعِينَ، لَمْ تَنْعَقِدِ الْجُمُعَةُ. وَلَوْ نَقَصَتِ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَرْبَعِينَ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَضُرُّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْخِلَافِ فِي الِانْفِضَاضِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يَضُرُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. أَمَّا لَوْ خَطَبَ بِهِمْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةَ عُسْفَانَ، فَهِيَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ. وَلَا تَجُوزُ كَصَلَاةِ بَطْنِ نَخْلٍ، إِذْ لَا تُقَامُ جُمُعَةٌ بَعْدَ جُمُعَةٍ.

فَرْعٌ صَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ بَطْنِ نَخْلٍ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا أَعْدَلُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَلِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَتِلْكَ صَلَاةُ مُفْتَرِضٍ خَلْفَ مُتَنَفِّلٍ، وَفِي صِحَّتِهِ خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ. وَالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ -: بَطْنُ النَّخْلِ أَفْضَلُ، لِتَحْصُلَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ بِالتَّمَامِ. فَرْعٌ إِذَا سَهَا بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ فِي صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ، نَظَرَ، إِنْ سَهَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَسَهْوُهَا مَحْمُولٌ، لِأَنَّهَا مُقْتَدِيَةٌ، وَسَهْوُهَا فِي الثَّانِيَةِ غَيْرُ مَحْمُولٍ، لِانْقِطَاعِهَا عَنِ الْإِمَامِ. وَفِي ابْتِدَاءِ الِانْقِطَاعِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: مِنَ الِانْتِصَابِ قَائِمًا. وَالثَّانِي: مِنْ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ الثَّانِي، فَعَلَى هَذَا لَوْ رَفَعَ رَأَسَهُ وَهُمْ بَعْدُ فِي السُّجُودِ فَسَهَوْا، فَغَيْرُ مَحْمُولٍ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُمْ يَنْوُونَ الْمُفَارَقَةَ عِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ، أَوْ الِانْتِصَابِ، فَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ فِي ابْتِدَاءِ الِانْقِطَاعِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى وَقْتِ نِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ، فَسَهْوُهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى غَيْرُ مَحْمُولٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي الْمَزْحُومِ فِي الْجُمُعَةِ إِذَا سَهَا فِي وَقْتِ تَخَلُّفِهِ، وَأَجْرَوْهُمَا فِيمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا، فَسَهَا ثُمَّ اقْتَدَى وَتَمَّمَهَا مَأْمُومًا وَجَوَّزْنَاهُ، وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ هَذَا، وَقَالَ: الْوَجْهُ: الْقَطْعُ بِأَنَّ حُكْمَ السَّهْوِ لَا يَرْتَفِعُ بِالْقُدْوَةِ اللَّاحِقَةِ. هَذَا إِذَا قُلْنَا: الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ يَقُومُونَ لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ لِلتَّشَهُّدِ، فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّهُمْ

يَقُومُونَ بَعْدَ سَلَامِهِ، فَسَهْوُهُمْ فِي الثَّانِيَةِ غَيْرُ مَحْمُولٍ قَطْعًا، كَالْمَسْبُوقِ. أَمَّا إِذَا سَهَا الْإِمَامُ، فَيَنْظُرُ، إِنْ سَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، لَحِقَ سَهْوُهُ الطَّائِفَتَيْنِ، فَالْأُولَى تَسْجُدُ إِذَا تَمَّتْ صَلَاتُهُمْ، فَلَوْ سَهَا بَعْضُهُمْ فِي رَكْعَتِهِ الثَّانِيَةِ، فَهَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى سَجْدَتَيْنِ، أَمْ يَسْجُدُ أَرْبَعًا؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي بَابِهِ، وَالْأَصَحُّ سَجْدَتَانِ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ يَسْجُدُونَ مَعَ الْإِمَامِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ. وَإِنْ سَهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، لَمْ يَلْحَقْ سَهْوُهُ الطَّائِفَةَ الْأُولَى، وَتَسْجُدُ الثَّانِيَةُ مَعَهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ. وَلَوْ سَهَا فِي انْتِظَارِهِ إِيَّاهُمْ، فَهَلْ يَلْحَقُهُمْ ذَلِكَ السَّهْوُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُحْمَلُ سَهْوُهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ فَرْعٌ هَلْ يَجِبُ حَمْلُ السِّلَاحِ فِي صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَعُسْفَانَ، وَبَطْنِ نَخْلٍ؟ فِيهِ طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: يُسْتَحَبُّ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالِاسْتِحْبَابِ. وَالثَّالِثُ: بِالْإِيجَابِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ يَجِبُ، وَمَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، كَالرُّمْحِ وَالْقَوْسِ، لَا يَجِبُ. وَلِلْخِلَافِ شُرُوطٌ. أَحَدُهَا طَهَارَةُ الْمَحْمُولِ، فَالنَّجِسُ كَالسَّيْفِ الَّذِي عَلَيْهِ دَمٌ، أَوْ سَقْيُ سُمٍّ نَجِسٍ، وَالنَّبْلِ الْمُرَيَّشِ بِرِيشِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، أَوْ بِرِيشِ مَيْتَةٍ، لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا بَعْضَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ كَالْبَيْضَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْجَبْهَةِ، لَمْ يُحْمَلْ بِلَا خِلَافٍ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتَأَذَّى بِهِ أَحَدٌ، كَالرُّمْحِ فِي وَسَطِ الْقَوْمِ فَيُكْرَهُ. الرَّابِعُ: أَنْ يُخَافَ مِنْ وَضْعِ السِّلَاحِ خَطَرٌ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِمَالِ، فَأَمَّا إِذَا تَعَرَّضَ لِلْهَلَاكِ ظَاهِرًا لَوْ تَرَكَهُ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ قَطْعًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ تَرْجَمُوا الْمَسْأَلَةَ بِحَمْلِ السِّلَاحِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَيْسَ الْحَمْلُ مُتَعَيِّنًا، بَلْ لَوْ وَضَعَ السَّيْفَ عَنْ يَدَيْهِ، وَكَانَ مَدُّ الْيَدِ إِلَيْهِ فِي السُّهُولَةِ، كَمَدِّهَا إِلَيْهِ

وَهُوَ مَحْمُولٌ، كَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْحَمْلِ قَطْعًا. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: يَقَعُ السِّلَاحُ عَلَى السَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ، وَالْقَوْسِ، وَالرُّمْحِ، وَالنُّشَّابِ وَنَحْوِهَا. فَأَمَّا التُّرْسُ وَالدِّرْعُ، فَلَيْسَ بِسِلَاحٍ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا حَمْلَ السِّلَاحِ فَتَرَكَهُ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ قَطْعًا. قُلْتُ: وَيَجُوزُ تَرْكُ السِّلَاحِ لِلْعُذْرِ بِمَرَضٍ، أَوْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ فِي (الْمُخْتَصَرِ) : أَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، يَعْنِي صَلَاةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَفِي وَجْهٍ: الْعَدُوُّ ثَلَاثَةٌ، وَالثَّلَاثَةُ أَقَلُّ الطَّائِفَةِ. وَلَوْ صَلَّى بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ، جَازَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. النَّوْعُ الرَّابِعُ: صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ. فَإِذَا الْتَحَمَ الْقِتَالُ وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَرْكِهِ بِحَالٍ، لِقِلَّتِهِمْ، وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، أَوِ اشْتَدَّ الْخَوْفُ وَإِنْ لَمْ يَلْتَحِمِ الْقِتَالُ، فَلَمْ يَأْمَنُوا أَنْ يَرْكَبُوا أَكْتَافَهُمْ، لَوْ وَلَّوْا عَنْهُمْ، أَوِ انْقَسَمُوا، صَلَّوْا بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، وَلَيْسَ لَهُمُ التَّأْخِيرُ عَنِ الْوَقْتِ. وَيُصَلُّونَ رُكْبَانًا وَمُشَاةً، وَلَهُمْ تَرْكُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ إِذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ، كَالْمُصَلِّينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَفِيهَا. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ مِنَ الِانْفِرَادِ، كَحَالَةِ الْأَمْنِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْ تَرْكِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ إِذَا كَانَ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ، فَلَوِ انْحَرَفَ عَنِ الْقِبْلَةِ بِجِمَاحِ الدَّابَّةِ، وَطَالَ الزَّمَانُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، اقْتَصَرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ بِهِمَا وَجَعَلُوا السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَاشِي اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الرُّكُوعِ وَلَا السُّجُودِ، وَلَا التَّحَرُّمُ، وَلَا وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ يَخَافُ الْهَلَاكَ، بِخِلَافِ الْمُتَنَفِّلِ فِي السَّفَرِ، وَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الصِّيَاحِ بِكُلِّ حَالٍ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَا بَأْسَ بِالْأَعْمَالِ الْقَلِيلَةِ، فَإِنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ، فَفِيهِ أَوْلَى.

وَأَمَّا الْأَفْعَالُ الْكَثِيرَةُ، كَالطَّعَنَاتِ، وَالضَّرَبَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ، فَهِيَ مُبْطِلَةٌ إِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا، فَإِنِ احْتَاجَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَالْقَفَّالُ: لَا تُبْطِلُ. وَالثَّانِي: تُبْطِلُ. حَكَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ. وَالثَّالِثُ: تُبْطِلُ إِنْ كَانَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُبْطِلُ فِي أَشْخَاصٍ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَوْجُهِ بِالْأَقْوَالِ. فَرْعٌ لَوْ تَلَطَّخَ سِلَاحُهُ بِالدَّمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُلْقِيَهُ، أَوْ يَجْعَلَهُ فِي قِرَابِهِ تَحْتَ رِكَابِهِ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ إِنِ احْتَمَلَ الْحَالُ ذَلِكَ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى إِمْسَاكِهِ، فَلَهُ إِمْسَاكُهُ، ثُمَّ هَلْ يَقْضِي؟ نَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ يَقْضِي لِنُدُورِ عُذْرِهِ ثُمَّ مَنَعَهُ، وَقَالَ: تَلَطُّخُ السِّلَاحِ بِالدَّمِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْعَامَّةِ فِي حَقِّ الْمُقَاتِلِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَكْلِيفِهِ تَنْحِيَةَ السِّلَاحِ، فَتِلْكَ النَّجَاسَةُ ضَرُورِيَّةٌ فِي حَقِّهِ كَنَجَاسَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي حَقِّهَا، ثُمَّ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ مُرَتَّبَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ صَلَّى فِي مَوْضِعِ تَنَجُّسٍ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقَضَاءِ لِإِلْحَاقِ الشَّرْعِ الْقِتَالَ بِسَائِرِ مُسْقِطَاتِ الْقَضَاءِ فِي سَائِرِ الْمُحْتَمَلَاتِ، كَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ، وَالْإِيمَاءِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. فَرْعٌ تُقَامُ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ، وَالْكُسُوفَيْنِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ، لِأَنَّهُ يُخَافُ فَوْتُهُمَا، وَلَا تُقَامُ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ.

فَرْعٌ تَجُوزُ صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَتَجُوزُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَلِأَهْلِ الْعَدْلِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ، وَلِلرُّفْقَةِ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَلَا تَجُوزُ لِلْبُغَاةِ وَالْقُطَّاعِ، وَلَوْ قُصِدَ نَفْسُ رَجُلٍ، أَوْ حَرِيمُهُ، أَوْ نَفْسُ غَيْرِهِ، أَوْ حَرِيمُهُ، وَأُشْغِلَ بِالدَّفْعِ، صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ. وَلَوْ قُصِدَ مَالُهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ حَيَوَانًا، فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: جَوَازُهَا. وَالثَّانِي: لَا. أَمَّا إِذَا وَلَّوْا ظُهُورَهُمُ الْكُفَّارَ مُنْهَزِمِينَ، فَنَنْظُرُ، إِنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ مِنْ كَافِرَيْنِ، أَوْ كَانَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، جَازَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ. وَلَوِ انْهَزَمَ الْكُفَّارُ وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، بِحَيْثُ لَوْ ثَبَتُوا وَأَكْمَلُوا الصَّلَاةَ، فَاتَهُمُ الْعَدُوُّ، لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الصَّلَاةُ، وَإِنْ خَافُوا كَمِينًا أَوْ كَرَّتَهُمْ، جَازَتْ. فَرْعٌ الرُّخْصَةُ فِي هَذَا النَّوْعِ لَا تَخْتَصُّ بِالْقِتَالِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْخَوْفِ مُطْلَقًا. فَلَوْ هَرَبَ فِي سَبِيلٍ، أَوْ حَرِيقٍ وَلَمْ يَجِدْ مَعْدِلًا عَنْهُ، أَوْ هَرَبَ مِنْ سَبُعٍ، فَلَهُ صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ. وَالْمَدْيُونُ الْمُعْسِرُ الْعَاجِزُ عَنْ بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ وَلَا يُصَدِّقُهُ الْمُسْتَحِقُّ، وَلَوْ ظَفَرَ بِهِ حَبَسَهُ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا هَارِبًا، عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ عَنِ (الْإِمْلَاءِ) أَنَّ مَنْ طُلِبَ لَا لِيُقْتَلَ، بَلْ لِيُحْبَسَ أَوْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ: لَا يُصَلِّيهَا. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ يَرْجُو الْعَفْوَ إِذَا سَكَنَ الْغَضَبُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَهُ أَنْ يَهْرُبَ وَيُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ فِي هَرَبِهِ، وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ جَوَازَ هَرَبِهِ بِهَذَا التَّوَقُّعِ.

فَرْعٌ الْمُحْرِمُ إِذَا ضَاقَ وَقْتُ وُقُوفِهِ، وَخَافَ فَوْتَ الْحَجِّ، إِنْ صَلَّى مُتَمَكِّنًا، فِيهِ أَوْجُهٌ لِلْقَفَّالِ. أَحَدُهَا: يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ وَيُحَصِّلُ الْوُقُوفَ، لِأَنَّ قَضَاءَ الْحَجِّ صَعْبٌ. وَالثَّانِي: يُصَلِّي صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ فَيُحَصِّلُ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ. وَالثَّالِثُ: تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْأَرْضِ مُسْتَقِرًّا، وَيَفُوتُ الْحَجُّ، لِعِظَمِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَلَا يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ، لِأَنَّهُ مُحَصِّلٌ لَا هَارِبٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَجْهُ أَوْفَقَ لِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّا جَوَّزْنَا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِأُمُورٍ لَا تُقَارِبُ الْمَشَقَّةُ فِيهَا هَذِهِ الْمَشَقَّةَ، كَالتَّأْخِيرِ لِلْجَمْعِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوْ رَأَوْا سَوَادًا إِبِلًا أَوْ شَجَرًا، فَظَنُّوهُ عَدُوًّا، فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَبَانَ الْحَالُ، وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَظْهَرِ، ثُمَّ قِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا أَخْبَرَهُمْ بِالْعَدُوِّ ثِقَةٌ وَغَلِطَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ظَنُّهُمْ، وَجَبَ الْقَضَاءُ قَطْعًا. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ، فَإِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ قَطْعًا. وَالْمَذْهَبُ جَرَيَانُ الْقَوْلَيْنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَلَوْ تَحَقَّقُوا الْعَدُوَّ، فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ دُونَهُمْ حَائِلٌ مِنْ خَنْدَقٍ، أَوْ مَاءٍ، أَوْ نَارٍ، أَوْ بَانَ أَنَّهُ كَانَ بِقُرْبِهِمْ حِصْنٌ يُمْكِنُهُمُ التَّحَصُّنُ بِهِ، أَوْ ظَنُّوا أَنَّ بِإِزَاءِ كُلِّ مُسْلِمٍ أَكْثَرَ مِنْ مُشْرِكَيْنِ، فَصَلَّوْهَا مُنْهَزِمِينَ، ثُمَّ بَانَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَحَيْثُ أَجْرَيْنَا فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ الْقَوْلَيْنِ، جَرْيًا فِي هَذِهِ وَنَظَائِرِهَا، وَقِيلَ: يَجِبُ الْقَضَاءُ هُنَا قَطْعًا.

قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : وَلَوْ صَلَّوْا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ صَلَاةَ عُسْفَانَ، اطَّرَدَ الْقَوْلَانِ. وَلَوْ صَلَّوْا صَلَاةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهَا فِي حَالِ الْأَمْنِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا جَرَى الْقَوْلَانِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مُتَمَكِّنًا عَلَى الْأَرْضِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَحَدَثَ خَوْفٌ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَرَكِبَ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ فَيَسْتَأْنِفُ. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ فَيَبْنِي. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إِلَى الرُّكُوبِ وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ وَإِتْمَامِ الصَّلَاةِ رَاجِلًا، فَرَكِبَ احْتِيَاطًا، وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ. وَإِنِ اضْطُرَّ بَنَى. وَعَلَى هَذَا: إِنْ قَلَّ فِعْلُهُ فِي رُكُوبِهِ، بَنَى بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَثُرَ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَمَلِ الْكَثِيرِ لِلْحَاجَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ يُصَلِّي رَاكِبًا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَأَمِنَ وَنَزَلَ، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَبْنِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: إِنْ حَصَلَ فِي نُزُولِهِ فِعْلٌ قَلِيلٌ، بَنَى، وَإِنْ كَثُرَ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَغَيْرُهُ: يُشْتَرَطُ فِي بِنَاءِ النَّازِلِ أَنْ لَا يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ فِي نُزُولِهِ، فَإِنِ اسْتَدْبَرَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. قُلْتُ: صَرَّحَ أَيْضًا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَآخَرُونَ، بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ فِي نُزُولِهِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْتَدْبِرْهَا، بَلِ انْحَرَفَ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمِنَ، وَجَبَ النُّزُولُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ أَخَّرَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

باب

بَابٌ مَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلْمُحَارِبِ وَغَيْرِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي حَالِ مُفَاجَأَةِ الْقِتَالِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ مِنْهُ مَا هُوَ وِقَايَةٌ لِلْقِتَالِ، كَالدِّيبَاجِ الصَّفِيقِ الَّذِي لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَفِي وَجْهٍ: يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْقِبَاءِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا يَصْلُحُ فِي الْحَرْبِ مِنَ الْحَرِيرِ، وَلُبْسُهُ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَزِينَةِ الْإِسْلَامِ، كَتَحْلِيَةِ السَّيْفِ، وَالصَّحِيحُ تَخْصِيصُهُ بِحَالَةِ الضَّرُورَةِ. فَرْعٌ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى نُصُوصٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ. فَقِيلَ فِي أَنْوَاعِ اسْتِعْمَالِهَا كُلِّهَا قَوْلَانِ. وَالْمَذْهَبُ: التَّفْصِيلُ، فَلَا يَجُوزُ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِمَا إِنْ كَانَتْ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُغَلَّظَةً - وَهِيَ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ - فَلَا. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ، وَالْقَفَّالُ وَأَصْحَابُهُ. فَلَا يَجُوزُ لُبْسُ جِلْدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ بِحَالٍ، وَكَذَا الْكَلْبُ، إِلَّا فِي أَغْرَاضٍ مَخْصُوصَةٍ، فَبَعْدَ مَوْتِهِمَا أَوْلَى. وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالثِّيَابِ النَّجِسَةِ وَلُبْسُهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ فَاجَأَتْهُ حَرْبٌ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لِحَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَ جِلْدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، جَازَ لُبْسُهُمَا. وَهَلْ يَجُوزُ لُبْسُ جِلْدِ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ، وَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُلْبِسَ هَذِهِ الْجُلُودَ فَرَسَهُ وَأَدَاتَهُ،

فصل

وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ جِلْدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فِي ذَلِكَ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَوْ جَلَّلَ كَلْبًا، أَوْ خِنْزِيرًا. بِجِلْدِ كَلْبٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي غِلَظِ النَّجَاسَةِ. وَأَمَّا تَسْمِيدُ الْأَرْضِ بِالزِّبْلِ، فَجَائِزٌ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ أَحَدٌ. وَفِي كَلَامِ الصَّيْدَلَانِيِّ مَا يَقْتَضِي الْخِلَافَ فِيهِ وَيَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَسَوَاءٌ نَجُسَ بِعَارِضٍ، أَوْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ، كَوَدَكِ الْمَيْتَةِ، وَدُخَانُ النَّجَاسَةِ نَجِسٌ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ نَجَّسْنَاهُ عُفِيَ عَنْ قَلِيلِهِ، وَالَّذِي يُصِيبُهُ فِي الِاسْتِصْبَاحِ قَلِيلٌ، لَا يُنَجِّسُ غَالِبًا. فَصْلٌ فِيمَا يَجُوزُ لُبْسُهُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَمَا لَا يَجُوزُ وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْخُنْثَى لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءِ. وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَى الْخُنْثَى احْتِمَالٌ. وَالْقَزُّ كَالْحَرِيرِ، عَلَى الْمَذْهَبِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ فِي إِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ. وَفِي الْمُرَكَّبِ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَرِيرُ أَكْثَرَ وَزْنًا، حَرُمَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ، لَمْ يَحْرُمْ، وَإِنِ اسْتَوَيَا، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي قَالَهُ الْقَفَّالُ: إِنْ ظَهَرَ الْحَرِيرُ، حَرُمَ وَإِنْ قَلَّ وَزْنُهُ، وَإِنِ اسْتَتَرَ، لَمْ يَحْرُمْ وَإِنْ كَثُرَ وَزْنُهُ. فَرْعٌ يَجُوزُ لُبْسُ الْمُطَرَّفِ وَالْمُطَرَّزِ بِالدِّيبَاجِ، بِشَرْطِ الِاقْتِصَارِ عَلَى عَادَةِ التَّطْرِيفِ، فَإِنْ جَاوَزَهَا، حَرُمَ، وَيُشْرَطُ أَنْ لَا يُجَاوِزَ الطِّرَازُ قَدْرَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ، فَإِنْ جَاوَزَ، حَرُمَ.

وَالتَّرْقِيعُ بِالدِّيبَاجِ، كَالتَّطْرِيزِ. وَلَوْ خَاطَ ثَوْبًا بِإِبْرِيسَمٍ، جَازَ لُبْسُهُ، بِخِلَافِ الدِّرْعِ الْمَنْسُوجَةِ بِقَلِيلِ الذَّهَبِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ لِكَثْرَةِ الْخُيَلَاءِ فِيهِ. وَلَوْ حَشَا الْقِبَاءَ أَوِ الْجُبَّةَ بِالْحَرِيرِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَلَوْ كَانَتْ بِطَانَةُ الْجُبَّةِ حَرِيرًا، حَرُمَ لُبْسُهَا. فَرْعٌ تَحْرِيمُ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ لَا يَخْتَصُّ بِاللُّبْسِ، بَلِ افْتِرَاشُهُ، وَالتَّدَثُّرُ بِهِ، وَاتِّخَاذُهُ سِتْرًا، وَسَائِرُ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ، حَرَامٌ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يَجُوزُ لِلرِّجَالِ الْجُلُوسُ عَلَى الْحَرِيرِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ وَغَلَطٌ، وَيَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ افْتِرَاشُ الْحَرِيرِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، جَوَازُ افْتِرَاشِهِنَّ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالْمُتَوَلِّي، وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَهَلْ لِلْوَلِيِّ إِلْبَاسُ الصَّبِيِّ الْحَرِيرَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَجُوزُ قَبْلَ سَبْعِ سِنِينَ، وَيَحْرُمُ بَعْدَهَا، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: يَحْرُمُ مُطْلَقًا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْجَوَازُ مُطْلَقًا، كَذَا صَحَّحَهُ الْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُمُ الرَّافِعِيُّ فِي (الْمُحَرَّرِ) وَقَطَعَ بِهِ الْفُورَانِيُّ. قَالَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) : هُوَ الْمَشْهُورُ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: عَلَى تَزْيِينِ الصِّبْيَانِ يَوْمَ الْعِيدِ بِحُلِيِّ الذَّهَبِ، وَالْمُصَبَّغِ، وَيُلْحَقُ بِهِ الْحَرِيرُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ يَجُوزُ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ - كَمَا قُلْنَا - إِذَا فَاجَأَتْهُ الْحَرْبُ، أَوِ احْتَاجَ لِحَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، وَيَجُوزُ لِلْحَاجَةِ كَالْجَرَبِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مُنْكَرٌ. وَيَجُوزُ لِدَفْعِ الْقَمْلِ فِي السَّفَرِ، وَكَذَا فِي الْحَضَرِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ لُبْسُ الْكَتَّانِ، وَالْقُطْنِ، وَالصُّوفِ، وَالْخَزِّ، وَإِنْ كَانَتْ نَفِيسَةً غَالِيَةَ الْأَثْمَانِ، لِأَنَّ نَفَاسَتَهَا بِالصَّنْعَةِ. قَالَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) : يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ لُبْسُ الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ. وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ عَنِ الْمُزَعْفَرِ، وَأَبَاحَ لَهُ الْمُعَصْفَرَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُ نَهْيِ الرَّجُلَ عَنِ الْمُعَصْفَرِ أَيْضًا، لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ الْحَلِيمِيُّ. قَالَ: وَلَوْ بَلَغَتْ أَحَادِيثُهُ الشَّافِعِيَّ، لَقَالَ بِهَا، وَقَدْ أَوْصَانَا بِالْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَحْرُمُ تَنْجِيدُ الْبُيُوتِ بِالثِّيَابِ الْمُصَوَّرَةِ وَبِغَيْرِ الْمُصَوَّرَةِ، سَوَاءٌ فِيهِ الْحَرِيرُ وَغَيْرُهُ، وَالصَّوَابُ فِي غَيْرِ الْحَرِيرِ وَالْمُصَوَّرِ الْكَرَاهَةُ دُونَ التَّحْرِيمِ. قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : وَلَوْ بَسَطَ فَوْقَ الدِّيبَاجِ ثَوْبَ قُطْنٍ وَجَلَسَ عَلَيْهِ، أَوْ جَلَسَ عَلَى جُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ بِالْحَرِيرِ، جَازَ، وَلَوْ حَشَا الْمِخَدَّةَ بِإِبْرِيسَمٍ، جَازَ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْجُبَّةِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا ظَهَارَتُهُ وَبِطَانَتُهُ قُطْنٌ، وَفِي وَسَطِهِ حَرِيرٌ مَنْسُوجٌ، جَازَ. قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ خُفٍّ وَاحِدٍ، وَيُكْرَهُ

أَنْ يَتَنَعَّلَ قَائِمًا. وَالْمُسْتَحَبُّ فِي لُبْسِ النَّعْلِ وَشِبْهِهِ، أَنْ يَبْدَأَ بِالْيَمِينِ، وَيَبْدَأَ بِخَلْعِ الْيَسَارِ، وَلَا يُكْرَهُ لُبْسُ خَاتَمِ الرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ فِي (التَّتِمَّةِ) . وَيَجُوزُ لُبْسُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرَّجُلِ فِي يَمِينِهِ، وَفِي يَسَارِهِ، كِلَاهُمَا سُنَّةٌ، لَكِنَّ الْيَمِينَ أَفْضَلُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ. وَيَجُوزُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لُبْسُ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَخْضَرِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَصْبُوغَاتِ بِلَا كَرَاهَةٍ، إِلَّا مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُزَعْفَرِ وَالْمُعَصْفَرِ لِلرِّجَالِ. قَالَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَ (الْبَحْرِ) : يُكْرَهُ لُبْسُ الثِّيَابِ الْخَشِنَةِ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ، وَيَحْرُمُ إِطَالَةُ الثَّوْبِ عَنِ الْكَعْبَيْنِ لِلْخُيَلَاءِ، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَالسَّرَاوِيلُ وَالْإِزَارُ فِي حُكْمِ الثَّوْبِ. وَلَهُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ بِعَذَبَةٍ وَبِغَيْرِهَا، وَحُكْمُ إِطَالَةِ عَذَبَتِهَا حُكْمُ إِطَالَةِ الثَّوْبِ. فَقَدْ رُوِّينَا فِي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ) وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، مَنْ جَرَّ شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) » . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

كتاب صلاة العيدين

كِتَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ هِيَ سُنَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَعَلَى الثَّانِي: فَرْضُ كِفَايَةٍ. فَإِنِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا، قُوتِلُوا إِنْ قُلْنَا: فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا: سُنَّةٌ لَمْ يُقَاتَلُوا عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا إِلَى أَنْ تَرْتَفِعَ قَدْرَ رُمْحٍ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ، مِنْهُمْ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَ (الْمُهَذَّبِ) وَالرُّويَانِيُّ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمُ: الصَّيْدَلَانِيُّ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) أَنَّهُ يَدْخُلُ بِالِارْتِفَاعِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالزَّوَالِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ، أَوِ الْأَصَحُّ، دُخُولُ وَقْتِهَا بِالطُّلُوعِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ فِي الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ كُلِّهَا، أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تُشْرَعُ لِلْمُنْفَرِدِ فِي بَيْتِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِلْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: هَذَا. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا شُرُوطُ الْجُمُعَةِ مِنِ اعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ، وَالْعَدَدِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَغَيْرِهِمَا، إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهَا خَارِجَ الْبَلَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهَا بِدُونِ الْأَرْبَعِينَ عَلَى هَذَا، وَخُطْبَتُهَا بَعْدَهَا. وَلَوْ تُرِكَتِ الْخُطْبَةُ، لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَصَلَّاهَا الْمُنْفَرِدُ، لَمْ يَخْطُبْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ صَلَّاهَا مُسَافِرُونَ، خَطَبَ إِمَامُهُمْ.

فصل في صفة صلاة العيد

فَصْلٌ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ هِيَ: رَكْعَتَانِ. صِفَتُهَا فِي الْأَرْكَانِ وَالسُّنَنِ وَالْهَيْآتِ كَغَيْرِهَا، وَيَنْوِي بِهَا صَلَاةَ الْعِيدِ. هَذَا أَقَلُّهَا، وَالْأَكْمَلُ أَنْ يَقْرَأَ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ عَقِبَ الْإِحْرَامِ، كَغَيْرِهَا، ثُمَّ يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ. وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ مِنَ السُّجُودِ وَالْهُوِيِّ إِلَى الرُّكُوعِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: التَّكْبِيرَاتُ فِي الْأُولَى سِتٌّ. وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ مُنْكَرٌ: أَنَّ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ يَكُونُ بَعْدَ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ مِنَ الزَّوَائِدِ قَدْرَ قِرَاءَةِ آيَةٍ لَا طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ، يُهَلِّلُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُكَبِّرُهُ وَيُمَجِّدُهُ. هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَقُولُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) وَلَوْ زَادَ، جَازَ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: يَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَوْ قَالَ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ: (اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا) كَانَ حَسَنًا. قُلْتُ: وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْمَسْعُودِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَا يَأْتِي بِهَذَا الذِّكْرِ عَقِبَ السَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ فِي الثَّانِيَةِ، بَلْ يَتَعَوَّذُ عَقِبَ السَّابِعَةِ، وَكَذَا عَقِبَ الْخَامِسَةِ، إِنْ قُلْنَا: يَتَعَوَّذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَلَا يَأْتِي بِهِ بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالْأُولَى مِنَ الزَّوَائِدِ.

قُلْتُ: وَأَمَّا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَأْتِي بِهِ قَبْلَ الْأُولَى مِنَ الْخَمْسِ، وَالْمُخْتَارُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ كَمَا فِي الْأُولَى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَهَا فِي الْأُولَى: (ق) . وَفِي الثَّانِيَةِ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) . قُلْتُ: وَثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِيهِمَا (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وَ (هَلْ أَتَاكَ) فَهُوَ سُنَّةٌ أَيْضًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، وَيَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ. وَفِي (الْعُدَّةِ) مَا يُشْعِرُ بِخِلَافٍ فِيهِ. وَلَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ، أَخَذَ بِالْأَقَلِّ، وَلَوْ كَبَّرَ ثَمَانِيَ تَكْبِيرَاتٍ، وَشَكَّ هَلْ نَوَى التَّحْرِيمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا؟ فَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ، وَلَوْ شَكَّ فِي التَّكْبِيرَةِ الَّتِي نَوَى التَّحْرِيمَ بِهَا، جَعَلَهَا الْأَخِيرَةَ، وَأَعَادَ الزَّوَائِدَ. وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا أَوْ سِتًّا، تَابَعَهُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ تَرَكَ الزَّوَائِدَ، لَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ. قُلْتُ: وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرَاتِ، وَيُسِرُّ بِالذِّكْرِ بَيْنَهُمَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَرْعٌ لَوْ نَسِيَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدَ فِي رَكْعَةٍ، فَتَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ، مَضَى فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكَبِّرْ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْقِيَامِ لِيُكَبِّرَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. فَلَوْ تَذَكَّرَهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَ الْقِرَاءَةِ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: لَا يُكَبِّرُ، لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ. وَالْقَدِيمُ: يُكَبِّرُ، لِبَقَاءِ الْقِيَامِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ: لَوْ تَذَكَّرَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ، قَطَعَهَا وَكَبَّرَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقِرَاءَةَ. وَإِذَا تَدَارَكَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، اسْتُحِبَّ اسْتِئْنَافُهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ يَجِبُ، وَلَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ وَقَدْ كَبَّرَ بَعْضَ التَّكْبِيرَاتِ، فَعَلَى الْجَدِيدِ، لَا يُكَبِّرُ مَا فَاتَهُ. وَعَلَى الْقَدِيمِ: يُكَبِّرُ، وَلَوْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا، رَكَعَ مَعَهُ، وَلَا يُكَبِّرُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، كَبَّرَ مَعَهُ خَمْسًا عَلَى الْجَدِيدِ، فَإِذَا قَامَ إِلَى ثَانِيَتِهِ، كَبَّرَ أَيْضًا خَمْسًا. فَصْلٌ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ، صَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ وَسَلَّمَ. وَهَلْ يَجْلِسُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: يَجْلِسُ كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. ثُمَّ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ، أَرْكَانُهُمَا كَأَرْكَانِهِمَا فِي الْجُمُعَةِ، وَيَقُومُ فِيهِمَا، وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمَا، كَالْجُمُعَةِ، لَكِنْ يَجُوزُ هُنَا الْقُعُودُ فِيهِمَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ فِي عِيدِ الْفِطْرِ أَحْكَامَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَفِي الْأَضْحَى أَحْكَامَ الْأُضْحِيَةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَحَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى بِتِسْعِ تَكْبِيرَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ. وَلَوْ

فصل

أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا الْحَمْدَ وَالتَّهْلِيلَ وَالثَّنَاءَ، جَازَ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ صِفَتَهَا، كَالتَّكْبِيرَاتِ الْمُرْسَلَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. قُلْتُ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَكَثِيرُونَ مِنَ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ لَيْسَتْ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُقَدِّمَةٌ لَهَا، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: تُفْتَتَحُ الْخُطْبَةُ بِالتَّكْبِيرَاتِ، يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ النَّصِّ الَّذِي ذَكَرْتُهُ، لِأَنَّ افْتِتَاحَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بِبَعْضِ مُقَدِّمَاتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِهِ، فَاحْفَظْ هَذَا فَإِنَّهُ مُهِمٌّ خَفِيٌّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. يُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ اسْتِمَاعُ الْخُطْبَةِ. وَمَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمُصَلَّى، جَلَسَ وَاسْتَمَعَ، وَلَمْ يُصَلِّ التَّحِيَّةَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ صَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّاهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، اسْتُحِبَّ لَهُ التَّحِيَّةُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَوْ صَلَّى الْعِيدَ، كَانَ أَوْلَى، وَحَصَلَتِ التَّحِيَّةُ، كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ مَكْتُوبَةٌ فَفَعَلَهَا، وَيَحْصُلُ بِهَا التَّحِيَّةُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُصَلِّي التَّحِيَّةَ، وَيُؤَخِّرُ صَلَاةَ الْعِيدِ إِلَى مَا بَعْدَ الْخُطْبَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَلَوْ خَطَبَ الْإِمَامُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَسَاءَ وَفِي الِاعْتِدَادِ بِخُطْبَتِهِ احْتِمَالٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ وَظَاهِرُ نَصِّهِ فِي (الْأُمِّ) : أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهَا، كَالسُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ إِذَا قَدَّمَهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ صَلَاةُ الْعِيدِ تَجُوزُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَفِي الْجَامِعِ، وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ، فَالْمَسْجِدُ أَفْضَلُ قَطْعًا. وَأَلْحَقَ بِهِ الصَّيْدَلَانِيُّ: بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِمَا، فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ، كَمَطَرٍ، أَوْ ثَلْجٍ، فَالْمَسْجِدُ أَوْلَى، وَإِلَّا، فَإِنْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ، فَالصَّحْرَاءُ أَفْضَلُ، بَلْ يُكْرَهُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ. فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَصَاحِبُ

فصل

(التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُ: الْمَسْجِدُ أَوْلَى. وَالثَّانِي: الصَّحْرَاءُ. وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَى الصَّحْرَاءِ اسْتَخْلَفَ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ. وَإِذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ وَحَضَرَ الْحُيَّضُ، وَقَفْنَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، وَهَذَا الْفَصْلُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي جَوَازِ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ، وَجَوَازِهَا مِنْ غَيْرِ شُرُوطِ الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ. فَصْلٌ فِي السُّنَنِ الْمُسْتَحَبَّةِ لَيْلَةَ الْعِيدِ وَيَوْمَهُ فَيُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ الْمُرْسَلُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي فَصْلِ التَّكْبِيرَاتِ، - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَيُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابًا مُتَأَكَّدًا، إِحْيَاءُ لَيْلَتَيِ الْعِيدِ بِالْعِبَادَةِ. قُلْتُ: وَتَحْصُلُ فَضِيلَةُ الْإِحْيَاءِ بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: تَحْصُلُ بِسَاعَةٍ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (الْأُمِّ) عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا يُؤَيِّدُهُ. وَنَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِحْيَاءَ لَيْلَةِ الْعِيدِ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ، وَيَعْزِمَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، وَالْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْتُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَبَلَغَنَا أَنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِي خَمْسِ لَيَالٍ. لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَأَوَّلِ رَجَبٍ، وَنِصْفِ شَعْبَانَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَسْتَحِبُّ كُلَّ مَا حَكَيْتُهُ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يُسَنُّ الْغُسْلُ لِلْعِيدَيْنِ، وَيَجُوزُ بَعْدَ الْفَجْرِ قَطْعًا، وَكَذَا قَبْلَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ، أَمْ يَخْتَصُّ بِالنِّصْفِ الثَّانِي؟ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: اخْتِصَاصُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُسْتَحَبُّ التَّطَيُّبُ يَوْمَ الْعِيدِ، وَالتَّنَظُّفُ بِحَلْقِ الشَّعْرِ، وَقَلْمِ الظُّفُرِ، وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُهُ مِنَ الثِّيَابِ، وَأَفْضَلُهَا الْبِيضُ، وَيَتَعَمَّمُ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا، اسْتُحِبَّ أَنْ يَغْسِلَهُ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابِ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، الْقَاعِدُ فِي بَيْتِهِ، وَالْخَارِجُ إِلَى الصَّلَاةِ، هَذَا حُكْمُ الرِّجَالِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ، فَيُكْرَهُ لِذَوَاتِ الْجَمَالِ وَالْهَيْئَةِ الْحُضُورُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْعَجَائِزِ، وَيَتَنَظَّفْنَ بِالْمَاءِ، وَلَا يَتَطَيَّبْنَ، وَلَا يَلْبَسْنَ مَا يُشْهِرُهُنَّ مِنَ الثِّيَابِ، بَلْ يَخْرُجْنَ فِي بِذْلَتِهِنَّ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يَخْرُجْنَ مُطْلَقًا. فَرْعٌ السُّنَّةُ لِقَاصِدِ الْعِيدِ الْمَشْيُ. فَإِنْ ضَعُفَ لِكِبَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، فَلَهُ الرُّكُوبُ، وَلِلْقَادِرِ الرُّكُوبُ فِي الرُّجُوعِ وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَنْ يُبَكِّرُوا إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ إِذَا صَلَّوُا الصُّبْحَ، لِيَأْخُذُوا مَجَالِسَهُمْ وَيَنْتَظِرُوا الصَّلَاةَ. وَالسُّنَّةُ لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ، فَإِذَا وَصَلَ الْمُصَلَّى شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْخُرُوجَ فِي عِيدِ الْفِطْرِ قَلِيلًا، وَيُعَجِّلَ فِي الْأَضْحَى. وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ التَّنَفُّلُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا، وَلَا يُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِ قَبْلَهَا وَلَا يُكْرَهُ بَعْدَهَا، وَيُسْتَحَبُّ فِي عِيدِ الْفِطْرِ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا، قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَا يَأْكُلُ فِي الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ وَيَرْجِعَ. قُلْتُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمَأْكُولُ تَمْرًا إِنْ أَمْكَنَ، وَيَكُونُ وِتْرًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُنَادَى لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، قَالَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) وَلَوْ نُودِيَ لَهَا: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، جَازَ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ.

فصل

قُلْتُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُنَادَى: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَإِنْ قَالَ: هَلُمُّوا إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَا بَأْسَ، قَالَ: وَأُحِبُّ أَنْ يَتَوَقَّى أَلْفَاظَ الْأَذَانِ. وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: لَوْ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، كُرِهَ، لِأَنَّهُ مِنَ الْأَذَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَذْهَبُ إِلَى الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ، وَيَرْجِعُ فِي آخَرَ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِهِ، فَقِيلَ: لِتَبَرُّكِ أَهْلِ الطَّرِيقَيْنِ، وَقِيلَ: لِيُسْتَفْتَى مِنْهُمَا، وَقِيلَ: لِيَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَائِهِمَا، وَقِيلَ: لِيَزُورَ قُبُورَ أَقَارِبِهِ فِيهِمَا، وَقِيلَ: لِيَشْهَدَ لَهُ الطَّرِيقَانِ، وَقِيلَ: لِيَزْدَادَ غَيْظُ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: لِئَلَّا تَكْثُرَ الزَّحْمَةُ، وَقِيلَ: يَقْصِدُ أَطْوَلَ الطَّرِيقَيْنِ فِي الذَّهَابِ، وَأَقْصَرَهُمَا فِي الرُّجُوعِ، وَهَذَا أَظْهَرُهَا، ثُمَّ مَنْ شَارَكَ فِي الْمَعْنَى اسْتُحِبَّ ذَلِكَ لَهُ، وَكَذَا مَنْ لَمْ يُشَارِكْ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَسَوَاءٌ فِيهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ. قُلْتُ: وَإِذَا لَمْ يَعْلَمِ السَّبَبَ، اسْتُحِبَّ التَّأَسِّي قَطْعًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ قَدْ قَدَّمْنَا فِي قَضَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ وَغَيْرِهَا مِنَ النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ إِذَا فَاتَتْ، قَوْلَيْنِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ فِيهَا. فَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، أَفْطَرُوا. فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُ جَمْعُ النَّاسِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ، صَلَّوْهَا وَكَانَتْ أَدَاءً. وَإِنْ شَهِدُوا بَعْدَ غُرُوبِ

الشَّمْسِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهَا إِلَّا الْمَنْعُ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَلَا يُصْغَى إِلَيْهَا، وَيُصَلُّونَ مِنَ الْغَدِ الْعِيدَ أَدَاءً، هَكَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَفِي قَوْلِهِمْ: لَا فَائِدَةَ إِلَّا تَرْكُ صَلَاةِ الْعِيدِ إِشْكَالٌ، بَلْ لِثُبُوتِ الْهِلَالِ فَوَائِدُ أُخَرُ. كَوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقَيْنِ، وَابْتِدَاءِ الْعِدَّةِ مِنْهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ نَقْبَلَ، لِهَذِهِ الْفَوَائِدِ. وَلَعَلَّ مُرَادَهُمْ بِعَدَمِ الْإِصْغَاءِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَجَعْلِهَا فَائِتَةً، لَا عَدَمِ الْقَبُولِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قُلْتُ: مُرَادُهُمْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الصَّلَاةِ خَاصَّةً قَطْعًا، فَأَمَّا الْحُقُوقُ وَالْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهِلَالِ، كَأَجَلِ الدَّيْنِ، وَالْعِتْقِ، وَالْمَوْلَى، وَالْعِدَّةِ، وَغَيْرِهَا، فَثَبَتَ قَطْعًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَلَوْ شَهِدُوا قَبْلَ الْغُرُوبِ بَعْدَ الزَّوَالِ، أَوْ قَبْلَهُ بِيَسِيرٍ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الصَّلَاةُ، قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْفِطْرِ قَطْعًا، وَصَارَتِ الصَّلَاةُ فَائِتَةً عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: يُفْعَلُ مِنَ الْغَدِ أَدَاءً لِعِظَمِ حُرْمَتِهَا. فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَقَضَاؤُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَضَاءِ النَّوَافِلِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تُقْضَى، لَمْ يُقْضَ الْعِيدُ. وَإِنْ قُلْنَا: تُقْضَى، بُنِيَ عَلَى أَنَّهَا كَالْجُمُعَةِ فِي الشَّرَائِطِ، أَمْ لَا. فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، لَمْ تُقْضَ، وَإِلَّا قُضِيَتْ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ. وَهَلْ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِمْ؟ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ أَدَاءٌ أَمْ قَضَاءٌ. إِنْ قُلْنَا: أَدَاءً، فَلَا. وَإِنْ قُلْنَا: قَضَاءً وَهُوَ الصَّحِيحُ، جَازَ. ثُمَّ هَلْ هُوَ أَفْضَلُ، أَمِ التَّأْخِيرُ إِلَى ضَحْوَةِ الْغَدِ. وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: التَّقْدِيمُ أَفْضَلُ، هَذَا إِذَا أَمْكَنَ جَمْعُ النَّاسِ فِي يَوْمِهِمْ لِصِغَرِ الْبَلْدَةِ. فَإِنْ عَسُرَ، فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ قَطْعًا. وَإِذَا قُلْنَا: يُصَلُّونَهَا فِي الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ قَضَاءً، فَهَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا؟ عَنْهُ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: جَوَازُهُ أَبَدًا. وَقِيلَ: إِنَّمَا يَجُوزُ فِي بَقِيَّةِ شَهْرِ الْعِيدِ. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَعَدَلَا بَعْدَهُ، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ

فصل

الشَّهَادَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا: بِوَقْتِ التَّعْدِيلِ، فَيُصَلُّونَ مِنَ الْغَدِ بِلَا خِلَافٍ أَدَاءً. هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ وَفَوَاتُ الْعِيدِ لِجَمِيعِ النَّاسِ. فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ لِأَفْرَادٍ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا قَوْلَانِ، مَنْعُ الْقَضَاءِ وَجَوَازُهُ أَبَدًا. فَرْعٌ إِذَا وَافَقَ يَوْمُ الْعِيدِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَحَضَرَ أَهْلُ الْقُرَى الَّذِينَ يَبْلُغُهُمُ النِّدَاءُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَوِ انْصَرَفُوا لَفَاتَتْهُمُ الْجُمُعَةُ، فَلَهُمْ أَنْ يَنْصَرِفُوا، وَيَتْرُكُوا الْجُمُعَةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ. وَعَلَى الشَّاذِّ: عَلَيْهِمُ الصَّبْرُ لِلْجُمُعَةِ. فَصْلٌ فِي تَكْبِيرِ الْعِيدِ وَهُوَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: فِي الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ وَقَدْ مَضَى. وَالثَّانِي: فِي غَيْرِهِمَا، وَهُوَ ضَرْبَانِ. مُرْسَلٌ، وَمُقَيَّدٌ. فَالْمُرْسَلُ لَا يُقَيَّدُ بِحَالٍ، بَلْ يُؤْتَى بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَنَازِلِ وَالطُّرُقِ لَيْلًا وَنَهَارًا. وَالْمُقَيَّدُ يُؤْتَى بِهِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً. فَالْمُرْسَلُ مَشْرُوعٌ فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا، وَأَوَّلُ وَقْتِهِ فِي الْعِيدَيْنِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْعِيدِ، وَفِي آخِرِ وَقْتِهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: يُكَبِّرُونَ إِلَى أَنْ يُحْرِمَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الْعِيدِ. وَالثَّانِي: إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ إِلَى الصَّلَاةِ. وَالثَّالِثُ: إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا. وَقِيلَ: إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَيَرْفَعُ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالْمُرْسَلِ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ وَيَوْمَيْهِمَا إِلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ

فِي الْمَنَازِلِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَالْأَسْوَاقِ، وَالطُّرُقِ، فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى، وَبِالْمُصَلَّى. وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ الْحَاجُّ، فَلَا يُكَبِّرُ لَيْلَةَ الْأَضْحَى، بَلْ ذِكْرُهُ التَّلْبِيَةُ. وَتَكْبِيرُ لَيْلَةِ الْفِطْرِ آكَدُ مِنْ لَيْلَةِ الْأَضْحَى عَلَى الْجَدِيدِ، وَفِي الْقَدِيمِ عَكْسُهُ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ، فَيُشْرَعُ فِي الْأَضْحَى، وَلَا يُشْرَعُ فِي الْفِطْرِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَقِيلَ: عَلَى الْجَدِيدِ، وَعَلَى الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ عَقِبَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ. وَحُكْمُ الْفَوَائِتِ وَالنَّوَافِلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَاسُ بِمَا نَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَضْحَى. وَأَمَّا الْأَضْحَى، فَالنَّاسُ فِيهِ قِسْمَانِ. حُجَّاجٌ، وَغَيْرُهُمْ. فَالْحُجَّاجُ يَبْتَدِئُونَ التَّكْبِيرَ عَقِبَ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَخْتِمُونَهُ عَقِبَ الصُّبْحِ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْحُجَّاجِ، فَفِيهِمْ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: أَنَّهُمْ كَالْحُجَّاجِ. وَالثَّانِي: يَبْتَدِئُونَ عَقِبَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ النَّحْرِ إِلَى صُبْحِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَالثَّالِثُ: عَقِبَ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَخْتِمُونَهُ عَقِبَ الْعَصْرِ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْأَمْصَارِ. قُلْتُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، لِلْحَدِيثِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ فَاتَتْهُ فَرِيضَةٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَقَضَاهَا فِي غَيْرِهَا، لَمْ يُكَبِّرْ. وَلَوْ فَاتَتْهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوْ فِيهَا فَقَضَاهَا فِيهَا، كَبَّرَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيُكَبِّرُ عَقِبَ النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ، وَمِنْهَا صَلَاةُ الْعِيدِ، وَعَقِبَ النَّافِلَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَعَقِبَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي الْجَمِيعِ. وَإِذَا اخْتُصِرَتْ فَقِيلَ: أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يُكَبِّرُ عَقِبَ كُلِّ صَلَاةٍ مَفْعُولَةٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. وَالثَّانِي: يَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ الْمَفْعُولَةِ فِيهَا، مُؤَدَّاةً كَانَتْ أَوْ مَقْضِيَّةً. وَالثَّالِثُ: يَخْتَصُّ بِفَرَائِضِهَا مَقْضِيَّةً كَانَتْ أَوْ مُؤَدَّاةً. وَالرَّابِعُ: لَا يُكَبِّرُ إِلَّا عَقِبَ مُؤَدَّاتِهَا وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ. وَلَوْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ خَلْفَ الصَّلَاةِ فَتَذَكَّرَ وَالْفَصْلُ قَرِيبٌ، كَبَّرَ وَإِنْ فَارَقَ مُصَلَّاهُ. فَلَوْ طَالَ الْفَصْلُ، كَبَّرَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْمَسْبُوقُ إِنَّمَا يُكَبِّرُ إِذَا أَتَمَّ صَلَاةَ نَفْسِهِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ:

وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِي التَّكْبِيرِ الَّذِي يَرْفَعُ بِهِ صَوْتَهُ وَيَجْعَلُهُ شِعَارًا. أَمَّا لَوِ اسْتَغْرَقَ عُمْرَهُ بِالتَّكْبِيرِ فِي نَفْسِهِ، فَلَا مَنْعَ مِنْهُ. فَرْعٌ صِفَةُ هَذَا التَّكْبِيرِ أَنْ يُكَبِّرَ ثَلَاثًا نَسَقًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّهُ يُكَبِّرُ مَرَّتَيْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَحَسَنٌ. وَاسْتَحْسَنَ فِي (الْأُمِّ) أَنْ تَكُونَ زِيَادَتُهُ: (اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ) . وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: بَعْدَ الثَّلَاثِ: (اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَبْلَانَا وَأَوْلَانَا) . قَالَ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَالَّذِي يَقُولُهُ النَّاسُ لَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا، وَهُوَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ) . قُلْتُ: هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) نَقَلَهُ صَاحِبُ (الْبَحْرِ) عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (الْبُوَيْطِيِّ) وَقَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يَسْتَوِي فِي التَّكْبِيرِ الْمُرْسَلِ وَالْمُقَيَّدِ، الْمُنْفَرِدُ وَالْمُصَلِّي جَمَاعَةً، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالْمُقِيمُ وَالْمُسَافِرُ.

قُلْتُ: لَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ عَلَى خِلَافِ اعْتِقَادِ الْمَأْمُومِ، فَكَبَّرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَالْمَأْمُومُ لَا يَرَى التَّكْبِيرَ فِيهِ، أَوْ عَكْسَهُ، فَهَلْ يُوَافِقُ فِي التَّكْبِيرِ وَتَرْكِهِ، أَمْ يَتَّبِعُ اعْتِقَادَ نَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: اعْتِقَادُ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي تَكْبِيرِ نَفْسِ الصَّلَاةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

كتاب صلاة الكسوف

كِتَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ يُطْلَقُ الْكُسُوفُ وَالْخُسُوفُ عَلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ جَمِيعًا. وَصَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَتُسَنُّ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَقَلُّهَا أَنْ يُحْرِمَ بِنِيَّةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَيَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ، وَيَرْكَعَ ثُمَّ يَرْفَعَ، فَيَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ يَرْكَعَ ثَانِيًا، ثُمَّ يَرْفَعَ وَيَطْمَئِنَ، ثُمَّ يَسْجُدَ، فَهَذِهِ رَكْعَةٌ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً ثَانِيَةً كَذَلِكَ، فَهِيَ رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ وَرُكُوعَانِ، وَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي كُلِّ قِيَامٍ. فَلَوْ تَمَادَى الْكُسُوفُ، فَهَلْ يَزِيدُ رُكُوعًا ثَالِثًا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَزِيدُ ثَالِثًا وَرَابِعًا وَخَامِسًا، حَتَّى يَنْجَلِيَ الْكُسُوفُ، قَالَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الضُّبَعِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعَ رُكُوعَاتٍ، وَرُوِيَ خَمْسَ رُكُوعَاتٍ، وَلَا مَحْمَلَ لَهُ إِلَّا التَّمَادِي، وَأَصَحُّهُمَا: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. رِوَايَاتُ الرُّكُوعَيْنِ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ، فَيُؤْخَذُ بِهَا، كَذَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، فَانْجَلَى الْكُسُوفُ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَرُكُوعٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الزِّيَادَةِ عِنْدَ التَّمَادِي، إِنْ جَوَّزْنَا الزِّيَادَةَ، جَازَ النُّقْصَانُ بِحَسْبِ مُدَّةِ الْكُسُوفِ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْكُسُوفُ بَاقٍ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ مَرَّةً أُخْرَى؟ وَجْهَانِ خَرَّجُوهُمَا عَلَى جَوَازِ زِيَادَةِ عَدَدِ الرُّكُوعِ، وَالْمَذْهَبُ الْمُتَّبَعُ وَأَكْمَلُهَا أَنْ يَقْرَأَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَسَوَابِقِهَا سُورَةَ (الْبَقَرَةِ) أَوْ مِقْدَارَهَا إِنْ لَمْ يُحْسِنْهَا، وَفِي

الثَّانِي: (آلَ عِمْرَانَ) أَوْ مِقْدَارَهَا. وَفِي الثَّالِثِ: (النِّسَاءَ) أَوْ قَدْرَهَا. وَفِي الرَّابِعِ: (الْمَائِدَةَ) أَوْ قَدْرَهَا. وَكُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ. هَذِهِ رِوَايَةُ الْبُوَيْطِيِّ، وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ فِي (الْمُخْتَصَرِ) : أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الْأَوَّلِ (الْبَقَرَةَ) أَوْ قَدْرَهَا إِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا. وَفِي الثَّانِي قَدْرَ مِائَتَيْ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) . وَفِي الثَّالِثِ: قَدْرَ مِائَةِ آيَةٍ وَخَمْسِينَ آيَةً مِنْهَا، وَفِي الرَّابِعِ: قَدْرَ مِائَةِ آيَةٍ مِنْهَا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الَّتِي قَطَعَ بِهَا الْأَكْثَرُونَ، وَلَيْسَتَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُحَقَّقِ، بَلِ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّقْرِيبِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَتَانِ. قُلْتُ: وَفِي اسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ فِي ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ فِي الْقَوْمَةِ الثَّانِيَةِ، وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي (الْحَاوِي) ، وَهُمَا الْوَجْهَانِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا قَدْرُ مُكْثِهِ فِي الرُّكُوعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَبِّحَ فِي الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ قَدْرَ مِائَةِ آيَةٍ مِنَ (الْبَقَرَةِ) وَفِي الثَّانِي: قَدْرَ ثَمَانِينَ مِنْهَا، وَفِي الثَّالِثِ: قَدْرَ سَبْعِينَ. وَفِي الرَّابِعِ: قَدْرَ خَمْسِينَ، وَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّقْرِيبِ. وَيَقُولُ فِي الِاعْتِدَالِ مِنْ كُلِّ رُكُوعٍ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) وَ (رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) وَهَلْ يُطَوِّلُ السُّجُودَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يُطَوِّلُهُ كَمَا لَا يُطَوِّلُ التَّشَهُّدَ، وَلَا الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. وَالثَّانِي: يُطَوِّلُ. نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ، أَنَّهُ يُطَوِّلُ السُّجُودَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي إِطَالَتِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْجَزْمُ بِهِ، لَكَانَ قَوْلًا صَحِيحًا، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا صَحَّ فِيهِ الْحَدِيثُ، فَهُوَ قَوْلِي وَمَذْهَبِي. فَإِذَا قُلْنَا بِإِطَالَتِهِ، فَالْمُخْتَارُ فِيهَا مَا قَالَهُ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) أَنَّ السُّجُودَ الْأَوَّلَ كَالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، وَالسُّجُودَ الثَّانِي، كَالرُّكُوعِ الثَّانِي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبُوَيْطِيِّ: إِنَّهُ نَحْوُ الرُّكُوعِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَأَمَّا الْجَلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَقَدْ قَطَعَ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُطَوِّلُهَا. وَنَقَلَ الْغَزَّالِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَوِّلُهَا. وَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ

فصل

النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَسْجُدُ، ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الِاعْتِدَالُ بَعْدَ الرُّكُوعِ الثَّانِي، فَلَا يُطَوِّلُ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا التَّشَهُّدُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ الْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفَيْنِ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهَا شَرْطٌ، وَوَجْهٌ: أَنَّهَا لَا تُقَامُ إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْجُمُعَةِ، وَهُمَا شَاذَّانِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَادِيَ لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. وَأَنْ يُصَلِّيَ فِي الْجَامِعِ، وَأَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ فِي الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ، سَوَاءٌ صَلَّوْهَا جَمَاعَةً فِي مِصْرٍ، أَوْ صَلَّاهَا الْمُسَافِرُونَ فِي الصَّحْرَاءِ. وَيَحُثُّ الْإِمَامُ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَعَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ. قُلْتُ: وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالصَّدَقَةِ، وَيُحَذِّرُهُمُ الْغَفْلَةَ وَالِاغْتِرَارَ. فَفِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) عَنْ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا، لَمْ يَخْطُبْ. وَيُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ، وَالْإِسْرَارُ فِي الشَّمْسِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الَّذِي يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ يَجْهَرُ فِي الشَّمْسِ.

فصل

فَرْعٌ: الْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، قَامَ فَصَلَّى رَكْعَةً بِرُكُوعَيْنِ. وَلَوْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي مِنْ إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ، فَالْمَذْهَبُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى تَصْحِيحِهِ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِشَيْءٍ مِنَ الرَّكْعَةِ. وَحَكَى صَاحِبُ (التَّقْرِيبِ) قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ الثَّانِي يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْقَوْمَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ، وَسَلَّمَ الْإِمَامُ، قَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَاعْتَدَلَ وَجَلَسَ وَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ، وَلَا يَسْجُدُ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ الرُّكُوعِ إِذَا حَصَلَ الْقِيَامُ الَّذِي قَبْلَهُ، كَانَ السُّجُودُ بَعْدَهُ مَحْسُوبًا لَا مَحَالَةَ. وَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَوْ أَدْرَكَهُ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِشَيْءٍ مِنَ الرَّكْعَةِ أَيْضًا. فَصْلٌ تَفُوتُ صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: انْجِلَاءُ جَمِيعِهَا، فَإِنِ انْجَلَى الْبَعْضُ فَلَهُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ لِلْبَاقِي، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْكَسِفْ إِلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ. وَلَوْ حَالَ سَحَابٌ وَشَكَّ فِي الِانْجِلَاءِ، صَلَّى. وَلَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ تَحْتَ غَمَامٍ، فَظَنَّ الْكُسُوفَ، لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ. قُلْتُ: قَالَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَا يَعْمَلُ فِي كُسُوفِهَا بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

الثَّانِي: أَنْ تَغْرُبَ كَاسِفَةً، فَلَا يُصَلِّي. وَتَفُوتُ صَلَاةُ خُسُوفِ الْقَمَرِ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الِانْجِلَاءُ كَمَا سَبَقَ. وَالثَّانِي: طُلُوعُ الشَّمْسِ. فَإِذَا طَلَعَتْ وَهُوَ بَعْدُ خَاسِفٌ، لَمْ يُصَلِّ. وَلَوْ غَابَ فِي اللَّيْلِ خَاسِفًا، صَلَّى كَمَا لَوِ اسْتُتِرَ بِغَمَامٍ. وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ خَاسِفٌ، أَوْ خُسِفَ بَعْدَ الْفَجْرِ، صَلَّى عَلَى الْجَدِيدِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ فِي أَثْنَائِهَا، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوِ انْجَلَى الْكُسُوفُ فِي الْأَثْنَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ: هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا غَابَ خَاسِفًا بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَغِبْ وَبَقِيَ خَاسِفًا، فَيَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِلَا خِلَافٍ. قُلْتُ: صَرَّحَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ بِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ (الْبَحْرِ) : وَلَوِ ابْتَدَأَ الْخُسُوفَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، لَمْ يُصَلِّ قَطْعًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ إِذَا اجْتَمَعَتْ صَلَاتَانِ فِي وَقْتٍ، قُدِّمَ مَا يُخَافُ فَوْتُهُ، ثُمَّ الْأَوْكَدُ. فَلَوِ اجْتَمَعَ عِيدٌ وَكُسُوفٌ، أَوْ جُمُعَةٌ وَكُسُوفٌ، وَخِيفَ فَوْتُ الْعِيدِ أَوِ الْجُمُعَةِ لِضِيقِ وَقْتِهَا، قُدِّمَتْ، وَإِنْ لَمْ يُخَفْ، فَالْأَظْهَرُ: يُقَدَّمُ الْكُسُوفُ. وَالثَّانِي: الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ، لِتَأَكُّدِهِمَا، وَبَاقِي الْفَرَائِضِ كَالْجُمُعَةِ. وَلَوِ اجْتَمَعَ كُسُوفٌ وَوِتْرٌ أَوْ تَرَاوِيحُ، قُدِّمَ الْكُسُوفُ مُطْلَقًا، لِأَنَّهَا أَفْضَلُ. وَلَوِ اجْتَمَعَ جِنَازَةٌ وَكُسُوفٌ أَوْ عِيدٌ، قَدَّمَ الْجِنَازَةَ، وَيَشْتَغِلُ الْإِمَامُ بَعْدَهَا بِغَيْرِهَا، وَلَا يُشَيِّعُهَا، فَلَوْ لَمْ تَحْضُرِ الْجِنَازَةُ، أَوْ حَضَرَتْ وَلَمْ يَحْضُرِ الْوَلِيُّ، أَفْرَدَ الْإِمَامُ جَمَاعَةً يَنْتَظِرُونَ الْجِنَازَةَ وَاشْتَغَلَ هُوَ بِغَيْرِهَا. وَلَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةٌ وَجُمُعَةٌ وَلَمْ يَضِقِ الْوَقْتُ، قُدِّمَتِ الْجِنَازَةُ. وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ، قُدِّمَتِ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: تُقَدَّمُ الْجِنَازَةُ، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَهَا بَدَلٌ.

فَرْعٌ إِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْكُسُوفُ، خَطَبَ لَهُمَا بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ خُطْبَتَيْنِ يَذْكُرُ فِيهِمَا الْعِيدَ وَالْكُسُوفَ. وَلَوِ اجْتَمَعَ جُمُعَةٌ وَكُسُوفٌ، وَاقْتَضَى الْحَالُ تَقْدِيمَ الْجُمُعَةِ، خَطَبَ لَهَا، ثُمَّ صَلَّى الْجُمُعَةَ، ثُمَّ الْكُسُوفَ، ثُمَّ خَطَبَ لَهَا. وَإِنِ اقْتَضَى تَقْدِيمَ الْكُسُوفِ، بَدَأَ بِهَا، ثُمَّ خَطَبَ لِلْجُمُعَةِ خُطْبَتَيْنِ يَذْكُرُ فِيهِمَا شَأْنَ الْكُسُوفِ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى أَرْبَعِ خُطَبٍ، وَيَقْصِدُ بِالْخُطْبَتَيْنِ الْجُمُعَةَ خَاصَّةً. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ الْجُمُعَةَ وَالْكُسُوفَ، لِأَنَّهُ تَشْرِيكٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَنَفْلٍ، بِخِلَافِ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ، فَإِنَّهُ يَقْصِدُهُمَا جَمِيعًا بِالْخُطْبَتَيْنِ، لِأَنَّهُمَا سُنَّتَانِ. فَرْعٌ اعْتَرَضَتْ طَائِفَةٌ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: اجْتَمَعَ عِيدٌ وَكُسُوفٌ، وَقَالَتْ: هَذَا مُحَالٌ، فَإِنَّ الْكُسُوفَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ، أَوِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ فَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَجْوِبَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ، وَأَمَّا نَحْنُ، فَنُجَوِّزُ الْكُسُوفَ فِي غَيْرِهِمَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقَدْ نُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الشَّمْسَ كُسِفَتْ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي (الْأَنْسَابِ) : أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِثْلَهُ عَنِ الْوَاقِدِيِّ. وَكَذَا اشْتُهِرَ أَنَّ قَتْلَ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ، كُسِفَتِ الشَّمْسُ.

فصل

الثَّانِي: أَنَّ وُقُوعَ الْعِيدِ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى نُقْصَانِ رَجَبٍ، وَآخَرَانِ عَلَى نُقْصَانِ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ، وَكَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ كَامِلَةً، فَيَقَعُ الْعِيدُ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ. الثَّالِثُ: لَوْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ، لَكَانَ تَصْوِيرُ الْفَقِيهِ لَهُ حَسَنًا، لِيَتَدَرَّبَ بِاسْتِخْرَاجِ الْفُرُوعِ الدَّقِيقَةِ. فَصْلٌ مَا سِوَى الْكُسُوفَيْنِ مِنَ الْآيَاتِ، كَالزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالرِّيَاحِ الشَّدِيدَةِ، لَا يُصَلَّى لَهَا جَمَاعَةً، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ. وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا لِئَلَّا يَكُونَ غَافِلًا. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ: أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، صَلَّى فِي زَلْزَلَةٍ جَمَاعَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ، فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: هَذَا قَوْلٌ آخَرُ لَهُ، فِي الزَّلْزَلَةِ وَحْدَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ. قُلْتُ: لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ صَلَاةُ الْكُسُوفِ مَعَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا ذَوَاتُ الْهَيْئَاتِ، فَيُصَلِّينَ فِي الْبُيُوتِ مُنْفَرِدَاتٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنِ اجْتَمَعْنَ، فَلَا بَأْسَ، إِلَّا أَنَّهُنَّ لَا يَخْطُبْنَ، فَإِنْ قَامَتْ وَاحِدَةٌ وَعَظَتْهُنَّ وَذَكَّرَتْهُنَّ، فَلَا بَأْسَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

كتاب صلاة الاستسقاء

كِتَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ الْمُرَادُ بِالِاسْتِسْقَاءِ: سُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَسْقِيَ عِبَادَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ، وَلَهُ أَنْوَاعٌ. أَدْنَاهَا: الدُّعَاءُ بِلَا صَلَاةٍ وَلَا خَلْفَ صَلَاةٍ، فُرَادَى أَوْ مُجْتَمِعِينَ لِذَلِكَ، وَأَوْسَطُهَا: الدُّعَاءُ خَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَفِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَفْضَلُهَا: الِاسْتِسْقَاءُ بِرَكْعَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ. وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابِ الِاسْتِسْقَاءِ أَهْلُ الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ وَالْبَوَادِي وَالْمُسَافِرُونَ، وَيُسَنُّ لَهُمْ جَمِيعًا الصَّلَاةُ وَالْخُطْبَةُ. وَلَوِ انْقَطَعَتِ الْمِيَاهُ وَلَمْ يُمَسَّ إِلَيْهَا حَاجَةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَمْ يَسْتَسْقُوا، وَلَوِ انْقَطَعَتْ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَاجَتْ، اسْتُحِبَّ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يُصَلُّوا وَيَسْتَسْقُوا لَهُمْ، وَيَسْأَلُوا الزِّيَادَةَ لِأَنْفُسِهِمْ. فَرْعٌ إِذَا اسْتَسْقَوْا فَسُقُوا، فَذَاكَ، فَإِنْ تَأَخَّرَتِ الْإِجَابَةُ، اسْتَسْقَوْا وَصَلَّوْا ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى يَسْقِيَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَلْ يَعُودُونَ مِنَ الْغَدِ، أَمْ يَصُومُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَبْلَ الْخُرُوجِ كَمَا يَفْعَلُونَ فِي الْخُرُوجِ الْأَوَّلِ؟ قَالَ فِي (الْمُخْتَصَرِ) : مِنَ الْغَدِ. وَفِي الْقَدِيمِ: يَصُومُونَ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. وَقِيلَ: عَلَى حَالَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَى النَّاسِ، وَلَمْ يَنْقَطِعُوا عَنْ مَصَالِحِهِمْ عَادُوا غَدًا بَعْدُ بِغَدٍ، وَإِنِ اقْتَضَى الْحَالُ التَّأْخِيرَ أَيَّامًا، صَامُوا. قُلْتُ: وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ

فصل

وَاحِدٍ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ الْجَوَازَ، وَالْقَدِيمُ الِاسْتِحْبَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ قَطَعُوا بِاسْتِحْبَابِ تَكْرِيرِ الِاسْتِسْقَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى آكَدُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِلَّا مَرَّةً. فَرْعٌ لَوْ تَأَهَّبُوا لِلْخُرُوجِ لِلصَّلَاةِ، فَسُقُوا قَبْلَ مَوْعِدِ الْخُرُوجِ، خَرَجُوا لِلْوَعْظِ وَالدُّعَاءِ وَالشُّكْرِ. وَهَلْ يُصَلُّونَ شُكْرًا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ بِالصَّلَاةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي (الْأُمِّ) . وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَّالِيُّ وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: لَا يُصَلُّونَ. وَأُجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ تَنْقَطِعِ الْمِيَاهُ وَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا لِلِاسْتِزَادَةِ. فَصْلٌ فِي آدَابِ هَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْهَا: أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ النَّاسَ بِصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ يَوْمِ الْخُرُوجِ وَبِالْخُرُوجِ عَنِ الْمَظَالِمِ فِي الدَّمِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ، وَبِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْخَيْرِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ صِيَامًا، فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ وَتَخَشُّعٍ بِلَا زِينَةٍ وَلَا طِيبٍ، لَكِنْ يَتَنَظَّفُونَ بِالْمَاءِ وَالسِّوَاكِ وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ. وَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُ الصِّبْيَانِ وَالْمَشَايِخِ، وَمَنْ لَا هَيْئَةَ لَهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُ الْبَهَائِمِ عَلَى

فصل

الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ، فَلَوْ أُخْرِجَتْ، فَلَا بَأْسَ. وَأَمَّا خُرُوجُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى كَرَاهِيَتِهِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ إِنْ حَضَرُوا مُسْتَسْقًى لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ تَمَيَّزُوا وَلَمْ يَخْتَلِطُوا بِالْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُمْنَعُوا. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ وَإِنْ تَمَيَّزُوا، إِلَّا أَنْ يَخْرُجُوا فِي غَيْرِ يَوْمِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنَ الْآدَابِ أَنْ يَذْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْمِ فِي نَفْسِهِ مَا فَعَلَ مِنْ خَيْرٍ فَيَجْعَلَهُ شَافِعًا. وَمِنْهَا: أَنْ يُسْتَسْقَى بِالْأَكَابِرِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ، لَا سِيَّمَا أَقَارِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَصْلٌ السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الصَّحْرَاءِ، وَيُنَادِيَ لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ زَائِدَةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا، وَيَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَى بَعْدَ (الْفَاتِحَةِ) : (ق) . وَفِي الثَّانِيَةِ: (اقْتَرَبَتْ) . وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: يَقْرَأُ فِي إِحْدَاهُمَا: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا) وَلْيَكُنْ فِي الثَّانِيَةِ وَفِي الْأُولَى (ق) . وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهِمَا مَا يَقْرَأُ فِي الْعِيدِ، وَإِنْ قَرَأَ (إِنَّا أَرْسَلْنَا) كَانَ حَسَنًا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ كُلًّا سَائِغٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي الْأَحَبِّ خِلَافٌ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَقْرَأُ مَا يَقْرَأُ فِي الْعِيدِ. وَأَمَّا وَقْتُ هَذِهِ الصَّلَاةِ، فَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) بِأَنَّهُ وَقْتُ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَاسْتَغْرَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ وَآخَرُونَ: أَنَّ وَقْتَهَا يَبْقَى بَعْدَ الزَّوَالِ مَا لَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ، وَصَرَّحَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) بِأَنَّ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ لَا تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ، بَلْ أَيَّ وَقْتٍ صَلَّوْهَا مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، جَازَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ الْأَئِمَّةِ وَجْهَيْنِ فِي كَرَاهَةِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوْقَاتَ الْمَكْرُوهَةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي حُكْمِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَلَا مَعَ انْضِمَامِ مَا بَيْنَ الزَّوَالِ

فصل

وَالْعَصْرِ إِلَيْهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ وَقْتُ الِاسْتِسْقَاءِ مُنْحَصِرًا فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِحَامِلٍ أَنْ يَحْمِلَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْكَرَاهَةِ عَلَى قَضَائِهَا، فَإِنَّهَا لَا تُقْضَى. قُلْتُ: لَيْسَ بِلَازِمٍ مَا قَالَهُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَصَحَّ: دُخُولُ وَقْتِ الْعِيدِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهُوَ وَقْتُ كَرَاهَةٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِانْحِصَارِ وَقْتِ الِاسْتِسْقَاءِ فِي وَقْتِ الْعِيدِ، الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي (الْمُحَرَّرِ) وَالْمُحَقِّقُونَ: أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ، كَمَا لَا تَخْتَصُّ بِيَوْمٍ. وَمِمَّنْ قَطَعَ بِهِ صَاحِبَا (الْحَاوِي) وَ (الشَّامِلِ) وَنَقَلَهُ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَصَاحِبُ (جَمْعِ الْجَوَامِعِ) عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَمْ أَرَ التَّخْصِيصَ لِغَيْرِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَأَرْكَانُهُمَا وَشَرَائِطُهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعِيدِ. لَكِنْ تُخَالِفُهَا فِي أُمُورٍ. مِنْهَا: أَنَّهُ يُبْدِلُ التَّكْبِيرَاتِ الْمَشْرُوعَةَ فِي أَوَّلِهِمَا بِالِاسْتِغْفَارِ فَيَقُولُ: (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ) . وَيَخْتِمُ كَلَامَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَيُكْثِرُ مِنْهُ فِي الْخُطْبَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. . .) الْآيَةَ. [نُوحٍ: 10] . وَلَنَا وَجْهٌ حَكَاهُ فِي (الْبَيَانِ) عَنِ الْمَحَامِلِيِّ: أَنَّهُ يُكَبِّرُ هُنَا فِي ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ كَالْعِيدِ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ فِي الْأُولَى: (اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا غَدَقًا مُجَلَّلًا سَحًّا طَبَقًا دَائِمًا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ،

اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَالْجَهْدِ وَالضَّنْكِ مَا لَا نَشْكُو إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ، وَاكْشِفْ عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا، فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا) وَيَكُونُ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى وَصَدْرِ الثَّانِيَةِ، مُسْتَقْبِلَ النَّاسِ، مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَإِذَا أَسَرَّ دَعَا النَّاسُ سِرًّا، وَيَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الدُّعَاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْقَى وَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: السُّنَّةُ لِكُلِّ مَنْ دَعَا لِرَفْعِ بَلَاءٍ، أَنْ يَجْعَلَ ظَهْرَ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا سَأَلَ شَيْئًا جَعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلْيَكُنْ مِنْ دُعَائِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَرْتَنَا بِدُعَائِكَ، وَوَعَدْتَنَا إِجَابَتَكَ، وَقَدْ دَعَوْنَاكَ كَمَا أَمَرْتَنَا، فَأَجِبْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا، اللَّهُمَّ امْنُنْ عَلَيْنَا بِمَغْفِرَةِ مَا قَارَفْنَا، وَإِجَابَتِكَ فِي سُقْيَانَا وَسَعَةِ رِزْقِنَا) . فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الدُّعَاءِ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاسِ وَحَثَّهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَدَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَقَرَأَ آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ، وَيَقُولُ: (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ) . هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ تَحَوُّلِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَنْ يُحَوِّلَ رِدَاءَهُ. وَهَلْ يُنَكِّسُهُ مَعَ التَّحْوِيلِ؟ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: نَعَمْ. وَالْقَدِيمُ: لَا. فَالتَّحْوِيلُ: أَنْ يَجْعَلَ مَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، وَبِالْعَكْسِ. وَالتَّنْكِيسُ: أَنْ يَجْعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَمَتَى جَعَلَ الطَّرَفَ الْأَسْفَلَ الَّذِي عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، وَالطَّرَفَ الْأَسْفَلَ الَّذِي عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، حَصَلَ التَّحْوِيلُ وَالتَّنْكِيسُ جَمِيعًا، هَذَا فِي الرِّدَاءِ الْمُرَبَّعِ، فَأَمَّا الْمُقَوَّرُ وَالْمُثَلَّثُ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّحْوِيلُ. وَيَفْعَلُ النَّاسُ بِأَرْدِيَتِهِمْ كَفِعْلِ الْإِمَامِ تَفَاؤُلًا بِتَغَيُّرِ الْحَالِ إِلَى الْخِصْبِ، وَيَتْرُكُونَهَا مُحَوَّلَةً إِلَى أَنْ يَنْزِعُوا الثِّيَابَ.

قُلْتُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى -: إِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ الِاسْتِسْقَاءَ، لَمْ يَتْرُكْهُ النَّاسُ. وَلَوْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، قَالَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : يَجُوزُ وَتَصِحُّ الْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ، وَيَحْتَجُّ لَهَا بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ فِي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ) وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ ثُمَّ صَلَّى. وَفِي صَحِيحَيِ (الْبُخَارِيِّ) وَ (مُسْلِمٍ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَسْتَسْقِي فَدَعَا، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا كَثُرَتِ الْأَمْطَارُ وَتَضَرَّرَتْ بِهَا الْمَسَاكِنُ وَالزُّرُوعُ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى دَفْعَهُ (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا) . قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَا يُشْرَعُ لِذَلِكَ صَلَاةٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْرُزَ لِأَوَّلِ مَطَرٍ يَقَعُ فِي السَّنَةِ وَيَكْشِفَ مِنْ بَدَنِهِ مَا عَدَا عَوْرَتَهُ لِيُصِيبَهُ الْمَطَرُ، وَأَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْوَادِي إِذَا سَالَ، أَوْ يَتَوَضَّأَ، وَيُسَبِّحَ عِنْدَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، وَلَا يُتْبِعَ بَصَرَهُ الْبَرْقَ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ: (اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي (صَحِيحِهِ) . وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: (سَيِّبًا نَافِعًا) مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَيُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ مَعَ زَوَائِدَ وَنَفَائِسَ تَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ (الْأَذْكَارِ) الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي مُتَدَيِّنٌ عَنْ مَعْرِفَةِ مِثْلِهِ. وَيُكْرَهُ سَبُّ الرِّيحِ، فَإِنْ كَرِهَهَا، سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الْخَيْرَ، وَاسْتَعَاذَ مِنَ الشَّرِّ. وَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [كَانَ] إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْمَطَرِ: (مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ) . وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَيَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ النَّوْءَ هُوَ الْمُمْطِرُ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً، كَفَرَ فَصَارَ مُرْتَدًّا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

كتاب الجنائز

كِتَابُ الْجَنَائِزِ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ ذِكْرُ الْمَوْتِ. قُلْتُ: وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيَسْتَعِدُّ لَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْمَرِيضُ آكَدُ. وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الصَّبْرُ عَلَى الْمَرَضِ، وَتَرْكُ الْأَنِينِ مَا أَطَاقَ، وَيُسْتَحَبُّ التَّدَاوِي، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ عِيَادَتُهُ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَهُ قَرَابَةٌ أَوْ جِوَارٌ أَوْ نَحْوُهُمَا، اسْتُحِبَّتْ، وَإِلَّا جَازَتْ، فَإِنْ رَأَى الْعَائِدُ عَلَامَةَ الْبُرْءِ، دَعَا وَانْصَرَفَ، وَإِنْ رَأَى خِلَافَ ذَلِكَ، رَغَّبَهُ فِي التَّوْبَةِ وَالْوَصِيَّةِ. قُلْتُ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْعَائِدِ أَنْ يُطَيِّبَ نَفْسَ الْمَرِيضِ وَلَا يُطَوِّلَ الْقُعُودَ، وَلَا يُوَاصِلَ الْعِيَادَةَ، بَلْ تَكُونَ غِبًّا، وَلَا تُكْرَهُ الْعِيَادَةُ فِي وَقْتٍ إِلَّا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمَرِيضِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فِي آدَابِ الْمُحْتَضَرِ يُسْتَقْبَلُ بِهِ الْقِبْلَةُ. وَفِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَأَخْمَصَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَصَحَّحَهُ الْآخَرُونَ: يُضْجَعُ عَلَى جَنْبِهِ

الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ كَالْمَوْضُوعِ فِي اللَّحْدِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِضِيقِ الْمَوْضِعِ، أَوْ سَبَبٍ آخَرَ، فَعَلَى قَفَاهُ، وَوَجْهُهُ وَأَخْمَصَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَقَّنَ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُلِحُّ الْمُلَقِّنُ وَلَا يُوَاجِهُهُ بِقَوْلِ: قُلْ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) بَلْ يَذْكُرُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَذْكُرَ. أَوْ يَقُولُ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مُبَارَكٌ، فَنَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى جَمِيعًا [وَيَقُولُ:] (سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) فَإِذَا قَالَهَا مَرَّةً لَا تُعَادُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بَعْدَهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَقِّنَهُ غَيْرُ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ غَيْرُهُمْ، لَقَّنَهُ أَشْفَقُهُمْ عَلَيْهِ. قُلْتُ: هَكَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، يُلَقِّنُهُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) . وَذَهَبَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يُلَقَّنُ أَيْضًا: مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. مِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ، الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَنَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ، وَالشَّاشِيُّ فِي (الْمُعْتَمَدِ) وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ (يس) . وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ التَّابِعِينَ سُورَةَ (الرَّعْدِ) أَيْضًا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ ظَنَّهُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ عِنْدَهُ، تَحْسِينُ ظَنِّهِ وَتَطْمِيعُهُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا مَاتَ غُمِّضَتْ عَيْنَاهُ، وَشُدَّ لَحْيَاهُ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ، وَيَرْبُطُهَا فَوْقَ رَأْسِهِ، وَيُلَيِّنُ مَفَاصِلَهُ، فَيَمُدُّ سَاعِدَهُ إِلَى عَضُدِهِ وَيَرُدُّهُ، وَيَرُدُّ سَاقَهُ إِلَى فَخِذِهِ، وَفَخِذَهُ إِلَى بَطْنِهِ، وَيَرُدُّهُمَا وَيُلَيِّنُ أَصَابِعَهُ، وَيَنْزِعُ ثِيَابَهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَيَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ بِثَوْبٍ خَفِيفٍ، وَلَا يَجْمَعُ عَلَيْهِ أَطْبَاقَ الثِّيَابِ، وَيَجْعَلُ أَطْرَافَ الثَّوْبِ السَّاتِرِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ لِئَلَّا يَنْكَشِفَ، وَيُوضَعُ عَلَى بَطْنِهِ شَيْءٌ ثَقِيلٌ، كَسَيْفٍ، أَوْ مِرْآةٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَطِينٌ رَطْبٌ، وَيُصَانُ الْمُصْحَفُ عَنْهُ، وَيُسْتَقْبَلُ بِهِ الْقِبْلَةَ كَالْمُحْتَضَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ، كَسَرِيرٍ وَنَحْوِهِ، وَيَتَوَلَّى هَذِهِ الْأُمُورَ أَرْفَقُ مَحَارِمِهِ بِأَسْهَلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: يَتَوَلَّاهُ الرِّجَالُ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الرِّجَالُ مِنَ النِّسَاءِ الْمَحَارِمِ، أَوِ النِّسَاءُ مِنَ الرِّجَالِ الْمَحَارِمِ، جَازَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

باب

وَيُبَادِرُ إِلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ إِنْ تَيَسَّرَ فِي الْحَالِ. قُلْتُ: يُكْرَهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا، فَلْيَقُلْ: (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) . فَإِنْ كَانَ تَمَنِّيهِ مَخَافَةَ فِتْنَةٍ فِي دِينِهِ فَلَا بَأْسَ. وَيُكْرَهُ لِلْمَرِيضِ كَثْرَةُ الشَّكْوَى، وَتُكْرَهُ الْكَرَاهَةُ عَلَى تَنَاوُلِ الدَّوَاءِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَقُولُوا عِنْدَ الْمَيِّتِ خَيْرًا. وَيَجُوزُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَأَصْدِقَائِهِ تَقْبِيلُ وَجْهِهِ، ثَبَتَتْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ، وَصَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ. وَيُكْرَهُ نَعْيُهُ بِنَعْيِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا بَأْسَ بِالْإِعْلَامِ بِمَوْتِهِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. بَابٌ غُسْلُ الْمَيِّتِ يُسْتَحَبُّ الْمُبَادَرَةُ إِلَى غَسْلِهِ وَتَجْهِيزِهِ إِذَا تَحَقَّقَ مَوْتُهُ، بِأَنْ يَمُوتَ بِعِلَّةٍ، أَوْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُ الْمَوْتِ، بِأَنْ يَسْتَرْخِيَ قَدَمَاهُ، فَلَا يَنْتَصِبَا، أَوْ يَمِيلَ أَنْفُهُ، أَوْ يَنْخَسِفَ صُدْغَاهُ، أَوْ تَمْتَدَّ جِلْدَةُ وَجْهِهِ، أَوْ يَنْخَلِعَ كَفَّاهُ مِنْ ذِرَاعَيْهِ، أَوْ تَتَقَلَّصَ خُصْيَتَاهُ إِلَى فَوْقٍ مَعَ تَدَلِّي الْجِلْدَةِ، فَإِنْ شَكَّ بِأَنْ لَا يَكُونَ بِهِ عِلَّةٌ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِهِ سَكْتَةٌ، أَوْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ فَزَعٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَخَّرَ إِلَى الْيَقِينِ بِتَغْيِيرِ الرَّائِحَةِ أَوْ غَيْرِهِ. فَصْلٌ غُسْلُ الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَكَذَا التَّكْفِينُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالدَّفْنُ بِالْإِجْمَاعِ.

وَأَقَلُّ الْغُسْلِ: اسْتِيعَابُ الْبَدَنِ مَرَّةً بَعْدَ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ إِنْ كَانَتْ. وَفِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْغُسْلِ عَلَى الْغَاسِلِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا فِيمَا ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يُشْتَرَطُ. قُلْتُ: صَحَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ غَسَّلَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يَكْفِي. وَلَوْ غَرِقَ إِنْسَانٌ، ثُمَّ ظَفِرْنَا بِهِ، لَمْ يَكْفِ مَا سَبَقَ، بَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. أَمَّا أَكْمَلُ الْغُسْلِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْمَلَ الْمَيِّتُ إِلَى مَوْضِعٍ خَالٍ مَسْتُورٍ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الْغَاسِلُ، وَمَنْ لَا بُدَّ مِنْ مَعُونَتِهِ عِنْدَ الْغُسْلِ. وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْخُلَ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يُغَسِّلْ وَلَمْ يُعِنْ، وَيُوضَعُ عَلَى لَوْحٍ أَوْ سَرِيرٍ هُيِّئَ لَهُ، وَيَكُونُ مَوْضِعُ رَأْسِهِ أَعْلَى لِيَنْحَدِرَ الْمَاءُ، وَيُغَسَّلُ فِي قَمِيصٍ يُلْبَسُهُ عِنْدَ إِرَادَتِهِ غُسْلَهُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُجَرَّدَ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: هُوَ الْأَوَّلُ. وَلْيَكُنِ الْقَمِيصُ بَالِيًا أَوْ سَخِيفًا. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْقَمِيصُ وَاسِعًا، أَدْخَلَ يَدَهُ فِي كُمِّهِ، وَغَسَلَ مِنْ تَحْتِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا، فَتَقَ رَأَسَ الدَّخَارِيضِ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ. وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ قَمِيصٌ، أَوْ لَمْ يَتَأَتَّ غُسْلُهُ فِيهِ، سَتَرَ مِنْهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَحَرُمَ النَّظَرُ إِلَيْهِ. وَيُكْرَهُ لِلْغَاسِلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ إِلَّا لِحَاجَةٍ بِأَنْ يُرِيدَ مَعْرِفَةَ الْمَغْسُولِ. وَأَمَّا الْمُعِينُ، فَلَا يَنْظُرُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَيُحْضِرُ مَاءً بَارِدًا فِي إِنَاءٍ كَبِيرٍ لِيَغْسِلَ بِهِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْمُسَخَّنِ، إِلَّا أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى الْمُسَخَّنِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، أَوْ لِوَسَخٍ، أَوْ غَيْرِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْعُدَ الْإِنَاءَ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ عَنِ الْمُغْتَسَلِ، بِحَيْثُ لَا يُصِيبُهُ رَشَاشُ الْمَاءِ عِنْدَ الْغُسْلِ.

فَرْعٌ وَيُعِدُّ الْغَاسِلُ قَبْلَ الْغُسْلِ خِرْقَتَيْنِ نَظِيفَتَيْنِ، وَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ بَعْدَ وَضْعِهِ عَلَى الْمُغْتَسَلِ، أَنْ يُجْلِسَهُ إِجْلَاسًا رَفِيقًا، بِحَيْثُ لَا يَعْتَدِلُ، وَيَكُونُ مَائِلًا إِلَى وَرَائِهِ، وَيَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كَتِفِهِ، وَإِبْهَامَهُ فِي نُقْرَةِ قَفَاهُ، لِئَلَّا يَمِيلَ رَأْسُهُ، وَيُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَيُمِرُّ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى بَطْنِهِ إِمْرَارًا بَلِيغًا لِتَخْرُجَ الْفَضَلَاتُ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ مِجْمَرَةٌ فَائِحَةٌ بِالطِّيبِ، وَيَصُبُّ عَلَيْهِ الْمُعِينُ مَاءً كَثِيرًا لِئَلَّا تَظْهَرَ رَائِحَةُ مَا يَخْرُجُ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَى هَيْئَةِ الِاسْتِلْقَاءِ، وَيَغْسِلُ بِيَسَارِهِ - وَهِيَ مَلْفُوفَةٌ بِإِحْدَى الْخِرْقَتَيْنِ - دُبُرَهُ وَمَذَاكِرَهُ وَعَانَتَهُ، كَمَا يَسْتَنْجِي الْحَيُّ، ثُمَّ يُلْقِي تِلْكَ الْخِرْقَةَ، وَيَغْسِلُ يَدَهُ بِمَاءٍ وَإِشْنَانٍ. كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ يَغْسِلُ السَّوْءَتَيْنِ مَعًا بِخِرْقَةٍ وَاحِدَةٍ. وَفِي (النِّهَايَةِ) وَ (الْوَسِيطِ) : أَنَّهُ يَغْسِلُ كُلَّ سَوْءَةٍ بِخِرْقَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي النَّظَافَةِ، ثُمَّ يَتَعَهَّدُ مَا عَلَى بَدَنِهِ مِنْ قَذَرٍ وَنَحْوِهِ. فَرْعٌ فَإِذَا فَرَغَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، لَفَّ الْخِرْقَةَ الْأُخْرَى عَلَى الْيَدِ، وَأَدْخَلَ أُصْبَعَهُ فِي فِيهِ، وَأَمَرَّهَا عَلَى أَسْنَانِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ، وَلَا يَفْتَحُ أَسْنَانَهُ، وَيُدْخِلُ أُصْبَعَهُ فِي مَنْخِرَيْهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ لِيُزِيلَ مَا فِيهِمَا مِنْ أَذًى. ثُمَّ يُوَضِّئُهُ كَوُضُوءِ الْحَيِّ ثَلَاثًا ثَلَاثًا مَعَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَلَا يَكْفِي مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِدْخَالِ الْأُصْبَعَيْنِ عَنِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، بَلْ ذَاكَ كَالسِّوَاكِ. هَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ. وَفِي (الشَّامِلِ) وَغَيْرِهِ: مَا يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَيُمِيلُ رَأْسَهُ فِي الْمَضْمَضَةِ

وَالِاسْتِنْشَاقِ، لِئَلَّا يَصِلَ الْمَاءُ بَاطِنَهُ. وَهَلْ يَكْفِي وُصُولُ الْمَاءِ مَقَادِيمَ الشَّفَتَيْنِ وَالْمِنْخَرَيْنِ، أَمْ يُوَصِّلُهُ إِلَى الدَّاخِلِ؟ حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ تَرَدُّدًا، لِخَوْفِ الْفَسَادِ، وَقَطَعَ بِأَنَّ أَسْنَانَهُ لَوْ كَانَتْ مُتَرَاصَّةً لَا تُفْتَحُ. فَرْعٌ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ، غَسَلَ رَأْسَهُ، ثُمَّ لِحْيَتَهُ، بِالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ، وَسَرَّحَهُمَا بِمُشْطٍ وَاسِعِ الْأَسْنَانِ إِنْ كَانَا مُتَلَبِّدَيْنِ، وَيَرْفُقُ لِئَلَّا يُنْتَفَ شَعْرٌ، فَإِنِ انْتُتِفَ رَدَّهُ إِلَيْهِ. ثُمَّ يَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ الْمُقْبِلَ مِنْ عُنُقِهِ، وَصَدْرِهِ، وَفَخِذِهِ، وَسَاقِهِ، وَقَدَمِهِ. ثُمَّ يَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ كَذَلِكَ، ثُمَّ يُحَوِّلُهُ إِلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، فَيَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ مِمَّا يَلِي الْقَفَا وَالظَّهْرَ مِنَ الْكَتِفَيْنِ إِلَى الْقَدَمِ، ثُمَّ يُحَوِّلُهُ إِلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، فَيَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ كَذَلِكَ. هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي (الْمُخْتَصَرِ) . وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَحَكَى الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ قَوْلًا آخَرَ: أَنَّهُ يَغْسِلُ جَانِبَهُ الْأَيْمَنَ مِنْ مُقَدَّمِهِ، ثُمَّ يُحَوِّلُهُ فَيَغْسِلُ جَانِبَ ظَهْرِهِ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ يُلْقِيهِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَغْسِلُ جَانِبَهُ الْأَيْسَرَ مِنْ مُقَدَّمِهِ، ثُمَّ يُحَوِّلُهُ فَيَغْسِلُ جَانِبَ ظَهْرِهِ الْأَيْسَرَ. قَالُوا: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ سَائِغٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ فِي آخَرَيْنِ: يُضْجَعُ أَوَّلًا عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، فَيُصَبُّ الْمَاءُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمِهِ، ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، فَيُصَبُّ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَعَلَى أَنَّ غَسْلَ الرَّأْسِ لَا يُعَادُ، بَلْ يَبْدَأُ بِصَفْحَةِ الْعُنُقِ فَمَا تَحْتَهَا، وَقَدْ حَصَلَ غَسْلُ الرَّأْسِ أَوَّلًا. وَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْ كَبِّهِ عَلَى الْوَجْهِ. ثُمَّ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ غَسْلَةً وَاحِدَةً. وَهَذِهِ الْغَسْلَةُ تَكُونُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْقَرَاحَ، مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلِ النَّظَافَةُ، زَادَ حَتَّى تَحْصُلَ، فَإِنْ حَصَلَ

بِشَفْعٍ، اسْتُحِبَّ الْإِيتَارُ، وَهَلْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِالْغَسْلَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ بِالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. فَعَلَى هَذَا، لَا تُحْسَبُ هَذِهِ الْغَسْلَةُ مِنَ الثَّلَاثِ قَطْعًا. وَهَلْ تُحْسَبُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَهَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَصَابَ الْمَحَلَّ اخْتَلَطَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ السِّدْرِ وَتَغَيَّرَ بِهِ. فَعَلَى هَذَا، الْمَحْسُوبُ مَا يُصَبُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ الْقَرَاحِ بَعْدَ زَوَالِ السِّدْرِ، فَيَغْسِلُ بَعْدَ زَوَالِ السِّدْرِ ثَلَاثًا بِالْقَرَاحِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ فِي كُلِّ مَاءٍ قَرَاحٍ كَافُورًا، وَهُوَ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ آكَدُ. وَلْيَكُنْ قَلِيلًا لَا يُتَفَاحَشُ التَّغَيُّرُ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ صُلْبًا لَا يَقْدَحُ التَّغَيُّرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَيُعِيدُ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ بَعْدَ الْغَسْلِ. وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ إِعَادَةَ التَّلْيِينِ فِي أَوَّلِ وَضْعِهِ عَلَى الْمُغْتَسَلِ. وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ يُنَشِّفُهُ تَنْشِيفًا بَلِيغًا. فَرْعٌ يَتَعَهَّدُ الْغَاسِلُ مَسْحَ بَطْنِ الْمَيِّتِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِأَرْفَقَ مِمَّا قَبْلَهَا، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ فِي آخِرِ الْغَسَلَاتِ، أَوْ بَعْدَهَا، وَجَبَ غَسْلُ النَّجَاسَةِ قَطْعًا بِكُلِّ حَالٍ. وَهَلْ يَجِبُ غَيْرُهَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا. وَالثَّانِي: يَجِبُ إِعَادَةُ غُسْلِهِ. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ وُضُوءُهُ. فَعَلَى الْأَصَحِّ، لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَارِجَةِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَإِنْ أَوْجَبْنَا الْوُضُوءَ، اخْتُصَّ بِالْخَارِجَةِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ. وَإِنْ أَوْجَبْنَا الْغُسْلَ، فَفِي إِعَادَةِ الْغُسْلِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ احْتِمَالٌ، لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ، الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إِعَادَةُ الْغُسْلِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ تَخْرُجَ النَّجَاسَةُ قَبْلَ الْإِدْرَاجِ فِي الْكَفَنِ، أَوْ

فصل

بَعْدَهُ، وَأَشَارَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) إِلَى تَخْصِيصِ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ بِمَا قَبْلَ الْإِدْرَاجِ. قُلْتُ: قَدْ تَوَافَقَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَالسَّرَخْسِيُّ صَاحِبُ (الْأَمَالِي) : فَجَزَمُوا بِالِاكْتِفَاءِ بِغَسْلِ النَّجَاسَةِ بَعْدَ الْإِدْرَاجِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ لَمَسَ رَجُلٌ امْرَأَةً مَيِّتَةً بَعْدَ غُسْلِهَا، فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ إِعَادَةُ الْغُسْلِ أَوِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ، وَجَبَا هُنَا. كَذَا أَطْلَقَهُ فِي (التَّهْذِيبِ) . وَذَكَرَ غَيْرُهُ: أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى نَقْضِ طُهْرِ الْمَلْمُوسِ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ إِلَّا غَسْلُ الْمَحَلِّ، فَلَا يَجِبُ هُنَا شَيْءٌ، وَلَوْ وُطِئَتْ بَعْدَ الْغُسْلِ، فَإِنْ قُلْنَا بِإِعَادَةِ الْغُسْلِ، أَوِ الْوُضُوءِ لِلنَّجَاسَةِ، وَجَبَ هُنَا الْغُسْلُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، لَمْ يَجِبْ هُنَا شَيْءٌ. قُلْتُ: كَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى نَجَاسَةِ بَاطِنِ فَرْجِهَا، فَإِنَّهَا خَرَجَتْ عَلَى الذَّكَرِ، وَتَنَجَّسَ بِهَا ظَاهِرُ الْفَرْجِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فِيمَنْ يُغَسِّلُ الْمَيِّتَ الْأَصْلُ أَنْ يُغَسِّلَ الرِّجَالَ الرِّجَالُ، وَالنِّسَاءَ النِّسَاءُ. وَأَوْلَى الرِّجَالِ بِالرَّجُلِ، أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي تَرْتِيبُهُمْ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَالنِّسَاءُ أَوْلَى بِغَسْلِ الْمَرْأَةِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ غَسْلُ الْمَرْأَةِ إِلَّا لِأَحَدِ أَسْبَابٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: الزَّوْجِيَّةُ، فَلَهُ غَسْلُ زَوْجَتِهِ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، وَلَهَا غَسْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا عَلَى الصَّحِيحِ. الثَّانِي: الْمَحْرَمِيَّةُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَّالِيِّ، تَجْوِيزُ الْغُسْلِ لِلرِّجَالِ الْمَحَارِمِ مَعَ وُجُودِ النِّسَاءِ، لَكِنْ لَمْ أَرَ لِعَامَّةِ الْأَصْحَابِ تَصْرِيحًا بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي

التَّرْتِيبِ، وَيَقُولُونَ: الْمَحَارِمُ بَعْدَ النِّسَاءِ أَوْلَى. الثَّالِثُ: مِلْكُ الْيَمِينِ، فَلِلسَّيِّدِ غَسْلُ أَمَتِهِ، وَمُدَبَّرَتِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَمُكَاتَبَتِهِ، لِأَنَّ كِتَابَتَهَا تَرْتَفِعُ بِمَوْتِهَا. فَإِنْ كُنَّ مُزَوَّجَاتٍ، أَوْ مُعْتَدَّاتٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ غَسْلُهُنَّ. قُلْتُ: وَالْمُسْتَبْرَأَةُ كَالْمُعْتَدَّةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لِلْمَرْأَةِ غَسْلُ زَوْجِهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا وَمَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ، لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ غَسْلُهُ، لِتَحْرِيمِ النَّظَرِ فِي الْحَيَاةِ. وَإِلَى مَتَى تُغَسِّلُ زَوْجَهَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَبَدًا. وَالثَّانِي: مَا لَمْ تُنْقَضْ عِدَّتُهَا بِأَنْ تَضَعَ حَمْلًا عُقَيْبَ مَوْتِهِ. وَالثَّالِثُ: مَا لَمْ يَتَزَوَّجْ. وَإِذَا غَسَّلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ، لَفَّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً وَلَا يَمَسُّهُ، فَإِنْ خَالَفَ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: يَصِحُّ الْغُسْلُ وَلَا يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي انْتِقَاضِ طُهْرِ الْمَلْمُوسِ. قُلْتُ: وَأَمَّا وُضُوءُ الْغَاسِلِ، فَيَنْتَقِضُ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ هَلْ لِلْأَمَةِ، وَالْمُدَبَّرَةِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، غَسْلُ السَّيِّدِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ. وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبَةِ غَسْلُهُ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَالْمُزَوَّجَةُ، وَالْمُعْتَدَّةُ، وَالْمُسْتَبْرَأَةُ، كَالْمُكَاتَبَةِ. صَرَّحَ بِهِ فِي (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ: لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ، أَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالرُّويَانِيِّ، وَالْأَكْثَرِينَ: لَا يُغَسَّلُ، بَلْ يُيَمَّمُ وَيُدْفَنُ. وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْقَفَّالِ، وَرَجَّحَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ: يُغَسَّلُ فِي ثِيَابِهِ، وَيَلِفُّ الْغَاسِلُ خِرْقَةً عَلَى يَدِهِ، وَيَغُضُّ طَرْفَهُ مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنِ اضْطُرَّ لِلنَّظَرِ، نَظَرَ لِلضَّرُورَةِ. قُلْتُ: حَكَى صَاحِبُ (الْحَاوِي) هَذَا الثَّانِي عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَصَحَّحَهُ. وَحَكَى صَاحِبُ (الْبَيَانِ) وَغَيْرُهُ وَجْهًا ثَالِثًا: أَنَّهُ يُدْفَنُ، وَلَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُيَمَّمُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا مَاتَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَحْرَمٌ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، جَازَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ غَسْلُهُ، وَكَذَا وَاضِحُ الْحَالِ مِنَ الْأَطْفَالِ، يَجُوزُ لِلْفَرِيقَيْنِ غَسْلُهُ، كَمَا يَجُوزُ مَسُّهُ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى كَبِيرًا، فَوَجْهَانِ، كَمَسْأَلَةِ الْأَجْنَبِيِّ، أَحَدُهُمَا: يُيَمَّمُ وَيُدْفَنُ. وَالثَّانِي: يُغَسَّلُ. وَفِيمَنْ يُغَسِّلُهُ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يَجُوزُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا غَسْلُهُ لِلضَّرُورَةِ، وَاسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الصِّغَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ كَالْمَرْأَةِ، وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ كَالرَّجُلِ، أَخْذًا بِالْأَحْوَطِ. وَالثَّالِثُ: يُشْتَرَى مَنْ تَرِكَتِهِ جَارِيَةٌ لِتُغَسِّلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرِكَةٌ، اشْتُرِيَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً

فصل

لِشَخْصٍ بَعْدَ مَوْتِهِ مُسْتَبْعَدٌ، وَلَوْ ثَبَتَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُغَسِّلُ سَيِّدَهَا. وَالْمُرَادُ بِالصَّغِيرِ: مَنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدًّا يُشْتَهَى مِثْلُهُ، وَبِالْكَبِيرِ مَنْ بَلَغَهُ. فَصْلٌ إِذَا ازْدَحَمَ الصَّالِحُونَ لِلْغَسْلِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا، غَسَّلَهُ أَقَارِبُهُ عَلَى تَرْتِيبِ صَلَاتِهِمْ عَلَيْهِ. وَهَلْ تُقَدَّمُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِمْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يُقَدَّمُ رِجَالُ الْعَصَبَاتِ، ثُمَّ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ، وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ الرِّجَالُ الْأَقَارِبُ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ، ثُمَّ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ، ثُمَّ النِّسَاءُ الْمَحَارِمُ. وَالثَّالِثُ: تُقَدَّمُ الزَّوْجَةُ عَلَى الْجَمِيعِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً، قُدِّمَ النِّسَاءُ فِي غَسْلِهَا، وَأَوْلَاهُنَّ نِسَاءُ الْقَرَابَةِ، وَالْأَوْلَى مِنْهُنَّ، ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَإِنِ اسْتَوَتِ اثْنَتَانِ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ، فَالَّتِي فِي مَحَلِّ الْعُصُوبَةِ أَوْلَى، كَالْعَمَّةِ مَعَ الْخَالَةِ، وَاللَّوَاتِي لَا مَحْرَمِيَّةَ لَهُنَّ، يُقَدَّمُ مِنْهُنَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَبَعْدَ نِسَاءِ الْقَرَابَةِ، تُقَدَّمُ الْأَجْنَبِيَّاتُ، ثُمَّ رِجَالُ الْقَرَابَةِ، وَتَرْتِيبُهُمْ كَالصَّلَاةِ. وَهَلْ يُقَدَّمُ الزَّوْجُ عَلَى نِسَاءِ الْقَرَابَةِ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: يُقَدَّمْنَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُنَّ أَلْيَقُ. وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا لَا يَنْظُرْنَ، وَيُقَدَّمُ الزَّوْجُ عَلَى الرِّجَالِ الْأَقَارِبِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكُلُّ مَنْ قَدَّمْنَاهُ، فَشَرْطُهُ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَكَالْمَعْدُومِ، وَيُقَدَّمُ مَنْ بَعْدَهُ حَتَّى يُقَدَّمَ الْمُسْلِمُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى الْقَرِيبِ الْكَافِرِ. وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ قَاتِلًا، فَإِنْ قَتَلَ بِحَقٍّ، بُنِيَ عَلَى إِرْثِهِ مِنْهُ، وَلَوْ أَنَّ الْمُقَدَّمَ فِي الْغُسْلِ سَلَّمَهُ لِمَنْ بَعْدَهُ، فَلَهُ تَعَاطِيهِ بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، فَلَيْسَ لِلرِّجَالِ كُلِّهِمُ التَّفْوِيضُ إِلَى النِّسَاءِ، وَلَا الْعَكْسُ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ لَا يَقْرُبُ طِيبًا، وَلَا يُؤْخَذُ شَعْرُهُ وَظُفُرُهُ، وَلَا يُلْبَسُ الرَّجُلُ مَخِيطًا، وَلَا يُسْتَرُ رَأْسُهُ، وَلَا وَجْهُ الْمَرْأَةِ. وَلَا بَأْسَ بِالتَّخْمِيرِ عِنْدَ غُسْلِهِ، كَمَا لَا بَأْسَ بِجُلُوسِ الْمُحْرِمِ عِنْدَ الْعَطَّارِ، وَلَوْ مَاتَتْ مُعْتَدَّةٌ مُحِدَّةٌ، جَازَ تَطْيِيبُهَا عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: فَلَوْ طَيَّبَ الْمُحْرِمَ إِنْسَانٌ، أَوْ أَلْبَسَهُ مَخِيطًا، عَصَى وَلَا فِدْيَةَ، كَمَا لَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْ مَيِّتٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ غَيْرُ الْمُحْرِمِ مِنَ الْمَوْتَى، هَلْ يُقَلَّمُ ظُفْرُهُ، وَيُؤْخَذُ شَعْرُ إِبِطِهِ، وَعَانَتِهِ، وَشَارِبِهِ؟ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: لَا يُفْعَلُ، كَمَا لَا يُخْتَنُ. وَالْجَدِيدُ: يُفْعَلُ. وَالْقَوْلَانِ فِي الْكَرَاهَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تُسْتَحَبُّ. قُلْتُ: قَلَّدَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ الرُّويَانِيَّ فِي قَوْلِهِ: لَا تُسْتَحَبُّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي إِثْبَاتِ الْكَرَاهَةِ وَعَدَمِهَا. وَكَذَا قَالَهُ أَيْضًا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَلَكِنْ صَرَّحَ الْأَكْثَرُونَ، أَوِ الْكَثِيرُونَ بِخِلَافِهِ، فَقَالُوا: الْجَدِيدُ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ. وَالْقَدِيمُ: يُكْرَهُ. مِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا، صَاحِبُ (الْحَاوِي) وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْغَزَّالِيُّ فِي (الْوَسِيطِ) وَغَيْرُهُمْ. وَقَطَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ بِالِاسْتِحْبَابِ، وَقَالَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) : الْقَوْلُ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ. وَعَجَبٌ عَنِ الرَّافِعِيِّ كَيْفَ يَقُولُ مَا قَالَ، وَهَذِهِ الْكُتُبُ مَشْهُورَةٌ، لَا سِيَّمَا (الْوَسِيطُ) . وَأَمَّا الْأَصَحُّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْقَدِيمُ هُنَا أَصَحُّ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، فَلَمْ يُنْقَلْ

عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالصَّحَابَةِ فِيهِ شَيْءٌ مُعْتَمَدٌ، وَأَجْزَاءُ الْمَيِّتِ مُحْتَرَمَةٌ، فَلَا تُنْتَهَكُ بِهَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمَا لَا يُخْتَنُ، فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يُخْتَنُ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: يُخْتَنُ الْبَالِغُ دُونَ الصَّبِيِّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، يُخَيَّرُ الْغَاسِلُ فِي شَعْرِ الْإِبِطَيْنِ وَالْعَانَةِ بَيْنَ الْأَخْذِ بِالْمُوسَى أَوْ بِالنَّوْرَةِ، وَقِيلَ: تَتَعَيَّنُ النَّوْرَةُ فِي الْعَانَةِ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْجَمِيعِ، فَأَمَّا الشَّارِبُ فَيَقُصُّهُ كَالْحَيَاةِ. قَالَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ: يُكْرَهُ حَلْقُهُ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ قَبْلَ الْغُسْلِ. مِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ، وَصَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِدَفْنِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مَعَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) : مَا يَأْخُذُهُ مِنْهَا، يُصَرُّ فِي كَفَنِهِ. وَوَافَقَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) فِي الشَّعْرِ الْمُنْتَتَفِ فِي تَسْرِيحِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُهُمْ. وَقَالَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) : الِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ مَعَهُ، إِذْ لَا أَصْلَ لَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَا يُحْلَقُ رَأْسُهُ بِحَالٍ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ بِحَلْقِهِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ كَالشَّارِبِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي صِفَةِ الْغُسْلِ، هُوَ فِي غَيْرِ الشَّهِيدِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ الشَّهِيدِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَرْعٌ لَوْ تَحَرَّقَ مُسْلِمٌ، بِحَيْثُ لَوْ غُسِّلَ لَتَهَرَّأَ، لَمْ يُغَسَّلْ، بَلْ يُيَمَّمُ، وَلَوْ كَانَ بِهِ قُرُوحٌ، وَخِيفَ عَلَيْهِ مِنْ غُسْلِهِ تَسَارُعُ الْبِلَى إِلَيْهِ بَعْدَ الدَّفْنِ، غُسِّلَ، فَالْجَمِيعُ صَائِرُونَ إِلَى الْبِلَى. قُلْتُ: يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ غَسْلُ الْمَيِّتِ بِلَا كَرَاهَةٍ. وَلَوْ مَاتَا غُسِّلَا غُسْلًا

باب

وَاحِدًا. وَإِذَا رَأَى الْغَاسِلُ مِنَ الْمَيِّتِ مَا يُعْجِبُهُ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ، وَإِنْ رَأَى مَا يَكْرَهُ، حَرُمَ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ، وَإِذَا كَانَ لِلْمَيِّتَةِ شَعْرٌ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُجْعَلَ ثَلَاثَ ذَوَائِبَ، وَتُلْقَى خَلْفَهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ مَأْمُونًا. وَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَتَنَازَعْنَ فِي غُسْلِهِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ. وَلَوْ مَاتَ لَهُ زَوْجَاتٌ فِي وَقْتٍ بِهَدْمٍ، أَوْ غَرَقٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ، فَقُدِّمَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا. قَالَ الدَّارِمِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَهُنَاكَ نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ، وَرِجَالٌ كُفَّارٌ، أُمِرَتِ الْكُفَّارُ بِغَسْلِهِ، وَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ. وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى صِحَّةِ غَسْلِ الْكَافِرِ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَإِذَا نُشِّفَ الْمَغْسُولُ بِثَوْبٍ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَنْجُسُ الثَّوْبُ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِنَجَاسَةِ الْمَيِّتِ، أَمْ لَا. قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. بَابٌ التَّكْفِينُ تَقَدَّمَ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَيُسْتَحَبُّ فِي لَوْنِ الْكَفَنِ الْبَيَاضُ، وَجِنْسُهُ فِي حَقِّ كُلِّ مَيِّتٍ، مَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ فِي الْحَيَاةِ، فَيَجُوزُ تَكْفِينُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَرِيرِ، لَكِنْ يُكْرَهُ، وَيَحْرُمُ تَكْفِينُ الرَّجُلِ بِهِ. قُلْتُ: وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ مُنْكَرٌ: أَنَّهُ يَحْرُمُ تَكْفِينُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَرِيرِ. وَأَمَّا الْمُزَعْفَرُ، وَالْمُعَصْفَرُ، فَلَا يَحْرُمُ تَكْفِينُهَا فِيهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُكْرَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: يُعْتَبَرُ فِي الْأَكْفَانِ الْمُبَاحَةِ حَالُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ مُكْثِرًا، فَمِنْ جِيَادِ الثِّيَابِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا، فَأَوْسَطُهَا، وَإِنْ كَانَ مُقِلًّا، فَخَشِنُهَا. قَالُوا: وَتُكْرَهُ الْمُغَالَاةُ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : وَالْمَغْسُولُ أَوْلَى

فصل

مِنَ الْجَدِيدِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الْكَفَنِ فِي الْبَيَاضِ، وَالنَّظَافَةِ، وَسُبُوغِهِ، وَكَثَافَتِهِ، لَا فِي ارْتِفَاعِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ أَقَلُّ الْكَفَنِ ثَوْبٌ، وَأَكْمَلُهُ لِلرِّجَالِ ثَلَاثَةٌ، وَفِي قَدْرِ الثَّوْبِ الْوَاجِبِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَوْرَةِ الْمُكَفَّنِ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ. وَالثَّانِي: مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ إِلَّا رَأْسَ الْمُحْرِمِ، وَوَجْهَ الْمُحْرِمَةِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَصَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِذَا كُفِّنَ فِيمَا لَا يَعُمُّ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ، سُتِرَ الرَّأْسُ. وَالثَّوْبُ الْوَاجِبُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا تَنْفُذُ وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ بِإِسْقَاطِهِ. وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِإِسْقَاطِهِمَا. وَلَوْ لَمْ يُوصِ فَقَالَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ: يُكَفَّنُ بِثَوْبٍ، وَبَعْضُهُمْ: بِثَلَاثَةٍ، فَالْمَذْهَبُ يُكَفَّنُ بِثَلَاثَةٍ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: بِثَوْبٍ. وَأَصَحُّهُمَا: بِثَلَاثَةٍ، وَلَوِ اتَّفَقَتِ الْوَرَثَةُ عَلَى ثَوْبٍ، قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : يَجُوزُ. وَفِي (التَّتِمَّةِ) : إِنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ. قُلْتُ: قَوْلُ (التَّتِمَّةِ) أَقْيَسُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ مُسْتَغْرِقَةٌ، فَقَالَ الْغُرَمَاءُ: ثَوْبٌ، فَثَوْبٌ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ مَحَلُّ الْكَفَنِ: رَأْسُ مَالِ التَّرِكَةِ، يُقَدَّمُ عَلَى الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ، لَكِنْ لَا يُبَاعُ الْمَرْهُونُ فِي الْكَفَنِ، وَلَا الْجَانِي، وَلَا مَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ.

قُلْتُ: وَيُلْحَقُ بِالثَّلَاثَةِ، الْمَالُ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الرُّجُوعِ بِإِفْلَاسِ الْمَيِّتِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ الْفَرَائِضِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا، فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ هُوَ فِي نَفَقَتِهِ، فَعَلَى الْقَرِيبِ كَفَنُ قَرِيبِهِ، وَعَلَى السَّيِّدِ كَفَنُ عَبْدِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَمَكَاتَبِهِ، وَسَوَاءٌ فِي أَوْلَادِهِ كَانُوا صِغَارًا، أَوْ كِبَارًا، تَجِبُ عَلَيْهِ أَكْفَانُهُمْ، لِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ بِالْمَوْتِ، وَنَفَقَةُ عَاجِزِهِمْ وَاجِبَةٌ. وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ كَفَنُهَا، وَمُؤْنَةُ تَجْهِيزِهَا عَلَى الْأَصَحِّ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَالٌ، فَفِي مَالِهَا. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتْرُكِ الْمَيِّتُ مَالًا، وَلَا كَانَ لَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَيَجِبُ كَفَنُهُ وَمُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، كَنَفَقَتِهِ. وَهَلْ يُكَفَّنُ مِنْهُ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ، أَمْ بِثَلَاثَةٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: بِثَوْبٍ. فَإِنْ قُلْنَا: ثَوْبٌ، فَلَوْ تَرَكَ ثَوْبًا لَمْ يُزَدْ مِنْ بَيْتِ مَالٍ، وَإِنْ قُلْنَا: ثَلَاثَةٌ، كَمُلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، فَعَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْكَفَنُ وَمُؤْنَةُ التَّجْهِيزِ. قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِذَا مَاتَ وَهُوَ فِي نَفَقَةِ غَيْرِهِ، هَلْ يَلْزَمُهُ تَكْفِينُهُ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، أَمْ بِثَوْبٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: ثَوْبٌ. وَقَطَعَ هُوَ وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، وَلَزِمَ الْمُسْلِمِينَ تَكْفِينُهُ، لَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ ثَوْبٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي كَفَنِ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ. فَلَوْ زِيدَ إِلَى خَمْسَةٍ، جَازَ، وَلَا يُسْتَحَبُّ. وَيُسْتَحَبُّ تَكْفِينُ الْمَرْأَةِ فِي خَمْسَةٍ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْخَمْسَةِ مَكْرُوهَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

قُلْتُ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَيْسَتِ الْخَمْسَةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَالثَّلَاثَةِ لِلرَّجُلِ، حَتَّى نَقُولَ: يُجْبَرُ الْوَرَثَةُ عَلَيْهَا، كَمَا يُجْبَرُونَ عَلَى الثَّلَاثَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ إِنْ كُفِّنَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ثَلَاثَةٍ، فَالْمُسْتَحَبُّ ثَلَاثُ لَفَائِفَ. وَإِنْ كُفِّنَ الرَّجُلُ فِي خَمْسَةٍ، فَثَلَاثُ لَفَائِفَ، وَقَمِيصٌ، وَعِمَامَةٌ، وَتُجْعَلَانِ تَحْتَ اللَّفَائِفِ. وَإِنْ كُفِّنَتِ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةٍ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: إِزَارٌ وَخِمَارٌ، وَثَلَاثُ لَفَائِفَ. وَالْقَدِيمُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: إِزَارٌ وَخِمَارٌ وَقَمِيصٌ وَلِفَافَتَانِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا يُفْتَى فِيهِ عَلَى الْقَدِيمِ. قُلْتُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَحَامِلِيُّ: الْمَعْرُوفُ لِلشَّافِعِيِّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ، أَنَّهُ يَكُونُ فِيهَا قَمِيصٌ. قَالَا: وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: لَا يُعْرَفُ إِلَّا عَنِ الْمُزَنِيِّ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي نَقَلَا، لَا يَكُونُ إِثْبَاتُ الْقَمِيصِ مُخْتَصًّا بِالْقَدِيمِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا ثَوْبٌ، لِئَلَّا تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهَا، وَاخْتُلِفَ فِيهِ. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: هُوَ ثَوْبٌ سَادِسٌ، وَيُحَلُّ عَنْهَا إِذَا وُضِعَتْ فِي الْقَبْرِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُشَدُّ عَلَيْهَا ثَوْبٌ مِنَ الْخَمْسَةِ وَيُتْرَكُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْخَمْسَةِ، فَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ: عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ: إِنْ قُلْنَا: تُقَمَّصُ، شُدَّ عَلَيْهَا الْمِئْزَرُ، ثُمَّ الْقَمِيصُ، ثُمَّ الْخِمَارُ، ثُمَّ تُلَفُّ فِي ثَوْبَيْنِ، ثُمَّ يُشَدُّ السَّادِسُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُقَمَّصُ، شُدَّ الْمِئْزَرُ، ثُمَّ الْخِمَارُ، ثُمَّ تُلَفُّ فِي اللَّفَائِفِ، ثُمَّ يُشَدُّ عَلَيْهَا خِرْقَةٌ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ: إِنْ قُلْنَا: تُقَمَّصُ، شُدَّ الْمِئْزَرُ، ثُمَّ الدِّرْعُ، ثُمَّ الْخِمَارُ، ثُمَّ يُشَدُّ عَلَيْهَا الْخِرْقَةُ، ثُمَّ تُلَفُّ فِي ثَوْبٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُقَمَّصُ، شُدَّ الْمِئْزَرُ، ثُمَّ الْخِمَارُ، ثُمَّ تُلَفُّ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ يُشَدُّ عَلَيْهَا آخَرُ، ثُمَّ تُلَفُّ فِي الْخَامِسِ. وَإِذَا وَقَعَ التَّكْفِينُ فِي اللَّفَائِفِ الثَّلَاثِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ.

أَحَدُهُمَا: تَكُونُ مُتَفَاوِتَةً فِي الْأَوَّلِ، يَأْخُذُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتَيْهِ. وَالثَّانِي: مِنْ عُنُقِهِ إِلَى كَعْبِهِ. وَالثَّالِثُ: يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: تَكُونُ مُتَسَاوِيَةً فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ بَدَنِهِ. وَلَا فَرْقَ فِي التَّكْفِينِ فِي الثَّلَاثِ، بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْخَمْسَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ تَبْخِيرُ الْكَفَنِ بِالْعُودِ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ مُحْرِمًا، فَتُنْصَبُ مِبْخَرَةٌ، وَتُوضَعُ الْأَكْفَانُ عَلَيْهَا لِيُصِيبَهَا دُخَانُ الْعُودِ، ثُمَّ تُبْسَطُ أَحْسَنُ اللَّفَائِفِ وَأَوْسَعُهَا، وَيُذَرُّ عَلَيْهَا حَنُوطٌ، وَتُبْسَطُ الثَّانِيَةُ فَوْقَهَا، وَيُذَرُّ عَلَيْهَا حَنُوطٌ، وَتُبْسَطُ الثَّالِثَةُ الَّتِي تَلِي الْمَيِّتَ فَوْقَهَا، وَيُذَرُّ عَلَيْهَا حَنُوطٌ وَكَافُورٌ، ثُمَّ يُوضَعُ الْمَيِّتُ فَوْقَهَا مُسْتَلْقِيًا، وَيُؤْخَذُ قَدْرٌ مِنَ الْقُطْنِ الْمَحْلُوجِ، وَيُجْعَلُ عَلَيْهِ حَنُوطٌ وَكَافُورٌ، وَيُدَسُّ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْحَلْقَةِ لِيَرُدَّ شَيْئًا يَتَعَرَّضُ لِلْخُرُوجِ، وَلَا يُدْخِلُهُ فِي بَاطِنِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ يَسُدُّ أَلْيَتَيْهِ وَيَسْتَوْثِقُ بِأَنْ يَأْخُذَ خِرْقَةً، وَيَشُقَّ رَأْسَهَا، وَيَجْعَلَ وَسَطَهَا عَنْ أَلْيَتَيْهِ وَعَانَتِهِ، وَيَشُدُّهَا فَوْقَ السُّرَّةِ بِأَنْ يَرُدَّ مَا يَلِي ظَهْرَهُ إِلَى سُرَّتِهِ، وَيَعْطِفَ الشِّقَّيْنِ الْآخَرَيْنِ عَلَيْهِ. وَلَوْ شَدَّ شِقًّا مِنْ كُلِّ رَأْسٍ عَلَى فَخِذِهِ، وَمِثْلَهُ عَلَى الْفَخِذِ الثَّانِيَةِ، جَازَ. وَقِيلَ: يَشُدُّهَا عَلَيْهِ بِالْخَيْطِ، وَلَا يَشُقُّ طَرَفَيْهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنَ الْقُطْنِ وَيَضَعُ عَلَيْهِ قَدْرًا مِنَ الْكَافُورِ وَالْحَنُوطِ، وَيُجْعَلُ عَلَى مَنَافِذِ الْبَدَنِ مِنَ الْمِنْخَرَيْنِ، وَالْأُذُنَيْنِ، وَالْعَيْنَيْنِ، وَالْجِرَاحَاتِ النَّافِذَةِ، دَفْعًا لِلْهَوَامِّ، وَيَجْعَلُ الطِّيبَ عَلَى مَسَاجِدِهِ، وَهِيَ الْجَبْهَةُ، وَالْأَنْفُ، وَبَاطِنُ الْكَفَّيْنِ، وَالرُّكْبَتَانِ، وَالْقَدَمَانِ، فَيَجْعَلُ الطِّيبَ عَلَى قُطْنٍ، وَيُجْعَلُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَقِيلَ: يُجْعَلُ عَلَيْهَا بِلَا قُطْنٍ. ثُمَّ يُلْقَى الْكَفَنُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَثْنِيَ مِنَ الثَّوْبِ الَّذِي يَلِي

باب

الْمَيِّتَ طَرَفُهُ الَّذِي يَلِي شِقَّهُ الْأَيْسَرَ، عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَالَّذِي يَلِي الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ، كَمَا يَفْعَلُ الْحَيُّ بِالْقِبَاءِ، ثُمَّ يَلُفُّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ كَذَلِكَ. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالطَّرَفِ الَّذِي يَلِي شِقَّهُ الْأَيْمَنَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ. وَإِذَا لَفَّ الْكَفَنَ عَلَيْهِ، جَمَعَ الْفَاضِلَ عِنْدَ رَأْسِهِ جَمْعَ الْعِمَامَةِ، وَرَدَّ عَلَى وَجْهِهِ وَصَدْرِهِ إِلَى حَيْثُ بَلَغَ، وَمَا فَضَلَ عِنْدَ رِجْلَيْهِ يُجْعَلُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ عَلَى الْأَكْفَانِ أَوَّلًا، بِحَيْثُ إِذَا لُفَّ عَلَيْهِ كَانَ الْفَاضِلُ عِنْدَ رَأْسِهِ أَكْثَرَ، ثُمَّ تُشَدُّ الْأَكْفَانُ عَلَيْهِ بِشَدَّادٍ، خِيفَةَ انْتِشَارِهَا عِنْدَ الْحَمْلِ، فَإِذَا وُضِعَ فِي الْقَبْرِ. نُزِعَ. وَفِي كَوْنِ الْحَنُوطِ مُسْتَحَبًّا، أَوْ وَاجِبًا، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مُسْتَحَبٌّ. قُلْتُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ كَالْكَبِيرِ فِي اسْتِحْبَابِ تَكْفِينِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ. وَقَالَ الضَّيْمَرِيُّ: لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِدَّ لِنَفْسِهِ كَفَنًا لِئَلَّا يُحَاسَبَ عَلَيْهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ، إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةٍ يُقْطَعُ بِحِلِّهَا، أَوْ مِنْ أَثَرِ بَعْضِ أَهْلِ الْخَيْرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَوِ الْعُبَّادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ادِّخَارَهُ حَسَنٌ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِعْلُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. بَابٌ حَمْلُ الْجِنَازَةِ لَيْسَ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ دَنَاءَةٌ وَسُقُوطُ مُرُوءَةٍ، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَإِكْرَامٌ لِلْمَيِّتِ، وَلَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الرِّجَالُ، ذَكَرًا كَانَ الْمَيِّتُ، أَوْ أُنْثَى، وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى الْهَيْآتِ الْمُزْرِيَةِ، وَلَا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا السُّقُوطُ. وَلِلْحَمْلِ كَيْفِيَّتَانِ. إِحْدَاهُمَا: بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلٌ فَيَضَعَ الْخَشَبَتَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ، وَهُمَا الْعَمُودَانِ

فصل

عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَالْخَشَبَةَ الْمُعْتَرِضَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى كَتِفِهِ، وَيَحْمِلُ مُؤَخَّرَ النَّعْشِ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَالْآخَرُ مِنَ الْأَيْسَرِ، وَلَا يَتَوَسَّطُ الْخَشَبَتَيْنِ الْمُؤَخَّرَتَيْنِ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ لَا يَرَى مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ الْمُقَدَّمُ بِالْحَمْلِ، أَعَانَهُ رَجُلَانِ خَارِجَ الْعَمُودَيْنِ، يَضَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدًا عَلَى عَاتِقِهِ، فَتَكُونُ الْجِنَازَةُ مَحْمُولَةً عَلَى خَمْسَةٍ. وَالْكَيْفِيَّةُ الثَّانِيَةُ: التَّرْبِيعُ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلَانِ، فَيَضَعَ أَحَدُهُمَا الْعَمُودَ الْأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، وَالْآخَرُ الْعَمُودَ الْأَيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، وَكَذَلِكَ يَحْمِلُ الْعَمُودَيْنِ مِنْ آخِرِهِمَا رَجُلَانِ، فَتَكُونُ الْجِنَازَةُ مَحْمُولَةً بِأَرْبَعَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ أَرَادَ التَّبَرُّكَ بِحَمْلِ الْجِنَازَةِ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعَةِ، بَدَأَ بِالْعَمُودِ الْأَيْسَرِ مِنْ مُقَدَّمِهَا، فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ أَيْضًا، ثُمَّ يُسَلِّمُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَأْخُذُ الْعَمُودَ الْأَيْسَرَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا، فَيَحْمِلُهُ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ أَيْضًا، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَعْرِضُ بَيْنَ يَدَيْهَا لِئَلَّا يَكُونَ مَاشِيًا خَلْفَهَا، فَيَأْخُذُ الْعَمُودَ الْأَيْمَنَ مِنْ مُقَدَّمِهَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْعَمُودَ الْأَيْمَنَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى إِذَا حَمَلَ الْجِنَازَةَ عَلَى هَيْئَةِ التَّرْبِيعِ. وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَيْفِيَّتَيْنِ جَائِزَةٌ. قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يَحْمِلَ تَارَةً كَذَا، وَتَارَةً كَذَا، فَإِنِ اقْتَصَرَ فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: الْحَمْلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ أَفْضَلُ. وَالثَّانِي: التَّرْبِيعُ. وَالثَّالِثُ: هُمَا سَوَاءٌ. فَصْلٌ الْمَشْيُ أَمَامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ لِلرَّاكِبِ وَالْمَاشِي، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهَا، بِحَيْثُ لَوِ الْتَفَتَ رَآهَا، وَلَا يَتَقَدَّمُهَا إِلَى الْمَقْبَرَةِ، فَلَوْ تَقَدَّمَ لَمْ يُكْرَهْ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ قَامَ مُنْتَظِرًا لَهَا، وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ. وَالسُّنَّةُ الْإِسْرَاعُ بِالْجِنَازَةِ، إِلَّا أَنْ يَخَافَ

باب

مِنَ الْإِسْرَاعِ تَغَيُّرَ الْمَيِّتِ، فَيَتَأَنَّى. وَالْمُرَادُ بِالْإِسْرَاعِ: فَوْقَ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ دُونَ الْخَبَبِ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ، أَوِ انْفِجَارٌ، أَوِ انْتِفَاخٌ، زِيدَ فِي الْإِسْرَاعِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْكَبَ فِي ذَهَابِهِ مَعَ الْجِنَازَةِ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الرُّجُوعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْجُمُعَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً، اسْتُحِبَّ أَنْ يُتَّخَذَ لَهَا مَا يَسْتُرُهَا، كَالْخَيْمَةِ، وَالْقُبَّةِ. قَالُوا: وَإِتْبَاعُ الْجَنَائِزِ سُنَّةٌ مُتَأَكَّدَةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَتْبَعْنَ. ثُمَّ قِيلَ: الِاتِّبَاعُ حَرَامٌ عَلَيْهِنَّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ حَرَامًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ اتِّبَاعُ جِنَازَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يُكْرَهُ أَنْ تُتْبَعَ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ فِي مِجْمَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَالْمَذْهَبُ: الْكَرَاهَةُ. وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْقَبْرِ مِجْمَرَةٌ. وَأَمَّا النِّيَاحَةُ وَالصِّيَاحُ وَرَاءَ الْجِنَازَةِ، فَحَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ. وَيُكْرَهُ اللَّغَطُ فِي الْمَشْيِ مَعَهَا، وَالْحَدِيثُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، بَلِ الْمُسْتَحَبُّ الْفِكْرُ فِي الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، وَفَنَاءِ الدُّنْيَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُنَا: وَإِذَا مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ وَلَمْ يُرِدِ الذَّهَابَ مَعَهَا، لَمْ يَقُمْ لَهَا، بَلْ نَصَّ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى كَرَاهَةِ الْقِيَامِ. وَنَقَلَ الْمَحَامِلِيُّ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهِ، وَانْفَرَدَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) بِاسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: الْأَحَادِيثُ مَنْسُوخَةٌ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. بَابٌ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ تَقَدَّمَ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ، أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا مُسْلِمًا غَيْرَ شَهِيدٍ، فَلَوْ وُجِدَ بَعْضُ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُعْلَمْ مَوْتُهُ، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ

عُلِمَ مَوْتُهُ، صُلِّيَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ الْمَوْجُودُ. هَذَا فِي غَيْرِ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِي هَذِهِ الْأَجْزَاءِ وَجْهَانِ. أَقْرَبُهُمَا إِلَى إِطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا، لَكِنْ قَالَ فِي (الْعُدَّةِ) : إِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَمَتَى شُرِعَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْغُسْلِ وَالْمُوَارَاةِ بِخِرْقَةٍ. وَأَمَّا الدَّفْنُ، فَلَا يَخْتَصُّ بِمَا إِذَا عُلِمَ مَوْتُ صَاحِبِهِ، بَلْ مَا يَنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ مِنْ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَغَيْرِهِمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ دَفْنُهُ، وَكَذَلِكَ يُوَارَى دَمُ الْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ. وَالْعَلَقَةُ وَالْمُضْغَةُ تُلْقِيهِمَا الْمَرْأَةُ. وَلَوْ وُجِدَ بَعْضُ مَيِّتٍ أَوْ كُلُّهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، صُلِّيَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا الْإِسْلَامُ. ثُمَّ مَتَى صَلَّى عَلَى الْعُضْوِ، يَنْوِي الصَّلَاةَ عَلَى جُمْلَةِ الْمَيِّتِ، لَا عَلَى الْعُضْوِ وَحْدَهُ. فَرْعٌ السَّقْطُ لَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَهِلَّ أَوْ يَبْكِيَ ثُمَّ يَمُوتُ، فَهُوَ كَالْكَبِيرِ. الثَّانِي: أَنْ لَا تُتَيَقَّنَ حَيَّاتُهُ بِاسْتِهْلَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَتَارَةً يُعَرَّى عَنْ أَمَارَةٍ، كَالِاخْتِلَاجِ وَنَحْوِهِ، وَتَارَةً لَا يُعَرَّى، فَإِنْ عُرِّيَ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدًّا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَلَا يُغَسَّلُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي غُسْلِهِ قَوْلَانِ. وَإِنْ بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَلَمْ يُصَلَّ فِي الْجَدِيدِ، وَيُغَسَّلُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْغُسْلَ أَوْسَعُ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ يُغَسَّلُ بِلَا صَلَاةٍ. أَمَّا إِنِ اخْتُلِجَ، أَوْ تَحَرَّكَ، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا. وَيُغَسَّلُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ خِلْقَةُ آدَمِيٍّ يَكْفِي فِيهِ الْمُوَارَاةُ كَيْفَ كَانَتْ، وَبَعْدَ ظُهُورِهَا حُكْمُ التَّكْفِينِ وَحُكْمُ الْغُسْلِ.

فصل

فَصْلٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى كَافِرٍ، حَرْبِيًّا كَانَ، أَوْ ذِمِّيًّا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غُسْلُهُ، ذِمِّيًّا كَانَ، أَوْ حَرْبِيًّا، لَكِنْ يَجُوزُ، وَأَقَارِبُهُ الْكُفَّارُ أَوْلَى بِغَسْلِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا تَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ، فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا، وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفَاءً بِذِمَّتِهِ، كَمَا يَجِبُ إِطْعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، لَمْ يَجِبْ تَكْفِينُهُ قَطْعًا، وَلَا دَفْنُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجِبُ. وَالثَّانِي: لَا، بَلْ يَجُوزُ إِغْرَاءُ الْكَلْبِ عَلَيْهِ، فَإِنْ دُفِنَ فَلِئَلَّا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِرِيحِهِ، وَالْمُرْتَدُّ كَالْحَرْبِيِّ، وَلَوِ اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِالْكُفَّارِ وَلَمْ يَتَمَيَّزُوا، وَجَبَ غُسْلُ جَمِيعِهِمْ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ صَلَّى عَلَيْهِمْ دَفْعَةً، جَازَ، وَيَقْصِدُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ. وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، جَازَ، وَيَنْوِي الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا) . قُلْتُ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ دَفْعَةً أَفْضَلُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ. وَاخْتِلَاطُ الشُّهَدَاءِ بِغَيْرِهِمْ كَاخْتِلَاطِ الْكُفَّارِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ الشَّهِيدُ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا تَجِبُ، لَكِنْ تَجُوزُ. وَأَمَّا الْغُسْلُ، فَإِنْ أَدَّى إِلَى إِزَالَةِ دَمِ الشَّهَادَةِ، فَحَرَامٌ قَطْعًا، وَإِلَّا فَحَرَامٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ كَالصَّلَاةِ. وَاسْمُ الشَّهِيدِ قَدْ يُخَصَّصُ فِي الْفِقْهِ بِمَنْ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَدْ يُسَمَّى كُلُّ

مَقْتُولٍ ظُلْمًا شَهِيدًا وَهُوَ أَظْهَرُ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (الْمُخْتَصَرِ) وَعَلَى هَذَا، الشَّهِيدُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: مَنْ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ مَاتَ بِسَبَبِ قِتَالِ الْكُفَّارِ حَالَ قِيَامِ الْقِتَالِ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ كَافِرٌ، أَوْ أَصَابَهُ سِلَاحُ مُسْلِمٍ خَطَأً، أَوْ عَادَ إِلَيْهِ سِلَاحُهُ، أَوْ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، أَوْ رَمَحَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ، أَوْ وُجِدَ قَتِيلًا عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُ مَوْتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ دَمٍ، أَمْ لَا. أَمَّا إِذَا مَاتَ فِي مُعْتَرَكِ الْكُفَّارِ لَا بِسَبَبِ الْقِتَالِ، بَلْ بِمَرَضٍ، أَوْ فَجْأَةً، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَهِيدٍ، وَقِيلَ: عَلَى وَجْهَيْنِ. وَلَوْ جُرِحَ فِي الْقِتَالِ وَمَاتَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ، فَإِنْ قُطِعَ بِمَوْتِهِ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ وَبَقِيَ فِيهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَيْسَ بِشَهِيدٍ، وَسَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ أَكَلَ وَتَكَلَّمَ وَصَلَّى، أَمْ لَا، طَالَ الزَّمَانُ أَمْ قَصُرَ. وَقِيلَ: إِنْ مَاتَ عَنْ قُرْبٍ، فَقَوْلَانِ، وَإِنْ بَقِيَ أَيَّامًا، فَلَيْسَ بِشَهِيدٍ قَطْعًا. وَأَمَّا إِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَرَكَةُ مَذْبُوحٍ، فَشَهِيدٌ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنِ انْقَضَتْ وَهُوَ مُتَوَقَّعُ الْبَقَاءِ، فَلَيْسَ بِشَهِيدٍ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقُتِلَ مُسْلِمًا اغْتِيَالًا، فَلَيْسَ بِشَهِيدٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ قَتَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيُغَسَّلُ الْبَاغِي الْمَقْتُولُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ قَطْعًا. وَمَنْ قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، قِيلَ. لَيْسَ بِشَهِيدٍ قَطْعًا. وَقِيلَ: كَالْعَادِلِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الشُّهَدَاءُ الْعَارُونَ عَنْ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، كَالْمَبْطُونِ، وَالْمَطْعُونِ، وَالْغَرِيقِ، وَالْغَرِيبِ، وَالْمَيِّتِ عِشْقًا، وَالْمَيِّتَةِ فِي الطَّلْقِ، وَمَنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ، أَوْ بَاغٍ، فِي غَيْرِ الْقِتَالِ، فَهُمْ كَسَائِرِ الْمَوْتَى يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ وَرَدَ فِيهِمْ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، وَكَذَا الْمَقْتُولُ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا لَيْسَ بِشَهِيدٍ. وَإِذَا قُتِلَ تَارِكُ الصَّلَاةِ، غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَرُفِعَ قَبْرُهُ كَغَيْرِهِ، كَمَا يُفْعَلُ بِسَائِرِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُكَفَّنُ، وَيُطْمَسُ قَبْرُهُ تَغْلِيطًا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا قَاطِعُ الطَّرِيقِ، فَيُبْنَى أَمْرُهُ عَلَى صِفَةِ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُقْتَلُ، ثُمَّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصْلَبُ مُكَفَّنًا. وَالثَّانِي: يُصْلَبُ، ثُمَّ يُقْتَلُ. وَهَلْ يُنْزَلُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَمْ يَبْقَى حَتَّى يَتَهَرَّأَ؟ وَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، أُنْزِلَ فَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَكَانَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقْتَلَ مَصْلُوبًا، وَيُنْزَلَ، فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُرَدُّ، وَلَكِنْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ. فَرْعٌ لَوِ اسْتُشْهِدَ جُنُبٌ، لَمْ يُغَسَّلْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ قَطْعًا. قُلْتُ: وَلَوِ اسْتُشْهِدَتْ حَائِضٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْجُنُبُ لَا يُغَسَّلُ، فَهِيَ أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ (الْبَحْرِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْحَائِضِ يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ، أَمْ بِانْقِطَاعِهِ، أَمْ بِهِمَا؟ إِنْ قُلْنَا: بِرُؤْيَتِهِ، فَكَالْجُنُبِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ لَا بِسَبَبِ الشَّهَادَةِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تُغَسَّلُ. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَدَّى غُسْلُهَا إِلَى إِزَالَةِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ، لَمْ تُغَسَّلْ، وَإِلَّا غُسِّلَتْ. فَرْعٌ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُكَفَّنَ الشَّهِيدُ فِي ثِيَابِهِ الْمُلَطَّخَةِ بِالدَّمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا عَلَيْهِ سَابِغًا، تُمِّمَ، وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ نَزْعَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ وَتَكْفِينَهُ فِي غَيْرِهَا، جَازَ. أَمَّا الدِّرْعُ، وَالْجِلْدُ، وَالْفِرَاءُ، وَالْخِفَافُ، فَتُنْزَعُ.

فصل

فَصْلٌ فِيمَنْ هُوَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَفِي الْوَلِيِّ وَالْوَالِي قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: الْوَالِي أَوْلَى، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ إِمَامُ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ الْوَلِيُّ. وَالْجَدِيدُ: الْوَلِيُّ أَوْلَى. قُلْتُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَالْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ: الْقَرِيبُ، فَلَا يُقَدَّمُ غَيْرُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَرِيبُ أُنْثَى، وَهُنَاكَ ذَكَرٌ أَجْنَبِيٌّ، فَهُوَ أَوْلَى، حَتَّى يُقَدَّمَ الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْقَرِيبَةِ. وَكَذَا الرَّجُلُ أَوْلَى مِنَ الْمَرْأَةِ بِإِمَامَةِ النِّسَاءِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَأَوْلَى الْأَقَارِبِ: الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ الِابْنُ، ثُمَّ ابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفُلَ، ثُمَّ الْأَخُ. وَهَلْ يُقَدَّمُ الْأَخُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى الْأَخِ مِنَ الْأَبِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: تَقْدِيمُهُ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. أَظْهَرُهُمَا: يُقَدَّمُ. وَالثَّانِي: سَوَاءٌ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ: الْمُقَدَّمُ بَعْدَهُمَا ابْنُ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ مِنَ الْعَمِّ لِلْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لِلْأَبِ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُ، ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ، ثُمَّ بَنُوهُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِرْثِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوِ اجْتَمَعَ أَبْنَاءُ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، فَعَلَى الطَّرِيقَيْنِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً، قُدِّمَ الْمُعْتَقُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ تَقْدِيمُهُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَلَهُ حَقٌّ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَصَبَةٌ بِالنَّسَبِ، وَلَا بِالْوَلَاءِ، قُدِّمَ أَبُو الْأُمِّ، ثُمَّ الْأَخُ لِلْأُمِّ، ثُمَّ الْخَالُ، ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأُمِّ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ، فَطَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يُقَدَّمُ الْقَرِيبُ.

فصل

وَالثَّانِي: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ الْمُوصَى لَهُ، كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ أَوْصَى أَجْنَبِيًّا عَلَى أَوْلَادِهِ وَلَهُمْ جَدٌّ. فَرْعٌ إِذَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ فِي دَرَجَةٍ، كَابْنَيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ، وَتَنَازَعَا، نَصَّ فِي (الْمُخْتَصَرِ) : أَنَّ الْأَسَنَّ أَوْلَى - وَقَالَ: فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْأَفْقَهُ أَوْلَى. قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ بِالتَّخْرِيجِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَسَنِّ: الْأَكْبَرُ - وَإِنْ كَانَا شَابَّيْنِ، وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ الْأَسَنُّ إِذَا حُمِدَتْ حَالُهُ. أَمَّا الْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ، فَلَا. وَيُشْتَرَطُ بِمُضِيِّ السِّنِّ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا سَبَقَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَلَوِ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي دَرَجَةٍ وَأَحَدُهُمَا رَقِيقٌ، وَالْآخَرُ حُرٌّ، فَالْحُرُّ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا فَقِيهًا، وَالْآخَرُ حُرًّا غَيْرَ فَقِيهٍ، فَوَجْهَانِ. وَقَالَ فِي (الْوَسِيطِ) : لَعَلَّ التَّسْوِيَةَ أَوْلَى. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، تَقْدِيمُ الْحُرِّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ كَانَ الْأَقْرَبُ رَقِيقًا، وَالْأَبْعَدُ حُرًّا، كَأَخٍ رَقِيقٍ، وَعَمٍّ حُرٍّ، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْعَمُّ أَوْلَى. وَالثَّانِي: الْأَخُ. وَقِيلَ: سَوَاءٌ، وَلَوِ اسْتَوَوْا فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنْ رَضُوا بِتَقَدُّمِ وَاحِدٍ، فَذَاكَ، وَإِلَّا أُقْرِعَ. فَصْلٌ السُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ عِنْدَ عَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ قَطْعًا، وَعِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَالثَّانِي: عِنْدَ صَدْرِهِ. وَلَوْ تَقَدَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ الْحَاضِرَةِ، أَوِ الْقَبْرِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ.

فَرْعٌ إِذَا حَضَرَتْ جَنَائِزُ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ صَلَاةً، وَهُوَ الْأَوْلَى، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجَمِيعِ صَلَاةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَإِنْ كَانُوا نَوْعًا وَاحِدًا، فَفِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِهِمْ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ بَعْضُهَا خَلْفَ بَعْضٍ لِيُحَاذِيَ الْإِمَامُ الْجَمِيعَ. وَالثَّانِي: يُوضَعُ الْجَمِيعُ صَفًّا وَاحِدًا. رَأَسُ كُلِّ إِنْسَانٍ عِنْدَ رِجْلِ الْآخَرِ، وَيَجْعَلُ الْإِمَامُ جَمِيعَهُمْ عَنْ يَمِينِهِ، وَيَقِفُ فِي مُحَاذَاةِ الْآخَرِ. وَإِنِ اخْتَلَفَ النَّوْعُ، تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. وَمَتَى وَضَعُوا كَذَلِكَ، فَمَنْ يُقَدَّمُ إِلَى الْإِمَامِ؟ يُنْظَرُ، إِنْ جَاءُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً، نُظِرَ، إِنِ اخْتَلَفَ النَّوْعُ، قُدِّمَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، ثُمَّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ الْخُنْثَى، ثُمَّ الْمَرْأَةُ. وَلَوْ حَضَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخَنَاثَى، وُضِعَتْ صَفًّا وَاحِدًا، لِئَلَّا تَتَقَدَّمَ امْرَأَةٌ رَجُلًا. وَإِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ، قُدِّمَ إِلَيْهِ أَفْضَلُهُمْ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْوَرَعُ، وَالْخِصَالُ الَّتِي تُرَغِّبُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ أَقْرَبَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُقَدَّمُ بِالْحُرِّيَّةِ. وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي جَمِيعِ الْخِصَالِ، وَتَنَازَعَ الْأَوْلِيَاءُ فِي التَّقْدِيمِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ رَضُوا بِتَقْدِيمِ وَاحِدٍ، فَذَاكَ. وَأَمَّا إِذَا جَاءَتِ الْجَنَائِزُ مُتَعَاقِبَةً، فَيُقَدَّمُ إِلَى الْإِمَامِ أَسْبَقُهَا وَإِنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ أَفْضَلَ، هَذَا إِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ. فَلَوْ وُضِعَتِ امْرَأَةٌ. ثُمَّ حَضَرَ رَجُلٌ، أَوْ صَبِيٌّ، نُحِّيَتْ وَوُضِعَ الرَّجُلُ أَوِ الصَّبِيُّ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ، وَلَوْ وُضِعَ صَبِيٌّ، ثُمَّ حَضَرَ رَجُلٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُنَحَّى الصَّبِيُّ، بَلْ يُقَالُ لِوَلِيِّ الرَّجُلِ: إِمَّا أَنْ تَجْعَلَ جِنَازَتَكَ وَرَاءَ الصَّبِيِّ، وَإِمَّا أَنَّ تَنْقُلَهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ. وَعَلَى الشَّاذِّ: الصَّبِيُّ كَالْمَرْأَةِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِيُّ كُلِّ مَيِّتٍ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَمَنْ يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ صَلَاةً وَاحِدَةً، قُلْنَا: مَنْ لَمْ يَرْضَ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ، صَلَّى عَلَى مَيِّتِهِ، وَإِنْ رَضُوا جَمِيعًا بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، صَلَّى وَلِيُّ السَّابِقَةِ، رَجُلًا كَانَ مَيِّتُهُ أَوِ امْرَأَةً، وَإِنْ حَضَرُوا مَعًا، أُقْرِعَ.

فصل

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ أَمَّا أَقَلُّهَا، فَأَرْكَانُهَا سَبْعَةٌ. الْأَوَّلُ: النِّيَّةُ، وَوَقْتُهَا مَا سَبَقَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْفَرْضِيَّةِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِكَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ، أَمْ يَكْفِي مُطْلَقُ الْفَرْضِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ وَاحِدًا، نَوَى الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَضَرَ مَوْتَى، نَوَى الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ الْمَيِّتِ وَمَعْرِفَتِهِ، بَلْ لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ، جَازَ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمَيِّتَ وَأَخْطَأَ، لَمْ تَصِحَّ. قُلْتُ: هَذَا إِذَا لَمْ يُشِرْ إِلَى الْمَيِّتِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ أَشَارَ، صَحَّ فِي الْأَصَحِّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْقِيَامُ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْهُ الْقُعُودُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّيَمُّمِ. الثَّالِثُ: التَّكْبِيرَاتُ الْأَرْبَعُ، وَلَوْ كَبَّرَ خَمْسًا سَاهِيًا، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَا مَدْخَلَ لِسُجُودِ السَّهْوِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَإِنْ كَانَ عَامِدًا لَمْ تَبْطُلْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَكْبِيرِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا، وَخَمْسًا هِيَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، وَالْجَمِيعُ سَائِغٌ. وَلَوْ كَبَّرَ إِمَامُهُ خَمْسًا، فَإِنْ قُلْنَا: الزِّيَادَةُ مُبْطِلَةٌ، فَارَقَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَكِنْ لَا يُتَابِعُهُ فِيهَا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَهَلْ يُسَلِّمُ فِي الْحَالِ، أَمْ لَهُ انْتِظَارُهُ لِيُسَلِّمَ مَعَهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الثَّانِي.

الرَّابِعُ: السَّلَامُ، وَفِي وُجُوبِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ مَعَهُ، مَا سَبَقَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَكْفِي: السَّلَامُ عَلَيْكَ، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ تَرَدُّدُ جَوَابٍ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ. الْخَامِسُ: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَّالِيِّ، أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْفَاتِحَةُ عَقِبَ الْأُولَى مُتَقَدِّمَةً عَلَى الثَّانِيَةِ، لَكِنْ حَكَى الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ نَصِّهِ: أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ قِرَاءَتَهَا إِلَى التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ، جَازَ. السَّادِسُ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الثَّانِيَةِ، وَفِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ، قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَهَذِهِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ. السَّابِعُ: الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَخْصِيصُ الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ، بَلْ يَكْفِي إِرْسَالُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقَدْرُ الْوَاجِبِ مِنَ الدُّعَاءِ، مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَأَمَّا الْأَفْضَلُ، فَسَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَمَّا أَكْمَلُ هَذِهِ الصَّلَاةِ، فَلَهَا سُنَنٌ. مِنْهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَاتِهَا الْأَرْبَعِ، وَيَجْمَعُ يَدَيْهِ عَقِبَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، وَيَضَعُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ كَبَاقِي الصَّلَوَاتِ، وَيُؤَمِّنُ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ، وَلَا يَقْرَأُ السُّورَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَتَعَوَّذُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ فِي النَّهَارِ قَطْعًا، وَكَذَا فِي اللَّيْلِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ فِي (الْمُخْتَصَرِ) : أَنَّهُ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، أَوْسَطُهَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ رُكْنٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَوَّلُهَا، الْحَمْدُ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَفِي اسْتِحْبَابِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ: لَا يُسْتَحَبُّ. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبَا (التَّتِمَّةِ) وَ (التَّهْذِيبِ) . قُلْتُ: نَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَأَنَّ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ غَيْرُ سَدِيدٍ، وَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْمُصَنِّفِينَ، وَلَكِنْ جَزَمَ جَمَاعَةٌ بِالِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ الْأَرْجَحُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَأَمَّا ثَالِثُهَا، وَهُوَ الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ تَرَدُّدًا لِلْأَئِمَةِ. قُلْتُ: وَلَا يُشْتَرَطُ تَرْتِيبُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، لَكِنَّهُ أَوْلَى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنَ الْمَسْنُونَاتِ: إِكْثَارُ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ فِي الثَّالِثَةِ، وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدَيْكَ، خَرَجَ مِنْ رُوحِ الدُّنْيَا وَسِعَتِهَا وَمَحْبُوبِهِ وَأَحِبَّائِهِ فِيهَا، إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَمَا هُوَ لَاقِيهِ، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ نَزَلَ بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، وَأَصْبَحَ فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَقَدْ جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إِلَيْكَ، شُفَعَاءَ لَهُ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ رِضَاكَ، وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَهُ، وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَجَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ حَتَّى تَبْعَثَهُ إِلَى جَنَّتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ) . هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي (الْمُخْتَصَرِ) . وَفِيهَا دُعَاءٌ آخَرُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ خُرَاسَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ قَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَهُ عَلَى الْإِيمَانِ) فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً، قَالَ: (اللَّهُمَّ هَذِهِ أَمَتُكَ وَبِنْتُ عَبْدَيْكَ) وَيُؤَنِّثُ الْكِنَايَاتِ. قُلْتُ: وَلَوْ ذَكَّرَهَا عَلَى إِرَادَةِ الشَّخْصِ، لَمْ يَضُرَّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَسَائِرُ الْحُفَّاظِ: أَصَحُّ دُعَاءِ الْجِنَازَةِ، حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهِ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَإِنْ كَانَ طِفْلًا، اقْتَصَرَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَيَضُمُّ إِلَيْهِ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ، وَسَلَفًا، وَذُخْرًا، وَعِظَةً، وَاعْتِبَارًا، وَشَفِيعًا، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَفْرِغِ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا، وَلَا تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ، وَلَا تَحْرِمْهُمَا أَجْرَهُ) . وَأَمَّا التَّكْبِيرَةُ الرَّابِعَةُ، فَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيُّ فِي مُعْظَمِ كُتُبِهِ لِذِكْرٍ عَقِبَهَا، وَنَقَلَ الْبُوَيْطِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ بَعْدَهَا: اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ) كَذَا نَقَلَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ، وَهَذَا الذِّكْرُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ قَطْعًا، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي اسْتِحْبَابِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُسْتَحَبُّ، بَلْ إِنْ شَاءَ قَالَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ. قُلْتُ: يُسَنُّ تَطْوِيلُ الدُّعَاءِ عَقِبَ الرَّابِعَةِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا السَّلَامُ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَسْلِيمَتَانِ. وَقَالَ فِي (الْإِمْلَاءِ) : تَسْلِيمَةٌ يَبْدَأُ بِهَا إِلَى يَمِينِهِ، وَيَخْتِمُهَا مُلْتَفِتًا إِلَى يَسَارِهِ، فَيُدِيرُ وَجْهَهُ وَهُوَ فِيهَا، هَذَا نَصُّهُ. وَقِيلَ: يَأْتِي بِهَا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ بِغَيْرِ الْتِفَاتٍ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي صِفَةِ الِالْتِفَاتِ يَجْرِي فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إِذَا قُلْنَا: يَقْتَصِرُ عَلَى تَسْلِيمَةٍ. ثُمَّ قِيلَ: الْقَوْلَانِ هُنَا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى تَسْلِيمَةٍ، هُمَا الْقَوْلَانِ فِي الِاقْتِصَارِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُمَا مُرَتَّبَانِ عَلَيْهِمَا، إِنْ قُلْنَا هُنَاكَ بِالِاقْتِصَارِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ هُنَاكَ قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَهُنَا هُوَ قَوْلُهُ فِي (الْإِمْلَاءِ) ، وَهُوَ جَدِيدٌ. وَإِذَا اقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ، فَهَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) أَمْ يَزِيدُ (وَرَحْمَةُ اللَّهِ؟) فِيهِ تَرَدُّدٌ حَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ.

فَرْعٌ الْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، كَبَّرَ وَلَمْ يَنْتَظِرْ تَكْبِيرَةَ الْإِمَامِ الْمُسْتَقْبَلَةَ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ عَقِبَ تَكْبِيرِهِ بِالْفَاتِحَةِ، ثُمَّ يُرَاعِي فِي الْأَذْكَارِ تَرْتِيبَ نَفْسِهِ، فَلَوْ كَبَّرَ الْمَسْبُوقُ، فَكَبَّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ مَعَ فَرَاغِهِ مِنَ الْأُولَى، كَبَّرَ مَعَ الثَّانِيَةِ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ، كَمَا لَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ عَقِبَ تَكْبِيرِهِ. وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ وَالْمَسْبُوقُ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ، فَهَلْ يَقْطَعُ الْقِرَاءَةَ وَيُوَافِقُهُ، أَمْ يُتِمُّهَا؟ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا رَكَعَ الْإِمَامُ وَالْمَسْبُوقُ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يَقْطَعُ وَيُتَابِعُهُ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يُتِمُّ الْقِرَاءَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ، أَمْ لَا يُتِمُّ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِصَاحِبِ (الشَّامِلِ) . أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَمَنْ فَاتَهُ بَعْضُ التَّكْبِيرَاتِ، تَدَارَكَهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَهَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى التَّكْبِيرَاتِ نَسْقًا بِلَا ذِكْرٍ، أَمْ يَأْتِي بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي. قُلْتُ: الْقَوْلَانِ فِي الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ، حَتَّى يُتِمَّ الْمَسْبُوقُونَ مَا عَلَيْهِمْ، فَلَوْ رُفِعَتْ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمْ وَإِنْ حُوِّلَتْ عَنِ الْقِبْلَةِ، بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ عَقْدِ الصَّلَاةِ، لَا يُحْتَمَلُ فِيهِ ذَلِكَ وَالْجِنَازَةُ حَاضِرَةٌ. فَرْعٌ لَوْ تَخَلَّفَ الْمُقْتَدِي فَلَمْ يُكَبِّرْ مَعَ الْإِمَامِ الثَّانِيَةَ أَوِ الثَّالِثَةَ حَتَّى كَبَّرَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَةَ الْمُسْتَقْبِلَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَتَخَلُّفِهِ بِرَكْعَةٍ.

فصل

فَصْلٌ الشَّرَائِطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، كَالطَّهَارَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالِاسْتِقْبَالِ، وَغَيْرِهَا، تُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا تَقْدِيمُ غُسْلِ الْمَيِّتِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي بِئْرٍ، أَوْ مَعْدِنٍ انْهَدَمَ عَلَيْهِ، وَتَعَذَّرَ إِخْرَاجُهُ وَغُسْلُهُ، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ فِي (التَّتِمَّةِ) . قُلْتُ: وَيَجُوزُ قَبْلَ التَّكْفِينِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَفِي أَقَلِّ مَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، قَوْلَانِ وَوَجْهَانِ. أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: بِثَلَاثَةٍ. وَالثَّانِي: بِوَاحِدٍ. وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ بِاثْنَيْنِ. وَالثَّانِي: بِأَرْبَعَةٍ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ: سُقُوطُهُ بِوَاحِدٍ. وَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَدَدَ قَالَ: سَوَاءٌ صَلَّوْا فُرَادَى أَوْ جَمَاعَةً، وَإِنْ بَانَ حَدَثُ الْإِمَامِ، أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ. فَإِنْ بَقِيَ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ، سَقَطَ الْفَرْضُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَيَسْقُطُ بِصَلَاةِ الصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَسْقُطُ بِالنِّسَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ كَثِيرُونَ: لَا يَسْقُطُ بِهِنَّ قَطْعًا وَإِنْ كَثُرْنَ. وَالْخِلَافُ فِيمَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ رِجَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلٌ، صَلَّيْنَ مُنْفَرِدَاتٍ وَسَقَطَ الْفَرْضُ بِهِنَّ. قَالَ فِي (الْعُدَّةِ) : وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْجَمَاعَةُ فِي جِنَازَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ فِي جِنَازَةِ الْمَرْأَةِ. قُلْتُ: إِذَا لَمْ يَحْضُرْ إِلَّا النِّسَاءُ، تَوَجَّهَ الْفَرْضُ عَلَيْهِنَّ، وَإِذَا حَضَرْنَ مَعَ الرِّجَالِ، لَمْ يَتَوَجَّهِ الْفَرْضُ عَلَيْهِنَّ، فَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ إِلَّا رَجُلٌ وَنِسَاءٌ، وَقُلْنَا: لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ إِلَّا بِثَلَاثَةٍ، تَوَجَّهَ التَّيَمُّمُ عَلَيْهِنَّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخُنْثَى فِي هَذَا الْفَصْلِ كَالْمَرْأَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَصْلٌ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ بِالنِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَالْمُصَلِّي يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةُ الْقَصْرٍ، أَمْ لَا؟ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ خَارِجَ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي وَالْمَيِّتُ فِي بَلَدٍ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَإِذَا شَرَطْنَا حُضُورَ الْمَيِّتِ، اشْتُرِطَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ تَقْرِيبًا. فَصْلٌ إِذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ حَضَرَ آخَرُونَ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا جَمَاعَةً وَفُرَادَى، وَصَلَاتُهُمْ تَقَعُ فَرْضًا. كَالْأَوَّلِينَ. وَأَمَّا مَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ إِعَادَتُهَا فِي جَمَاعَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَوَاءٌ حَضَرَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا قَبْلَ الدَّفْنِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ عِنْدَنَا جَائِزَةٌ، وَلَوْ دُفِنَ بِلَا صَلَاةٍ، أَثِمَ الدَّافِنُونَ، فَإِنَّ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَى الدَّفْنِ وَاجِبٌ، لَكِنْ لَا يُنْبَشُ، بَلْ يُصَلُّونَ عَلَى قَبْرِهِ. وَحُكِيَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ، بَلْ غَلَطٌ. وَإِلَى مَتَى تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يُصَلِّي عَلَيْهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ يَوْمَ مَوْتِهِ، وَلَا يُصَلِّي غَيْرُهُ. هَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي زَيْدٍ. وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ وَطَائِفَةٌ: هَذَا الْوَجْهُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يُصَلِّي مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ يَوْمَ مَوْتِهِ. فَعَلَى الْعِبَارَةِ الْأُولَى لَا يُصَلِّي مَنْ كَانَ صَبِيًّا مُمَيِّزًا، وَعَلَى الثَّانِيَةِ يُصَلِّي، وَالْأُولَى أَشْهَرُ، وَالثَّانِيَةُ عِنْدَ الرُّويَانِيِّ أَصَحُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُصَلَّى عَلَيْهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: إِلَى شَهْرٍ فَقَطْ. وَالرَّابِعُ: يُصَلَّى عَلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْقَبْرِ. فَإِنِ

باب

انْمَحَقَتِ الْأَجْزَاءُ كُلُّهَا، فَلَا. فَإِنْ شَكَّ فِي الِانْمِحَاقِ، فَالْأَصْلُ الْبَقَاءُ. وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَالْخَامِسُ: يُصَلِّي أَبَدًا. هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ قَطْعًا، وَلَا عَلَى الْخَامِسِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ: يَجُوزُ فُرَادَى، لَا جَمَاعَةً. قُلْتُ: بَقِيَ مِنَ الْبَابِ بَقَايَا، مِنْهَا: أَنَّهُ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: بَلِ الصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلُ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ سَهْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ (مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ) فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ. أَحَدُهَا: ضَعْفُهُ. وَالثَّانِي: الْمَوْجُودُ فِي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ) (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) . هَكَذَا هُوَ فِي أُصُولِ سَمَاعِنَا عَلَى كَثْرَتِهَا، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَالثَّالِثُ: حَمْلُهُ عَلَى نُقْصَانِ أَجْرِهِ إِذَا لَمْ يَتْبَعْهَا لِلدَّفْنِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُجْعَلَ صُفُوفُ الْجِنَازَةِ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيهِ. وَاخْتِلَافُ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ لَا تَضُرُّ. فَلَوْ نَوَى الْإِمَامُ الصَّلَاةَ عَلَى حَاضِرٍ، وَالْمَأْمُومُ عَلَى غَائِبٍ أَوْ عَكْسُهُ، جَازَ. وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِذَا صُلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً، لَا تُؤَخَّرُ لِزِيَادَةِ الْمُصَلِّينَ، وَلَا لِانْتِظَارِ أَحَدٍ غَيْرِ الْوَلِيِّ، وَلَا بَأْسَ بِانْتِظَارِ وَلِيِّهَا إِنْ لَمْ يُخَفْ تَغَيُّرُهَا. قَالَ صَاحِبُ (الْبَحْرِ) : لَوْ صَلَّى عَلَى الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ مَاتُوا فِي يَوْمِهِ، وَغُسِّلُوا فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ، وَلَا يَعْرِفُ عَدَدَهُمْ، جَازَ. وَقَوْلُهُ صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا يُخْتَصُّ بِبَلَدٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. بَابٌ الدَّفْنُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَقْبَرَةِ، لَكِنْ فِيهَا أَفْضَلُ. فَلَوْ

فصل

قَالَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ: يُدْفَنُ فِي مِلْكِهِ، وَبَعْضُهُمْ: فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ، دُفِنَ فِي الْمُسَبَّلَةِ. وَلَوْ بَادَرَ بَعْضُهُمْ فَدَفَنَهُ فِي الْمِلْكِ، كَانَ لِلْبَاقِينَ نَقْلُهُ إِلَى الْمُسَبَّلَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلُوا. وَلَوْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ دَفْنَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، لَمْ يَلْزَمِ الْبَاقِينَ قَبُولُهُ. فَلَوْ بَادَرَ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَمْ يَذْكُرْهُ الْأَصْحَابُ، وَعِنْدِي: أَنَّهُ لَا يُنْقَلُ، فَإِنَّهُ هَتْكٌ، وَلَيْسَ فِي بَقَائِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ. قُلْتُ: وَفِي (التَّتِمَّةِ) الْقَطْعُ بِمَا قَالَهُ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوِ اتَّفَقُوا عَلَى دَفْنِهِ فِي مِلْكِهِ، ثُمَّ بَاعُوهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي نَقْلُهُ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ إِنْ كَانَ جَاهِلًا. ثُمَّ إِذَا بَلِيَ، أَوِ اتُّفِقَ نَقْلُهُ، فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ لِلْبَائِعِينَ، أَمْ لِلْمُشْتَرِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَيَأْتِي نَظَائِرُهُمَا فِي الْبَيْعِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَصْلٌ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي الدَّفْنِ حُفْرَةٌ تَكْتُمُ رَائِحَةَ الْمَيِّتِ، وَتَحْرُسُهُ عَنِ السِّبَاعِ لِعُسْرِ نَبْشِ مِثْلِهَا غَالِبًا. أَمَّا الْأَكْمَلُ، فَيُسْتَحَبُّ تَوْسِيعُ الْقَبْرِ، وَتَعْمِيقُهُ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ، وَالْمُرَادُ قَامَةُ رَجُلٍ مُعْتَدِلٍ يَقُومُ وَيَبْسُطُ يَدَهُ مَرْفُوعَةً. وَالْقَامَةُ وَالْبَسْطَةُ: ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ، وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ قَامَةٌ فَقَطْ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: وَكَذَا قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: إِنَّ الْقَامَةَ وَالْبَسْطَةَ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ، وَهُوَ الصَّوَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ يَجُوزُ الدَّفْنُ فِي الشَّقِّ وَاللَّحْدِ فَاللَّحْدُ: أَنْ يُحْفَرَ حَائِطُ الْقَبْرِ مَائِلًا عَنِ اسْتِوَائِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ قَدْرَ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ، وَلْيَكُنْ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ. وَالشَّقُّ: أَنْ يُحْفَرَ وَسْطَهُ كَالنَّهْرِ، وَيُبْنَى جَانِبَاهُ بِاللَّبِنِ أَوْ غَيْرِهِ، وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا شَقٌّ يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَيُسَقَّفُ. وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ صُلْبَةً، فَاللَّحْدُ أَفْضَلُ، وَإِلَّا، فَالشَّقُّ. فَرْعٌ السُّنَّةُ أَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ عِنْدَ أَسْفَلِ الْقَبْرِ، بِحَيْثُ يَكُونُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ. ثُمَّ يُسَلُّ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ سَلًّا رَفِيقًا. وَلَا يَدْخُلُ الْقَبْرَ إِلَّا الرِّجَالُ مَتَى وُجِدُوا، رَجُلًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوِ امْرَأَةً. وَأَوْلَاهُمْ بِالدَّفْنِ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِدَفْنِ زَوْجَتِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْمَحَارِمُ، الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ الِابْنُ، ثُمَّ ابْنُ الِابْنِ ثُمَّ الْأَخُ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ، ثُمَّ الْعَمُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَعَبِيدُهَا وَهُمْ أَحَقُّ مِنْ بَنِي الْعَمِّ، لِأَنَّهُمْ كَالْمَحَارِمِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ كَالْأَجَانِبِ، لَمْ يَتَوَجَّهْ تَقْدِيمُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَبِيدُهَا، فَالْخِصْيَانُ أَوْلَى، لِضَعْفِ شَهْوَتِهِمْ. فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا، فَذَوُو الْأَرْحَامِ الَّذِينَ لَا مَحْرَمِيَّةَ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا، فَأَهْلُ الصَّلَاحِ مِنَ الْأَجَانِبِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَمَا أَرَى تَقْدِيمَ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَحْتُومًا، بِخِلَافِ الْمَحَارِمِ، لِأَنَّهُمْ كَالْأَجَانِبِ فِي وُجُوبِ الِاحْتِجَابِ عَنْهُمْ. وَقَدَّمَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) نِسَاءَ الْقَرَابَةِ عَلَى الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ، وَخِلَافُ الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ.

فَرْعٌ إِنِ اسْتَقَلَّ بِوَضْعِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ وَاحِدٌ، بِأَنْ كَانَ طِفْلًا، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَدَدُهُمْ وِتْرًا، ثَلَاثَةٌ، أَوْ خَمْسَةٌ، عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ، وَكَذَا عَدَدُ الْغَاسِلِينَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَرَ الْقَبْرُ عِنْدَ الدَّفْنِ بِثَوْبٍ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَالْمَرْأَةُ آكَدُ. وَاخْتَارَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ مُخْتَصٌّ بِالْمَرْأَةِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُدْخِلُهُ الْقَبْرَ أَنْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَسْلَمَهُ إِلَيْكَ الْأَشِحَّاءُ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَفَارَقَهُ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ، وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ، وَنَزَلَ بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، إِنْ عَاقَبْتَهُ فَبِذَنْبِهِ، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ، فَأَهْلُ الْعَفْوِ أَنْتَ، أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ حَسَنَتَهُ، وَاغْفِرْ سَيِّئَتَهُ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِكَ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ، وَاكْفِهِ كُلَّ هَوْلٍ دُونَ الْجَنَّةِ، اللَّهُمَّ وَاخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَعُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَهَذَا الدُّعَاءُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (الْمُخْتَصَرِ) . فَرْعٌ إِذَا وُضِعَ فِي اللَّحْدِ، أُضْجِعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، بِحَيْثُ لَا يَنْكَبُّ وَلَا يَسْتَلْقِي، بِأَنْ يُدْنَى مِنْ جِدَارِ اللَّحْدِ، وَيُسْنَدَ ظَهْرُهُ بِلَبِنَةٍ وَنَحْوِهَا، وَوَضْعُهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَاجِبٌ، كَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. قَالُوا: فَلَوْ دُفِنَ مُسْتَدْبِرًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا، نُبِشَ وَوُجِّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَإِنْ تَغَيَّرَ، لَمْ يُنْبَشْ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ

فِي كِتَابِهِ (الْمُجَرَّدِ) : التَّوْجِيهُ إِلَى الْقِبْلَةِ سُنَّةٌ، فَلَوْ تُرِكَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْبَشَ وَيُوَجَّهَ، وَلَا يَجِبُ. وَأَمَّا الْإِضْجَاعُ عَلَى الْيَمِينِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. فَلَوْ وُضِعَ عَلَى الْيَسَارِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، كُرِهَ وَلَمْ يُنْبَشْ، وَلَوْ مَاتَتْ ذِمِّيَّةٌ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مُسْلِمٌ مَيِّتٌ، جُعِلَ ظَهْرُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ لِيَتَوَجَّهَ الْجَنِينُ إِلَى الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ وَجْهَ الْجَنِينِ عَلَى مَا ذُكِرَ إِلَى ظَهْرِ الْأُمِّ. ثُمَّ قِيلَ: تُدْفَنُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. قِيلَ: فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَنْزِلُ مَنْزِلَةَ صُنْدُوقِ الْوَلَدِ. وَقِيلَ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) ، وَالْمُسْتَظْهِرِيُّ، وَصَاحِبُ (الْبَيَانِ) . وَنَقَلَهُ صَاحِبُ (الْحَاوِي) عَنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى أَهْلِ دِينِهَا لِيَتَوَلَّوْا غُسْلَهَا وَدَفْنَهَا. وَقَطَعَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) بِأَنَّهَا تُدْفَنُ عَلَى طَرَفِ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا وَجْهٌ رَابِعٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ وَيُجْعَلُ تَحْتَ رَأْسِ الْمَيِّتِ لَبِنَةٌ أَوْ حَجَرٌ، وَيُفْضَى بِخَدِّهِ الْأَيْمَنِ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى التُّرَابِ، وَلَا يُوضَعُ تَحْتَ رَأْسِهِ مِخَدَّةٌ. وَلَا يُفْرَشُ تَحْتَهُ فِرَاشٌ. حَكَى الْعِرَاقِيُّونَ كَرَاهَةَ ذَلِكَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : لَا بَأْسَ بِهِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ فِي تَابُوتٍ، إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ رَخْوَةً، أَوْ نَدِيَّةً، وَلَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِهِ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، ثُمَّ يَكُونُ التَّابُوتُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.

فَرْعٌ إِذَا فُرِغَ مِنْ وَضْعِهِ فِي اللَّحْدِ، نُصِبَ اللَّبِنُ عَلَى فَتْحِ اللَّحْدِ، وَتُسَدُّ الْفُرَجُ بِقِطَعِ اللَّبِنِ مَعَ الطِّينِ، أَوْ بِالْآجُرِّ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ يَحْثِي كُلُّ مَنْ دَنَا ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنَ التُّرَابِ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَعَ الْأُولَى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) وَمَعَ الثَّانِيَةِ (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) وَمَعَ الثَّالِثَةِ (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طه: 55] ثُمَّ يُهَالُ بِالْمَسَاحِي. فَرْعٌ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُزَادَ فِي الْقَبْرِ عَلَى تُرَابِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، وَلَا يُرْفَعُ إِلَّا قَدْرَ شِبْرٍ لِيُعْرَفَ فَيُزَارَ وَيُحْتَرَمَ. قَالَ فِي (التَّتِمَّةِ) : إِلَّا إِذَا مَاتَ مُسْلِمٌ فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ، فَلَا يُرْفَعُ قَبْرُهُ، بَلْ يُخْفَى لِئَلَّا يَتَعَرَّضُوا لَهُ إِذَا رَجَعَ الْمُسْلِمُونَ. وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ، وَالْكِتَابَةُ، وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ. وَلَوْ بُنِيَ عَلَيْهِ، هُدِمَ إِنْ كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ مُسَبَّلَةً، وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي مِلْكِهِ، فَلَا. وَأَمَّا تَطْيِينُ الْقَبْرِ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ: لَا يُطَيَّنُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ. وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّطْيِينِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَشَّ الْمَاءُ عَلَى الْقَبْرِ، وَيُوضَعُ عَلَيْهِ حَصًى، وَأَنْ يُوضَعَ عِنْدَ رَأْسِهِ صَخْرَةٌ، أَوْ خَشَبَةٌ وَنَحْوُهَا. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : يُكْرَهُ أَنْ يُرَشَّ عَلَى الْقَبْرِ مَاءُ الْوَرْدِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ مِظَلَّةٌ، وَلَا بَأْسَ بِالْمَشْيِ بِالنَّعْلِ بَيْنَ الْقُبُورِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: أَنَّ تَسْطِيحَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَسْنِيمِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْأَفْضَلُ الْآنَ التَّسْنِيمُ، وَتَابَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَالْغَزَّالِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ الِانْصِرَافُ عَنِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: يَنْصَرِفُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ، فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ قِيرَاطٌ. الثَّانِي: أَنْ يَتْبَعَهَا حَتَّى تُوَارَى وَيَرْجِعَ قَبْلَ إِهَالَةِ التُّرَابِ. الثَّالِثُ: يَقِفُ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الْقَبْرِ وَيَنْصَرِفُ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ. الرَّابِعُ: يَقِفُ بَعْدَهُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى لِلْمَيِّتِ، وَهَذَا أَقْصَى الدَّرَجَاتِ فِي الْفَضِيلَةِ. وَحِيَازَةُ الْقِيرَاطِ الثَّانِي تَحْصُلُ لِصَاحِبِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهَلْ تَحْصُلُ لِلثَّانِي؟ حَكَى الْإِمَامُ، فِيهِ تَرَدُّدًا، وَاخْتَارَ الْحُصُولَ. قُلْتُ: وَحَكَى صَاحِبُ (الْحَاوِي) [فِي] هَذَا التَّرَدُّدِ وَجْهَيْنِ، وَقَالَ: أَصَحُّهُمَا: لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَيُحْتَجُّ لَهُ بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (حَتَّى يُفْرَغَ مَنْ دَفْنِهَا) . وَيُحْتَجُّ لِلْآخَرِ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي (صَحِيحِهِ) : (حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَقَّنَ الْمَيِّتُ بَعْدَ الدَّفْنِ، فَيُقَالُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أَمَةِ اللَّهِ، اذْكُرْ

مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا، شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً، وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا. وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ: هَذَا التَّلْقِينُ اسْتَحَبَّهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمُ: الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُمْ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا. وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهِ ضَعِيفٌ، لَكِنَّ أَحَادِيثَ الْفَضَائِلِ يُتَسَامَحُ فِيهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدِ اعْتُضِدَ هَذَا الْحَدِيثُ بِشَوَاهِدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، كَحَدِيثِ (اسْأَلُوا اللَّهَ لَهُ التَّثْبِيتَ) وَوَصِيَّةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (أَقِيمُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَعْلَمَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي) رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي (صَحِيحِهِ) وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا التَّلْقِينِ مِنَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَفِي زَمَنِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَقْعُدُ الْمُلَقِّنُ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ، وَأَمَّا الطِّفْلُ وَنَحْوُهُ، فَلَا يُلَقَّنُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ الْمُسْتَحَبُّ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، أَنْ يُدْفَنَ كُلُّ مَيِّتٍ فِي قَبْرٍ فَإِنْ كَثُرَ الْمَوْتَى، وَعَسُرَ إِفْرَادُ كُلِّ مَيِّتٍ بِقَبْرٍ، دُفِنَ الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي قَبْرٍ، وَيُقَدَّمُ إِلَى الْقِبْلَةِ أَفْضَلُهُمْ، وَيُقَدَّمُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ وَإِنْ كَانَ الِابْنُ أَفْضَلَ مِنْهُ، لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، وَكَذَا تُقَدَّمُ الْأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ إِلَّا عِنْدَ تَأَكُّدِ الضَّرُورَةِ، وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ، وَيُقَدَّمُ الرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ ابْنًا، فَإِنِ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَخُنْثَى وَصَبِيٌّ، قُدِّمَ الرَّجُلُ، ثُمَّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ الْخُنْثَى، ثُمَّ الْمَرْأَةُ. وَهَلْ يُجْعَلُ حَاجِزُ

فصل

التُّرَابِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَكَذَا بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ، أَمْ يَخْتَصُّ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ؟ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: لَا يَخْتَصُّ، بَلْ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، وَأَشَارَ جَمَاعَةٌ إِلَى الِاخْتِصَاصِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي (الْأُمِّ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ الْقَبْرُ مُحْتَرَمٌ تَوْقِيرًا لِلْمَيِّتِ، فَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ، وَالِاتِّكَاءُ، وَوَطْؤُهُ إِلَّا لِحَاجَةٍ بِأَنْ لَا يَصِلَ إِلَى قَبْرِ مَيِّتِهِ إِلَّا بِوَطْئِهِ. قُلْتُ: وَكَذَا يُكْرَهُ الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ، قَالَهُ أَصْحَابُنَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ، وَهَلْ يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: يُكْرَهُ. وَالثَّانِي، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الرُّويَانِيِّ: لَا يُكْرَهُ إِذَا أَمِنَتْ مِنَ الْفِتْنَةِ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ الزَّائِرُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْ قَرِيبٍ بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ. وَيَنْبَغِي لِلزَّائِرِ، أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْقَبْرِ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ لَوْ زَارَهُ. وَسُئِلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَقَابِرِ فَقَالَ: الثَّوَابُ لِلْقَارِئِ، وَيَكُونُ الْمَيِّتُ كَالْحَاضِرِ، تُرْجَى لَهُ الرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ، فَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمَقَابِرِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَيْضًا فَالدُّعَاءُ عُقَيْبَ الْقِرَاءَةِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ الْمَيِّتَ.

فَرْعٌ لَا يَجُوزُ نَبْشُ الْقَبْرِ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ. مِنْهَا: أَنْ يَبْلَى الْمَيِّتُ وَيَصِيرَ تُرَابًا، فَيَجُوزُ نَبْشُهُ وَدَفْنُ غَيْرِهِ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْأَرْضِ، وَإِذَا بَلِيَ الْمَيِّتُ، لَمْ يَجُزْ عِمَارَةُ قَبْرِهِ وَتَسْوِيَةُ التُّرَابِ عَلَيْهِ فِي الْمَقَابِرِ الْمُسَبَّلَةِ، لِئَلَّا يَتَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْقَبْرِ الْجَدِيدِ فَيَمْتَنِعَ النَّاسُ مِنَ الدَّفْنِ فِيهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُدْفَنَ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ سَبَقَ. وَمِنْهَا: أَنْ يُدْفَنَ مَنْ يَجِبُ غُسْلُهُ بِلَا غُسْلٍ. فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَجِبُ النَّبْشُ لِيُغَسَّلَ، وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، بَلْ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْهَتْكِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي (النِّهَايَةِ) وَ (التَّهْذِيبِ) : يُنْبَشُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَيِّتُ. وَالثَّانِي: يُنْبَشُ مَا دَامَ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ عَظْمٍ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهَا: إِذَا دُفِنَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِهَا تَرْكُهُ، فَإِنْ أَبَى، فَلَهُ إِخْرَاجُهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ وَكَانَ فِيهِ هَتْكٌ. وَمِنْهَا: لَوْ كُفِّنَ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ أَوْ مَسْرُوقٍ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: يُنْبَشُ لِرَدِّ الثَّوْبِ، كَمَا يُنْبَشُ لِرَدِّ الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ نَبْشُهُ، وَيَنْتَقِلُ صَاحِبُ الثَّوْبِ إِلَى الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ كَالتَّالِفِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ وَكَانَ فِي النَّبْشِ هَتْكٌ، لَمْ يُنْبَشْ، وَإِلَّا نُبِشَ. وَلَوْ دُفِنَ فِي ثَوْبٍ حَرِيرٍ، فَفِي نَبْشِهِ هَذَا الْخِلَافُ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّهُ لَا يُنْبَشُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهَا: لَوْ دُفِنَ بِلَا كَفَنٍ، هَلْ يُنْبَشُ لِيُكَفَّنَ، أَمْ يُتْرَكُ حِفْظًا لِحُرْمَتِهِ، وَاكْتِفَاءً بِسَتْرِ الْقَبْرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُتْرَكُ. وَمِنْهَا: لَوْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ خَاتَمٌ، أَوْ غَيْرُهُ، نُبِشَ وَرُدَّ. وَلَوِ ابْتَلَعَ فِي

حَيَاتِهِ مَالًا، ثُمَّ مَاتَ، وَطَلَبَ صَاحِبُهُ الرَّدَّ، شُقَّ جَوْفُهُ وَيُرَدُّ. قَالَ فِي (الْعُدَّةِ) : إِلَّا أَنْ يَضْمَنَ الْوَرَثَةُ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ، فَلَا يُنْبَشُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يُنْبَشُ بِكُلِّ حَالٍ، وَيَجِبُ الْغُرْمُ فِي تَرِكَتِهِ. وَلَوِ ابْتَلَعَ مَالَ نَفْسِهِ وَمَاتَ، فَهَلْ يُخْرَجُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْأَصَحُّ يُخْرَجُ. قُلْتُ: وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الْعَبْدَرِيُّ، وَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ (الْمُجَرَّدِ) عَدَمَ الْإِخْرَاجِ، وَقَطَعَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ فِي (الْمُقْنِعِ) وَهُوَ مَفْهُومُ كَلَامِ صَاحِبِ (التَّنْبِيهِ) وَهُوَ الْأَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَحَيْثُ قُلْنَا: يُشَقُّ جَوْفُهُ وَيُخْرَجُ، فَلَوْ دُفِنَ قَبْلَ الشَّقِّ، نُبِشَ كَذَلِكَ. قُلْتُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي (الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ) : إِذَا لَحِقَ الْأَرْضَ الْمَدْفُونَ فِيهَا سَيْلٌ أَوْ نَدَاوَةٌ، فَقَدْ جَوَّزَ الزُّبَيْرِيُّ نَقْلَهُ مِنْهَا، وَأَبَاهُ غَيْرُهُ، وَقَوْلُ الزُّبَيْرِيِّ أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا مَاتَ فِي سَفِينَةٍ، إِنْ كَانَ بِقُرْبِ السَّاحِلِ، أَوْ بِقُرْبِ جَزِيرَةٍ، انْتَظَرُوا لِيَدْفِنُوهُ فِي الْبَرِّ، وَإِلَّا شَدُّوهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ لِئَلَّا يَنْتَفِخَ وَأَلْقَوْهُ فِي الْبَحْرِ لِيُلْقِيَهُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِلِ لَعَلَّهُ يَقَعُ إِلَى قَوْمٍ يَدْفِنُونَهُ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ السَّاحِلِ كُفَّارًا، ثُقِّلَ بِشَيْءٍ لِيَرْسُبَ. قُلْتُ: الْعَجَبُ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ مَعَ جَلَالَتِهِ، كَيْفَ حَكَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَكَأَنَّهُ قَلَّدَ فِيهِ صَاحِبَيِ (الْمُهَذَّبِ) وَ (الْمُسْتَظْهِرِيِّ) فِي قَوْلِهِمَا: إِنْ كَانَ أَهْلُ السَّاحِلِ كُفَّارًا، ثُقِّلَ لِيَرْسُبَ، وَهَذَا خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: يُلْقَى بَيْنَ لَوْحَيْنِ لِيَقْذِفَهُ الْبَحْرُ. قَالَ

الْمُزَنِيُّ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، إِذَا كَانَ أَهْلُ السَّاحِلِ مُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا، ثُقِّلَ بِشَيْءٍ لِيَنْزِلَ إِلَى الْقَرَارِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فَيَدْفِنُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ: يُتَيَقَّنُ تَرْكُ الدَّفْنِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَصَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ الْمُزَنِيَّ ذَكَرَهَا فِي (جَامِعِهِ) الْكَبِيرِ، وَأَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ فِي (جَامِعِهِ) كَمَا قَالَهَا الشَّافِعِيُّ فِي (الْأُمِّ) . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ يَجْعَلُوهُ بَيْنَ لَوْحَتَيْنِ لِيَقْذِفَهُ السَّاحِلُ، بَلْ ثَقَّلُوهُ وَأَلْقَوْهُ فِي الْبَحْرِ، رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَهُمْ، كَذَا رَأَيْتُهُ فِي (الْأُمِّ) . وَنَقَلَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَأْثَمُوا، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. وَإِذَا أَلْقَوْهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ، أَوْ فِي الْبَحْرِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ الْمَسْأَلَةَ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا، وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْ بَابِ الدَّفْنِ بَقَايَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْمَعَ الْأَقَارِبُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَقْبَرَةِ. وَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ لِيَحْفِرَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَحْرُمُ أَنْ يُدْفَنَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ مَيِّتٌ حَتَّى يَبْلَى وَلَا يَبْقَى عَظْمٌ وَلَا غَيْرُهُ. قَالُوا: فَإِنْ حَفَرَ فَوَجَدَ عِظَامَهُ، أَعَادَ الْقَبْرَ وَلَمْ يُتِمَّ الْحَفْرَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنْ فَرَغَ مِنَ الْقَبْرِ فَظَهَرَ شَيْءٌ مِنَ الْعِظَامِ، جَازَ أَنْ تُجْعَلَ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ وَيُدْفَنَ الثَّانِي مَعَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ مَاتَ لَهُ أَقَارِبُ دَفْعَةً، وَأَمْكَنَهُ دَفْنُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ، بَدَأَ بِمَنْ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فِي التَّغَيُّرِ. فَإِنْ لَمْ يُخْشَ تَغَيُّرٌ، بَدَأَ بِأَبِيهِ، ثُمَّ أُمِّهِ، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ. فَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ، فَأَكْبَرُهُمَا. فَإِنْ كَانَتَا زَوْجَتَيْنِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا. وَلَا يُدْفَنُ مُسْلِمٌ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ، وَلَا كَافِرٌ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُكْرَهُ الدَّفْنُ بِاللَّيْلِ. قَالُوا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ. قَالُوا: لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ، أَنْ يُدْفَنَ نَهَارًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي (الْأُمِّ) وَالْأَصْحَابُ: وَلَا يُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا.

وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَصَاحِبُ (الْحَاوِي) ، وَالشَّيْخُ نَصْرٌ، وَغَيْرُهُمُ، الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) : (ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا) وَذَكَرَ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ، وَالطُّلُوعِ، وَالْغُرُوبِ. وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، ثُمَّ صَاحَبُ (التَّتِمَّةِ) ، بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى تَحَرِّي ذَلِكَ وَقَصْدِهِ. وَيُكْرَهُ الْمَبِيتُ فِي الْمَقْبَرَةِ. وَأَمَّا نَقْلُ الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ قَبْلَ دَفْنِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أُحِبُّهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَخْتَارُ أَنْ يُنْقَلَ إِلَيْهَا لِفَضْلِ الدَّفْنِ فِيهَا. وَقَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) ، وَالشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَنْدَنِيجِيُّ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ: يُكْرَهُ نَقْلُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَأَبُو الْفَرَجِ الدَّارِمِيُّ، وَصَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : يَحْرُمُ نَقْلُهُ. قَالَ الْقَاضِي وَصَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : وَلَوْ أَوْصَى بِهِ، لَمْ تَنْفُذْ وَصِيَّتُهُ، وَهَذَا أَصَحُّ، فَإِنَّ فِي نَقْلِهِ تَأْخِيرَ دَفْنِهِ وَتَعْرِيضَهُ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ. وَلَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ فِي جَوْفِهَا جَنِينٌ حَيٌّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ كَانَ يُرْجَى حَيَاتُهُ، شُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ ثُمَّ دُفِنَتْ، وَإِلَّا فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ: لَا يُشَقُّ جَوْفُهَا، بَلْ يُتْرَكُ حَتَّى يَمُوتَ الْجَنِينُ ثُمَّ تُدْفَنُ. وَالثَّانِي: يُشَقُّ. وَالثَّالِثُ: يُوضَعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِيَمُوتَ ثُمَّ تُدْفَنُ، وَهَذَا غَلَطٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَاهُ جَمَاعَةٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ لِأُبَيِّنَ بُطْلَانَهُ. قَالَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ أَنَّ رُفْقَةً فِي سَفَرٍ مَاتَ أَحَدُهُمْ فَلَمْ يَدْفِنُوهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ يَخْتَرِقُهُ الْمَارَّةُ، أَوْ بِقُرْبِ قَرْيَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ أَسَاءُوا، وَعَلَى مَنْ بِقُرْبِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَفْنُهُ. وَإِنْ كَانَ بِصَحْرَاءَ، أَوْ مَوْضِعٍ لَا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ، أَثِمُوا وَعَلَى السُّلْطَانِ مُعَاقَبَتُهُمْ، إِلَّا أَنْ يَخَافُوا - لَوِ اشْتَغَلُوا بِهِ - عَدُوًّا، فَيُخْتَارُ أَنْ يُوَارُوهُ مَا أَمْكَنَهُمْ. فَإِنْ تَرَكُوهُ، لَمْ يَأْثَمُوا، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ أَنَّ مُجْتَازِينَ مَرُّوا بِمَيِّتٍ فِي صَحْرَاءَ، لَزِمَهُمُ الْقِيَامُ بِهِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً. فَإِنْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا. ثُمَّ إِنْ كَانَ بِثِيَابِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرُ غُسْلٍ وَلَا تَكْفِينٍ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ الْغُسْلِ وَالْكَفَنِ وَالْحَنُوطِ، دَفَنُوهُ.

باب

فَإِنْ أَرَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، صَلَّوْا بَعْدَ دَفْنِهِ عَلَى قَبْرِهِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صُلِّيَ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَلْحَقْتُ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَبَقِيَتْ مِنْهَا نَفَائِسُ وَمُتَمِّمَاتٌ اسْتَقْصَيْتُهَا فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) تَرَكْتُهَا لِكَثْرَةِ الْإِطَالَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. بَابٌ التَّعْزِيَةُ هِيَ سُنَّةٌ، وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ لَهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَزِّيَ جَمِيعَ أَهْلِ الْمَيِّتِ، الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، لَكِنْ لَا يُعَزِّي الشَّابَّةَ إِلَّا مَحَارِمُهَا، وَسَوَاءٌ فِي أَصْلِ شَرْعِيَّتِهَا، مَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ، وَبَعْدَهُمَا، لَكِنَّ تَأْخِيرَهَا إِلَى مَا بَعْدَ الدَّفْنِ أَحْسَنُ، لِاشْتِغَالِ أَهْلِ الْمَيِّتِ بِتَجْهِيزِهِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِلَّا أَنْ يَرَى مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ جَزَعًا شَدِيدًا، فَيَخْتَارُ تَقْدِيمَ التَّعْزِيَةِ لِيُصَبِّرَهُمْ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ تَمْتَدُّ التَّعْزِيَةُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَا يُعَزَّى بَعْدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعَزِّي، أَوِ الْمُعَزَّى غَائِبًا. وَفِي وَجْهٍ: يُعَزِّيهِ أَبَدًا، وَهُوَ شَاذٌّ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ، الْأَوَّلُ. ثُمَّ الثَّانِيَةُ لِلتَّقْرِيبِ. فَرْعٌ مَعْنَى التَّعْزِيَةِ: الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ بِوَعْدِ الْأَجْرِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْوِزْرِ بِالْجَزَعِ، وَالدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَلِلْمُصَابِ بِجَبْرِ الْمُصِيبَةِ، فَيَقُولُ فِي تَعْزِيَةِ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ، وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ. وَفِي تَعْزِيَةِ الْمُسْلِمِ

فصل

بِالْكَافِرِ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَخْلَفَ عَلَيْكَ، أَوْ أَلْهَمَكَ الصَّبْرَ، أَوْ جَبَرَ مُصِيبَتَكَ وَنَحْوَهُ. وَفِي تَعْزِيَةِ الْكَافِرِ بِالْمُسْلِمِ: غَفَرَ اللَّهُ لِمَيِّتِكَ، وَأَحْسَنَ عَزَائَكَ. وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعَزِّيَ الذِّمِّيَّ بِقَرِيبِهِ الذِّمِّيِّ، فَيَقُولُ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَلَا نَقَصَ عَدَدُكَ. فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ الْمَيِّتِ، وَالْأَبَاعِدِ مِنْ قَرَابَتِهِ، تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ، يُشْبِعُهُمْ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَكْلِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ (الشَّامِلِ) وَأَمَّا إِصْلَاحُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا، وَجَمْعُهُمُ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ شَيْءٌ، قَالَ: وَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. قَالَ غَيْرُهُ: وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ فِي بَلَدٍ، وَأَهْلُهُ فِي غَيْرِهِ، يُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ أَهْلِهِ اتِّخَاذُ الطَّعَامِ لَهُمْ. وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ أَهْلِ الْمَيِّتِ، لَكَانَ أَحْسَنَ، لِتَدْخُلَ فِيهِ هَذِهِ الصُّورَةُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوِ اجْتَمَعَ نِسَاءٌ يَنُحْنَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُنَّ طَعَامًا، فَإِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ. فَصْلٌ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ جَائِزٌ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَقَبْلَهُ أَوْلَى. وَالنَّدْبُ حَرَامٌ، وَهُوَ أَنْ يَعُدَّ شَمَائِلَ الْمَيِّتِ، فَيُقَالُ: وَا كَهْفَاهْ، وَا جَبَلَاهْ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالنِّيَاحَةُ حَرَامٌ، وَالْجَزَعُ، بِضَرْبِ الْخَدِّ، وَشَقِّ الثَّوْبِ، وَنَشْرِ الشَّعْرِ، حَرَامٌ، وَإِذَا فَعَلَ أَهْلُ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لَا يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ مُتَأَوَّلٌ عَلَى مَنْ أَوْصَى بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ.

باب

بَابٌ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: تَرْكُهَا جَحْدًا لِوُجُوبِهَا، فَهُوَ مُرْتَدٌّ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ وُجُوبُهَا، وَيَجْرِي هَذَا الْحُكْمُ فِي جُحُودِ كُلِّ حُكْمٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ. قُلْتُ: أَطْلَقَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِ جَاحِدِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ مَنْ جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِيهِ نَصٌّ، وَهُوَ مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهَا الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ، كَالصَّلَاةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، أَوِ الزِّنَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُوَ كَافِرٌ. وَمَنْ جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ، كَاسْتِحْقَاقِ بِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ، وَكَمَا إِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى حُكْمِ حَادِثَةٍ، فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، لِلْعُذْرِ، بَلْ يَعْرِفُ الصَّوَابَ لِيَعْتَقِدَهُ. وَمَنْ جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، ظَاهِرًا، لَا نَصَّ فِيهِ. فَفِي الْحُكْمِ بِتَكْفِيرِهِ خِلَافٌ يَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - بَيَانُهُ فِي بَابِ الرِّدَّةِ، وَقَدْ أَوْضَحَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ تَرَكَهَا غَيْرَ جَاحِدٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: تَرْكٌ لِعُذْرٍ، كَالنَّوْمِ، وَالنِّسْيَانِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ، وَوَقْتُهُ مُوَسَّعٌ. وَالثَّانِي: تَرْكٌ بِلَا عُذْرٍ تَكَاسُلًا، فَلَا يَكْفُرُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الشَّاذِّ: يَكُونُ مُرْتَدًّا كَالْأَوَّلِ، فَعَلَى الصَّحِيحِ: يُقْتَلُ حَدًّا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يُحْبَسُ وَيُؤَدَّبُ وَلَا يُقْتَلُ. وَمَتَى يُقْتَلُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا ضَاقَ وَقْتُهَا، وَالثَّانِي: إِذَا ضَاقَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ. وَالثَّالِثُ: إِذَا ضَاقَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ. وَالرَّابِعُ: إِذَا تَرَكَ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ. وَالْخَامِسُ:

إِذَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ قَدْرًا يَظْهَرُ لَنَا بِهِ اعْتِيَادُهُ التَّرْكَ وَتَهَاوُنُهُ بِالصَّلَاةِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَالِاعْتِبَارُ بِإِخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِ الضَّرُورَةِ. فَإِذَا تَرَكَ الظُّهْرَ لَمْ يُقْتَلْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَإِذَا تَرَكَ الْمَغْرِبَ، لَمْ يُقْتَلْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ. حَكَاهُ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَتَابَعَهُ الْأَئِمَّةُ عَلَيْهِ. وَعَلَى الْأَوْجُهِ كُلِّهَا: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ. وَهَلْ يَكْفِي الِاسْتِتَابَةُ فِي الْحَالِ، أَمْ يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَوْلَانِ. قَالَ فِي ( «الْعُدَّةِ» ) : الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُمْهَلُ. وَالْقَوْلَانِ فِي الِاسْتِحْبَابِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِي الْإِيجَابِ. فَرْعٌ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ ضَرْبًا كَالْمُرْتَدِّ. وَفِي وَجْهٍ: يُنْخَسُ بِحَدِيدَةٍ، وَيُقَالُ: صَلِّ، فَإِنْ صَلَّى، وَإِلَّا كُرِّرَ عَلَيْهِ [النَّخْسُ] حَتَّى يَمُوتَ. وَفِي وَجْهٍ: يُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يُصَلِّيَ أَوْ يَمُوتَ. وَأَمَّا غَسْلُ الْمَقْتُولِ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَدَفْنُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ. فَرْعٌ. إِذَا أَرَادَ السُّلْطَانُ قَتْلَهُ، فَقَالَ: صَلَّيْتُ فِي بَيْتِي، تُرِكَ. فَرْعٌ. تَارِكُ الْوُضُوءِ يُقْتَلُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: أُصَلِّيهَا ظُهْرًا، بِلَا عُذْرٍ - لَمْ يُقْتَلْ، قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِتَرْكِ الصَّوْمِ، فَالْجُمُعَةُ أَوْلَى، لِأَنَّ لَهَا بَدَلًا، وَتَسْقُطُ بِأَعْذَارٍ كَثِيرَةٍ.

قُلْتُ: قَدْ جَزَمَ الْإِمَامُ الشَّاشِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّيهَا ظُهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ قَضَاؤُهَا، وَلَيْسَتِ الظُّهْرُ قَضَاءً عَنْهَا. وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا غَيْرُ الشَّاشِيِّ، وَاسْتَقْصَيْتُ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، مِنْ شَرْحِ (الْمُهَذَّبِ) . وَلَوْ قَتَلَ إِنْسَانٌ تَارِكَ الصَّلَاةِ فِي مُدَّةِ الْإِمْهَالِ، قَالَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) : يَأْثَمُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَقَاتِلِ الْمُرْتَدِّ. وَسَيَأْتِي كَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِيهِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَقَالَ: تَرَكْتُهَا نَاسِيًا، أَوْ لِلْبَرْدِ، أَوْ عَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ لِنَجَاسَةٍ كَانَتْ عَلَيَّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ، صَحِيحَةً كَانَتْ أَوْ بَاطِلَةً، قَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : يُقَالُ لَهُ: صَلِّ، فَإِنِ امْتَنَعَ، لَمْ يُقْتَلْ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِسَبَبِ تَعَمُّدِ تَأْخِيرِهَا عَنِ الْوَقْتِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ، وَفِي وَجْهٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ لِعِنَادِهِ. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: تَعَمَّدْتُ تَرْكَهَا، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَهَا، قُتِلَ قَطْعًا. وَإِنْ قَالَ: تَعَمَّدْتُ تَرْكَهَا بِلَا عُذْرٍ، وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا أُصَلِّيهَا - قُتِلَ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِتَحَقُّقِ جِنَايَتِهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْقَضَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَضَاءَ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ بِعُذْرٍ، عَلَى التَّرَاخِي عَلَى الْمَذْهَبِ، وَمَنْ تَرَكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: عَلَى التَّرَاخِي، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَدَّمْنَا الْوَعْدَ بِهِ فِي آخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الزكاة

كِتَابُ الزَّكَاةِ هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ جَحَدَهَا كَفَرَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهَا فَيُعَرَّفُ. وَمَنْ مَنَعَهَا وَهُوَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا، أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا. فَإِنِ امْتَنَعَ قَوْمٌ بِقَوْمٍ قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا. فَصْلٌ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ كُلُّ مُسْلِمٍ حُرٍّ، أَوْ بَعْضُهُ حُرٌّ، فَتَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ إِخْرَاجُهَا مِنْ مَالِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ أَخْرَجَ الصَّبِيُّ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَالْمَجْنُونُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ زَكَاةَ مَا مَضَى، وَلَا تَجِبُ فِي الْمَالِ الْمَنْسُوبِ إِلَى الْجَنِينِ، وَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا، عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: تَجِبُ. وَأَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ فَلَيْسَ بِمُطَالَبٍ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فِي الْحَالِ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَنِ الْمَاضِي. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا وَجَبَ فِي الْإِسْلَامِ. وَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ فِي الرِّدَّةِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: تَجِبُ الزَّكَاةُ قَطْعًا، كَالنَّفَقَاتِ وَالْغَرَامَاتِ. وَالثَّانِي - وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ -: يُبْنَى عَلَى الْأَقْوَالِ فِي مِلْكِهِ، إِنْ قُلْنَا: يَزُولُ بِالرِّدَّةِ فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ، وَجَبَتْ، وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَالزَّكَاةُ مَوْقُوفَةٌ أَيْضًا. فَإِذَا قُلْنَا: تَجِبُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِذَا أَخْرَجَ فِي حَالِ الرِّدَّةِ أَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ أَطْعَمَ عَنِ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ:

فصل

لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُخْرِجُهَا مَا دَامَ مُرْتَدًّا. وَكَذَا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَخْرَجَ الْوَاجِبَةَ فِي الرِّدَّةِ وَقَبْلَهَا. وَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا بَقِيَتِ الْعُقُوبَةُ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا خِلَافُ مَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أَخْرَجَ فِي الرِّدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ، هَلْ يُعِيدُ الْإِخْرَاجَ؟ وَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنَ الْمُمْتَنِعِ. وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ عَتَقَ وَفِي يَدِهِ مَالٌ، ابْتَدَأَ لَهُ حَوْلًا. وَإِنْ عَجَزَ نَفْسُهُ وَصَارَ مَالُهُ لِسَيِّدِهِ، ابْتَدَأَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ الْقِنُّ فَلَا يُمَلَّكُ بِغَيْرِ تَمْلِيكِ السَّيِّدِ قَطْعًا، وَلَا بِتَمْلِيكِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ. فَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا زَكَوِيًّا وَقُلْنَا: لَا يُمَلَّكُ - فَالزَّكَاةُ عَلَى سَيِّدِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْعَبْدِ قَطْعًا؛ لِضَعْفِ مِلْكِهِ، وَلَا عَلَى السَّيِّدِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِعَدَمِ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: تَجِبُ؛ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ. وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْقِنِّ. وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ تَلْزَمُهُ زَكَاةُ مَا يَمْلِكُهُ بِحُرِّيَّتِهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِتَمَامِ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ كَالْمُكَاتَبِ. فَصْلٌ قَالَ الْأَصْحَابُ: الزَّكَاةُ نَوْعَانِ: زَكَاةُ الْأَبْدَانِ، وَهِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، إِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا إِمْكَانُ الْأَدَاءِ. وَالثَّانِي: زَكَاةُ الْأَمْوَالِ، وَهِيَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ وَالْقِيمَةِ، وَهِيَ زَكَاةُ التِّجَارَةِ. وَالثَّانِي: يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ. وَالْأَعْيَانُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الزَّكَاةُ ثَلَاثَةٌ: حَيَوَانٌ، وَجَوْهَرٌ، وَنَبَاتٌ، فَيُخْتَصُّ مِنَ الْحَيَوَانِ بِالنَّعَمِ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ بِالنَّقْدَيْنِ، وَمِنَ النَّبَاتِ بِمَا يُقْتَاتُ. وَاقْتَصَرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَنِ الْمَقَاصِدِ، فَقَالَ: الزَّكَاةُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: النَّعَمُ، وَالْمُعَشَّرَاتُ، وَالنَّقْدَانِ، وَالتِّجَارَةُ، وَالْمَعْدِنُ، وَ (زَكَاةُ) الْفِطْرِ.

باب زكاة النعم

بَابُ زَكَاةِ النَّعَمِ النَّعَمُ لَهَا سِتَّةُ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: كَوْنُ الْمَالِ نَعَمًا مُتَمَحِّضَةً. وَالثَّانِي: كَوْنُهُ نِصَابًا. وَالثَّالِثُ: الْحَوْلُ. وَالرَّابِعُ: دَوَامُ الْمِلْكِ فِيهِ جَمِيعَ الْحَوْلِ. الْخَامِسُ: السَّوْمُ. السَّادِسُ: كَمَالُ الْمِلْكِ. الْأَوَّلُ: النَّعَمُ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَلَا زَكَاةَ فِي حَيَوَانٍ غَيْرَهَا، كَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ، فَتَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ. وَلَا تَجُبِ الزَّكَاةُ فِيمَا تَوَلَّدَ مِنَ الْغَنَمِ وَالظِّبَاءِ، سَوَاءً كَانَتِ الْغَنَمُ فُحُولًا أَوْ إِنَاثًا. الشَّرْطُ الثَّانِي: النِّصَابُ، فَلَا زَكَاةَ فِي الْإِبِلِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا، فَإِذَا بَلَغَتْهَا، فَفِيهَا شَاةٌ، وَلَا تَزِيدُ حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا، فَفِيهَا شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَةَ عَشَرَ: ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي عِشْرِينَ: أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ: بِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ: حِقَّةٌ، وَفِي إِحْدَى وَسِتِّينَ: جَذَعَةٌ، وَفِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ: بِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي إِحْدَى وَتِسْعِينَ: حِقَّتَانِ. وَلَا يَجِبُ بَعْدَهَا شَيْءٌ حَتَّى تُجَاوِزَ مِائَةً وَعِشْرِينَ، فَإِنْ زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً، وَجَبَ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ. وَإِنْ زَادَتْ بَعْضَ وَاحِدَةٍ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجِبُ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ. وَالصَّحِيحُ: لَا يَجِبُ إِلَّا حِقَّتَانِ. وَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ، وَأَوْجَبْنَا ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَهَلْ لِلْوَاحِدَةِ قِسْطٌ مِنَ الْوَاجِبِ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: نَعَمْ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَلِفَتِ الْوَاحِدَةُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ، سَقَطَ مِنَ الْوَاجِبِ جُزْءٌ مِنْ مِائَةٍ وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا. وَعَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ: لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ. ثُمَّ بَعْدَ مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ يَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ.

فصل

فَيَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ بِزِيَادَةِ عَشْرٍ عَشْرٍ، مِثَالُهُ فِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ: بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ، وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ: حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ: ثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ: أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ: ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ، وَفِي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ: بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّتَانِ، وَعَلَى هَذَا أَبَدًا. فَرْعٌ وَلَدُ النَّاقَةِ يُسَمَّى بَعْدَ الْوِلَادَةِ: رُبَعًا، وَالْأُنْثَى رُبَعَةً، ثُمَّ هُبَعًا وَهُبَعَةً، بِضَمِّ أَوَّلِ الْجَمِيعِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ. ثُمَّ فَصِيلًا إِلَى تَمَامِ سَنَةٍ، فَإِذَا طَعَنَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ سُمِّيَ ابْنَ مَخَاضٍ، وَالْأُنْثَى بِنْتَ مَخَاضٍ، فَإِذَا طَعَنَ فِي الثَّالِثَةِ، فَابْنُ لَبُونٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ، فَإِذَا طَعَنَ فِي الرَّابِعَةِ، فَحِقٌّ وَحِقَّةٌ، فَإِذَا طَعَنَ فِي الْخَامِسِ، فَجَذَعٌ وَجَذَعَةٌ، وَذَلِكَ آخِرُ أَسْنَانِ الزَّكَاةِ. فَصْلٌ لَا شَيْءَ فِي الْبَقْرِ حَتَّى تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ. فَإِذَا بَلَغَتْهَا، فَفِيهَا تَبِيعٌ، وَلَا زِيَادَةَ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، فَفِيهَا تَبِيعَانِ. وَاسْتَقَرَّ الْحِسَابُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ. وَيَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ بِعَشْرٍ عَشْرٍ، فَفِي سَبْعِينَ: تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ، وَفِي ثَمَانِينَ: مُسِنَّتَانِ، وَفِي تِسْعِينَ: ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ، وَفِي مِائَةٍ: مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَالتَّبِيعُ: الَّذِي طَعَنَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْأُنْثَى تَبِيعَةٌ. وَالْمُسِنَّةُ: الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَالذَّكَرُ مُسِنٌّ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ. وَحَكَى جَمَاعَةٌ وَجْهَانِ. التَّبِيعُ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالْمُسِنَّةُ سَنَةٌ.

فصل

فَصْلٌ لَا زَكَاةَ فِي الْغَنَمِ، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ. فَإِذَا بَلَغَتْهَا، فَفِيهَا شَاةٌ، ثُمَّ لَا زِيَادَةَ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا شَاتَانِ، ثُمَّ لَا زِيَادَةَ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةً، فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، ثُمَّ لَا زِيَادَةَ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَ مِائَةٍ، فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْحِسَابُ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ. وَالشَّاةُ الْوَاجِبَةُ فِيهَا: الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ، أَوِ الثَّنِيَّةُ مِنَ الْمَعْزِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَفْسِيرِهِمَا عَلَى أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: الْجَذَعَةُ: مَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّنِيَّةُ: مَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، سَوَاءٌ كَانَتَا مِنَ الضَّأْنِ أَوِ الْمَعْزِ. وَالثَّانِي: الْجَذَعَةُ لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِيَّةُ سَنَةٌ. وَالثَّالِثُ: يُقَالُ إِذَا بَلَغَ الضَّأْنُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَهُوَ مِنْ شَابَّيْنِ، فَهُوَ جَذَعٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَرِمَيْنِ، فَلَا يُسَمَّى جَذَعًا حَتَّى يَبْلُغَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ. فَرْعٌ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ يُسَمَّى وَقَصًا - مِنْهُمْ مَنْ يَفْتَحُ قَافَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُهَا - وَالشَّنَقُ بِمَعْنَى الْوَقَصِ، وَقِيلَ: الْوَقَصُ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ خَاصَّةً، وَالشَّنَقُ فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً. قُلْتُ: الْفَصِيحُ فِي الْوَقَصِ، فَتْحُ الْقَافِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِسْكَانُهَا، وَقَدْ لَحَّنَهُمْ فِيهِ الْإِمَامُ ابْنُ بِرِّيٍّ، وَلَيْسَ تَلْحِينُهُ بِصَحِيحٍ، بَلْ هُمَا لُغَتَانِ أَوْضَحْتُهُمَا فِي كِتَابِ تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالشَّنَقُ - بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ وَالْقَافِ - قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الشَّنَقُ كَالْوَقَصِ سَوَاءٌ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الشَّنَقُ يَخْتَصُّ بِأَوْقَاصِ الْإِبِلِ، وَالْوَقَصُ بِالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَيُقَالُ فِيهِ: وَقَسٌ - بِالسِّينِ الْمُهْمِلَةِ - وَالْمَشْهُورُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلُوهُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ الشَّاةُ الْوَاجِبَةُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ: هِيَ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ، أَوِ الثَّنِيَّةُ مِنَ الْمَعْزِ، كَالشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْغَنَمِ، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: يَتَعَيَّنُ نَوْعُ غَنَمِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُزَكِّي. وَالثَّانِي: يَتَعَيَّنُ غَالِبُ غَنَمِ الْبَلَدِ، قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَنُقِلَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَإِنِ اسْتَوَيَا تَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا. وَالثَّالِثُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُخْرِجُ مَا شَاءَ مِنَ النَّوْعَيْنِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْغَالِبُ. صَحَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَرُبَّمَا لَمْ يَذْكُرُوا سِوَاهُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ نُصُوصًا لِلشَّافِعِيِّ تَقْتَضِيهِ، وَرَجَّحَهَا. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ غَنَمِ الْبَلَدِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَوْ أَخْرَجَ غَيْرَ غَنَمِ الْبَلَدِ وَهِيَ فِي الْقِيمَةِ خَيْرٌ مِنْ غَنَمِ الْبَلَدِ أَوْ مِثْلُهَا - أَجْزَأَهُ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ دُونَهَا. وَهَلْ يُجْزِئُ الذَّكَرُ مِنْهُمَا، أَمْ يَتَعَيَّنُ الْأُنْثَى؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُ كَالْأُضْحِيَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْإِبِلُ ذُكُورًا كُلَّهَا، أَوْ إِنَاثًا، أَوْ مُخْتَلِطَةً. وَقِيلَ: الْوَجْهَانِ يَخْتَصَّانِ بِمَا إِذَا كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا، وَإِلَّا فَلَا يُجْزِئُ فِي الذَّكَرِ قَطْعًا. وَالْأَصَحُّ الْإِجْزَاءُ مُطْلَقًا. فَرْعٌ إِذَا وَجَبَتْ شَاةٌ عَنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَأَخْرَجَ بَعِيرًا - أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَفِي وَجْهٍ: لَا يُجْزِئُهُ إِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، قَالَهُ الْقَفَّالُ وَأَبُو مُحَمَّدٍ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْإِبِلُ مِرَاضًا، أَوْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ لِعَيْبٍ، أَجْزَأَ الْبَعِيرُ النَّاقِصُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، وَإِنْ كَانَتْ صِحَاحًا سَلِيمَةً لَمْ يُجْزِئِ النَّاقِصُ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ، إِذَا أَخْرَجَ بَعِيرًا عَنْ خَمْسٍ، هَلْ

نَقُولُ: كُلُّهُ فَرْضٌ، أَمْ خُمُسُهُ فَرْضٌ، وَالْبَاقِي تَطَوُّعٌ؟ وَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْمُتَمَتِّعِ إِذَا ذَبَحَ بَدَنَةً بَدَلَ الشَّاةِ، هَلِ الْفَرْضُ كُلُّهَا أَمْ سُبُعُهَا؟ وَفِيمَنْ مَسَحَ فِي الْوُضُوءِ جَمِيعَ رَأْسِهِ، هَلِ الْجَمِيعُ فَرْضٌ أَمِ الْبَعْضُ؟ وَقَالُوا: الْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَمِيعَ لَيْسَ بِفَرْضٍ فِي مَسْأَلَتَيْ الِاسْتِشْهَادِ، أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى سُبُعِ بَدَنَةٍ، وَبَعْضِ الرَّأْسِ جَائِزٌ، وَلَا يُجْزِئُ هُنَا خُمُسُ بَعِيرٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَكَرَ قَوْمٌ مِنْهُمْ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ فِي الْإِبِلِ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا، أَمْ بَدَلٌ عَنِ الْإِبِلِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: الشَّاةُ أَصْلٌ، كَانَ الْبَعِيرُ كُلُّهُ فَرْضًا كَالشَّاةِ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ خُمُسُ الْبَعِيرِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، أَنَّ جَمِيعَ الْبَعِيرِ فَرْضٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إِذَا كَانَ الْبَعِيرُ يُجْزِئُ عَنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ بَدَلَ الشَّاةِ بِلَا خِلَافٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَخْرَجَ بَعِيرًا عَنْ عَشْرٍ مِنَ الْإِبِلِ، أَوْ عَنْ خَمْسَ عَشْرَةَ، أَوْ عَنْ عِشْرِينَ - أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: لَا بُدَّ فِي الْعَشْرِ مِنْ حَيَوَانَيْنِ، شَاتَيْنِ أَوْ بَعِيرَيْنِ أَوْ شَاةٍ وَبَعِيرٍ، وَفِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثِ حَيَوَانَاتٍ، وَفِي الْعِشْرِينَ أَرْبَعِ شِيَاهٍ أَوْ أَبْعِرَةٍ، أَوْ شَاةٍ وَثَلَاثَةِ أَبْعِرَةٍ، أَوْ عَكْسِهِ، أَوِ اثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، أَجْزَأَهُ الْبَعِيرُ وَإِنْ كَانَ نَاقِصَ الْقِيمَةِ عَنِ الشَّاةِ، وَفِيهِ الْوَجْهَانِ الضَّعِيفَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ؛ قَوْلُ الْقَفَّالِ، وَالْآخَرُ. فَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَيْهِمَا، اعْتُبِرَ أَنْ لَا يَنْقُصَ الْبَعِيرُ فِي الْعَشْرِ عَنْ قِيمَةِ شَاتَيْنِ، وَفِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ عَنْ قِيمَةِ ثَلَاثٍ، وَفِي الْعِشْرِينَ عَنْ قِيمَةِ أَرْبَعٍ.

فصل

فَرْعٌ الشَّاةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْإِبِلِ يُشْتَرَطُ كَوْنُهَا صَحِيحَةً وَإِنْ كَانَتِ الْإِبِلُ مِرَاضًا؛ لِأَنَّهَا فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَطَعُ كَثِيرُونَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ خَيْرَانَ: يُؤْخَذُ عَنِ الْمِرَاضِ صَحِيحَةٌ تَلِيقُ بِهَا. مِثَالُهُ: خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ مِرَاضٌ قِيمَتُهَا خَمْسُونَ، وَلَوْ كَانَتْ صِحَاحًا كَانَ قِيمَتُهَا مِائَةً، وَقِيمَةُ الشَّاةِ الْمُخْرَجَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ، فَيُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ شَاةٍ صَحِيحَةٍ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بِهَا شَاةٌ صَحِيحَةٌ، قَالَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» : فَرْقُ الدَّرَاهِمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْإِبِلِ الصِّحَاحِ بِلَا فَرْقٍ. قَالَ فِي الْمُهَذَّبِ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. فَصْلٌ إِذَا مَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَقَدْ وَجَبَ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ وَجَدَهَا لَمْ يَعْدِلْ إِلَى ابْنِ لَبُونٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ جَازَ دَفْعُهُ عَنْهَا، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِهَا أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا أَمْ لَا، وَلَا جُبْرَانَ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي إِبِلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَا ابْنُ لَبُونٍ، فَالْأَصَحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيُخْرِجَهُ. وَالثَّانِي: يَتَعَيَّنُ بِنْتُ الْمَخَاضِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ مَعِيبَةٌ فَكَالْمَعْدُومَةِ وَلَوْ كَانَتْ كَرِيمَةً وَإِبِلُهُ مَهْزُولَةٌ - لَمْ يُكَلَّفْ إِخْرَاجَهَا، فَإِنْ تَطَوَّعَ بِهَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَإِنْ أَرَادَ إِخْرَاجَ ابْنِ لَبُونٍ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَأَكْثَرُ شِيعَتِهِ، وَرَجَّحَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، وَالْأَكْثَرُونَ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَالْمَعْدُومَةِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ صَاحِبَيِ الْمُهَذَّبِ وَالتَّهْذِيبِ وَحُكِيَ عَنْ نَصِّهِ. وَلَوْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَأَخْرَجَ خُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ اللَّبُونِ - أَجْزَأَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا جُبْرَانَ لِلْمَالِكِ لِاحْتِمَالِ

فصل

الْأُنُوثَةِ مَا لَمْ نَتَحَقَّقْهَا. وَلَوْ وَجَدَ بِنْتَ لَبُونٍ وَابْنَ لَبُونٍ، فَأَرَادَ إِخْرَاجَ بِنْتِ اللَّبُونِ، وَأَخْذَ الْجُبْرَانِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ لَزِمَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَهِيَ عِنْدَهُ، فَأَرَادَ إِخْرَاجَ خُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ اللَّبُونِ - لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرٌ، فَلَا يُجْزِئُ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ الْمَخَاضِ. وَلَوْ أَخْرَجَ حِقًّا عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ عِنْدَ فَقْدِهَا، فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنِ ابْنِ اللَّبُونِ، وَلَوْ لَزِمَتْهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَخْرَجَ حِقًّا عِنْدَ عَدَمِهَا لَمْ يُجْزِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَتْ طَائِفَةٌ فِيهِ وَجْهَانِ. فَصْلٌ إِذَا بَلَغَتْ مَاشِيَتُهُ حَدًّا يُخْرِجُ فَرْضَهُ بِحِسَابَيْنِ كَمِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ، فَهَلِ الْوَاجِبُ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، أَوْ أَرْبَعُ حِقَاقٍ؟ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: الْحِقَاقُ، وَفِي الْجَدِيدِ: أَحَدُهُمَا. قَالَ الْأَصْحَابُ: فِيهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا. وَالثَّانِي: الْحِقَاقُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْجَدِيدِ، وَتَأَوَّلُوا الْقَدِيمَ. فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْقَدِيمَ وَفَرَّعْنَا عَلَيْهِ، نُظِرَ، إِنْ وُجِدَ الْحِقَاقُ بِصِفَةِ الْإِجْزَاءِ لَمْ يُجْزِ غَيْرُهَا، وَإِلَّا نَزَلَ مِنْهَا إِلَى بَنَاتِ اللَّبُونِ، أَوْ صَعِدَ إِلَى الْجِذَاعِ مَعَ الْجُبْرَانِ، وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَحَدُهُمَا، فَلِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالٌ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ فِي الْمَالِ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ بِكَمَالِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَيُؤْخَذُ وَلَا يُكَلَّفُ تَحْصِيلَ الصِّنْفِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ أَنْفَعَ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَا يَجُوزُ الصُّعُودُ وَلَا النُّزُولُ مَعَ الْجُبْرَانِ؛ إِذْ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، وَسَوَاءٌ عُدِمَ جَمِيعُ الصِّنْفِ الْآخَرِ أَمْ بَعْضُهُ، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ. وَكَذَا لَوْ وُجِدَ الصِّنْفَانِ وَأَحَدُهُمَا مَعِيبٌ، فَكَالْمَعْدُومِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُوجَدَ فِي مَالِهِ شَيْءٌ مِنَ الصِّنْفَيْنِ، أَوْ يُوجَدُ، أَوْ هُمَا مَعِيبَانِ. فَإِذَا أَرَادَ تَحْصِيلَ أَحَدِهِمَا بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يُحَصِّلَ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَالثَّانِي: يَجِبُ تَحْصِيلُ الْأَغْبَطِ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْحِقَاقَ وَلَا بَنَاتِ

اللَّبُونِ، بَلْ يَنْزِلُ أَوْ يَصْعَدُ مَعَ الْجُبْرَانِ، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَ الْحِقَاقَ أَصْلًا، وَصَعِدَ إِلَى أَرْبَعِ جِذَاعٍ فَأَخْرَجَهَا وَأَخَذَ أَرْبَعَ جُبْرَانَاتٍ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ بَنَاتِ اللَّبُونِ أَصْلًا وَنَزَلَ إِلَى خَمْسِ بَنَاتِ مَخَاضٍ، فَأَخْرَجَهَا وَدَفَعَ مَعَهَا خَمْسَ جُبْرَانَاتٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْحِقَاقَ أَصْلًا وَيَنْزِلَ إِلَى أَرْبَعِ بَنَاتِ مَخَاضٍ وَيَدْفَعَ ثَمَانِيَ جُبْرَانَاتٍ، وَلَا أَنْ يَجْعَلَ بَنَاتِ اللَّبُونِ أَصْلًا وَيَصْعَدَ إِلَى خَمْسِ جِذَاعٍ وَيَأْخُذَ عَشْرَ جُبْرَانَاتٍ؛ لِإِمْكَانِ تَقْلِيلِ الْجُبْرَانِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ أَنَّهُ يَجُوزُ الصُّعُودُ وَالنُّزُولُ الْمَذْكُورَانِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ الصِّنْفَانِ بِصِفَةِ الْإِجْزَاءِ، فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: يَجِبُ الْأَغْبَطُ لِلْمَسَاكِينِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ فِيهِمَا، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِخْرَاجُ الْأَغْبَطِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ يَتِيمٍ، فَيُرَاعِي حَظَّهُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ فَأَخَذَ السَّاعِي غَيْرَ الْأَغْبَطِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ؛ الصَّحِيحُ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِتَقْصِيرٍ، إِمَّا مِنَ السَّاعِي بِأَنْ أَخَذَهُ مَعَ عِلْمِهِ، أَوْ أَخَذَهُ بِلَا اجْتِهَادٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْأَغْبَطُ، وَإِمَّا مِنَ الْمَالِكِ، بِأَنْ دَلَّسَ وَأَخْفَى الْأَغْبَطَ - لَمْ يَقَعِ الْمَأْخُوذُ مِنَ الزَّكَاةِ. وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَقَعَ عَنِ الزَّكَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ وَقَطَعَ بِهِ فِي التَّهْذِيبِ: إِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ السَّاعِي بِعَيْنِهِ لَمْ يَقَعْ عَنِ الزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِلَّا وَقَعَ. وَالثَّالِثُ: يَقَعُ عَنْهُمَا بِكُلِّ حَالٍ. وَالرَّابِعُ: لَا يَقَعُ بِحَالٍ. وَالْخَامِسُ: إِنْ فَرَّقَّهُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، ثُمَّ ظَهَرَ الْحَالُ، حَسِبَ عَنِ الزَّكَاةِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِلَّا لَمْ يُحْسَبْ. وَالسَّادِسُ: إِنْ دَفَعَ الْمَالِكُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ الْأَدْنَى، لَمْ يُجِزْهُ، وَإِنْ كَانَ السَّاعِي هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ، جَازَ. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَقَعُ الْمَأْخُوذُ عَنِ الزَّكَاةِ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا، وَعَلَى السَّاعِي رَدُّ مَا أَخَذَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَقِيمَتُهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا. وَحَيْثُ قُلْنَا: يَقَعُ، فَهَلْ يَجِبُ إِخْرَاجُ قَدْرِ التَّفَاوُتِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ كَمَا إِذَا أَدَّى اجْتِهَادُ الْإِمَامِ إِلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ، وَأَخَذَهَا، لَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّفَاوُتُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْحِقَاقِ أَرْبَعَمِائَةٍ

وَقِيمَةُ بَنَاتِ اللَّبُونِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَقَدْ أَخَذَ الْحِقَاقَ، فَالتَّفَاوُتُ خَمْسُونَ، فَلَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ يَسِيرًا لَا يَحْصُلُ بِهِ شِقْصُ نَاقَةٍ، دَفَعَ الدَّرَاهِمَ لِلضَّرُورَةِ، وَأَشَارَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ إِلَى أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ إِلَى وُجُودِ شِقْصٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنْ يَحْصُلْ بِهِ شِقْصٌ فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجِبُ شِرَاؤُهُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَجُوزُ دَفْعُ الدَّرَاهِمِ لِضَرَرِ الْمُشَارِكَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعْدِلُ إِلَى غَيْرِ الْجِنْسِ الْوَاجِبِ لِلضَّرُورَةِ، كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَلَمْ يَجِدْ شَاةً، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ قِيمَتَهَا، وَكَمَنَ لَزِمَتْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَلَمْ يَجِدْهَا وَلَا ابْنَ لَبُونِ، لَا فِي مَالِهِ وَلَا بِالثَّمَنِ، فَإِنَّهُ يَعْدِلُ إِلَى الْقِيمَةِ. فَإِذَا جَوَّزْنَا الدَّرَاهِمَ، فَأَخْرَجَ شِقْصًا، جَازَ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِيهِ أَدْنَى نَظَرٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَإِنْ أَوْجَبْنَا الشِّقْصَ، فَيَكُونُ مِنَ الْأَغْبَطِ، أَمْ مِنَ الْمُخْرَجِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: مِنَ الْأَغْبَطِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ. وَالثَّانِي: مِنَ الْمُخْرَجِ؛ لِئَلَّا يَتَبَعَّضَ. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. فَفِي الْمِثَالِ الْمُتَقَدِّمِ، يُخْرِجُ عَلَى الْأَصَحِّ خَمْسَةَ أَتْسَاعِ بِنْتِ لَبُونٍ. وَعَلَى الثَّانِي: نِصْفُ حِقَّةٍ، ثُمَّ إِذَا أَخْرَجَ شِقْصَا، وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى السَّاعِي عَلَى قَوْلِنَا: يَجِبُ الصَّرْفُ إِلَى الْإِمَامِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَإِذَا أَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْبَاطِنَةِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ، لِأَنَّهَا جُبْرَانُ الظَّاهِرَةِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِطْلَاقُ الْأَصْحَابِ الدَّرَاهِمَ فِي هَذَا الْفَصْلِ، يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِهِ نَقْدَ الْبَلَدِ، دَرَاهِمَ كَانَ أَوْ دَنَانِيرَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ. قُلْتُ: مُرَادُهُمْ نَقْدُ الْبَلَدِ قَطْعًا، وَصَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْحَاوِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، يَعْنِيَانِ أَيَّهُمَا كَانَ نَقْدَ الْبَلَدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُوجَدَ بَعْضُ كُلِّ صِنْفٍ، بِأَنْ يَجِدَ ثَلَاثَ حِقَاقٍ وَأَرْبَعَ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ جَعَلَ الْحِقَاقَ أَصْلًا فَدَفَعَهَا مَعَ بِنْتِ لَبُونٍ

وَجُبْرَانٍ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ بَنَاتِ اللَّبُونِ أَصْلًا فَدَفَعَهَا مَعَ حِقَّةٍ وَأَخَذَ جُبْرَانًا، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ حِقَّةً مَعَ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ وَثَلَاثَ جُبْرَانَاتٍ؟ وَجْهَانِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَّا أَرْبَعَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةً، فَدَفَعَ الْحِقَّةَ مَعَ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ وَثَلَاثَ جُبْرَانَاتٍ وَنَظَائِرَهُ. وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ. قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: وَيَجُوزُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَنْ يُعْطِيَ الْحِقَاقَ مَعَ جَذَعَةٍ وَيَأْخُذَ جُبْرَانًا، وَأَنْ يُعْطِيَ بَنَاتِ اللَّبُونِ وَبِنْتَ مَخَاضٍ مَعَ جُبْرَانٍ. الْحَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يُوجَدَ بَعْضُ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ وَلَا يُوجَدُ مِنَ الْآخَرِ شَيْءٌ، كَمَا إِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَّا حِقَّتَيْنِ، فَلَهُ إِخْرَاجُهُمَا مَعَ جَذَعَتَيْنِ، وَيَأْخُذَ جُبْرَانَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَنَاتِ اللَّبُونِ أَصْلًا، فَيُخْرِجَ بَدَلَهُنَّ خَمْسَ بَنَاتِ مَخَاضٍ مَعَ خَمْسِ جُبْرَانَاتٍ. وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَلَهُ إِخْرَاجُهُنَّ مَعَ بِنْتَيْ مَخَاضٍ وَجُبْرَانَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْحِقَاقَ أَصْلًا، وَيُخْرِجَ أَرْبَعَ جَذَعَاتٍ بَدَلَهَا، وَيَأْخُذَ أَرْبَعَ جُبْرَانَاتٍ. كَذَا ذَكَرَ فِي التَّهْذِيبِ الصُّورَتَيْنِ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ، وَلَعَلَّهُ فَرَّعَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ إِذَا بَلَغَتِ الْبَقَرُ مِائَةً وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ، أَوْ ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ بُلُوغِ الْإِبِلِ مِائَتَيْنِ فِي جَمِيعِ الْخِلَافِ وَالتَّفْرِيعِ الْمُتَقَدِّمِ. فَرْعٌ لَوْ أَخْرَجَ صَاحِبُ الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ حِقَّتَيْنِ وَبِنْتَيْ لَبُونٍ وَنِصْفًا، لَمْ يُجْزِ، وَلَوْ مَلَكَ أَرْبَعَ مِائَةٍ، فَعَلَيْهِ ثَمَانِي حِقَاقٍ، أَوْ عَشْرُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَيَعُودُ فِيهَا جَمِيعُ مَا فِي الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّفْرِيعِ. وَلَوْ أَخْرَجَ عَنْهَا أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَخَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ،

فصل

جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَمَنَعَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ لِتَفْرِيقِ الْفَرْضِ، كَمَا لَوْ فَرَّقَهُ فِي الْمِائَتَيْنِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: كُلُّ مِائَتَيْنِ أَصْلٌ مُنْفَرِدٌ، فَهُوَ كَكَفَّارَتَيْنِ، يُطْعِمُ فِي إِحْدَاهِمَا، وَيَكْسُو فِي الْأُخْرَى. وَأَمَّا الْمِائَتَانِ، فَالتَّفْرِيقُ فِيهِمَا كَالتَّفْرِيقِ فِي الْكَفَّارَةِ الْوَاحِدَةِ، عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ فِي الْمِائَتَيْنِ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّفْرِيقِ، بَلِ الْمَانِعُ التَّشْقِيصُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ حِقَّتَيْنِ وَثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ أَوْ أَرْبَعَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةً، جَازَ. وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ مَتَى بَلَغَ الْمَالُ مَا يُخْرَجُ مِنْهُ بَنَاتُ اللَّبُونِ وَالْحِقَاقُ بِلَا تَشْقِيصٍ. فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرْتُمْ أَنَّ السَّاعِيَ يَأْخُذُ الْأَغْبَطَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَغْبَطُ الصِّنْفَيْنِ هُوَ الْمُخْرَجَ، فَكَيْفَ يُخْرِجُ الْبَعْضَ مِنْ هَذَا وَالْبَعْضَ مِنْ ذَاكَ؟ فَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ. قَالَ: يَجُوزُ أَنَّ لَهُمْ حَظًّا وَمَصْلَحَةً فِي اجْتِمَاعِ النَّوْعَيْنِ وَفِي هَذَا أَنَّ جِهَةَ الْغِبْطَةِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ، يَتَعَذَّرُ إِخْرَاجُ قَدْرِ التَّفَاوُتِ. فَصْلٌ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، جَازَ أَنْ يُخْرِجَ بِنْتَ لَبُونٍ وَيَأْخُذَ مِنَ السَّاعِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، جَازَ أَنْ يُخْرِجَ حِقَّةً وَيَأْخُذَ مَا ذَكَرْنَا، وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، جَازَ أَنْ يُخْرِجَ جَذَعَةً، وَيَأْخُذَ مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، جَازَ أَنْ يُخْرِجَ حِقَّةً مَعَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا. وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَازَ أَنْ يُخْرِجَ بِنْتَ لَبُونٍ مَعَ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ وَجَبَتْ بِنْتُ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، جَازَ أَنْ يُخْرِجَ بِنْتَ مَخَاضٍ مَعَ مَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ صِفَةُ شَاةِ الْجُبْرَانِ هَذِهِ، صِفَةُ الشَّاةِ الْمُخْرَجَةِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْأُنُوثَةِ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الْمُعْطِي الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي تِلْكَ الشَّاةِ، وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي يُخْرِجُهَا هِيَ النُّقْرَةُ. قَالَ فِي

النِّهَايَةِ: وَكَذَا دَرَاهِمُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ وَرَدَتْ. وَإِنِ احْتَاجَ الْإِمَامُ إِلَى إِعْطَاءِ الْجُبْرَانِ وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ دَرَاهِمُ، بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمَسَاكِينِ وَصَرَفَهُ فِي الْجُبْرَانِ، وَإِلَى مَنْ تَكُونُ الْخِيَرَةُ فِي تَعْيِينِ الشَّاتَيْنِ أَوِ الدَّرَاهِمِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْخِيَرَةَ لِلدَّافِعِ، سَوَاءٌ إِنْ كَانَ السَّاعِي أَوْ رَبَّ الْمَالِ، لَكِنَّ السَّاعِيَ يُرَاعِي مَصْلَحَةَ الْمَسَاكِينِ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا هَذَا. وَالثَّانِي: الْخِيَارُ لِلسَّاعِي. وَأَمَّا الْخِيَرَةُ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ فَإِلَى الْمَالِكِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِلَى السَّاعِي عَلَى الثَّانِي. وَالْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا دَفَعَ الْمَالِكُ غَيْرَ الْأَغْبَطِ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَ الْأَغْبَطِ لَزِمَ السَّاعِيَ أَخْذَهُ قَطْعًا، هَذَا عِنْدَ سَلَامَةِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ مَرِيضًا أَوْ مَعِيبًا، لِكَوْنِ إِبِلِهِ مِرَاضًا أَوْ مَعِيبَةً، فَأَرَادَ الصُّعُودَ وَطَلَبَ الْجُبْرَانَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْخِيَارُ لِلسَّاعِي وَرَأَى الْغِبْطَةَ فِيهِ، جَازَ. وَإِنْ قُلْنَا: الْخِيَارُ لِلْمَالِكِ، لَمْ يُفَوَّضْ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَيُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ مِنَ السِّنِّ الْمَعِيبَةِ أَوِ الْمَرِيضَةِ إِلَى نَاقِصَةٍ دُونَهَا وَيَبْذُلَ الْجُبْرَانَ قَبْلُ - فَإِنَّهُ تَبَرَّعَ بِزِيَادَةٍ. فَرْعٌ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ، فَأَخْرَجَ بَدَلَهَا ثَنِيَّةً وَلَمْ يَطْلُبْ جُبْرَانًا، جَازَ، وَقَدْ زَادَ خَيْرًا. وَلَوْ طَلَبَ الْجُبْرَانَ فَوَجْهَانِ، أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: الْجَوَازُ، وَأَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَصَاحِبِ التَّهْذِيبِ: الْمَنْعُ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ الصُّعُودُ وَالنُّزُولُ بِدَرَجَةٍ، يَجُوزُ بِدَرَجَتَيْنِ، بِأَنْ يُعْطِيَ بَدَلَ بِنْتِ اللَّبُونِ جَذَعَةً عِنْدَ فَقْدِهَا وَفَقْدِ الْحِقَّةِ، وَيَأْخُذَ جُبْرَانَيْنِ، أَوْ يُعْطِيَ بَدَلَ

الْحِقَّةِ بِنْتَ مَخَاضٍ مَعَ جُبْرَانَيْنِ، وَكَذَلِكَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، بِأَنْ يُعْطِيَ بَدَلَ الْجَذَعَةِ عِنْدَ فَقْدِهَا وَفَقْدِ الْحِقَّةِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ بِنْتَ مَخَاضٍ مَعَ ثَلَاثِ جُبْرَانَاتٍ، أَوْ يُعْطِي بَدَلَ بِنْتِ الْمَخَاضِ الْجَذَعَةَ عِنْدَ فَقْدِ مَا بَيْنَهُمَا، وَيَأْخُذُ ثَلَاثَ جُبْرَانَاتٍ، وَهَلْ يَجُوزُ الصُّعُودُ وَالنُّزُولُ بِدَرَجَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّرَجَةِ الْقُرْبَى، كَمَا إِذَا لَزِمَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَلَمْ يَجِدْهَا، وَوَجَدَ حِقَّةً وَجَذَعَةً فَصَعِدَ إِلَى الْجَذَعَةِ. الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا يَجُوزُ. وَالْخِلَافُ فِيمَا إِذَا صَعِدَ وَطَلَبَ جُبْرَانَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا رَضِيَ بِجُبْرَانٍ، فَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي النُّزُولِ مِنَ الْحِقَّةِ إِلَى بِنْتِ مَخَاضٍ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ اللَّبُونِ. أَمَّا إِذَا لَزِمَتْهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ يَجِدْهَا وَلَا حِقَّةَ، وَوَجَدَ جَذَعَةً وَبِنْتَ مَخَاضٍ، فَهَلْ لَهُ تَرْكُ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَيُخْرِجُ الْجَذَعَةَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ؛ لِأَنَّ بِنْتَ الْمَخَاضِ وَإِنْ كَانَتْ أَقْرَبَ، لَكِنْ لَيْسَتْ فِي الْجِهَةِ الْمَعْدُولِ إِلَيْهَا. فَرْعٌ لَوْ أَخْرَجَ الْمَالِكُ عَنْ جُبْرَانَيْنِ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، جَازَ، وَلَوْ أَخْرَجَ عَنْ جُبْرَانٍ شَاةً وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ، لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ أَخَذَ وَرَضِيَ بِالتَّفْرِيقِ، جَازَ. فَرْعٌ لَوْ لَزِمَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ يَجِدْهَا، وَوَجَدَ ابْنَ لَبُونٍ وَحِقَّةً، وَأَرَادَ دَفْعَ ابْنَ اللَّبُونِ مَعَ الْجُبْرَانِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ كَبِنْتِ الْمَخَاضِ. قُلْتُ: لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ يَجِدْهَا وَوَجَدَ ابْنَ لَبُونٍ وَبِنْتَ لَبُونٍ

فصل في صفة المخرج في الكمال والنقصان

فَأَخْرَجَهَا وَطَلَبَ الْجُبْرَانِ - لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الْأَصَحِّ، بَلْ عَلَيْهِ دَفْعُ ابْنِ اللَّبُونِ بِلَا جُبْرَانٍ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ بَنَتِ الْمَخَاضِ بِالنَّصِّ، وَلَوْ وَجَبَتْ حِقَّةٌ فَأَخْرَجَ بَدَلَهَا بِنْتَيْ لَبُونٍ، أَوْ وَجَبَتْ جَذَعَةٌ، فَأَخْرَجَ بَدَلَهَا حِقَّتَيْنِ، أَوْ بِنْتَيْ لَبُونٍ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُمَا يُجْزِئَانِ عَمَّا زَادَ، وَلَوْ مَلَكَ إِحْدَى وَسِتِّينَ بِنْتَ مَخَاضٍ فَأَخْرَجَ وَاحِدَةً مِنْهَا، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَجِبُ مَعَهَا ثَلَاثُ جُبْرَانَاتٍ. وَفِي الْحَاوِي وَجْهٌ أَنَّهَا تَكْفِيهِ وَحْدَهَا حَذَرًا مِنَ الْإِجْحَافِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَا يَدْخُلُ الْجُبْرَانُ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ. فَصَلٌ فِي صِفَةِ الْمُخْرَجِ فِي الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ أَسْبَابُ النَّقْصِ فِي هَذَا الْبَابِ خَمْسَةٌ. أَحَدُهَا: الْمَرَضُ، فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُ كُلُّهَا مِرَاضًا، أَجْزَأَتْهُ مَرِيضَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ. وَلَوْ كَانَ بَعْضُهَا صَحِيحًا وَبَعْضُهَا مَرِيضًا، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ قَدْرَ الْوَاجِبِ فَأَكْثَرَ - لَمْ تُجْزِ الْمَرِيضَةُ إِنْ كَانَ الْوَاجِبُ حَيَوَانًا وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَ اثْنَيْنِ وَنِصْفُ مَاشِيَتِهِ صِحَاحٌ وَنِصْفُهَا مِرَاضٌ، كَبِنْتَيْ لَبُونٍ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَكَشَاتَيْنِ فِي مِائَتَيْنِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ صَحِيحَةً وَمَرِيضَةً؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي التَّهْذِيبِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَهُ: يَجُوزُ، وَأَقْرَبُهُمَا إِلَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ: لَا. وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ مَاشَيْتِهِ دُونَ قَدْرِ الْوَاجِبِ، كَشَاتَيْنِ فِي مِائَتَيْنِ لَيْسَ فِيهَا صَحِيحَةٌ إِلَّا وَاحِدَةٌ - فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ صَحِيحَةٌ وَمَرِيضَةٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلَانِيُّ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. ثَانِيهِمَا: يَجِبُ صَحِيحَتَانِ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ.

فَرْعٌ إِذَا أَخْرَجَ صَحِيحَةً مِنَ الْمَالِ الْمُنْقَسِمِ إِلَى الصِّحَاحِ وَالْمِرَاضِ، لَمْ يَجِبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِحَاحِ مَالِهِ، وَلَا مِمَّا يُسَاوِيهَا فِي الْقِيمَةِ، بَلْ يَجِبُ صَحِيحَةٌ لَائِقَةٌ بِمَالِهِ. مِثَالُهُ: أَرْبَعُونَ شَاةً نِصْفُهَا صِحَاحٌ، وَقِيمَةُ كُلِّ صَحِيحَةٍ دِينَارَانِ وَكُلِّ مَرِيضَةٍ دِينَارٌ، فَعَلَيْهِ صَحِيحَةٌ بِقِيمَةِ نِصْفِ صَحِيحَةٍ وَنِصْفِ مَرِيضَةٍ، وَذَلِكَ دِينَارٌ وَنِصْفٌ، وَلَوْ كَانَتِ الصِّحَاحُ ثَلَاثِينَ، فَعَلَيْهِ صَحِيحَةٌ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَةِ صَحِيحَةٍ وَرُبُعِ مَرِيضَةٍ، وَهُوَ دِينَارٌ وَنِصْفٌ وَرُبُعٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا صَحِيحَةٌ، فَعَلَيْهِ صَحِيحَةٌ وَقِيمَتُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ قِيمَةِ مَرِيضَةٍ، وَجُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ صَحِيحَةٍ، وَذَلِكَ دِينَارٌ وَرُبُعُ عُشْرِ دِينَارٍ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ رُبُعُ عُشْرِ الْمَالِ، وَمَتَى قُوِّمَ جُمْلَةُ النِّصَابِ وَكَانَتِ الصَّحِيحَةُ الْمُخْرَجَةُ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ، كَفَى. فَلَوْ مَلَكَ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ شَاةً، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الشَّاتَيْنِ الْمَأْخُوذَتَيْنِ جُزْءٌ مِنْ مِائَةٍ وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ قِيمَةِ الْجُمْلَةِ، وَإِنْ مَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ يَكُونُ قِيمَةُ النَّاقَةِ الْمَأْخُوذَةِ جُزْءًا مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ قِيمَةِ الْجُمْلَةِ، وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ النُّصُبِ وَوَاجِبَاتِهَا، وَلَوْ مَلَكَ ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ نِصْفُهَا صِحَاحٌ وَنِصْفُهَا مِرَاضٌ، وَقِيمَةُ كُلِّ صَحِيحَةٍ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَقِيمَةُ كُلِّ مَرِيضَةٍ دِينَارَانِ - وَجَبَتْ صَحِيحَةٌ بِقِيمَةِ نِصْفِ صَحِيحَةٍ وَنِصْفِ مَرِيضَةٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَغَيْرُهُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: هَلَّا كَانَ هَذَا مُلْتَفِتًا إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِالْوَقَصِ أَمْ لَا، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ فَذَاكَ وَإِلَّا قُسِّطَ الْمَأْخُوذُ عَنِ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ. النَّقْصُ الثَّانِي: الْعَيْبُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْمَرَضِ، سَوَاءٌ تَمَحَّضَتِ الْمَاشِيَةُ مَعِيبَةً، أَوِ انْقَسَمَتْ سَلِيمَةً وَمَعِيبَةً. وَالْمُرَادُ بِالْعَيْبِ فِي هَذَا الْبَابِ، مَا يُثْبِتُ الرَّدَّ فِي الْبَيْعِ

عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: هَذَا مَعَ مَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَلَوْ مَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ بَعِيرًا مَعِيبَةً، وَفِيهَا بِنْتَا مَخَاضٍ إِحْدَاهُمَا مِنْ أَجْوَدِ الْمَالِ مَعَ عَيْبِهَا، وَالثَّانِيَةُ دُونَهَا، فَهَلْ يَأْخُذُ الْأَجْوَدَ كَالْأَغْبَطِ فِي الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ أَمِ الْوَسَطَ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: الثَّانِي. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ: وَيَأْخُذُ خَيْرَ الْمَعِيبِ، فَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ، وَالْمُرَادُ: يَأْخُذُ مِنْ وَسَطِهِ. النَّقْصُ الثَّالِثُ: الذُّكُورَةُ، فَإِذَا تَمَحَّضَتِ الْإِبِلُ إِنَاثًا، أَوِ انْقَسَمَتْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، لَمْ يُجْزِئْ عَنْهَا الذَّكَرُ إِلَّا فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ فِيهَا ابْنُ لَبُونٍ عِنْدَ فَقْدِ بِنْتِ الْمَخَاضِ، وَإِنَّ تَمَحَّضَتْ ذُكُورًا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: جَوَازُهُ، كَالْمَرِيضَةِ مِنَ الْمِرَاضِ، وَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ ابْنُ لَبُونٍ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنَ ابْنِ لَبُونٍ، يُؤْخَذُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَيُعْرَفُ بِالتَّقْوِيمِ أَوِ النِّسْبَةِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، فَعَلَى هَذَا لَا يُؤْخَذُ أُنْثَى كَانَتْ تُؤْخَذُ لَوْ تَمَحَّضَتْ إِنَاثًا، بَلْ تُقَوَّمُ مَاشِيَتُهُ لَوْ كَانَتْ إِنَاثًا، وَتُقَوَّمُ الْأُنْثَى الْمَأْخُوذَةُ مِنْهَا، وَيُعْرَفُ نِسْبَتُهَا مِنَ الْجُمْلَةِ، وَتُقَوَّمُ مَاشِيَتُهُ الذُّكُورُ، وَتُؤْخَذُ أُنْثَى قِيمَتُهَا مَا تَقْتَضِيهِ النِّسْبَةُ، وَكَذَلِكَ الْأُنْثَى الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ، يَكُونُ دُونَ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ مَحْضِ الْإِنَاثِ بِطَرِيقِ التَّقْسِيطِ الْمَذْكُورِ فِي الْمِرَاضِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ أَدَّى أَخْذُ الذَّكَرِ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النَّصَّابِينَ، لَمْ يُؤْخَذْ، وَإِلَّا أُخِذَ. مِثَالُهُ: يُؤْخَذُ ابْنُ مَخَاضٍ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَحِقٌّ مِنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، وَجَذَعٌ مِنْ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَكَذَا يُؤْخَذُ الذَّكَرُ إِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ، وَاخْتَلَفَ الْفَرْضُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَلَا يُؤْخَذُ ابْنُ لَبُونٍ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَأَمَّا الْبَقَرُ، فَالتَّبِيعُ مَأْخُوذٌ مِنْهَا فِي مَوَاضِعِ وُجُوبِهِ، وَحَيْثُ وَجَبَتِ الْمُسِنَّةُ، تَعَيَّنَتْ إِنْ تَمَحَّضَتْ إِنَاثًا أَوِ انْقَسَمَتْ، فَإِنْ تَمَحَّضَتْ ذُكُورًا، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ فِي الْإِبِلِ، وَلَوْ أَخْرَجَ عَنْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْبَقَرِ أَوْ خَمْسِينَ تَبِيعِينَ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُمَا يُجْزِئَانِ عَنْ سِتِّينَ، فَعَمَّا دُونِهَا أَوْلَى. وَأَمَّا الْغَنَمُ، فَإِنْ تَمَحَّضَتْ إِنَاثًا أَوِ انْقَسَمَتْ، تَعَيَّنَتِ الْأُنْثَى، وَإِنْ تَمَحَّضَتْ ذُكُورًا، فَطَرِيقَانِ؛ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: يُجْزِئُ الذَّكَرُ، وَالثَّانِي: عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْإِبِلِ. النَّقْصُ الرَّابِعُ: الصِّغَرُ، وَلِلْمَاشِيَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا فِي سِنِّ الْفَرْضِ، فَيُؤْخَذُ لِوَاجِبِهَا سِنُّ الْفَرْضِ، وَلَا يُؤْخَذُ مَا دُونَهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مَا فَوْقَهُ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا فَوْقَ سِنِّ الْفَرْضِ، فَلَا يُكَلَّفُ الْإِخْرَاجَ مِنْهَا، بَلْ يُحَصِّلُ السِّنَّ الْوَاجِبَةَ وَيُخْرِجُهَا، وَلَهُ الصُّعُودُ وَالنُّزُولُ فِي الْإِبِلِ كَمَا سَبَقَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ فِي سِنٍّ دُونَهَا، وَقَدْ يُسْتَبْعَدُ تَصَوُّرُ هَذَا، فَإِنَّ أَحَدَ شُرُوطِ الزَّكَاةِ الْحَوْلُ، وَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ فَقَدْ بَلَغَتِ الْمَاشِيَةُ حَدَّ الْإِجْزَاءِ. وَقَدْ صَوَّرَهَا الْأَصْحَابُ فِيمَا إِذَا حَدَثَتْ مِنَ الْمَاشِيَةِ فِي أَثْنَاءِ الْحُلُولِ فَصْلَانِ، أَوْ عُجُولٌ، أَوْ سِخَالٌ، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ، وَتَمَّ حَوْلُهَا وَالنِّتَاجُ صِغَارٌ بَعْدُ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ النِّتَاجَ يُبْنَى عَلَى حَوْلِهَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْأَنْمَاطِيِّ: إِنَّهُ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ بِمَوْتِ الْأُمَّهَاتِ، بَلْ بِنُقْصَانِهَا عَنِ النِّصَابِ، فَلَا تَجِيءُ هَذِهِ الصُّورَةُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُصَوِّرَ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا مَلَكَ نِصَابًا مِنْ صِغَارِ الْمَعْزِ وَمَضَى عَلَيْهَا حَوْلٌ، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْإِجْزَاءِ؛ لِأَنَّ الثَّنِيَّةَ مِنَ الْمَعْزِ - عَلَى الْأَصَحِّ - هِيَ الَّتِي اسْتَكْمَلَتْ سَنَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. إِذَا عُرِفَ التَّصْوِيرُ فَفِيمَا يُؤْخَذُ؟ وَجْهَانِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَغَيْرُهُ: قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: لَا يُؤْخَذُ إِلَّا كَبِيرَةٌ، لَكِنْ دُونَ الْكَبِيرَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْكِبَارِ فِي الْقِيمَةِ. وَكَذَا إِذَا انْقَسَمَ مَالُهُ إِلَى صِغَارٍ وَكِبَارٍ، يُؤْخَذُ كَبِيرَةٌ بِالْقِسْطِ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ كَبِيرَةٌ بِمَا يَقْتَضِيهِ التَّقْسِيطُ، أُخِذَتِ الْقِيمَةُ لِلضَّرُورَةِ. ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيُّ فِي الْإِيضَاحِ. وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ: لَا يَتَعَيَّنُ الْكَبِيرَةُ، بَلْ تَجُوزُ الصَّغِيرَةُ كَالْمَرِيضَةِ مِنَ الْمِرَاضِ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ تُؤْخَذُ الصَّغِيرَةُ مُطْلَقًا، أَمْ كَيْفَ الْحَالُ؟ قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَخْذِ الصَّغِيرَةِ مِنْ صِغَارِ الْغَنَمِ، وَذَكَرُوا فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: يَجُوزُ أَخْذُ

الصِّغَارِ مُطْلَقًا كَالْغَنَمِ، وَلَكِنْ يَجْتَهِدُ السَّاعِي وَيَحْتَرِزُ عَنِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَيَأْخُذُ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ فَصِيلًا فَوْقَ الْفَصِيلِ الْمَأْخُوذِ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَمِنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ فَصِيلًا فَوْقَ الْمَأْخُوذِ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُجْزِئُ الصَّغِيرَةُ؛ لِئَلَّا تُؤَدِّيَ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، لَكِنْ يُؤْخَذُ كَبِيرَةٌ بِالْقِسْطِ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ. وَالثَّالِثُ: لَا يُؤْخَذُ فَصِيلٌ مِنْ أَحَدٍ وَسِتِّينَ فَمَا دُونَهَا، وَيُؤْخَذُ مِمَّا فَوْقَهَا، وَكَذَا مِنَ الْبَقَرِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِشَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّسْوِيَةَ الَّتِي تَلْزَمُ فِي أَحَدٍ وَسِتِّينَ فَمَا دُونَهَا تَلْزَمُ فِي أَحَدٍ وَتِسْعِينَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي إِحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ، فَإِنْ أَخَذْنَا فَصِيلَيْنِ فِي هَذَا وَفِي ذَلِكَ، سَوَّيْنَا، فَإِنْ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنِ التَّسْوِيَةِ فَلْيُحْتَرَزْ عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ. الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ التَّسْوِيَةَ تَلْزَمُ فِي الْبَقَرِ، فِي ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِينَ، وَقَدْ عَبَّرَ قَوْمٌ مِنَ الْأَصْحَابِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ بِعِبَارَةٍ تَدْفَعُ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، فَقَالُوا: تُؤْخَذُ الصَّغِيرَةُ حَيْثُ لَا تُؤَدِّي إِلَى التَّسْوِيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْمَنْعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ فَمَا فَوْقَهَا، وَجَوَّزَ إِخْرَاجَ فَصِيلٍ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، إِذْ لَا تَسْوِيَةَ فِي تَجْوِيزِهِ وَحَدِّهِ. النَّقْصُ الْخَامِسُ: رَدَاءَةُ النَّوْعِ، الْمَاشِيَةُ إِنِ اتَّحَدَ نَوْعُهَا بِأَنْ كَانَتْ إِبِلُهُ كُلُّهَا أَرْحَبِيَّةً أَوْ مُهْرِيَّةً، أَوْ كَانَتْ غَنَمُهُ كُلُّهَا ضَأْنًا أَوْ مَعْزًا - أُخِذَ الْفَرْضُ مِنْهَا، وَذُكِرَ فِي التَّهْذِيبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَخْذُ ثَنِيَّةٍ مِنَ الْمَعْزِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ عَنْ أَرْبَعِينَ ضَأْنًا، أَوْ جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ عَنْ أَرْبَعِينَ مَعْزًا؟ أَصَحُّهَا الْجَوَازُ؛ لِاتِّفَاقِ الْجِنْسِ كَالْمُهْرِيَّةِ مَعَ الْأَرْحَبِيَّةِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ كَالْبَقَرِ عَنِ الْغَنَمِ. وَالثَّالِثُ: لَا يُؤْخَذُ الْمَعْزُ عَنِ الضَّأْنِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ، كَمَا يُؤْخَذُ فِي الْإِبِلِ الْمُهْرِيَّةُ عَنِ الْمَجِيدِيَّةِ، وَلَا عَكْسَ، وَكَلَامُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا الثَّالِثِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ مِنَ الضَّأْنِ الْوَسَطِ، فَأَخْرَجَ ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعْزِ الشَّرِيفَةِ تُسَاوِي جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ الَّتِي يَمْلِكُهَا - فَهَذَا مُحْتَمَلٌ، وَالظَّاهِرُ إِجْزَاؤُهَا. أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعُ

كَالْمُهْرِيَّةِ وَالْأَرْحَبِيَّةِ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْعِرَابِ وَالْجَوَامِيسِ مِنَ الْبَقَرِ، وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ مِنَ الْغَنَمِ، فَيَضُمُّ الْبَعْضَ إِلَى الْبَعْضِ فِي إِكْمَالِ النِّصَابِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ مِنَ الْأَغْلَبِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا، فَكَاجْتِمَاعِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ فِي مِائَتَيْنِ، فَيُؤْخَذُ الْأَغْبَطُ لِلْمَسَاكِينِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَعَلَى وَجْهٍ: الْخِيَرَةُ لِلْمَالِكِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ: يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِقِسْطِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ هَذَا شِقْصٌ وَمِنْ هَذَا شِقْصٌ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ النَّظَرُ إِلَى الْأَصْنَافِ وَبِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، فَإِذَا اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ وَالتَّقْسِيطُ فَمِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ الْمَأْخُوذُ جَازَ. كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَعْلَى الْأَنْوَاعِ، كَمَا لَوِ انْقَسَمَتْ إِلَى صِحَاحٍ وَمِرَاضٍ، وَيُجَابُ عَمَّا قَالَ بِأَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْمَرِيضَةِ وَالْمَعِيبَةِ، فَلَمْ نَأْخُذْ إِلَّا مَا وَجَدْنَا صَحِيحَةً، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْأَنْوَاعُ أُخِذَ مِنَ الْوَسَطِ، وَلَا يَجِيءُ هَذَا فِي نَوْعَيْنِ فَقَطْ، وَلَا فِي ثَلَاثَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ يُؤْخَذُ الْأَجْوَدُ، فَخَرَجَ مِنْ نَصِّهِ فِي اجْتِمَاعِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا لَمْ تَحْتَمِلُ الْإِبِلُ أَخْذَ وَاجِبِ كُلِّ نَوْعٍ وَحْدَهُ، فَإِنِ احْتَمَلَ أُخِذَ بِلَا خِلَافٍ، بِأَنْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ مِائَةً أَرْحَبِيَّةً، وَمِائَةً مُهْرِيَّةً، فَيُؤْخَذُ حِقَّتَانِ مِنْ هَذِهِ وَحِقَّتَانِ مِنْ هَذِهِ. وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ: طَرْدُ الْخِلَافِ مُطْلَقًا، وَنُوَضِّحُ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ بِمِثَالَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ، عَشْرَةٌ مُهْرِيَّةٌ، وَعَشْرَةٌ أَرْحَبِيَّةٌ، وَخَمْسَةٌ مَجِيدِيَّةٌ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُؤْخَذُ بِنْتُ مَخَاضٍ أَرْحَبِيَّةٌ، أَوْ مُهْرِيَّةٌ بِقِيمَةِ نِصْفِ أَرْحَبِيَّةٍ وَنِصْفِ مُهْرِيَّةٍ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَغْلَبُ. وَعَلَى الثَّانِي: يُؤْخَذُ بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ أَعْطَى بِقِيمَةِ خُمُسَيْ مُهْرِيَّةٍ وَخُمُسَيْ أَرْحَبِيَّةٍ وَخُمُسِ مَجِيدِيَّةٍ. فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ مُهْرِيَّةٍ عَشْرَةٌ، وَقِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ أَرْحَبِيَّةٍ خَمْسَةٌ، وَبِنْتِ مَخَاضٍ مَجِيدِيَّةٍ دِينَارَيْنِ وَنِصْفٍ - أَخَذَ بِنْتَ مَخَاضٍ مِنْ أَيِّ أَنْوَاعِهَا شَاءَ قِيمَتُهَا سِتَّةٌ وَنِصْفٌ. الثَّانِي: لَهُ ثَلَاثُونَ مِنَ الْمَعْزِ، وَعَشْرٌ مِنَ

باب الخلطة

الضَّأْنِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: يَأْخُذُ ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعْزِ كَمَا لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا مَعْزًا، وَعَكْسُهُ، لَوْ كَانَ الضَّأْنُ ثَلَاثِينَ أَخَذْنَا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يُخْرِجُ ضَائِنَةً أَوْ عَنْزًا بِقِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ عَنْزٍ وَرُبُعِ ضَائِنَةٍ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَبِقِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ ضَائِنَةٍ وَرُبُعِ مَاعِزَةٍ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَا يَجِئُ قَوْلُ اعْتِبَارِ الْوَسَطِ هُنَا. وَعَلَى وَجْهِ اعْتِبَارِ الْأَشْرَفِ يُؤْخَذُ مِنْ أَشْرَفِهَا. بَابُ الْخُلْطَةِ هِيَ نَوْعَانِ: خُلْطَةُ اشْتِرَاكٍ وَخُلْطَةُ جِوَارٍ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْأَوَّلِ بِخُلْطَةِ الْأَعْيَانِ وَبِخُلْطَةِ الشُّيُوعِ. وَعَنِ الثَّانِي بِخُلْطَةِ الْأَوْصَافِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ أَنْ لَا يَتَمَيَّزَ نَصِيبُ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرِّجَالِ عَنْ نَصِيبِ غَيْرِهِ، كَمَاشِيَةٍ وَرِثَهَا قَوْمٌ أَوِ ابْتَاعُوهَا مَعًا، فَهِيَ شَائِعَةٌ بَيْنَهُمْ. وَبِالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مُتَعَيَّنًا مُتَمَيِّزًا عَنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ يُجَاوِرُهُ مُجَاوَرَةَ الْمَالِ الْوَاحِدِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخُلْطَتَيْنِ أَثَرٌ فِي الزَّكَاةِ، فَيَجْعَلَانِ مَالَ الشَّخْصَيْنِ أَوِ الْأَشْخَاصِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْوَاحِدِ. ثُمَّ قَدْ تُوجِبُ الزَّكَاةَ أَوْ تُكَثِّرُهَا، كَرَجُلَيْنِ خَلَطَا عِشْرِينَ بِعِشْرِينَ، يَجِبُ شَاةٌ، وَلَوِ انْفَرَدَا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ. قُلْتُ: وَصُورَةُ تَكْثِيرِهَا خَلْطُ مِائَةِ شَاةٍ بِمِثْلِهَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ وَنِصْفٌ، وَلَوِ انْفَرَدَ لَزِمَهُ شَاةٌ فَقَطْ، أَوْ خَلَطَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ بَقَرَةً بِمِثْلِهَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مُسِنَّةٌ وَنِصْفُ تَبِيعٍ، وَلَوِ انْفَرَدَ كَفَاهُ مُسِنَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُقَلِّلُهَا، كَرَجُلَيْنِ خَلَطَا أَرْبَعِينَ بِأَرْبَعِينَ، يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ، وَلَوِ انْفَرَدَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا غَرِيبًا أَنَّ خُلْطَةَ الْجِوَارِ لَا أَثَرَ لَهَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

فصل

فَصْلٌ نَوْعَا الْخُلْطَةِ يَشْتَرِكَانِ فِي اعْتِبَارِ شُرُوطٍ، وَتَخْتَصُّ خُلْطَةُ الْجِوَارِ بِشُرُوطٍ، فَمِنَ الْمُشْتَرَكِ كَوْنُ الْمَجْمُوعِ نِصَابًا، فَلَوْ مَلَكَ زَيْدٌ عِشْرِينَ شَاةً، وَعَمْرٌو عِشْرِينَ شَاةً، فَخَلَطَا تِسْعَ عَشْرَةَ بِتِسْعَ عَشْرَةَ وَتَرَكَا شَاتَيْنِ مُنْفَرِدَتَيْنِ - فَلَا أَثَرَ لِخُلْطَتِهِمَا، فَلَا زَكَاةَ أَصْلًا. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِطَانِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا، فَلَا أَثَرَ لِلْخُلْطَةِ، بَلْ إِنْ كَانَ نَصِيبُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ نِصَابًا، زَكَّاهُ زَكَاةَ الِانْفِرَادِ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: دَوَامُ الْخُلْطَةِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُخْتَصَّةُ بِخُلْطَةِ الْجِوَارِ، فَمَجْمُوعُهَا عَشْرَةٌ، مُتَّفَقٌ عَلَى اشْتِرَاطِهِ، وَمُخْتَلِفٌ فِيهِ. أَحَدُهَا: اتِّحَادُ الْمَرَاحِ، وَهُوَ مَأْوَاهَا لَيْلًا. وَالثَّانِي: اتِّحَادُ الْمَشْرَبِ، بِأَنْ تُسْقَى غَنَمُهُمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ: نَهْرٍ، أَوْ عَيْنٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَوْ حَوْضٍ، أَوْ مِنْ مِيَاهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، بِحَيْثُ لَا تَخْتَصُّ غَنَمُ أَحَدِهِمَا بِالشُّرْبِ مِنْ مَوْضِعٍ وَغَنَمُ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: اتِّحَادُ الْمَسْرَحِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُجْمَعُ فِيهِ ثُمَّ تُسَاقُ إِلَى الْمَرْعَى. الرَّابِعُ: اتِّحَادُ الْمَرْعَى، وَهُوَ الْمَرْتَعُ الَّذِي تَرْعَى فِيهِ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. الْخَامِسُ: اتِّحَادُ الرَّاعِي، الْأَصَحُّ: اشْتِرَاطُهُ، وَمَعْنَاهُ أَنْ لَا يَخْتَصَّ غَنَمُ أَحَدِهِمَا بِرَاعٍ، وَلَا بَأْسَ بِتَعَدُّدِ الرُّعَاةِ لَهُمَا قَطْعًا. السَّادِسُ: اتِّحَادُ الْفَحْلِ، الْمَذْهَبُ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: اشْتِرَاطُهُ. وَالْمُرَادُ أَنْ تَكُونَ الْفُحُولُ مُرْسَلَةً بَيْنَ مَاشِيَتِهِمَا، لَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِفَحْلٍ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْفُحُولُ مُشْتَرَكَةً، أَوْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدِهِمَا، أَوْ مُسْتَعَارَةً. وَفِي وَجْهٍ: يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْفَحْلِ، اشْتُرِطَ كَوْنُ الْإِنْزَاءِ فِي

فصل

مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. السَّابِعُ: اتِّحَادُ الْمَوْضِعِ الَّذِي تُحْلَبُ فِيهِ، لَا بُدَّ مِنْهُ، كَالْمَرَاحِ. فَلَوْ حَلَبَ هَذَا مَاشَيْتَهُ فِي أَهْلِهِ، وَذَلِكَ مَاشَيْتَهُ فِي أَهْلِهِ - فَلَا خُلْطَةَ. الثَّامِنُ: اتِّحَادُ الْحَالِبِ، وَهُوَ الشَّخْصُ الَّذِي يَحْلِبُ، فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِحَالِبٍ يَمْتَنِعُ عَنْ حَلْبِ مَاشِيَةِ الْآخَرِ. التَّاسِعُ: اتِّحَادُ الْإِنَاءِ الَّذِي يُحْلَبُ فِيهِ، وَهُوَ الْمِحْلَبُ، فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ آلَةِ الْجَزِّ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِمِحْلَبٍ أَوْ مَحَالِبَ مَمْنُوعَةٍ مِنَ الْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا هَلْ يُشْتَرَطُ خَلْطُ اللَّبَنِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ وَيَتَسَامَحُونَ فِي قِسْمَتِهِ، كَمَا يَخْلِطُ الْمُسَافِرُونَ أَزْوَادَهُمْ ثُمَّ يَأْكُلُونَ، وَفِيهِمُ الزَّهِيدُ وَالرَّغِيبُ. الْعَاشِرُ: نِيَّةُ الْخُلْطَةِ هَلْ تُشْتَرَطُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوِ افْتَرَقَتِ الْمَاشِيَةُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُشْتَرَطُ الِاجْتِمَاعُ فِيهِ بِنَفْسِهَا، أَوْ فَرَقَّهَا الرَّاعِي وَلَمْ يَعْلَمِ الْمَالِكَانِ إِلَّا بَعْدَ طُولِ الزَّمَانِ هَلْ تَنْقَطِعُ الْخُلْطَةُ أَمْ لَا؟ أَمَّا لَوْ فَرَّقَاهَا أَوْ أَحَدَهُمَا قَصْدًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَتَنْقَطِعُ الْخُلْطَةُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا. وَأَمَّا التَّفَرُّقُ الْيَسِيرُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يُؤَثِّرُ، لَكِنْ لَوِ اطَّلَعَا عَلَيْهِ فَأَقَرَّاهَا عَلَى تَفَرُّقِهَا ارْتَفَعَتِ الْخُلْطَةُ. وَمَهْمَا ارْتَفَعَتِ الْخُلْطَةُ فَعَلَى مَنْ نَصِيبُهُ نِصَابُ زَكَاةٍ الِانْفِرَادُ إِذَا تَمَّ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ الْمِلْكِ، لَا مِنْ يَوْمِ ارْتِفَاعِهَا. فَصْلٌ الْخُلْطَةُ تُؤَثِّرُ فِي الْمَوَاشِي بِلَا خِلَافٍ. وَهَلْ تُؤَثِّرُ فِي الثِّمَارِ، وَالزُّرُوعِ، وَالنَّقْدَيْنِ، وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ؟ أَمَّا خُلْطَةُ الِاشْتِرَاكِ فَفِيهَا قَوْلَانِ؛ الْقَدِيمُ: لَا يُؤَثِّرُ. وَالْجَدِيدُ: يُؤَثِّرُ. فَأَمَّا خُلْطَةُ الْجِوَارِ فَلَا تَثْبُتُ، عَلَى الْقَدِيمِ. وَفِي الْجَدِيدِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَثْبُتُ، إِذَا اخْتَصَرْتُ قُلْتُ: فِي الْخُلْطَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَظْهَرُ: ثُبُوتُهُمَا. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: تَثْبُتُ خُلْطَةُ

فصل

الِاشْتِرَاكِ فَقَطْ. وَصُورَةُ الْخُلْطَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صِنْفُ نَخِيلٍ، أَوْ زَرْعٌ فِي حَائِطٍ وَاحِدٍ، أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ كِيسُ دِرْهَمٍ فِي صُنْدُوقٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَمْتِعَةُ تِجَارَةٍ فِي خِزَانَةٍ وَاحِدَةٍ. وَفَرَّعَ الْأَصْحَابُ عَلَى إِثْبَاتِ الْخَلْطَتَيْنِ مَسَائِلَ. مِنْهَا: نَخِيلٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى جَمَاعَةِ مُعَيَّنِينَ فِي حَائِطٍ وَاحِدٍ أَثْمَرَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ. وَمِنْهَا: لَوِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِتَعَهُّدِ نَخِيلِهِ بِثَمَرَةِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا بَعْدَ خُرُوجِ ثَمَرِهَا وَقَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَشَرَطَ الْقَطْعَ، فَلَمْ يَتَّفِقِ الْقَطْعُ حَتَّى بَدَا الصَّلَاحُ وَبَلَغَ مَا فِي الْحَائِطِ نِصَابًا - وَجَبَ عَلَى الْأَجِيرِ عُشْرُ ثَمَرَةِ تِلْكَ النَّخْلَةِ وَإِنْ قَلَّتْ. وَمِنْهَا: لَوْ وَقَفَ أَرْبَعِينَ شَاةً عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي الْمَوْقُوفِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ، فَلَا زَكَاةَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُونَهُ فَوَجْهَانِ، الْأَصَحُّ: لَا زَكَاةَ أَيْضًا؛ لِضَعْفِ مِلْكِهِمْ. فَصْلٌ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِ الْخَلِيطَيْنِ قَدْ يَقْتَضِي التَّرَاجُعَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ يَقْتَضِي رُجُوعَ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ دُونَ الْآخَرِ، ثُمَّ الرُّجُوعُ وَالتَّرَاجُعُ يَكْثُرَانِ فِي خُلْطَةِ الْجِوَارِ، وَقَدْ يَتَّفِقَانِ قَلِيلًا فِي خُلْطَةِ الْمُشَارَكَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَمَّا خُلْطَةُ الْجِوَارِ، فَتَارَةً يُمْكِنُ السَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ نَصِيبِ كَلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ، وَتَارَةً لَا يُمْكِنُهُ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ فَرْضَ الْجَمِيعِ مِنْ نَصِيبِ أَيِّهِمَا شَاءَ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ سِنَّ الْفَرْضِ إِلَّا مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، أَخَذَهُ. مِثَالُهُ: أَرْبَعُونَ شَاةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ عِشْرُونَ، يَأْخُذُ الشَّاةَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. وَلَوْ وَجَبَتْ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ يَجِدْهَا إِلَّا فِي أَحَدِهِمَا، أَخَذَهَا مِنْهُ. وَلَوْ كَانَتْ مَاشِيَةُ أَحَدِهِمَا مِرَاضًا أَوْ مَعِيبَةً، أَخَذَ الْفَرْضَ مِنَ الْآخَرِ. أَمَّا إِذَا أَمْكَنَهُ، فَوَجْهَانِ.

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَأْخُذُ مِنْ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَخُصُّهُ، وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لِيُغْنِيَهُمَا عَنِ التَّرَاجُعِ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْجُمْهُورُ: يَأْخُذُ مِنْ جَنْبِ الْمَالِ مَا اتَّفَقَ، وَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ أَخَذَ كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ ثَبَتَ التَّرَاجُعُ؛ لَأَنَّ الْمَالَيْنِ كَوَاحِدٍ. مِثَالُ صُورَةِ الْإِمْكَانِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِائَةُ شَاةٍ وَأَمْكَنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ شَاةً. وَكَذَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَرْبَعُونَ مِنَ الْبَقَرِ وَلِلْآخَرِ ثَلَاثُونَ، وَأَمْكَنَ أَخْذُ مُسِنَّةٍ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَتَبِيعٍ مِنَ الثَّلَاثِينَ. وَكَذَا لَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَلِلْآخَرِ ثَمَانُونَ، وَأَمْكَنَ أَخْذُ حِقَّتَيْنِ مِنَ الْمِائَةِ وَبِنْتَيْ لَبُونٍ مِنَ الثَّمَانِينَ. فَرْعٌ فِي كَيْفِيَّةِ الرُّجُوعِ فَإِذَا خَلَطَا عِشْرِينَ مِنَ الْغَنَمِ بِعِشْرِينَ، فَأَخَذَ السَّاعِي شَاةً مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا - رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ قِيمَتِهَا، لَا بِنِصْفِ شَاةٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مِثْلِيَّةٍ. فَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثُونَ شَاةً وَلِلْآخَرِ عَشْرٌ، فَأَخَذَهَا السَّاعِي مِنْ صَاحِبِ الثَّلَاثِينَ - رَجَعَ بِرُبُعِهَا عَلَى الْآخَرِ. وَإِنْ أَخَذَهَا مِنَ الْآخَرِ رَجَعَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا عَلَى صَاحِبِ الثَّلَاثِينَ. وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِائَةٌ وَلِلْآخَرِ خَمْسُونَ، فَيَأْخُذُ السَّاعِي الشَّاتَيْنِ الْوَاجِبَتَيْنِ مِنْ صَاحِبِ الْمِائَةِ، رَجَعَ عَلَى الْآخَرِ بِثُلُثِ قِيمَتِهِمَا، وَلَا يَقُولُ بِقِيمَةِ ثُلُثَيْ شَاةٍ، وَإِنْ أَخْذَهُمَا مِنْ صَاحِبِ الْخَمْسِينَ، رَجَعَ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِمَا. وَلَوْ أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَاةً، رَجَعَ صَاحِبُ الْمِائَةِ عَلَى صَاحِبِ الْخَمْسِينَ بِثُلُثِ قِيمَةِ شَاتِهِ، وَصَاحِبُ الْخَمْسِينَ عَلَى صَاحِبِ الْمِائَةِ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ شَاتِهِ. وَلَوْ كَانَ نِصْفُ الشِّيَاهِ لِهَذَا وَنَصِفُهَا لِلْآخَرِ، رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقِيمَةِ نِصْفِ شَاتِهِ. فَإِنْ تَسَاوَتِ الْقِيمَتَانِ، خَرَجَ عَلَى أَقْوَالِ الْتَّقَاصِّ عِنْدَ تَسَاوِي

الدَّيْنَيْنِ قَدْرًا وَجِنْسًا. وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثُونَ مِنَ الْبَقَرِ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعُونَ، فَوَاجِبُهُمَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ، عَلَى صَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهِمَا، وَعَلَى صَاحِبِ الثَّلَاثِينَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِمَا. فَلَوْ أَخَذَهُمَا السَّاعِي مِنْ صَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ، رَجَعَ عَلَى الْآخَرِ بِثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ قِيمَتِهِمَا، وَإِنْ أَخَذَهُمَا مِنَ الْآخَرِ، رَجَعَ بِأَرْبَعَةِ أَسِبَاعِهِمَا. وَلَوْ أَخَذَ التَّبِيعَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ، وَالْمُسِنَّةَ مِنَ الْآخَرِ، رَجَعَ صَاحِبُ الْمُسِنَّةِ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهَا، وَصَاحِبُ التَّبِيعِ بِثَلَاثَةِ أَسْبَاعِهِ. وَلَوْ أَخَذَ الْمُسِنَّةَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ، وَالتَّبِيعَ مِنَ الْآخَرِ، رَجَعَ صَاحِبُ الْمُسِنَّةِ بِثَلَاثَةِ أَسْبَاعِهَا، وَصَاحِبُ التَّبِيعِ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي التَّبِيعِ وَالْمُسِنَّةِ قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي مَنْصُوصَاتِ الشَّافِعِيِّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانَ غَنَمَاهُمَا سَوَاءً، وَوَاجِبُهُمَا شَاتَانِ، فَأَخَذَ مِنْ غَنَمِ كُلِّ وَاحِدٍ شَاةً، وَكَانَتْ قِيمَةُ الشَّاتَيْنِ الْمَأْخُوذَتَيْنِ مُخْتَلِفَةً - لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ إِلَّا مَا عَلَيْهِ فِي غَنَمِهِ لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً. هَذَا نَصُّهُ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الثَّلَاثِينَ تَبِيعًا وَعَلَى الْآخَرِ مُسِنَّةً، وَالتَّرَاجُعُ يَثْبُتُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي الشِّيَاهِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الدَّلِيلِ أَيْضًا، فَلْيُعْتَمَدْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ ظَلَمَ السَّاعِي فَأَخَذَ مِنْ أَحَدِ الْخَلِيطَيْنِ شَاتَيْنِ، وَالْوَاجِبُ شَاةٌ، أَوْ أَخَذَ مَاخِضًا، أَوْ (شَاةً حُبْلَى) رُبَّى - رَجَعَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ لَا قِيمَةِ الْمَأْخُوذِ، وَيَرْجِعُ الْمَظْلُومُ عَلَى الظَّالِمِ، فَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ بَاقِيًا فِي يَدِ السَّاعِي، اسْتَرَدَّهُ، وَإِلَّا اسْتَرَدَّ الْفَضْلَ، وَالْفَرْضُ سَاقِطٌ. وَلَوْ أَخَذَ الْقِيمَةَ فِي الزَّكَاةِ، أَوْ أَخَذَ مِنَ السِّخَالِ كَبِيرَةً، رَجَعَ - عَلَى الْأَصَحِّ - لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَبِيرَةَ قَطْعًا.

فصل في اجتماع الخلطة والانفراد في حول واحد

فَرْعٌ جَمِيعُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي خُلْطَةِ الْجِوَارِ. أَمَّا خُلْطَةُ الِاشْتِرَاكِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، فَأَخْذَهُ السَّاعِي مِنْهُ، فَلَا تَرَاجُعَ، وَإِنْ كَانَ مَنْ غَيْرِهِ كَالشَّاةِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ، رَجَعَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ قِيمَتِهَا، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَشْرَةٌ، فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَاةً، تَرَاجَعًا، فَإِنْ تَسَاوَتِ الْقِيمَتَانِ، خَرَجَ عَلَى أَقْوَالِ التَّقَاصِّ. فَرْعٌ مَتَّى ثَبَتَ الرُّجُوعُ وَتَنَازَعَا فِي قِيمَةِ الْمَأْخُوذِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ. فَصْلٌ فِي اجْتِمَاعِ الْخُلْطَةِ وَالِانْفِرَادِ فِي حَوْلٍ وَاحِدٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا حَالَةُ انْفِرَادٍ، بِأَنْ وَرِثَا مَاشِيَةً أَوِ ابْتَاعَاهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً شَائِعَةً أَوْ مَخْلُوطَةً، وَأَدَامَا الْخَلْطَ سَنَةً - زَكَّيَا زَكَاةَ الْخُلْطَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا لَوْ مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ دُونَ النِّصَابِ وَبَلَغَ بِالْخَلْطِ نِصَابًا - زَكَّيَا زَكَاةَ الْخُلْطَةِ قَطْعًا. أَمَّا إِذَا انْعَقَدَ الْحَوْلُ عَلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ طَرَأَتِ الْخُلْطَةُ، فَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْخَلِيطَيْنِ جَمِيعًا وَإِمَّا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، فَإِنِ اتَّفَقَ فِي حَقِّهِمَا، فَتَارَةً يَتَّفِقُ حَوْلَاهُمَا، وَتَارَةً يَخْتَلِفَانِ، فَإِنِ اتَّفَقَا، بِأَنْ مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ شَاةً غُرَّةَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ خَلَطَا غُرَّةَ صَفَرٍ - فَقَوْلَانِ.

الْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْخُلْطَةُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، فَإِذَا جَاءَ الْمُحَرَّمُ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ. وَالْقَدِيمُ: تَثْبُتُ، فَيَجِبُ فِي الْمُحَرَّمِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ شَاةٍ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي فَمَا بَعْدَهُ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ لِوُجُودِهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: الْجَدِيدُ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ مَتَى خُلِطَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ بِزَمَنٍ، لَوْ عُلِفَتِ السَّائِمَةُ فِيهِ سَقَطَ حُكْمُ السَّوْمِ. وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْبَيَانِ فِي كِتَابِهِ مُشْكِلَاتِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَالْمُرَادُ التَّقْرِيبُ. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا جَرَيَانَ لِلْقَدِيمِ إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْحَوْلِ إِلَّا يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنِ اخْتَلَفَ حَوْلَاهُمَا، بِأَنْ مَلَكَ هَذَا غُرَّةَ الْمُحَرَّمِ، وَذَلِكَ غُرَّةَ شَهْرِ صَفَرٍ، وَخَلَطَا غُرَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ - بُنِيَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْحَوْلِ. فَعَلَى الْجَدِيدِ: إِذَا جَاءَ الْمُحَرَّمُ عَلَى الْأَوَّلِ شَاةٌ، وَإِذَا جَاءَ صَفَرٌ فَعَلَى الثَّانِيَةِ شَاةٌ. وَعَلَى الْقَدِيمِ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ شَاةٍ عِنْدَ انْقِضَاءِ حَوْلِهِ مِنْ حِينِ مَلَكَ. ثُمَّ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ يَتَّفِقُ الْقَوْلَانِ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْخُلْطَةِ، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ عِنْدَ غُرَّةِ كُلِّ مُحَرَّمٍ نِصْفُ شَاةٍ. وَعَلَى الثَّانِي عِنْدَ غُرَّةِ كُلِّ صَفَرٍ نِصْفُ شَاةٍ. وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّ الْخُلْطَةَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا تَثْبُتُ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى ضَعْفِهِ، وَنَسَبَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْوَجْهَ إِلَى تَخْرِيجِ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ: لَيْسَ هَذَا لِابْنِ سُرَيْجٍ، بَلْ هُوَ لِغَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا اتَّفَقَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، بِأَنْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ وَمَلَكَ الثَّانِي أَرْبَعِينَ غُرَّةَ صِفْرٍ، وَخَلَطَاهَا عِنْدَ الْمِلْكِ، أَوْ خَلَطَ الْأَوَّلُ أَرْبَعِينَهُ غُرَّةَ صَفَرٍ بِأَرْبَعِينَ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ بَاعَ الثَّانِي أَرْبَعِينَهُ غُرَّةَ صَفَرٍ بِأَرْبَعِينَ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ بَاعَ الثَّانِي لِثَالِثٍ - فَقَدْ ثَبَتَ لِلْأَوَّلِ حُكْمُ الِانْفِرَادِ شَهْرًا، وَالثَّانِي لَمْ يَنْفَرِدْ أَصْلًا، وَيَبْنِي عَلَى حَالِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِذَا جَاءَ الْمُحَرَّمُ فَعَلَى الْأَوَّلِ شَاةٌ فِي الْجَدِيدِ، وَنِصْفُ شَاةٍ فِي الْقَدِيمِ، وَإِذَا جَاءَ صَفَرُ فَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ شَاةٍ فِي الْقَدِيمِ، وَعَلَى الْجَدِيدِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نِصْفُ شَاةٍ، وَالثَّانِي: شَاةٌ، وَثَبَتَ

حُكْمُ الْخُلْطَةِ فِي بَاقِي الْأَحْوَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْمَنْسُوبِ إِلَى ابْنِ سُرَيْجٍ: لَا يَثْبُتُ. فَرْعٌ فِي صُوَرٍ بَنَاهَا الْأَصْحَابُ عَلَى هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ مِنْهَا: لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً غُرَّةَ الْمُحَرَّمِ ثُمَّ أَرْبَعِينَ غُرَّةَ صِفْرٍ، فَعَلَى الْجَدِيدِ: إِذَا جَاءَ الْمُحَرَّمُ لَزِمَهُ الْأَرْبَعِينَ الْأُوَلَ شَاةٌ، وَإِذَا جَاءَ صَفَرٌ لَزِمَهُ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةَ نِصْفُ شَاةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: شَاةٌ. وَعَلَى الْقَدِيمِ: يَلْزَمُهُ نِصْفُ شَاةٍ لِكُلِّ أَرْبَعِينَ فِي حَوْلِهَا، ثُمَّ يَتَّفِقُ الْقَوْلَانِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْمَنْسُوبِ إِلَى ابْنِ سُرَيْجٍ: يَجِبُ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى شَاةٌ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ شَاةٌ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا. وَهَكَذَا أَبَدًا مَا لَمْ يَنْقُصِ النِّصَابُ، وَالْغَرَضُ أَنَّهُ كَمَا تَمْتَنِعُ الْخُلْطَةُ فِي مِلْكِ الشَّخْصَيْنِ عِنْدَ اخْتِلَافِ التَّارِيخِ، يَمْتَنِعُ فِي مِلْكَيِ الْوَاحِدِ. وَمِنْهَا: لَوْ مَلَكَ الرَّجُلُ أَرْبَعِينَ غُرَّةَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ مَلَكَ أَرْبَعِينَ غُرَّةَ صِفْرٍ، ثُمَّ أَرْبَعِينَ غُرَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ، فَعَلَى الْقَدِيمِ: يَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ثُلُثُ شَاةٍ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا، وَعَلَى الْجَدِيدِ: يَجِبُ فِي الْأُولَى لِتَمَامِ حَوْلِهَا شَاةٌ. وَفِي مَا يَجِبُ فِي الثَّانِيَةِ لِتَمَامِ حَوْلِهَا وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نِصْفُ شَاةٍ. وَالثَّانِي: شَاةٌ. وَفِيمَا يَجِبُ فِي الثَّالِثَةِ لِتَمَامِ حَوْلِهَا وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: ثُلُثُ شَاةٍ. وَالثَّانِي: شَاةٌ، ثُمَّ يَتَّفِقُ الْقَوْلَانِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَعَلَى وَجْهِ ابْنِ سُرَيْجٍ: يَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ لِتَمَامِ حَوْلِهَا شَاةٌ أَبَدًا. وَمِنْهَا: لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ غُرَّةَ الْمُحَرَّمِ، وَمَلَكَ آخَرُ عِشْرِينَ غُرَّةَ صَفَرٍ، وَخَلَطَا عِنْدَ مِلْكِ الثَّانِي، فَإِذَا جَاءَ الْمُحَرَّمُ لَزِمَ الْأَوَّلَ شَاةٌ فِي الْجَدِيدِ، وَثُلُثَاهَا فِي الْقَدِيمِ، وَإِذَا جَاءَ صَفَرٌ لَزِمَ الثَّانِي ثُلُثُ شَاةٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ خَالَطَ فِي جَمِيعِ حَوْلِهِ. وَعَلَى وَجْهِ ابْنِ سُرَيْجٍ: يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ شَاةٌ أَبَدًا، وَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ

أَبَدًا؛ لِاخْتِلَافِ التَّارِيخِ. وَلَوْ مَلَكَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ ثَمَانِينَ شَاةً مِنْ أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ غُرَّةَ صَفَرٍ، كَانَ الْمُسْلِمُ كَمَنِ انْفَرَدَ بِمَالِهِ شَهْرًا ثُمَّ طَرَأَتِ الْخُلْطَةُ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ وَفَرْعِهِ هُوَ فِي طَرَيَانِ خُلْطَةِ الْجِوَارِ، فَلَوْ طَرَأَتْ خُلْطَةُ الشُّيُوعِ بِأَنْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَاعَ نِصْفَهَا مُشَاعًا، فَفِي انْقِطَاعِ حَوْلِ الْبَائِعِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ خَيْرَانَ: إِنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا انْعَقَدَ حَوْلُهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ خَلَطَا، إِنْ قُلْنَا: يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، لَمْ يَنْقَطِعْ حَوْلُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: زَكَاةُ الِانْفِرَادِ، انْقَطَعَ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ عَنْ نَصِّهِ أَنَّ الْحَوْلَ لَا يَنْقَطِعُ؛ لِاسْتِمْرَارِ النِّصَابِ بِصِفَةِ الِانْفِرَادِ، ثُمَّ بِصِفَةِ الِاشْتِرَاكِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ لَزِمَ الْبَائِعَ نِصْفُ شَاةٍ لِتَمَامِ حَوْلِهِ. وَأَمَّا الْمُشْتَرِي، فَيُنْظَرُ، إِنْ أَخْرَجَ الْبَائِعُ وَاجِبَهُ وَهُوَ نِصْفُ شَاةٍ مِنَ الْمُشْتَرَكِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِنُقْصَانِ الْمَجْمُوعِ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ تَمَامِ حَوْلِهِ، وَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِهِ، بَنَى عَلَى تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالذِّمَّةِ. إِنْ قُلْنَا بِالذِّمَّةِ لَزِمَهُ نِصْفُ شَاةٍ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْعَيْنِ، فَفِي انْقِطَاعِ حَوْلِ الْمُشْتَرِي قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: الِانْقِطَاعُ. وَمَأْخَذُهُمَا أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ قَدْرِ الزَّكَاةِ، أَوْ يُفِيدُ عَوْدَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَوْ مَلَكَ ثَمَانِينَ شَاةً فَبَاعَ نِصْفَهَا مُشَاعًا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، لَمْ يَنْقَطِعْ حَوْلَ الْبَائِعِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي قَطْعًا. وَفِي وَاجِبِهِ لِتَمَامِ حَوْلِهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نِصْفُ شَاةٍ. وَالثَّانِي: شَاةٌ، وَلَوْ أَنَّ

مَالِكَ الْأَرْبَعِينَ بَاعَ بَعْضَهَا، نُظِرَ، إِنْ مَيَّزَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَهُ وَأَقْبَضَهَا، فَقَدْ زَالَتِ الْخُلْطَةُ إِنْ كَثُرَ زَمَنُ التَّفْرِيقِ، فَإِذَا خَلَطَا، اسْتَأْنَفَ الْحَوْلُ، وَإِنْ كَانَ زَمَنُ التَّفْرِيقِ يَسِيرًا، فَفِي انْقِطَاعِ الْحَوْلِ وَجْهَانِ، أَوْفَقُهَا لِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ: الِانْقِطَاعُ، فَلَوْ لَمْ يُمَيِّزَا وَلَكِنْ أَقْبَضَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الْأَرْبَعِينَ لِتَصِيرَ الْعِشْرُونَ مَقْبُوضَةً، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ بَاعَ النِّصْفَ مُشَاعًا، فَلَا يَنْقَطِعُ حَوْلُ الْبَاقِي عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ بِالِانْفِرَادِ بِالْبَيْعِ. وَالطَّارِئُ هُنَا: خُلْطَةُ جِوَارٍ، وَإِنْ ذَكَرْنَاهَا هَاهُنَا. وَلَوْ كَانَ لِهَذَا أَرْبَعُونَ وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ غَنَمِهِ بِغَنَمِ صَاحِبِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ - انْقَطَعَ حَوْلَاهُمَا وَاسْتَأْنَفَا مِنْ وَقْتِ الْمُبَايَعَةِ، وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ غَنَمِهِ شَائِعًا بِنِصْفِ غَنَمِ صَاحِبِهِ شَائِعًا، وَالْأَرْبَعُونَانِ مُمَيَّزَتَانِ، فَحُكْمُ الْحَوْلِ فِيمَا بَقِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَرْبَعِينِهِ، كَمَا إِذَا كَانَ لِلْوَاحِدِ أَرْبَعُونَ فَبَاعَ نِصْفَهَا شَائِعًا. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ مَا بَقِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَهَذَا مَالٌ ثَبَتَ لَهُ الِانْفِرَادُ أَوَّلًا وَالْخُلْطَةُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ، الْقَدِيمُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعُ شَاةٍ. وَالْجَدِيدُ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ شَاةٍ، وَإِذَا مَضَى حَوْلٌ مِنْ وَقْتِ التَّبَايُعِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ لِلْقَدْرِ الَّذِي ابْتَاعَهُ رُبُعُ شَاةٍ عَلَى الْقَدِيمِ. وَفِي الْجَدِيدِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: رُبُعُ شَاةٍ، وَالثَّانِي: نَصِفُهَا. فَرْعٌ إِذَا طَرَأَ الِانْفِرَادُ عَلَى الْخُلْطَةِ زَكَّى مَنْ بَلَغَ نَصِيبُهُ نِصَابًا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ مِنْ وَقْتِ الْمِلْكِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ مُخْتَلِطَةً، فَخَالَطَهُمَا ثَالِثٌ بِعِشْرِينَ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِمَا، ثُمَّ مَيَّزَ أَحَدُ الْأَوَّلَيْنِ مَالَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوَلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوَلِ، وَيَجِبُ عَلَى الثَّانِي نِصْفُ شَاةٍ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ، وَكَذَا عَلَى الثَّالِثِ نِصْفُ شَاةٍ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ. وَوَجْهُ ابْنِ سُرَيْجٍ يُنَازَعُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ مُشْتَرَكَةً فَاقْتَسَمَاهَا بَعْدَ

فصل

سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ إِفْرَازُ حَقٍّ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ شَاةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ عِنْدَ تَمَامِ بَاقِي الْحَوْلِ نِصْفُ شَاةٍ. ثُمَّ إِذَا مَضَى حَوْلٌ مِنْ وَقْتِ الْقِسْمَةِ، لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفُ شَاةٍ لَمَّا تَجَدَّدَ مِلْكُهُ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا نِصْفَ الْآخَرِ بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُضِيِّ كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ نِصْفُ شَاةٍ. فَصْلٌ إِذَا اجْتَمَعَ فِي مِلْكِ الْوَاحِدِ مَاشِيَةٌ مُخْتَلِطَةٌ وَغَيْرُ مُخْتَلِطَةٍ مِنْ جِنْسِهَا، بِأَنْ مَلَكَ سِتِّينَ شَاةً خَالَطَ بِعِشْرِينَ مِنْهَا عِشْرِينَ لِغَيْرِهِ خُلْطَةَ جِوَارٍ أَوْ شُيُوعٍ، وَانْفَرَدَ بِالْأَرْبَعِينَ، فَكَيْفَ يُزَكِّيَانِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا - وَعَلَيْهِ فَرَّعَ فِي الْمُخْتَصَرِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ وَالْأَكْثَرُونَ - أَنَّ الْخُلْطَةَ خُلْطَةُ مِلْكٍ، أَيْ كُلُّ مَا فِي مِلْكِهِ ثَبَتَ فِيهِ حُكْمُ الْخُلْطَةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ تَجْعَلُ مَالَ الِاثْنَيْنِ كَمَالِ الْوَاحِدِ، وَمَالُ الْوَاحِدِ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ وَإِنْ تَفَرَّقَ، فَعَلَى هَذَا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَانَ صَاحِبُ السِّتِّينَ قَدْ خَلَطَهَا بِعِشْرِينَ، فَعَلَيْهِمَا شَاةٌ، ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَلَيْهِ وَرُبُعُهَا عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْخُلْطَةَ خَلْطَةُ عَيْنٍ، أَيْ يُقْصَرُ حُكْمُهَا عَلَى الْمَخْلُوطِ، فَتَجِبُ بِعِشْرِينَ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ نِصْفُ شَاةٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ خَلِيطُ عِشْرِينَ. وَفِي صَاحِبِ السِّتِّينَ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: يَلْزَمُهُ شَاةٌ. وَالثَّانِي: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ، كَمَا لَوْ خَالَطَ بِالْجَمِيعِ. وَالثَّالِثُ: خَمْسَةُ أَسْدَاسِ شَاةٍ وَنِصْفُ سُدُسٍ، يَخُصُّ الْأَرْبَعِينَ مِنْهَا ثُلُثَانِ، كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِجَمِيعِ السِّتِّينَ، وَيَخُصُّ الْعِشْرِينَ رُبُعٌ كَأَنَّهُ خَالَطَ بِالْجَمِيعِ. وَالرَّابِعُ: شَاةٌ وَسُدُسٌ، يَخُصُّ الْأَرْبَعِينَ ثُلُثَانِ، وَالْعِشْرِينَ نِصْفٌ. وَالْخَامِسُ: شَاةٌ وَنِصْفٌ كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِأَرْبَعِينَ، وَخَالَطَ بِعِشْرِينَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ. أَمَّا إِذَا خَلَطَ عِشْرِينَ بِعِشْرِينَ لِغَيْرِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ مُنْفَرِدَةً، فَفِي وَاجِبِهِمَا الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: خُلْطَةُ مِلْكٍ، فَعَلَيْهِمَا شَاةٌ، عَلَى

كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفٌ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَإِنْ قُلْنَا: خُلْطَةُ عَيْنٍ، فَسَبْعَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ تَغْلِيبًا لِلِانْفِرَادِ. وَالثَّانِي: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ؛ لِأَنَّ لَهُ سِتِّينَ مُخَالِطَةً عِشْرِينَ. وَالثَّالِثُ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ شَاةٍ، وَكَانَ الْجَمِيعُ مُخْتَلِطًا. وَالرَّابِعُ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَنِصْفُ سُدُسٍ، حِصَّةُ الْأَرْبَعِينَ ثُلْثَانِ، كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِمَالِهِ، وَحِصَّةُ الْعِشْرِينَ رُبُعٌ، كَأَنَّهُ خَالَطَ السِّتِّينَ بِالْعِشْرِينَ. وَالْخَامِسُ: خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، حِصَّةُ الْعِشْرِينَ سُدُسٌ، كَأَنَّهُ خَلَطَهَا بِالْجَمِيعِ، وَالسَّادِسُ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ وَسُدُسٌ، ثُلْثَانِ عَنِ الْأَرْبَعِينَ وَنِصْفٌ عَنِ الْعِشْرِينَ. وَالسَّابِعُ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ وَنِصْفٌ. وَلَا فَرْقَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَرْبَعُونَ الْمُنْفَرِدَةُ فِي بَلَدِ الْمَالِ الْمُخْتَلِطِ أَمْ فِي غَيْرِهِ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ الْمَذْكُورَانِ سَوَاءٌ اتَّفَقَ حَوْلُ صَاحِبِ السِّتِّينَ وَحَوْلُ الْآخَرِ، أَمِ اخْتَلَفَا، لَكِنْ إِنِ اخْتَلَفَا زَادَ النَّظَرُ فِي التَّفَاصِيلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا اخْتَلَفَ حَوْلَاهُمَا، فَإِنِ اتَّفَقَا فَلَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهِمَا شَاةً، رُبُعُهَا عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ وَبَاقِيهَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا شَاذٌّ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ. فَرْعٌ فِيمَا إِذَا خَالَطَ بِبَعْضِ مَالِهِ وَاحِدًا وَبِبَعْضِهِ آخَرَ وَلَمْ يُخَالِطْ أَحَدُ خَلِيطَيْهِ الْآخَرَ فَإِذَا مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فَخَلَطَ عِشْرِينَ بِعِشْرِينَ، لِمَنْ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، وَالْعِشْرِينَ الْأُخْرَى بِعِشْرِينَ لِآخَرَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْخُلْطَةُ خُلْطَةُ مِلْكٍ، فَعَلَى صَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ نِصْفٌ. وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مَضْمُومٌ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَهَلْ يُضَمُّ إِلَى الْعِشْرِينَ الَّتِي لِخَلِيطِ الْخَلِيطِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ: نَعَمْ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعُ شَاةٍ. وَالثَّانِي: لَا، فَعَلَيْهِ ثُلُثُ شَاةٍ. وَإِنْ قُلْنَا: خُلْطَةُ عَيْنٍ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيِ الْعِشْرِينَيْنِ نِصْفُ شَاةٍ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْأَرْبَعِينَ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي فَصْلِ حَقِّ صَاحِبِ السِّتِّينَ، لَكِنَّ الَّذِي يَنْجَمِعُ مِنْهَا هَاهُنَا ثَلَاثَةٌ، أَصَحُّهَا هُنَا: نِصْفُ شَاةٍ. وَالثَّانِي: شَاةٌ. وَالثَّالِثُ: ثُلُثَا شَاةٍ. وَلَوْ مَلَكَ

سِتِّينَ خَلَطَ كُلَّ عِشْرِينَ بِعِشْرِينَ لِرَجُلٍ، فَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ الْمِلْكِ فَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ نِصْفُ شَاةٍ، وَفِي أَصْحَابِ الْعِشْرِينَاتِ وَجْهَانِ. إِنْ ضَمَمْنَا إِلَى خَلِيطٍ خَلِيطَهُ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُ شَاةٍ، وَإِلَّا فَرُبُعٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ الْعَيْنِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْعِشْرِينَاتِ نِصْفُ شَاةٍ، وَفِي صَاحِبِ السِّتِّينَ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ شَاةٌ، وَالثَّانِي: نَصِفٌ. وَالثَّالِثُ: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ. وَالرَّابِعُ: شَاةٌ وَنِصْفٌ، وَفِي عِشْرِينَ: نَصِفٌ. وَلَوْ مَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ، فَخَالَطَ بِكُلِّ خَمْسٍ خَمْسًا لِآخَرَ، فَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ الْمِلْكِ، فَعَلَى صَاحِبِ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ نِصْفُ حِقَّةٍ، وَفِي وَاجِبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ خُلَطَائِهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: عُشْرُ حِقَّةٍ. وَالثَّانِي: سُدُسُ بِنْتِ مَخَاضٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ الْعَيْنِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ خُلَطَائِهِ شَابٌّ، وَفِي صَاحِبِ الْخَمْسُ وَالْعِشْرِينَ الْأَوْجُهُ. عَلَى الْأَوَّلِ: بِنْتُ مَخَاضٍ. وَعَلَى الثَّانِي: نِصْفُ حِقَّةٍ. وَعَلَى الثَّالِثِ: خَمْسَةُ أَسْدَاسِ بِنْتِ مَخَاضٍ. وَعَلَى الرَّابِعِ: خَمْسُ شِيَاهٍ. وَلَوْ مَلَكَ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، فَخَلَطَ خَمْسًا بِخَمْسَ عَشْرَةَ لِغَيْرِهِ، وَخَمْسًا بِخَمْسَ عَشْرَةَ لِآخَرَ، فَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ الْمِلْكِ، فَعَلَى صَاحِبِ الْعَشْرِ رُبُعُ بِنْتِ لَبُونٍ. وَفِي صَاحِبَيْهِ وَجْهَانِ، إِنْ ضَمَمْنَاهُ إِلَى خَلِيطِهِ فَقَطْ لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَإِنْ ضَمَمْنَاهُ أَيْضًا إِلَى خَلِيطِ خَلِيطِهِ لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ بِنْتِ لَبُونٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِخَلْطَةِ الْعَيْنِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي صَاحِبِ الْعَشْرِ، الْأَوْجُهُ، عَلَى الْأَوَّلِ: يَلْزَمُهُ شَاتَانِ، وَعَلَى الثَّانِي: رُبُعُ بِنْتِ لَبُونٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ: خُمُسَا بِنْتِ مَخَاضٍ، وَعَلَى الرَّابِعِ: شَاتَانِ كَالْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ مَلَكَ عِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ، خَلَطَ كُلَّ خَمْسَةٍ بِخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ لِرَجُلٍ، فَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ الْمِلْكِ لَزِمَهُ الْأَغْبَطُ مِنْ نِصْفِ بِنْتِ لَبُونٍ، وَخُمُسَيْ حِقَّةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِبِلَ إِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ وَاجِبَهَا الْأَغْبَطُ مِنْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ وَأَرْبَعِ حِقَاقٍ، وَجُمْلَةُ الْأَمْوَالِ هُنَا مِائَتَانِ، وَفِيمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخُلَطَاءِ، وَجْهَانِ، إِنْ ضَمَمْنَاهُ إِلَى خَلِيطِ خَلِيطِهِ أَيْضًا، لَزِمَهُ بِنْتُ لَبُونٍ وَثَمَنُهَا، أَوْ تِسْعَةُ أَعْشَارِ حِقَّةٍ، وَإِنْ لَمْ تُضَمَّ

إِلَّا إِلَى خَلِيطِهِ لَزِمَهُ تِسْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ جَذَعَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ الْعَيْنِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخُلَطَاءِ تِسْعَةُ أَعْشَارِ حِقَّةٍ، وَفِي صَاحِبِ الْعِشْرِينَ، الْأَوْجُهُ، عَلَى الْأَوَّلِ: أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَعَلَى الثَّانِي: الْأَغْبَطُ مِنْ نِصْفِ بِنْتِ لَبُونٍ، وَخُمُسَيْ حِقَّةٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ: أَرْبَعَةُ أَجْزَاءَ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ جَذَعَةٍ، وَعَلَى الرَّابِعِ: أَرْبَعُ شِيَاهٍ كَالْأَوَّلِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا (إِذَا) اتَّفَقَتْ أَوَائِلُ الْأَحْوَالِ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ، انْضَمَّ إِلَى هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ مَا سَبَقَ مِنَ الْخِلَافِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْحَوْلِ. مِثَالُهُ: فِي الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ اخْتَلَفَ الْحَوْلُ، فَيُزَكُّونَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى زَكَاةَ الِانْفِرَادِ كُلٌّ لِحَوْلِهِ، وَفِي بَاقِي السِّنِينَ يُزَكُّونَ كُلُّهُمْ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَعَلَى الْقَدِيمِ: يُزَكُّونَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى أَيْضًا بِالْخُلْطَةِ، وَعَلَى وَجْهِ ابْنِ سُرَيْجٍ: لَا تَثْبُتُ لَهُمُ الْخُلْطَةُ أَبَدًا وَلَوْ خَلَطَ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْغَنَمِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ لِغَيْرِهِ، وَلِأَحَدِهِمَا خَمْسُونَ مُنْفَرِدَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ الْعَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِ الْخَمْسَ عَشْرَةَ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ دُونَ نِصَابٍ، وَعَلَى الْآخَرِ شَاةٌ عَنِ الْخَمْسِ وَالسِّتِّينَ، كَمَنْ خَالَطَ ذِمِّيًّا. وَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ الْمِلْكِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا أَثَرَ لِهَذِهِ الْخُلْطَةِ؛ لِنُقْصَانِ الْمُخْتَلِطِ عَنِ النِّصَابِ. وَالثَّانِي: تَثْبُتُ الْخُلْطَةُ وَيُضَمُّ الْخَمْسُونَ إِلَى الثَّلَاثِينَ، فَيَجِبُ شَاةٌ، مِنْهَا عَلَى صَاحِبِ الْخَمْسِينَ سِتَّةُ أَثْمَانٍ وَنِصْفُ ثُمُنٍ، وَالْبَاقِي عَلَى الْآخَرِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: تَثْبُتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ لِوُجُوبِ زَكَاةِ النَّعَمِ: الْحَوْلُ. فَلَا زَكَاةَ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، إِلَّا النِّتَاجُ، فَإِنَّهُ يُضَمُّ إِلَى الْأُمَّاتِ بِشَرْطَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَحْدُثَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَإِنْ قَلَّتِ الْبَقِيَّةُ، فَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ الْحَوَلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ لَمْ يُضَمَّ إِلَى الْأُمَّاتِ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ قَطْعًا، وَيُضَمُّ فِي الثَّانِي، وَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ لَمْ يُضَمَّ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ فِي ضَمِّهِ قَوْلَانِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَحْدُثَ النِّتَاجُ بَعْدَ بُلُوغِ الْأُمَّاتِ نِصَابًا، فَلَوْ مَلَكَ دُونَ النِّصَابِ، فَتَوَالَدَتْ وَبَلَغَتْ نِصَابًا - فَابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ، وَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطَانِ، فَمَاتَتِ الْأُمَّاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا، وَالنِّتَاجُ نِصَابٌ - زَكَّى النِّتَاجَ بِحَوْلِ الْأُمَّاتِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي وَجْهٍ قَالَهُ الْأَنْمَاطِيُّ: لَا يُزَكِّي بِحَوْلِ الْأُمَّاتِ إِلَّا إِذَا بَقِيَ مِنْهَا نِصَابٌ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: يُشْتَرَطُ بَقَاءُ شَيْءٍ مِنَ الْأُمَّاتِ وَلَوْ وَاحِدَةٌ، وَفَائِدَةُ ضَمِّ النِّتَاجِ إِلَى الْأُمَّاتِ إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا بَلَغَتْ بِهِ نِصَابًا آخَرَ، بِأَنْ مَلَكَ مِائَةَ شَاةٍ فَوَلَدَتْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَيَجِبُ شَاتَانِ، وَلَوْ تَوَلَّدَتْ عِشْرُونَ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ. أَمَّا الْمُسْتَفَادُ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إِرْثٍ، فَلَا يُضَمُّ إِلَى مَا عِنْدَهُ فِي الْحَوْلِ، وَلَكِنْ يُضَمُّ إِلَيْهِ فِي النِّصَابِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبَيَانُهُ بِصُوَرٍ: مِنْهَا: مَلَكَ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ اشْتَرَى عَشْرًا، فَعَلَيْهِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْأَصْلِ تَبِيعٌ، وَعِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْعَشْرِ رُبُعُ مُسِنَّةٍ، فَإِذَا جَاءَ حَوْلٌ ثَانٍ لِلْأَصْلِ لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مُسِنَّةٍ، وَإِذَا تَمَّ حَوْلٌ ثَانٍ لِلْعَشْرِ لَزِمَهُ رُبُعُ مُسِنَّةٍ، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْمُسْتَفَادَ لَا يُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ فِي النِّصَابِ، كَمَا لَا يُضَمُّ إِلَيْهِ فِي الْحَوْلِ. فَعَلَى هَذَا: لَا يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى الْعَشْرِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ الثَّلَاثِينَ، ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ حَوْلُ الْجَمِيعِ. وَمِنْهَا: لَوْ مَلَكَ عِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ اشْتَرَى عَشْرًا، لَزِمَهُ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَعِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْعَشْرِ ثُلُثُ بِنْتِ مَخَاضٍ، فَإِذَا حَالَ حَوْلٌ ثَانٍ عَلَى الْعِشْرِينَ، فَفِيهَا ثُلُثَا بِنْتِ مَخَاضٍ، وَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي عَلَى الْعَشْرِ، فَثُلُثُ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَهَكَذَا يُزَكِّي أَبَدًا. وَعَلَى الْمَحْكِيِّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: عَلَيْهِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْعِشْرِينَ. وَلَا نَقُولُ هُنَا: لَا يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى الْعَشْرِ حَتَّى يَسْتَفْتِحَ حَوْلُ الْعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ مِنَ الْإِبِلِ نِصَابٌ بِخِلَافِ الْعَشْرِ مِنَ الْبَقَرِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَاشْتَرَى خَمْسًا، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الْعِشْرِينَ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الْخَمْسِ فَعَلَيْهِ خُمُسُ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَإِذَا تَمَّ حَوْلُ

الثَّانِي عَلَى الْأَصْلِ، فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَعِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ: فِي الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ أَبَدًا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا، وَفِي الْخَمْسِ: شَاةٌ أَبَدًا. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّ الْخَمْسَ لَا تُجْزِئُ فِي الْحَوْلِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ الْأَصْلِ، ثُمَّ يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ، وَهَذَا يَطَّرِدُ فِي الْعَشْرِ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ. وَمِنْهَا: مَلَكَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ غُرَّةَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ اشْتَرَى أَرْبَعِينَ غُرَّةَ صَفَرٍ، ثُمَّ أَرْبَعِينَ غُرَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعَ أَشْبَاهِهَا فِي بَاقِي بَابِ الْخُلْطَةِ. فَرْعٌ الِاعْتِبَارُ فِي النِّتَاجِ بِالِانْفِصَالِ، فَلَوْ خَرَجَ بَعْضُ الْجَنِينِ وَتَمَّ الْحَوْلُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ، فَلَا حُكْمَ لَهُ، وَلَوِ اخْتَلَفَ السَّاعِي وَالْمَالِكُ فَقَالَ الْمَالِكُ: حَصَلَ النِّتَاجُ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَقَالَ السَّاعِي: قَبْلَهُ، أَوْ قَالَ: حَصَلَ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ وَقَالَ السَّاعِي: بَلْ مِنْ نَفْسِ النِّصَابِ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ، حَلَّفَهُ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَقَطْ، فَهَلَكَ مِنْهُ وَاحِدَةٌ، وُوُلِدَتْ وَاحِدَةٌ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ - لَمْ يَنْقَطِعِ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ نِصَابٍ. قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَلَوْ شَكَّ، هَلْ كَانَ التَّلَفُ وَالْوِلَادَةُ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا - لَمْ يَنْقَطِعِ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: بَقَاءُ الْمِلْكِ فِي الْمَاشِيَةِ جَمِيعَ الْحَوْلِ، فَلَوْ زَالَ الْمِلْكُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ، وَلَوْ بَادَلَ مَاشِيَتَهُ بِمَاشِيَةٍ مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِ اسْتَأْنَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَوْلَ، وَكَذَا لَوْ بَادَلَ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْوَرِقِ، اسْتَأْنَفَ الْحَوْلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَيْرَفِيًّا يَقْصِدُ التِّجَارَةَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ، فَقَوْلَانِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا: يَنْقَطِعُ، وَالثَّانِي: لَا. هَذَا كُلُّهُ فِي الْمُبَادَلَةِ الصَّحِيحَةِ. أَمَّا

الْفَاسِدَةُ، فَلَا تَقْطَعُهُ سَوَاءٌ اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ أَمْ لَا. ثُمَّ لَوْ كَانَتْ سَائِمَةً وَعَلَفَهَا الْمُشْتَرِي، قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: هُوَ كَعَلَفِ الْغَاصِبِ، وَفِي قَطْعِهِ الْحَوْلَ وَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: عِنْدِي أَنَّهُ يَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ، وَلَوْ بَاعَ مَعْلُوفَةً بَيْعًا فَاسِدًا، فَأَسَامَهَا الْمُشْتَرِي، فَهُوَ كَإِسَامَةِ الْغَاصِبِ. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ النِّصَابَ، أَوْ بَادَلَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، وَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا قَدِيمًا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ حَوْلٌ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ، فَلَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَالْمَرْدُودُ عَلَيْهِ يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ، سَوَاءٌ رَدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ مَضَى حَوْلٌ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا بَعْدُ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ، سَوَاءٌ إِنْ قُلْنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، أَوْ بِالذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ لِلسَّاعِي أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ عَيْنِهَا لَوْ تَعَذَّرَ أَخْذُهَا مِنَ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ عَيْبٌ حَادِثٌ، وَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الرَّدِّ بِالتَّأْخِيرِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْهُ قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ مَعَ التَّمَكُّنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالْمَاشِيَةِ الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا وَهِيَ الْإِبِلُ دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَبَيْنَ سَائِرَ الْأَمْوَالِ. وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْحَدَّادِ تَجْوِيزُ الرَّدِّ قَبْلَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَلَمْ يُثْبِتُوهُ وَجْهًا. وَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ، نُظِرَ، إِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِ آخَرَ بُنِيَ جَوَازُ الرَّدِّ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، أَمْ بِالذِّمَّةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا بِالذِّمَّةِ وَالْمَالُ مَرْهُونٌ بِهِ فَلَهُ الرَّدُّ، كَمَا لَوْ رَهَنَ مَا اشْتَرَاهُ ثُمَّ انْفَكَّ الرَّهْنُ وَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا. وَإِنْ قُلْنَا: الْمَسَاكِينُ شُرَكَاءُ، فَهَلْ لَهُ الرَّدُّ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ: لَهُ الرَّدُّ. وَالثَّانِي: وَبِهِ قِطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا وَبَاعَهُ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِعَيْبٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ وَرِثَهُ

، هَلْ لَهُ رَدُّهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى غَيْرِ قَوْلِ الشَّرِكَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ مَا أَخْرَجَهُ عَنِ الزَّكَاةِ قَدْ يَظْهَرُ مُسْتَحَقًّا فَيَتَّبِعَ السَّاعِي عَيْنَ النَّصَّابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْوَجْهَ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ، وَجَعَلَ الزَّائِدَ عَلَى قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ مُنْكَرٌ، وَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَبَاعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ، فَهَلْ لَهُ رَدُّ الْبَاقِي؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ نُجَوِّزُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ إِنْ كَانَ الْمُخْرَجُ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ فَيُرَدُّ الْجَمِيعُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا رَجَعَ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَهُ كَعَيْبٍ حَادِثٍ، فَلَوْ حَدَثَ عَيْبٌ رَجَعَ بِالْأَرْشِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ زَوَالَ الْعَيْبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَرُدُّ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَهَذَا إِذَا جَوَّزْنَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَرُدُّ الْبَاقِي وَقِيمَةَ الْمُخْرَجِ فِي الزَّكَاةِ، وَيَسْتَرِدُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لِيَحْصُلَ غَرَضُ الرَّدِّ، وَلَا تَتَبَعَّضُ الصَّفْقَةُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمُخْرَجِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ الْبَائِعُ: دِينَارَانِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: دِينَارٌ - فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ عَلَى الثَّمَنِ، فَلَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُ إِلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ. فَرْعٌ حُكْمُ الْإِقَالَةِ حُكْمُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ بَاعَ النِّصَابَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَفَسَخَ الْبَيْعَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ مَوْقُوفٌ - بَنَى عَلَى حَوْلِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، اسْتَأْنَفَ الْبَائِعُ بَعْدَ الْفَسْخِ.

فَرْعٌ لَوِ ارْتَدَّ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، إِنْ قُلْنَا: يَزُولُ مِلْكُهُ بِالرِّدَّةِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ. فَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَأْنَفَ. وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ، بَلْ يَبْنِي كَمَا يَبْنِي الْوَارِثُ عَلَى قَوْلٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ، فَالْحَوْلُ مُسْتَمِرٌّ وَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ تَمَامِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: مِلْكُهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ هَلَكَ عَلَى الرِّدَّةِ تَبَيَّنَّا الِانْقِطَاعَ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَّا اسْتِمْرَارَ الْمِلْكِ. وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِي الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ فِي الرِّدَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. فَرْعٌ إِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَانْتَقَلَ الْمَالُ إِلَى وَارِثِهِ، هَلْ يُبْنَى عَلَى حَوْلِ الْمَيِّتِ؟ قَوْلَانِ، الْقَدِيمُ: نَعَمْ، وَالْجَدِيدُ: لَا بَلْ يَبْتَدِئُ حَوْلًا، وَقِيلَ: يَبْتَدِئُ قَطْعًا، وَأُنْكِرَ الْقَدِيمُ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ حَوْلًا، سَوَاءٌ أَثْبَتْنَا الْخِلَافَ أَمْ لَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَبْنِي فَكَانَ مَالَ تِجَارَةٍ، لَمْ يَنْعَقِدِ الْحَوْلُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَصَرَّفَ الْوَارِثُ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ سَائِمَةً وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَارِثُ الْحَالَ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، أَمْ يَبْتَدِئُ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ عِلْمِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ السَّوْمَ هَلْ يُعْتَبَرُ؟ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ

لَا فَرْقَ فِي انْقِطَاعِ الْحَوْلِ بِالْمُبَادَلَةِ وَالْبَيْعِ فِي أَثْنَائِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ، بَلْ قَصَدَ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكْرَهُ الْفِرَارَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَقِيلَ: تَحْرِيمٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَنْصُوصِ، وَخِلَافُ مَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: السَّوْمُ، فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي النَّعَمِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً، فَإِنْ عُلِفَتْ فِي مُعْظَمِ الْحَوْلِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ عُلِفَتْ قَدْرًا يَسِيرًا لَا يَتَمَوَّلُ، فَلَا أَثَرَ لَهُ قَطْعًا. وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ. وَإِنْ أُسِيمَتْ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ وَعُلِفَتْ دُونَ مُعْظَمِهِ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا، وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الصَّيْدَلَانِيُّ وَصَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ: إِنْ عُلِفَتْ قَدْرًا تَعِيشُ الْمَاشِيَةُ بِدُونِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ، وَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ قَدْرًا تَمُوتُ لَوْ لَمْ تُرْعَ مَعَهُ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ، قَالُوا: وَالْمَاشِيَةُ تَصْبِرُ الْيَوْمَيْنِ، وَلَا تَصْبِرُ الثَّلَاثَةَ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَلْحَقَ الضَّرَرُ الْبَيِّنُ بِالْهَلَاكِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنْ عُلِفَتْ قَدْرًا يُعَدُّ مَئُونَةً بِالْإِضَافَةِ إِلَى رَمَقِ السَّائِمَةِ فَلَا زَكَاةَ، وَإِنِ احْتُقِرَ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ، وَفُسِّرَ الرَّمَقُ بَدَرِّهَا، وَنَسْلِهَا، وَأَصْوَافِهَا، وَأَوْبَارِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ رَمَقُ إِسَامَتِهَا. وَالثَّالِثُ: لَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ وَلَا تَمْتَنِعُ زَكَاةٌ إِلَّا بِالْعَلَفِ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوِ اسْتَوَيَا فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالظَّاهِرُ السُّقُوطُ. وَالرَّابِعُ: كُلُّ مَا يَتَمَوَّلُ مِنَ الْعَلَفِ وَإِنَّ قَلَّ، يَقْطَعُ السَّوْمَ، فَإِنْ أُسِيمَتْ بَعْدَهُ اسْتَأْنَفَتِ الْحَوْلَ. وَلَعَلَّ الْأَقْرَبَ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ بِمَا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِعَلَفِهِ شَيْئًا، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ قَطْعَ السَّوْمِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ لَا مَحَالَةَ، كَذَا ذَكَرَهُ

صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» وَغَيْرُهُ: وَلَا أَثَرَ لِمُجَرَّدِ نِيَّةِ الْعَلْفِ، وَلَوْ كَانَتْ تُعْلَفُ لَيْلًا وَتَرْعَى نَهَارًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كَانَ عَلَى الْخِلَافِ. قُلْتُ: وَلَوْ أُسِيمَتْ فِي كَلَأٍ مَمْلُوكٍ، فَهَلْ هِيَ سَائِمَةٌ أَمْ مَعْلُوفَةٌ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي الْبَيَانِ، وَأَصَحُّ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ أَوَّلُهَا، وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ السَّائِمَةُ الَّتِي تَعْمَلُ كَالنَّوَاضِحِ وَغَيْرِهَا، فِيهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَبِهِ قَطَعَ مُعْظَمُ الْعِرَاقِيِّينَ؛ لِأَنَّهَا كَثِيَابِ الْبَدَنِ وَمَتَاعِ الدَّارِ، وَالثَّانِي: تَجِبُ. فَرْعٌ هَلْ يُعْتَبَرُ الْقَصْدُ فِي الْعَلْفِ وَالسَّوْمِ؟ وَجْهَانِ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا مَسَائِلُ: مِنْهَا: لَوِ اعْتَلَفَتِ السَّائِمَةُ بِنَفْسِهَا الْقَدْرَ الْمُؤَثِّرَ، فَفِي انْقِطَاعِ الْحَوْلِ وَجْهَانِ، الْمُوَافِقُ مِنْهُمَا لِاخْتِيَارِ الْأَكْثَرِينَ فِي نَظَائِرِهَا: أَنَّهُ يَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ السَّوْمِ، فَصَارَ كَفَوَاتِ سَائِرِ شُرُوطِ الزَّكَاةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ فَقْدِهَا قَصْدًا أَوِ اتِّفَاقًا، وَلَوْ سَامَتِ الْمَاشِيَةُ بِنَفْسِهَا، فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ الْوَجْهَانِ. وَقِيلَ: لَا تَجِبُ هُنَا قَطْعًا، وَلَوْ عَلَفَ مَاشِيَتَهُ لِامْتِنَاعِ الرَّعْيِ بِالثَّلْجِ، وَقَصَدَ رَدَّهَا إِلَى الْإِسَامَةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، انْقَطَعَ الْحَوْلُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ. وَلَوْ غَصَبَ سَائِمَةً فَعَلَفَهَا فَلَنَا خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّ الْمَغْصُوبَ هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: لَا زَكَاةَ فِيهِ، فَلَا شَيْءَ، وَإِلَّا فَأَوْجُهٌ أَصَحُّهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا زَكَاةَ؛ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ. وَالثَّانِي: تَجِبُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَالْعَدَمِ.

وَالثَّالِثُ: إِنْ عَلَفَهَا بِعَلَفٍ مِنْ عِنْدِهِ، لَمْ يَنْقَطِعْ، وَإِلَّا انْقَطَعَ. وَلَوْ غَصَبَ مَعْلُوفَةً فَأَسَامَهَا، وَقُلْنَا: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَغْصُوبِ - فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا تَجِبُ. وَالثَّانِي: تَجِبُ، كَمَا لَوْ غَصَبَ حِنْطَةً وَبَذَرَهَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا يَنْبُتُ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا فَهَلْ تَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهَا مَئُونَةٌ وَجَبَتْ بِفِعْلِهِ، أَمْ عَلَى الْمَالِكِ لِأَنَّ نَفْعَ حَقِّهِ فِي الْمَئُونَةِ عَائِدٌ إِلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: عَلَى الْمَالِكِ، فَفِي رُجُوعِهِ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالرُّجُوعِ، وَأَشْهَرُهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: الرُّجُوعُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ، فَيَرْجِعُ قَبْلَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ أَمْ بَعْدَهُ؟ وَجْهَانِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الزَّكَاةَ إِنْ وَجَبَتْ كَانَتْ عَلَى الْمَالِكِ، ثُمَّ يُغَرَّمُ الْغَاصِبُ. أَمَّا إِيجَابُ الزَّكَاةِ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ فَبَعِيدٌ. الشَّرْطُ السَّادِسُ: كَمَالُ الْمِلْكِ، وَفِي هَذَا الشَّرْطِ خِلَافٌ يَظْهَرُ بِتَفْرِيعِ مَسَائِلِهِ. فَإِذَا ضَلَّ مَالُهُ، أَوْ غُصِبَ، أَوْ سُرِقَ، وَتَعَذَّرَ انْتِزَاعُهُ، أَوْ أَوْدَعَهُ فَجُحِدَ، أَوْ وَقَعَ فِي بَحْرٍ، فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ، أَصَحُّهَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: وَجُوبُهَا، وَالْقَدِيمُ: لَا تَجِبُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ عَادَتْ بِتَمَامِهَا وَجَبَتْ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ قُلْنَا بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ جَارِيَانِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: مَوْضِعُهُمَا إِذَا عَادَ الْمَالُ بِلَا نَمَاءٍ، فَإِنْ عَادَ مَعَهُ وَجَبَ الزَّكَاةُ قَطْعًا. وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، لَوْ عَادَ بَعْضُ النَّمَاءِ كَانَ كَمَا لَوْ لَمْ يَعُدْ مَعَهُ شَيْءٌ. وَمَعْنَى الْعَوْدِ بِلَا نَمَاءٍ: أَنْ يُتْلِفَهُ الْغَاصِبُ وَيَتَعَذَّرَ تَغْرِيمُهُ. فَأَمَّا إِنْ غُرِّمَ، أَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ كَانَ يَتْلَفُ فِي يَدِ الْمَالِكِ أَيْضًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ عَادَ النَّمَاءُ بِعَيْنِهِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا عَادَ الْمَالُ إِلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُبْ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ قَبْلَ عَوْدِ الْمَالِ إِلَيْهِ، فَلَوْ تَلِفَ فِي الْحَيْلُولَةِ بَعْدَ مُضِيِّ أَحْوَالٍ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ، وَالتَّلَفُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ. وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي الْمَاشِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ، فَإِنْ عُلِفَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا عَادَ النَّظَرُ الْمُتَقَدِّمُ قَرِيبًا فِي إِسَامَةِ الْغَاصِبِ

وَعَلَفِهِ هَلْ يُؤَثِّرَانِ؟ وَزَكَاةُ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى قَوْلِ الْوُجُوبِ إِذَا لَمْ تَنْقُصِ الْمَاشِيَةُ عَنِ النِّصَابِ بِمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ، بِأَنْ كَانَ فِيهَا وَقَصٌ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ نِصَابًا فَقَطْ وَمَضَتِ الْأَحْوَالُ فَالْحُكْمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَمَضَتِ الْأَحْوَالُ مَا يُخْرِجُ مِنْهَا زَكَاةً، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً، فَضَلَّتْ وَاحِدَةٌ ثُمَّ وَجَدَهَا، إِنْ قُلْنَا: لَا زَكَاةَ فِي الضَّالِّ، اسْتَأْنَفَ الْحَوْلُ، سَوَاءً وَجَدَهَا قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا فِي الضَّالِّ وَوَجَدَهَا قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، بَنَى، وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَهُ زَكَّى الْأَرْبَعِينَ. فَرْعٌ لَوْ دَفَنَ مَالَهُ بِمَوْضِعٍ ثُمَّ نَسِيَهُ، ثُمَّ تَذَكَّرَ - فَهَذَا ضَالٌّ، فَفِيهِ الْخِلَافُ سَوَاءٌ دَفَنَ فِي دَارِهِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَقِيلَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ هُنَا قَطْعًا لِتَقْصِيرِهِ. فَرْعٌ لَوْ أُسِرَ الْمَالِكُ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ، وَجَبَتِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْخِلَافُ، وَلَوِ اشْتَرَى مَالًا زَكَوِيًّا فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى مَضَى حَوْلٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: لَا تَجِبُ قَطْعًا؛ لِضَعْفِ الْمِلْكِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْخِلَافُ فِي الْمَغْصُوبِ، وَلَوْ رَهَنَ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، فَالْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: وُجُوبُ الزَّكَاةِ. وَقِيلَ

وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْمَغْصُوبِ لِامْتِنَاعِ التَّصَرُّفِ. وَالَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ. وَلَنَا فِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الزَّكَاةَ فِي الْمَرْهُونِ، فَمِنْ أَيْنَ يُخْرَجُ؟ فِيهِ كَلَامٌ يَأْتِي قُبَيْلَ زَكَاةِ الْمُعَشَّرَاتِ. فَرْعٌ الدَّيْنُ الثَّابِتُ عَلَى الْغَيْرِ لَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونُ لَازِمًا كَمَالِ الْكِتَابَةِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَازِمًا، وَهُوَ مَاشِيَةٌ، فَلَا زَكَاةَ أَيْضًا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ عُرُوضَ تِجَارَةٍ، فَقَوْلَانِ، الْقَدِيمُ: لَا زَكَاةَ فِي الدَّيْنِ بِحَالٍ، وَالْجَدِيدُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: وُجُوبُهَا فِي الدَّيْنِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَتَفْصِيلُهُ أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لِإِعْسَارِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَوْ جُحُودِهِ وَلَا بَيِّنَةَ، أَوْ مَطْلِهِ، أَوْ غَيْبَتِهِ - فَهُوَ كَالْمَغْصُوبِ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: تَجِبُ فِي الْمَمْطُولِ، وَفِي الدَّيْنِ عَلَى مَلِيءٍ غَائِبٍ قَطْعًا، وَلَا يَجِبُ الْإِخْرَاجُ قَبْلَ حُصُولِهِ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرِ اسْتِيفَاؤُهُ، بِأَنْ كَانَ عَلَى مَلِيءٍ بَاذِلٍ، أَوْ جَاحِدٍ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، أَوْ يَعْلَمُهُ الْقَاضِي، وَقُلْنَا: يَقْضَى بِعِلْمِهِ، فَإِنْ كَانَ حَالًّا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَلَزِمَ إِخْرَاجُهَا فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَغْصُوبِ. وَقِيلَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ قَطْعًا. وَقِيلَ: لَا تَجِبُ قَطْعًا. فَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا، لَمْ يَجِبِ الْإِخْرَاجُ حَتَّى يَقْبِضَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: تَجِبُ فِي الْحَالِ. فَرْعٌ الْمَالُ الْغَائِبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَلَيْهِ لِانْقِطَاعِ الطَّرِيقِ أَوِ انْقِطَاعِ خَبَرِهِ، فَكَالْمَغْصُوبِ. وَقِيلَ: تَجِبُ قَطْعًا، وَلَا يَجِبُ الْإِخْرَاجُ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ

فصل

مَقْدُورًا عَلَيْهِ وَجَبَ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ فِي الْحَالِ، وَيُخْرِجُهَا فِي بَلَدِ الْمَالِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا فِي غَيْرِهِ فَفِيهِ خِلَافُ نَقْلِ الزَّكَاةِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَالُ مُسْتَقِرًّا فِي بَلَدٍ، فَإِنْ كَانَ سَائِرًا، قَالَ فِي «الْعُدَّةِ» : لَا يُخْرِجُ زَكَاتَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ زَكَّى لِمَا مَضَى بِلَا خِلَافٍ. فَصْلٌ إِذَا بَاعَ مَالًا زَكَوِيًّا قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَتَمَّ الْحَوْلُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوِ اصْطَحَبَا فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَتَمَّ فِيهَا الْحَوْلُ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِمَنْ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لِلْبَائِعِ، فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْبَائِعِ، وَيَبْتَدِئُ الْمُشْتَرِي حَوْلَهُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ. وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِلَّا فَلِلْبَائِعِ. وَحُكْمُ الْحَالَيْنِ مَا تَقَدَّمَ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِخِلَافٍ بَعْدَ الْبِنَاءِ الْمَذْكُورِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِلَّا صَاحِبُ التَّقْرِيبِ فَإِنَّهُ قَالَ: وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُشْتَرِي يَخْرُجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَغْصُوبِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ - فَمِلْكُهُ مِلْكُ زَكَاةٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِكَمَالِ مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ. وَعَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَجْرِي الْخِلَافُ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ أَيْضًا إِذَا قُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ وَكَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.

فَرْعٌ اللُّقَطَةُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى الْمُلْتَقِطِ. وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى الْمَالِكِ الْخِلَافُ فِي الْمَغْصُوبِ وَالضَّالِّ ثُمَّ إِنْ لَمْ يُعَرِّفْهَا حَوْلًا، فَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ السِّنِينَ، وَإِنْ عَرَّفَهَا بُنِيَ حُكْمُ الزَّكَاةِ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ، مَتَى تَمَلَّكَ اللُّقَطَةَ؟ بِمُضِيِّ سَنَةِ التَّعْرِيفِ، أَمْ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، أَمْ بِالتَّصَرُّفِ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ بِانْقِضَائِهَا، فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْمَالِكِ، وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى الْمُلْتَقِطِ وَجْهَانِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا، فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ. وَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ طَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: كَالسَّنَةِ الْأُولَى. وَالثَّانِي: لَا زَكَاةَ قَطْعًا؛ لِتَسَلُّطِ الْمُلْتَقِطِ عَلَيْهَا. وَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْمُلْتَقِطُ لَمْ تَجِبْ زَكَاتُهَا عَلَى الْمَالِكِ، لَكِنَّهُ تُسْتَحَقُّ قِيمَتُهَا عَلَى الْمُلْتَقِطِ، فَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ خِلَافٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: كَوْنُهَا دَيْنًا. وَالثَّانِي: كَوْنُهَا مَالًا ضَالًّا. ثُمَّ الْمُلْتَقِطُ مَدْيُونٌ بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهَا فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ الْخِلَافُ الَّذِي نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الدَّيْنَ هَلْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؟ . وَإِنْ مَلَكَ غَيْرَهَا وَمَا بَقِيَ بِالْقِيمَةِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالتَّصَرُّفِ وَلَمْ يَتَصَرَّفْ، فَحُكْمُهُ كَمَا إِذَا لَمْ يَتَمَلَّكْ وَقُلْنَا: لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَوْ وَجَدَ الْمَالِكَ بَعْدَ تَمَلُّكِهَا، فَرَدَّ اللُّقَطَةَ إِلَيْهِ - تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، وَفِي تَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنِ اسْتِرْدَادِهَا قَهْرًا وَجْهَانِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ مُعَرَّضَةً لِلسُّقُوطِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْعُدُ التَّرَدُّدُ فِي امْتِنَاعِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ قُلْنَا: الدَّيْنُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ كَالتَّرَدُّدِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ مَعَ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ تَمَلُّكِهِ لِكَوْنِهِ مُعَرَّضًا لِلزَّوَالِ.

فصل

فَصْلٌ الدَّيْنُ هَلْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا - وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ -: لَا يَمْنَعُ، وَالثَّانِي: يَمْنَعُ، قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَاخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالثَّالِثُ: يَمْنَعُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ، وَلَا يَمْنَعُ فِي الظَّاهِرَةِ وَهِيَ الْمَاشِيَةُ، وَالزَّرْعُ، وَالثَّمَرُ، وَالْمَعْدِنُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ نَامِيَةٌ بِنَفْسِهَا، وَهَذَا الْخِلَافُ جَارٍ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ أَمْ لَا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: يُمْنَعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، فَعِنْدَ اخْتِلَافِهِ وَجْهَانِ. فَإِذَا قُلْنَا: الدَّيْنُ يَمْنَعُ فَأَحَاطَتْ بِالرَّجُلِ دُيُونٌ وَحَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ وَيُفَرَّقَ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، فَيَزُولَ مِلْكُهُ وَلَا زَكَاةَ، وَالثَّانِي: أَنْ يُعَيَّنَ لِكُلِّ غَرِيمٍ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ، وَيُمَكِّنُهُمْ مِنْ أَخَذِهِ، فَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَخْذِهِمْ - فَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِضَعْفِ مِلْكِهِ، وَقِيلَ: فِيهِ خِلَافُ الْمَغْصُوبِ، وَقِيلَ: خِلَافُ اللُّقَطَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، قَالَهُ الْقَفَّالُ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُفَرَّقَ مَالُهُ، وَلَا يُعَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْئًا، وَيَحُولُ الْحَوْلُ فِي دَوَامِ الْحَجْرِ، فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَغْصُوبِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ، وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ فِي الْمَوَاشِي؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي نَمَائِهَا. وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فَعَلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ نَمَاءَهُمَا بِالتَّصَرُّفِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: الدَّيْنُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ، فَفِي عِلَّتِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: ضَعْفُ مِلْكِ الْمَدْيُونِ،

وَالثَّانِي أَنَّ مُسْتَحِقَّ الدَّيْنِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ. فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا عَلَى الْمَدْيُونِ أَيْضًا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَثْنِيَةِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ الْوَاحِدِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَسَائِلُ. أَحَدُهَا: لَوْ كَانَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ كَالذِّمِّيِّ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَا تَجِبُ. وَعَلَى الثَّانِي: تَجِبُ. الثَّانِيَةُ: لَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَيَوَانًا بِأَنْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً سَائِمَةً، وَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ شَاةً سَلَمًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا تَجِبُ، وَعَلَى الثَّانِي: تَجِبُ. وَمِثْلُهُ: لَوْ أَنْبَتَتْ أَرْضُهُ نِصَابًا مِنَ الْحِنْطَةِ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ سَلَمًا. الثَّالِثَةُ: لَوْ مَلَكَ نِصَابًا وَالدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ دُونَ نِصَابٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا زَكَاةَ، وَعَلَى الثَّانِي: تَجِبُ، كَذَا أَطْلَقُوهُ. وَمُرَادُهُمْ: إِذَا لَمْ يَمْلِكْ صَاحِبُ الدَّيْنِ غَيْرَهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ، فَلَوْ مَلَكَ مَا يُتِمُّ النِّصَابَ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَالِ. وَقَطَعَ الْأَكْثَرُونَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْأَوَّلُ. وَلَوْ مَلَكَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ كَالْعَقَارِ وَغَيْرِهِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي النِّصَابِ الزَّكَوِيِّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ بِنَاءً عَلَى عِلَّةِ التَّثْنِيَةِ. وَلَوْ زَادَ الْمَالُ الزَّكَوِيُّ عَلَى الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْفَاضِلُ نِصَابًا، وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيهِ. وَفِي الْبَاقِي الْقَوْلَانِ، وَإِلَّا لَمْ تَجِبْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَا فِي قَدْرِ الدَّيْنِ وَلَا فِي الْفَاضِلِ. فَرْعٌ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً، فَاحْتَاجَ مَنْ يَرْعَاهَا، فَحَالَ الْحَوْلُ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ بِشَاةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْأَرْبَعِينَ مُخْتَلِطَةٍ بِبَاقِيهَا، وَجَبَ شَاةٌ عَلَى الرَّاعِي، مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَالْبَاقِي عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ. وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ بِشَاةٍ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَالٌ آخَرُ يَفِي بِهَا، وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي الْأَرْبَعِينَ، وَإِلَّا فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الدَّيْنَ هَلْ يَمْنَعُ وُجُوبَهَا؟

فَرْعٌ إِذَا مَلَكَ مَالَيْنِ زَكَوِيَّيْنِ، كَنِصَابٍ مِنَ الْغَنَمِ وَنِصَابٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ مَا يَمْلِكُهُ، قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: يُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَا يَنْقُصُ بِهِ عَنِ النِّصَابِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ وَصَاحِبُ «الشَّامِلِ» أَنَّهُ يُرَاعَى الْأَغْبَطُ لِلْمَسَاكِينِ، كَمَا لَوْ مَلَكَ مَالًا آخَرَ غَيْرَ زَكَوِيٍّ، صَرَفْنَا الدَّيْنَ إِلَيْهِ رِعَايَةً لِحَقِّهِمْ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ مَا يُوَافِقُ هَذَا. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: الدَّيْنُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِيمَا هُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ أَحَدِهِمَا، وَإِلَّا اخْتُصَّ بِالْجِنْسِ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: الدَّيْنُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ، فَسَوَاءٌ دَيْنُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ، فَلَوْ مَلَكَ نِصَابَ مَاشِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَنَذَرَ التَّصَدُّقَ بِهَذَا الْمَالِ، أَوْ بِكَذَا مِنْ هَذَا الْمَالِ، فَمَضَى الْحَوْلُ قَبْلَ التَّصَدُّقِ - فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِمَنْعِ الزَّكَاةِ؛ لِتَعَلُّقِ النَّذْرِ بِعَيْنِ الْمَالِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الدَّيْنِ. وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذَا الْمَالَ صَدَقَةً، أَوْ هَذِهِ الْأَغْنَامَ ضَحَايَا، أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ، وَقُلْنَا: تَتَعَيَّنُ لِلتَّضْحِيَةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ - فَالْمَذْهَبُ: لَا زَكَاةَ، وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ. وَلَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِأَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ، أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُضِفْ إِلَى مَاشِيَتِهِ وَدَرَاهِمِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: دَيْنُ الْآدَمِيِّ لَا يَمْنَعُ، فَهَذَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ هَذَا الدَّيْنَ لَا مُطَالَبَةَ بِهِ فِي الْحَالِ، فَهُوَ أَضْعَفُ؛ وَلِأَنَّ النَّذْرَ يُشْبِهُ

فصل

التَّبَرُّعَاتِ، فَإِنَّ النَّاذِرَ مُخَيَّرٌ فِي ابْتِدَاءِ نَذْرِهِ، فَالْوُجُوبُ بِهِ أَضْعَفُ. وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى نِصَابٍ فِي مِلْكِهِ، هَلْ يَكُونُ وُجُوبُ الْحَجِّ دَيْنًا مَانِعًا مِنَ الزَّكَاةِ؟ حُكْمُهُ حُكْمُ دَيْنِ النَّذْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ، فَمَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَاجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالزَّكَاةُ فِي تَرِكَتِهِ - فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَظْهَرُهَا أَنَّ الزَّكَاةَ تُقَدَّمُ كَمَا تُقَدَّمُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ يُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَى الْغُرَمَاءِ. وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ دَيْنُ الْآدَمِيِّ كَمَا يُقَدَّمُ الْقِصَاصُ عَلَى حَدِّ السَّرِقَةِ. وَالثَّالِثُ: يَسْتَوِيَانِ فَيُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا. وَقِيلَ: تُقَدَّمَ الزَّكَاةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَيْنِ قَطْعًا، وَالْأَقْوَالُ فِي اجْتِمَاعِ الْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا فِيمَا يُسْتَرْسَلُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَقَدْ تَكُونُ الزَّكَاةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِأَنْ يَتْلَفَ مَالُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَهُ مَالٌ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالذِّمَّةِ. فَصْلٌ إِذَا أَحْرَزَ الْغَانِمُونَ الْغَنِيمَةَ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَجِّلَ قِسْمَتَهَا، وَيُكْرَهُ لَهُ التَّأْخِيرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِذَا قَسَّمَ، فَكُلُّ مَنْ أَصَابَهُ مَالٌ زَكَوِيُّ وَهُوَ نِصَابٌ، أَوْ بَلَغَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ مِلْكِهِ نِصَابًا، ابْتَدَأَ مِنْ حِينَئِذٍ حَوْلَهُ، وَلَوْ تَأَخَّرَتِ الْقِسْمَةُ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ حَوْلًا، فَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا التَّمَلُّكَ فَلَا زَكَاةَ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَانِمِينَ، أَوْ مَمْلُوكَةٌ مِلْكًا فِي غَايَةٍ مِنَ الضَّعْفِ، يَسْقُطُ بِالْأَعْرَاضِ. وَلِلْإِمَامِ فِي قِسْمَتِهَا أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ أَوْ بَعْضِ الْأَعْيَانِ إِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا فِي سَائِرِ الْقَسْمِ إِلَّا بِالتَّرَاضِي، وَإِنِ اخْتَارُوا التَّمَلُّكَ وَمَضَى حَوْلٌ مِنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ أَصْنَافًا فَلَا زَكَاةَ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي جَمِيعِهَا أَوْ بَعْضِهَا؛

فصل

لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَدْرِي مَا يُصِيبُهُ وَكَمْ يُصِيبُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا صِنْفٌ زَكَوِيٌّ، وَبَلَغَ نَصِيبُ كَلِّ وَاحِدٍ نِصَابًا فَعَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ. وَإِنْ بَلَغَ مَجْمُوعُ أَنْصِبَائِهِمْ نِصَابًا، وَكَانَتْ مَاشِيَةً، وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَهُمْ خُلَطَاءُ. وَكَذَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَاشِيَةٍ وَأَثْبَتْنَا الْخُلْطَةَ فِيهِ. وَلَوْ كَانَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ تَتِمُّ بِالْخُمُسِ نِصَابًا، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ مَعَ أَهْلِ الْخُمُسِ لَا تَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَأَشْبَهَ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَالرُّبُطِ. هَذَا حُكْمُ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَلَنَا وَجْهٌ قَطَعَ بِهِ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ قَبْلَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ بِحَالٍ، وَوَجْهٌ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي حَالِ عَدَمِ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: إِنْ قُلْنَا: الْغَنِيمَةُ لَا تُمْلَكُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ قُلْنَا: تُمْلَكُ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: لَا زَكَاةَ؛ لِضَعْفِ الْمِلْكِ، وَالثَّانِي: تَجِبُ؛ لِوُجُودِ الْمِلْكِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ فِيهَا مَا لَيْسَ زَكَوِيًّا فَلَا زَكَاةَ، وَإِلَّا وَجَبَتْ. فَصْلٌ إِذَا أَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ شَاةً سَائِمَةً بِأَعْيَانِهَا، لَزِمَهَا الزَّكَاةُ إِذَا تَمَّ حَوْلُهَا مِنْ يَوْمِ الْإِصْدَاقِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ قَبِضَتْهَا أَمْ لَا، وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأُجْرَةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهَا مَا لَمْ تَقْبِضْهَا، لَا زَكَاةَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى الزَّوْجِ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ ضَمَانَ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهَا مُطْلَقًا، فَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ، عَادَ نِصْفُهَا إِلَى الزَّوْجِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيَّزًا، فَهُمَا خَلِيطَانِ، فَعَلَيْهَا عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ مِنْ يَوْمِ الْإِصْدَاقِ نِصْفُ شَاةٍ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ نِصْفُ شَاةٍ، وَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ.

فصل

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أُخْرِجَتِ الزَّكَاةُ مِنْ نَفْسِ الْمَاشِيَةِ، فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: نِصْفُ الْجُمْلَةِ، فَإِنْ تَسَاوَتْ قِيمَةُ الْغَنَمِ، أَخَذَ مِنْهَا عِشْرِينَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَخَذَ النِّصْفَ بِالْقِيمَةِ، وَالثَّانِي: نِصْفُ الْغَنَمِ الْبَاقِيَةِ، وَنِصْفُ قِيمَةِ الشَّاةِ الْمُخْرَجَةِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْجَمِيعَ وَيَرْجِعَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي كَذَا صَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَهَا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: يَأْخُذُ نِصْفَ الْأَرْبَعِينَ، وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُخْرِجَهَا أَصْلًا. فَالْمَذْهَبُ أَنَّ نِصْفَ الْأَرْبَعِينَ يَعُودُ إِلَى الزَّوْجِ شَائِعًا، فَإِذَا جَاءَ السَّاعِي وَأَخَذَ مِنْ عَيْنِهَا شَاةً، رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهَا. فَصْلٌ إِذَا أَجَّرَ دَارًا أَرْبَعَ سِنِينَ بِمِائَةِ دِينَارٍ مُعَجَّلَةٍ وَقَبِضَهَا، فَفِي كَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الْأُولَى زَكَاةُ جَمِيعِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ تَامٌّ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ صَاحِبَيِ الْمُهَذَّبِ وَ «الشَّامِلِ» ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ سَنَةٍ إِلَّا زَكَاةُ الْقَدْرِ الَّذِي اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالثَّانِي، أَخْرَجَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الْأُولَى زَكَاةَ رُبُعِ الْمِائَةِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَثْمَانِ دِينَارٍ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى خَمْسِينَ دِينَارًا سَنَتَيْنِ، فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا لِلسَّنَتَيْنِ، وَهِيَ دِينَارَانِ وَنِصْفٌ، لَكِنَّهُ أَخْرَجَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى خَمْسَةَ

أَثْمَانِ دِينَارٍ، فَيَسْقُطُ وَيَجِبُ الْبَاقِي، وَهُوَ دِينَارٌ وَسَبْعَةُ أَثْمَانٍ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ، اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا ثَلَاثَ سِنِينَ، وَزَكَاتُهَا فِيهَا خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ أَثْمَانِ دِينَارٍ، أَخْرَجَ مِنْهَا فِي السَّنَتَيْنِ دِينَارَيْنِ وَنِصْفًا، فَيُخْرِجُ الْبَاقِي، فَإِذَا مَضَتِ الرَّابِعَةُ، اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى الْمِائَةِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَزَكَاتُهَا فِيهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، أَخْرَجَ مِنْهَا خَمْسَةً وَخَمْسَةَ أَثْمَانٍ، فَيُخْرِجُ الْبَاقِي، هَذَا إِذَا أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الْمِائَةِ، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْهَا وَاجِبَ السَّنَةِ الْأُولَى، فَعِنْدَ تَمَامِ الثَّانِيَةِ يُخْرِجُ زَكَاةَ الْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ الْأُولَى سِوَى مَا أَخْرَجَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَزَكَاةُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أُخْرَى لِسَنَتَيْنِ، وَعِنْدَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ يُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الْأُولَى زَكَاةَ الْمِائَةِ، وَكَذَلِكَ كُلَّ سَنَةٍ إِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ عَيْنِهَا، زَكَّى كُلَّ سَنَةٍ مَا بَقِيَ. وَاخْتَلَفَ الْعِرَاقِيُّونَ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَطَائِفَةٌ: هُمَا فِي نَفْسِ الْوُجُوبِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ وَشِيعَتُهُ: الْوُجُوبُ ثَابِتٌ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِخْرَاجِ، وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: إِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ السَّنَتَيْنِ مُتَسَاوِيَةً، فَإِنْ تَفَاوَتَتْ، زَادَ الْقَدْرُ الْمُسْتَقِرُّ فِي بَعْضِ السَّنَتَيْنِ عَلَى رُبُعِ الْمِائَةِ، وَنَقَصَ فِي بَعْضِهَا، فَإِنْ قِيلَ: هَلْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمِائَةُ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ نَقَدَهَا، أَوْ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ بِمِائَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَمْ لَا فَرْقَ؟ الْجَوَابُ، أَنَّ كَلَامَ نَقْلَةِ الْمَذْهَبِ يَشْمَلُ الْحَالَتَيْنِ، وَلَمْ أَرَ فِيهَا نَصًّا وَتَفْصِيلًا إِلَّا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ زَكَاةُ كُلِّ الْمِائَةِ، إِذَا حَالَ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَى مَا أَخَذَ، حَتَّى لَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ، لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ، بَلْ لَهُ رَدُّ مِثْلِهِ، وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، قَالَ: حُكْمُ الزَّكَاةِ حُكْمُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَحَقُّ بِالْخِلَافِ مِنَ الْأُولَى، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي اخْتِيَارٌ لِلْوُجُوبِ فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا.

باب أداء الزكاة

فَرْعٌ إِذَا بَاعَ شَيْئًا بِنِصَابٍ مِنَ النَّقْدِ وَقَبَضَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، وَخَرَّجُوا عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا إِذَا مَا أَسْلَمَ نِصَابًا فِي ثَمَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، وَقُلْنَا: إِنَّ تَعَذُّرَ الْمُسَلَّمِ فِيهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْخِيَارَ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ قَطْعًا. فَرْعٌ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِنِصَابٍ وَمَاتَ الْمُوصِي، وَمَضَى حَوْلٌ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي الْوَصِيَّةِ يَحْصُلُ بِالْمَوْتِ، فَعَلَى الْمُوصَى لَهُ الزَّكَاةُ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ بِالْقَبُولِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنْ أَبْقَيْنَاهُ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي، فَلَا زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لِلْوَارِثِ فَهَلْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَقُبِلَ، بَانَ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِالْمَوْتِ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ. بَابُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ، ثُمَّ الْأَدَاءُ يَفْتَقِرُ إِلَى فِعْلٍ وَنِيَّةٍ. أَمَّا الْفِعْلُ، فَثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ.

أَحَدُهَا: أَنْ يُفَرِّقَ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ، وَالرِّكَازُ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ. قُلْتُ: وَفِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَجْهٌ، أَنَّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، حَكَاهُ فِي الْبَيَانِ وَنَقَلَهُ فِي الْحَاوِي عَنِ الْأَصْحَابِ مُطْلَقًا، وَاخْتَارَ أَنَّهَا بَاطِنَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ، نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ الْمَوَاشِي، وَالْمُعَشَّرَاتُ، وَالْمَعَادِنُ، فَفِي جَوَازِ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: يَجُوزُ، وَالْقَدِيمُ: لَا يَجُوزُ، بَلْ يَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى الْإِمَامِ إِنْ كَانَ عَادِلًا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَلَا يَجِبُ، وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ؛ لِنَفَاذِ حُكْمِهِ وَعَدَمِ انْعِزَالِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ فَرَّقَ بِنَفْسِهِ لَمْ تُحْسَبْ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ مَا دَامَ يَرْجُو مَجِيءَ السَّاعِي، فَإِذَا أَيِسَ، فَرَّقَ بِنَفْسِهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْإِمَامِ وَهُوَ جَائِزٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يُوكَلَ فِي الصَّرْفِ إِلَى الْإِمَامِ، أَوِ التَّفْرِقَةُ عَلَى الْأَصْنَافِ حَيْثُ تَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ. وَأَمَّا أَفْضَلُ هَذِهِ الْأَضْرُبُ، فَتَفْرِقَتُهُ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنَ التَّوْكِيلِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يَخُونُ، فَلَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنِ الْمُوَكِّلِ، وَأَمَّا الْأَفْضَلُ مِنَ الضَّرْبَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَإِنْ كَانَتِ الْأَمْوَالُ بَاطِنَةً فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ: الدَّفْعُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ سُقُوطَ الْفَرْضِ بِهِ، بِخِلَافِ تَفْرِقَتِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَدْفَعُ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، وَالثَّانِي: بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَوْثَقُ، وَلْيُبَاشِرَ الْعِبَادَةَ، وَلْيَخُصَّ الْأَقَارِبَ وَالْجِيرَانَ وَالْأَحَقَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَمْوَالُ ظَاهِرَةً، فَالصَّرْفُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ قَطْعًا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَطَرَدَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ الْخِلَافَ. ثُمَّ حَيْثُ قُلْنَا: الصَّرْفُ إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى، فَذَاكَ إِذَا كَانَ عَادِلًا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَالْعَادِلِ، وَأَصَحُّهُمَا: التَّفْرِيقُ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ، وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الْجَائِرِ، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ.

قُلْتُ: وَالدَّفْعُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنَ الْوَكِيلِ قَطْعًا، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي وَوَجْهُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ طَلَبَ الْإِمَامُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَجَبَ التَّسْلِيمُ إِلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، بَذْلًا لِلطَّاعَةِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا، قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ وَإِنْ أَجَابُوا إِلَى إِخْرَاجِهَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا الْإِمَامُ وَلَمْ يَأْتِ السَّاعِي، أَخَّرَهَا رَبُّ الْمَالِ مَا دَامَ يَرْجُو مَجِيءَ السَّاعِي، فَإِذَا أَيِسَ فَرَّقَ بِنَفْسِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِ تَفْرِقَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، صِيَانَةً لِحَقِّ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنِ التَّأْخِيرِ، ثُمَّ إِذَا فَرَّقَ بِنَفْسِهِ وَجَاءَ السَّاعِي مُطَالِبًا، صُدِّقَ رَبُّ الْمَالِ بِيَمِينِهِ، وَالْيَمِينُ وَاجِبَةٌ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: وَاجِبَةٌ، فَنَكَلَ، أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ لَا بِالنُّكُولِ، بَلْ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْيَمِينَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْبَاطِنَةُ، فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ لِلْوُلَاةِ نَظَرٌ فِي زَكَاتِهَا، وَأَرْبَابُهَا أَحَقُّ بِهَا، فَإِنْ بَذَلُوهَا طَوْعًا، قَبِلَهَا الْوَالِي، فَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ مِنْ رَجُلٍ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّيهَا بِنَفْسِهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِمَّا أَنْ تَدْفَعَ بِنَفْسِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَدْفَعَ إِلَيَّ حَتَّى أُفَرِّقَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ يَجْرِيَانِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ وُجُوبُ هَذَا الْقَوْلِ إِزَالَةً لِلْمُنْكَرِ، وَلَوْ طَلَبَ السَّاعِي زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ، لَا يَلْزَمُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ، وَهَلْ يَجُوزُ الِامْتِنَاعُ مِنْ دَفْعِ الْوَاجِبِ لِتَعَدِّيهِ، أَمْ لَا يَجُوزُ خَوْفًا مِنْ مُخَالَفَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا النِّيَّةُ، فَوَاجِبَةٌ قَطْعًا، وَهَلْ تَتَعَيَّنُ بِالْقَلْبِ، أَمْ يَقُومُ النُّطْقُ بِاللِّسَانِ مَقَامَهَا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَعَيَّنُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَأَشْهَرُهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: عَلَى قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا: تَتَعَيَّنُ، وَالثَّانِي: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى اللِّسَانِ. ثُمَّ صِفَةُ النِّيَّةِ أَنْ يَنْوِيَ: هَذَا فَرْضُ زَكَاةِ مَالِي، أَوْ فَرْضُ صَدَقَةِ مَالِي،

أَوْ زَكَاةُ مَالِي الْمَفْرُوضَةِ، أَوِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَلَا يَكْفِي التَّعَرُّضُ لِفَرْضِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ كَفَّارَةً وَنَذْرًا، وَلَا يَكْفِي مُطْلَقُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ نَوَى الزَّكَاةَ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ أَجْزَأَهُ، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ نَوَى الظُّهْرَ فَقَطْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الظُّهْرَ قَدْ تَقَعُ نَفْلًا، وَلَا تَقَعُ الزَّكَاةُ إِلَّا فَرْضًا، وَلَا يَجِبُ تَعْيِينُ الْمَالِ الْمُزَكَّى، فَلَوْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَاضِرَةً، وَمِائَتَيْنِ غَائِبَةً، فَأَخْرَجَ عَشْرَةً بِلَا تَعْيِينٍ، جَازَ، وَكَذَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً وَخَمْسَةَ أَبْعِرَةٍ، فَأَخْرَجَ شَاتَيْنِ بِلَا تَعْيِينٍ، أَجْزَأَهُ، وَلَوْ أَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مُطْلَقًا، ثُمَّ بَانَ تَلَفُ أَحَدِ الْمَالَيْنِ أَوْ تَلَفُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُخْرَجَ عَنِ الْبَاقِي، فَلَوْ عَيَّنَ مَالًا، لَمْ يَنْصَرِفْ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الْخَمْسَةَ عَنِ الْغَائِبِ، فَبَانَ تَالِفًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إِلَى الْحَاضِرِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ، إِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَبَانَ تَالِفًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إِلَى الْحَاضِرِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ عَنِ الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَهِيَ صَدَقَةٌ، أَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ الْغَائِبُ بَاقِيًا، فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، وَإِلَّا فَهِيَ صَدَقَةٌ، جَازَ، لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْغَائِبِ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى زَكَاةِ الْغَائِبِ، حَتَّى لَوْ بَانَ تَالِفًا، لَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ إِلَّا إِذَا صَرَّحَ فَقَالَ: هَذِهِ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ، فَإِنْ بَانَ تَالِفًا اسْتَرَدَّهَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الْخَمْسَةَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مُوَرِّثِي مَاتَ وَوَرِثْتُ مَالَهُ، فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، فَبَانَ أَنَّهُ وَرِثَهُ، لَا يُحْسَبُ الْمُخْرَجُ زَكَاةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِرْثِ، وَهُنَا الْأَصْلُ بَقَاءُ الْمَالِ، وَالتَّرَدُّدُ اعْتَضَدَ بِالْأَصْلِ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ: أَصُومُ غَدًا إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، يَصِحُّ، وَلَوْ قَالَ فِي أَوَّلِهِ: أَصُومُ غَدًا إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْإِرْثِ. أَمَّا إِذَا قَالَ: هَذِهِ زَكَاةُ الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَعَنِ الْحَاضِرِ، فَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: إِنْ كَانَ الْغَائِبُ بَاقِيًا، وَقَعَ عَنْهُ، وَإِلَّا وَقَعَ عَنِ الْحَاضِرِ، وَلَا يَضُرُّ التَّرَدُّدُ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ قَالَ: هَذِهِ عَنِ الْحَاضِرِ أَوِ الْغَائِبِ، أَجْزَأَهُ، وَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ لِلْآخَرِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ إِنْ كَانَ دَخَلَ وَإِلَّا

فَعَنِ الْفَائِتَةِ لَا تُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ، وَعَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ تَرَدَّدَ فِي إِجْزَائِهِ عَنِ الْحَاضِرِ، وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ عَنِ الْغَائِبِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِلَّا فَعَنِ الْحَاضِرِ، أَوْ هِيَ صَدَقَةٌ، وَكَانَ الْغَائِبُ تَالِفًا - لَمْ يَقَعْ عَنِ الْحَاضِرِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ سَالِمًا فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، أَوْ نَافِلَةً وَكَانَ سَالِمًا - لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصِ الْقَصْدَ عَنِ الْفَرْضِ، وَقَوْلُنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ: مَالٌ غَائِبٌ، يُتَصَوَّرُ إِذَا كَانَ غَائِبًا فِي بَلَدٍ آخَرَ - وَجَوَّزْنَا نَقْلَ الصَّدَقَةِ - أَوْ مَعَهُ فِي الْبَلَدِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ مَجْلِسِهِ. فَرْعٌ إِذَا نَابَ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَالِكِ غَيْرُهُ، فَلَهُ صُوَرٌ. مِنْهَا: نِيَابَةُ الْوَلِيِّ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ، قَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ: فَلَوْ دَفَعَ بِلَا نِيَّةٍ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَتَوَلَّى السُّلْطَانُ قَسْمَ زَكَاةِ إِنْسَانٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى السُّلْطَانِ طَوْعًا، أَوْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ كَرْهًا، فَإِنْ دَفَعَ طَوْعًا وَنَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ، كَفَى، وَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ السُّلْطَانِ عِنْدَ التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمَسَاكِينِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمَالِكُ، وَنَوَى السُّلْطَانُ أَوْ لَمْ يَنْوِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُجْزِئُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالثَّانِي: لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمَسَاكِينِ، وَلَوْ دَفَعَ الْمَالِكُ إِلَى الْمَسَاكِينِ بِلَا نِيَّةٍ، لَمْ يُجْزِئْهُ، فَكَذَا نَائِبُهُمْ، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَصَاحِبَيِ الْمُهَذَّبِ وَالتَّهْذِيبِ وَجُمْهُورِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَحَمَلُوا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمُمْتَنِعِ: يُجْزِئُهُ الْمَأْخُوذُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ. لَكِنْ نَصَّ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَائِعًا كَانَ أَوْ كَارِهًا، وَأَمَّا إِذَا امْتَنَعَ مِنْ دَفْعَ الزَّكَاةَ، فَيَأْخُذُهَا مِنْهُ السُّلْطَانُ كَرْهًا، وَلَا يَأْخُذُ إِلَّا قَدْرَ الزَّكَاةِ عَلَى الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَأْخُذُ مَعَ الزَّكَاةِ شَطْرَ مَالِهِ.

قُلْتُ: الْمَشْهُورُ هُوَ الْجَدِيدُ، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ «يَأْخُذُ شَطْرَ مَالِهِ» ضَعَّفَهُ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمُخْتَارُ. وَأَمَّا جَوَابُ مَنْ أَجَابَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَضَعِيفٌ، فَإِنَّ النَّسْخَ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ هُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنْ نَوَى الْمُمْتَنِعُ حَالَ الْأَخْذِ مِنْهُ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى نِيَّةِ الْإِمَامِ، وَإِلَّا فَإِنْ نَوَى الْإِمَامُ أَجْزَأَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَلَا يُطَالَبُ ثَانِيًا، وَهَلْ يُجْزِئُهُ بَاطِنًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُهُ كَوَلِيِّ الصَّبِيِّ، تَقُومُ نِيَّتُهُ مَقَامَ نِيَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ، لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ فِي الْبَاطِنِ قَطْعًا، وَلَا فِي الظَّاهِرِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ تَجِبُ النِّيَّةُ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ تَقُومُ نِيَّتُهُ مَقَامَ نِيَّةِ الْمَالِكِ، وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: لَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَالِكِ بَاطِنًا، لَمْ تَجِبِ النِّيَّةُ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تَجِبُ، كَالْوَلِيِّ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِئَلَّا يَتَهَاوَنَ الْمَالِكُ فِيمَا هُوَ مُتَعَبَّدٌ بِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُوكِلَ مَنْ يُفَرِّقُ زَكَاتَهُ، فَإِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْوَكِيلِ، وَنَوَى الْوَكِيلُ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، فَهُوَ الْأَكْمَلُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، أَوْ لَمْ يَنْوِ الْمُوَكِّلُ - لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ عِنْدَ الدَّفْعِ وَلَمْ يَنْوِ الْوَكِيلُ، فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا فَرَّقَ بِنَفْسِهِ، هَلْ يُجْزِئُهُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى التَّفْرِقَةِ؟ وَالْأَصَحُّ الْإِجْزَاءُ كَالصَّوْمِ؛ لِلْعُسْرِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ سَدُّ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَعَلَى هَذَا يَكْفِي نِيَّةُ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْوَكِيلِ، وَعَلَى الثَّانِي: يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْوَكِيلِ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا وَفَوَّضَ النِّيَّةَ إِلَيْهِ، جَازَ، كَذَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَالْوَسِيطِ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ. فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ السُّعَاةَ لِأَخْذِ الزَّكَوَاتِ. وَالْأَمْوَالُ ضَرْبَانِ: مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ، وَمَا لَا يُعْتَبَرُ كَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فَهَذَا يَبْعَثُ السُّعَاةَ فِيهِ لِوَقْتِ وُجُوبِهِ، وَهُوَ إِدْرَاكُ الثِّمَارِ وَاشْتِدَادُ الْحَبِّ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَوْلُ مُخْتَلِفٌ فِي حَقِّ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي لِلسَّاعِي أَنْ يُعَيِّنَ شَهْرًا فَيَأْتِيَهِمْ فِيهِ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّهْرُ الْمُحَرَّمَ، صَيْفًا كَانَ أَوْ شِتَاءً، فَإِنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَعْيِينِ الشَّهْرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ: يَجِبُ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِي آخِرِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ الْمُحَرَّمِ؛ لِيَصِلَهُمْ فِي أَوَّلِهِ، ثُمَّ إِذَا جَاءَهُمْ فَمَنْ تَمَّ حَوْلُهُ أَخَذَ زَكَاتَهُ، وَمَنْ لَمْ يَتِمَّ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ اسْتَنَابَ مَنْ يَأْخُذُ زَكَاتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ إِلَى مَجِيئِهِ مِنْ قَابِلٍ، فَإِنْ وَثِقَ بِهِ فَوَّضَ التَّفْرِيقَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْمَاشِيَةُ تَرِدُ الْمَاءَ أَخَذَ زَكَاتَهَا عَلَى مِيَاهِهِمْ، وَلَا يُكَلِّفُهُمْ رَدَّهَا إِلَى الْبَلَدِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتْبَعَ الْمَرَاعِيَ، فَإِنْ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ مَاءَانِ، أَمَرَ بِجَمْعِهَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا، وَإِنِ اكْتَفَتِ الْمَاشِيَةُ بِالْكَلَأِ فِي وَقْتِ الرَّبِيعِ وَلَمْ تَرِدِ الْمَاءَ، أَخَذَ الزَّكَاةَ فِي بُيُوتِ أَهْلِهَا وَأَفْنِيَتِهِمْ. هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ، وَمُقْتَضَاهُ تَجْوِيزُ تَكْلِيفِهِمُ الرَّدَّ إِلَى الْأَفْنِيَةِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَةَ عَدَدِهَا فَأَخْبَرَهُ الْمَالِكُ، وَكَانَ ثِقَةً، صَدَّقَهُ، وَإِلَّا عَدَّهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ تُجْمَعَ فِي حَظِيرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَيُنْصَبَ

عَلَى الْبَابِ خَشَبَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَتُسَاقَ لِتَخْرُجَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَتُثْبَتُ كُلُّ شَاةٍ إِذَا بَلَغَتِ الْمَضِيقَ، فَيَقِفُ الْمَالِكُ أَوْ نَائِبُهُ مِنْ جَانِبٍ، وَالسَّاعِي أَوْ نَائِبُهُ مِنْ جَانِبٍ وَبِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضِيبٌ يُشِيرَانِ بِهِ إِلَى كُلِّ شَاةٍ، أَوْ يُصِيبَانِ بِهِ ظَهْرَهَا فَهُوَ أَضْبَطُ، فَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الْعَدِّ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ يَخْتَلِفُ بِهِ، أَعَادَ الْعَدَّ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ لِلسَّاعِي أَنْ يَدْعُوَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ دُعَاءٌ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَقُولَ: آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَجِبُ الدُّعَاءُ، حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ. وَكَمَا يُسْتَحَبُّ لِلسَّاعِي الدُّعَاءُ، يُسْتَحَبُّ أَيْضًا لِلْمَسَاكِينِ إِذَا فَرَّقَ عَلَيْهِمُ الْمَالِكُ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ صَارَتْ مَخْصُوصَةً فِي لِسَانِ السَّلَفِ بِالْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - وَكَمَا أَنَّ قَوْلَنَا: عَزَّ وَجَلَّ، صَارَ مَخْصُوصًا بِاللَّهِ تَعَالَى. فَكَمَا لَا يُقَالُ: مُحَمَّدٌ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا جَلِيلًا، لَا يُقَالُ: أَبُو بَكْرٍ أَوْ عَلِيٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّ الْمَعْنَى. وَهَلْ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، أَمْ هُوَ مُجَرَّدُ تَرْكِ أَدَبٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ شِعَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ شِعَارِهِمْ. وَالْمَكْرُوهُ: هُوَ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا لَهُمْ، فَيُقَالُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَتْبَاعِهِ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَمْتَنِعُوا مِنْهُ. وَقَدْ أُمِرْنَا بِهِ فِي التَّشَهُّدِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالسَّلَامُ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُفْرَدُ بِهِ غَائِبٌ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَلَا بَأْسَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُقَالُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.

باب تعجيل الزكاة

قُلْتُ: قَوْلُهُ: لَا بَأْسَ بِهِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَإِنَّهُ مَسْنُونٌ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ بِلَا شَكٍّ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَسْنُونِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ: لَا مَنْعَ مِنْهُ فِي الْمُخَاطَبَةِ بِخِلَافِ الْغَيْبَةِ، وَأَمَّا اسْتِحْبَابُهُ فِي الْمُخَاطَبَةِ فَمَعْرُوفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابُ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ التَّعْجِيلُ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ. وَحَكَى الْمُوَفَّقُ أَبُو طَاهِرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْعَ التَّعْجِيلِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ. ثُمَّ مَالُ الزَّكَاةِ ضَرْبَانِ: مُتَعَلِّقٌ بِالْحَوْلِ، وَغَيْرُ مُتَعَلِّقٍ. فَالْأَوَّلُ: يَجُوزُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ تَمَامِ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ الْعَيْنِيَّةِ. أَمَّا إِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَعَجَّلَ زَكَاةَ مِائَتَيْنِ، وَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ، فَيُجْزِئُهُ الْمُعَجَّلُ عَنِ الزَّكَاةِ، عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُرُوضِ بِآخِرِ الْحَوْلِ، وَلَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً مَعْلُوفَةً، فَعَجَّلَ شَاةً عَازِمًا أَنْ يُسَمِّيَهَا حَوْلًا، لَمْ يَقَعْ عَنِ الزَّكَاةِ إِذَا أَسَامَهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ لَيْسَتْ مَالَ زَكَاةٍ، فَهِيَ كَمَا دُونَ النِّصَابِ. وَإِنَّمَا يُعَجِّلُ بَعْدَ انْعِقَادِ حَوْلٍ. فَلَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ عَامَيْنِ فَصَاعِدًا، لَمْ يُجْزِئْهُ عَمَّا عَدَا السَّنَةِ الْأُولَى عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. مِنْهُمْ مُعْظَمُ الْعِرَاقِيِّينَ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي تَسَلُّفِ صَدَقَةِ عَامَيْنِ مِنَ الْعَبَّاسِ عَلَى التَّسَلُّفِ دُفْعَتَيْنِ. فَإِنْ جَوَّزْنَا مَا زَادَ، فَذَلِكَ إِذَا بَقِيَ مَعَهُ فِي بَعْدِ التَّعْجِيلِ نِصَابٌ كَامِلٌ، بِأَنْ مَلَكَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَعَجَّلَ شَاتَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَبْقَ نِصَابٌ كَامِلٌ، بِأَنْ مَلَكَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ فَعَجَّلَ شَاتَيْنِ مِنْهَا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ، فَإِنْ جَوَّزْنَا صَدَقَةَ عَامَيْنِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ تَقْدِيمَ زَكَاةٍ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى؟ وَجْهَانِ كَتَقْدِيمِ صَلَاةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى فِي الْجَمْعِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ.

حَكَاهُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ. وَلَوْ مَلَكَ نِصَابًا فَعَجَّلَ زَكَاةَ نِصَابَيْنِ، فَإِنْ كَانَ لِلتِّجَارَةِ بِأَنِ اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ عَرْضًا بِمِائَتَيْنِ، فَعَجَّلَ زَكَاةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَجَاءَ الْحَوْلُ وَهُوَ يُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةٍ - أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي الْمِائَتَيْنِ الزَّائِدَتَيْنِ وَجْهَانِ. فَإِنْ كَانَ زَكَاةَ عَيْنٍ، بِأَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَتَوَقَّعَ حُصُولَ مِائَتَيْنِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَعَجَّلَ زَكَاةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَحَصَلَ مَا تَوَقَّعَهُ - لَمْ يُجْزِئْهُ مَا أَخْرَجَهُ عَنِ الْحَادِثِ. وَإِنْ تَوَقَّعَ حُصُولَهُ مِنْ عَيْنِ مَا عِنْدَهُ، بِأَنْ مَلَكَ مِائَةً وَعِشْرِينَ شَاةً، فَعَجَّلَ شَاتَيْنِ ثُمَّ حَدَثَتْ سَخْلَةٌ، أَوْ مَلَكَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، فَعَجَّلَ شَاتَيْنِ، فَبَلَغَتْ بِالتَّوَالُدِ عَشْرًا، فَهَلْ يُجْزِئُهُ مَا أَخْرَجَهُ عَنِ النِّصَابِ الَّذِي كَمُلَ الْآنَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: لَا يُجْزِئُهُ. وَلَوْ عَجَّلَ شَاةً عَنْ أَرْبَعِينَ فَوَلَدَتْ أَرْبَعِينَ، فَهَلَكَتِ الْأُمَّاتُ، فَهَلْ يُجْزِئُهُ مَا أَخْرَجَ مِنَ السِّخَالِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ بِالْحَوْلِ، فَمِنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ، فَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي وَجْهٍ: يَجُوزُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، لَا مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ. وَفِي وَجْهٍ: يَجُوزُ قَبْلَ رَمَضَانَ. وَأَمَّا زَكَاةُ الثِّمَارِ، فَتَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَزَكَاةُ الزَّرْعِ بِاشْتِدَادِ الْحَبِّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ وُجُوبَ الْأَدَاءِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ يَثْبُتُ حِينَئِذٍ، وَالْإِخْرَاجُ يَجِبُ بَعْدَ الْجَفَافِ وَتَنْقِيَةِ الْحُبُوبِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْإِخْرَاجُ بَعْدَ مَصِيرِ الرُّطَبِ تَمْرًا، وَالْعِنَبِ زَبِيبًا لَيْسَ بِتَعْجِيلٍ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ حِينَئِذٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ قَبْلَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ، وَفِيمَا بَعْدَهُ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لَا قَبْلَهُ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ قَبْلَهُ مِنْ حِينِ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ، وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْجَفَافِ. وَأَمَّا الزُّرُوعُ، فَالْإِخْرَاجُ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِتَعْجِيلٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ قَبْلَ التَّسَنْبُلِ وَانْعِقَادِ الْحَبِّ. وَبَعْدَهُ: ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ: جَوَازُهُ بَعْدَ الِاشْتِدَادِ وَالْإِدْرَاكِ، وَمَنْعُهُ قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: جَوَازُهُ بَعْدَ التَّسَنْبُلِ وَانْعِقَادِ الْحَبِّ. وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ قَبْلَ التَّنْقِيَةِ.

فصل

فَرْعٌ عَدَّ الْأَئِمَّةُ مَا يُقَدَّمُ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَمَا لَا يُقَدَّمُ فِي هَذَا الْبَابِ. فَمِنْهَا: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَالْقَتْلُ، وَالظِّهَارُ، وَجَزَاءُ الصَّيْدِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي أَبْوَابِهَا. وَمِنْهَا: لَا يَجُوزُ لِلشَّيْخِ الْهَرِمِ وَالْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ تَقْدِيمُ الْفِدْيَةِ عَلَى رَمَضَانَ. وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْأُضْحِيَةِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ قَطْعًا، وَلَا كَفَّارَةِ الْوِقَاعِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَأَعْتَقَ قَبْلَ الشِّفَاءِ - لَا يُجْزِئُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ زَكَاةِ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ عَلَى الْحُصُولِ. فَصْلٌ شَرْطُ كَوْنِ الْمُعَجَّلِ مُجْزِئًا: بَقَاءُ الْقَابِضِ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، فَلَوِ ارْتَدَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ تُحْسَبْ عَنِ الزَّكَاةِ، وَإِنِ اسْتَغْنَى بِالْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، أَوْ بِهِ وَبِمَالٍ آخَرَ، لَمْ يَضُرَّ، وَإِنِ اسْتَغْنَى بِغَيْرِهِ لَمْ يُحْسَبْ عَنِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ عَرَضَ مَانِعٌ ثُمَّ زَالَ وَصَارَ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَمْ يَضُرَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّافِعِ بَقَاؤُهُ إِلَى آخِرِ الْحَوْلِ بِصِفَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، فَلَوِ ارْتَدَّ وَقُلْنَا: الرِّدَّةُ تَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، أَوْ مَاتَ، أَوْ تَلِفَ جَمِيعُ مَالِهِ، أَوْ بَاعَهُ، أَوْ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ - لَمْ يَكُنِ الْمُعَجَّلُ زَكَاةً، وَإِنْ أَبْقَيْنَا مِلْكَ الْمُرْتَدِّ، وَجَوَّزْنَا إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ - أَجْزَأَهُ الْمُعَجَّلُ. وَهَلْ يُحْسَبُ فِي صُورَةِ الْمَوْتِ عَنْ زَكَاةِ الْوَارِثِ؟ قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّ الْوَارِثَ يُبْنَى عَلَى حَوْلِ الْمَوْرُوثِ - أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ،

فَإِنْ قُلْنَا: يُحْسَبُ فَتَعَدَّدَتِ الْوَرَثَةُ، ثَبَتَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ بَيْنَهُمْ إِنْ كَانَ الْمَالُ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَ مَاشِيَةٍ وَقُلْنَا بِثُبُوتِ الْخُلْطَةِ فِيهِ. فَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: لَا يَثْبُتُ، وَنَقَصَ نَصِيبُ كَلِّ وَاحِدٍ عَنِ النِّصَابِ، أَوِ اقْتَسَمُوا وَنَقَصَ نَصِيبُ كَلِّ وَاحِدٍ عَنِ النِّصَابِ - فَيَنْقَطِعُ الْحَوْلُ وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى الثَّانِي: يَصِيرُونَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ. فَرْعٌ إِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ مِنَ الْمَالِكِ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ حَوْلُهُ مَالًا لِلْمَسَاكِينِ، فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: يَأْخُذُهُ بِحُكْمِ الْفَرْضِ، فَيُنْظَرُ، إِنِ اسْتَقْرَضَهُ بِسُؤَالِ الْمَسَاكِينِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِمْ، سَوَاءٌ تَلِفَ فِي يَدِهِ أَوْ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ. وَهَلْ يَكُونُ الْإِمَامُ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنْهُ وَيُرْجَعَ هُوَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَمْ لَا؟ نُظِرَ، إِنْ عَلِمَ الْمُقْرِضُ أَنَّهُ يَسْتَقْرِضُ لِلْمَسَاكِينِ بِإِذْنِهِمْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَسْتَقْرِضُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالِهِمْ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْإِمَامِ، ثُمَّ الْإِمَامُ يَقْضِيهِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ، أَوْ يَحْسِبُهُ عَنْ زَكَاةِ الْمُقْتَرِضِ، وَإِذَا أَقْرَضَهُ الْمَالِكُ لِلْمَسَاكِينِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سُؤَالِهِمْ فَتَلَفَ فِي يَدِ الْإِمَامِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَلَا عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ الْمَالِكِ. وَلَوِ اسْتَقْرَضَ الْإِمَامُ بِسُؤَالِ الْمَالِكِ وَالْمَسَاكِينِ جَمِيعًا، فَهَلْ هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمَالِكِ أَوِ الْمَسَاكِينِ؟ وَجْهَانِ يَأْتِي بَيَانُهُمَا فِي الْحَالِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوِ اسْتَقْرَضَ بِغَيْرِ سُؤَالِ الْمَالِكِ وَالْمَسَاكِينِ، نُظِرَ، إِنِ اسْتَقْرَضَ وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى الْقَرْضِ، وَقَعَ الْقَرْضُ لِلْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ، سَوَاءً تَلِفَ فِي يَدِهِ أَوْ دَفَعَهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ إِنْ دَفَعَ إِلَيْهِمْ مُتَبَرِّعًا، فَلَا رُجُوعَ، وَإِنْ أَقْرَضَهُمْ، فَقَدْ أَقْرَضَهُمْ مَالَ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ اسْتَقْرَضَ لَهُمْ وَبِهِمْ حَاجَةٌ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمَسَاكِينِ، يَقْضِيهِ الْإِمَامُ

مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ، كَالْوَلِيِّ إِذَا اسْتَقْرَضَ لِلْيَتِيمِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَكُونُ الضَّمَانُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَكُونُ الضَّمَانُ مِنْ خَالِصِ مَالِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ غَيْرُ مُتَعَيَّنِينَ، وَفِيهِمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ أَهْلُ رُشْدٍ، لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ مَنْعُ الصَّدَقَةِ عَنْهُمْ بِلَا عُذْرٍ، وَلَا التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِمْ بِالتِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ لَهُمْ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، بِخِلَافِ الْيَتِيمِ. فَأَمَّا إِنْ دَفَعَ الْمُسْتَقْرِضُ إِلَيْهِمْ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ، وَالْإِمَامُ طَرِيقٌ، فَإِذَا أَخَذَ زَكَوَاتٍ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مِنَ الزَّكَوَاتِ، وَلَهُ أَنْ يَحْسِبَهُ عَنْ زَكَاةِ الْمُقْرِضِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ تَمَامِ حُلُولِ الزَّكَوَاتِ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ مِنْهَا، بَلْ يَقْضِي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ إِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ الْإِمَامُ الْمَالَ لِيَحْسِبَهُ عَنْ زَكَاةِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ، وَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ كَالْقَرْضِ. إِحْدَاهَا: أَنْ يَأْخُذَ بِسُؤَالِ الْمَسَاكِينِ، فَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ الْحَوْلِ وَتَمَّ الْحَوْلُ وَهُمْ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمَالِكُ بِصِفَةِ الْوُجُوبِ - وَقَعَ الْمَوْقِعُ، وَإِنْ خَرَجُوا عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ فَعَلَيْهِمُ الضَّمَانُ، وَعَلَى الْمَالِكِ الْإِخْرَاجُ ثَانِيًا، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ لَهُ، نُظِرَ، إِنْ خَرَجَ الْمَالِكُ عَنْ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَلَهُ الضَّمَانُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَهَلْ يَكُونُ الْإِمَامُ طَرِيقًا؟ وَجْهَانِ، كَمَا فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَإِلَّا فَهَلْ يَقَعُ الْمُخْرَجُ عَنْ زَكَاتِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَقَعُ، وَبِهِ قَطَعَ فِي «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» ، وَالثَّانِي: لَا، فَعَلَى هَذَا لَهُ تَضْمِينُ الْمَسَاكِينِ، وَفِي تَضْمِينِ الْإِمَامِ الْوَجْهَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَسَاكِينِ مَالٌ، صَرَفَ الْإِمَامُ إِذَا اجْتَمَعَتِ الزَّكَوَاتُ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ عَنْ جِهَةِ الَّذِي تَسَلَّفَ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَسَلَّفَ بِسُؤَالِ الْمَالِكِ، فَإِنْ دَفَعَ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَتَمَّ الْحَوْلُ وَهُمْ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَعَ الْمَوْقِعُ، وَإِلَّا رَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْمَسَاكِينِ دُونَ الْإِمَامِ، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الْإِمَامِ لَمْ يُجْزِئِ الْمَالِكَ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِتَفْرِيطِ الْإِمَامِ،

أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، كَالتَّلَفِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ، ثُمَّ إِنْ تَلَفَ بِتَفْرِيطِ الْإِمَامِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ لِلْمَالِكِ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمَسَاكِينِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَسَلَّفَ بِسُؤَالِ الْمَالِكِ وَالْمَسَاكِينِ جَمِيعًا، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ صَاحِبِ «الشَّامِلِ» وَالْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمَسَاكِينِ، وَالثَّانِي: مِنْ ضَمَانِ الْمَالِكِ. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَسَلَّفَ بِغَيْرِ سُؤَالِ الْمَالِكِ وَالْمَسَاكِينِ، لِمَا رَأَى مِنْ حَاجَتِهِمْ، فَهَلْ تَكُونُ حَاجَتُهُمْ كَسُؤَالِهِمْ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وَخَرَجُوا عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ - اسْتَرَدَّهُ الْإِمَامُ مِنْهُمْ وَدَفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ خَرَجَ الدَّافِعُ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، اسْتَرَدَّهُ وَرُدَّ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ مَالٌ، ضَمِنَهُ الْإِمَامُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَرَّطَ أَمْ لَمْ يُفَرِّطْ، وَعَلَى الْمَالِكِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ ثَانِيًا، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ. ثُمَّ الْوَجْهَانِ فِي تَنَزُّلِ الْحَاجَةِ مَنْزِلَةَ سُؤَالِهِمْ، هُمَا فِي حَقِّ الْبَالِغِينَ، أَمَّا إِذَا كَانُوا أَطْفَالًا فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ تُدْفَعُ إِلَيْهِ الزَّكَاةُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَأَبِيهِ وَغَيْرِهِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُدْفَعُ لَهُ إِلَى قَيِّمِهِ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِاسْتِغْنَائِهِ بِسَهْمٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا التَّصَرُّفَ إِلَيْهِ، فَحَاجَةُ الْأَطْفَالِ كَسُؤَالِ الْبَالِغِينَ، فَتَسَلُّفُ الْإِمَامِ الزَّكَاةَ وَاسْتِقْرَاضُهُ لَهُمْ كَاسْتِقْرَاضِ قَيِّمِ الْيَتِيمِ. هَذَا إِذَا كَانَ الَّذِي يَلِي أَمْرَهُمُ الْإِمَامُ، فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا مُقَدَّمًا عَلَى الْإِمَامِ، فَحَاجَتُهُمْ كَحَاجَةِ الْبَالِغِينَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مَنْ يَسْأَلُ التَّسَلُّفَ لَوْ كَانَ صَلَاحُهُمْ فِيهِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الصَّبِيِّ، فَلَا تَجِيءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَجِيءَ فِي سَهْمِ الْغَارِمِينَ وَنَحْوِهِ. ثُمَّ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا لَوْ تَلِفَ الْمُعَجَّلُ فِي يَدِ السَّاعِي أَوِ الْإِمَامِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ، سَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْحُصُولَ فِي يَدِهِمَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَالْوُصُولِ إِلَى يَدِ الْمَسَاكِينِ كَمَا لَوْ أَخَذَ بَعْدَ الْحَوْلِ. ثُمَّ إِنْ فَرَّطَ فِي الدَّفْعِ إِلَيْهِمْ ضَمِنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَهُمْ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ، وَلَيْسَ مِنَ التَّفْرِيطِ أَنْ يَنْتَظِرَ انْضِمَامَ غَيْرِهِ إِلَيْهِ لِقِلَّتِهِ،

فصل

فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَفْرِيقُ كُلِّ قَلِيلٍ يَحْصُلُ عِنْدَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسَاكِينِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَهْلُ السَّهْمَيْنِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ جَمِيعَ آحَادِ الصِّنْفِ، بَلْ سُؤَالُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَحَاجَتُهُمْ. فَصْلٌ إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ الْمُعَجَّلَةَ إِلَى الْفَقِيرِ وَقَالَ: إِنَّهَا مُعَجَّلَةٌ فَإِنْ عَرَضَ مَانِعٌ اسْتُرْدِدَتْ مِنْكَ - فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ إِنْ عَرَضَ مَانِعٌ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: هَذِهِ زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ، أَوْ عَلِمَ الْقَابِضُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الرُّجُوعَ - فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الدَّافِعُ الْمَالِكَ. أَمَّا إِذَا دَفَعَهَا الْإِمَامُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ، بَلْ يَثْبُتُ الِاسْتِرْدَادُ قَطْعًا، وَلَوْ دَفَعَ الْمَالِكُ أَوِ الْإِمَامُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّعْجِيلِ وَلَا عَلِمَ بِهِ الْقَابِضُ - فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: إِنْ دَفَعَ الْإِمَامُ ثَبَتَ الرُّجُوعُ، وَإِنْ دَفَعَ الْمَالِكُ فَلَا، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ. وَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الرُّجُوعَ، فَقَالَ الْمَالِكُ: قَصَدْتُ بِالْمَدْفُوعِ التَّعْجِيلَ، وَأَنْكَرَ الْقَابِضُ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَوِ ادَّعَى الْمَالِكُ عِلْمَ الْقَابِضِ بِالتَّعْجِيلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ، وَإِذَا قُلْنَا: لَا رُجُوعَ إِذَا لَمْ يَذْكُرِ التَّعْجِيلَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْقَابِضُ بِهِ، فَتَنَازَعَا فِي ذِكْرِهِ، أَوْ قُلْنَا: يُشْتَرَطُ فِي الرُّجُوعِ التَّصْرِيحُ بِهِ، فَتَنَازَعَا فِيهِ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمِسْكِينِ عَلَى الْأَصَحِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَوْلُ الْمَالِكِ عَلَى الثَّانِي، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي تَنَازُعِ الْإِمَامِ وَالْمِسْكِينِ إِذَا قُلْنَا: الْإِمَامُ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاشْتِرَاطِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا عَرَضَ مَانِعٌ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ الزَّكَاةَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْرِضْ، فَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ بِلَا سَبَبٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالتَّعْجِيلِ، فَهُوَ كَمَنْ عَجَّلَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا لَا يَسْتَرِدُّهُ.

فَرْعٌ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: لَا يَحْتَاجُ مُخْرِجُ الزَّكَاةِ إِلَى لَفْظٍ أَصْلًا، بَلْ يَكْفِيهِ دَفْعُهَا وَهُوَ سَاكِتٌ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ دَفْعِ حَقٍّ إِلَى مُسْتَحِقٍّ. قَالَ: وَفِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ تَرَدُّدٌ، وَالظَّاهِرُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اللَّفْظِ أَيْضًا. فَرْعٌ إِذَا قَالَ: هَذِهِ زَكَاتِي، أَوْ صَدَقَتِي الْمَفْرُوضَةِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَمَا لَوْ ذَكَرَ التَّعْجِيلَ وَلَمْ يَذْكُرِ الرُّجُوعَ. وَأَصَحُّهُمَا: كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا أَصْلًا. وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَسْتَرِدُّ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الطَّارِئُ مَوْتَ الْمِسْكِينِ، هَلْ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ وَرَثَتَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا مُعَجَّلَةٌ؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ مِنْ مَوَانِعِ الْمُعَجَّلِ أَنْ تَكُونَ زَكَاةَ تَلَفِ النِّصَابِ، فَحَيْثُ يَثْبُتُ الِاسْتِرْدَادُ بِهَذَا السَّبَبِ، هَلْ يَثْبُتُ إِذَا أَتْلَفَهُ الْمَالِكُ، أَوْ أَتْلَفَ مِنْهُ مَا نَقَصَ بِهِ النِّصَابُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَثْبُتُ. وَلَوْ أَتْلَفَهُ بِالْإِنْفَاقِ وَغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الْحَاجَاتِ ثَبَتَ الرُّجُوعُ قَطْعًا.

فصل

فَصْلٌ مَتَّى ثَبَتَ الِاسْتِرْدَادُ، فَإِنْ كَانَ الْمُعَجَّلُ تَالِفًا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى الثَّانِي: يَوْمَ التَّلَفِ، وَالثَّالِثِ: أَقْصَى الْقِيَمِ، خَرَّجَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. فَإِنْ مَاتَ الْقَابِضُ فَالضَّمَانُ فِي تَرِكَتِهِ. وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ اسْتَرَدَّهُ، وَدَفَعَهُ أَوْ مِثْلَهُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ إِنْ بَقِيَ بِصِفَةِ الْوُجُوبِ. وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ الْإِمَامُ، أَخَذَهُ، وَهَلْ يَصْرِفُهُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ بِغَيْرِ إِذَنٍ جَدِيدٍ مِنَ الْمَالِكِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ فِي التَّهْذِيبِ: يَجُوزُ. وَإِنْ أَخَذَ الْقِيمَةَ فَهَلْ يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ؟ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ لَا يُجْزِئُ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَفِي افْتِقَارِهِ إِلَى إِذْنٍ جَدِيدٍ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ حَدَثَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ، كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ، أَخَذَهُ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ، فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَصْلَ بِلَا زِيَادَةٍ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: يَأْخُذُهُ مَعَ الزِّيَادَةِ. وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، فَهَلْ لَهُ أَرْشُهُ مَعَهُ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ وَظَاهِرُ النَّصِّ: لَا أَرْشَ لَهُ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْقَابِضَ يَمْلِكُ الْمُعَجَّلَ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنَّ عَرَضَ مَانِعٌ تَبَيَّنَ عَدَمُ الْمِلْكِ، وَإِلَّا تَبَيَّنَ. فَلَوْ بَاعَهُ الْقَابِضُ، ثُمَّ طَرَأَ الْمَانِعُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: اسْتَمَرَّتْ صِحَّةُ الْبَيْعِ، وَإِلَّا تَبَيَّنَّا بُطْلَانَهُ. وَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً، فَأَرَادَ الْقَابِضُ رَدَّ بَدَلِهَا فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَقْفِ، لَزِمَ رَدُّهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ فَفِي جَوَازِ الْإِبْدَالِ الْخِلَافُ فِي مِثْلِهِ فِي الْقَرْضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ أَوْ بِالتَّصَرُّفِ.

فَرْعٌ الْمُعَجَّلُ مَضْمُومٌ إِلَى مَا عِنْدَ الْمَالِكِ، نَازِلٌ مَنْزِلَةَ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ، فَلَوْ عَجَّلَ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ، وَلَمْ يَطْرَأْ مَانِعٌ - أَجْزَأَهُ مَا عَجَّلَ، وَكَانَتْ تِلْكَ الشَّاةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَاقِيَاتِ عِنْدَهُ. وَلَوْ عَجَّلَ شَاةً عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَاحِدَةً، أَوْ عَنْ مِائَةٍ فَوَلَدَتْ عِشْرِينَ، وَبَلَغَتْ غَنَمُهُ بِالْمُعَجَّلَةِ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ - لَزِمَهُ شَاةٌ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ أَتْلَفَ تِلْكَ الْمُعَجَّلَةَ. وَلَوْ عَجَّلَ شَاتَيْنِ عَنْ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ حَدَثَتْ سَخْلَةٌ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَقَدْ بَلَغَتْ غَنَمُهُ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةً بِالْمُعَجَّلَةِ، فَعَلَيْهِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ شَاةٌ ثَالِثَةٌ، فَلَوْ كَانَتِ الْمُعَجَّلَةُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مَعْلُوفَةً، أَوْ كَانَ الْمَالِكُ اشْتَرَاهَا فَأَخْرَجَهَا - لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ زَائِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ وَالْمُشْتَرَاةَ لَا يَتِمُّ بِهَا النِّصَابُ، وَإِنْ جَازَ إِخْرَاجُهُمَا عَنِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنْ تَمَّ الْحَوْلُ، وَالْمُعَجَّلُ عَلَى السَّلَامَةِ، أَجْزَأَهُ مَا أَخْرَجَ. ثُمَّ فِي تَقْدِيرِهِ إِذَا كَانَ الْبَاقِي دُونَ النِّصَابِ بِأَنْ أَخْرَجَ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ - وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ أَنَّ الْمُعَجَّلَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْبَاقِي فِي مِلْكِ الدَّافِعِ حَتَّى يَكْمُلَ بِهِ النِّصَابُ وَيُجْزِئَ، وَلَيْسَ بِبَاقٍ فِي مِلْكِهِ حَقِيقَةً. وَقَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: يُقَدَّرُ كَأَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ لَمْ يَزَلْ لِيَنْقَضِيَ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ نِصَابٌ. وَاسْتَبْعَدَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا، وَقَالَ: تَصَرُّفُ الْقَابِضِ نَافِذٌ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَكَيْفَ نَقُولُ بِبَقَاءِ مِلْكِ الدَّافِعِ، وَهَذَا الِاسْتِبْعَادُ صَحِيحٌ إِنْ أَرَادَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ بَقَاءَ مِلْكِهِ حَقِيقَةً، وَإِنْ أَرَادَ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، فَقَوْلُهُ صَوَابٌ. أَمَّا إِذَا طَرَأَ مَانِعٌ مِنْ كَوْنِ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ وَبَقِيَ فِي يَدِهِ نِصَابٌ، لَزِمَهُ الْإِخْرَاجُ ثَانِيًا. وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ، فَحَيْثُ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِرْدَادُ لَا زَكَاةَ، وَكَأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِشَاةٍ قَبْلَ الْحَوْلِ. وَحَيْثُ ثَبَتَ فَاسْتَرَدَّ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: يُسْتَأْنَفُ الْحَوْلُ، وَلَا زَكَاةَ لِلْمَاضِي؛ لِنَقْصِ مِلْكِهِ عَنِ النِّصَابِ. وَالثَّانِي:

إِنْ كَانَ مَالُهُ نَقْدًا، زَكَّاهُ لِمَا مَضَى. وَإِنْ كَانَ مَاشِيَةً، فَلَا؛ لِأَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْحَيَوَانِ فِي الذِّمَّةِ. وَأَصَحُّهَا عِنْدَهُمْ: تَجِبُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْمُخْرَجَ كَالْبَاقِي فِي مِلْكِهِ. وَبِهَذَا قَطَعَ فِي التَّهْذِيبِ، بَلْ لَفْظُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِخْرَاجِ ثَانِيًا قَبْلَ الِاسْتِرْدَادِ إِذَا كَانَ الْمُخْرَجُ بِعَيْنِهِ بَاقِيًا فِي يَدِ الْقَابِضِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: إِذَا اسْتَرَدَّ وَقُلْنَا: كَأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ، لَمْ يُزَكِّ لِمَا مَضَى، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَبَيَّنُ أَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ، زَكَّى لِمَا مَضَى. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي: الشَّاةُ الْمَقْبُوضَةُ حَصَلَتِ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَ الْمَالِكِ وَبَيْنَهَا، فَيَجِيءُ فِيهَا الْخِلَافُ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمَجْحُودِ. وَكَلَامُ الْعِرَاقِيِّينَ يُشْعِرُ بِجَرَيَانِ الْأَوْجُهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنِ الْمُعَجَّلِ. وَكَيْفَ كَانَ، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُعْظَمِ وُجُوبُ تَجْدِيدِ الزَّكَاةِ لِلْمَاضِي. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُخْرَجُ تَالِفًا فِي يَدِ الْقَابِضِ، فَقَدْ صَارَ الضَّمَانُ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا تَجْدِيدَ الزَّكَاةِ إِذَا كَانَ بَاقِيًا، جَاءَ هُنَا قَوْلَا وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الدَّيْنِ. هَذَا إِذَا كَانَ الْمُزَكَّى نَقْدًا، فَإِنْ كَانَ مَاشِيَةً لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَابِضِ الْقِيمَةُ، فَلَا يَكْمُلُ هُنَا نِصَابُ الْمَاشِيَةِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: تُقَامُ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ هُنَا نَظَرًا لِلْمَسَاكِينِ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. فَرْعٌ لَوْ عَجَّلَ بِنْتَ مَخَاضٍ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ، فَبَلَغَتْ بِالتَّوَالُدِ سِتًّا وَثَلَاثِينَ قَبْلَ الْحَوْلِ - لَمْ يُجْزِئْهُ بِنْتُ الْمَخَاضِ مُعَجَّلَةً وَإِنْ صَارَتْ بِنْتَ لَبُونٍ فِي يَدِ الْقَابِضِ، بَلْ يَسْتَرِدُّهَا وَيُخْرِجُهَا ثَانِيًا أَوْ بِنْتَ لَبُونٍ أُخْرَى. قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ لِنَفْسِهِ: فَإِنْ كَانَ الْمُخْرَجُ تَالِفًا وَالنِّتَاجُ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ فَلَمْ تَكُنْ إِبِلُهُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَّا بِالْمُخْرَجِ - وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبُ بِنْتُ لَبُونٍ؛ لِأَنَّا إِنَّمَا نَجْعَلُ الْمُخْرَجَ كَالْقَائِمِ إِذَا وَقَعَ مَحْسُوبًا عَنِ الزَّكَاةِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَقَعْ فَلَا، بَلْ هُوَ كَهَلَاكِ بَعْضِ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ مَا يُنَازِعُ فِي هَذَا.

باب حكم تأخير الزكاة

بَابُ حُكْمِ تَأْخِيرِ الزَّكَاةِ إِذَا تَمَّ حَوْلُ الْمَالِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي زَكَاتِهِ الْحَوْلُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ، وَجَبَ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِنْ أَخَّرَ، عَصَى وَدَخَلَ فِي ضَمَانِهِ. فَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، سَوَاءٌ تَلِفَ بَعْدَ مُطَالَبَةِ السَّاعِي أَوِ الْفُقَرَاءِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَلَوْ تَلِفَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ الْمَالِكُ لَزِمَهُ الضَّمَانُ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، بُنِيَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّمَكُّنَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي الضَّمَانِ. إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، وَقُلْنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ - فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ قُلْنَا: تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، انْتَقَلَ حَقُّ الْمُسْتَحِقِّينَ إِلَى الْقِيمَةِ، كَمَا إِذَا قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ أَوِ الْمَرْهُونَ، يَنْتَقِلُ الْحَقُّ إِلَى الْقِيمَةِ. فَرْعٌ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ قَطْعًا، وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَيْضًا؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالثَّانِي: شَرْطٌ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَاحْتَجُّوا لِلْأَظْهَرِ بِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ الْإِمْكَانُ فَابْتَدَأَ الْحَوْلُ الثَّانِي، يُحْسَبُ مِنْ تَمَامِ الْأَوَّلِ لَا مِنْ (حُصُولِ) الْإِمْكَانِ. فَرْعٌ الْأَوْقَاصُ الَّتِي بَيْنَ النُّصُبِ فِيهَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا أَنَّهَا عَفْوُ، وَالْفَرْضُ

يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ خَاصَّةً. وَالثَّانِي: يَنْبَسِطُ الْفَرْضُ عَلَيْهَا وَعَلَى النِّصَابِ، فَإِذَا مَلَكَ تِسْعًا مِنَ الْإِبِلِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ، عَلَيْهِ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنْهَا، لَا بِعَيْنِهَا، وَعَلَى الثَّانِي: الشَّاةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجَمِيعِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الشَّاةُ مُتَعَلِّقَةً بِالْجَمِيعِ قَطْعًا، وَأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْوَقَصَ إِنَّمَا يُجْعَلُ وِقَايَةً لِلنِّصَابِ، كَمَا يُجْعَلُ الرِّبْحُ فِي الْقِرَاضِ وِقَايَةً لِرَأْسِ الْمَالِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ، لَكِنَّ الْمَذْهَبَ الْمَشْهُورَ مَا قَدَّمْنَاهُ. فَرْعٌ لَوْ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَتَلِفَ وَاحِدٌ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَلَا زَكَاةَ لِلتَّالِفِ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: التَّمَكُّنُ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، فَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ قُلْنَا: لِلضَّمَانِ فَقَطْ وَجَبَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ شَاةٍ. وَلَوْ تَلِفَ أَرْبَعٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا شَيْءَ، وَعَلَى الثَّانِي: يَجِبُ خُمُسُ شَاةٍ، وَلَوْ مَلَكَ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ، فَتَلِفَ خَمْسٌ قَبْلَ الْإِمْكَانِ وَبَعْدَ الْحَوْلِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَلَا شَيْءَ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، وَجَبَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ تَبِيعٍ، وَلَوْ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى تِسْعٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَتَلِفَ أَرْبَعٌ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِمْكَانُ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلضَّمَانِ وَالْوَقَصُ عَفْوٌ، فَشَاةٌ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا: يَنْبَسِطُ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: يَجِبُ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَجِبُ شَاةٌ كَامِلَةٌ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَتَلِفَتْ خَمْسٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِمْكَانُ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، فَلَا شَيْءَ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلضَّمَانِ، وَقُلْنَا: الْوَقَصُ عَفْوٌ، فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ شَاةٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْبَسْطِ، فَأَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ، وَلَا يَجِيءُ وَجْهُ أَبِي إِسْحَاقَ. وَلَوْ مَلَكَ ثَمَانِينَ مِنَ الْغَنَمِ، فَتَلِفَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ أَرْبَعُونَ، فَإِنْ قُلْنَا: التَّمَكُّنُ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلضَّمَانِ، وَالْوَقَصُ عَفْوٌ - فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالضَّمَانِ وَالْبَسْطِ، فَنِصْفُ شَاةٍ، وَعَلَى وَجْهِ أَبِي إِسْحَاقَ: شَاةٌ.

فَرْعٌ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، بَلْ يُعْتَبَرُ مَعَهُ وُجُوبُ الْإِخْرَاجِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَجْتَمِعَ شَرَائِطُهُ. فَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ حَاضِرًا عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا، لَمْ يَجِبِ الْإِخْرَاجُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَإِنْ جَوَّزْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَجِدَ الْمَصْرُوفَ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَمْوَالَ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، فَالْبَاطِنَةُ يَجُوزُ صَرْفُ زَكَاتِهَا إِلَى السُّلْطَانِ وَنَائِبِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ وَاجِدًا لِلْمَصْرُوفِ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ وَجَدَ أَهْلَ السُّهْمَانِ، أَوِ الْإِمَامَ، أَوْ نَائِبَهُ، يُفَرِّقُهَا، وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ فَكَذَلِكَ إِنْ جَوَّزْنَا تَفْرِقَتَهَا بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا فَلَا إِمْكَانَ حَتَّى يَجِدَ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ، وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ فَأَخَّرَ لِطَلَبِ الْأَفْضَلِ، بِأَنْ وَجَدَ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ فَأَخَّرَ لِيُفَرِّقَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّهُ أَفْضَلُ، أَوْ وَجَدَ أَهْلَ السُّهْمَانِ، فَأَخَّرَ لِيَدْفَعَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّهُ أَفْضَلُ، أَوْ أَخَّرَ لِانْتِظَارِ قَرِيبٍ أَوْ جَارٍ، أَوْ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ - فَفِي التَّأْخِيرِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: جَوَازُهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَّرَ فَتَلِفَ كَانَ ضَامِنًا فِي الْأَصَحِّ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْوَجْهَانِ لَهُمَا شَرْطَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَظْهَرَ اسْتِحْقَاقُ الْحَاضِرِينَ، فَإِنْ تَرَدَّدَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ فَأَخَّرَ لِيَتَرَوَّى، جَازَ بِلَا خِلَافٍ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَشْتَدَّ ضَرَرُ الْحَاضِرِينَ وَفَاقَتُهُمْ، فَإِنْ تَضَرَّرُوا بِالْجُوعِ، لَمْ يَجُزِ التَّأْخِيرُ لِلْقَرِيبِ وَشَبَهِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي هَذَا الشَّرْطِ الثَّانِي نَظَرٌ، فَإِنَّ إِشْبَاعَهُمْ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الشَّخْصِ، وَلَا مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَلَا مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ. قُلْتُ: هَذَا النَّظَرُ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَغَيْرُهُ: وَيُشْتَرَطُ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَنْ لَا يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِشَيْءٍ يُهِمُّهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ.

فصل في كيفية تعلق الزكاة بالمال

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْمَالِ قَالَ الْجُمْهُورُ: فِيهِ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، وَالْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: بِالْعَيْنِ، وَيَصِيرُ الْمَسَاكِينُ شُرَكَاءَ لِرَبِّ الْمَالِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ. هَكَذَا صَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ، وَزَادَ آخَرُونَ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالْمَرْهُونِ، وَقَوْلًا رَابِعًا: تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ تَعَلُّقَ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْجَانِي، وَمِمَّنْ زَادَ الْقَوْلَيْنِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ. وَأَمَّا الْعِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالْجُمْهُورُ، فَجَعَلُوا قَوْلَ الذِّمَّةِ وَتَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالْمَرْهُونِ شَيْئًا وَاحِدًا، فَقَالُوا: تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، وَالْمَالُ مُرْتَهَنٌ بِهَا، وَجَمَعَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، فَحَكَى وَجْهَيْنِ، فِي أَنَّا إِذَا قُلْنَا: تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، فَهَلِ الْمَالُ خُلُوٌّ، أَمْ هُوَ رَهْنٌ بِهَا؟ وَإِذَا قُلْنَا كَتَعَلُّقِ الرَّهْنِ إِمَّا قَوْلًا بِرَأْسِهِ وَإِمَّا جُزْءًا مِنْ قَوْلِ الذِّمَّةِ، فَهَلْ يُجْعَلُ جَمِيعُ الْمَالِ مَرْهُونًا بِهَا، أَمْ يُخَصُّ قَدْرُ الزَّكَاةِ بِالرَّهْنِ؟ وَجْهَانِ، وَكَذَا إِذَا قُلْنَا: كَتَعَلُّقِ الْأَرْشِ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ، أَمْ بِقَدْرِهَا؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالتَّخْصِيصُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَمَا عَدَاهُ هَفْوَةٌ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، كَالشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِبِلِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِتَعَلُّقِهَا بِالذِّمَّةِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ لَا يَخْتَلِفُ، وَعَلَى الشَّرِكَةِ يُشَارِكُونَ بِقِيمَةِ الشَّاةِ.

فَرْعٌ إِذَا بَاعَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ إِخْرَاجِهَا، فَإِنْ بَاعَ جَمِيعَهُ فَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ؟ يُبْنَى عَلَى الْأَقْوَالِ. فَإِنْ قُلْنَا: الزَّكَاةُ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَالُ خُلُوٌ مِنْهَا، صَحَّ، وَإِنْ قُلْنَا: مَرْهُونٌ فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَلَقَةَ، تَثْبُتُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمَالِكِ، وَلَيْسَتْ لِمُعَيَّنٍ، فَسُومِحَ فِيهَا بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ فِي الرَّهْنِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالشَّرِكَةِ فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ، وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ: فِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْبَطَلَانُ، وَإِنْ قُلْنَا تَعَلُّقَ الْأَرْشِ فَفِي صِحَّتِهِ الْقَوْلَانِ فِي بَيْعِ الْجَانِي، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ صَارَ الْبَيْعُ مُلْتَزِمًا لِلْفِدَاءِ، وَمَتَى حَكَمْنَا بِالصِّحَّةِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَمَا سِوَاهُ أَوْلَى، وَمَتَى حَكَمْنَا فِيهِ بِالْبُطْلَانِ، فَهَلْ يَبْطُلُ فِيمَا سِوَاهُ؟ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الشَّرِكَةِ فَفِيمَا سِوَاهُ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِيثَاقِ فِي الْجَمِيعِ، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِيثَاقِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَفِي الزَّائِدِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَحَيْثُ مَنَعْنَا الْبَيْعُ، وَكَانَ الْمَالُ ثَمَرَةً، فَذَلِكَ قَبْلَ الْخَرْصِ، فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا مَنْعَ إِنْ قُلْنَا: الْخَرْصُ تَضْمِينٌ. وَالْحَاصِلُ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْخِلَافِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: الْبُطْلَانُ فِي الْجَمِيعِ، وَالثَّانِي: الصِّحَّةُ فِي الْجَمِيعِ، وَأَظْهَرُهَا الْبُطْلَانُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَالصِّحَّةُ فِي الْبَاقِي. فَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ فِي الْجَمِيعِ، نُظِرَ، إِنْ أَدَّى الْبَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي قَدْرَ الزَّكَاةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنَّ أَخَذَ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَهَلْ يَنْفَسِخُ فِي الْبَاقِي؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الدَّوَامِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَنْفَسِخُ

اسْتَرَدَّ الثَّمَنَ، وَإِلَّا فَلَهُ الْخِيَارُ إِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَإِنْ فُسِخَ فَذَاكَ، وَإِنْ أَجَازَ فِي الْبَاقِي فَيَأْخُذُهُ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، أَمْ بِالْجَمِيعِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: بِقِسْطِهِ، وَلَوْ لَمْ يَأْخُذِ السَّاعِي الْوَاجِبَ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْبَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ إِذَا عَلِمَ الْحَالَ، وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، فَأَدَّى الْبَائِعُ الْوَاجِبَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَهَلْ يَسْقُطُ الْخِيَارُ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَسْقُطُ كَمَا لَوِ اشْتَرَى مَعِيبًا فَزَالَ عَيْبُهُ قَبْلَ الرَّدِّ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَالثَّانِي: لَا يَسْقُطُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخْرِجَ مَا دَفَعَهُ إِلَى السَّاعِي مُسْتَحَقًّا، فَيَرْجِعُ السَّاعِي إِلَى عَيْنِ الْمَالِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا بَاعَ السَّيِّدُ الْجَانِيَ ثُمَّ فَدَاهُ، هَلْ يَبْقَى لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ؟ أَمَّا إِذَا أَبْطَلْنَا الْبَيْعَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ وَصَحَّحْنَاهُ فِي الْبَاقِي، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي وَإِجَازَتِهِ، وَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِأَدَاءِ الْبَائِعِ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَإِذْ أَجَازَ فَيُجِيزُ بِقِسْطِهِ أَمْ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ الْمُقَدَّمَانِ، وَقَطَعَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، بِأَنَّهُ يُجِيزُ بِالْجَمِيعِ فِي الْمَوَاشِي، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا بَاعَ جَمِيعَ الْمَالِ، فَإِنْ بَاعَ بَعْضَهُ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ قَدْرُ الزَّكَاةِ - فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ الْجَمِيعَ، وَإِنْ بَقِيَ قَدْرُ الزَّكَاةِ إِمَّا بِنِيَّةِ صَرْفِهِ إِلَى الزَّكَاةِ وَإِمَّا بِغَيْرِهَا، فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الشَّرِكَةِ، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: أَقْيَسُهُمَا: الْبُطْلَانُ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ الشَّرِكَةِ، وَفِيهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الزَّكَاةَ شَائِعَةٌ فِي الْجَمِيعِ، مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشِّيَاهِ بِالْقِسْطِ، وَالثَّانِي أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِحْقَاقِ قَدْرُ الْوَاجِبِ، وَيَتَعَيَّنُ بِالْإِخْرَاجِ. أَمَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الرَّهْنِ، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مَرْهُونٌ أَمْ قَدْرُ الزَّكَاةِ فَقَطْ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا يَصِحُّ، وَعَلَى الثَّانِي: يَصِحُّ، وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى تَعَلُّقِ الْأَرْشِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا بَيْعَ الْجَانِي صَحَّ هَذَا الْبَيْعُ، وَإِلَّا فَالتَّفْرِيعُ، كَالتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِ الرَّهْنِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِي بَيْعِ الْمَالِ الَّذِي تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ. فَأَمَّا بَيْعُ مَالِ التِّجَارَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَسَيَأْتِي فِي بَابِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَرْعٌ إِذَا مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، وَلَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهَا حَتَّى حَالَ آخَرُ، فَإِنْ حَدَثَ مِنْهَا فِي كُلِّ حَوْلٍ سَخْلَةٌ فَصَاعِدًا، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ حَوْلٍ شَاةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ شَاةٌ عَنِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الذِّمَّةِ، وَكَانَ يَمْلِكُ سِوَى الْغَنَمِ مَا يَفِي بِشَاةٍ - وَجَبَ شَاةٌ لِلْحَوْلِ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا غَيْرَ النَّصَّابِ، يُبْنَى عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: يَمْنَعُ لَمْ يَجِبْ لِلْحَوْلِ الثَّانِي شَيْءٌ وَإِلَّا وَجَبَتْ شَاةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ تَعَلُّقَ الشَّرِكَةِ لَمْ يَجِبْ لِلْحَوْلِ الثَّانِي شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ مَلَكُوا شَاةً نَقَصَ بِهَا النِّصَابُ، وَلَا تَجِبُ زَكَاةُ الْخُلْطَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، فَمُخَالَطَتُهُمْ كَمُخَالَطَةِ الْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ تَعَلُّقَ الرَّهْنِ أَوِ الْأَرْشِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فَهُوَ كَالتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِ الذِّمَّةِ، وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: هُوَ كَقَوْلِ الشَّرِكَةِ، وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفْرَضَ خِلَافٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِنْ جِهَةِ تَسَلُّطِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ وَإِنْ قُلْنَا: الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجْرِي الْخِلَافُ عَلَى قَوْلِ الذِّمَّةِ، أَيْضًا. وَلَوْ مَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ حَوْلَيْنِ وَلَا نِتَاجَ، فَإِنْ عَلَّقْنَا الزَّكَاةَ بِالذِّمَّةِ وَقُلْنَا: الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُهَا، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ يَفِي بِهَا - فَعَلَيْهِ بِنْتَا مَخَاضٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالشَّرِكَةِ فَعَلَيْهِ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلِلثَّانِي: أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَتَفْرِيعُ الْأَرْشِ وَالرَّهْنِ عَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ. وَلَوْ مَلَكَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ حَوْلَيْنِ بِلَا نِتَاجٍ فَالْحُكْمُ كَمَا فِي الصُّورَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ. لَكِنْ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ قَوْلَ الشَّرِكَةِ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَصْلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُطْلَقًا كَالْحُكْمِ فِي الْأُولَيَيْنِ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ الذِّمَّةِ، وَالْمَذْهَبُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلسَّاعِي أَنْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنَ الْإِبِلِ فِي الشِّيَاهِ، فَدَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِعَيْنِهَا.

فَرْعٌ إِذَا رَهَنَ مَالَ الزَّكَاةِ، فَتَارَةً يَرْهَنُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوَلِ، وَتَارَةً قَبْلَهُ، فَإِنْ رَهَنَهُ بَعْدَ الْحَوَلِ فَالْقَوْلُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ كَالْقَوْلِ فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ، فَيَعُودُ فِيهِ جَمِيعُ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِذَا صَحَّحْنَا فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ فَمَا زَادَ أَوْلَى، وَإِنْ أَبْطَلْنَاهُ فِيهِ فَالْبَاقِي يُرَتَّبُ عَلَى الْبَيْعِ؛ إِنْ صَحَّحْنَاهُ فَالرَّهْنُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الرَّهْنِ إِذَا جَمَعَ حَلَالًا وَحَرَامًا، فَإِذَا صَحَّحْنَا الرَّهْنَ فِي الْجَمِيعِ فَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَلِلسَّاعِي أَخْذُهَا مِنْهُ. فَإِذَا أَخَذَ انْفَسَخَ الرَّهْنُ فِيهِ، وَفِي الْبَاقِي الْخِلَافُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَيْعِ، وَإِذَا أَبْطَلْنَاهُ فِي الْجَمِيعِ أَوْ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَكَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعِهِ، فَفِي فَسَادِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ، فَإِنْ لَمْ يَفْسَدْ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَلَا يَسْقُطْ خِيَارُهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، أَمَّا إِذَا رَهَنَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَتَمَّ، فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ خِلَافٌ قَدَّمْنَاهُ، وَالرَّهْنُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَيْنٍ، وَفِي كَوْنِ الدَّيْنِ مَانِعًا مِنَ الزَّكَاةِ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ، فَإِنْ قُلْنَا: الرَّهْنُ لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ، وَقُلْنَا: الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ أَيْضًا، أَوْ قُلْنَا: يَمْنَعُ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ يَفِي بِالدَّيْنِ - وَجَبَتِ الزَّكَاةُ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَمْلِكِ الرَّاهِنُ مَالًا آخَرَ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْ عَيْنِ الْمَرْهُونِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى الثَّانِي. فَعَلَى الْأَصَحِّ: لَوْ كَانَتِ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَالِ كَالشَّاةِ مِنَ الْإِبِلِ - بِيعَ جُزْءٌ مِنَ الْمَالِ فِيهَا. وَقِيلَ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أُخِذَ مِنَ الْمَرْهُونِ قَطْعًا، ثُمَّ إِذَا أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْ عَيْنِ الْمَرْهُونِ فَأَيْسَرَ الرَّاهِنُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ قَدْرُهَا لِيَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ؟ إِنْ عَلَّقْنَا الزَّكَاةَ بِالذِّمَّةِ، أُخِذَ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَخْذِ، وَكَانَ النَّصَّابُ مِثْلِيًّا، أُخِذَ الْمِثْلُ، وَإِلَّا فَالْقِيمَةُ عَلَى قَاعِدَةِ الْغَرَامَاتِ. أَمَّا إِذَا مَلَكَ مَالًا آخَرَ،

باب زكاة المعشرات

فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ عَيْنِ الْمَرْهُونِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: تُؤْخَذُ مِنْ عَيْنِهِ إِنْ عَلَّقْنَاهَا بِالْعَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ فِدَاءُ الْمَرْهُونِ إِذَا جَنَى. بَابُ زَكَاةِ الْمُعْشِرَاتِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْأَقْوَاتِ، وَهِيَ مِنَ الثِّمَارِ: النَّخْلُ وَالْعِنَبُ، وَمِنَ الْحُبُوبِ: الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ، وَالْأُرْزُ، وَالْعَدَسُ، وَالْحِمَّصُ، وَالْبَاقِلَاءُ، وَالدُّخْنُ، وَالذُّرَةُ، وَاللُّوبْيَاءُ وَالْمَاشُ، وَالْهُرْطُمَانُ وَهُوَ الْجُلْبَانُ. وَأَمَّا مَا سِوَى الْأَقْوَاتِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مُعْظَمِهَا بِلَا خِلَافٍ، وَفِي بَعْضِهَا خِلَافٌ. فَمِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ: التِّينُ، وَالسَّفَرْجَلُ، وَالْخَوْخُ، وَالتُّفَّاحُ، وَالْجَوْزُ، وَاللَّوْزُ، وَالرُّمَّانُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الثِّمَارِ، وَكَالْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، وَالسِّمْسِمِ، وَالْإِسْبِيُوشِ وَهُوَ بِزْرُ الْقَطُونَا، وَالثُّفَّاءُ وَهُوَ حَبُّ الرَّشَادِ، وَالْكَمُّونُ، وَالْكُزْبَرَةُ، وَالْبِطِّيخُ، وَالْقِثَّاءُ، وَالسِّلْقُ، وَالْجَزَرُ، وَالْقُنَّبِيطُ، وَحُبُوبُهَا وَبُزُورُهَا. وَمِنَ الْمُخْتَلِفِ فِيهِ: الزَّيْتُونُ، فَالْجَدِيدُ الْمَشْهُورُ: لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَالْقَدِيمُ: تَجِبُ بِبُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَهُوَ نُضْجُهُ وَاسْوِدَادُهُ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَخَرَّجَ ابْنُ الْقَطَّانِ اعْتِبَارَ النِّصَابِ فِيهِ وَفِي سَائِرِ مَا يَخْتَصُّ الْقَدِيمُ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الزَّيْتُونُ مِمَّا لَا يَجِيءُ مِنْهُ الزَّيْتُ كَالْبَغْدَادِيِّ، أَخْرَجَ عُشْرَهُ زَيْتُونًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِيءُ مِنْهُ الزَّيْتُ كَالشَّامِيِّ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ الزَّيْتُ، وَإِنْ شَاءَ الزَّيْتُونُ، وَالزَّيْتُ أَوْلَى، وَالثَّانِي: يَتَعَيَّنُ الزَّيْتُ، وَالثَّالِثُ: يَتَعَيَّنُ الزَّيْتُونُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ النِّصَابُ بِالزَّيْتُونِ دُونَ الزَّيْتِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَمِنْهَا: الزَّعْفَرَانُ، وَالْوَرْسُ وَهُوَ شَجَرٌ يُخْرِجُ شَيْئًا كَالزَّعْفَرَانِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِمَا عَلَى الْجَدِيدِ الْمَشْهُورِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: تَجِبُ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْوَرْسِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا فِيهِ فَفِي الزَّعْفَرَانِ قَوْلَانِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا فِيهِمَا فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ، بَلْ تَجِبُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ. وَمِنْهَا: الْعَسَلُ، لَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى الْجَدِيدِ، وَعُلِّقَ الْقَوْلُ فِيهِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَقَطَعَ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ بِنَفْيِ الزَّكَاةِ فِيهِ قَدِيمًا وَجَدِيدًا. فَإِنْ أَوْجَبْنَا فَاعْتِبَارُ النِّصَابِ كَمَا سَبَقَ. وَمِنْهَا: الْقِرْطِمُ وَهُوَ حَبُّ الْعُصْفُرِ، الْجَدِيدُ: لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَالْقَدِيمُ: تَجِبُ. فَعَلَى هَذَا، الْمَذْهَبُ: اعْتِبَارُ النِّصَابِ كَسَائِرِ الْحُبُوبِ، وَفِي الْعُصْفُرِ نَفْسِهِ طَرِيقَانِ. قِيلَ: كَالْقِرْطِمِ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ قَطْعًا. وَمِنْهَا: التُّرْمُسُ، الْجَدِيدُ: لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَالْقَدِيمُ: تَجِبُ. وَمِنْهَا: حَبُّ الْفِجْلِ، حَكَى ابْنُ كَجٍّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. فَرْعٌ لَا يَكْفِي فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ كَوْنُ الشَّيْءِ مُقْتَاتًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يُقْتَاتَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، فَقَدْ يُقْتَاتُ الشَّيْءُ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، كَالْفَثِّ، وَحَبِّ الْحَنْظَلِ، وَسَائِرِ بُزُورِ الْبَرِّيَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْفَثِّ، فَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَطَائِفَةٌ: هُوَ حَبُّ الْغَاسُولِ، وَهُوَ الْأُشْنَانُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ حَبٌّ أَسْوَدُ يَابِسٌ، يُدْفَنُ فَيَلِينُ قِشْرُهُ، فَيُزَالُ وَيُطْحَنُ، وَيُخْبَزُ، تَقْتَاتُهُ أَعْرَابُ طَيِّئٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ ضَبَطُوا مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ بِقَيْدَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قُوتًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ. قَالُوا: فَإِنْ فُقِدَ الْأَوَّلُ كَالْإِسْبِيُوشِ، أَوِ الثَّانِي كَالْفَثِّ، أَوْ كِلَاهُمَا كَالثُّفَّاءِ، فَلَا زَكَاةَ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الْقَيْدَيْنِ مَنْ

فصل

أَطْلَقَ الْقَيْدَ الْأَوَّلَ. فَأَمَّا مَنْ قَيَّدَهُ فَقَالَ: يَكُونُ قُوتًا فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الثَّانِي؛ إِذْ لَيْسَ فِيمَا يُسْتَنْبَتُ إِلَّا مَا يُقْتَاتُ اخْتِيَارًا، وَاعْتَبَرَ الْعِرَاقِيُّونَ مَعَ الْقَيْدَيْنِ، قَيْدَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُدَّخَرَ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَيْبَسَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَازِمَانِ لِكُلِّ مُقْتَاتٍ مُسْتَنْبِتٍ. فَصْلٌ النِّصَابُ مُعْتَبَرٌ فِي الْمُعَشَّرَاتِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَالْوَسْقُ: سِتُّونَ صَاعًا، وَالصَّاعُ: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ بِالْبَغْدَادِيِّ. فَالْخَمْسَةُ هِيَ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ تَحْدِيدٌ، وَقِيلَ: تَقْرِيبٌ. فَعَلَى التَّقْرِيبِ يُحْتَمَلُ نُقْصَانُ الْقَلِيلِ كَالرِّطْلَيْنِ، وَحَاوَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ضَبْطُهُ فَقَالَ: الْأَوْسُقُ: الْأَوْقَارُ، وَالْوِقْرُ الْمُقْتَصِدُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ رِطْلًا، فَكُلُّ نَقْصٍ لَوْ وُزِّعَ عَلَى الْأَوْسُقِ الْخَمْسَةِ لَمْ تَعُدْ مُنْحَطَّةً عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ، لَا يَضُرُّ، وَإِنْ عُدَّتْ مُنْحَطَّةً، ضَرَّ، وَإِنْ أَشْكَلَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا زَكَاةَ حَتَّى تُحَقَّقَ الْكَثْرَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: تَجِبُ لِبَقَاءِ الْأَوْسُقِ، قَالَ: وَهَذَا أَظْهَرَ. ثُمَّ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الِاعْتِبَارُ فِيمَا عَلَّقَهُ الشَّرْعُ بِالصَّاعِ وَالْمُدِّ بِمِقْدَارٍ مَوْزُونٍ يُضَافُ إِلَى الصَّاعِ وَالْمُدِّ، لَا لِمَا يَحْوِي الْمُدُّ وَنَحْوُهُ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْكَيْلِ لَا بِالْوَزْنِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ: إِلَّا الْعَسَلُ إِذَا أَوْجَبْنَا فِيهِ الزَّكَاةَ، فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْوَزْنِ. وَتَوَسَّطَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» فَقَالَ: هُوَ عَلَى التَّحْدِيدِ فِي الْكَيْلِ، وَعَلَى التَّقْرِيبِ فِي الْوَزْنِ، وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِالْوَزْنِ اسْتِظْهَارًا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: اعْتِبَارُ الْكَيْلِ كَمَا صَحَّحَهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الدَّارِمِيُّ، وَصَنَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَصْنِيفًا، وَسَيَأْتِي فِي إِيضَاحِهِ زِيَادَةٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُنَاكَ نَذْكُرُ الْخِلَافَ فِي قَدْرِ رِطْلِ بَغْدَادَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ

فصل

وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ. فَعَلَى هَذَا، الْأَوْسُقُ الْخَمْسَةُ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رِطْلًا وَنِصْفُ رِطْلٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَسُبُعَا أُوقِيَّةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ الْمَمْلُوكَةُ وَالْمُسْتَأْجَرَةُ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ، فَيَجِبُ عَلَى مُسْتَأْجِرِ الْأَرْضِ الْعُشْرُ مَعَ الْأُجْرَةِ، وَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَتَكُونُ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً فِي صُورَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَفْتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً قَهْرًا وَيُقَسِّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، ثُمَّ يُعَوِّضُهُمْ عَنْهَا، ثُمَّ يَقِفُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَضْرِبُ عَلَيْهَا خَرَاجًا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَوَادِ الْعِرَاقِ، عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ فِيهِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَفْتَحَ بَلْدَةً صُلْحًا، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُسْكِنُهَا الْكُفَّارُ بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ، فَالْأَرْضُ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ عَلَيْهَا أُجْرَةٌ لَا تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ، وَهَكَذَا إِذَا انْجَلَى الْكُفَّارُ عَنْ بَلْدَةٍ وَقُلْنَا: إِنَّ الْأَرْضَ تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، يَضْرِبُ عَلَيْهَا خَرَاجًا يُؤَدِّيهِ مَنْ يَسْكُنُهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا. فَأَمَّا إِذَا فُتِحَتْ صُلْحًا وَلَمْ يُشْرَطْ كَوْنُ الْأَرْضِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ سَكَنُوا فِيهَا بِخَرَاجٍ، فَهَذَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ جِزْيَةٌ، وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي فُتِحَتْ قَهْرًا وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَبَقِيَتْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَكَذَا الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، وَالْأَرْضُ الَّتِي أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُونَ - فَكُلُّهَا عُشْرِيَّةٌ، وَأَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْهَا ظُلْمٌ.

فَرْعٌ النَّوَاحِي الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الْخَرَاجُ، وَلَا يُعْرَفُ كَيْفَ كَانَ حَالُهَا فِي الْأَصْلِ، حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسْتَدَامُ الْأَخْذُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي فَتَحَهَا صَنَعَ بِهَا كَمَا صَنَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَوَادِ الْعِرَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا جَرَى لِطُولِ الدَّهْرِ، جَرَى بِحَقٍّ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ أَرْضِ السَّوَادِ مِنِ امْتِنَاعِ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ؟ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الظَّاهِرُ فِي الْأَخْذِ كَوْنُهُ حَقًّا، وَفِي الْأَيْدِي الْمِلْكُ، فَلَا نَتْرُكُ وَاحِدًا مِنَ الظَّاهِرَيْنِ، إِلَّا بِيَقِينٍ. فَرْعٌ الْخَرَاجُ الْمَأْخُوذُ ظُلْمًا لَا يَقُومُ مَقَامَ الْعُشْرِ، فَإِنْ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنِ الْعُشْرِ فَهُوَ كَأَخْذِ الْقِيمَةِ بِالِاجْتِهَادِ، وَفِي سُقُوطِ الْفَرْضِ بِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا وَبِهِ قُطِعَ فِي «التَّتِمَّةِ» : السُّقُوطُ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ قَدْرَ الْعُشْرِ أَخْرَجَ الْبَاقِيَ، وَذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ بَعْضَ الْمُصَنِّفِينَ حَكَى قَرِيبًا مِنْ هَذَا عَنْ أَبِي زَيْدٍ وَاسْتَبْعَدَهُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: السُّقُوطُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْمَحَامِلِيِّ، وَالْمَاوَرْدِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَمِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَنَعَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ ثِمَارُ الْبُسْتَانِ وَغَلَّةُ الْقَرْيَةِ الْمَوْقُوفَيْنِ عَلَى الْمَسَاجِدِ، أَوِ الرِّبَاطَاتِ، أَوِ الْقَنَاطِرِ، أَوِ الْفُقَرَاءِ، أَوِ الْمَسَاكِينِ، لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ إِذْ لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا. فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْخُلْطَةِ. فَصْلٌ فِي الْحَالِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ بُلُوغُ الْمُعَشَّرِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِنْ كَانَ نَخْلًا أَوْ عِنَبًا، اعْتُبِرَ تَمْرًا وَزَبِيبًا، فَإِنْ كَانَ رُطَبًا لَا يُتَّخَذُ مِنْهُ تَمْرٌ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُوسَقُ رُطَبًا، وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ بِحَالَةِ الْجَفَافِ، وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ بُلُوغُهُ نِصَابًا وَإِنْ كَانَ حَشَفًا، وَالثَّانِي: بِأَقْرَبِ الْأَرْطَابِ إِلَيْهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ يَجِيءُ مِنْهُ تَمْرٌ رَدِيءٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ يَفْسَدُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصَحِّ، وَهُوَ تَوْسِيقُهُ رُطَبًا. وَالْعِنَبُ الَّذِي لَا يَتَزَبَّبُ، كَالرُّطَبِ الَّذِي لَا يَتَتَمَّرُ، وَلَا خِلَافَ فِي ضَمِّ مَا لَا يُجَفَّفُ مِنْهُمَا إِلَى مَا يُجَفَّفُ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ. ثُمَّ فِي أَخْذِ الْوَاجِبِ مِنَ الَّذِي لَا يُجَفَّفُ إِشْكَالٌ، سَتَعْرِفُهُ مَعَ الْخَلَاصِ مِنْهُ فِي مَسْأَلَةِ إِصَابَةِ النَّخْلِ الْعَطَشَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَيُعْتَبَرُ بُلُوغُهَا نِصَابًا بَعْدَ التَّصْفِيَةِ مِنَ التِّبْنِ، ثُمَّ قُشُورُهَا أَضْرُبٌ؛ أَحَدُهَا: قِشْرٌ لَا يُدَّخَرُ الْحَبُّ فِيهِ وَلَا يُؤْكَلُ مَعَهُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي النِّصَابِ، وَالثَّانِي: قِشْرٌ يُدَّخَرُ الْحَبُّ فِيهِ وَيُؤْكَلُ مَعَهُ كَالذُّرَةِ، فَيَدْخُلُ الْقِشْرُ فِي الْحِسَابِ، فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُزَالُ كَمَا تُقَشَّرُ الْحِنْطَةُ. وَفِي

فصل

دُخُولِ الْقِشْرَةِ السُّفْلَى مِنَ الْبَاقِلَاءِ فِي الْحِسَابِ وَجْهَانِ. قَالَ فِي «الْعُدَّةِ» : الْمَذْهَبُ لَا يَدْخُلُ. الثَّالِثُ: قِشْرٌ يُدَّخَرُ الْحَبُّ فِيهِ وَلَا يُؤْكَلُ مَعَهُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي حِسَابِ النِّصَابِ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ الْوَاجِبُ فِيهِ كَالْعَلَسِ وَالْأُرْزِ. أَمَّا الْعَلَسُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ فِي الْأُمِّ: يَبْقَى بَعْدَ دِيَاسِهِ عَلَى كُلِّ حَبَّتَيْنِ مِنْهُ كِمَامٌ لَا يَزُولُ إِلَّا بِالرَّحَى الْخَفِيفَةِ، أَوْ بِمِهْرَاسٍ، وَادِّخَارُهُ فِي ذَلِكَ الْكِمَامِ أَصْلَحُ لَهُ، وَإِذَا أُزِيلَ كَانَ الصَّافِي نِصْفَ الْمَبْلَغِ، فَلَا يُكَلَّفُ صَاحِبُهُ إِزَالَةَ ذَلِكَ الْكِمَامِ عَنْهُ، وَيُعْتَبَرُ بُلُوغُهُ بَعْدَ الدِّيَاسِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ لِيَكُونَ الصَّافِي مِنْهُ خَمْسَةً. وَأَمَّا الْأُرْزُ، فَيُدَّخَرُ أَيْضًا مَعَ قِشْرِهِ، فَإِنَّهُ أَبْقَى لَهُ، وَيُعْتَبَرُ بُلُوغُهُ مَعَ الْقِشْرِ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ كَالْعَلَسِ، وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ قَدْ يُخْرَجُ مِنْهُ الثُّلُثُ، فَيُعْتَبَرُ بُلُوغُهُ قَدْرًا يَكُونُ الْخَارِجُ مِنْهُ نِصَابًا. فَصْلٌ لَا يُضَمُّ التَّمْرُ إِلَى الزَّبِيبِ فِي إِكْمَالِ النِّصَابِ، وَيُضَمُّ أَنْوَاعُ التَّمْرِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَأَنْوَاعُ الزَّبِيبِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا تُضَمُّ الْحِنْطَةُ إِلَى الشَّعِيرِ، وَلَا سَائِرُ أَجْنَاسِ الْحُبُوبِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيُضَمُّ الْعَلَسُ إِلَى الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهَا، وَأَكِمَّتُهُ يَحْوِي الْوَاحِدُ مِنْهَا حَبَّتَيْنِ، وَإِذَا نَحَّيْتَ الْأَكِمَّةَ، خَرَجَتِ الْحِنْطَةُ الصَّافِيَةُ، وَقَبْلَ التَّنْحِيَةِ إِذَا كَانَ لَهُ وَسَقَانِ مِنَ الْعَلَسِ، وَأَرْبَعَةٌ حِنْطَةٌ، تَمَّ نِصَابُهُ. فَلَوْ كَانَتِ الْحِنْطَةُ ثَلَاثَةَ أَوْسُقٍ لَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ أَوْسُقٍ عَلَسًا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَأَمَّا السُّلْتُ، فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ: هُوَ حَبٌّ يُشْبِهُ الْحِنْطَةَ فِي اللَّوْنِ وَالنُّعُومَةِ، وَالشَّعِيرَ فِي بُرُودَةِ الطَّبْعِ، وَعَكَسَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَآخَرُونَ فَقَالُوا: هُوَ فِي صُورَةِ الشَّعِيرِ، وَطَبْعُهُ حَارٌّ كَالْحِنْطَةِ.

قُلْتُ: الصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَا يُضَمُّ إِلَى غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: يُضَمُّ إِلَى الْحِنْطَةِ، وَالثَّالِثُ: إِلَى الشَّعِيرِ. فَرْعٌ تَقَدَّمَ فِي الْخُلْطَةِ خِلَافٌ فِي ثُبُوتِهَا فِي الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ، وَأَنَّهَا إِنْ ثَبَتَتْ فَهَلْ تَثْبُتُ خُلْطَتَا الشُّيُوعِ وَالْجِوَارِ أَمِ الشُّيُوعِ فَقَطْ؟ وَالْمَذْهَبُ ثُبُوتُهُمَا مَعًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَثْبُتَانِ، لَمْ يَكْمُلْ مِلْكُ رَجُلٍ بِمِلْكِ غَيْرِهِ فِي إِتْمَامِ النِّصَابِ، وَإِنْ أَثْبَتْنَاهُمَا كَمُلَ بِمِلْكِ الشَّرِيكِ وَالْجَارِ. وَلَوْ مَاتَ إِنْسَانٌ وَخَلَّفَ وَرَثَةً وَنَخِيلًا مُثْمِرَةً أَوْ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ وَبَدَا الصَّلَاحُ فِي الْحَالَيْنِ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَثْبُتُ الْخُلْطَةُ فِي الثِّمَارِ، فَحُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مُنْقَطِعٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَمَنْ بَلَغَ نَصِيبُهُ نِصَابًا زَكَّى، وَمَنْ لَا فَلَا، وَسَوَاءٌ اقْتَسَمُوا، أَمْ لَا. وَإِنْ قُلْنَا: تَثْبُتُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنِ اقْتَسَمُوا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، زَكَّوْا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ، فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ نَصِيبُهُ نِصَابًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَثْبُتْ خُلْطَةُ الْجِوَارِ، أَوْ أَثْبَتْنَاهَا وَكَانَتْ مُتَبَاعِدَةً. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُتَجَاوِرَةً وَأَثْبَتْنَاهَا، فَيُزَكُّونَ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، كَمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَإِنِ اقْتَسَمُوا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، زَكَّوْا زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، لِاشْتِرَاكِهِمْ حَالَةَ الْوُجُوبِ. ثُمَّ هُنَا اعْتِرَاضَانِ: أَحَدُهُمَا لِلْمُزَنِيِّ، قَالَ: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ، وَبَيْعُ الرِّبَوِيِّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ جُزَافًا لَا يَجُوزُ، وَبَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالرُّطَبِ بَيْعٌ جُزَافٌ، وَأَيْضًا فَبَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. أَجَابَ الْأَصْحَابُ بِجَوَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا: قَالُوا: الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ إِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ، وَلَكِنْ فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهَا إِفْرَازُ الثَّانِي، وَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ، فَتُتَصَوَّرُ الْقِسْمَةُ هُنَا مِنْ وُجُوهٍ.

مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّخِيلِ مُثْمِرًا، وَبَعْضُهَا غَيْرَ مُثْمِرٍ، فَيَجْعَلُ هَذَا سَهْمًا وَذَاكَ سَهْمًا، وَيُقَسِّمُهُ قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ، فَيَكُونُ بَيْعَ نَخِيلٍ وَرُطَبٍ بِنَخْلٍ مُتَمَحِّضٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ نَخْلَتَيْنِ وَالْوَرَثَةُ شَخْصَيْنِ، اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنْ إِحْدَى النَّخْلَتَيْنِ - أَصْلُهَا وَثَمَرُهَا - بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَبَاعَ نَصِيبَهُ مِنَ الْأُخْرَى لِصَاحِبِهِ بِعِشَرَةٍ وَتَقَاصَّا. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالشَّجَرَةِ مَعًا، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا كُلَّهَا بِثَمَرَتِهَا صَفْقَةً، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ إِذَا أَفْرَدَ الثَّمَرَةَ بِالْبَيْعِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ مِنْ ثَمَرَةِ إِحْدَى النَّخْلَتَيْنِ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ جِذْعِهَا، فَيَجُوزُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَلَا يَكُونُ رِبًا، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ بُدُوِّهِ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ ثَمَرَةٍ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي عَلَى جِذْعِ الْبَائِعِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: قِسْمَةُ الثِّمَارِ بِالْخَرْصِ تَجُوزُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ: وَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هُنَا تَفْرِيعٌ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: هَذَا يَدْفَعُ إِشْكَالَ الْبَيْعِ جُزَافًا، وَلَا يَدْفَعُ إِشْكَالَ مَنْعِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ. الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: جَوَازُ الْقِسْمَةِ قَبْلَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْقِسْمَةِ مَعَ التَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِ الْعَيْنِ بِأَنْ تُخَرَّصَ الثِّمَارُ عَلَيْهِمْ، وَيَضْمَنُوا حَقَّ الْمَسَاكِينِ، فَلَهُمُ التَّصَرُّفُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّا حَكَيْنَا فِي قَوْلِ الْبَيْعِ قَوْلَيْنِ تَفْرِيعًا عَلَى التَّعَلُّقِ بِالْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ إِنْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا، وَإِنْ قُلْنَا: إِفْرَازٌ فَلَا مَنْعَ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، فَإِنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ نَخِيلٌ مُثْمِرَةٌ، فَبَدَا الصَّلَاحُ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ أَنْ تُبَاعَ - فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُمْ مَا لَمْ تُبَعْ فِي الدَّيْنِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ؛ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ، وَيُمْكِنُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الدَّيْنَ هَلْ يَمْنَعُ الْإِرْثَ أَمْ لَا؟ فَعَلَى

فصل

الْمَذْهَبِ: حُكْمُهُمْ فِي كَوْنِهِمْ يُزَكُّونَ زَكَاةَ خُلْطَةٍ أَمِ انْفِرَادٍ؟ عَلَى مَا سَبَقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ. ثُمَّ إِنْ كَانُوا مُوسِرِينَ، أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْهُمْ، وَصُرِفَتِ النَّخِيلُ وَالثِّمَارُ إِلَى دَيْنِ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانُوا مُعْسِرِينَ، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ أَمْ بِالْعَيْنِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالذِّمَّةِ وَالْمَالُ مَرْهُونٌ بِهَا خَرَجَ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ. فَإِنْ سَوَّيْنَا وَزَّعَنَا الْمَالَ عَلَى الزَّكَاةِ وَالْغُرَمَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْعَيْنِ أُخِذَتْ، سَوَاءٌ قُلْنَا: تَعَلُّقُ الْأَرْشِ، أَوْ تَعَلُّقُ الشَّرِكَةِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ: تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْمَالِ. ثُمَّ إِذَا أُخِذَتْ مِنَ الْعَيْنِ وَلَمْ يَفِ الْبَاقِي بِالدَّيْنِ غُرِّمَ الْوَرَثَةُ قَدْرَ الزَّكَاةِ لِغُرَمَاءِ الْمَيِّتِ إِذَا أَيْسَرُوا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ، وَبِسَبَبِهِ خَرَجَ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنِ الْغُرَمَاءِ. قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: هَذَا إِذَا قُلْنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ. فَإِنْ عَلَّقْنَاهَا بِالْعَيْنِ لَمْ يُغَرَّمُوا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الرَّهْنِ. أَمَّا إِذَا كَانَ إِطْلَاعُ النَّخْلِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالثَّمَرَةُ مَحْضُ حَقِّ الْوَرَثَةِ، لَا تُصْرَفُ إِلَى دَيْنِ الْغُرَمَاءِ، إِلَّا إِذَا قُلْنَا بِالضَّعِيفِ: إِنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْإِرْثَ، فَحُكْمُهَا كَمَا لَوْ حَدَثَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ. فَصْلٌ لَا تُضَمُّ ثَمَرَةُ الْعَامِ الثَّانِي إِلَى ثَمَرَةِ الْعَامِ الْأَوَّلِ فِي إِكْمَالِ النِّصَابِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ فُرِضَ إِطْلَاعُ ثَمَرَةِ الْعَامِ الثَّانِي قَبْلَ جِدَادِ ثَمَرَةِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَتْ لَهُ نَخِيلٌ تَحْمِلُ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ، لَمْ يُضَمَّ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا لَا يَكَادُ يَقَعُ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْمِلَانِ فِي السَّنَةِ حَمْلَيْنِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي التِّينِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَسْأَلَةَ بَيَانًا لِحُكْمِهَا لَوْ تُصُوِّرَتْ. ثُمَّ إِنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ فَصَّلَ فَقَالَ: إِنْ أَطْلَعَتِ النَّخْلُ الْحِمْلَ الثَّانِي بَعْدَ جِدَادِ الْأَوَّلِ، فَلَا يُضَمُّ، وَإِنْ أَطْلَعَتْ قَبْلَ جِدَادِهِ وَبَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَمْلِ نَخْلَتَيْنِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يُخَالِفُ

إِطْلَاقَ الْجُمْهُورِ عَدَمَ الضَّمِّ؛ لِأَنَّ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ الْحَمْلِ الثَّانِي هُوَ الْحَادِثُ بَعْدَ جِدَادِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ نَخِيلٌ أَوْ أَعْنَابٌ يَخْتَلِفُ إِدْرَاكُ ثِمَارِهَا فِي الْعَامِ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا أَوْ بِلَادِهَا، فَإِنْ أَطْلَعَ الْمُتَأَخِّرُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأَوَّلِ، ضُمَّ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَطْلَعَ بَعْدَ جِدَادِ الْأَوَّلِ فَوَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ وَأَصْحَابُ الْقَفَّالِ: لَا يُضَمُّ، وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: يُضَمُّ، وَفِي ظَاهِرِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ لَهُمْ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَرَجَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ إِطْلَاعُهُ قَبْلَ جِدَادِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: فِيمَا بَعْدُ الْجِدَادِ يُضَمُّ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا فِي التَّهْذِيبِ: لَا يُضَمُّ، وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ أَصْحَابِ الْقَفَّالِ، فَهَلْ يُقَامُ وَقْتُ الْجِدَادِ مَقَامَ الْجِدَادِ؟ وَجْهَانِ. أَوْفَقُهُمَا: يُقَامُ، فَإِنَّ الثِّمَارَ بَعْدَ وَقْتِ الْجِدَادِ كَالْمَجْدُودَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَطْلَعَتِ النَّخْلَةُ لِلْعَامِ الثَّانِي وَعَلَيْهَا بَعْضُ ثَمَرَةِ الْأَوَّلِ لَمْ يُضَمَّ قَطْعًا. فَعَلَى هَذَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لِجِدَادِ الثِّمَارِ أَوَّلُ وَقْتٍ وَنِهَايَةٌ يَكُونُ تَرْكُ الثِّمَارِ إِلَيْهَا أَوْلَى، وَتِلْكَ النِّهَايَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ. فَرْعٌ مِنْ مَوَاضِعِ اخْتِلَافِ إِدْرَاكِ الثَّمَرِ نَجْدٌ، وَتِهَامَةٌ. فَتِهَامَةُ حَارَّةٌ يُسْرَعُ إِدْرَاكُ الثَّمَرَةِ بِهَا، بِخِلَافِ نَجْدٍ، فَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ نَخِيلٌ تِهَامِيَّةٌ، وَنَخِيلٌ نَجْدِيَّةٌ، فَأَطْلَعَتِ التِّهَامِيَّةُ ثُمَّ النَّجْدِيَّةُ لِذَلِكَ الْعَامِ، وَاقْتَضَى الْحَالُ ضَمَّ النَّجْدِيَّةِ إِلَى التَّهَامِيَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، فَضَمَّهَا ثُمَّ أَطْلَعَتِ التِّهَامِيَّةُ ثَمَرَةً أُخْرَى - فَلَا يَضُمُّ ثَمَرَةَ هَذِهِ الْمَرَّةِ إِلَى النَّجْدِيَّةِ وَإِنْ أَطْلَعَتْ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ لِأَنَّا لَوْ ضَمَمْنَاهَا إِلَى النَّجْدِيَّةِ لَزِمَ ضَمُّهَا إِلَى التِّهَامِيَّةِ الْأُولَى، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ:

فصل

وَلَوْ لَمْ تَكُنِ النَّجْدِيَّةُ مَضْمُومَةً إِلَى التَّهَامِيَّةِ الْأُولَى بِأَنْ أَطْلَعَتْ بَعْدَ جِدَادِهَا - ضَمَمْنَا التَّهَامِيَّةَ الثَّانِيَةَ إِلَى النَّجْدِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ قَدْ لَا يُسَلِّمُهُ سَائِرُ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِضَمِّ ثَمَرَةِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَبِأَنَّهُ لَا تُضَمُّ ثَمَرَةُ عَامٍ إِلَى ثَمَرَةِ عَامٍ آخَرَ، وَالتِّهَامِيَّةُ الثَّانِيَةُ حِمْلُ عَامٍ آخَرَ. فَصْلٌ لَا يُضَمُّ زَرْعُ عَامٍ إِلَى زَرْعِ عَامٍ آخَرَ فِي إِكْمَالِ النِّصَابِ وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الزِّرَاعَةِ، لِضَرُورَةِ التَّدْرِيجِ، كَالَّذِي يَبْتَدِئُ الزِّرَاعَةَ، وَيَسْتَمِرُّ فِيهَا شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ لَا يَقْدَحُ، بَلْ يُعَدُّ زَرْعًا وَاحِدًا، وَيُضَمُّ قَطْعًا. ثُمَّ الشَّيْءُ قَدْ يُزْرَعُ فِي السَّنَةِ مِرَارًا، كَالذُّرَةِ تُزْرَعُ فِي الْخَرِيفِ وَالرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ، فَفِي ضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضِ عَشْرَةُ أَقْوَالٍ، أَكْثَرُهَا مَنْصُوصَةٌ. وَأَرْجَحُهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: إِنْ وَقَعَ الْحَصَادَانِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، ضُمَّ، وَإِلَّا فَلَا. الثَّانِي: إِنْ وَقَعَ الزَّرْعَانِ فِي سَنَةٍ، ضُمَّ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يُؤْثِرُ اخْتِلَافُ الْحَصَادِ وَاتِّفَاقُهُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ وَقَعَ الزَّرْعَانِ وَالْحَصَادَانِ فِي سَنَةٍ، ضُمَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَاجْتِمَاعُهُمَا فِي سَنَةٍ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ زَرْعِ الْأَوَّلِ وَحَصْدِ الثَّانِي، أَقَلُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا عَرَبِيَّةً. كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالتَّهْذِيبِ. وَالرَّابِعُ: إِنْ وَقَعَ الزَّرْعَانِ وَالْحَصَادَانِ، أَوْ زَرْعُ الثَّانِي وَحَصْدُ الْأَوَّلِ فِي سَنَةٍ، ضُمَّ، وَهَذَا بِعِيدٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. وَالْخَامِسُ: الِاعْتِبَارُ بِجَمِيعِ السَّنَةِ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ؛ إِمَّا الزَّرْعَيْنِ وَإِمَّا الْحَصَادَيْنِ. وَالسَّادِسُ: إِنْ وَقَعَ الْحَصَادَانِ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ، ضُمَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَالسَّابِعُ: إِنْ وَقَعَ الزَّرْعَانِ فِي فَصْلٍ، ضُمَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّامِنُ: إِنْ وَقَعَ الزَّرْعَانِ وَالْحَصَادَانِ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ، ضُمَّ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْمُرَادُ بِالْفَصْلِ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. وَالتَّاسِعُ أَنَّ الْمَزْرُوعَ بَعْدَ حَصْدِ الْأَوَّلِ لَا يُضَمُّ كَحَمْلَيِ الشَّجَرَةِ. وَالْعَاشِرُ خَرَّجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ مَا يُعَدُّ زَرْعَ سَنَةٍ يُضَمُّ،

وَلَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ الزَّرْعِ وَالْحَصَادِ. قَالَ: وَلَا أَعْنِي بِالسَّنَةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا؛ فَإِنَّ الزَّرْعَ لَا يَبْقَى هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَإِنَّمَا أَعْنِي بِهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِلَى ثَمَانِيَةٍ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ زَرْعُ الثَّانِي بَعْدَ حَصْدِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ زَرْعُ الثَّانِي بَعْدَ اشْتِدَادِ حَبِّ الْأَوَّلِ فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالضَّمِّ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْحُصُولِ فِي الْأَرْضِ. وَلَوْ وَقَعَ الزَّرْعَانِ مَعًا أَوْ عَلَى التَّوَاصُلِ الْمُعْتَادِ، ثُمَّ أَدْرَكَ أَحَدُهُمَا وَالثَّانِي بَقْلٌ لَمْ يَنْعَقِدْ حَبُّهُ، فَطَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالضَّمِّ، وَالثَّانِي: عَلَى الْخِلَافِ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَأَخَّرَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِ الثِّمَارِ، فَإِنَّهُ يُضَمُّ إِلَى مَا بَدَا فِيهِ الصَّلَاحُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الْحَاصِلَةَ هِيَ مُتَعَلِّقُ الزَّكَاةِ بِعَيْنِهَا، وَالْمُنْتَظَرُ فِيهَا صِفَةُ الثَّمَرَةِ، وَهُنَا مُتَعَلِّقُ الزَّكَاةِ الْحَبُّ، وَلَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، وَالْمَوْجُودُ حَشِيشٌ مَحْضٌ. فَرْعٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الذُّرَةُ تُزْرَعُ مَرَّةً فَتَخْرُجُ فَتُحْصَدُ، ثُمَّ تُسْتَخْلَفُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَتُحْصَدُ أُخْرَى، فَهُوَ زَرْعٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ حَصْدَتُهُ الْأُخْرَى. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: مُرَادُهُ إِذَا سَنْبَلَتْ وَاشْتَدَّتْ، فَانْتَثَرَ بَعْضُ حَبَّاتِهَا بِنَفْسِهَا، أَوْ بِنَقْرِ الْعَصَافِيرِ، أَوْ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ، فَنَبَتَتِ الْحَبَّاتُ الْمُنْتَثِرَةُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مَرَّةً أُخْرَى وَأَدْرَكَتْ، وَالثَّانِي: مُرَادُهُ إِذَا نَبَتَتْ وَالْتَقَتْ، وَعَلَا بَعْضُ طَاقَاتِهَا فَغَطَّى الْبَعْضَ، وَبَقِيَ الْمُغَطَّى مُخْضَرًّا تَحْتَ الْعَالِي، فَإِذَا حُصِدَ الْعَالِي أَثَّرَتِ الشَّمْسُ فِي الْمُخْضَرِّ، فَأَدْرَكَ، وَالثَّالِثُ: مُرَادُهُ الذُّرَةُ الْهِنْدِيَّةُ، تُحْصَدُ سَنَابِلُهَا، وَتَبْقَى سُوقُهَا، فَتُخْرِجُ سَنَابِلَ أُخَرَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُرَادِ بِالنَّصِّ، وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَا نُصَّ عَلَيْهِ،

فصل

قُطِعَ مِنْهُ بِالضَّمِّ، وَلَيْسَ تَفْرِيعًا عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ فِي الْفَرْعِ الْمَاضِي. فَذَكَرُوا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالضَّمِّ، وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى الْأَقْوَالِ فِي الزَّرْعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْوَقْتِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَالْبَغَوِيِّ، تَرْجِيحُ هَذَا. وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالضَّمِّ، وَالثَّانِي: عَلَى الْخِلَافِ. وَفِي الثَّالِثِ: طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: الْقَطْعُ بِالضَّمِّ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الضَّمِّ، وَالثَّالِثُ: عَلَى الْخِلَافِ. فَصْلٌ يَجِبُ فِيمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ الْعُشْرُ، وَكَذَا الْبَقْلُ وَهُوَ الَّذِي يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ لِقُرْبِهِ مِنَ الْمَاءِ، وَكَذَا مَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ يَنْصَبُّ إِلَيْهِ مِنْ جَبَلٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ كَبِيرَةٍ، فَفِي هَذَا كُلِّهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ أَوِ الدِّلَاءِ أَوِ الدَّوَالِيبِ، فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَكَذَا مَا سُقِيَ بِالدَّالِيَةِ وَهِيَ الْمَنْجَنُونُ يُدِيرُهَا الْبَقَرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّاعُورِ وَهُوَ مَا يُدِيرُهُ الْمَاءُ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا الْقَنَوَاتُ وَالسَّوَاقِي الْمَحْفُورَةُ مِنَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ، فَفِيهَا الْعُشْرُ كَمَاءِ السَّمَاءِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ طَوَائِفُ الْأَصْحَابِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَادَّعَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقَنَوَاتِ إِنَّمَا تُتَحَمَّلُ لِإِصْلَاحِ الضَّيْعَةِ، وَالْأَنْهَارُ تُشَقُّ لِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ، وَإِذَا تَهَيَّأَتْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى الزَّرْعِ بِنَفْسِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، بِخِلَافِ النَّوَاضِحِ وَنَحْوِهَا، فَمُؤْنَتُهَا فِيهَا لِنَفْسِ الزَّرْعِ. وَلَنَا وَجْهٌ أَفْتَى بِهِ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ الْعُشْرِ فِي السَّقْيِ بِمَاءِ الْقَنَاةِ، وَقَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: إِنْ كَانَتِ الْقَنَاةُ أَوِ الْعَيْنُ كَثِيرَةَ الْمُؤْنَةِ بِأَنْ لَا تَزَالَ تَنْهَارُ وَتَحْتَاجُ إِلَى إِحْدَاثِ حَفْرٍ، وَجَبَ نِصْفُ الْعُشْرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مُؤْنَةٌ أَكْثَرُ مِنْ مُؤْنَةِ الْحَفْرِ الْأَوَّلِ، وَكَسَحَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَالْعُشَرُ، وَالْمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ.

فَرْعٌ قَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ: لَوِ اشْتَرَى الْمَاءَ كَانَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَكَذَا لَوْ سَقَاهُ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ؛ لَأَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَهُ، وَهَذَا حَسَنٌ جَارٍ عَلَى كُلِّ مَأْخَذٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِصَلَاحِ الضَّيْعَةِ، بِخِلَافِ الْقَنَاةِ. ثُمَّ حَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ وَهَبَ لَهُ الْمَاءَ، وَرَجَّحَ إِلْحَاقَهُ بِالْمَغْصُوبِ لِلْمِنَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَكَمَا لَوْ عَلَفَ مَاشِيَتَهُ بِعَلَفٍ مَوْهُوبٍ. قُلْتُ: الْوَجْهَانِ إِذَا قُلْنَا: لَا تَقْتَضِي الْهِبَةُ ثَوَابًا. صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ، قَالَ: فَإِنْ قُلْنَا: تَقْتَضِيهِ، فَنِصْفُ الْعُشْرِ قَطْعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الزَّرْعِ الْوَاحِدِ السَّقْيُ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالنَّضْحِ فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَزْرَعَ عَازِمًا عَلَى السَّقْيِ بِهِمَا، فَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُقَسَّطُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ ثُلُثَا السَّقْيِ بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَالثُّلُثُ بِالنَّضْحِ وَجَبَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعُشْرِ. وَلَوْ سُقِيَ عَلَى التَّسَاوِي وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ، وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ بِالْأَغْلَبِ، فَإِنْ كَانَ مَاءُ السَّمَاءِ أَغْلَبَ وَجَبَ الْعُشْرُ، وَإِنْ غَلَبَ النَّضْحُ فَنِصْفُ الْعُشْرِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُقَسَّطُ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: يَجِبُ الْعُشْرُ؛ نَظَرًا لِلْمَسَاكِينِ. ثُمَّ سَوَاءٌ قَسَّطْنَا أَوِ اعْتَبَرْنَا الْأَغْلَبَ، فَالنَّظَرُ إِلَى مَاذَا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: النَّظَرُ إِلَى عَدَدِ السَّقَيَاتِ، وَالْمُرَادُ: السَّقَيَاتُ النَّافِعَةُ دُونَ مَا لَا يَنْفَعُ. وَالثَّانِي وَهُوَ أَوْفَقُ لِظَاهِرِ النَّصِّ: الِاعْتِبَارُ بِعَيْشِ الزَّرْعِ أَوِ الثَّمَرِ وَنَمَائِهِ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الثَّانِي بِالنَّظَرِ إِلَى النَّفْعِ، وَقَدْ تَكُونُ السَّقْيَةُ الْوَاحِدَةُ

أَنْفَعَ مِنْ سَقَيَاتٍ كَثِيرَةٍ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْعِبَارَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ، إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ الثَّانِيَةِ لَا يَنْظُرُ إِلَى الْمُدَّةِ، بَلْ يَعْتَبِرُ النَّفْعَ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، وَصَاحِبُ الْأُولَى يَعْتَبِرُ الْمُدَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمُدَّةِ هُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، تَفْرِيعًا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَذَكَرُوا فِي الْمِثَالِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمُدَّةُ مِنْ يَوْمِ الزَّرْعِ إِلَى يَوْمِ الْإِدْرَاكِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَاحْتَاجَ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ زَمَنَ الشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ إِلَى سَقْيَتَيْنِ، فَسُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَفِي شَهْرَيْنِ مِنَ الصَّيْفِ إِلَى ثَلَاثِ سَقَيَاتٍ، فَسُقِيَ بِالنَّضْحِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا عَدَدَ السَّقَيَاتِ، فَعَلَى قَوْلِ التَّوْزِيعِ: يَجِبُ خُمُسَا الْعُشْرِ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ نِصْفِ الْعُشْرِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ: يَجِبُ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمُدَّةَ فَعَلَى قَوْلِ التَّوْزِيعِ: يَجِبُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ وَرُبُعُ نِصْفِ الْعُشْرِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ: يَجِبُ الْعُشْرُ. وَلَوْ سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالنَّضْحِ جَمِيعًا، وَجُهِلَ الْمِقْدَارُ، وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِمَّا زَادَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَزْرَعَ نَاوِيًا السَّقْيَ بِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَقَعُ الْآخَرُ، فَهَلْ يُسْتَصْحَبُ حُكْمُ مَا نَوَاهُ أَوَّلًا أَمْ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِهِمَا الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ. فَرْعٌ لَوِ اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالسَّاعِي فِي أَنَّهُ بِمَاذَا سَقَى؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ. فَرْعٌ لَوْ سَقَى زَرْعًا بِمَاءِ السَّمَاءِ وَآخَرَ بِالنَّضْحِ، وَلَمْ يَبْلُغْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا نِصَابًا - ضُمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ؛ لِتَمَامِ النِّصَابِ وَإِنِ اخْتَلَفَ قَدْرُ الْوَاجِبِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا كَانَ الَّذِي يَمْلِكُهُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ نَوْعًا وَاحِدًا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ، فَإِنْ أَخْرَجَ أَعْلَى مِنْهُ أَجْزَأَهُ، وَدُونَهُ لَا يَجُوزُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَسَّرْ أَخْذُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِالْحِصَّةِ أُخِذَ بِالْحِصَّةِ، بِخِلَافِ نَظِيرِهِ فِي الْمَوَاشِي، فَقَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ التَّشْقِيصَ مَحْذُورٌ فِي الْحَيَوَانِ دُونَ الثِّمَارِ، وَطَرَدَ ابْنُ كَجٍّ الْقَوْلَيْنِ هُنَا، وَالْمَذْهَبُ: الْفَرْقُ. فَإِنْ عَسُرَ أَخْذُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِأَنْ كَثُرَتْ وَقَلَّ ثَمَرُهَا - فَفِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُخْرَجُ مِنَ الْوَسَطِ؛ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَالثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِقِسْطِهِ، وَالثَّالِثُ: مِنَ الْغَالِبِ، وَقِيلَ: يُؤْخَذُ الْوَسَطُ قَطْعًا. وَإِذَا قُلْنَا بِالْوَسَطِ فَتَكَلَّفَ وَأَخْرَجَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِقِسْطِهِ - جَازَ، وَوَجَبَ عَلَى السَّاعِي قَبُولُهُ. فَرْعٌ إِذَا حَضَرَ السَّاعِي لِأَخْذِ الْعُشْرِ كُيِّلَ لِرَبِّ الْمَالِ تِسْعَةً وَأَخَذَ السَّاعِي الْعَاشِرَ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِالْمَالِكِ لِأَنَّ حَقَّهُ أَكْثَرُ، وَبِهِ يُعْرَفُ حَقُّ الْمَسَاكِينِ. فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْعُشْرِ، كُيِّلَ لِرَبِّ الْمَالِ تِسْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ لِلسَّاعِي وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ كُيِّلَ لِلْمَالِكِ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَلِلسَّاعِي ثَلَاثَةٌ، وَلَا يُهَزُّ الْمِكْيَالُ، وَلَا يُزَلْزَلُ، وَلَا تُوضَعُ الْيَدُ فَوْقَهُ، وَلَا يُمْسَحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، بَلْ يُصَبُّ فِيهِ مَا يَحْتَمِلُهُ ثُمَّ يُفَرَّغُ.

فصل

فَصْلٌ وَقْتُ وُجُوبِ زَكَاةِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ الزَّهْوُ، وَهُوَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ. وَوَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الْحُبُوبِ اشْتِدَادُهَا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَشْهُورُ. وَحُكِيَ قَوْلُ أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ الْجَفَافُ وَالتَّصْفِيَةُ، وَلَا يَتَقَدَّمُ الْوُجُوبُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ، وَقَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عِنْدَ فِعْلِ الْحَصَادِ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَأَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ فِي الْبَعْضِ كَبُدُوِّهِ فِي الْجَمِيعِ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ. وَلَا يُشْتَرَطُ تَمَامُ اشْتِدَادِ الْحَبِّ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ تَمَامُ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى نَخِيلًا مُثْمِرَةً، أَوْ وَرِثَهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، ثُمَّ بَدَا - فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَلَوِ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَبَدَا الصَّلَاحُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ فُسِخَ، وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ فَالزَّكَاةُ مَوْقُوفَةٌ، وَلَوْ بَاعَ الْمُسْلِمُ النَّخْلَةَ الْمُثْمِرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لِذِمِّيٍّ أَوْ مَكَاتَبٍ، فَبَدَا الصَّلَاحُ فِي مِلْكِهِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ. فَلَوْ عَادَ إِلَى مِلْكِ الْمُسْلِمِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، بِبَيْعٍ مُسْتَأْنَفٍ، أَوْ بِهِبَةٍ، أَوْ تَقَايُلٍ، أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ حَالَ الْوُجُوبِ. وَلَوْ بَاعَ النَّخِيلَ لِمُسْلِمٍ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَبَدَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا - فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ إِلَّا بِرِضَى الْبَائِعِ؛ لِتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهَا، وَهُوَ كَعَيْبٍ حَدَثَ فِي يَدِهِ، فَإِنْ أَخْرَجَ الْمُشْتَرِي الزَّكَاةَ مِنْ نَفْسِ الثَّمَرَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، فَحُكْمُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ مِنْ زَكَاةِ النَّعَمِ. أَمَّا إِذَا بَاعَ الثَّمَرَةَ وَحْدَهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَإِنْ شَرَطَهُ وَلَمْ يَتَّفِقِ الْقَطْعُ حَتَّى بَدَا الصَّلَاحُ، فَقَدْ وَجَبَ الْعُشْرُ. ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ رَضِيَا بِإِبْقَائِهَا إِلَى أَوَانِ الْجِدَادِ - جَازَ، وَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَحُكِيَ قَوْلٌ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ كَمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْإِبْقَاءِ عِنْدَ الْبَيْعِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ لَمْ يَرْضَيَا بِالْإِبْقَاءِ لَمْ تُقْطَعِ الثَّمَرَةُ؛

لِأَنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالْمَسَاكِينِ. ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ لِتَعَذُّرِ إِمْضَائِهِ. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يَنْفَسِخُ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِالْإِبْقَاءِ، يُفْسَخُ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ وَأَبَى الْمُشْتَرِي إِلَّا الْقَطْعَ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُفْسَخُ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُفْسَخُ. وَلَوْ رَضِيَ الْبَائِعُ ثُمَّ رَجَعَ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ إِعَارَةٌ، وَحَيْثُ قُلْنَا: يُفْسَخُ الْبَيْعُ، فَفُسِخَ، فَعَلَى مَنْ تَجِبُ الزَّكَاةُ؟ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى الْبَائِعِ، وَأَظْهَرُهُمَا: عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ فُسِخَ بِعَيْبٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَ السَّاعِي مِنْ عَيْنِ الثَّمَرَةِ رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ وَاشْتِدَادَ الْحَبِّ وَقْتَ الْوُجُوبِ، لَمْ يُكَلَّفِ الْإِخْرَاجَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْإِخْرَاجِ إِذَا صَارَ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ حَبًّا مُصَفًّى، وَصَارَ لِلْفُقَرَاءِ فِي الْحَالِ حَقٌّ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ إِجْزَاءً، فَلَوْ أَخْرَجَ الرُّطَبَ فِي الْحَالِ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ أَخَذَ السَّاعِي الرُّطَبَ، لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعُ، وَوَجَبَ رَدُّهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِنْ تَلِفَ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - أَنَّهُ يَرُدُّ قِيمَتَهُ، وَالثَّانِي: يَرُدُّ مَثَلَهُ. وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرُّطَبَ وَالْعِنَبَ مِثْلِيَّانِ، أَمْ لَا؟ وَلَوْ جَفَّ عِنْدَ السَّاعِي، فَإِنْ كَانَ قَدْرَ الزَّكَاةِ، أَجْزَأَ، وَإِلَّا رَدَّ التَّفَاوُتَ أَوْ أَخَذَهُ، كَذَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالْأَوْلَى: وَجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ بِحَالٍ؛ لِفَسَادِ الْقَبْضِ مِنْ أَصْلِهِ، وَمَئُونَةُ تَجْفِيفِ الثَّمَرِ وَجِدَادُهُ وَحَصَادُ الْحَبِّ وَتَصْفِيَتُهُ تَكُونُ مِنْ خَلَاصِ مَالِ الْمَالِكِ لَا يُحْسَبُ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا هُوَ فِي الرُّطَبِ الَّذِي يَجِيءُ مِنْهُ تَمْرٌ، فَإِنْ كَانَ لَا يَجِيءُ شَيْءٌ مِنْهُ، فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فصل

فَصْلٌ خَرْصُ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ اللَّذَيْنِ تَجِبُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ مُسْتَحَبٌّ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ حَكَاهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ حِكَايَةِ الصَّيْمَرِيِّ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْخَرْصُ فِي الزَّرْعِ. وَوَقْتُ خَرْصِ الثَّمَرَةِ بُدُوُّ الصَّلَاحِ، وَصِفَتُهُ أَنْ يَطُوفَ بِالنَّخْلَةِ وَيَرَى جَمِيعَ عَنَاقِيدِهَا وَيَقُولَ: خَرْصُهَا كَذَا رُطَبًا، وَيَجِيءُ مِنْهُ مِنَ التَّمْرِ كَذَا، ثُمَّ يَفْعَلُ بِالنَّخْلَةِ الْأُخْرَى كَذَلِكَ، وَكَذَا بَاقِي الْحَدِيقَةِ. وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى رُؤْيَةِ الْبَعْضِ وَقِيَاسِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ، وَإِنَّمَا تُخْرَصُ رُطَبًا ثُمَّ تَمْرًا؛ لِأَنَّ الْأَرْطَابَ تَتَفَاوَتُ، فَإِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ جَازَ أَنْ يُخْرَصَ الْجَمِيعُ رُطَبًا ثُمَّ تَمْرًا، ثُمَّ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُخْرَصُ جَمِيعُ النَّخْلِ، وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّهُ يُتْرَكُ لِلْمَالِكِ نَخْلَةٌ أَوْ نَخَلَاتٌ يَأْكُلُهَا أَهْلُهُ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ فِي كَثْرَةِ عِيَالِهِ وَقِلَّتِهِمْ. قُلْتُ: هَذَا الْقَدِيمُ نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الْبُوَيْطِيِّ وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَصِّهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَالْبُيُوعِ وَالْقَدِيمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ هَلْ يَكْفِي خَارِصٌ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ خَارِصِينَ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِخَارِصٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْإِصْطَخْرِيُّ. وَأَصَحُّهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: وَاحِدٌ، وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ خَرَصَ عَلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ غَائِبٍ، فَلَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ، وَإِلَّا كَفَى وَاحِدٌ، وَسَوَاءٌ اكْتَفَيْنَا بِوَاحِدٍ، أَمِ اشْتَرَطْنَا اثْنَيْنِ، فَشَرْطُ الْخَارِصِ كَوْنُهُ مُسْلِمًا عَدْلًا، عَالِمًا بِالْخَرْصِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ، فَقَالَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : إِنِ اكْتَفَيْنَا بِوَاحِدٍ، اعْتُبِرَا، وَإِلَّا جَازَ

عَبْدٌ وَامْرَأَةٌ، وَذَكَرَ الشَّاشِيُّ فِي اعْتِبَارِ الذُّكُورَةِ وَجْهَيْنِ مُطْلَقًا. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنِ اكْتَفَيْنَا بِوَاحِدٍ، فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْحُكْمِ، فَتُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا اثْنَيْنِ، فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الشَّهَادَاتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُشْتَرَطَ الْحُرِّيَّةُ، وَأَنْ تُشْتَرَطَ الذُّكُورَةُ فِي أَحَدِهِمَا، وَتُقَامَ امْرَأَتَانِ مَقَامَ الْآخَرِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ، وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَلَوِ اخْتَلَفَ الْخَارِصَانِ، تَوَقَّفْنَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمِقْدَارُ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا. قَالَهُ الدَّارِمِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ هَلِ الْخَرْصُ عِبْرَةٌ أَوْ تَضْمِينٌ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: تَضْمِينٌ، وَمَعْنَاهُ: يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَسَاكِينِ مِنْ عَيْنِ الثَّمَرَةِ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى ذِمَّةِ الْمَالِكِ. وَالثَّانِي: عِبْرَةٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُجَرَّدُ اعْتِبَارٍ لِلْقَدْرِ، وَلَا يَضُرُّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ. وَفَائِدَتُهُ عَلَى هَذَا جَوَازُ التَّصَرُّفِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا: لَوْ أَتْلَفَ الْمَالِكُ الثِّمَارَ، أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِحِسَابِ مَا خَرَصَ، وَلَوْلَا الْخَرْصُ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ. فَإِذَا قُلْنَا: عِبْرَةٌ، فَضَمِنَ الْخَارِصُ لِلْمَالِكِ حَقَّ الْمَسَاكِينِ تَضْمِينًا صَرِيحًا وَقَبِلَهُ الْمَالِكُ، كَانَ لَغْوًا، وَيَبْقَى حَقُّهُمْ عَلَى مَا كَانَ. وَإِذَا قُلْنَا: تَضْمِينٌ، فَهَلْ نَفْسُ الْخَرْصِ تَضْمِينٌ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْرِيحِ الْخَارِصِ بِذَلِكَ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: نَفْسُهُ تَضْمِينٌ، وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَعَلَى هَذَا فَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يَكْفِي تَضْمِينُ الْخَارِصِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى قَبُولِ الْمَالِكِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالتَّضْمِينِ وَقَبُولِ الْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يَضْمَنْهُ أَوْ ضَمِنَهُ، فَلَمْ يَقْبَلِ الْمَالِكُ، بَقِيَ حَقُّ الْمَسَاكِينِ عَلَى مَا كَانَ، وَهَلْ يَقُومُ وَقْتُ الْخَرْصِ مَقَامَ الْخَرْصِ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالتَّضْمِينِ، لَمْ يَقُمْ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يَقُومُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا أَصَابَتِ الثِّمَارَ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ أَوْ سُرِقَتْ فِي الشَّجَرَةِ أَوْ فِي الْجَرِينِ قَبْلَ الْجَفَافِ، فَإِنْ تَلِفَ الْجَمِيعُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَالِكِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ لِفَوَاتِ الْإِمْكَانِ، وَالْمُرَادُ إِذَا لَمْ يُقَصِّرُ. فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ الدَّفْعُ فَأَخَّرَ، أَوْ وَضَعَهَا فِي غَيْرِ حِرْزٍ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ. وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُ الثِّمَارِ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُونِهِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ لِلضَّمَانِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ، وَإِلَّا زَكَّى الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ. أَمَّا إِذَا أَتْلَفَ الْمَالِكُ الثَّمَرَةَ أَوْ أَكَلَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَلَا زَكَاةَ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ إِنْ قَصَدَ الْفِرَارَ مِنْهَا، وَإِنْ قَصَدَ الْأَكْلَ أَوِ التَّخْفِيفَ عَنِ الشَّجَرَةِ أَوْ غَرَضًا آخَرَ، فَلَا كَرَاهَةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الصَّلَاحِ، ضَمِنَ لِلْمَسَاكِينِ. ثُمَّ لَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الْخَرْصِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْخَرْصُ تَضْمِينٌ ضَمِنَ لَهُمْ عُشْرَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ بِالْخَرْصِ، وَإِنْ قُلْنَا: عِبْرَةٌ، فَهَلْ يَضْمَنُ عُشْرَ الرُّطَبِ، أَوْ قِيمَةَ عُشْرِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِثْلِيٌّ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ: عُشْرُ الْقِيمَةِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِتْلَافُ قَبْلَ الْخَرْصِ، فَيُعَزَّرَ، وَالْوَاجِبُ ضَمَانُ الرُّطَبِ، إِنْ قُلْنَا: لَوْ جَرَى الْخَرْصُ لَكَانَ عِبْرَةً. وَإِنْ قُلْنَا: تَضْمِينٌ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: ضَمَانُ الرُّطْبِ. وَالثَّانِي: التَّمْرُ. وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِ الثَّمَنِ، وَقِيمَةُ عُشْرِ الرُّطَبِ. وَالْحَالَانِ مَفْرُوضَانِ فِي رُطَبٍ يَجِيءُ مِنْهُ تَمْرٌ وَعِنَبٍ يَجِيءُ مِنْهُ زَبِيبٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ فِي الْحَالَيْنِ ضَمَانُ الرُّطَبِ بِلَا خِلَافٍ.

فَرْعٌ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِيمَا خَرَصَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ وَالْأَكْلِ وَغَيْرِهِمَا، مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلَيِ التَّضْمِينِ وَالْعِبْرَةِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّضْمِينِ تَصَرَّفَ فِي الْجَمِيعِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْعِبْرَةِ فَنُفُوذُ تَصَرُّفِهِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالذِّمَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ. وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ (أَنَّ) الْأَصْحَابَ قَطَعُوا بِنُفُوذِهِ. وَلَكِنَّ الْمَوْجُودَ فِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَلَا سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الثِّمَارِ إِذَا لَمْ يَصِرِ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ بِالْخَرْصِ. فَإِنْ أَرَادُوا نَفْيَ الْإِبَاحَةِ دُونَ الْفَسَادِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَدَعْوَى الْقَطْعِ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ. وَكَيْفَ كَانَ فَالْمَذْهَبُ جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَعْشَارِ التِّسْعَةِ، سَوَاءٌ أُفْرِدَتْ بِالتَّصَرُّفِ أَوْ تُصُرِّفَ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّا وَإِنْ قُلْنَا بِالْفَسَادِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ فَلَا يُعَدِّيهِ إِلَى الْبَاقِي عَلَى الْمَذْهَبِ. أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ الْمَالِكُ قَبْلَ الْخَرْصِ، فَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ وَلَا يَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْعَثِ الْحَاكِمُ خَارِصًا أَوْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ - يُحَاكَمُ إِلَى عَدْلَيْنِ يَخْرُصَانِ عَلَيْهِ. فَرْعٌ إِذَا ادَّعَى الْمَالِكُ هَلَاكَ الثِّمَارِ الْمَخْرُوصَةِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضِهَا، نُظِرَ، إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى سَبَبٍ يُكَذِّبُهُ الْحِسُّ كَقَوْلِهِ: هَلَكَ بِحَرِيقٍ وَقَعَ فِي الْجَرِينِ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْجَرِينِ حَرِيقٌ - لَمْ نُبَالِ بِكَلَامِهِ، وَإِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى سَبَبٍ خَفِيٍّ كَالسَّرِقَةِ، لَمْ يُكَلَّفْ بَيِّنَةً، وَيَقْبَلْ قَوْلَهُ بِيَمِينِهِ. وَهَلْ يَمِينُهُ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مُسْتَحَبَّةٌ، وَإِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ، كَالْبَرْدِ، وَالنَّهْبِ وَالْجَرَادِ، وَنُزُولِ الْعَسْكَرِ، فَإِنْ عُرِفَ

وُقُوعُ ذَلِكَ السَّبَبِ وَعُمُومُ أَثَرِهِ، صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ. فَإِنِ اتُّهِمَ فِي هَلَاكِ ثِمَارِهِ بِهِ، حَلِفَ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ وُقُوعُهُ، فَالصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: يُطَالَبُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِإِمْكَانِهَا. ثُمَّ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْهَلَاكِ بِهِ، وَالثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَالثَّالِثُ: يُقْبَلُ بِلَا يَمِينٍ إِذَا كَانَ ثِقَةً. وَحَيْثُ حَلَّفْنَاهُ، فَالْيَمِينُ مُسْتَحَبَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ. أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى دَعْوَى الْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِسَبَبٍ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ قَبُولُهُ مَعَ الْيَمِينِ. فَرْعٌ إِذَا ادَّعَى الْمَالِكُ إِجْحَافًا فِي الْخَرْصِ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَارِصَ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى مَيْلَ الْحَاكِمِ أَوْ كَذِبَ الشَّاهِدَ، لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ غَلَطٌ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنِ الْقَدْرَ، لَمْ تُسْمَعْ، وَإِنْ بَيَّنَهُ وَكَانَ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ فِي مَثَلِهِ، كَخَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِي مِائَةٍ، قُبِلَ. فَإِنِ اتُّهِمَ، حُلِّفَ وَحُطَّ عَنْهُ. هَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى فَوْقَ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ. وَأَمَّا إِذَا بَعْدَ الْكَيْلُ غَلَطًا يَسِيرًا فِي الْخَرْصِ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ فِي الْكَيْلَيْنِ، فَهَلْ يُحَطُّ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ النَّقْصَ وَقَعَ فِي الْكَيْلِ، وَلَوْ كَيَّلَ ثَانِيًا وَفَّى، وَالثَّانِي: يُحَطُّ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ يَقِينٌ وَالْخَرْصُ تَخْمِينٌ، فَالْإِحَالَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى. قُلْتُ: هَذَا أَقْوَى، وَصَحَّحَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْأَوَّلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنِ ادَّعَى نَقْصًا فَاحِشًا لَا يُجَوِّزُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ الْغَلَطَ بِمِثْلِهِ، لَمْ يُقْبَلْ فِي حَطِّ جَمِيعِهِ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي حَطِّ الْمُمْكِنِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُقْبَلُ، كَمَا لَوِ ادَّعَتْ مُعْتَدَّةً بِالْأَقْرَاءِ انْقِضَاءَهَا قَبْلَ زَمَنِ الْإِمْكَانِ، وَكَذَّبْنَاهَا، وَأَصَرَّتْ عَلَى الدَّعْوَى حَتَّى جَاءَ زَمَنُ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّا نَحْكُمُ بِانْقِضَائِهَا لِأَوَّلِ زَمَنِ الْإِمْكَانِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا أَصَابَ النَّخْلَ عَطَشٌ، وَلَوْ تُرِكَتِ الثِّمَارُ عَلَيْهَا إِلَى أَوَانِ الْجِدَادِ لَأَضَرَّتْ بِهَا - جَازَ قَطْعُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ، إِمَّا كُلُّهَا وَإِمَّا بَعْضُهَا. وَهَلْ يَسْتَقِلُّ الْمَالِكُ بِقَطْعِهَا، أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ أَوِ السَّاعِي؟ قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَطَائِفَةٌ: يُسْتَحَبُّ الِاسْتِئْذَانُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ، فَإِنِ اسْتَقَلَّ عُزِّرَ إِنْ كَانَ عَالِمًا. قُلْتُ: هَذَا أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالسَّرَخْسِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ السَّاعِي قَبْلَ الْقَطْعِ، وَأَرَادَ الْقِسْمَةَ بِأَنْ يَخْرُصَ الثِّمَارَ وَيُعَيِّنَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ فِي نَخْلَةٍ أَوْ نَخَلَاتٍ بِأَعْيَانِهَا - فَقَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: هُمَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ أَوْ إِفْرَازُ حَقٍّ. فَإِنْ قُلْنَا: إِفْرَازٌ، جَازَ، ثُمَّ لِلسَّاعِي أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَ الْمَسَاكِينِ لِلْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَقْطَعَ وَيُفَرِّقَهُ بَيْنَهُمْ، يَفْعَلُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لَهُمْ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا بَيْعٌ، لَمْ يَجُزْ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَخْرُجُ الْقِسْمَةُ بَعْدَ قَطْعِهَا. إِنْ قُلْنَا: إِفْرَازٌ - جَازَتْ، وَإِلَّا، فَفِي جَوَازِهَا خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ الَّذِي لَا يَتَتَمَّرُ بِمِثْلِهِ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، جَازَتِ الْقِسْمَةُ بِالْكَيْلِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ مُقَاسَمَةُ السَّاعِي؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ، فَلَا يُرَاعَى فِيهَا تَعَبُّدَاتُ الرِّبَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا تَجُوزُ. فَعَلَى هَذَا لَهُ فِي الْأَخْذِ مَسْلَكَانِ أَحَدُهُمَا: يَأْخُذُ قِيمَةَ عُشْرِ الرُّطَبِ الْمَقْطُوعِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الْقِيمَةَ لِلضَّرُورَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي شِقْصِ الْحَيَوَانِ، وَالثَّانِي: يُسَلِّمُ عُشْرًا مُشَاعًا إِلَى السَّاعِي، لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْمَسَاكِينِ، وَطَرِيقُ تَسْلِيمِ الْعُشْرِ تَسْلِيمُ الْجَمِيعِ. فَإِذَا سَلَّمَهُ، فَلِلسَّاعِي بَيْعُ نَصِيبِ الْمَسَاكِينِ لِلْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَبِيعُ هُوَ وَالْمَالِكُ وَيُقَسِّمَانِ الثَّمَنَ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزِ الْقِسْمَةَ، وَأَخَذَ الْقِيمَةَ.

باب زكاة الذهب والفضة

وَخَيَّرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ السَّاعِيَ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَأَخْذِ الْقِيمَةِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلَافَ الْقَاعِدَةِ، وَاحْتَمَلَ لِلْحَاجَةِ، فَيَفْعَلُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا مِنَ الْخِلَافِ، وَالتَّفْصِيلِ فِي إِخْرَاجِ الْوَاجِبِ، يَجْرِي بِعَيْنِهِ فِي إِخْرَاجِ الْوَاجِبِ عَنِ الرُّطَبِ الَّذِي لَا يَتَتَمَّرُ وَالْعِنَبِ الَّذِي لَا يَتَزَبَّبُ. وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مُسْتَدْرَكٌ حَسَنٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. قَالَ: إِنَّمَا يَثُورُ الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِنَا: الْمَسَاكِينُ شُرَكَاءُ فِي النِّصَابِ بِقَدَرِ الزَّكَاةِ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ التَّخْرِيجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقِسْمَةِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ نَجْعَلْهُمْ شُرَكَاءَ، فَلَيْسَ تَسْلِيمُ جُزْءٍ إِلَى السَّاعِي قِسْمَةً حَتَّى يَأْتِيَ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الْقِسْمَةِ، بَلْ هُوَ تَوْفِيَةُ حَقٍّ إِلَى مُسْتَحِقٍّ. قُلْتُ: لَوِ اخْتَلَفَ السَّاعِي وَالْمَالِكُ فِي جِنْسِ التَّمْرِ بَعْدَ تَلَفِهِ تَلَفًا مُضَمَّنًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ. فَإِنْ أَقَامَ السَّاعِي شَاهِدِينَ أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ، قُضِيَ لَهُ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَعَهُ، قَالَهُ الدَّارِمِيُّ. وَإِذَا خَرَصَ عَلَيْهِ، فَتَلِفَ بَعْضُهُ تَلَفًا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ، وَأَكَلَ بَعْضُهُ وَبَقِيَ بَعْضُهُ، وَلَمْ يَعْرِفِ السَّاعِي مَا تَلِفَ، فَإِنْ عَرَفَ الْمَالِكُ مَا أَكَلَ، زَكَّاهُ مَعَ مَا بَقِيَ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ، حَلَّفَهُ اسْتِحْبَابًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَوُجُوبًا عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ قَدْرَ مَا أَكَلْتُهُ وَلَا مَا تَلِفَ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: قُلْنَا لَهُ: إِنْ ذَكَرْتَ قَدْرًا أَلْزَمْنَاكَ بِمَا أَقْرَرْتَ بِهِ، فَإِنِ اتَّهَمْنَاكَ حَلَّفْنَاكَ، وَإِنْ ذَكَرَتْ مُجْمَلًا، أَخَذْنَا الزَّكَاةَ بِخَرْصِنَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ خَرَصَ، فَأَقَرَّ الْمَالِكُ بِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْمَخْرُوصِ، أَخَذْنَا الزَّكَاةَ مِنَ الزِّيَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ضَمِنَ أَمْ لَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا زَكَاةَ فِيهِمَا فِيمَا دُونَ النِّصَابِ. وَنِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ. وَالذَّهَبُ: عِشْرُونَ مِثْقَالَا، وَزَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ، وَيَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ مِنْهُمَا بِحِسَابِهِ، قَلَّ

أَمْ كَثُرَ، وَسَوَاءٌ فِيهِمَا الْمَضْرُوبُ وَالتِّبْرُ، وَغَيْرُهُ، وَالِاعْتِبَارُ بِوَزْنِ مَكَّةَ. فَأَمَّا الْمِثْقَالُ فَمَعْرُوفٌ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَدْرُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْفِضَّةُ: فَالْمُرَادُ دَرَاهِمُ الْإِسْلَامِ، وَزْنُ الدِّرْهَمِ سِتَّةُ دَوَانِيقَ، وَكُلُّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلِ ذَهَبٍ. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأُوَلِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. قِيلَ: كَانَ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقِيلَ: كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَوْ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ حَبَّةً أَوْ بَعْضَ حَبَّةٍ فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ رَاجَ رَوَاجَ التَّامِّ، أَوْ زَادَ عَلَى التَّامِّ بِجَوْدَةِ نَوْعِهِ وَلَوْ نَقَصَ فِي بَعْضِ الْمَوَازِينِ وَتَمَّ فِي بَعْضِهَا - فَوَجْهَانِ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ، وَبِهِ قَطَعُ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيُشْتَرَطُ مِلْكُ النَّصَّابِ بِتَمَامِهِ حَوْلًا كَامِلًا. وَلَا يَكْمُلُ نِصَابُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ، كَمَا لَا يَكْمُلُ التَّمْرُ بِالزَّبِيبِ، وَيَكْمُلُ الْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، كَأَنْوَاعِ الْمَاشِيَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْجَوْدَةِ: النُّعُومَةُ، وَالصَّبْرُ عَلَى الضَّرْبِ وَنَحْوُهُمَا. وَبِالرَّدَاءَةِ: الْخُشُونَةُ، وَالتَّفَتُّتُ عِنْدَ الضَّرْبِ. وَأَمَّا إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، فَإِنْ لَمْ تَكْثُرْ أَنْوَاعُهُ، أَخْرَجَ مِنْ كُلٍّ بِقِسْطِهِ، وَإِنْ كَثُرَتْ وَشَقَّ اعْتِبَارُ الْجَمِيعِ أَخْرَجَ مِنَ الْوَسَطِ. وَلَوْ أَخْرَجَ الْجَيِّدَ عَنِ الرَّدِيءِ، فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ أَخْرَجَ الرَّدِيءَ عَنِ الْجِيدِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُجْزِئْهُ، وَهُوَ غَلَطٌ. وَيَجُوزُ إِخْرَاجُ الصَّحِيحِ عَنِ الْمُكَسَّرِ، وَلَا يَجُوزُ عَكْسُهُ، بَلْ يَجْمَعُ الْمُسْتَحِقِّينَ وَيَصْرِفُ إِلَيْهِمُ الدِّينَارَ الصَّحِيحَ بِأَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَى وَاحِدٍ بِإِذْنِ الْبَاقِينَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ مُكَسَّرًا. وَوَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، لَكِنْ مَعَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمُكَسَّرِ. وَوَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمُكَسَّرِ فَرْقٌ فِي الْمُعَامَلَةِ.

فَرْعٌ إِذَا كَانَ لَهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ مَغْشُوشَةٌ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَبْلُغَ خَالِصُهَا نِصَابًا، فَإِذَا بَلَغَهُ، أَخْرَجَ الْوَاجِبَ خَالِصًا، أَوْ أَخْرَجَ مِنَ الْمَغْشُوشِ مَا يَعْلَمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى خَالِصٍ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ. وَلَوْ أَخْرَجَ عَنْ أَلْفٍ مَغْشُوشَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ خَالِصَةً أَجْزَأَهُ وَقَدْ تَطَوَّعَ بِالْفَضْلِ، وَلَوْ أَخْرَجَ خَمْسَةً مَغْشُوشَةً عَنْ مِائَتَيْنِ خَالِصَةً، لَمْ تُجْزِئْهُ. وَهَلْ لَهُ الِاسْتِرْجَاعُ؟ حَكَوْا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِيهِ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ كَفَّارَةٍ مَعِيبَةٍ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهَا، وَأَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ فَتَلِفَ مَالُهُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَهَذَا إِذَا كَانَ قَدْ بَيَّنَ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهُ يُخْرِجُ عَنْ هَذَا الْمَالِ. فَرْعٌ يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ، وَيُكْرَهُ لِلرَّعِيَّةِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَتْ خَالِصَةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الْإِمَامِ. ثُمَّ الدَّرَاهِمُ الْمَغْشُوشَةُ إِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْعِيَارِ صَحَّتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا عَلَى عَيْنِهَا الْحَاضِرَةِ وَفِي الذِّمَّةِ. وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ النَّقْرَةِ فِيهَا مَجْهُولًا، فَفِي جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ عَلَى عَيْنِهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَاطُهَا بِالنُّحَاسِ كَالْمَعْجُونَاتِ، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ كَتُرَابِ الْمَعْدِنِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، فَبَاعَ بِدَرَاهِمَ مُطْلَقًا وَنَقْدُ الْبَلَدِ مَغْشُوشٌ - صَحَّ الْعَقْدُ وَوَجَبَ مِنْ ذَلِكَ النَّقْدِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ.

فَرْعٌ لَوْ كَانَ لَهُ إِنَاءٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَزْنُهُ أَلْفٌ، مِنْ أَحَدِهِمَا سِتُّمِائَةٍ وَمِنَ الْآخَرِ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَلَا يُعْرَفُ أَيُّهُمَا الْأَكْثَرُ، فَإِنِ احْتَاطَ فَزَكَّى سِتَّمِائَةٍ ذَهَبًا وَسِتَّمِائَةٍ فِضَّةً - أَجْزَأَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَطْ، مَيَّزَهُمَا بِالنَّارِ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَيَقُومُ مَقَامَهُ الِامْتِحَانُ بِالْمَاءِ، بِأَنْ يُوضَعَ قَدْرُ الْمَخْلُوطِ مِنَ الذَّهَبِ الْخَالِصِ فِي مَاءٍ، وَيُعَلَّمَ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ الْمَاءُ، ثُمَّ يُخْرَجَ وَيُوضَعَ مَثَلُهُ مِنَ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ، وَيُعَلَّمُ عَلَى مَوْضِعِ الِارْتِفَاعِ، وَهَذِهِ الْعَلَامَةُ تَقَعُ فَوْقَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الذَّهَبِ أَكْثَرُ اكْتِنَازًا، ثُمَّ يُوضَعُ فِيهِ الْمَخْلُوطُ، وَيُنْظَرُ ارْتِفَاعُ الْمَاءِ بِهِ، أَهُوَ إِلَى عَلَامَةِ الْفِضَّةِ أَقْرَبُ أَمْ إِلَى عَلَامَةِ الذَّهَبِ؟ وَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْأَكْثَرُ مِنْهُمَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: إِنْ كَانَ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ، فَلَهُ اعْتِمَادُ ظَنِّهِ، وَإِنْ دَفْعَهَا إِلَى السَّاعِي، لَمْ يُقْبَلْ ظَنُّهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَاطُ أَوِ التَّمْيِيزُ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الَّذِي قَطَعَ بِهِ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ ظَنِّهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْأَخْذُ بِمَا شَاءَ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَ ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَجْهًا. فَرْعٌ لَوْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي يَدِهِ وَلَهُ مِائَةٌ مُؤَجَّلَةٌ عَلَى مَلِيءٍ، فَكَيْفَ يُزَكِّي؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْمُؤَجَّلَ تَجِبُ فِيهِ زَكَاةٌ أَمْ لَا؟ وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهَا. وَإِذَا أَوْجَبْنَاهَا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِخْرَاجُ فِي الْحَالِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا زَكَاةَ فِي الْمُؤَجَّلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِعَدَمِ النِّصَابِ. وَإِنْ أَوْجَبْنَا إِخْرَاجَ زَكَاةِ الْمُؤَجَّلِ فِي

فصل

الْحَالِ، زَكَّى الْمِائَتَيْنِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا وَلَمْ نُوجِبِ الْإِخْرَاجَ فِي الْحَالِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ حِصَّةِ الْمِائَةِ الَّتِي فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ، أَمْ يَتَأَخَّرُ إِلَى قَبْضِ الْمُؤَجَّلَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ فِي الْحَالِ، وَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ أَوِ الضَّمَانِ، إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْمُؤَجَّلُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي أَخْرَجَ، وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ دُونَ نِصَابٍ، وَتَمَامُهُ مَغْصُوبٌ، أَوْ دَيْنٌ، وَلَمْ نُوجِبْ فِيهِمَا زَكَاةً - ابْتَدَأَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ يَقْبِضُ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ. فَصْلٌ لَا زَكَاةَ فِيمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْجَوَاهِرِ، كَالْيَاقُوتِ، وَاللُّؤْلُؤِ، وَغَيْرِهِمَا، وَلَا فِي الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ. فَصْلٌ هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا تَجِبُ، كَالْعَوَامِلِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. أَمَّا الْحُلِيُّ الْمُحَرَّمُ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَهُوَ نَوْعَانِ: مُحَرِّمٌ لِعَيْنِهِ كَالْأَوَانِي وَالْمَلَاعِقِ وَالْمَجَامِرِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمُحَرَّمٌ بِالْقَصْدِ، بِأَنْ يَقْصِدَ الرَّجُلُ بِحُلِيِّ النِّسَاءِ الَّذِي يَمْلِكُهُ - كَالسِّوَارِ وَالْخَلْخَالِ - أَنْ يَلْبَسَهُ غِلْمَانُهُ، أَوْ قَصَدَتِ الْمَرْأَةُ بِحُلِيِّ الرَّجُلِ - كَالسَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ - أَنْ تَلْبَسَهُ هِيَ أَوْ تَلْبَسَهُ جَوَارِيهَا أَوْ غَيْرُهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ، أَوْ أَعَدَّ الرَّجُلُ حُلِيَّ الرِّجَالِ لِنِسَائِهِ وَجَوَارِيهِ، أَوْ أَعَدَّتِ الْمَرْأَةُ حُلِيَّ النِّسَاءِ لِزَوْجِهَا وَغِلْمَانِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ. وَلَوِ اتَّخَذَ حُلِيًّا وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْتِعْمَالًا مُبَاحًا وَلَا مُحَرَّمًا، بَلْ قَصَدَ كَنْزَهُ - فَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: فِيهِ خِلَافٌ. وَهَلْ يَجُوزُ إِلْبَاسُ حُلِيِّ الذَّهَبِ الْأَطْفَالَ الذُّكُورَ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي إِلْبَاسِهِمُ الْحَرِيرَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: جَوَازُهُ مَا لَمْ يَبْلُغُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ، فَاتَّخَذَ حُلِيًّا مُبَاحًا فِي عَيْنِهِ، لَمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْتِعْمَالًا وَلَا كَنْزًا، أَوِ اتَّخَذَهُ لِيُؤَجِّرَهُ مِمَّنْ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْأَصَحِّ. كَمَا لَوِ اتَّخَذَهُ لِيُعِيرَهُ. وَلَا اعْتِبَارَ بِالْأُجْرَةِ، كَأُجْرَةِ الْمَاشِيَةِ الْعَوَامِلِ. فَرْعٌ حُكْمُ الْقَصْدِ الطَّارِئِ بَعْدَ الصِّيَاغَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا حُكْمُ الْمُقَارَنِ. فَلَوِ اتَّخَذَهُ قَاصِدًا اسْتِعْمَالًا مُحَرَّمًا ثُمَّ غَيَّرَ قَصْدَهُ إِلَى مُبَاحٍ بِطَلَ الْحَوْلُ. فَلَوْ عَادَ الْقَصْدُ الْمُحَرَّمُ ابْتَدَأَ الْحَوْلُ، وَكَذَا لَوْ قَصَدَ الِاسْتِعْمَالَ ثُمَّ قَصَدَ كَنْزًا، ابْتَدَأَ الْحَوْلُ، وَكَذَا نَظَائِرُهُ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ، فَانْكَسَرَ، فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَنْكَسِرَ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ، فَلَا تَأْثِيرَ لِانْكِسَارِهِ. الثَّانِي: يَنْكَسِرُ بِحَيْثُ يَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ وَيُحْوِجُ إِلَى سَبْكٍ وَصَوْغٍ، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ، وَأَوَّلُ الْحَوْلِ وَقْتُ الِانْكِسَارِ. الثَّالِثُ: يَنْكَسِرُ بِحَيْثُ يَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ، لَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى صَوْغٍ، وَيَقْبَلُ الْإِصْلَاحَ بِالْإِلْحَامِ، فَإِنْ قُصِدَ جَعْلُهُ تِبْرًا أَوْ دَرَاهِمَ، أَوْ قُصِدَ كَنْزُهُ - انْعَقَدَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ مِنْ يَوْمِ الِانْكِسَارِ. وَإِنْ قُصِدَ إِصْلَاحُهُ، فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا زَكَاةَ وَإِنْ تَمَادَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ، لِدَوَامِ صُورَةِ الْحُلِيِّ وَقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ هَذَا وَلَا ذَاكَ، فَفِيهِ خِلَافٌ. قِيلَ: وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَرْجَحُهُمَا: الْوُجُوبُ.

فصل فيما يحل ويحرم من الحلي

فَصْلٌ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْحُلِيِّ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا هَاهُنَا لِيُعْلَمَ مَوْضِعُ الْقَطْعِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَمَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ. فَالْمَذْهَبُ: أَصْلُهُ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَعَلَى الْإِبَاحَةِ لِلنِّسَاءِ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ التَّحْرِيمِ عَلَى الرِّجَالِ مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِمَنْ قُطِعَ أَنْفُهُ اتِّخَاذُ أَنْفٍ مِنْ ذَهَبٍ وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنِ اتِّخَاذِهِ فِضَّةً، وَفِي مَعْنَى الْأَنْفِ: السِّنُّ وَالْأُنْمُلَةُ، فَيَجُوزُ اتِّخَاذُهُمَا ذَهَبًا، وَمَا جَازَ مِنَ الذَّهَبِ فَمِنَ الْفِضَّةِ أَوْلَى، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ أُصْبُعُهُ أَنْ يَتَّخِذَهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ. قُلْتُ: وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَوْضِعُ الثَّانِي: هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَمْوِيهُ الْخَاتَمِ وَالسَّيْفِ وَغَيْرِهِمَا تَمْوِيهًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِالتَّحْرِيمِ. وَأَمَّا اتِّخَاذُ سِنٍّأَوْ أَسْنَانٍ مِنْ ذَهَبٍ لِلْخَاتَمِ، فَقَطَعَ الْأَكْثَرُونَ بِتَحْرِيمِهِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا يَبْعُدُ تَشْبِيهُهُ بِالضَّبَّةِ الصَّغِيرَةِ فِي الْإِنَاءِ، وَكُلُّ حُلِيٍّ حَرَّمْنَاهُ عَلَى الرِّجَالِ حَرَّمْنَاهُ عَلَى الْخُنْثَى، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِي وُجُوبِهَا الْقَوْلَانِ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ، وَأَشَارَ فِي «التَّتِمَّةِ» إِلَى أَنَّ لَهُ لُبْسَ حُلِيِّ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ لُبْسُهَا فِي الصِّغَرِ فَتَبْقَى. وَأَمَّا الْفِضَّةُ: فَيَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّخَتُّمُ بِهَا، وَهَلْ لَهُ لُبْسُ مَا سِوَى الْخَاتَمِ مِنْ حُلِيِّ الْفِضَّةِ، كَالدُّمْلُجِ، وَالسِّوَارِ، وَالطَّوْقِ؟ قَالَ الْجُمْهُورُ: يَحْرُمُ، وَقَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَالْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْفِضَّةِ إِلَّا تَحْرِيمُ الْأَوَانِي، وَتَحْرِيمُ التَّحَلِّي عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ التَّشْبِيهَ بِالنِّسَاءِ. وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَحْلِيَةُ آلَاتِ الْحَرْبِ بِالْفِضَّةِ كَالسَّيْفِ، وَالرُّمْحِ، وَأَطْرَافِ السِّهَامِ، وَالدِّرْعِ، وَالْمِنْطَقَةِ، وَالرَّانَيْنِ، وَالْخُفِّ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ يَغِيظُ الْكُفَّارَ. وَفِي تَحْلِيَةِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالثَّفَرِ

وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ الْبُوَيْطِيِّ وَالرَّبِيعِ، وَمُوسَى بْنِ أَبِي جَارُودٍ، وَأَجْرَوْا هَذَا الْخِلَافَ فِي الرِّكَابِ وَبُرَةِ النَّاقَةِ مِنَ الْفِضَّةِ. وَقَطَعَ كَثِيرُونَ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِتَحْرِيمِ الْقِلَادَةِ لِلدَّابَّةِ، وَلَا يَجُوزُ تَحْلِيَةُ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا بِالذَّهَبِ قَطْعًا. وَيَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ تَحْلِيَةُ آلَاتِ الْحَرْبِ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُنَّ ذَلِكَ تَشَبُّهًا بِالرِّجَالِ وَلَيْسَ لَهُنَّ التَّشَبُّهُ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ بِأَنَّ آلَاتِ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيَةٍ إِمَّا أَنْ يَجُوزَ لُبْسُهَا وَاسْتِعْمَالُهَا لِلنِّسَاءِ، أَوْ لَا. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ مَلَابِسِ الرِّجَالِ، إِنَّمَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ دُونَ التَّحْرِيمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْأُمِّ: وَلَا أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ لُبْسَ اللُّؤْلُؤِ إِلَّا لِلْأَدَبِ وَأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ، لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَلَمْ يُحَرِّمْ زِيَّ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ، وَكَذَا عَكْسُهُ، وَلِأَنَّ الْمُحَارِبَةَ جَائِزَةٌ لِلنِّسَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي جَوَازِهَا جَوَازُ لُبْسِ آلَاتِهَا، وَإِذَا جَازَ اسْتِعْمَالُهَا غَيْرَ مُحَلَّاةٍ، جَازَ مَعَ التَّحْلِيَةِ؛ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ لَهُنَّ أَجْوَزُ مِنْهُ لِلرِّجَالِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّ تَشَبُّهَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَعَكْسَهُ حَرَامٌ؛ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَقَدْ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ بِتَحْرِيمِهِ بَعْدَ هَذَا بِأَسْطُرٍ. وَأَمَّا نَصُّهُ فِي الْأُمِّ فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِهَذَا؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ زِيِّ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ أَنْوَاعِ الْحُلِيِّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، كَالطَّوْقِ، وَالْخَاتَمِ، وَالسِّوَارِ، وَالْخَلْخَالِ، وَالتَّعَاوِيذِ. وَفِي اتِّخَاذِهِنَّ النِّعَالَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ كَسَائِرِ الْمَلْبُوسَاتِ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِلْإِسْرَافِ. وَأَمَّا التَّاجُ فَقَالُوا: إِنْ جَرَتْ عَادَةُ النِّسَاءِ بِلُبْسِهِ جَازَ، وَإِلَّا فَهُوَ لِبَاسُ عُظَمَاءِ الْفُرْسِ، فَيَحْرُمُ. وَكَأَنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِعَادَةِ أَهْلِ النَّوَاحِي، فَحَيْثُ جَرَتْ عَادَةُ النِّسَاءِ بِلُبْسِهِ

جَازَ، وَحَيْثُ لَمْ تَجْرِ لَا يَجُوزُ؛ حِذَارًا مِنَ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ، وَفِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي تُثْقَبُ وَتُجْعَلُ فِي الْقِلَادَةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ. وَفِي لُبْسِ الثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدَانَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُنَّ اتِّخَاذُ زِرِّ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَالْفَرْجِيَّةِ مِنْهُمَا، وَلَعَلَّهُ جَوَابٌ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. ثُمَّ كُلُّ حُلِيِّ أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَرَفٌ، فَإِنْ كَانَ كَخَلْخَالٍ وَزْنُهُ مِائَتَا دِينَارٍ، فَوَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ مُعْظَمُ الْعِرَاقِيِّينَ: التَّحْرِيمُ، وَمِثْلُهُ إِسْرَافُ الرَّجُلِ فِي آلَاتِ الْحَرْبِ، وَلَوِ اتَّخَذَ خَوَاتِيمَ كَثِيرَةً، أَوِ الْمَرْأَةُ خَلَاخِلَ كَثِيرَةً؛ لِيَلْبَسَ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا بَعْدَ الْوَاحِدِ، جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا سَبَقَ هُوَ فِيمَا يَتَحَلَّى بِهِ لُبْسًا، فَأَمَّا الْأَوَانِي مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا اسْتِعْمَالُهَا، وَيَحْرُمُ اتِّخَاذُهَا أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ فِي بَابِ الْأَوَانِي، وَفِي تَحْلِيَةِ سَكَاكِينِ الْخِدْمَةِ وَسِكِّينِ الْمَقْلَمَةِ بِالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ، وَالْمَذْهَبُ: تَحْرِيمُهَا عَلَى النِّسَاءِ. وَفِي تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ بِالْفِضَّةِ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، وَنُقِلَ عَنْ نَصِّهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَحَرْمَلَةَ، وَنُقِلَ التَّحْرِيمُ عَنْ نَصِّهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ. وَفِي تَحْلِيَتِهِ بِالذَّهَبِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: إِنْ كَانَ الْمُصْحَفُ لِامْرَأَةٍ، جَازَ، وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ، حَرُمَ، وَالثَّانِي: يَحْرُمُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: يَحِلُّ مُطْلَقًا، وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ تَحْلِيَةُ نَفْسِ الْمُصْحَفِ دُونَ غِلَافِهِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا تَحْلِيَةُ سَائِرِ الْكُتُبِ، فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا تَحْلِيَةُ الدَّوَاةِ، وَالْمَقْلَمَةِ، وَالْمِقْرَاضِ، فَحَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَشَارَ الْغَزَالِيُّ إِلَى طَرْدِ الْخِلَافِ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ. وَفِي تَحْلِيَةِ الْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَعْلِيقِ قَنَادِيلِهَا فِيهَا، وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ،

فَإِنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنِ السَّلَفِ، وَالثَّانِي: الْجَوَازُ كَمَا يَجُوزُ سَتْرُ الْكَعْبَةِ بِالدِّيبَاجِ، وَحُكْمُ الزَّكَاةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، لَكِنْ لَوْ جُعِلَ الْمُتَّخَذُ وَقْفًا فَلَا زَكَاةَ بِحَالٍ. فَرْعٌ إِذَا أَوْجَبْنَا الزَّكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ، فَاخْتَلَفَ قِيمَتُهُ وَوَزْنُهُ بِأَنْ كَانَ لَهَا خَلَاخِلُ وَزْنُهَا مِائَتَانِ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثُمِائَةٍ، أَوْ فُرِضَ مِثْلُهُ فِي الْمَنَاطِقِ الْمُحَلَّاةِ لِلرَّجُلِ، فَالِاعْتِبَارُ فِي الزَّكَاةِ بِقِيمَتِهَا أَوْ وَزْنِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ: بِقِيمَتِهَا، فَعَلَى هَذَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ رُبُعَ عُشْرِ الْحُلِيِّ مُشَاعًا، ثُمَّ يَبِيعَهُ السَّاعِي وَيُفَرِّقَ الثَّمَنَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَبَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مَصُوغَةً قِيمَتُهَا سِتَّةٌ وَنِصْفٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْسِرَهُ فَيُخْرِجَ خَمْسَةً مُكَسَّرَةً؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَيْهِ وَعَلَى الْمَسَاكِينِ. وَلَوْ أَخْرَجَ عَنْهُ عَنِ الذَّهَبِ مَا يُسَاوِي سَبْعَةً وَنِصْفًا، لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِ رُبُعِ الْعُشْرِ مُشَاعًا وَبَيْعِهِ بِالذَّهَبِ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ لِلْحَاجَةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ إِنَاءٌ وَزْنُهُ مِائَتَانِ، وَيَرْغَبُ فِيهِ بِثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِنْ جَوَّزْنَا اتِّخَاذَهُ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي الْحُلِيِّ، وَإِنْ حَرَّمْنَا فَلَا قِيمَةَ لِصَنْعَتِهِ شَرْعًا، فَلَهُ إِخْرَاجُ خُمُسِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَهُ كَسْرُهُ وَإِخْرَاجُ خُمُسِهِ مِنْهُ، وَلَهُ إِخْرَاجُ رُبُعِ عُشْرِهِ مُشَاعًا، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الذَّهَبِ بَدَلًا. وَكُلُّ حُلِيٍ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَحُكْمُ صَنْعَتِهِ حُكْمُ صَنْعَةِ الْإِنَاءِ، فَفِي ضَمَانِهَا عَلَى كَاسِرِهَا وَجْهَانِ. وَمَا يَحِلُّ لِبَعْضِ النَّاسِ، فَعَلَى كَاسِرِهِ ضَمَانُهُ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ التَّحَلِّي كَالضَّبَّةِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْإِنَاءِ لِلزِّينَةِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَهُ حُكْمُ الْحَرَامِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ قَطْعًا. وَقَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ: الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَالْمُبَاحِ. قُلْتُ: وَلَوْ وَقَفَ حُلِيًّا عَلَى قَوْمٍ يَلْبَسُونَهُ أَوْ يَنْتَفِعُونَ بِأُجْرَتِهِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ قَطْعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

باب زكاة التجارة

بَابُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَاجِبَةٌ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَنُقِلَ عَنِ الْقَدِيمِ تَرْدِيدُ قَوْلٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ فِي الْقَدِيمِ قَوْلَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ خِلَافَ الْجَدِيدِ. وَمَالُ التِّجَارَةِ: كُلُّ مَا قُصِدَ الِاتِّجَارُ فِيهِ عِنْدَ اكْتِسَابِ الْمِلْكِ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ. وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْقُيُودِ أَنَّ مُجَرَّدَ نِيَّةِ التِّجَارَةِ لَا تُصَيِّرُ الْمَالَ مَالَ تِجَارَةٍ، فَلَوْ كَانَ لَهُ عَرْضُ قِنْيَةٍ مَلَكَهُ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَجَعَلَهُ لِلتِّجَارَةِ، لَمْ يَصِرْ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ، وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَصِيرُ. وَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَتْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ بِالشِّرَاءِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرَى يَصِيرُ مَالَ تِجَارَةٍ، وَيَدْخُلُ فِي الْحَوْلِ، سَوَاءٌ اشْتُرِيَ بِعَرْضٍ أَوْ نَقْدٍ، أَوْ دَيْنِ حَالٍّ، أَوْ مُؤَجَّلٍ. وَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ التِّجَارَةِ، لَا تَحْتَاجُ كُلُّ مُعَامَلَةٍ إِلَى نِيَّةٍ جَدِيدَةٍ. وَفِي مَعْنَى الشِّرَاءِ، لَوْ صَالَحَ عَنْ دَيْنٍ لَهُ فِي ذِمَّةِ إِنْسَانٍ عَلَى عَرْضٍ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، صَارَ لِلتِّجَارَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ قَرْضًا، أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَوْ ضَمَانَ مُتْلَفٍ. وَكَذَلِكَ الِاتِّهَابُ بِشَرْطِ الثَّوَابِ إِذَا نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ. وَأَمَّا الْهِبَةُ الْمَحْضَةُ، وَالِاحْتِطَابُ، وَالِاحْتِشَاشُ، وَالِاصْطِيَادُ، وَالْإِرْثُ، فَلَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التِّجَارَةِ، وَلَا أَثَرَ لِاقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِهَا. وَكَذَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَالِاسْتِرْدَادُ، حَتَّى لَوْ بَاعَ عَرْضَ قِنْيَةٍ بِعَرْضِ قِنْيَةٍ، ثُمَّ وَجَدَ بِمَا أَخَذَهُ عَيْبًا فَرَدَّهُ، وَاسْتَرَدَّ الْأَوَّلَ عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ، أَوْ وَجَدَ صَاحِبُهُ بِمَا أَخَذَ عَيْبًا، فَرَدَّهُ، فَقَصَدَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِ بِأَخْذِهِ التِّجَارَةَ، لَمْ يَصِرْ مَالَ تِجَارَةٍ. وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ ثَوْبُ قِنْيَةٍ، فَاشْتَرَى بِهِ عَبْدًا لِلتِّجَارَةِ، ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ الثَّوْبُ بِالْعَيْبِ، انْقَطَعَ حَوْلُ التِّجَارَةِ، وَلَمْ يَكُنِ الثَّوْبُ الْمَرْدُودُ مَالَ تِجَارَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الثَّوْبُ لِلتِّجَارَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَبْقَى حُكْمُ التِّجَارَةِ فِيهِ. وَكَذَا لَوْ تَبَايَعَ تَاجِرَانِ، ثُمَّ تَقَايَلَا، يَسْتَمِرُّ حُكْمُ التِّجَارَةِ فِي الْمَالَيْنِ.

فصل

وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ ثَوْبٌ لِلتِّجَارَةِ، فَبَاعَهُ بِعَبْدٍ لِلْقِنْيَةِ، فَرُدَّ عَلَيْهِ الثَّوْبُ بِالْعَيْبِ، لَمْ يَعُدْ إِلَى حُكْمِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْقِنْيَةِ قَطْعُ حَوْلِ التِّجَارَةِ. وَالرَّدُّ وَالِاسْتِرْدَادُ لَيْسَا مِنَ التِّجَارَةِ، كَمَا لَوْ قَصَدَ الْقِنْيَةَ بِمَالِ التِّجَارَةِ الَّذِي عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ قِنْيَةً. وَلَوْ نَوَى بَعْدَ ذَلِكَ جَعْلَهُ لِلتِّجَارَةِ لَا يُؤَثِّرُ حَتَّى تَقْتَرِنَ النِّيَّةُ بِتِجَارَةٍ جَدِيدَةٍ. وَلَوْ خَالَعَ وَقَصَدَ بِعِوَضِ الْخُلْعِ التِّجَارَةَ، أَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ، أَوْ نُكِحَتِ الْحُرَّةُ وَنَوَيَا التِّجَارَةَ فِي الصَّدَاقِ - فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ مَالَ تِجَارَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ عُقُودِ التِّجَارَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ، وَأَصَحُّهُمَا وَلَمْ يَذْكُرْ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ سِوَاهُ أَنَّهُ يَكُونُ مَالَ تِجَارَةٍ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ تَثْبُتُ فِيهَا الشُّفْعَةُ. وَطَرَدُوا الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَالِ الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ عَنِ الدَّمِ، وَالَّذِي أَجَّرَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ إِذَا نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ، وَفِيمَا إِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَنَافِعِ بِأَنْ كَانَ يَسْتَأْجِرُ الْمُسْتَغَلَّاتِ وَيُؤَجِّرُهَا عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ. فَصْلٌ الْحَوْلُ مُعْتَبَرٌ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَالنِّصَابُ مُعْتَبَرٌ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ. لَكِنْ فِي وَقْتِ اعْتِبَارِهِ، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَعَبَّرَ عَنْهَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ بِأَقْوَالٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا أَوْجُهٌ. الْأَوَّلُ مِنْهَا مَنْصُوصٌ، وَالْآخَرَانِ مُخَرَّجَانِ، فَالْأَوَّلُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ فَقَطْ، وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ دُونَ وَسَطِهِ، وَالثَّالِثُ: يُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، حَتَّى لَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنِ النِّصَابِ فِي لَحْظَةٍ، انْقَطَعَ الْحَوْلُ، فَإِنْ كَمُلَ بَعْدَ ذَلِكَ، ابْتَدَأَ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِئِذٍ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، فَاشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، انْعَقَدَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ، وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا آخِرَ الْحَوْلِ، وَإِذَا احْتَمَلْنَا نُقْصَانَ النِّصَابِ فِي غَيْرِ آخِرِ الْحَوْلِ، فَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ تَرَبَّصَ بِسِلْعَتِهِ حَتَّى تَمَّ الْحَوْلُ وَهِيَ نِصَابٌ. فَأَمَّا لَوْ بَاعَهَا بِسِلْعَةٍ أُخْرَى فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ وَيَبْتَدِئُ

حَوْلُ السِّلْعَةِ الْأُخْرَى مِنْ حِينِ مِلْكِهَا، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ كَمَا لَوْ تَرَبَّصَ بِسِلْعَتِهِ، وَلَا أَثَرَ لِلْمُبَادَلَةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ. وَلَوْ بَاعَهَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بِنَقْدٍ دُونَ النِّصَابِ، ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً فَتَمَّ الْحَوْلُ وَقِيمَتُهَا نِصَابٌ - فَوَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَمْثَلُ مِنْهُ فِي الْأُولَى؛ لِتَحَقُّقِ النُّقْصَانِ حِسًّا، وَرَأَيْتُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَمِيلُونَ إِلَى انْقِطَاعِ الْحَوْلِ. وَلَوْ بَاعَهَا بِالدَّرَاهِمِ، وَالْحَالُ تَقْتَضِي التَّقْوِيمَ بِالدَّنَانِيرِ، فَهُوَ كَبَيْعِ السِّلْعَةِ بِالسِّلْعَةِ. فَرْعٌ لَوْ تَمَّ الْحَوْلُ وَقِيمَةُ سِلْعَتِهِ دُونَ النِّصَابِ، فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: يَسْقُطُ حُكْمُ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، وَيَبْتَدِئُ حَوْلًا ثَانِيًا، وَالثَّانِي: لَا يَنْقَطِعُ، بَلْ مَتَى بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا، وَجَبَتِ الزَّكَاةُ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ حَوْلًا ثَانِيًا. فَرْعٌ فِي بَيَانِ ابْتِدَاءِ حَوْلِ التِّجَارَةِ مَالُ التِّجَارَةِ تَارَةً يَمْلِكُهُ بِنَقْدٍ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِ، فَإِنْ مَلَكَهُ بِنَقْدٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ نِصَابًا بِأَنِ اشْتَرَى بِعِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ مَلَكَ ذَلِكَ النَّقْدَ، وَيُبْنَى حَوْلُ التِّجَارَةِ عَلَيْهِ، هَذَا إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ النَّصَّابِ، أَمَّا إِذَا اشْتَرَى بِنِصَابٍ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ نَقَدَهُ فِي ثَمَنِهِ، فَيَنْقَطِعُ حَوْلُ النَّقْدِ، وَيَبْتَدِئُ حَوْلُ التِّجَارَةِ مِنْ حِينِ الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ النَّقْدُ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْمَالِ دُونَ النِّصَابِ، ابْتَدَأَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ مَلَكَ عَرْضَ التِّجَارَةِ إِذَا قُلْنَا: لَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ الْحَوْلُ قَبْلَ الشِّرَاءِ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى

فصل

بِهِ لَمْ يَكُنْ مَالَ زَكَاةٍ لِنَقْصِهِ. أَمَّا إِذَا مَلَكَ بِغَيْرِ نَقْدٍ فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَرْضُ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ، كَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ، فَابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ مَلَكَ مَالَ التِّجَارَةِ إِنْ كَانَ قِيمَةُ الْعَرْضِ نِصَابًا، أَوْ كَانَتْ دُونَهُ وَقُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّ النِّصَابَ لَا يُعْتَبَرُ إِلَّا فِي آخِرِ الْحَوْلِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، بِأَنْ مَلَكَهُ بِنِصَابٍ مِنَ السَّائِمَةِ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ أَنَّ حَوْلَ الْمَاشِيَةِ يَنْقَطِعُ، وَيَبْتَدِئُ حَوْلُ التِّجَارَةِ مِنْ حِينِ مَلَكَ مَالَ التِّجَارَةِ، وَلَا يَبْنِي، لِاخْتِلَافِ الزَّكَاتَيْنِ قَدْرًا وَوَقْتًا، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَبْنِي عَلَى حَوْلِ السَّائِمَةِ، كَمَا لَوْ مَلَكَ بِنِصَابٍ مِنَ النَّقْدِ. ثُمَّ زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَالنَّقْدِ يَبْنِي حَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَإِذَا بَاعَ مَالَ تِجَارَةٍ بِنَقْدٍ بِنِيَّةِ الْقِنْيَةِ بَنَى حَوْلَ النَّقْدِ عَلَى حَوْلِ التِّجَارَةِ، كَمَا يَبْنِي التِّجَارَةَ عَلَى النَّقْدِ. فَصْلٌ رِبْحُ مَالِ التِّجَارَةِ ضَرْبَانِ: حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ نَضُوضِ الْمَالِ، وَحَاصِلٌ مَعَ نُضُوضِهِ. فَالْأَوَّلُ: مَضْمُومٌ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْحَوْلِ، كَالنِّتَاجِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: حَكَى الْأَئِمَّةُ الْقَطْعَ بِذَلِكَ. لَكِنْ مَنْ يَعْتَبِرُ النِّصَابَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ قَدْ لَا يُسَلِّمُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الرِّبْحِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَقُولَ: ظُهُورُ الرِّبْحِ فِي أَثْنَائِهِ كَنُضُوضِهِ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ: مَا سَبَقَ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَوِ اشْتَرَى عَرْضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَصَارَتْ قِيمَتُهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ثَلَاثَمِائَةٍ، زَكَّى ثَلَاثَمِائَةٍ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَإِنْ كَانَ ارْتِفَاعُ الْقِيمَةِ قَبْلَ آخَرِ الْحَوْلِ بِلَحْظَةٍ. وَلَوِ ارْتَفَعَتْ بَعْدَ الْحَوَلِ، فَالرِّبْحُ مَضْمُومٌ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْحَوَلِ الثَّانِي كَالنِّتَاجِ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: الْحَاصِلُ مَعَ النَّضُوضِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ صَارَ نَاضًّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَبْدَلَ عَرْضًا بِعَرْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ التَّقْوِيمُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إِذَا نَضَّ مِنَ الْجِنْسِ. أَمَّا إِذَا صَارَ نَاضًّا مِنْ جِنْسِهِ، فَتَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَتَارَةً بَعْدَهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، قَدْ يُمْسِكُ النَّاضَّ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الْحَوْلُ، وَقَدْ يَشْتَرِي بِهِ سِلْعَةً. الْحَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُمْسِكَ النَّاضَّ إِلَى تَمَامِ الْحَوْلِ، فَإِنِ اشْتَرَى عَرْضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بِثَلَاثِمِائَةٍ، وَتَمَّ الْحَوْلُ وَهِيَ فِي يَدِهِ - فَفِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ أَظْهَرُهُمَا: يُزَكِّي الْأَصْلَ بِحَوْلِهِ، وَيُفْرِدُ الرِّبْحَ بِحَوْلٍ، وَالثَّانِي: يُزَكِّي الْجَمِيعَ بِحَوْلِ الْأَصْلِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِإِفْرَادِ الرِّبْحِ. وَإِذَا أَفْرَدْنَاهُ فَفِي ابْتِدَاءِ حَوْلِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مِنْ حِينِ النَّضُوضِ، وَالثَّانِي: مِنْ حِينِ الظُّهُورِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَرْضًا قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَمَا لَوْ أَمْسَكَ النَّاضَّ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يُزَكِّي الْجَمِيعَ بِحَوْلِ الْأَصْلِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: إِذَا نَضَّ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الزِّيَادَةُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، زَكَّى الْجَمِيعَ بِحَوْلِ الْأَصْلِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ بَعْدَ تَمَامِهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: هَكَذَا، وَأَصَحُّهُمَا: يَسْتَأْنِفُ لِلرِّبْحِ حَوْلًا. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا اشْتَرَى الْعَرْضَ بِنِصَابٍ مِنَ النَّقْدِ أَوْ بِعَرْضِ قِيمَةِ نِصَابٍ. فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا، وَبَاعَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَبَقِيَتْ عِنْدَهُ إِلَى تَمَامِ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّ النِّصَابَ لَا يُشْتَرَطُ إِلَّا فِي الْحَوْلِ، بُنِيَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الرِّبْحَ مِنَ النَّاضِّ هَلْ يُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْحَوْلِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْمِائَتَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، لَمْ يُزَكِّ مِائَةَ الرِّبْحِ إِلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى، وَإِنْ قُلْنَا: النِّصَابُ يُشْتَرَطُ فِي جَمِيعِ الْحَوَلِ أَوْ فِي طَرَفَيْهِ، فَابْتِدَاءُ الْحَوَلِ مِنْ حِينِ بَاعَ وَنَضَّ، فَإِذَا تَمَّ زَكَّى الْمِائَتَيْنِ.

فَرْعٌ مَلَكَ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَاشْتَرَى بِهَا عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ بَاعَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا، وَاشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً أُخْرَى ثُمَّ بَاعَهَا بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِمِائَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الرِّبْحُ مِنَ النَّاضِّ لَا يُفْرَدُ بِحَوْلٍ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ زَكَاةُ خَمْسِينَ دِينَارًا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى السِّلْعَةَ الثَّانِيَةَ بِأَرْبَعِينَ، مِنْهَا عِشْرُونَ رَأْسُ مَالِهِ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَعِشْرُونَ رِبْحٌ اسْتَفَادَهُ يَوْمَ بَاعَ الْأَوَّلَ. فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَقَدْ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى نِصْفِ السِّلْعَةِ، فَيُزَكِّيهِ بِزِيَادَتِهِ، وَزِيَادَتُهُ ثَلَاثُونَ دِينَارًا؛ لِأَنَّهُ رَبِحَ عَلَى الْعِشْرِينَتَيْنِ سِتِّينَ، وَكَانَ ذَلِكَ كَامِنًا وَقْتَ تَمَامِ الْحَوْلِ. ثُمَّ إِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْعِشْرِينَ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ حَوْلَهَا حِينَئِذٍ تَمَّ، وَلَا يُضَمُّ إِلَيْهَا رِبْحُهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ نَاضًّا قَبْلَ تَمَامِ حَوْلِهَا، فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ رِبْحِهَا وَهُوَ الثَّلَاثُونَ الْبَاقِيَةُ، فَإِنْ كَانَتِ الْخَمْسُونَ الَّتِي أَخْرَجَ زَكَاتَهَا فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بَاقِيَةً عِنْدَهُ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا أَيْضًا لِلْحَوْلِ الثَّانِي مَعَ الثَّلَاثِينَ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ النَّاضَّ لَا يُفْرَدُ رِبْحُهُ بِحَوْلٍ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ ضَعِيفَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يُخْرِجُ عِنْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي زَكَاةَ عِشْرِينَ. وَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، أَخْرَجَ زَكَاةَ عِشْرِينَ أُخْرَى، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ رِبْحًا فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ. فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، أَخْرَجَ زَكَاةَ السِّتِّينَ الْبَاقِيَةَ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا اسْتَقَرَّتْ عِنْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي، فَمِنْهُ يَبْتَدِئُ حَوْلُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ عِنْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي يُخْرِجُ زَكَاةَ عِشْرِينَ، ثُمَّ إِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ زَكَّى الثَّمَانِينَ الْبَاقِيَةَ؛ لِأَنَّ السِّتِّينَ الَّتِي هِيَ الرِّبْحُ حَصَلَتْ فِي حَوْلِ الْعِشْرِينَ الَّتِي هِيَ الرِّبْحُ الْأَوَّلُ، فَضُمَّتْ إِلَيْهَا فِي الْحَوْلِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَكِنَّهُ لَمْ يَبِعِ السِّلْعَةَ الثَّانِيَةَ، فَيُزَكِّيَ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ خَمْسِينَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعِنْدَ تَمَامِ الثَّانِي الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةَ؛

فصل

لِأَنَّ الرِّبْحَ الْأَخِيرَ لَمْ يَصِرْ نَاضًّا، وَلَوِ اشْتَرَى بِمِائَتَيْنِ عَرْضًا فَبَاعَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِثَلَاثِمِائَةٍ، وَاشْتَرَى بِهَا عَرْضًا وَبَاعَهُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِسِتِّمِائَةٍ، إِنْ لَمْ نُفْرِدِ الرِّبْحَ بِحَوْلٍ أَخْرَجَ زَكَاةَ سِتِّ الْمَائَةِ، وَإِلَّا فَزَكَاةُ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ زَكَّى مِائَةً، فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى، زَكَّى الْمِائَةَ الْبَاقِيَةَ، هَذَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَيُزَكِّي عِنْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي مِائَتَيْنِ، ثُمَّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ زَكَّى مِائَةً، ثُمَّ إِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى زَكَّى ثَلَاثَمِائَةٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: إِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنَ الْبَيْعِ الثَّانِي زَكَّى أَرْبَعَ الْمِائَةِ الْبَاقِيَةَ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ حَيَوَانًا فَلَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ كَنِصَابِ الْمَاشِيَةِ، وَيَأْتِي حُكْمُهُ بَعْدَ هَذَا الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَجِبَ فِي عَيْنِهِ كَالْخَيْلِ، وَالْجَوَارِي، وَالْمَعْلُوفَةِ مِنَ النَّعَمِ مِنَ الْمَاشِيَةِ، فَهَلْ يَكُونُ نِتَاجُهَا مَالَ تِجَارَةٍ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَكُونُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَهُ حُكْمُ أُمِّهِ، وَالْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ تَنْقُصْ قِيمَةُ الْأُمِّ بِالْوِلَادَةِ، فَإِنْ نَقَصَتْ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ أَلْفًا، فَصَارَتْ بِالْوِلَادَةِ ثَمَانِمِائَةٍ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ مِائَتَانِ، جُبِرَ نَقْصُ الْأُمِّ بِالْوَلَدِ وَزَكَّى الْأَلْفَ. وَلَوْ صَارَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ، تِسْعَمِائَةٍ، جُبِرَتِ الْمِائَةُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ ظَاهِرٌ، وَمُقْتَضَى قَوْلِنَا: إِنَّهُ لَيْسَ مَالَ تِجَارَةٍ، أَنْ لَا تُجْبَرُ بِهِ الْأُمُّ كَالْمُسْتَفَادَاتِ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَأَثْمَارُ أَشْجَارِ التِّجَارَةِ كَأَوْلَادِ حَيَوَانِهَا، فَفِيهَا الْوَجْهَانِ. فَإِنْ لَمْ نَجْعَلِ الْأَوْلَادَ وَالثِّمَارَ مَالَ تِجَارَةٍ، فَهَلْ تَجِبُ فِيهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَفِيهَا بَعْدَهَا زَكَاةٌ؟ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الظَّاهِرُ أَنَّا لَا نُوجِبُ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأُمِّ، وَلَيْسَ أَصْلًا فِي التِّجَارَةِ، وَأَمَّا

فصل

إِذَا ضَمَمْنَاهَا إِلَى الْأَصْلِ، وَجَعَلْنَاهَا مَالَ تِجَارَةٍ، فَفِي حَوْلِهَا طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: حَوْلُهَا حَوْلُ الْأَصْلِ، كَنِتَاجِ السَّائِمَةِ، وَكَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْ رِبْحِ النَّاضِّ، فَعَلَى أَحَدِهِمَا ابْتِدَاءُ حَوْلِهَا مِنِ انْفِصَالِ الْوَلَدِ وَظُهُورِ الثِّمَارِ. فَصْلٌ لَا خِلَافَ أَنَّ قَدْرَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ كَالنَّقْدِ، وَمِنْ أَيْنَ يُخْرِجُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، الْمَشْهُورُ الْجَدِيدُ: يُخْرِجُ مِنَ الْقِيمَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ عَيْنِ الْعَرْضِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ مِنَ الْقِيمَةِ، وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، فَلَوِ اشْتَرَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِائَتَيْ قَفِيزٍ حِنْطَةً أَوْ بِمِائَةٍ وَقُلْنَا: يُعْتَبَرُ النِّصَابُ آخِرَ الْحَوْلِ فَقَطْ، وَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ: عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الثَّانِي: خَمْسَةُ أَقْفِزَةٍ وَعَلَى الثَّالِثِ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. فَلَوْ أَخَّرَ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ حَتَّى نَقَصَتْ قِيمَتُهَا فَعَادَتْ إِلَى مِائَةٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَقُلْنَا: الْإِمْكَانُ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، فَلَا زَكَاةَ. وَإِنْ قُلْنَا: شَرْطٌ لِلضَّمَانِ، لَزِمَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَعَلَى الثَّانِي: خَمْسَةُ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِمْكَانِ، لَزِمَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ: خَمْسَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَعَلَى الثَّانِي: خَمْسَةُ أَقْفِزَةٍ، وَلَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ كَالْغَاصِبِ، وَعَلَى الثَّالِثِ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ أَخَّرَ فَبَلَغَتِ الْقِيمَةُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَقُلْنَا: هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ - لَزِمَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الثَّانِي: خَمْسَةُ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا: شُرِطَ الضَّمَانُ، لَزِمَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الثَّانِي: خَمْسَةُ أَقْفِزَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي مَالِهِ وَمَالِ الْمَسَاكِينِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَكْفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: خَمْسَةُ أَقْفِزَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ حَدَثَتْ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَهِيَ مَحْسُوبَةٌ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي، وَعَلَى الثَّالِثِ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَلَوْ أَتْلَفَ الْحِنْطَةَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَصَارَتْ

أَرْبَعَمِائَةٍ، لَزِمَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهَا الْقِيمَةُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ، وَعَلَى الثَّانِي: خَمْسَةُ أَقْفِزَةٍ قِيمَتُهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الثَّالِثِ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. فَرْعٌ فِيمَا يُقَوَّمُ بِهِ مَالُ التِّجَارَةِ لِرَأْسِ الْمَالِ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ نَقْدًا نِصَابًا، بِأَنْ يَشْتَرِيَ عَرْضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَيَقُومُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ بِهِ، فَإِنْ بَلَغَ بِهِ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي غَالِبَ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَلَوْ قُوِّمَ بِهِ لَبَلَغَ نِصَابًا، حَتَّى لَوِ اشْتَرَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَرْضًا، فَبَاعَهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَقَصْدُ التِّجَارَةِ مُسْتَمِرٌّ، فَتَمَّ الْحَوْلُ وَالدَّنَانِيرُ فِي يَدِهِ، وَلَا تَبْلُغُ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَلَا زَكَاةَ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ. وَعَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ حِكَايَةُ قَوْلِ أَنَّ التَّقْوِيمَ أَبَدًا يَكُونُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَمِنْهُ يُخْرَجُ الْوَاجِبُ، سَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا أَمْ غَيْرَهُ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ هَذَا عَنِ ابْنِ الْحَدَّادِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَقْدًا دُونَ النِّصَابِ، فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: يَقُومُ بِذَلِكَ النَّقْدِ، وَالثَّانِي: بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ كَالْعَرْضِ. وَمَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ مَا إِذَا لَمْ يَمْلِكُ مِنْ جِنْسِ النَّقْدِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ، فَإِنْ مَلَكَ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ، بِأَنِ اشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَرْضًا وَهُوَ يَمْلِكُ مِائَةً أُخْرَى، فَلَا خِلَافَ أَنَّ التَّقْوِيمَ بِجِنْسِ مَا مَلَكَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِبَعْضِ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَابْتَدَأَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ. قُلْتُ: لَكِنْ يَجْرِي فِيهِ الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمْلِكَ بِالنَّقْدَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ نِصَابًا، فَيُقَوَّمَ بِهِمَا عَلَى نِسْبَةِ التَّقْسِيطِ يَوْمَ الْمِلْكِ. وَطَرِيقُهُ: تَقْوِيمُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ. مِثَالُهُ، اشْتَرَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ قِيمَةُ الْمِائَتَيْنِ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَنِصْفُ الْعَرْضِ مُشْتَرًى بِدَرَاهِمَ، وَنِصْفُهُ بِدَنَانِيرَ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، فَثُلُثُهُ مُشْرًى بِدَرَاهِمَ، وَثُلُثَاهُ بِدَنَانِيرَ. وَهَكَذَا يُقَوَّمُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، وَلَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِذَا لَمْ يَبْلُغْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا نِصَابًا وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ قُوِّمَ الْجَمِيعُ بِأَخْذِ النَّقْدَيْنِ لَبَلَغَ نِصَابًا، وَحَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَبْلَغَيْنِ مِنْ حِينِ مَلَكَ ذَلِكَ النَّقْدَ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ النِّصَابِ، فَإِنْ قُلْنَا: مَا دُونَ النِّصَابِ، كَالْعَرْضِ، قُوِّمَ الْجَمِيعُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالنِّصَابِ، قُوِّمَ مَا مَلَكَهُ بِالدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ، وَمَا مَلَكَهُ بِالدَّنَانِيرِ بِدَنَانِيرَ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا وَالْآخَرُ دُونَهُ، فَيُقَوَّمُ مَا مَلَكَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي هُوَ نِصَابٌ بِذَلِكَ النَّقْدِ، وَمَا مَلَكَهُ بِالنَّقْدِ الْآخَرِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَبَلِّغِينِ يُقَوَّمُ فِي آخِرِ حَوْلِهِ وَحَوْلِ الْمَمْلُوكِ بِالنِّصَابِ مِنْ حِينِ مَلَكَ ذَلِكَ النَّقْدَ، وَحَوْلُ الْمَمْلُوكِ بِمَا دُونَهُ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْعَرْضَ. وَإِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمُقَوَّمِ بِهِ، فَلَا ضَمَّ كَمَا سَبَقَ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ غَيْرَ نَقْدٍ، بِأَنْ مَلَكَ بِعَرْضِ قِنْيَةٍ، أَوْ مَلَكَ بِخُلْعٍ أَوْ نِكَاحٍ بِقَصْدِ التِّجَارَةِ وَقُلْنَا: يَصِيرُ مَالَ تِجَارَةٍ، فَيُقَوَّمُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ. فَإِنْ بَلَغَ بِهِ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ بِغَيْرِهِ نِصَابًا. فَلَوْ جَرَى فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ مُتَسَاوِيَانِ، فَإِنْ بَلَغَ بِأَحَدِهِمَا نِصَابًا دُونَ الْآخَرِ قُوِّمَ بِهِ، وَإِنْ بَلَغَ بِهِمَا فَأَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فَيُقَوَّمُ

فصل

بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَالثَّانِي: يُرَاعِي الْأَغْبَطَ لِلْمَسَاكِينِ، وَالثَّالِثُ: يَتَعَيَّنُ التَّقْوِيمُ بِالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهَا أَرْفَقُ، وَالرَّابِعُ: يُقَوِّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ. الْحَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يَمْلِكَ بِالنَّقْدِ وَغَيْرِهِ بِأَنِ اشْتَرَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَعَرْضِ قِنْيَةٍ، فَمَا قَابَلَ الدَّرَاهِمَ يُقَوَّمُ بِهَا، وَمَا قَابَلَ الْعَرْضَ، يُقَوَّمُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ. فَإِنْ كَانَ النَّقْدُ دُونَ النِّصَابِ، عَادَ الْوَجْهَانِ. كَمَا يَجْرِي التَّقْسِيطُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، يَجْرِي عِنْدَ اخْتِلَافِ الصِّفَةِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى بِنِصَابٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ بَعْضُهَا صَحِيحٌ وَبَعْضُهَا مُكَسَّرٌ، وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ، فَيُقَوَّمُ مَا يَخُصُّ الصَّحِيحَ بِالصِّحَاحِ، وَمَا يَخُصُّ الْمُكَسَّرَ بِالْمُكَسَّرِ. فَصْلٌ تَصَرُّفُ التَّاجِرِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَبْلَ الْأَدَاءِ، قِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ عَيْنِ الْعَرْضِ، فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُؤَدِّي مِنَ الْقِيمَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَبَتْ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ فَبَاعَهَا. وَهَذَانَ الطَّرِيقَانِ شَاذَّانِ. وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: الْقَطْعُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ، ثُمَّ سَوَاءٌ بَاعَ بِقَصْدِ التِّجَارَةِ أَوْ بِقَصْدِ اقْتِنَاءِ الْعَرْضِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِهِ لَا يَبْطُلُ وَإِنْ صَارَ مَالَ قِنْيَةٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى الِاقْتِنَاءَ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ. فَلَوْ وَهَبَ مَالَ التِّجَارَةِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهَا، فَهُوَ كَبَيْعِ الْمَاشِيَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالْإِعْتَاقَ يُبْطِلَانِ مُتَعَلِّقَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ. كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ يُبْطِلُ مُتَعَلِّقَ زَكَاةِ الْعَيْنِ. وَلَوْ بَاعَ مَالَ التِّجَارَةِ مُحَابَاةً، فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ كَالْمَوْهُوبِ، فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحِ الْهِبَةَ، بَطَلَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَخُرِّجَ فِي الْبَاقِي عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.

فصل فيما إذا كان مال التجارة تجب الزكاة في عينه

فَصْلٌ فِيمَا إِذَا كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ عَبِيدَ تِجَارَةٍ وَجَبَتْ فِطْرَتُهُمْ مَعَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ. وَلَوْ كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ نِصَابًا مِنَ السَّائِمَةِ، لَمْ تُجْمَعْ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَالْعَيْنِ. وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْهُمَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ: تُقَدَّمُ زَكَاةُ الْعَيْنِ، وَالثَّانِي: زَكَاةُ التِّجَارَةِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ أُخْرِجَ السِّنُّ الْوَاجِبَةُ مِنَ السَّائِمَةِ، وَتُضَمُّ السِّخَالُ إِلَى الْأُمَّاتِ. وَإِنْ قَدَّمْنَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ، قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: تُقَوَّمُ مَعَ دَرِّهَا، وَنَسْلِهَا، وَصُوفِهَا، وَمَا اتُّخِذَ مِنْ لَبَنِهَا، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ النِّتَاجَ مَالُ تِجَارَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ، وَلَا عِبْرَةَ بِنُقْصَانِ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصَحِّ فِي وَقْتِ اعْتِبَارِ نِصَابِ التِّجَارَةِ. وَلَوِ اشْتَرَى نِصَابًا مِنَ السَّائِمَةِ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا عَرْضًا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَثَلًا، فَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: لَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَنْقَطِعُ، وَيَبْتَدِئُ حَوْلُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ مِنْ يَوْمِ شِرَاءِ الْعَرْضِ. ثُمَّ الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَمُلَ نِصَابُ الزَّكَاتَيْنِ وَاتَّفَقَ الْحَوْلَانِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكْمُلْ نِصَابُ أَحَدِهِمَا، بِأَنْ كَانَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ، لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهَا نِصَابًا عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ، أَوْ كَانَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ فَمَا دُونَهَا، وَقِيمَتُهَا نِصَابٌ، فَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ زَكَاةِ مَا بَلَغَ بِهِ نِصَابَاهُ. هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالْقَفَّالُ، وَالْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: فِي وُجُوبِهَا وَجْهَانِ. وَإِذَا غَلَّبْنَا زَكَاةَ الْعَيْنِ فِي نِصَابِ السَّائِمَةِ، فَنَقَصَتْ فِي خِلَالِ السَّنَةِ عَنِ النِّصَابِ، وَنَقَلْنَاهَا إِلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ، فَهَلْ يَبْنِي حَوْلَ التِّجَارَةِ عَلَى حَوْلِ الْعَيْنِ، أَمْ يَسْتَأْنِفُهُ؟ وَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ مَلَكَ نِصَابَ سَائِمَةٍ لَا لِلتِّجَارَةِ فَاشْتَرَى بِهِ عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ، هَلْ يُبْنَى حَوْلُ التِّجَارَةِ عَلَى حَوْلِ السَّائِمَةِ؟ وَإِذَا أَوْجَبْنَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ لِنُقْصَانِ الْمَاشِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ لِلتِّجَارَةِ عَنِ النِّصَابِ، ثُمَّ

بَلَغَتْ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ نِصَابًا بِالنِّتَاجِ، وَلَمْ تَبْلُغْ بِالْقِيمَةِ نِصَابًا فِي آخِرِ الْحَوْلِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا زَكَاةَ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ انْعَقَدَ لِلتِّجَارَةِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ، وَالثَّانِي: يَنْتَقِلُ إِلَى زَكَاةِ الْعَيْنِ، فَعَلَى هَذَا، هَلْ يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ مِنْ تَمَامِ النِّصَابِ بِالنِّتَاجِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ نَقْصِ الْقِيمَةِ عَنِ النِّصَابِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا زَكَاةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إِذَا كَمُلَ نِصَابُ الزَّكَاتَيْنِ وَاخْتَلَفَ الْحَوْلَانِ، بِأَنِ اشْتَرَى بِمَتَاعِ التِّجَارَةِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرِ نِصَابَ سَائِمَةٍ، أَوِ اشْتَرَى بِهِ مَعْلُوفَةً لِلتِّجَارَةِ، ثُمَّ أَسَامَهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ - فَطَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَقْدِيمِ زَكَاةِ الْعَيْنِ أَوِ التِّجَارَةِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَيْنِ مَخْصُوصَانِ بِمَا إِذَا اتَّفَقَ الْحَوْلَانِ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِعُرُوضِ الْقِنْيَةِ نِصَابَ سَائِمَةٍ لِلتِّجَارَةِ. فَعَلَى هَذَا، فِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْمُعْظَمُ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ يَمْنَعُ الْمُتَأَخِّرَ قَوْلًا وَاحِدًا، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ يَرْفَعُ حُكْمَ الْمُتَأَخِّرِ وَيَتَجَرَّدُ. وَإِذَا طَرَّدْنَا الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا تَقَدَّمَ حَوْلُ التِّجَارَةِ، فَإِنْ غَلَّبْنَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ، فَذَاكَ، وَإِنْ غَلَّبْنَا الْعَيْنَ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تَجِبُ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا، وَمَا سَبَقَ مِنْ حَوْلِ التِّجَارَةِ يَبْطُلُ. وَأَصَحُّهُمَا: تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا؛ لِئَلَّا يُبْطَلُ بَعْضُ حَوْلِهَا، ثُمَّ يُسْتَفْتَحُ حَوْلُ زَكَاةِ الْعَيْنِ مِنْ مُنْقَرِضِ حَوْلِهَا، وَتَجِبُ زَكَاةُ الْعَيْنِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى نَخِيلًا لِلتِّجَارَةِ فَأَثْمَرَتْ، أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً فَأَدْرَكَ الزَّرْعَ، وَبَلَغَ الْحَاصِلُ نِصَابًا - عَادَ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ زَكَاةُ الْعَيْنِ أَمِ التِّجَارَةُ؟ فَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ أَحَدُ النِّصَابَيْنِ، أَوْ كَمُلَا وَلَمْ يَتَّفِقِ الْحَوْلَانِ، اسْتَمَرَّ التَّفْصِيلُ الَّذِي سَبَقَ.

ثُمَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الثَّمَرَةُ حَاصِلَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَبَدَا الصَّلَاحُ فِي مِلْكِهِ. أَمَّا إِذَا أَطْلَعَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَهَذِهِ ثَمَرَةٌ حَدَثَتْ مِنْ شَجَرِ التِّجَارَةِ، وَفِي ضَمِّهَا إِلَى مَالِ التِّجَارَةِ وَجْهَانِ تَقَدَّمَا، فَإِنْ ضَمَمْنَاهَا، فَهِيَ كَالْحَاصِلَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ، وَتُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ زِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ، أَوْ أَرْبَاحٍ مُتَجَدِّدَةٍ فِي قِيمَةِ الْعَرْضِ، وَلَا تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ رِبْحٍ بِنَضٍّ، لِيَكُونَ حَوْلُهَا عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِيهِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَتْ مَالَ تِجَارَةٍ، فَمُقْتَضَاهُ وُجُوبُ زَكَاةِ الْعَيْنِ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ، وَتَخْصِيصُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ بِالْأَرْضِ وَالْأَشْجَارِ. التَّفْرِيعُ: إِنْ غَلَّبْنَا زَكَاةَ الْعَيْنِ أُخْرِجَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ مِنَ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ، وَهَلْ تَسْقُطُ بِهِ زَكَاةُ الْتِّجَارَةِ عَنْ قِيمَةِ جِذْعِ النَّخْلِ، وَتِبْنِ الزَّرْعِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَسْقُطُ. وَفِي أَرْضِ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْجِذْعِ وَالتِّبْنِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ لِبُعْدِ الْأَرْضِ عَنِ التَّبِعَةِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ الْمُتَخَلِّلَةِ بَيْنَ النَّخِيلِ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَمَا لَا يَدْخُلُ. فَمَا لَا يَدْخُلُ تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ قَطْعًا، وَمَا يَدْخُلُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَلَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهَا نِصَابًا، فَهَلْ يُضَمُّ قِيمَةُ الثَّمَرَةِ وَالْحَبِّ إِلَيْهَا لِيَكْمُلَ النِّصَابُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا ضَمَّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ التِّجَارَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ حَوْلِ التِّجَارَةِ مِنْ وَقْتِ إِخْرَاجِ الْعُشْرِ، لَا مِنْ بُدُوِّ الصَّلَاحِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ تَرْبِيَةُ الثِّمَارِ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَمَانُ التَّرْبِيَةِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ. فَأَمَّا إِذَا غَلَّبْنَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ، فَتُقَوَّمُ الثَّمَرَةُ وَالْجِذْعُ، وَفِي الزَّرْعِ الْحَبُّ وَالتِّبْنُ. وَتُقَوَّمُ الْأَرْضُ أَيْضًا فِيهِمَا، وَسَوَاءٌ اشْتَرَاهَا مَزْرُوعَةً لِلتِّجَارَةِ أَوِ اشْتَرَى بَذْرًا وَأَرْضًا لِلتِّجَارَةِ وَزَرَعَهَا بِهِ فِي جَمِيعِ

فصل في زكاة مال القراض

مَا ذَكَرْنَا. وَلَوِ اشْتَرَى الثِّمَارَ وَحْدَهَا وَبَدَا الصَّلَاحُ فِي يَدِهِ، جَرَى الْقَوْلَانِ فِي أَنَّهُ يُخْرِجُ الْعُشْرَ أَمْ زَكَاةَ التِّجَارَةِ؟ . فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى أَرْضًا لِلتِّجَارَةِ وَزَرَعَهَا بِبَذْرٍ لِلْقِنْيَةِ، وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الزَّرْعِ وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي الْأَرْضِ بِلَا خِلَافٍ فِيهِمَا. فَصَلٌ فِي زَكَاةِ مَالِ الْقِرَاضِ عَامِلُ الْقِرَاضِ لَا يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَعَلَى الثَّانِي: يَمْلِكُهَا بِالظُّهُورِ. فَإِذَا دَفَعَ إِلَى غَيْرِهِ نَقْدًا قِرَاضًا وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنْ قُلْنَا: الْعَامِلُ لَا يَمْلِكُ الرِّبْحَ بِالظُّهُورِ، وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ زَكَاةُ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِلْكُهُ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَرَأَى الْإِمَامُ تَخْرِيجَ الْوُجُوبِ فِي نَصِيبِ الْعَامِلِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمَحْجُورِ، لِتَأَكُّدِ حَقِّهِ فِي حِصَّتِهِ. وَحَوْلُ الرِّبْحِ مَبْنِيٌّ عَلَى حَوْلِ الْأَصْلِ، إِلَّا إِذَا رُدَّ إِلَى النَّضُوضِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. ثُمَّ إِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَاكَ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ هَذَا الْمَالِ، فَفِي حُكْمِ الْمُخْرَجِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: يُحْسَبُ مِنَ الرِّبْحِ كَالْمُؤَنِ الَّتِي تَلْزَمُ الْمَالَ وَكَمَا أَنَّ فِطْرَةَ عَبِيدِ التِّجَارَةِ وَأَرْشَ جِنَايَاتِهِمْ مِنَ الرِّبْحِ. وَالثَّانِي: مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَالِ، يَسْتَرِدُّهَا الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ إِلَى حَقٍّ لَزِمَهُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُخْرَجُ مِنَ الرِّبْحِ وَرَأْسِ الْمَالِ جَمِيعًا بِالتَّقْسِيطِ. مِثَالُهُ: رَأْسُ الْمَالِ مِائَتَانِ، وَالرِّبْحُ

مِائَةٌ، فَثُلُثَا الْمُخْرَجِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَثُلُثُهُ مِنَ الرِّبْحِ. قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ، هَلْ هُوَ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالذِّمَّةِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْعَيْنِ فَكَالْمُؤَنِ، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِرْدَادٌ. وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا بِالْعَيْنِ فَكَالْمُؤَنِ، وَإِلَّا فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَاسْتَبْعَدَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْبِنَاءَ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: يَمْلِكُ حِصَّتَهُ بِالظُّهُورِ، فَعَلَى الْمَالِكِ زَكَاةُ رَأْسِ الْمَالِ وَنَصِيبُهُ مِنَ الرِّبْحِ. وَهَلْ عَلَى الْعَامِلِ زَكَاةُ نَصِيبِهِ؟ فِيهِ طُرُقٌ: أَحَدُهَا أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ التَّوَصُّلِ بِالْمُقَاسَمَةِ، وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ؛ لِاحْتِمَالِ الْخُسْرَانِ. وَالْمَذْهَبُ: الْإِيجَابُ، سَوَاءٌ أَثْبَتْنَا الْخِلَافَ أَمْ لَا، فَعَلَى هَذَا فَابْتِدَاءُ حَوْلِ حِصَّتِهِ مِنْ حِينِ الظُّهُورِ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. وَالثَّانِي: مِنْ حِينِ تُقَوِّمُ الْمَالَ عَلَى الْمَالِكِ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ، وَالثَّالِثُ: مِنْ حِينِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الِاسْتِقْرَارِ، وَالرَّابِعُ: حَوْلُهُ حَوْلُ رَأْسِ الْمَالِ. ثُمَّ إِذَا تَمَّ حَوْلُهُ، وَنَصِيبُهُ لَا يَبْلُغُ نِصَابًا، لَكِنَّ مَجْمُوعَ الْمَالِ يَبْلُغُ نِصَابًا، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْخُلْطَةَ فِي النَّقْدَيْنِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ نَجْعَلِ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ. فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مِنْهَا سَقَطَ النَّظَرُ إِلَى الْخُلْطَةِ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الزَّكَاةَ عَلَى الْعَامِلِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَإِذَا اقْتَسَمَا، زَكَّى مَا مَضَى. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِخْرَاجُ فِي الْحَالِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْقِسْمَةِ. ثُمَّ إِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَاكَ، فَإِنْ أَرَادَ إِخْرَاجَهَا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ، فَهَلْ يَسْتَبِدُّ بِهِ، أَمْ لِلْمَالِكِ مَنْعُهُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَسْتَبِدُّ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَالثَّانِي: لَا يَسْتَبِدُّ، وَلِلْمَالِكِ مَنْعُهُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالِكُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ دُونَ الْعَامِلِ وَقُلْنَا: الْجَمِيعُ لَهُ مَا لَمْ يُقَسَّمْ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْجَمِيعِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْآخَرِ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ رَأْسِ الْمَالِ وَنَصِيبٌ مِنَ الرِّبْحِ، وَلَا يَكْمُلُ نَصِيبُ الْمَالِكِ إِذَا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا بِنَصِيبِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَامِلُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ دُونَ الْمَالِكِ،

باب زكاة المعدن والركاز

فَإِنْ قُلْنَا: الْجَمِيعُ لِلْمَالِكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَلَا زَكَاةَ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْعَامِلِ حِصَّةٌ مِنَ الرِّبْحِ، فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. فَإِذَا أَوْجَبْنَاهُ، فَذَاكَ إِذَا بَلَغَتْ حِصَّتُهُ نِصَابًا، أَوْ كَانَ لَهُ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ. وَلَا تَثْبُتُ الْخُلْطَةُ، وَلَا يَجِيءُ فِي اعْتِبَارِ الْحَوْلِ هُنَا إِلَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ، وَلَيْسَ لَهُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يُخْرِجَ مِنَ الْمَالِ زَكَاةً، هَكَذَا ذَكَرُوهُ، وَلِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَامَلَ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. بَابُ زَكَاةِ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْدِنِ، وَلَا زَكَاةَ فِيمَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْمَعْدِنِ إِلَّا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ تَجِبُ زَكَاةُ كُلِّ مُسْتَخْرِجٍ مِنْهُ، مُنْطَبِعًا كَانَ، كَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ أَوْ غَيْرِهِ، كَالْكُحْلِ وَالْيَاقُوتِ، وَهَذَا شَاذٌّ مُنْكَرٌ. وَفِي وَاجِبِ النَّقْدَيْنِ الْمُسْتَخْرَجَيْنِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: رُبُعُ الْعُشْرِ، وَالثَّانِي: الْخُمُسُ، وَالثَّالِثُ: إِنْ نَالَهُ بِلَا تَعَبٍ وَمَئُونَةٍ فَالْخُمُسُ، وَإِلَّا فَرُبُعُ الْعُشْرِ. ثُمَّ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْأَكْثَرُونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي ضَبْطِ الْفَرْقِ الْحَاجَةُ إِلَى الطَّحْنِ، وَالْمُعَالَجَةُ بِالنَّارِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُمَا، فَمَا احْتَاجَ، فَرُبُعُ الْعُشْرِ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُمَا فَالْخُمُسُ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ نِصَابًا. وَقِيلَ فِي اشْتِرَاطِهِ قَوْلَانِ. وَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مُعْظَمِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ. وَقِيلَ فِي اشْتِرَاطِهِ قَوْلَانِ. وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ فِيهِمَا الْقِيَاسُ عَلَى الْمُعَشَّرَاتِ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ لَا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ تَنْمِيَةِ الْمَالِ، وَهَذَا نَمَا فِي نَفْسِهِ.

فَرْعٌ إِذَا اشْتَرَطْنَا النِّصَابَ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَنَالَ فِي الدَّفْعَةِ الْوَاحِدَةِ نِصَابًا، بَلْ مَا نَالَهُ بِدَفَعَاتٍ ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ إِنْ تَتَابَعَ الْعَمَلُ وَتَوَاصَلَ النَّيْلُ. قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ مَا اسْتَخْرَجَ فِي مِلْكِهِ. فَلَوْ تَتَابَعَ الْعَمَلُ، وَلَمْ يَتَوَاصَلِ النَّيْلُ، بَلْ حُفِرَ الْمَعْدِنَ زَمَانًا، ثُمَّ عَادَ النَّيْلُ، فَإِنْ كَانَ زَمَنُ الِانْقِطَاعِ يَسِيرًا، ضُمَّ أَيْضًا، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ؛ الْجَدِيدُ: الضَّمُّ، وَالْقَدِيمُ: لَا ضَمَّ. وَإِنْ قَطَعَ الْعَمَلَ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَلَا ضَمَّ، طَالَ الزَّمَانُ أَمْ قَصُرَ، لِإِعْرَاضِهِ. وَإِنْ قَطَعَ لِعُذْرٍ، فَالضَّمُّ ثَابِتٌ إِنْ قَصُرَ الزَّمَانُ وَإِنْ طَالَ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَفِي وَجْهٍ: لَا ضَمَّ. وَفِي حَدِّ الطُّولِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: الرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ، وَالثَّانِي: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَالثَّالِثُ: يَوْمٌ كَامِلٌ. ثُمَّ إِصْلَاحُ الْآلَاتِ وَهَرَبُ الْعَبِيدِ وَالْأُجَرَاءِ مِنَ الْأَعْذَارِ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَلِكَ السَّفَرُ وَالْمَرَضُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِمَا وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: عُذْرَانِ، وَالثَّانِي: لَا، وَمَتَى حَكَمْنَا بِعَدَمِ الضَّمِّ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُضَمُّ إِلَى الثَّانِي. فَأَمَّا الثَّانِي فَيَكْمُلُ بِالْأَوَّلِ قَطْعًا، كَمَا يَكْمُلُ بِمَا يَمْلِكُهُ مِنْ غَيْرِ الْمَعْدِنِ. فَرْعٌ إِذَا نَالَ مِنَ الْمَعْدِنِ دُونَ نِصَابٍ، وَهُوَ يَمْلِكُ مِنْ جِنْسِهِ نِصَابًا فَصَاعِدًا، فَإِمَّا أَنْ يَنَالَهُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَوْلِ مَا عِنْدَهُ، أَوْ مَعَ تَمَامِ حَوْلِهِ، أَوْ قَبْلَهُ، فَفِي الْحَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَصِيرُ النَّيْلُ مَضْمُومًا إِلَى مَا عِنْدَهُ، وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النَّقْدِ حَقُّهُ، وَفِيمَا نَالَهُ حَقُّهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ فِيهِ. وَأَمَّا إِذَا نَالَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، فَلَا شَيْءَ فِيمَا عِنْدَهُ حَتَّى يُتِمَّ حَوْلَهُ. وَفِي وُجُوبِ حَقِّ الْمَعْدِنِ فِيمَا نَالَهُ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ، وَهُوَ

ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْأُمِّ، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ فِيمَا عِنْدَهُ رُبُعُ الْعُشْرِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ، وَفِيمَا نَالَهُ رُبُعُ الْعُشْرِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ. وَلَوْ كَانَ يَمْلِكُ مِنْ جِنْسِهِ دُونَ نِصَابٍ، بِأَنْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَنَالَ مِنَ الْمَعْدِنِ مِائَةً، نُظِرَ، إِنْ نَالَ بَعْدَ تَمَامِ حَوْلِ مَا عِنْدَهُ، فَفِي وُجُوبِ حَقِّ الْمَعْدِنِ فِيمَا نَالَهُ الْوَجْهَانِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَجِبُ فِي الْمَعْدِنِ حَقُّهُ، وَيَجِبُ فِيمَا عِنْدَهُ رُبُعُ الْعُشْرِ إِذَا مَضَى حَوْلٌ مِنْ حِينِ كَمُلَ النِّصَابُ بِالنَّيْلِ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَجِبُ شَيْءٌ حَتَّى يَمْضِيَ حَوْلٌ مِنْ يَوْمِ النَّيْلِ، فَيَجِبُ فِي الْجَمِيعِ رُبُعُ الْعُشْرِ. وَعَنْ صَاحِبِ الْإِفْصَاحِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجِبُ فِيمَا نَالَهُ حَقُّهُ وَفِيمَا كَانَ عِنْدَهُ رُبُعُ الْعُشْرِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ كَمُلَ بِالنَّيْلِ، وَقَدْ مَضَى عَلَيْهِ الْحَوْلُ. وَأَمَّا إِنْ نَالَهُ قَبْلَ تَمَامِ حَوْلِ الْمِائَةِ فَلَا يَجِيءُ وَجْهُ صَاحِبِ الْإِفْصَاحِ، وَيَجِيءُ الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَقَدْ نَقَلَ مُعْظَمَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَنَسَبَهُ الْإِمَامُ إِلَى السَّهْوِ وَقَالَ: إِذَا كَانَ يَمْلِكُهُ دُونَ النِّصَابِ، فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ حَوْلٌ حَتَّى يُفْرَضَ لَهُ وَسَطٌ وَآخِرٌ. وَيُحْكَمُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ يَوْمَ النَّيْلِ. وَلَا شَكَّ فِي الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ لِلنَّيْلِ، لَكِنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا النَّقْلِ، وَلَا صَارَ إِلَيْهِ حَتَّى يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ مُتَعَجِّبًا مِنْهُ مُنْكِرًا لَهُ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَا عِنْدَهُ مَالَ تِجَارَةٍ، فَتَنْتَظِمُ فِيهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ بِلَا إِشْكَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ إِلَّا فِي آخِرِ الْحَوْلِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ نَالَ مِنَ الْمَعْدِنِ فِي آخِرِ حَوْلِ التِّجَارَةِ، فَفِيهِ حَقُّ الْمَعْدِنِ، وَفِي مَالِ التِّجَارَةِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ إِنْ كَانَ نِصَابًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ دُونَهُ وَبَلَغَ بِالْمَعْدِنِ نِصَابًا وَاكْتَفَيْنَا بِالنِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ. وَإِنْ نَالَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَفِي وُجُوبِ حَقِّ الْمَعْدِنِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ، وَإِنْ نَالَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ نِصَابًا فِي آخِرِ الْحَوْلِ، وَجَبَ فِي النَّيْلِ حَقُّ الْمَعْدِنِ، لِانْضِمَامِهِ إِلَى مَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا وَنَالَ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ مِنَ الْحَوْلِ الثَّانِي مَثَلًا، بُنِيَ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ سِلْعَةَ التِّجَارَةِ إِذَا قُوِّمَتْ فِي آخِرِ الْحَوْلِ

فَلَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الْقِيمَةُ بَعْدَ شَهْرٍ هَلْ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، أَمْ يَنْتَظِرُ آخِرَ الْحَوْلِ الثَّانِي؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَجَبَتْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ حَقُّ الْمَعْدِنِ فِي النَّيْلِ قَطْعًا. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَفِي وُجُوبِ حَقِّ الْمَعْدِنِ الْوَجْهَانِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَوْلَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَقِّ الْمَعْدِنِ. فَإِنْ شَرَطْنَاهُ انْعَقَدَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ وَجَدَهُ. فَرْعٌ لَا يُمَكَّنُ ذَمِّيٌّ مِنْ حَفْرِ مَعَادِنِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْأَخْذِ مِنْهَا، كَمَا لَا يُمَكَّنُ مِنَ الْإِحْيَاءِ فِيهَا، وَلَكِنْ مَا أَخَذَهُ قَبْلَ إِزْعَاجِهِ يَمْلِكُهُ، كَمَا لَوِ احْتَطَبَ. وَهَلْ عَلَيْهِ حَقُّ الْمَعْدِنِ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ مَصْرِفَ حَقِّ الْمَعْدِنِ مَاذَا؟ فَإِنْ أَوْجَبْنَا فِيهِ رُبُعَ الْعُشْرِ، فَمَصْرِفُهُ مَصْرِفُ الزَّكَوَاتِ، وَإِنْ أَوْجَبْنَا الْخُمُسَ، فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ: مَصْرِفُ الزَّكَوَاتِ، وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ أَظْهَرُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي: مَصْرِفُ خُمُسِ خُمُسِ الْفَيْءِ. فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا أُخِذَ مِنَ الذِّمِّيِّ الْخُمُسُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَعَلَى الْمَذْهَبِ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِيهِ. وَعَلَى قَوْلِ مَصْرِفِ الْفَيْءِ، لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ. وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَخْرِجُ مِنَ الْمَعْدِنِ مُكَاتَبًا لَمْ يُمْنَعْ، وَلَا زَكَاةَ. وَلَوْ نَالَ الْعَبْدُ مِنَ الْمَعْدِنِ شَيْئًا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ وَعَلَيْهِ وَاجِبَةٌ. وَلَوْ أَمَرَهُ السَّيِّدُ بِذَلِكَ لِيَكُونَ النَّيْلُ لَهُ، فَقَدْ بَنَاهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ، وَحَظُّ الزَّكَاةِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ السُّلْطَانَ وَالْحَاكِمَ يُزْعِجُ الذِّمِّيَّ عَنْ مَعْدِنِ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَيَنْقَدِحُ جَوَازُ إِزْعَاجِهِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ حَقِّ فِيهِ.

فصل

فَرْعٌ لَوِ اسْتَخْرَجَ اثْنَانِ مِنْ مَعْدِنٍ نِصَابًا، فَوُجُوبُ الزَّكَاةِ يُبْنَى عَلَى ثُبُوتِ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّ الْحَوْلَ لَا يُعْتَبَرُ، فَوَقْتُ وُجُوبِ حَقِّ الْمَعْدِنِ حُصُولُ النَّيْلِ فِي يَدِهِ، وَوَقْتُ الْإِخْرَاجِ التَّخْلِيصُ وَالتَّنْقِيَةُ. فَلَوْ أَخْرَجَ قَبْلَ التَّنْقِيَةِ مِنَ التُّرَابِ وَالْحَجَرِ، لَمْ يُجْزِ، وَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى السَّاعِي، يَلْزَمُهُ رَدُّهُ. فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ بَعْدَ التَّلَفِ أَوْ قَبْلَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاعِي مَعَ يَمِينِهِ، وَمَئُونَةُ التَّخْلِيصِ وَالتَّنْقِيَةِ عَلَى الْمَالِكِ، كَمَئُونَةِ الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ. فَلَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ قَبْلَ التَّمْيِيزِ، فَهُوَ كَتَلَفِ بَعْضِ الْمَالِ قَبْلَ الْإِمْكَانِ. قُلْتُ: وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ تَخْلِيصِهِ، أُجْبِرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الرِّكَازُ دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ، وَيُصْرَفُ مَصْرِفَ الزَّكَوَاتِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ - وَقِيلَ: وَجْهٌ - أَنَّهُ يُصْرَفُ مَصْرِفَ خُمُسِ خُمُسِ الْفَيْءِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ. وَالْمَذْهَبُ: اشْتِرَاطُ النِّصَابِ وَكَوْنُ الْمَوْجُودِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً. وَقِيلَ: فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: الِاشْتِرَاطُ.

فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْمَوْجُودُ عَلَى ضَرْبِ الْإِسْلَامِ، بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ اسْمَ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَمْلِكْهُ الْوَاحِدُ بِمُجَرَّدِ الْوِجْدَانِ، بَلْ يَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِهِ إِنْ عَلِمَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: هُوَ لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهُ الْوَاجِدُ سَنَةً، ثُمَّ لَهُ تَمَلُّكُهُ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ مَالِكُهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ مَالٌ ضَائِعٌ يُمْسِكُهُ الْآخِذُ لِلْمَالِكِ أَبَدًا، أَوْ يَحْفَظُهُ الْإِمَامُ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يُمَلَّكُ بِحَالٍ، كَمَا لَوْ أَلْقَتِ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي حِجْرِهِ، أَوْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ عَنْ وَدَائِعَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَالِكَهَا. وَإِنَّمَا يَمْلِكُ بِالتَّعْرِيفِ مَا ضَاعَ مِنَ الْمَارَّةِ، دُونَ مَا حَصَّنَهُ الْمَالِكُ بِالدَّفْنِ. وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ نَحْوَ هَذَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوِ انْكَشَفَتِ الْأَرْضُ عَنْ كَنْزٍ بِسَيْلٍ وَنَحْوِهِ، فَمَا أَدْرِي مَا قَوْلُ الشَّيْخِ فِيهِ، وَالْمَالُ الْبَارِزُ ضَائِعٌ، قَالَ: وَاللَّائِقُ بِقِيَاسِهِ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ حَقُّ التَّمْلِيكِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِ الْمَوْضِعِ، وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الْإِسْلَامِ فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: لَيْسَ بِرِكَازٍ، وَالثَّانِي: رِكَازٌ فَيُخَمَّسُ. وَعَلَى الْأَظْهَرِ: يَكُونُ لُقَطَةً عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ مُوَافَقَةُ الْجُمْهُورِ هُنَا. وَعَنْهُ أَيْضًا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْمُوَافَقَةُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ كَمَا قَالَ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ. ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الرِّكَازِ عَلَى ضَرْبِ الْإِسْلَامِ كَوْنُهُ دُفِنَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ كَوْنُهُ دُفِنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِاحْتِمَالِهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ بِكَنْزٍ جَاهِلِيٍّ، فَكَنَزَهُ ثَانِيًا، فَالْحُكْمُ مُدَارٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيِّينَ، لَا عَلَى كَوْنِهِ ضَرْبَ الْجَاهِلِيَّةِ.

فَرْعٌ الْكَنْزُ الْمَوْجُودُ بِالصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَارَةً يُوجَدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَارَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَالَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إِنْ وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُعَمِّرْهُ مُسْلِمٌ وَلَا ذُو عَهْدٍ فَهُوَ رِكَازٌ، سَوَاءٌ كَانَ مَوَاتًا أَوْ مِنَ الْقِلَاعِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي عُمِرَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَإِنْ وُجِدَ فِي طَرِيقٍ مَسْلُوكَةٍ فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقَفَّالُ أَنَّهُ لُقَطَةٌ. وَقِيلَ: رِكَازٌ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَالْمَوْجُودُ فِي الْمَسْجِدِ لُقَطَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ الَّذِي فِي الطَّرِيقِ أَنَّهُ رِكَازٌ. وَمَا عَدَا هَذِهِ الْمَوَاضِعَ، يَنْقَسِمُ إِلَى مَمْلُوكٍ وَمَوْقُوفٍ، فَالْمَمْلُوكُ إِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ وَوَجَدَ فِيهِ كَنْزًا، لَمْ يَمْلِكْهُ الْوَاجِدُ، بَلْ إِنِ ادَّعَاهُ مَالِكُهُ، فَهُوَ لَهُ بِلَا يَمِينٍ، كَالْأَمْتِعَةِ فِي الدَّارِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِمَنْ تَلَقَّى صَاحِبُ الْأَرْضِ الْمِلْكَ مِنْهُ. وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الَّذِي أَحْيَا الْأَرْضَ، فَيَكُونُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِحْيَاءِ مَلَكَ مَا فِي الْأَرْضِ، وَبِالْبَيْعِ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَدْفُونٌ مَنْقُولٌ. فَإِنْ كَانَ مَنْ تَلَقَّى الْمِلْكَ عَنْهُ هَالِكًا فَوَرَثَتُهُ قَائِمُونَ مَقَامَهُ. فَإِنْ قَالَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ: هُوَ لِمُوَرِّثِنَا، وَأَبَاهُ بَعْضُهُمْ - سُلِّمَ نَصِيبُ الْمُدَّعِي إِلَيْهِ، وَسُلِكَ بِالْبَاقِي مَا ذَكَرْنَاهُ. هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ صَرِيحًا وَإِشَارَةً. وَمِنَ الْمُصَرِّحِينَ بِمِلْكِ الرِّكَازِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ الْقَفَّالُ. وَرَأَى الْإِمَامُ تَخْرِيجَ مِلْكِ الرِّكَازِ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا لَوْ دَخَلَتْ ظَبْيَةٌ دَارًا فَأَغْلَقَ صَاحِبُهَا الْبَابَ لَا عَلَى قَصْدِ ضَبْطِهَا. وَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا يَمْلِكُهَا، وَلَكِنْ يَصِيرُ أَوْلَى بِهَا. كَذَلِكَ الْمُحْيِي يَصِيرُ أَوْلَى بِالْكَنْزِ. ثُمَّ إِذَا قُلْنَا: الْكَنْزُ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَزَالَتْ رُقْبَةُ الْأَرْضِ عَنْ مِلْكِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ وَرَدِّهِ إِلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُهُ، وَلَكِنْ يَصِيرُ أَوْلَى بِهِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْ رِقْبَةِ الْأَرْضِ بَطَلَ اخْتِصَاصُهُ. كَمَا أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الظَّبْيَةِ إِذَا قُلْنَا: لَا يَمْلِكُهَا، فَفَتَحَ الْبَابَ وَأَفْلَتَتْ، مَلَكَهَا مَنِ اصْطَادَهَا. التَّفْرِيعُ: إِنْ قُلْنَا: الْمُحْيِي لَا يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ، فَإِذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ، أَخْرَجَ

الْخُمُسَ، وَإِلَّا فَإِذَا احْتَوَتْ يَدُهُ عَلَى الْكَنْزِ نَفْسِهِ وَقَدْ مَضَى سُنُونَ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ الَّذِي لَزِمَهُ يَوْمَ مِلْكُهُ. وَفِيمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ، يُبْنَى وُجُوبُ رُبُعِ الْعُشْرِ فِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الضَّالِّ وَالْمَغْصُوبِ، وَفِي الْخُمُسِ كَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِالْعَيْنِ، وَإِلَّا فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا إِذَا لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا نِصَابًا وَتَكَرَّرَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْكَنْزُ لِلْوَاجِدِ، فَإِنْ كَانَ أَحْيَاهُ فَمَا وَجَدَهُ رِكَازٌ، وَعَلَيْهِ خُمُسُهُ فِي وَقْتِ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ كَمَا سَبَقَ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ كَانَ انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُهُ، بَلْ عَلَيْهِ عَرْضُهُ عَلَى مَنْ مَلَكَهُ عَنْهُ. وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْمُحْيِي كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْقُوفًا، فَالْكَنْزُ لِمَنْ فِي يَدِهِ الْأَرْضُ، كَذَا قَالَهُ فِي التَّهْذِيبِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي مَوَاتٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانُوا لَا يَذُبُّونَ عَنْهُ فَهُوَ كَمَوَاتِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا يَذُبُّونَ عَنْهُ ذَبَّهُمْ عَنِ الْعُمْرَانِ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ كَمَوَاتِهِمُ الَّذِي لَا يَذُبُّونَ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ كَعُمْرَانِهِمْ. وَإِنْ وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ مَمْلُوكٍ لَهُمْ، نُظِرَ، إِنْ أُخِذَ بِقَهْرٍ وَقِتَالٍ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، كَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَنُقُودِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ، فَيَكُونُ خُمُسُهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِمَنْ وَجَدَهُ. وَإِنْ أُخِذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا قَهْرٍ فَهُوَ فَيْءٌ، وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْفَيْءِ. كَذَا قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ كَنْزِهِمْ لَا بِقِتَالٍ وَلَا بِغَيْرِهِ. كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخُونَهُمْ فِي أَمْتِعَةِ بُيُوتِهِمْ، وَعَلَيْهِ الرَّدُّ إِنْ أَخَذَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. ثُمَّ فِي كَوْنِهِ فَيْئًا إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَأَخَذَ مَالَهُمْ بِلَا قِتَالٍ، إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ خُفْيَةً فَيَكُونَ سَارِقًا، وَإِمَّا جِهَارًا فَيَكُونَ مُخْتَلِسًا، وَهُمَا خَاصُّ مِلْكِ السَّارِقِ وَالْمُخْتَلِسِ. وَيَتَأَيَّدُ هَذَا الْإِشْكَالُ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَئِمَّةِ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالصَّيْدَلَانِيُّ.

فَرْعٌ إِذَا تَنَازَعَ بَائِعُ الدَّارِ وَمُشْتَرِيهَا فِي رِكَازٍ وُجِدَ فِيهَا، فَقَالَ الْمُشْتَرِيَ: لِي وَأَنَا دَفَنْتُهُ، وَقَالَ الْبَائِعُ مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ قَالَ: مَلَكْتُهُ بِالْإِحْيَاءِ، أَوْ تَنَازَعَ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ، أَوِ الْمُكْرِي وَالْمُسْتَأْجِرُ هَكَذَا - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمْ، وَهُوَ كَالنِّزَاعِ فِي مَتَاعِ الدَّارِ. وَهَذَا إِذَا احْتُمِلَ صِدْقُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ لِكَوْنِ مِثْلِهِ لَا يُمْكِنُ دَفْنُهُ فِي مُدَّةٍ جَدِيدَةٍ، فَلَا يُصَدَّقُ صَاحِبُ الْيَدِ. وَلَوْ وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُكْرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ بَعْدَ رُجُوعِ الدَّارِ إِلَى يَدِ الْمَالِكِ، فَإِنْ قَالَ الْمُكْرِي أَوِ الْمُعِيرُ: أَنَا دَفَنْتُهُ بَعْدَ عَوْدِ الدَّارِ إِلَيَّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ. وَإِنْ قَالَ: دَفَنْتُهُ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّارِ مِنْ يَدِي، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا، وَأَصَحُّهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ سَلِمَ لَهُ حُصُولُ الْكَنْزِ فِي يَدِهِ، فَيَدُهُ تَنْسَخُ الْيَدَ السَّابِقَةَ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَنَازَعَا قَبْلَ الرُّجُوعِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. فَرْعٌ إِذَا اعْتَبَرْنَا النِّصَابَ فِي الزَّكَاةِ، لَمْ يُشْتَرَطْ كَوْنُ الْمَوْجُودِ نِصَابًا، بَلْ يُكْمِلُهُ بِمَا يَمْلِكُهُ مِنْ جِنْسِ النَّقْدِ الْمَوْجُودِ. وَفِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي الْمَعْدِنِ، وَإِذَا كَمَّلْنَا، فَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ.

باب.

فَرْعٌ حُكْمُ الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ، حُكْمُهُ فِي الْمَعْدِنِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ وَجَدَهُ وَأَخَذَهُ، مَلَكَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ عِنْدِي، لِأَنَّهُ كَالْحَاصِلِ فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ كَمَالِهِمُ الضَّالِّ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ فَأَخَذَهُ، فَفِي أَخْذِ حَقِّ الزَّكَاةِ مِنْهُ، الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْمَعْدِنِ. قُلْتُ: إِذَا وَجَدَ مَعْدِنًا أَوْ رِكَازًا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَفِي مَنْعِ الدَّيْنِ زَكَاتَهُمَا الْقَوْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ فِي سَائِرِ الزَّكَوَاتِ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا زَكَاةَ الرِّكَازِ فِي عَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَخَذَ خُمْسَ الْمَوْجُودِ لَا قِيمَتَهُ، وَلَوْ وُجِدَ فِي مِلْكِهِ رِكَازٌ فَلَمْ يَدَّعِهِ، وَادَّعَاهُ اثْنَانِ، فَصَدَقَ أَحَدُهُمَا، سُلِّمَ إِلَيْهِ. وَإِذَا وَجَدَ مِنَ الرِّكَازِ دُونَ النِّصَابِ، وَلَهُ دَيْنٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَبَلَغَ بِهِ نِصَابًا، وَجَبَ خُمْسُ الرِّكَازِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا، أَوْ مَدْفُونًا، أَوْ غَنِيمَةً، وَالرِّكَازُ نَاقِصٌ، لَمْ يُخَمَّسْ حَتَّى يُعْلَمَ سَلَامَةُ مَالِهِ، فَحِينَئِذٍ يُخَمَّسُ الرِّكَازُ النَّاقِصُ عَنِ النِّصَابِ، سَوَاءٌ بَقِيَ الْمَالُ، أَوْ تَلِفَ إِذَا عُلِمَ وُجُودُهُ يَوْمَ حَصَلَ الرِّكَازُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابٌ. زَكَاةُ الْفِطْرِ. هِيَ وَاجِبَةٌ، وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا: غَيْرُ وَاجِبَةٍ. قُلْتُ: قَوْلُ ابْنِ اللَّبَّانِ شَاذٌّ مُنْكَرٌ، بَلْ غَلَطٌ صَرِيحٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

وَفِي وَقْتِ وُجُوبِهَا أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْعِيدِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ: تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَالثَّالِثُ: تَجِبُ بِالْوَقْتَيْنِ مَعًا، خَرَّجَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَاسْتَنْكَرَهُ الْأَصْحَابُ، فَلَوْ مَلَكَ عَبْدًا، أَوْ أَسْلَمَ عَبْدُهُ الْكَافِرُ، أَوْ نَكَحَ امْرَأَةً، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ لَيْلَةَ الْعِيدِ، لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُمْ عَلَى الْجَدِيدِ، وَعَلَى الْمُخَرَّجِ، وَتَجِبُ عَلَى الْقَدِيمِ. وَلَوْ مَاتَ وَلَدُهُ أَوْ عَبْدُهُ، أَوْ زَوْجَتُهُ، أَوْ طَلَّقَهَا بَائِنًا لَيْلَةَ الْعِيدِ، أَوِ ارْتَدَّ الْعَبْدُ، أَوِ الزَّوْجَةُ، لَمْ تَجِبْ عَلَى الْقَدِيمِ وَالْمُخَرَّجِ، وَتَجِبُ عَلَى الْجَدِيدِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمَاتَ بَعْدَهُ. وَلَوْ حَصَلَ الْوَلَدُ أَوِ الزَّوْجَةُ، أَوِ الْعَبْدُ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَمَاتُوا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا فِطْرَةَ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا. وَلَوْ زَالَ الْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَعَادَ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَجَبَتْ عَلَى الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ. وَأَمَّا عَلَى الْمُخَرَّجِ، فَوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الْوَاهِبَ هَلْ يَرْجِعُ فِي مَا زَالَ مَلِكُ الْمُتَّهَبِ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ؟ وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَاسْتَمَرَّ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، فَعَلَى الْجَدِيدِ: الْفِطْرَةُ عَلَى الْبَائِعِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ: عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعَلَى الْمُخَرَّجِ: لَا تَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ مَاتَ مَالِكُ الْعَبْدِ لَيْلَةَ الْعِيدِ، فَعَلَى الْجَدِيدِ: الْفِطْرَةُ فِي تَرِكَتِهِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ: تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ، وَعَلَى الْمُخَرَّجِ: لَا فِطْرَةَ أَصْلًا، وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِنَاءً عَلَى الْقَدِيمِ أَنَّ الْوَارِثَ يُبْنَى عَلَى حَوْلِ الْمَوْرُوثِ. فَصْلٌ الْفِطْرَةُ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا مِنْ أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ التَّعْجِيلِ، فَإِذَا لَمْ يُعَجِّلْ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُؤَخِّرَ إِخْرَاجَهَا عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَيَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ، فَإِنْ أَخَّرَ قَضَى.

فصل

فَصْلٌ الْفِطْرَةُ قَدْ يُؤَدِّيهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ يُؤَدِّيهَا عَنْ غَيْرِهِ. وَجِهَاتُ التَّحَمُّلِ ثَلَاثٌ: الْمِلْكُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْقَرَابَةُ. وَكُلُّهَا تَقْتَضِي وُجُوبَ الْفِطْرَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَمَنْ لَزِمَهُ نَفَقَةٌ بِسَبَبٍ مِنْهَا لَزِمَهُ فِطْرَةُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أُمُورٌ، وَيُسْتَثْنَى عَنْهُ صُوَرٌ، مِنْهَا: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: مُخْتَلَفٌ فِيهِ، سَتَظْهَرُ بِالتَّفْرِيعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا: تَجِبُ فِطْرَةُ الزَّوْجَةِ فِي مَالِهَا، لَا عَلَى الزَّوْجِ. فَمِنَ الْمُسْتَثْنَى: أَنَّ الِابْنَ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ زَوْجَةِ أَبِيهِ، تَفْرِيعًا عَلَى الْمَذْهَبِ فِي وُجُوبِ الْإِعْفَافِ، وَفِي وُجُوبِ فِطْرَتِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ فِي طَائِفَةٍ: وُجُوبُهَا. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ صَاحِبَيِ «التَّهْذِيبِ» وَ «الْعُدَّةِ» وَغَيْرِهِمَا: لَا تَجِبُ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ، وَجَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ بِصِحَّتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي فِطْرَةِ مُسْتَوْلِدَتِهِ. ثُمَّ مَنْ عَدَا الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ مِنَ الْأَقَارِبِ، كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ: لَا تَجِبُ فِطْرَتُهُمْ، كَمَا لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ. وَأَمَّا الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ، فَإِنْ كَانُوا مُوسَرِينَ، لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُمْ، وَإِلَّا فَكُلُّ مَنْ جَمَعَ مِنْهُمْ إِلَى الْإِعْسَارِ الصِّغَرَ، أَوِ الْجُنُونَ، أَوِ الزَّمَانَةَ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ، وَمَنْ تَجَرَّدَ فِي حَقِّهِ الْإِعْسَارُ، فَفِي نَفَقَتِهِ قَوْلَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْوُجُوبِ فِي الْأُصُولِ. وَحُكْمُ الْفِطْرَةِ حُكْمُ النَّفَقَةِ اتِّفَاقًا وَاخْتِلَافًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَوْ كَانَ الِابْنُ الْكَبِيرُ فِي نَفَقَةِ أَبِيهِ، فَوَجَدَ قُوَّتَهُ لَيْلَةَ الْعِيدِ وَيَوْمَهُ فَقَطْ، لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ عَلَى الْأَبِ لِسُقُوطِ نَفَقَتِهِ، وَلَا عَلَى الِابْنِ، لِإِعْسَارِهِ. وَإِنْ كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَفِي سُقُوطِ الْفِطْرَةِ عَنِ الْأَبِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: السُّقُوطُ كَالْكَبِيرِ، وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطُ لِتَأَكُّدِهَا.

فَرْعٌ الْفِطْرَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْغَيْرِ، هَلْ تُلَاقِي الْمُؤَدَّى عَنْهُ، ثُمَّ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْمُؤَدِّي، أَمْ تَجِبُ عَلَى الْمُؤَدِّي ابْتِدَاءً؟ فِيهِ خِلَافٌ. يُقَالُ: وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. ثُمَّ الْأَكْثَرُونَ طَرَدُوا الْخِلَافَ فِي كُلِّ مُؤَدٍّ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ وَالْقَرِيبِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَقَالَ طَوَائِفُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: هَذَا الْخِلَافُ فِي فِطْرَةِ الزَّوْجَةِ فَقَطْ. أَمَّا فِطْرَةُ الْمَمْلُوكِ وَالْقَرِيبِ، فَتَجِبُ عَلَى الْمُؤَدِّي ابْتِدَاءً قَطْعًا، لِأَنَّ الْمُؤَدَّى عَنْهُ، لَا يَصْلُحُ لِلْإِيجَابِ لِعَجْزِهِ. ثُمَّ حَيْثُ فُرِضَ الْخِلَافُ وَقُلْنَا بِالتَّحَمُّلِ، فَهُوَ كَالضَّمَانِ، أَمْ كَالْحَوَالَةِ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ فِي «الْمَسَائِلِ الْجُرْجَانِيَّاتِ» فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا، وَالزَّوْجَةُ أَمَةً، أَوْ حُرَّةً مُوسِرَةً، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: فِيهِمَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ. إِنْ قُلْنَا: الْوُجُوبُ يُلَاقِي الْمُؤَدَّى عَنْهُ أَوَّلًا، وَجَبَتِ الْفِطْرَةُ عَلَى الْحُرَّةِ وَسَيِّدِ الْأَمَةِ، وَإِلَّا فَلَا تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: تَجِبُ عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَالْفَرْقُ، كَمَالُ تَسْلِيمِ الْحُرَّةِ نَفْسِهَا، بِخِلَافِ الْأَمَةِ. قُلْتُ: الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إِذَا نَشَزَتْ، فَتَسْقُطُ فِطْرَتُهَا عَنِ الزَّوْجِ قَطْعًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ عِنْدِي الْقَطْعُ بِإِيجَابِ الْفِطْرَةِ عَلَيْهَا وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُلَاقِيهَا الْوُجُوبُ، لِأَنَّهَا بِالنُّشُوزِ خَرَجَتْ عَنْ إِمْكَانِ التَّحَمُّلِ. وَلَوْ كَانَ زَوْجُ الْأَمَةِ مُوسِرًا، فَفِطْرَتُهَا كَنَفَقَتِهَا، وَبَيَانُهَا فِي بَابِهَا. وَأَمَّا خَادِمُ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَأْجَرَةً، لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ إِمَاءِ الزَّوْجِ، فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ إِمَاءِ الزَّوْجَةِ، وَالزَّوْجُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، لَزِمَهَا فِطْرَتُهَا، لِأَنَّهُ يُمَوِّنُهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ وَقَالَ الْإِمَامُ: الْأَصَحُّ عِنْدِي: أَنَّهَا لَا تَلْزَمُهُ.

فَرْعٌ لَوْ أَخْرَجَتِ الزَّوْجَةُ فِطْرَةَ نَفْسِهَا مَعَ يَسَارِ الزَّوْجِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَفِي إِجْزَائِهَا وَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا: الزَّوْجُ مُتَحَمِّلٌ، أَجْزَأَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ تَكَلَّفَ مِنْ فِطْرَتِهِ عَلَى قَرِيبِهِ، بِاسْتِقْرَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأُخْرِجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَالْمَنْصُوصُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : الْإِجْزَاءُ. وَلَوْ أَخْرَجَتِ الزَّوْجَةُ أَوِ الْقَرِيبُ بِإِذْنِ مَنْ عَلَيْهِ، أَجْزَأَ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَدِّ عَنِّي فِطْرَتِي، فَفَعَلَ، أَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْضِ دَيْنِي. فَرْعٌ تَجِبُ فِطْرَةُ الرَّجْعِيَّةِ كَنَفَقَتِهَا. وَأَمَّا الْبَائِنُ: فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا، فَلَا فِطْرَةَ، كَمَا لَا نَفَقَةَ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: تَجِبُ كَالنَّفَقَةِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ، وَالْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ وُجُوبَ الْفِطْرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ، أَمْ لِلْحَمْلِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَجَبَتْ، وَإِلَّا، فَلَا، لِأَنَّ الْجَنِينَ لَا تَجِبُ فِطْرَتُهُ. هَذَا إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَفِطْرَتُهَا بِالِاتِّفَاقِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ. فَإِنْ قُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ، فَلَا فِطْرَةَ، كَمَا لَا نَفَقَةَ، لِأَنَّهُ لَوْ بَرَزَ الْحَمْلُ، لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَى الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ مِلْكُ سَيِّدِهَا، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَامِلِ، وَجَبَتْ، وَسَوَاءٌ رَجَّحْنَا الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ أَوِ الثَّانِيَ، فَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ الْفِطْرَةِ، لِأَنَّ الْأَظْهَرَ: أَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ.

فَرْعٌ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِطْرَةُ عَبْدِهِ، وَلَا زَوْجَتِهِ، وَلَا قَرِيبِهِ، الْكُفَّارِ. فَرْعٌ تَجِبُ فِطْرَةُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَفِطْرَةُ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُهَايَأَةً، فَالْوُجُوبُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ مُهَايَأَةً بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ بَيْنَ السَّيِّدِ وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، فَهَلْ تَخْتَصُّ الْفِطْرَةُ بِمَنْ وَقَعَ زَمَنُ الْوُجُوبِ فِي نَوْبَتِهِ، أَمْ تُوَزَّعُ بَيْنَهُمَا؟ يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ هَلْ هِيَ مِنَ الْمُؤَنِ النَّادِرَةِ، أَمْ مِنَ الْمُتَكَرِّرَةِ، وَأَنَّ النَّادِرَةَ هَلْ تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ، أَمْ لَا؟ وَفِي الْأَمْرَيْنِ خِلَافٌ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْفِطْرَةَ مِنَ النَّادِرَةِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: فِيهَا وَجْهَانِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ. أَصَحُّهُمَا: دُخُولُ النَّادِرِ. فَرْعٌ الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ عَلَى صِفَةٍ، تَجِبُ فِطْرَتُهُمْ عَلَى السَّيِّدِ، وَتَجِبُ فِطْرَةُ الْمَرْهُونِ، وَالْجَانِي، وَالْمُسْتَأْجَرِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْرِيَ فِي الْمَرْهُونِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي زَكَاةِ الْمَالِ الْمَرْهُونِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ، لَا نَعْرِفُهُ لِغَيْرِهِمَا، بَلْ قَطَعَ الْأَصْحَابُ بِالْوُجُوبِ هُنَا وَهُنَاكَ. وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ وَالضَّالُّ، فَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ فِطْرَتِهِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، كَزَكَاةِ الْمَغْصُوبِ. وَطَرَّدَ ابْنُ عَبْدَانَ هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَقْتَ الْوُجُوبِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ

الْغَائِبُ، فَإِنْ عُلِمَ حَيَاتُهُ وَكَانَ فِي طَاعَتِهِ، وَجَبَتْ فِطْرَتُهُ، وَإِنْ كَانَ آبِقًا، فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ، كَالْمَغْصُوبِ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يُعْلَمْ حَيَاتُهُ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ مَعَ تَوَاصُلِ الرِّفَاقِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِوُجُوبِهَا، وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ: عَلَى الْجُمْلَةِ وُجُوبُهَا. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ. ثُمَّ إِذَا أَوْجَبْنَا الْفِطْرَةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ إِخْرَاجِهَا فِي الْحَالِ. وَنَصَّ فِي «الْإِمْلَاءِ» عَلَى قَوْلَيْنِ فِيهِ. فَرْعٌ الْعَبْدُ يُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَلَا يُخْرِجُ الْفِطْرَةَ عَنْهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِفِطْرَةِ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَحْمِلُ عَنْ غَيْرِهِ؟ بَلْ تَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ فِطْرَةُ نَفْسِهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَعَلَى السَّيِّدِ إِنْ كَانَتْ أَمَةً عَلَى الْمَذْهَبِ فِيهِمَا. وَقِيلَ: فِيهِمَا الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا مُعْسِرًا. وَلَوْ مَلَّكَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ شَيْئًا، وَقُلْنَا: يَمْلِكُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْرَاجُ فِطْرَةِ زَوْجَتِهِ اسْتِقْلَالًا، لِأَنَّهُ مِلْكٌ ضَعِيفٌ، فَلَوْ صَرَّحَ فِي الْإِذْنِ بِالصَّرْفِ إِلَى هَذِهِ الْجِهَةِ [فَوَجْهَانِ] . فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ الرُّجُوعُ عَنِ الْإِذْنِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ إِذَا ثَبَتَ فَلَا مِدْفَعَ لَهُ. فَرْعٌ إِذَا أَوْصَى بِمَنْفَعَةِ عَبْدٍ لِرَجُلٍ، وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ، فَفِطْرَتُهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ قَطْعًا. وَهَلْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، أَمْ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ [فِيهِ] ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهَا عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ، وَأَنَّ الْفِطْرَةَ كَالنَّفَقَةِ وَهِيَ مُعَادَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

وَعَبْدُ بَيْتِ الْمَالِ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى مَسْجِدٍ، لَا فِطْرَةَ فِيهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْمَوْقُوفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي رَقَبَتِهِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: لَا فِطْرَةَ فِيهِ قَطْعًا، وَبِهِ قُطِعَ فِي «التَّهْذِيبِ» . قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا فِطْرَةَ إِذَا قُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا مَاتَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَقَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، لَمْ تَسْقُطِ الْفِطْرَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَبِهِ قُطِعَ فِي «الشَّامِلِ» . فَصْلٌ يُشْتَرَطُ فِي مُؤَدِّي الْفِطْرَةِ، ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ. فَلَا فِطْرَةَ عَلَى الْكَافِرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ، أَوْ قَرِيبٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مُسْتَوْلَدَةٌ مُسْلِمَةٌ، فَفِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُؤَدِّي ابْتِدَاءً، أَوْ عَلَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ، ثُمَّ يَتَحَمَّلُ الْمُؤَدِّي؟ . قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» وَغَيْرُهُ. وَهُوَ مُقْتَضَى الْبِنَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا صَائِرَ إِلَى أَنَّ الْمُتَحَمَّلَ عَنْهُ يَنْوِي. وَلَوْ أَسْلَمَتْ ذِمِّيَّةٌ تَحْتَ ذِمِّيٍّ، وَدَخَلَ وَقْتُ الْفِطْرَةِ فِي تَخَلُّفِ الزَّوْجِ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا مُدَّةَ التَّخَلُّفِ خِلَافٌ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ

اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ لَمْ نُوجِبْهَا، فَلَا فِطْرَةَ. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا، فَالْفِطْرَةُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي عَبْدِهِ الْمُسْلِمِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ. فَلَيْسَ عَلَى الرَّقِيقِ فِطْرَةُ نَفْسِهِ، وَلَا فِطْرَةُ زَوْجَتِهِ. وَلَوْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ عَبْدًا، وَقُلْنَا: يَمْلِكُهُ، سَقَطَتْ فِطْرَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ، لِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُتَمَلِّكِ لِضَعْفِ مِلْكِهِ. وَفِي الْمُكَاتَبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَوْ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: لَا فِطْرَةَ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ عَنْهُ، وَالثَّانِي: تَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَالثَّالِثُ: تَجِبُ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ كَنَفَقَتِهِ. وَالْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمُكَاتَبَ عَلَيْهِ فِطْرَةُ نَفْسِهِ يَجْرِي فِي أَنَّ عَلَيْهِ فِطْرَةَ زَوْجَتِهِ وَعَبِيدِهِ. وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمُسْتَوْلَدَةُ، كَالْقِنِّ. وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، سَبَقَ حُكْمُهُ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الْيَسَارُ. فَالْمُعْسِرُ لَا فِطْرَةَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ، لَيْلَةَ الْعِيدِ وَيَوْمَهُ، مَا يُخْرِجُهُ فِي الْفِطْرَةِ، فَهُوَ مُعْسِرٌ، وَمَنْ فَضَلَ عَنْهُ مَا يُخْرِجُهُ فِي الْفِطْرَةِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ مِنَ الْمَالِ، فَهُوَ مُوسِرٌ. وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ فِي ضَبْطِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ. وَزَادَ الْإِمَامُ: فَاعْتُبِرَ كَوْنُ الصَّاعِ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ وَعَبْدِهِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي خِدْمَتِهِ. وَقَالَ: لَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَا يُحْسَبُ فِي الْكَفَّارَةِ. وَإِذَا نَظَرْتَ كُتُبَ الْأَصْحَابِ لَمْ تَجِدْ مَا ذَكَرَهُ، وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ، كَالْبَيَانِ وَالِاسْتِدْرَاكِ لِمَا أَهْمَلَهُ الْأَوَّلُونَ، وَرُبَّمَا اسْتَشْهَدْتَ بِكَوْنِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا دَسْتَ ثَوْبٍ يَلْبَسُهُ، وَلَا شَكَّ فِي اعْتِبَارِهِ، فَإِنَّ الْفِطْرَةَ لَيْسَتْ بِأَشَدَّ مِنَ الدَّيْنِ، وَهُوَ مُبْقَى عَلَيْهِ فِي الدَّيْنِ، لَكِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ، فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ حَكَى وَجْهًا، أَنَّ عَبْدَ الْخِدْمَةِ لَا يُبَاعُ فِي الْفِطْرَةِ، كَمَا لَا يُبَاعُ فِي الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَقَالَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْفِطْرَةِ كَوْنُهُ فَاضِلًا عَنْ كِفَايَتِهِ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ قُوتُ يَوْمِهِ كَالدَّيْنِ، بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّ لَهَا بَدَلًا، وَذُكِرَ فِي «التَّهْذِيبِ» مَا يَقْتَضِي وَجْهَيْنِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُ: مُوَافَقَةُ الْإِمَامِ،

وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الِابْنَ الصَّغِيرَ إِذَا كَانَ لَهُ عَبْدٌ يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَتِهِ، لَزِمَ الْأَبَ فِطْرَتُهُ كَفِطْرَةِ الِابْنِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مَحْسُوبٍ، لَسَقَطَ بِسَبَبِهِ فِطْرَةُ الِابْنِ أَيْضًا. وَإِذَا شَرَطْنَا كَوْنَ الْمُخْرَجِ فَاضِلًا عَنِ الْعَبْدِ وَالْمَسْكَنِ، إِنَّمَا نَشْتَرِطُهُ فِي الِابْتِدَاءِ، فَلَوْ ثَبَتَتِ الْفِطْرَةُ فِي ذِمَّةِ إِنْسَانٍ، بِعْنَا خَادِمَهُ وَمَسْكَنَهُ فِيهَا، لِأَنَّهَا بَعْدَ الثُّبُوتِ الْتَحَقَتْ بِالدُّيُونِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْآدَمِيِّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْفِطْرَةِ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى صَرْفِهِ فِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ تَمْنَعُهُ. كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ. قَالَ: وَلَوْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ عَلَى قَوْلٍ كَمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، كَانَ مُبْعَدًا. هَذَا لَفْظُهُ، وَفِيهِ شَيْءٌ نَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا، يُشْتَرَطُ مَعَ كَوْنِ الْمُخْرَجِ فَاضِلًا عَمَّا سَبَقَ، كَوْنُهُ فَاضِلًا عَنْ قَدْرِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَسَارَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْوُجُوبِ، فَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَهُ ثُمَّ أَيْسَرَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ لَوْ فَضَلَ مَعَهُ عَمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْضُ صَاعٍ، لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ فَضَلَ صَاعٌ وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى إِخْرَاجِ فِطْرَةِ نَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَأَقَارِبِهِ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَلْزَمُهُ تَقْدِيمُ فِطْرَةِ نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ تَقْدِيمُ الزَّوْجَةِ، وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ، إِنْ شَاءَ أَخْرَجَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَنْ غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَرَادَ تَوْزِيعَهُ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْوَجْهَانِ عَلَى قَوْلِنَا: مَنْ وَجَدَ بَعْضَ صَاعٍ فَقَطْ، لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ، فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ، لَمْ يَجُزِ التَّوْزِيعُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ فَضَلَ صَاعٌ وَلَهُ عَبْدٌ، صَرَفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَبِيعَ فِي فِطْرَةِ الْعَبْدِ جُزْءًا مِنْهُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: إِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَإِلَّا لَزِمَ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: لَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا. وَلَوْ فَضَلَ صَاعَانِ وَفِي نَفَقَتِهِ جَمَاعَةٌ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ بِصَاعٍ، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ.

فصل

وَأَمَّا الصَّاعُ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ أَقَارِبَ، قُدِّمَ مِنْهُمْ مَنْ يُقَدَّمُ نَفَقَتُهُ، وَمَرَاتِبُهُمْ وِفَاقًا وَخِلَافًا، وَمَوْضِعُهَا كِتَابُ النَّفَقَاتِ، فَإِنِ اسْتَوُوا فَيَتَخَيَّرُ، أَوْ يَسْقُطُ وَجْهَانِ. وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْإِقْرَاعِ، وَلَهُ مَجَالٌ فِي نَظَائِرِهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: التَّخْيِيرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اجْتَمَعَ مَعَ الْأَقَارِبِ زَوْجَةٌ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: تَقَدُّمُ الزَّوْجَةِ. وَالثَّانِي: الْقَرِيبُ. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ، فَعَلَى الْأَصَحِّ، لَوْ فَضَلَ صَاعٌ ثَالِثٌ، فَإِخْرَاجُهُ عَنْ أَقَارِبِهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا تَمَحَّضُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَبَ مِنَ الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالَّذِي أَخَّرْنَاهُ، إِلَى كِتَابِ النَّفَقَاتِ: أَنَّهُ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ، ثُمَّ زَوْجَتَهُ، ثُمَّ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ، ثُمَّ الْأَبَ، ثُمَّ الْأُمَّ، ثُمَّ الْوَلَدَ الْكَبِيرَ. فَصْلٌ الْوَاجِبُ فِي الْفِطْرَةِ صَاعٌ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ أَخْرَجَهُ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَهِيَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: رِطْلُ بَغْدَادَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ الْأَرْجَحُ، وَبِهِ الْفَتْوَى. فَعَلَى هَذَا الصَّاعُ: سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ: الْأَصْلُ فِيهِ الْكَيْلُ، وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِالْوَزْنِ اسْتِظْهَارًا. قُلْتُ: قَدْ يَسْتَشْكِلُ ضَبْطُ الصَّاعِ بِالْأَرْطَالِ، فَإِنَّ الصَّاعَ الْمُخْرَجَ بِهِ فِي زَمَنِ

رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ، وَيَخْتَلِفُ قَدْرُهُ وَزْنًا بِاخْتِلَافِ جِنْسِ مَا يَخْرُجُ، كَالذُّرَةِ وَالْحِمَّصِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِيهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، فَمَنْ أَرَادَ تَحْقِيقَهُ رَاجَعَهُ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» وَمُخْتَصَرِهُ: أَنَّ الصَّوَابَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْفَرَجِ الدَّارِمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، أَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْكَيْلِ، دُونَ الْوَزْنِ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُخْرَجَ بِصَاعٍ مُعَايَرٍ بِالصَّاعِ الَّذِي كَانَ يُخْرَجُ بِهِ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ الصَّاعُ مَوْجُودٌ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَدْرٍ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا، فَالتَّقْدِيرُ بِخَمْسَةِ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ تَقْرِيبًا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الصَّاعُ: أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفَّيْ رَجُلٍ مُعْتَدِلِ الْكَفَّيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ كُلُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ، فَهُوَ صَالِحٌ لِإِخْرَاجِ الْفِطْرَةِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِيهَا الْحِمَّصُ، وَالْعَدَسُ. وَالْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ: هُوَ الْأَوَّلُ. وَفَى الْأَقِطِ، طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِجَوَازِهِ، وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: جَوَازُهُ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِجَوَازِهِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ اللَّبَنَ وَالْجُبْنَ فِي مَعْنَاهُ، وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئَانِ. وَالْوَجْهَانِ فِي إِخْرَاجِ مَنْ قُوتُهُ الْأَقِطُ، وَاللَّبَنُ، وَالْجُبْنُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْمَخِيضِ وَالْمَصْلِ وَالسَّمْنِ، لَا يُجْزِئُ، وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ الْمَنْزُوعُ الزَّبَدِ.

فَرْعٌ لَا يُجْزِئُ الْمُسَوِّسُ وَالْمَعِيبُ. وَإِذَا جَوَّزْنَا الْأَقِطَ، لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ الْمُمَلَّحِ الَّذِي أَفْسَدَ كَثْرَةُ الْمِلْحِ جَوْهَرَهُ. فَإِنْ كَانَ الْمِلْحُ ظَاهِرًا عَلَيْهِ، فَالْمِلْحُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ، وَالشَّرْطُ أَنْ يُخْرِجَ قَدْرًا يَكُونُ مَحْضُ الْأَقِطِ مِنْهُ صَاعًا. وَيُجْزِئُ الْحَبُّ الْقَدِيمُ وَإِنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَلَوْنُهُ. وَلَا يُجْزِئُ الدَّقِيقُ وَلَا السَّوِيقُ، وَلَا الْخُبْزُ، كَمَا لَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ. وَقَالَ الْأَنْمَاطِيُّ: يُجْزِئُ الدَّقِيقُ. قَالَ ابْنُ عَبْدَانَ: مُقْتَضَى قَوْلِهِ، إِجْزَاءُ السَّوِيقِ وَالْخُبْزِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِشْبَاعُ الْمَسَاكِينِ فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ: مَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا الْأَقْوَاتُ النَّادِرَةُ الَّتِي لَا زَكَاةَ فِيهَا، كَالْفَثِّ وَالْحَنْظَلِ، فَلَا تُجْزِئُ قَطْعًا، نَصَّ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوِ اقْتَاتُوا ثَمَرَةً لَا عُشْرَ فِيهَا. فَرْعٌ فِي الْوَاجِبِ مِنَ الْأَجْنَاسِ الْمُجْزِئَةِ، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ، وَالثَّانِي: قُوتُ نَفْسِهِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدَانَ، وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ فِي الْأَجْنَاسِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ. ثُمَّ إِذَا أَوْجَبْنَا قُوتَ نَفْسِهِ أَوِ الْبَلَدِ، فَعَدَلَ إِلَى مَا دُونَهُ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ عَدَلَ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ، جَازَ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِيمَا يُعْتَدُّ بِهِ الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاعْتِبَارُ بِزِيَادَةِ صَلَاحِيَّةِ الِاقْتِيَاتِ، وَالثَّانِي: بِالْقِيمَةِ. فَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْبِلَادِ، إِلَّا أَنْ تُعْتَبَرَ زِيَادَةُ الْقِيمَةِ فِي الْأَكْثَرِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ، الْبُرُّ خَيْرٌ مِنَ التَّمْرِ وَالْأُرْزِ، وَرُجِّحَ فِي «التَّهْذِيبِ» الشَّعِيرُ عَلَى التَّمْرِ، وَعَكَسَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَلَهُ فِي الزَّبِيبِ وَالشَّعِيرِ، وَفِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، تَرَدُّدٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْأَشْبَهُ تَقْدِيمُ التَّمْرِ عَلَى الزَّبِيبِ. وَإِذَا قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ قُوتُ نَفْسِهِ، وَكَانَ يَلِيقُ بِهِ الْبُرُّ وَهُوَ يَقْتَاتُ الشَّعِيرَ بُخْلًا، لَزِمَهُ الْبُرُّ، وَلَوْ كَانَ يَلِيقُ بِهِ الشَّعِيرُ، فَكَانَ يَتَنَعَّمُ وَيَقْتَاتُ الْبُرُّ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الشَّعِيرُ، وَالثَّانِي: يَتَعَيَّنُ الْبُرُّ.

فَرْعٌ قَدْ يُخْرِجُ الْوَاحِدُ الْفِطْرَةَ عَنْ شَخْصَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَيُجْزِئُهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ أَحَدِ عَبْدَيْهِ، أَوْ قَرِيبَيْهِ مِنْ قُوتِ الْبَلَدِ إِنِ اعْتَبَرْنَاهُ، أَوْ قُوتِهِ إِنِ اعْتَبَرْنَاهُ، وَعَنِ الْآخَرِ جِنْسٌ أَعْلَى مِنْهُ. وَكَذَا لَوْ مَلَكَ نِصْفَيْنِ مِنْ عَبْدَيْنِ، فَأَخْرَجَ نِصْفَ صَاعٍ مِنَ الْمُعْتَبَرِ عَنْ نِصْفِ أَحَدِهِمَا، وَنِصْفًا عَنِ الْآخَرِ مِنْ أَعْلَى مِنْهُ. وَإِذَا خَيَّرْنَا بَيْنَ الْأَجْنَاسِ، فَلَهُ إِخْرَاجُهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا يَجُوزُ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِطْرَةٌ مِنْ جِنْسَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَى مِنَ الْوَاجِبِ. هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَرَأَيْتُ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ تَجْوِيزَهُ. وَلَوْ مَلَكَ رَجُلَانِ عَبْدًا، فَإِنْ خَيَّرْنَا بَيْنَ الْأَجْنَاسِ، أَخْرَجَا مَا شَاءَا بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَإِنْ أَوْجَبْنَا غَالَبَ قُوتِ الْبَلَدِ، وَكَانَا هُمَا وَالْعَبْدُ فِي بَلَدٍ، أَخْرَجَا عَنْهُ مِنْ قُوتِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ ابْتِدَاءً، أَمْ يَتَحَمَّلُ؟ فَإِنْ كَانَ السَّيِّدَانِ فِي بَلَدَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْقُوتِ، وَاعْتَبَرْنَا قُوتَ الشَّخْصِ بِنَفْسِهِ، وَاخْتَلَفَ قُوتُهُمَا، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يُخْرِجُ كُلُّ وَاحِدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ أَوْ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُمَا إِذَا أَخْرَجَا هَكَذَا، فَقَدْ أَخْرَجَ كُلُّ شَخْصٍ [كُلَّ] وَاجِبِهِ مِنْ جِنْسٍ، كَثَلَاثَةٍ مُحْرِمِينَ قَتَلُوا ظَبْيَةً، فَذَبَحَ أَحَدُهُمْ ثُلُثَ شَاةٍ، وَأَطْعَمَ آخَرُ بِقِيمَةِ ثُلُثِ شَاةٍ، وَصَامَ الثَّالِثُ عَدْلَ ذَلِكَ، أَجْزَأَهُمْ، وَالثَّانِي: يُخْرِجَانِ مِنْ أَدْنَى الْقُوتَيْنِ، وَالثَّالِثُ: مِنْ أَعْلَاهُمَا، وَالرَّابِعُ: مِنْ قُوتِ بَلَدِ الْعَبْدِ. وَلَوْ كَانَ الْأَبُ فِي نَفَقَةِ وَلَدَيْنِ، فَالْقَوْلُ فِي إِخْرَاجِهِمَا الْفِطْرَةَ عَنْهُ كَالسَّيِّدَيْنِ، وَكَذَا مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ، إِذَا أَوْجَبْنَا نِصْفَ الْفِطْرَةِ كَمَا سَبَقَ، فَالْأَصَحُّ: يُخْرِجَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَالثَّانِي: مِنْ جِنْسٍ.

فصل

فَرْعٌ إِذَا أَوْجَبْنَا غَالِبَ قُوتِ الْبَلَدِ وَكَانُوا يَقْتَاتُونَ أَجْنَاسًا لَا غَالِبَ فِيهَا، أَخْرَجَ مَا شَاءَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ الْأَعْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : الْمُعْتَبَرُ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ وَقْتَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ، لَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. وَقَالَ فِي «الْوَجِيزِ» : غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ لَمْ أَظْفَرْ بِهِ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مُهِمَّةٍ. مِنْهَا: بَاعَ عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَوَقَعَ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ وَإِنْ أُمْضِيَ الْبَيْعُ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ وَإِنْ فُسِخَ، وَإِنْ تَوَقَّفْنَا، فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِلَّا، فَعَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ صَادَفَ وَقْتُ الْوُجُوبِ خِيَارَ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ كَخِيَارِ الشَّرْطِ. وَمِنْهَا: لَوْ مَاتَ عَنْ رَقِيقٍ، ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَخْرَجَ وَرَثَتُهُ الْفِطْرَةَ عَنِ الرَّقِيقِ كُلٌّ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ. فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ، بُنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ هَلْ يَمْنَعُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ فِي التَّرِكَةِ إِلَى الْوَارِثِ؟ وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَمْنَعُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَعَلَيْهِمْ فِطْرَتُهُ، سَوَاءٌ بِيعَ فِي الدَّيْنِ، أَوْ لَمْ يُبَعْ. وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ: أَنَّهُ يَجِيءُ فِيهِ خِلَافَ الْمَرْهُونِ وَالْمَغْصُوبِ. وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ، فَإِنْ بِيعَ فِي الدَّيْنِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا، فَعَلَيْهِمُ الْفِطْرَةُ. وَفِي «الشَّامِلِ» وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ

مُطْلَقًا. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: أَنَّ فِطْرَتَهُ تَجِبُ فِي تَرِكَةِ السَّيِّدِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَالْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ. هَذَا إِذَا مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ هِلَالِ شَوَّالٍ، فَلَوْ مَاتَ بَعْدَهُ، فَفِطْرَةُ الْعَبْدِ عَلَى السَّيِّدِ كَفِطْرَةِ نَفْسِهِ، وَتَقَدَّمَ عَلَى الْمِيرَاثِ وَالْوَصَايَا. وَفِي تَقْدِيمِهَا عَلَى الدَّيْنِ طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِتَقْدِيمِ فِطْرَةِ الْعَبْدِ لِتَعَلُّقِهَا بِهِ، كَأَرْشِ جِنَايَتِهِ. وَفِي فِطْرَةِ نَفْسِهِ، الْأَقْوَالُ. وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِتَقْدِيمِ فِطْرَةِ نَفْسِهِ أَيْضًا لِقِلَّتِهَا فِي الْغَالِبِ، وَسَوَاءٌ أَثْبَتْنَا الْخِلَافَ، أَمْ لَا، فَالْمَنْصُوصُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : تَقْدِيمُ الْفِطْرَةِ عَلَى الدَّيْنِ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مَا أَهَلَّ شَوَّالٌ وَلَهُ رَقِيقٌ، فَالْفِطْرَةُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَالِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدُّيُونِ. وَلَكَ أَنْ تَحْتَجَّ بِهَذَا النَّصِّ عَلَى خِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَعَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، لِأَنَّ سِيَاقَهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا إِذَا طَرَأَتِ الْفِطْرَةُ عَلَى الدَّيْنِ الْوَاجِبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ مَانِعًا. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَاللَّفْظُ مُطْلَقٌ يَشْمَلُ مَا إِذَا طَرَأَتِ الْفِطْرَةُ عَلَى الدَّيْنِ، وَالْعَكْسُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّيْنُ مَانِعًا. وَمِنْهَا: أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِعَبْدٍ، وَمَاتَ الْمُوصِي بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَالْفِطْرَةُ فِي تَرِكَتِهِ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ وَقَبِلَ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الْهَلَاكِ، فَالْفِطْرَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْوُجُوبِ، فَعَلَى مَنْ تَجِبُ الْفِطْرَةُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَتَى يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ؟ إِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُهَا بِمَوْتِ الْمُوصِي، فَقَبِلَ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، وَإِنْ رَدَّ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ، لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا، وَالثَّانِي: لَا، لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُهَا بِالْقَبُولِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبُولِ لِمَنْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لِلْوَرَثَةِ. فَعَلَى هَذَا فِي الْفِطْرَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَيْهِمْ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّانِي مِنَ الْأَوَّلَيْنِ، أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ. فَعَلَى هَذَا، لَا تَجِبُ فِطْرَتُهُ عَلَى أَحَدٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَكَى فِي التَّهْذِيبِ وَجْهًا: أَنَّهَا تَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ، فَإِنْ قَبِلَ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، وَإِلَّا، فَعَلَى الْوَرَثَةِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَبَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَقَبُولُ وَارِثِهِ قَائِمٌ

باب.

مَقَامَ قَبُولِهِ، وَالْمِلْكُ يَقَعُ لَهُ. فَحَيْثُ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْفِطْرَةَ إِذَا قَبِلَهَا بِنَفْسِهِ، فَهِيَ مِنْ تَرِكَتِهِ إِذَا قَبِلَ وَارِثُهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ سِوَى الْعَبْدِ، فَفِي بَيْعِ جُزْءٍ مِنْهُ لِلْفِطْرَةِ مَا سَبَقَ. وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَوْ مَعَهُ، فَالْفِطْرَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ إِذَا قَبِلُوا، لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ كَانَ فِي مِلْكِهِمْ. قُلْتُ: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي «الْمُعَايَاةِ» : لَيْسَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ لَا يَجِبُ إِخْرَاجُ الْفِطْرَةِ، إِلَّا ثَلَاثَةً. أَحَدُهُمُ: الْمُكَاتَبُ، وَالثَّانِي: إِذَا مَلَّكَ عَبْدَهُ عَبْدًا، وَقُلْنَا: يَمْلِكُ، لَا فِطْرَةَ عَلَى الْمَوْلَى الْأَصْلِيِّ، لِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَلَا عَلَى الْعَبْدِ الْمُمَلَّكِ، لِضَعْفِ مِلْكِهِ وَالثَّالِثُ: عَبْدٌ مُسْلِمٌ لِكَافِرٍ إِذَا قُلْنَا: تَجِبُ عَلَى الْمُؤَدِّي ابْتِدَاءً. وَيَجِيءُ رَابِعٌ عَلَى [قَوْلِ] الْإِصْطَخْرِيِّ وَغَيْرِهِ، فِيمَا إِذَا مَاتَ قُبَيْلَ هِلَالِ شَوَّالٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَهُ عَبْدٌ، كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ أَخْرَجَ الْأَبُ مِنْ مَالِهِ فِطْرَةَ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ الْغَنِيِّ، جَازَ كَالْأَجْنَبِيِّ إِذَا أَذِنَ، بِخِلَافِ الِابْنِ الْكَبِيرِ، وَلَوْ كَانَ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا حَيْثُ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، إِذَا جَوَّزْنَا كِتَابَةَ بَعْضِهِ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ، وَجَبَ نِصْفُ صَاعٍ عَلَى الْمَالِكِ لِنَصْفِهِ الْقِنِّ، وَلَا شَيْءَ فِي النِّصْفِ الْمُكَاتَبِ، وَمِثْلُهُ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مُعْسِرٍ وَمُوسِرٍ، يَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ نِصْفُ صَاعٍ، وَلَا يَجِبُ غَيْرُهُ. بَابٌ. قِسْمُ الصَّدَقَاتِ. اعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الرَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ إِلَى آخِرِ رُبْعِ الْمُعَامَلَاتِ فَعَطَفَهُ عَلَى قِسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَهُنَاكَ ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَكْثَرُونَ. وَذَكَرَهُ هَاهُنَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي (الْأُمِّ) وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَاتٌ، فَرَأَيْتُ هَذَا أَنْسَبَ وَأَحْسَنَ فَقَدَّمْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَصْنَافُ الزَّكَاةِ ثَمَانِيَةٌ. الْأَوَّلُ: الْفَقِيرُ، وَهُوَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا كَسْبَ، يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِ، فَالَّذِي لَا يَقَعُ مَوْقِعًا، كَمَنْ يَحْتَاجُ عَشَرَةً وَلَا يَمْلِكُ إِلَّا دِرْهَمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَلَا يَسْلُبُهُ ذَلِكَ اسْمَ الْفَقِيرِ. وَكَذَا الدَّارُ الَّتِي يَسْكُنُهَا، وَالثَّوْبُ الَّذِي يَلْبَسُهُ مُتَجَمِّلًا بِهِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ. وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِعَبْدِهِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَتِهِ، وَهُوَ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ مُلْحَقٌ بِالْمَسْكَنِ. قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ «التَّجْرِيدِ» : بِأَنَّهُ كَالْمَسْكَنِ وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْقَدْرُ الَّذِي يُؤَدَّى بِهِ الدَّيْنُ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي مَنْعِ الِاسْتِحْقَاقِ، كَمَا لَا عِبْرَةَ لَهُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَكَذَا فِي الْفِطْرَةِ كَمَا سَبَقَ. وَفِي فَتَاوَى صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ لَا يُعْطَى سَهْمُ الْفُقَرَاءِ حَتَّى يُصْرَفَ مَا عِنْدَهُ إِلَى الدَّيْنِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَخْذُ الزَّكَاةِ - لِمَنْ مَالُهُ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ - إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مَالِهِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَلَهُ أَخْذُ كِفَايَتِهِ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ. وَقَدْ يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُ فِي اشْتِرَاطِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. فَرْعٌ الْمُعْتَبَرُ فِي عَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ، عَجْزُهُ عَنْ كَسْبٍ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِ، لَا عَنْ أَصْلِ الْكَسْبِ. وَالْمُعْتَبَرُ كَسْبٌ يَلِيقُ بِحَالِهِ وَمُرُوءَتِهِ. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ، إِلَّا أَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِبَعْضِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَوْ أَقْبَلَ عَلَى الْكَسْبِ، لَانْقَطَعَ عَنِ التَّحْصِيلِ، حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ. أَمَّا الْمُعَطَّلُ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَدْرَسَةِ، وَمَنْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّحْصِيلُ، فَلَا تَحِلُّ لَهُمَا الزَّكَاةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمُشْتَغِلِ بِالْعِلْمِ، هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا. وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: يَسْتَحِقُّ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ نَجِيبًا يُرْجَى تَفَقُّهُهُ وَنَفْعُ النَّاسِ بِهِ، اسْتَحَقَّ، وَإِلَّا، فَلَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَى نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ، وَالْكَسْبُ يَمْنَعُهُ مِنْهَا، أَوِ اسْتِغْرَاقِ الْوَقْتِ بِهَا، لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْكَسُوبُ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ، حَلَّتِ الزَّكَاةُ لَهُ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْفَقْرِ الزَّمَانَةُ وَالتَّعَفُّفُ عَنِ السُّؤَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُعْتَبِرُونَ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: كَذَلِكَ، وَالْقَدِيمُ: يُشْتَرَطُ. فَرْعٌ الْمَكْفِيُّ بِنَفَقَةِ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ، مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَالْفَقِيرَةُ الَّتِي يُنْفِقُ عَلَيْهَا زَوْجٌ غَنِيٌّ، هَلْ يُعْطَيَانِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ؟ يُبْنَى عَلَى مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ لَوْ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ أَقَارِبِهِ، أَوْ أَوْصَى لَهُمْ، وَكَانَا فِي أَقَارِبِهِ، هَلْ يَسْتَحِقَّانِ سَهْمًا مِنَ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: لَا، قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ وَالْخُضَرِيُّ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَالثَّالِثُ: يَسْتَحِقُّ الْقَرِيبُ دُونَ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ عِوَضَهَا، وَتَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، قَالَهُ الْأَوْدَنِيُّ، وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَرِيبَ تَلْزَمُ كِفَايَتُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، حَتَّى الدَّوَاءِ وَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ، فَانْدَفَعَتْ حَاجَاتُهُ، وَالزَّوْجَةُ لَيْسَ لَهَا إِلَّا مُقَدَّرٌ، وَرُبَّمَا لَا يَكْفِيهَا. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الزَّكَاةِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا حَقَّ لَهُمَا فِي الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ، فَالزَّكَاةُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَيُعْطَيَانِ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَقِيلَ: لَا يُعْطَيَانِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي الْوَقْفِ، بِاسْمِ الْفَقْرِ، وَلَا يَزُولُ اسْمُ الْفَقْرِ بِقِيَامِ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ. وَفِي الزَّكَاةِ الْحَاجَةُ، وَلَا حَاجَةَ مَعَ تَوَجُّهِ النَّفَقَةِ، فَأَشْبَهَ مَنْ يَكْسِبُ كُلَّ يَوْمٍ كِفَايَتَهُ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُودًا فِي الْفُقَرَاءِ. وَالْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَرِيبِ إِذَا أَعْطَاهُ غَيْرُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِهِمَا بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِغِنَاهُ بِنَفَقَتِهِ، وَلِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ النَّفَقَةَ، وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ، وَالْغَارِمِ، وَالْغَازِي، وَالْمُكَاتَبِ، إِذَا كَانَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَكَذَا مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، فَلَا يُعْطِيهِ، لِأَنَّهُ يُسْقِطُ النَّفَقَةَ عَنْ نَفْسِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ مُؤْنَةَ السَّفَرِ دُونَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَفَرًا وَحَضَرًا، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجَةِ، فَالْوَجْهَانِ يَجْرِيَانِ فِي الزَّوْجِ كَغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ بِالصَّرْفِ إِلَيْهَا لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ النَّفَقَةَ، بَلْ نَفَقَتُهَا عِوَضٌ لَازِمٌ، غَنِيَّةً كَانَتْ أَمْ فَقِيرَةً، فَصَارَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ فَقِيرًا، فَلَهُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ مَعَ الْأُجْرَةِ. فَإِنْ مَنَعْنَا، فَلَوْ كَانَتْ نَاشِزَةً، فَفِي «التَّهْذِيبِ» . أَنَّهُ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهَا، لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا. وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَكْثَرُونَ: الْمَنْعُ، لِأَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى النَّفَقَةِ بِتَرْكِ النُّشُوزِ، فَأَشْبَهَتِ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ. وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ قَطْعًا، وَمِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قُطِعَ فِي «التَّتِمَّةِ» . . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ عَامِلَةً وَلَا غَازِيَةً. وَأَمَّا سَهْمُ ابْنِ السَّبِيلِ، فَإِنْ سَافَرَتْ مَعَ الزَّوْجِ، لَمْ تُعْطَ مِنْهُ، سَوَاءٌ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّهَا فِي قَبْضَتِهِ، وَلَا تُعْطَى مُؤْنَةَ السَّفَرِ إِنْ سَافَرَتْ مَعَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّهَا عَاصِيَةٌ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: مُؤْنَةُ سَفَرِهَا مَعَهُ إِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَهِيَ عَلَيْهِ، فَلَا تُعْطَى،

وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَا تُعْطَى الْحَمُولَةَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا عَاصِيَةٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: تُعْطَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، وَأَوْجَبْنَا نَفَقَتَهَا، أُعْطِيَتْ مُؤْنَةَ السَّفَرِ فَقَطْ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهَا، أُعْطِيَتْ جَمِيعَ كِفَايَتِهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَمْ تُعْطَ مِنْهُ، لِأَنَّهَا عَاصِيَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى هَذِهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، بِخِلَافِ النَّاشِزَةِ، لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَالْمُسَافِرَةُ لَا تَقْدِرُ. فَإِنْ تَرَكَتْ سَفَرَهَا وَعَزَمَتْ عَلَى الْعَوْدِ إِلَيْهِ، أُعْطِيَتْ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ. الصِّنْفُ الثَّانِي: الْمِسْكِينُ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلَا يَكْفِيهِ، بِأَنِ احْتَاجَ إِلَى عَشَرَةٍ وَعِنْدَهُ سَبْعَةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ. وَفِي مَعْنَاهُ، مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا، وَلَا يَكْفِي، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْمَالِ نِصَابًا أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمِسْكِينِ السُّؤَالُ، قَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ عَنِ الْقَدِيمِ اعْتِبَارَهُ. وَإِذَا عَرَفْتَ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ، عَرَفْتَ أَنَّ الْفَقِيرَ أَشَدُّ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعَكَسَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. فَرْعٌ الْمُعْتَبَرُ مِنْ قَوْلِنَا، يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَحَاجَتِهِ، الْمَطْعَمُ، وَالْمَشْرَبُ، وَالْمَلْبَسُ، وَالْمَسْكَنُ، وَسَائِرُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ، مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ لِلشَّخْصِ، وَلِمَنْ هُوَ فِي نَفَقَتِهِ.

فَرْعٌ سُئِلَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنِ الْقَوِيِّ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ، الَّذِينَ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِالتَّكَسُّبِ بِالْبَدَنِ، هَلْ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَا سَبَقَ، أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حِرْفَةٌ تَلِيقُ بِهِ. قُلْتُ: بَقِيَتْ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ. إِحْدَاهَا: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : لَوْ كَانَ لَهُ كُتُبُ فِقْهٍ، لَمْ تُخْرِجْهُ عَنِ الْمَسْكَنَةِ، وَلَا تَلْزَمْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ. وَحُكْمُ كُتُبِهِ حُكْمُ أَثَاثِ الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَاطَ فِي مُهِمِّ الْحَاجَةِ إِلَى الْكِتَابِ. فَالْكِتَابُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِثَلَاثَةِ أَغْرَاضٍ، مِنَ التَّعْلِيمِ، وَالتَّفَرُّجِ بِالْمُطَالَعَةِ، وَالِاسْتِفَادَةِ. فَالتَّفَرُّجُ لَا يُعَدُّ حَاجَةً، كَاقْتِنَاءِ كُتُبِ الشِّعْرِ وَالتَّوَارِيخِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا يُبَاعُ فِي الْكَفَّارَةِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَيُمْنَعُ اسْمُ الْمَسْكَنَةِ. وَأَمَّا حَاجَةُ التَّعْلِيمِ، فَإِنْ كَانَ لِلتَّكَسُّبِ، كَالْمُؤَدِّبِ، وَالْمُدَرِّسِ بِأُجْرَةٍ، فَهَذِهِ آلَتُهُ، فَلَا تُبَاعُ فِي الْفِطْرَةِ كَآلَةِ الْخَيَّاطِ، وَإِنْ كَانَ يَدْرُسُ لِلْقِيَامِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، لَمْ يَبِعْ، وَلَا تَسْلُبْهُ اسْمَ الْمَسْكَنَةِ، لِأَنَّهَا حَاجَةٌ مُهِمَّةٌ. وَأَمَّا حَاجَةُ الِاسْتِفَادَةِ وَالتَّعْلِيمِ مِنَ الْكِتَابِ، كَادِّخَارِهِ كِتَابَ طِبٍّ لِيُعَالِجَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ كِتَابَ وَعْظٍ لِيُطَالِعَهُ وَيَتَّعِظَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ طَبِيبٌ وَوَاعِظٌ، فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْكِتَابِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ. ثُمَّ رُبَّمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُطَالَعَتِهِ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُضْبَطَ فَيُقَالُ: مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي السَّنَةِ، فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ. فَتُقَدَّرُ حَاجَةُ أَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابِ الْبَدَنِ بِالسَّنَةِ، فَلَا تُبَاعُ ثِيَابُ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَلَا ثِيَابُ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَالْكُتُبُ بِالثِّيَابِ أَشْبَهُ. وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ كِتَابٍ نُسْخَتَانِ، فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى إِحْدَاهُمَا فَإِنْ قَالَ: إِحْدَاهُمَا أَصَحُّ، وَالْأُخْرَى أَحْسَنُ، قُلْنَا: اكْتَفِ بِالْأَصَحِّ، وَبِعِ الْأَحْسَنَ، وَإِنْ كَانَ نُسْخَتَانِ مِنْ عِلْمٍ وَاحِدٍ، إِحْدَاهُمَا مَبْسُوطَةٌ، وَالْأُخْرَى

وَجِيزَةٌ، فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِفَادَةَ، فَلْيَكْتَفِ بِالْبَسِيطِ، وَإِنْ كَانَ التَّدْرِيسَ احْتَاجَ إِلَيْهِمَا. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ، وَهُوَ حَسَنٌ، إِلَّا قَوْلُهُ فِي كِتَابِ الْوَعْظِ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْوَاعِظِ، فَلَيْسَ بِمُخْتَارٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ يَنْتَفِعُ بِالْوَاعِظِ كَانْتِفَاعِهِ فِي خَلْوَتِهِ وَعَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ. الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ لَهُ عَقَارٌ يَنْقُصُ دَخْلُهُ عَنْ كِفَايَتِهِ، فَهُوَ فَقِيرٌ أَوْ مِسْكِينٌ، فَيُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ تَمَامَهَا، وَلَا يُكَلَّفُ بَيْعَهُ. ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي «التَّحْرِيرِ» وَالشَّيْخُ نَصْرٌ وَآخَرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْعَامِلُ، يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ بَعْثُ السُّعَاةِ لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ، وَيَدْخُلُ فِي اسْمِ الْعَامِلِ، السَّاعِي، فَالْكَاتِبُ، وَالْقَسَّامُ، وَالْحَاشِرُ، وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ، وَالْعَرِّيفُ، وَهُوَ كَالنَّقِيبِ لِلْقَبِيلَةِ، وَالْحَاسِبُ وَحَافِظُ الْمَالِ، قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: وَكَذَا الْجُنْدِيُّ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ سَهْمٌ مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَا حَقَّ فِيهَا لِلْإِمَامِ، وَلَا لِوَالِي الْإِقْلِيمِ وَالْقَاضِي، بَلْ رِزْقُهُمْ إِذَا لَمْ يَتَطَوَّعُوا، فِي خُمُسِ الْخُمُسِ الْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَإِذَا لَمْ تَقَعِ الْكِفَايَةُ بِعَامِلٍ وَاحِدٍ مِنْ سَاعٍ وَكَاتِبٍ وَغَيْرِهِمَا، زِيدَ قَدْرَ الْحَاجَةِ. وَفِي أُجْرَةِ الْكَيَّالِ، وَالْوَزَّانِ، وَعَادِّ الْغَنَمِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا عَلَى الْمَالِكِ، لِأَنَّهَا لِتَوْفِيَةِ مَا عَلَيْهِ، فَهِيَ كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهَا عَلَى الْبَائِعِ. قُلْتُ: هَذَا الْخِلَافُ فِي الْكَيَّالِ وَنَحْوِهِ، مِمَّنْ يُمَيِّزُ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ مِنْ نَصِيبِ الْمَالِكِ. فَأَمَّا الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ، فَأَجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا أُجْرَةُ الرَّاعِي وَالْحَافِظِ بَعْدَ قَبْضِهَا، فَهَلْ هِيَ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ، أَوْ فِي جُمْلَةِ الصَّدَقَاتِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» . أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» . وَأُجْرَةُ النَّاقِلِ وَالْمُخَزِّنِ، فِي الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا مُؤْنَةُ إِحْضَارِ الْمَاشِيَةِ لِيَعُدَّهَا السَّاعِي، فَعَلَى الْمَالِكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ: الْمُؤَلَّفَةُ، وَهُمْ ضَرْبَانِ، كُفَّارٌ وَمُسْلِمُونَ، فَالْكَفَّارُ قِسْمَانِ، قِسْمٌ يَمِيلُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَرْغَبُونَ فِيهِ بِإِعْطَاءِ مَالٍ، وَقِسْمٌ يُخَافُ شَرُّهُمْ، فَيُتَأَلَّفُونَ

لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، فَلَا يُعْطَى الْقِسْمَانِ مِنَ الزَّكَاةِ قَطْعًا، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَفِي قَوْلِ: يُعْطَوْنَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ إِلَّا إِنْ نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ. وَأَمَّا مُؤَلَّفَةُ الْمُسْلِمِينَ فَأَصْنَافٌ، صِنْفٌ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَنِيَّتُهُمْ ضَعِيفَةٌ، فَيَتَأَلَفُونَ لِيَثْبُتُوا، وَآخَرُونَ لَهُمْ شَرَفٌ فِي قَوْمِهِمْ يُطْلَبُ بِتَأَلُّفِهِمْ إِسْلَامُ نُظَرَائِهِمْ، وَفِي هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: لَا يُعْطَوْنَ، وَالثَّانِي: يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَالثَّالِثُ: مِنَ الزَّكَاةِ. وَصِنْفٌ يُرَادُ بِتَأَلُّفِهِمْ أَنْ يُجَاهِدُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، أَوْ مِنْ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَيَقْبِضُوا زَكَاتَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُعْطَوْنَ قَطْعًا، وَمِنْ أَيْنَ يُعْطَوْنَ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَالثَّانِي: مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَالثَّالِثُ: مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَسَهْمِ الْغُزَاةِ، فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا الرَّابِعِ: يُجْمَعُ بَيْنَ السَّهْمَيْنِ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ إِنْ كَانَ التَّأَلُّفُ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ، فَمِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ، وَإِنْ كَانَ لِقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، فَمِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ، يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ إِنْ شَاءَ مِنْ ذَا السَّهْمِ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا قِيلَ: إِنْ شَاءَ جَمَعَ السَّهْمَيْنِ، وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ الْمُتَأَلَّفَ لِقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَجَمْعِهَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ. وَأَمَّا الْأَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ فِي الْأَصْنَافِ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأَكْثَرُونَ، بَلْ أَرْسَلُوا الْخِلَافَ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي طَائِفَةٍ: الْأَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ، وَقِيَاسُ هَذَا أَنْ لَا يُعْطَى الصِّنْفَانِ الْآخَرَانِ مِنَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ أَحَقُّ بِاسْمِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الْآخَرَيْنِ، لِأَنَّ فِي الْآخَرَيْنِ مَعْنَى الْغُزَاةِ وَالْعَامِلِينَ، وَعَلَى هَذَا فَيَسْقُطُ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، الرُّويَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ، لَكِنَّ الْمُوَافِقَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ لِسِيَاقِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصْحَابِ، إِثْبَاتُ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَأَنْ يَسْتَحِقَّهُ الصِّنْفَانِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْآخَرَيْنِ أَيْضًا، وَبِهِ أَفْتَى أَقَضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ» .

الصِّنْفُ الْخَامِسُ: الرِّقَابُ، وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ، فَيُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مَا يُعِينُهُمْ عَلَى الْعِتْقِ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ مَا يَفِي بِنُجُومِهِ، وَلَيْسَ لَهُ صَرْفُ زَكَاتِهِ إِلَى مُكَاتَبِ نَفْسِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِعَوْدِ الْفَائِدَةِ إِلَيْهِ. وَجَوَّزَهُ ابْنُ خَيْرَانَ، وَيَشْتَرِطُ كَوْنَ الْكِتَابَةِ صَحِيحَةً، وَيَجُوزُ الصَّرْفُ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَالْأَحْوَطُ الصَّرْفُ إِلَى السَّيِّدِ بِإِذْنِ الْمُكَاتَبِ. وَلَا يُجْزِئُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُكَاتَبِ، لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ، لَكِنْ يَسْقُطُ عَنِ الْمُكَاتَبِ بِقَدْرِ الْمَصْرُوفِ، لِأَنَّ مَنْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ الدَّفْعِ إِلَى السَّيِّدِ أَحْوَطَ وَأَفْضَلَ، هُوَ الَّذِي أَطْلَقَهُ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ الزَّاهِدُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ كَانَ هَذَا الْحَاصِلُ آخِرَ النُّجُومِ، وَيَحْصُلُ الْعِتْقُ بِالدَّفْعِ إِلَى السَّيِّدِ بِإِذْنِ الْمُكَاتَبِ، فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ حَصَلَ دُونَ مَا عَلَيْهِ، لَمْ يُسْتَحَبَّ دَفْعُهُ إِلَى السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ إِذَا دَفَعَهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ، أَتْجَرَ فِيهِ وَنَمَّاهُ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْعِتْقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا اسْتَغْنَى الْمُكَاتَبُ عَمَّا أَعْطَيْنَاهُ، أَوْ عُتِقَ بِتَبَرُّعِ السَّيِّدِ بِإِعْتَاقِهِ، أَوْ بِإِبْرَائِهِ، أَوْ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ عَنْهُ، أَوْ بِأَدَائِهِ هُوَ مِنْ مَالٍ آخَرَ، وَبَقِيَ مَالُ الزَّكَاةِ فِي يَدِهِ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُ، كَالْفَقِيرِ يَسْتَغْنِي، وَأَصَحُّهُمَا: يُسْتَرَدُّ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْمَدْفُوعِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي الْغَارِمِ إِذَا اسْتَغْنَى عَنِ الْمَأْخُوذِ بِإِبْرَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، غَرِمَهُ، وَإِنْ تَلِفَ قَبْلَهُ، فَلَا، عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : وَكَذَا لَوْ تَلَفَهُ. وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ، اسْتُرِدَّ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، لَزِمَهُ غُرْمُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، أَمْ بِرَقَبَتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: بِذِمَّتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ دَفَعَهُ إِلَى السَّيِّدِ وَعَجَزَ عَنْ بَقِيَّةِ النُّجُومِ، فَفِي الِاسْتِرْدَادِ مِنَ السَّيِّدِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الِاسْتِرْدَادِ مِنَ الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ تَلِفَ عِنْدَهُ، فَفِي الْغُرْمِ الْخِلَافُ السَّابِقُ أَيْضًا، وَلَوْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ شَخْصًا، لَمْ يُسْتَرَدَّ مِنْهُ، بَلْ يَغْرَمُ السَّيِّدُ إِنْ قُلْنَا بِتَغْرِيمِهِ. قُلْتُ: وَإِذَا لَمْ يُعْجِزْ نَفْسَهُ وَاسْتَمَرَّ فِي الْكِتَابَةِ، فَتَلِفَ مَا أُخِذَ، وَقَعَ الْمَوْقِعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَا أَخَذَهُ طَلَبًا لِلزِّيَادَةِ، وَحُصُولِ الْأَدَاءِ، وَالْغَارِمُ كَالْمُكَاتَبِ. فَرْعٌ نَقَلَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ لِلْإِمَامِ، أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُنْفِقَ مَا أَخَذَ وَيُؤَدِّيَ النُّجُومَ مِنْ كَسْبِهِ. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْغَارِمُ كَالْمُكَاتَبِ. قُلْتُ: قَدْ قَطَعَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يُمْنَعُ مِنْ إِنْفَاقِ مَا أَخَذَ. وَنَقَلَهُ أَيْضًا صَاحِبُ «الْبَيَانِ» عَنْهُ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا أَقْيَسُ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : لَوِ اقْتَرَضَ مَا أَدَّى بِهِ النُّجُومَ فَعُتِقَ، لَمْ يُصْرَفْ

إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ، وَلَكِنْ يُصْرَفُ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ، فَقَبِلَ، عُتِقَ، وَيُعْطَى الْأَلْفَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ. الصِّنْفُ السَّادِسُ: الْغَارِمُونَ، وَالدُّيُونُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. الْأَوَّلُ: دَيْنٌ لَزِمَهُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، فَيُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَقْضِي بِهِ بِشُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى قَضَائِهِ مِنْهَا، فَلَوْ وَجَدَ مَا يَقْضِيهِ مِنْ نَقْدٍ أَوْ عَرَضٍ، فَقَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: يُعْطَى لِلْآيَةِ، وَكَالْغَارِمِ لِذَاتِ الْبَيْنِ. وَالْأَظْهَرُ: الْمَنْعُ، كَالْمُكَاتَبِ وَابْنِ السَّبِيلِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ وَجَدَ مَا يَقْضِي بِهِ بَعْضَ الدَّيْنِ، أُعْطِيَ الْبَقِيَّةَ فَقَطْ، فَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا، وَلَكِنْ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ بِالِاكْتِسَابِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُعْطَى كَالْفَقِيرِ، وَأَصَحُّهُمَا: يُعْطَى، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ إِلَّا بَعْدَ زَمَنٍ. وَالْفَقِيرُ يُحَصِّلُ حَاجَتَهُ فِي الْحَالِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي الْمُكَاتَبِ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا، لَكِنَّهُ كَسُوبٌ. وَأَمَّا مَعْنَى الْحَاجَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَعِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ، تَقْتَضِي كَوْنَهُ فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَرُبَّمَا صَرَّحُوا بِهِ. وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْمِفْتَاحِ، أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْمَسْكَنُ، وَالْمَلْبَسُ، وَالْفِرَاشُ، وَالْآنِيَةُ. وَكَذَا الْخَادِمُ، وَالْمَرْكُوبُ إِنِ اقْتَضَاهُمَا حَالُهُ، بَلْ يُقْضَى دَيْنُهُ وَإِنْ مَلَكَهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يُعْتَبَرُ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ هُنَا، بَلْ لَوْ مَلَكَ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَكَانَ لَوْ قَضَى دَيْنَهُ لَنَقَصَ مَالُهُ عَنْ كِفَايَتِهِ، تُرِكَ مَعَهُ مَا يَكْفِيهِ، وَأُعْطِيَ مَا يَقْضِي بِهِ الْبَاقِيَ، وَهَذَا أَقْرَبُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دَيْنُهُ لِنَفَقَةٍ فِي طَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ، كَالْخَمْرِ، وَالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ، لَمْ يُعْطَ قَبْلَ التَّوْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ تَابَ، فَفِي إِعْطَائِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا فِي «الشَّامِلِ» وَ «التَّهْذِيبِ» : لَا يُعْطَى، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ أَبِي خَلَفٍ السُّلَمِيِّ وَالرُّويَانِيِّ: يُعْطَى، وَقُطِعَ بِهِ فِي «الْإِفْصَاحِ» وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ. قُلْتُ: جَزَمَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْأَصَحُّ: الثَّانِي. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ غَيْرُ الْمَذْكُورِينَ، الْمُحَامِلِيُّ فِي «الْمُقْنِعِ» وَصَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» ، وَقَطَعَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي «التَّحْرِيرِ» وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْأَصْحَابُ هُنَا لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ، وَمُضِيِّ مُدَّةٍ بَعْدَ تَوْبَتِهِ يَظْهَرُ فِيهَا صَلَاحُ الْحَالِ، إِلَّا أَنَّ الرُّويَانِيَّ قَالَ: يُعْطَى عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فِي تَوْبَتِهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَالًا، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا، فَفِي إِعْطَائِهِ أَوْجُهٌ. ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الْأَجَلُ تِلْكَ السَّنَةَ، أُعْطِيَ، وَإِلَّا، فَلَا يُعْطَى مِنْ صَدَقَاتِ تِلْكَ السَّنَةِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يُعْطَى، وَبِهِ قُطِعَ فِي «الْبَيَانِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا اسْتَدَانَهُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَخَافَ فِتْنَةً بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ أَوْ شَخْصَيْنِ، فَيَسْتَدِينُ طَلَبًا لِلْإِصْلَاحِ وَإِسْكَانِ الثَّائِرَةِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَمٍ تَنَازَعَ فِيهِ قَبِيلَتَانِ وَلَمْ يَظْهَرِ الْقَاتِلُ، فَتَحَمَّلَ الدِّيَةَ، قُضِيَ دَيْنُهُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا بِعَقَارٍ قَطْعًا. وَكَذَا إِنْ كَانَ غَنِيًّا بِنَقْدٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْغَنِيُّ بِالْعُرُوضِ، كَالْغَنِيِّ بِالْعَقَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: كَالنَّقْدِ، وَلَوْ تَحَمَّلَ قِيمَةَ مَالٍ مُتْلَفٍ، أُعْطِيَ مَعَ الْغِنَى عَلَى الْأَصَحِّ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا الْتَزَمَهُ بِضَمَانٍ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ وَالْمَضْمُونُ عَنْهُ مُعَسِرَيْنِ، فَيُعْطَى الضَّامِنُ مَا يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَهُوَ أَوْلَى، لِأَنَّ الضَّامِنَ فَرْعُهُ، وَلِأَنَّ الضَّامِنَ إِذَا أَخَذَ وَقَضَى الدَّيْنَ بِالْمَأْخُوذِ، ثُمَّ رَجَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، احْتَاجَ الْإِمَامُ أَنْ يُعْطِيَهُ ثَانِيًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَمْنُوعٌ، بَلْ إِذَا أَعْطَيْنَاهُ لَا يَرْجِعُ، إِنَّمَا يَرْجِعُ الضَّامِنُ إِذَا غَرِمَ مِنْ عِنْدِهِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مُوسِرَيْنِ، فَلَا يُعْطَى، لِأَنَّهُ إِذَا غَرِمَ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ، وَإِنْ ضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَوَجْهَانِ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: إِذَا كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ مُوسِرًا، وَالضَّامِنُ مُعْسِرًا، فَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ، لَمْ يُعْطَ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ، وَإِلَّا أُعْطِيَ فِي الْأَصَحِّ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ مُعْسِرًا، وَالضَّامِنُ مُوسِرًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْمَضْمُونُ عَنْهُ، وَفِي الضَّامِنِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يُعْطَى. فَرْعٌ إِنَّمَا يُعْطَى الْغَارِمُ عِنْدَ بَقَاءِ الدَّيْنِ، فَأَمَّا إِذَا أَدَّاهُ مِنْ مَالِهِ، فَلَا يُعْطَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ غَارِمًا. وَكَذَا لَوْ بَذَلَ مَالَهُ ابْتِدَاءً فِيهِ، لَمْ يُعْطَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ غَارِمًا. فَرْعٌ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرْخَسِيُّ: مَا اسْتَدَانَهُ لِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَقِرَى الضَّيْفِ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا اسْتَدَانَهُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ يُعْطَى هَذَا مَعَ الْغِنَى بِالْعَقَارِ، وَلَا يُعْطَى مَعَ الْغِنَى بِالنَّقْدِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ. فَرْعٌ يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَى الْغَرِيمِ، بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَدْيُونِ، لَكِنْ يَسْقُطُ مِنَ الدَّيْنِ بِقِيمَةِ قَدْرِ الْمَصْرُوفِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمُكَاتَبِ. وَيَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ بِإِذْنِ الْمَدْيُونِ، وَهُوَ أَوْلَى، إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ وَافِيًا وَأَرَادَ الْمَدْيُونُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ.

فَرْعٌ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ غَرِمَ وَأَخَذَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ بَانَ كَذِبُ الشُّهُودِ، فَفِي سُقُوطِ الْفَرْضِ، الْقَوْلَانِ، فِيمَنْ دَفَعَهَا إِلَى مَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا، فَبَانَ غَنِيًّا، قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ، وَشَرَطَ أَنْ يَقْضِيَهُ ذَلِكَ عَنْ دَيْنِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ قَطْعًا، وَلَا يَصِحُّ قَضَاءُ الدَّيْنِ بِهَا. قُلْتُ: وَلَوْ نَوَيَا ذَلِكَ وَلَمْ يَشْرُطَاهُ، جَازَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَلَوْ قَالَ الْمَدْيُونُ: ادْفَعْ إِلَيَّ زَكَاتَكَ حَتَّى أَقْضِيَكَ دَيْنَكَ، فَفَعَلَ، أَجْزَأَهُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمَدْيُونَ دَفْعُهُ إِلَيْهِ عَنْ دَيْنِهِ. وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ: اقْضِ مَا عَلَيْكَ، لِأَرُدَّهُ عَلَيْكَ مِنْ زَكَاتِي، فَفَعَلَ، صَحَّ الْقَضَاءُ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الْفَقِيرِ حِنْطَةٌ وَدِيعَةٌ، فَقَالَ: كِلْ لِنَفْسِكَ كَذَا، وَنَوَاهُ زَكَاةً، فَفِي إِجْزَائِهِ عَنِ الزَّكَاةِ وَجْهَانِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَكِلْهُ. فَلَوْ كَانَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَاشْتَرَاهُ فَقَبَضَهُ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: خُذْهُ لِنَفْسِكَ، وَنَوَاهُ زَكَاةً، أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلِهِ. قُلْتُ: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : أَنَّهُ لَوْ مَاتَ رَجُلٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا وَفَاءَ لَهُ، فَفِي قَضَائِهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ وَجْهَانِ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْأَصَحَّ. وَالْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ: لَا يُقْضَى مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَالَ: جَعَلْتُهُ عَنْ زَكَاتِي، لَا يُجُزِئُهُ عَلَى الْأَصَحِّ حَتَّى يَقْبِضَهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ، وَعَلَى الثَّانِي: يُجْزِئُهُ كَمَا لَوْ كَانَ وَدِيعَةً، حَكَاهُ فِي «الْبَيَانِ» وَلَوْ ضَمِنَ دِيَةَ مَقْتُولٍ عَنْ قَاتِلٍ لَا يُعْرَفُ، أُعْطِيَ مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى

كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ ضَمِنَ عَنْ قَاتِلٍ مَعْرُوفٍ، لَمْ يُعْطَ مَعَ الْغِنَى، كَذَا حَكَاهُ فِي الْبَيَانِ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ، وَفِي هَذَا التَّفْصِيلِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الصِّنْفُ السَّابِعُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُمُ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا رِزْقَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ، وَلَا يُصْرَفُ شَيْءٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِلَى الْغُزَاةِ الْمُرْتَزِقَةِ، كَمَا لَا يُصْرَفُ شَيْءٌ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْمُطَوِّعَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْإِمَامِ شَيْءٌ لِلْمُرْتَزِقَةِ، وَاحْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ يَكْفِيهِمْ شَرَّ الْكُفَّارِ، فَهَلْ يُعْطَى الْمُرْتَزِقَةُ مِنَ الزَّكَاةِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا، بَلْ تَجِبُ إِعَانَتُهُمْ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُعْطَى الْغَازِي غَنِيًّا كَانَ، أَوْ فَقِيرًا. الصِّنْفُ الثَّامِنُ: ابْنُ السَّبِيلِ، وَهُوَ شَخْصَانِ. أَحَدُهُمَا: مَنْ أَنْشَأَ سَفَرًا مِنْ بَلَدِهِ، أَوْ مِنْ بَلَدٍ كَانَ مُقِيمًا بِهِ. وَالثَّانِي: الْغَرِيبُ الْمُجْتَازُ بِالْبَلَدِ. فَالْأَوَّلُ: يُعْطَى قَطْعًا، وَكَذَا الثَّانِي عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: إِنْ جَوَّزْنَا نَقْلَ الصَّدَقَةِ، جَازَ الصَّرْفُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا، فَلَا. وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ، فَيُعْطَى مَنْ لَا مَالَ لَهُ أَصْلًا، وَكَذَا مَنْ لَهُ مَالٌ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ مِنْهُ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ سَفَرُهُ مَعْصِيَةً، فَيُعْطَى فِي سَفَرِ الطَّاعَةِ قَطْعًا، وَكَذَا فِي الْمُبَاحِ كَالتِّجَارَةِ، وَطَلَبِ الْآبِقِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُعْطَى، فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ السَّفَرِ طَاعَةً، فَإِذَا قُلْنَا: يُعْطَى فِي الْمُبَاحِ، فَفِي سَفَرِ النُّزْهَةِ وَجْهَانِ، لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْفُضُولِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُعْطَى.

فصل

فَصْلٌ فِي الصِّفَاتِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ. فَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ كَافِرًا، وَلَا غَازِيًا مُرْتَزِقًا كَمَا سَبَقَ، وَأَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا وَلَا مُطَّلِبِيًّا قَطْعًا، وَلَا مَوْلَى لَهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ. فَلَوِ اسْتُعْمِلَ هَاشِمِيٌّ أَمْ مُطَّلِبِيٌّ، لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ سَهْمُ الْعَامِلِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا جُعِلَ بَعْضُ الْمُرْتَزِقَةِ عَامِلًا. وَلَوِ انْقَطَعَ خُمُسُ الْخُمُسِ عَنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لِخُلُوِّ بَيْتِ الْمَالِ عَنِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، أَوْ لِاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ عَلَيْهِمَا، لَمْ يُعْطَوُا الزَّكَاةَ عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَجَوَّزَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى رَحِمَهُمُ اللَّهُ. فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّرْفِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. فِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: فِيمَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي صِفَاتِ الْمُسْتَحِقِّينَ. قَالَ الْأَصْحَابُ: مَنْ طَلَبَ الزَّكَاةَ، وَعَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا، لَمْ يَجُزِ الصَّرْفُ إِلَيْهِ. وَإِنْ عَلِمَ اسْتِحْقَاقَهُ، جَازَ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ عَلَى الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ، فَالصِّفَاتُ قِسْمَانِ. خَفِيَّةٌ وَجَلِيَّةٌ، فَالْخَفِيُّ: الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ، فَلَا يُطَالَبُ مُدَّعِيهُمَا بِبَيِّنَةٍ، لِعُسْرِهِمَا. لَكِنْ إِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ، فَادَّعَى هَلَاكَهُ، طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ لِسُهُولَتِهَا، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ دَعْوَاهُ الْهَلَاكَ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ كَالسَّرِقَةِ، أَوْ ظَاهِرٍ كَالْحَرِيقِ. وَإِنْ قَالَ: لِي عِيَالٌ لَا يَفِي كَسْبِي بِكِفَايَتِهِمْ، طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى الْعِيَالِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: لَا كَسْبَ لِي

وَحَالُهُ تَشْهَدُ بِصِدْقِهِ، بِأَنْ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، أَوْ زَمِنًا، أُعْطِيَ بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ. وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا جَلْدًا، أَوْ قَالَ: لَا مَالَ لِي، وَاتَّهَمَهُ الْإِمَامُ، فَهَلْ يَحْلِفُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، فَإِنْ حَلَّفْنَاهُ، فَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ، أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ نَكَلَ وَقُلْنَا: الْيَمِينُ وَاجِبَةٌ، لَمْ يُعْطَ. وَإِنْ قُلْنَا: مُسْتَحَبَّةٌ، أُعْطِيَ. وَأَمَّا الصِّفَةُ الْجَلِيَّةُ، فَضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ بِمَعْنَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ الْغَازِي، وَابْنُ السَّبِيلِ، فَيُعْطَيَانِ بِقَوْلِهِمَا بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يُحَقِّقَا الْمَوْعُودَ وَيَخْرُجَا فِي السَّفَرِ، اسْتُرِدَّ مِنْهُمَا. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِبَيَانِ الْقَدْرِ الَّذِي يُحْتَمَلُ تَأْخِيرُ الْخُرُوجِ فِيهِ، وَقَدَّرَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي «أَمَالِيهِ» بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنِ انْقَضَتْ وَلَمْ يَخْرُجِ اسْتُرِدَّ مِنْهُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى التَّقْرِيبِ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ تَرَصُّدُهُ لِلْخُرُوجِ، وَكَوْنُ التَّأْخِيرِ لِانْتِظَارِ الرُّفْقَةِ وَتَحْصِيلِ أُهْبَةٍ وَغَيْرِهِمَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: يَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهِ بِمَعْنَى فِي الْحَالِ، وَتَدْخُلُ فِيهِ بَقِيَّةُ الْأَصْنَافِ. فَإِذَا ادَّعَى الْعَامِلُ الْعَمَلَ، طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ لِسُهُولَتِهَا، وَيُطَالَبُ بِهَا الْمُكَاتَبُ وَالْغَارِمُ. وَلَوْ صَدَّقَهُمَا الْمَوْلَى، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ، كَفَى عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، لَغَا الْإِقْرَارَ. وَأَمَّا الْمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ، فَإِنْ قَالَ: نِيَّتِي فِي الْإِسْلَامِ ضَعِيفَةٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ، لِأَنَّ كَلَامَهُ يُصَدِّقُهُ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا شَرِيفٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي، طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ، كَذَا فَصَّلَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ: أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِالْبَيِّنَةِ، وَيَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ الِاسْتِفَاضَةُ بِاشْتِهَارِ الْحَالِ بَيْنَ النَّاسِ، لِحُصُولِ الْعِلْمِ، أَوْ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَيَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مَنِ اعْتَبَارَ غَلَبَةَ الظَّنِّ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: لَوْ أَخْبَرَ عَنِ الْحَالِ وَاحِدٌ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ، كَفَى. الثَّانِي: قَالَ الْإِمَامُ: رَأَيْتُ لِلْأَصْحَابِ رَمْزًا إِلَى تَرَدُّدٍ فِي أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْوُثُوقُ بِقَوْلِ مَنْ يَدَّعِي الْغُرْمَ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، هَلْ يَجُوزُ اعْتِمَادُهُ؟

الثَّالِثُ: حَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ سَمَاعُ الْقَاضِي، وَالدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ وَالْإِشْهَادُ، بَلِ الْمُرَادُ إِخْبَارُ عَدْلَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَهُ فِي «الْوَسِيطِ» يُوهِمُ أَنَّ إِلْحَاقَ الِاسْتِفَاضَةِ بِالْبَيِّنَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ، وَلَكِنَّ الْوَجْهَ تَعْمِيمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُطَالَبٍ بِالْبَيِّنَةِ مِنَ الْأَصْنَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَدْرِ الْمُعْطَى، فَالْمُكَاتَبُ وَالْغَارِمُ، يُعْطَيَانِ قَدْرَ دَيْنِهِمَا، فَإِنْ قَدَرَا عَلَى بَعْضِهِ، أُعْطِيَا الْبَاقِيَ. وَالْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ يُعْطَيَانِ مَا تَزُولُ بِهِ حَاجَتُهُمَا، وَتَحْصُلُ كِفَايَتُهُمَا. وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالنَّوَاحِي، فَالْمُحْتَرِفُ الَّذِي لَا يَجِدُ آلَةَ حِرْفَتِهِ، يُعْطَى مَا يَشْتَرِيهَا بِهِ قَلَّتْ قِيمَتُهَا، أَوْ كَثُرَتْ. وَالتَّاجِرُ يُعْطَى رَأْسَ مَالٍ لِيَشْتَرِيَ مَا يُحْسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ، وَيَكُونُ قَدْرَ مَا يَفِي رَبِحُهُ بِكِفَايَتِهِ غَالِبًا، وَأَوْضَحُوهُ بِالْمِثَالِ فَقَالُوا: الْبَقْلِيُّ يَكْتَفِي بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَالْبَاقِلَّانِيُّ بِعَشَرَةٍ، وَالْفَاكِهِيُّ بِعِشْرِينَ، وَالْخَبَّازُ بِخَمْسِينَ، وَالْبَقَّالُ بِمِائَةٍ، وَالْعَطَّارُ بِأَلْفٍ، وَالْبَزَّازُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَالصَّيْرَفِيُّ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَالْجَوْهَرِيُّ بِعَشَرَةِ آلَافٍ. فَرْعٌ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكَسْبَ بِحِرْفَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَآخَرُونَ: يُعْطَى كِفَايَةَ الْعُمُرِ الْغَالِبِ. وَقَالَ آخَرُونَ، مِنْهُمُ الْغَزَالَيُّ وَالْبَغَوِيُّ: يُعْطَى كِفَايَةَ سَنَةٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ كُلَّ سَنَةٍ. قُلْتُ: وَمِمَّنْ قَطَعَ بِالْمَسْأَلَةِ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» ، وَالرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، قَالَ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا قُلْنَا: يُعْطَى كِفَايَةَ الْعُمُرِ، فَكَيْفَ طَرِيقُهُ؟ قَالَ فِي التَّتِمَّةِ وَغَيْرِهِ: يُعْطَى مَا يَشْتَرِي بِهِ عَقَارًا يَسْتَغِلُّ مِنْهُ كِفَايَتَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْعِرُ كَلَامُهُ بِأَنَّهُ يُعْطَى مَا يُنْفِقُ عَيْنَهُ فِي حَاجَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. فَرْعٌ وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ، فَيُعْطَى مَا يُبْلِغُهُ مَقْصِدَهُ، أَوْ مَوْضِعَ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ مَالٌ، فَيُعْطَى النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِمَا بِحَسَبِ الْحَالِ شِتَاءً وَصَيْفًا، وَيُهَيَّأُ لَهُ الْمَرْكُوبُ إِنْ كَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا وَالرَّجُلُ ضَعِيفًا لَا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ. وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ قَصِيرًا، أَوِ الرَّجُلُ قَوِيًّا، لَمْ يُعْطَ، وَيُعْطَى مَا يَنْقُلُ زَادَهُ وَمَتَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْرًا يَعْتَادُ مِثْلَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ السَّرَخْسِيُّ فِي «الْأَمَالِي» : إِنْ كَانَ ضَاقَ الْمَالُ، أُعْطِيَ كِرَاءَ الْمَرْكُوبِ. وَإِنِ اتَّسَعَ، اشْتُرِيَ لَهُ مَرْكُوبٌ. فَإِذَا تَمَّ سَفَرُهُ، اسْتُرِدَّ مِنْهُ الْمَرْكُوبُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ. ثُمَّ كَمَا يُعْطَى لِذَهَابِهِ، يُعْطَى لِإِيَابِهِ إِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ وَلَا مَالَ لَهُ فِي مَقْصِدِهِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُعْطَى لِلرُّجُوعِ فِي ابْتِدَاءِ السَّفَرِ، لِأَنَّهُ سَفَرٌ آخَرُ، وَإِنَّمَا يُعْطَى إِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَى عَزْمٍ أَنَّهُ يَصِلُ الرُّجُوعَ بِالذَّهَابِ، أُعْطِيَ لِلرُّجُوعِ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ يُقِيمَ هُنَاكَ مُدَّةً، لَمْ يُعْطَ، وَلَا يُعْطَى لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ إِلَّا مُدَّةَ إِقَامَةِ الْمُسَافِرِينَ، بِخِلَافِ الْغَازِي، حَيْثُ يُعْطَى لِلْمُقَامِ فِي الثَّغْرِ وَإِنْ طَالَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَوَقُّعِ فَتْحِ الْحِصْنِ، وَإِنَّهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ لِطُولِ الْمُقَامِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» ، أَنَّهُ إِنْ أَقَامَ لِحَاجَةٍ يَتَوَقَّعُ زَوَالَهَا، أُعْطِيَ وَإِنْ زَادَتْ إِقَامَتُهُ عَلَى إِقَامَةِ الْمُسَافِرِينَ.

فَرْعٌ هَلْ يُدْفَعُ إِلَى ابْنِ السَّبِيلِ جَمِيعُ كِفَايَتِهِ، أَوْ مَا زَادَ بِسَبَبِ السَّفَرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. فَرْعٌ وَأَمَّا الْغَازِي، فَيُعْطَى النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ مُدَّةَ الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ، وَمُدَّةَ الْمُقَامِ فِي الثَّغْرِ وَإِنْ طَالَ. وَهَلْ يُعْطَى جَمِيعَ الْمُؤْنَةِ، أَمْ مَا زَادَ بِسَبَبِ السَّفَرِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ كَابْنِ السَّبِيلِ، وَيُعْطَى مَا يَشْتَرِي بِهِ الْفَرَسَ إِنْ كَانَ يُقَاتِلُ فَارِسًا، وَمَا يَشْتَرِي بِهِ السِّلَاحَ وَآلَاتِ الْقِتَالِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مِلْكًا لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ لَهُ الْفَرَسُ وَالسِّلَاحُ. وَيَخْتَلِفُ الْحَالُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ رَاجِلًا، فَلَا يُعْطَى لِشِرَاءِ الْفَرَسِ. وَأَمَّا مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ الزَّادَ وَيَرْكَبُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَكَابْنِ السَّبِيلِ. فَرْعٌ إِنَّمَا يُعْطَى الْغَازِي إِذَا حَضَرَ وَقْتُ الْخُرُوجِ، لِيُهَيِّئَ بِهِ أَسْبَابَ سَفَرِهِ. فَإِنْ أَخَذَ وَلَمْ يَخْرُجْ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يُسْتَرَدُّ. فَإِنْ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ، أَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْغَزْوِ، اسْتُرِدَّ مَا بَقِيَ، وَإِنْ غَزَا فَرَجَعَ وَمَعَهُ بَقِيَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يُقَتِّرْ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ الْبَاقِي شَيْئًا صَالِحًا، رَدَّهُ. وَإِنْ قَتَّرَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لَمْ يُقَتِّرْ، إِلَّا أَنَّ الْبَاقِيَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، لَمْ يُسْتَرَدَّ قَطْعًا. وَفِي مِثْلِهِ فِي ابْنِ السَّبِيلِ، يُسْتَرَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّا دَفَعْنَا إِلَى الْغَازِي لِحَاجَتِنَا، وَهِيَ أَنْ يَغْزُوَ وَقَدْ فَعَلَ، وَفِي ابْنِ السَّبِيلِ يُدْفَعُ لِحَاجَتِهِ وَقَدْ زَالَتْ.

فَرْعٌ فِي بَعْضِ شُرُوحِ «الْمِفْتَاحِ» : أَنَّهُ يُعْطَى الْغَازِي نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ ذَهَابًا وَمَقَامًا وَرُجُوعًا. وَسَكَتَ الْجُمْهُورُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِيَالِ، لَكِنَّ أَخْذَهَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ. فَرْعٌ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ دَفَعَ الْفَرَسَ وَالسِّلَاحَ إِلَى الْغَازِي تَمْلِيكًا، وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْجَرَ لَهُ مَرْكُوبًا، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى خَيْلًا مِنْ هَذَا السَّهْمِ وَوَقَفَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُعِيرُهُمْ إِيَّاهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ، فَإِذَا انْقَضَتِ اسْتُرِدَّ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمُ الْفَرَسَ وَالسِّلَاحَ قَبْلَ وُصُولِ الْمَالِ إِلَيْهِمْ. فَرْعٌ وَأَمَّا الْمُؤَلَّفُ، فَيُعْطَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: يَجْعَلُهُ عَلَى قَدْرِ كُلْفَتِهِمْ وَكِفَايَتِهِمْ. فَرْعٌ وَأَمَّا الْعَامِلُ، فَاسْتِحْقَاقُهُ بِالْعَمَلِ، حَتَّى لَوْ حَمَلَ صَاحِبُ الْأَمْوَالِ زَكَاتَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ، أَوْ إِلَى الْبَلَدِ قَبْلَ قُدُومِ الْعَامِلِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، كَمَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِعَمَلِهِ. فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ بَعَثَهُ بِلَا شَرْطٍ ثُمَّ أَعْطَاهُ أُجْرَةً مِثْلَ عَمَلِهِ، وَإِنْ شَاءَ سَمَّى لَهُ قَدْرَ

أُجْرَتِهِ إِجَارَةً أَوْ جَعَالَةً، وَيُؤَدِّيهِ مِنَ الزَّكَاةِ. وَلَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَإِنْ زَادَ، فَهَلْ تَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ، أَمْ يَكُونُ قَدْرُ الْأُجْرَةِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالزَّائِدُ فِي خَالِصِ مَالِ الْإِمَامِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ زَادَ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَى أُجْرَتِهِ، رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ. وَإِنْ نَقَصَ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُكَمَّلُ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ ثُمَّ يُقَسَّمُ. وَفِي قَوْلِ: مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ الْمَصْلِحَةِ، وَقِيلَ: إِنْ بَدَأَ بِالْعَامِلِ كَمَّلَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْخُمُسِ لِعُسْرِ الِاسْتِرْدَادِ مِنَ الْأَصْنَافِ. وَقِيلَ: إِنْ فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الْأَصْنَافِ، فَمِنَ الزَّكَاةِ، وَإِلَّا، فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَالْخِلَافُ فِي جَوَازِ التَّكْمِيلِ مِنَ الزَّكَاةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّكْمِيلِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مُطْلَقًا، بَلْ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَجْعَلَ أُجْرَةَ الْعَامِلِ كُلَّهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، جَازَ، وَيُقَسِّمُ الزَّكَاةَ عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ. فَرْعٌ إِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ صِفَتَانِ، فَهَلْ يُعْطَى بِهِمَا، أَمْ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ؟ فِيهِ طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: بِإِحْدَاهُمَا، فَيَأْخُذُ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِهَذَا. وَالثَّالِثُ: إِنِ اتَّحَدَ جِنْسُ الصِّفَتَيْنِ، أُعْطِيَ بِإِحْدَاهُمَا، وَإِنِ اخْتُلِفَ فِيهِمَا، فَيُعْطَى بِهِمَا. فَالِاتِّحَادُ، كَالْفَقْرِ مَعَ الْغُرْمِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُمَا يَأْخُذَانِ لِحَاجَتِهِمَا إِلَيْنَا. وَكَالْغُرْمِ لِلْإِصْلَاحِ مَعَ الْغَزْوِ، فَإِنَّهُمَا لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِمَا. وَالِاخْتِلَافُ، كَالْفَقْرِ وَالْغَزْوِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَكَانَ الْعَامِلُ فَقِيرًا، فَوَجْهَانِ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِلُ أُجْرَةٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ، أَمْ صَدَقَةٌ لِكَوْنِهِ مَعْدُودًا فِي الْأَصْنَافِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا الْإِعْطَاءَ بِمَعْنَيَيْنِ، جَازَ بِمَعَانٍ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْحَنَّاطِيِّ.

قُلْتُ: قَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ: إِذَا قُلْنَا: لَا يُعْطَى إِلَّا بِسَبَبٍ، فَأَخَذَ بِالْفَقْرِ، كَانَ لِغَرِيمِهِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِدَيْنِهِ، فَيَأْخُذُ مَا حَصَلَ لَهُ. وَكَذَا إِنْ أَخَذَهُ بِكَوْنِهِ غَارِمًا، فَإِذَا بَقِيَ بَعْدَ أَخْذِهِ مِنْهُ فَقِيرًا، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعْطَائِهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهُ الْآنَ مُحْتَاجٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ فَرَّقَ بِنَفْسِهِ، أَوْ فَرَّقَ الْإِمَامُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ عَامِلٌ، فَرَّقَ عَلَى السَّبْعَةِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهُ إِذَا فَرَّقَ بِنَفْسِهِ، سَقَطَ أَيْضًا نَصِيبُ الْمُؤَلَّفَةِ. وَالْمَشْهُورُ: مَا سَبَقَ. وَمَتَّى فُقِدَ صِنْفٌ فَأَكْثَرُ، قُسِّمَ الْمَالُ عَلَى الْبَاقِينَ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنَ الْأَصْنَافِ، حُفِظَتِ الزَّكَاةُ حَتَّى يُوجَدُوا، أَوْ يُوجَدَ بَعْضُهُمْ. وَإِذَا قَسَّمَ الْإِمَامُ، لَزِمَهُ اسْتِيعَابُ آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ، لِأَنَّ الِاسْتِيعَابَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَسْتَوْعِبُهُمْ بِزَكَاةِ كُلِّ شَخْصٍ، بَلْ يَسْتَوْعِبُهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ الْمُخْتَلِطَةِ فِي يَدِهِ، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَالِ، وَآخَرِينَ بِنَوْعٍ. وَإِنْ قَسَّمَ الْمَالِكُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِيعَابُ، بِأَنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ مَحْصُورِينَ يَفِي بِهِمُ الْمَالُ، فَقَدْ أُطْلِقَ فِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ يَجِبُ إِنْ جَوَّزْنَا نَقْلَ الصَّدَقَةِ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ لَمْ يَجِبْ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، سَقَطَ الْوُجُوبُ وَالِاسْتِحْبَابُ، وَلَكِنْ لَا يَنْقُصُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَفْظِ الْجَمْعِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ ثَلَاثَةٍ، إِلَّا الْعَامِلَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَهَلْ يُكْتَفَى فِي ابْنِ السَّبِيلِ بِوَاحِدٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، كَالْفُقَرَاءِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا يَبْعُدُ طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْغُزَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) [التَّوْبَةِ: 60] بِغَيْرِ لَفْظِ الْجَمْعِ. فَلَوْ صَرَفَ مَا عَلَيْهِ إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الثَّالِثِ، غَرِمَ لِلثَّالِثِ. وَفِي قَدْرِهِ قَوْلَانِ. الْمَنْصُوصُ فِي الزَّكَاةِ: أَنَّهُ يَغْرَمُ ثُلُثَ نَصِيبِ ذَلِكَ الصِّنْفِ. وَالْقِيَاسُ: أَنَّهُ يَغْرَمُ قَدْرًا لَوْ أَعْطَاهُ فِي الِابْتِدَاءِ، أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ،

وَلَوْ صَرَفَهُ إِلَى وَاحِدٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَلْزَمُهُ الثُّلُثَانِ، وَعَلَى الثَّانِي: أَقَلُّ مَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَيْهِمَا. قُلْتُ: هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْأَقْيَسَ هُوَ الثَّانِي، ثُمَّ الْجُمْهُورُ أَطْلَقُوا الْقَوْلَيْنِ هَكَذَا. قَالَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : إِذَا قُلْنَا: يَضْمَنُ الثُّلُثَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ إِذَا كَانُوا سَوُّوا فِي الْحَاجَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ حَاجَةُ هَذَا الثَّالِثِ حِينَ اسْتَحَقَّ التَّفْرِقَةَ مِثْلَ حَاجَةِ الْآخَرِينَ جَمِيعًا. ضَمِنَ لَهُ نِصْفَ السَّهْمِ لِيَكُونَ مَعَهُ مِثْلُهُمَا، لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّفْرِقَةُ عَلَى قَدْرِ حَوَائِجِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا فَرْقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا دُونَ الثَّلَاثَةِ مِنْ صِنْفٍ، يَجِبُ إِعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَمُرَادُهُ: إِذَا كَانَ الثَّلَاثَةُ مُتَعَيِّنِينَ، أَعْطَى مَنْ وُجِدَ. وَهَلْ يُصْرَفُ بَاقِي السَّهْمِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا، أَمْ يُنْقَلُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ؟ قَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ بَعْضُ الْأَصْنَافِ فِي الْبَلَدِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِ. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ، وَنَقَلَهُ هُوَ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَدَلِيلُهُ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ وَاجِبَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةُ بَعْضِهِمْ أَشَدَّ، إِلَّا أَنَّ الْعَامِلَ لَا يُزَادُ عَلَى أُجْرَةِ عَمَلِهِ كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ، سَوَاءٌ اسْتُوعِبُوا أَوِ اقْتُصِرَ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَلَا يَجِبُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ تَسَاوِي الْحَاجَاتِ. هَذَا إِذَا قَسَّمَ الْمَالِكُ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : فَأَمَّا إِنْ قَسَّمَ الْإِمَامُ، فَلَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ

بَعْضِهِمْ عِنْدَ تَسَاوِي الْحَاجَاتِ، لِأَنَّ عَلَيْهِ التَّعْمِيمَ، فَتَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ، وَالْمَالِكُ لَا تَعْمِيمَ عَلَيْهِ، فَلَا تَسْوِيَةَ. قُلْتُ: هَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي فِي «التَّتِمَّةِ» وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا فِي الدَّلِيلِ، فَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْجُمْهُورِ اسْتِحْبَابُ التَّسْوِيَةِ. وَحَيْثُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الْمُقِيمِينَ بِالْبَلَدِ وَالْغُرَبَاءِ، وَلَكِنِ الْمُسْتَوْطِنُونَ أَفْضَلُ، لِأَنَّهُمْ جِيرَانُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا عُدِمَ فِي بَلَدٍ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ، وَجَبَ نَقْلُ الزَّكَاةِ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ. فَإِنْ نُقِلَ إِلَى أَبْعَدَ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ. وَإِنْ عُدِمَ بَعْضُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ، سَقَطَ سَهْمُهُ. وَإِنْ عُدِمَ غَيْرُهُ، فَإِنْ جَوَّزْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ، نُقِلَ نَصِيبُ الْبَاقِي، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُنْقَلُ. وَأَصَحُّهُمَا: يُرَدُّ عَلَى الْبَاقِينَ. فَإِنْ قُلْنَا: يُنْقَلُ، نُقِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ. فَإِنْ نُقِلَ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ لَمْ يُنْقَلْ، وَرَدَّهُ عَلَى الْبَاقِي، ضَمِنَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُنْقَلُ فَنُقِلَ، ضَمِنَ. وَلَوْ وَجَدَ الْأَصْنَافُ فَقَسَّمَ، فَنَقَصَ سَهْمُ بَعْضِهِمْ عَنِ الْكِفَايَةِ، وَزَادَ سَهْمُ بَعْضِهِمْ عَلَيْهَا، فَهَلْ يُصَرَفُ مَا زَادَ إِلَى مَنْ نَقَصَ نَصِيبُهُ، أَمْ يُنْقَلُ إِلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ بِأَقْرَبِ الْبِلَادِ؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَإِذَا قُلْنَا: يُرَدُّ عَلَى مَنْ نَقَصَ سَهْمُهُمْ، رُدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ. فَإِنِ اسْتَغْنَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ الْمَرْدُودِ، قُسِّمَ الْبَاقِي بَيْنَ الْآخَرِينَ بِالسَّوِيَّةِ. وَلَوْ زَادَ نَصِيبُ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ عَلَى الْكِفَايَةِ، أَوْ نَصِيبُ بَعْضِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصْ نَصِيبُ الْآخَرِينَ، نُقِلَ مَا زَادَ إِلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ نَقْلِ الصَّدَقَةِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، مَعَ وُجُودِ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي بَلَدِهِ خِلَافٌ. وَتَفْصِيلُ الْمَذْهَبِ فِيهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ يَحْرُمُ النَّقْلُ، وَلَا تَسْقُطُ

بِهِ الزَّكَاةُ، وَسَوَاءً كَانَ النَّقْلُ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَوْ دُونَهَا، فَهَذَا مُخْتَصَرُ مَا يُفْتَى بِهِ. وَتَفْصِيلُهُ، أَنَّ فِي النَّقْلِ قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: الْمَنْعُ. وَفِي الْمُرَادِ بِهِمَا، طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا فِي التَّحْرِيمِ وَالسُّقُوطِ مَعًا، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا فِي التَّحْرِيمِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَسْقُطُ. ثُمَّ قِيلَ: هُمَا فِي النَّقْلِ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَمَا فَوْقَهَا، فَإِنْ نُقِلَ إِلَى دُونِهَا، جَازَ، وَالْأَصَحُّ: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. قُلْتُ: وَإِذَا مَنَعْنَا النَّقْلَ، وَلَمْ نَعْتَبِرْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَسَوَاءٌ نُقِلَ إِلَى قَرْيَةٍ بِقُرْبِ الْبَلَدِ، أَمْ بَعِيدَةٍ. صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَسَائِرِ الْأَصْنَافِ، أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، أَوْ نَذْرٌ، فَالْمَذْهَبُ فِي الْجَمِيعِ جَوَازُ النَّقْلِ، لِأَنَّ الْأَطْمَاعَ لَا تَمْتَدُّ إِلَيْهَا امْتِدَادَهَا لِلزَّكَاةِ. فَرْعٌ صَدَقَةُ الْفِطْرِ كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ فِي جَوَازِ النَّقْلِ وَمَنْعِهِ، وَفِي وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ، فَإِنْ شَقَّتِ الْقِسْمَةُ، جَمَعَ جَمَاعَةٌ فِطْرَتَهُمْ ثُمَّ قَسَّمُوهَا. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَيُرْوَى: مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَيُرْوَى: مِنْ أَيِّ صِنْفٍ اتَّفَقَ. وَاخْتَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، جَوَازَ الصَّرْفِ إِلَى وَاحِدٍ. قُلْتُ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ أَوْ جَمَاهِيرُهُمْ: عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الْإِصْطَخْرِيِّ، جَوَازُ الصَّرْفِ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ. قَالَ أَكْثَرُهُمْ: وَكَذَلِكَ يَجُوزُ

عِنْدَهُ الصَّرْفُ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ. وَصَرَّحَ الْمُحَامِلِيُّ وَالْمُتَوَلِّي: بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الصَّرْفُ إِلَى غَيْرِ الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ، وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ صَرْفَهَا إِلَى ثَلَاثَةٍ. وَحُكِيَ اخْتِيَارُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ حَيْثُ جَازَ النَّقْلُ أَوْ وَجَبَ، فَمُؤْنَتُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي أُجْرَةِ الْكَيَّالِ. فَرْعٌ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ النَّقْلِ وَتَفْرِيعِهِ، ظَاهِرٌ فِيمَا إِذَا فَرَّقَ رَبُّ الْمَالِ زَكَاتَهُ. أَمَّا إِذَا فَرَّقَ الْإِمَامُ، فَرُبَّمَا اقْتَضَى كَلَامُ الْأَصْحَابِ طَرْدَ الْخِلَافِ فِيهِ، وَرُبَّمَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ النَّقْلِ لَهُ، وَالتَّفْرِقَةُ كَيْفَ شَاءَ، وَهَذَا أَشْبَهُ. قُلْتُ: قَدْ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَالْأَصْحَابُ: يَجِبُ عَلَى السَّاعِي نَقْلُ الصَّدَقَةِ إِلَى الْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي تَفْرِيقِهَا، وَهَذَا نَقْلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْمَالُ بِبَلَدٍ، وَالْمَالِكُ بِبَلَدٍ، فَالِاعْتِبَارُ بِبَلَدِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوُجُوبِ، وَيَمْتَدُّ إِلَيْهِ نَظَرُ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَيُصْرَفُ الْعُشْرُ إِلَى فُقَرَاءِ بَلَدِ الْأَرْضِ، حَتَّى حَصُلَ

مِنْهَا الْمَعْشَرُ، وَزَكَاةَ النَّقْدَيْنِ وَالْمَوَاشِي وَالتِّجَارَةِ إِلَى فُقَرَاءِ الْبَلَدِ الَّذِي تَمَّ فِيهِ حَوْلُهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ فِي بَادِيَةٍ، صُرِفَ إِلَى فُقَرَاءِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ تَاجِرًا مُسَافِرًا، صَرَفَهَا حَيْثُ حَالَ الْحَوْلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ مَالُهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، قُسِّمَ زَكَاةُ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ مَالٍ بِبَلَدِهَا، مَا لَمْ يَقَعْ تَشْقِيصٌ، فَإِنْ وَقَعَ، بِأَنْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ، عِشْرِينَ بِبَلَدٍ، وَعِشْرِينَ بِآخَرَ، فَأَدَّى شَاةً فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَرِهْتُهُ، وَأَجْزَأَهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ. سَوَاءٌ جَوَّزْنَا نَقْلَ الصَّدَقَةِ، أَمْ لَا. وَقَالَ أَبُو حَفْصِ ابْنُ الْوَكِيلِ: هَذَا جَائِزٌ، إِنْ جَوَّزْنَا نَقْلَ الصَّدَقَةِ، وَإِلَّا فَيُؤَدِّي فِي كُلِّ بَلَدٍ نِصْفَ شَاةٍ. وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ. وَعَلَّلُوهُ بِعِلَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ لَهُ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَالًا، فَيُخْرِجُ فِيهَا شَاةً مِنْهَا، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْوَاجِبَ شَاةٌ، فَلَا تَشْقِيصَ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا، مَا لَوْ مَلَكَ مِائَةً بِبَلَدٍ، وَمِائَةً بِبَلَدٍ آخَرَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَهُ إِخْرَاجُ الشَّاتَيْنِ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ، إِذَا كَانَ مَالُهُ بِبَلَدٍ، وَهُوَ بِآخَرَ، فَأَيُّهُمَا يُعْتَبَرُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: بِبَلَدِ الْمَالِكِ. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ لَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ فِطْرَتُهُ وَهُوَ بِبَلَدٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِبَلَدِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ. وَقَالَ فِي «الْبَيَانِ» : الَّذِي يَقْتَضِي الْمَذْهَبَ، أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُؤَدِّي ابْتِدَاءً، أَمْ عَلَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ فَتُصْرَفُ فِي بَلَدِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ صِنْفَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمُقِيمُونَ فِي بَلَدٍ، أَوْ قَرْيَةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ مِنَ الْبَادِيَةِ فَلَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، فَعَلَيْهِمْ صَرْفُ زَكَاتِهِمْ إِلَى مَنْ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْأَصْنَافِ، سَوَاءٌ فِيهِ الْمُقِيمُونَ وَالْغُرَبَاءُ. الثَّانِي: أَهْلُ الْخِيَامِ الْمُنْتَقِلُونَ مِنْ بُقْعَةٍ إِلَى بُقْعَةٍ، فَيُنْظَرُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَرَارٌ، بَلْ يَطُوفُونَ الْبِلَادَ أَبَدًا، صَرَفُوهَا إِلَى مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَصْنَافِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مُسْتَحِقٌّ، نَقَلُوهُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ. وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَوْضِعٌ يَسْكُنُونَهُ وَرُبَّمَا انْتَقَلُوا عَنْهُ مُنْتَجِعِينَ ثُمَّ عَادُوا إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فِي الْمَاءِ وَالْمَرْعَى، صَرَفُوهَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ مَوْضِعِ الْمَالِ. وَالصَّرْفُ إِلَى الَّذِينَ يُقِيمُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِإِقَامَتِهِمْ وَيَظْعَنُونَ بِظَعْنِهِمْ أَفْضَلُ لِشِدَّةِ جِوَارِهِمْ. وَإِنْ تَمَيَّزَتِ الْحِلَّةُ عَنِ الْحِلَّةِ، وَانْفَرَدَ بِالْمَاءِ وَالْمَرْعَى، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَغَيْرِ الْمُتَمَيِّزَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ كُلَّ حِلَّةٍ كَقَرْيَةٍ، فَلَا يَجُوزُ النَّقْلُ عَنْهَا. فَصْلٌ يُشْتَرَطُ فِي السَّاعِي كَوْنُهُ مُسْلِمًا، مُكَلَّفًا، عَدْلًا، حُرًّا، فَقِيهًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ. هَذَا إِذَا كَانَ التَّفْوِيضُ عَامًّا، فَإِنْ عَيَّنَ الْإِمَامُ شَيْئًا يَأْخُذُهُ، لَمْ يُعْتَبَرِ الْفِقْهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ. قُلْتُ: عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ، فِيهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

وَفِي جَوَازِ كَوْنِ الْعَامِلِ هَاشِمِيًّا، أَوْ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ، خِلَافٌ سَبَقَ. وَفِي «الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ» لِلْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفَوَّضَ إِلَى مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَلَكِنْ يَكُونُ رِزْقُهُ مِنَ الْمَصَالِحِ. وَإِذَا قُلِّدَ الْأَخْذَ وَحْدَهُ، أَوِ الْقِسْمَةَ وَحْدَهَا، لَمْ يَتَوَلَّ إِلَّا مَا قُلِّدَ، وَإِنْ أُطْلِقَ التَّقْلِيدُ تَوَلَّى الْأَمْرَيْنِ. وَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَامِلُ جَائِزًا فِي أَخْذِ الصَّدَقَةِ، عَادِلًا فِي قِسْمَتِهَا، جَازَ كَتْمُهَا عَنْهُ، وَجَازَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي الْأَخْذِ، جَائِزًا فِي الْقِسْمَةِ، وَجَبَ كَتْمُهَا عَنْهُ. فَإِنْ أَخَذَهَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، لَمْ تُجْزِئْ، وَعَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ إِخْرَاجُهَا بِأَنْفُسِهِمْ. وَهَذَا خِلَافُ مَا فِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ إِذَا دَفَعَ إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرَ، سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَإِنْ لَمْ يُوَصِّلْهُ الْمُسْتَحِقِّينَ، إِلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الدَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ وَإِلَى الْعَامِلِ. قُلْتُ: لَا فَرْقَ، وَالْأَصَحُّ: الْإِجْزَاءُ فِيهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَسْمُ النَّعَمِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَوَسْمُ نَعَمِ الزَّكَاةِ وَالْفَيْءِ، لِتَتَمَيَّزَ، وَلِيَرُدَّهَا مَنْ وَجَدَهَا ضَالَّةً، وَلِيَعْرِفَ الْمُتَصَدِّقُ وَلَا يَمْتَلِكُهَا، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيهِ، هَكَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلْيَكُنِ الْوَسْمُ عَلَى مَوْضِعٍ صُلْبٍ ظَاهِرٍ، لَا يَكْثُرُ الشَّعْرُ عَلَيْهِ. وَالْأَوْلَى فِي الْغَنَمِ: الْآذَانُ. وَفِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ: الْأَفْخَاذُ. وَيُكْرَهُ الْوَسْمُ عَلَى الْوَجْهِ. قُلْتُ: هَكَذَا قَالَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الْأَقْوَى. وَقَدْ صَحَّ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» لُعِنَ فَاعِلُهُ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى التَّحْرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

وَيَكُونُ مِيسَمُ الْغَنَمِ، أَلْطَفَ مِنْ مِيسَمِ الْبَقَرِ، وَمِيسَمُ الْبَقَرِ، أَلْطَفَ مِنْ مِيسَمِ الْإِبِلِ. وَتُمَيَّزُ نَعَمُ الزَّكَاةِ مِنْ نَعَمِ الْفَيْءِ، فَيُكْتَبُ عَلَى الْجِزْيَةِ: جِزْيَةٌ، أَوْ صَغَارٌ. وَعَلَى الزَّكَاةِ: زَكَاةٌ، أَوْ صَدَقَةٌ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى سِمَةِ «لِلَّهِ تَعَالَى» . فَرْعٌ وَيَجُوزُ خِصَاءُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فِي صِغَرِهِ لِطِيبِ لَحْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي كِبَرِهِ، وَخِصَاءُ مَا لَا يُؤْكَلُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ. أَحَدُهَا: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ وَالسَّاعِي، وَكُلِّ مَنْ يُفَوَّضُ إِلَيْهِ أَمْرُ تَفْرِيقِ الصَّدَقَاتِ، أَنْ يَعْتَنِيَ بِضَبْطِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَمَعْرِفَةِ أَعْدَادِهِمْ، وَأَقْدَارِ حَاجَاتِهِمْ، بِحَيْثُ يَقَعُ الْفَرَاغُ مِنْ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ، أَوْ مَعَهَا لِيَتَعَجَّلَ حُقُوقَهُمْ، وَلِيَأْمَنَ هَلَاكَ الْمَالِ عِنْدَهُ. الثَّانِيَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ فِي الْقِسْمَةِ بِالْعَالَمِينَ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ أَقْوَى، لِكَوْنِهِمْ يَأْخُذُونَ مُعَاوَضَةً. قُلْتُ: هَذَا التَّقْدِيمُ مُسْتَحَبٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَلَا لِلسَّاعِي أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنَ الزَّكَاةِ، بَلْ يُوَصِّلُهَا بِحَالِهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، إِلَّا إِذَا وَقَعَتْ ضَرُورَةٌ، بِأَنْ أَشْرَفَتْ بَعْضُ الْمَاشِيَةِ عَلَى الْهَلَاكِ،

أَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ خَطَرٌ، أَوِ احْتَاجَ إِلَى رَدِّ جِيرَانٍ، أَوْ إِلَى مُؤْنَةِ نَقْلٍ، فَحِينَئِذٍ يَبِيعُ. وَلَوْ وَجَبَتْ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ، فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَبِيعَهَا وَيُقَسِّمَ الثَّمَنَ، بَلْ يَجْمَعُهُمْ وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِمْ، وَكَذَا حُكْمُ الْإِمَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَهُمْ فِي «التَّهْذِيبِ» فَقَالَ: إِنْ رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ، فَعَلَهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَبِيعَ، بَاعَ وَفَرَّقَ الثَّمَنَ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: وَإِذَا بَاعَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَجُوزُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَيُسْتَرَدُّ الْمَبِيعُ، فَإِنْ تَلِفَ، ضَمِنَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى مَنْ ظَنَّهُ مُسْتَحِقًّا، فَبَانَ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ، كَكَافِرٍ، وَعَبْدٍ، وَغَنِيٍّ، وَذِي قُرْبَى، فَالْفَرْضُ يَسْقُطُ عَنِ الْمَالِكِ بِالدَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمُسْتَحِقِّينَ. وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ إِذَا بَانَ غَنِيًّا، لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ، وَيُسْتَرَدُّ، سَوَاءٌ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ، أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَلِفَ، غَرِمَهُ وَصَرَفَ الْغُرْمَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ. وَفِي بَاقِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ قَطْعًا. وَقِيلَ: يَضْمَنُ قَطْعًا، لِتَفْرِيطِهِ، فَإِنَّهَا لَا تَخْفَى غَالِبًا، بِخِلَافِ الْغَنِيِّ، وَلِأَنَّهَا أَشَدُّ مُنَافَاةً، فَإِنَّهَا تُنَافِي الزَّكَاةَ بِكُلِّ حَالٍ، بِخِلَافِهِ. وَلَوْ دَفَعَ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ، فَبَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ غَنِيًّا، لَمْ يُجِزْهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ نَائِبُ الْفُقَرَاءِ. وَإِنْ بَانَ كَافِرًا، أَوْ عَبْدًا، أَوْ ذَا قُرْبَى، لَمْ يُجِزْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَلَوْ دَفَعَ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ، أَوِ الْغَازِي إِلَيْهِ، فَبَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ امْرَأَةً، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَانَ عَبْدًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ، فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ زَكَاةٌ، اسْتُرِدَّ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَغَرِمَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ تَالِفًا. وَيَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ إِذَا دُفِعَ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ زَكَاةٌ، لَمْ يُسْتَرَدَّ، وَلَا غُرْمَ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ، يَسْتَرِدُّ مُطْلَقًا، لِأَنَّ مَا يُفَرِّقُهُ الْإِمَامُ عَلَى الْأَصْنَافِ، هُوَ الزَّكَاةُ غَالِبًا، وَغَيْرُهُ قَدْ يَتَطَوَّعُ. وَالْحُكْمُ فِي الْكَفَّارَةِ مَتَى بَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ، كَحُكْمِ الزَّكَاةِ.

الْخَامِسَةُ: فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْأَصْنَافِ الزَّكَاةَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَسْتَحِقُّونَ يَوْمَ الْقِسْمَةِ، إِلَّا الْعَامِلُ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَسْتَحِقُّونَ يَوْمَ الْوُجُوبِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ. بَلِ النَّصُّ الثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ، أَوْ أَقَلُّ، وَمَنَعْنَا نَقْلَ الصَّدَقَةِ، فَيَسْتَحِقُّونَ يَوْمَ الْوُجُوبِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، دُفِعَ نَصِيبُهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ غَابَ أَوْ أَيْسَرَ، فَحَقُّهُ بِحَالِهِ، وَإِنْ قَدِمَ غَرِيبٌ، لَمْ يُشَارِكْهُمْ، وَالنَّصُّ الْأَوَّلُ، فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ فِي ثَلَاثَةٍ، أَوْ كَانُوا، وَجَوَّزْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ، فَيَسْتَحِقُّونَ بِالْقِسْمَةِ، حَتَّى لَا حَقَّ لِمَنْ مَاتَ أَوْ غَابَ أَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ قَدِمَ غَرِيبٌ، شَارَكَهُمْ. السَّادِسَةُ: فِي «فَتَاوَى الْقَفَّالِ» : أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ لَمْ يُفَرِّقْ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَتَلِفَ، ضَمِنَ. وَالْوَكِيلُ بِالتَّفْرِيقِ لَوْ أَخَّرَ، فَتَلِفَ، لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّفْرِيقُ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ جَمَعَ السَّاعِي الزَّكَاةَ، فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى الْإِمَامِ، اسْتَحَقَّ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : لَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى فَقِيرٍ وَهُوَ غَيْرُ عَارِفٍ بِالْمَدْفُوعِ، بِأَنْ كَانَ مَشْدُودًا فِي خِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا، لَا يَعْرِفُ جِنْسَهُ وَقَدْرَهُ، وَتَلِفَ فِي يَدِ الْمِسْكِينِ، فَفِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ احْتِمَالَانِ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَابِضِ لَا تُشْتَرَطُ، فَكَذَا مَعْرِفَةُ الدَّافِعِ. قُلْتُ: الْأَرْجَحُ: السُّقُوطُ. وَبَقِيَتْ مِنَ الْبَابِ مَسَائِلُ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ. وَبَقِيَتْ مَسَائِلُ، لَمْ يَذْكُرْهَا الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ هُنَا.

مِنْهَا: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: كَانَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقَدِيمِ، يُسَمِّي مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمَاشِيَةِ صَدَقَةً، وَمِنَ النَّقْدَيْنِ زَكَاةً، وَمِنَ الْمُعْشِرَاتِ عُشْرًا فَقَطْ. ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ: يُسَمَّى الْجَمِيعُ زَكَاةً وَصَدَقَةً. وَمِنْهَا: الِاخْتِلَافُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: اخْتِلَافُ رَبِّ الْمَالِ وَالسَّاعِي عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدِهِمَا: أَنْ يَكُونَ دَعْوَى رَبِّ الْمَالِ لَا تُخَالِفُ الظَّاهِرَ، وَالثَّانِي: تُخَالِفُهُ. وَفِي الضَّرْبَيْنِ، إِذَا اتَّهَمَهُ السَّاعِي، حَلَّفَهُ، وَالْيَمِينُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مُسْتَحَبَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ الْيَمِينِ، تُرِكَ وَلَا شَيْءَ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: فَالْيَمِينُ فِيهِ مُسْتَحَبَّةٌ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى الثَّانِي: وَاجِبَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: مُسْتَحَبَّةٌ، فَامْتَنَعَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا أُخِذَتْ مِنْهُ لَا بِالنُّكُولِ، بَلْ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ. فَمِنَ الصُّوَرِ الَّتِي لَا يَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ، أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ بَعْدُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَقُولَ السَّاعِي: كَانَتْ مَاشِيَتُكَ نِصَابًا ثُمَّ تَوَالَدَتْ، فَيَضُمُّ الْأَوْلَادَ إِلَى الْأُمَّهَاتِ، وَيَقُولُ رَبُّ الْمَالِ: لَمْ تَكُنْ نِصَابًا، وَإِنَّمَا تَمَّتْ نِصَابًا بِالْأَوْلَادِ، فَابْتَدَأَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ التَّوَلُّدِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَقُولَ السَّاعِي: هَذِهِ السِّخَالُ تَوَالَدَتْ مِنْ نَفْسِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَقَالَ: بَلْ بَعْدَ الْحَوْلِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ. وَمِنَ الصُّوَرِ الَّتِي تُخَالِفُ فِيهَا الظَّاهِرَ، أَنْ يَقُولَ السَّاعِي: مَضَى عَلَيْكَ حَوْلٌ، فَقَالَ الْمَالِكُ: كُنْتُ بِعْتُهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، ثُمَّ اشْتَرَيْتُهُ، أَوْ قَالَ: أَخْرَجْتُ زَكَاتَهُ، وَقُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْمَالُ وَدِيعَةٌ، فَقَالَ السَّاعِي: بَلْ مِلْكُكَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: لَا. وَمِنْهَا: الْأَفْضَلُ فِي الزَّكَاةِ إِظْهَارُ إِخْرَاجِهَا، لِيَرَاهُ غَيْرُهُ، فَيَعْمَلَ عَمَلَهُ، وَلِئَلَّا يُسَاءَ الظَّنُّ بِهِ.

باب.

وَمِنْهَا: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : يَسْأَلُ الْآخِذُ دَافِعَ الزَّكَاةِ عَنْ قَدْرِهَا، فَيَأْخُذُ بَعْضَ الثَّمَنِ، بِحَيْثُ يَبْقَى مِنَ الثَّمَنِ مَا يَدْفَعُهُ إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ صِنْفِهِ. فَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ بِكَمَالِهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَخْذُ. قَالَ: وَهَذَا السُّؤَالُ وَاجِبٌ فِي أَكْثَرِ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ هَذَا، إِمَّا لِجَهْلٍ، وَإِمَّا لِتَسَاهُلٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُ السُّؤَالِ عَنْ مِثْلِ هَذَا، إِذَا لَمْ يَغْلِبَ الظَّنُّ احْتِمَالَ التَّحْرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابٌ. صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ. هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ آكَدُ. قُلْتُ: وَكَذَا عِنْدَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَعِنْدَ الْكُسُوفِ، وَالْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ، وَبِمَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ، وَالْحَجِّ، وَالْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، كَعَشَرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ الْعِيدِ، فَفِي كُلِّ هَذَا الْمَوْضِعِ آكَدُ مِنْ غَيْرِهَا. قَالَ فِي «الْحَاوِي» : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَسِّعَ فِي رَمَضَانَ عَلَى عِيَالِهِ، وَيُحْسِنَ إِلَى ذَوِي أَرْحَامِهِ وَجِيرَانِهِ، لَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَكَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَظْهَرِ تَشْرِيفًا لَهُ، وَهِيَ حَلَالٌ لِذَوِي الْقُرْبَى عَلَى الْمَشْهُورِ. وَتَحِلُّ لِلْأَغْنِيَاءِ وَالْكُفَّارِ، وَصَرْفُهَا سِرًّا أَفْضَلُ، وَإِلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ أَفْضَلُ. وَكَذَا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ وَصَرْفُهُمَا إِلَيْهِمْ أَفْضَلُ إِذَا كَانُوا بِصِفَةِ اسْتِحْقَاقِهِمَا. وَالْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ،

فصل

وَيُقَدِّمُ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ. وَقَدْ أُلْحِقَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ بِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ بِذِي الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ، كَأَوْلَادِ الْعَمِّ وَالْخَالِ، ثُمَّ الْمُحَرَّمِ بِالرَّضَاعِ، ثُمَّ بِالْمُصَاهَرَةِ، ثُمَّ الْمَوْلَى مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلَ، ثُمَّ الْجَارُ. فَإِذَا كَانَ الْقَرِيبُ بَعِيدَ الدَّارِ فِي الْبَلَدِ، قُدِّمَ عَلَى الْجَارِ الْأَجْنَبِيِّ. فَإِنْ كَانَ الْأَقَارِبُ خَارِجِينَ عَنِ الْبَلَدِ، فَإِنْ مَنَعْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ، قُدِّمَ الْأَجْنَبِيُّ، وَإِلَّا، فَالْقَرِيبُ. وَكَذَا أَهْلُ الْبَادِيَةِ، فَحَيْثُ كَانَ الْقَرِيبُ وَالْأَجْنَبِيُّ الْجَارُ بِحَيْثُ يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَيْهِمَا، قُدِّمَ الْقَرِيبُ. فَصْلٌ يُكْرَهُ التَّصَدُّقُ بِالرَّدِيءِ، وَبِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ. فَصْلٌ وَمَنْ فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ عِيَالِهِ وَعَنْ دَيْنِهِ مَالٌ، هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ الْفَاضِلِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَالثَّانِي: لَا، وَأَصَحُّهُمَا: إِنْ صَبَرَ عَلَى الْإِضَافَةِ، فَنَعَمْ، وَإِلَّا، فَلَا. وَأَمَّا مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِعِيَالِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ وَقَضَاءُ دَيْنِهِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّصَدُّقُ، وَرُبَّمَا قِيلَ: يُكْرَهُ. قُلْتُ: هَذِهِ الْعِبَارَةُ مُوَافِقَةٌ لِعِبَارَةِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْمُتَوَلِّي، وَآخَرِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَأَصْحَابُ «الشَّامِلِ» وَ «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَ «الْبَيَانِ» وَالدَّارِمِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ فِي «الْحِلْيَةِ» وَآخَرُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفَقَتِهِ أَوْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي نَفَقَةِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُصُولُ وَفَائِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَا بَأْسَ بِالتَّصَدُّقِ، وَإِلَّا، فَلَا يَحِلُّ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَقِيَ مِنَ الْبَابِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: يَقْصِدُ بِصَدَقَتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ أَشَدَّهُمْ لَهُ عَدَاوَةً، لِيَتَأَلَّفَ قَلْبُهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ سُقُوطِ الرِّيَاءِ وَكَسْرِ النَّفْسِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْغَنِيِّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا، وَيُكْرَهُ لَهُ التَّعَرُّضُ لِأَخْذِهَا. قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : وَلَا يَحِلُّ لِلْغَنِيِّ أَخْذُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ مُظْهِرًا لِلْفَاقَةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الَّذِي مَاتَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوَجَدُوا لَهُ دِينَارَيْنِ، فَقَالَ: «كَيَّتَانِ مِنْ نَارٍ» . فَأَمَّا إِذَا سَأَلَ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَغَيْرُهُ: إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا، لَمْ يَحْرُمُ السُّؤَالُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِمَالٍ أَوْ صَنْعَةٍ، فَسُؤَالُهُ حَرَامٌ، وَمَا يَأْخُذُهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ. هَذَا لَفْظُ صَاحِبِ «الْحَاوِي» . وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ: أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِالْقَلِيلِ احْتِقَارًا لَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزَّلْزَلَةِ: 7] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخُصَّ بِصَدَقَتِهِ أَهْلَ الْخَيْرِ وَالْمُحْتَاجِينَ. وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِالْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْمَاءِ. وَمَنْ دَفَعَ إِلَى غُلَامِهِ أَوْ وَلَدِهِ وَنَحْوِهِمَا شَيْئًا لِيُعْطِيَهُ لِسَائِلٍ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ السَّائِلُ، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ دَفْعُهُ إِلَى ذَلِكَ السَّائِلِ، اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ لَا يَعُودَ فِيهِ، بَلْ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ مِنْ جِهَةِ مَنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ هِبَةٍ. وَلَا بَأْسَ بِهِ بِمِلْكِهِ مِنْهُ بِالْإِرْثِ، وَلَا بِتَمَلُّكِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ الصَّدَقَةَ بِطِيبِ نَفْسٍ وَبَشَاشَةِ وَجْهٍ، وَيَحْرُمُ الْمَنُّ بِهَا، وَإِذَا مَنَّ، بَطَلَ ثَوَابُهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِمَّا يُحِبُّهُ. قَالَ صَاحِبُ «الْمُعَايَاةِ» : لَوْ نَذَرَ

صَوْمًا أَوْ صَلَاةً فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ قَبْلَهُ، وَلَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، جَازَ التَّصَدُّقُ قَبْلَهُ، كَمَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ. وَمِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، مَسَائِلُ ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ فِي «الِإِحْيَاءِ» . مِنْهَا: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَنَّ الْمُحْتَاجَ، هَلِ الْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ أَوْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ؟ فَكَانَ الْجُنَيْدُ، وَالْخَوَاصُّ، وَجَمَاعَةٌ يَقُولُونَ: الْأَخْذُ مِنَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ، لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَى الْأَصْنَافِ، وَلِئَلَّا يُخِلَّ بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْأَخْذِ. وَأَمَّا الصَّدَقَةُ، فَأَمْرُهَا هَيِّنٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: الزَّكَاةُ أَفْضَلُ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى وَاجِبٍ، وَلَوْ تَرَكَ أَهْلُ الزَّكَاةِ كُلُّهُمْ أَخْذَهَا، أَثِمُوا، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا مِنَّةَ فِيهَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالصَّوَابُ. أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ. فَإِنْ عَرَضَ لَهُ شُبْهَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ، لَمْ يَأْخُذِ الزَّكَاةَ، وَإِنْ قُطِعَ بِاسْتِحْقَاقِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ إِنْ لَمْ يَأْخُذْ هَذَا، لَا يَتَصَدَّقُ، فَلْيَأْخُذِ الصَّدَقَةَ، فَإِنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ وَلَمْ يُضَيِّقْ بِالزَّكَاةِ، تَخَيَّرَ. وَأَخْذُ الزَّكَاةِ أَشَدُّ فِي كَسْرِ النَّفْسِ. وَذَكَرَ أَيْضًا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي إِخْفَاءِ أَخْذِ الصَّدَقَةِ وَإِظْهَارِهِ، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ فَضِيلَةٌ وَمَفْسَدَةٌ. ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخْذُ فِي الْمَلَاءِ، وَتَرْكُ الْأَخْذِ فِي الْخَلَاءِ، أَحْسَنُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الصيام.

كِتَابُ الصِّيَامِ. يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِاسْتِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، أَوْ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ، فَمَنْ رَأَى الْهِلَالَ بِنَفْسِهِ لَزِمَهُ الصَّوْمُ. وَمَنْ لَمْ يَرَهُ وَشَهِدَ بِالرُّؤْيَةِ عَدْلَانِ، لَزِمَهُ. وَكَذَا إِنْ شَهِدَ عَدْلٌ عَلَى الْأَظْهَرِ الْمَنْصُوصِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ. وَقِيلَ: يَلْزَمُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ قَطْعًا. وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ، فَلَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ فِيهِ. وَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَيَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَكِنَّهَا شَهَادَةٌ حِسِّيَّةٌ، لَا ارْتِبَاطَ لَهَا بِالدَّعْوَى، وَإِنْ قَبِلْنَا الْوَاحِدَ، فَهَلْ هُوَ بِطْرِيقِ الرِّوَايَةِ، أَمِ الشَّهَادَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: شَهَادَةٌ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ. نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» : وَإِذَا قُلْنَا: رِوَايَةٌ، قُبِلَا. وَهَلْ يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ؟ قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي كَوْنِهِ رِوَايَةً أَوْ شَهَادَةً. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ قَطْعًا. وَإِذَا قُلْنَا: رِوَايَةٌ، فَفِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْمَوْثُوقِ بِهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ:

الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ. وَقَالَ الْإِمَامُ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ رِوَايَةٌ: إِذَا أَخْبَرَهُ مَوْثُوقٌ بِهِ بِالرُّؤْيَةِ، لَزِمَ قَبُولُهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ الصَّوْمُ بِذَلِكَ إِذَا اعْتُقِدَ صِدْقُهُ. وَلَمْ يُفَرِّعُوهُ عَلَى شَيْءٍ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ، ابْنُ عَبْدَانَ، وَالْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْفَاسِقِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. وَلَكِنْ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْعَدَدَ، اشْتَرَطْنَا الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ. وَلَا فَرْقَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَوْ مُغِيمَةً. فَرْعٌ إِذَا صُمْنَا بِقَوْلٍ وَاحِدٍ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَلَمْ نَرَ الْهِلَالَ بَعْدَ ثَلَاثِينَ، فَهَلْ نُفْطِرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: نُفْطِرُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» . ثُمَّ الْوَجْهَانِ جَارِيَانِ، سَوَاءً كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، أَوْ مُغِيمَةً. هَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: الْوَجْهَانِ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُغِيمَةً، أَفْطَرْنَا قَطْعًا. وَلَوْ صُمْنَا بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ، وَلَمْ نَرَ الْهِلَالَ بَعْدَ ثَلَاثِينَ، فَإِنْ كَانَتْ مُغِيمَةً، أَفْطَرْنَا قَطْعًا، وَإِنْ كَانَتْ مُصْحِيَةً، أَفْطَرْنَا أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ، وَنُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» وَحَرْمَلَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا نُفْطِرُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَيْضًا. وَفَرَّعَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ فَقَالَ: لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ، وَلَمْ نَرَ الْهِلَالَ، وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ بَعْدَ ثَلَاثِينَ، قَضَيْنَا أَوَّلَ يَوْمٍ أَفْطَرْنَاهُ، لِأَنَّهُ بَانَ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ، لَكِنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِيهِ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَا قَضَاءَ.

فَرْعٌ هَلْ يَثْبُتُ هِلَالُ رَمَضَانَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْحُدُودِ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِثُبُوتِهِ كَالزَّكَاةِ وَإِتْلَافِ حُصُرِ الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الْحُدُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِسْقَاطِ. فَعَلَى هَذَا عَدَدُ الْفُرُوعِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأُصُولِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْعَدَدَ فِي الْأُصُولِ، فَحُكْمُ الْفُرُوعِ حُكْمُهُمْ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَلَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرِ الْعَدَدَ، فَإِنْ قُلْنَا: طَرِيقُهُ الرِّوَايَةُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَكْفِي وَاحِدٌ كَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ، وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ، فَعَلَى هَذَا، هَلْ يُشْتَرَطُ إِخْبَارُ حُرَّيْنِ ذَكَرَيْنِ، أَمْ يَكْفِي امْرَأَتَانِ أَوْ عَبْدَانِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَنَازَعَ الْإِمَامُ فِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي قَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ عَلَى قَوْلِنَا: رِوَايَةً. وَإِذَا قُلْنَا: طَرِيقُهُ الشَّهَادَةُ، فَهَلْ يَكْفِي وَاحِدٌ، أَمْ يُشْتَرَطُ اثْنَانِ؟ وَجْهَانِ. وَقُطِعَ فِي «التَّهْذِيبِ» بِاشْتِرَاطِ اثْنَيْنِ. فَرْعٌ لَا يَجِبُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ حِسَابُ الْمُنَجِّمِ، الصَّوْمُ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَكَذَا مَنْ عَرَفَ مَنَازِلَ الْقَمَرِ، لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَمَّا الْجَوَازُ، فَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمُنَجِّمِ فِي حِسَابِهِ، لَا فِي الصَّوْمِ، وَلَا فِي الْفِطْرِ، وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِحِسَابِ نَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ. وَجَعَلَ الرُّويَانِيُّ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا عُرِفَ مَنَازِلُ الْقَمَرِ وَعُلِمَ بِهِ وُجُودُ الْهِلَالِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْجَوَازَ اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْقَفَّالِ،

وَالْقَاضِي الطَّبَرِيِّ. قَالَ: فَلَوْ عُرِفَ بِالنُّجُومِ، لَمْ يَجُزِ الصَّوْمُ بِهِ قَطْعًا. وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْمُسَوِّدَاتِ، تَعْدِيَةَ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ إِلَى غَيْرِ الْمُنَجِّمِ. فَرْعٌ إِذَا قَبِلْنَا قَوْلَ الْوَاحِدِ فِي الصَّوْمِ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَا نُوقِعُ بِهِ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ الْمُعَلَّقَيْنِ بِهِلَالِ رَمَضَانَ، وَلَا نَحْكُمُ بِحُلُولِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إِلَيْهِ. فَرْعٌ لَا يَثْبُتُ هِلَالُ شَوَّالٍ، إِلَّا بِعَدْلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلٌ وَاحِدٌ. قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : وَلَوْ قُلْتُ بِهِ لَمْ أَكُنْ مُبْعِدًا. فَرْعٌ إِذَا رُئِيَ هِلَالُ رَمَضَانَ فِي بَلَدٍ، وَلَمْ يُرَ فِي الْآخَرِ، فَإِنْ تَقَارَبَ الْبَلَدَانِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ تَبَاعَدَا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ. وَفِي ضَبْطِ الْبُعْدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ التَّبَاعُدَ: أَنْ تَخْتَلِفَ الْمَطَالِعُ، كَالْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ. وَالتَّقَارُبُ: أَنْ لَا تَخْتَلِفَ، كَبَغْدَادَ، وَالْكُوفَةِ، وَالرَّيِّ، وَقَزْوِينَ. وَالثَّانِي: اعْتِبَارُهُ بِاتِّحَادِ الْإِقْلِيمِ وَاخْتِلَافِهِ. وَالثَّالِثُ: التَّبَاعُدُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ. وَبِهَذَا قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَادَّعَى الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنْ شُكَّ فِي اتِّفَاقِ الْمَطَالِعِ، لَمْ يَجِبِ الصَّوْمُ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ فِي بَلَدٍ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ لَمْ يُرَ فِيهِ الْهِلَالُ فِي يَوْمِهِ الْأَوَّلِ، وَاسْتَكْمَلَ ثَلَاثِينَ، فَإِنْ قُلْنَا: لِكُلِّ بَلَدٍ حُكْمُ نَفْسِهِ، لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَالثَّانِي: يُفْطِرُ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حُكْمَ الْأَوَّلِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَعُمُّ الْحُكْمُ جَمِيعَ الْبِلَادِ، لَزِمَ أَهْلَ الْبَلَدِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ مُوَافَقَتُهُ إِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ حَالُ الْبَلَدِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ، أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَعَلَيْهِمْ قَضَاءُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ سَافَرَ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي لَمْ يُرَ فِيهِ الْهِلَالُ إِلَى بَلَدٍ رُئِيَ فِيهِ، فَعَيَّدُوا الْيَوْمَ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَوْمِهِ، فَإِنْ عَمَّمْنَا الْحُكْمَ، أَوْ قُلْنَا: لَهُ حُكْمُ الْبَلَدِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ، عَيَّدَ مَعَهُمْ، وَقَضَى يَوْمًا. وَإِنْ لَمْ نَعُمَّ الْحُكْمَ وَقُلْنَا: لَهُ حُكْمُ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ الْفِطْرُ. وَلَوْ رَأَى الْهِلَالَ فِي بَلَدٍ فَأَصْبَحَ مُعَيِّدًا، فَسَارَتْ بِهِ السَّفِينَةُ إِلَى بَلَدٍ فِي حَدِّ الْبُعْدِ، فَصَادَفَ أَهْلَهَا صَائِمِينَ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَلْزَمُ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ إِذَا قُلْنَا: لِكُلِّ بَلَدِ حُكْمُهُ. وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ إِيجَابَهُ. وَتُتَصَوَّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي صُورَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ صَوْمِ أَهْلِ الْبَلَدَيْنِ، لَكِنَّ الْمُنْتَقَلَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَرَوْهُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ لِلْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِمْ لِتَأَخُّرِ صَوْمِهِمْ بِيَوْمٍ. وَإِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ فِي الصُّورَتَيْنِ، إِنْ لَمْ نُعَمِّمِ الْحُكْمَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَجَوَابُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، كَمَا أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ حُكْمَهُ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْمُنْتَقِلِ حُكْمَ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ. وَإِنْ عِمَّمْنَا الْحُكْمَ، فَأَهْلُ الْبَلَدِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ إِذَا عَرَفُوا فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ أَنَّهُ الْعِيدُ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ. وَإِنِ اتَّفَقَ هَذَا السَّفَرُ لِعَدْلَيْنِ وَقَدْ رَأَيَا الْهِلَالَ بِأَنْفُسِهِمَا، وَشَهِدَا فِي الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ، فَهَذَا عَيْنُ الشَّهَادَةِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَإِنْ عَمَّمْنَا الْحُكْمَ جَمِيعَ

فصل

الْبِلَادِ، لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْإِصْغَاءُ إِلَى كَلَامِهِمَا عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ، فَإِنْ قَبِلُوا قَضَوْا يَوْمًا. وَإِنْ لَمْ نُعَمِّمِ الْحُكْمَ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِهِمَا. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَأَصْبَحَ صَائِمًا، فَسَارَتْ بِهِ السَّفِينَةُ إِلَى قَوْمٍ عَيَّدُوا، فَإِنْ عَمَّمْنَا الْحُكْمَ، وَقُلْنَا: لَهُ حُكْمُ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ، أَفْطَرَ، وَإِلَّا، لَمْ يُفْطِرْ. وَإِذَا أَفْطَرَ، قَضَى يَوْمًا، إِذْ لَمْ يَصُمْ إِلَّا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. فَرْعٌ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ بِالنَّهَارِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، سَوَاءً كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ بَعْدَهُ. فَصْلٌ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ. وَلَا يُشْتَرَطُ النُّطْقُ بِلَا خِلَافٍ. وَتَجِبُ النِّيَّةُ لِكُلِّ يَوْمٍ. فَلَوْ نَوَى صَوْمَ الشَّهْرِ كُلِّهِ، فَهَلْ يَصِحُّ صَوْمُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ؟ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ عَبْدَانَ، وَتَرَدَّدَ فِيهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، سَوَاءٌ فِيهِ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرُ، وَالْكَفَّارَةُ، وَغَيْرُهَا. وَلَنَا وَجْهٌ حَكَاهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ: أَنَّهُ يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَكَمَالُ النِّيَّةِ فِي رَمَضَانَ: أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ غَدٍ عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا الصَّوْمُ وَكَوْنُهُ عَنْ رَمَضَانَ، فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا وَجْهَ الْحَلِيمِيِّ. وَأَمَّا الْأَدَاءُ وَالْفَرْضِيَّةُ وَالْإِضَافَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَفِيهَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمَّا رَمَضَانُ هَذِهِ السَّنَةِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ. وَحَكَى الْإِمَامُ فِي «اشْتِرَاطِهِ» وَجْهًا وَزَيَّفَهُ، وَحَكَى صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَجْهَيْنِ فِي

أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ مِنْ فَرْضِ هَذَا الشَّهْرِ، أَمْ يَكْفِي فَرْضُ رَمَضَانَ؟ وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ. فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ التَّعَرُّضُ لِلْيَوْمِ، لَمْ يَضُرَّ الْخَطَأُ فِي أَوْصَافِهِ. فَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ صَوْمَ الْغَدِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، أَوْ نَوَى رَمَضَانَ السَّنَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَكَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ، صَحَّ صَوْمُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى صَوْمَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ، أَوْ رَمَضَانَ سَنَةِ ثَلَاثٍ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الْوَقْتَ. ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الْغَدِ، أَشْهَرُ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي تَفْسِيرِ التَّعْيِينِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِنْ حَدِّ التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ نَظَرِهِمْ إِلَى التَّبْيِيتِ. وَلَا يَخْفَى مِمَّا ذَكَرْنَاهُ قِيَاسُ التَّعْيِينِ فِي الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ، فَيَصِحُّ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ. فَرْعٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَكَارِمِ فِي «الْعُدَّةِ» : لَوْ قَالَ: أَتَسَحَّرُ لِأَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ، لَمْ يَكْفِ هَذَا فِي النِّيَّةِ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ «نَوَادِرِ الْأَحْكَامِ» لِأَبِي الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَتَسَحَّرُ لِلصَّوْمِ، أَوْ شَرِبَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ نَهَارًا، أَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ. كَانَ ذَلِكَ نِيَّةً لِلصَّوْمِ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ إِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ الصَّوْمُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لَهَا، لِأَنَّهُ إِذَا تَسَحَّرَ لِيَصُومَ صَوْمَ كَذَا، فَقَدْ قَصَدَهُ. فَرْعٌ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، فَلَوْ نَوَى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَوْمَ الْغَدِ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ نَوَى مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا تَخْتَصُّ النِّيَّةُ بِالنِّصْفِ

الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا تَبْطُلُ بِالْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بُطْلَانُهَا، وَوُجُوبُ تَجْدِيدِهَا. وَأَنْكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ نِسْبَةَ هَذَا إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَالَ الْإِمَامُ: رَجَعَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ هَذَا عَامَ حَجَّ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ. فَإِنْ ثَبَتَ أَحَدُ هَذَيْنِ، فَلَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَلَوْ نَوَى وَنَامَ وَانْتَبَهَ وَاللَّيْلُ بَاقٍ، لَمْ يَجِبْ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِي كَلَامِ الْعِرَاقِيِّينَ تَرَدُّدٌ فِي كَوْنِ الْغَفْلَةِ، كَالنَّوْمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُطْرَحٌ. فَرْعٌ يَصِحُّ صَوْمُ النَّفْلِ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ: لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ اللَّيْلِ، وَهَلْ يَصِحُّ بَعْدَ الزَّوَالِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي مُعْظَمِ كُتُبِهِ: لَا يَصِحُّ. وَفِي حَرْمَلَةَ: أَنَّهُ يَصِحُّ. قُلْتُ: وَعَلَى نَصِّهِ فِي حَرْمَلَةَ: يَصِحُّ فِي جَمِيعِ سَاعَاتِ النَّهَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ، وَصَحَّحْنَاهُ، فَهَلْ هُوَ صَائِمٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ حَتَّى يَنَالَ ثَوَابَ جَمِيعِهِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ. كَمَا إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ، يَكُونُ مُدْرِكًا لِثَوَابِ جَمِيعِ الرَّكْعَةِ. فَإِذَا قُلْنَا بِهَذَا، اشْتُرِطَ جَمِيعُ شُرُوطِ الصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَإِذَا قُلْنَا: يُثَابُ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ، فَفِي اشْتِرَاطِ خُلُوِّ الْأَوَّلِ عَنِ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: الِاشْتِرَاطُ، وَالثَّانِي: لَا، وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي زَيْدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ خُلُوُّ أَوَّلِهِ عَنِ الْكُفْرِ وَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ، أَمْ يَصِحُّ صَوْمُ مَنْ أَسْلَمَ، أَوْ أَفَاقَ، أَوْ طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ ضَحْوَةً؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاشْتِرَاطُ.

فَرْعٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ جَازِمَةً، فَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَنْ يَصُومَ غَدًا إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَهُ حَالَانِ. الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَعْتَقِدَهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُنْظَرُ، إِنْ رَدَّدَ نِيَّتَهُ فَقَالَ: أَصُومُ غَدًا عَنْ رَمَضَانَ إِنْ كَانَ مِنْهُ، وَإِلَّا، فَأَنَا مُفْطِرٌ، أَوْ فَأَنَا مُتَطَوِّعٌ، لَمْ يَقَعْ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ إِذَا بَانَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ صَامَ شَاكًّا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ. وَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ غَدٍ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِلَّا فَهُوَ مُفْطِرٌ، أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ رَمَضَانَ. وَلَوْ قَالَ: أَصُومُ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ تَطَوُّعًا، أَوْ أَصُومُ، أَوْ أُفْطِرُ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ لَا فِي الْأَوَّلِ وَلَا فِي الْآخَرِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُرَدِّدْ نِيَّتَهُ، بَلْ جَزَمَ بِالصَّوْمِ عَنْ رَمَضَانَ، فَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ، لِأَنَّهُ ذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ مِنْ رَمَضَانَ، لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ الْجَزْمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ حَدِيثُ نَفْسٍ لَا اعْتِبَارَ بِهِ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» حِكَايَةُ وَجْهٍ: أَنَّهُ يَصِحُّ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَ كَوْنَهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَنِدِ اعْتِقَادُهُ إِلَى مَا يُثِيرُ ظَنًّا، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَإِنِ اسْتَنَدَ إِلَيْهِ، بِأَنِ اعْتَمَدَ قَوْلَ مَنْ يَثِقُ بِهِ، مِنْ حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ، أَوِ امْرَأَةٍ، أَوْ صَبِيَّيْنِ ذَوِي رُشْدٍ، وَنَوَى صَوْمَهُ عَنْ رَمَضَانَ، أَجْزَأَهُ إِذَا بَانَ مِنْ رَمَضَانَ. فَإِنْ قَالَ فِي نِيَّتِهِ وَالْحَالَةِ هَذِهِ: أَصُومُ عَنْ رَمَضَانَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ، فَهُوَ تَطَوُّعٌ، فَظَاهِرُ النَّصِّ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ إِذَا بَانَ مِنْ رَمَضَانَ، لِلتَّرَدُّدِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَصِحُّ، لِاسْتِنَادِهِ إِلَى أَصْلٍ. وَرَأَى الْإِمَامُ طَرْدَ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا جَزَمَ. وَيَدْخُلُ فِي قِسْمِ اسْتِنَادِ الِاعْتِقَادِ إِلَى مَا يُثِيرُ ظَنًّا بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْحِسَابِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ.

وَمِنْهَا: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، أَوْ وَاحِدٍ، إِذَا جَوَّزْنَاهُ، وَجَبَ الصَّوْمُ، وَلَا يَضُرُّ مَا قَدْ تَبَقَّى مِنَ الِارْتِيَابِ. وَمِنْهَا: الْمَحْبُوسُ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ، فَاجْتَهَدَ، صَامَ شَهْرًا بِالِاجْتِهَادِ. وَلَا يَكْفِيهِ صَوْمُ شَهْرٍ بِلَا اجْتِهَادٍ وَإِنْ وَافَقَ رَمَضَانَ. ثُمَّ إِذَا اجْتَهَدَ فَصَامَ شَهْرًا، فَإِنْ وَافَقَ رَمَضَانَ، فَذَاكَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ، أَجْزَأَهُ قَطْعًا، وَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى الثَّانِي: أَدَاءً. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، وَرَمَضَانُ تَامًّا. إِنْ قُلْنَا: قَضَاءٌ، لَزِمَهُ يَوْمٌ آخَرُ، وَإِنْ قُلْنَا: أَدَاءٌ، فَلَا، كَمَا لَوْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا. وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَإِنْ قُلْنَا: قَضَاءٌ، فَلَهُ إِفْطَارُ الْيَوْمِ الْآخَرِ. وَإِنْ قُلْنَا: أَدَاءٌ، فَلَا، وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَوَّالًا، حَصَلَ مِنْهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ إِنْ كَمُلَ، أَوْ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ إِنْ نَقَصَ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ قَضَاءً، وَكَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَيَقْضِي يَوْمًا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا، قَضَى يَوْمًا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَيَوْمَيْنِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ أَدَاءً، فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ بِكُلِّ حَالٍ. وَإِنْ وَافَقَ ذَا الْحِجَّةِ، حَصَلَ مِنْهُ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا إِنْ كَمُلَ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ إِنْ نَقَصَ. فَإِنْ جَعَلْنَاهُ قَضَاءً، وَكَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا، قَضَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَأَرْبَعَةً عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ كَامِلًا، قَضَى أَرْبَعَةً عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَخَمْسَةً عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ أَدَاءً، قَضَى أَرْبَعَةً بِكُلِّ حَالٍ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَصِحُّ بِحَالٍ، فَإِنْ صَحَّحْنَا صَوْمَهَا لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ، فَذُو الْحِجَّةِ كَشَوَّالٍ. أَمَّا إِذَا اجْتَهَدَ فَوَافَقَ صِيَامُهُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ، فَيُنْظَرُ، إِنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بَعْدَ بَيَانِ الْحَالِ، لَزِمَهُ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ لَمْ يَبِنِ الْحَالُ إِلَّا بَعْدَ مُضِيِّ رَمَضَانَ، فَطَرِيقَانِ. أَشْهَرُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ: وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَالْقَدِيمِ: لَا قَضَاءَ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ. فَإِنْ بَانَ الْحَالُ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِوُجُوبِ قَضَاءِ مَا مَضَى. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ فِي إِجْزَائِهِ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا بَانَ بَعْدَ مُضِيِّ جَمِيعِ رَمَضَانَ.

فَرْعٌ إِذَا نَوَتِ الْحَائِضُ صَوْمَ الْغَدِ قَبْلَ انْقِطَاعِ دَمِهَا، ثُمَّ انْقَطَعَ فِي اللَّيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدِأَةً يَتِمُّ لَهَا بِاللَّيْلِ أَكْثَرُ الْحَيْضِ، أَوْ مُعْتَادَةً عَادَتُهَا أَكْثَرُ الْحَيْضِ، وَهُوَ يَتِمُّ بِاللَّيْلِ، صَحَّ صَوْمُهَا. وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا دُونَ أَكْثَرِهِ، وَيَتِمُّ بِاللَّيْلِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ عَادَتِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ، وَلَا يَتِمُّ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فِي اللَّيْلِ، أَوْ كَانَ لَهَا عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَمْ يَصِحَّ. فَرْعٌ إِذَا نَوَى الِانْتِقَالَ مِنْ صَوْمٍ إِلَى صَوْمٍ، لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ، وَهَلْ يَبْطُلُ صَوْمُهُ، أَمْ يَبْقَى نَفْلًا؟ وَجْهَانِ. وَكَذَا لَوْ رَفَضَ نِيَّةَ الْفَرْضِ عَنِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ. وَاعْلَمْ أَنَّ انْقِلَابَهُ نَفْلًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، إِنَّمَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَإِلَّا، فَرَمَضَانُ لَا يَقْبَلُ النَّفْلَ عِنْدَنَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهِلِ الْفَرْضِ بِحَالٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ: إِذَا جَاءَ فُلَانٌ، خَرَجْتُ مِنْ صَوْمِي، فَهَلْ يَخْرُجُ عِنْدَ مَجِيئِهِ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَخْرُجُ، فَهَلْ يَخْرُجُ فِي الْحَالِ؟ وَجْهَانِ. وَالْمَذْهَبُ: لَا يَبْطُلُ فِي الْحَالَيْنِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ.

فصل

فَصْلٌ لَا بُدَّ لِلصَّائِمِ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ. مِنْهَا: الْجِمَاعُ، وَهُوَ مُفْطِرٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَمِنْهَا: الِاسْتِمْنَاءُ، وَهُوَ مُفْطِرٌ. وَمِنْهَا: الِاسْتِقَاءَةُ، فَمَنْ تَقَيَّأَ عَمْدًا، أَفْطَرَ. وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ، لَمْ يُفْطِرْ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ الْفِطْرِ إِذَا تَقَيَّأَ عَمْدًا، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ نَفْسَ الِاسْتِقَاءَةِ مُفْطِرَةٌ كَالْإِنْزَالِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُفْطِرَ رُجُوعُ شَيْءٍ مِمَّا خَرَجَ وَإِنْ قَلَّ. فَلَوْ تَقَيَّأَ مَنْكُوسًا، أَوْ تَحَفَّظَ، فَاسْتَيْقَنَ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ شَيْءٌ إِلَى جَوْفِهِ، فَفِي فِطْرِهِ الْوَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: فَلَوِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا، أَوْ تَحَفَّظَ جُهْدَهُ، فَغَلَبَهُ الْقَيْءُ وَرَجَعَ شَيْءٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الِاسْتِقَاءَةُ مُفْطِرَةٌ بِنَفْسِهَا، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ إِذَا سَبَقَ الْمَاءُ إِلَى جَوْفِهِ. فَرْعٌ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ دُخُولُ شَيْءٍ فِي جَوْفِهِ - وَقَدْ ضَبَطُوا الدَّاخِلَ الْمُفْطِرَ بِالْعَيْنِ الْوَاصِلَةِ - الظَّاهِرُ إِلَى الْبَاطِنِ فِي مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ عَنْ قَصْدٍ مَعَ ذِكْرِ الصَّوْمِ. وَفِيهِ قُيُودٌ: مِنْهَا الْبَاطِنُ الْوَاصِلُ إِلَيْهِ. وَفِيمَا يُعْتَبَرُ بِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَوْفِ، وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قُوَّةٌ تُحِيلُ الْوَاصِلَ إِلَيْهِ مِنْ غِذَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَلْقَ كَالْجَوْفِ فِي بُطْلَانِ الصَّوْمِ بِوُصُولِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِذَا جَاوَزَ الشَّيْءُ الْحُلْقُومَ، أَفْطَرَ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا بَاطِنُ الدِّمَاغِ وَالْبَطْنُ وَالْأَمْعَاءُ وَالْمَثَانَةُ، مِمَّا يُفْطِرُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى بَطْنِهِ جَائِفَةٌ، أَوْ بِرَأْسِهِ

مَأْمُومَةٌ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا دَوَاءً فَوَصَلَ جَوْفَهُ أَوْ خَرِيطَةَ دِمَاغِهِ، أَفْطَرَ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ بَاطِنَ الْأَمْعَاءِ أَوْ بَاطِنَ الْخَرِيطَةِ، وَسَوَاءً كَانَ الدَّوَاءُ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْمَثَانَةِ لَا يُفْطِرُ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَالْحُقْنَةُ تُفْطِرُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا تُفْطِرُ، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالسَّعُوطُ إِنْ وَصَلَ الدِّمَاغَ، فَطَرَ. وَمَا جَاوَزَ الْخَيْشُومَ فِي الْإِسْعَاطِ، فَقَدْ حَصَلَ فِي حَدِّ الْبَاطِنِ وَدَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ إِلَى مُنْتَهَى الْغَلْصَمَةِ. وَالْخَيْشُومُ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، حَتَّى لَوْ خَرَجَ إِلَيْهِ الْقَيْءُ وَابْتَلَعَ مِنْهُ نُخَامَةً، أَفْطَرَ، وَلَوْ أَمْسَكَ فِيهِ شَيْئًا، لَمْ يُفْطِرْ، وَلَوْ نَجِسَ، وَجَبَ غَسْلُهُ، وَلَهُ حُكْمُ الْبَاطِنِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَوِ ابْتَلَعَ مِنْهُ الرِّيقَ لَا يُفْطِرُ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ عَلَى الْجُنُبِ. فَرْعٌ لَا بَأْسَ بِالِاكْتِحَالِ لِلصَّائِمِ، سَوَاءٌ وَجَدَ فِي حَلْقِهِ مِنْهُ طَعْمًا، أَمْ لَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَتْ بِجَوْفٍ، وَلَا مَنْفَذَ مِنْهَا إِلَى الْحَلْقِ. وَلَوْ قَطَرَ فِي أُذُنِهِ شَيْئًا فَوَصَلَ إِلَى الْبَاطِنِ، أَفْطَرَ عَلَى الْأَصَحِّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، كَالسَّعُوطِ، وَالثَّانِي: لَا يُفْطِرُ كَالِاكْتِحَالِ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْفُورَانِيُّ. وَلَوْ قَطَرَ فِي إِحْلِيلِهِ شَيْئًا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْمَثَانَةِ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يُفْطِرُ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ جَاوَزَ الْحَشَفَةَ، أَفْطَرَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَا يُفْطِرُ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ، لَكِنْ يُكْرَهَانِ لِلصَّائِمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُفْطِرُ بِالْحِجَامَةِ.

فَرْعٌ لَوْ أَوْصَلَ الدَّوَاءَ إِلَى دَاخِلِ لَحْمِ السَّاقِ، أَوْ غُرِزَ فِيهِ السِّكِّينُ فَوَصَلَتْ مُخَّهُ، لَمْ يُفْطِرْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ عُضْوًا مُجَوَّفًا. وَلَوْ طَلَى رَأْسَهُ أَوْ بَطْنَهُ بِالدُّهْنِ فَوَصَلَ جَوْفَهُ بِشُرْبِ الْمَسَامِّ، لَمْ يُفْطِرْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ، كَمَا لَا يُفْطِرُ بِالِاغْتِسَالِ وَالِانْغِمَاسِ فِي الْمَاءِ وَإِنْ وَجَدَ لَهُ أَثَرًا فِي بَاطِنِهِ. وَلَوْ طَعَنَ نَفْسَهُ، أَوْ طَعَنَهُ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ، فَوَصَلَ السِّكِّينُ جَوْفَهُ، أَفْطَرَ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْضُ السِّكِّينِ خَارِجًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَكَذَا لَوِ ابْتَلَعَ طَرَفَ خَيْطٍ وَطَرَفُهَا الْآخَرُ بَارِزٌ، أَفْطَرَ بِوُصُولِ الطَّرَفِ الْوَاصِلِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الِانْفِصَالُ مِنَ الظَّاهِرِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا فِيمَنْ أُدْخِلَ طَرَفُ خَيْطٍ فِي دُبُرِهِ أَوْ جَوْفِهِ، وَبَعْضُهُ خَارِجٌ: أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ. فَرْعٌ لَوِ ابْتَلَعَ طَرَفَ خَيْطٍ بِاللَّيْلِ، وَطَرَفُهُ الْآخَرُ خَارِجٌ، فَأَصْبَحَ كَذَلِكَ، فَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَإِنْ نَزَعَهُ أَوِ ابْتَلَعَهُ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ غَيْرُهُ إِلَى نَزْعِهِ وَهُوَ غَافِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ، فَالْأَصَحُّ: أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الصَّلَاةِ فَيَنْزَعُهُ أَوْ يَبْتَلِعُهُ، وَالثَّانِي: يَتْرُكُهُ مُحَافَظَةً عَلَى الصَّوْمِ، وَيُصَلِّي عَلَى حَالِهِ. قُلْتُ: وَيَجِبُ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ مِنْ قُيُودِ الْمُفْطِرِ وُصُولُهُ بِقَصْدٍ، فَلَوْ طَارَتْ ذُبَابَةٌ إِلَى حَلْقِهِ، أَوْ وَصَلَ غُبَارُ الطَّرِيقِ، أَوْ غَرْبَلَةُ الدَّقِيقِ إِلَى جَوْفِهِ، لَمْ يُفْطِرْ. فَلَوْ فَتَحَ فَاهُ عَمْدًا حَتَّى دَخَلَ الْغُبَارُ جَوْفَهُ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ رُبِطَتِ الْمَرْأَةُ وَوُطِئَتْ، أَوْ طُعِنَ أَوْ أُوجِرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، لَمْ يُفْطِرْ. وَنَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ وَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا أُوجِرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَهَذَا غَرِيبٌ. فَلَوْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَأُوجِرَ مُعَالَجَةً وَإِصْلَاحًا لَهُ، وَقُلْنَا: لَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِمُجَرَّدِ الْإِغْمَاءِ، فَفِي بُطْلَانِهِ بِهَذَا الْإِيجَارِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يُفْطِرُ. وَنَظِيرُ الْخِلَافِ إِذَا عُولِجَ الْمُحْرِمُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ، هَلْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ؟ . فَرْعٌ ابْتِلَاعُ الرِّيقِ لَا يُفْطِرُ بِشُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَمَحَّضَ الرِّيقَ، فَلَوِ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ وَتَغَيَّرَ بِهِ، أَفْطَرَ بِابْتِلَاعِهِ، سَوَاءً كَانَ الْغَيْرُ طَاهِرًا، كَمَنْ فَتَلَ خَيْطًا مَصْبُوغًا تَغَيَّرَ بِهِ رِيقُهُ، أَوْ نَجِسًا كَمَنْ دَمِيَتْ لَثَتُهُ وَتَغَيَّرَ رِيقُهُ، فَلَوْ ذَهَبَ الدَّمُ، وَابْيَضَّ الرِّيقُ، وَلَمْ يَبْقَ تَغَيُّرٌ، هَلْ يُفْطِرُ بِابْتِلَاعِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يُفْطِرُ، لِأَنَّهُ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ ابْتِلَاعُهُ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ تَنَاوَلَ بِاللَّيْلِ شَيْئًا نَجِسًا، وَلَمْ يَغْسِلْ فَمَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، فَابْتَلَعَ الرِّيقَ، أَفْطَرَ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَبْتَلِعَهُ مِنْ مَعِدَتِهِ، فَلَوْ خَرَجَ عَنْ فِيهِ ثُمَّ رَدَّهُ بِلِسَانِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَابْتَلَعَهُ، أَفْطَرَ. وَلَوْ أَخْرَجَ لِسَانَهُ وَعَلَيْهِ الرِّيقُ، ثُمَّ رَدَّهُ وَابْتَلَعَ مَا عَلَيْهِ، لَمْ يُفْطِرْ عَلَى

الْأَصَحِّ. وَلَوْ بَلَّ الْخَيَّاطُ الْخَيْطَ بِالرِّيقِ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى فِيهِ عَلَى مَا يَعْتَادُ عِنْدَ الْفَتْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رُطُوبَةٌ تَنْفَصِلُ، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَتْ وَابْتَلَعَهَا، فَوَجْهَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يُفْطِرُ، كَمَا لَا يُفْطِرُ بِالْبَاقِي مِنْ مَاءِ الْمَضْمَضَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُفْطِرُ، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، وَقَدِ ابْتَلَعَهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ مَعِدَتَهُ. وَخَصَّ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» الْوَجْهَيْنِ بِمَا إِذَا كَانَ جَاهِلًا تَحْرِيمَ ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ عَالِمًا، أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْتَلِعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الْمُعْتَادَةِ، فَإِنْ جَمَعَهُ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يُفْطِرُ. فَرْعٌ النُّخَامَةُ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ فِي حَدِّ الظَّاهِرِ مِنَ الْفَمِ، فَلَا تَضُرُّ، وَإِنْ حَصَلَتْ فِيهِ بِانْصِبَابِهَا مِنَ الدِّمَاغِ فِي الثُّقْبَةِ النَّافِذَةِ مِنْهُ إِلَى أَقْصَى الْفَمِ فَوْقَ الْحُلْقُومِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَرْفِهَا وَمَجِّهَا حَتَّى نَزَلَتْ إِلَى الْجَوْفِ. لَمْ تَضُرُّ، وَإِنْ رَدَّهَا إِلَى فَضَاءِ الْفَمِ، أَوِ ارْتَدَتْ إِلَيْهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهَا، أَفْطَرَ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَطْعِهَا مِنْ مَجْرَاهَا، فَتَرَكَهَا حَتَّى جَرَتْ بِنَفْسِهَا، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، أَوْفَقُهُمَا لِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّهُ يُفْطِرُ لِتَقْصِيرِهِ. فَرْعٌ إِذَا تَمَضْمَضَ فَسَبَقَ الْمَاءُ إِلَى جَوْفِهِ، أَوِ اسْتَنْشَقَ فَسَبَقَ إِلَى دِمَاغِهِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ بَالَغَ فِيهِمَا، أَفْطَرَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَقِيلَ: يُفْطِرُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: عَكْسُهُ. هَذَا إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ، فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا، لَمْ يُفْطِرْ بِحَالٍ. وَسَبْقُ الْمَاءِ عِنْدَ غَسْلِ الْفَمِ لِنَجَاسَةٍ، كَسَبْقِهِ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالْمُبَالَغَةُ هُنَا لِلْحَاجَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ

كَالْمَضْمَضَةِ بِلَا مُبَالَغَةٍ. وَلَوْ سَبَقَ الْمَاءُ عِنْدَ غُسْلِ تَبَرُّدٍ، أَوْ مِنَ الْمَضْمَضَةِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِنْ بَالَغَ أَفْطَرَ، وَإِلَّا فَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَضْمَضَةِ، وَأَوْلَى بِالْإِفْطَارِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، الْجَزْمُ بِالْإِفْطَارِ كَالْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَلَوْ جَعَلَ الْمَاءَ فِي فَمِهِ لَا لِغَرَضٍ، فَسَبَقَ، فَقِيلَ: يُفْطِرُ. وَقِيلَ بِالْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ أَصْبَحَ وَلَمْ يَنْوِ صَوْمًا، فَتَمَضْمَضَ وَلَمْ يُبَالِغْ، فَسَبَقَ الْمَاءُ إِلَى جَوْفِهِ ثُمَّ نَوَى صَوْمَ تَطَوُّعٍ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي «فَتَاوِيهِ» : إِنْ قُلْنَا: هَذَا السَّبْقُ لَا يُفْطِرُ، صَحَّ، وَإِلَّا، فَلَا. قَالَ: وَالْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا بَقِيَ طَعَامٌ فِي خَلَلِ أَسْنَانِهِ، فَابْتَلَعَهُ عَمْدًا، أَفْطَرَ. وَإِنْ جَرَى بِهِ الرِّيقُ بِغَيْرِ قَصْدٍ، فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ. وَالرَّبِيعُ: أَنَّهُ يُفْطِرُ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَالْأَصَحُّ حَمْلُهَا عَلَى حَالَتَيْنِ، فَحَيْثُ قَالَ: لَا يُفْطِرُ، أَرَادَ بِهِ مَا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ. وَحَيْثُ قَالَ: يُفْطِرُ، أَرَادَ بِهِ مَا إِذَا قَدَرَ فَلَمْ يَفْعَلْ وَابْتَلَعَهُ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: إِنْ نَقَّى أَسْنَانَهُ بِالْخِلَالِ عَلَى الْعَادَةِ، (فَهُوَ) كَغُبَارِ الطَّرِيقِ، وَإِلَّا، أَفْطَرَ لِتَقْصِيرِهِ، كَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يُنَازِعَهُمَا فِي إِلْحَاقِهِ بِالْمُبَالَغَةِ الَّتِي وَرَدَ النَّصُّ بِكَرَاهَتِهَا، وَلِأَنَّ مَاءَ الْمُبَالَغَةِ أَقْرَبُ إِلَى الْجَوْفِ. فَرْعٌ الْمَنِيُّ إِذَا خَرَجَ بِالِاسْتِمْنَاءِ، أَفْطَرَ، وَإِنْ خَرَجَ بِمُجَرَّدِ فِكْرٍ وَنَظَرٍ بِشَهْوَةٍ، لَمْ يُفْطِرْ، وَإِنْ خَرَجَ بِمُبَاشَرَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ لَمْسٍ أَوْ قُبْلَةٍ، أَفْطَرَ. هَذَا هُوَ

الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ شَيْخِهِ: أَنَّهُ حَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا ضَمَّ امْرَأَةً إِلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ، فَأَنْزَلَ. قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي كَسَبْقِ مَاءِ الْمَضْمَضَةِ، فَإِنْ ضَاجَعَهَا مُتَجَرِّدًا، فَكَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ. فَرْعٌ تُكْرَهُ الْقُبْلَةُ لِمَنْ حَرَّكَتْ شَهْوَتَهُ وَلَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالثَّانِي: كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَلَا تُكْرَهُ لِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهَا. فَرْعٌ لَوِ اقْتَلَعَ نُخَامَةً مِنْ بَاطِنِهِ وَلَفَظَهَا، لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْحَنَّاطِيُّ وَكَثِيرُونَ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِيهِ وَجْهَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ الْغَزَالِيَّ جَعَلَ مَخْرَجَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْبَاطِنِ، وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الظَّاهِرِ. وَوَجْهُهُ لَائِحٌ، فَإِنَّ الْمُهْمَلَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْحَلْقِ، وَالْحَلْقُ بَاطِنٌ، وَالْمُعْجَمَةُ تَخْرُجُ مِمَّا قَبْلَ الْغَلْصَمَةِ، لَكِنْ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَدْرٌ مِمَّا بَعْدَ مَخْرَجِ الْمُهْمِلَةِ مِنَ الظَّاهِرِ أَيْضًا. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُهْمَلَةَ أَيْضًا مِنَ الظَّاهِرِ، وَعَجَبٌ كَوْنُهُ ضَبَطَهُ بِالْمُهْمَلَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ وَسَطِ الْحَلْقِ، وَلَمْ يَضْبُطْهُ بِالْهَاءِ أَوِ الْهَمْزَةِ، فَإِنَّهُمَا مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ. وَأَمَّا الْمُعْجَمَةُ، فَمِنْ أَدْنَى الْحَلْقِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِالْإِيجَارِ مُكْرَهًا عَلَى الْمَذْهَبِ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ، لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى الْوَطْءِ، أَوْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ، وَقُلْنَا: يُتَصَوَّرُ إِكْرَاهُهُ، وَلَكِنْ لَا كَفَّارَةَ وَإِنْ حَكَمْنَا بِالْفِطْرِ لِلشَّبَهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ، أَفْطَرَ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. وَإِنْ أَكَلَ نَاسِيًا، فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، لَمْ يُفْطِرْ قَطْعًا، وَإِنْ كَثُرَ، فَوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْكَلَامِ الْكَثِيرِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ هُنَا: أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ أَكَلَ جَاهِلًا بِكَوْنِهِ مُفْطِرًا، فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ وَكَانَ يَجْهَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، لَمْ يُفْطِرْ، وَإِلَّا أَفْطَرَ. وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا، لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ قَوْلَانِ: كَجِمَاعِ الْمُحْرِمِ نَاسِيًا. وَلَوْ أَكَلَ ظَانًّا غُرُوبَ الشَّمْسِ، فَبَانَتْ طَالِعَةً، أَوْ ظَنَّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، فَبَانَ طَالِعًا، أَفْطَرَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: لَا يُفْطِرُ فِيهِمَا، قَالَهُ الْمُزَنِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَقِيلَ: يُفْطِرُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْأُولَى. فَرْعٌ الْأَحْوَطُ لِلصَّائِمِ، أَنْ لَا يَأْكُلَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ غُرُوبَ الشَّمْسِ، فَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْغُرُوبُ بِاجْتِهَادٍ بِوِرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، جَازَ لَهُ الْأَكْلُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا يَجُوزُ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْيَقِينِ بِالصَّبْرِ. وَأَمَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ، فَيَجُوزُ الْأَكْلُ بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الظَّنِّ. فَلَوْ هَجَمَ فِي الطَّرَفَيْنِ، فَأَكَلَ بِلَا ظَنٍّ، فَإِنْ

تَبَيَّنَ الْخَطَأُ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ، وَإِنْ تَبَيَّنَ الصَّوَابُ. اسْتَمَرَّتْ صِحَّةُ الصَّوْمِ، وَإِنْ لَمْ يَبِنِ الْخَطَأُ وَلَا الصَّوَابُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ، فَلَا قَضَاءَ، اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ فِيهِمَا. وَلَوْ أَكَلَ فِي آخِرِ النَّهَارِ بِالِاجْتِهَادِ، وَقُلْنَا: لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ، كَانَ كَمَنْ أَكَلَ بِالِاجْتِهَادِ. قُلْتُ: وَالْأَكْلُ هُجُومًا بِلَا ظَنٍّ حَرَامٌ فِي آخِرِ النَّهَارِ قَطْعًا، وَجَائِزٌ فِي أَوَّلِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ: لَا يَجُوزُ، وَمِثْلُهُ فِي «التَّتِمَّةِ» ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُبَاحًا مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، بَلِ الْأَوْلَى تَرْكُهُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَخَلَائِقُ بِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى الشَّاكِّ الْأَكْلُ وَغَيْرُهُ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ. . .) . [الْبَقَرَةِ: 187] وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «كُلْ مَا شَكَكْتَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ، فَلْيَلْفُظْهُ، وَيَصِحُّ صَوْمُهُ، فَإِنِ ابْتَلَعَهُ، أَفْطَرَ. فَلَوْ لَفَظَ فِي الْحَالِ، فَسَبَقَ شَيْءٌ إِلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ سَبْقِ الْمَاءِ فِي الْمَضْمَضَةِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: لَا يُفْطِرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ طَلَعَ وَهُوَ مَجَامِعٌ، فَنَزَعَ فِي الْحَالِ، صَحَّ صَوْمُهُ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ صُوَرٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَحُسَّ بِالْفَجْرِ وَهُوَ مَجَامِعٌ، فَنَزَعَ بِحَيْثُ يُوَافِقُ آخِرُ نَزْعِهِ الطُّلُوعَ.

فصل

وَالثَّانِيَةُ: يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَهُوَ مَجَامِعٌ، وَيَعْلَمُ بِالطُّلُوعِ فِي أَوَّلِهِ، فَيَنْزِعُ فِي الْحَالِ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَمْضِيَ زَمَنٌ بَعْدَ الطُّلُوعِ، ثُمَّ يَعْلَمُ بِهِ. أَمَّا هَذِهِ الثَّالِثَةُ، فَلَيْسَتْ مُرَادَةً بِالنَّصِّ، بَلْ يَبْطُلُ فِيهَا الصَّوْمُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيَجِيءُ فِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنْ أَكَلَ ظَانًّا أَنَّ الصُّبْحَ لَمْ يَطْلُعْ، فَبَانَ خِلَافُهُ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَوْ مَكَثَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مُكْثَهُ مَسْبُوقٌ بِبُطْلَانِ الصَّوْمِ. وَأَمَّا الصُّورَتَانِ الْأُولَيَانِ، فَمُرَادَتَانِ بِالنَّصِّ، فَلَا يُبْطِلَانِ الصَّوْمَ فِيهِمَا. وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يَبْطُلُ. وَأَمَّا إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَعَلِمَ بِمُجَرَّدِ الطُّلُوعِ، فَمَكَثَ، فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ قَطْعًا، وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ. وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَاسْتَدَامَ، فَهُوَ كَالْمَاكِثِ بَعْدَ الطُّلُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْلَمُ الْفَجْرُ بِمُجَرَّدِ طُلُوعِهِ، وَطُلُوعُهُ الْحَقِيقِيُّ يَتَقَدَّمُ عَلَى عِلْمِنَا بِهِ؟ فَأَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بِجَوَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ عِلْمِيَّةٌ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَلَا يَلْزَمُ وُقُوعُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِمَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَلَا مَعْنَى لِلصُّبْحِ إِلَّا ظُهُورُ الضَّوْءِ لِلنَّاظِرِ، وَمَا قَبْلَهُ لَا حُكْمَ لَهُ. فَإِذَا كَانَ الشَّخْصُ عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ، فَتَرَصَّدَهُ بِحَيْثُ لَا حَائِلَ، فَهُوَ أَوَّلُ الصُّبْحِ الْمُعْتَبَرِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ، بَلْ إِنْكَارُ تَصَوُّرِهِ غَلَطٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي شُرُوطِ الصَّوْمِ. وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: النَّقَاءُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فَلَا يَصِحُّ صَوْمُ الْحَائِضِ وَلَا النُّفَسَاءِ. الثَّانِي: الْإِسْلَامُ، فَلَا يَصِحُّ صَوْمُ كَافِرٍ أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ مُرْتَدًّا، وَيُعْتَبَرُ الشَّرْطَانِ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ. فَلَوْ طَرَأَ الْحَيْضُ أَوْ رِدَّةٌ، بَطَلَ صَوْمُهُ.

وَالثَّالِثُ: الْعَقْلُ، فَلَا يَصِحُّ صَوْمُ الْمَجْنُونِ. فَلَوْ جُنَّ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، بِطَلَ صَوْمُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: هُوَ كَالْإِغْمَاءِ. وَلَوْ نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ، صَحَّ صَوْمُهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَقَالَ أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ. وَلَوْ نَوَى مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ، صَحَّ صَوْمُهُ، وَإِلَّا، فَلَا، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» فِي بَابِ الصِّيَامِ. وَفِيهِ قَوْلٌ: أَنَّهُ تُشْتَرَطُ الْإِفَاقَةُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ. وَفِي قَوْلٍ: يَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ وَلَوْ لَحْظَةً فِي النَّهَارِ كَالْحَيْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ. وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ: أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ كَالنَّوْمِ. وَفِي قَوْلٍ خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: تُشْتَرَطُ الْإِفَاقَةُ فِي طَرَفِ النَّهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْمَذْهَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي. وَلَوْ نَوَى بِاللَّيْلِ، ثُمَّ شَرِبَ دَوَاءً فَزَالَ عَقْلُهُ نَهَارًا، فَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» إِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ فِي الْإِغْمَاءِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَلَوْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ لَيْلًا وَبَقِيَ سُكْرُهُ جَمِيعَ النَّهَارِ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ صَحَا فِي بَعْضِهِ، فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ. وَأَمَّا الْغَفْلَةُ، فَلَا أَثَرَ لَهَا فِي الصَّوْمِ بِالِاتِّفَاقِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْوَقْتُ قَابِلٌ لِلصَّوْمِ. وَأَيَّامُ السَّنَةِ كُلُّهَا - غَيْرَ يَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيَوْمِ الشَّكِّ - قَابِلَةٌ لِلصَّوْمِ مُطْلَقًا. فَأَمَّا يَوْمَا الْعِيدَيْنِ، فَلَا يَقْبَلَانِهِ. وَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَلَا تُقْبَلُ عَلَى الْجَدِيدِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ لِلْمُتَمَتِّعِ، وَلِلْعَادِمِ لِلْهَدْيِ، صَوْمُهَا عَنِ الثَّلَاثَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ صَوْمُهَا؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجُوزُ. قُلْتُ: وَإِذَا جَوَّزْنَا لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ، فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِصَوْمٍ لَهُ سَبَبٌ مِنْ وَاجِبٍ أَوْ نَفْلٍ. فَأَمَّا مَا لَا سَبَبَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ كَيَوْمِ الشَّكِّ، وَهَذَا الْقَدِيمُ هُوَ الرَّاجِحُ دَلِيلًا، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا عِنْدَ الْأَصْحَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا يَوْمُ الشَّكِّ، فَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ، وَيَجُوزُ صَوْمُهُ عَنْ قَضَاءٍ، أَوْ نَذْرٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ. وَيَجُوزُ إِذَا وَافَقَ وِرْدًا صَوْمُهُ تَطَوُّعًا بِلَا كَرَاهَةٍ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يُكْرَهُ صَوْمُهُ عَمَّا عَلَيْهِ [مِنْ] فَرْضٍ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُكْرَهْ فِيهِ مَا لَهُ سَبَبٌ مِنَ التَّطَوُّعِ، فَالْفَرْضُ أَوْلَى. وَيَحْرُمُ أَنْ يَصُومَ فِيهِ تَطَوُّعًا لَا سَبَبَ لَهُ، فَإِنْ صَامَهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ نَذَرَ صَوْمَهُ، فَفِي صِحَّةِ نَذْرِهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَلْيَصُمْ يَوْمًا غَيْرَهُ، فَإِنْ صَامَهُ، خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ. وَيَوْمُ الشَّكِّ هُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، إِذَا وَقَعَ فِي الْأَلْسُنِ أَنَّهُ رُئِيَ وَلَمْ يَقُلْ عَدْلٌ: أَنَا رَأَيْتُهُ، أَوْ قَالَهُ، وَلَمْ يُقْبَلِ الْوَاحِدُ، أَوْ قَالَهُ عَدَدٌ مِنَ النِّسَاءِ أَوِ الْعَبِيدِ أَوِ الْفُسَّاقِ وَظُنَّ صِدْقُهُمْ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَحَدَّثْ بِرُؤْيَتِهِ أَحَدٌ، فَلَيْسَ بِيَوْمِ شَكٍّ، سَوَاءً كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، أَوْ طَبَقَ الْغَيْمُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَفِي وَجْهٍ لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْبَافِيِّ - بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْفَاءِ - إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَلَمْ يُرَ الْهِلَالُ، فَهُوَ شَكٌّ. وَفِي وَجْهٍ لِأَبِي طَاهِرٍ: يَوْمُ الشَّكِّ: مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْجَائِزَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، فَإِنْ شَهِدَ عَبْدٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوِ امْرَأَةٌ، فَقَدْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ، فَلَيْسَ بِشَكٍّ. وَلَوْ كَانَ فِي السَّمَاءِ قِطَعُ سَحَابٍ يُمْكِنُ أَنْ يُرَى الْهِلَالُ مِنْ خَلَلِهَا، وَأَنْ يَخْفَى تَحْتَهَا وَلَمْ يُتَحَدَّثْ بِرُؤْيَتِهِ. فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: هُوَ يَوْمُ شَكٍّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ بِشَكٍّ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَسْتَقِلُّ أَهْلُهُ بِطَلَبِ الْهِلَالِ، فَلَيْسَ بِشَكٍّ، وَإِنْ كَانُوا فِي سَفَرٍ، وَلَمْ تَبْعُدْ رُؤْيَةُ أَهْلِ الْقُرَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ يَوْمَ الشَّكِّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَيْسَ بِشَكٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ فِي سُنَنِ الصَّوْمِ. مِنْ سُنَنِ الصَّوْمِ، تَعْجِيلُ الْفِطْرِ إِذَا تَحَقَّقَ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَأَنْ يُفْطِرَ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَعَلَى الْمَاءِ وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: يُفْطِرُ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَعَلَى حَلَاوَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَعَلَى الْمَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: الْأَوْلَى فِي زَمَانِنَا أَنْ يُفْطِرَ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ بِكَفِّهِ مِنَ النَّهْرِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ. وَيُسَنُّ السَّحُورُ وَأَنْ يُؤَخِّرَهُ مَا لَمْ يَقَعْ فِي مَظِنَّةِ الشَّكِّ. وَالْوِصَالُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالثَّانِي: كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. وَحَقِيقَةُ الْوِصَالِ: أَنْ يَصُومَ يَوْمَيْنِ فَصَاعِدًا وَلَا يَتَنَاوَلَ شَيْئًا بِاللَّيْلِ. وَالْجُودُ وَالْإِفْضَالُ مُسْتَحَبٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَفِي رَمَضَانَ آكَدُ. وَالسُّنَّةُ كَثْرَةُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَالْمُدَارَسَةُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَقْرَأَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ. وَيُسَنُّ الِاعْتِكَافُ فِيهِ، لَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَيَصُونُ الصَّائِمُ لِسَانَهُ عَنِ الْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَنَحْوِهَا، وَيَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، فَهُوَ سِرُّ الصَّوْمِ وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْهُ. وَأَنْ يَتْرُكَ السِّوَاكَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَإِذَا اسْتَاكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، بِشَرْطِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ ابْتِلَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ رُطُوبَتِهِ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي النَّفْلِ، لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنَ الرِّيَاءِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ غُسْلِ الْجَنَابَةِ عَنِ الْجِمَاعِ، وَالِاحْتِلَامِ عَلَى الصُّبْحِ. وَلَوْ طَهُرَتِ الْحَائِضُ لَيْلًا، وَنَوَتِ الصَّوْمَ، ثُمَّ اغْتَسَلَتْ فِي النَّهَارِ، صَحَّ صَوْمُهَا. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ فِطْرِهِ: «اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ» وَأَنْ يُفْطِرَ الصَّائِمِينَ مَعَهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ عَشَائِهِمْ، أَعْطَاهُمْ مَا يُفْطِرُونَ بِهِ مِنْ شَرْبَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَيُسْتَحَبُّ

فصل

أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الْحِجَامَةِ، وَالْعِلْكِ، وَالْقُبْلَةِ، وَالْمُعَانَقَةِ، إِذَا لَمْ نُحَرِّمْهُمَا. وَذَوْقُ الشَّيْءِ، وَمَضْغُ الطَّعَامِ لِلطِّفْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ. فَصْلٌ فِي مُبِيحَاتِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ وَأَحْكَامُهُ. فَالْمَرَضُ وَالسَّفَرُ، مُبِيحَانِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ مَنْ غَلَبَهُ الْجُوعُ أَوِ الْعَطَشُ، فَخَافَ الْهَلَاكَ، فَلَهُ الْفِطْرُ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا صَحِيحَ الْبَدَنِ. ثُمَّ شَرْطُ كَوْنِ الْمَرَضِ مُبِيحًا، أَنْ يُجْهِدَهُ الصَّوْمُ مَعَهُ، فَيَلْحَقُهُ ضَرَرٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الْمَضَارِّ فِي التَّيَمُّمِ. ثُمَّ الْمَرَضُ إِنْ كَانَ مُطْبِقًا، فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ وَيَنْقَطِعُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مَحْمُومًا وَقْتَ الشُّرُوعِ، فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ، وَإِلَّا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ إِنْ عَادَ وَاحْتَاجَ إِلَى الْإِفْطَارِ، أَفْطَرَ. وَشَرْطُ كَوْنِ السَّفَرِ مُبِيحًا، كَوْنُهُ طَوِيلًا وَمُبَاحًا. وَلَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا، ثُمَّ مَرِضَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَلَهُ الْفِطْرُ. وَلَوْ أَصْبَحَ مُقِيمًا صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ فِطْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا. فَعَلَى الصَّحِيحِ: لَوْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. وَلَوْ نَوَى الْمُقِيمُ بِاللَّيْلِ، ثُمَّ سَافَرَ لَيْلًا، فَإِنْ فَارَقَ الْعُمْرَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَهُ الْفِطْرُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ أَصْبَحَ الْمُسَافِرُ صَائِمًا، ثُمَّ أَقَامَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» عَنْ حَرْمَلَةَ: أَنَّ لَهُ الْفِطْرَ. وَلَوْ أَصْبَحَ الْمَرِيضُ صَائِمًا، ثُمَّ بَرِئَ فِي النَّهَارِ، فَقَطَعَ كَثِيرُونَ بِتَحْرِيمِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ. وَطَرَدَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» فِيهِ الْوَجْهَيْنِ، وَلَعَلَّهُ الْأَوْلَى. وَلَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي السَّفَرِ، ثُمَّ أَرَادَ الْفِطْرَ، جَازَ. وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبِ «الْمُهَذَّبِ» : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَفِي كَرَاهَةِ الْفِطْرِ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَاهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي «الْبَوَيْطِيِّ» لَكِنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ الْفِطْرُ إِنْ لَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ بِالْفِطْرِ. وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ، أَنَّ لِلْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ. ثُمَّ إِنْ كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ بِالصَّوْمِ، فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِلَّا، فَالْفِطْرُ أَفْضَلُ. وَذُكِرَ فِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَضَرَّرْ فِي الْحَالِ، لَكِنْ يَخَافُ الضَّعْفَ لَوْ صَامَ، أَوْ كَانَ سَفَرَ حَجٍّ، أَوْ غَزْوٍ، فَالْفِطْرُ أَوْلَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ. فَرْعٌ. فِي أَحْكَامِ الْفِطْرِ. كُلُّ مَنْ تَرَكَ النِّيَّةَ الْوَاجِبَةَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَكَذَا كُلُّ مَنْ أَفْطَرَ، لَكِنْ لَوْ كَانَ إِفْطَارُهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَفِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَا فَاتَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، لَا قَضَاءَ فِيهِ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُرْتَدِّ. وَالْمُسَافِرُ، وَالْمَرِيضُ إِذَا أَفْطَرَا، قَضَيَا. وَمَا فَاتَ بِالْإِغْمَاءِ، يَجِبُ قَضَاؤُهُ، سَوَاءٌ اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ الشَّهْرِ، أَمْ لَا، لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ. وَلِهَذَا يَجُوزُ الْإِغْمَاءُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْجُنُونُ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ الْإِغْمَاءَ إِذَا اسْتَغْرَقَ، فَلَا قَضَاءَ. وَمَا فَاتَ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَجَبَ قَضَاؤُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ صَوْمٌ، وَلَا قَضَاءٌ، سَوَاءٌ اسْتَغْرَقَ الْجُنُونُ النَّهَارَ، أَوِ الشَّهْرَ، أَمْ لَا. وَحُكِيَ قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْجُنُونَ كَالْإِغْمَاءِ، فَيَجِبُ الْقَضَاءُ. وَقَوْلٌ: أَنَّهُ إِذَا أَفَاقَ فِي

فصل

أَثْنَاءَ الشَّهْرِ، لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنَ الشَّهْرِ. هَذَا فِي الْجُنُونِ الْمُطْلَقِ، أَمَّا إِذَا ارْتَدَّ ثُمَّ جُنَّ، أَوْ سَكِرَ ثُمَّ جُنَّ، فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَجْهَانِ. وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ: الْفَرْقُ بَيْنَ اتِّصَالِهِ بِالرِّدَّةِ، وَبَيْنَ اتِّصَالِهِ بِالسُّكْرِ كَمَا سَبَقَ فِي الصَّلَاةِ. فَرْعٌ لَا يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. فَصْلٌ فِي الْإِمْسَاكِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ. وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ، كَالْكَفَّارَةِ، فَلَا إِمْسَاكَ عَلَى مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ فِي نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ. ثُمَّ مَنْ أَمْسَكَ تَشَبُّهًا، لَيْسَ فِي صَوْمٍ، بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ إِذَا أَفْسَدَ إِحْرَامَهُ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا، لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ، وَلَوِ ارْتَكَبَ الْمُمْسِكُ مَحْظُورًا، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى الْإِثْمِ. ثُمَّ الْإِمْسَاكُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، سَوَاءٌ أَكَلَ أَوِ ارْتَدَّ، أَوْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنَ الصَّوْمِ وَقُلْنَا: يَخْرُجُ. وَيَجِبُ عَلَى مَنْ نَسِيَ النِّيَّةُ مِنَ اللَّيْلِ. فَرْعٌ لَوْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ أَوْ بَرِئَ الْمَرِيضُ اللَّذَانِ يُبَاحُ لَهُمَا الْفِطْرُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يُصْبِحَا صَائِمَيْنِ وَدَامَا عَلَيْهِ إِلَى زَوَالِ الْعُذْرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ أَنَّ الْمَذْهَبَ: لُزُومُ إِتْمَامِ الصَّوْمِ.

الثَّانِي: أَنْ يَزُولَ بَعْدَمَا أَفْطَرَا، فَلَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. فَإِنْ أَكَلَا، أَخْفَيَاهُ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَا لِلتُّهْمَةِ وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ، وَلَهُمَا الْجِمَاعُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ صَائِمَةً، بِأَنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، أَوْ طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَحَكَى صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَجْهَيْنِ، فِي أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا أَفْطَرَ، ثُمَّ بَرِئَ، هَلْ يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ؟ قَالَ: أَوْجَبَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ دُونَ الْبَصْرِيِّينَ. وَالْمَذْهَبُ: مَا قَدَّمْنَا. الثَّالِثُ: أَنْ يُصْبِحَا غَيْرَ نَاوِيَيْنِ، وَيَزُولُ الْعُذْرُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَا، فَإِنْ قُلْنَا فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ: يَجُوزُ الْأَكْلُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَفِي لُزُومِ الْإِمْسَاكِ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يَلْزَمُ. فَرْعٌ إِذَا أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَضَاؤُهُ وَاجِبٌ، وَيَجِبُ إِمْسَاكُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : الْقَوْلَانِ، فِيمَا إِذَا بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الْأَكْلِ، فَإِنْ بَانَ بَعْدَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: هُنَاكَ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ. فَرْعٌ إِذَا بَلَغَ صَبِيٌّ، أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ، فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُ الْكَافِرَ دُونَهُمَا، لِتَقْصِيرِهِ، وَالرَّابِعُ: يَلْزَمُ الْكَافِرَ وَالصَّبِيَّ، لِتَقْصِيرِهِمَا دُونَ الْمَجْنُونِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُمْ قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي زَالَ الْعُذْرُ فِي أَثْنَائِهِ؟ . أَمَّا الصَّبِيُّ فَيُنْظَرُ، إِنْ بَلَغَ صَائِمًا، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُهُ وَلَا قَضَاءَ.

فصل

فَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِيهِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. وَفِيهِ وَجْهٌ حُكِيَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُهُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ. وَإِنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا قَضَاءَ، لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، كَمَنْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ إِذَا أَفَاقَ، وَالْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُمَا كَالصَّبِيِّ الْمُفْطِرِ، فَلَا قَضَاءَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَقْضِي الْكَافِرُ دُونَ الْمَجْنُونِ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» . قَالَ الْأَصْحَابُ: الْخِلَافُ فِي الْقَضَاءِ فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالْخِلَافِ فِي إِمْسَاكِهِمْ تَشَبُّهًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِهِ، فَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: مَنْ أَوْجَبَ التَّشَبُّهَ، لَمْ يُوجِبِ الْقَضَاءَ، وَمَنْ يُوجِبُ الْقَضَاءَ، لَا يُوجِبُ التَّشَبُّهَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ، أَوْجَبَ الْإِمْسَاكَ، وَمَنْ لَا، فَلَا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ أَوْجَبَ الْإِمْسَاكَ، أَوْجَبَ الْقَضَاءَ، وَمَنْ لَا، فَلَا. فَرْعٌ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، إِذَا طَهُرَتَا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. وَحَكَى صَاحِبُ «الْمُعْتَمَدِ» : طَرْدَ الْخِلَافِ فِيهِمَا. فَصْلٌ أَيَّامُ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنَةٌ لِصَوْمِهِ، فَلِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ، وَلَهُمَا الصِّيَامُ عَنْ رَمَضَانَ، وَلَيْسَ لَهُمَا الصَّوْمُ فِيهِ عَنْ فَرْضٍ آخَرَ، وَلَا تَطَوُّعًا. وَهَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ خِلَافًا فِيمَنْ أَصْبَحَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ

فصل

غَيْرَ نَاوٍ، فَنَوَى التَّطَوُّعَ قَبْلَ الزَّوَالِ، قَالَ: قَالَ الْجَمَاهِيرُ: لَا يَصِحُّ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَصِحُّ. قَالَ: فَعَلَى قِيَاسِهِ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ التَّطَوُّعُ بِهِ. فَصْلٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ أَثِمَ بِهِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ، وَفِي الضَّابِطِ قُيُودٌ. مِنْهَا: الْإِفْسَادُ، فَمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا، لَا يُفْطِرُ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَلَا كَفَّارَةَ. وَإِنْ قُلْنَا: يُفْطِرُ، فَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا تَلْزَمُ، لِعَدَمِ الْإِثْمِ. وَمِنْهَا: كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَا كَفَّارَةَ بِإِفْسَادِ التَّطَوُّعِ، وَالنَّذْرِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمَوْطُوءَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مُفْطِرَةً بِحَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ صَائِمَةً، وَلَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهَا، لِكَوْنِهَا نَائِمَةً مَثَلًا، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَائِعَةً صَائِمَةً، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهَا كَفَّارَةٌ، كَمَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ، لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ، فَاشْتَرَكَا فِيهَا كَحَدِّ الزِّنَا. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يَلْزَمُهَا، بَلْ تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِكَوْنِهِ مُفْطِرًا، أَوْ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ لِكَوْنِهِ نَاسِيًا، أَوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ نَائِمًا، لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ، وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالُهُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ، فَهَلِ الْكَفَّارَةُ الَّتِي يُخْرِجُهَا عَنْهُ خَاصَّةً، وَلَا يُلَاقِيهَا الْوُجُوبُ، أَوْ هِيَ عَنْهُ وَعَنْهَا وَيَتَحَمَّلُهَا عَنْهَا فِيهِ قَوْلَانِ مُسْتَنْبَطَانِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَرُبَّمَا قِيلَ: وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: إِذَا أَفْطَرَتْ بِزِنًا، أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِلَّا، فَعَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بِالزَّوْجِيَّةِ. وَقِيلَ: تَلْزَمُهَا قَطْعًا.

الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مَجْنُونًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَعَلَى الثَّانِي: وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تَلْزَمُهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ، كَمَا لَا يُكَفِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ فِي مَالِهِ الْكَفَّارَةُ عَنْهَا، لِأَنَّ مَالَهُ صَالِحٌ لِلتَّحَمُّلِ. وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا، فَكَالْمَجْنُونِ. وَقِيلَ: هُوَ كَالْبَالِغِ تَخْرِيجًا مِنْ قَوْلِنَا: عَمْدُهُ عَمْدٌ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ نَائِمًا، فَاسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ، فَكَالْمَجْنُونِ. الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ مُسَافِرًا وَالزَّوْجَةُ حَاضِرَةٌ، فَإِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَكَذَا إِنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّرَخُّصَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَكَذَا حُكْمُ الْمَرِيضِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ إِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ جَامَعَ. وَكَذَا الصَّحِيحُ، إِذَا مَرِضَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ ثُمَّ جَامَعَ، فَحَيْثُ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَهُوَ كَغَيْرِهِ. وَحُكْمُ التَّحَمُّلِ، كَمَا سَبَقَ. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا كَفَّارَةَ، فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ: فِيمَا لَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ مُفْطِرًا، فَأَخْبَرَتْهُ بِفِطْرِهَا وَكَانَتْ صَائِمَةً، أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهَا، إِذَا قُلْنَا: الْوُجُوبُ يُلَاقِيهَا، لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ، وَهُوَ مَعْذُورٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِنَا: لَا يَتَحَمَّلُ الْمَجْنُونُ، وَإِلَّا، فَلَيْسَ الْعُذْرُ هُنَا أَوْضَحَ مِنْهُ فِي الْمَجْنُونِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْمُعَايَاةِ» : فِيمَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ دُونَهَا، وَالثَّانِي: تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ عَنْهُمَا، وَالثَّالِثُ: تَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ، وَيَتَحَمَّلُ الزَّوْجُ مَا دَخَلَهُ التَّحَمُّلُ مِنَ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ. فَإِذَا وَطِئَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ فِي يَوْمٍ، لَزِمَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَفَّارَةٌ فَقَطْ عَنِ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِسَبَبِ بَاقِي الْوَطْآتِ، وَيَلْزَمُهُ عَلَى الثَّانِي، أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ، كَفَّارَةٌ عَنْ وَطْئِهِ الْأَوَّلِ عَنْهُ وَعَنْهَا، وَثَلَاثٌ عَنْهُنَّ لَا تَتَبَعَّضُ، إِلَّا فِي مَوْضِعٍ يُوجِدُ تَحَمُّلَ الْبَاقِي، وَيَلْزَمُهُ عَلَى الثَّالِثِ خَمْسُ كَفَّارَاتٍ، كَفَّارَتَانِ عَنْهُ وَعَنْهَا بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَثَلَاثٌ عَنْهُنَّ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ، مُسْلِمَةٌ وَذِمِّيَّةٌ، فَوَطِئَهُمَا فِي يَوْمٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٍ بِكُلِّ حَالٍ. وَعَلَى الثَّانِي: إِنْ قَدَّمَ وَطْءَ الْمُسْلِمَةِ،

فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَإِلَّا، فَكَفَّارَتَانِ، وَعَلَى الثَّالِثِ: كَفَّارَتَانِ بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ إِنْ قَدَّمَ الْمُسْلِمَةَ، لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ عَنْهُ وَعَنْهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ لِلذِّمِّيَّةِ شَيْءٌ. وَإِنْ قَدَّمَ الذِّمِّيَّةَ، لَزِمَهُ لِنَفْسِهِ كَفَّارَةٌ، ثُمَّ لِلْمُسْلِمَةِ أُخْرَى. هَذَا كَلَامُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: إِذَا قُلْنَا: الْوُجُوبُ يُلَاقِيهَا، اعْتَبَرْنَا حَالَهُمَا جَمِيعًا، وَقَدْ تَتَّفِقُ، وَقَدْ تَخْتَلِفُ. فَإِنِ اتَّفَقَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ أَوِ الْإِطْعَامِ، أَجْزَأَ الْمُخْرَجُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ لِكَوْنِهِمَا مُعَسِرَيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ، لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ صَوْمُ شَهْرَيْنِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ لَا تَتَحَمَّلُ. وَإِنِ اخْتَلَفَ حَالُهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَعْلَى حَالًا مِنْهَا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ أَوِ الْإِطْعَامِ، فَوَجْهَانِ. الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ: أَنَّهُ يُجْزِئُ الْإِعْتَاقُ عَنْهُمَا، لِأَنَّ مَنْ فَرْضُهُ الصَّوْمُ أَوِ الْإِطْعَامُ، يُجْزِئُهُ الْعِتْقُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً، فَعَلَيْهَا الصَّوْمُ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يُجْزِئُ عَنْهَا. قَالَ فِي «الْمُهَذَّبِ» : إِلَّا إِذَا قُلْنَا: الْعَبْدُ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ، فَإِنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ الْمُعْسِرَةِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي «الْمُهَذَّبِ» غَرِيبٌ، وَالْمَعْرُوفُ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْعِتْقُ عَنِ الْأَمَةِ. وَقَدْ قَالَ فِي الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ: لَا يَصِحُّ إِعْتَاقُ الْعَبْدِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: يَمْلِكُ، أَمْ لَا، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْوَلَاءَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُ عَنْهَا، لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. فَعَلَى هَذَا، يَلْزَمُهَا الصَّوْمُ إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِهِ. وَفِيمَنْ يَلْزَمُهُ الْإِطْعَامُ إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِهِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى الزَّوْجِ. فَإِنْ عَجَزَ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعْدُودَةٌ مِنْ مُؤَنِ الزَّوْجَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: يَصُومُ عَنْ نَفْسِهِ وَيُطْعِمُ عَنْهَا. وَمُقْتَضَى قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ: يُجْزِئُ الْعِتْقُ عَنِ الصِّيَامِ، أَنْ يُجْزِئَ هُنَا الصِّيَامُ عَنِ الْإِطْعَامِ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ،

فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، صَامَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَعْتَقَ عَنْهَا إِذَا قَدَرَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ، صَامَتْ عَنْ نَفْسِهَا وَأَطْعَمَ عَنْ نَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جِمَاعَ الْمَرْأَةِ إِذَا قُلْنَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَالْوُجُوبُ لَا يُلَاقِيهَا، مُسْتَثْنَى عَنِ الضَّابِطِ. فَرْعٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالزِّنَا، وَجِمَاعِ أَمَتِهِ، وَاللِّوَاطِ، وَإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ، وَسَوَاءٌ أَنَزَلَ أَمْ لَا، وَفِي الْبَهِيمَةِ وَالْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ وَجْهٌ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. وَلَوْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالِاسْتِمْنَاءِ، وَالْمُبَاشَرَاتِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْإِنْزَالِ، فَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ، وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَفِي وَجْهٍ قَالَهُ أَبُو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ مِنْ تَلَامِذَةِ الْقَفَّالِ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ مَا يَأْثَمُ بِالْإِفْطَارِ بِهِ. وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ فِي «الْحَاوِي» عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَجِبُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَفَّارَةٌ فَوْقَ كَفَّارَةِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ، وَدُونَ كَفَّارَةِ الْمُجَامِعِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ غَلَطٌ. وَذَكَرَ الْحَنَّاطِيُّ، أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ، رُوِيَ عَنْهُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيمَا إِذَا جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَأَنْزَلَ، وَهَذَا شَاذٌّ. فَرْعٌ إِذَا ظَنَّ أَنَّ الصُّبْحَ لَمْ يَطْلُعْ، فَجَامَعَ، ثُمَّ بَانَ خِلَافُهُ، فَحُكْمُ الْإِفْطَارِ سَبَقَ، وَلَا كَفَّارَةَ لِعَدَمِ الْإِثْمِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى النَّاسِي بِالْجِمَاعِ، يَقُولُ مِثْلَهُ هُنَا لِتَقْصِيرِهِ فِي الْبَحْثِ. وَلَوْ ظَنَّ غُرُوبَ الشَّمْسِ، فَجَامَعَ، فَبَانَ خِلَافُهُ،

فَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى تَجْوِيزِ الْإِفْطَارِ وَالْحَالَةِ هَذِهِ، وَإِلَّا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَفَاءً بِالضَّابِطِ الْمَذْكُورِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. وَلَوْ أَكَلَ الصَّائِمُ نَاسِيًا، فَظَنَّ بُطْلَانَ صَوْمِهِ، فَجَامَعَ، فَهَلْ يُفْطِرُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ سَلَّمَ مِنَ الظُّهْرِ نَاسِيًا وَتَكَلَّمَ عَامِدًا، لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يُفْطِرُ، كَمَا لَوْ جَامَعَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَبَانَ خِلَافُهُ. وَعَلَى هَذَا، لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ وَطِئَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ، وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وُجُوبَهَا، لِأَنَّهُ ظَنٌّ لَا يُبِيحُ الْوَطْءَ. وَلَوْ أَفْطَرَ الْمُسَافِرُ بِالزِّنَا مُتَرَخِّصًا، فَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّهُ وَإِنْ أَثِمَ بِهَذَا الْوَطْءِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ بِهِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْإِفْطَارَ جَائِزٌ لَهُ. وَلَوْ زَنَا الْمُقِيمُ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ، وَقُلْنَا: الصَّوْمُ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ نَاسِيًا، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، لِأَنَّهُ نَاسٍ لَهُ. فَرْعٌ مَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ، لَزِمَهُ صَوْمُهُ. فَإِنْ صَامَهُ فَأَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَلَوْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ، لَزِمَهُ الْفِطْرُ، وَيُخْفِيهِ لِئَلَّا يُتَّهَمَ، وَإِذَا رُؤِيَ رَجُلٌ يَأْكُلُ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، عُزِّرَ. فَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ، لَمْ يُقْبَلْ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إِسْقَاطِ التَّعْزِيرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَوَّلًا فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَكَلَ، لَمْ يُعَزَّرْ. فَرْعٌ لَوْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ، ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَا كَفَّارَةَ لِلْجِمَاعِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَمْ يُفْسِدْ صَوْمًا. فَلَوْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ أَيَّامٍ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ، سَوَاءٌ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ، أَمْ لَا.

فَرْعٌ لَوْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ بِجِمَاعٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ سَفَرًا طَوِيلًا فِي يَوْمِهِ، لَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: كَمَا لَوْ طَرَأَ الْمَرَضُ. وَلَوْ جَامَعَ، ثُمَّ مَرِضَ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ. وَقِيلَ: لَا تَسْقُطُ قَطْعًا. وَلَوْ طَرَأَ بَعْدَ الْجِمَاعِ جُنُونٌ، أَوْ مَوْتٌ، أَوْ حَيْضٌ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: السُّقُوطُ. وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْحَيْضِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَفْطَرَتْ بِالْجِمَاعِ، لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ. فَرْعٌ كَمَالُ صِفَةِ الْكَفَّارَةِ، مُسْتَقْصَى فِي كِتَابِ «الْكَفَّارَاتِ» . وَالْقَوْلُ الْجُمَلِيُّ، أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ مَرْتَبَةٌ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَيَجِبُ عِتْقُ رَقَبَةٍ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَهَلْ يَلْزَمُهُ مَعَ الْكَفَّارَةِ قَضَاءُ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْسَدَهُ بِالْجِمَاعِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَوَجْهٌ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُ. وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ، لَمْ يَلْزَمْ، وَإِلَّا لَزِمَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ إِذَا لَمْ تَلْزَمْهَا كَفَّارَةٌ. وَهَلْ تَكُونُ شِدَّةُ الْغُلْمَةِ عُذْرًا فِي الْعُدُولِ عَنِ الصِّيَامِ إِلَى الْإِطْعَامِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا عُذْرٌ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ، وَرَجَّحَ الْغَزَالِيُّ الْمَنْعَ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ كَانَ مَنْ لَزِمَتْهُ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ فَقِيرًا، فَهَلْ لَهُ صَرْفُهَا إِلَى أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الْمَشْهُورِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ، كَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ. وَأَمَّا قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ، فَلَمْ يَدْفَعْ إِلَى أَهْلِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ. فَرْعٌ إِذَا عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، فَهَلْ تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ؟ قَالَ الْأَصْحَابُ: الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. ضَرْبٌ يَجِبُ لَا بِسَبَبِ مُبَاشَرَةٍ مِنَ الْعَبْدِ، كَزَكَاةِ الْفِطْرِ. فَإِذَا عَجَزَ وَقْتَ الْوُجُوبِ، لَمْ تَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ. وَضَرْبٌ يَجِبُ بِسَبَبٍ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، كَجَزَاءِ الصَّيْدِ، فَإِذَا عَجَزَ وَقْتَ وُجُوبِهِ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الْغَرَامَةِ. وَضَرْبٌ يَجِبُ بِسَبَبٍ لَا عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، كَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ، وَالْيَمِينِ، وَالْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْعَجْزِ، فَمَتَى قَدَرَ عَلَى إِحْدَى الْخِصَالِ، لَزِمَتْهُ. وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ. فَصْلٌ فِي الْفِدْيَةِ. وَهِيَ مُدٌّ مِنَ الطَّعَامِ، لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ. وَجِنْسُهُ جِنْسُ زَكَاةِ الْفِطْرِ. فَيُعْتَبَرُ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يُجْزِئُ الدَّقِيقُ وَالسَّوِيقُ، كَمَا سَبَقَ. وَمَصْرِفُهَا، الْفُقَرَاءُ أَوِ الْمَسَاكِينُ. وَكُلُّ مُدٍّ مِنْهَا كَكَفَّارَةٍ تَامَّةٍ. فَيَجُوزُ

صَرْفُ عَدَدٍ مِنْهَا إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ أَمْدَادِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ كُلِّ مُدٍّ مِنْهَا إِلَى مِسْكِينٍ، وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ بِثَلَاثَةِ طُرُقٍ. الْأَوَّلُ: فَوَاتُ نَفْسِ الصَّوْمِ، فَمَنْ فَاتَهُ صَوْمُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَمَاتَ قَبْلَ قَضَائِهِ فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْقَضَاءِ، سَوَاءٌ تَرَكَ الْأَدَاءَ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَدَارُكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَفِي صِفَةِ التَّدَارُكِ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: أَنَّهُ يُطْعَمُ مِنْ تَرِكَتِهِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ. فَعَلَى الْقَدِيمِ: لَوْ أَمَرَ الْوَلِيُّ أَجْنَبِيًّا فَصَامَ عَنْهُ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، جَازَ كَالْحَجِّ. وَلَوِ اسْتَقَلَّ بِهِ الْأَجْنَبِيُّ، لَمْ يُجِزْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَهَلِ الْمُعْتَبَرُ عَلَى الْقَدِيمِ الْوِلَايَةُ، أَمْ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ، أَمْ تُشْتَرَطُ الْعُصُوبَةُ، أَمِ الْإِرْثُ؟ تَوَقَّفَ فِيهِ الْإِمَامُ وَقَالَ: لَا نَقْلَ فِيهِ عِنْدِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَإِذَا فَحَصْتَ عَنْ نَظَائِرِهِ، وَجَدْتَ الْأَشْبَهَ اعْتِبَارَ الْإِرْثِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ، أَنَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِامْرَأَةٍ تَصُومُ عَنْ أُمِّهَا وَهَذَا يُبْطِلُ احْتِمَالَ الْعُصُوبَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ أَوِ اعْتِكَافٌ، لَمْ يَقْضِ عَنْهُ وَلَيُّهُ، وَلَا يَسْقُطْ عَنْهُ بِالْفِدْيَةِ. وَنَقَلَ الْبُوَيْطِيُّ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي الِاعْتِكَافِ: يَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلَيُّهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: يُطْعِمُ عَنْهُ. قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُ هَذَا فِي الصَّلَاةِ، فَيُطْعَمُ عَنْ كُلِّ صَلَاةٍ مُدٌّ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْإِطْعَامِ فِي الِاعْتِكَافِ، فَالْقَدْرُ الْمُقَابَلُ بِالْمُدِّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ بِلَيْلَتِهِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ عَنْ رِوَايَةِ شَيْخِهِ قَالَ: وَهُوَ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ اعْتِكَافَ لَحْظَةٍ، عِبَادَةٌ تَامَّةٌ. قُلْتُ: لَمْ يُصَحِّحِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ وَاحِدًا مِنَ الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ فِي صَوْمِ الْوَلِيِّ، وَكَأَنَّهُ

تَرَكَهُ لِاضْطِرَابِ الْأَصْحَابِ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْمَذْهَبِ: تَصْحِيحُ الْجَدِيدِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا، إِلَى تَصْحِيحِ الْقَدِيمِ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِالْقَدِيمِ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ ثَبَتَتْ فِيهِ. وَلَيْسَ لِلْجَدِيدِ حُجَّةٌ مِنَ السُّنَّةِ. وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْإِطْعَامِ، ضَعِيفٌ، فَيَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِالْقَدِيمِ. ثُمَّ مَنْ جَوَّزَ الصِّيَامَ، جَوَّزَ الْإِطْعَامَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحُكَمُ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ، حُكْمُ صَوْمِ رَمَضَانَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْقَضَاءِ، بِأَنْ لَا يَزَالَ مَرِيضًا، أَوْ مُسَافِرًا مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَا شَيْءَ فِي تَرِكَتِهِ وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَصِحُّ الصِّيَامُ مِنْ أَحَدٍ فِي حَيَاتِهِ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءً كَانَ عَاجِزًا أَوْ غَيْرَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الشَّيْخُ الْهَرِمُ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ، أَوْ تَلْحَقُهُ بِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، لَا صَوْمَ عَلَيْهِ. وَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْوُجُوبُ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ. وَلَوْ نَذَرَ فِي خِلَالِ الْعَجْزِ صَوْمًا، فَفِي انْعِقَادِهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْعَقِدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ، فَكَانَ مُعْسِرًا، هَلْ تَلْزَمُهُ إِذَا قَدَرَ؟ قَوْلَانِ، كَالْكَفَّارَةِ. وَلَوْ كَانَ رَقِيقًا فَعَتِقَ، فَفِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَالْأَوْلَى: بِأَنْ لَا تَجِبَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا. وَلَوْ قَدَرَ الشَّيْخُ عَلَى الصَّوْمِ بَعْدَمَا أَفْطَرَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ قَضَاءً؟ نَقَلَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ

مُخَاطَبًا بِالصَّوْمِ، بَلْ كَانَ مُخَاطَبًا بِالْفِدْيَةِ، بِخِلَافِ الْمَعْضُوبِ إِذَا حَجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ قَدَرَ، يَلْزَمُهُ الْحَجُّ فِي قَوْلٍ، لِأَنَّهُ كَانَ مُخَاطَبًا بِهِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ: إِذَا قَدَرَ قَبْلَ أَنْ يَفْدِيَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ، وَإِنْ قَدَرَ بَعْدَ الْفِدْيَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَالْحَجِّ، لِأَنَّهُ كَانَ مُخَاطَبًا بِالْفِدْيَةِ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ عُذْرَهُ غَيْرُ زَائِلٍ، وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ «التَّتِمَّةِ» فِي آخَرِينَ نَقَلُوا خِلَافًا فِي أَنَّ الشَّيْخَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بِالصَّوْمِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْفِدْيَةِ بِالْعَجْزِ، أَمْ يُخَاطَبُ بِالْفِدْيَةِ ابْتِدَاءً؟ وَبَنَوْا عَلَيْهِ الْوَجْهَيْنِ فِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ مَا يَجِبُ لِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ. فَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ، إِنْ خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا، وَلَا فِدْيَةَ كَالْمَرِيضِ. وَإِنْ لَمْ تَخَافَا مِنَ الصَّوْمِ، إِلَّا عَلَى الْوَلَدِ، فَلَهُمَا الْفِطْرُ وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ. وَفِي الْفِدْيَةِ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا: تَجِبُ، وَالثَّانِي: تُسْتَحَبُّ، وَالثَّالِثُ: تَجِبُ عَلَى الْمُرْضِعِ دُونَ الْحَامِلِ. فَعَلَى الْأَظْهَرِ: لَا تَتَعَدَّدُ الْفِدْيَةُ بِتَعَدُّدِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قُطِعَ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُرْضِعِ وَلَدَهَا، أَوْ غَيْرَهُ، بِإِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا؟ قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: لَا فَرْقَ، فَتُفْطِرُ الْمُسْتَأْجِرَةُ وَتَفِدِي. كَمَا أَنَّ السَّفَرَ لَمَّا أَفَادَ الْفِطْرَ، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسَافِرُ لِغَرَضِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : الْمُسْتَأْجَرَةُ لَا تُفْطِرُ، وَلَا خِيَارَ لِأَهْلِ الصَّبِيِّ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ قَوْلُ صَاحِبِ «التَّتِمَّةِ» وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ فَقَالَ: يَحِلُّ لَهَا الْإِفْطَارُ، بَلْ يَجِبُ إِنْ أَضَرَّ الصَّوْمُ بِالرَّضِيعِ. وَفِدْيَةُ الْفِطْرِ، عَلَى مَنْ تَجِبُ؟ قَالَ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوِ اسْتَأْجَرَ لِلتَّمَتُّعِ، فَعَلَى مَنْ يَجِبُ دَمُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَرَاضِعُ، فَأَرَادَتْ أَنْ تُرْضِعَ صَبِيًّا، تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، جَازَ الْفِطْرُ لَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ كَانَتِ الْحَامِلُ أَوِ الْمُرْضِعُ مُسَافِرَةً أَوْ مَرِيضَةً، فَأَفْطَرَتْ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ بِالْمَرَضِ أَوِ السَّفَرِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ تَقْصِدِ التَّرَخُّصَ، فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِي فِطْرِ الْمُسَافِرِ بِالْجِمَاعِ. فَرْعٌ إِذَا أَفْطَرَ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، هَلْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ مَعَ الْقَضَاءِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. فَرْعٌ لَوْ رَأَى مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ بِغَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَافْتَقَرَ فِي تَخْلِيصِهِ إِلَى الْفِطْرِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ أَيْضًا، كَالْمُرْضِعِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ: فَلَهُ ذَلِكَ، فِيهِ تَسَاهُلٌ. وَمُرَادُهُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: مَا يَجِبُ لِتَأْخِيرِ الْقَضَاءِ، فَمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ، وَأَخَّرَهُ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْأَدَاءِ بِهَذَا الْعُذْرِ جَائِزٌ فَتَأْخِيرُ الْقَضَاءِ أَوْلَى. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ. وَلَوْ أَخَّرَ حَتَّى مَضَى رَمَضَانَانِ فَصَاعِدًا، فَهَلْ تُكَرَّرُ الْفِدْيَةُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ فِي «النِّهَايَةِ» : الْأَصَحُّ، التَّكَرُّرُ. وَلَوْ أَفْطَرَ عُدْوَانًا، وَأَلْزَمْنَاهُ الْفِدْيَةَ، فَأَخَّرَ الْقَضَاءَ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ فِدْيَتَانِ، وَاحِدَةٌ لِلْإِفْطَارِ، وَأُخْرَى لِلتَّأْخِيرِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُوذِيُّ: إِنْ عَدَدْنَا الْفِدْيَةَ بِتَعَدُّدِ رَمَضَانَ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَإِذَا أَخَّرَ الْقَضَاءَ مَعَ الْإِمْكَانِ،

فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ وَقُلْنَا: الْمَيِّتُ يُطْعَمُ عَنْهُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُخْرَجُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ تَرِكَتِهِ مُدَّانِ. وَالثَّانِي قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَكْفِي مُدٌّ وَاحِدٌ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: يُصَامُ عَنْهُ، فَصَامَ الْوَلِيُّ، فَيَحْصُلُ تَدَارُكُ أَصْلِ الصَّوْمِ، وَيَفْدِي لِلتَّأْخِيرِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ وَهُوَ التَّكَرُّرُ، فَكَانَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَمَاتَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ إِلَّا خَمْسَةُ أَيَّامٍ، أَخْرَجَ مِنْ تَرِكَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ مُدًّا، عَشَرَةً لِأَصْلِ الصَّوْمِ، وَخَمْسَةً لِلتَّأْخِيرِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَاشَ لَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا قَضَاءَ خَمْسَةٍ. وَلَوْ أَفْطَرَ بِلَا عُذْرٍ، وَأَوْجَبْنَا بِهِ الْفِدْيَةَ فَأَخَّرَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَمَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ ثَلَاثَةِ أَمْدَادٍ. فَإِنْ تَكَرَّرَتِ السُّنُونَ، زَادَتِ الْأَمْدَادُ. وَإِذَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَمَضَانَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ قَضَاءُ جَمِيعِ الْفَائِتِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ الْفِدْيَةُ عَمَّا لَا يَسَعُهُ الْوَقْتُ، أَمْ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ غَدًا، فَتَلِفَ قَبْلَ الْغَدِ، هَلْ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ، أَمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْغَدِ؟ وَلَوْ أَرَادَ تَعْجِيلَ فِدْيَةِ التَّأْخِيرِ قَبْلَ مَجِيءِ رَمَضَانَ الثَّانِي لِيُؤَخِّرَ الْقَضَاءَ مَعَ الْإِمْكَانِ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْحِنْثِ الْمُحَرَّمِ. قُلْتُ: إِذَا أَخَّرَ الشَّيْخُ الْهَرِمُ الْمُدَّ عَنِ السَّنَةِ الْأُولَى، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» : فِي تَكَرُّرِ مُدٍّ آخَرَ لِلتَّأْخِيرِ وَجْهَانِ. وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَإِذَا أَرَادَ الشَّيْخُ الْهَرِمُ إِخْرَاجَ الْفِدْيَةِ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، أَجْزَأَهُ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَإِنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْبَحْرِ» عَنْ وَالِدِهِ، وَقَطَعَ الدَّارِمِيُّ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ الصَّوَابُ. قَالَ الْإِمَامُ الزِّيَادِيُّ: وَيَجُوزُ لِلْحَامِلِ تَقْدِيمُ الْفِدْيَةِ عَلَى الْفِطْرِ، وَلَا يُقَدِّمُ إِلَّا فِدْيَةَ يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي بَابِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

باب.

بَابٌ. صَوْمُ التَّطَوُّعِ. مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ تَطَوُّعٍ، أَوْ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. فَلَوْ خَرَجَ مِنْهُمَا، فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، ثُمَّ إِنْ خَرَجَ لِعُذْرٍ، لَمْ يُكْرَهْ، وَإِلَّا كُرِهَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمِنَ الْعُذْرِ، أَنْ يَعِزَّ عَلَى مَنْ ضَيَّفَهُ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْأَكْلِ. وَلَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ الْقَضَاءِ الْوَاجِبِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ، لَمْ يَجُزِ الْخُرُوجُ مِنْهُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَقَطَعَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَطَائِفَةٌ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» وَبِهِ قَطَعَ الرُّويَانِيُّ فِي «الْحِلْيَةِ» وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ، لِأَنَّهُ صَارَ مُتَلَبِّسًا بِالْفَرْضِ وَلَا عُذْرَ، فَلَزِمَهُ إِتْمَامُهُ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ. وَأَمَّا صَوْمُ الْكَفَّارَةِ، فَمَا لَزِمَ مِنْهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ، فَهُوَ كَالْقَضَاءِ الَّذِي عَلَى الْفَوْرِ. وَمَا لَزِمَ بِسَبَبٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، كَقَتْلِ الْخَطَأِ، فَهُوَ كَالْقَضَاءِ الَّذِي عَلَى التَّرَاخِي. وَكَذَا النَّذْرُ الْمُطْلَقُ. وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ انْقِسَامُ الْقَضَاءِ إِلَى وَاجِبٍ عَلَى الْفَوْرِ، وَعَلَى التَّرَاخِي. فَالْأَوَّلُ: مَا تَعَدَّى فِيهِ بِالْإِفْطَارِ، فَيَحْرُمُ تَأْخِيرُ قَضَائِهِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ بِعُذْرِ السَّفَرِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَا لَمْ يَتَعَدَّ بِهِ، كَالْفِطْرِ بِالْحَيْضِ وَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ، فَقَضَاؤُهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَحْضُرْ رَمَضَانُ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ: الْقَضَاءُ عَلَى التَّرَاخِي فِي الْمُتَعَدِّي وَغَيْرِهِ.

فصل

فَصْلٌ صَوْمُ التَّطَوُّعِ، مِنْهُ مَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ، وَمِنْهُ مَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الشُّهُورِ، وَمِنْهُ مَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْأُسْبُوعِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ، يَوْمُ عَرَفَةَ، فَيُسْتَحَبُّ صَوْمُهُ لِغَيْرِ الْحَجِيجِ، وَيَنْبَغِي لِلْحَجِيجِ فِطْرُهُ. وَأَطْلَقَ كَثِيرُونَ كَرَاهَةَ صَوْمِهِ لَهُمْ. فَإِنْ كَانَ شَخْصٌ لَا يَضْعُفُ بِالصَّوْمِ عَنِ الدُّعَاءِ وَأَعْمَالِ الْحَجِّ، فَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ الصَّوْمُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأَوْلَى أَنْ لَا يَصُومَ بِحَالٍ. قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: يَوْمُ عَرَفَةَ أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ «الطَّلَاقِ» التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ، فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى أَفْضَلِ الْأَيَّامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَهُوَ عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ تَاسُوعَاءَ، وَهُوَ التَّاسِعُ. وَفِيهِ مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: الِاحْتِيَاطُ حَذَرًا مِنَ الْغَلَطِ فِي الْعَاشِرِ. وَالثَّانِي: مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ يَصُومُونَ الْعَاشِرَ فَقَطْ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ لَمْ يَصُمِ التَّاسِعَ مَعَهُ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَصُومَ الْحَادِي عَشَرَ. وَمِنْهُ سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَهَا مُتَتَابِعَةً مُتَّصِلَةً بِالْعِيدِ. وَمِنَ الثَّانِي: أَيَّامُ الْبِيضِ، وَهِيَ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِيهَا. وَلَنَا وَجْهٌ غَرِيبٌ حَكَاهُ الصَّيْمَرِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ، وَصَاحِبُ «الْبَيَانِ» : أَنَّ الثَّانِيَ عَشَرَ بَدَلُ الْخَامِسَ عَشَرَ، فَالِاحْتِيَاطُ صَوْمُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنَ الثَّالِثِ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ. وَيُكْرَهُ إِفْرَادُ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ، وَإِفْرَادُ السَّبْتِ.

فَرْعٌ أَطْلَقَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» فِي آخَرِينَ أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ مَكْرُوهٌ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ مَسْنُونٌ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنْ خَافَ مِنْهُ ضَرَرًا، أَوْ فَوَّتَ بِهِ حَقًّا، كُرِهَ. وَإِلَّا، فَلَا. وَالْمُرَادُ: إِذَا أَفْطَرَ أَيَّامَ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ، لَزِمَ وَكَانَتِ الْأَعْيَادُ وَ [أَيَّامُ] التَّشْرِيقِ وَشَهْرُ رَمَضَانَ وَقَضَاؤُهُ مُسْتَثْنَاةً. فَإِنْ فُرِضَ فَوَاتٌ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَهَلْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ لِمَا أَخَلَّ بِهِ مِنَ النَّذْرِ بِسَبَبِ الْقَضَاءِ؟ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ، وَقُطِعَ بِهِ فِي «التَّهْذِيبِ» : بِأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمًا آخَرَ بَعْدَ هَذَا النَّذْرِ، لَمْ يَنْعَقِدْ. وَلَوْ لَزِمَهُ صَوْمُ كَفَّارَةٍ، صَامَ عَنْهَا وَفَدَى عَنِ النَّذْرِ. وَلَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، لَمْ يُمْكِنْ قَضَاؤُهُ، وَلَا فِدْيَةَ إِنْ كَانَ بِعُذْرٍ، وَإِلَّا فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ. وَلَوْ نَذَرَتِ الْمَرْأَةُ صَوْمَ الدَّهْرِ، فَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا، وَلَا قَضَاءَ وَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا، أَوْ مَاتَ فَلَمْ تَصُمْ، لَزِمَهَا الْفِدْيَةُ. قُلْتُ: وَمِنَ الْمَسْنُونِ، صَوْمُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، غَيْرَ الْعِيدِ، وَالصَّوْمُ مِنْ آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ. وَأَفْضَلُ الْأَشْهُرِ لِلصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ، الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ. وَأَفْضَلُهَا: الْمُحَرَّمُ، وَيْلِي الْمُحَرَّمَ فِي الْفَضِيلَةِ، شَعْبَانُ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : رَجَبٌ أَفْضَلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ صَوْمُ تَطَوُّعٍ وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ، إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ: صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الاعتكاف.

كِتَابُ الِاعْتِكَافِ. الِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ آكَدُ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَطَلَبًا لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَنْ أَرَادَ هَذِهِ السُّنَّةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، حَتَّى لَا يَفُوتَهُ شَيْءٌ، وَيَخْرُجَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْعِيدِ. وَلَوْ مَكَثَ لَيْلَةَ الْعِيدِ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ، أَوْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى الْعِيدِ، كَانَ أَفْضَلَ. فَرْعٌ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَفْضَلُ لَيَالِي السَّنَةِ، خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِي أَوْتَارِهَا أَرْجَى. وَمَيْلُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: إِلَى ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا: هِيَ لَيْلَةٌ مُنْتَقِلَةٌ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ، تَنْتَقِلُ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى لَيْلَةٍ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ. قُلْتُ: وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَيْضًا، وَهُوَ قَوِيٌّ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تَلْزَمُ لَيْلَةً بِعَيْنِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَعَلَامَةُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، أَنَّهَا طَلْقَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، وَأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي صَبِيحَتِهَا بَيْضَاءَ، لَيْسَ لَهَا كَثِيرُ شُعَاعٍ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثَرَ فِيهَا مِنْ قَوْلِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفْوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقَدِيمِ: أَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ فِي يَوْمِهَا، كَاجْتِهَادِهِ فِي لَيْلَتِهَا. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ قَالَهُ قَبْلَ رَمَضَانَ، أَوْ فِيهِ قَبْلَ مُضِيِّ أَوَّلِ لَيَالِي الْعَشْرِ، طُلِّقَتْ بِانْقِضَاءِ لَيَالِي الْعَشْرِ، وَإِنْ قَالَهُ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ لَيَالِيهَا، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَى مُضِيِّ سَنَةٍ. هَكَذَا نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي «الْمُهَذَّبِ» ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا. وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ فِي مُنْتَصَفِ رَمَضَانَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَمْضِيَ سَنَةٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ. وَنُقِلَ فِي «الْوَسِيطِ» هَذَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ اعْتِبَارُ مُضِيِّ سَنَةٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا فِي كُتُبِ الْغَزَالِيِّ. وَقَوْلُهُ: الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، مُسَلَّمٌ، لَكِنْ يَقَعُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُتَرَدِّدٌ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ، وَيَمِيلُ إِلَى بَعْضِهَا مَيْلًا لَطِيفًا، وَانْحِصَارُهَا فِي الْعَشْرِ ثَابِتٌ عِنْدَهُ بِالظَّنِّ الْقَوِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ، وَالطَّلَاقُ يُنَاطُ وُقُوعُهُ بِالْمَذَاهِبِ الْمَظْنُونَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَهَذَا لَا تَكَادُ تَجِدُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ. قُلْتُ: قَدْ قَالَ الْمُحَامِلِيُّ وَصَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» : تُطْلَبُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَوْلُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ: طُلِّقَتْ بِانْقِضَاءِ لَيَالِي الْعَشْرِ، فِيهِ تَجَوُّزٌ

فصل

تَابَعَ فِيهِ صَاحِبَ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرَهُ. وَحَقِيقَتُهُ: طُلِّقَتْ فِي أَوَّلِ اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْعَشْرِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: إِنْ قَالَهُ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ لَيَالِيهَا، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَى مُضِيِّ سَنَةٍ، فِيهِ تَجَوُّزٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَقُولُ لَهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، فَلَا يَقِفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى سَنَةٍ كَامِلَةٍ، بَلْ يَقَعُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ أَرْكَانُ الِاعْتِكَافِ، أَرْبَعَةٌ ; اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالنِّيَّةُ، وَالْمُعْتَكِفُ، وَالْمُعْتَكَفُ فِيهِ. الْأَوَّلُ: اللُّبْثُ، وَفِي اعْتِبَارِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «النِّهَايَةِ» . أَصَحُّهُمَا: لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالثَّانِي: يَكْفِي مُجَرَّدُ الْحُضُورِ، كَمَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْحُضُورِ بِعَرَفَةَ. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَالَ: إِنِ اكْتَفَيْنَا بِالْحُضُورِ، حَصَلَ الِاعْتِكَافُ بِالْعُبُورِ. حَتَّى لَوْ دَخَلَ مِنْ بَابٍ، وَخَرَجَ مِنْ بَابٍ، وَنَوَى، فَقَدِ اعْتَكَفَ. وَإِنِ اعْتَبَرْنَا اللُّبْثَ، لَمْ يَكْفِ مَا يَكْفِي فِي الطُّمَأْنِينَةِ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ بِمَا يُسَمَّى عُكُوفًا وَإِقَامَةً. وَلَا يُعْتَبَرُ السُّكُونُ، بَلْ يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ قَائِمًا، أَوْ قَاعِدًا، أَوْ مُتَرَدِّدًا فِي أَطْرَافِ الْمَسْجِدِ. وَلَا يُقَدَّرُ اللُّبْثُ بِزَمَانٍ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ سَاعَةٍ، انْعَقَدَ نَذْرُهُ. وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُطْلَقًا، خَرَجَ مِنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ، بِأَنْ يَعْتَكِفَ لَحْظَةً. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ، فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لَا يُجَوِّزَانِ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ. وَنَقَلَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إِلَّا يَوْمًا، أَوْ مَا يَدْنُو مِنْ يَوْمٍ. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ يَدْخُلُ سَاعَةً وَيَخْرُجُ سَاعَةً، وَكُلَّمَا دَخَلَ نَوَى الِاعْتِكَافَ، صَحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِيهِ خِلَافًا ضَعِيفًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ يَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْجِمَاعُ، وَجَمِيعُ الْمُبَاشَرَاتِ بِالشَّهْوَةِ، فَإِنْ جَامَعَ ذَاكِرًا لِلِاعْتِكَافِ، عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، سَوَاءٌ جَامَعَ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ جَامَعَ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ. فَأَمَّا إِذَا جَامَعَ نَاسِيًا لِلِاعْتِكَافِ، أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ، فَهُوَ كَنَظِيرِهِ فِي الصَّوْمِ. وَرَوَى الْمُزَنِيُّ عَنْ نَصِّهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ مِنَ الْوَطْءِ إِلَّا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ. قَالَ الْإِمَامُ: مُقْتَضَى هَذَا، أَنْ لَا يَفْسُدَ بِإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ، وَالْإِتْيَانِ فِي غَيْرِ الْمَأْتِيِّ إِذَا لَمْ نُوجِبْ فِيهِمَا الْحَدَّ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: نَصُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إِذَا لَمَسَ، أَوْ قَبَّلَ بِشَهْوَةٍ، أَوْ بَاشَرَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مُتَعَمِّدًا، فَفِيهِ نُصُوصٌ وَطُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ، مُخْتَصَرُهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَوْ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: إِنْ أَنْزَلَ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَالثَّانِي: يَبْطُلُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: لَا يَبْطُلُ مُطْلَقًا. وَإِنِ اسْتَمْنَى بِيَدِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا لَمَسَ فَأَنْزَلَ، لَا يَبْطُلُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، لِأَنَّ كَمَالَ اللَّذَّةِ بِاصْطِكَاكِ الْبَشَرَتَيْنِ. وَلَا بَأْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ بِأَنْ يُقَبِّلَ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَقَةِ وَالْإِكْرَامِ. وَلَا بِأَنْ يَلْمِسَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ. فَرْعٌ. لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يُرَجِّلَ رَأْسَهُ وَيَتَطَيَّبَ، وَيَتَزَوَّجَ وَيُزَوِّجَ، وَيَتَزَيَّنَ بِلُبْسِ الثِّيَابِ، وَيَأْمُرَ بِإِصْلَاحِ مَعَاشِهِ، وَتَعَهُّدِ ضَيَاعِهِ، وَأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ، وَيَخِيطَ وَيَكْتُبَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ إِذَا لَمْ تَكْثُرْ. فَإِنْ أَكْثَرَ، أَوْ قَعَدَ يَحْتَرِفُ بِالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا، كُرِهَ وَلَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ. وَنُقِلَ عَنِ الْقَدِيمِ: أَنَّهُ إِذَا

فصل

اشْتَغَلَ بِحِرْفَةٍ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَقِيلَ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ الْمَنْذُورُ. وَالْمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ، كَرَاهَةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ قَلَّ لِلْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا بِحَاجَةٍ. وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْبُوَيْطِيِّ» وَفِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي النَّهْيِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنِ اشْتَغَلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَدِرَاسَةِ الْعِلْمِ، فَزِيَادَةُ خَيْرٍ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَبْسُطَ سُفْرَةً أَوْ نَحْوَهَا. وَلَهُ غَسْلُ يَدِهِ فِيهِ، وَالْأَوْلَى غَسْلُهَا فِي طَسْتٍ وَنَحْوِهَا لِئَلَّا يَبْتَلَّ الْمَسْجِدُ فَيَمْتَنِعُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْجُلُوسِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَقَذَّرُ. وَلِهَذَا قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : يَجُوزُ نَضْحُ الْمَسْجِدِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَلَا يَجُوزُ بِالْمُسْتَعْمَلِ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لِأَنَّ النَّفْسَ قَدْ تَعَافُهُ. وَيَجُوزُ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إِنَاءٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَأْمَنَ التَّلْوِيثَ، وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ. وَفِي الْبَوْلِ فِي الطَّسْتِ احْتِمَالَانِ لِصَاحِبِ «الشَّامِلِ» وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» ، لِأَنَّهُ أَقْبَحُ مِنَ الْفَصْدِ. وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ مِنَ الْفَصْدِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ. فَصْلٌ يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَيَصِحُّ فِي اللَّيْلِ وَحْدَهُ، وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَشْهُورُ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ قَوْلًا قَدِيمًا: أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ، فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي الْعِيدِ، وَ [أَيَّامِ] التَّشْرِيقِ، وَاللَّيْلِ الْمُجَرَّدِ.

فَرْعٌ إِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا هُوَ فِيهِ صَائِمٌ، أَوْ أَيَّامًا هُوَ فِيهَا صَائِمٌ، لَزِمَهُ الِاعْتِكَافُ فِي أَيَّامِ الصَّوْمِ، وَلَيْسَ لَهُ إِفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوِ اعْتَكَفَ فِي رَمَضَانَ، أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ بِهَذَا النَّذْرِ صَوْمًا، وَإِنَّمَا نَذَرَ الِاعْتِكَافَ بِصِفَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا، أَوْ يَعْتَكِفَ بِصَوْمٍ، لَزِمَهُ الِاعْتِكَافُ وَالصَّوْمُ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَأَشْبَهَ إِذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَائِمًا. وَأَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» كَالْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ شَرَعَ فِي الِاعْتِكَافِ صَائِمًا، ثُمَّ أَفْطَرَ، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَكْفِيهِ اسْتِئْنَافُ الصَّوْمِ. وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ وَلَيَالٍ مُتَتَابِعَةٍ صَائِمًا، فَجَامَعَ لَيْلًا، فَفِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ. وَلَوِ اعْتَكَفَ فِي رَمَضَانَ، أَجْزَأَهُ عَنِ الِاعْتِكَافِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ الِاعْتِكَافُ أَيْضًا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ مُعْتَكِفًا، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لُزُومُ الْجَمْعِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَمْعُ. وَالْفَرْقُ، أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصْلُحُ وَصْفًا لِلصَّوْمِ، بِخِلَافِ عَكْسِهِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الِاعْتِكَافِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُصَلِّيًا، أَوْ يُصَلِّيَ مُعْتَكِفًا، لَزِمَهُ الِاعْتِكَافُ وَالصَّلَاةُ. وَفِي لُزُومِ الْجَمْعِ، طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: لَا يَجِبُ. وَقِيلَ: بِطَرْدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْفَرْقُ، أَنَّ الصَّوْمَ وَالِاعْتِكَافَ مُتَقَارِبَانِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْكَفِّ، وَالصَّلَاةُ أَفْعَالٌ مُبَاشِرَةٌ لَا تُنَاسِبُ الِاعْتِكَافَ. فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُحْرِمًا بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْجَمْعَ بَيْنَ الِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ، فَالَّذِي يَلْزَمُهُ مِنَ الصَّلَاةِ، هُوَ الَّذِي يَلْزَمُهُ لَوْ أَفْرَدَ الصَّلَاةَ بِالنَّذْرِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي يَوْمِ اعْتِكَافِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِيعَابُ الْيَوْمِ بِالصَّلَاةِ. وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ مُصَلِّيًا، لَزِمَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ»

وَغَيْرُهُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ، فَإِنْ تَرَكْنَا الظَّاهِرَ، فَلِمَ يُعْتَبَرُ تَكْرِيرُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الصَّلَاةِ كُلَّ يَوْمٍ؟ وَهَلَّا اكْتُفِيَ بِهِ مَرَّةً فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ؟ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةً يَقْرَأُ فِيهَا سُورَةَ كَذَا، فَفِي وُجُوبِ الْجَمْعِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ، قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. الرُّكْنُ الثَّانِي: النِّيَّةُ، فَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي ابْتِدَاءِ الِاعْتِكَافِ، وَيَجِبُ التَّعَرُّضُ فِي الْمَنْذُورِ مِنْهُ لِلْفَرْضِيَّةِ. ثُمَّ إِذَا نَوَى الِاعْتِكَافَ وَأَطْلَقَ كَفَاهُ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ. فَإِنْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَادَ، احْتَاجَ إِلَى اسْتِئْنَافِ النِّيَّةِ، سَوَاءٌ خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، أَمْ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ مَا مَضَى عِبَادَةٌ تَامَّةٌ، وَالثَّانِي: اعْتِكَافٌ جَدِيدٌ قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : فَلَوْ عَزَمَ عِنْدَ خُرُوجِهِ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَيَعُودَ، كَانَتْ هَذِهِ الْعَزِيمَةُ قَائِمَةً مَقَامَ النِّيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ اقْتِرَانَ النِّيَّةِ بِأَوَّلِ الْعِبَادَةِ شَرْطٌ. فَكَيْفَ يَكْتَفِي بِعَزِيمَةٍ سَابِقَةٍ؟ أَمَّا إِذَا عَيَّنَ زَمَانًا، بِأَنْ نَوَى اعْتِكَافَ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ إِذَا خَرَجَ وَعَادَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهُمَا: إِنْ خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، لَمْ يَجِبِ التَّجْدِيدُ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنْ خَرَجَ لِغَرَضٍ آخَرَ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّجْدِيدِ، وَسَوَاءٌ طَالَ الزَّمَانُ، أَمْ قَصُرَ. وَالثَّانِي: إِنْ طَالَتْ مُدَّةُ الْخُرُوجِ، وَجَبَ التَّجْدِيدُ، وَإِلَّا فَلَا، وَسَوَاءٌ خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، أَمْ لِغَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: لَا حَاجَةَ إِلَى التَّجْدِيدِ مُطْلَقًا. وَالرَّابِعُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : إِنْ خَرَجَ لِأَمْرٍ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي الِاعْتِكَافِ الْمُتَتَابِعِ، وَجَبَ التَّجْدِيدُ. وَإِنْ خَرَجَ لِأَمْرٍ لَا يَقْطَعُهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ، كَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَالْغُسْلِ لِلِاحْتِلَامِ، لَمْ يَجِبِ التَّجْدِيدُ. وَإِنْ كَانَ مِنْهُ بُدٌّ، أَوْ طَالَ الزَّمَانُ، فَفِي التَّجْدِيدِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ. وَهَذَا الْخِلَافُ مُطَّرِدٌ فِيمَا إِذَا نَوَى مُدَّةً لِاعْتِكَافِ تَطَوُّعٍ، وَفِيمَا إِذَا نَذَرَ أَيَّامًا وَلَمْ يَشْرُطْ فِيهَا التَّتَابُعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِقَصْدِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ. أَمَّا إِذَا شَرَطَ التَّتَابُعَ، أَوْ كَانَتِ الْمَنْذُورَةُ مُتَوَاصِلَةً، فَسَيَأْتِي حُكْمُ التَّجْدِيدِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَرْعٌ لَوْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنَ الِاعْتِكَافِ، لَمْ يَبْطُلْ عَلَى الْأَصَحِّ كَالصَّوْمِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُعْتَكِفُ، شَرْطُهُ: الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالنَّقَاءُ عَنِ الْحَيْضِ، وَالْجَنَابَةِ. فَيَصِحُّ اعْتِكَافُ الصَّبِيِّ، وَالرَّقِيقِ، وَالزَّوْجَةِ كَصِيَامِهِمْ. وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْتَكِفَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِنِ اعْتَكَفَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، جَازَ لِلزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ إِخْرَاجُهُمَا. وَكَذَا لَوِ اعْتَكَفَا بِإِذْنِهِمَا تَطَوُّعًا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ. وَلَوْ نَذَرَا اعْتِكَافًا، نُظِرَ، إِنْ نَذَرَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَلَهُمَا الْمَنْعُ مِنَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَإِنْ أَذِنَا فِي الشُّرُوعِ وَكَانَ الزَّمَانُ مُتَعَيِّنًا أَوْ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ، وَلَكِنْ شَرَطَا التَّتَابُعَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمَا الرُّجُوعُ. وَإِنْ لَمْ يَشْرُطَا، فَلَهُمَا الرُّجُوعُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ نَذَرَا بِالْإِذْنِ، نُظِرَ، إِنْ تَعَلَّقَ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ، فَلَهُمَا الشُّرُوعُ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَإِلَّا لَمْ يَشْرَعَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَإِنْ شَرَعَا بِالْإِذْنِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمَا الْمَنْعُ مِنَ الْإِتْمَامِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ إِذَا شَرَعَ فِيهِ لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ. وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي آخِرِ كِتَابِ الصَّوْمِ. وَيَسْتَوِي فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، الْقِنُّ، وَالْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ، كَالْقِنِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُهَايَأَةً، فَإِنْ كَانَتْ، فَهُوَ فِي نَوْبَتِهِ كَالْحُرِّ، وَفِي نَوْبَةِ السَّيِّدِ كَالْقِنِّ. فَرْعٌ لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُ الْكَافِرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالسَّكْرَانِ، إِذْ لَا نِيَّةَ لَهُمْ. وَلَوِ ارْتَدَّ فِي أَثْنَاءِ اعْتِكَافِهِ، فَالنَّصُّ فِي «الْأُمِّ» : أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ.

فَإِذَا أَسْلَمَ، بَنَى. وَنُصَّ أَنَّهُ لَوْ سَكِرَ فِي اعْتِكَافِهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، يَسْتَأْنِفُ. وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيهِمَا عَلَى طُرُقٍ. الْمَذْهَبُ: بُطْلَانُ اعْتِكَافِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَنَصُّهُ فِي الْمُرْتَدِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اعْتِكَافٌ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ. فَإِذَا أَسْلَمَ بَنَى، لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُحْبِطُ مَا سَبَقَ عِنْدَنَا، إِلَّا إِذَا مَاتَ مُرْتَدًّا. وَنَصُّهُ فِي السَّكْرَانِ فِي اعْتِكَافٍ مُتَتَابِعٍ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ. وَالْفَرْقُ بِأَنَّ السَّكْرَانَ يُمْنَعُ الْمَسْجِدَ بِكُلِّ حَالٍ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ. وَاخْتَارَ أَصْحَابُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ هَذَا الطَّرِيقَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ الْمَذْهَبُ. وَالثَّالِثُ: فِيهِمَا قَوْلَانِ. وَالرَّابِعُ: لَا يَبْطُلُ فِيهِمَا. وَالْخَامِسُ: يُبْطِلُ السُّكْرُ لِامْتِدَادِ زَمَنِهِ، وَكَذَا الرِّدَّةُ إِنْ طَالَ زَمَنُهَا، وَإِنْ قَصُرَ بَنَى. وَالسَّادِسُ: يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ دُونَ السُّكْرِ، لِأَنَّهُ كَالنَّوْمِ، وَالرِّدَّةُ تُنَافِي الْعِبَادَةَ. وَهَذَا الطَّرِيقُ حَكَاهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُمَا. وَهَذَا الْخِلَافُ، أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الرِّدَّةِ وَالسُّكْرِ مُعْتَدًّا بِهِ فَيُبْنَى عَلَيْهِ، أَمْ يَبْطُلُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِئْنَافِ إِنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ مُتَتَابِعًا؟ فَأَمَّا زَمَنُ الرِّدَّةِ وَالسُّكْرِ فَغَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ قَطْعًا. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يُعْتَدُّ بِزَمَنِ السُّكْرِ. وَأَشَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، إِلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الِاعْتِدَادِ بِزَمَنِ الرِّدَّةِ، وَالسُّكْرِ. وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ. وَلَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوْ جُنَّ فِي زَمَنِ الِاعْتِكَافِ، فَإِنْ لَمْ يُخْرَجْ مِنَ الْمَسْجِدِ، لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَإِنْ أُخْرِجَ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهُ فِي الْمَسْجِدِ، لَمْ يَبْطُلْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الْخُرُوجُ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حُمِلَ الْعَاقِلُ مُكْرَهًا. وَإِنْ أَمْكَنَ وَلَكِنْ شَقَّ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْآتِي فِي الْمَرِيضِ إِذَا أُخْرِجَ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَلَا يُحْسَبُ زَمَنُ الْجُنُونِ مِنَ الِاعْتِكَافِ، وَيُحْسَبُ زَمَنُ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْمَذْهَبِ.

فَرْعٌ لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُ الْحَائِضِ، وَلَا الْجُنُبِ. وَمَتَى طَرَأَ الْحَيْضُ عَلَى الْمُعْتَكِفَةِ، لَزِمَهَا الْخُرُوجُ. فَإِنْ مَكَثَتْ، لَمْ يُحْسَبْ عَنِ الِاعْتِكَافِ. وَهَلْ يُبْطِلُ مَا سَبَقَ، أَمْ يُبْنَى عَلَيْهِ؟ فِيهِ كَلَامٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ طَرَأَتِ الْجَنَابَةُ بِمَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ، لَمْ يَخْفَ الْحُكْمُ. وَإِنْ طَرَأَتْ بِمَا لَا يُبْطِلُهُ، كَالِاحْتِلَامِ، وَالْجِمَاعِ نَاسِيًا، وَالْإِنْزَالِ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ، إِذَا قُلْنَا: لَا يُبْطِلُهُ، لَزِمَهُ أَنْ يُبَادِرَ بِالْغُسْلِ كَيْلَا يَبْطُلَ تَتَابُعُهُ، وَلَهُ الْخُرُوجُ لِلْغُسْلِ، سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ الْغُسْلُ فِي الْمَسْجِدِ، أَمْ لَا، لِأَنَّهُ أَصْوَنُ لِمُرُوءَتِهِ وَلِلْمَسْجِدِ. وَلَا يُحْسَبُ زَمَنُ الْجَنَابَةِ مِنَ الِاعْتِكَافِ عَلَى الصَّحِيحِ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمُعْتَكَفُ فِيهِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ، فَيَخْتَصُّ بِالْمَسَاجِدِ، وَيَجُوزُ فِي جَمِيعِهَا، وَالْجَامِعُ أَوْلَى. وَأَوْمَأَ فِي الْقَدِيمِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْجَامِعِ، وَالْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ مَا سَبَقَ. وَلَوِ اعْتَكَفَتِ الْمَرْأَةُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا - وَهُوَ الْمُعْتَزَلُ الْمُهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ - لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْجَدِيدِ، وَيَصِحُّ عَلَى الْقَدِيمِ. فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، فَفِي جَوَازِ اعْتِكَافِ الرَّجُلِ فِيهِ وَجْهَانِ. وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ. وَعَلَى الْجَدِيدِ: كُلُّ امْرَأَةٍ يُكْرَهُ لَهَا الْخُرُوجُ لِلْجَمَاعَةِ، يُكْرَهُ لَهَا الْخُرُوجُ لِلِاعْتِكَافِ، وَمَنْ لَا، فَلَا. قُلْتُ: قَدْ أَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَجَمَاعَةٌ هَذَا الْقَدِيمَ. وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَغَلَّطُوا مَنْ قَالَ: قَوْلَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، تَعَيَّنَ عَلَى

فصل

الْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ. وَقِيلَ: فِي تَعْيِينِهِ قَوْلَانِ. وَإِنْ عَيَّنَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ مَسْجِدَ الْأَقْصَى، تَعَيَّنَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِنْ عَيَّنَ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ يَتَعَيَّنُ كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ لِلصَّلَاةِ. وَقِيلَ: لَا يَتَعَيَّنُ قَطْعًا. وَإِذَا حَكَمْنَا بِالتَّعْيِينِ، فَإِنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. وَإِنْ عَيَّنَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ إِلَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. وَإِنْ عَيَّنَ الْأَقْصَى، لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ إِلَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَمَسْجِدُ الْمَدِينَةِ. وَإِذَا حَكَمْنَا بِعَدَمِ التَّعْيِينِ، فَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ بَعْدَ الشُّرُوعِ لِيَنْتَقِلَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ، لَكِنْ لَوْ كَانَ يَنْتَقِلُ فِي خُرُوجِهِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. أَمَّا إِذَا عَيَّنَ زَمَنَ الِاعْتِكَافِ فِي نَذْرِهِ، فَفِي تَعْيِينِهِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ كَانَ قَضَاءً. وَالثَّانِي: لَا يَتَعَيَّنُ، كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي تَعْيِينِ زَمَنِ الصَّوْمِ. فَصْلٌ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ مُدَّةٍ وَأَطْلَقَ، نُظِرَ، إِنْ شَرَطَ التَّتَابُعَ، لَزِمَهُ كَمَا لَوْ شَرَطَ التَّتَابُعَ فِي الصَّوْمِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ، بَلْ قَالَ: عَلَيَّ شَهْرٌ أَوْ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ شَاذٌّ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَوْ نَوَى التَّتَابُعَ بِقَلْبِهِ، فَفِي لُزُومِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُ. وَلَوْ شَرَطَ تَفْرِيقَهُ، فَهَلْ يُجْزِئُهُ الْمُتَتَابَعُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ. وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ، فَهَلْ يَجُوزُ تَلْفِيقُ سَاعَاتِهِ مِنْ أَيَّامٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْيَوْمِ، الْمُتَّصِلُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ، أَنَّ الْيَوْمَ: اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ. وَلَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي أَثْنَاءِ

النَّهَارِ وَخَرَجَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَمَكَثَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَهُوَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ بِاللَّيْلِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُجْزِئُهُ، سَوَاءٌ جَوَّزْنَا التَّفْرِيقَ أَوْ مَنَعْنَاهُ، لِحُصُولِ التَّوَاصُلِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصَحِّ: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِيَوْمٍ مُتَوَاصِلِ السَّاعَاتِ، وَاللَّيْلَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْيَوْمِ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ. وَلَوْ قَالَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا مِنْ هَذَا الْوَقْتِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دُخُولُ الْمُعْتَكَفِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ بِاللَّيْلِ لِيَتَحَقَّقَ التَّتَابُعُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمُلْتَزَمَ يَوْمٌ وَلَيْسَتِ اللَّيْلَةُ مِنْهُ، فَلَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ. وَالْقِيَاسُ: أَنْ يَجْعَلَ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، الْقَطْعَ بِجَوَازِ التَّفْرِيقِ لَا غَيْرَ. ثُمَّ حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ تَفْرِيعًا عَلَى جَوَازِ تَفْرِيقِ السَّاعَاتِ: أَنَّهُ يَكْفِيهِ سَاعَاتُ أَقْصَرِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَكَفَ أَقْصَرَ الْأَيَّامِ، جَازَ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ فَرَّقَ عَلَى سَاعَاتِ أَقْصَرِ الْأَيَّامِ فِي سِنِينَ، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَإِنِ اعْتَكَفَ فِي أَيَّامٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ اعْتِكَافُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِالْجُزْئِيَّةِ إِلَيْهِ، إِنْ كَانَ ثُلُثًا، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ ثُلُثِ مَا عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، نَظَرًا إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الِاعْتِكَافُ. وَلِهَذَا، لَوِ اعْتَكَفَ مِنْ يَوْمٍ طَوِيلٍ بِقَدْرِ سَاعَاتِ أَقْصَرِ الْأَيَّامِ، لَمْ يَكْفِهِ، وَهَذَا اسْتِدْرَاكٌ حَسَنٌ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بِمَا لَا يَشْفِي. أَمَّا إِذَا عَيَّنَ الْمُدَّةَ الْمَنْذُورَةَ، بِأَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْآنِ، أَوْ هَذِهِ الْعَشَرَةِ، أَوْ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ هَذَا الشَّهْرِ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ. فَلَوْ أَفْسَدَ آخِرَهُ بِخُرُوجٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَجِبِ الِاسْتِئْنَافُ. وَلَوْ فَاتَهُ الْجَمِيعُ، لَمْ يَجِبِ التَّتَابُعُ فِي الْقَضَاءِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ. هَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّتَابُعِ، فَلَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ: أَعْتَكِفُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ مُتَتَابِعَةً، فَهَلْ يَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ لِفَسَادِ آخِرِهِ، أَوِ التَّتَابُعُ فِي قَضَائِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبَانِ، لِتَصْرِيحِهِ، وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّ التَّتَابُعَ يَقَعُ ضَرُورَةً، فَلَا أَثَرَ لِتَصْرِيحِهِ.

فصل

فَصْلٌ فِي اسْتِتْبَاعِ اللَّيَالِي الْأَيَّامَ وَعَكْسِهِ. فَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ، لَزِمَهُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: أَيَّامُ شَهْرٍ، أَوْ نَهَارُهُ، فَلَا تَلْزَمُ اللَّيَالِي. وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَيَالِي هَذَا الشَّهْرِ، لَا تَلْزَمُهُ الْأَيَّامُ. وَلَوْ لَمْ يَلْفُظْ بِالتَّقْيِيدِ، لَكِنْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِنِيَّتِهِ. ثُمَّ إِذَا أَطْلَقَ الشَّهْرَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ الْهِلَالِ، كَفَاهُ ذَلِكَ الشَّهْرُ تَمَّ أَوْ نَقَصَ. فَإِنْ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، اسْتَكْمَلَ بِالْعَدَدِ. وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمُّ اللَّيْلَةِ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا، فَتَلْزَمُهُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّ اللَّيْلَةَ تَدَخُلُ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ يَوْمًا بِلَا لَيْلَةٍ. وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ، فَفِي لُزُومِ اللَّيْلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا تَلْزَمُ، إِلَّا إِذَا نَوَاهَا، وَالثَّانِي: تَلْزَمُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بَيَاضَ النَّهَارِ فَقَطْ، وَالثَّالِثُ: إِنْ نَوَى التَّتَابُعَ، أَوْ صَرَّحَ بِهِ، لَزِمَتْ، لِيَحْصُلَ التَّوَاصُلُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَهَذَا الثَّالِثُ أَرْجَحُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَرَجَّحَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَآخَرُونَ: الْأَوَّلَ. وَالْوَجْهُ: التَّوَسُّطُ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّتَابُعِ تَوَالِيَ الْيَوْمَيْنِ، فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ تَوَاصُلَ الِاعْتِكَافِ، فَالْحَقُّ مَا ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَتَيْنِ، فَفِي النَّهَارِ الْمُتَخَلِّلِ بَيْنَهُمَا هَذَا الْخِلَافُ. وَلَوْ نَذَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ عَشَرَةً، أَوْ ثَلَاثِينَ، فَفِي لُزُومِ اللَّيَالِي الْمُتَخَلِّلَةِ هَذَا الْخِلَافُ. وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي اللَّيَالِي الْمُتَخَلِّلَةِ، وَهِيَ تَنْقُصُ عَنْ عَدَدِ الْأَيَّامِ بِوَاحِدٍ أَبَدًا، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لَيَالِي بِعَدَدِ الْأَيَّامِ. وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعُشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرٍ، دَخَلَ فِيهِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي، وَتَكُونُ اللَّيَالِي هُنَا بِعَدَدِ الْأَيَّامِ كَمَا فِي الشَّهْرِ، فَيَدْخُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَيَخْرُجُ إِذَا اسْتَهَلَّ الْهِلَالُ تَمَّ الشَّهْرُ أَوْ نَقَصَ، لِأَنَّهُ مُقْتَضَاهُ.

فصل

وَلَوْ نَذَرَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، وَدَخَلَ قُبَيْلَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، فَنَقَصَ الشَّهْرُ، لَزِمَهُ يَوْمٌ مِنَ الشَّهْرِ الْآخَرِ، وَفِي دُخُولِ اللَّيَالِي هُنَا الْخِلَافُ. فَرْعٌ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ زِيدٌ، فَقَدِمَ لَيْلًا، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ قَدِمَ نَهَارًا، لَزِمَهُ بَقِيَّةُ النَّهَارِ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى عَلَى الْأَظْهَرِ، وَعَلَى الثَّانِي: يَلْزَمُهُ، فَيَقْضِي بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنْ يَوْمٍ آخَرَ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: الْأَوْلَى أَنْ يَسْتَأْنِفَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ لِيَكُونَ اعْتِكَافُهُ مُتَّصِلًا. وَلَوْ كَانَ النَّاذِرُ وَقْتَ الْقُدُومِ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا، قَضَى عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ. إِمَّا مَا بَقِيَ، وَإِمَّا يَوْمًا كَامِلًا عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، كَمَا لَوْ نَذَرَتْ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَحَاضَتْ فِيهِ. فَصْلٌ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافًا مُتَتَابِعًا، وَشَرَطَ الْخُرُوجَ إِنْ عَرَضَ عَارِضٌ، صَحَّ شَرْطُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَالْحَنَّاطِيُّ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ - قَوْلًا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَاهُ، فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ الْخُرُوجَ لِلْجِمَاعِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، نُظِرَ، إِنْ عَيَّنَ نَوْعًا فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ إِلَّا لِعِيَادَةِ الْمَرْضَى، أَوْ لِعِيَادَةِ زَيْدٍ، أَوْ تَشْيِيعِ جِنَازَتِهِ، خَرَجَ لِمَا عَيَّنَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَهَمَّ مِنْهُ. وَإِنْ أَطْلَقَ وَقَالَ: لَا أَخْرُجُ إِلَّا لِشُغْلٍ أَوْ عَارِضٍ، جَازَ الْخُرُوجُ لِكُلِّ شُغْلٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ. فَالْأَوَّلُ: كَالْجُمُعَةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَالْعِيَادَةِ، وَالثَّانِي: كَلِقَاءِ السُّلْطَانِ، وَاقْتِضَاءِ الْغَرِيمِ، وَلَا يَبْطُلُ التَّتَابُعُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا.

وَيُشْتَرَطُ فِي الشُّغْلِ الدُّنْيَوِيِّ، كَوْنُهُ مُبَاحًا. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يُشْتَرَطُ. وَلَيْسَتِ النَّظَّارَةُ وَالنُّزْهَةُ مِنَ الشُّغْلِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ عَرَضَ عَارِضٌ، قَطَعْتَ الِاعْتِكَافَ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ شَرَطَ الْخُرُوجَ إِلَّا أَنَّ فِي شَرْطِ الْخُرُوجِ، يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ عِنْدَ قَضَاءِ تِلْكَ الْحَاجَةِ. وَفِيمَا إِذَا شَرَطَ الْقَطْعَ، لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَمَضَانَ، إِلَّا أَنْ أَمْرَضَ أَوْ أُسَافِرَ، فَإِذَا مَرِضَ، أَوْ سَافَرَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً وَشَرَطَ الْخُرُوجَ مِنْهَا إِنْ عَرَضَ عَارِضٌ، أَوْ نَذَرَ صَوْمًا وَشَرَطَ الْخُرُوجَ مِنْهُ إِنْ جَاعَ أَوْ أُضِيفَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: يَصِحُّ الشَّرْطُ، وَالثَّانِي: لَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ، فَإِنَّ مَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ عِبَادَةٌ، وَبَعْضُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَلَوْ فَرَضَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ، انْعَقَدَ النَّذْرُ، كَمَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ الْمَشْرُوطُ. لَكِنْ فِي جَوَازِ الْخُرُوجِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وَالصَّوْمُ، وَالصَّلَاةُ، أَوْلَى بِجَوَازِ الْخُرُوجِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْحَجُّ أَوْلَى. وَلَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ حَاجَةٌ وَنَحْوُهَا، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَصَحُّ: صِحَّةُ الْمَشْرُوطِ أَيْضًا. فَإِذَا احْتَاجَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ فِي هَذِهِ الْقُرُبَاتِ كُلِّهَا: إِلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الشَّرْطُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا بَدَا لَهُ كَسَائِرِ الْعَوَارِضِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِمُجَرَّدِ الْخِيَرَةِ. وَذَلِكَ يُنَاقِضُ الِالْتِزَامَ. وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَهَلْ يُقَالُ: الِالْتِزَامُ بَاطِلٌ، أَمْ صَحِيحٌ وَيَلْغُو الشَّرْطُ؟ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : لَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ عَلَى قَوْلِنَا: لَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ وَجْهَيْنِ فِي صُورَةٍ تُقَارِبُ هَذَا، وَهِيَ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافًا مُتَتَابِعًا، وَشَرَطَ الْخُرُوجَ مَهْمَا أَرَادَ، فَفِي وَجْهٍ: يَبْطُلُ الْتِزَامُ التَّتَابُعِ. وَفِي وَجْهٍ: يَلْزَمُ التَّتَابُعُ، وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ.

فَرْعٌ إِذَا شَرَطَ الْخُرُوجَ لِغَرَضٍ، وَصَحَّحْنَاهُ فَخَرَجَ لَهُ، فَهَلْ يَجِبُ تَدَارُكُ الزَّمَنِ الْمَصْرُوفِ إِلَيْهِ؟ يُنْظَرُ، إِنْ نَذَرَ مُدَّةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، كَشَهْرٍ مُطْلَقٍ، وَجَبَ التَّدَارُكُ، لِتَتِمَّ الْمُدَّةُ الْمُلْتَزَمَةُ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ الشَّرْطِ تَنْزِيلَ ذَلِكَ الْغَرَضِ مَنْزِلَةَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، فِي أَنَّ التَّتَابُعَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ. وَإِنْ نَذَرَ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، كَشَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ هَذِهِ الْعَشَرَةِ، لَمْ يَجِبِ التَّدَارُكُ. فَرْعٌ فِيمَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي الِاعْتِكَافِ الْمُتَتَابِعِ، وَيَخْرُجُ إِلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَهُوَ أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: فَقْدُ بَعْضِ شُرُوطِ الِاعْتِكَافِ، وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، كَالْكَفِّ عَنِ الْجِمَاعِ، وَمُقَدِّمَاتِهِ فِي قَوْلٍ. وَيُسْتَثْنَى عَنْ هَذَا، عُرُوضُ الْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ، فَإِنَّهُمَا لَا يَقْطَعَانِهِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: الْخُرُوجُ بِكُلِّ الْبَدَنِ عَنْ كُلِّ الْمَسْجِدِ بِلَا عُذْرٍ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ قُيُودٍ، احْتَرَزْنَا بِالْأَوَّلِ عَمَّا إِذَا أَخْرَجَ رَأْسَهُ، أَوْ يَدَهُ، أَوْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، أَوْ كِلْتَيْهِمَا وَهُوَ قَاعِدٌ مَادَّهُمَا، فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ. فَإِنِ اعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا، فَهُوَ خَارِجٌ. وَاحْتَرَزْنَا بِالثَّانِي، عَمَّنْ صَعَدَ الْمَنَارَةَ لِلْأَذَانِ، وَلَهَا حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَابُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ رَحْبَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ، فَلَا يَضُرُّ صُعُودُهَا لِلْأَذَانِ أَوْ غَيْرُهُ كَسَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَسَوَاءً كَانَتْ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ وَالرَّحْبَةِ، أَوْ خَارِجَةً عَنْ سَمْتِ الْبَنَّاءِ وَتَرْبِيعِهِ. وَأَبْدَى الْإِمَامُ احْتِمَالًا فِي الْخَارِجَةِ عَنْ سِمَتِهِ

قَالَ: لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تُعَدُّ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِيهَا. وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ، يُنَازِعُهُ فِيمَا وَجَّهَ بِهِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ بَابُهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا فِي رَحْبَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ إِلَيْهَا لِغَيْرِ الْأَذَانِ. وَفِي الْمُؤَذِّنِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ فِي الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ، وَيَبْطُلُ فِي غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ فِيهِمَا. وَالثَّالِثُ: يَبْطُلُ فِيهِمَا. ثُمَّ إِنَّ الْغَزَالِيَّ فَرَضَ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَهِيَ مُلْتَصِقَةٌ بِحَرِيمِهِ. وَلَمْ يَشْرُطِ الْجُمْهُورُ فِي صُورَةِ الْخِلَافِ، سِوَى كَوْنِ بَابِهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ. وَزَادَ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ، فَنَقَلَ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا كَانَتْ فِي رَحْبَةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنِ الْمَسْجِدِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ طَرِيقٌ. قُلْتُ: لَكِنْ شَرَطُوا كَوْنَهَا مَبْنِيَّةً لِلْمَسْجِدِ، احْتِرَازًا مِنَ الْبَعِيدَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْعُذْرُ فَمَرَاتِبٌ. مِنْهَا: الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَغُسْلِ الِاحْتِلَامِ، فَلَا يَضُرُّ قَطْعًا. وَيَجُوزُ الْخُرُوجُ لِلْأَكْلِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَإِنْ عَطِشَ فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَهُ الْخُرُوجُ. وَإِنْ وَجَدَهُ، لَمْ يَجُزِ الْخُرُوجُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحْيَى مِنْهُ، وَلَا يُعَدُّ تَرْكَ مُرُوءَةٍ. ثُمَّ أَوْقَاتُ الْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ لَا يَجِبُ تَدَارُكُهَا لِعِلَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الِاعْتِكَافَ مُسْتَمِرٌّ فِيهَا، وَلِهَذَا لَوْ جَامَعَ فِي ذَلِكَ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ زَمَنَ الْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ مُسْتَثْنَى، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ. ثُمَّ إِذَا فَرَغَ وَعَادَ، لَمْ يَجِبْ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ. وَقِيلَ: إِنْ طَالَ الزَّمَانُ، فَفِي لُزُومِ وُجُوبِ التَّجْدِيدِ وَجْهَانِ وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَسْجِدِ سِقَايَةٌ، لَمْ نُكَلِّفْهُ قَضَاءَ الْحَاجَةِ فِيهَا. وَكَذَا لَوْ كَانَ بِجَنْبِهِ دَارَ صَدِيقٍ لَهُ، وَأَمْكَنَهُ دُخُولُهَا، لَمْ نُكَلِّفْهُ، بَلْ لَهُ الْخُرُوجُ إِلَى دَارِهِ وَإِنْ بَعُدَتْ، إِلَّا إِذَا تَفَاحَشَ الْبُعْدُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ، إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ فِي طَرِيقِهِ مَوْضِعًا، أَوْ كَانَ لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ أَنْ يَدْخُلَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ غَيْرَ

دَارِهِ. وَلَوْ كَانَتْ لَهُ دَارَانِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ بِحَيْثُ لَوِ انْفَرَدَتْ، جَازَ الْخُرُوجُ إِلَيْهَا، وَإِحْدَاهُمَا أَقْرَبُ، فَفِي جَوَازِ الْخُرُوجِ إِلَى الْأُخْرَى وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ. وَلَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْخُرُوجِ شِدَّةُ الْحَاجَةِ، وَإِذَا خَرَجَ، لَا يُكَلَّفُ الْإِسْرَاعَ، بَلْ يَمْشِي عَلَى سَجِيَّتِهِ الْمَعْهُودَةِ. قُلْتُ: فَلَوْ تَأَنَّى أَكْثَرَ مِنْ عَادَتِهِ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، ذَكَرَهُ فِي الْبَحْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَثُرَ خُرُوجُهُ لِلْحَاجَةِ لِعَارِضٍ يَقْتَضِيهِ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ كَلَامِ الْمُعَظَّمِ: أَنَّهُ لَا يَضُرُّ، نَظَرًا إِلَى جِنْسِهِ، وَالثَّانِي: يَضُرُّ، لِنُدُورِهِ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَلَا لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَلَوْ خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَعَادَ فِي طَرِيقِهِ مَرِيضًا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَقِفْ، وَلَا عَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى السُّؤَالِ وَالسَّلَامِ، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ وَقَفَ وَأَطَالَ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ. وَإِنْ لَمْ يُطِلْ، لَمْ يَبْطُلْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَادَّعَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِجْمَاعَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ. وَلَوِ ازْوَرَّ عَنِ الطَّرِيقِ قَلِيلًا، فَعَادَهُ، بَطَلَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ كَانَ الْمَرِيضُ فِي بَيْتٍ مِنَ الدَّارِ الَّتِي يَدْخُلُهَا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَالْعُدُولُ لِعِيَادَتِهِ قَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارٍ أُخْرَى، فَكَثِيرٌ. وَلَوْ خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَصَلَّى فِي الطَّرِيقِ عَلَى جِنَازَةٍ وَلَمْ يَنْتَظِرْهَا، وَلَا ازْوَرَّ، لَمْ يَضُرَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ وَقَفَ قَلِيلًا لِلْعِيَادَةِ. وَقِيلَ: إِنْ تَعَيَّنَتْ، لَمْ يَضُرَّ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَجَعَلَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، قَدْرَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ حَدًّا لِلْوَقْفَةِ الْيَسِيرَةِ، وَاحْتِمَالَهَا لِجَمِيعِ الْأَغْرَاضِ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَأْكُلَ لُقَمًا، إِذَا لَمْ نُجَوِّزِ الْخُرُوجَ لِلْأَكْلِ. وَلَوْ جَامَعَ فِي مُرُورِهِ، بِأَنْ كَانَ فِي هَوْدَجٍ، أَوْ جَامَعَ فِي وَقْفَةٍ يَسِيرَةٍ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ أَشَدُّ إِعْرَاضًا عَنِ الْعِبَادَةِ مِمَّنْ أَطَالَ الْوُقُوفَ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَبْطُلُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَكِفٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَلَمْ يَصْرِفْ إِلَيْهِ زَمَنًا. فَرْعٌ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَاسْتَنْجَى، فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ تَابِعًا، بِخِلَافِ مَا لَوِ احْتَاجَ إِلَى الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ عَلَى الْأَصَحِّ إِذَا أَمْكَنَ الْوُضُوءُ فِي الْمَسْجِدِ. فَرْعٌ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ الْمُعْتَكِفَةُ، لَزِمَهَا الْخُرُوجُ، وَهَلْ يَنْقَطِعُ تَتَابُعُهَا؟ إِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ طَوِيلَةً لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْحَيْضِ غَالِبًا، لَمْ يَنْقَطِعْ، بَلْ تَبْنِي إِذَا طَهُرَتْ كَالْحَيْضِ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ تَنْفَكُّ، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَنْقَطِعُ. فَرْعٌ الْمَرَضُ الْعَارِضُ لِلْمُعْتَكِفِ، أَقْسَامٌ. أَحَدُهَا: خَفِيفٌ لَا يَشُقُّ مَعَهُ الْمَقَامُ فِي الْمَسْجِدِ، كَالصُّدَاعِ الْخَفِيفِ، وَالْحُمَّى الْخَفِيفَةِ، فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بِسَبَبِهِ. فَإِنْ خَرَجَ، بَطَلَ التَّتَابُعُ.

وَالثَّانِي: يَشُقُّ مَعَهُ الْمَقَامُ لِحَاجَتِهِ إِلَى الْفِرَاشِ، وَالْخَادِمِ، وَتَرَدُّدِ الطَّبِيبِ، فَيُبَاحُ الْخُرُوجُ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ عَلَى الْأَظْهَرِ. الثَّالِثُ: مَرَضٌ يُخَافُ مِنْهُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ، كَالْإِسْهَالِ، وَإِدْرَارِ الْبَوْلِ، فَيَخْرُجُ. وَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَرْعٌ لَوْ خَرَجَ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، لَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: فَلَمْ يَتَذَكَّرِ النَّاسِي إِلَّا بَعْدَ طُولِ الزَّمَانِ، فَوَجْهَانِ، كَمَا لَوْ أَكَلَ الصَّائِمُ كَثِيرًا نَاسِيًا. وَمَنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ ظُلْمًا، لِمُصَادَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ خَافَ مِنْ ظَالِمٍ فَخَرَجَ وَاسْتَتَرَ، فَكَالْمُكْرَهِ. وَإِنْ أَخْرَجَهُ لِحَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُمَاطِلُ، بَطَلَ، لِتَقْصِيرِهِ. وَإِنْ حُمِلَ وَأُخْرِجَ، لَمْ يَبْطُلْ. وَقِيلَ: كَالْمُكْرَهِ، لِوُجُودِ الْمُفَارَقَةِ بِنَادِرٍ. فَرْعٌ إِذَا دُعِيَ لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ، فَخَرَجَ لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا، بَطَلَ تَتَابُعُهُ، سَوَاءً كَانَ التَّحَمُّلُ مُعَيَّنًا، أَمْ لَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ لِحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَإِنْ تَعَيَّنَ أَدَاؤُهَا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عِنْدَ التَّحَمُّلِ، بَطَلَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لَا يَنْقَطِعُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَبْطُلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ خَرَجَتِ الْمُعْتَكِفَةُ لِلْعِدَّةِ، لَمْ يَنْقَطِعْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَإِنْ خَرَجَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ عَلَيْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ، انْقَطَعَ. وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، لَمْ يَبْطُلْ عَلَى الْمَذْهَبِ. نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ. وَلَوْ لَزِمَهَا عِدَّةُ طَلَاقٍ، أَوْ وَفَاةٍ، لَزِمَهَا الْخُرُوجُ لِتَعْتَدَّ فِي مَسْكَنِهَا. فَإِذَا خَرَجَتْ، فَهَلْ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهَا، أَمْ تَبْنِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقَضَاءِ؟ فِيهِ الطَّرِيقَانِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ. لَكِنَّ الْمَذْهَبَ هُنَا، الْبِنَاءُ. فَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُهَا بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَقَدْ عَيَّنَ مُدَّةً، فَهَلْ يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ إِلَى الْمَسْكَنِ عِنْدَ الطَّلَاقِ أَوِ الْوَفَاةِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الْمُدَّةِ؟ قَوْلَانِ مَذْكُورَانِ فِي كِتَابِ «الْعُدَّةِ» . فَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَخَرَجَتْ، بَطَلَ اعْتِكَافُهَا بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ يَجِبُ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَيَبْطُلُ بِهِ الِاعْتِكَافُ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِإِمْكَانِ الِاعْتِكَافِ فِي الْجَامِعِ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ اعْتِكَافُهُ الْمَنْذُورُ أَقَلَّ مِنْ أُسْبُوعٍ، ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأُسْبُوعِ، حَيْثُ شَاءَ مِنَ الْمَسَاجِدِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْجَامِعِ، فَمَتَى شَاءَ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أُسْبُوعٍ، وَجَبَ أَنْ يُبْتَدَأَ فِي الْجَامِعِ. فَإِنْ عَيَّنَ غَيْرَ الْجَامِعِ، وَقُلْنَا بِالتَّعْيِينِ، لَمْ يَخْرُجْ عَنْ نَذْرِهِ، إِلَّا بِأَنْ يَمْرَضَ فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجُمُعَةُ، أَوْ بِأَنْ يَتْرُكَهَا عَاصِيًا وَيَدُومَ عَلَى اعْتِكَافِهِ. وَلَوْ أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ إِتْمَامُ الِاعْتِكَافِ ثُمَّ الْخُرُوجُ، وَيُدْرِكُ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ، خَرَجَ إِلَيْهِ وَبَطَلَ اعْتِكَافُهُ، فَإِذَا فَرَغَ، اسْتَأْنَفَ. فَرْعٌ كُلُّ مَا قَطَعَ التَّتَابُعَ، يَحُوجُ إِلَى الِاسْتِئْنَافِ بِنِيَّةٍ جَدِيدَةٍ. وَكُلُّ عُذْرٍ لَمْ يَجْعَلْهُ قَاطِعًا، فَعِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ يَجِبُ الْعَوْدُ. فَلَوْ أَخَّرَ، انْقَطَعَ التَّتَابُعُ وَتَعَذَّرَ الْبِنَاءُ،

وَلَا بُدَّ مِنْ قَضَاءِ الْأَوْقَاتِ الْمَصْرُوفَةِ إِلَى مَا عَدَا قَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَهَلْ يَجِبُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْعَوْدِ؟ أَمَّا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا. وَفِي مَعْنَاهُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، كَالِاغْتِسَالِ، وَكَذَا الْأَذَانُ إِذَا جَوَّزْنَا الْخُرُوجَ لَهُ. أَمَّا مَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجِبُ تَجْدِيدُهَا. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ، لِشُمُولِ النِّيَّةِ جَمِيعَ الْمُدَّةِ. وَطَرَدَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا خَرَجَ لِغَرَضٍ اسْتَثْنَاهُ، ثُمَّ عَادَ. وَلَوْ عَيَّنَ مُدَّةً، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّتَابُعِ، ثُمَّ جَامَعَ، أَوْ خَرَجَ بِلَا عُذْرٍ، فَفَسَدَ اعْتِكَافُهُ، ثُمَّ عَادَ لِيُتِمَّ الْبَاقِيَ، فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ التَّجْدِيدِ. قَالَ الْإِمَامُ: لَكِنَّ الْمَذْهَبَ هُنَا وُجُوبُ التَّجْدِيدِ. قُلْتُ: لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ نَهَارًا، صَحَّ، فَيَعْتَكِفُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» . وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، فَبَانَ أَنَّهُ أَنْقَصَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافًا وَقَالَ: إِنِ اخْتَرْتُ جَامَعْتُ، أَوْ إِنِ اتَّفَقَ لِي جِمَاعٌ، جَامَعْتُ، لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الحج

كِتَابُ الْحَجِّ لَا يَجِبُ الْحَجُّ بِأَصْلِ الشَّرْعِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَدْ يَجِبُ زِيَادَةً لِعَارِضٍ كَالنَّذْرِ أَوِ الْقَضَاءِ، أَوْ لِدُخُولِ مَكَّةَ عَلَى قَوْلٍ. وَمَنْ حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ إِنَّمَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا الْمَوْتُ. فَصْلٌ يَنْقَسِمُ النَّاسُ فِي الْحَجِّ إِلَى مَنْ يَصِحُّ لَهُ الْحَجُّ، وَمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَمَنْ يَقَعُ لَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الصِّحَّةُ الْمُطْلَقَةُ فَشَرْطُهَا: الْإِسْلَامُ فَقَطْ. فَلَا يَصِحُّ حَجُّ كَافِرٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّكْلِيفُ. فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَعَنِ الْمَجْنُونِ. وَأَمَّا صِحَّةُ الْمُبَاشَرَةِ، فَشَرْطُهَا: الْإِسْلَامُ، وَالتَّمْيِيزُ. فَلَا تَصِحُّ مُبَاشَرَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَتَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْعَبْدِ. وَسَيَأْتِي هَذَا كُلُّهُ فِي بَابِ حَجِّ الصَّبِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا وُقُوعُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلَهُ شَرْطَانِ زَائِدَانِ: الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ. وَلَوْ تَكَلَّفَ الْفَقِيرُ الْحَجَّ وَقَعَ عَنِ الْفَرْضِ. وَأَمَّا وُجُوبُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَشُرُوطُهُ خَمْسَةٌ: الْإِسْلَامُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ.

فَرْعٌ الِاسْتِطَاعَةُ نَوْعَانِ: اسْتِطَاعَةُ مُبَاشَرَةٍ بِنَفْسِهِ، وَاسْتِطَاعَةُ تَحْصِيلِهِ بِغَيْرِهِ. فَالْأُولَى تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةِ أُمُورٍ: الرَّاحِلَةُ، وَالزَّادُ، وَالطَّرِيقُ، وَالْبَدَنُ، وَإِمْكَانُ السَّيْرِ. فَالْأَوَّلُ: الرَّاحِلَةُ. وَالنَّاسُ فِيهَا قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ إِلَّا إِذَا وَجَدَ رَاحِلَةً، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ أَمْ لَا، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْقَادِرِ الْحَجُّ. وَهَلِ الْحَجُّ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ سَنُوَضِّحُهُمَا فِي كِتَابِ النَّذْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى مُهِمَّاتِ الْعِبَادَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ إِنْ كَانَ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْمِلٍ، وَلَا يَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّهِ إِلَّا وِجْدَانُ الرَّاحِلَةِ، وَإِلَّا فَيُعْتَبَرُ مَعَهَا وِجْدَانُ الْمَحْمِلِ. قَالَ فِي الشَّامِلِ: وَلَوْ لَحِقَهُ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي رُكُوبِ الْمَحْمِلِ، اعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ الْكَنِيسَةُ. وَذَكَرَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهَا الْمَحْمِلُ وَأَطْلَقُوا؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا. ثُمَّ الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِرُكُوبِ اثْنَيْنِ فِي الْمَحْمِلِ، فَإِذَا وَجَدَ مُؤْنَةَ مَحْمِلٍ، أَوْ شِقِّ مَحْمِلٍ، وَوَجَدَ شَرِيكًا يَرْكَبُ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ، لَزِمَهُ الْحَجُّ. وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الشَّرِيكَ فَلَا يَلْزَمُهُ، سَوَاءٌ وَجَدَ مُؤْنَةَ الْمَحْمِلِ أَوِ الشِّقِّ، كَذَا قَالَهُ فِي الْوَسِيطِ وَكَانَ لَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي لُزُومِ أُجْرَةِ الْبَذْرَقَةِ. وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ. فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْمَشْيِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَلَا تُعْتَبَرُ الرَّاحِلَةُ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَقْوَى لِلْمَشْيِ، أَوْ يَنَالُهُ بِهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ، اشْتُرِطَتِ الرَّاحِلَةُ وَالْمَحْمِلُ أَيْضًا إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّكُوبُ بِدُونِهِ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الْقَرِيبَ كَالْبَعِيدِ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ، وَلَا يُؤْمَرُ بِالزَّحْفِ بِحَالٍ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ. قُلْتُ: وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَجْهًا ضَعِيفًا عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الْقَطَّانِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَبْوُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَحَيْثُ اعْتَبَرْنَا وُجُودَ الرَّاحِلَةِ وَالْمَحْمِلِ فَالْمُرَادُ أَنْ يَمْلِكَهُمَا أَوْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَمَلُّكِهِمَا أَوِ اسْتِئْجَارِهِمَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يَصْرِفُهُ فِيهِمَا مِنَ الْمَالِ فَاضِلًا عَمَّا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الزَّادِ فَاضِلًا عَنْهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْأَمْرُ الثَّانِي: الزَّادُ. فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَنْ يَجِدَ الزَّادَ وَأَوْعِيَتَهُ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي السَّفَرِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ، أَوْ عَشِيرَةٌ، اشْتُرِطَ ذَلِكَ لِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ لِلرُّجُوعِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي اشْتِرَاطِ الرَّاحِلَةِ لِلرُّجُوعِ، وَهَلْ يُخَصُّ الْوَجْهَانِ بِمَا إِذَا لَمْ يَمْلِكْ بِبَلَدِهِ مَسْكَنًا، أَمْ لَا؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَهُ: التَّخْصِيصُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِلرُّجُوعِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ وَأَهْلٌ. وَهَذَا شَاذٌّ مُنْكَرٌ، وَلَيْسَ الْمَعَارِفُ وَالْأَصْدِقَاءُ كَالْعَشِيرَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِهِمْ مُتَيَسِّرٌ.

فَرْعٌ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ مَنْ لَزِمَهُ نَفَقَتُهُمْ، وَكُسْوَتُهُمْ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ. وَفِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهِمَا فَاضِلَيْنِ عَنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَتِهِ، لِزَمَانَتِهِ أَوْ مَنْصِبِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يُشْتَرَطُ كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَكَدِسْتِ ثَوْبٍ يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُ نَقْدٌ جَازَ صَرْفُهُ إِلَيْهِمَا. وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَتِ الدَّارُ مُسْتَغْرِقَةً بِحَاجَتِهِ، وَكَانَتْ سُكْنَى مِثْلِهِ، وَالْعَبْدُ عَبْدٌ مِثْلُهُ. فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ بَيْعُ بَعْضِ الدَّارِ وَوَفَّى ثَمَنُهُ بِمُؤْنَةِ الْحَجِّ، أَوْ كَانَا نَفِيسَيْنِ لَا يَلِيقَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ أَبْدَلَهُمَا لَوَفَّى التَّفَاوُتُ بِمُؤْنَةِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. هَكَذَا أَطْلَقُوهُ هُنَا. لَكِنْ فِي بَيْعِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ النَّفِيسَيْنِ الْمَأْلُوفَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ. وَلَا بُدَّ مِنْ جَرَيَانِهِمَا هُنَا. قُلْتُ: لَيْسَ جَرَيَانُهُمَا بِلَازِمٍ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ لِلْكَفَّارَةِ بَدَلًا؛ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْخَادِمِ وَالْمَسْكَنِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِمَا هُنَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوْ كَانَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ يَتَّجِرُ فِيهِ وَيُنْفِقُ مِنْ رِبْحِهِ وَلَوْ نَقَصَ بَطَلَتْ تِجَارَتُهُ، أَوْ كَانَتْ لَهُ مُسْتَغَلَّاتٌ يُحَصِّلُ مِنْهَا نَفَقَتَهُ، فَهَلْ يُكَلَّفُ بَيْعَهَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يُكَلَّفُ، كَمَا يُكَلَّفُ بَيْعَهَا فِي الدَّيْنِ، وَيُخَالِفُ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا فِي الْحَالِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ يَتَّخِذُهُ ذَخِيرَةً.

فَرْعٌ لَوْ مَلَكَ فَاضِلًا عَنِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، وَاحْتَاجَ إِلَى النِّكَاحِ لِخَوْفِهِ الْعَنَتَ، فَصَرْفُ الْمَالِ إِلَى النِّكَاحِ أَهَمُّ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْحَجِّ. هَذِهِ عِبَارَةُ الْجُمْهُورِ. وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ حَاجَةَ النِّكَاحِ نَاجِزَةٌ، وَالْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي. وَالسَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَيَصْرِفُ مَا مَعَهُ فِي النِّكَاحِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِهَذَا، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّزَوُّجَ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِي. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَخَفِ الْعَنَتَ، فَتَقْدِيمُ الْحَجِّ أَفْضَلُ، وَإِلَّا فَالنِّكَاحُ أَفْضَلُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَصْرِفُهُ إِلَى الزَّادِ، لَكِنَّهُ كَسُوبٌ يَكْسِبُ مَا يَكْفِيهِ، وَوَجَدَ نَفَقَةَ أَهْلِهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ تَعْوِيلًا عَلَى الْكَسْبِ؟ حَكَى الْإِمَامُ عَنْ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، وَلَا يَكْسِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلَّا كِفَايَةَ يَوْمِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنِ الْكَسْبِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ. وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ قَصِيرًا، وَيَكْسِبُ فِي يَوْمٍ كِفَايَةَ أَيَّامٍ، لَزِمَهُ الْخُرُوجُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَسْبِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ لَا تُجْعَلُ كَمِلْكِ الصَّاعِ.

فَرْعٌ وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا فَاضِلًا عَنْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ، مُؤَجَّلًا كَانَ أَمْ حَالًّا. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَجَلُ بِحَيْثُ يَنْقَضِي بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَجِّ لَزِمَهُ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَلَوْ كَانَ مَالُهُ دَيْنًا يَتَيَسَّرُ تَحْصِيلُهُ فِي الْحَالِ، بِأَنْ كَانَ حَالًّا عَلَى مَلِئِ مُقِرٍّ، أَوْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَهُوَ كَالْحَاصِلِ فِي يَدِهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ بِأَنْ كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ عَلَى مُعْسِرٍ، أَوْ جَاحِدٍ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ، فَكَالْمَعْدُومِ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الطَّرِيقُ. فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَمْنُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: النَّفْسُ، وَالْبِضْعُ، وَالْمَالُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ الْأَمْنُ الْمَطْلُوبُ قَطْعِيًّا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْأَمْنُ الْغَالِبُ فِي الْحَضَرِ بَلِ الْأَمْنُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ. فَأَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، النَّفْسُ. فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سَبُعٍ، أَوْ عَدُوٍّ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ، إِنْ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا آخَرَ آمِنًا. فَإِنْ وَجَدَهُ لَزِمَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَ مَسَافَةِ طَرِيقِهِ أَوْ أَبْعَدَ، إِذَا وَجَدَ مَا يَقْطَعُهُ بِهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ سُلُوكُ الْأَبْعَدِ. وَلَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ بَحْرٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَرِّ طَرِيقٌ أَيْضًا، لَزِمَهُ الْحَجُّ قَطْعًا، وَإِلَّا فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلَاكَ إِمَّا لِخُصُوصِ ذَلِكَ الْبَحْرِ، وَإِمَّا لِهَيَجَانِ الْأَمْوَاجِ لَمْ يَجِبْ. وَإِنْ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ وَجَبَ. وَإِنِ اسْتَوَيَا فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَقِيلَ: يَجِبُ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ رُكُوبَهُ وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ اسْتُحِبَّ عَلَى الْأَصَحِّ

إِنْ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ. وَإِنْ غَلَبَ الْهَلَاكُ حَرُمَ. وَإِنِ اسْتَوَيَا، فَفِي التَّحْرِيمِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ تَوَسَّطَ الْبَحْرَ وَقُلْنَا: لَا يَجِبُ رُكُوبُهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّمَادِي أَمْ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ؟ نُظِرَ إِنْ كَانَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَكْثَرَ، فَلَهُ الرُّجُوعُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَزِمَهُ التَّمَادِي قَطْعًا. وَإِنِ اسْتَوَيَا، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ التَّمَادِي. وَالْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ طَرِيقٌ غَيْرُ الْبَحْرِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَهُ الرُّجُوعُ قَطْعًا؛ لِئَلَّا يَتَحَمَّلَ زِيَادَةَ الْأَخْطَارِ. هَذَا كُلُّهُ فِي الرَّجُلِ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ، فَفِيهَا خِلَافٌ مُرَتَّبٌ وَأَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُوبِ لِضَعْفِهَا عَنِ احْتِمَالِ الْأَهْوَالِ، وَلِكَوْنِهَا عَوْرَةً مُعَرَّضَةً لِلِانْكِشَافِ وَغَيْرِهِ لِضِيقِ الْمَكَانِ. فَإِنْ لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهَا، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهَا. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ. وَلَيْسَتِ الْأَنْهَارُ الْعَظِيمَةُ كَجَيْحُونَ فِي حُكْمِ الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ الْمُقَامَ فِيهَا لَا يَطُولُ، وَالْخَطَرَ فِيهَا لَا يَعْظُمُ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: أَنَّهَا كَالْبَحْرِ. وَأَمَّا الْبِضْعُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحَجُّ حَتَّى تَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهَا بِزَوْجٍ، أَوْ مَحْرَمٍ بِنَسَبٍ أَوْ بِغَيْرِ نَسَبٍ، أَوْ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعَ إِحْدَاهُنَّ مَحْرَمٌ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْأَطْمَاعَ تَنْقَطِعُ بِجَمَاعَتِهِنَّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْزَمْهَا الْحَجُّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي قَوْلٍ: يَلْزَمُهَا إِذَا وَجَدَتِ امْرَأَةً وَاحِدَةً. وَفِي قَوْلٍ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ، وَنَقَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ: أَنَّهُ يَلْزَمُهَا أَنْ تَخْرُجَ وَحْدَهَا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَسْلُوكًا، كَمَا يَلْزَمُهَا الْخُرُوجُ إِذَا أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَحْدَهَا. وَجَوَابُ الْمَذْهَبِ عَنْ هَذَا أَنَّ الْخَوْفَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَكْثَرُ مِنَ الطَّرِيقِ. هَذَا فِي حَجِّ الْفَرْضِ، وَهَلْ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى سَائِرِ الْأَسْفَارِ مَعَ النِّسَاءِ الْخُلَّصِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يَجُوزُ. أَمَّا الْمَالُ، فَلَوْ خَافَ عَلَى مَالِهِ فِي الطَّرِيقِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ رَصَدِيٍّ، لَمْ يَجِبِ الْحَجُّ وَإِنْ كَانَ الرَّصَدِيُّ يَرْضَى بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ الطَّرِيقُ، وَسَوَاءٌ

كَانَ الَّذِي يَخَافُهُ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا. لَكِنْ إِذَا كَانُوا كُفَّارًا وَأَطَاقُوا مُقَاوَمَتَهُمْ، يُسْتَحَبُّ لَهُمُ الْخُرُوجُ لِلْحَجِّ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ لِيَنَالُوا الْحَجَّ وَالْجِهَادَ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَمْ يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ وَالْقِتَالُ. وَيُكْرَهُ بَذْلُ الْمَالِ لِلرَّصْدِيِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَلَوْ بَعَثُوا بِأَمَانِ الْحَجِيجِ، وَكَانَ أَمَانُهُمْ مَوْثُوقًا، أَوْ ضُمِنَ لَهُمْ مَا يَطْلُبُونَهُ، وَأَمِنَ الْحَجِيجُ لَزِمَهُمُ الْحَجُّ. وَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَخْفُرُهُمْ بِأُجْرَةٍ وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَمْنُهُمْ بِهِ فَفِي لُزُومِ اسْتِئْجَارِهِ وَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: أَصَحُّهُمَا: لُزُومُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُهَبِ الطَّرِيقِ كَالرَّاحِلَةِ. وَلَوِ امْتَنَعَ مَحْرَمُ الْمَرْأَةِ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهَا إِلَّا بِأُجْرَةٍ، قَالَ الْإِمَامُ: فَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى أُجْرَةِ الْخَفِيرِ، وَاللُّزُومُ فِي الْمَحْرِمِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْأُجْرَةِ مَعْنِيٌّ فِي الْمَرْأَةِ، فَأَشْبَهَ مُؤْنَةَ الْمَحْمِلِ فِي حَقِّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ وُجُودُ الزَّادِ وَالْمَاءِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِحَمْلِ الزَّادِ وَالْمَاءِ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَتْ سَنَةَ جَدْبٍ، وَخَلَا بَعْضُ تِلْكَ الْمَنَازِلِ مِنْ أَهْلِهَا، أَوِ انْقَطَعَتِ الْمِيَاهُ، لَمْ يَجِبِ الْحَجُّ. وَكَذَا لَوْ كَانَ يَجِدُ فِيهَا الزَّادَ وَالْمَاءَ، لَكِنْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ اللَّائِقُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَإِنْ وَجَدَهُمَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَزِمَ التَّحْصِيلُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأَسْعَارُ رَخِيصَةً أَوْ غَالِيَةً إِذَا وَفَّى مَالُهُ بِهِ. وَيَجِبُ حَمْلُهَا بِقَدْرِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ زَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى شَرَفًا، كَحَمْلِ الزَّادِ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَحَمْلِ الْمَاءِ مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ، وَوُجِدَ آلَاتُ الْحَمْلِ. أَمَّا عَلَفُ الدَّابَّةِ، فَيُشْتَرَطُ وَجُودُهُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَعْظُمُ بِحَمْلِهِ لِكَثْرَتِهِ. ذَكَرَهُ صَاحِبَا «التَّهْذِيبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرُهُمَا. قُلْتُ: إِذَا ظَنَّ كَوْنَ الطَّرِيقَ فِيهِ مَانِعٌ مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ عَدَمِ مَاءٍ، أَوْ عَلَفٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَتَرَكَ الْحَجَّ، ثُمَّ بَانَ أَنْ لَا مَانِعَ، فَقَدْ لَزِمَهُ الْحَجُّ. صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ.

وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ الْمَانِعِ وَلَا عَدَمَهُ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: إِنْ كَانَ هُنَاكَ أَصْلٌ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا وَجَبَ الْحَجُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَجِدَ رُفْقَةً يَخْرُجُ مَعَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِالْخُرُوجِ فِيهِ. فَإِنْ خَرَجُوا قَبْلَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْخُرُوجُ مَعَهُمْ. وَإِنْ أَخَّرُوا الْخُرُوجَ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُونَ إِلَّا بِأَنْ يَقْطَعُوا فِي كُلِّ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا. فَإِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ بِحَيْثُ لَا يَخَافُ الْوَاحِدُ فِيهَا، لَزِمَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الرُّفْقَةِ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ: الْبَدَنُ. وَيُشْتَرَطُ فِيهِ لِاسْتِطَاعَةِ الْمُبَاشَرَةِ قُوَّةٌ يَسْتَمْسِكُ بِهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَالْمُرَادُ: أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِلَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، فَإِنْ وَجَدَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ مُسْتَطِيعًا. وَالْأَعْمَى إِذَا وَجَدَ مَعَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ قَائِدًا لَزِمَهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ. وَالْقَائِدُ لَهُ كَالْمَحْرَمِ لِلْمَرْأَةِ. وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ كَغَيْرِهِ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا يُدْفَعُ الْمَالُ إِلَيْهِ، بَلْ يَصْحَبُهُ الْوَلِيُّ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُنَصِّبَ قَيِّمًا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَإِذَا شَرَعَ السَّفِيهُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ، أَوْ حَجٍّ نَذَرَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ بِغَيْرِ إِذَنِ الْوَلِيِّ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ تَحْلِيلُهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ إِلَى فَرَاغِهِ. وَلَوْ شَرَعَ فِي حَجِّ تَطَوُّعٍ، ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ. وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ بَعْدَ الْحَجْرِ، فَلِلْوَلِيِّ تَحْلِيلُهُ إِنْ كَانَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْحَجِّ يَزِيدُ عَلَى نَفَقَتِهِ الْمَعْهُودَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ. فَإِنْ لَمْ يَزِدْ، أَوْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ يَفِي مَعَ قَدْرِ النَّفَقَةِ الْمَعْهُودَةِ وَجَبَ إِتْمَامُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ تَحْلِيلُهُ.

الْأَمْرُ الْخَامِسُ: إِمْكَانُ السَّيْرِ وَهُوَ أَنْ يَبْقَى مِنَ الزَّمَانِ عِنْدَ وُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، مَا يُمْكِنُ السَّيْرُ فِيهِ إِلَى الْحَجِّ السَّيْرَ الْمَعْهُودَ. فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَقْطَعَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ. وَهَذَا الْأَمْرُ شَرَطَهُ الْأَئِمَّةُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، وَقَدْ أَهْمَلَهُ الْغَزَالِيُّ. قُلْتُ: أَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ عَلَى الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - اعْتِرَاضَهُ عَلَى الْغَزَالِيِّ، وَجَعْلَهُ إِمْكَانَ السَّيْرِ رُكْنًا لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ شَرْطُ اسْتِقْرَارِ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهِ، لِيَجِبَ قَضَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَلَيْسَ شَرْطًا لَأَصْلِ وُجُوبِ الْحَجِّ. بَلْ مَتَى وُجِدَتِ الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ حُرٍّ، لَزِمَهُ الْحَجُّ فِي الْحَالِ، كَالصَّلَاةِ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ قَبْلَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُهَا. ثُمَّ اسْتِقْرَارُهَا فِي الذِّمَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُضِيِّ الزَّمَانِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهِمَا. وَالصَّوَابُ: مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ كَمَا نُقِلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ. وَكَيْفَ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا وَهُوَ عَاجِزٌ حِسًّا؟ ! وَأَمَّا الصَّلَاةُ، فَإِنَّمَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِإِمْكَانِ تَتْمِيمِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. النَّوْعُ الثَّانِي: الِاسْتِطَاعَةُ بِغَيْرِهِ. يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الشَّخْصِ غَيْرُهُ، إِذَا عَجَزَ عَنِ الْحَجِّ، بِمَوْتٍ، أَوْ كَسْرٍ، أَوْ زَمَانَةٍ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، أَوْ كَانَ كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَصْلًا، أَوْ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ. فَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ، إِذَا أَمْكَنَهُ الثُّبُوتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، لَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمَنْ لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِمَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ. وَكَذَا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ثُمَّ جُنَّ، لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَفِيقُ فَيَحُجُّ

بِنَفْسِهِ. فَلَوِ اسْتَنَابَ عَنْهُ فَمَاتَ قَبْلَ الْإِفَاقَةِ، فَفِي إِجْزَائِهِ الْقَوْلَانِ فِي اسْتِنَابَةِ الْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ إِذَا مَاتَ. هَذَا كُلُّهُ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ. أَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ عَنِ الْقَادِرِ قَطْعًا. وَفِي اسْتِنَابَةِ الْمَعْضُوبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْوَارِثِ عَنِ الْمَيِّتِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ حَجَّ، وَلَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ فَفِي جَوَازِ الْإِحْجَاجِ عَنْهُ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ. لِوُقُوعِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ لِلتَّطَوُّعِ وَجَوَّزْنَاهُ فَلِلْأَجِيرِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ عَبْدًا، أَوْ صَبِيًّا، بِخِلَافِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُمَا فِيهَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا. وَفِي الْمَنْذُورَةِ، الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ، فِي أَنَّهُ يَسْلُكُ بِالنَّذْرِ مَسْلَكَ الْوَاجِبَاتِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِئْجَارَ لِلتَّطَوُّعِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْأَجِيرِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُسَمَّى. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: يَسْتَحِقُّ. قُلْتُ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا الْخِلَافُ إِذَا جَهِلَ الْأَجِيرُ فَسَادَ الْإِجَارَةِ. فَإِنْ عَلِمَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِلَا خِلَافٍ. قَالَ: وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي الْمَعْضُوبِ، فَإِنْ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِحَجَّةِ تَطَوُّعٍ، وَقُلْنَا: لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَحَجَّ الْأَجِيرُ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ بِلَا خِلَافٍ، لَا عَلَى الْوَصِيِّ وَلَا عَلَى الْوَارِثِ، وَلَا فِي التَّرِكَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ مَنْ بِهِ عِلَّةٌ يُرْجَى زَوَالُهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ. فَإِنِ اسْتَنَابَ فَحَجَّ النَّائِبُ فَشُفِيَ لَمْ يُجْزِئْهُ قَطْعًا. وَإِنْ مَاتَ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، فَأُحِجَّ عَنْهُ ثُمَّ شُفِيَ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ

الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ. فَإِنْ قُلْنَا فِي الصُّورَتَيْنِ: يُجْزِئُهُ، اسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ، وَإِلَّا فَهَلْ يَقَعُ عَنْ تَطَوُّعِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَكُونُ هَذَا عُذْرًا فِي جَوَازِ وُقُوعِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ الْفَرْضِ، كَالرِّقِّ، وَالصِّبَا، أَمْ لَا يَقَعُ عَنْهُ أَصْلًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الثَّانِي، وَصَحَّحَ الْغَزَالِيُّ الْأَوَّلَ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَقَعُ عَنْهُ أَصْلًا، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ أُجْرَةً؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لَهُ فِي اعْتِقَادِهِ فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى، أَمْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ؟ وَجْهَانِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَقَعُ عَنْ تَطَوُّعِهِ اسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ. وَهَلْ هِيَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَمِ الْمُسَمَّاةُ؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ هُنَا: الْمُسَمَّى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَا يُجْزِئُ الْحَجُّ عَنِ الْمَعْضُوبِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، بِخِلَافِ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْإِذْنِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَيَجُوزُ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَيَجِبُ عِنْدَ اسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ، أَمْ لَا. وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ كَالدَّيْنِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمَعْضُوبُ، فَتَلْزَمُهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْجُمْلَةِ، سَوَاءٌ طَرَأَ الْعَضَبُ بَعْدَ الْوُجُوبِ أَوْ بَلَغَ مَعْضُوبًا وَاجِدًا لِلْمَالِ. ثُمَّ لِوُجُوبِ الِاسْتِنَابَةِ عَلَيْهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجِدَ مَالًا يَسْتَأْجِرُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ. وَشَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنِ الْحَاجَاتِ

الْمَذْكُورَةِ فِيمَنْ يَحُجُّ بِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنَّا اعْتَبَرْنَا هُنَاكَ، أَنْ يَكُونَ الْمَصْرُوفُ إِلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إِلَى الرُّجُوعِ. وَهُنَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَتِهِمْ وَكُسْوَتِهِمْ يَوْمَ الِاسْتِئْجَارِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَجِيرِ مِنَ الْحَجِّ. وَهَلْ تُعْتَبَرُ مُدَّةُ الذَّهَابَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا فِي الْفِطْرَةِ وَالْكَفَّارَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُفَارِقْ أَهْلَهُ، أَمْكَنَهُ تَحْصِيلُ نَفَقَتِهِمْ. ثُمَّ إِنْ وَفَّى مَا يَجِدُهُ بِأُجْرَةِ رَاكِبٍ، فَذَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَفِ إِلَّا بِأُجْرَةِ مَاشٍ، فَفِي وُجُوبِ الِاسْتِئْجَارِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ، إِذْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي مَشْيِ الْأَجِيرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا حَجَّ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ طَلَبَ الْأَجِيرُ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، لَمْ يَجِبِ الِاسْتِئْجَارُ، وَلَوْ رَضِيَ بِأَقَلَّ مِنْهَا وَجَبَ. وَلَوِ امْتَنَعَ مِنَ الِاسْتِئْجَارِ، فَهَلْ يَسْتَأْجِرُ عَنْهُ الْحَاكِمُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَجِدَ الْمَالَ، لَكِنْ يَجِدُ مَنْ يُحَصِّلُ لَهُ الْحَجَّ، وَفِيهِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: أَنْ يَبْذُلَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ مَالًا لِيَسْتَأْجِرَ لَهُ، فَفِي لُزُومِ قَبُولِهِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا يَلْزَمُ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْذُلَ وَاحِدٌ مِنْ بَنِيهِ أَوْ بَنَاتِهِ أَوْ أَوْلَادِهِمُ الطَّاعَةَ فِي الْحَجِّ، فَيَلْزَمُهُ الْقَبُولُ وَالْحَجُّ قَطْعًا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُطِيعُ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَوْثُوقًا بِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَعْضُوبًا. قُلْتُ: وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ فِي «الْأَمَالِي» وَجْهًا وَاهِيًا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ تَوَسَّمَ أَثَرَ الطَّاعَةِ [فِيهِ] ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْأَمْرُ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: يَلْزَمُهُ، لِحُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَلَوْ بَذَلَ الْمُطِيعُ الطَّاعَةَ، فَلَمْ يَأْذَنِ الْمُطَاعُ، فَهَلْ يَنُوبُ الْحَاكِمُ عَنْهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ مَبْنَى الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي

، وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الشَّرَائِطُ، فَمَاتَ الْمُطِيعُ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، فَإِنْ مَضَى وَقْتُ إِمْكَانِ الْحَجِّ، اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ مَنْ يُطِيعُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِطَاعَتِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ مَوْرُوثٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ. وَشَبَّهَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» بِمَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ، لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَشَبَّهَهُ صَاحِبُ «الْمُعْتَمَدِ» بِالْمَالِ الضَّالِّ فِي الزَّكَاةِ. وَالْمَذْهَبُ: وَجُوبُهَا فِيهِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لَا يَجِبُ الْحَجُّ بِحَالٍ، فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمَالِ وَالطَّاعَةِ. وَلَوْ بَذَلَ الْوَلَدُ الطَّاعَةَ، ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ رُجُوعُهُ الْجَائِزُ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ أَهْلُ بَلَدِهِ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَبِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ «الرَّهْنِ» هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَسَائِلِ بَيْعِ الْعَدْلِ الرَّهْنَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْذُلَ الْأَجْنَبِيُّ الطَّاعَةَ، فَيَلْزَمُ قَبُولُهَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْأَخُ كَالْأَجْنَبِيِّ قَطْعًا؛ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَهُ يَثْقُلُ. وَكَذَا الْأَبُ عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَحُكِيَ فِي بَعْضِ التَّعَالِيقِ وَجْهٌ: أَنَّهُ كَالِابْنِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّفَقَةِ. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبْذُلَ الْوَلَدُ الْمَالَ، فَلَا يَلْزَمُ قَبُولُهُ عَلَى الْأَصَحِّ لِعِظَمِ الْمِنَّةِ فِيهِ. وَبَذْلُ الْأَبِ الْمَالَ كَبَذْلِ الِابْنِ، أَوْ كَبَذْلِ الْأَجْنَبِيِّ، فِيهِ احْتِمَالَانِ ذَكَرَهُمَا الْإِمَامُ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. فَرْعٌ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ فِي بَذْلِ الطَّاعَةِ، هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَاذِلُ رَاكِبًا. فَلَوْ بَذَلَ الِابْنُ الطَّاعَةَ لِيَحُجَّ مَاشِيًا، فَفِي لُزُومِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: هُمَا مُرَتَّبَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي لُزُومِ اسْتِئْجَارِ الْمَاشِي، وَهُنَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ

فصل

مَشْيُ وَلَدِهِ. وَفِي مَعْنَاهُ الْوَالِدُ إِذَا أَطَاعَ وَأَوْجَبْنَا قَبُولَهُ. وَلَا يَجِئُ التَّرْتِيبُ إِذَا كَانَ الْمُطِيعُ الْأَجْنَبِيَّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَبُولُ إِذَا كَانَ الْوَلَدُ، أَوِ الْوَالِدُ مَاشِيًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقَبُولَ وَالْمُطِيعُ مَاشٍ، فَهُوَ فِيمَا إِذَا مَلَكَ الزَّادَ. فَإِنْ عَوَّلَ عَلَى الْكَسْبِ فِي الطَّرِيقِ، فَفِي وُجُوبِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ قَدْ يَنْقَطِعُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْتَسِبًا، وَعَوَّلَ عَلَى السُّؤَالِ، فَأَوْلَى بِالْمَنْعِ. فَإِنْ كَانَ يَرْكَبُ مَفَازَةً لَيْسَ بِهَا كَسْبٌ وَلَا سُؤَالٌ، لَمْ يَجِبِ الْقَبُولُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ التَّغْرِيرُ بِالنَّفْسِ. قُلْتُ: إِذَا أَفْسَدَ الْبَاذِلُ حَجَّهُ، انْقَلَبَ إِلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَجِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَلَوْ بَذَلَ لِأَبَوَيْهِ فَقَبِلَا لَزِمَهُ وَيَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، قَالَ: وَإِذَا قَبِلَ الْأَبُ الْبَذْلَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَعْضُوبِ حَجَّةُ نَذْرٍ، فَهِيَ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ [فِي الْعُمْرَةِ] فِي الْعُمْرَةِ قَوْلَانِ، الْأَظْهَرُ الْجَدِيدُ: أَنَّهَا فَرْضٌ كَالْحَجِّ. وَالْقَدِيمُ: سُنَّةٌ. وَإِذَا أَوْجَبْنَاهَا، فَهِيَ فِي شَرْطِ مُطَلَقِ الصِّحَّةِ. وَصِحَّةُ الْمُبَاشَرَةِ وَالْوُجُوبِ وَالْإِجْزَاءِ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ، وَالِاسْتِطَاعَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا.

فصل

فَصْلٌ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِلْحَجِّ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، لِدُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهِ كَالزَّكَاةِ. وَيَجُوزُ بِالرِّزْقِ، كَمَا يَجُوزُ بِالْإِجَارَةِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: حُجَّ عَنِّي وَأُعْطِيكَ نَفَقَتَكَ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ بِالنَّفَقَةِ، لَمْ تَصِحَّ، لِجَهَالَتِهَا. فَرْعٌ الِاسْتِئْجَارُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ ضَرْبَانِ. اسْتِئْجَارُ عَيْنِ الشَّخْصِ، وَإِلْزَامُ ذِمَّتِهِ الْعَمَلَ. مِثَالُ الْأَوَّلِ مِنَ الْحَجِّ، أَنْ يَقُولَ الْمَعْضُوبُ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي، أَوْ يَقُولَ الْوَارِثُ: لِتَحُجَّ عَنْ مَيِّتِي. وَلَوْ قَالَ: لِتَحُجَّ بِنَفْسِكَ، كَانَ تَأْكِيدًا. وَمِثَالُ الثَّانِي: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ تَحْصِيلَ الْحَجِّ. وَيَفْتَرِقُ الضَّرْبَانِ، فِي أُمُورٍ سَتَرَاهَا إِنْ شَاءَ تَعَالَى. ثُمَّ لِصِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ شُرُوطٌ. وَلَهُ آثَارٌ وَأَحْكَامٌ، مَوْضِعُهَا كِتَابُ الْإِجَارَةِ وَالَّذِي نَذْكُرُ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ الْحَجِّ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ضَرْبَيِ الْإِجَارَةِ، قَدْ يُعَيَّنُ فِيهِ زَمَنُ الْعَمَلِ، وَقَدْ لَا يُعَيَّنُ. وَإِذَا عُيِّنَ، فَقَدْ يُعَيَّنُ السَّنَةُ الْأُولَى، وَقَدْ يُعَيَّنُ غَيْرُهَا، فَأَمَّا فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ، فَإِنْ عَيَّنَا السَّنَةَ الْأُولَى، جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ وَالْحَجُّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا مَقْدُورًا لِلْأَجِيرِ. فَلَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ، أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مُخَوِّفًا، أَوْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بِحَيْثُ لَا تَنْقَطِعُ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، لِلْعَجْزِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ. وَإِنْ عَيَّنَا غَيْرَ السَّنَةِ الْأُولَى

لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ - كَاسْتِئْجَارِ الدَّارِ لِلشَّهْرِ الْمُسْقَبَلِ - لَكِنْ لَوْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً لَا يُمْكِنُ قَطْعُهَا فِي سَنَةٍ، لَمْ يَضُرَّ التَّأْخِيرُ. وَالْمُعْتَبَرُ السَّنَةُ الْأُولَى مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ. وَإِنْ أَطْلَقَا وَلَمْ يُعَيِّنَا زَمَنًا حُمِلَ عَلَى السَّنَةِ الْأُولَى. فَيُعْتَبَرُ فِيهَا مَا سَبَقَ. وَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَيَجُوزُ فِيهَا تَعْيِينُ السَّنَةِ الْأُولَى وَغَيْرِهَا. فَإِنْ أُطْلِقَ حُمِلَ عَلَى الْأُولَى، وَلَا يَقْدَحُ فِيهَا مَرَضُ الْأَجِيرِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِنَابَةِ، وَلَا خَوْفُ الطَّرِيقِ، وَلَا ضِيقُ الْوَقْتِ، إِنْ عُيِّنَ غَيْرُ السَّنَةِ الْأُولَى. وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ بِحَالٍ. وَأَمَّا إِجَارَةُ الذِّمَّةِ فَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ إِنْ قَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ تَحْصِيلَ حَجَّةٍ لِي، جَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَإِنْ قَالَ: لِتَحُجَّ بِنَفْسِكَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَعْيَانِ الْأُجَرَاءِ. وَهَذَا قَدْ حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ وَخَطَّأَهُ فِيهِ، وَقَالَ بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنِيَّةَ مَعَ الرَّبْطِ بِمُعَيَّنٍ تَتَنَاقَضَانِ. كَمَنْ أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ مُعَيَّنٍ [بِعَيْنِهِ] . وَهَذَا إِشْكَالٌ قَوِيٌّ. فَرْعٌ أَعْمَالُ الْحَجِّ مَعْرُوفَةٌ، فَإِنْ عَلِمَهَا الْمُتَعَاقِدَانِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَذَاكَ. وَإِنْ جَهِلَهَا أَحَدُهُمَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمِيقَاتِ الَّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ الْأَجِيرُ؟ فِيهِ طُرُقٌ. أَصَحُّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ، وَيُحْمَلُ عَلَى مِيقَاتِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: إِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ طَرِيقَانِ مُخْتَلِفَا الْمِيقَاتِ، أَوْ طَرِيقٌ يُفْضِي إِلَى مِيقَاتَيْنِ كَالْعَقِيقِ، وَذَاتِ عِرْقٍ، اشْتُرِطَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ [لَهُ] إِلَّا مِيقَاتٌ وَاحِدٌ، لَمْ يُشْتَرَطْ. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ

عَنْ حَيٍّ اشْتُرِطَ وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ شَرَطْنَا التَّعْيِينَ فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ بِإِهْمَالِهِ. لَكِنْ يَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ، وَيَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ يُفْرِدُ، أَوْ يُقْرِنُ، أَوْ يَتَمَتَّعُ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِهَا. فَرْعٌ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ [عَنْ] نَصِّهِ فِي «الْمَنْثُورِ» : أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمَعْضُوبُ: مَنْ حَجَّ عَنِّي، فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَحَجَّ عَنْهُ إِنْسَانٌ، اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ. وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ هَذَا النَّصَّ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَتَصِحُّ الْجَعَالَةُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَعَالَةَ تَجُوزُ عَلَى الْعَمَلِ الْمَجْهُولِ، فَعَلَى الْمَعْلُومِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّصَّ مُخَالِفٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ، وَلَا تَجُوزُ الْجَعَالَةَ عَلَى مَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ، إِذْ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهَا لِإِمْكَانِ الْإِجَارَةِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ حَجَّ عَنْهُ إِنْسَانٌ، وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْمَعْضُوبِ لِلْإِذْنِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَفْسُدُ الْإِذْنُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَجَّهٍ إِلَى إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ. فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُ مَنْ أَرَادَ بِيعَ دَارِي، فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ. قُلْتُ: لَوْ قَالَ: مَنْ حَجَّ عَنِّي، أَوْ أَوَّلُ مَنْ يَحُجُّ عَنِّي، فَلَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَسَمِعَهُ رَجُلَانِ فَأَحْرَمَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، وَقَعَ الْأَوَّلُ عَنِ الْقَائِلِ، وَلَهُ الْأَلْفُ، وَوَقَعَ حَجُّ الثَّانِي عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ وَقَعَا مَعًا وَشُكَّ فِي وُقُوعِهِمَا مَعًا، وَقَعَ حَجُّهُمَا عَنْهُمَا وَلَا شَيْءَ لَهُمَا عَلَى الْقَائِلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْأَصْحَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ مُقْتَضَى كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ تَجْوِيزُ تَقْدِيمِ الْإِجَارَةِ عَلَى خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ، وَأَنَّ لِلْأَجِيرِ انْتِظَارَ خُرُوجِهِمْ، وَيَخْرُجُ مَعَ أَوَّلِ رُفْقَةٍ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ يُنَازَعُ فِيهِ. وَيَقْتَضِي اشْتِرَاطَ وُقُوعِ الْعَقْدِ فِي زَمَنِ خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ. حَتَّى قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : لَا تَصِحُّ إِجَارَةُ الْعَيْنِ، إِلَّا فِي وَقْتِ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ، بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِالْخُرُوجِ أَوْ بِأَسْبَابِهِ مِنْ شِرَاءِ الزَّادِ وَنَحْوِهِ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ بِمَكَّةَ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِيُمْكِنَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْعَمَلِ عَقِيبَ الْعَقْدِ. وَعَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَوْ جَرَى الْعَقْدُ فِي وَقْتِ تَرَاكُمِ الْإِنْدَاءِ وَالثُّلُوجِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَجِيزِ» ، وَصَحَّحَهُ فِي «الْوَسِيطِ» لِأَنَّ تَوَقُّعَ زَوَالِهَا مَضْبُوطٌ. وَالثَّانِي: لَا لِتَعَذُّرِ الِاشْتِغَالِ بِالْعَمَلِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ انْتِظَارِ خُرُوجِ الرُّفْقَةِ فَإِنَّ خُرُوجَهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٌ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ. أَمَّا إِجَارَةُ الذِّمَّةِ، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْخُرُوجِ بِلَا شَكٍّ. قُلْتُ: أَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ هَذَا النَّقْلَ عَنْ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلَامِ الْإِمَامِ، أَوْ هُوَ شُذُوذٌ مِنْ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» لَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إِلَى جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، فَإِنَّ الَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي «التَّتِمَّةِ» وَ «الشَّامِلِ» وَ «الْبَحْرِ» وَغَيْرِهَا، مُقْتَضَاهُ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْخُرُوجُ وَالسَّيْرُ عَلَى الْعَادَةِ، أَوِ الِاشْتِغَالُ بِأَسْبَابِ الْخُرُوجِ. قَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : أَمَّا عَقْدُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَيَجُوزُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، لِإِمْكَانِ الْإِحْرَامِ فِي الْحَالِ، هَذَا كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرٍو. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ

إِذَا لَمْ يَشْرَعِ الْأَجِيرُ فِي الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ، انْفَسَخَتْ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ نُظِرَ إِنْ لَمْ يُعَيِّنَا سَنَةً، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ كَتَعْيِينِ السَّنَةِ الْأُولَى. وَذُكِرَ فِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَنِ السَّنَةِ الْأُولَى وَالْحَالَةُ هَذِهِ، لَكِنْ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ. وَإِنْ عَيَّنَا الْأُولَى أَوْ غَيْرَهَا، فَأَخَّرَ عَنْهَا، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا لَوِ انْقَطَعَ الْمُسْلِمُ فِيهِ فِي مَحَلِّهِ. أَظْهَرُهَا: لَا تَنْفَسِخُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الْمَعْضُوبُ، فَلَهُ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ لِيَحُجَّ فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى. وَإِنْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَنْ مَيِّتٍ مِنْ مَالِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ: لَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ. وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ فِي هَذَا. وَذَكَرَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ: أَنَّ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُرَاعِيَ النَّظَرَ لِلْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ لِخَوْفِ إِفْلَاسِ الْأَجِيرِ أَوْ هَرَبِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ ضُمِّنَ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْعِرَاقِيِّينَ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ رَأَيْتُهُمَا لِلْأَئِمَّةِ. أَحَدُهُمَا: صَوَّرَ بَعْضُهُمُ الْمَنْعَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ إِنْسَانٌ بِمِائَةٍ مَثَلًا، وَوَجْهُهُ: بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُسْتَحَقَّةُ الصَّرْفِ إِلَيْهِ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الشَّرْحِ: لِلْمُسْتَأْجِرِ لِمَيِّتٍ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيَفْسَخَ الْعَقْدَ إِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، فَإِذَا نَزَلَ مَنْ ذَكَرُوهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ. وَإِنْ نَزَلَ عَلَى الثَّانِي هَانَ أَمْرُهُ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ الْمَعْضُوبُ لِنَفْسِهِ، فَمَاتَ وَأَخَّرَ الْأَجِيرُ الْحَجَّ عَنِ السَّنَةِ، فَلَمْ نَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ

مَسْطُورَةً، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَارِثِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ. وَالْقِيَاسُ: ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْوَارِثِ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَنَحْوِهِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ، إِذْ لَا مِيرَاثَ فِي هَذِهِ الْأُجْرَةِ، بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوِ اسْتَأْجَرَ إِنْسَاإنٌ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ تَبَرُّعًا، فَهُوَ كَاسْتِئْجَارِ الْمَعْضُوبِ لِنَفْسِهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ. فَرْعٌ لَوْ قَدَّمَ الْأَجِيرُ الْحَجَّ عَلَى السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ جَازَ، وَقَدْ زَادَ خَيْرًا فَرْعٌ إِذَا انْتَهَى الْأَجِيرُ إِلَى الْمِيقَاتِ الْمُتَعَيَّنِ إِمَّا بِشَرْطِهِمَا إِنِ اعْتَبَرْنَاهُ، وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الشَّرْعِ، فَلَمْ يُحْرِمْ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، بَلْ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا، أَحْرَمَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْحَجِّ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الْمِيقَاتِ، فَيَصِحَّ الْحَجُّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْأَذَانِ، وَيُحَطَّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِإِخْلَالِهِ بِالْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ الْمُلْتَزَمِ. وَفِي قَدْرِ الْمَحْطُوطِ خِلَافٌ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا سَارَ الْأَجِيرُ مِنْ بَلَدِ الْإِجَارَةِ وَحَجَّ، فَالْأُجْرَةُ تَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَحْدَهَا، أَمْ تَتَوَزَّعُ عَلَى الْيَسِيرِ وَالْأَعْمَالِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ

إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ خَصَّصْنَاهَا بِالْأَعْمَالِ، وُزِّعَتِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى حَجَّةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَحَجَّةٍ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْمُقَابِلَ بِالْأُجْرَةِ عَلَى هَذَا، هُوَ الْحَجُّ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الْحَجَّةِ الْمُنْشَأَةِ مِنْ مَكَّةَ دِينَارَيْنِ، وَالْمُنْشَأَةُ مِنَ الْمِيقَاتِ خَمْسَةً، فَالتَّفَاوُتُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ، فَتُحَطُّ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْمُسَمَّى. فَإِنْ وَزَّعْنَا الْأُجْرَةَ عَلَى السَّيْرِ وَالْأَعْمَالِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تُحْسَبُ لَهُ الْمَسَافَةُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ صَرَفَهَا إِلَى غَرَضِ نَفْسِهِ لِإِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ. فَعَلَى هَذَا يُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى حَجَّةٍ تَنْشَأُ مِنْ بَلَدِ الْإِجَارَةِ وَيَقَعُ الْإِحْرَامُ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ، وَعَلَى حَجَّةٍ تَنْشَأُ مِنْ مَكَّةَ، فَيُحَطُّ مِنَ الْمُسَمَّى بِنِسْبَتِهِ. فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الْمُنْشَأَةِ مِنَ الْبَلَدِ مِائَةً، وَالْمُنْشَأَةُ مِنْ مَكَّةَ عَشَرَةً، حُطَّ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْمُسَمَّى. وَأَظْهَرُهُمَا: يُحْتَسَبُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ إِلَى الْمِيقَاتِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ الْحَجَّ مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ الْعُمْرَةُ. فَعَلَى هَذَا يُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى مُنْشَأَةٍ مِنْ بَلَدِ الْإِجَارَةِ إِحْرَامُهَا مِنَ الْمِيقَاتِ، وَعَلَى مُنْشَأَةٍ مِنَ الْبَلَدِ إِحْرَامُهَا مِنْ مَكَّةَ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الْأُولَى: مِائَةً، وَالثَّانِيَةِ: تِسْعِينَ، حُطَّ عُشْرُ الْمُسَمَّى، فَحَصَلَ فِي الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. الْمَذْهَبُ مِنْهَا، هَذَا الْأَخِيرُ. ثُمَّ الْأَجِيرُ فِي مَسْأَلَتِنَا: يَلْزَمُهُ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ بَعْدَ تَجَاوُزِهِ الْمِيقَاتِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا فِي غَيْرِ صُورَةِ الِاعْتِمَارِ أَنَّ إِسَاءَةَ الْمُجَاوَزَةِ، هَلْ تَنْجَبِرُ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ حَتَّى لَا يُحَطَّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ، أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ الْخِلَافُ يَجِئُ هُنَا، صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَبْدَانَ وَغَيْرُهُ، فَإِذًا الْخِلَافُ فِي قَدْرِ الْمَحْطُوطِ. فَرْعٌ لِلْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ أَصْلِ الْحَطِّ وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَيُقْطَعَ بِعَدَمِ الِانْجِبَارِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَقَ بِالْمُجَاوَزَةِ حَيْثُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لِنَفْسِهِ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ فَيُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْهُ، فَهَلْ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ؟ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ. إِنْ قُلْنَا: الْأُجْرَةُ مُوَزَّعَةٌ عَلَى الْعَمَلِ وَالسَّيْرِ، وَلَمْ يُحْسَبِ السَّيْرُ لِانْصِرَافِهِ إِلَى عُمْرَتِهِ وُزِّعَتِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى حَجَّةٍ مُنْشَأَةٍ مِنْ بَلَدِ الْإِجَارَةِ إِحْرَامُهَا مِنَ الْمِيقَاتِ، وَعَلَى مُنْشَأَةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ قَطْعِ مَسَافَةٍ، وَيُحَطُّ بِالنِّسْبَةِ مِنَ الْمُسَمَّى. وَإِنْ قُلْنَا: الْأُجْرَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَقَطْ، أَوْ وَزَّعْنَاهَا عَلَيْهِ وَعَلَى السَّيْرِ، وَاحْتَسَبْنَا الْمَسَافَةَ، فَلَا حَطَّ، فَتَجِبُ الْأُجْرَةُ كُلُّهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَثِيرُونَ غَيْرَهُ. فَرْعٌ إِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ الْمُتَعَيَّنَ بِالشَّرْطِ أَوِ الشَّرْعِ غَيْرَ مُحَرِمٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، نُظِرَ، إِنْ عَادَ إِلَيْهِ وَأَحْرَمَ مِنْهُ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحَطُّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْءٌ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، أَوْ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ وَلَمْ يَعُدْ، لَزِمَ دَمُ الْإِسَاءَةِ بِالْمُجَاوَزَةِ، وَهَلْ يَنْجَبِرُ بِهِ الْخَلَلُ حَتَّى لَا يُحَطَّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يَنْجَبِرُ، وَيَصِيرُ كَأَنْ لَا مُخَالَفَةَ، فَتَجِبُ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ. وَأَظْهَرُهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : يُحَطُّ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْحَطِّ. فَإِنْ قُلْنَا بِالِانْجِبَارِ [فَهَلْ] نَعْتَبِرُ قِيمَةَ الدَّمِ، وَنُقَابِلُهَا بِالتَّفَاوُتِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، فَلَا يَنْجَبِرُ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الدَّمِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى جَبْرِ الْخَلَلِ، وَالشَّرْعُ قَدْ حَكَمَ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْقِيمَةِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ وَهُوَ الْحَطُّ، فَفِي قَدْرِهِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَاذَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَقَطْ، وَزَّعْنَا الْمُسَمَّى عَلَى حَجَّةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَحَجَّةٍ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ. وَإِنْ وَزَّعْنَا عَلَى الْعَمَلِ

وَالسَّيْرِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَزَّعْنَا الْمُسَمَّى عَلَى حَجَّةٍ مِنْ بَلْدَةٍ إِحْرَامُهَا مِنَ الْمِيقَاتِ، وَعَلَى حَجَّةٍ مِنْ بَلْدَةٍ إِحْرَامُهَا مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ. وَعَلَى هَذَا يَقِلُّ الْمَحْطُوطُ. ثُمَّ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْفَرَاسِخِ وَحْدَهَا، أَمْ يُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ السُّهُولَةُ وَالْخُشُونَةُ؟ وَالْأَصَحُّ: الثَّانِي. وَلَوْ عَدَلَ الْأَجِيرُ عَنْ طَرِيقِ الْمِيقَاتِ الْمُعْتَبَرِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ مِيقَاتُهُ مِثْلُ الْمُعْتَبَرِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ. أَمَّا إِذَا عَيَّنَا مَوْضِعًا آخَرَ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الشَّرْعِيِّ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ مُفْسِدُ الْإِجَارَةِ، إِذَ لَا يَجُوزُ لِمُرِيدِ النُّسُكِ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ غَيْرَ مُحَرِمٍ. وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ، بِأَنْ عَيَّنَا الْكُوفَةَ فَهَلْ يَلْزَمُ الْأَجِيرَ الدَّمُ لِمُجَاوَزَتِهَا غَيْرَ مُحْرِمٍ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: نَعَمْ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ الدَّمُ، حُطَّ قِسْطُ الْأُجْرَةِ قَطْعًا، وَإِلَّا، فَفِي حُصُولِ الِانْجِبَارِ بِهِ الطَّرِيقَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الدَّمُ لَتَرْكِ مَأْمُورٍ، كَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ. فَإِنْ لَزِمَهُ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ كَاللَّبْسِ وَالْقَلْمِ، لَمْ يُحَطَّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصِ الْعَمَلَ. وَلَوْ شُرِطَ الْإِحْرَامُ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ، فَأَخَّرَهُ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَفِي الِانْجِبَارِ الْخِلَافُ. وَكَذَا لَوْ شُرِطَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَحَجَّ رَاكِبًا، لِأَنَّهُ تَرَكَ مَقْصُودًا. هَكَذَا نُقِلَتِ الْمَسْأَلَتَانِ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَا مُفَرَّعَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمِيقَاتَ الْمَشْرُوطَ كَالشَّرْعِيِّ، وَإِلَّا فَلَا [يَلْزَمُ] الدَّمُ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ الْكُوفَةِ. فَرْعٌ إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِرَانِ، فَتَارَةً يَمْتَثِلُ، وَتَارَةً يَعْدِلُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنِ امْتَثَلَ فَقَرَنَ وَجَبَ دَمُ الْقِرَانِ. وَعَلَى مَنْ يَجِبُ؟ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْأَجِيرِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ

عَلَى الْأَجِيرِ، فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إِجَارَةٍ وَبَيْعٍ مَجْهُولٍ، فَإِنَّ الدَّمَ مَجْهُولُ الصِّفَةِ، فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُعْسِرًا، فَالصَّوْمُ عَلَى الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الصَّوْمِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْحَجِّ. وَالَّذِي مِنْهُمَا فِي الْحَجِّ، هُوَ الْأَجِيرُ. كَذَا ذَكَرَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : هُوَ كَالْعَاجِزِ عَنِ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ جَمِيعًا. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ: يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِكَمَالِهَا. فَأَمَّا إِذَا عَدَلَ، فَيُنْظَرُ، إِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِفْرَادِ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ، لَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ حِصَّةَ الْعُمْرَةِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ» لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ عَنِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ نُظِرَ إِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا، وَلَا شَيْءَ (عَلَيْهِ) وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْرِنْ. وَإِنْ لَمْ يَعُدْ، فَعَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ، لِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ لِلْعُمْرَةِ. وَهَلْ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ، أَمْ تَنْجَبِرُ الْإِسَاءَةُ بِالدَّمِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَإِنْ عَدَلَ إِلَى التَّمَتُّعِ، فَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ، لَمْ يَقَعِ الْحَجُّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَهَذَا هُوَ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ نُظِرَ إِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْحَجِّ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُجْعَلُ مُخَالِفًا لِتَقَارُبِ الْجِهَتَيْنِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَا لَوِ امْتَثَلَ. وَفِي كَوْنِ الدَّمِ عَلَى الْأَجِيرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ الْوَجْهَانِ. وَأَصَحُّهُمَا. يُجْعَلُ مُخَالِفًا، فَيَجِبُ الدَّمُ عَلَى الْأَجِيرِ، لِإِسَاءَتِهِ. وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ الْخِلَافُ. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَمٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، يَتَضَمَّنُهُ. وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ.

فَرْعٌ إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلتَّمَتُّعِ فَامْتَثَلَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ فَامْتَثَلَ. وَإِنْ أَفْرَدَ نُظِرَ إِنْ قَدَّمَ الْعُمْرَةَ وَعَادَ لِلْحَجِّ إِلَى الْمِيقَاتِ، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا. وَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ، فَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ فِي الْعُمْرَةِ، لِفَوَاتِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ، فَيَرُدُّ حِصَّتَهَا مِنَ الْمُسَمَّى. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ وَعَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ الْخِلَافُ، وَإِنْ قَرَنَ، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْرَمَ بِالنُّسُكَيْنِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَكَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ. ثُمَّ إِنْ عَدَّدَ الْأَفْعَالَ لِلنُّسُكَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهَلْ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ لِاخْتِصَارِهِ فِي الْأَفْعَالِ؟ وَجْهَانِ. وَكَذَا الْوَجْهَانِ فِي أَنَّ الدَّمَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَمِ الْأَجِيرِ؟ . فَرْعٌ لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِلْإِفْرَادِ فَامْتَثَلَ، فَذَاكَ. فَلَوْ قَرَنَ نُظِرَ إِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ، فَالْعُمْرَةُ وَاقِعَةٌ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِلْحَجِّ وَحْدَهُ فَقَرَنَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْفَصْلَيْنِ الْآتِيَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ وَقَعَا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الدَّمُ، وَهَلْ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ لِلْخَلَلِ، أَمْ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ. وَإِنْ تَمَتَّعَ فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِتَأْخِيرِ الْعُمْرَةِ، فَقَدْ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، فَيَرُدُّ مَا يَخُصُّهَا مِنَ الْأُجْرَةِ. وَإِنْ أَمَرَهُ بِتَقْدِيمِهَا، أَوْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ، وَقَعَا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَزِمَ الْأَجِيرَ دَمٌ إِنْ لَمْ يُعِدِ الْحَجَّ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ الْخِلَافُ.

فَرْعٌ إِذَا جَامَعَ الْأَجِيرُ فَسَدَ حَجُّهُ وَانْقَلَبَ لَهُ، فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَالْمُضِيُّ فِي فَاسِدِةِ، وَالْقَضَاءُ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ، وَلَا قَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يَفْسُدُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الْمُزَنِيِّ أَيْضًا. فَعَلَى الْمَشْهُورِ، إِنْ كَانَ إِجَارَةَ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ، وَالْقَضَاءُ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْأَجِيرُ يَقَعُ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ، لَمْ تَنْفَسِخْ. وَعَمَّنْ يَقَعُ الْقَضَاءُ؟ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءُ الْأَوَّلِ. وَأَصَحُّهُمَا: عَنِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ وَقَعَ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ سِوَى الْقَضَاءِ حَجَّةٌ أُخْرَى لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَيَقْضِي عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَحُجُّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي سَنَةٍ أُخْرَى، أَوْ يَسْتَنِيبُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. وَإِذَا لَمْ تَنْفَسِخِ الْإِجَارَةُ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ خِيَارُ الْفَسْخِ، لِتَأْخِيرِ الْمَقْصُودِ. وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْمَعْضُوبُ، أَوْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ لِمَيِّتٍ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ. وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ. فَرْعٌ إِذَا أَحْرَمَ الْأَجِيرُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، ثُمَّ صَرَفَ الْإِحْرَامَ إِلَى نَفْسِهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ، وَأَتَمَّ الْحَجَّ عَلَى هَذَا الظَّنِّ، فَالْحَجُّ لِلْمُسْتَأْجِرِ. وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجِيرِ الْأُجْرَةَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا، لِإِعْرَاضِهِ عَنْهَا. وَأَظْهَرُهُمَا: يَسْتَحِقُّ، لِحُصُولِ الْغَرَضِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: أُجْرَةُ الْمِثْلِ.

فَرْعٌ إِذَا مَاتَ الْحَاجُّ عَنْ نَفْسِهِ فِي أَثْنَائِهِ فَهَلْ يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَى حَجِّهِ؟ قَوْلَانِ. الْأَظْهَرُ الْجَدِيدُ: لَا يَجُوزُ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَالْقَدِيمُ: يَجُوزُ. فَعَلَى الْجَدِيدِ: يَبْطُلُ الْمَأْتِيُّ بِهِ إِلَّا فِي الثَّوَابِ، وَيَجِبُ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ إِنْ كَانَ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ. وَعَلَى الْقَدِيمِ: تَارَةً يَمُوتُ وَقَدْ بَقِيَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ، وَتَارَةً لَا يَبْقَى، فَإِنْ بَقِيَ أَحْرَمَ النَّائِبُ بِالْحَجِّ، وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ إِنْ لَمْ يَقِفِ الْمَيِّتُ، وَلَا يَقِفُ إِنْ كَانَ وَقَفَ وَيَأْتِي بِبَاقِي الْأَعْمَالِ، وَلَا بَأْسَ بِوُقُوعِ إِحْرَامِ النَّائِبِ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ، فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى إِحْرَامِ الشَّيْءِ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَبْقَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ، فَفِيمَا يُحْرِمُ بِهِ النَّائِبُ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى، فَيُجْزِئَانِهِ عَنْ طَوَافِ الْحَجِّ وَسَعْيِهِ. وَلَا يَبِيتُ، وَلَا يَرْمِي، فَإِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، وَلَكِنْ يُجْبَرَانِ بِالدَّمِ. وَأَصَحُّهُمَا: يُحْرِمُ بِالْحَجِّ، وَيَأْتِي بِبَقِىةِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ إِنْشَاءُ الْإِحْرَامِ بَعْدَ أَشْهُرِ الْحَجِّ إِذَا ابْتَدَأَهُ، وَهَذَا يُبْنَى عَلَى مَا سَبَقَ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ مَاتَ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ، أَحْرَمَ النَّائِبُ إِحْرَامًا لَا يُحَرِّمُ اللَّبْسَ وَالْقَلْمَ، وَإِنَّمَا يُحَرِّمُ النِّسَاءَ كَمَا لَوْ بَقِيَ الْمَيِّتُ. هَذَا كُلُّهُ، إِذَا مَاتَ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُمَا، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَبْرُ مَا بَقِيَ بِالدَّمِ. وَأَوْهَمَ بَعْضُهُمْ إِجْرَاءَ الْخِلَافِ [فِيهِ] .

فَرْعٌ إِذَا مَاتَ الْأَجِيرُ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ، فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَرْكَانِ، وَقَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَسْتَحِقُّ، وَسَوَاءٌ مَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، أَوْ قَبْلَهُ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: يَسْتَحِقُّ بَعْدَهُ قَطْعًا، وَهُوَ شَاذٌّ. فَإِذَا قُلْنَا: يَسْتَحِقُّ، فَهَلْ يُقَسِّطُ الْأُجْرَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ فَقَطْ، أَمْ عَلَيْهَا مَعَ السَّيْرِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي، قَسَّطَ عَلَى الْعَمَلِ فَقَطْ. وَإِنْ قَالَ: لِتَحُجَّ مِنْ بَلَدِ كَذَا، قَسَّطَ عَلَيْهِمَا، وَحَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْحَالَيْنِ. ثُمَّ هَلْ يُبْنَى عَلَى مَا فَعَلَهُ الْأَجِيرُ؟ يُنْظَرُ، إِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ، انْفَسَخَتْ وَلَا بِنَاءَ لِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَسِبَ، وَهَلْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَبْنِي؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ، فَلِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا مَنْ يَسْتَأْنِفُ الْحَجَّ عَنِ الْمُسْتَأْجَرِ لَهُ. فَإِنْ أَمْكَنَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِبَقَاءِ الْوَقْتِ، فَذَاكَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، ثَبَتَ الْخِيَارُ كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ جَوَّزْنَا الْبِنَاءَ فَلِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ أَنْ يَبْنُوا. ثُمَّ الْقَوْلُ فِيمَا يُحْرِمُ بِهِ النَّائِبُ، وَفِي حُكْمِ إِحْرَامِهِ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ، عَلَى مَا سَبَقَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الْأَخْذِ فِي السَّيْرِ، وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ: لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ: يَسْتَحِقُّ بِقِسْطِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدَانَ: [إِنْ] قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي، لَمْ يَسْتَحِقَّ. وَإِنْ قَالَ: لِتَحُجَّ مِنْ بَلَدِ كَذَا، اسْتَحَقَّ بِقِسْطِهِ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَرْكَانِ، وَقَبْلَ فَرَاغِ بَاقِي الْأَعْمَالِ، فَيُنْظَرُ إِنْ فَاتَ وَقْتُهَا، أَوْ لَمْ يَفُتْ، وَلَكِنْ لَمْ نُجَوِّزِ الْبِنَاءَ، جُبِرَ بِالدَّمِ مِنْ مَالِ الْأَجِيرِ، وَهَلْ يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَإِنْ جَوَّزْنَا الْبِنَاءَ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ، انْفَسَخَتْ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ، وَوَجَبَ رَدُّ قِسْطِهَا مِنَ الْأُجْرَةِ، وَيَسْتَأْجِرُ الْمُسْتَأْجِرُ مَنْ يَرْمِي وَيَبِيتُ، وَلَا دَمَ عَلَى الْأَجِيرِ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ، اسْتَأْجَرَ وَارِثُ الْأَجِيرِ مَنْ يَرْمِي وَيَبِيتُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُمَا عَمَلَانِ يُؤْتَى بِهِمَا بَعْدَ التَّحَلُّلَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ الدَّمُ، وَلَا رَدُّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ، ذَكَرَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . فَرْعٌ إِذَا أُحْصِرَ الْأَجِيرُ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ. فَإِنْ تَحَلَّلَ، فَعَمَّنْ يَقَعُ مَا أَتَى بِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، كَمَا لَوْ مَاتَ، إِذْ لَا تَقْصِيرَ. وَالثَّانِي: عَنِ الْأَجِيرِ كَمَا لَوْ أَفْسَدَهُ. فَعَلَى هَذَا، دَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْأَجِيرِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: هُوَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ، الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَوْتِ. وَإِنْ لَمْ يَتَحَلَّلْ وَأَقَامَ عَلَى الْإِحْرَامِ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ، انْقَلَبَ إِلَيْهِ، كَمَا فِي الْإِفْسَادِ، ثُمَّ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْفَوَاتِ. وَلَوْ حَصَلَ الْفَوَاتُ بِنَوْمٍ، أَوْ تَأَخُّرٍ عَنِ الْقَافِلَةِ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ غَيْرِ إِحْصَارٍ، انْقَلَبَ الْمَأْتِيُّ بِهِ إِلَى الْأَجِيرِ أَيْضًا، كَمَا فِي الْإِفْسَادِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَوْتِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا اجْتَمَعَتْ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَجَبَ عَلَى التَّرَاخِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُزَنِيُّ: عَلَى الْفَوْرِ. ثُمَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ بَعْدَ سَنَةِ الْإِمْكَانِ. فَلَوْ خَشِيَ الْعَضَبَ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَجُزِ التَّأْخِيرُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا تَأَخَّرَ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمَاتَ قَبْلَ حَجِّ النَّاسِ تَبَيَّنَ عَدَمُ الْوُجُوبِ لِتَبَيُّنِ عَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ حَجِّ النَّاسِ اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ وَلَزِمَ الْإِحْجَاجُ مِنْ تَرِكَتِهِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَرُجُوعُ الْقَافِلَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ مَاتَ بَعْدَ انْتِصَافِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَمُضِيِّ إِمْكَانِ السَّيْرِ إِلَى مِنًى وَالرَّمْيِ بِهَا، وَإِلَى مَكَّةَ وَالطَّوَافِ بِهَا، اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ، أَوْ جُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ هَلَكَ مَالُهُ بَعْدَ رُجُوعِ النَّاسِ، أَوْ مُضِيِّ إِمْكَانِ الرُّجُوعِ، اسْتَقَرَّ الْحَجُّ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ حَجِّهِمْ، وَقَبْلَ الرُّجُوعِ وَإِمْكَانِهِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَسْتَقِرُّ. هَذَا حَيْثُ نَشْرُطُ أَنْ يَمْلِكَ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ. فَإِنْ لَمْ نَشْرُطْهَا، اسْتَقَرَّ قَطْعًا. وَلَوْ أُحْصِرَ الَّذِينَ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ مَعَهُمْ، فَتَحَلَّلُوا، لَمْ يَسْتَقِرَّ الْحَجُّ عَلَيْهِ. فَلَوْ سَلَكُوا طَرِيقًا آخَرَ فَحَجُّوا، اسْتَقَرَّ، وَكَذَا لَوْ حَجُّوا فِي السَّنَةِ الَّتِي بَعْدَهَا إِذَا عَاشَ وَبَقِيَ مَالُهُ. وَإِذَا دَامَتِ الِاسْتِطَاعَةُ وَتَحَقَّقَ الْإِمْكَانُ فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ، فَهَلْ يَمُوتُ عَاصِيًا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: يَعْصِي الشَّيْخُ دُونَ الشَّابِّ، وَالْخِلَافُ جَارٍ فِيمَا لَوْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى صَارَ زَمِنًا. وَالْأَصَحُّ: الْعِصْيَانُ أَيْضًا. فَإِذَا زَمِنَ وَقُلْنَا بِالْعِصْيَانِ، فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِنَابَةُ عَلَى الْفَوْرِ لِخُرُوجِهِ بِالتَّقْصِيرِ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْبِرِّ فِيهِ، أَمْ لَهُ تَأْخِيرُ الِاسْتِنَابَةِ كَمَا لَوْ بَلَغَ مَعْضُوبًا؟ فَإِنَّ اسْتِنَابَتَهُ عَلَى التَّرَاخِي فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَعَلَى هَذَا لَوِ امْتَنَعَ وَأَخَّرَ، فَهَلْ يُجِيزُهُ الْقَاضِي عَلَى الِاسْتِنَابَةِ، أَوْ يَسْتَأْجِرُ

فصل

عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَزَكَاةِ الْمُمْتَنِعِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا. وَإِذَا قُلْنَا: يَمُوتُ عَاصِيًا، فَمِنْ أَيِّ وَقْتٍ يَعْصِي؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: مِنَ السَّنَةِ الْآخِرَةِ مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ لِجَوَازِ التَّأْخِيرِ إِلَيْهَا. وَالثَّانِي: مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى، لِاسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: يَمُوتُ عَاصِيًا، وَلَا يُسْنَدُ الْعِصْيَانُ إِلَى سَنَةٍ بِعَيْنِهَا. وَمِنْ فَوَائِدِ مَوْتِهِ عَاصِيًا أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَهَادَةً وَلَمْ يُحْكَمْ بِهَا حَتَّى مَاتَ لَمْ يُحْكَمْ لِبَيَانِ فِسْقِهِ. وَلَوْ قُضِيَ بِشَهَادَتِهِ بَيْنَ السَّنَةِ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ، فَإِنْ عَصَيْنَاهُ مِنَ الْأَخِيرَةِ، لَمْ يُنْقَضْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِحَالٍ. وَإِنْ عَصَيْنَاهُ مِنَ الْأَوَّلِ، فَفِي نَقْضِهِ الْقَوْلَانِ، فِيمَا إِذَا بَانَ فِسْقُ الشُّهُودِ. فَصْلٌ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ مَنْ يَتَأَهَّلُ لَهَا تُقَدَّمُ عَلَى حَجَّةِ الْقَضَاءِ. وَصُورَةُ اجْتِمَاعِهِمَا أَنْ يُفْسِدَ الْعَبْدُ حَجَّهُ، ثُمَّ يُعْتَقَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلَا تُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى النَّذْرِ. فَلَوِ اجْتَمَعَتْ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَالْقَضَاءُ، وَالنَّذْرُ، قُدِّمَتْ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ الْقَضَاءُ، ثُمَّ النَّذْرُ. وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى تَرَدُّدٍ فِي تَقْدِيمِ الْقَضَاءِ عَلَى النَّذْرِ. وَالْمَذْهَبُ: مَا قَدَّمْنَاهُ. وَمَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، أَوْ قَضَاءٌ، أَوْ نَذْرٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ. فَلَوْ قُدِّمَ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ لَغَتْ نِيَّتُهُ، وَوَقَعَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ. وَالْعُمْرَةُ، إِذَا أَوْجَبْنَاهَا، كَالْحَجِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ الْمَعْضُوبُ مَنْ يَحُجُّ عَنْ نَذْرِهِ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَنَوَى الْأَجِيرُ النَّذْرَ، وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، فَنَوَى الْحَجَّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، لَغَتْ نِيَّتُهُ، وَوَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْأَجِيرِ. وَلَوْ نَذَرَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ أَنْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَعَلَ، وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَخَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ، وَلَيْسَ فِي نَذْرِهِ إِلَّا تَعْجِيلُ مَا كَانَ لَهُ

تَأْخِيرُهُ. وَلَوِ اسْتُؤْجِرَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ لِلْحَجِّ فِي الذِّمَّةِ جَازَ، وَطَرِيقُهُ: أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَإِجَارَةُ الْعَيْنِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى. فَإِذَا بَطَلَتْ نُظِرَ إِنْ ظَنَّهُ حَجَّ فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ، لَمْ يَسْتَحِقَّ أَجْرَهُ، لِتَغْرِيرِهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ وَقَالَ: يَجُوزُ فِي اعْتِقَادِي أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ، فَحَجَّ الْأَجِيرُ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ. وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ قَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُمَا. أَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ لِلْحَجِّ مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ، أَوْ لِلْعُمْرَةِ مَنِ اعْتَمَرَ وَلَمْ يَحُجَّ، فَقَرَنَ الْأَجِيرُ وَأَحْرَمَ بِالنُّسُكَيْنِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، أَوْ أَحْرَمَ بِمَا اسْتُؤْجِرَ لَهُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَبِالْآخَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: أَنَّهُمَا يَقَعَانِ عَنِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ نُسُكَيِ الْقِرَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ لِاتِّحَادِ الْإِحْرَامِ، وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا اسْتُؤْجِرَ لَهُ يَقَعُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْآخَرُ عَنِ الْأَجِيرِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلَانِ شَخْصًا، أَحَدُهُمَا: لِيَحُجَّ عَنْهُ، وَالْآخَرُ لِيَعْتَمِرَ عَنْهُ، فَقَرَنَ عَنْهُمَا، فَعَلَى الْجَدِيدِ: يَقَعَانِ عَنِ الْأَجِيرِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَقَعُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مَا اسْتَأْجَرَ لَهُ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ الْمَعْضُأحروبُ رَجُلَيْنِ لِيَحُجَّا عَنْهُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، أَحَدُهُمَا حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَالْآخَرُ حَجَّةَ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجُوزُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» ؛ لِأَنَّ غَيْرَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَتَقَدَّمْ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ. فَعَلَى الثَّانِي: إِنْ أَحْرَمَ الْأَجِيرَانِ مَعًا، انْصَرَفَ إِحْرَامُهُمَا إِلَى أَنْفُسِهِمَا. وَإِنْ سَبَقَ إِحْرَامُ أَحَدِهِمَا وَقَعَ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَانْصَرَفَ إِحْرَامُ الْآخَرِ إِلَى نَفْسِهِ.

فَرْعٌ لَوْ أَحْرَمَ الْأَجِيرُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، ثُمَّ نَذَرَ حَجًّا، نُظِرَ إِنْ نَذَرَهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ، لَمْ يَنْصَرِفْ حَجُّهُ إِلَيْهِ، بَلْ يَقَعُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَإِنْ نَذَرَ قَبْلَهُ فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: انْصِرَافُهُ إِلَى الْأَجِيرِ. وَلَوْ أَحْرَمَ الرَّجُلُ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ، ثُمَّ نَذَرَ حَجًّا بَعْدَ الْوُقُوفِ، لَمْ يَنْصَرِفْ إِلَيْهِ. وَقَبْلَ الْوُقُوفِ، عَلَى الْوَجْهَيْنِ. فَرْعٌ لَوِ اسْتَأْجَرَ الْمَعْضُوبُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ تِلْكَ السَّنَةَ، فَأَحْرَمَ الْأَجِيرُ عَنْ نَفْسِهِ تَطَوُّعًا، فَوَجْهَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَقَالَ سَائِرُ الْأَصْحَابِ: يَقَعُ تَطَوُّعًا لِلْأَجِيرِ. قُلْتُ: لَوْ حَجَّ بِمَالٍ مَغْصُوبٍ أَوْ نَحْوِهِ، أَجْزَأَهُ الْحَجُّ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِالْغَصْبِ. وَلَوْ كَانَ يُجَنُّ وَيَفِيقُ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ إِفَاقَتِهِ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ الْحَجِّ، وَوُجِدَتِ الشَّرَائِطُ الْبَاقِيَةُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ لَا يَفْضُلُ عَنْهُ مَا يَحُجُّ بِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ، أَمْهَلْتُكَ بِهِ إِلَى مَا بَعْدَ الْحَجِّ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

باب

بَابٌ مَوَاقِيتُ الْحَجِّ مِيقَاتُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، زَمَانِيٌّ وَمَكَانِيٌّ. أَمَّا الزَّمَانِيُّ، فَوَقْتُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، آخِرُهَا آخَرُ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَفِي وَجْهٍ: لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ. وَحَكَى الْمُحَامِلِيُّ قَوْلًا عَنْ «الْإِمْلَاءِ» أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِحْرَامُ [بِهِ] فِي جَمِيعِ ذِي الْحِجَّةِ، وَهَذَا أَشَذُّ وَأَبْعَدُ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ، فَجَمِيعُ السَّنَةِ وَقْتٌ لِلْإِحْرَامِ بِهَا، وَلَا تُكْرَهُ فِي وَقْتٍ مِنْهَا، وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا فِي الْعُمْرِ، وَفِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ. وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ لَا بِسَبَبِ الْوَقْتِ، بَلْ لِعَارِضٍ، كَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ، لَا يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهُ. وَإِذَا تَحَلَّلَ عَنِ الْحَجِّ التَّحَلُّلَيْنِ، وَعَكَفَ بِمِنًى لِلْمَبِيتِ وَالرَّمْيِ، لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ، لِعَجْزِهِ عَنِ التَّشَاغُلِ بِعَمَلِهَا، نُصَّ عَلَيْهِ. فَإِنْ نَفَرَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ فَلَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا، لِسُقُوطِ بَقِيَّةِ الرَّمْيِ، وَالْمَبِيتِ عَنْهُ. فَرْعٌ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ، لَمْ يَنْعَقِدْ حَجًّا. وَهَلْ يَنْعَقِدُ عُمْرَةً؟ فِيهِ طُرُقٌ. الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ وَيُجْزِئُهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ. وَعَلَى قَوْلٍ: يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَلَا تُحْسَبُ عُمْرَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ مُبْهَمًا، فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى عُمْرَةٍ، كَانَ عُمْرَةً صَحِيحَةً، وَإِلَّا تَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ. وَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِ

فصل

الْحَجِّ إِحْرَامًا مُطْلَقًا، فَالْمَذْهَبُ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ [لَا] يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ. وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الْخُضَرِيِّ: يَنْعَقِدُ مُبْهَمًا. فَإِذَا دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ، صَرَفَهُ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ قِرَانٍ. فَصْلٌ فِي الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ أَمَّا الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ مَكِّيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، فَفِي مِيقَاتِهِ لِلْحَجِّ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَفْسُ مَكَّةَ. وَالثَّانِي: مَكَّةُ وَسَائِرُ الْحَرَمِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ فَارَقَ بُنْيَانَ مَكَّةَ وَأَحْرَمَ فِي الْحَرَمِ، فَهُوَ مُسِيءٌ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ كَمُجَاوَزَةِ سَائِرِ الْمَوَاقِيتِ. وَعَلَى الثَّانِي: حَيْثُ أَحْرَمَ فِي الْحَرَمِ، فَلَا إِسَاءَةَ. أَمَّا إِذَا أَحْرَمَ خَارِجَ الْحَرَمِ، فَمُسِيءٌ قَطْعًا، فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ، إِلَّا أَنْ يَعُودَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِلَى مَكَّةَ عَلَى الْأَصَحِّ أَوِ الْحَرَمِ عَلَى الثَّانِي. ثُمَّ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، جَازَ. وَفِي الْأَفْضَلِ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَهَيَّأَ لِلْإِحْرَامِ، وَيُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنَ الْبَيْتِ. وَأَظْهَرُهُمَا: الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ بَابِ دَارِهِ، وَيَأْتِيَ الْمَسْجِدَ مُحْرِمًا. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ، فَتَارَةً يَكُونُ مَسْكَنُهُ فَوْقَ الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ، وَيُسَمَّى هَذَا الْأُفُقِيَّ، وَتَارَةً يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ. وَالْمَوَاقِيتُ الشَّرْعِيَّةُ خَمْسَةٌ. أَحَدُهَا: ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَهُوَ مِيقَاتُ مَنْ تَوَجَّهَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ عَلَى نَحْوِ عَشْرِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ. الثَّانِي: الْجُحْفَةُ، مِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِينَ مِنَ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ. الثَّالِثُ: يَلَمْلَمُ، وَقِيلَ: أَلَمْلَمُ، مِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِينَ مِنَ الْيَمَنِ. الرَّابِعُ: قَرْنٌ، وَهُوَ مِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِينَ مِنْ نَجْدِ الْيَمَنِ، وَنَجِدِ الْحِجَازَ.

وَالْخَامِسُ: ذَاتُ عِرْقٍ، مِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِينَ مِنَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: يَلَمْلَمُ مِيقَاتُ الْيَمَنِ، أَيْ: مِيقَاتُ تِهَامَتِهِ، فَإِنَّ الْيَمَنَ يَشْمَلُ نَجْدًا وَتِهَامَةَ. وَالْأَرْبَعَةُ الْأُولَى نَصَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا خِلَافٍ. وَفِي ذَاتِ عِرْقٍ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَإِلَيْهِ مَالَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ مَنْصُوصٌ كَالْأَرْبَعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْعِرَاقِ: أَنْ يُحْرِمُوا مِنَ الْعَقِيقِ وَهُوَ وَادٍ وَرَاءَ ذَاتِ عِرْقٍ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ. فَرْعٌ إِذَا انْتَهَى الْأُفُقِيُّ إِلَى الْمِيقَاتِ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ أَوِ الْقِرَانَ، حَرُمَ عَلَيْهِ مُجَاوَزَتُهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ. فَإِنْ جَاوَزَهُ، فَهُوَ مُسِيءٌ وَيَأْتِي حُكْمُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، أَمْ مِنْ غَيْرِهَا كَالشَّامِيِّ يَمُرُّ بِمِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. فَرْعٌ إِذَا مَرَّ الْأُفُقِيُّ بِالْمِيقَاتِ غَيْرَ مُرِيدٍ نُسُكًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ التَّوَجُّهِ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ قَصْدُ النُّسُكِ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، فَمِيقَاتُهُ حَيْثُ عَنَّ لَهُ. وَإِنْ كَانَ عَلَى قَصْدِ التَّوَجُّهِ إِلَى مَكَّةَ لِحَاجَةٍ، فَعَنَّ لَهُ النُّسُكُ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: مَنْ أَرَادَ دُخُولَ الْحَرَمِ لِحَاجَةٍ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ، فَهَذَا يَأْثَمُ بِمُجَاوَزَتِهِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَهُوَ كَمَنْ جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ عَلَى قَصْدِ النُّسُكِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ، فَهَذَا كَمَنْ جَاوَزَ غَيْرَ قَاصِدٍ دُخُولَ مَكَّةَ.

فَرْعٌ مَنْ مَسْكَنُهُ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ، فَمِيقَاتُهُ الْقَرْيَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا، أَوِ الْحِلَّةُ الَّتِي يَنْزِلُهَا الْبَدَوِيُّ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُحْرِمُ مِنْ مِيقَاتٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ مِنْ قَرْيَتِهِ، أَوْ حِلَّتِهِ، أَنْ يُحْرِمَ مِنْ طَرَفِهِ الْأَبْعَدِ مِنْ مَكَّةَ. فَلَوْ أَحْرَمَ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ جَازَ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ. وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَوَاقِيتِ الشَّرْعِيَّةِ، بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ، لَا بِالْقُرَى وَالْأَبْنِيَةِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ لَوْ خَرِبَ بَعْضُهَا، وَنُقِلَتِ الْعِمَارَةُ إِلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْهُ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ الِاسْمِ. فَرْعٌ لَوْ سَلَكَ الْبَحْرَ أَوْ طَرِيقًا فِي الْبَرِّ لَا يَنْتَهِي إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الْمُعَيَّنَةِ، فَمِيقَاتُهُ مُحَاذَاةُ الْمُعَيَّنِ. فَإِنِ اشْتَبَهَ تَحَرَّى. وَطَرِيقُ الِاحْتِيَاطِ لَا يَخْفَى. وَلَوْ حَاذَى مِيقَاتَيْنِ طَرِيقُهُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْمَسَافَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَمِيقَاتُهُ مَا يُحَاذِيهِمَا. وَإِنْ تَفَاوَتَا فِيهَا، وَتَسَاوَيَا فِي الْمَسَافَةِ إِلَى طَرِيقِهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَخَيَّرُ، إِنْ شَاءَ أَحْرَمَ مِنَ الْمُحَاذِي لِأَبْعَدِ الْمِيقَاتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ لِأَقْرَبِهِمَا. وَأَصَحُّهُمَا: يَتَعَيَّنُ مُحَاذَاةُ أَبْعَدِهِمَا. وَقَدْ يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مُحَاذَاةُ مِيقَاتَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ بِانْحِرَافِ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَالْتِوَائِهِ، أَوْ لَوْ عَوْرَةً وَغَيْرَهَا، فَيُحْرِمُ مِنَ الْمُحَاذَاةِ. وَهَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ

فصل

إِلَى أَبْعَدِ الْمِيقَاتَيْنِ، أَمْ إِلَى أَقْرَبِهِمَا؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، قَالَ: وَفَائِدَتُهُمَا، أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ مَوْضِعَ الْمُحَاذَاةِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، وَانْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ يُفْضِي إِلَيْهِ طَرِيقَا الْمِيقَاتَيْنِ، وَأَرَادَ الْعَوْدَ لِرَفْعِ الْإِسَاءَةِ، وَلَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَ الْمُحَاذَاةِ، هَلْ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْمِيقَاتِ أَمْ إِلَى ذَاكَ؟ وَلَوْ تَفَاوَتَ الْمِيقَاتَانِ فِي الْمَسَافَةِ إِلَى مَكَّةَ وَإِلَى طَرِيقِهِ، فَالِاعْتِبَارُ بِالْقُرْبِ إِلَيْهِ، أَمْ إِلَى مَكَّةَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. فَرْعٌ لَوْ جَاءَ مِنْ نَاحِيَةٍ لَا يُحَاذِي فِي طَرِيقِهَا مِيقَاتًا لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ إِذَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ إِلَّا مَرْحَلَتَانِ. فَصْلٌ إِذَا جَاوَزَ مَوْضِعًا - وَجَبَ الْإِحْرَامُ مِنْهُ - غَيْرَ مُحْرِمٍ أَثِمَ، وَعَلَيْهِ الْعَوْدُ إِلَيْهِ، وَالْإِحْرَامُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ. فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، كَخَوْفِ الطَّرِيقِ أَوْ الِانْقِطَاعِ عَنِ الرُّفْقَةِ، أَوْ ضِيقِ الْوَقْتِ، أَحْرَمَ وَمَضَى وَعَلَيْهِ دَمٌ إِذَا لَمْ يَعُدْ. فَإِنْ عَادَ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: يَعُودُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَيُحْرِمُ مِنْهُ. فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ دَخَلَ مَكَّةَ، أَمْ لَا. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، إِنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ الْمِيقَاتِ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ، سَقَطَ الدَّمُ. وَإِنْ عَادَ بَعْدَ دُخُولِ مَكَّةَ وَجَبَ الدَّمُ. وَإِنْ عَادَ بَعْدَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَسْقُطُ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ شَاذٌّ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا. فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ فِي

فصل

سُقُوطِ الدَّمِ وَجْهَيْنِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَفْصِلُ. فَإِنْ عَادَ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِنُسُكٍ، سَقَطَ الدَّمُ، وَإِلَّا فَلَا، سَوَاءٌ كَانَ النُّسُكُ رُكْنًا، كَالْوُقُوفِ، أَوْ سُنَّةً، كَطَوَافِ الْقُدُومِ. وَقِيلَ: لَا أَثَرَ لِلتَّلَبُّسِ بِالسُّنَّةِ. وَلَا فَرْقَ فِي لُزُومِ الدَّمِ فِي كُلِّ هَذَا بَيْنَ الْمُجَاوِزِ عَامِدًا عَالِمًا، وَالْجَاهِلِ وَالنَّاسِي. لَكِنْ يَفْتَرِقُونَ فِي الْإِثْمِ، فَلَا إِثْمَ عَلَى النَّاسِي وَالْجَاهِلِ. فَصْلٌ هَلِ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ، أَمْ مِنْ فَوْقِهِ؟ نُصَّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْمُزَنِيِّ أَنَّهُ مِنَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ، وَقَالَ فِي «الْإِمْلَاءِ» : الْأَفْضَلُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَفْضَلُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَالثَّانِي: مِنَ الْمِيقَاتِ. بَلْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ الْكَرَاهَةَ عَلَى تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِدُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ ارْتِكَابِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، فَدُوَيْرَةُ أَهْلِهِ وَإِلَّا فَالْمِيقَاتُ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ: أَنَّهُ مِنَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ أَوِ الصَّوَابُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا مُعَارِضٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَصْلٌ فِي مِيقَاتِ الْعُمْرَةِ إِنْ كَانَ الْمُعْتَمِرُ خَارِجَ الْحَرَمِ، فَمِيقَاتُ عُمْرَتِهِ مِيقَاتُ حَجِّهِ بِلَا فَرْقٍ. وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ مَكِّيًّا كَانَ أَوْ مُقِيمًا بِمَكَّةَ، فَلَهُ مِيقَاتٌ وَاجِبٌ وَأَفْضَلُ. أَمَّا الْوَاجِبُ فَأَنْ يَخْرُجَ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ وَلَوْ خُطْوَةً مِنْ أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ، فَيُحْرِمُ بِهَا. فَإِنْ خَالَفَ وَأَحْرَمَ بِهَا فِي الْحَرَمِ، انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ. ثُمَّ لَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ، بَلْ يَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ بِهَا، فَهَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنْ عُمْرَتِهِ. قَوْلَانِ نُصَّ عَلَيْهِمَا فِي «الْأُمِّ» ، أَظْهَرُهُمَا: يُجْزِئُهُ، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ، لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ مَا أَتَى بِهِ، بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَجْمَعَ فِي عُمْرَتِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، كَمَا فِي الْحَجِّ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ وَطِئَ بَعْدَ الْحَلْقِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ. وَعَلَى الثَّانِي: الْوَطْءُ وَاقِعٌ قَبْلَ التَّحَلُّلِ لَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَحَلَّلَ، فَهُوَ كَوَطْءِ النَّاسِي. وَفِي كَوْنِهِ مُفْسِدًا قَوْلَانِ. فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُفْسِدًا، فَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ بِأَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ وَيَعُودَ، فَيَطُوفَ وَيَسْعَى، وَيَحْلِقَ. وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَكَفَّارَةُ الْإِفْسَادِ وَدَمُ الْحَلْقِ لِوُقُوعِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ ثُمَّ يَعُودَ، فَيَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ، فَيُعْتَدُّ بِمَا أَتَى بِهِ قَطْعًا. وَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْإِسَاءَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ: سُقُوطُهُ. وَالثَّانِي: عَلَى طَرِيقَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِسُقُوطِهِ، وَالثَّانِي: تَخْرِيجُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَوْدِ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَالْوَاجِبُ خُرُوجُهُ إِلَى الْحِلِّ قَبْلَ الْأَعْمَالِ إِمَّا فِي ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ، وَإِمَّا بَعْدَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْقُطُ الدَّمُ، فَالْوَاجِبُ هُوَ الْخُرُوجُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ.

باب

فَرْعٌ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ مِنْ أَطْرَافِ الْحِلِّ لِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ: الْجِعْرَانَةُ، ثُمَّ التَّنْعِيمُ، ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةُ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ: وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، فَغَلَطٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. بَابٌ بَيَانُ وُجُوهِ الْإِحْرَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ إِفْرَادِ الْحَجِّ عَنِ الْعُمْرَةِ، وَالتَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ. وَأَفْضَلُهَا: الْإِفْرَادُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ، ثُمَّ الْقِرَانُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَالْمَنْصُوصُ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ. وَفِي قَوْلٍ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ، ثُمَّ الْإِفْرَادُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّ الْأَفْضَلَ: الْإِفْرَادُ، ثُمَّ الْقِرَانُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: أَفْضَلُهَا: الْقِرَانُ. فَأَمَّا الْإِفْرَادُ، فَمِنْ صُوَرِهِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ وَيَفْرَغَ مِنْهُ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ. وَسَيَأْتِي بَاقِي صُوَرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شُرُوطِ التَّمَتُّعَ. ثُمَّ تَفْضِيلُ الْإِفْرَادِ عَلَى التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، شَرْطُهُ أَنْ يَعْتَمِرَ تِلْكَ السَّنَةَ. فَلَوْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ عَنْ سَنَتِهِ، فَكُلُّ [وَاحِدٍ] مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ أَفْضَلُ مِنْهُ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ عَنْ سَنَةِ الْحَجِّ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا الْقِرَانُ، فَصُورَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا. فَتَنْدَرِجَ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَيَتَّحِدَ الْمِيقَاتُ وَالْفِعْلُ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَ

عَلَيْهَا الْحَجَّ نُظِرَ إِنْ أَدْخَلَهُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَغَا إِدْخَالُهُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ. وَإِنْ أَدْخَلَهُ فِي أَشْهُرِهِ نُظِرَ إِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَفِي صِحَّةِ إِدْخَالِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ، وَحَكَاهُ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ: لَا يَصِحُّ الْإِدْخَالُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى صِحَّةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ وَقْتَ إِدْخَالِهِ، وَهُوَ وَقْتٌ صَالِحٌ لِلْحَجِّ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ عَلَيْهَا فِي أَشْهُرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَعَ فِي طَوَافِهَا، صَحَّ وَصَارَ قَارِنًا، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ إِدْخَالُهُ. وَفِي عِلَّةِ عَدَمِ الصِّحَّةِ، أَرْبَعَةُ مَعَانٍ. أَحَدُهَا: لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ أَتَى بِفَرْضٍ مِنْ فُرُوضِهَا. وَالثَّالِثُ: لِأَنَّهُ أَتَى بِمُعْظَمِ أَفْعَالِهَا. وَالرَّابِعُ: لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي التَّحَلُّلِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ فِي «عُيُونِ الْمَسَائِلِ» . وَحَيْثُ جَوَّزْنَا الْإِدْخَالَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ إِذَا كَانَتْ عُمْرَةً صَحِيحَةً. فَإِنْ أَفْسَدَهَا، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ، فَفِيهِ خِلَافٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتِهِ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ، فَقَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَصِيرُ قَارِنًا. وَالْجَدِيدُ: لَا يَصِحُّ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَإِلَى مَتَى يَجُوزُ الْإِدْخَالُ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ مُفَرَّعَةٍ عَلَى الْمَعَانِي السَّابِقَةِ. أَحَدُهَا: يَجُوزُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ. وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : هَذَا أَصَحُّهَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي السَّعْيِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ، قَالَهُ الْخُضَرِيُّ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ وَإِنِ اشْتَغَلَ بِفَرْضٍ مَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ سَعَى، فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ السَّعْيِ لِيَقَعَ عَنِ النُّسُكَيْنِ جَمِيعًا، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ، وَإِنْ وَقَفَ مَا لَمْ يَشْتَغِلْ

فصل

بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ مِنَ الرَّمْيِ وَغَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ سَعَى، فَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وُجُوبُ إِعَادَتِهِ. وَحَكَى الْإِمَامُ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَقَالَ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ. فَرْعٌ يَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ دَمٌ كَدَمِ التَّمَتُّعِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ قَوْلًا قَدِيمًا: أَنَّهُ يَجِبُ بَدَنَةٌ. فَصْلٌ أَمَّا الْمُتَمَتِّعُ، فَهُوَ الَّذِي يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَيَدْخُلُ مَكَّةَ وَيَفْرَغُ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُنْشِئُ الْحَجَّ مِنْ مَكَّةَ، سُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِاسْتِمْتَاعِهِ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ جَمِيعُ الْمَحْظُورَاتِ، إِذَا تَحَلَّلَ مِنَ الْعُمْرَةِ سَوَاءٌ سَاقَ هَدْيًا، أَمْ لَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ. وَلِوُجُوبِ الدَّمِ شُرُوطٌ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُمْ مَنْ مَسْكَنُهُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنَ الْحَرَمِ. وَقِيلَ: مِنْ نَفْسِ مَكَّةَ. فَإِنْ كَانَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَلَيْسَ بِحَاضِرِهِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنَانِ، أَحَدُهُمَا فِي حَدِّ الْقُرْبِ، وَالْآخَرُ بَعِيدٌ، فَإِنْ كَانَ مُقَامُهُ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ، فَالْحُكْمُ لَهُ. فَإِنِ اسْتَوَى مُقَامُهُ بِهِمَا وَكَانَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ فِي أَحَدِهِمَا دَائِمًا أَوْ أَكْثَرَ، فَالْحُكْمُ لَهُ. فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ، وَكَانَ عَزْمُهُ الرُّجُوعَ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَالْحُكْمُ لَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ، فَالْحُكْمُ لِلَّذِي خَرَجَ مِنْهُ. وَلَوِ اسْتَوْطَنَ غَرِيبٌ مَكَّةَ، فَهُوَ حَاضِرٌ. وَإِنِ اسْتَوْطَنَ مَكِّيٌّ الْعِرَاقَ، فَغَيْرُ حَاضِرٍ. وَلَوْ قَصَدَ الْغَرِيبُ مَكَّةَ فَدَخَلَهَا مُتَمَتِّعًا نَاوِيًا الْإِقَامَةَ بِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ النُّسُكَيْنِ، أَوْ مِنَ الْعُمْرَةِ، أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا بَعْدَ مَا اعْتَمَرَ، فَلَيْسَ بِحَاضِرٍ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ.

فَرْعٌ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَسْأَلَةً، وَهِيَ مِنْ مَوَاضِعِ التَّوَقُّفِ، وَلَمْ أَجِدْهَا لِغَيْرِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ. قَالَ: وَالْأُفُقِيُّ إِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُرِيدٍ النُّسُكَ، فَاعْتَمَرَ عَقِبَ دُخُولِهِ مَكَّةَ، ثُمَّ حَجَّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، إِذْ صَارَ مِنَ الْحَاضِرِينَ، إِذْ لَيْسَ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ الْإِقَامَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ فِي أَنَّ مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ هَلْ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَمْ لَا؟ ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ مِنِ اعْتِبَارِ اشْتِرَاطِ الْإِقَامَةِ، يُنَازِعُهُ فِيهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ وَنَقْلُهُمْ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» وَالْقَدِيمِ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي اعْتِبَارِ الْإِقَامَةِ، بَلْ فِي اعْتِبَارِ الِاسْتِيطَانِ. وَفِي النِّهَايَةِ وَالْوَسِيطِ حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ فِي صُورَةٍ تُدَانِي هَذِهِ. وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ الْغَرِيبُ الْمِيقَاتَ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ نُسُكًا، وَلَا دُخُولَ الْحَرَمِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَاعْتَمَرَ مِنْهُ وَحَجَّ بَعْدَهَا عَلَى صُورَةِ التَّمَتُّعِ، هَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؟ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ بَدَا لَهُ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْحَاضِرِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَتْ صُورَةُ التَّمَتُّعِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْدُودٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ أَوَّلًا: أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ لَيْسَ بِحَاضِرٍ، بَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ دَمُ الْقِرَانِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيًّا عَلَى وَجْهَيْنِ نَقَلَهُمَا صَاحِبُ الْعُدَّةِ فِي أَنَّ دَمَ الْقِرَانِ، دَمُ جَبْرٍ، أَمْ دَمُ نُسُكٍ؟ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ دَمُ جَبْرٍ.

فَرْعٌ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَكِّيِّ إِذَا قَرَنَ، إِنْشَاءُ الْإِحْرَامِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ كَمَا لَوْ أَفْرَدَ الْعُمْرَةَ، أَمْ يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، إِدْرَاجًا لِلْعُمْرَةِ تَحْتَ الْحَجِّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَيَجْرِيَانِ فِي الْأُفُقِيِّ إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْقِرَانَ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. فَلَوْ أَحْرَمَ وَفَرَغَ مِنْهَا قَبْلَ أَشْهُرِهِ، ثُمَّ حَجَّ، لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ. فَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ أَشْهُرِهِ، وَأَتَى بِجَمِيعِ أَفْعَالِهَا فِي أَشْهُرِهِ، ثُمَّ حَجَّ فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَصُّهُ فِي الْأُمِّ: لَا دَمَ. وَالثَّانِي: نَصُّهُ فِي «الْقَدِيمِ» وَ «الْإِمْلَاءِ» : يَجِبُ الدَّمُ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلْ عَلَى حَالَيْنِ. إِنْ أَقَامَ بِالْمِيقَاتِ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ، أَوْ عَادَ إِلَيْهِ فِي الْأَشْهُرِ مُحْرِمًا بِهَا وَجَبَ الدَّمُ. وَإِنْ جَاوَزَهُ قَبْلَ الْأَشْهُرِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ، فَلَا دَمَ. وَلَوْ سَبَقَ الْإِحْرَامُ بِهَا وَبَعْضِ أَعْمَالِهَا فِي أَشْهُرِهِ، فَالْخِلَافُ مُرَتَّبٌ إِنْ لَمْ نُوجِبْ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَّا الْإِحْرَامُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يَجِبُ. وَإِذَا لَمْ نُوجِبْ دَمَ الْمُتَمَتِّعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَفِي وُجُوبِ دَمِ الْإِسَاءَةِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْمُسِيءَ مَنْ يَنْتَهِي إِلَى الْمِيقَاتِ عَلَى قَصْدِ النُّسُكِ وَيُجَاوِزُهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَهَذَا جَاوَزَ مُحْرِمًا. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَقَعَ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. فَلَوِ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، فَلَا دَمَ، سَوَاءٌ أَقَامَ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ حَجَّ، أَوْ رَجَعَ وَعَادَ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الْمِيقَاتِ، بِأَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ نَفْسِ مَكَّةَ وَاسْتَمَرَّ. فَلَوْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ، أَوْ إِلَى مَسَافَةٍ مِثْلِهِ

وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَلَا دَمَ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا، فَفِي سُقُوطِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ مُحْرِمًا. وَلَوْ عَادَ إِلَى مِيقَاتٍ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى مَكَّةَ مِنْ مِيقَاتِ عُمْرَتِهِ وَأَحْرَمَ مِنْهُ، بِأَنْ كَانَ مِيقَاتُ عُمْرَتِهِ الْجُحْفَةَ فَعَادَ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ، فَهَلْ هُوَ كَالْعَوْدِ إِلَى مِيقَاتِ عُمْرَتِهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا وَعَلَيْهِ دَمٌ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعٍ لَيْسَ سَاكِنُوهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَالْمُعْتَبَرِينَ. فَرْعٌ لَوْ دَخَلَ الْقَارِنُ مَكَّةَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا دَمَ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» وَصَحَّحَهُ الْحَنَّاطِيُّ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ قُلْنَا: الْمُتَمَتِّعُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْمَ الْقِرَانِ لَا يَزُولُ بِالْعَوْدِ، بِخِلَافِ التَّمَتُّعِ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ، هَلْ يُشْتَرَطُ وُقُوعُ النُّسُكَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْخُضَرِيُّ: يُشْتَرَطُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُشْتَرَطُ. وَيُتَصَوَّرُ فَوَاتُ هَذَا الشَّرْطِ فِي صُوَرٍ. إِحْدَاهَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ شَخْصٌ لِحَجٍّ، وَآخَرُ لِعُمْرَةٍ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا لِعُمْرَةٍ، فَيَفْرَغَ ثُمَّ يَحُجَّ لِنَفْسِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا لِحَجٍّ فَيَعْتَمِرَ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَحُجَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ. فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ نِصْفَ دَمِ التَّمَتُّعِ عَلَى مَنْ يَقَعُ لَهُ الْحَجُّ، وَنِصْفَهُ عَلَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْعُمْرَةُ. وَلَيْسَ هَذَا الْإِطْلَاقُ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» .

أَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَقَالَ: إِنْ أَذِنَا فِي التَّمَتُّعِ، فَالدَّمُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْأَجِيرِ. وَعَلَى قِيَاسِهِ: إِنْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، فَالنِّصْفُ عَلَى الْآذِنِ، وَالنِّصْفُ عَلَى الْأَجِيرِ. وَأَمَّا فِي الصُّورَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ أَذِنَ لَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي التَّمَتُّعِ، فَالدَّمُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَإِلَّا، فَالْجَمِيعُ عَلَى الْأَجِيرِ. وَاعْلَمْ بَعْدَ هَذَا أُمُورًا. أَحَدُهَا: أَنَّ إِيجَابَ الدَّمِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرَيْنَ، أَوْ أَحَدِهِمَا مُفَرَّعٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الْأَجِيرِ بِكُلِّ حَالٍ. الثَّانِي: إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الْمُسْتَأْجِرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الثَّالِثَةِ، وَكَانَ مِيقَاتُ الْبَلَدِ مُعَيَّنًا فِي الْإِجَارَةِ، أَوْ نَزَّلْنَا الْمُطْلَقَ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ مَعَ دَمِ التَّمَتُّعِ دَمُ الْإِسَاءَةِ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِ نُسُكِهِ. الثَّالِثُ: إِذَا أَوْجَبْنَا الدَّمَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرَيْنِ فَكَانَا مُعْسِرَيْنِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ، لَكِنَّ صَوْمَ التَّمَتُّعِ بَعْضُهُ فِي الْحَجِّ، وَبَعْضُهُ فِي الرُّجُوعِ، وَهُمَا لَمْ يُبَاشِرَا حَجًّا. وَقَدْ قَدَّمْنَا - فِي فُرُوعِ الْإِجَارَةِ فِيمَنِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَقْرِنَ فَقَرَنَ أَوْ لِيَتَمَتَّعَ فَتَمَتَّعَ، وَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُعْسِرًا، وَقُلْنَا: الدَّمُ عَلَيْهِ - خِلَافًا بَيْنَ صَاحِبَيِ «التَّهْذِيبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» . فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» : الصَّوْمُ عَلَى الْأَجِيرِ. وَعَلَى قِيَاسِ صَاحِبِ «التَّتِمَّةِ» : هُوَ كَمَا لَوْ عَجَزَ الْمُتَمَتِّعُ عَنِ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ جَمِيعًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَصُمْ فِي الْحَجِّ، كَيْفَ يَقْضِي؟ فَإِذَا أَوْجَبْنَا التَّفْرِيقَ، فَتَفْرِيقُ الْخَمْسَةِ بِنِسْبَةِ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ، يُبَعِّضُ الْقِسْمَيْنِ فَيَكْمُلَانِ، وَيَصُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَقِسْ عَلَى هَذَا. أَمَّا إِذَا أَوْجَبْنَا الدَّمَ فِي الصُّورَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ عَلَى الْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ

الْخُضَرِيِّ، فَإِذَا اعْتَمَرَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، ثُمَّ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، فَفِي كَوْنِهِ مُسِيئًا، الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنِ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا: أَنَّهُ مُسِيءٌ، لِإِمْكَانِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ حِينَ حَضَرَ الْمِيقَاتَ. قَالَ الْإِمَامُ: فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ، فَفَوَاتُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي فَوَاتِ فَضِيلَةِ التَّمَتُّعِ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ. وَإِنْ أَلْزَمْنَاهُ الدَّمَ، فَلَهُ أَثَرَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَى الْمِيقَاتِ. وَإِنْ عَادَ وَأَحْرَمَ مِنْهُ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ بِلَا خِلَافٍ. وَالْمُسِيءُ يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ. وَإِذَا عَادَ، فَفِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ خِلَافٌ. وَأَيْضًا، فَالدَّمَانِ يَخْتَلِفُ بَدَلُهُمَا. الشَّرْطُ السَّادِسُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ نِيَّةُ التَّمَتُّعِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهَا لَا تُشْتَرَطُ، كَمَا لَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقِرَانِ. فَإِنْ شَرَطْنَاهَا فَفِي وَقْتِهَا أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: حَالَةُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ. وَالثَّانِي: مَا لَمْ يَفْرَغْ مِنَ الْعُمْرَةِ. وَالثَّالِثُ: مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْحَجِّ. الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ. فَلَوْ جَاوَزَهُ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِهَا، فَالْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ دَمُ الْإِسَاءَةِ، فَأَخَذَ بِإِطْلَاقِ هَذَا النَّصِّ آخَرُونَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا إِذَا كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. فَإِنْ بَقِيَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، فَعَلَيْهِ الدَّمَانِ جَمِيعًا. الشَّرْطُ الثَّامِنُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ. حُكِيَ عَنِ ابْنِ خَيْرَانَ: اشْتِرَاطُ وُقُوعِ النُّسُكَيْنِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ، وَخَالَفَهُ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ.

فصل

فَرْعٌ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ مُعْتَبَرَةً لِوُجُوبِ الدَّمِ وِفَاقًا وَخِلَافًا. وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي نَفْسِ التَّمَتُّعِ؟ فِيهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ. فَلَوْ فَاتَ شَرْطٌ، كَانَ مُفْرِدًا. وَأَشْهَرَهُمَا: لَا تَعْتَبِرُ. وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ: يَصِحُّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ مِنَ الْمَكِّيِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَرْعٌ إِذَا اعْتَمَرَ وَلَمْ يُرِدِ الْعَوْدَ إِلَى الْمِيقَاتِ لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، وَهِيَ فِي حَقِّهِ كَهِيَ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ. وَالْكَلَامُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ لِإِحْرَامِهِ، وَفِيمَا لَوْ خَالَفَ فَأَحْرَمَ خَارِجَ مَكَّةَ فِي الْحَرَمِ أَوْ خَارِجَهُ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَلَا إِلَى مَسَافَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَكِّيِّ. وَإِذَا اقْتَضَى الْحَالُ وُجُوبَ دَمِ الْإِسَاءَةِ، وَجَبَ أَيْضًا مَعَ دَمِ التَّمَتُّعِ. فَصْلٌ الْمُتَمَتِّعُ، يَلْزَمُهُ دَمُ شَاةٍ بِصِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ. وَيَقُومُ مَقَامَهَا سُبْعُ بَدَنَةٍ، أَوْ سُبْعُ بَقَرَةٍ. وَوَقْتُ وُجُوبِهِ، الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ. وَإِذَا وَجَبَ، جَازَ إِرَاقَتُهُ، وَلِم يَتَوَقَّتْ بِوَقْتٍ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْجُبْرَانَاتِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ إِرَاقَتُهُ يَوْمَ النَّحْرِ. وَهَلْ يَجُوزُ إِرَاقَتُهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ؟ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا:

الْجَوَازُ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَجُوزُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ قَطْعًا، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعُمْرَةِ بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ إِذَا عَدِمَ الْمُتَمَتِّعُ الدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ، لَزِمَهُ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ فِي بَلَدِهِ، أَوْ غَيْرِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الصَّوْمِ فِيهَا الْعَدَمُ مُطْلَقًا. وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَلَ الدَّمِ مُوَقَّتٌ بِكَوْنِهِ فِي الْحَجِّ، وَلَا تَوْقِيتَ فِي الْكَفَّارَةِ. ثُمَّ إِنَّ الصَّوْمَ يُقَسَّمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَسَبْعَةً. فَالثَّلَاثَةُ يَصُومُهَا فِي الْحَجِّ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ شَيْءٍ مِنْهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ. وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَوْلَانِ تَقَدَّمَا فِي كِتَابِ «الصِّيَامِ» . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ جَمِيعَ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ فِطْرُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ هَذَا إِذَا تَقَدَّمَ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ عَلَى الْيَوْمِ السَّادِسِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: الْمُسْتَحَبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ، أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ السَّادِسِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَوَقَّعْ هَدْيًا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عَلَى السَّابِعِ، لِيُمْكِنَهُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَأَمَا وَاجِدُ الْهَدْيِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَتَوَجَّهُ بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى مِنًى. وَإِذَا فَاتَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ، لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ تَخْرِيجُ قَوْلٍ: أَنَّهُ يَسْقُطُ الصَّوْمُ وَيَسْتَقِرُّ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَوَاتَهَا يَحْصُلُ بِفَوَاتِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا يَجُوزُ صَوْمُهَا، وَإِلَّا حَصَلَ الْفَوَاتُ بِخُرُوجِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. حَتَّى لَوْ تَأَخَّرَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، كَانَ بَعْدُ فِي

الْحَجِّ، وَكَانَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ التَّشْرِيقِ قَضَاءً وَإِنْ بَقِيَ الطَّوَافُ؛ لِأَنَّ تَأَخُّرَهُ بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ، فَلَا يَقَعُ مُرَادًا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [الْبَقَرَةِ: 196] هَكَذَا حَكَاهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» حِكَايَةُ وَجْهٍ ضَعِيفٍ يُنَازَعُ فِيهِ. فَرْعٌ وَأَمَّا السَّبْعَةُ، فَوَقَتُهَا إِذَا رَجَعَ. وَفِي الْمُرَادِ بِالرُّجُوعِ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الرُّجُوعُ إِلَى الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَحَرْمَلَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْفَرَاغُ مِنَ الْحَجِّ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَإِنْ تَوَطَّنَ مَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَجِّ، صَامَ بِهَا. وَإِنْ لَمْ يَتَوَطَّنْهَا، لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ بِهَا. وَهَلْ يَجُوزُ فِي الطَّرِيقِ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى وَطَنِهِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. وَالثَّانِي: وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ الْفَرَاغُ، فَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى وَطَنِهِ، جَازَ. وَهَلْ هُوَ أَفْضَلُ، أَمِ التَّقْدِيمُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: التَّأْخِيرُ أَفْضَلُ، لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ. وَالثَّانِي: التَّقْدِيمُ مُبَادَرَةً إِلَى الْوَاجِبِ. وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ شَيْءٍ مِنَ السَّبْعَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا قَابِلَةٌ لِلصَّوْمِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ الْفَرَاغُ، أَوِ الْوَطَنُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدُ فِي الْحَجِّ، وَإِنْ حَصَلَ التَّحَلُّلُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّجُوعِ الرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ مِنْ مِنًى. وَجَعَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ هَذَا قَوْلًا سِوَى قَوْلِ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ: أَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ قَوْلًا آخَرَ، يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ صَحَّ صَوْمُهُ وَإِنْ تَأَخَّرَ طَوَافُ الْوَدَاعِ.

فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ وَرَجَعَ لَزِمَهُ صَوْمُ الْعَشَرَةِ. وَفِي الثَّلَاثَةِ، الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ الَّذِي سَبَقَ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: هَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ؟ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَجِبُ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ: لَا يَجِبُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، هَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ تَفْرِيقُ الْأَدَاءِ؟ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، بَلْ يَكْفِي التَّفْرِيقُ بِيَوْمٍ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» . وَأَظْهَرُهُمَا: يَجِبُ. وَفِي قَدْرِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ تَتَوَلَّدُ مِنْ أَصْلَيْنِ سَبَقَا، وَهُمَا صَوْمُ الْمُتَمَتِّعِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ مَاذَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لِلْمُتَمَتِّعِ صَوْمُ التَّشْرِيقِ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ، فَالتَّفْرِيقُ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَمُدَّةُ إِمْكَانِ السَّيْرِ إِلَى أَهْلِهِ، عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ صَوْمُهَا، وَأَنَّ الرُّجُوعَ، الْفَرَاغُ، فَالتَّفْرِيقُ بِأَرْبَعَةٍ فَقَطْ. وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ صَوْمُهَا، وَأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ، فَالتَّفْرِيقُ بِمُدَّةِ إِمْكَانِ السَّيْرِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ صَوْمُهَا، وَالرُّجُوعُ الْفَرَاغُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ التَّفْرِيقُ. وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنَ التَّفْرِيقِ بِيَوْمٍ. فَإِنْ أَرَدْتَ حَصْرَ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَجِئُ فِيمَنْ لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ مُخْتَصَرًا، حَصَلَتْ سِتَّةٌ. أَحَدُهَا: لَا صَوْمَ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى الْهَدْيِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ صَوْمُ عَشَرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ مُتَتَابِعَةٍ. وَالثَّالِثُ: عَشَرَةٌ وَيُفَرِّقُ بِيَوْمٍ فَصَاعِدًا. وَالرَّابِعُ: يُفَرِّقُ بِأَرْبَعَةٍ وَمُدَّةِ إِمْكَانِ السَّيْرِ إِلَى الْوَطَنِ. وَالْخَامِسُ: يُفَرِّقُ بِأَرْبَعَةٍ فَقَطْ. وَالسَّادِسُ: بِمُدَّةِ إِمْكَانِ السَّيْرِ فَقَطْ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ مِنْهَا: هُوَ الرَّابِعُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ صَامَ عَشَرَةً مُتَوَالِيَةً، وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، وَهُوَ وُجُوبُ قَضَاءِ الثَّلَاثَةِ أَجْزَأَهُ إِنْ لَمْ نَشْتَرِطِ التَّفْرِيقَ. فَإِنْ شَرَطْنَاهُ وَاكْتَفَيْنَا بِيَوْمٍ، لَمْ يُعْتَدَّ بِالْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَيُحْسَبْ

مَا بَعْدَهُ، فَيَصُومُ يَوْمًا آخَرَ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ سِوَى الثَّلَاثَةِ. وَفِي وَجْهٍ لِلْإِصْطَخْرِيِ: لَا يُعْتَدُّ بِالثَّلَاثَةِ أَيْضًا إِذَا نَوَى التَّتَابُعَ، وَهُمَا شَاذَّانِ. وَإِنْ شَرَطْنَا التَّفْرِيقَ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ. فَرْعٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ، وَالسَّبْعَةِ، لَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. وَحُكِيَ فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ إِذَا شَرَعَ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ أَوِ السَّبْعَةِ، ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْهَدْيُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَلْزَمُهُ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَلَا هَدْيَ، ثُمَّ وَجَدَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ، أَمِ الْأَدَاءِ، أَمْ أَغْلَظُهُمَا؟ إِنِ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْوُجُوبِ، أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ، وَإِلَّا لَزِمَ الْهَدْيُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَرْعٌ الْمُتَمَتِّعُ الْوَاجِدُ لِلْهَدْيِ، إِذَا مَاتَ قَبْلَ فَرَاغِ الْحَجِّ، هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَسْقُطُ، بَلْ يُخْرَجُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ. وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ أُخْرِجَ مِنْ تَرِكَتِهِ بِلَا خِلَافٍ. فَأَمَّا الصَّوْمُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَسْقُطُ، لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ. وَالثَّانِي:

يُهْدِي عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُتَصَوَّرُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ فِي مَوْضِعِهِ وَلَهُ بِبَلَدِهِ مَالٌ، أَوْ وَجَدَهُ بِثَمَنٍ غَالٍ. وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الصَّوْمِ، فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَهَلْ هُوَ كَصَوْمِ رَمَضَانَ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، فَيَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ عَلَى الْقَدِيمِ. وَفِي الْجَدِيدِ: يُطْعِمُ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدًّا. فَإِنْ كَانَ تَمَكَّنَ مِنَ الْأَيَّامِ الْعَشَرَةِ، فَعَشَرَةُ أَمْدَادٍ، وَإِلَّا فَبِالْقِسْطِ. وَهَلْ يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إِلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ، أَمْ يَجُوزُ إِلَى غَيْرِهِمْ أَيْضًا؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ. فَعَلَى هَذَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الرُّجُوعُ عَلَى الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى هَذَا الصَّوْمِ مِنَ الْأَمْدَادِ، فَيَجِبُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلَى الْعَشَرَةِ شَاةٌ، وَفِي يَوْمٍ ثُلُثُ شَاةٍ، وَفِي يَوْمَيْنِ ثُلُثَاهَا. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، كَإِتْلَافِ الشَّعْرَةِ وَالشَّعْرَتَيْنِ مِنَ الْمُحْرِمِ. وَفِي الشَّعْرَةِ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: مُدٌّ. وَالثَّانِي: دِرْهَمٌ. وَالثَّالِثُ: ثُلُثُ شَاةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ شَيْءٌ أَصْلًا. وَأَمَّا التَّمَكُّنُ الْمَذْكُورُ، فَصَوْمُ الثَّلَاثَةِ، يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ لِزَمَنٍ يَسَعُ صَوْمَهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ، وَلَا يَكُونُ عَارِضٌ مِنْ مَرَضٍ وَغَيْرِهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي تَرِكَتِهِ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْوَطَنِ؛ لِأَنَّ دَوَامَ السَّفَرِ كَدَوَامِ الْمَرَضِ، فَلَا يَزِيدُ تَأَكُّدُ الثَّلَاثَةِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ وَاضِحٍ، لِأَنَّ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ، يَتَعَيَّنُ إِيقَاعُهُ فِي الْحَجِّ بِالنَّصِّ. وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا، فَلَا يَكُونُ السَّفَرُ عُذْرًا فِيهِ بِخِلَافِ رَمَضَانَ. وَأَمَّا السَّبْعَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: الرُّجُوعُ إِلَى الْوَطَنِ، فَلَا تُمْكِنُ قَبْلَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْفَرَاغُ مِنَ الْحَجِّ، فَلَا تُمْكِنُ قَبْلَهُ. ثُمَّ دَوَامُ السَّفَرِ عُذْرٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِذَا اسْتَحْبَبْنَا التَّأْخِيرَ إِلَى أَنْ يَصِلَ الْوَطَنَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ الْفَرَاغِ، فَهَلْ يُفْدَى عَنْهُ إِذَا مَاتَ؟ وَجْهَانِ.

باب

بَابٌ الْإِحْرَامُ يَنْبَغِي لِمُرِيدِ الْإِحْرَامِ، أَنْ يَنْوِيَ وَيُلَبِّيَ. فَإِنْ لَبَّى وَلَمْ يَنْوِ، فَنُصَّ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا لَبَّى بِهِ. وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَإِنْ لَمْ يُرِدْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ عَلَى طَرِيقَيْنِ. الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ. وَتَأْوِيلُ نَقْلِ الرَّبِيعِ، عَلَى مَا إِذَا أَحْرَمَ مُطْلَقًا، ثُمَّ تَلَفَّظَ بِنُسُكٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَنْوِهِ، فَيَجْعَلُ لَفْظَهُ تَعْيِينًا لِلْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ مَا سَمَّى؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِقَوْلِهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَطْلَقَ التَّلْبِيَةَ، انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ مُطْلَقًا، يَصْرِفُهُ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ كِلَا النُّسُكَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا. قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَالتَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ أَضْعَفُ مِنْهُ، لِأَنَّا سَنَذْكُرُ قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِحْرَامَ الْمُطْلَقَ، لَا يَصِحُّ صَرْفُهُ إِلَّا بِنِيَّةِ الْقَلْبِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَاعْلَمْ أَنَّ نَصَّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» يَحْتَاجُ إِلَى قَيْدٍ آخَرَ، يَعْنِي: لَمْ يُرِدْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، وَلَا أَصْلَ الْإِحْرَامِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَبَّى وَلَمْ يَنْوِ. فَلَوْ نَوَى وَلَمْ يُلَبِّ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِالتَّلْبِيَةِ. وَحَكَى الشَّيْخُ

أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِالتَّلْبِيَةِ، لَكِنْ يَقُومُ مَقَامَهَا سَوْقُ الْهَدْيِ، وَتَقْلِيدُهُ، وَالتَّوَجُّهُ مَعَهُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الِاشْتِرَاطِ، وَذَكَرَ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ التَّلْبِيَةَ، لَزِمَهُ دَمٌ. قُلْتُ: صِفَةُ النِّيَّةِ: أَنْ يَنْوِيَ الدُّخُولَ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ فِيهِمَا وَالتَّلَبُّسَ بِهِ. وَالْوَاجِبُ: أَنْ يَنْوِيَ هَذَا بِقَلْبِهِ. فَإِنْ ضَمَّ إِلَى نِيَّةِ الْقَلْبِ التَّلَفُّظَ، كَانَ أَفْضَلَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ النِّيَّةُ، فَلَوْ لَبَّى بِالْعُمْرَةِ وَنَوَى الْحَجَّ، فَهُوَ حَاجٌّ، وَبِالْعَكْسِ مُعْتَمِرٌ. وَلَوْ تَلَفَّظَ بِأَحَدِهِمَا، وَنَوَى الْقِرَانَ، فَقَارَنَ. وَلَوْ تَلَفَّظَ بِالْقِرَانِ، وَنَوَى أَحَدَهُمَا، فَهُوَ لِمَا نَوَى. فَرْعٌ الْإِحْرَامُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْعَقِدُ مُعَيَّنًا، بِأَنْ يَنْوِيَ أَحَدَ النُّسُكَيْنِ بِعَيْنِهِ، أَوْ كِلَيْهِمَا. فَلَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ، أَوْ عُمْرَتَيْنِ، انْعَقَدَتْ وَاحِدَةٌ فَقَطْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْأُخْرَى. الثَّانِي: يَنْعَقِدُ مُطْلَقًا، بِأَنْ يَنْوِيَ نَفْسَ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَقْصِدَ الْقِرَانَ، وَلَا أَحَدَ النُّسُكَيْنِ، وَهَذَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ أَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَهُ صَرْفُهُ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ، وَيَكُونُ التَّعْيِينُ بِالنِّيَّةِ لَا بِاللَّفْظِ، وَلَا يُجْزِئُهُ الْعَمَلُ قَبْلَ النِّيَّةِ. وَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْأَشْهُرِ فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ صَحَّ، وَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى الْحَجِّ بَعْدَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ، فَوَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا يَجُوزُ، بَلِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ. وَالثَّانِي: يَنْعَقِدُ مُبْهَمًا، وَلَهُ صَرْفُهُ بَعْدَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ، إِلَى

فصل

حَجٍّ، أَوْ قِرَانٍ. فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى الْحَجِّ قَبْلَ الْأَشْهُرِ، كَانَ كَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الْأَشْهُرِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. فَرْعٌ هَلِ الْأَفْضَلُ إِطْلَاقُ الْإِحْرَامِ، أَمْ تَعْيِينُهُ؟ قَوْلَانِ. قَالَ فِي «الْإِمْلَاءِ» : الْإِطْلَاقُ أَفْضَلُ. وَفِي «الْأُمِّ» : التَّعْيِينُ أَفْضَلُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ فِي تَلْبِيَتِهِ بِمَا عَيَّنَهُ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: لَا بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى النِّيَّةِ. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ النِّسْيَانِ. فَصْلٌ إِذَا أَحْرَمَ عَمْرٌو بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زَيْدٌ جَازَ. ثُمَّ لِزَيْدٍ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا، وَيُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مَا أَحْرَمَ بِهِ، فَيَنْعَقِدُ لِعَمْرٍو مِثْلُ إِحْرَامِهِ، إِنْ كَانَ حَجًّا فَحَجٌّ، وَإِنْ كَانَ عُمْرَةً فَعُمْرَةٌ، وَإِنْ كَانَ قِرَانًا فَقِرَانٌ. قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ بِنِيَّةِ التَّمَتُّعِ كَانَ عَمْرٌو مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّمَتُّعُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِنْ كَانَ مُطْلِقًا انْعَقَدَ إِحْرَامُ عَمْرٍو مُطْلِقًا أَيْضًا، وَيَتَخَيَّرُ كَمَا يَتَخَيَّرُ زَيْدٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ الصَّرْفُ إِلَى مَا يُصْرَفُ إِلَيْهِ زَيْدٌ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِلَّا إِذَا أَرَادَ إِحْرَامًا كَإِحْرَامِ زَيْدٍ بَعْدَ تَعْيِينِهِ. وَإِنْ كَانَ إِحْرَامُ زَيْدٍ فَاسِدًا، فَهَلْ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُ عَمْرٍو مُطْلَقًا، أَمْ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا؟ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: انْعِقَادُهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ نَذَرَ صَلَاةً فَاسِدَةً، هَلْ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِصَلَاةٍ صَحِيحَةٍ، أَمْ لَا يَنْعَقِدُ؟ وَالْأَصَحُّ: لَا يَنْعَقِدُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ أَحْرَمَ مُطْلَقًا، ثُمَّ عَيَّنَهُ قَبْلَ إِحْرَامِ عَمْرٍو، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَنْعَقِدُ إِحْرَامُ عَمْرٍو مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: مُعَيَّنًا، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ أَحْرَمَ زِيدٌ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَكُونُ عَمْرٌو مُعْتَمِرًا، وَعَلَى الثَّانِي: قَارِنًا، وَالْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَخْطُرْ لَهُ التَّشْبِيهُ بِإِحْرَامِ زَيْدٍ فِي الْحَالِ، وَلَا فِي أَوَّلِهِ، فَإِنْ خَطَرَ التَّشْبِيهُ بِأَوَّلِهِ أَوْ بِالْحَالِ، فَالِاعْتِبَارُ بِمَا خَطَرَ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ أَخْبَرَهُ زَيْدٌ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ خِلَافُهُ، فَهَلْ يَعْمَلُ بِخَبَرِهِ، أَوْ بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: بِخَبَرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ، فَعَمِلَ بِقَوْلِهِ، فَبَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، فَقَدْ بَانَ أَنَّ إِحْرَامَ عَمْرٍو كَانَ مُنْعَقِدًا بِحَجٍّ. فَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، تَحَلَّلَ وَأَرَاقَ دَمًا. وَهَلِ الدَّمُ فِي مَالِهِ، أَوْ مَالِ زَيْدٍ، لِلتَّغْرِيرِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: فِي مَالِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ زَيْدٌ مُحْرِمًا أَصْلًا، فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ عَمْرٌو جَاهِلًا بِهِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِالْإِحْرَامِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ، بِأَنْ عَلِمَ مَوْتَهُ، فَطَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُ عَمْرٍو مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: عَلَى الْوَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا، فَقَدْ أَحْرَمْتُ، فَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا. وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ. وَيُخَالِفُ قَوْلَهُ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا، فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ لِأَصْلِ الْإِحْرَامِ. فَلِهَذَا يَقُولُ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا، فَهَذَا الْمُعَلَّقُ مُحْرِمٌ، وَإِلَّا فَلَا.

وَأَمَّا هُنَا فَأَصْلُ الْإِحْرَامِ مَحْزُومٌ بِهِ. وَاحْتَجُّوا لِلْمَذْهَبِ بِصُورَتَيْنِ نُصَّ عَلَيْهِمَا فِي «الْأُمِّ» . أَحَدُهُمَا: لَوِ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلَانِ لِيَحُجَّ عَنْهُمَا، فَأَحْرَمَ عَنْهُمَا، لَمْ يَنْعَقِدْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَانْعَقَدَ عَنِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُتَعَذَّرٌ، فَلَغَتِ الْإِضَافَةُ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، أَمْ عَلَى الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَى إِجَارَتَيِ الْعَيْنِ فَاسِدَةً إِلَّا أَنَّ الْإِحْرَامَ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ الْإِجَارَةِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: لَوِ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ لِيَحُجَّ عَنْهُ، فَأَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمُسْتَأْجِرِ لَغَتِ الْإِضَافَتَانِ، وَبَقِيَ الْإِحْرَامُ لِلْأَجِيرِ. فَلَمَّا لَغَتِ الْإِضَافَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَبَقِيَ أَصْلُ الْإِحْرَامِ، جَازَ أَنْ يَلْغُوَ هُنَا التَّشْبِيهَ، وَيَبْقَى أَصْلُ الْإِحْرَامِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ مُحْرِمًا وَتَتَعَذَّرُ مُرَاجَعَتُهُ، لِجُنُونٍ، أَوْ غَيْبَةٍ، أَوْ مَوْتٍ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةٌ، وَهِيَ لَوْ أَحْرَمَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، ثُمَّ نَسِيَهُ، قَالَ فِي الْقَدِيمِ: أُحِبُّ أَنْ يَقْرِنَ. وَإِنْ تَحَرَّى، رَجَوْتُ أَنْ يُجْزِئَهُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: هُوَ قَارِنٌ. وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِجَوَازِ التَّحَرِّي. وَتَأْوِيلُ الْجَدِيدِ عَلَى مَا إِذَا شَكَّ، هَلْ أَحْرَمَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، أَمْ قَرَنَ؟ وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ. الْقَدِيمُ: جَوَازُ التَّحَرِّي، وَيَعْمَلُ بِظَنِّهِ. وَالْجَدِيدُ: لَا يَتَحَرَّى. فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ فَتَحَرَّى، مَضَى فِيمَا ظَنَّهُ مِنَ النُّسُكَيْنِ، وَأَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُهُ الشَّكُّ. وَفَائِدَةُ التَّحَرِّي: الْخَلَاصُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَلِلشَّكِّ صُورَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُعَرِّضَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَلَفْظُ النَّصِّ: أَنَّهُ قَارِنٌ. وَقَالَ الْأَصْحَابُ: مَعْنَاهُ: أَنْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ، وَيَجْعَلَ نَفْسَهُ قَارِنًا. وَحُكِيَ قَوْلٌ أَنَّهُ يَصِيرُ قَارِنًا بِلَا نِيَّةٍ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. ثُمَّ إِذَا نَوَى الْقِرَانَ وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ،

تَحَلَّلَ وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ عَنِ الْحَجِّ بِيَقِينٍ، وَأَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، لَمْ يَضُرَّ تَجْدِيدُ الْعُمْرَةِ بَعْدَهُ، سَوَاءٌ قُلْنَا: يَصِحُّ إِدْخَالُهَا عَلَيْهِ، أَمْ لَا. وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، فَإِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِهَا، جَائِزٌ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ، فَإِنْ جَوَّزْنَا إِدْخَالَهَا عَلَى الْحَجِّ، أَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا تُجْزِئُهُ، لِاحْتِمَالِ تَأَخُّرِ الْعُمْرَةِ. وَالثَّانِي: تُجْزِئُهُ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَيَكُونُ الِاشْتِبَاهُ عُذْرًا فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهَا. فَإِنْ قُلْنَا: تُجْزِئُ، لَزِمَهُ دَمُ الْقِرَانِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُجْزِئُهُ الْعُمْرَةُ، لَمْ يَجِبِ الدَّمُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَوْلُنَا: يَجْعَلُ نَفْسَهُ قَارِنًا، لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ. قَالَ الْإِمَامُ: لَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - الْقِرَانَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، بَلْ ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُ الشَّاكُّ التَّحَلُّلَ مَعَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ النُّسُكَيْنِ. فَلَوِ اقْتَصَرَ بَعْدَ النِّسْيَانِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَأَتَى بِأَعْمَالِهِ حَصَلَ التَّحَلُّلَ قَطْعًا، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ عَنِ الْحَجِّ، وَلَا تَبْرَأُ عَنِ الْعُمْرَةِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْرَمَ ابْتِدَاءً بِالْحَجِّ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ: لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَأَتَى بِأَعْمَالِ الْقِرَانِ، حَصَلَ التَّحَلُّلُ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنَ الْعُمْرَةِ إِنْ جَوَّزْنَا إِدْخَالَهَا عَلَى الْحَجِّ، وَلَا تَبْرَأُ عَنِ الْحَجِّ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْرَمَ ابْتِدَاءً وَلَمْ يُغَيِّرْهَا. وَلَوْ لَمْ يُجَدِّدْ إِحْرَامًا بَعْدَ النِّسْيَانِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِعَمَلِ الْحَجِّ، حَصَلَ التَّحَلُّلُ، وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ النُّسُكَيْنِ، لِشَكِّهِ فِيمَا أَتَى بِهِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى عَمَلِ الْعُمْرَةِ، لَمْ يَحْصُلِ التَّحَلُّلُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَلَمْ يُتِمَّ أَعْمَالَهُ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: [أَنْ] يَعْرِضَ الشَّكُّ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِضَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَقَبْلَ الطَّوَافِ، فَإِذَا نَوَى الْقِرَانَ، فَيُجْزِئُهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِهِ، فَذَاكَ. وَإِنْ كَانَ بِالْعُمْرَةِ، فَقَدْ أَدْخَلَهُ عَلَيْهَا قَبْلَ الطَّوَافِ

، وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَلَا تُجْزِئُهُ الْعُمْرَةُ إِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُهَا عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي التَّحَلُّلِ. وَهَذَا الْحَالُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَ وَقْتُ الْوُقُوفِ بَاقِيًا عِنْدَ مَصِيرِهِ قَارِنًا ثُمَّ وَقَفَ ثَانِيًا، وَإِلَّا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، فَلَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ الْوُقُوفُ عَنِ الْحَجِّ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَعْرِضَ بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ الْوُقُوفِ، فَإِذَا نَوَى الْقِرَانَ، وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْقَارِنِ لَمْ يُجْزِئْهُ الْحَجُّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، فَيَمْتَنِعُ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا بَعْدَ الطَّوَافِ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ، فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ إِدْخَالِهَا عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ الطَّوَافِ، أَجْزَأَتْهُ وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْحَدَّادِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنَّهُ يُتِمُّ أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ، بِأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتِي الطَّوَافِ، وَيَسْعَى، وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، وَيَأْتِيَ بِأَعْمَالِهِ. فَإِذَا فَعَلَ هَذَا صَحَّ حَجُّهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، لَمْ يَضُرَّ تَجْدِيدُ إِحْرَامِهِ. وَإِنْ كَانَ بِالْعُمْرَةِ، فَقَدْ تَمَتَّعَ، وَلَا تَصِحُّ عُمْرَتُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، وَلَا تَدَخُلُ الْعُمْرَةُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْقِرَانَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ، وَصَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَالْأَكْثَرُونَ: إِنْ فَعَلَ هَذَا، فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ. لَكِنْ لَوِ اسْتَفْتَانَا، لَمْ نُفْتِهِ بِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَلْقُ يَقَعُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ. وَهَذَا كَمَا لَوِ ابْتَلَعَتْ دَجَاجَةُ إِنْسَانٍ جَوْهَرَةً لِغَيْرِهِ، لَا يُفْتَى صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِذَبْحِهَا وَأَخْذِ الْجَوْهَرَةِ. فَلَوْ ذَبَحَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا قَدْرُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ قِيمَتِهَا حَيَّةً وَمَذْبُوحَةً، وَكَذَا لَوْ تَقَابَلَتْ دَابَّتَانِ لِشَخْصَيْنِ عَلَى شَاهِقٍ، وَتَعَذَّرَ مُرُورُهُمَا، لَا يُفْتَى أَحَدُهُمَا بِإِهْلَاكِ دَابَّةِ الْآخَرِ، لَكِنْ لَوْ فَعَلَ خَلَّصَ دَابَّتَهُ، وَلَزِمَهُ قِيمَةُ دَابَّةِ صَاحِبِهِ، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ قَوْلَ ابْنِ الْحَدَّادِ. وَوَجَّهَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: بِأَنَّ الْحَلْقَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ يُبَاحُ بِالْعُذْرِ، كَمَنَ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، فَضَرَرُ الِاشْتِبَاهِ لَوْ لَمْ يَحْلِقْ أَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَفُوتُ الْحَجُّ، وَسَوَاءٌ أَفْتَيْنَاهُ بِمَا قَالَهُ

ابْنُ الْحَدَّادِ، أَمْ لَمْ نُفْتِهِ، فَفَعَلَ لَزِمَهُ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ، فَقَدْ حَلَقَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَإِنْ كَانَ بِعُمْرَةٍ، فَقَدْ تَمَتَّعَ، فَيُرِيقُ دَمًا عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَيِّنُ الْجِهَةَ كَمَا فِي الْكَفَّارَةِ. فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ دَمًا وَلَا طَعَامًا صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ كَصَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ. فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دَمَ الْمُتَمَتِّعِ، فَذَاكَ وَإِنْ كَانَ دَمَ الْحَلْقِ أَجْزَأَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، الْبَاقِي تَطَوُّعٌ. وَلَا يُعَيِّنَ الْجِهَةَ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ، وَيَجُوزُ تَعْيِينُ التَّمَتُّعِ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى صَوْمِ ثَلَاثَةٍ، هَلْ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ؟ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ: أَنَّهُ لَا تَبْرَأُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَبْرَأَ، وَعَبَّرَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» عَنْ هَذَيْنِ بِوَجْهَيْنِ. وَيُجْزِئُهُ الصَّوْمُ مَعَ وُجُودِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلطَّعَامِ فِي التَّمَتُّعِ. وَفِدْيَةُ الْحَلْقِ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَلَوْ أَطْعَمَ، هَلْ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ؟ فِيهِ كَلَامَا الشَّيْخِ وَالْإِمَامِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا اسْتَجْمَعَ الرَّجُلُ شُرُوطَ وُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجْمِعْهَا، كَالْمَكِّيِّ، لَمْ يَجِبِ الدَّمُ؛ لِأَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ مَفْقُودٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْحَلْقِ. وَإِذَا جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ أَوَّلًا بِالْقِرَانِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ آخَرُ مَعَ الدَّمِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْرِضَ الشَّكُّ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ. فَإِنْ أَتَى بِبَقِيَّةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ، لَمْ يَحْصُلْ لَهُ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ. أَمَّا الْحَجُّ، فَلِجَوَازِ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، فَلَا يَنْفَعُهُ الْوُقُوفُ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ، فَلِجَوَازِ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ، وَلَمْ يُدْخِلْ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ. فَإِنْ نَوَى الْقِرَانَ، وَلَبَّى، وَأَتَى بِأَعْمَالِ الْقِرَانِ، فَإِجْزَاءُ الْعُمْرَةِ يُبْنَى عَلَى أَنَّهَا هَلْ تَدْخُلُ عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ؟ ثُمَّ قِيَاسُ الْمَذْكُورِ فِي الْحَالِ السَّابِقِ. ثُمَّ لَوْ أَتَمَّ أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ، وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَأَتَى بِأَعْمَالِهِ مَعَ الْوُقُوفِ، أَجْزَأَهُ الْحَجُّ، وَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ أَتَمَّ أَعْمَالَ الْحَجِّ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَأَتَى بِأَعْمَالِهَا، أَجْزَأَتْهُ الْعُمْرَةُ.

فَرْعٌ لَوْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَطَافَ لِلْحَجِّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ ذَلِكَ، وَلَا سَعْيُهُ بَعْدَهُ، وَبَانَ أَنَّ حَلْقَهُ وَقَعَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَيَصِيرُ بِإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ مُدْخِلًا الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ، فَيَصِيرُ قَارِنًا، وَيُجْزِئُهُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ فِي الْحَجِّ عَنِ الْحَجِّ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ، دَمُ الْقِرَانِ، وَدَمُ الْحَلْقِ. وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْحَجِّ، تَوَضَّأَ وَأَعَادَ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دَمُ التَّمَتُّعِ إِذَا اسْتُجْمِعَتْ شُرُوطُهُ. فَلَوْ شَكَّ فِي أَيِّ الطَّوَافَيْنِ كَانَ حَدَثُهُ، فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ. فَإِذَا أَعَادَهُمَا، صَحَّ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ قَارِنٌ أَوْ مُتَمَتِّعٌ، وَيَنْوِي بِإِرَاقَتِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، وَلَا تُعَيَّنُ الْجِهَةُ. وَكَذَا لَوْ لَمْ يَجِدِ الدَّمَ فَصَامَ. وَالِاحْتِيَاطُ: أَنْ يُرِيقَ دَمًا آخَرَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حَالِقٌ قَبْلَ الْوَقْتِ. فَلَوْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْعُمْرَةِ، وَقُلْنَا: الْحَلْقُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَكَذَا لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ تَبَيُّنِ الْحَدَثِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، إِلَّا دَمٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَكِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُفَرَّعُ عَلَى أَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: جِمَاعُ النَّاسِي، هَلْ يُفْسِدُ النُّسُكَ وَيَجِبُ الْفِدْيَةُ كَالْعَمْدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. الثَّانِي: إِذَا أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ بِجِمَاعٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا، هَلْ يَدْخُلُ وَيَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَكُونُ الْحَجُّ صَحِيحًا مُجْزِئًا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّ الْمُفْسِدَ مُتَقَدِّمٌ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، أَوْ صَحِيحًا ثُمَّ يَفْسُدُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْعَقِدُ صَحِيحًا ثُمَّ يَفْسُدُ،

كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مُجَامِعًا. وَأَصَحُّهُمَا: يَنْعَقِدُ فَاسِدًا. وَلَوِ انْعَقَدَ صَحِيحًا، لَمْ يَفْسُدْ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ انْعِقَادِهِ مُفْسِدٌ. فَإِنْ قُلْنَا: يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، أَوْ صَحِيحًا ثُمَّ يَفْسُدُ، مَضَى فِي النُّسُكَيْنِ وَقَضَاهُمَا. وَإِنْ قُلْنَا: يَنْعَقِدُ صَحِيحًا وَلَا يَفْسُدُ، قَضَى الْعُمْرَةَ دُونَ الْحَجِّ. وَعَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ: يَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَلَا يَجِبُ لِلْإِفْسَادِ إِلَّا بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. وَحَكَى الْإِمَامُ: وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، إِذَا حَكَمْنَا بِانْعِقَادِ حَجِّهِ فَاسِدًا. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ أُخْرَى لِفَسَادِ الْحَجِّ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ لِلْعُمْرَةِ، وَشَاةٌ لِلْحَجِّ، كَمَا لَوْ جَامَعَ، ثُمَّ جَامَعَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، فَانْظُرْ، إِنْ كَانَ الْحَدَثُ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، فَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فَاسِدَانِ، وَالْجِمَاعُ وَاقِعٌ قَبْلَ التَّحَلُّلِ، لَكِنْ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ، فَهَلْ يَكُونُ كَالنَّاسِي؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. وَالثَّانِي: لَا. فَإِنْ لَمْ تَفْسُدِ الْعُمْرَةُ بِهِ، صَارَ قَارِنَا وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْقِرَانِ، وَدَمٌ لِلْحَلْقِ قَبْلَ وَقْتِهِ إِنْ كَانَ حَلَقَ كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ أَفْسَدْنَا الْعُمْرَةَ، فَعَلَيْهِ لِلْإِفْسَادِ بَدَنَةٌ، وَلِلْحَلْقِ شَاةٌ. وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، فَقَدْ أَدْخَلَهُ عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ، فَهُوَ فِي عُمْرَتِهِ كَمَا كَانَ، فَيَتَحَلَّلُ مِنْهَا وَيَقْضِيهَا. وَإِنْ دَخَلَ وَقُلْنَا بِفَسَادِ الْحَجِّ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْإِفْسَادِ، وَدَمٌ لِلْحَلْقِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَدَمٌ لِلْقِرَانِ، وَيَمْضِي فِي فَاسِدِهِمَا ثُمَّ يَقْضِيهِمَا. وَإِنْ قَالَ: كَانَ الْحَدَثُ قَبْلَ طَوَافِ الْحَجِّ، فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَقَدْ صَحَّ نُسُكَاهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دَمُ التَّمَتُّعِ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَدْرِي فِي أَيِّ الطَّوَافَيْنِ كَانَ، أَخَذَ فِي كُلِّ حُكْمٍ بِالْيَقِينِ، فَلَا يَتَحَلَّلُ مَا لَمْ يُعِدِ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدَثَهُ كَانَ فِي طَوَافِ الْحَجِّ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، إِنْ كَانَا وَاجِبَيْنِ عَلَيْهِ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مُحْدِثًا

فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَتَأْثِيرُ الْجِمَاعِ فِي إِفْسَادِ النُّسُكَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَلَا قَضَاءَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا فَسَادَ، وَعَلَيْهِ دَمٌ إِمَّا لِلتَّمَتُّعِ إِنْ كَانَ الْحَدَثُ فِي [طَوَافِ] الْحَجِّ. وَإِمَّا لِلْحَلْقِ إِنْ كَانَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ. وَلَا تَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يُفْسِدِ الْعُمْرَةَ، لَكِنَّ الِاحْتِيَاطَ ذَبْحُ بَدَنَةٍ وَشَاةٍ إِذَا جَوَّزْنَا إِدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صَارَ قَارِنًا بِذَلِكَ. هَذَا آخِرُ الْمُقَدِّمَةِ. فَإِذَا تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ إِحْرَامِ زَيْدٍ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عَمْرٌو كَمَنْ نَسِيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ. وَفِيهِ الْقَوْلَانِ: الْقَدِيمُ وَالْجَدِيدُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَتَحَرَّى بِحَالٍ، بَلْ يَنْوِ الْقِرَانَ. وَحَكَوْهُ عَنْ نَصِّهِ فِي الْقَدِيمِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الشَّكَّ فِي مَسْأَلَةِ النِّسْيَانِ وَقَعَ فِي فِعْلِهِ، فَلَهُ سَبِيلٌ إِلَى التَّحَرِّي، بِخِلَافِ إِحْرَامِ زَيْدٍ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِزَيْدٍ، هُوَ فِيمَا إِذَا أَحْرَمَ عَمْرٌو فِي الْحَالِ بِإِحْرَامٍ كَإِحْرَامِ زَيْدٍ. أَمَّا لَوْ عَلَّقَ إِحْرَامَهُ فَقَالَ: إِذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ، فَأَنَا مُحْرِمٌ، فَلَا يَصِحُّ إِحْرَامُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَأَنَا مُحْرِمٌ. هَكَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ. وَنَقَلَ فِي الْمُعْتَمَدِ فِي صِحَّةِ الْإِحْرَامِ الْمُعَلَّقِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَنَحْوِهِ وَجْهَيْنِ. وَقِيَاسُ تَجْوِيزِ تَعْلِيقِ أَصْلِ الْإِحْرَامِ بِإِحْرَامِ الْغَيْرِ تَجْوِيزُ هَذَا؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ إِلَّا أَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ بِمُسْتَقْبَلٍ، وَذَلِكَ تَعْلِيقٌ بِحَاضِرٍ، وَمَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ مِنَ الْعُقُودِ، يَقْبَلُهُمَا جَمِيعًا.

فصل

قُلْتُ: قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَوْ قَالَ أَحْرَمْتُ كَإِحْرَامِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ بِنُسُكٍ مُتَّفِقٍ، كَانَ كَأَحَدِهِمَا. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا بِعُمْرَةٍ، وَالْآخَرُ بِحَجٍّ، كَانَ هَذَا الْمُعَلِّقُ قَارِنًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَارِنًا. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: كَإِحْرَامِ زَيْدٍ الْكَافِرِ، وَكَانَ الْكَافِرُ قَدْ أَتَى بِصُورَةِ إِحْرَامٍ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ لَهُ مَا أَحَرَمَ بِهِ الْكَافِرُ، أَمْ يَنْعَقِدُ مُطْلَقًا؟ وَجْهَانِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ، بَلِ الصَّوَابُ انْعِقَادُهُ مُطْلَقًا. قَالَ الرُّويَانِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ: أَحْرَمْتُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، انْعَقَدَ مُطْلَقًا كَالطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ: أَحْرَمْتُ بِنِصْفِ نُسُكٍ، انْعَقَدَ بِنُسُكٍ كَالطَّلَاقِ. وَفِيمَا نَقَلَهُ، نَظَرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فِي سُنَنِ الْإِحْرَامِ مِنْ سُنَنِهِ: الْغُسْلُ إِذَا أَرَادَهُ. يَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابِهِ، الرَّجُلُ، وَالصَّبِيُّ، وَالْحَائِضُ، وَالنُّفَسَاءُ. وَلَوْ أَمْكَنَ الْحَائِضَ الْمُقَامُ بِالْمِيقَاتِ حَتَّى تَطَهُرَ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ تُؤَخِّرَ الْإِحْرَامَ حَتَّى تَطْهُرَ، فَتَغْتَسِلَ لِيَقَعَ إِحْرَامُهَا فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهَا. وَحُكِيَ قَوْلٌ أَنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ لَا يُسَنُّ لَهُمَا الْغُسْلُ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَإِذَا اغْتَسَلَتَا نَوَتَا. وَلِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي نِيَّتِهِمَا احْتِمَالٌ. فَإِنْ عَجَزَ الْمُحْرِمُ عَنِ الْمَاءِ تَيَمَّمَ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» . وَذَكَرْنَا فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ احْتِمَالًا لِلْإِمَامِ أَنَّهُ لَا تَيَمُّمَ، وَذَاكَ عَائِدٌ هُنَا. وَإِذَا وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِيهِ لِلْغُسْلِ، تَوَضَّأَ، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» قَالَهُ أَيْضًا الْمُحَامِلِيُّ. فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، فَحَسَنٌ. وَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْوُضُوءِ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْغُسْلُ، فَالتَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَهُ دُونَ الْوُضُوءِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَيُسَنُّ الْغُسْلُ لِلْحَاجِّ فِي مَوَاطِنَ. أَحَدُهَا: عِنْدَ الْإِحْرَامِ. وَالثَّانِي: لِدُخُولِ مَكَّةَ. وَالثَّالِثُ: لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَالرَّابِعُ: لِلْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ. وَالْخَامِسُ، وَالسَّادِسُ، وَالسَّابِعُ: ثَلَاثَةُ أَغْسَالٍ لِرَمْيِ جِمَارِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَهَذِهِ الْأَغْسَالُ، نَصَّ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - قَدِيمًا وَجَدِيدًا. وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابِهَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ. وَحُكْمُ الْحَائِضِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً، كَمَا سَبَقَ فِي غُسْلِ الْإِحْرَامِ. وَزَادَ فِي الْقَدِيمِ ثَلَاثَةَ أَغْسَالٍ: لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَالْوَدَاعِ، وَلِلْحَلْقِ، وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ اكْتِفَاءً بِغُسْلِ الْعِيدِ؛ وَلِأَنَّ وَقْتَهُ مُتَّسِعٌ، بِخِلَافِ رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. قُلْتُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْأُمِّ» : أَكْرَهُ تَرْكَ الْغُسْلِ لِلْإِحْرَامِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْغُسْلِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ لِلْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ، وَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» . وَجَعَلَ الْمُحَامِلِيُّ فِي كُتُبِهِ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ الْغُسْلَ الرَّابِعَ لِلْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا غُسْلَ الْوُقُوفِ بِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِلْإِحْرَامِ بِحَلْقِ الْعَانَةِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلِ الرَّأْسِ بِسِدْرٍ أَوْ خَطْمِيٍّ وَنَحْوِهِ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَطَيَّبَ لِلْإِحْرَامِ. وَسَوَاءٌ الطِّيبُ الَّذِي يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ وَجِرْمٌ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَالَّذِي لَا يَبْقَى، وَسَوَاءٌ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَحُكِيَ

وَجْهٌ: أَنَّ التَّطَيُّبَ مُبَاحٌ، لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ. وَقَوْلٌ: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ بِحَالٍ. وَوَجْهٌ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ التَّطَيُّبُ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ. ثُمَّ إِذَا تَطَيَّبَ فَلَهُ اسْتِدَامَتُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إِذَا تَطَيَّبَتْ ثُمَّ لَزِمَتْهَا عِدَّةٌ تَلْزَمُهَا إِزَالَةُ الطِّيبِ فِي وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ آدَمِيٌّ، فَالْمُضَايَقَةُ فِيهِ أَكْثَرُ. وَلَوْ أَخَذَ الطِّيبَ مِنْ مَوْضِعِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَرَدَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَلَوِ انْتَقَلَ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْعِرْقِ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِنْ تَرَكَهُ. هَذَا كُلُّهُ فِي تَطْيِيبِ الْبَدَنِ. وَفِي تَطْيِيبِ إِزَارِ الْإِحْرَامِ وَرِدَائِهِ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ كَالْبَدَنِ. وَالثَّانِي: التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّهُ يُلْبَسُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: إِنْ بَقِيَ عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ. وَهَذَا الْخِلَافُ، فِيمَنْ قَصَدَ تَطْيِيبَ الثَّوْبِ. أَمَّا مَنْ طَيَّبَ بَدَنَهُ فَتَعَطَّرَ ثَوْبُهُ تَبَعًا، فَلَا بَأْسَ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ جَوَّزْنَا تَطْيِيبَ الثَّوْبِ لِلْإِحْرَامِ، فَلَا بَأْسَ بِاسْتِدَامَةِ مَا عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، كَالْبَدَنِ. فَلَوْ نَزَعَهُ ثُمَّ لَبِسَهُ، لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا لَوْ أَخَذَ الطِّيبَ مِنْ بَدَنِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَيْهِ، أَوِ ابْتَدَأَ لُبْسَ ثَوْبٍ مُطَيَّبٍ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُخَضِّبَ يَدَيْهَا إِلَى الْكُوعَيْنِ بِالْحِنَّاءِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَتَمْسَحَ وَجْهَهَا أَيْضًا بِشَيْءٍ مِنَ الْحِنَّاءِ لِتَسْتُرَ الْبَشَرَةَ، فَإِنَّهَا تُؤْمَرُ بِكَشْفِهِمَا، وَلَا فَرْقَ فِي اسْتِحْبَابِ الْخِضَابِ لِلْمُحْرِمَةِ بَيْنَ الْمُزَوَّجَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ، فَيُسْتَحَبُّ لِلْمُزَوَّجَةِ الْخِضَابُ، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهَا. وَحَيْثُ اسْتَحْبَبْنَاهُ، فَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَعْمِيمُ الْيَدِ دُونَ النَّقْشِ وَالتَّسْوِيدِ وَالتَّطْرِيفِ، وَهُوَ خَضْبُ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ. وَيُكْرَهُ لَهَا الْخِضَابُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ.

قُلْتُ: سَوَاءٌ فِي اسْتِحْبَابِ الْخِضَابِ الْعَجُوزُ وَالشَّابَّةُ. وَلَا تَخْتَضِبُ الْخُنْثَى، كَمَا لَا يَخْتَضِبُ الرَّجُلُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ فَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ، نَزَعَ الْمَخِيطَ، وَلَبِسَ إِزَارًا وَرِدَاءً وَنَعْلَيْنِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِزَارُ وَالرِّدَاءُ أَبْيَضَيْنِ جَدِيدَيْنِ، وَإِلَّا فَمَغْسُولَيْنِ، وَيُكْرَهُ الْمَصْبُوغُ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ رَكْعَتَيْنِ. فَإِنْ أَحْرَمَ فِي وَقْتِ فَرِيضَةٍ فَصَلَّاهَا، أَغْنَتْهُ عَنْ رَكْعَتِي الْإِحْرَامِ. وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، لَمْ يُصَلِّهِمَا عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَالْمُسْتَحَبُّ، أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) . قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ فِي الْمِيقَاتِ مَسْجِدٌ، اسْتُحِبَّ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا فِيهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ فَإِذَا صَلَّى نَوَى وَلَبَّى. وَفِي الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ وَيُلَبِّيَ حِينَ تَنْبَعِثُ بِهِ دَابَّتُهُ إِلَى صَوْبِ مَكَّةَ، إِنْ كَانَ رَاكِبًا، أَوْ حِينَ يَتَوَجَّهُ إِلَى الطَّرِيقِ، إِنْ كَانَ مَاشِيًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ وَيُلَبِّيَ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَاعِدٌ، ثُمَّ يَسِيرُ.

قُلْتُ: وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ السُّنَّةُ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَةِ فِي دَوَامِ الْإِحْرَامِ. وَتُسْتَحَبُّ قَائِمًا، وَقَاعِدًا، وَرَاكِبًا، وَمَاشِيًا، وَجُنُبًا، وَحَائِضًا. وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهَا فِي كُلِّ صُعُودٍ، وَهُبُوطٍ، وَحُدُوثِ أَمْرٍ، مِنْ رُكُوبٍ أَوْ نُزُولِ، أَوِ اجْتِمَاعِ رِفَاقٍ، أَوْ فَرَاغٍ مِنْ صَلَاةٍ، وَعِنْدَ إِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَوَقْتَ السَّحَرِ. وَتُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى، وَمَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ فَإِنَّهَا مَوَاضِعُ نُسُكٍ. وَفِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: يُلَبِّي. وَالْقَدِيمُ: لَا يُلَبِّي، لِئَلَّا يُشَوِّشَ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَالْمُتَعَبِّدِينَ. ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: الْقَوْلَانِ فِي أَصْلِ التَّلْبِيَةِ، فَإِنِ اسْتَحْبَبْنَاهُمَا، اسْتَحْبَبْنَا رَفْعَ الصَّوْتِ بِهَا وَإِلَّا فَلَا. وَجَعَلَهُمَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّ رَفْعَهُ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَفِي الرَّفْعِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَجْهَانِ. وَهَلْ تُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَالسَّعْيُ بَعْدَهُ؟ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: لَا لِأَنَّ لَهُمَا أَذْكَارًا. وَالْقَدِيمُ: يُسْتَحَبُّ. وَلَا يَجْهَرُ بِهَا، وَلَا يُلَبِّي فِي طَوَافَيِ الْإِفَاضَةِ وَالْوَدَاعِ بِلَا خِلَافٍ، لِخُرُوجِ وَقْتِ التَّلْبِيَةِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ رَفْعُ صَوْتِهِ بِالتَّلْبِيَةِ، بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ، وَلَا تَجْهَرُ بِهَا الْمَرْأَةُ، بَلْ تَقْتَصِرُ عَلَى إِسْمَاعِ نَفْسِهَا. قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَإِنْ رَفَعَتْ صَوْتَهَا، لَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: لَكِنْ يُكْرَهُ نَصَّ عَلَيْهِ الدَّارِمِيُّ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الرَّجُلِ فِي صِلَاتِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ التَّلْبِيَةِ دُونَ صَوْتِهِ بِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُلَبِّي، أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ يُكَرِّرُهَا،

باب

وَهِيَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ. وَيَجُوزُ كَسْرُ هَمْزَةِ - إِنَّ - وَفَتْحُهَا. قُلْتُ: الْكَسْرُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِنْ زَادَ عَلَى هَذِهِ التَّلْبِيَةِ، لَمْ يُكْرَهْ. وَيُسْتَحَبُّ إِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ، أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ. وَيُسْتَحَبُّ إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّلْبِيَةِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ يَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي أَثْنَاءِ تَلْبِيَتِهِ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لَكِنْ لَوْ سُلِّمَ عَلَيْهِ رَدَّ، نَصَّ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَيُكْرَهُ التَّسْلِيمُ عَلَيْهِ فِي حَالِ التَّلْبِيَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمَنْ لَا يُحْسِنُ التَّلْبِيَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، يُلَبِّي بِلِسَانِهِ. بَابٌ دُخُولُ مَكَّةَ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَدْخُلَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ مَكَّةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَلِدُخُولِهِ سُنَنٌ. مِنْهَا: الْغُسْلُ بِذِي طُوًى، وَأَنْ يَدْخُلَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءَ - بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدِّ - وَهِيَ بِأَعْلَى مَكَّةَ. وَإِذَا خَرَجَ، خَرَجَ مِنْ ثَنِيَّةِ كُدًى - بِضَمِّ الْكَافِ - بِأَسْفَلِ

مَكَّةَ. وَالَّذِي يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهَا بِالْمَدِّ أَيْضًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ كَتَبُوهَا بِالْأَلْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَهَا بِالْيَاءِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الضَّبْطِ: أَنَّ الثَّنِيَّةَ السُّفْلَى - بِالْقَصْرِ وَتَنْوِينِ الدَّالِ - وَلَا اعْتِدَادَ بِشَيَاعِ خِلَافِهِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا كِتَابَتُهُ بِالْأَلِفِ، فَلَيْسَتْ مُلَازِمَةً لِلْمَدِّ. وَالثَّنِيَّةُ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، وَهَذِهِ الثَّنِيَّةُ عِنْدَ جَبَلِ قُعَيْقِعَانَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَهَذِهِ السُّنَّةُ فِي حَقِّ مَنْ جَاءَ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ. فَأَمَّا الْآتِي مِنْ غَيْرِهَا، فَلَا يُؤْمَرُ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ مَكَّةَ لِيَدْخُلَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءَ، وَكَذَا الْغُسْلُ بِذِي طُوًى. قَالُوا: وَإِنَّمَا دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تِلْكَ الثَّنِيَّةِ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا. وَمُقْتَضَى هَذَا: أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ نُسُكٌ بِالدُّخُولِ مِنْهَا لِلْآتِي مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ. وَكَذَا قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَيْسَتِ الثَّنِيَّةُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، بَلْ عَدَلَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَيُسْتَحَبُّ الدُّخُولُ مِنْهَا لِكُلِّ آتٍ. وَوَافَقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُمْهُورَ، وَسَلَّمَ لِلشَّيْخِ بِأَنَّ مَوْضِعَ الثَّنِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: أَنْ يُسْتَحَبَّ الدُّخُولُ مِنَ الثَّنِيَّةِ لِكُلِّ آتٍ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ هَلِ الْأَفْضَلُ دُخُولُ مَكَّةَ مَاشِيًا، أَمْ رَاكِبًا؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ دَخَلَ مَاشِيًا، فَقِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَافِيًا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: مَاشِيًا أَفْضَلَ، وَلَهُ دُخُولُ مَكَّةَ لَيْلًا وَنَهَارًا بِلَا كَرَاهَةٍ، فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ فِيهِمَا. وَالْأَصَحُّ: أَنَّ النَّهَارَ أَفْضَلُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ

صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ إِذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ وَيَقُولَ: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ، أَوِ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا. وَيُضِيفُ إِلَيْهِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ. وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ مُهِمَّاتِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَأَهَمُّهَا سُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ الْبَيْتِ رَفِيعٌ يُرَى قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: رَأْسُ الرَّدْمِ، إِذَا دَخَلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ. وَحِينَئِذٍ يَقِفُ وَيَدْعُو بِمَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الدُّعَاءِ قَصَدَ الْمَسْجِدَ وَدَخَلَهُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ قَادِمٍ بِلَا خِلَافٍ. وَيَبْتَدِئُ عِنْدَ دُخُولِهِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، وَيُؤَخِّرُ اكْتِرَاءَ مَنْزِلِهِ وَتَغْيِيرَ ثِيَابِهِ إِلَى أَنْ يُفْرِغَ طَوَافَهُ. فَلَوْ دَخَلَ وَالنَّاسُ فِي مَكْتُوبَةٍ، صَلَّاهَا مَعَهُمْ أَوَّلًا. وَكَذَا لَوْ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ، قَدَّمَ الصَّلَاةَ، وَكَذَا لَوْ خَافَ فَوْتَ فَرِيضَةٍ أَوْ سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ. وَلَوْ قَدِمَتِ الْمَرْأَةُ نَهَارًا وَهِيَ جَمِيلَةٌ، أَوْ شَرِيفَةٌ لَا تَبْرُزُ لِلرِّجَالِ، أَخَّرَتِ الطَّوَافَ إِلَى اللَّيْلِ، وَلَيْسَ فِي حَقِّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بَعْدَ الْوُقُوفِ طَوَافُ قُدُومٍ، إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ دَخَلَهَا أَوَّلًا. وَيُسَمَّى طَوَافُ الْقُدُومِ أَيْضًا طَوَافَ الْوُرُودِ وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَحِيَّةُ الْبُقْعَةِ. وَيَأْتِي بِهِ كُلُّ مَنْ دَخَلَهَا، سَوَاءٌ كَانَ تَاجِرًا، أَوْ حَاجًّا، أَوْ غَيْرَهُمَا. وَلَوْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَطَافَ لِلْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ عَنْ طَوَافِ الْقُدُومِ، كَمَا تُجْزِئُ الْفَرِيضَةُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.

فصل

فَصْلٌ مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ لَا لِنُسُكٍ، لَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ بِأَنْ دَخَلَهَا لِزِيَارَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ رِسَالَةٍ، وَكَالْمَكِّيِّ إِذَا دَخَلَهَا عَائِدًا مِنْ سَفَرِهِ، هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَسْعُودِيِّ، وَصَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِمَا فِي آخَرِينَ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَمُتَابِعِيهِ، وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَالْغَزَالِيِّ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالِاسْتِحْبَابِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ فِي الْجُمْلَةِ: اسْتِحْبَابُهُ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ، كَالْحَطَّابِينَ وَالصَّيَّادِينَ وَنَحْوِهِمْ، فَإِنْ قُلْنَا فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ: لَا يَلْزَمُهُ، فَهُنَا أَوْلَى وَإِلَّا فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَيْضًا. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَلْزَمُهُمُ الْإِحْرَامُ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً. وَحَيْثُ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ فَلَهُ شُرُوطٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَجِئَ الدَّاخِلُ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَمِ، فَلَا إِحْرَامَ عَلَيْهِمْ بِلَا خِلَافٍ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَدْخُلَهَا لِقِتَالٍ، وَلَا خَائِفًا. فَإِنْ دَخَلَهَا لِقِتَالِ بَاغٍ، أَوْ قَاطِعِ طَرِيقٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ خَائِفًا مِنْ ظَالِمٍ أَوْ غَرِيمٍ يَحْبِسُهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ لَا يُمْكِنُهُ الظُّهُورُ لِأَدَاءِ النُّسُكِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ بِلَا خِلَافٍ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُرًّا. فَالْعَبْدُ لَا إِحْرَامَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنْ أَذِنَ سَيِّدُهُ

فِي الدُّخُولِ مُحْرِمًا، فَهُوَ كَحُرٍّ، وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ. وَإِذَا اجْتَمَعَتْ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ، فَدَخَلَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقِيلَ: قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، تَدَارُكًا لِلْوَاجِبِ. وَسَبِيلُهُ عَلَى هَذَا، أَنْ يَخْرُجَ ثُمَّ يَعُودَ مُحْرِمًا. وَعَلَّلُوا عَدَمَ الْقَضَاءِ بِعِلَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ الثَّانِيَ يَقْتَضِي إِحْرَامًا آخَرَ، فَصَارَ كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ فَأَفْطَرَ يَوْمًا. وَفَرَّعَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ كَالْحَطَّابِينَ، ثُمَّ صَارَ مِنْهُمْ قَضَى لِتَمَكُّنِهِ. وَرُبَّمَا نُقِلَ عَنْهُ: أَنَّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ، وَبِهَا قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقَفَّالُ: أَنَّهُ تَحِيَّةٌ لِلْبُقْعَةِ، فَلَا تُقْضَى كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَأَبْطَلُوا الْعِلَّةَ الْأُولَى. قَالَ ابْنُ كَجٍّ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ الْوُجُوبِ: إِنَّهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْمِيقَاتِ عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ. فَلَوْ أَحْرَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَرَكَ الْإِحْرَامَ مِنْ أَصْلِهِ. وَهَلْ يَنْزِلُ دُخُولُ الْحَرَمِ مَنْزِلَةَ دُخُولِ مَكَّةَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ؟ قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: نَعَمْ، وَالْمُرَادُ بِمَكَّةَ فِي هَذَا الْحَرَمُ. وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ عَلَى خِلَافٍ سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ: الْقَطْعُ بِأَنَّ الْحَرَمَ كَمَكَّةَ فِي هَذَا. وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، وَصَرَّحَ بِهِ خَلَائِقُ مِنْهُمْ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَالْمُحَامِلِيُّ فِي «الْمُقْنِعِ» ، وَغَيْرُهُ، وَالْجُرْجَانِيُّ فِي «التَّحْرِيرِ» ، وَالشَّاشِيُّ فِي «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» ، وَالرُّويَانِيُّ فِي «الْحِلْيَةِ» ، وَغَيْرُهُمْ. وَعَجَبٌ قَوْلُ الرَّافِعِيِّ: قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مَعَ شُهْرَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الطَّوَافِ لِلطَّوَافِ بِأَنْوَاعِهِ وَظَائِفُ وَاجِبَةٌ، وَأُخْرَى مَسْنُونَةٌ. فَالْوَاجِبُ: ثَمَانِيَةٌ مُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِهَا. الْأَوَّلُ: الطَّهَارَةُ عَنِ الْحَدَثِ، وَالنَّجَسِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ. فَلَوْ طَافَ مُحْدِثًا، أَوْ عَارِيًا، أَوْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهَا لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ يَطَأُ فِي مَطَافِهِ النَّجَاسَةَ. وَلَمْ أَرَ لِلْأَئِمَّةِ تَشْبِيهَ مَكَانِ الطَّوَافِ بِالطَّرِيقِ فِي حَقِّ الْمُتَنَفِّلِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لَا بَأْسَ بِهِ. وَلَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهِ عَمْدًا، لَزِمَهُ الْوُضُوءُ. وَهَلْ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ طَوَافِهِ، أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَهُ الْبِنَاءُ. وَالثَّانِي: يَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ. فَلَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَبْنِي الْعَامِدُ، فَهَذَا أَوْلَى وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: الْبِنَاءُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ. فَإِنْ طَالَ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَحَيْثُ لَا نُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ، نَسْتَحِبُّهُ. الْوَاجِبُ الثَّانِي: التَّرْتِيبُ، وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَيُحَاذِيَهُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَيَمُرَّ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَالْبَيْتُ عَلَى يَسَارِهِ. فَلَوْ جَعَلَ الْبَيْتَ عَلَى يَمِينِهِ وَمَرَّ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ. فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْهُ عَلَى يَمِينِهِ وَلَا عَلَى يَسَارِهِ، بَلِ اسْتَقْبَلَهُ بِوَجْهِهِ مُعْتَرِضًا، أَوْ جَعَلَ الْبَيْتَ عَلَى يَمِينِهِ، وَمَشَى قَهْقَرَى نَحْوَ الْبَابِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِعِبَارَةِ الْأَكْثَرِينَ. وَالْقِيَاسُ جَرَيَانُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ مَرَّ مُعْتَرِضًا مُسْتَدْبِرًا.

قُلْتُ: الصَّوَابُ: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الطَّوَافُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّهُ مُنَابِذٌ لِمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوِ ابْتَدَأَ مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَيَكُونَ مِنْهُ ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَمُرَّ فِي الِابْتِدَاءِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ عَلَى جَمِيعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَلَا يُقَدِّمُ جُزْءًا مِنْ بَدَنِهِ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. فَلَوْ حَاذَاهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ، وَكَانَ بَعْضُهُ مُجَاوِزًا إِلَى جَانِبِ الْبَابِ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الطَّوْفَةِ. وَالْقَدِيمُ: يُعْتَدُّ بِهَا. وَجَعَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ هَذَا الْخِلَافَ وَجْهَيْنِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، بَلْ هُمَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ، حَكَاهُمَا الْأَصْحَابُ. وَلَوْ حَاذَى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ بَعْضَ الْحَجَرِ دُونَ بَعْضِهِ، أَجْزَأَهُ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ. كَمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ فِي الصَّلَاةِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ بَعْضَ الْكَعْبَةِ. الْوَاجِبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَارِجًا بِجَمِيعِ بَدَنِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَيْتِ. فَلَوْ مَشَى عَلَى الشَّاذَرْوَانِ، لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْبَيْتِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَدُورَ فِي طَوَافِهِ حَوْلَ الْحِجْرِ وَهُوَ الْمَحُوطُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ بِجِدَارٍ قَصِيرٍ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّكْنَيْنِ فَتْحَةٌ. وَكَلَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَصْحَابِ يَقْتَضِي كَوْنَ جَمِيعِهِ مِنَ الْبَيْتِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . لَكِنَّ الصَّحِيحَ: أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْبَيْتِ قَدْرُ سِتِّ أَذْرُعٍ تَتَّصِلُ بِالْبَيْتِ. وَقِيلَ: سِتُّ أَذْرُعٍ، أَوْ سَبْعٌ. وَلَفْظُ «الْمُخْتَصَرِ» مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا. فَلَوْ دَخَلَ إِحْدَى الْفَتْحَتَيْنِ، وَخَرَجَ مِنَ الْأُخْرَى، لَمْ يُحْسَبْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا مَا بَعْدَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْفَتْحَةِ الَّتِي دَخَلَ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ لَمْ يَدْخُلِ الْفَتْحَةَ، وَخَلَّفَ الْقَدْرَ الَّذِي مِنَ الْبَيْتِ، ثُمَّ اقْتَحَمَ الْجِدَارَ، وَقَطَعَ الْحَجَرَ عَلَى السَّمْتِ، صَحَّ طَوَافُهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الطَّوَافُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحِجْرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَنْصُوصِ،

وَبِهِ قَطَعَ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا. وَدَلِيلُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ خَارِجَ الْحِجْرِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ كَانَ يَطُوفُ وَيَمَسُّ الْجِدَارَ بِيَدِهِ فِي مُوَازَاةِ الشَّاذَرْوَانِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَيْتِ، فَفِي صِحَّةِ طَوَافِهِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ فِرَقِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ بَعْضَ بَدَنِهِ فِي الْبَيْتِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ أَحْيَانًا عَلَى الشَّاذَرْوَانِ، وَيَقْفِزُ بِالْأُخْرَى. الْوَاجِبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقَعَ الطَّوَافُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَا بَأْسَ بِالْحَائِلِ فِيهِ بَيْنَ الطَّائِفِ وَالْبَيْتِ، كَالسِّقَايَةِ وَالسَّوَارِي. وَيَجُوزُ فِي أُخْرَيَاتِ الْمَسْجِدِ وَأَرْوِقَتِهِ، وَعِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ مِنْ دَاخِلِهِ، وَيَجُوزُ عَلَى سُطُوحِهِ إِذَا كَانَ الْبَيْتُ أَرْفَعَ بِنَاءً كَمَا هُوَ الْيَوْمَ. فَإِنْ جَعَلَ سَقْفَ الْمَسْجِدِ أَعْلَى، فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْعُدَّةِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الطَّوَافُ عَلَى سَطْحِهِ. وَلَوْ صَحَّ قَوْلُهُ، لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: لَوِ انْهَدَمَتِ الْكَعْبَةُ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - لَمْ يَصِحَّ الطَّوَافُ حَوْلَ عَرْصَتِهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ. فَرْعٌ لَوْ وُسِّعَ الْمَسْجِدُ اتَّسَعَ الْمَطَافُ، وَقَدْ جَعَلَتْهُ الْعَبَّاسِيَّةُ أَوْسَعَ مِمَّا كَانَ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْتُ: أَوَّلُ مَنْ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشْتَرَى دُورًا وَزَادَهَا فِيهِ، وَاتَّخَذَ لِلْمَسْجِدِ جِدَارًا قَصِيرًا دُونَ الْقَامَةِ. وَكَانَ عُمَرُ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ الْجِدَارَ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ وَسَّعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَذَلِكَ وَاتَّخَذَ لَهُ الْأَرْوِقَةَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَهَا ثُمَّ وَسَّعَهُ

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي خِلَافَتِهِ، ثُمَّ وَسَّعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْمَنْصُورُ، ثُمَّ الْمَهْدِيُّ. وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ بِنَاؤُهُ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْوَاجِبُ الْخَامِسُ: الْعَدَدُ. وَهُوَ أَنْ يَطُوفَ سَبْعًا. الْوَاجِبُ السَّادِسُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَهَلْ هُمَا وَاجِبَتَانِ، أَمْ سُنَّةٌ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: سُنَّةٌ، هَذَا إِذَا كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا. فَإِنْ كَانَ سُنَّةً، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ سُنَّةٌ. وَقِيلَ: تَجِبُ الصَّلَاةُ فِي الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ قَطْعًا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَفِي الثَّانِيَةِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) : وَأَنْ يُصَلِّيَهَا خَلْفَ الْمَقَامِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَفِي الْحِجْرِ وَإِلَّا فَفِي الْمَسْجِدِ، وَإِلَّا فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنَ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ. وَيَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ لَيْلًا، وَيُسِرُّ نَهَارًا. وَإِذَا قُلْنَا: هُمَا سُنَّةٌ فَصَلَّى فَرِيضَةً بَعْدَ الطَّوَافِ أَجْزَأَهُ عَنْهَا، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَحَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ، لَكِنَّهُ اسْتَبْعَدَهُ. وَتَمْتَازُ هَذِهِ الصَّلَاةُ عَنْ غَيْرِهَا، بِجَرَيَانِ النِّيَابَةِ فِيهَا إِذِ الْأَجِيرُ يُؤَدِّيهَا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ. قُلْتُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صَلَاةِ الْأَجِيرِ هَذِهِ، فَقِيلَ: تَقَعُ عَنْهُ. وَقِيلَ: تَقَعُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ رَكْعَتَا الطَّوَافِ وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُمَا، فَلَيْسَتَا بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا رُكْنًا مِنْهُ، بَلْ يَصِحُّ بِدُونِهِمَا. وَفِي تَعْلِيلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَصْحَابِ، مَا يَقْتَضِي اشْتِرَاطَهُمَا.

قُلْتُ: الصَّوَابُ: أَنَّهُمَا لَيْسَتَا شَرْطًا وَلَا رُكْنًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَا تَفُوتُ هَذِهِ الصَّلَاةُ مَا دَامَ حَيًّا، وَلَا يُجْبَرُ تَأْخِيرُهَا، وَلَا تَرْكُهَا بِدَمٍ، لَكِنْ حَكَى صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ إِذَا أَخَّرَ، تُسْتَحَبُّ لَهُ إِرَاقَةُ دَمٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَوْ مَاتَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، لَمْ يَمْتَنِعْ جَبْرُهَا بِالدَّمِ. قُلْتُ: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، اسْتُحِبَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَقِيبَ كُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْهِ. فَلَوْ طَافَ طَوَافَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِلَا صَلَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى لِكُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْهِ جَازَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْوَاجِبُ السَّابِعُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ. وَفِي وُجُوبِهَا فِي الطَّوَافِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْحَجِّ تَشْمَلُهُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَصْرِفَهُ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ مِنْ طَلَبِ غَرِيمٍ وَنَحْوِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَلَوْ نَامَ فِي الطَّوَافِ أَوْ بَعْضِهِ عَلَى هَيْئَةٍ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا يُقَرِّبُ مِنْ صَرْفِ الطَّوَافِ إِلَى طَلَبِ الْغَرِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ بِوُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: صِحَّةُ طَوَافِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوْ حَمَلَ رَجُلٌ مُحْرِمًا مِنْ صَبِيٍّ، أَوْ مَرِيضٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَطَافَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَامِلُ حَلَالًا، أَوْ قَدْ طَافَ عَنْ نَفْسِهِ، حُسِبَ الطَّوَافُ لِلْمَحْمُولِ بِشَرْطِهِ، وَإِلَّا فَإِنْ قَصَدَ الطَّوَافِ عَنِ الْمَحْمُولِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يَقَعُ لِلْمَحْمُولِ فَقَطْ تَخْرِيجًا عَلَى قَوْلِنَا: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَصْرِفَهُ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ. وَالثَّانِي: يَقَعُ

عَنِ الْحَامِلِ فَقَطْ تَخْرِيجًا عَلَى قَوْلِنَا: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الطَّوَافَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَحْسُوبًا لَهُ، فَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا حَمَلَ مُحْرِمَيْنِ وَطَافَ بِهِمَا وَهُوَ حَلَالٌ، أَوْ مُحْرِمٌ قَدْ طَافَ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ غَيْرُ مَحْسُوبٍ لِلْحَامِلِ، فَيَكُونُ الْمَحْمُولَانِ كَرَاكِبَيْ دَابَّةٍ. وَالثَّالِثُ: يَقَعُ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ قَصَدَ الطَّوَافَ عَنْ نَفْسِهِ وَقَعَ عَنْهُ، وَلَا يُحْسَبُ عَنِ الْمَحْمُولِ، قَالَهُ الْإِمَامُ، وَحُكِيَ اتِّفَاقُ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَكَذَا لَوْ قَصَدَ الطَّوَافَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمَحْمُولِ. وَحَكَى صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَجْهَيْنِ فِي حُصُولِهِ لِلْمَحْمُولِ، مَعَ الْحَامِلِ. وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَصَدَ نَفْسَهُ أَوْ كِلَيْهِمَا. وَسَوَاءٌ فِي الصَّبِيِّ الْمَحْمُولِ حَمَلَهُ وَلِيُّهُ الَّذِي أَحْرَمَ عَنْهُ أَوْ غَيْرُهُ. قُلْتُ: لَوْ طَافَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ أَجْزَأَهُ عَنِ الْحَجِّ، كَمَا لَوْ طَافَ عَنْ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ طَوَافٌ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْوَاجِبُ الثَّامِنُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَلَا تَبْطُلُ بِالتَّفْرِيقِ الْكَثِيرِ. وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ، فَتَبْطُلُ بِالتَّفْرِيقِ الْكَثِيرِ بِلَا عُذْرٍ. فَإِنَّ فَرَّقَ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا بِعُذْرٍ، فَهُوَ كَمَا قُلْنَا فِي الْوُضُوءِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْكَثِيرُ مَا يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ تَرْكَهُ الطَّوَافَ. وَلَوْ أُقِيمَتِ الْمَكْتُوبَةُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ، فَالتَّفْرِيقُ بِهَا تَفْرِيقٌ بِعُذْرٍ. وَقَطْعُ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوِ الرَّوَاتِبِ مَكْرُوهٌ، إِذْ لَا يَحْسُنُ تَرْكُ فَرْضِ الْعَيْنِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ. أَمَّا سُنَنُ الطَّوَافِ، فَخَمْسٌ. الْأُولَى: أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا، وَلَا يَرْكَبَ إِلَّا لِعُذْرِ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى ظُهُورِهِ لِيُسْتَفْتَى. وَلَوْ طَافَ رَاكِبًا بِلَا عُذْرٍ جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِي الْقَلْبِ مِنْ إِدْخَالِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ تَلْوِيثُهَا الْمَسْجِدَ شَيْءٌ. فَإِنْ أَمْكَنَ الِاسْتِيثَاقُ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَإِدْخَالُهَا مَكْرُوهٌ.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِيَدِهِ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ، وَيُقَبِّلَهُ وَيَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ مَنَعَتْهُ الزَّحْمَةُ مِنَ التَّقْبِيلِ، اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْتِلَامِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشَارَةِ بِالْيَدِ، وَلَا يُشْتَرَطُ بِالْفَمِ إِلَّا التَّقْبِيلُ. وَلَا يُقَبِّلُ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ، وَلَا يَسْتَلِمُهُمَا. وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، وَلَا يُقَبِّلُهُ. وَيُسْتَحَبُّ، أَنْ يُقَبِّلَ الْيَدَ بَعْدَ اسْتِلَامِ الْيَمَانِيِّ، وَبَعْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى اسْتِلَامِهِ لِلزَّحْمَةِ. وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَسْتَلِمَ ثُمَّ يُقَبِّلَ الْيَدَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَبِّلَ الْيَدَ، ثُمَّ يَسْتَلِمَ. وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِلَامِ، ثُمَّ تَقْبِيلُهَا، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَلَوْ لَمْ يَسْتَلِمْ بِيَدِهِ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ خَشَبَةً، ثُمَّ قَبَّلَ طَرَفَهَا جَازَ. قُلْتُ: الِاسْتِلَامُ بِالْخَشَبَةِ وَنَحْوِهَا، مُسْتَحَبٌّ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِاسْتِلَامِ بِالْيَدِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْحَجَرِ، وَاسْتِلَامُهُ، وَاسْتِلَامُ الْيَمَانِيِّ عِنْدَ مُحَاذَاتِهِمَا فِي كُلِّ طَوْفَةٍ، وَهُوَ فِي الْأَوْتَارِ آكَدُ؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ. قُلْتُ: وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ اسْتِلَامٌ، وَلَا تَقْبِيلٌ إِلَّا عِنْدَ خُلُوِّ الْمَطَافِ فِي اللَّيْلِ أَوْ غَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثَةُ: الدُّعَاءُ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَقُولُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. وَيَدْعُو فِي جَمِيعِ طَوَافِهِ بِمَا شَاءَ. وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ أَفْضَلُ مِنَ الدُّعَاءِ غَيْرِ الْمَأْثُورِ. وَأَمَّا الْمَأْثُورُ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُ.

الرَّابِعَةُ: الرَّمَلُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ - وَهُوَ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى دُونَ الْوُثُوبِ وَالْعَدْوِ. وَيُقَالُ لَهُ: الْخَبَبُ. وَغَلِطَ الْأَئِمَّةُ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ دُونَ الْخَبَبِ. وَيُسَنُّ الرَّمَلُ فِي الطَّوْفَاتِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ. وَيُسَنُّ الْمَشْيُ عَلَى الْهَيْنَةِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ. ثُمَّ هَلْ يَسْتَوْعِبُ الْبَيْتَ بِالرَّمَلِ؟ قَوْلَانِ. الْمَشْهُورُ: يَسْتَوْعِبُ. وَالثَّانِي: لَا يُرْمَلُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الرَّمَلَ لَا يُسَنُّ فِي كُلِّ طَوَافٍ، بَلْ فِيمَا يُسَنُّ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: إِنَّمَا يُسَنُّ فِي طَوَافٍ يَسْتَعْقِبُ السَّعْيَ. وَالثَّانِي: يُسَنُّ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ. فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: لَا رَمَلَ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ. وَيَرْمُلُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا لِوُقُوعِ طَوَافِهِ مُجْزِئًا عَنِ الْقُدُومِ وَاسْتِعْقَابِهِ السَّعْيَ. وَيَرْمُلُ أَيْضًا الْحَاجُّ الْأُفُقِيُّ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ إِلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَإِنْ دَخَلَهَا قَبْلَ الْوُقُوفِ، فَهَلْ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ؟ يُنْظَرُ إِنْ كَانَ لَا يَسْعَى عَقِبَهُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يَرْمُلُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا يَرْمُلُ، وَإِنَّمَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ. وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَقِبَهُ، يَرْمُلُ فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَإِذَا رَمَلَ فِيهِ، وَسَعَى بَعْدَهُ، فَلَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِنْ لَمْ يُرِدِ السَّعْيَ عَقِبَهُ، وَكَذَا إِنْ أَرَادَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِذَا طَافَ لِلْقُدُومِ، وَسَعَى بَعْدَهُ وَلَمْ يَرْمُلْ، فَهَلْ يَقْضِيهِ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ؟ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَلَوْ طَافَ وَرَمَلَ وَلَمْ يَسْعَ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ هُنَا، لِبَقَاءِ السَّعْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ فَرَّعُوا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَعْتَبِرُ السَّعْيَ. وَهَلْ يَرْمُلُ الْمَكِّيُّ الْمُنْشِئُ حَجَّهُ مِنْ مَكَّةَ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي فَلَا إِذْ لَا قُدُومَ فِي حَقِّهِ وَإِلَّا فَنَعَمْ، لِاسْتِعْقَابِهِ السَّعْيَ.

فَرْعٌ لَوْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الطَّوْفَاتِ الثَّلَاثِ لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ؛ لَأَنَّ هَيْئَتَهَا السَّكِينَةُ، فَلَا يُغَيِّرُ. فَرْعٌ الْقُرْبُ مِنَ الْبَيْتِ مُسْتَحَبٌّ لِلطَّائِفِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى كَثْرَةِ الْخُطَى لَوْ تَبَاعَدَ. فَلَوْ تَعَذَّرَ الرَّمَلُ مَعَ الْقُرْبِ لِلزَّحْمَةِ، فَإِنْ كَانَ يَرْجُو فُرْجَةً، وَقَفَ لِيَرْمُلَ فِيهَا، وَإِلَّا فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الرَّمَلِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْبَيْتِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَ فَضِيلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَوْضِعِ الْعِبَادَةِ، وَالرَّمَلَ فَضِيلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْبَيْتِ، أَفْضَلُ مِنْ الِانْفِرَادِ فِي الْمَسْجِدِ. وَلَوْ كَانَ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ نِسَاءٌ، وَلَمْ يَأْمَنْ مُلَامَسَتَهُنَّ لَوْ تَبَاعَدَ، فَالْقُرْبُ بِلَا رَمَلٍ أَوْلَى مِنَ الْبُعْدِ مَعَ الرَّمَلِ حَذَرًا مِنِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بِالْقُرْبِ أَيْضًا نِسَاءٌ، وَتَعَذَّرَ الرَّمَلُ فِي جَمِيعِ الْمَطَافِ، لِخَوْفِ الْمُلَامَسَةِ، فَتَرْكُ الرَّمَلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى. وَمَتَى تَعَذَّرَ الرَّمَلُ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَتَحَرَّكَ فِي مَشْيِهِ، وَيَرَى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَهُ الرَّمَلُ لِرَمَلَ. وَإِنْ طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَرْمُلُ بِهِ الْحَامِلُ وَيُحَرِّكُ الدَّابَّةَ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِي الْمَحْمُولِ الْبَالِغِ. وَيَرْمُلُ حَامِلُ الصَّبِيِّ قَطْعًا. فَرْعٌ لِيَكُنْ مِنْ دُعَائِهِ فِي الرَّمَلِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا.

فصل

الْخَامِسَةُ: الِاضْطِبَاعُ. وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ وَسَطَ رِدَائِهِ تَحْتَ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ، وَطَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، وَيُبْقِي مَنْكِبَهُ الْأَيْمَنَ مَكْشُوفًا. وَكُلُّ طَوَافٍ سُنَّ فِيهِ الرَّمَلُ سُنَّ فِيهِ الِاضْطِبَاعُ، وَمَا لَا فَلَا. لَكِنَّ الرَّمَلَ مَخْصُوصٌ بِالطَّوْفَاتِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ، وَالِاضْطِبَاعُ يَعُمُّ جَمِيعَهَا. وَيُسَنُّ أَيْضًا فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يُسَنُّ فِيهِ. وَلَا يُسَنُّ فِي رَكْعَتِيِ الطَّوَافِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِكَرَاهَةِ الِاضْطِبَاعِ فِي الصَّلَاةِ. فَعَلَى هَذَا، إِذَا فَرَغَ [مِنَ] الطَّوَافِ، أَزَالَ الِاضْطِبَاعَ ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَعَادَ الِاضْطِبَاعَ وَخَرَجَ لِلسَّعْيِ. فَرْعٌ لَا تَرْمُلُ الْمَرْأَةُ، وَلَا تَضْطَبِعُ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ، فَيَضْطَبِعُ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: وَمَتَى كَانَ عَلَيْهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، فَنَوَى غَيْرَهُ عَنْ غَيْرِهِ، أَوْ عَنْ نَفْسِهِ تَطَوُّعًا أَوْ قُدُومًا، أَوْ وَدَاعًا وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، كَمَا فِي وَاجِبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ، فَطَافَ عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ كَانَ زَمَنُ النَّذْرِ مُعَيَّنًا، لَمْ يُجُزْ أَنْ يَطُوفَ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ طَافَ فِي غَيْرِهِ، أَوْ كَانَ زَمَانُهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَطُوفَ عَنْ غَيْرِهِ وَالنَّذْرُ فِي ذِمَّتِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْإِفَاضَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فِي السَّعْيِ إِذَا فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَيَسْتَلِمَهُ،

ثُمَّ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا، لِيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَيَبْدَأَ بِالصَّفَا، وَيَرْقَى عَلَى الصَّفَا بِقَدْرِ قَامَةِ رَجُلٍ حَتَّى يَتَرَاءَى الْبَيْتُ، وَيَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَقِيَ عَلَيْهِ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ، وَهَلَّلَ وَكَبَّرَ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدِ، اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. ثُمَّ يَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ يُعِيدُ هَذَا الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ثَانِيًا، ثُمَّ يُعِيدُ الذِّكْرَ ثَالِثًا، وَلَا يَدْعُو. قُلْتُ: وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يَدْعُو بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَبِهِ قَطَعَ الرُّويَانِيُّ، وَصَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ الصَّفَا، وَيَمْشِي إِلَى الْمَرْوَةِ وَيَرْقَى عَلَيْهَا بِقَدْرِ قَامَةِ رَجُلٍ، وَيَأْتِي بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا. ثُمَّ الْمُسْتَحَبُّ فِي قَطْعِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ، أَنْ يَمْشِيَ مِنَ الصَّفَا عَلَى عَادَتِهِ حَتَّى يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ الْمُعَلَّقِ بِرُكْنِ الْمَسْجِدِ عَلَى يَسَارِهِ قَدْرُ سِتِّ أَذْرُعٍ، ثُمَّ يَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا حَتَّى يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ. وَالْآخَرُ: مُتَّصِلٌ بِدَارِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ثُمَّ يَمْشِي عَلَى عَادَتِهِ حَتَّى يَصْعَدَ الْمَرْوَةَ. وَإِذَا عَادَ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا مَشَى فِي مَوْضِعِ مَشْيِهِ، وَسَعَى فِي مَوْضِعِ رَعْيِهِ أَوَّلًا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي سَعْيِهِ: «رَبِّ اغْفِرْ، وَارْحَمْ، وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ» .

فَرْعٌ الرُّقِيُّ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سُنَّةٌ، وَالْوَاجِبُ هُوَ السَّعْيُ بَيْنَهُمَا، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِغَيْرِ رُقِيٍّ بِأَنْ يُلْصِقَ الْعَقِبَ بِأَصْلِ مَا يَذْهَبُ مِنْهُ وَيُلْصِقَ رُءُوسَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ بِمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ يَجِبُ الرُّقِيُّ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ قَامَةِ رَجُلٍ. وَأَمَّا الذِّكْرُ، وَالدُّعَاءُ وَالْإِسْرَاعُ فِي السَّعْيِ، وَعَدَمُ الْإِسْرَاعِ، فَسُنَّةٌ. وَالْمُوَالَاةُ فِي مَرَّاتِ السَّعْيِ سُنَّةٌ، وَكَذَا الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ سُنَّةٌ، فَلَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ طَوِيلٌ، لَمْ يَضُرَّ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَخَلَّلَ رُكْنٌ. فَلَوْ طَافَ لِلْقُدُومِ، ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ. وَذَكَرَ فِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ مَرَّاتِ السَّعْيِ، أَوْ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَفِي صِحَّةِ السَّعْيِ قَوْلَانِ وَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ رُكْنٌ، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ. فَرْعٌ فِي وَاجِبَاتِ السَّعْيِ وَشُرُوطِهِ فَيُشْتَرَطُ وُقُوعُهُ بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيحٍ سَوَاءٌ طَوَافُ الْقُدُومِ وَالْإِفَاضَةِ. وَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ هُوَ الْمَأْتِيُّ بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَإِذَا بَقِيَ السَّعْيُ لَمْ يَكُنِ الْمَأْتِيُّ بِهِ طَوَّافَ وَدَاعٍ. وَلَوْ سَعَى عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لَمْ تُسْتَحَبَّ إِعَادَتُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: تُكْرَهُ إِعَادَتُهُ، وَيُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ: وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالصَّفَا. فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ، لَمْ يُحْسَبْ مُرُورُهُ مِنْهَا إِلَى الصَّفَا.

قُلْتُ: وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ: أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَرْوَةِ. فَلَوْ أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الْمَرْوَةَ تَرَكَ الْعَوْدَ فِي طَرِيقِهِ، وَعَدَلَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَابْتَدَأَ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصَّفَا أَيْضًا، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ فِي «الْبَحْرِ» وَغَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيَجِبُ أَنْ يَسْعَى بَيْنَهُمَا سَبْعًا، وَيَحْسِبُ الذَّهَابَ بِمَرَّةٍ، وَالْعَوْدَ بِأُخْرَى. فَيَبْدَأُ بِالصَّفَا، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ، وَابْنُ الْوَكِيلِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: يُحْسَبُ الذَّهَابُ وَالْعَوْدُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الطَّهَارَةُ، وَلَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَلَا سَائِرُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ. وَيَجُوزُ السَّعْيُ رَاكِبًا، وَالْأَفْضَلُ مَاشِيًا. فَرْعٌ لَوْ طَافَ أَوْ سَعَى، وَشَكَّ فِي الْعَدَدِ، أَخَذَ بِالْأَقَلِّ. وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَتَمَّهُمَا، فَأَخْبَرَهُ ثِقَةٌ عَنْ بَقَاءِ شَيْءٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. وَالسَّعْيُ رُكْنٌ لَا يُجْبَرُ بِدَمٍ، وَلَا يُتَحَلَّلُ بِدُونِهِ. قُلْتُ: الْأَفْضَلُ: أَنْ يَتَحَرَّى لِسَعْيِهِ زَمَنَ خُلُوِّ الْمَسْعَى. وَإِذَا عَجَزَ عَنِ السَّعْيِ الشَّدِيدِ لِلزَّحْمَةِ، فَلْيَتَشَبَّهْ بِالسَّاعِي كَمَا قُلْنَا فِي الرَّمَلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَالْمَرْأَةُ تَمْشِي، وَلَا تَسْعَى. قُلْتُ: وَقِيلَ: إِنْ سَعَتْ فِي الْخَلْوَةِ بِاللَّيْلِ سَعَتْ كَالرَّجُلِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَصْلٌ فِي الْوُقُوفِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَهُ مُقَدِّمَةٌ. فَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَحْضِرْ بِنَفْسِهِ الْحَجَّ أَنْ يُنَصِّبَ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِيجِ، فَيُطِيعُونَهُ فِيمَا يَنُوبُهُمْ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَجِيجِ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ. فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا، أَقَامَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ. وَمَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ، فَيَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ، ثُمَّ يُهِلُّ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَا سَبَقَ فِي صُورَةِ التَّمَتُّعِ، وَكَذَا يَفْعَلُ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَوْ مَنْصُوبِهِ أَنْ يَخْطُبَ بِمَكَّةَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ خُطْبَةً وَاحِدَةً، يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْغُدُوِّ فِيهَا إِلَى مِنًى، وَيُخْبِرُهُمْ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَنَاسِكِ، وَيَأْمُرُ الْمُتَمَتِّعِينَ أَنْ يَطُوفُوا لِلْوَدَاعِ قَبْلَ الْخُرُوجِ. وَلَوْ كَانَ السَّابِعُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، خَطَبَ لَهَا وَصَلَّاهَا، ثُمَّ خَطَبَ هَذِهِ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِيهَا التَّأْخِيرُ عَنِ الصَّلَاةِ. ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ إِلَى مِنًى، وَيَكُونُ خُرُوجُهُمْ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، بِحَيْثُ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ بِمِنًى، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَفِي قَوْلٍ: يُصَلُّونَ الظُّهْرَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ، فَإِنْ كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَخْرُجُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى حَيْثُ لَا تُصَلَّى الْجُمُعَةُ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ كَمَا سَبَقَ، وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ بِمِنًى. وَكَذَا لَوْ كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، لَا يُصَلُّونَهَا، لَأَنَّ الْجُمُعَةَ شَرْطُهَا دَارُ الْإِقَامَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَإِنْ بُنِيَ بِهَا قَرْيَةٌ، وَاسْتَوْطَنَهَا أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، أَقَامُوا الْجُمُعَةَ وَالنَّاسُ مَعَهُمْ. فَإِذَا خَرَجُوا إِلَى مِنًى، صَلَّوْا بِهَا الصَّلَوَاتِ مَعَ الْإِمَامِ، وَبَاتُوا بِهَا. وَهَذَا الْمَبِيتُ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِنُسُكٍ مَجْبُورٍ بِالدَّمِ. فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى ثَبِيرٍ سَارُوا إِلَى

عَرَفَاتٍ. فَإِذَا وَصَلُوا نَمِرَةَ، ضُرِبَتْ بِهَا قُبَّةُ الْإِمَامِ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ذَهَبَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ [إِلَى] مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَخْطُبُ فِيهِ الْإِمَامُ خُطْبَتَيْنِ، يُبَيِّنُ لَهُمْ فِي الْأُولَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَنَاسِكِ، وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى إِكْثَارِ الدُّعَاءِ وَالتَّهْلِيلِ بِالْمَوْقِفِ، وَيُخَفِّفُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ، لَكِنْ لَا يَبْلُغُ تَخْفِيفُهَا تَخْفِيفَ الثَّانِيَةِ. وَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا، جَلَسَ بِقَدْرِ سُورَةِ (الْإِخْلَاصِ) ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَأْخُذُ الْمُؤَذِّنُ فِي الْأَذَانِ، وَيُخَفِّفُ الْخُطْبَةَ بِحَيْثُ يَفْرَغُ مِنْهَا مَعَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنَ الْإِقَامَةِ. وَقِيلَ: مَعَ فَرَاغِهِ مِنَ الْأَذَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: مَعَ فَرَاغِهِ مِنَ الْأَذَانِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، ثُمَّ يُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْعَصْرَ جَمْعًا. فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا، فَالسُّنَّةُ لَهُ الْقَصْرُ، وَلَا يَقْصُرُ الْمَكِّيُّونَ وَالْمُقِيمُونَ حَوْلَهَا. فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَالَ: أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ، فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ. وَهَلْ يَخْتَصُّ الْجَمْعُ بِالْمُسَافِرِينَ مِنَ الْحَجِيجِ، أَمْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ؟ فِيهِ كَلَامٌ تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ. وَأَشَارَ جَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّهُ يَخْطُبُ وَيُصَلِّي بِنَمِرَةَ. وَصَرَّحَ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّهُ يَخْطُبُ وَيُصَلِّي بِمَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَبَقَ. فَرْعٌ فِي الْحَجِّ أَرْبَعُ خُطَبٍ مَسْنُونَةٍ إِحْدَاهَا: بِمَكَّةَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. وَالثَّانِيَةُ: يَوْمَ عَرَفَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا. وَالثَّالِثَةُ: يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى. وَالرَّابِعَةُ: يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ بِمِنًى. وَيُخْبِرُهُمْ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَنَاسِكِ وَأَحْكَامِهَا إِلَى الْخُطْبَةِ الْأُخْرَى، وَكُلُّهُنَّ أَفْرَادٌ، [وَ] بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَّا يَوْمَ عَرَفَةَ، فَإِنَّهَا خُطْبَتَانِ، وَقَبْلَ الصَّلَاةِ.

فَرْعٌ ثُمَّ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ يَذْهَبُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفُوا عِنْدَ الصَّخْرَاتِ، وَيَسْتَقْبِلُوا الْكَعْبَةَ - وَالْوُقُوفُ رَاكِبًا أَفْضَلُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالثَّانِي: هُوَ وَالْمَاشِي سَوَاءٌ - وَيَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُوهُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَيُكْثِرُوا التَّهْلِيلَ فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، دَفَعُوا مِنْ عَرَفَاتٍ مُنْصَرِفِينَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ - وَيُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ لِيُصَلُّوهَا مَعَ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَيَذْهَبُوا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ. فَمَنْ وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ. فَإِذَا وَصَلُوا الْمُزْدَلِفَةَ، جَمَعَ بِهِمُ الْإِمَامُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. وَحُكْمُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَذَانِ. وَلَوِ انْفَرَدَ بَعْضُهُمْ بِالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ، أَوْ بِمُزْدَلِفَةَ، أَوْ صَلَّى إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ، وَالْأُخْرَى وَحْدَهُ، جَازَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ بِعَرَفَةَ، وَفِي الطَّرِيقِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَا يَتَنَفَّلُونَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إِذَا جَمَعُوا، وَلَا عَلَى أَثَرِهِمَا. فَأَمَّا بَيْنَهُمَا، فَلِمُرَاعَاةِ الْمُوَالَاةِ. وَأَمَّا عَلَى أَثَرِهِمَا، فَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَا يَتَنَفَّلُ الْإِمَامُ، لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ. فَلَوِ اشْتَغَلَ بِالنَّفْلِ، لَاقْتَدَى بِهِ النَّاسُ، وَانْقَطَعُوا عَنِ الْمَنَاسِكِ. وَأَمَّا الْمَأْمُومُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَتَنَفَّلُ كَالْإِمَامِ. وَالثَّانِي: الْأَمْرُ وَاسِعٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَتْبُوعٍ. هَذَا فِي النَّافِلَةِ دُونَ الرَّوَاتِبِ. ثُمَّ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاتَيْنِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ. وَقِيلَ: يُؤَخِّرُهُمَا مَا لَمْ يُخْشَ فَوْتُ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ لِلْعِشَاءِ. فَإِنْ خَافَهُ، لَمْ يُؤَخِّرْ، بَلْ يَجْمَعُ بِالنَّاسِ فِي الطَّرِيقِ. وَالسُّنَّةُ: أَنْ يَنْصَرِفُوا مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ عَنْ طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ.

فَرْعٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى فَرْسَخَانِ. وَمُزْدَلِفَةُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ مِنًى وَعَرَفَاتٍ، مِنْهَا إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَرْسَخٌ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ: أَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى، فَرْسَخٌ فَقَطْ. كَذَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ، مِنْهُمُ الْأَزْرَقِيُّ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُحْصَى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ فِي بَيَانِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْحُضُورُ بِعَرَفَةَ لَحْظَةً، بِشَرْطِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ، سَوَاءٌ حَضَرَهَا وَوَقَفَ، أَوْ مَرَّ بِهَا. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَكْفِي الْمُرُورُ الْمُجَرَّدُ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَلَوْ حَضَرَ بِهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا عَرَفَةٌ، أَوْ حَضَرَ مُغْمًى عَلَيْهِ، أَوْ نَائِمًا، أَوْ دَخَلَهَا قَبْلَ وَقْتِ الْوُقُوفِ، وَنَامَ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ، أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي الْجَمِيعِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ يَجِبُ إِفْرَادُهُ بِالنِّيَّةِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا يَصِحُّ وُقُوفُ مُغْمًى عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ حَضَرَ فِي طَلَبِ غَرِيمٍ، أَوْ دَابَّةٍ شَارِدَةٍ أَجْزَأَهُ قَطْعًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الْخِلَافَ السَّابِقَ فِي صَرْفِ الطَّوَافِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى. وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الطَّوَافَ قُرْبَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، قَالَ: وَلَا يَمْتَنِعُ طَرْدُ الْخِلَافِ. وَلَوْ حَضَرَ مَجْنُونٌ، لَمْ يُجْزِئْهُ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَكِنْ يَقَعُ نَفْلًا، كَحَجِّ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ. وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ فِي الْجُنُونِ الْوَجْهَ الْمَنْقُولَ فِي الْإِغْمَاءِ.

فَرْعٌ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَفَ مِنْ عَرَفَةَ، أَجْزَأَهُ. وَأَمَّا حَدُّ عَرَفَةَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: هِيَ مَا جَاوَزَ حَدَّ عُرَنَةَ - بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا نُونٌ - إِلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ مِمَّا يَلِي بَسَاتِينَ ابْنِ عَامِرٍ، وَلَيْسَ وَادِي عُرَنَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَهُوَ عَلَى مُنْقَطَعِ عَرَفَاتٍ مِمَّا يَلِي مِنًى، وَمَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرُهُ مِنْ عُرَنَةَ، وَآخِرُهُ مِنْ عَرَفَاتٍ. وَيُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا صَخَرَاتٌ كِبَارٌ فُرِشَتْ هُنَاكَ، فَمَنْ وَقَفَ فِي صَدْرِهِ، فَلَيْسَ بِوَاقِفٍ فِي عَرَفَاتٍ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَهُنَاكَ يَقِفُ الْإِمَامُ لِلْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا نَمِرَةُ، فَقَالَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَطَائِفَةٌ: هِيَ مِنْ عَرَفَاتٍ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ، بَلْ بِقُرْبِهَا وَجَبَلُ الرَّحْمَةِ فِي وَسَطِ عَرْصَةِ عَرَفَاتٍ، وَمَوْقِفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهُ مَعْرُوفٌ. قُلْتُ: الصَّوَابُ: أَنَّ نَمِرَةَ، لَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ. وَأَمَّا مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَرَفَةَ، فَلَعَلَّهُ زِيدَ بَعْدَهُ فِي آخِرِهِ. وَبَيْنَ هَذَا الْمَسْجِدِ وَمَوْقِفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّخَرَاتِ نَحْوُ مِيلٍ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيُطِيفُ بِمُنْعَرَجَاتِ عَرَفَاتٍ جِبَالٌ وُجُوهُهَا الْمُقْبِلَةُ مِنْ عَرَفَةَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَبَعْدَ مُضِيِّ زَمَانِ إِمْكَانِ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ جِدًّا. فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوُقُوفِ لَيْلًا صَحَّ حَجُّهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: فِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوُقُوفِ نَهَارًا، وَأَفَاضَ قَبْلَ الْغُرُوبِ. صَحَّ وُقُوفُهُ بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ إِنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ وَبَقِيَ بِهَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَلَا دَمَ. وَإِنْ لَمْ يَعُدْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ أَرَاقَ دَمًا. وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: مُسْتَحَبٌّ. وَالثَّانِي: وَاجِبٌ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: مُسْتَحَبٌّ قَطْعًا. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَفَاضَ مَعَ الْإِمَامِ، فَمَعْذُورٌ، وَإِلَّا فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْوُجُوبِ فَعَادَ لَيْلًا، فَلَا دَمَ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ إِذَا غَلِطَ الْحُجَّاجُ، فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِمَّا أَنْ يَغْلَطُوا بِالتَّأْخِيرِ، وَإِمَّا بِالتَّقْدِيمِ. الْحَالُ الْأَوَّلُ: [إِنْ غَلِطُوا] بِالتَّأْخِيرِ فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَجْزَأَهُمْ، وَتَمَّ حَجُّهُمْ، وَلَا قَضَاءَ. هَذَا إِذَا كَانَ الْحَجِيجُ عَلَى الْعَادَةِ. فَإِنْ قَلُّوا أَوْ جَاءَتْ شِرْذِمَةٌ يَوْمَ النَّحْرِ فَظَنَّتْ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَأَنَّ النَّاسَ قَدْ أَفَاضُوا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُدْرِكُونَ وَلَا قَضَاءَ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُدْرِكُونَ، فَيَجِبُ الْقَضَاءُ. وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَبَيَّنَ الْحَالُ بَعْدَ يَوْمِ الْوُقُوفِ، أَوْ فِي حَالِ الْوُقُوفِ.

فصل

فَلَوْ بَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَوَقَفُوا بَعْدَهُ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : [الْمَذْهَبُ] : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ وَقَفُوا عَلَى يَقِينِ الْفَوَاتِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ الْأَصْحَابِ قَالُوا: لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْلَةَ الْعَاشِرِ وَهُمْ بِمَكَّةَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْوُقُوفِ بِاللَّيْلِ، وَقَفُوا مِنَ الْغَدِ، وَحُسِبَ لَهُمْ كَمَا لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ الْغُرُوبِ الْيَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ نُصَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ مِنَ الْغَدِ الْعِيدَ. فَإِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِالْفَوَاتِ لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ لَيْلَةَ الْعَاشِرِ، لَزِمَ مِثْلُهُ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ. هَذَا إِذَا شَهِدَ وَاحِدٌ أَوْ عَدَدٌ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ، فَيَلْزَمُ الشُّهُودَ الْوُقُوفُ فِي التَّاسِعِ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَقِفُونَ بَعْدَهُمْ. أَمَّا إِذَا غَلِطُوا فَوَقَفُوا فِي الْحَادِيَ عَشَرَ فَلَا يُجْزِئُهُمْ بِحَالٍ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَغْلَطُوا بِالتَّقْدِيمِ، فَيَقِفُوا فِي الثَّامِنِ، فَإِنْ بَانَ الْحَالُ قَبْلَ فَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ، لَزِمَهُمُ الْوُقُوفُ فِي وَقْتِهِ. وَإِنْ بَانَ بَعْدَهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا قَضَاءَ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: وُجُوبُ الْقَضَاءِ. وَلَوْ غَلِطُوا فِي الْمَكَانِ، فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ عَرَفَةَ، لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُمْ بِحَالٍ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْوُقُوفِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ، بِحَيْثُ لَا تُجَاوِزَانِ رَأْسَهُ، وَلَا يُفَرِّطُ فِي الْجَهْرِ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَأَنْ يَقِفَ مُتَطَهِّرًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فِي الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُزْدَلِفَةُ، مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ، وَوَادِي مُحَسِّرٍ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُمْ يُفِيضُونَ

مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، فَيَأْتُونَ مُزْدَلِفَةَ، فَيَجْمَعُونَ الصَّلَاتَيْنِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبِيتُوا بِهَا، وَهَذَا الْمَبِيتُ لَيْسَ بِرُكْنٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ رُكْنٌ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. ثُمَّ الْمَبِيتُ نُسُكٌ. فَإِنْ دَفَعَ بَعْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ لِعُذْرٍ، أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ دَفَعَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَعَادَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ دَفَعَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَعُدْ، أَرَاقَ دَمًا. وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ، أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْإِيجَابِ. وَالثَّالِثُ: بِالِاسْتِحْبَابِ. قُلْتُ: لَوْ لَمْ يَحْضُرْ مُزْدَلِفَةَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَحَضَرَهَا سَاعَةً فِي النِّصْفِ الثَّانِي، حَصَلَ الْمَبِيتُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» ، وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» وَالْقَدِيمِ: يَحْصُلُ بِسَاعَةٍ بَيْنَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ. وَفِي قَوْلٍ: يُشْتَرَطُ مُعْظَمُ اللَّيْلِ. وَالْأَظْهَرُ: وُجُوبُ الدَّمِ بِتَرْكِ الْمَبِيتِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ النِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى مِنًى. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ، فَيَمْكُثُونَ حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ بِهَا، وَيُغَلِّسُونَ بِالصُّبْحِ. وَالتَّغْلِيسُ هُنَا، أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا مِنْ بَاقِي الْأَيَّامِ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذُوا حَصَى الْجِمَارِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ. وَلَوْ أَخَذُوا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ جَازَ، لَكِنْ يُكْرَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَالْحُشِّ وَالْمُرْمَى. وَقَدْ قُدِّرَ الْمَأْخُوذُ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: سَبْعُونَ حَصَاةً لِرَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ، قَالَهُ فِي الْمِفْتَاحِ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ

فصل

فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَالثَّانِي: سَبْعُ حَصَيَاتٍ لِرَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَطْ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّهِ، وَجَعَلُوهُ بَيَانًا لِمَا أَطْلَقَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: يُسْتَحَبُّ الْأَخْذُ لِلْجَمِيعِ، لَكِنْ لِيَوْمِ النَّحْرِ أَشَدُّ. ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: يَتَزَوَّدُوا الْحَصَى بِاللَّيْلِ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» : يَتَزَوَّدُوهَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. فَصْلٌ فِي الدَّفْعِ إِلَى مِنًى وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُمَّ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، يَدْفَعُونَ إِلَى مِنًى. فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى قُزَحَ، وَهُوَ جَبَلُ مُزْدَلِفَةَ، وَقَفُوا فَذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى وَدَعَوْا إِلَى الْأَسْفَارِ مُسْتَقْبِلِينَ الْكَعْبَةَ. وَلَوْ وَقَفُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، حَصَلَ أَصْلُ هَذِهِ السُّنَّةِ، لَكِنَّ أَفْضَلَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ فَاتَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ، لَمْ تُجْبَرْ بِدَمٍ كَسَائِرِ الْهَيْئَاتِ. فَإِذَا أَسَفَرُوا، سَارُوا إِلَى مِنًى وَعَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَمَنْ وَجَدَ فُرْجَةً، أَسْرَعَ. فَإِذَا بَلَغُوا وَادِيَ مُحَسِّرٍ، اسْتُحِبَّ لِلرَّاكِبِ تَحْرِيكُ دَابَّتِهِ، وَلِلْمَاشِي الْإِسْرَاعُ قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُسْرِعُ الْمَاشِي، وَهُوَ ضَعِيفٌ شَاذٌّ. ثُمَّ يَسِيرُونَ وَعَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَيَصِلُونَ مِنًى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيَرْمُونَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَهِيَ أَسْفَلُ الْجَبَلِ مُرْتَفِعَةٌ عَنِ الْجَادَّةِ، عَلَى يَمِينِ السَّائِرِ إِلَى مَكَّةَ، وَلَا يَنْزِلُ الرَّاكِبُونَ حَتَّى يَرْمُوا. وَالسُّنَّةُ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ إِذَا بَدَأَ بِالرَّمْيِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِذَا رَحَلُوا مِنْ مُزْدَلِفَةَ، خَلَطُوا التَّلْبِيَةَ بِالتَّكْبِيرِ فِي مَسِيرِهِمْ. فَإِذَا افْتَتَحُوا الرَّمْيَ مَحَّضُوا التَّكْبِيرَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ. فَإِذَا رَمَى نَحَرَ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، ثُمَّ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ طَوَافَ

الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ الرُّكْنُ. وَسَعَى بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مِنًى لِلْمَبِيتِ بِهَا وَالرَّمْيِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ. فَرْعٌ الْحَلْقُ فِي وَقْتِهِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ، وَلَيْسَ بِنُسُكٍ. وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ نُسُكٌ، وَهُوَ رُكْنٌ لَا يُجْبَرُ بِالدَّمِ. حَتَّى لَوْ كَانَتْ بِرَأْسِهِ عِلَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ بِسَبَبِهَا التَّعَرُّضُ لِلشَّعْرِ صَبَرَ إِلَى الْإِمْكَانِ، وَلَا يَفْدِي بِخِلَافِ مَنْ لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالْحَلْقِ بَعْدَ نَبَاتِهِ؛ لِأَنَّ النُّسُكَ حَلْقُ شَعْرٍ يَشْتَمِلُ الْإِحْرَامُ عَلَيْهِ. وَيَقُومُ التَّقْصِيرُ مَقَامَ الْحَلْقِ، لَكِنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ. وَالْمَرْأَةُ لَا تُؤْمَرُ بِالْحَلْقِ، بَلْ تُقَصِّرُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهَا بِقَدْرِ أُنْمُلَةٍ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ رَأْسِهَا. وَيَخْتَصُّ الْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِحَلْقِ الشِّقِّ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَأَنْ يَدْفِنَ شَعْرَهُ. وَالْأَفْضَلُ، أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ جَمِيعَ الرَّأْسِ. وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ حَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ أَوْ تَقْصِيرُهَا. وَلَنَا وَجْهٌ بَعِيدٌ: أَنَّ الْفِدْيَةَ تَكْمُلُ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْحَلْقِ الْمَحْظُورِ، وَذَلِكَ الْوَجْهُ عَائِدٌ فِي حُصُولِ النُّسُكِ بِحَلْقِ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ. وَلَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي دُفْعَاتٍ، أَوْ أَخَذَ مِنْ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ شَيْئًا، ثُمَّ عَادَ ثَانِيًا فَأَخَذَ مِنْهَا، ثُمَّ عَادَ ثَالِثًا وَأَخَذَ مِنْهَا، فَإِنْ كَمَّلْنَا الْفِدْيَةَ بِهَا، لَوْ كَانَ مَحْظُورًا حَصَلَ [بِهِ] النُّسُكُ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا قَصَّرَ، فَسَوَاءٌ أَخَذَ مِمَّا يُحَاذِي الرَّأْسَ أَوْ مِمَّا اسْتَرْسَلَ عَنْهُ، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يُجْزِئُ الْمُسْتَرْسِلُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ لِلْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ آلَةٌ، بَلْ حُكْمُ

فصل

النَّتْفِ، وَالْإِحْرَاقِ، وَالْأَخْذِ بِالْمُوسَى أَوِ النَّوْرَةِ أَوِ الْمِقَصَّيْنِ وَاحِدٌ. وَمَنْ لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَوْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ أَوْ شَعْرِ لِحْيَتِهِ شَيْئًا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فِيمَنْ لَمْ يَلْتَزِمِ الْحَلْقَ. أَمَّا مَنْ نَذَرَ الْحَلْقَ فِي وَقْتِهِ يَلْزَمُهُ وَلَا يُجْزِئُهُ التَّقْصِيرُ، وَلَا النَّتْفُ وَالْإِحْرَاقُ. وَفِي اسْتِئْصَالِ الشَّعْرِ بِالْمِقَصَّيْنِ وَإِمْرَارِ الْمُوسَى مِنْ غَيْرِ اسْتِئْصَالٍ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ، وَالظَّاهِرُ: الْمَنْعُ، لِعَدَمِ اسْمِ الْحَلْقِ. وَلَوْ لَبَّدَ رَأْسَهُ فِي الْإِحْرَامِ، فَهَلْ هُوَ كَالنَّذْرِ؟ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: لَا. وَفِي وَجْهٍ غَرِيبٍ: لَا يَلْزَمُ الْحَلْقُ بِالنَّذْرِ إِذَا لَمْ نَجْعَلْهُ نُسُكًا. فَرْعٌ وَقْتُ حَلْقِ الْمُعْتَمِرِ، إِذَا فَرَغَ مِنَ السَّعْيِ. فَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ السَّعْيِ وَقَبْلَ الْحَلْقِ، فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ إِذَا قُلْنَا: الْحَلْقُ نُسُكٌ؛ لِوُقُوعِ جِمَاعِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ. فَصْلٌ أَعْمَالُ الْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ كَمَا سَبَقَ، وَهِيَ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالذَّبْحُ، وَالْحَلْقُ، وَالطَّوَافُ، وَهَذَا يُسَمَّى: طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَالزِّيَارَةِ، وَالرُّكْنِ، وَقَدْ يُسَمَّى أَيْضًا: طَوَافَ الصَّدْرِ، وَالْأَشْهَرُ: أَنَّ طَوَافَ الصَّدْرِ طَوَافُ الْوَدَاعِ. وَتَرْتِيبُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، بَلْ مَسْنُونٌ. فَلَوْ طَافَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ، أَوْ ذَبَحَ فِي وَقْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ، فَلَا بَأْسَ، وَلَا فِدْيَةَ. وَلَوْ حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالطَّوَافِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْحَلْقُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ، لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا أَتَى بِالطَّوَافِ قَبْلَ الرَّمْيِ، أَوْ بِالْحَلْقِ، وَقُلْنَا: نُسُكٌ، قَطَعَ التَّلْبِيَةَ

بِشُرُوعِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ. وَكَذَا الْمُعْتَمِرُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بِأَخْذِهِ فِي الطَّوَافِ. وَيُسْتَحَبُّ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ: أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَأْتِيَ بِبَاقِيهَا، فَيَقْطَعَ الطَّوَافَ فِي ضَحْوَةٍ، وَيَدْخُلُ وَقْتُ جَمِيعِهَا بِانْتِصَافِ لَيْلَةِ النَّحْرِ. وَمَتَى يَخْرُجُ؟ أَمَّا الرَّمْيُ: فَيَمْتَدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ النَّحْرِ. وَهَلْ يَمْتَدُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَأَمَّا الذَّبْحُ، فَالْهَدْيُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَنٍ، لَكِنْ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ. بِخِلَافِ الضَّحَايَا، فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَا تَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ. قُلْتُ: كَذَا جَزَمَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ هُنَا: بِأَنَّ الْهَدَايَا لَا تَخْتَصُّ بِزَمَنٍ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا كَالْأُضْحِيَةِ، تَخْتَصُّ بِالْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ هُوَ عَلَى الصَّوَابِ فِي بَابِ الْهَدْيِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الْحَلْقُ وَالطَّوَافُ، فَلَا يَتَوَقَّتُ أَحَدُهُمَا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَطُوفَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ. فَإِنْ طَافَ لِلْوَدَاعِ وَخَرَجَ [وَقَعَ] عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَإِنْ خَرَجَ وَلَمْ يَطُفْ أَصْلًا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ. ثُمَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ: لَا يَتَوَقَّتُ آخِرُ الطَّوَافِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَضَاءً. وَفِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ إِذَا تَأَخَّرَ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، صَارَ قَضَاءً. فَرْعٌ لِلْحَجِّ تَحَلُّلَانِ، وَلِلْعُمْرَةِ تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ. قَالَ الْأَصْحَابُ: لِأَنَّ الْحَجَّ يَطُولُ زَمَنُهُ، وَتَكْثُرُ أَعْمَالُهُ. بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ، فَأُبِيحَ بَعْضُ مُحَرَّمَاتِهِ فِي وَقْتٍ، وَبَعْضُهَا فِي وَقْتٍ. ثُمَّ أَسْبَابُ تَحَلُّلِ الْحَجِّ: الرَّمْيُ، وَالطَّوَافُ، وَالْحَلْقُ إِنْ قُلْنَا: هُوَ نُسُكٌ، وَإِلَّا فَالرَّمْيُ وَالطَّوَافُ. إِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِنُسُكٍ، حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِأَحَدِهِمَا، وَالتَّحَلُّلُ الثَّانِي بِالْآخَرِ، وَإِلَّا حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِاثْنَيْنِ مِنَ الثَّلَاثَةِ، إِمَّا الرَّمْيُ

فصل

وَالْحَلْقُ، وَإِمَّا الْحَلْقُ وَالطَّوَافُ، وَإِمَّا الرَّمْيُ وَالطَّوَافُ، وَحَصَلَ التَّحَلُّلُ الثَّانِي بِالثَّالِثِ. وَلَا بُدَّ مِنَ السَّعْيِ مَعَ الطَّوَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ. وَفِي وَجْهٍ لِلْإِصْطَخْرِيِّ: دُخُولُ وَقْتِ الرَّمْيِ كَالرَّمْيِ فِي حُصُولِ التَّحَلُّلِ. وَوَجْهٌ لِلدَّارَكِيِّ: أَنَّا إِنْ جَعَلْنَا الْحَلْقَ نُسُكًا، حَصَلَ التَّحَلُّلَانِ جَمِيعًا بِالْحَلْقِ مَعَ الطَّوَافِ، أَوْ بِالطَّوَافِ وَالرَّمْيِ، وَلَا يَحْصُلُ بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ إِلَّا أَحَدُهُمَا. وَوَجْهٌ: أَنَّهُ يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِالرَّمْيِ فَقَطْ، أَوِ الطَّوَافِ فَقَطْ، وَإِنْ قُلْنَا: الْحَلْقُ نُسُكٌ. وَلَوْ فَاتَهُ الرَّمْيُ، فَهَلْ يَتَوَقَّفُ تَحَلُّلُهُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَدَلِهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: إِنِ افْتَدَى بِالدَّمِ تَوَقَّفَ. وَإِنِ افْتَدَى بِالصَّوْمِ، فَلَا لِطُولِ زَمَنِهِ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ: فَتَحَلُّلُهَا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَيُضَمُّ إِلَيْهِمَا الْحَلْقُ إِنْ قُلْنَا: نُسُكٌ. وَيَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فِي الْحَجِّ: اللَّبْسُ، وَالْقَلْمُ، وَسَتْرُ الرَّأْسِ، وَالْحَلْقُ إِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ نُسُكًا. وَلَا يَحِلُّ الْجِمَاعُ إِلَّا بِالتَّحَلُّلَيْنِ بِلَا خِلَافٍ. وَالْمُسْتَحَبُّ: أَنْ لَا يَطَأَ حَتَّى يَرْمِيَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَفِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا سِوَى الْفَرَجِ، كَالْقُبْلَةِ، وَالْمُلَامَسَةِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَحِلُّ إِلَّا بِالتَّحَلُّلَيْنِ، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ «الْمُهَذِّبِ» وَطَائِفَةٌ: يَحِلُّ بِالْأَوَّلِ، وَيَحِلُّ الصَّيْدُ بِالْأَوَّلِ عَلَى الْأَظْهَرِ بِاتِّفَاقِهِمْ. وَالْمَذْهَبُ: حِلُّ الطِّيبِ بِالْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ. فَصْلٌ مَبِيتُ أَرْبَعِ لَيَالٍ، نُسُكٌ فِي الْحَجِّ: لَيْلَةُ النَّحْرِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلَيَالِي التَّشْرِيقِ بِمِنًى. لَكِنَّ اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ إِنَّمَا تَكُونُ نُسُكًا لِمَنْ لَمْ يَنْفِرِ النَّفْرَ الْأَوَّلَ. وَفِي قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْمَبِيتِ، قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ عَنْ نَقْلِ شَيْخِهِ، وَصَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» . أَظْهَرُهُمَا: مُعْظَمُ اللَّيْلِ. وَالثَّانِي: الْمُعْتَبَرُ كَوْنُهُ حَاضِرًا حَالَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.

قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْأُمِّ» وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْوَاجِبَ فِي مَبِيتِ الْمُزْدَلِفَةِ سَاعَةٌ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ اللَّيْلِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ هَذَا الْمَبِيتُ مَجْبُورٌ بِالدَّمِ. وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ، أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ أَمَّا لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ فَسَبَقَ حُكْمُهُ. وَأَمَّا الْبَاقِي، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الِاسْتِحْبَابُ. وَالثَّانِي: الْإِيجَابُ. وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ قَطْعًا. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: الْإِيجَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ إِنْ تَرَكَ لَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ وَحْدَهَا، أَرَاقَ دَمًا. وَإِنْ تَرَكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» قَوْلًا: أَنَّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ دَمًا، وَهُوَ شَاذٌّ. وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَةً، فَأَقْوَالٌ: أَظْهَرُهَا: تُجْبَرُ بِمُدٍّ. وَالثَّانِي: بِدِرْهَمٍ. وَالثَّالِثُ: بِثُلُثِ دَمٍ. وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَإِنْ تَرَكَ اللَّيَالِيَ الْأَرْبَعَ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: دَمَانِ، دَمٌ لِلْمُزْدَلِفَةِ، وَدَمٌ لِلْبَاقِي. وَالثَّانِي: دَمٌ لِلْجَمِيعِ. هَذَا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ بِمِنًى وَقْتَ الْغُرُوبِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ، وَلَمْ يَبِتْ، وَأَفْرَدْنَا الْمُزْدَلِفَةَ بِدَمٍ، فَوَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إِلَّا لَيْلَتَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مُدَّانِ، أَوْ دِرْهَمَانِ، أَوْ ثُلُثَا دَمٍ. وَالثَّانِي: دَمٌ كَامِلٌ لِتَرْكِهِ جِنْسَ الْمَبِيتِ بِمِنًى، وَهَذَا أَصَحُّ، وَهُوَ جَارٍ فِيمَا لَوْ تَرَكَ لَيْلَتَيْنِ مِنَ الثَّلَاثِ دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ. هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ. أَمَّا مَنْ تَرَكَ مَبِيتَ مُزْدَلِفَةَ أَوْ مِنًى لِعُذْرٍ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَهُمْ أَصْنَافٌ، مِنْهُمْ رِعَاءُ الْإِبِلِ، وَأَهْلُ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ، فَلَهُمْ إِذَا رَمَوْا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَنْفِرُوا وَيَدَعُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ، وَلِلصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا أَنْ يَدَعُوا رَمْيَ يَوْمٍ، وَيَقْضُوهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيهِ قَبْلَ رَمْيِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَدَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ. فَإِنْ تَرَكُوا رَمْيَ الْيَوْمِ الثَّانِي، بِأَنْ نَفَرُوا الْيَوْمَ الْأَوَّلَ بَعْدَ الرَّمْيِ، عَادُوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَإِنْ تَرَكُوا رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، بِأَنْ نَفَرُوا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ، عَادُوا فِي الثَّانِي. ثُمَّ

فصل

لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا مَعَ النَّاسِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي وَجْهٍ: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَالرِّعَاءُ بِمِنًى لَزِمَهُمُ الْمَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَالرَّمْيُ مِنَ الْغَدِ، وَلِأَهْلِ السِّقَايَةِ أَنْ يَنْفِرُوا بَعْدَ الْغُرُوبِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ بِاللَّيْلِ بِخِلَافِ الرَّعْيِ. وَرُخْصَةُ أَهِلِ السِّقَايَةِ، لَا تَخْتَصُّ بِالْعَبَّاسِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: تَخْتَصُّ بِهِمْ، وَفِي وَجْهٍ: تَخْتَصُّ بِبَنِي هَاشِمٍ. وَلَوْ أَحْدَثَتْ سِقَايَةُ الْحَاجِّ، فَلِلْمُقِيمِ بِسَبَبِهَا تَرْكُ الْمَبِيتِ، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ لَهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: قَوْلُهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنَ الْمَعْذُورِينَ مَنِ انْتَهَى إِلَى عَرَفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَاشْتَغَلَ بِالْوُقُوفِ عَنْ مَبِيتِ الْمُزْدَلِفَةِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْمَبِيتِ الْمُتَفَرِّغُونَ. وَلَوْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مَكَّةَ، وَطَافَ لِلْإِفَاضَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَفَاتَهُ الْمَبِيتُ، قَالَ الْقَفَّالُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالطَّوَافِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ. وَمِنَ الْمَعْذُورِينَ مَنْ لَهُ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ. وَلَوِ اشْتَغَلَ بِالْمَبِيتِ، أَوْ لَهُ مَرِيضٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَعَهُّدِهِ، أَوْ يَطْلُبُ آبِقًا، أَوْ يَشْتَغِلُ بِأَمْرٍ آخَرَ يَخَافُ فَوْتَهُ فَفِي هَؤُلَاءِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ الْمَبِيتِ، وَلَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا بَعْدَ الْغُرُوبِ. فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّمْيِ إِذَا فَرَغَ الْحُجَّاجُ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، عَادُوا إِلَى مِنًى وَصَلَّوْا بِهَا الظُّهْرَ، وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ بِهَا بَعْدَ الظُّهْرِ خُطْبَةً، وَيُعَلِّمُهُمْ فِيهَا سُنَّةَ الرَّمْيِ وَالْإِفَاضَةِ، لِيَتَدَارَكَ مَنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَيُعَلِّمُهُمْ رَمْيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَحُكْمَ الْمَبِيتِ، وَالرُّخْصَةَ

لِلْمَعْذُورِينَ. وَفِي وَجْهٍ: تَكُونُ هَذِهِ الْخُطْبَةُ بِمَكَّةَ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا بِمِنًى. وَيَخْطُبُ بِهِمْ فِي الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَيُعَلِّمُهُمْ جَوَازَ النَّفْرِ فِيهِ. وَيُوَدِّعُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِخَتْمِ الْحَجِّ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ مَجْمُوعَ الرَّمْيِ سَبْعُونَ حَصَاةً. لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ سَبْعَةٌ. وَلِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ إِلَى الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ، لِكُلِّ جَمْرَةٍ سَبْعٌ. وَمَنْ أَرَادَ النَّفْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، وَرَمْيُ الْغَدِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَمَنْ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ لَزِمَهُ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، وَرَمْيُ يَوْمِهَا. وَلَوِ ارْتَحَلَ فَغَرَبَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ مِنْ مِنًى، فَلَهُ النَّفْرُ وَلَوْ غَرَبَتْ وَهُوَ فِي شُغْلِ الِارْتِحَالِ، أَوْ نَفَرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَادَ لِشُغْلٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَوْ بَعْدَهُ جَازَ النَّفْرُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: فَلَوْ تَبَرَّعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْمَبِيتِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الرَّمْيُ فِي الْغَدِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمَنْ نَفَرَ وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَصَى الَّتِي تَزَوَّدَهَا، طَرَحَهَا أَوْ دَفَعَهَا إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَلَمْ يُؤْثَرْ شَيْءٌ فِيمَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ مِنْ دَفْنِهَا. أَمَّا وَقْتُ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَسَبَقَ، وَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَيَدْخُلُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ، وَيَبْقَى إِلَى غُرُوبِهَا. وَهَلْ يَمْتَدُّ إِلَى الْفَجْرِ؟ أَمَّا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَلَا، لِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَنَاسِكِ، وَأَمَّا الْيَوْمَانِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَمْتَدُّ.

فَرْعٌ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يُسَمَّى: يَوْمَ الْقَرِّ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ - لِأَنَّهُمْ قَارُّونَ بِمِنًى. وَالْيَوْمُ الثَّانِي: النَّفْرُ الْأَوَّلُ. وَالثَّالِثُ: النَّفْرُ الثَّانِي. فَإِذَا تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِ الْقَرِّ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، هَلْ يَتَدَارَكُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ؟ أَوْ تَرَكَ رَمْيَ الثَّانِي، أَوْ رَمْيَ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، هَلْ يَتَدَارَكُ فِي الثَّالِثِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَدَارَكُ فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ، فَهَلْ يَتَدَارَكُ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَهُ مِنْ لَيَالِي التَّشْرِيقِ؟ وَجْهَانِ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصَحِّ: أَنَّ وَقْتَهُ لَا يَمْتَدُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّدَارُكِ، فَتَدَارَكَ فَهَلْ هُوَ أَدَاءٌ، أَمْ قَضَاءٌ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَدَاءٌ، كَأَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرِّعَاءِ. فَإِنْ قُلْنَا: أَدَاءٌ، فَجُمْلَةُ أَيَّامِ مِنًى فِي حُكْمِ الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، فَكُلُّ يَوْمٍ لِلْقَدْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَقْتُ اخْتِيَارٍ، كَأَوْقَاتِ الِاخْتِيَارِ لِلصَّلَوَاتِ. وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ رَمْيِ يَوْمِ التَّدَارُكِ عَلَى الزَّوَالِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَمْتَنِعُ تَقْدِيمُ رَمْيِ يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ وَقْتَهُ يَتَّسِعُ مِنْ جِهَةِ الْآخِرِ دُونَ الْأَوَّلِ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ: الْجَزْمُ بِمَنْعِ التَّقْدِيمِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ تَصْرِيحًا وَمَفْهُومًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ قَضَاءٌ، فَتَوْزِيعُ الْأَقْدَارِ الْمُعَيَّنَةِ عَلَى الْأَيَّامِ مُسْتَحَقٌّ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَقْدِيمِ رَمْيِ يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ، وَلَا إِلَى تَقْدِيمِهِ عَلَى الزَّوَالِ. وَهَلْ يَجُوزُ بِاللَّيْلِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَتَوَقَّتُ. وَالثَّانِي: لَا لِأَنَّ الرَّمْيَ عِبَادَةُ النَّهَارِ كَالصَّوْمِ. وَهَلْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الرَّمْيِ الْمَتْرُوكِ وَرَمِي يَوْمِ

التَّدَارُكِ؟ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْمَكَانِ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُتَدَارَكَ قَضَاءٌ، أَمْ أَدَاءٌ؟ إِنْ قُلْنَا: أَدَاءٌ، وَجَبَ التَّرْتِيبُ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ لَمْ نُوجِبِ التَّرْتِيبَ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعُذْرِ كَالرِّعَاءِ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: نَظِيرُهُ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ الظُّهْرُ لَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ. وَلَوْ أَخَّرَهَا لِلْجَمْعِ، فَوَجْهَانِ. وَلَوْ رَمَى إِلَى الْجَمَرَاتِ كُلِّهَا عَنِ الْيَوْمِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ إِلَيْهَا عَنْ أَمْسِهِ أَجْزَأَهُ إِنْ لَمْ نُوجِبِ التَّرْتِيبَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُهُ وَيَقَعُ عَنِ الْقَضَاءِ. وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ أَصْلًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ صَرَفَ الرَّمْيَ إِلَى غَيْرِ النُّسُكِ، بِأَنْ رَمَى إِلَى شَخْصٍ أَوْ دَابَّةٍ فِي الْجَمْرَةِ، فَفِي انْصِرَافِهِ عَنِ النُّسُكِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي صَرْفِ الطَّوَافِ. فَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ وَقَعَ عَنْ أَمْسِهِ، وَلَغَا قَصْدُهُ. وَإِنِ انْصَرَفَ، فَإِنْ شَرَطْنَا التَّرْتِيبَ، لَمْ يُجْزِئْهُ أَصْلًا، وَإِلَّا أَجْزَأَهُ عَنْ يَوْمِهِ. وَلَوْ رَمَى إِلَى كُلِّ جَمْرَةٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ حَصَاةً، سَبْعًا عَنْ أَمْسِهِ، وَسَبْعًا عَنْ يَوْمِهِ، جَازَ إِنْ لَمْ نَعْتَبِرِ التَّرْتِيبَ، وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ. هَذَا كُلُّهُ فِي رَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. أَمَّا إِذَا تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَفِي تَدَارُكِهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِعَدَمِ التَّدَارُكِ لِلْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الرَّمْيَيْنِ قَدْرًا وَوَقْتًا وَحُكْمًا، فَإِنَّ رَمْيَ النَّحْرِ يُؤَثِّرُ فِي التَّحَلُّلِ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ فِي رَمْيِ التَّشْرِيقِ، التَّرْتِيبُ فِي الْمَكَانِ بِأَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. وَلَا يُعْتَدُّ بِرَمْيِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ تَمَامِ الْأُولَى، وَلَا بِالثَّالِثَةِ، قَبْلَ تَمَامِ الْأُولَيَيْنِ. وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً وَلَمْ يَدْرِ مِنْ أَيْنَ تَرَكَهَا جَعَلَهَا مِنَ الْأُولَى، فَرَمَى إِلَيْهَا حَصَاةً وَأَعَادَ الْأُخْرَيَيْنِ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ، وَرَمَيَاتِ الْجَمْرَةِ الْوَاحِدَةِ، الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الطَّوَافِ.

فَرْعٌ السُّنَّةُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَأَنْ يَرْمِيَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ مُسْتَدْبِرَهَا، وَأَنْ يَكُونَ نَازِلًا فِي رَمْيِ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَرَاكِبًا فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ، فَيَرْمِي وَيَنْفِرُ عَقِيبَهُ كَمَا أَنَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ يَرْمِي، ثُمَّ يَنْزِلُ، هَكَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَنُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» . وَفِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّ الصَّحِيحَ تَرْكُ الرُّكُوبِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي فِي «التَّتِمَّةِ» لَيْسَ بِشَيْءٍ وَالصَّوَابُ: مَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا جَزْمُ الرَّافِعِيِّ، بِأَنَّهُ يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَهُوَ وَجْهٌ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُهَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجْعَلُ الْقِبْلَةَ عَلَى يَسَارِهِ، وَعَرَفَاتٍ عَلَى يَمِينِهِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْجَمْرَةَ، فَقَدْ ثَبَتَتْ فِيهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَالسُّنَّةُ إِذَا رَمَى الْأُولَى أَنْ يَتَقَدَّمَ قَلِيلًا بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُهُ حَصَى الرَّامِينَ، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ، وَيَدْعُو، وَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى طَوِيلًا قَدْرَ سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) وَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا يَقِفُ إِذَا رَمَى الثَّالِثَةَ. فَرْعٌ لَوْ تَرَكَ رَمْيَ بَعْضِ الْأَيَّامِ وَقُلْنَا: يَتَدَارَكُ، فَتَدَارَكَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ دَمٌ مَعَ التَّدَارُكِ، كَمَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ، يَقْضِي وَيَفْدِي. وَلَوْ نَفَرَ يَوْمَ النَّحْرِ، أَوْ يَوْمَ الْقَرِّ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ، ثُمَّ عَادَ

وَرَمَى قَبْلَ الْغُرُوبِ، أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ. وَلَوْ فَرَضَ ذَلِكَ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، فَكَذَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ النَّفْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا نَفَرَ فِيهِ، خَرَجَ عَنِ الْحَجِّ، فَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِعَوْدِهِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَتَدَارَكُ، أَوْ قُلْنَا بِهِ، فَلَمْ يَتَدَارَكْ وَجَبَ الدَّمُ، وَكَمْ قَدْرُهُ؟ فِيهِ صُوَرٌ. فَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالصُّورَةُ فِيمَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: دَمٌ. وَالثَّانِي: دَمَانِ. وَالثَّالِثُ: أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَظْهَرُهَا عِنْدَ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» . لَكِنْ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ: تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ. وَلَوْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ يَوْمًا مِنَ التَّشْرِيقِ، وَجَبَ دَمٌ. وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ بَعْضِ يَوْمٍ مِنَ التَّشْرِيقِ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْجَمَرَاتُ الثَّلَاثُ كَالشَّعَرَاتِ الثَّلَاثِ، فَلَا يَكْمُلُ الدَّمُ فِي بَعْضِهَا. بَلْ إِنْ تَرَكَ جَمْرَةً، فَفِيهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ، فِيمَنْ حَلَقَ شَعْرَةً. أَظْهَرُهَا: مُدٌّ. وَالثَّانِي: دِرْهَمٌ. وَالثَّالِثُ: ثُلُثُ دَمٍ. وَإِنْ تَرَكَ جَمْرَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ حَصَاةً مِنْ جَمْرَةٍ، قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : إِنْ قُلْنَا: فِي الْجَمْرَةِ ثُلُثُ دَمٍ، فَفِي الْحَصَاةِ جُزْءٌ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ دَمٍ، وَإِنْ قُلْنَا: فِي الْجَمْرَةِ مُدٌّ أَوْ دِرْهَمٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ نُوجِبَ سُبْعَ مُدٍّ، أَوْ سُبْعَ دِرْهَمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا نُبَعِّضَهُمَا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: يَكْمُلُ الدَّمُ فِي وَظِيفَةِ الْجَمْرَةِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا يَكْمُلُ فِي جَمْرَةِ النَّحْرِ. وَفِي الْحَصَاةِ وَالْحَصَاتَيْنِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْحَصَاةِ، أَوِ الْحَصَاتَيْنِ، مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. فَأَمَّا لَوْ تَرَكَهَا مِنَ الْجَمْرَةِ الْأَخِيرَةِ يَوْمَ الْقَرِّ، أَوِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَنْفِرْ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ التَّدَارُكِ وَرَمْيِ الْوَقْتِ، صَحَّ رَمْيُهُ، لَكِنَّهُ تَرَكَ حَصَاةً، فَفِيهِ الْخِلَافُ، وَإِلَّا فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّ الرَّمْيَ بِنِيَّةِ الْيَوْمِ، هَلْ يَقَعُ عَنِ الْمَاضِي؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، تَمَّ الْمَتْرُوكُ بِمَا أَتَى بِهِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، لَكِنَّهُ يَكُونُ

تَارِكًا لِلْجَمْرَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا كَانَ تَارِكًا رَمْيَ حَصَاةٍ وَوَظِيفَةَ يَوْمٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ إِنْ لَمْ نُفْرِدْ كُلَّ يَوْمٍ بِدَمٍ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ لِوَظِيفَةِ الْيَوْمِ دَمٌ. وَفِي مَا يَجِبُ لِتَرْكِ الْحَصَاةِ الْخِلَافُ. وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ إِحْدَى الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ كَانَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْمَكَانِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا تَرَكَ بَعْضَ يَوْمٍ مِنَ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ رَمْيِ النَّحْرِ، فَقَدْ أَلْحَقَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» بِمَا إِذَا تَرَكَ مِنَ الْجَمْرَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : يَلْزَمُهُ دَمٌ وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا، لَمْ يَتَحَلَّلْ إِلَّا بِبَدَلٍ كَامِلٍ. وَحَكَى فِي النِّهَايَةِ وَجْهًا غَرِيبًا ضَعِيفًا: أَنَّ الدَّمَ يَكْمُلُ فِي حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ مُطْلَقًا. فَرْعٌ قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ مِنْ جُمْلَةِ الْأَيَّامِ لَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَهَا أَخَذَ بِالْأَسْوَأِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَرَكَ حَصَاةً مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَحَصَاةً مِنَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى يَوْمَ الْقَرِّ، وَحَصَاةً مِنَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ لَمْ نَحْسِبْ مَا يَرْمِيهِ بِنِيَّةِ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ عَنِ الْفَائِتِ، فَالْحَاصِلُ سِتُّ حَصَيَاتٍ مِنْ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ، سَوَاءٌ شَرَطْنَا التَّرْتِيبَ بَيْنَ التَّدَارُكِ وَرَمْيِ الْوَقْتِ أَمْ لَا. وَإِنْ حَسِبْنَاهُ، فَالْحَاصِلُ رَمْيُ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَحَدِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا غَيْرَ، سَوَاءٌ شَرَطْنَا التَّرْتِيبَ أَمْ لَا، وَدَلِيلُهُ يُعْرَفُ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْأُصُولِ.

فَرْعٌ فِي بَيَانِ مَا يُرْمَى شَرْطُهُ كَوْنُهُ حَجَرًا، فَيُجْزِئُ الْمَرْمَرُ، وَالْبِرَامُ، وَالْكَذَّانُ، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَجَرِ. وَيُجْزِئُ حَجَرُ النَّوْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُطْبَخَ وَيَصِيرَ نَوْرَةً. وَأَمَّا حَجَرُ الْحَدِيدِ، فَتَرَدَّدَ فِيهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَالْمَذْهَبُ: جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ حَجَرٌ فِي الْحَالِ إِلَّا أَنَّ فِيهِ حَدِيدًا كَامِنًا يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلَاجِ وَفِي مَا تُتَّخَذُ مِنْهُ الْفُصُوصُ، كَالْفَيْرُوزَجِ، وَالْيَاقُوتِ، وَالْعَقِيقِ، وَالزُّمُرُّدِ، وَالْبَلُّورِ، وَالزَّبَرْجَدِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْإِجْزَاءُ؛ لِأَنَّهَا أَحْجَارٌ. وَلَا يُجْزِئُ اللُّؤْلُؤُ، وَمَا لَيْسَ بِحَجَرٍ مِنْ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، كَالنَّوْرَةِ، وَالزَّرْنِيخِ، وَالْإِثْمِدِ، وَالْمَدَرِ، وَالْجَصِّ، وَالْجَوَاهِرِ الْمُنْطَبِعَةِ كَالتِّبْرَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْمِيَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، وَهُوَ دُونُ الْأُنْمُلَةِ طُولًا وَعَرْضًا فِي قَدْرِ الْبَاقِلَاءِ، يَضَعُهُ عَلَى بَطْنِ الْإِبْهَامِ، وَيَرْمِيهِ بِرَأْسِ السَّبَّابَةِ. وَلَوْ رَمَى بِأَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَكْبَرَ، كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْحَجَرُ طَاهِرًا. قُلْتُ: جَزَمَ الْإِمَامُ الرِّفَاعِيُّ [رَحِمَهُ اللَّهُ] ، بِأَنْ يَرْمِيَهُ عَلَى هَيْئَةِ الْخَذْفِ فَيَضَعَهُ عَلَى بَطْنِ الْإِبْهَامِ، وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ: أَنْ يَرْمِيَهُ عَلَى [غَيْرِ] هَيْئَةِ الْخَذْفِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ فِي حَقِيقَةِ الرَّمْيِ الْوَاجِبُ، مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّمْيِ. فَلَوْ وَضَعَ الْحَجَرَ فِي الْمَرْمَى، لَمْ يُعْتَدَّ

بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيُشْتَرَطُ قَصْدُ الْمَرْمَى. فَلَوْ رَمَى فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ فِي الْمَرْمَى، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْحَجَرِ فِي الْمَرْمَى، فَلَا يَضُرُّ تَدَحْرُجُهُ وَخُرُوجُهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهِ. فَإِنْ شَكَّ فِي وُقُوعِهِ فِيهِ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: لَا يُجْزِئُهُ. وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الرَّامِي خَارِجَ الْجَمْرَةِ. فَلَوْ وَقَفَ فِي الطَّرَفِ، وَرَمَى إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ جَازَ. وَلَوِ انْصَدَمَتِ الْحَصَاةُ الْمَرْمِيَّةُ بِالْأَرْضِ خَارِجَ الْجَمْرَةِ، أَوْ بِمَحْمِلٍ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ عُنُقِ بَعِيرٍ، أَوْ ثَوْبِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ ارْتَدَتْ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى، اعْتُدَّ بِهَا، لِحُصُولِهَا فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَنَةٍ. وَلَوْ حَرَّكَ صَاحِبُ الْمَحْمِلِ الْمَحْمِلَ فَنَفَضَهَا، أَوْ صَاحِبُ الثَّوْبِ، أَوْ تَحَرَّكَ الْبَعِيرُ فَدَفَعَهَا فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا. وَلَوْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَحْمِلِ أَوْ عُنُقِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ إِلَى الْمَرْمَى، فَفِي الِاعْتِدَادِ بِهَا وَجْهَانِ. لَعَلَّ أَشْبَهَهُمَا الْمَنْعُ، لِاحْتِمَالِ تَأَثُّرِهَا بِهِ. وَلَوْ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ الْمَرْمَى ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ إِلَى الْمَرْمَى أَوْ رَدَّتْهَا الرِّيحُ إِلَيْهِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : أَصَحُّهُمَا: الْإِجْزَاءُ لِحُصُولِهَا فِيهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ. وَلَا يُجْزِئُ الرَّمْيُ عَنِ الْقَوْسِ، وَلَا الدَّفْعُ بِالرِّجْلِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْمِيَ الْحَصَيَاتِ فِي سَبْعِ دُفُعَاتٍ. فَلَوْ رَمَى حَصَاتَيْنِ أَوْ سَبْعًا دُفْعَةً، فَإِنْ وَقَعْنَ فِي الرَّمْيِ مَعًا، حُسِبَتْ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَإِنْ تَرَتَّبَتْ فِي الْوُقُوعِ حُسِبَتْ وَاحِدَةً عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ أَتْبَعَ حَجْرًا حَجْرًا، وَوَقَعَتِ الْأُولَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ، فَرَمْيَتَانِ. وَإِنْ تَسَاوَتَا، أَوْ وَقَعَتِ الثَّانِيَةُ قَبْلَ الْأُولَى، فَرَمْيَتَانِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ رَمَى بِحَجَرٍ قَدْ رَمَى بِهِ غَيْرُهُ، أَوْ رَمَى هُوَ بِهِ إِلَى جَمْرَةٍ أُخْرَى، أَوْ إِلَى هَذِهِ الْجَمْرَةِ فِي يَوْمٍ آخَرَ، جَازَ. وَإِنْ رَمَى بِهِ هُوَ تِلْكَ الْجَمْرَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَى فَقِيرٍ مُدًّا فِي كَفَّارَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَدَفَعَهُ إِلَى آخَرَ، وَعَلَى هَذَا تَتَأَدَّى جَمِيعُ الرَّمْيَاتِ بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ.

فصل

فَرْعٌ الْعَاجِزُ عَنِ الرَّمْيِ بِنَفْسِهِ لِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ، يَسْتَنِيبُ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَاوِلَ النَّائِبَ الْحَصَى إِنْ قَدَرَ، وَيُكَبِّرُ هُوَ. وَإِنَّمَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ لِعَاجِزٍ بِعِلَّةٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهَا قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الرَّمْيِ، وَلَا يَمْنَعُ الزَّوَالُ بَعْدَهُ. وَلَا يَصِحُّ رَمْيُ النَّائِبِ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ إِلَّا بَعْدَ رَمْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ خَالَفَ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ كَأَصْلِ الْحَجِّ. وَلَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لِغَيْرِهِ فِي الرَّمْيِ عَنْهُ، لَمْ يَجُزِ الرَّمْيُ عَنْهُ. وَإِنْ أَذِنَ، جَازَ الرَّمْيُ عَنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ أَذِنَ قَبْلَ الْإِغْمَاءِ فِي حَالٍ تَصِحُّ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِذَا رَمَى النَّائِبُ، ثُمَّ زَالَ عُذْرُ الْمُسْتَنِيبِ وَالْوَقْتُ بَاقٍ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الرَّمْيِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا حَجَّ الْمَعْضُوبُ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ بَرِئَ. فَصْلٌ ثُمَّ إِذَا فَرَغَ الْحَاجُّ مِنْ رَمْيِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُحَصِّبَ، فَيَنْزِلَ بِهِ وَيُصَلِّيَ فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ وَيَبِيتَ بِهِ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ. وَلَوْ تَرَكَ النُّزُولَ بِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَحَّدُّ الْمُحَصَّبِ: مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ.

فصل في طواف الوداع قولان.

فَصْلٌ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَجِبُ. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ. وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ قَطْعًا. فَإِنْ تَرَكَهُ جَبْرَهُ بِدَمٍ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ وَاجِبٌ، كَانَ جَبْرُهُ وَاجِبًا، وَإِلَّا مُسْتَحَبًّا. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَا يُجْبَرُ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» : أَنَّهُ كَالْوَدَاعِ فِي وُجُوبِ الْجَبْرِ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَإِذَا خَرَجَ بِلَا وَدَاعٍ، وَقُلْنَا: يَجِبُ الدَّمُ، فَعَادَ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ. وَإِنْ عَادَ بَعْدَ بُلُوغِهَا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَسْقُطُ، وَلَا يَجِبُ الْعَوْدُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا الْأُولَى، فَسَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ طَوَّافُ وَدَاعٍ. فَلَوْ طَهُرَتْ قَبْلَ مُفَارَقَةِ خُطَّةِ مَكَّةَ لَزِمَهَا الْعَوْدُ وَالطَّوَافُ. وَإِنْ طَهُرَتْ بَعْدَ بُلُوغِهَا مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَلَا. وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَنَصَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الْعُودُ، وَنَصَّ أَنَّ الْمُقَصِّرَ بِالتَّرْكِ يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ. فَالْمَذْهَبُ: الْفَرْقُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ الْعَوْدُ، فَالنَّظَرُ إِلَى نَفْسِ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مَكَّةُ. ثُمَّ إِنْ أَوْجَبْنَا الْعَوْدَ، فَعَادَ وَطَافَ سَقَطَ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ، لَمْ يَسْقُطْ. وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، فَلَمْ يَعُدْ فَلَا دَمَ عَلَى الْحَائِضِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُقَصِّرِ. فَرْعٌ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ طَوَافُ الْوَدَاعِ بَعْدَ جَمِيعِ الْأَشْغَالِ، وَيَعْقُبُهُ الْخُرُوجُ بِلَا مُكْثٍ. فَإِنْ مَكَثَ نُظِرَ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَوْ لِشُغْلٍ غَيْرِ أَسْبَابِ الْخُرُوجِ، كَشِرَاءِ مَتَاعٍ

، أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ، أَوْ زِيَارَةِ صَدِيقٍ أَوْ عِيَادَةِ مَرِيضٍ، فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الطَّوَافِ. وَإِنِ اشْتَغَلَ بِأَسْبَابِ الْخُرُوجِ كَشِرَاءِ الزَّادِ، وَشَدِّ الرَّحْلِ وَنَحْوِهِمَا، فَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَتِهِ؟ [فِيهِ] طَرِيقَانِ. قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَجْهَانِ. قُلْتُ: لَوْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّاهَا، لَمْ يُعِدْهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ حُكْمُ طَوَافِ الْوَدَاعِ حُكْمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ الطَّوَافِ فِي الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ. وَفِيهِ وَجْهٌ لِأَبِي يَعْقُوبَ الْأَبِيوَرْدِيِّ: أَنَّهُ يَصِحُّ بِلَا طَهَارَةٍ، وَتُجْبَرُ الطِّهَارَةُ بِالدَّمِ. فَرْعٌ هَلْ طَوَافُ الْوَدَاعِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، قَالَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ: هُوَ مِنَ الْمَنَاسِكِ، وَلَيْسَ عَلَى الْخَارِجِ مِنْ مَكَّةَ وَدَاعٌ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا. وَقَالَ صَاحِبَا «التَّتِمَّةِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا: لَيْسَ طَوَافُ الْوَدَاعِ مِنَ الْمَنَاسِكِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ أَرَادَ مُفَارَقَةَ مَكَّةَ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، سَوَاءٌ كَانَ مَكِّيًّا أَوْ أُفُقِيًّا، وَهَذَا أَصَحُّ؛ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ، وَتَشْبِيهًا لِاقْتِضَاءِ خُرُوجِهِ الْوَدَاعَ بِاقْتِضَاءِ دُخُولِهِ الْإِحْرَامَ؛ وَلِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَكِّيَّ إِذَا حَجَّ وَهُوَ عَلَى أَنَّهُ يُقِيمُ بِوَطَنِهِ، لَا يُؤْمَرُ بِطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَكَذَا الْأُفُقِيُّ إِذَا حَجَّ وَأَرَادَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ، لَا وَدَاعَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ، لَعَمَّ الْحَجِيجَ. قُلْتُ: وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنَ الْمَنَاسِكِ، مَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ

نُسُكِهِ ثَلَاثًا» ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ يَكُونُ عِنْدَ الرُّجُوعِ، فَسَمَّاهُ قَبْلَهُ: قَاضِيًا لِلْمَنَاسِكِ، وَحَقِيقَتُهُ: أَنْ يَكُونَ قَضَاهَا كُلَّهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْحَاجِّ إِذَا طَافَ لِلْوَدَاعِ، أَنْ يَقِفَ بِحِذَاءِ الْمُلْتَزَمِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ، وَالْعَبْدُ عَبْدُكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخَّرْتَ لِي مِنْ خَلْقِكَ، حَتَّى سَيَّرْتَنِي فِي بِلَادِكَ، وَبَلَّغْتَنِي بِنِعْمَتِكَ، حَتَّى أَعَنْتَنِي عَلَى قَضَاءِ مَنَاسِكِكَ، فَإِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي، فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا، وَإِلَّا فَالْآنَ قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي، هَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إِنْ أَذِنْتَ [لِي] غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلَا بِبَيْتِكَ، وَلَا رَاغِبٍ عَنْكَ وَلَا عَنْ بَيْتِكَ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي، وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي طَاعَتَكَ مَا أَبْقَيْتَنِي، قَالَ: وَمَا زَادَ فَحَسَنٌ، وَقَدْ زِيدَ فِيهِ: وَاجْمَعْ لِي خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَنْصَرِفُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُتْبِعَ نَظَرَهُ الْبَيْتَ مَا أَمْكَنَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ زَمْزَمَ، وَأَنْ يَزُورَ بَعْدَ الْفَرَاغِ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْتُ: يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ دُخُولُ الْبَيْتِ حَافِيًا مَا لَمْ يُؤْذِ أَوْ يَتَأَذَّ بِزِحَامٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، وَيَدْعُوَ فِي جَوَانِبِهِ، وَأَنْ يُكْثِرَ الِاعْتِمَارَ وَالطَّوَافَ تَطَوُّعًا قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : الطَّوَافُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ. وَظَاهِرُ عِبَارَةِ صَاحِبِ «الْمُهَذَّبِ» وَآخِرِينَ فِي قَوْلِهِمْ: أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ أَنَّهَا أَفْضَلُ

باب

مِنْهُ، وَلَا يُنْكَرُ هَذَا. وَيُقَالُ: الطَّوَافُ صَلَاةٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ لَا سِيَّمَا فِي كُتُبِ الْمُصَنِّفِينَ الْمَوْضُوعَةِ لِلْإِيضَاحِ، وَهَذَا أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ أَعْمَالُ الْحَجِّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَرْكَانٌ، وَأَبْعَاضٌ، وَهَيْئَاتٌ. فَالْأَرْكَانُ خَمْسَةٌ: الْإِحْرَامُ، وَالْوُقُوفُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ، وَالْحَلْقُ إِنْ قُلْنَا: هُوَ نُسُكٌ. وَهَذِهِ هِيَ أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ سِوَى الْوُقُوفِ، وَلَا مَدْخَلَ لَلْجُبْرَانِ فِي الْأَرْكَانِ. وَالتَّرْتِيبُ يُعْتَبَرُ فِي مُعْظَمِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ عَلَى الطَّوَافِ وَالْحَلْقِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْخِيرِ السَّعْيِ عَنْ طَوَافٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ التَّرْتِيبُ مِنَ الْأَرْكَانِ، كَمَا عَدُّوهُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ. وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ عَدَمُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالْحَلْقِ كَمَا لَا يَقْدَحُ عَدَمُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْأَبْعَاضُ، فَمُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ قَبْلِ الْإِحْرَامِ وَالرَّمْيُ مَجْبُورَانِ بِالدَّمِ قَطْعًا. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْإِيجَابُ، فَيَكُونُ مِنَ الْأَبْعَاضِ الْمَجْبُورَةِ بِالدَّمِ وُجُوبًا. وَالثَّانِي: الِاسْتِحْبَابُ، فَيَكُونُ مِنَ الْهَيِئَاتِ، وَمَا سِوَاهَا هَيِئَاتٌ، وَتَقَدَّمَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: وُجُوبُ جَبْرِ طَوَافِ الْقُدُومِ. بَابٌ حَجُّ الصَّبِيِّ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ حَجُّ الصَّبِيِّ صَحِيحٌ، فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَحْرَمَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ. فَإِنِ اسْتَقَلَّ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَلِوَلِيِّهِ تَحْلِيلُهُ. وَلَوْ أَحْرَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ، فَإِنْ قُلْنَا:

فصل

يَصِحُّ اسْتِقْلَالُهُ لَمْ يَصِحَّ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا أَحْرَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَوْ مُحْرِمًا حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ لَا. وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الصَّبِيِّ وَمُوَاجَهَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْمَجْنُونُ كَصَبِيٍّ لَا يُمَيِّزُ يُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ عَنْهُ، إِذْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْعِبَادَاتِ. وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، لَا يُحْرِمُ عَنْهُ غَيْرُهُ. وَأَمَّا الْوَلِيُّ الَّذِي يُحْرِمُ عَنِ الصَّبِيِّ، أَوْ يَأْذَنُ لَهُ، فَالْأَبُ يَتَوَلَّى ذَلِكَ، وَكَذَا الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ، وَلَا يَتَوَلَّاهُ عِنْدَ وُجُودِ الْأَبِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي الْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ، طَرِيقَانِ. قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِالْجَوَازِ، وَقَالَ آخَرُونَ: وَجْهَانِ. أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: الْمَنْعُ. وَفِي الْأَخِ وَالْعَمِّ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. وَفِي «الْأُمِّ» طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وِلَايَتِهَا التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ. فَعَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ: تَلِيهِ. وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: لَا تَلِي. قُلْتُ: وَلَوْ أَذِنَ الْأَبُ لِمَنْ يُحْرِمُ عَنِ الصَّبِيِّ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ. الصَّحِيحُ: صِحَّتُهُ وَبِهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ مَتَّى صَارَ الصَّبِيُّ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِهِ، أَوْ بِإِحْرَامِ وَلِيِّهِ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَفَعَلَ بِهِ الْوَلِيُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ. فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الطَّوَافِ عَلَّمَهُ فَطَافَ، وَإِلَّا طِيفَ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَالسَّعْيُ كَالطَّوَافِ. وَيُصَلِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا، وَإِلَّا صَلَّاهُمَا بِنَفْسِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي الْوَجْهِ الضَّعِيفِ: لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا الْوَلِيُّ بِكُلِّ حَالٍ. وَيُشْتَرَطُ إِحْضَارُهُ عَرَفَةَ، وَلَا يَكْفِي حُضُورُ غَيْرِهِ عَنْهُ. وَكَذَا يَحْضُرُ الْمُزْدَلِفَةَ وَالْمَوَاقِفَ. وَيُنَاوِلُ الْأَحْجَارَ فَيَرْمِيهَا إِنْ قَدَرَ

فصل

، وَإِلَّا رَمَى عَنْهُ مَنْ لَا رَمْيَ عَلَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَهَا فِي يَدِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَأْخُذَهَا فَيَرْمِيَ. قُلْتُ: لَوْ أَرْكَبَهُ الْوَلِيُّ دَابَّةً وَهُوَ غَيْرُ مُمَيِّزٍ فَطَافَتْ بِهِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَمْ يَصِحَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ الْقَدْرُ الزَّائِدُ مِنَ النَّفَقَةِ بِسَبَبِ السَّفَرِ، هَلْ فِي مَالِ الصَّبِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ؟ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: فِي مَالِ الْوَلِيِّ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَصَحَّحْنَاهُ حَلَّلَهُ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أَنْفَقَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ يُمْنَعُ الصَّبِيُّ الْمُحْرِمُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. فَلَوْ تَطَيَّبَ، أَوْ لَبِسَ نَاسِيًا، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ عَامِدًا، فَقَدْ بَنَوْهُ عَلَى أَصْلٍ مَذْكُورٍ فِي الْجِنَايَاتِ، وَهُوَ أَنَّ عَمْدَهُ عَمْدٌ، أَوْ خَطَأٌ؟ إِنْ قُلْنَا: خَطَأٌ، فَلَا. وَإِنْ قُلْنَا: عَمْدٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَجَبَتْ. قَالَ الْإِمَامُ: وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُحَقِّقُونَ؛ لِأَنَّ عَمْدَهُ فِي الْعِبَادَاتِ كَعَمْدِ الْبَالِغِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا تَعَمَّدَ الْكَلَامَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، أَوِ الْأَكْلَ، بَطَلَ صَوْمُهُ؟ وَنَقَلَ الدَّارَكِيُّ قَوْلًا فَارِقًا، بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ مِمَّنْ يَلْتَذُّ بِالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، أَمْ لَا؟ وَلَوْ حَلَقَ أَوْ قَلَمَ أَوْ قَتَلَ صَيْدًا، وَقُلْنَا: عَمْدُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَسَهْوُهَا سَوَاءٌ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا فَهِيَ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ. وَمَتَى وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، فَهِيَ عَلَى الْوَلِيِّ، أَمْ فِي مَالِ الصَّبِيِّ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: فِي مَالِ الْوَلِيِّ، هَذَا إِذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ. فَإِنْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجَوَّزْنَاهُ، فَالْفِدْيَةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ بِلَا خِلَافٍ، قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَفِي وَجْهٍ:

إِنْ أَحْرَمَ بِهِ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ، فَفِي مَالِ الصَّبِيِّ. وَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ غَيْرُهُمَا، فَعَلَيْهِ. وَمَتَى وَجَبَتْ فِي مَالِ الصَّبِيِّ؟ إِنْ كَانَتْ مُرَتَّبَةً، فَحُكْمُهَا حُكْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَإِلَّا فَهَلْ يُجْزِئُ أَنْ يَفْتَدِيَ بِالصَّوْمِ فِي حَالِ الصَّبِيِّ؟ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى صِحَّةِ قَضَائِهِ الْحَجَّ الْفَاسِدَ فِي الصَّبِيِّ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَفْدِيَ عَنْهُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ. فَرْعٌ لَوْ جَامَعَ الصَّبِيُّ نَاسِيًا، أَوْ عَامِدًا، وَقُلْنَا: عَمْدُهُ خَطَأٌ، فَفِي فَسَادِ حَجِّهِ قَوْلَانِ، كَالْبَالِغِ إِذَا جَامَعَ نَاسِيًا، أَظْهَرُهُمَا: لَا يَفْسُدُ. وَإِنْ قُلْنَا: عَمْدُهُ عَمْدٌ، فَسَدَ حَجُّهُ. وَإِذَا فَسَدَ هَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ إِحْرَامٌ صَحِيحٌ، فَوَجَبَ فَإِفْسَادُهُ الْقَضَاءَ كَحَجِّ التَّطَوُّعِ. فَعَلَى هَذَا هَلْ يُجْزِئُهُ الْقَضَاءُ فِي حَالِ الصَّبِيِّ؟ قَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، اعْتِبَارًا بِالْأَدَاءِ. وَالثَّانِي: لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِأَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ. فَعَلَى هَذَا، إِذَا بَلَغَ نُظِرَ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَفْسَدَهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ سَلِمَتْ مِنَ الْفَسَادِ أَجْزَأَتْهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ بَلَغَ قَبْلَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ، تَأَدَّتْ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ بِالْقَضَاءِ، وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَقْضِيَ. فَإِنْ نَوَى الْقَضَاءَ أَوَّلًا، انْصَرَفَ إِلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا الْقَضَاءَ فِي حَالِ الصَّبِيِّ، فَشَرَعَ فِيهِ، وَبَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ، انْصَرَفَ إِلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَمَهْمَا فَسَدَ حَجُّهُ وَأَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا، وَإِلَّا فَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ. وَإِذَا وَجَبَتْ، فَفِي مَالِ الصَّبِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.

فصل

فَرْعٌ حُكْمُ الْمَجْنُونِ حُكْمُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ فِي جَمِيعِ الْمَذْكُورِ. وَلَوْ خَرَجَ الْوَلِيُّ بِالْمَجْنُونِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ فَرْضِ الْحَجَّ عَلَيْهِ، وَأَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ نُظِرَ إِنْ لَمْ يُنْفِقْ حَتَّى فَاتَ الْوُقُوفَ غَرِمَ لَهُ الْوَلِيُّ زِيَادَةَ نَفَقَةِ السَّفَرِ. وَإِنْ أَفَاقَ، وَأَحْرَمَ، وَحَجَّ فَلَا غُرْمَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى مَا عَلَيْهِ. وَتُشْتَرَطُ إِفَاقَتُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالْوُقُوفِ، وَالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ. وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِحَالَةِ الْحَلْقِ. وَقِيَاسُ كَوْنِهِ نُسُكًا، اشْتُرِطَ الْإِفَاقَةُ فِيهِ، كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ. فَصْلٌ لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ، نُظِرَ إِنْ بَلَغَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَلَوْ بَلَغَ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِهِ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْمَوْقِفِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ عَادَ فَوَقَفَ فِي الْوَقْتِ، أَوْ بَلَغَ قَبْلَ وَقْتِ الْوُقُوفِ، أَوْ فِي حَالِ الْوُقُوفِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، لَكِنْ يَجِبُ إِعَادَةُ السَّعْيِ إِنْ كَانَ سَعَى عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ قَبْلَ الْبُلُوغِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُخَالِفُ الْإِحْرَامُ فَإِنَّهُ مُسْتَدَامٌ فِي حَالِ الْبُلُوغِ. وَإِذَا وَقَعَ حَجُّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا إِذْ لَا إِسَاءَةَ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِفَوَاتِ الْإِحْرَامِ الْكَامِلِ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنْ لَا دَمَ. وَالْخِلَافُ فِيمَنْ لَمْ يَعُدْ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِلَى الْمِيقَاتِ، فَإِنْ عَادَ، فَلَا دَمَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالطَّوَافُ فِي الْعُمْرَةِ كَالْوُقُوفِ فِي الْحَجِّ. فَإِذَا بَلَغَ قَبْلَهُ، أَجْزَأَتْهُ عُمْرَتُهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ. وَعِتْقُ الْعَبْدِ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَبُلُوغِ الصَّبِيِّ فِي أَثْنَائِهِمَا.

فصل

فَرْعٌ ذِمِّيٌّ أَتَى الْمِيقَاتَ يُرِيدُ النُّسُكَ، فَأَحْرَمَ مِنْهُ لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ وَلَزِمَهُ الْحَجُّ، فَلَهُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ سَنَتِهِ، وَلَهُ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي. فَإِنْ حَجَّ مِنْ سَنَتِهِ، وَعَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ، أَوْ عَادَ مُحْرِمًا، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَعُدْ لَزِمَهُ دَمٌ كَالْمُسْلِمِ إِذَا جَاوَزَهُ بِقَصْدِ النُّسُكِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا دَمَ. فَصْلٌ إِذَا طَيَّبَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ، أَوْ أَلْبَسَهُ، أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ، نُظِرَ إِنْ فَعَلَهُ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَمُبَاشَرَةِ الصَّبِيِّ ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الْقَوْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهَا عَلَى الْوَلِيِّ. وَلَوْ طَيَّبَهُ لَا لِحَاجَةٍ، فَالْفِدْيَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ طَيَّبَهُ أَجْنَبِيٌّ. وَهَلْ يَكُونُ الصَّبِيُّ طَرِيقًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَكُونُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

باب

بَابٌ مُحَرَّمَاتُ الْإِحْرَامِ وَهِيَ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ. الْأَوَّلُ: اللَّبْسُ. أَمَّا رَأْسُ الرَّجُلِ، فَلَا يَجُوزُ سَتْرُهُ لَا بِمَخِيطٍ كَالْقَلَنْسُوَةِ، وَلَا بِغَيْرِهِ كَالْعِمَامَةِ، وَالْإِزَارِ وَالْخِرْقَةِ، وَكُلُّ مَا يُعَدُّ سَاتِرًا. فَإِنْ سَتَرَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ. وَلَوْ تَوَسَّدَ وِسَادَةً، أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، أَوِ انْغَمَسَ فِي مَاءٍ، أَوِ اسْتَظَلَّ بِمَحْمِلٍ أَوْ هَوْدَجٍ فَلَا بَأْسَ سَوَاءٌ مَسَّ الْمَحْمِلُ رَأْسَهُ، أَمْ لَا. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِذَا مَسَّ الْمَحْمِلُ رَأَسَهُ وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ. وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ زِنْبِيلًا أَوْ حِمْلًا، فَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَلَوْ طَلَى رَأْسَهُ بِطِينٍ، أَوْ حِنَّاءَ أَوْ مَرْهَمٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، فَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَسْتُرُ فَلَا فِدْيَةَ. وَإِنْ كَانَ ثَخِينًا سَاتِرًا، وَجَبَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ سَتْرُ جَمِيعِ الرَّأْسِ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي فِدْيَةِ الْحَلْقِ الِاسْتِيعَابُ، بَلْ تَجِبُ بِسَتْرِ قَدْرٍ يُقْصَدُ سَتْرُهُ لِغَرَضٍ، كَشَدِّ عِصَابَةٍ، أَوْ إِلْصَاقِ لُصُوقٍ لِشَجَّةٍ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا ضَبَطَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَدَّ خَيْطًا عَلَى رَأْسِهِ، لَمْ يَضُرَّ، وَلَا فِدْيَةَ. وَهَذَا يَنْقُضُ مَا ضَبَطَا بِهِ، فَإِنَّ سَتْرَ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَحْوِيهِ [شَدُّ] الْخَيْطِ، قَدْ يُقْصَدُ لِمَنْعِ الشَّعْرِ مِنَ الِانْتِشَارِ وَغَيْرِهِ. فَالْوَجْهُ: الضَّبْطُ بِتَسْمِيَتِهِ سَاتِرًا كُلَّ الرَّأْسِ أَوْ بَعْضَهُ. قُلْتُ: تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِتَغْطِيَةِ الْبَيَاضِ الَّذِي وَرَاءَ الْأُذُنِ، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَلَوْ غَطَّى رَأْسَهُ بِكَفِّ غَيْرِهِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ، كَكَفِّ نَفْسِهِ. وَفِي «الْحَاوِي» وَ «الْبَحْرِ» وَجْهَانِ لِجَوَازِ السُّجُودِ عَلَى كَفِّ غَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

أَمَّا غَيْرُ الرَّأْسِ، فَيَجُوزُ سَتْرُهُ. لَكِنْ لَا يَجُوزُ لُبْسُ الْقَمِيصِ، وَلَا السَّرَاوِيلِ، وَالتُّبَّانِ، وَالْخُفِّ، وَنَحْوِهَا. فَإِنْ لَبِسَ شَيْئًا مِنْ هَذَا مُخْتَارًا، لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ قَصُرَ الزَّمَانُ أَمْ طَالَ وَلَوْ لَبِسَ الْقَبَاءَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ أَخَرَجَ يَدَهُ مِنَ الْكُمَّيْنِ، أَمْ لَا. وَفِيهِ وَجْهٌ قَالَهُ فِي «الْحَاوِي» : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَنْ أَقْبِيَةِ خُرَاسَانَ ضَيِّقَ الْأَكْمَامِ قَصِيرَ الذَّيْلِ، لَزِمَتِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْكُمِّ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقْبِيَةِ الْعِرَاقِ وَاسِعَ الْكُمِّ طَوِيلَ الذَّيْلِ، لَمْ يَجِبْ حَتَّى يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: مَا سَبَقَ. وَلَوْ أَلْقَى عَلَى نَفْسِهِ قَبَاءً أَوْ فَرَجِيَّةً، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ. قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ أَخَذَ مِنْ بَدَنِهِ مَا إِذَا قَامَ عُدَّ لَابِسَهُ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ. وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ قَامَ أَوْ قَعَدَ لَمْ يَسْتَمْسِكْ عَلَيْهِ إِلَّا بِمَزِيدِ أَمْرٍ، فَلَا. وَاللُّبْسُ مَرْعِيٌّ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى مَا يُعْتَادُ فِي كُلِّ مَلْبُوسٍ. فَلَوِ ارْتَدَى بِقَمِيصٍ، أَوْ قَبَاءَ أَوِ الْتَحَفَ بِهَا أَوِ اتَّزَرَ بِسَرَاوِيلَ، فَلَا فِدْيَةَ. كَمَا لَوِ اتَّزَرَ بِإِزَارٍ لَفَّقَهُ مِنْ رِقَاعٍ. وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّحْرِيمُ وَالْفِدْيَةُ فِي الْمَلْبُوسِ عَلَى الْمَخِيطِ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَخِيطِ وَالْمَنْسُوجِ، كَالزَّرْدِ، وَالْمَعْقُودِ كَجُبَّةِ اللِّبَدِ، وَالْمُلَفَّقِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، سَوَاءٌ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْقُطْنِ وَالْجِلْدِ وَغَيْرِهِمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الْإِزَارَ وَيَشُدَّ عَلَيْهِ خَيْطًا، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ مِثْلَ الْحُجُزَةِ، وَيُدْخِلَ فِيهَا التِّكَّةَ وَأَنْ يَشُدَّ طَرَفَ إِزَارِهِ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ، وَلَا يَعْقِدُ رِدَاءَهُ وَلَهُ أَنْ يَغْرِزَهُ فِي طَرَفِ إِزَارِهِ. وَلَوِ اتَّخَذَ لِرِدَائِهِ شَرَجًا وَعُرًى، وَرَبَطَ الشَّرَجَ بِالْعُرَى، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الرِّدَاءِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ خَلُّهُ بِخِلَالٍ أَوْ مِسَلَّةٍ، وَلَا رَبْطُ طَرَفِهِ إِلَى طَرَفِهِ بِخَيْطٍ وَنَحْوِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ شَقُّ الْإِزَارَ نِصْفَيْنِ، وَلَفَّ عَلَى كُلِّ سَاقٍ نِصْفًا وَعَقَدَهُ، فَالَّذِي نَقَلَهُ الْأَصْحَابُ: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّهُ كَالسَّرَاوِيلِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا فِدْيَةَ لِمُجَرَّدِ

اللَّفِّ وَالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ إِنْ كَانَتْ خِيَاطَةً أَوْ شَرَجًا وَعُرًى. وَلَهُ أَنْ يَشْتَمِلَ بِالْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ طَاقَيْنِ، وَثَلَاثَةً، وَأَكْثَرَ، بِلَا خِلَافٍ. وَلَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْمُصْحَفَ وَالسَّيْفَ، وَيَشُدَّ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ عَلَى وَسَطِهِ. أَمَّا الْمَرْأَةُ، فَالْوَجْهُ فِي حَقِّهَا، كَرَأْسِ الرَّجُلِ. وَتَسْتُرُ جَمِيعَ رَأْسِهَا وَسَائِرَ بَدَنِهَا بِالْمَخِيطِ، كَالْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ، وَتَسْتُرُ مِنَ الْوَجْهِ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ الَّذِي يَلِي الرَّأْسَ، إِذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ سَتْرِ الرَّأْسِ إِلَّا بِهِ. وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى سَتْرِ الرَّأْسِ بِكَمَالِهِ لِكَوْنِهِ عَوْرَةً أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَشْفِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنَ الْوَجْهِ. وَلَهَا أَنْ تَسْدِلَ عَلَى وَجْهِهَا ثَوْبًا مُتَجَافِيًا عَنْهُ بِخَشَبَةٍ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ فَعَلَتْهُ لِحَاجَةٍ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهَا، أَمْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. فَإِنْ وَقَعَتِ الْخَشَبَةُ، فَأَصَابَ الثَّوْبُ وَجْهَهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا، وَرَفَعَتْهُ فِي الْحَالِ، فَلَا فِدْيَةَ. وَإِنْ كَانَ عَمْدًا، أَوِ اسْتَدَامَتْهُ، لَزِمَتْهَا الْفِدْيَةُ. وَإِذَا سَتَرَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ رَأْسَهُ فَقَطْ، أَوْ وَجْهَهُ فَقَطْ فَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ سَتَرَهُمَا وَجَبَتْ. فَرْعٌ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ، وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يَحْرُمُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» وَ «الْإِمْلَاءِ» ، وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ. وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمُ فَلَا فِدْيَةَ. وَلَوِ اخْتَضَبَتْ وَلَفَّتْ عَلَى يَدَيْهَا خِرْقَةً فَوْقَ الْخِضَابِ، أَوْ لَفَّتْهَا بِلَا خِضَابٍ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ كَالْقُفَّازَيْنِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إِنْ لَمْ تَشُدَّ الْخِرْقَةَ، فَلَا فِدْيَةَ وَإِلَّا فَالْقَوْلَانِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْفِدْيَةَ، فَهَلْ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْحِنَّاءِ؟ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الرَّجُلِ إِذَا خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ. وَلَوِ اتَّخَذَ الرَّجُلُ لِسَاعِدِهِ، أَوْ لِعُضْوٍ آخَرَ شَيْئًا مَخِيطًا، أَوْ لِلِحْيَتِهِ خَرِيطَةً يُغَلِّفُهَا بِهَا إِذَا خَضَّبَهَا، فَهَلْ يُلْحَقُ بِالْقُفَّازَيْنِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. وَالْأَصَحُّ:

الْإِلْحَاقُ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ اجْتِنَابُ الْمَلَابِسِ الْمُعْتَادَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ. فَرْعٌ أَمَّا الْمَعْذُورُ فَفِيهِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: لَوِ احْتَاجَ الرَّجُلُ إِلَى سَتْرِ الرَّأْسِ، أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ لَعُذْرٍ، كَحَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، أَوْ مُدَاوَاةٍ، أَوِ احْتَاجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى سَتْرِ الْوَجْهِ جَازَ وَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ. الثَّانِيَةُ: لَوْ لَمْ يَجِدِ الرَّجُلُ الرِّدَاءَ، لَمْ يَجُزْ لُبْسُ الْقَمِيصِ، بَلْ يَرْتَدِي بِهِ. وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ وَوَجَدَ السَّرَاوِيلَ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ إِزَارٌ لِصِغَرِهِ، أَوْ لِفَقْدِ آلَةِ الْخِيَاطَةِ، أَوْ لِخَوْفِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْقَافِلَةِ، فَلَهُ لُبْسُهُ، وَلَا فِدْيَةَ. وَإِنْ تَأَتَّى، فَلَبِسَهُ عَلَى حَالِهِ، فَلَا فِدْيَةَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا لَبِسَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ، ثُمَّ وَجَدَ الْإِزَارَ، وَجَبَ نَزْعُهُ. فَإِنْ أَخَّرَ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ. الثَّالِثَةُ: لَوْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، لَبِسَ الْمُكَعَّبَ، أَوْ قَطَعَ الْخُفَّ أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبِ وَلَبِسَهُ. وَلَا يَجُوزُ لُبْسُ الْمُكَعَّبِ وَالْخُفِّ الْمَقْطُوعِ مَعَ وُجُودِ التَّعَيُّنِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ لَبِسَ الْمَقْطُوعَ لِفَقْدِ النَّعْلَيْنِ، ثُمَّ وَجَدَهُمَا وَجَبَ نَزْعُهُ. فَإِنْ أَخَّرَ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ. وَإِذَا جَازَ لُبْسُ الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ لَمْ يَضُرَّ اسْتِتَارُ ظَهْرِ الْقَدَمِ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِفَقْدِ الْإِزَارِ وَالنَّعْلِ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِهِ، إِمَّا لِفَقْدِهِ، وَإِمَّا لِعَدَمِ بَذْلِ مَالِكِهِ، وَإِمَّا لِعَجْزِهِ عَنْ ثَمَنِهِ أَوْ أُجْرَتِهِ. وَلَوْ بِيعَ بِغَبْنٍ، أَوْ نَسِيئَةٍ، أَوْ وُهِبَ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ. وَإِنْ أُعِيرَ وَجَبَ قَبُولُهُ. النَّوْعُ الثَّانِي: التَّطَيُّبُ فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ قَصْدًا. فَأَمَّا الطِّيبُ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُعْظَمُ الْغَرَضِ مِنْهُ التَّطَيُّبَ، وَاتِّخَاذَ الطِّيبِ مِنْهُ، أَوْ يَظْهَرُ

فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ. فَالْمِسْكُ، وَالْكَافُورُ، وَالْعُودُ، وَالْعَنْبَرُ، وَالصَّنْدَلُ طِيبٌ. وَأَمَّا مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَأَنْوَاعٌ. مِنْهَا: مَا يُطْلَبُ لِلتَّطَيُّبِ وَاتِّخَاذِ الطِّيبِ مِنْهُ، كَالْوَرْدِ، وَالْيَاسَمِينِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَالْخَيْرِيِّ، وَالْوَرْسِ، فَكُلُّهُ طِيبٌ. وَحُكِيَ وَجْهٌ شَاذٌّ فِي الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْخَيْرِيِّ. وَمِنْهَا: مَا يُطْلَبُ لِلْأَكْلِ، أَوْ لِلتَّدَاوِي غَالِبًا، كَالْقَرَنْفُلِ، وَالدَّارَصِينِيِّ، وَالسُّنْبُلِ، وَسَائِرِ الْأَبَازِيرِ الطَّيِّبَةِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْأُتْرُجِّ، وَالنَّارِنْجِ، وَلَا فِدْيَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَمِنْهَا: مَا يُتَطَيَّبُ بِهِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ، كَالنَّرْجِسِ، وَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ، وَهُوَ الضَّيْمَرَانُ، وَالْمَرْزَنْجُوشُ وَنَحْوُهَا، فَفِيهَا قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ لَا فِدْيَةَ. وَالْجَدِيدُ: وَجُوبُهَا. وَأَمَّا الْبَنَفْسَجُ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ طِيبٌ. وَقِيلَ: لَا. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَالنَّيْلُوفَرُ، كَالنَّرْجِسِ. وَقِيلَ: طِيبٌ قَطْعًا. وَمِنْهَا: مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ، كَالشَّيْحِ، وَالْقَيْصُومِ، وَالشَّقَائِقِ، وَفِي مَعْنَاهَا نَوْرُ الْأَشْجَارِ، كَالتُّفَّاحِ وَالْكُمَّثْرَى وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَا الْعُصْفُرُ، وَالْحِنَّاءُ وَلَا فِدْيَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا. وَحَكَى بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَجْهًا: أَنَّهُ تُعْتَبَرُ عَادَةُ كُلِّ نَاحِيَةٍ فِيمَا يُتَّخَذُ طِيبًا، وَهَذَا غَلَطٌ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ. فَرْعٌ الْأَدْهَانُ ضَرْبَانِ. دُهْنٌ لَيْسَ بِطِيبٍ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، وَسَيَأْتِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَدُهْنٌ هُوَ طِيبٌ، فَمِنْهُ دُهْنُ الْوَرْدِ، وَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَمِنْهُ دُهْنُ الْبَنَفْسَجِ، فَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْفِدْيَةَ فِي نَفْسِ الْبَنَفْسَجِ، فَدُهْنُهُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَكَدُهْنِ الْوَرْدِ. ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى

أَنَّ مَا طُرِحَ فِيهِ الْوَرْدُ وَالْبَنَفْسَجُ، فَهُوَ دُهْنُهُمَا. وَلَوْ طُرِحَا عَلَى السِّمْسِمِ فَأَخَذَ رَائِحَةً، ثُمَّ اسْتُخْرِجَ مِنْهُ الدُّهْنُ، قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِدْيَةٌ، وَخَالَفَهُمُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَمِنْهُ الْبَانُ وَدُهْنُهُ، أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طِيبٌ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُمَا لَيْسَ بِطِيبٍ، وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونُ خِلَافًا مُحَقَّقًا، بَلْ هُمَا مَحْمُولَانِ عَلَى تَوَسُّطٍ حَكَاهُ صَاحِبَا «الْمُهَذِّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» ، وَهُوَ أَنَّ دُهْنَ الْبَانِ الْمَنْشُوشِ، وَهُوَ الْمَغْلِيُّ فِي الطِّيبِ طِيبٌ، وَغَيْرُ الْمَنْشُوشِ لَيْسَ بِطِيبٍ. قُلْتُ: وَفِي كَوْنِ دُهْنِ الْأُتْرُجِّ طِيبًا، وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ. وَقَطَعَ الدَّارِمِيُّ: بِأَنَّهُ طِيبٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ وَلَوْ أَكَلَ طَعَامًا فِيهِ زَعْفَرَانٌ، أَوْ طِيبٌ آخَرُ، أَوِ اسْتَعْمَلَ مَخْلُوطًا بِالطِّيبِ لَا بِجِهَةِ الْأَكْلِ نُظِرَ إِنِ اسْتُهْلِكَ الطِّيبُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ رِيحٌ وَلَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ، فَلَا فِدْيَةَ. وَإِنْ ظَهَرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ، أَوْ بَقِيَتِ الرَّائِحَةُ فَقَطْ وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ. وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ وَحْدَهُ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا فِدْيَةَ. وَقِيلَ: لَا فِدْيَةَ قَطْعًا. وَإِنْ بَقِيَ الطَّعْمُ فَقَطْ، فَكَالرَّائِحَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: كَاللَّوْنِ. وَلَوْ أَكَلَ الْخُلُنْجِينَ الْمُرَبَّى بِالْوَرْدِ نُظِرَ فِي اسْتِهْلَاكِ الْوَرْدِ فِيهِ وَعَدَمِهِ، وَخُرِّجَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَالرُّويَانِيُّ: لَوْ أَكَلَ الْعُودَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَطَيِّبًا بِهِ إِلَّا بِأَنْ يَتَبَخَّرَ بِهِ، بِخِلَافِ الْمِسْكِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ لَوْ خَفِيَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ، أَوِ الثَّوْبِ الْمُطَيَّبِ لِمُرُورِ الزَّمَانِ، أَوْ لِغُبَارٍ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَاحَتْ رَائِحَتُهُ، حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ. وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوِ انْغَمَرَ شَيْءٌ مِنَ الطِّيبِ فِي غَيْرِهِ كَمَاءِ وَرْدٍ انْمَحَقَ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ، لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَلَوِ انْغَمَرَتِ الرَّائِحَةُ وَبَقِيَ اللَّوْنُ أَوِ الطَّعْمُ، فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. فَرْعٌ فِي بَيَانِ الِاسْتِعْمَالِ هُوَ أَنْ يَلْصَقَ الطِّيبُ بِبَدَنِهِ، أَوْ مَلْبُوسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فِي ذَلِكَ الطِّيبِ. فَلَوْ طَيَّبَ جُزْءًا مِنْ بَدَنِهِ بِغَالِيَةٍ، أَوْ مِسْكٍ مَسْحُوقٍ، أَوْ مَاءِ وَرْدٍ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ الْإِلْصَاقُ بِظَاهِرِ الْبَدَنِ أَوْ بَاطِنِهِ، بِأَنْ أَكَلَهُ أَوِ احْتَقَنَ بِهِ، أَوِ اسْتَعَطَ. وَقِيلَ: لَا فِدْيَةَ فِي الْحُقْنَةِ وَالسَّعُوطِ، وَلَوْ عَبِقَ بِهِ الرِّيحُ دُونَ الْعَيْنِ بِأَنْ جَلَسَ فِي دُكَّانِ عَطَّارٍ، أَوْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُبَخَّرُ، أَوْ فِي بَيْتٍ تَبَخَّرَ سَاكِنُوهُ فَلَا فِدْيَةَ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْمَوْضِعَ لِاشْتِمَامِ الرَّائِحَةِ، لَمْ يُكْرَهْ، وَإِلَّا كُرِهَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: يُكْرَهُ قَطْعًا. وَالْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ وَلَوِ احْتَوَى عَلَى مِجْمَرَةٍ فَتَبَخَّرَ بِالْعُودِ بَدَنُهُ، أَوْ ثِيَابُهُ، لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ. فَلَوْ مَسَّ طِيبًا فَلَمْ يَعْلُقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ عَيْنِهِ، لَكِنْ عَبِقَتْ بِهِ الرَّائِحَةُ

، فَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ شَدَّ الْمِسْكَ، أَوِ الْعَنْبَرَ، أَوِ الْكَافُورَ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ، أَوْ وَضَعَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي جَيْبِهَا، أَوْ لَبِسَتِ الْحُلِيَّ الْمَحْشُوَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُهُ. قُلْتُ: وَلَوْ شَدَّ الْعُودَ فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَطَيُّبًا بِخِلَافِ شَدِّ الْمِسْكِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ شَمَّ الْوَرْدَ، فَقَدْ تَطَيَّبَ. وَلَوْ شَمَّ مَاءَ الْوَرْدِ، فَلَا بَلِ اسْتِعْمَالُهُ أَنْ يَصُبَّهُ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ. وَلَوْ حَمَلَ مِسْكًا أَوْ طِيبًا غَيْرَهُ، فِي كِيسٍ، أَوْ خِرْقَةٍ مَشْدُودَةٍ، أَوْ قَارُورَةٍ مُصَمَّمَةِ الرَّأْسِ، أَوْ حَمَلَ الْوَرْدَ فِي ظَرْفٍ، فَلَا فِدْيَةَ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» . وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَشُمُّ قَصْدًا لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ. وَلَوْ حَمَلَ مِسْكًا فِي فَأْرَةٍ غَيْرِ مَشْقُوقَةٍ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ كَانَتِ الْفَأْرَةُ مَشْقُوقَةً، أَوِ الْقَارُورَةُ مَفْتُوحَةَ الرَّأْسِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَطَيُّبًا. وَلَوْ جَلَسَ عَلَى فِرَاشٍ مُطَيَّبٍ، أَوْ أَرْضٍ مُطَيَّبَةٍ، أَوْ نَامَ عَلَيْهَا مُفْضِيًا بِبَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ إِلَيْهَا، لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ. فَلَوْ فَرَشَ فَوْقَهُ ثَوْبًا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، أَوْ نَامَ لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ. لَكِنْ إِنْ كَانَ الثَّوْبُ رَقِيقًا كُرِهَ. وَلَوْ دَاسَ بِنَعْلِهِ طِيبًا لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ. فَرْعٌ فِي بَيَانِ الْقَصْدِ فَلَوْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الطِّيبِ فَلَا فِدْيَةَ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: تَجِبُ وَلَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الِاسْتِعْمَالِ، وَجَهِلَ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ.

وَلَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ، وَجَهِلَ كَوْنَ الْمَمْسُوسِ طِيبًا، فَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَلَوْ مَسَّ طِيبًا رَطْبًا وَهُوَ يَظُنُّهُ يَابِسًا لَا يَعْلُقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ قَوْلَانِ. رَجَّحَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: الْوُجُوبَ. وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : أَنَّهُ الْقَوْلُ الْجَدِيدُ. وَمَتَى لَصِقَ الطِّيبُ بِبَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ بِأَنْ كَانَ نَاسِيًا، أَوْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ عَلَيْهِ لَزِمَهُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى غَسْلِهِ، أَوْ يُنَحِّيَهُ أَوْ يُعَالِجَهُ بِمَا يَقْطَعُ رِيحَهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِإِزَالَتِهِ، فَإِنْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَضُرَّ، فَإِنْ أَخَّرَ إِزَالَتَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فَإِنْ كَانَ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِزَالَةِ فَلَا فِدْيَةَ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى التَّطَيُّبِ، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . قُلْتُ: وَلَوْ لَصَقَ بِهِ طِيبٌ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ لَزِمَهُ أَيْضًا الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِزَالَتِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. النَّوْعُ الثَّالِثُ: دَهْنُ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، قَدْ سَبَقَ أَنَّ الدُّهْنَ مُطَيِّبٌ وَغَيْرُهُ. فَالْمُطَيِّبُ: سَبَقَ. وَأَمَّا غَيْرُهُ: كَالزَّيْتِ، وَالشَّيْرَجِ، وَالسَّمْنِ، وَالزُّبْدِ، وَدُهْنِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ، فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ. فَلَوْ كَانَ أَقْرَعَ، أَوْ أَصْلَعَ، فَدَهَنَ رَأْسَهُ. أَوْ أَمَرَدَ، فَدَهَنَ ذَقْنَهُ فَلَا فِدْيَةَ. وَإِنْ كَانَ مَحْلُوقَ الرَّأْسِ وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ هَذَا الدُّهْنِ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ، وَيَجُوزُ أَكْلُهُ. وَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ شَجَّةٌ، فَجَعَلَ هَذَا الدُّهْنَ فِي دَاخِلِهَا فَلَا فِدْيَةَ. فَرْعٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ، وَيُزِيلَ الْوَسَخَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: يُكْرَهُ عَلَى الْقَدِيمِ. وَلَهُ غَسْلُ رَأْسِهِ بِالسِّدْرِ وَالْخَطْمِيِّ لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمْهُورُ كَرَاهَتَهُ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ كَرَاهَتَهُ عَلَى الْقَدِيمِ. وَإِذَا غَسَلَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفُقَ، لِئَلَّا يَنْتِفَ شَعْرَهُ.

فَرْعٌ يَحْرُمُ الِاكْتِحَالُ بِمَا فِيهِ طِيبٌ، وَيَجُوزُ بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ. ثُمَّ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَفِي «الْإِمْلَاءِ» : أَنَّهُ يُكْرَهُ. وَتَوَسَّطَ قَوْمٌ، فَقَالُوا: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ، كَالتُّوتِيَاءِ الْأَبْيَضِ لَمْ يُكْرَهْ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ [زِينَةٌ] كَالْإِثْمِدِ، كُرِهَ إِلَّا لِحَاجَةِ الرَّمَدِ وَنَحْوِهِ. فَرْعٌ نَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اخْتِلَافَ قَوْلٍ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ إِذَا خَضَّبَ الرَّجُلُ لِحْيَتَهُ، وَعَنِ الْأَصْحَابِ طُرُقٌ فِي مَأْخَذِهِ. أَحَدُهَا: التَّرَدُّدُ فِي أَنَّ الْحِنَّاءَ طِيبٌ أَمْ لَا، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. وَالْأَصْحَابُ قَاطِعُونَ: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ كَمَا سَبَقَ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ يُخَضِّبُ قَدْ يَتَّخِذُ لِمَوْضِعِ الْخِضَابِ غُلَافًا يُحِيطُ بِهِ، فَهَلْ يُلْحَقُ بِالْمَلْبُوسِ الْمُعْتَادِ؟ وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ. الثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْخِضَابَ تَزْيِينٌ لِلشَّعْرِ، فَتَرَدَّدَ الْقَوْلُ فِي إِلْحَاقِهِ بِالدُّهْنِ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَلْتَحِقُ، وَلَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ فِي خِضَابِ اللِّحْيَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: فَعَلَى الْمَأْخَذِ الْأَوَّلِ: لَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا خَضَّبَتْ يَدَهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ. وَعَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ: يَجْرِي التَّرَدُّدُ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ خِضَابِ يَدِهَا وَشَعْرِ الرِّجْلِ. فَرْعٌ

لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَفْتَصِدَ وَيَحْتَجِمَ مَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا. وَلَا بَأْسَ بِنَظَرِهِ فِي الْمِرْآةِ. وَنُقِلَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرِهَهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. قُلْتُ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ. وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ إِنْشَادُ الشِّعْرِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْحَلَالِ إِنْشَادُهُ. وَالسُّنَّةُ: أَنْ يُلَبِّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ أَنْ يَعْقِصَ شَعْرَهُ وَيَضْرِبَ عَلَيْهِ الْخَطْمِيَّ أَوِ الصَّمْغَ أَوْ غَيْرَهُمَا لِدَفْعِ الْقَمْلِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ صَحَّتْ فِي اسْتِحْبَابِهِ الْأَحَادِيثُ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ وَصَرَّحُوا بِاسْتِحْبَابِهِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» أَيْضًا عَنِ الْأَصْحَابِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْحَلْقُ وَالْقَلْمُ، فَتَحْرُمُ إِزَالَةُ الشَّعْرِ قَبْلَ وَقْتِ التَّحَلُّلِ، وَتَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ فِيهِ شَعْرُ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ، وَسَوَاءٌ الْإِزَالَةُ بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ أَوِ النَّتْفِ أَوِ الْإِحْرَاقِ أَوْ غَيْرِهَا. وَإِزَالَةُ الظُّفْرِ كَإِزَالَةِ الشَّعْرِ سَوَاءٌ قَلَّمَهُ أَوْ كَسَرَهُ، أَوْ قَطَعَهُ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ أَوْ بَعْضَ أَصَابِعِهِ وَعَلَيْهَا شَعْرٌ أَوْ ظُفْرٌ فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّهُمَا تَابِعَانِ غَيْرُ مَقْصُودَيْنِ. وَلَوْ كَشَطَ جِلْدَةَ الرَّأْسِ فَلَا فِدْيَةَ، وَالشَّعْرُ تَابِعٌ. وَشَبَّهُوهُ بِمَا إِذَا أَرْضَعَتِ امْرَأَتُهُ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ، بَطَلَ النِّكَاحُ وَلَزِمَهَا مَهْرُ الصَّغِيرَةِ. وَلَوْ قَتَلَتْهَا، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهَا لِانْدِرَاجِ الْبِضْعِ فِي الْقَتْلِ. وَلَوْ مَشَّطَ لِحْيَتَهُ، فَنَتَفَ شَعْرًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَإِنْ شَكَّ هَلْ كَانَ مُنْسَلًّا، أَوِ انْتُتِفَ بِالْمُشْطِ؟ فَلَا فِدْيَةَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ.

فَرْعٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الدِّمَاءِ أَنَّ فِدْيَةَ الْحَلْقِ وَالْقَلْمِ لَهَا خِصَالٌ. إِحْدَاهَا: إِرَاقَةُ دَمٍ، فَلَا يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ كَمَالِ الدَّمِ عَلَى حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلَا عَلَى قَلْمِ جَمِيعِ الْأَظْفَارِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ يَكْمُلُ الدَّمُ فِي ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَظْفَارٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَظْفَارِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ، أَوْ مِنْهُمَا. هَذَا إِذَا أَزَالَهَا دُفْعَةً فِي مَكَانٍ. فَإِنْ فَرَّقَ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا، فَسَيَأْتِي بَعْدَ النَّوْعِ السَّابِعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ حَلَقَ شَعْرَةً أَوْ شَعْرَتَيْنِ، فَأَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ: أَنَّ فِي الشَّعْرَةِ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ، وَفِي شَعْرَتَيْنِ مُدَّيْنِ. وَالثَّانِي: فِي شَعْرَةٍ دِرْهَمٌ، وَفِي شَعْرَتَيْنِ دِرْهَمَانِ. وَالثَّالِثُ: فِي شَعْرَةٍ ثُلُثُ دَمٍ، وَفِي شَعْرَتَيْنِ ثُلُثَاهُ. وَالرَّابِعُ: فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ دَمٌ كَامِلٌ. وَالظُّفْرُ كَالشَّعْرَةِ، وَالظُّفْرَانِ، كَالشَّعْرَتَيْنِ. وَلَوْ قَلَمَ دُونَ الْمُعْتَادِ، فَكَتَقْصِيرِ الشَّعْرِ. وَلَوْ أَخَذَ مِنْ بَعْضِ جَوَانِبِهِ، وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ رَأْسَ الظُّفْرِ، فَإِنْ قُلْنَا: فِي الظُّفْرِ الْوَاحِدِ دَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ، وَجَبَ بِقِسْطِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: مُدٌّ لَمْ يُبَعَّضْ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي سَبَقَ فِي الْحَلْقِ لِغَيْرِ عُذْرٍ. فَأَمَّا الْحَلْقُ لِعُذْرٍ فَلَا إِثْمَ فِيهِ. وَأَمَّا الْفِدْيَةُ، فَفِيهَا صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: لَوْ كَثُرَ الْقَمْلُ فِي رَأْسِهِ، أَوْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَحْوَجَهُ أَذَاهَا إِلَى الْحَلْقِ، أَوْ تَأَذَّى بِالْحَرِّ لِكَثْرَةِ شَعْرِهِ فَلَهُ الْحَلْقُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.

الثَّانِيَةُ: لَوْ نَبَتَتْ شَعْرَةٌ أَوْ شَعَرَاتٌ دَاخِلَ جَفْنِهِ، وَتَأَذَّى بِهَا قَلَعَهَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَلَوْ طَالَ شَعْرُ حَاجِبِهِ أَوْ رَأْسِهِ، وَغَطَّى عَيْنَهُ، قَطَعَ قَدَرَ الْمُغَطَّى، وَلَا فِدْيَةَ. وَكَذَا لَوِ انْكَسَرَ بَعْضُ ظُفْرِهِ، وَتَأَذَّى بِهِ قَطَعَ الْمُنْكَسِرَ، وَلَا يَقْطَعُ مَعَهُ مِنَ الصَّحِيحِ شَيْئًا. الثَّالِثَةُ: ذَكَرْنَا أَنَّ النِّسْيَانَ يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ فِي الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَكَذَا حُكْمُ مَا عَدَا الْوَطْءَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعَاتِ، كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسَ بِشَهْوَةٍ. وَفِي وَطْءِ النَّاسِي، خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَلْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِالْحَلْقِ وَالْقَلْمِ نَاسِيًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تَجِبُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَالثَّانِي: مُخَرَّجٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ لَهُ فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا حَلَقَ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، كَمُغْمًى عَلَيْهِ. وَلَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ نَاسِيًا، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ كَالْحَلْقِ. وَقِيلَ: تَجِبُ قَطْعًا. فَرْعٌ لِلْمُحْرِمِ حَلْقُ شَعْرِ الْحَلَالِ. وَلَوْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ أَوِ الْحَلَالُ شَعْرَ الْمُحْرِمِ أَثِمَ. فَإِنْ حَلَقَ بِإِذْنِهِ، فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْمَحْلُوقِ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ نَائِمًا، أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْفِدْيَةُ عَلَى الْحَالِقِ، وَالثَّانِي: عَلَى الْمَحْلُوقِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوِ امْتَنَعَ الْحَالِقُ مِنَ الْفِدْيَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ، فَهَلْ لِلْمَحْلُوقِ مُطَالَبَتُهُ بِإِخْرَاجِهَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: نَعَمْ. وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَحْلُوقُ الْفِدْيَةَ بِإِذْنِ الْحَالِقِ جَازَ، وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهَا أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْفِدْيَةُ عَلَى الْمَحْلُوقِ، نُظِرَ إِنْ فَدَى بِالْهَدْيِ أَوِ الْإِطْعَامِ، رَجَعَ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْإِطْعَامِ، وَقِيمَةُ الشَّاةِ عَلَى الْحَالِقِ. وَإِنْ فَدَى بِالصَّوْمِ فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يَرْجِعُ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ بِثَلَاثَةِ أَمْدَادٍ مِنْ طَعَامٍ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ صَوْمِهِ. وَالثَّالِثُ: يَرْجِعُ بِمَا يَرْجِعُ بِهِ لَوْ فَدَى بِالْهَدْيِ أَوِ الْإِطْعَامِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَرْجِعُ

، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ثُمَّ يُخْرِجَ. وَهَلْ لِلْحَالِقِ أَنْ يَفْدِيَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؟ أَمَّا بِالصَّوْمِ فَلَا، وَأَمَّا بِغَيْرِهِ فَنَعَمْ، لَكِنْ بِإِذْنِ الْمَحْلُوقِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَائِمًا وَلَا مُكْرَهًا وَلَا مُغْمًى عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ سَكَتَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَلْقِ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: هُوَ كَمَا لَوْ حَلَقَ بِإِذْنِهِ، وَالثَّانِي: كَمَا لَوْ حَلَقَهُ نَائِمًا. وَلَوْ أَمَرَ حَلَالٌ حَلَالًا بِحَلْقِ شَعْرِ مُحْرِمٍ نَائِمٍ، فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْآَمِرِ إِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَالِقُ الْحَالَ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَلَوْ طَارَتْ نَارٌ إِلَى شَعْرِهِ فَأَحْرَقَتْهُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِطْفَاؤُهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَمَنْ حُلِقَ رَأَسُهُ وَهُوَ سَاكِتٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْجِمَاعُ. وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ إِنْ وَقَعَ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ، سَوَاءٌ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ. وَإِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَفْسُدْ عَلَى الْمَذْهَبِ: وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَفْسُدُ. وَقَوْلٌ قَدِيمٌ: أَنَّهُ يَخْرُجُ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ، وَيُجَدِّدُ مِنْهُ إِحْرَامًا، وَيَأْتِي بِعَمَلِ عُمْرَةٍ. وَتَفْسُدُ الْعُمْرَةُ أَيْضًا بِالْجِمَاعِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا إِلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قُلْنَا: الْحَلْقُ نُسُكٌ، فَهُوَ مِمَّا يَقِفُ التَّحَلُّلُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَاللِّوَاطُ كَالْجِمَاعِ. وَكَذَا إِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ مَا سِوَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا حُرْمَةَ لَهَا بَعْدَ الْفَسَادِ، وَيُخْرَجُ مِنْهَا بِالْفَسَادِ. وَأَمَّا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، فَيَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِمَا، وَهُوَ إِتْمَامُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ لَوْلَا الْفَسَادُ.

فَرْعٌ يَجِبُ عَلَى مُفْسِدِ الْحَجِّ [بِالْجِمَاعِ] بَدَنَةٌ. وَعَلَى مُفْسِدِ الْعُمْرَةِ أَيْضًا بَدَنَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَ [عَلَى] الثَّانِي: شَاةٌ. وَلَوْ جَامَعَ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ، وَقُلْنَا: لَا يَفْسُدُ، لَزِمَهُ شَاةٌ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبَدَنَةٌ عَلَى الثَّانِي. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. وَلَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ بِالْجِمَاعِ، ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيًا، فَفِيهِ خِلَافٌ تَجْمَعُهُ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا: يَجِبُ بِالْجِمَاعِ الثَّانِي شَاةٌ. وَالثَّانِي: بَدَنَةٌ. وَالثَّالِثُ: لَا شَيْءَ فِيهِ. وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ، فَدَى الثَّانِي، وَإِلَّا فَلَا. وَالْخَامِسُ: إِنْ طَالَ الزَّمَانُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ، أَوِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ فَدَى [عَنِ] الثَّانِي، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ يَجِبُ عَلَى مُفْسِدِ الْحَجِّ الْقَضَاءُ بِالِاتِّفَاقِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا، وَيَقَعُ الْقَضَاءُ عَنِ الْمُفْسِدِ. فَإِنْ كَانَ فَرْضًا وَقَعَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَعَنْهُ. وَلَوْ أَفْسَدَ الْقَضَاءَ بِالْجِمَاعِ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَزِمَهُ قَضَاءٌ وَاحِدٌ. وَيُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِي عَامِ الْإِفْسَادِ، بِأَنْ يُحْصَرَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ وَيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ، فَيَتَحَلَّلَ ثُمَّ يَزُولُ الْحَصْرُ وَالْوَقْتُ بَاقٍ، فَيَشْتَغِلُ بِالْقَضَاءِ. وَفِي وَقْتِ الْقَضَاءِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى الْفَوْرِ. وَالثَّانِي: عَلَى التَّرَاخِي. فَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ فِي الْأَدَاءِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِهَا لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ فِي الْقَضَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. فَإِنْ جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَزِمَهُ دَمٌ. كَالْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ. وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ أَحْرَمَ مِنْهُ فِي الْقَضَاءِ. وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، نُظِرَ إِنْ جَاوَزَهُ مُسِيئًا لَزِمَهُ فِي الْقَضَاءِ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسِئَ ثَانِيًا. وَهَذَا

مَعْنَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ: يُحْرِمُ فِي الْقَضَاءِ مِنْ أَغْلَظِ الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْمِيقَاتِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ فِي الْأَدَاءِ. وَإِنْ جَاوَزَهُ غَيْرَ مُسِيءٍ، بِأَنْ لَمْ يُرِدِ النُّسُكَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَأَحْرَمَ ثُمَّ أَفْسَدَ فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ. وَالثَّانِي: لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَسْلُكَ بِالْقَضَاءِ مَسْلَكَ الْأَدَاءِ. وَلِهَذَا لَوِ اعْتَمَرَ مِنَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، وَأَفْسَدَهُ كَفَاهُ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ نَفْسِ مَكَّةَ. وَلَوْ أَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، ثُمَّ أَفْسَدَهَا، كَفَاهُ أَنْ يُحْرِمَ فِي قَضَائِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ. وَالْوَجْهَانِ فِيمَنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ. أَمَّا لَوْ رَجَعَ ثُمَّ عَادَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَلَا يَجِبُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْقَضَاءِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ بِالْأَدَاءِ، بَلْ لَهُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْمَكَانِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّرْعِ بِالْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ أَكْمَلُ، فَإِنَّ مَكَانَ الْإِحْرَامِ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَزَمَانَهُ لَا يَتَعَيَّنُ. حَتَّى لَوْ نَذَرَ الْإِحْرَامَ فِي شَوَّالٍ لَهُ تَأْخِيرُهُ. وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا الِاسْتِشْهَادَ لَا يَخْلُو مِنْ نِزَاعٍ. قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ، أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ الَّذِي سَلَكَهُ فِي الْأَدَاءِ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ إِذَا سَلَكَ غَيْرَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ قَدْرِ مَسَافَةِ الْإِحْرَامِ فِي الْأَدَاءِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُحْرِمَةً أَيْضًا، نُظِرَ إِنْ جَامَعَهَا مُكْرَهَةً أَوْ نَائِمَةً، لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهَا. وَإِنْ كَانَتْ طَائِعَةً عَالِمَةً فَسَدَ. وَحِينَئِذٍ، هَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ فَقَطْ بَدَنَةٌ عَنْ نَفْسِهِ؟ أَمْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ عَنْهُ وَعَنْهَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، كَالصَّوْمِ. وَقَطَعَ قَاطِعُونَ بِإِلْزَامِهَا الْبَدَنَةَ. وَإِذَا خَرَجَتِ الزَّوْجَةُ لِلْقَضَاءِ

، فَهَلْ يَلْزَمُ الزَّوْجَ مَا زَادَ مِنَ النَّفَقَةِ بِسَبَبِ السَّفَرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ. وَإِذَا خَرَجَا لِلْقَضَاءِ مَعًا، اسْتُحِبَّ أَنْ يَفْتَرِقَا مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ. فَإِذَا وَصَلَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ، فَقَوْلَانِ. قَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا تَجِبُ الْمُفَارَقَةُ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: تَجِبُ. فَرْعٌ ذَكَرْنَا فِي كَوْنِ الْقَضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ وَجْهَيْنِ. قَالَ الْقَفَّالُ: هُمَا جَارِيَانِ فِي كُلِّ كَفَّارَةٍ وَجَبَتْ بِعُدْوَانٍ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ، عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ. وَالْكَفَّارَةُ بِلَا عُدْوَانٍ، عَلَى التَّرَاخِي قَطْعًا. وَأَجْرَى الْإِمَامُ الْخِلَافَ فِي الْمُتَعَدِّي بِتَرْكِ الصَّوْمِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ انْقِسَامُ قَضَاءِ الصَّوْمِ إِلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْمُتَعَدِّي بِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ بِلَا خِلَافٍ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي. وَرُبَّمَا رَجَّحَهُ الْعِرَاقِيُّونَ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَعَدِّي، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَجْهٌ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» . فَرْعٌ يَجُوزُ لِلْمُفْرِدِ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ إِذَا أَفْسَدَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مَعَ الْآخَرِ قَارِنًا، وَأَنْ يَتَمَتَّعَ. وَيَجُوزُ لِلْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ الْقَضَاءُ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ. وَلَا يَسْقُطُ دَمُ الْقِرَانِ بِالْقَضَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ. وَإِذَا جَامَعَ الْقَارِنُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَسَدَ نُسُكَاهُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ، لِاتِّحَادِ الْإِحْرَامِ، وَيَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ مَعَ الْبَدَنَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ

، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. ثُمَّ إِذَا اشْتَغَلَ بِقَضَائِهِمَا، فَإِنْ قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ، فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ، وَإِلَّا فَقَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَمَالَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: وُجُوبُ دَمٍ آخَرَ إِذَا أَفْرَدَ فِي الْقَضَاءِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَمِمَّنْ قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ، وَالْمُتَوَلِّي، وَخَلَائِقُ آخَرُونَ، وَهُوَ مُرَادُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْفَرْعِ: لَا يَسْقُطُ دَمُ الْقِرَانِ، لَكِنَّهُ نَاقَضَهُ بِهَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَسْقُطْ وَاحِدٌ مِنْ نُسُكَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ أَتَى بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، أَمْ لَا. وَفِيهِ وَجْهٌ قَالَهُ الْأَوْدَنِيُّ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، كَسَدَتْ عُمْرَتُهُ. وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ فِي الْقِرَانِ تَتْبَعُ الْحَجَّ. وَلِهَذَا يَحِلُّ لِلْقَارِنِ مُعْظَمُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ وَلَوْ قَدِمَ الْقَارِنُ مَكَّةَ، وَطَافَ وَسَعَى، ثُمَّ جَامَعَ بَطَلَ نُسُكَاهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ. فَرْعٌ إِذَا فَاتَ الْقَارِنَ الْحَجُّ لِفَوَاتِ الْوُقُوفِ، فَهَلْ يَحْكُمُ بِفَوَاتِ عُمْرَتِهِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، تَبَعًا لِلْحَجِّ، كَمَا تَفْسُدُ بِفَسَادِهِ. وَالثَّانِي: لَا لِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِهَا. فَإِنْ قُلْنَا بِفَوَاتِهَا، فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِلْفَوَاتِ، وَلَا يَسْقُطُ دَمُ الْقِرَانِ. وَإِذَا قَضَاهُمَا، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَضَائِهِمَا عِنْدَ الْإِفْسَادِ. إِنْ قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ فَعَلَيْهِ الدَّمُ، وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ.

فصل

فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِي جِمَاعِ الْعَامِدِ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ. فَأَمَّا إِذَا جَامَعَ نَاسِيًا، أَوْ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، فَقَوْلَانِ. الْأَظْهَرُ: الْجَدِيدُ: لَا يَفْسُدُ. وَالْقَدِيمُ: يَفْسُدُ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْوَطْءِ، فَقِيلَ: وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى النَّاسِي، وَقِيلَ: يَفْسُدُ قَطْعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِكْرَاهَ الرَّجُلِ عَلَى الْوَطْءِ مُمْتَنِعٌ. وَلَوْ أَحْرَمَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فَجَامَعَ، فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي النَّاسِي. فَرْعٌ لَوْ أَحْرَمَ مُجَامِعًا. فَأَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يَنْعَقِدُ صَحِيحًا. فَإِنْ نَزَعَ فِي الْحَالِ، فَذَاكَ وَإِلَّا فَسَدَ نُسُكُهُ، وَعَلَيْهِ الْبَدَنَةُ، وَالْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَالْقَضَاءُ. وَالثَّانِي: يَنْعَقِدُ فَاسِدًا وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ سَوَاءٌ مَكَثَ، أَوْ نَزَعَ. وَلَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ إِنْ نَزَعَ فِي الْحَالِ وَإِنْ مَكَثَ وَجَبَتْ شَاةٌ فِي قَوْلٍ، وَبَدَنَةٌ فِي قَوْلٍ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا كَمَا لَا تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ مَعَ الْحَدَثِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّالِثُ: أَصَحُّهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ إِذَا ارْتَدَّ فِي أَثْنَاءِ حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَفْسُدُ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: لَا يَفْسُدُ، لَكِنْ لَا يُعْتَدُّ بِالْمَفْعُولِ فِي الرِّدَّةِ. وَلَا فَرْقَ عَلَى

الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ طُولِ زَمَنِهَا وَقِصَرِهِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْفَسَادِ فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَبْطُلُ النُّسُكُ مِنْ أَصْلِهِ، وَلَا يَمْضِي فِيهِ لَا فِي الرِّدَّةِ، وَلَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْإِفْسَادِ بِجِمَاعٍ، فَيَمْضِي فِي فَاسِدِهِ إِنْ أَسْلَمَ، لَكِنْ لَا كَفَّارَةَ. النَّوْعُ السَّادِسُ: مُقَدِّمَاتُ الْجِمَاعِ. فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرَمِ الْمُبَاشَرَةُ بِشَهْوَةٍ، كَالْمُفَاخَذَةِ، وَالْقُبْلَةِ، وَاللَّمْسِ بِالْيَدِ بِشَهْوَةٍ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ. وَفِي حُكْمِهَا بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ مَا سَبَقَ مِنَ الْخِلَافِ. وَمَتَى ثَبَتَ التَّحْرِيمُ فَبَاشَرَ عَمْدًا لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ. وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ مَحْضٌ. وَلَا يُفْسِدُ شَيْءٌ مِنْهَا نُسُكَهُ، وَلَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ بِحَالٍ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا، سَوَاءٌ أَنَزَلَ أَمْ لَا. وَالِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ، يُوجِبُ الْفِدْيَةَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ ثُمَّ جَامَعَ، هَلْ تَدْخُلُ الشَّاةُ فِي الْبَدَنَةِ، أَمْ تَجِبَانِ مَعًا؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: تَدْخُلُ. وَلَا يَحْرُمُ اللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي «الْوَسِيطِ» وَ «الْوَجِيزِ» : تَحْرُمُ كُلُّ مُبَاشَرَةٍ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَشَاذٌّ، بَلْ غَلَطٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ، وَلَا إِنْكَاحُهُ، وَلَا نِكَاحُ الْمُحْرِمَةِ. وَالْمُسْتَحَبُّ تَرْكُ الْخِطْبَةِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ. وَتَمَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. النَّوْعُ السَّابِعُ: الِاصْطِيَادُ. فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ صَيْدٍ مَأْكُولٍ، أَوْ فِي أَصْلِهِ مَأْكُولٌ لَيْسَ مَائِيًّا، وَحْشِيًّا كَانَ أَوْ فِي أَصْلِهِ وَحْشِيٌّ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَأْنَسِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ الْمَمْلُوكِ وَغَيْرِهِ. وَيَجِبُ فِي الْمَمْلُوكِ مَعَ الْجَزَاءِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ حَيًّا وَمَذْبُوحًا لِمَالِكِهِ، إِذَا رَدَّهُ إِلَيْهِ مَذْبُوحًا.

فصل

قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: [هَذَا إِذَا قُلْنَا] : ذَبِيحَةُ الْمُحْرِمِ حَلَالٌ، فَإِنْ قُلْنَا: مَيْتَةٌ، لَزِمَهُ لَهُ كُلُّ الْقِيمَةِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَإِذَا قُلْنَا: مَيْتَةٌ فَالْجِلْدُ لِلْمَالِكِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا جَزَاءَ فِي الْمَمْلُوكِ. وَلَوْ تَوَحَّشَ حَيَوَانٌ إِنْسِيٌّ لَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ. وَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لِأَجْزَاءِ الصَّيْدِ، بِالْجَرْحِ وَالْقَطْعِ. وَلَوْ جَرَحَهُ فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ، فَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَجِبُ بِنَقْصِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ بَرَأَ وَلَمْ يَبْقَ نَقْصٌ وَلَا أَثَرٌ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؟ وَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِي جِرَاحَةِ الْآدَمِيِّ إِذَا انْدَمَلَتْ وَلَمْ يَبْقَ نَقْصٌ وَلَا شَيْنٌ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ نُتِفَ رِيشُهُ فَعَادَ كَمَا كَانَ. وَبَيْضُ الطَّائِرِ الْمَأْكُولُ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ مَذَرَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِكَسْرِهَا، إِلَّا بَيْضَةَ النَّعَامَةِ، فَفِيهَا قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّ قِشْرَهَا قَدْ يُنْتَفَعُ بِهِ. وَلَوْ نَفَّرَ صَيْدًا عَنْ بَيْضَتِهِ الَّتِي حَضَنَهَا، فَفَسَدَتْ لَزِمَهُ قِيمَتُهَا. وَلَوْ أَخَذَ بَيْضَ دَجَاجَةٍ، فَأَحْضَنَهُ صَيْدًا، فَفَسَدَ بَيْضُ الصَّيْدِ، أَوْ لَمْ يَحْضُنْهُ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فَسَادَ بَيْضِهِ بِسَبَبِ ضَمِّ بَيْضِ الدَّجَاجَةِ إِلَيْهِ. وَلَوْ أَخَذَ بَيْضَ صَيْدٍ وَأَحْضَنَهُ دَجَاجَةً، فَهُوَ فِي ضَمَانَةٍ حَتَّى يَخْرُجَ الْفَرْخُ وَيَسْعَى. فَلَوْ خَرَجَ وَمَاتَ قَبْلَ الِامْتِنَاعِ لَزِمَهُ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ. وَلَوْ كَسَرَ بَيْضَةً فِيهَا فَرْخٌ لَهُ رُوحٌ، فَطَارَ وَسَلِمَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ مَاتَ، فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ وَلَوْ حَلَبَ لَبَنَ صَيْدٍ ضَمِنَهُ، قَالَهُ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: لَا يَضْمَنُ. فَصْلٌ مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ ضَرْبَانِ. مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مَأْكُولٌ، وَمَا أَحَدُ أَصْلَيْهِ مَأْكُولٌ.

فَالْأَوَّلُ: لَا يَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ بِالْإِحْرَامِ، وَلَا جَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ ثُمَّ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ: مَا يُسْتَحَبُّ قَتْلُهُ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ الْمُؤْذِيَاتُ، كَالْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْغُرَابِ، وَالْحِدَأَةِ، وَالذِّئْبِ، وَالْأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالدُّبِّ، وَالنَّسْرِ، وَالْعُقَابِ، وَالْبُرْغُوثِ، وَالْبَقِّ، وَالزُّنْبُورِ. وَلَوْ ظَهَرَ الْقَمْلُ عَلَى بَدَنِ الْمُحْرِمِ أَوْ ثِيَابِهِ، لَمْ يُكْرَهْ تَنْحِيَتُهُ. وَلَوْ قَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْلِيَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ. فَإِنْ فَعَلَ فَأَخْرَجَ مِنْهُمَا قَمْلَةً وَقَتَلَهَا، تَصَدَّقَ وَلَوْ بِلُقْمَةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا التَّصَدُّقُ مُسْتَحَبٌّ. وَقِيلَ: وَاجِبٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَالَةِ الْأَذَى عَنِ الرَّأْسِ. قُلْتُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: وَلِلصِّئْبَانِ حُكْمُ الْقَمْلِ، وَهُوَ بَيْضُ الْقَمْلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهُ: مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَمَضَرَّةٌ، كَالْفَهْدِ، وَالصَّقْرِ، وَالْبَازِي، فَلَا يُسْتَحَبُّ قَتْلُهَا لِنَفْعِهَا وَلَا يُكْرَهُ لِضَرَرِهَا. وَمِنْهُ: مَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا ضَرَرٌ، كَالْخَنَافِسِ وَالْجِعْلَانِ وَالسَّرَطَانِ، وَالرَّخَمِ وَالْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ بِعَقُورٍ، فَيُكْرَهُ قَتْلُهَا. وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النَّمْلِ، وَالنَّحْلِ، وَالْخُطَّافِ، وَالضُّفْدَعِ. وَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِ أَكْلِهِمَا. قُلْتُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الْكَلْبَ الَّذِي لَيْسَ بِعَقُورٍ يُكْرَهُ قَتْلُهُ، مُرَادُهُ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ. وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَالْمُرَادُ: الْكَلْبُ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ مُبَاحَةٌ. فَأَمَّا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِلَا شَكٍّ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَغَيْرُهُ. وَالْأَمْرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ مَنْسُوخٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا أَحَدُ أَصْلَيْهِ مَأْكُولٌ كَالْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ، وَبَيْنَ حِمَارَيِ الْوَحْشِ وَالْإِنْسِ، فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ، وَيَجِبُ الْجَزَاءُ فِيهِ.

فصل

قُلْتُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، فَلَمْ يَدْرِ أَخَالَطَهُ وَحْشِيٌّ مَأْكُولٌ، أَمْ لَا، اسْتُحِبَّ فِدَاؤُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْحَيَوَانُ الْإِنْسِيُّ: كَالنَّعَمِ، وَالْخَيْلِ، وَالدَّجَاجِ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ ذَبْحُهَا، وَلَا جَزَاءَ. وَالْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الْإِنْسِيِّ وَالْوَحْشِيِّ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الظَّبْيِ وَالشَّاةِ، أَوْ بَيْنَ الْيَعْقُوبِ وَالدَّجَاجَةِ، يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ. فَرْعٌ صَيْدُ الْبَحْرِ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ، وَهُوَ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ. أَمَّا مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَحَرَامٌ كَالْبَرِّيِّ. وَأَمَّا الطُّيُورُ الْمَائِيَّةُ الَّتِي تَغُوصُ فِي الْمَاءِ وَتَخْرُجُ، فَبَرِّيَّةٌ. وَالْجَرَادُ بَرِّيٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ. ب فَصْلٌ جِهَاتُ ضَمَانِ الصَّيْدِ ثَلَاثٌ: الْمُبَاشَرَةُ، وَالتَّسَبُّبُ، وَالْيَدُ. فَالْمُبَاشَرَةُ مَعْرُوفَةٌ. وَأَمَّا التَّسَبُّبُ، فَمَوْضِعُ ضَبَطِهِ كِتَابُ الْجِنَايَاتِ. وَيُذْكَرُ هُنَا صُوَرٌ: إِحْدَاهَا: لَوْ نَصَبَ الْحَلَالُ شَبَكَةً فِي الْحَرَمِ، أَوْ نَصَبَهَا الْمُحْرِمُ حَيْثُ كَانَ، فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ وَهَلَكَ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، سَوَاءٌ نَصَبَهَا فِي مِلْكِهِ أَوْ غَيْرِهِ.

قُلْتُ: وَلَوْ نَصَبَ الشَّبَكَةَ، أَوِ الْأُحْبُولَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، ثُمَّ أَحَرَمَ فَوَقَعَ بِهَا صَيْدٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَصَاحِبُ «الْبَحْرِ» وَغَيْرُهُمَا. وَهُوَ مَعْنَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا، أَوْ حَلَّ رِبَاطَهُ وَلَمْ يُرْسِلْهُ، فَأَتْلَفَ صَيْدًا، لَزِمَهُ ضَمَانُهُ. وَلَوِ انْحَلَّ الرِّبَاطُ لِتَقْصِيرِهِ فِيهِ، ضَمِنَ عَلَى الْمَذْهَبِ، هَذَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ صَيْدٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَرْسَلَ الْكَلْبَ أَوْ حَلَّ رِبَاطَهُ، فَظَهَرَ صَيْدٌ، ضِمِنَهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ حَمْلُ الْبَازِيِّ وَكُلِّ صَائِدٍ. فَإِنْ حَمَلَهُ فَأَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فَلَمْ يَقْتُلْهُ فَلَا جَزَاءَ، لَكِنْ يَأْثَمُ. وَلَوِ انْفَلَتَ بِنَفْسِهِ فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: لَوْ نَفَّرَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَعَثَرَ وَهَلَكَ بِهِ، أَوْ أَخَذَهُ سَبْعٌ، أَوِ انْصَدَمَ بِشَجَرَةٍ، أَوْ جَبَلٍ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، سَوَاءً قَصَدَ تَنْفِيرَهُ، أَمْ لَا، وَيَكُونُ فِي عُهْدَةِ التَّنْفِيرِ حَتَّى يَعُودَ الصَّيْدُ إِلَى عَادَتِهِ فِي السُّكُونِ. فَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ. وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ سُكُونِ النِّفَارِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَصَحِّ، إِذْ لَمْ يَتْلَفْ بِسَبَبِهِ وَلَا فِي يَدِهِ. وَوَجْهُ الثَّانِي: اسْتِدَامَةُ أَثَرِ النِّفَارِ. الرَّابِعَةُ: لَوْ حَفَرَ الْمُحْرِمُ بِئْرًا حَيْثُ كَانَ، أَوْ حَفَرَهَا حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ، فَهَلَكَ فِيهَا صَيْدٌ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ. وَلَوْ حَفَرَهَا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: يَضْمَنُ فِي الْحَرَمِ دُونَ الْإِحْرَامِ. قُلْتُ: وَقِيلَ: إِنْ حَفَرَهَا لِلصَّيْدِ، ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْحَاوِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ لَوْ دَلَّ الْحَلَالُ مُحْرِمًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ، وَجَبَ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَلَالِ، سَوَاءً كَانَ فِي يَدِهِ، أَمْ لَا، لَكِنَّهُ يَأْثَمُ. وَلَوْ دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُحْرِمِ، لَزِمَهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ حِفْظَهُ وَهُوَ وَاجِبٌ، فَصَارَ كَالْمُودَعِ إِذَا دَلَّ السَّارِقَ، وَإِلَّا فَلَا جَزَاءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ أَمْسَكَ مُحْرِمٌ صَيْدًا حَتَّى قَتَلَهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حَلَالًا، وَجَبَ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْحَلَالِ؟ وَجْهَانِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ حَرَامٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: نَعَمْ، وَبِهِ قُطِعَ فِي «التَّهْذِيبِ» كَمَا لَوْ غَصَبَ شَيْئًا فَأَتْلَفَهُ إِنْسَانٌ فِي يَدِهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا أَيْضًا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَزَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْقَاتِلِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْمُمْسِكَ يَضَمَنُهُ بِالْيَدِ، وَالْقَاتِلَ بِالْإِتْلَافِ. فَإِنْ أَخْرَجَ الْمُمْسِكُ الضَّمَانَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُتْلِفِ، وَإِنْ أَخْرَجَ الْمُتْلِفُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُمْسِكِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : لَوْ رَمَى حَلَالٌ صَيْدًا، ثُمَّ أَحْرَمَ، ثُمَّ أَصَابَهُ ضَمِنَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ رَمَى مُحْرِمٌ ثُمَّ تَحَلَّلَ، بِأَنَّ قَصَّرَ شَعْرَهُ، ثُمَّ أَصَابَهُ، فَوَجْهَانِ. وَلَوْ رَمَى صَيْدًا، فَنَفَذَ مِنْهُ إِلَى صَيْدٍ آخَرَ، فَقَتَلَهُمَا، ضَمِنَهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: الْيَدُ. فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الصَّيْدِ ابْتِدَاءً، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ، وَإِذَا أَخَذَهُ، ضَمِنَهُ كَالْغَاصِبِ. بَلْ لَوْ حَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبٍ فِي يَدِهِ، بِأَنْ كَانَ رَاكِبَ دَابَّةٍ، فَتَلَفَ صَيْدٌ بِعَضِّهَا، أَوْ رَفْسِهَا، أَوْ بَالَتْ فِي الطُّرُقِ، فَزَلِقَ بِهِ صَيْدٌ فَهَلَكَ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ. وَلَوِ انْفَلَتَ بَعِيرُهُ فَأَتْلَفَ صَيْدًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَى هَذَا كُلِّهِ. وَلَوْ تَقَدَّمَ ابْتِدَاءُ الْيَدِ عَلَى الْإِحْرَامِ، بِأَنْ كَانَ فِي يَدِهِ صَيْدٌ مَمْلُوكٌ لَهُ، لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ قَطْعًا، بَلْ يُسْتَحَبُّ. فَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْإِرْسَالَ، فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، لَهُ بَيْعُهُ وَهِبْتُهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ. فَإِنْ قَتَلَهُ، لَزِمَهُ الْجَزَاءُ. كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ، تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. وَلَوْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ، أَوْ قَتَلَهُ، لَزِمَهُ قِيمَتُهُ لِلْمَالِكِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَالِكِ. وَإِنْ أَوْجَبْنَا الْإِرْسَالَ، فَهَلْ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: يَزُولُ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ، أَوْ قَتَلَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَرْسَلَهُ الْمُحْرِمُ، فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ، مَلَكَهُ. وَلَوْ لَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى تَحَلَّلَ، لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. وَحَكَى الْإِمَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَيْنِ: فِي أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ بِنَفْسِ الْإِحْرَامِ، أَمِ الْإِحْرَامُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْإِرْسَالَ، فَإِذَا أَرْسَلَ، زَالَ حِينَئِذٍ؟ وَأَوَّلُهُمَا: أَشْبَهُ بِكَلَامِ الْجُمْهُورِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ، فَلَوْ أَخَذَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ. وَلَوْ قَتَلَهُ ضَمِنَهُ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: لَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ بَعْدَ إِمْكَانِ الْإِرْسَالِ، لَزِمَهُ الْجَزَاءُ، لِأَنَّهُمَا مُفَرَّعَانِ عَلَى وُجُوبِ الْإِرْسَالِ، وَهُوَ مُقَصِّرٌ بِالْإِمْسَاكِ. وَلَوْ مَاتَ الصَّيْدُ قَبْلَ إِمْكَانِ الْإِرْسَالِ، وَجَبَ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْإِرْسَالِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِلَا خِلَافٍ.

فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى الْمُحْرِمُ صَيْدًا، أَوِ اتَّهَبَهُ، أَوْ أُوصِيَ لَهُ بِهِ، فَقَبِلَ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ. فَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الصَّيْدِ بِالْإِحْرَامِ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَإِلَّا فَفِي صِحَّةِ الشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ قَوْلَانِ، كَشِرَاءِ الْكَافِرِ عَبْدًا مُسْلِمًا، فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْ هَذِهِ الْعُقُودَ فَلَيْسَ لَهُ الْقَبْضُ. فَإِنْ قَبَضَ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، لَزِمَهُ الْجَزَاءُ، وَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ لِلْبَائِعِ. فَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ سَقَطَتِ الْقِيمَةُ، وَلَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُ الْجَزَاءِ إِلَّا بِالْإِرْسَالِ. وَإِذَا أَرْسَلَ، كَانَ كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا مُرْتَدًّا فَقُتِلَ فِي يَدِهِ. وَفِيمَنْ يُتْلَفُ مِنْ ضَمَانِهِ، خِلَافٌ مَوْضِعُهُ كِتَابُ الْبَيْعِ. قُلْتُ: كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ هُنَا، أَنَّهُ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ، ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ لِلْآدَمِيِّ مَعَ الْجَزَاءِ، وَهَذَا فِي الشِّرَاءِ صَحِيحٌ، أَمَّا فِي الْهِبَةِ، فَلَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ كَالصَّحِيحِ فِي الضَّمَانِ، وَالْهِبَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ هَذَا الْخِلَافَ فِي كِتَابِ «الْهِبَةِ» : وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ مَاتَ لِلْمُحْرِمِ قَرِيبٌ يَمْلِكُ صَيْدًا، وَرِثَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: هُوَ كَالشِّرَاءِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَرِثُ، قَالَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ: يَزُولُ مِلْكُهُ عَقِبَ ثُبُوتِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَزُولُ عَنِ الصَّيْدِ بِالْإِحْرَامِ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ، خِلَافُهُ. لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا وَرِثَهُ لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ. فَإِنْ بَاعَهُ صَحَّ بَيْعُهُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُ الْجَزَاءِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَجَبَ الْجَزَاءُ عَلَى الْبَائِعِ. وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا

أَرْسَلَهُ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرِثُ، فَالْمِلْكُ فِي الصَّيْدِ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ. وَإِحْرَامُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّيْدِ مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ الْإِرْثِ، كَذَا قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: إِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ، فَيُوقَفُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ فَيَتَمَلَّكَهُ. قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْكَرْخِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ، بَلِ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ فِي الطَّرِيقَيْنِ. فَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ، وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ، وَصَاحِبُ «الْحَاوِي» ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبَا «الْعُدَّةِ» وَ «الْبَيَانِ» . قَالَ الدَّارِمِيُّ: فَإِنْ مَاتَ الْوَارِثُ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى صَيْدًا، فَوَجَدَهُ مَعِيبًا وَقَدْ أَحْرَمَ الْبَائِعُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالْإِرْثِ، رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الرَّدِّ إِضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي. وَلَوْ بَاعَ صَيْدًا وَهُوَ حَلَالٌ، فَأَحْرَمَ ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْأَصَحِّ كَالشِّرَاءِ، بِخِلَافِ الْإِرْثِ، فَإِنَّهُ قَهْرِيٌّ. فَرْعٌ لَوِ اسْتَعَارَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا، أَوْ أُودِعَ عِنْدَهُ، كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهُ. فَإِنْ أَرْسَلَهُ، سَقَطَ عَنْهُ الْجَزَاءُ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ لِلْمَالِكِ. فَإِنْ رُدَّ إِلَى الْمَالِكِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجَزَاءُ مَا لَمْ يُرْسِلْهُ الْمَالِكُ.

قُلْتُ: نَقَلَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» فِي بَابِ الْعَارِيَةِ، عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا اسْتَوْدَعَ صَيْدًا لِحَلَالٍ، فَتَلَفَ فِي يَدِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْسِكْهُ لِنَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ حَيْثُ صَارَ الصَّيْدُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْجَزَاءِ، فَإِنْ قَتَلَهُ حَلَالٌ فِي يَدِهِ، فَالْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَإِنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ، فَهَلِ الْجَزَاءُ عَلَيْهِمَا أَمْ عَلَى الْقَاتِلِ وَمَنْ فِي يَدِهِ؟ طَرِيقٌ فِيهِ وَجْهَانِ: قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ خَلَّصَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مِنْ فَمِ سَبْعٍ، أَوْ هِرَّةٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، وَأَخَذَهُ لِيُدَاوِيَهُ وَيَتَعَهَّدَهُ، فَمَاتَ فِي يَدِهِ، لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الْأَظْهَرِ. فَرْعٌ النَّاسِي كَالْعَامِدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، وَلَا يَأْثَمُ. وَقِيلَ: فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ. وَالْمَذْهَبُ: الْوُجُوبُ. وَلَوْ أَحَرَمَ ثُمَّ جُنَّ، فَقَتَلَ صَيْدًا، فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا.

قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا: لَا تَجِبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ صَالَ صَيْدٌ عَلَى مُحْرِمِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ، فَقَتَلَهُ دَفْعًا، فَلَا ضَمَانَ، وَلَوْ رَكِبَ إِنْسَانٌ صَيْدًا، وَصَالَ عَلَى مُحْرِمٍ، وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إِلَّا بِقَتْلِ الصَّيْدِ، فَقَتَلَهُ، فَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ الْأَذَى لَيْسَ مِنَ الصَّيْدِ. وَحَكَى الْإِمَامُ أَنَّ الْقَفَّالَ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ، وَلَا يُطَالِبُ بِهِ الْمُحْرِمَ. وَالثَّانِي: يُطَالِبُ الْمُحْرِمَ، وَيَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ عَلَى الرَّاكِبِ. فَرْعٌ لَوْ ذَبَحَ صَيْدًا فِي مَخْمَصَةٍ وَأَكَلَهُ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ أَهْلَكَهُ لِمَنْفَعَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ مِنَ الصَّيْدِ. وَلَوْ أُكْرِهَ مُحْرِمٌ عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ، فَقَتَلَهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْجَزَاءُ عَلَى الْآمِرِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْمُحْرِمِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ، سَوَاءٌ صَيْدُ الْحَرَمِ أَوِ الْإِحْرَامِ. قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَرَادَ وَبَيْضَهُ مَضْمُونَانِ بِالْقِيمَةِ. فَلَوْ وَطِئَهُ عَامِدًا أَوْ جَاهِلًا، ضَمِنَ. وَلَوْ عَمَّ الْمَسَالِكَ وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ وَطْئِهِ، فَوَطِئَهُ، فَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ. وَقِيلَ:

لَا ضَمَانَ قَطْعًا، وَلَوْ بَاضَ صَيْدٌ فِي [فِرَاشِهِ] وَلَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُهُ إِلَّا بِالتَّعَرُّضِ لِلْبَيْضِ، فَفَسَدَ بِذَلِكَ، فَفِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. فَرْعٌ إِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ. وَهَلْ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَمْ يَكُونُ مَيْتَةً؟ فِيهِ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: أَنَّهُ مَيْتَةٌ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ مَمْلُوكًا وَجَبَ مَعَ الْجَزَاءِ قِيمَتُهُ لِلْمَالِكِ. وَالْقَدِيمُ: لَا يَكُونُ مَيْتَةً، فَيَحِلُّ لِغَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا، لَزِمَهُ مَعَ الْجَزَاءِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَذْبُوحًا وَحَيًّا. وَهَلْ يَحِلُّ لَهُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِحْرَامِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَفِي صَيْدِ الْحَرَمِ إِذَا ذُبِحَ: طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ، فَحُكْمُ الْبَيْضِ حُكْمُ الصَّيْدِ إِذَا ذَبَحَهُ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ قَطْعًا. وَفِي غَيْرِهِ الْقَوْلَانِ. وَكَذَا إِذَا كَسَرَهُ فِي الْحَرَمِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْجَرَادَ، قَالَ: وَقِيلَ: يَحِلُّ الْبِيضُ لِغَيْرِهِ قَطْعًا، بِخِلَافِ الصَّيْدِ الْمَذْبُوحِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ إِبَاحَتَهُ تَقِفُ عَلَى الذَّكَاةِ، بِخِلَافِ الْبَيْضِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ بَلَعَهُ إِنْسَانٌ قَبْلَ كَسْرِهِ، لَمْ يَحْرُمْ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْقَاضِي الطَّبَرِيِّ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْجَزَاءِ الصَّيْدُ ضَرْبَانِ، مِثْلِيٌّ وَهُوَ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ، وَغَيْرُ مِثْلِيٍّ. فَالْمِثْلِيُّ: جَزَاؤُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ وَالتَّعْدِيلِ، فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَذْبَحَ مِثْلَهُ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، إِمَّا بِأَنْ يُفَرِّقَ اللَّحْمَ عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا بِأَنْ يُمْلِّكَهُمْ جُمْلَتَهُ مَذْبُوحًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهُ حَيًّا، وَبَيْنَ أَنْ يُقَوِّمَ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ. ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالدَّرَاهِمِ، لَكِنْ إِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَوْمًا حَيْثُ كَانَ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمِثْلِيِّ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهَا دَرَاهِمَ، بَلْ يَجْعَلُهَا طَعَامًا، ثُمَّ إِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. فَإِنِ انْكَسَرَ مُدٌّ فِي الضَّرْبَيْنِ صَامَ يَوْمًا. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ فِي الْمِثْلِيِّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالطَّعَامِ وَالصِّيَامِ، وَفِي غَيْرِهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالصَّوْمِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ. وَرَوَى أَبُو ثَوْرٍ قَوْلًا: أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّيْدُ مِثْلِيًّا، فَالْمُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِمَحَلِّ الْإِتْلَافِ، وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ بِمَكَّةَ وَيَوْمَئِذٍ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ ذَبْحِهِ مَكَّةُ. فَإِذَا عَدَلَ عَنْ ذَبْحِهِ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ بِمَحَلِّ الذَّبْحِ. هَذَا نَصُّهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ. وَحَيْثُ اعْتَبَرْنَا مَحَلَّ الْإِتْلَافَ، فَلِلْإِمَامِ احْتِمَالَانِ، فِي أَنَّهُ يَعْتَبِرُ فِي الْعُدُولِ إِلَى الطَّعَامِ سِعْرَ الطَّعَامِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، أَمْ سِعْرَهُ بِمَكَّةَ؟ وَالظَّاهِرُ مِنْهُمَا: الثَّانِي.

فَرْعٌ فِي بَيَانِ الْمِثْلِيِّ اعْلَمْ أَنَّ الْمِثْلَ لَيْسَ مُعْتَبَرًا عَلَى التَّحْقِيقِ، بَلْ يُعْتَبَرُ عَلَى التَّقْرِيبِ. وَلَيْسَ مُعْتَبَرًا فِي الْقِيمَةِ، بَلْ فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ. وَالْكَلَامُ فِي الدَّوَابِّ ثُمَّ الطُّيُورِ. أَمَّا الدَّوَابُّ: فَمَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ - أَوْ حَكَمَ فِيهِ صَحَابِيَّانِ، أَوْ عَدْلَانِ مِنَ التَّابِعِينَ، أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ - مِنَ النَّعَمِ أَنَّهُ مِثْلُ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ، اتُّبِعَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَحْكِيمِ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّبْعِ بِكَبْشٍ وَحَكَمَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي النَّعَّامَةِ بِبَدَنَةٍ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَبَقَرَتِهِ بِبَقَرَةٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ. وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ حَكَمَ فِي أُمِّ حُبَيْنٍ بِحُلَّانٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الْوَبْرِ بِشَاةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ فَفِيهِ جَفْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَكْبَرَ بَدَنًا مِنْهَا. وَعَنْ عَطَاءٍ: فِي الثَّعْلَبِ شَاةٌ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي الضَّبِّ جَدْيٌ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: فِي الْإِبِلِ بَقَرَةٌ. أَمَّا الْعَنَاقُ: فَالْأُنْثَى مِنَ الْمَعْزِ مِنْ حِينِ تُولَدُ إِلَى حِينِ تَرْعَى. وَالْجَفْرَةُ: الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ تُفْطَمُ وَتُفْصَلُ عَنْ أُمِّهَا، فَتَأْخُذُ فِي الرَّعْيِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَالذَّكَرُ جَفْرٌ، هَذَا مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ. لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَفْرِ هُنَا مَا دُونُ الْعِنَاقِ، فَإِنَّ الْأَرْنَبَ خَيْرٌ مِنَ الْيَرْبُوعِ. أَمَّا أَمُّ حُبَيْنٍ، فَدَابَّةٌ عَلَى خِلْقَةِ الْحِرْبَاءِ عَظِيمَةُ الْبَطْنِ. وَفِي حِلِّ أَكْلِهَا خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي الْأَطْعِمَةِ. وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ. وَأَمَّا الْحُلَّانُ، وَيُقَالُ الْحُلَّامُ. فَقِيلَ: هُوَ الْجَدْيُ. وَقِيلَ: الْخَرُوفُ.

وَوَقَعَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْأَصْحَابِ: فِي الظَّبْيِ كَبْشٌ. وَفِي الْغَزَالِ عَنْزٌ. وَكَذَا قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَرْخِيِّ، وَزَعَمَ أَنَّ الظَّبْيَ: ذَكَرُ الْغِزْلَانِ، وَأَنَّ الْأُنْثَى غَزَالٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا وَهْمٌ، بَلِ الصَّحِيحُ: أَنَّ فِي الظَّبْيِ عَنْزًا، وَهُوَ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِهَا، فَإِنَّهُ أَجْرَدُ الشَّعْرِ، مُتَقَلِّصُ الذَّنَبِ. وَأَمَّا الْغَزَالُ، فَوَلَدُ الظَّبْيِ، فَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الصِّغَارِ. قُلْتُ: قَوْلُ الْإِمَامِ هُوَ الصَّوَابُ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْغَزَالُ وَلَدُ الظَّبْيَةِ إِلَى حِينِ يَقْوَى وَيَطْلُعُ قَرْنَاهُ، ثُمَّ هِيَ ظَبْيَةٌ، وَالذَّكَرُ: ظَبْيٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا بَيَانُ مَا فِيهِ حُكْمٌ. أَمَّا مَا لَا نَقْلَ فِيهِ عَنِ السَّلَفِ، فَيَرْجِعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِ عَدْلَيْنِ فَقِيهَيْنِ فَطِنَيْنِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُ الصَّيْدِ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، أَوْ يَكُونُ قَاتِلَاهُ الْحَكَمَيْنِ؟ نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْقَتْلُ عُدْوَانًا فَلَا؛ لِأَنَّهُ يَفْسُقُ. وَإِنْ كَانَ خَطَأً، أَوْ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ حَكَمَ عَدْلَانِ أَنَّ لَهُ مِثْلًا، وَعَدْلَانِ أَنْ لَا مِثْلَ لَهُ، فَهُوَ مِثْلِيٌّ. قُلْتُ: وَلَوْ حَكَمَ عَدْلَانِ بِمِثْلٍ، وَعَدْلَانِ بِمِثْلٍ آخَرَ، فَوَجْهَانِ فِي «الْحَاوِي» وَ «الْبَحْرِ» . أَصَحُّهُمَا: يَتَخَيَّرُ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِأَعْظَمِهِمَا، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُفْتِيَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الطُّيُورُ فَحَمَامٌ وَغَيْرُهُ. فَالْحَمَامَةُ فِيهَا شَاةٌ وَغَيْرُهَا إِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْهَا جُثَّةً، كَالزُّرْزُورِ، وَالصَّعْوَةِ، وَالْبُلْبُلِ، وَالْقُبَّرَةِ، وَالْوَطْوَاطِ فَفِيهِ الْقِيمَةُ. وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْحَمَامِ أَوْ مِثْلَهُ فَقَوْلَانِ: الْجَدِيدُ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ: الْوَاجِبُ الْقِيمَةِ. وَالثَّانِي: شَاةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْحَمَامِ: كُلُّ مَا عَبَّ فِي الْمَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَهُ جَرْعًا، وَغَيْرُ الْحَمَامِ يَشْرَبُ قَطْرَةً قَطْرَةً. وَكَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ، وَلَا حَاجَةَ فِي وَصْفِ الْحَمَامِ، إِلَى ذِكْرِ الْهَدِيرِ مَعَ الْعَبِّ؛ فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَلِهَذَا اقْتَصَرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْعَبِّ، وَيَدْخُلُ فِي اسْمِ الْحَمَامِ الْيَمَامُ الَّتِي تَأْلَفُ الْبُيُوتَ، وَالْقُمْرِيُّ، وَالْفَاخِتَةُ، وَالدُّبْسِيُّ، وَالْقَطَاةُ.

فَرْعٌ يُفْدَى الْكَبِيرُ مِنَ الصَّيْدِ بِالْكَبِيرِ مِنْ مِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ، وَالصَّغِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالْمَرِيضُ بِالْمَرِيضِ، وَالْمَعِيبُ بِالْمَعِيبِ، إِذَا اتَّحَدَ جِنْسُ الْعَيْبِ، كَالْعَوَرِ وَالْعَوَرِ. وَإِنِ اخْتَلَفَ، كَالْعَوَرِ وَالْجَرَبِ فَلَا. وَإِنْ كَانَ عَوَرُ أَحَدِهِمَا فِي الْيَمِينِ، وَالْآخَرُ فِي الْيَسَارِ، فَفِي إِجْزَائِهِ، وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: الْإِجْزَاءُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، لِتَقَارُبِهِمَا. وَلَوْ قَابَلَ الْمَرِيضَ بِالصَّحِيحِ، أَوِ الْمَعِيبَ بِالسَّلِيمِ، فَهُوَ أَفْضَلُ. وَإِنْ فَدَى الذَّكَرَ بِالْأُنْثَى، فَطُرُقٌ: أَصَحُّهَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: الْإِجْزَاءُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَرَادَ الذَّبْحَ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ أَرَادَ التَّقْوِيمَ جَازَ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْأُنْثَى أَكْثَرُ، وَلَحْمَ الذَّكَرِ أَطْيَبُ. وَالرَّابِعُ: إِنْ لَمْ تَلِدِ الْأُنْثَى جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ جَوَّزْنَا الْأُنْثَى فَهَلْ هِيَ أَفْضَلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: تَفْضِيلُ الذَّكَرِ؛ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ فَدَى الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الْإِجْزَاءُ، وَصَحَّحَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَجَدْتَهُمْ طَارِدِينَ الْخِلَافَ مَعَ نَقْصِ اللَّحْمِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَنْقُصِ اللَّحْمُ فِي الْقِيمَةِ وَلَا فِي الطِّيبِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ النَّقْصَيْنِ، لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ.

فَرْعٌ لَوْ قَتَلَ صَيْدًا حَامِلًا، قَابَلْنَاهُ بِمِثْلِهِ حَامِلًا. وَلَا يَذْبَحُ الْحَامِلَ، بَلْ يُقَوِّمُ الْمِثْلَ حَامِلًا وَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ طَعَامًا. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُ حَامِلٍ نَفِيسَةٍ بِقِيمَةِ حَامِلٍ وَسَطٍ، وَيَجْعَلُ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا، كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ صَيْدٍ حَامِلٍ، فَأَلْقَى جَنِينًا مَيِّتًا، نُظِرَ، إِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ أَيْضًا، فَهُوَ كَقَتْلِ الْحَامِلِ، وَإِلَّا، ضَمِنَ مَا نَقَصَتِ الْأُمُّ، وَلَا يَضْمَنُ الْجَنِينَ، بِخِلَافِ جَنِينِ الْأَمَةِ، يُضْمَنُ بِعُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يُزِيدُ فِي قِيمَةِ الْبَهَائِمِ، وَيُنْقِصُ الْآدَمِيَّاتِ، فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ فِي الْآدَمِيِّاتِ، وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا، ثُمَّ مَاتَا، ضَمِنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ. وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ وَعَاشَتِ الْأُمُّ، ضَمِنَ الْوَلَدَ بِانْفِرَادٍ، وَضَمِنَ نَقْصَ الْأُمِّ. فَرْعٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : إِنْ جَرَحَ ظَبْيًا نَقَصَ عُشْرُ قِيمَتِهِ، فَعَلَيْهِ عُشْرُ قِيمَةِ شَاةٍ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ تَخْرِيجًا عَلَيْهِ: عُشْرُ شَاةٍ. قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: الْحُكْمُ مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ شَرِيكًا فِي ذَبْحِ شَاةٍ، فَأَرْشَدَهُ إِلَى مَا هُوَ أَسْهَلُ، فَإِنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ عَلَى التَّخْيِيرِ. فَعَلَى هَذَا، هُوَ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْعُشْرَ، وَإِنْ شَاءَ صَرَفَ قِيمَتَهُ فِي طَعَامٍ وَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَمِنْهُمْ مَنْ جَرَى عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ، وَقَالَ: الْوَاجِبُ عُشْرُ الْقِيمَةِ. وَجَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: الْمَنْصُوصُ، وَتَخْرِيجُ الْمُزَنِيِّ. فَعَلَى هَذَا إِذَا قُلْنَا بِالْمَنْصُوصِ، فَأَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: تَتَعَيَّنُ الصَّدَقَةُ بِالدَّرَاهِمِ. وَالثَّانِي، لَا تُجْزِئَهُ الدَّرَاهِمُ، بَلْ يَتَصَدَّقُ بِالطَّعَامِ، أَوْ يَصُومُ.

وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ عُشْرِ الْمِثْلِ، وَبَيْنَ إِخْرَاجِ الدَّرَاهِمِ. وَالرَّابِعُ: إِنْ وَجَدَ شَرِيكًا فِي الدَّمِ، أَخْرَجَهُ وَلَمْ تُجْزِئْهُ الدَّرَاهِمُ، وَإِلَّا، أَجْزَأَتْهُ. هَذَا فِي الصَّيْدِ الْمِثْلِيِّ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمِثْلِيِّ، فَالْوَاجِبُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ قَطْعًا. قُلْتُ: لَوْ قَتَلَ نَعَامَةً فَأَرَادَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْبَدَنَةِ إِلَى بَقَرَةٍ، أَوْ سَبْعِ شِيَاهٍ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْأَصَحِّ ذَكَرَهُ فِي «الْبَحْرِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ جَرَحَ صَيْدًا، فَانْدَمَلَ جُرْحُهُ وَصَارَ زَمِنًا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ، كَمَا لَوْ أَزْمَنَ عَبْدًا، لَزِمَهُ كُلُّ قِيمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَرْشُ النَّقْصِ. وَعَلَى هَذَا، يَجِبُ قِسْطٌ مِنَ الْمِثْلِ، أَوْ مِنْ قِيمَةِ الْمِثْلِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ. وَلَوْ جَاءَ مُحْرِمٌ آخَرُ، فَقَتَلَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، أَوْ قَبْلَهُ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ زَمِنًا، وَيَبْقَى الْجَزَاءُ عَلَى الْأَوَّلِ بِحَالِهِ. وَقِيلَ: إِنْ أَوْجَبْنَا جَزَاءً كَامِلًا، عَادَ هُنَا إِلَى قَدْرِ النَّقْصِ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ إِيجَابُ جَزَاءَيْنِ لِمُتْلِفٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ عَادَ الْمُزْمِنُ فَقَتَلَهُ، نُظِرَ، إِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ أَرْشَ الطَّرَفِ يَنْفَرِدُ عَنْ دِيَةِ النَّفْسِ، فَيَجِيءُ مِثْلُهُ هُنَا. وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ بِحُكْمِهِ. فَفِي الْقَتْلِ جَزَاؤُهُ زَمِنًا، وَفِيمَا يَجِبُ بِالْإِزْمَانِ، الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا بِالْإِزْمَانِ جَزَاءً كَامِلًا، وَكَانَ لِلصَّيْدِ امْتِنَاعَانِ، كَالنَّعَامَةِ، تَمْتَنِعُ بِالْعَدْوِ وَبِالْجَنَاحِ، فَأُبْطِلُ أَحَدُ امْتِنَاعَيْهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ، لِتَعَدُّدِ الِامْتِنَاعِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِاتِّحَادِ الْمُمْتَنِعِ. وَعَلَى هَذَا، فَمَا الْوَاجِبُ؟ قَالَ الْإِمَامُ: الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَا نَقَصَ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ النَّعَامَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالرِّجْلِ وَالْجَنَاحِ، فَالزَّائِلُ، بَعْضُ الِامْتِنَاعِ.

فَرْعٌ جَرَحَ صَيْدًا فَغَابَ، ثُمَّ وُجِدَ مَيِّتًا وَلَمْ يَدْرِ أَمَاتَ بِجِرَاحَتِهِ أَمْ بِحَادِثٍ فَهَلْ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ، أَمْ أَرْشُ الْجُرْحِ فَقَطْ؟ قَوْلَانِ. قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ، حَرَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، لَزِمَهُمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا، لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَكَذَا لَوِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا آخَرَ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوِ اشْتَرَكَ مُحْرِمٌ وَحَلَالٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ، لَزِمَ الْمُحْرِمَ نِصْفُ الْجَزَاءِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَلَالِ. فَرْعٌ قَدْ سَبَقَ، أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُ الصَّيْدِ الَّذِي ذَبَحَهُ، وَكَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَكْلُ مَا اصْطَادَهُ لَهُ حَلَالٌ، أَوْ بِإِعَانَتِهِ، أَوْ بِدَلَالَتِهِ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، فَقَوْلَانِ: الْجَدِيدُ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ. وَالْقَدِيمُ: يَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ. وَلَوْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ مَا ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَكْلِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ شَيْءٌ آخَرُ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي أَكْلِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ بَعْدَ الذَّبْحِ شَيْءٌ آخَرُ.

فصل

فَرْعٌ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ صَيْدٍ ذَبَحَهُ الْحَلَالُ إِذَا لَمْ يَصِدْهُ لَهُ، وَلَا [كَانَ] بِدَلَالَتِهِ أَوْ إِعَانَتِهِ، وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ قَطْعًا. فَصْلٌ صَيْدُ حَرَمِ مَكَّةَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ. وَبَيَانُ الْمُحْرِمِ مِنْهُ وَمَا يَجِبُ بِهِ الْجَزَاءُ وَقَدْرُ الْجَزَاءِ، يُقَاسُ بِمَا سَبَقَ فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ. وَلَوْ أَدْخَلَ حَلَالٌ الْحَرَمَ صَيْدًا مَمْلُوكًا، كَانَ لَهُ إِمْسَاكُهُ وَذَبْحُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ كَالنَّعَمِ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ حِلٍ. وَلَوْ رَمَى مِنَ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ، أَوْ مِنَ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا فِي الصُّورَتَيْنِ، أَوْ رَمَى صَيْدًا بَعْضُهُ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهُ فِي الْحَرَمِ - وَالِاعْتِبَارُ بِقَوَائِمِهِ لَا بِالرَّأْسِ - أَوْ رَمَى حَلَالٌ إِلَى صَيْدٍ فَأَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ، أَوْ رَمَى مُحْرِمٌ إِلَيْهِ، فَتَحَلَّلَ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ فِي كُلِّ ذَلِكَ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ، فِيمَا إِذَا كَانَ بَعْضُهُ فِي الْحَرَمِ، هُوَ الْأَصَحُّ. وَذَكَرَ الْجُرْجَانِيُّ فِي الْمُعَايَاةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْ حَرَمِيًّا. وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ فِي الْحَرَمِ، ضَمِنَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ فِي الْحِلِّ، فَلَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ، ضَمِنَهُ، وَإِنْ كَانَ عَكْسُهُ، فَلَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ رَمَى مِنَ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، فَقَطَعَ السَّهْمُ فِي مُرُورِهِ هَوَاءَ الْحَرَمِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا فِي الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ، فَتَخَطَّى طَرَفَ الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَضْمَنُ، بِخِلَافِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا، بِخِلَافِ السَّهْمِ. وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ رَمَى صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَعَدَا الصَّيْدُ، فَدَخَلَ الْحَرَمَ، فَأَصَابَهُ السَّهْمُ، وَجَبَ الضَّمَانُ. وَبِمِثْلِهِ، لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا، لَا يَجِبُ. وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَلَمْ يُصِبْهُ، وَأَصَابَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ، وَجَبَ الضَّمَانُ. وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا، لَا يَجِبُ. ثُمَّ فِي مَسْأَلَةِ إِرْسَالِ الْكَلْبِ وَتَخَطِّيهِ طَرَفَ الْحَرَمِ، إِنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ إِذَا كَانَ لِلصَّيْدِ مَفَرٌّ آخَرُ. فَأَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ دُخُولُهُ الْحَرَمَ عِنْدَ الْهَرَبِ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ قَطْعًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُرْسِلُ عَالِمًا بِالْحَالِ، أَوْ جَاهِلًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ الْجَاهِلُ. فَرْعٌ لَوْ أَخَذَ حَمَامَةً فِي الْحِلِّ، أَوْ أَتْلَفَهَا، فَهَلَكَ فَرْخُهَا فِي الْحَرَمِ، ضَمِنَهُ، وَلَا يَضْمَنُهَا. وَلَوْ أَخَذَ الْحَمَامَةَ مِنَ الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَهَا، فَهَلَكَ فَرْخُهَا فِي الْحِلِّ، ضَمِنَ الْحَمَامَةَ وَالْفَرْخَ جَمِيعًا، كَمَا لَوْ رَمَى مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ. وَلَوْ نَفَّرَ صَيْدًا حَرَمِيًّا، عَامِدًا، أَوْ غَيْرَ عَامِدٍ، تَعَرَّضَ لِلضَّمَانِ. حَتَّى لَوْ مَاتَ بِسَبَبِ التَّنْفِيرِ بِصَدْمَةٍ، أَوْ أَخْذِ سَبْعٍ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ. وَكَذَا لَوْ دَخَلَ الْحِلَّ فَقَتَلَهُ حَلَالٌ، فَعَلَى الْمُنَفِّرِ الضَّمَانُ. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ، تَقْدِيمًا لِلْمُبَاشَرَةِ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ دَخَلَ الْكَافِرُ الْحَرَمَ، وَقَتَلَ صَيْدًا، لَزِمَهُ الضَّمَانُ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» : يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ. فَصْلٌ قَطْعُ نَبَاتِ الْحَرَمِ حَرَامٌ، كَاصْطِيَادِ صَيْدِهِ. وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. وَالْقَدِيمُ: لَا. ثُمَّ النَّبَاتُ: شَجَرٌ وَغَيْرُهُ. أَمَّا الشَّجَرُ، فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ بِالْقَلْعِ وَالْقَطْعِ لِكُلِّ شَجَرٍ رَطْبٍ غَيْرِ مُؤْذٍ حَرَمِيٍّ. فَيَخْرُجُ بِقَيْدِ الرَّطْبِ الْيَابِسُ، فَلَا شَيْءَ فِي قَطْعِهِ، كَمَا لَوْ قَدَّ صَيْدًا مَيِّتًا نِصْفَيْنِ. وَبِقَيْدٍ غَيْرِ مُؤْذٍ: الْعَوْسَجُ، وَكُلُّ شَجَرَةٍ ذَاتِ شَوْكٍ، فَإِنَّهَا كَالْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِهَا ضَمَانٌ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي وَجْهٍ اخْتَارَهُ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ، لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ، وَيُخَالِفُ الْحَيَوَانَ، فَإِنَّهُ يُقْصَدُ بِالْأَذِيَّةِ. وَيَخْرُجُ بِقَيْدِ الْحَرَمِيِّ أَشْجَارُ الْحِلِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْلَعَ شَجَرَةً مِنْ أَشْجَارِ الْحَرَمِ، وَيَنْقِلُهَا إِلَى الْحِلِّ، مُحَافَظَةً عَلَى حُرْمَتِهَا. وَلَوْ نَقَلَ، فَعَلَيْهِ رَدُّهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَقَلَ مِنْ بُقْعَةٍ مِنَ الْحَرَمِ إِلَى أُخْرَى، لَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ. وَسَوَاءً نَقَلَ أَشْجَارَ الْحَرَمِ، أَوْ أَغْصَانَهَا، إِلَى الْحِلِّ، أَوْ إِلَى الْحَرَمِ، يُنْظَرُ، إِنْ يَبِسَتْ، لَزِمَهُ الْجَزَاءُ. وَإِنْ نَبَتَتْ فِي الْمَوْضِعِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ، فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ. فَلَوْ قَلَعَهَا قَالِعٌ، لَزِمَهُ الْجَزَاءُ إِبْقَاءً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ. وَلَوْ قَلَعَ شَجَرَةً مِنَ الْحِلِّ وَغَرَسَهَا فِي الْحَرَمِ فَنَبَتَتْ، لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْحَرَمِ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ يَدْخُلُ الْحَرَمَ، فَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِالتَّعَرُّضِ لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ بِأَصْلٍ ثَابِتٍ، فَاعْتَبَرَ مَكَانَهُ. وَالشَّجَرُ أَصْلٌ ثَابِتٌ، فَلَهُ حُكْمُ مَنْبَتِهِ.

حَتَّى لَوْ كَانَ أَصْلُ الشَّجَرَةِ فِي الْحَرَمِ، وَأَغْصَانُهَا فِي الْحِلِّ، فَقَطَعَ مِنْ أَغْصَانِهَا شَيْئًا، وَجَبَ الضَّمَانُ لِلْغُصْنِ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَأَخْذَهُ، فَلَا ضَمَانَ. وَعَكْسُهُ: لَوْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الْحِلِّ، وَأَغْصَانُهَا فِي الْحَرَمِ، فَقَطَعَ غُصْنًا مِنْهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَأَخْذَهُ، لَزِمَهُ ضَمَانُهُ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : لَوْ كَانَ بَعْضُ أَصْلِ الشَّجَرَةِ فِي الْحِلِّ، وَبَعْضُهُ فِي الْحَرَمِ، فَلِجَمِيعِهَا حُكْمُ الْحَرَمِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَوِ انْتَشَرَتْ أَغْصَانُ الشَّجَرَةِ الْحَرَمِيَّةِ، وَمَنَعَتِ النَّاسَ الطَّرِيقَ، أَوْ آذَتْهُمْ، جَازَ قَطْعُ الْمُؤْذِي مِنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا أَخَذَ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ حَرَمِيَّةٍ، وَلَمْ يُخْلِفْ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ جَرْحِ الصَّيْدِ. وَإِنْ أَخْلَفَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِكَوْنِ الْغُصْنِ لَطِيفًا، كَالسِّوَاكِ، وَغَيْرِهِ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ، فَنَبَتَ وَكَانَ الْمَقْطُوعُ مِثْلَهُ، فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ، كَالْقَوْلَيْنِ فِي السِّنِّ إِذَا نَبَتَ بَعْدَ الْقَلْعِ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَخْذُ أَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ، لَكِنْ لَا يَخْبِطُهَا، مَخَافَةً مِنْ أَنْ يُصِيبَ قُشُورَهَا. فَرْعٌ يَضْمَنُ الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَةَ بِبَقَرَةٍ، وَإِنْ شَاءَ بِبَدَنَةٍ، وَمَا دُونَهَا بِشَاةٍ، وَالْمَضْمُونَةُ

بِشَاةٍ مَا كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ سُبْعِ الْكَبِيرَةِ، فَإِنْ صَغُرَتْ جِدًّا، فَالْوَاجِبُ الْقِيمَةُ. ثُمَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى التَّعْدِيلِ وَالتَّخْيِيرِ كَالصَّيْدِ. فَرْعٌ هَلْ يَعُمُّ التَّحْرِيمُ وَالضَّمَانُ مِنَ الْأَشْجَارِ، مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَمَا يَسْتَنْبِتُ، أَمْ يَخْتَصُّ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْأَكْثَرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ: التَّعْمِيمُ. وَالثَّانِي: التَّخْصِيصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالتَّعْمِيمِ. فَإِذَا قُلْنَا: بِالتَّخْصِيصِ زَادَ قَيْدٌ آخَرُ، وَهُوَ كَوْنُ الشَّجَرِ مِمَّا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ. وَعَلَى هَذَا، يَحْرُمُ الْأَرَاكُ وَالطَّرْفَاءُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَشْجَارِ الْبَوَادِي. وَأَدْرَجَ الْإِمَامُ فِيهِ الْعَوْسَجَ، لَكِنَّهُ ذُو شَوْكٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَلَا تَحْرُمُ الْمُسْتَنْبَتَاتُ مُثْمِرَةً كَانَتْ، كَالنَّخْلِ وَالْعِنَبِ، أَوْ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، كَالْخِلَافِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَوْ نَبَتَ مَا يُسْتَنْبَتُ أَوْ عَكْسُهُ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْجِنْسِ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ بِالْقَصْدِ، فَيَنْعَكِسُ. أَمَّا غَيْرُ الْأَشْجَارِ، فَكَلَأُ الْحَرَمِ يَحْرُمُ قَطْعُهُ. فَإِنْ قَلَعَهُ، لَزِمَهُ الْقِيمَةُ، إِنْ لَمْ يُخْلِفْ. فَإِنْ أَخْلَفَ، فَلَا قِيمَةَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُنَا الْإِخْلَافُ كَسِنِّ الصَّبِيِّ. فَلَوْ كَانَ يَابِسًا، فَلَا شَيْءَ فِي قَطْعِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الشَّجَرِ. فَلَوْ قَلَعَهُ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْلَعْ، لَنَبَتَ ثَانِيًا، ذَكَرَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَيَجُوزُ تَسْرِيحُ الْبَهَائِمِ فِي حَشِيشِهِ لِتَرْعَى. وَلَوْ أُخِذَ الْحَشِيشُ لِعَلْفِ الْبَهَائِمِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْمَنْعِ، الْإِذْخِرُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِحَاجَةِ السُّقُوفِ وَغَيْرِهَا، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَلَوِ احْتِيجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ نَبَاتِ الْحَرَمِ لِلدَّوَاءِ، جَازَ قَطْعُهُ عَلَى الْأَصَحِّ.

فصل

فَرْعٌ يُكْرَهُ نَقْلُ تُرَابِ الْحَرَمِ وَأَحْجَارِهِ إِلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ، وَلَا يُكْرَهُ نَقْلُ مَاءِ زَمْزَمِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانٍ: وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ سِتْرِ الْكَعْبَةِ، وَنَقْلُهُ، وَبَيْعُهُ، وَشِرَاؤُهُ، خِلَافَ مَا تَفْعَلُهُ الْعَامَّةُ، يَشْتَرُونَهُ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ، وَرُبَّمَا وَضَعُوهُ فِي أَوْرَاقِ الْمَصَاحِفِ. وَمَنْ حَمَلَ مِنْهُ شَيْئًا، لَزِمَهُ رَدُّهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ تُرَابِ الْحَرَمِ، وَلَا أَحْجَارِهِ إِلَى الْحِلِّ. وَيُكْرَهُ إِدْخَالُ تُرَابِ الْحِلِّ وَأَحْجَارِهِ الْحَرَمَ. وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَأَمَّا سِتْرُ الْكَعْبَةِ، فَقَدْ قَالَ الْحَلِيمِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَيْضًا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» : لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ [رَحِمَهُ اللَّهُ] بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عَبْدَانَ وَالْحَلِيمِيِّ: الْأَمْرُ فِيهَا إِلَى الْإِمَامِ، يَصْرِفُهَا فِي بَعْضِ مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَالِ بَيْعًا وَعَطَاءً، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ «مَكَّةَ» : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ يَنْزِعُ كُسْوَةَ الْبَيْتِ كُلَّ سَنَةٍ، فَيُقَسِّمُهَا عَلَى الْحَاجِّ. وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ حَسَنٌ مُتَعَيَّنٌ، لِئَلَّا يُتْلَفَ بِالْبِلَى، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ] قَالُوا: وَيُلْبِسُهَا مَنْ صَارَتْ إِلَيْهِ مِنْ جُنُبٍ وَحَائِضٍ وَغَيْرِهِمَا. وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ طِيبِ الْكَعْبَةِ، فَإِنْ أَرَادَ التَّبَرُّكَ، أَتَى بِطِيبٍ مِنْ عِنْدِهِ فَمَسَحَهَا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَا يَتَعَرَّضُ لِصَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَشَجَرِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ

فصل

وُوَجْهٌ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. فَإِذَا حَرَّمْنَاهُ، فَفِي الضَّمَانِ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: لَا يَضْمَنُ. وَالْقَدِيمُ: يَضْمَنُ. وَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: كَحَرَمِ مَكَّةَ. وَأَصَحُّهُمَا: أَخْذُ سَلْبِ الصَّائِدِ وَقَاطِعِ الشَّجَرِ. وَفِي الْمُرَادِ بِالسَّلْبِ: وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: كَسَلْبِ الْقَتِيلِ مِنَ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: ثِيَابُهُ فَقَطْ. وَفِي مَصْرِفِهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لِلسَّالِبِ كَالْقَتِيلِ. وَالثَّانِي: لِفُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ. وَالثَّالِثُ: لِبَيْتِ الْمَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ، وَكَلَامَ الْأَئِمَّةِ: أَنَّهُ يُسْلَبُ إِذَا اصْطَادَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِتْلَافُ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا أَدْرِي أَيُسْلَبُ إِذَا أَرْسَلَ الصَّيْدَ، أَمْ لَا يُسْلَبُ حَتَّى يُتْلِفَهُ؟ قُلْتُ: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» وَجْهَيْنِ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَتْرُكُ لِلْمَسْلُوبِ مِنْ ثِيَابِهِ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ؟ وَاخْتَارَ: أَنَّهُ يَتْرُكُ، وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبِ «الْحَاوِي» ، وَهُوَ الْأَصْوَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَجٌّ: وَادٍ بِصَحْرَاءِ الطَّائِفِ، وَصَيْدُهُ حَرَامٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي تَحْرِيمِهِ وَكَرَاهَتِهِ خِلَافٌ. فَعَلَى التَّحْرِيمِ، قِيلَ: حُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ كَحَرَمِ الْمَدِينَةِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» وَالْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ لَا ضَمَّ فِيهِ قَطْعًا. فَصْلٌ النَّقِيعُ - بِالنُّونِ وَقِيلَ: بِالْبَاءِ - لَيْسَ بِحَرَمٍ، وَلَكِنْ حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ، فَلَا يَحْرُمُ صَيْدُهُ، لَكِنْ لَا تُمْلَكُ أَشْجَارُهُ وَلَا حَشِيشُهُ.

فصل

وَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِمَا عَلَى مُتْلِفِهِمَا، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَصَيْدِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ. فَعَلَى هَذَا، ضَمَانُهُمَا بِالْقِيمَةِ، وَمَصْرِفُهُمَا مَصْرِفُ نَعَمِ الْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَةِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَصْرِفُهُ بَيْتَ الْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الْمَحْظُورَاتُ، تَنْقَسِمُ إِلَى اسْتِهْلَاكٍ، كَالْحَلْقِ، وَإِلَى اسْتِمْتَاعٍ، كَالطِّيبِ. وَإِذَا بَاشَرَ مَحْظُورَيْنِ. فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اسْتِهْلَاكًا، وَالْآخَرُ اسْتِمْتَاعًا، فَيَنْظُرُ، إِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ، كَحَلْقِ الرَّأْسِ، وَلِبْسِ الْقَمِيصِ، تَعَدَّدَتِ الْفِدْيَةُ كَالْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَإِنِ اسْتَنَدَ إِلَى سَبَبٍ، كَمَنْ أَصَابَتْ رَأَسَهُ شَجَّةٌ وَاحْتَاجَ إِلَى حَلْقِ جَوَانِبِهَا وَسَتْرِهَا بِضِمَادٍ فِيهِ طِيبٌ، تَعَدَّدَتْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: تَتَدَاخَلُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا اسْتِهْلَاكًا، وَهَذَا ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَابَلُ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ الصَّيُودُ فَتَعَدُّدُ الْفِدْيَةِ، سَوَاءً فَدَى عَنِ الْأَوَّلِ، أَمْ لَا، اتَّحَدَ الْمَكَانُ، أَوِ اخْتَلَفَ، وَالَى بَيْنَهُمَا أَوْ فَرَّقَ، كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِمَّا يُقَابَلُ بِمِثْلِهِ، وَالْآخَرُ لَيْسَ مُقَابَلًا، كَالصَّيْدِ وَالْحَلْقِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ بِلَا خِلَافٍ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُقَابَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَيَنْظُرُ، إِنِ اخْتَلَفَ نَوْعُهُمَا، كَالْحَلْقِ وَالْقَلَمِ، تَعَدَّدَتْ، سَوَاءً فَرَّقَ أَوْ وَالَى فِي مَكَانٍ أَوْ مَكَانَيْنِ، بِفِعْلَيْنِ أَمْ بِفِعْلٍ، كَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا مُطَيَّبًا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِدْيَتَانِ. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ.

قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا مُطَيَّبًا وَطَلَى رَأْسَهُ بِطِيبٍ سَتَرَهُ بِكَفَّيْهِ، [فَعَلَيْهِ] فَدِيَةٌ وَاحِدَةٌ، لِاتِّحَادِ الْفِعْلِ وَتَبَعِيَّةِ الطِّيبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ، بِأَنْ حَلَقَ فَقَطْ، فَقَدْ سَبَقَ، أَنَّ حَلْقَ ثَلَاثِ شَعْرَاتٍ، فِيهِ فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ. وَلَوْ حَلَقَ جَمِيعَ الرَّأْسِ دُفْعَةً فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَفِدْيَةٌ فَقَطْ. وَلَوْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ مُتَوَاصِلًا، فَفِدْيَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْأَنْمَاطِيُّ: فِدْيَتَانِ. وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ فِي مَكَانَيْنِ أَوْ مَكَانٍ، فِي زَمَانَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ، فَالْمَذْهَبُ: التَّعَدُّدُ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَا لَوِ اتَّحَدَ نَوْعُ الِاسْتِمْتَاعِ، وَاخْتَلَفَ الْمَكَانُ أَوِ الزَّمَانُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعْرَاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَمْكِنَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: كُلُّ شَعْرَةٍ تُقَابَلُ بِثُلُثِ دَمٍ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَلْقِهَا دُفْعَةً أَوْ دُفْعَاتٍ. وَإِنْ قُلْنَا: الشَّعْرَةُ بِمُدٍّ أَوْ دِرْهَمٍ، وَالشَّعْرَتَانِ بِمُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ الْآنَ. فَإِنْ لَمْ نُعَدِّدِ الْفِدْيَةَ فِيمَا إِذَا حَلَقَ الرَّأْسَ فِي دُفْعَاتٍ، وَلَمْ نَجْعَلْ لِتُفَرُّقِ الزَّمَانِ أَثَرًا، فَالْوَاجِبُ دَمٌ. وَإِنْ عَدَّدْنَا وَجَعَلْنَا التَّفْرِيقَ مُؤَثِّرًا، قَطَعْنَا حُكْمَ كُلِّ شَعْرَةٍ عَنِ الْأُخْرَيَيْنِ، وَأَوْجَبْنَا ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ فِي قَوْلٍ، وَثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فِي قَوْلٍ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ اسْتِمْتَاعًا. فَإِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ، بِأَنْ تَطَيَّبَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الطِّيبِ، أَوْ لَبِسَ أَنْوَاعًا، كَالْعِمَامَةِ، وَالْقَمِيصِ، وَالسَّرَاوِيلِ، وَالْخُفِّ، أَوْ نَوْعًا وَاحِدًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، نُظِرَ، إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَكَانٍ عَلَى التَّوَالِي، لَمْ تَتَعَدَّدِ الْفِدْيَةُ، وَلَا يَقْدَحْ فِي التَّوَالِي طُولَ الزَّمَانِ فِي مُضَاعَفَةِ الْقُمُصِ وَتَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَكَانَيْنِ، أَوْ مَكَانٍ، وَتَخَلَّلَ زَمَانٌ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَتَخَلَّلِ التَّكْفِيرُ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: يَجِبُ لِلثَّانِي فِدْيَةٌ أُخْرَى. وَالْقَدِيمُ: يَتَدَاخَلُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ فَجَمَعَهُمَا سَبَبٌ وَاحِدٌ، بِأَنْ تَطَيَّبَ، أَوْ لَبِسَ مِرَارًا لِمَرَضٍ وَاحِدٍ، فَوَجْهَانِ.

باب موانع إتمام الحج بعد الشروع فيه

أَصَحُّهُمَا: التَّعَدُّدُ. وَإِنْ تَحَلَّلَ، وَجَبَتْ فِدْيَةٌ أُخْرَى بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ [كَانَ] نَوَى بِمَا أَخْرَجَهُ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ جَمِيعًا، بُنِيَ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحَنْثِ الْمَحْظُورِ. إِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ، فَلَا أَثَرَ لِهَذِهِ النِّيَّةِ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِدْيَةَ كَالْكَفَّارَةِ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ، فَلَا يَلْزَمُهُ لِلثَّانِي شَيْءٌ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ. أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعُ، بِأَنْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ، فَالْأَصَحُّ: التَّعَدُّدُ، وَإِنِ اتَّحَدَ الزَّمَانُ، وَالْمَكَانُ، وَالسَّبَبُ. وَالثَّانِي: التَّدَاخُلُ. وَالثَّالِثُ: إِنِ اتَّحَدَ السَّبَبُ، تَدَاخَلَ، وَإِلَّا فَلَا. هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ، فَإِنْ تَكَرَّرَ الْجِمَاعُ، فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. قُلْتُ: لَا يَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ، بِتَعَدُّدِ جِهَةِ التَّحْرِيمِ إِذَا اتَّحَدَ الْفِعْلُ كَمَا سَبَقَ فِي مُحْرِمٍ قَتَلَ صَيْدًا حَرَمِيًّا وَأَكَلَهُ، لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ بَاشَرَ امْرَأَتَهُ مُبَاشَرَةً تُوجِبُ شَاةً لَوِ انْفَرَدَتْ، ثُمَّ جَامَعَهَا، فَفِي وَجْهٍ: يَكْفِيهِ الْبَدَنَةُ عَنْهُمَا. وَوَجْهٌ: تَجِبُ شَاةٌ وَبَدَنَةٌ. وَوَجْهٌ: إِنْ قَصَدَ بِالْمُبَاشِرَةِ الشُّرُوعَ فِي الْجِمَاعِ، فَبَدَنَةٌ، وَإِلَّا فَشَاةٌ وَبَدَنَةٌ. وَوَجْهٌ: إِنْ طَالَ الْفَصْلُ، فَشَاةٌ وَبَدَنَةٌ، وَإِلَّا فَبَدَنَةٌ. وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابُ مَوَانِعِ إِتْمَامِ الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ هِيَ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ. الْأَوَّلُ: الْإِحْصَارُ، فَإِذَا أَحْصَرَ الْعَدُوُّ الْمُحْرِمِينَ عَنِ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ مِنْ جَمِيعِ الطُّرُقِ، كَانَ لَهُمْ أَنْ يَتَحَلَّلُوا. فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا، فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُعَجَّلَ التَّحَلُّلُ، فَرُبَّمَا زَالَ الْمَنْعُ فَأُتِمَّ الْحَجُّ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا، فَالْأَفْضَلُ تَعْجِيلُ التَّحَلُّلِ، لِئَلَّا يَفُوتَ الْحَجُّ. وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ، التَّحَلُّلُ عِنْدَ الْإِحْصَارِ. وَلَوْ

فصل

مُنِعُوا وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْمُضِيِّ إِلَّا بِبَذْلِ مَالٍ، فَلَهُمُ التَّحَلُّلُ، وَلَا يَبْذِلُونَ الْمَالَ وَإِنْ قَلَّ، بَلْ يُكْرَهُ الْبَذْلُ إِنْ كَانَ الطَّالِبُونَ كُفَّارًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّغَارِ. وَإِنِ احْتَاجُوا إِلَى قِتَالٍ لِيَسِيرُوا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْمَانِعُونَ مُسْلِمِينَ، فَلَهُمُ التَّحَلُّلُ، وَلَا يَلْزَمُهُمُ الْقِتَالُ وَإِنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا، فَقِيلَ: يَلْزَمُهُمْ قِتَالُهُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى الضِّعْفِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الْإِطْلَاقُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ، بَلْ شَرْطُهُ وِجْدَانُهُمُ السِّلَاحَ، وَأُهْبَةَ الْقِتَالِ. فَإِنْ وَجَدُوا، فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّحَلُّلِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِتَالُ، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ مِنْ كَافِرَيْنَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، نُصْرَةً لِلْإِسْلَامِ، وَإِتْمَامًا لِلْحَجِّ. وَإِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَحَلَّلُوا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَوْ قَاتَلُوا، فَلَهُمْ لِبْسُ الدُّرُوعِ وَالْمَغَافِرِ، وَعَلَيْهِمِ الْفِدْيَةُ كَمَنْ لَبِسَ لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ. فَرْعٌ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ التَّحَلُّلِ بِلَا خِلَافٍ، هُوَ فِيمَا إِذَا مَنَعُوا الْمُضِيَّ، دُونَ الرُّجُوعِ. فَأَمَّا لَوْ أَحَاطَ بِهِمُ الْعَدُوُّ مِنَ الْجَوَانِبِ كُلِّهَا، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: جَوَازُ التَّحَلُّلِ أَيْضًا. وَالثَّانِي: لَا، إِذْ لَا يَحْصُلُ بِهِ أَمْنٌ. فَصْلٌ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ التَّحَلُّلُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ، بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يَبْرَأَ. فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، أَتَمَّهَا. وَإِنْ كَانَ بِحَجٍّ وَفَاتَهُ، تَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالتَّحَلُّلِ زَوَالَ الْمَرَضِ، بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ. هَذَا إِذَا لَمْ يَشْرِطِ التَّحَلُّلَ بِالْمَرَضِ. فَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ إِذَا مَرِضَ تَحَلَّلَ، فَطَرِيقَانِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: يَصِحُّ الشَّرْطُ

فصل

فِي الْقَدِيمِ. وَفِي الْجَدِيدِ: قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الصِّحَّةُ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ، لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ. وَلَوْ شَرَطَ التَّحَلُّلَ لِغَرَضٍ آخَرَ، كَضَلَالِ الطَّرِيقِ. وَفَرَاغِ النَّفَقَةِ، وَالْخَطَأِ فِي الْعَدَدِ، فَهُوَ كَالْمَرَضِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا وَحَيْثُ صَحَّحْنَا الشَّرْطَ، فَتَحَلَّلَ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ، لَزِمَهُ الْهَدْيُ. وَإِنْ كَانَ شَرَطَ التَّحَلُّلَ بِلَا هَدْيٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْهَدْيُ. وَإِنْ أَطْلَقَ، لَمْ يَلْزَمْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَقْلِبَ حَجَّهُ عُمْرَةً عِنْدَ الْمَرَضِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ شَرْطِ التَّحَلُّلِ، وَنُصَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا مَرِضْتُ، فَأَنَا حَلَالٌ، فَيَصِيرُ حَلَالًا بِنَفْسِ الْمَرَضِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنَ التَّحَلُّلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الْمَنْصُوصُ: الْأَوَّلُ. فَصْلٌ يَلْزَمُ مَنْ تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ، دَمُ شَاةٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَ مِنْهُ شَرْطٌ. فَإِنْ كَانَ شَرَطَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ، أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ إِذَا أُحْصِرَ، فَفِي تَأْثِيرِ هَذَا الشَّرْطِ فِي إِسْقَاطِ الدَّمِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا سَبَقَ فِيمَنْ تَحَلَّلَ بِشَرْطِ الْمَرَضِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْإِحْصَارِ جَائِزٌ بِلَا شَرْطٍ، فَشَرْطُهُ لَاغٍ. فَرْعٌ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ، هَلْ لَهُ بَدَلٌ وَمَا بَدَلُهُ؟ وَهُوَ عَلَى

التَّرْتِيبِ، أَمِ التَّخْيِيرِ؟ وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذَا كُلِّهِ فِي الْبَابِ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: لَا بَدَلَ، وَكَانَ وَاجِدًا لِدَمٍ، ذَبَحَهُ، وَنَوَى التَّحَلُّلَ عِنْدَهُ. وَإِنَّمَا اشْتُرِطَتِ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّحَلُّلِ وَلِغَيْرِهِ، فَيَشْتَرِطُ قَصْدَ صَارِفٍ. وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ لِإِعْسَارِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَهَلْ يَتَحَلَّلُ فِي الْحَالِ، أَمْ يَتَوَقَّفُ التَّحَلُّلُ عَلَى وُجُودِهِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: التَّحَلُّلُ فِي الْحَالِ، وَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ التَّحَلُّلِ. وَهَلْ يَجِبُ الْحَلْقُ؟ إِنْ قُلْنَا: هُوَ نُسُكٌ، فَنَعَمْ، وَإِلَّا، فَلَا. وَالْحَاصِلُ: أَنَّا إِنِ اعْتَبَرْنَا الذَّبْحَ وَالْحَلْقَ مَعَ النِّيَّةِ، فَالتَّحَلُّلُ بِالثَّلَاثَةِ. وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرِ الذَّبْحَ، حَصَلَ بِالنِّيَّةِ مَعَ الْحَلْقِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِالنِّيَّةِ وَحْدَهَا عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُنَا: الْحَلْقُ لَيْسَ بِنُسُكٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لِدَمِ الْإِحْصَارِ بَدَلٌ، فَإِنْ كَانَ يُطْعَمُ، تَوَقَّفَ التَّحَلُّلُ عَلَيْهِ، كَتَوَقُّفِهِ عَلَى الذَّبْحِ. وَإِنْ كَانَ يَصُومُ، فَكَذَلِكَ مَعَ تَرَتُّبِ الْخِلَافِ. وَمَنْعُ التَّوَقُّفِ هُنَا أَوْلَى لِلْمَشَقَّةِ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْإِحْرَامِ، لِطُولِ مُدَّةِ الصَّوْمِ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ بَعْثُ دَمِ الْإِحْصَارِ إِلَى الْحَرَمِ، بَلْ يَذْبَحُهُ حَيْثُ أُحْصِرَ وَيَتَحَلَّلُ، وَكَذَا مَا لَزِمَهُ مِنْ دِمَاءِ الْمَحْظُورَاتِ قَبْلَ الْإِحْصَارِ، وَمَا مَعَهُ مِنْ هَدْيٍ، وَيُفَرِّقُ لُحُومَهَا عَلَى مَسَاكِينِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. هَذَا إِنْ صُدَّ عَنِ الْحَرَمِ. فَإِنْ صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ دُونَ أَطْرَافِ الْحَرَمِ، فَهَلْ لَهُ الذَّبْحُ فِي الْحِلِّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. الْمَانِعُ الثَّانِي: الْحَصْرُ الْخَاصُّ الَّذِي يَتَّفِقُ لِوَاحِدٍ، أَوْ شِرْذِمَةٍ مِنَ الرُّفْقَةِ. فَيَنْظُرُ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُحْرِمُ مَعْذُورًا فِيهِ، كَمَنْ حُبِسَ فِي دَيْنٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهِ، فَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ وَيَمْضِيَ فِي حَجِّهِ. فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فِي الْحَبْسِ، لَزِمَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ وَيَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ. وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا، كَمَنْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ ظُلْمًا، أَوْ بِدَيْنٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهِ، جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَقَالَ الْمَرَاوِزَةُ: فِي جَوَازِ التَّحَلُّلِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ.

الْمَانِعُ الثَّالِثُ: الرِّقُّ. فَإِحْرَامُ الْعَبْدِ يَنْعَقِدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيلُهُ، سَوَاءً بَقِيَ نُسُكُهُ صَحِيحًا أَوْ أَفْسَدَهُ. وَلَوْ بَاعَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي تَحْلِيلُهُ، وَلَهُ الْخِيَارُ إِنْ جَهِلَ إِحْرَامَهُ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي إِتْمَامِ نُسُكِهِ. فَإِنْ حَلَّلَهُ، جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ، تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الزَّوْجَةِ إِذَا أَحْرَمَتْ بِحَجِّ التَّطَوُّعِ، وَهَذَا شَاذٌّ مُنْكَرٌ. قُلْتُ: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي الْمُعَايَاةِ: وَلَوْ بَاعَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَلِلْمُشْتَرِي تَحْلِيلُهُ كَالْبَائِعِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أُذِنَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ. فَإِنْ رَجَعَ وَلَمْ يَعْلَمِ الْعَبْدُ، فَأَحْرَمَ، فَلَهُ تَحْلِيلُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْعُمْرَةِ، فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، فَلَهُ تَحْلِيلُهُ، وَلَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيلُهُ. قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَظَنِّيٌّ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ عَنِ الْخِلَافِ. قُلْتُ: ذَكَرَ الدَّارِمِيُّ فِي الصُّورَتَيْنِ وَجْهَيْنِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ قَوْلُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّمَتُّعِ، فَلَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْحَجِّ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ عَنِ الْعُمْرَةِ، وَلَا عَنِ الْحَجِّ، بَعْدَ الشُّرُوعِ. وَلَوْ أَذِنَ فِي الْحَجِّ أَوِ التَّمَتُّعِ، فَقَرَنَ، لَمْ يَجُزْ تَحْلِيلُهُ. وَلَوْ أَذِنَ أَنْ يُحْرِمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَأَحْرَمَ فِي شَوَّالٍ، فَلَهُ تَحْلِيلُهُ قَبْلَ دُخُولِ ذِي الْقِعْدَةِ، وَبَعْدَ دُخُولِهِ، فَلَا. وَإِذَا أَفْسَدَ الْعَبْدُ حَجَّهُ بِالْجِمَاعِ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ. وَهَلْ يُجْزِئُهُ الْقَضَاءُ فِي الرِّقِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الصَّبِيِّ: فَإِنْ قُلْنَا: يُجْزِئُ، لَمْ يُلْزَمُ السَّيِّدُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَكُلُّ دَمٍ لَزِمَهُ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ، كَاللِّبَاسِ، وَالصَّيْدِ، أَوْ بِالْفَوَاتِ، لَمْ يُلْزَمِ السَّيِّدُ بِحَالٍ سَوَاءً أَحَرَمَ بِإِذْنِهِ أَمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ

ثُمَّ الْعَبْدُ، لَا مِلْكَ لَهُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِذَبْحٍ. فَإِنْ مَلَكَهُ السَّيِّدُ، فَعَلَى الْقَدِيمِ: يَمْلِكُ، فَيَلْزَمُ إِخْرَاجُهُ. وَعَلَى الْجَدِيدِ، لَا يَمْلِكُ، فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ، وَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْهُ فِي حَالِ الرِّقِّ إِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَكَذَا بِإِذْنِهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي مُوجِبِهِ. وَلَوْ قَرَنَ، أَوْ تَمَتَّعَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، فَحُكْمُ دَمِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ حُكْمُ دِمَاءِ الْمَحْظُورَاتِ. وَإِنْ قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ بِإِذْنِهِ، فَهَلْ يَجِبُ الدَّمُ عَلَى السَّيِّدِ؟ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَفِي الْقَدِيمِ قَوْلَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ يَكُونُ ضَامِنًا لِلْمَهْرِ عَلَى الْقَدِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لِلْمَهْرِ، وَلِلدَّمِ بَدَلٌ، وَهُوَ الصَّوْمُ، وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِهِ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ أَحْرَمَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَأُحْصِرَ وَتَحَلَّلَ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا بَدَلَ لِدَمِ الْإِحْصَارِ، صَارَ السَّيِّدُ ضَامِنًا عَلَى الْقَدِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ بَدَلٌ، فَفِي صَيْرُورَتِهِ ضَامِنًا لَهُ فِي الْقَدِيمِ، قَوْلَانِ. وَإِذَا لَمْ نُوجِبِ الدَّمَ عَلَى السَّيِّدِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الصَّوْمُ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأِذْنِهِ فِي سَبَبِهِ. وَلَوْ مَلَكَ السَّيِّدُ هَدْيًا، وَقُلْنَا: يَمْلِكُهُ، أَرَاقَهُ، وَإِلَّا، لَمْ تَجُزْ إِرَاقَتُهُ. وَلَوْ أَرَاقَهُ السَّيِّدُ عَنْهُ فَهُوَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ أَرَاقَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، جَازَ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ تَكْفِيرِهِ. وَالتَّمْلِيكُ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَلِهَذَا، لَوْ تَصَدَّقَ عَنْ مَيِّتٍ جَازَ. وَلَوْ عَتَقَ الْعَبْدَ قَبْلَ صَوْمِهِ وَوَجَدَ هَدْيًا، فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ إِنِ اعْتَبَرْنَا فِي الْكَفَّارَةِ حَالَ الْأَدَاءِ أَوِ الْأَغْلَظِ. وَإِنِ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْوُجُوبِ، فَلَهُ الصَّوْمُ. وَهَلْ لَهُ الْهَدْيُ؟ قَوْلَانِ. فَرْعٌ حَيْثُ جَوَّزْنَا لِلسَّيِّدِ تَحْلِيلَهُ، أَرَدْنَا أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالتَّحَلُّلِ، لَا أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِمَا يَحْصُلُ

بِهِ التَّحَلُّلُ، إِذْ غَايَتُهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيَمْنَعَهُ الْمُضِيَّ، وَيَأْمُرَهُ بِفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ، أَوْ يَفْعَلُهَا بِهِ، وَلَا يَرْتَفِعُ الْإِحْرَامُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا. وَإِذَا جَازَ لِلْعَبْدِ تَحْلِيلُهُ، جَازَ لِلْعَبْدِ التَّحَلُّلُ. ثُمَّ إِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا، وَقُلْنَا: يَمْلِكُ، ذَبَحَ وَنَوَى التَّحَلُّلَ، أَوْ حَلَقَ وَنَوَى التَّحَلُّلَ، وَإِلَّا فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْحُرِّ، فَيَتَوَقَّفُ تَحَلُّلُهُ عَلَى وُجُودِ الْهَدْيِ، إِنْ قُلْنَا: لَا بَدَلَ لِدَمِ الْإِحْصَارِ، أَوْ عَلَى الصَّوْمِ، إِنْ قُلْنَا: لَهُ بَدَلٌ. كُلُّ هَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَعَلَى أَظْهَرِهِمَا: لَا يَتَوَقَّفُ، بَلْ يَكْفِيهِ نِيَّةُ التَّحَلُّلِ وَالْحَلْقِ إِنْ قُلْنَا: نُسُكٌ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي، الْقَطْعُ بِهَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي. وَهَذَا الطَّرِيقُ، هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، لِعِظَمِ الْمَشَقَّةِ فِي انْتِظَارِ الْعِتْقِ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَهُ لِسَيِّدِهِ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهُ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. فَرْعٌ أُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبِّرُ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، كَالْقِنِّ. وَلَوْ أَحْرَمَ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَوْلَى، فَقِيلَ: فِي جَوَازِ تَحْلِيلِهِ قَوْلَانِ، كَمَنْعِهِ مِنْ سَفَرِ التِّجَارَةِ. وَقِيلَ: لَهُ تَحْلِيلُهُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ مَنْفَعَةٌ فِي سَفَرِ التِّجَارَةِ. فَرْعٌ يَنْعَقِدُ نَذْرُ الْحَجِّ مِنَ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ. فَلَوْ أَتَى بِهِ فِي حَالِ الرِّقِّ، هَلْ يُجْزِئُهُ؟ وَجْهَانِ. [قُلْتُ: الْأَصَحُّ. يُجْزِئُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.] الْمَانِعُ الرَّابِعُ: الزَّوْجِيَّةُ. يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ لَا تُحْرِمَ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا،

وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْحَجُّ بِهَا. فَلَوْ أَرَادَتْ أَدَاءَ فَرْضِ حَجِّهَا، فَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ، بَلْ لَهَا أَنْ تُحْرِمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهَذَا، وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، إِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا، لَمْ يَمْلُكْ تَحْلِيلَهَا، وَإِلَّا، فَيَمْلُكُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَأَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ. فَإِنْ أَحْرَمَتْ بِهِ، فَلَهُ تَحْلِيلُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: يُحَلِّلُهَا. فَمَعْنَاهُ: يَأْمُرُهَا بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْعَبْدِ. وَتَحَلُّلُهَا كَتَحَلُّلِ الْحُرِّ الْمُحْصَرِ سَوَاءٌ. وَلَوْ لَمْ تَتَحَلَّلْ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، وَالْإِثْمُ عَلَيْهَا، كَذَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ، ثُمَّ تَوَقَّفَ فِيهِ الْإِمَامُ. فَرْعٌ لَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً، فَعَلَيْهِ حَبْسُهَا لِلْعِدَّةِ، وَلَيْسَ لَهَا التَّحَلُّلُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ رَجْعِيَّةً، فَيُرَاجِعُهَا وَيُحَلِّلُهَا. فَرْعٌ الْأَمَةُ الْمُزَوَّجَةُ، لَيْسَ لَهَا الْإِحْرَامُ إِلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ جَمِيعًا. الْمَانِعُ الْخَامِسُ: مَنْعُ الْأَبَوَيْنِ، فَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَحِجَّ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا، أَوْ بِإِذْنِهِ. وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَنْعُهُ مِنَ الْإِحْرَامِ بِالتَّطَوُّعِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ فِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ. وَهَلْ لَهُمَا تَحْلِيلُهُ؟ قَوْلَانِ سَبَقَ نَظِيرُهُمَا. وَأَمَّا حَجُّ الْفَرْضِ، فَلَيْسَ لَهُمَا مَنْعُهُ مِنَ الْإِحْرَامِ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ كَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ، فَلَا مَنْعَ بِحَالٍ، وَحُكِيَ فِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ مُنْكَرٌ.

فصل

الْمَانِعُ السَّادِسُ: الدَّيْنُ. فَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ وَهُوَ مُوسِرٌ، يَجُوزُ لِمُسْتَحِقِّ الدَّيْنِ مَنْعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ وَحَبْسُهُ. فَإِنْ أَحْرَمَ، فَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ كَمَا سَبَقَ، بَلْ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْمُضِيُّ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَلَا مُطَالَبَةَ وَلَا مَنْعَ، وَكَذَا لَا مَنْعَ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَخْرُجَ حَتَّى يُوَكِّلَ مَنْ يَقْضِي الدَّيْنَ عِنْدَ حُلُولِهِ. فَصْلٌ إِذَا تَحَلَّلَ الْمُحْصِرُ، فَإِنْ كَانَ نُسُكُهُ تَطَوُّعًا، فَلَا قَضَاءَ، وَإِلَّا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا كَحِجَّةِ الْإِسْلَامِ فِيمَا بَعْدَ السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ سِنِّيِ الْإِمْكَانِ، وَكَالْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ، فَهُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَفْيِ الْقَضَاءِ، هُوَ فِي الْحَصْرِ الْعَامِّ. فَأَمَّا الْخَاصُّ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ كَالْعَامِّ. وَقِيلَ: يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ. فَرْعٌ لَوْ صُدَّ عَنْ طَرِيقٍ، وَهُنَاكَ طَرِيقٌ آخَرُ، نُظِرَ، إِنْ تَمَكَّنَ مِنْ سُلُوكِهِ، بِأَنْ وَجَدَ شَرَائِطَ الِاسْتِطَاعَةِ فِيهِ، لَزِمَهُ سُلُوكُهُ، سَوَاءً طَالَ هَذَا الطَّرِيقُ، أَمْ قَصُرَ، سَوَاءً رَجَا الْإِدْرَاكَ، أَمْ خَافَ الْفَوَاتَ، أَمْ تَيَقَّنَهُ، بِأَنْ أُحْصِرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ بِالْعِرَاقِ مَثَلًا، فَيَجِبُ الْمُضِيُّ وَالتَّحَلُّلُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ بِحَالٍ، وَإِذَا سَلَكَهُ كَمَا أَمَرْنَاهُ، فَفَاتَهُ الْحَجُّ لِطُولِ الطَّرِيقِ الثَّانِي، أَوْ خُشُونَتِهِ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يَحْصُلُ الْفَوَاتُ بِسَبَبِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهُ

مُحْصَرٌ، وَلِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ سَلَكَهُ ابْتِدَاءً فَفَاتَهُ بِضَلَالِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ. وَلَوِ اسْتَوَى الطَّرِيقَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَجَبَ الْقَضَاءُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ فَوَاتٌ مَحْضٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الْآخَرِ، فَهُوَ كَالصَّدِّ الْمُطْلَقِ. وَلَوْ أُحْصِرَ، فَصَابَرَ الْإِحْرَامَ مُتَوَقِّعًا زَوَالَهُ، فَفَاتَهُ الْحَجُّ، وَالْإِحْصَارُ دَائِمٌ، تَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَفِي الْقَضَاءِ، طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ فَاتَهُ لِطُولِ الطَّرِيقِ الثَّانِي. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِالْمُصَابَرَةِ فِي الْفَوَاتِ. فَرْعٌ لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ التَّحَلُّلِ بِالْإِحْصَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَّفِقَ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا بَيْنَ الْإِحْصَارِ عَنِ الْبَيْتِ فَقَطْ، أَوْ عَنِ الْمَوْقِفِ فَقَطْ، أَوْ عَنْهُمَا. ثُمَّ إِنْ كَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ، وَأَقَامَ عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى أَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، لَزِمَهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْهَدْيُ، لِلْفَوَاتِ. وَإِنْ لَمْ يَزُلِ الْحَصْرُ، تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، وَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ هَدْيَانِ. أَحَدُهُمَا: لِلْفَوَاتِ، وَالْآخَرُ: لِلتَّحَلُّلِ. وَإِنْ كَانَ الْإِحْصَارُ بَعْدَ الْوُقُوفِ، فَإِنْ تَحَلَّلَ، فَذَاكَ. وَهَلْ يَجُوزُ الْبِنَاءُ لَوِ انْكَشَفَ الْإِحْصَارُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. الْجَدِيدُ: لَا يَجُوزُ، وَالْقَدِيمُ: يَجُوزُ. وَيُحْرِمُ إِحْرَامًا نَاقِصًا وَيَأْتِي بِبَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ لَمْ يَبِنْ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ. وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ. وَإِنْ لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى فَاتَهُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ، فَهُوَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى وُجُوبِ الدَّمِ لِفَوَاتِهِمَا، كَغَيْرِ الْمُحْصَرِ. وَبِمَاذَا يَتَحَلَّلُ؟ بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، أَمْ لَا؟ وَأَنَّ فَوَاتَ زَمَنِ الرَّمْيِ كَالرَّمْيِ، أَمْ لَا؟ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا. فَإِنْ قُلْنَا: فَوَاتُ وَقْتِ الرَّمْيِ كَالرَّمْيِ، وَقُلْنَا: الْحَلْقُ نُسُكٌ، حَلْقٌ وَتَحَلُّلُ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِنُسُكٍ، حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِمُضِيِّ زَمَنِ الرَّمْيِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَالطَّوَافُ بَاقٍ عَلَيْهِ. فَمَتَى أَمْكَنَهُ طَافَ، فَيَتِمُّ حِجُّهُ. ثُمَّ إِذَا تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ الْوَاقِعِ بَعْدَ

فصل

الْوُقُوفِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَوْلَيْنِ، وَطَرَدَهُمَا فِي كُلِّ صُورَةٍ أَتَى فِيهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِنُسُكٍ لِتَأَكُّدِ الْإِحْرَامِ بِذَلِكَ النُّسُكِ. وَلَوْ صُدَّ عَنْ عَرَفَاتٍ وَلَمْ يُصَدَّ عَنْ مَكَّةَ، فَيَدْخُلُ مَكَّةَ وَيَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ. وَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَوْلَانِ سَبَقَا. فَصْلٌ فِي حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ فَوَاتُهُ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ، وَإِذَا فَاتَ تَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ وَالَسَّعْيِ وَالْحَلْقِ، وَالطَّوَافُ لَا بُدَّ مِنْهُ قَطْعًا. وَكَذَا السَّعْيُ عَلَى الْمَذْهَبِ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ. وَفِي قَوْلٍ: لَا حَاجَةَ إِلَى السَّعْيِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ. وَأَمَّا الْحَلْقُ، فَيَجِبُ إِنْ قُلْنَا: هُوَ نُسُكٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَا يَجِبُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ بِمِنَى وَإِنْ بَقِيَ وَقْتُهُمَا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَالِاصْطَخْرِيُّ: يَجِبُ. ثُمَّ إِذَا تَحَلَّلَ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، لَا يَنْقَلِبُ حَجُّهُ عُمْرَةً، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ. وَفِي وَجْهٍ: يَنْقَلِبُ عُمْرَةً، وَهُوَ شَاذٌّ. ثُمَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، إِنْ كَانَ حَجُّهُ فَرْضًا، فَهُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ. وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ كَمَا لَوْ أَفْسَدَهُ. وَفِي وُجُوبِ الْفَوْرِ فِي الْقَضَاءِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْإِفْسَادِ. وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ عُمْرَةٍ مَعَ الْحَجِّ عِنْدَنَا، وَيَلْزَمُ مَعَ الْقَضَاءِ لِلْفَوَاتِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخْرِجٌ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمَانِ. أَحَدُهُمَا: لِلْفَوَاتِ، وَالْآخَرُ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتَمَتِّعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَحَلَّلَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْفَوَاتِ مِمَّا يُعْذَرُ فِيهِ كَالنَّوْمِ، أَمْ فِيهِ تَقْصِيرٌ.

باب

بَابُ الدِّمَاءِ الدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي الْمَنَاسِكِ، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِتَرْكٍ وَاجِبٍ، أَوِ ارْتِكَابِ مَنْهِيٍّ، إِذَا أَطْلَقْنَاهَا، أَرَدْنَا شَاةً. فَإِنْ [كَانَ] الْوَاجِبُ غَيْرَهَا، كَالْبَدَنَةِ فِي الْجِمَاعِ، نَصَصْنَا عَلَيْهَا. وَلَا يُجْزِئُ فِيهَا جَمِيعُهَا إِلَّا مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَةِ، إِلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، فَيَجِبُ الْمِثْلُ، فِي الصَّغِيرِ صَغِيرٌ، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرٌ. وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ شَاةٌ، جَازَ لَهُ ذَبْحُ بَقَرَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ مَكَانَهَا، إِلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ. وَإِذَا ذَبَحَ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً مَكَانَ الشَّاةِ، فَهَلِ الْجَمِيعُ فَرْضٌ حَتَّى لَا يَجُوزُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهَا أَمِ الْفَرْضُ سُبْعُهَا حَتَّى يَجُوزَ لَهُ أَكْلُ الْبَاقِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ سُبْعُهَا، صَحَّحَهُ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ ذَبَحَ بَدَنَةً وَنَوَى التَّصَدُّقَ بِسُبْعِهَا عَنِ الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَأَكَلَ الْبَاقِيَ، جَازَ. وَلَهُ أَنْ يَنْحَرَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ لَزِمَتْهُ. وَلَوِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي ذَبْحِ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ، وَأَرَادَ بَعْضُهُمُ الْهَدْيَ، وَبَعْضُهُمُ الْأُضْحِيَةَ، وَبَعْضُهُمُ اللَّحْمَ، جَازَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي شَاتَيْنِ، لِإِمْكَانِ الِانْفِرَادِ. فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّمَاءِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَفِيهِ نَظَرَانِ. أَحَدُهُمَا: النَّظَرُ فِي أَيِّ دَمٍ يَجِبُ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَأَيُّ دَمٍ يَجِبُ عَلَى التَّخْيِيرِ؟

وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ، فَمَعْنَى التَّرْتِيبِ: أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الذَّبْحُ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا إِذَا عَجَزَ عَنْهُ. وَمَعْنَى التَّخْيِيرِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَالنَّظَرُ الثَّانِي: فِي أَنَّهُ، أَيُّ دَمٍ يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، وَأَيُّ دَمٍ يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدِيلِ؟ وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ. فَمَعْنَى التَّقْدِيرِ: أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ الْبَدَلَ الْمَعْدُولَ إِلَيْهِ تَرْتِيبًا أَوْ تَخْيِيرًا بِقَدْرٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. وَمَعْنَى التَّعْدِيلِ: أَنَّهُ أَمَرَ فِيهِ بِالتَّقْوِيمِ وَالْعُدُولِ إِلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ الْقِيمَةِ. فَكُلُّ دَمٍ بِحَسَبِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: التَّرْتِيبُ وَالتَّقْدِيرُ. وَالثَّانِي: التَّرْتِيبُ وَالتَّعْدِيلُ. وَالثَّالِثُ: التَّخْيِيرُ وَالتَّقْدِيرُ. وَالرَّابِعُ: التَّخْيِيرُ وَالتَّعْدِيلُ. وَتَفْصِيلُهَا بِثَمَانِيَةِ أَنْوَاعٍ. أَحَدُهَا: دَمُ التَّمَتُّعِ، وَهُوَ دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيرٍ، كَمَا وَرَدَ بِهِ نَصُّ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ. وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ دَمَ الْقِرَانِ فِي مَعْنَاهُ. وَفِي دَمِ الْفَوَاتِ، طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ كَدَمَ التَّمَتُّعَ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيرِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَدَمِ الْجِمَاعِ فِي الْأَحْكَامِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا شَاةً، وَالْجِمَاعُ بَدَنَةً، لَاشْتِرَاكِ الصُّورَتَيْنِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ. الثَّانِي: جَزَاءُ الصَّيْدِ، وَهُوَ دَمُ تَخْيِيرٍ وَتَعْدِيلٍ، وَيَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الصَّيْدِ مِثْلِيًّا أَوْ غَيْرِهِ، وَسَبَقَ إِيضَاحُهُ. وَجَزَاءُ شَجَرِ الْحَرَمِ، كَجَزَاءِ الصَّيْدِ. وَسَبَقَ حِكَايَةُ قَوْلٍ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي ثَوْرٍ، أَنَّ دَمَ الصَّيْدِ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَهُوَ شَاذٌّ. الثَّالِثُ: دَمُ الْحَلْقِ وَالْقَلْمِ، وَهُوَ دَمُ تَخْيِيرٍ وَتَقْدِيرٍ. فَإِذَا حَلَقَ جَمِيعَ شَعْرِهِ، أَوْ ثَلَاثَ شَعْرَاتٍ، يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَذْبَحَ شَاةً، وَبَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَإِذَا تَصَدَّقَ بِالْآصُعِ، وَجَبَ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى فِي «الْعُدَّةِ» وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ مَا يُعْطَى كُلُّ مِسْكِينٍ.

الرَّابِعُ: الدَّمُ الْمَنُوطُ بِتَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ، كَالْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَبِمِنَى لَيَالِي التَّشْرِيقِ، وَالدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ. وَفِي هَذَا الدَّمِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَكَثِيرُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ: أَنَّهُ كَدَمِ التَّمَتُّعِ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيرِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الدَّمِ، صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَرْتِيبٌ وَتَعْدِيلٌ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ هُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى التَّقْدِيرِ بِتَوْقِيفٍ. فَعَلَى هَذَا، يَلْزَمُهُ ذَبْحُ شَاةٍ. فَإِنْ عَجَزَ، قَوَّمَهَا دَرَاهِمَ وَاشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ. فَإِنْ عَجَزَ، صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَإِذَا تَرَكَ حَصَاةً، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَقْوَالًا فِي أَنَّ الْوَاجِبَ مُدٌّ، أَوْ دِرْهَمٌ، أَوْ ثُلُثُ شَاةٍ؟ فَإِنْ عَجَزَ، فَالطَّعَامُ، ثُمَّ الصَّوْمُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ التَّعْدِيلُ بِالْقِيمَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ دَمُ تَرْتِيبٍ. فَإِنْ عَجَزَ، لَزِمَهُ صَوْمُ الْحَلْقِ. وَالرَّابِعُ: دَمُ تَخْيِيرٍ وَتَعْدِيلٍ، كَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ. الْخَامِسُ: دَمُ الِاسْتِمْتَاعِ، كَالتَّطَيُّبِ وَالِادِّهَانِ وَاللَّبْسِ وَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ، فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ: أَنَّهُ دَمُ تَخْيِيرٍ، وَتَقْدِيرٍ، كَالْحَلْقِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّرَفُّهِ. وَالثَّانِي: تَخْيِيرٌ وَتَعْدِيلٌ، كَالصَّيْدِ. وَالثَّالِثُ: تَرْتِيبٌ وَتَعْدِيلٌ. وَالرَّابِعُ: تَرْتِيبٌ وَتَقْدِيرٌ، كَالتَّمَتُّعِ. السَّادِسُ: دَمُ الْجِمَاعِ، [وَ] فِيهِ طُرُقٌ لِلْأَصْحَابِ، وَاخْتِلَافُ مُنْتَشِرٍ، الْمَذْهَبُ مِنْهُ: أَنَّهُ دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَعْدِيلٍ، فَيَجِبُ بَدَنَةٌ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا، فَبَقَرَةٌ. فَإِنْ عَجَزَ، فَسَبْعَةٌ مِنَ الْغَنَمِ. فَإِنْ عَجَزَ، قَوَّمَ الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمُ بِطَعَامٍ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ. فَإِنْ عَجَزَ، صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَقِيلَ: إِذَا عَجَزَ عَنِ الْغَنَمِ، قَوَّمَ الْبَدَنَةَ وَصَامَ. فَإِنْ عَجَزَ، أَطْعَمَ، فَيُقَدِّمُ الصِّيَامَ عَلَى الْإِطْعَامِ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَنَحْوِهَا، وَقِيلَ: لَا مَدْخَلَ لِلْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ هُنَا، بَلْ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْغَنَمِ، ثَبَتَ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَجِدَ تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي دَمِ الْإِحْصَارِ. وَلَنَا قَوْلٌ: وَقِيلَ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْبَدَنَةِ، وَالْبَقَرَةِ، وَالْغَنَمِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا، فَالْإِطْعَامُ

فصل

ثُمَّ الصَّوْمُ. وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْبَدَنَةِ، وَالْبَقَرَةِ، وَالسَّبْعِ مِنَ الْغَنَمِ، وَالْإِطْعَامِ، وَالصِّيَامِ. السَّابِعُ: دَمُ الْجِمَاعِ الثَّانِي، أَوِ الْجِمَاعُ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ. وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ، أَنَّ وَاجِبَهُمَا بَدَنَةٌ، أَمْ شَاةٌ؟ إِنْ قُلْنَا: بَدَنَةٌ، فَهِيَ فِي الْكَيْفِيَّةِ كَالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ، وَإِلَّا، فَكَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ. الثَّامِنُ: دَمُ الْإِحْصَارِ، فَمَنْ تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَلَا عُدُولَ عَنْهَا إِذَا وَجَدَهَا. وَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا، فَهَلْ لَهُ بَدَلٌ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، كَسَائِرِ الدِّمَاءِ. وَالثَّانِي: لَا، إِذْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ بَدَلُهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْبَدَلِ، فَفِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: بَدَلُهُ الْإِطْعَامُ بِالتَّعْدِيلِ. فَإِنْ عَجَزَ، صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ عَلَى هَذَا، بَيْنَ صَوْمِ الْحَلْقِ وَإِطْعَامِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: بَدَلُهُ الْإِطْعَامُ فَقَطْ، وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: ثَلَاثَةُ آصُعٍ، كَالْحَلْقِ. وَالثَّانِي: يُطْعِمُ مَا يَقْتَضِيهِ التَّعْدِيلُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: بَدَلُهُ الصَّوْمُ فَقَطْ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: عَشْرَةُ أَيَّامٍ. وَالثَّانِي: ثَلَاثَةٌ. وَالثَّالِثُ: بِالتَّعْدِيلِ عَنْ كُلِّ مَدٍّ يَوْمًا. وَلَا مَدْخَلَ لِلطَّعَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِهِ قَدْرُ الصِّيَامِ. وَالْمَذْهَبُ عَلَى الْجُمْلَةِ: التَّرْتِيبُ وَالتَّعْدِيلُ. فَصْلٌ فِي بَيَانِ زَمَانِ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَمَكَانِهَا أَمَّا الزَّمَانُ: فَالدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي الْإِحْرَامِ لِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ أَوْ تَرْكِ مَأْمُورٍ، لَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، بَلْ تَجُوزُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَغَيْرِهِ. وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ الضَّحَايَا، ثُمَّ مَا سِوَى دَمِ الْفَوَاتِ يُرَاقُ فِي النُّسُكِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَأَمَّا دَمُ الْفَوَاتِ، فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَى سُنَّةِ الْقَضَاءِ. وَهَلْ تَجُوزُ إِرَاقَتُهُ فِي سُنَّةِ الْفَوَاتِ؟ قَوْلَانِ:

أَظْهَرُهُمَا: لَا، بَلْ يَجِبُ تَأْخِيرُهُ إِلَى سُنَّةِ الْقَضَاءِ. وَالثَّانِي، نَعَمْ، كَدِمَاءِ الْإِفْسَادِ. فَعَلَى هَذَا، وَقْتُ الْوُجُوبِ سُنَّةُ الْفَوَاتِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ، فَفِي وَقْتِ الْوُجُوبِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: وَقَتُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ، كَمَا يَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. وَلِهَذَا نَقُولُ: لَوْ ذَبَحَ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ مِنَ الْفَائِتِ، لَمْ يُجْزِهِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا لَوْ ذَبَحَ الْمُتَمَتِّعُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ، هَذَا إِذَا كَفَّرَ بِالدَّمِ، أَمَّا إِذَا كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، فَإِنْ قُلْنَا: وَقْتُ الْوُجُوبِ أَنْ يَحْرُمَ بِالْقَضَاءِ، لَمْ يُقَدَّمْ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَيَصُومُ السَّبْعَةَ إِذَا رَجَعَ، وَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ بِالْفَوَاتِ، فَفِي جَوَازِ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ فِي حَجَّةِ الْفَوَاتِ وَجْهَانِ: وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ إِحْرَامٌ نَاقِصٌ. وَأَمَّا الْمَكَانُ، فَالدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْمُحْرِمِ ضَرْبَانِ. وَاجِبٌ عَلَى الْمُحْصَرِ بِالْإِحْصَارِ، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْإِحْصَارِ. وَوَاجِبٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ، وَيَجِبُ تَفْرِيقُ لَحْمِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، سَوَاءٌ الْغُرَبَاءُ الطَّارِئُونَ وَالْمُسْتَوْطِنُونَ، لَكِنَّ الصَّرْفَ إِلَى الْمُسْتَوْطِنِينَ أَفْضَلُ. وَهَلْ يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ بِالْحَرَمِ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. فَلَوْ ذَبَحَ فِي طَرَفِ الْحِلِّ، لَمْ يُجْزِهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ ذَبْحُهُ خَارِجَ الْحَرَمِ، بِشَرْطِ أَنْ يُنْقَلَ وَيُفَرَّقَ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ تَغَيُّرِ اللَّحْمِ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ دَمُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَسَائِرُ مَا يَجِبُ بِسَبَبٍ فِي الْحِلِّ أَوِ الْحَرَمِ، أَوْ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ، كَالْحَلْقِ لِلْأَدْنَى، أَوْ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ. وَفِي الْقَدِيمِ قَوْلَانِ. مَا أُنْشِئَ بِسَبَبِهِ فِي الْحِلِّ، يَجُوزُ ذَبْحُهُ وَتَفْرِقَتُهُ فِي الْحِلِّ، كَدَمِ الْإِحْصَارِ. وَفِي وَجْهٍ: مَا وَجَبَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ، لَا يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ وَتَفْرِقَتُهُ بِالْحَرَمِ. وَوَجْهٍ: أَنَّهُ لَوْ حَلَقَ قَبْلَ وُصُولِهِ الْحَرَمَ وَذَبَحَ وَفَرَّقَ حَيْثُ حَلَقَ، جَازَ. وَكُلُّ هَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَأَفْضَلُ الْحَرَمِ لِلذَّبْحِ فِي حَقِّ الْحَاجِّ، مِنَى. وَفِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ، الْمَرْوَةُ، لِأَنَّهُمَا مَحَلُّ تَحَلُّلِهِمَا. وَكَذَا حُكْمُ مَا يَسُوقَانِهِ مِنَ الْهَدْيِ.

قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنُ فِي «الْفَتَاوَى» : وَلَوْ لَمْ يَجِدْ فِي الْحَرَمِ مِسْكِينًا، لَمْ يَجُزْ نَقْلُ الدَّمِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، سَوَاءً جَوَّزْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ، كَمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ عَلَى مَسَاكِينِ بَلَدٍ فَلَمْ يَجِدْهُمْ، يَصْبِرُ إِلَى أَنْ يَجِدَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا، وَيُخَالِفُ الزَّكَاةَ عَلَى قَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ بِتَخْصِيصِ الْبَلَدِ، بِهَا، بِخِلَافِ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِالْإِطْعَامِ بَدَلًا عَنِ الذَّبْحِ، وَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ، يَأْتِي بِهِ حَيْثُ شَاءَ، إِذْ لَا غَرَضَ لِلْمَسَاكِينِ فِيهِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَاجِبَ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ مَسَاكِينِ الْحَرَمِ إِنْ قَدَرَ. فَإِنْ دَفَعَ إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ثَالِثٍ، ضَمِنَ. وَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الثُلُثُ، وَالثَّانِي: أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَتَلْزَمُهُ النِّيَّةُ عِنْدَ التَّفْرِقَةِ، قَالَ: فَإِنْ فَرَّقَ الطَّعَامَ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ كَالْكَفَّارَةِ، أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: لَا يَتَقَيَّدُ، بَلْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مُدٍّ، وَالنَّقْصُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْهُ وَلَا أَكْثَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي الْحَرَمِ، فَسُرِقَ مِنْهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الذَّبْحِ، وَلَهُ شِرَاءُ اللَّحْمِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ بَدَلُ الذَّبْحِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَكْفِيهِ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ.

باب الهدي

فَصْلٌ الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: هُنَّ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، آخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ. وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. بَابُ الْهَدْيِ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَنْ يَهْدِيَ إِلَيْهَا شَيْئًا مِنَ النَّعَمِ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ إِلَّا بِالنَّذْرِ. وَإِذَا سَاقَ هَدْيًا تَطَوُّعًا أَوْ مَنْذُورًا، فَإِنْ كَانَ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً، اسْتَحَبَّ أَنْ يُقَلِّدَهَا نَعْلَيْنِ، وَلِيَكُنْ لَهُمَا قِيمَةٌ لِيَتَصَدَّقَ بِهِمَا، وَأَنْ يُشْعِرَهَا أَيْضًا، وَالْإِشْعَارُ الْإِعْلَامُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنْ يَضْرِبَ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ بِحَدِيدَةٍ وَهِيَ مُسْتَقْبِلَةٌ الْقِبْلَةَ فَيُدْمِيهَا وَيُلَطِّخُهَا بِالدَّمِ، لِيَعْلَمَ مَنْ رَآهَا أَنَّهَا هَدْيٌ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا. وَإِنْ سَاقَ غَنَمًا، اسْتُحِبَّ تَقْلِيدُهَا بِخَرِبِ الْقِرَبِ، وَهِيَ عُرَاهَا وَآذَانُهَا، لَا بِالنَّعْلِ، وَلَا يُشْعِرُهَا.

قُلْتُ: وَفِي الْأَفْضَلِ مِمَّا يُقَدَّمُ مِنَ الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُ الْإِشْعَارُ، وَقَدْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثٌ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ". وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ التَّقْلِيدُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَصَحَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَ صَاحِبُ " الْبَحْرِ ": وَإِنْ قَرَنَ هَدْيَيْنِ فِي حَبْلٍ، أَشْعَرَ أَحَدَهُمَا فِي سَنَامِهِ الْأَيْمَنِ، وَالْآخَرَ فِي الْأَيْسَرِ، لِيُشَاهَدَا، وَفِيمَا قَالَهُ احْتِمَالٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا قَلَّدَ النَّعَمَ وَأَشْعَرَهَا، لَمْ تَصِرْ هَدْيًا وَاجِبًا عَلَى الْمَشْهُورِ، كَمَا لَوْ كَتَبَ الْوَقْفَ عَلَى بَابِ دَارِهِ. وَإِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَعَلَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ أَكْلٍ وَغَيْرِهِمَا. وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا، لَزِمَهُ ذَبْحُهُ. فَلَوْ تَرَكَهُ حَتَّى هَلَكَ ضَمِنَهُ. وَإِذَا ذَبَحَهُ، غَمَسَ النَّعْلَ الَّتِي قَلَّدَهُ فِي دَمِهِ، وَضَرَبَ بِهَا سَنَامَهُ، وَتَرَكَهُ لِيَعْلَمَ مَنْ مَرَّ بِهِ أَنَّهُ هَدْيٌ، يَأُكَلُ مِنْهُ. وَهَلْ تَتَوَقَّفُ الْإِبَاحَةُ عَلَى قَوْلِهِ:

أَبَحْتُهُ لِمَنْ يَأْكُلُ مِنْهُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا تَتَوَقَّفُ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّذْرِ زَالَ مِلْكُهُ وَصَارَ لِلْمَسَاكِينِ. وَلَا يَجُوزُ لِلْمَهْدِيِّ، وَلَا لِأَغْنِيَاءِ الرُّفْقَةِ، الْأَكْلُ مِنْهُ قَطْعًا، وَلَا لِفُقَرَاءِ الرُّفْقَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّفْقَةِ: جَمِيعُ الْقَافِلَةِ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " وَجْهًا اسْتَحْسَنَهُ: أَنَّهُمُ الَّذِينَ يُخَالِطُونَهُ فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، دُونَ بَاقِي الْقَافِلَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي وَقْتِ ذَبْحِ الْهَدْيِ، وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ، أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، كَالْأُضْحِيَّةِ. وَبِهَذَا قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ. وَالثَّانِي: لَا يَخْتَصُّ بِزَمَنٍ، كَدِمَاءِ الْجَبْرَانِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ أَخَّرَ الذَّبْحَ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ وَاجِبًا، ذَبَحَهُ قَضَاءً، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَقَدْ فَاتَ. فَإِنْ ذَبَحَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ شَاةَ لَحْمٍ. قُلْتُ: وَإِذَا عَطِبَ هَدْيُ التَّطَوُّعِ، فَذَبَحَهُ، قَالَ صَاحِبُ " " الشَّامِلِ " وَغَيْرُهُ: لَا يَصِيرُ مُبَاحًا لِلْفُقَرَاءِ إِلَّا بِلَفْظِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَبَحْتُهُ لِلْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ. قَالَ: وَيَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَهُ الْأَكْلُ. وَفِي غَيْرِهِ، قَوْلَانِ. قَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ ": لَا يَحِلُّ حَتَّى يَعْلَمَ الْإِذْنَ. وَقَالَ فِي " الْقَدِيمِ " وَ " الْأُمِّ ": يَحِلُّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الضحايا

كِتَابُ الضَّحَايَا اعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الرَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ، ذَكَرَ كِتَابَ الضَّحَايَا، وَالصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، وَالْعَقِيقَةِ، وَالْأَطْعِمَةِ، وَالنُّذُورِ، فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ بَعْدَ الْمُسَابَقَةِ. وَهُنَاكَ ذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ، وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ هُنَا، وَهَذَا أَنْسَبُ، فَاخْتَرْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّضْحِيَةُ، سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَشِعَارٌ ظَاهِرٌ، يَنْبَغِي لِمَنْ قَدِرَ أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهَا. وَإِذَا الْتَزَمَهَا بِالنَّذْرِ، لَزِمَتْهُ. وَلَوِ اشْتَرَى بَدَنَةً أَوْ شَاةً تَصْلُحُ لِلضَّحِيَّةِ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ، أَوِ الْهَدْيِ، لَمْ تَصِرْ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ ضَحِيَّةً وَلَا هَدْيًا. وَفِي «تَتِمَّةِ التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ: أَنَّهَا تَصِيرُ، وَهُوَ غَلَطٌ حَصَلَ عَنْ غَفْلَةٍ. وَمَوْضِعُ الْوَجْهِ النِّيَّةُ فِي دَوَامِ الْمِلْكِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : لَوْ قَالَ: إِنِ اشْتَرَيْتُ شَاةً، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَجْعَلَهَا نَذْرًا، فَهُوَ نَذْرٌ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ. فَإِذَا اشْتَرَى شَاةً، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهَا ضَحِيَّةً، وَلَا تَصِيرُ بِالشِّرَاءِ ضَحِيَّةً، فَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ: إِنِ اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الشَّاةَ، فَعَلَيَّ أَنْ أَجْعَلَهَا ضَحِيَّةً، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ جَعْلُهَا ضَحِيَّةً، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّعْيِينِ، وَقَدْ أَوْجَبَهَا قَبْلَ الْمِلْكِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُ، تَغْلِيبًا لِلنَّذْرِ.

فصل

فَصْلٌ لِلتَّضْحِيَةِ شُرُوطٌ وَأَحْكَامٌ. أَمَّا الشُّرُوطُ، فَأَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَذْبُوحُ مِنَ النَّعَمِ، وَهِيَ الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، سَوَاءٌ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَكُلُّ هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَلَا يُجْزِئُ مِنَ الضَّأْنِ إِلَّا الْجَذَعُ أَوِ الْجَذَعَةُ، وَلَا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ إِلَّا الثَّنِيِّ أَوِ الثَّنِيَّةِ. وَفِي وَجْهٍ: يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الْمَعْزِ، وَهُوَ شَاذٌّ. ثُمَّ الْجَذَعُ: مَا اسْتَكْمَلَ سَنَةً عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: مَا اسْتَكْمَلَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةً. فَعَلَى الْأَوَّلِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ: لَوْ أَجْذَعَ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ، كَانَ مُجْزِئًا، كَمَا لَوْ تَمَّتِ السَّنَةُ قَبْلَ أَنْ يَجْذَعَ. وَيَكُونُ ذَلِكَ، كَالْبُلُوغِ بِالسِّنِّ، أَوِ الِاحْتِلَامِ، فَإِنْهُ يَكْفِي فِيهِ أَحَدُهُمَا، وَبِهَذَا صَرَّحَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» فَقَالَ: الْجَذَعَةُ: مَا اسْتَكْمَلَتْ سَنَةً، أَوْ أَجَذَعَتْ قَبْلَهَا، أَيْ: أَسْقَطَتْ سِنَّهَا. وَأَمَّا الثَّنْيُّ مِنَ الْإِبِلِ، فَهُوَ مَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ سِنِينَ، وَطَعَنَ فِي السَّادِسَةِ. وَرَوَى حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ الَّذِي اسْتَكْمَلَ سِتًّا وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَلَيْسَ ذَلِكَ قَوْلًا آخَرَ، وَإِنْ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ نِهَايَةِ سِنِّ الثَّنْيِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ، بَيَانُ ابْتِدَاءِ سِنِّهِ. وَأَمَّا الثَّنْيُ مِنَ الْبَقَرِ، فَمَا اسْتَكْمَلَ سَنَتَيْنِ وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ. وَرَوَى حَرْمَلَةُ: أَنَّهُ مَا اسْتَكْمَلَ ثَلَاثَ سِنِينَ وَدَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ. وَالْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ، هُوَ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الثَّنْيُ مِنَ الْمَعْزِ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ الَّذِي اسْتَكْمَلَ سَنَتَيْنِ وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ. وَقِيلَ: مَا اسْتَكْمَلَ سَنَةً.

فصل

فَصْلٌ فِي صِفَتِهَا وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: الْمَرِيضَةُ، إِنْ كَانَ مَرَضُهَا يَسِيرًا، لَمْ يَمْنَعِ الْإِجْزَاءَ وَإِنْ كَانَ بَيِّنًا يَظْهَرُ بِسَبَبِهِ الْهُزَالُ وَفَسَادُ اللَّحْمِ، مَنَعَ الْإِجْزَاءَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا: أَنَّ الْمَرَضَ لَا يَمْنَعُ بِحَالٍ، وَأَنَّ الْمَرَضَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ الْمُرَادِ بِهِ الْجَرَبُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ الْمَرَضَ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا، وَحَكَاهُ فِي «الْحَاوِي» قَوْلًا قَدِيمًا. وَحُكِيَ وَجْهٌ فِي الْهُيَامِ خَاصَّةً، أَنَّهُ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، وَهُوَ مِنْ أَمْرَاضِ الْمَاشِيَةِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَدَّ عَطَشُهَا، فَلَا تُرْوَى مِنَ الْمَاءِ. قُلْتُ: هُوَ - بِضَمِّ الْهَاءِ - قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ دَاءٌ يَأْخُذُهَا، فَتَهِيمُ فِي الْأَرْضِ لَا تَرْعَى. وَنَاقَةٌ هَيْمَاءُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالْمَدِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: الْجَرَبُ، يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ اللَّحْمَ وَالْوَدْكَ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَمْنَعُ إِلَّا كَثِيرُهُ، كَالْمَرَضِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَسَوَاءٌ فِي الْمَرَضِ وَالْجَرَبِ، مَا يُرْجَى زَوَالُهُ، وَمَا لَا يُرْجَى. الثَّالِثَةُ: الْعَرْجَاءُ، إِنِ اشْتَدَّ عَرَجُهَا، بِحَيْثُ تَسْبِقُهَا الْمَاشِيَةُ إِلَى الْكَلَأِ الطَّيِّبِ

وَتَتَخَلَّفُ عَنِ الْقَطِيعِ، لَمْ تُجْزِئْ. وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يُخْلِفُهَا عَنِ الْمَاشِيَةِ، لَمْ يَضُرَّ. فَلَوِ انْكَسَرَ بَعْضُ قَوَائِمِهَا فَكَانَتْ تَزْحَفُ بِثَلَاثٍ لَمْ تُجْزِئْ. وَلَوْ أَضْجَعَهَا لِيُضَحِّيَ بِهَا وَهِيَ سَلِيمَةٌ، فَاضْطَرَبَتْ وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا، أَوْ عَرِجَتْ تَحْتَ السِّكِّينِ، لَمْ تُجْزِئْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا عَرْجَاءُ عِنْدَ الذَّبْحِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُ شَاةٍ فَبَادَرَ إِلَى التَّضْحِيَةِ بِهَا، فَإِنْهَا لَا تُجْزِئُ. الرَّابِعَةُ: لَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ، وَلَا الْعَوْرَاءُ الَّتِي ذَهَبَتْ حَدَقَتُهَا، [وَكَذَا إِنْ بَقِيَتْ حَدَقَتُهَا] عَلَى الْأَصَحِّ. وَتُجْزِئُ الْعَشْوَاءُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهِيَ الَّتِي تُبْصِرُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، لِأَنَّهَا تُبْصِرُ وَقْتَ الرَّعْيِ. وَأَمَّا الْعَمَشُ وَضَعْفُ بَصَرِ الْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا، فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ غَطَّى النَّاظِرَ بَيَاضٌ، أَذْهَبَ أَكْثَرَهُ مَنَعَ وَإِنْ أَذْهَبَ أَقَلَّهُ، لَمْ يَمْنَعْ عَلَى الصَّحِيحِ. الْخَامِسَةُ: الْعَجْفَاءُ الَّتِي ذَهَبَ مُخُّهَا مِنْ شِدَّةِ هُزَالِهَا، لَا تُجْزِئُ، وَإِنْ كَانَ بِهَا بَعْضُ الْهُزَالِ وَلَمْ يَذْهَبْ مُخُّهَا، [أَجْزَأَتْ] ، كَذَا أَطْلَقَهُ كَثِيرُونَ. وَقَالَ فِي «الْحَاوِي» : إِنْ كَانَ خُلُقِيًّا، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِمَرَضٍ مَنَعَ؛ لِأَنَّهُ دَاءٌ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: كَمَا لَا يُعْتَبَرُ السِّمَنُ الْبَالِغُ لِلْإِجْزَاءِ، لَا يُعْتَبَرُ الْعَجَفُ الْبَالِغُ لِلْمَنْعِ. وَأَقْرَبُ مُعْتَبَرٍ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ لَا تَرْغَبُ فِي لَحْمِهَا الطَّبَقَةُ الْعَالِيَةُ مِنْ طَلَبَةِ اللَّحْمِ فِي سِنِيِ الرَّخَاءِ، مَنَعَتْ. السَّادِسَةُ: وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الثَّوْلَاءِ، وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ الَّتِي تَسْتَدِيرُ فِي الرَّعْيِ وَلَا تَرْعَى إِلَّا قَلِيلًا فَتَهْزِلُ. السَّابِعَةُ: يُجْزِئُ الْفَحْلُ وَإِنْ كَثُرَ نَزَوَانُهُ، وَالْأُنْثَى وَإِنْ كَثُرَتْ وِلَادَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يُطْلَبْ لَحْمُهَا، إِلَّا إِذَا انْتَهَيَا إِلَى الْعَجَفِ الْبَيِّنِ. الثَّامِنَةُ: لَا تُجْزِئُ مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ، فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهَا، نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَبِنْ مِنْهَا شَيْءٌ،

بَلْ شُقَّ طَرَفُهَا وَبَقِيَ مُتَدَلِّيًا، لَمْ يُمْنَعْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يُمْنَعُ. وَإِنْ أَبْيَنَ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأُذُنِ، مُنِعَ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا، مُنِعَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِفَوَاتِ جُزْءٍ مَأْكُولٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ: وَأَقْرَبُ ضَبْطٍ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ: أَنَّهُ إِنْ لَاحَ النَّقْصُ مِنَ الْبُعْدِ، فَكَثِيرٌ، وَإِلَّا فَقَلِيلٌ. التَّاسِعَةُ: لَا يَمْنَعُ الْكَيُّ فِي الْأُذُنِ وَغَيْرِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، لِتَصَلُّبِ الْمَوْضِعِ، وَتُجْزِئُ صَغِيرَةُ الْأُذُنِ، وَلَا تُجْزِئُ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَهَا أُذُنٌ. الْعَاشِرَةُ: لَا تُجْزِئُ الَّتِي أَخَذَ الذِّئْبُ مِقْدَارًا بَيِّنًا مِنْ فَخْذِهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَلَا يَمْنَعُ قَطْعُ الْفَلْقَةِ الْيَسِيرَةِ مِنْ عُضْوٍ كَبِيرٍ وَلَوْ قَطَعَ الذِّئْبُ أَوْ غَيْرُهُ أَلْيَتَهَا أَوْ ضَرْعَهَا، لَمْ تُجْزِئْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَتُجْزِئُ الَّتِي خُلِقَتْ بِلَا ضَرْعٍ أَوْ بِلَا أَلْيَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا يُجْزِئُ الذَّكَرُ مِنَ الْمَعْزِ، بِخِلَافِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَهَا أُذُنٌ؛ لِأَنَّ الْأُذُنَ عُضْوٌ لَازِمٌ غَالِبًا. وَالذَّنَبُ كَالْأَلْيَةِ، وَقَطْعُ بَعْضِ الْأَلْيَةِ أَوِ الضَّرْعِ كَقَطْعِ كُلِّهِ، وَلَا تَجُوزُ مَقْطُوعَةُ بَعْضِ اللِّسَانِ. الْحَادِيَةُ عَشَرَةَ: يُجْزِئُ الْمَوْجُوءُ وَالْخَصِيُّ، كَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَشَذَّ ابْنُ كَجٍّ، فَحَكَى فِي الْخَصِيِّ قَوْلَيْنِ، وَجَعَلَ الْمَنْعَ: الْجَدِيدُ. الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ: تُجْزِئُ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا وَالَّتِي انْكَسَرَ قَرْنُهَا، سَوَاءً دُمِيَ قَرْنُهَا بِالِانْكِسَارِ، أَمْ لَا. قَالَ الْقَفَّالُ: إِلَّا أَنْ يُؤَثِّرَ أَلَمُ الِانْكِسَارِ فِي اللَّحْمِ، فَيَكُونُ كَالْجَرَبِ وَغَيْرِهِ، وَذَاتُ الْقَرْنِ أَفْضَلُ. الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ: تُجْزِئُ الَّتِي ذَهَبَ بَعْضُ أَسْنَانِهَا، فَإِنِ انْكَسَرَ أَوْ تَنَاثَرَ جَمِيعُ أَسْنَانِهَا، فَقَدْ أَطْلَقَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَجَمَاعَةٌ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، وَقَالَ الْإِمَامُ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: تُجْزِئُ. وَقِيلَ: لَا تُجْزِئُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَرَضٍ أَوْ كَانَ يُؤَثِّرُ فِي الِاعْتِلَافِ وَيُنْقِصُ اللَّحْمَ، مَنَعَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَهَذَا حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ يُؤَثِّرُ بِلَا شَكٍّ، فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ إِلَى الْمَنْعِ الْمُطْلَقِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. وَفِي الْحَدِيثِ نُهِيَ عَنِ الْمُشَيَّعَةِ. قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ عَنِ الْغَنَمِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِهُزَالٍ أَوْ عِلَّةٍ، مَنَعَ، لِأَنَّهَا عَجْفَاءُ، وَإِنْ كَانَ عَادَةً وَكَسَلًا، لَمْ يَمْنَعْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ فِي صِفَةِ الْكَمَالِ فِيهِ مَسَائِلُ إِحْدَاهَا: يُسْتَحَبُّ لِلتَّضْحِيَةِ الْأَسْمَنُ الْأَكْمَلُ، حَتَّى أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِشَاةٍ سَمِينَةٍ، أَفْضَلُ مِنْ شَاتَيْنِ دُونِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اسْتِكْثَارُ الْقِيمَةِ فِي الْأُضْحِيَةِ أَحَبُّ مِنَ اسْتِكْثَارِ الْعَدَدِ، وَفِي الْعِتْقِ عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا اللَّحْمُ، وَالسَّمِينُ أَكْثَرُ، وَأَطْيَبُ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْعِتْقِ التَّخْلِيصُ مِنَ الرِّقِّ، وَتَخْلِيصُ عَدَدٍ أَوْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَكَثْرَةُ اللَّحْمِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ الشَّحْمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَحْمًا رَدِيئًا. الثَّانِيَةُ: أَفْضَلُهَا الْبَدَنَةُ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ، ثُمَّ الضَّأْنُ، ثُمَّ الْمَعِزُ. وَسَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ، أَفْضَلُ مِنْ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الْبَدَنَةُ أَوِ الْبَقَرَةُ أَفْضَلُ، لِكَثْرَةِ اللَّحْمِ، وَالتَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ أَفْضَلُ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي بَدَنَةٍ. الثَّالِثَةُ: أَفْضَلُهَا الْبَيْضَاءُ، ثُمَّ الْعَفْرَاءُ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَصْفُو بَيَاضُهَا، ثُمَّ السَّوْدَاءُ. الرَّابِعَةُ: التَّضْحِيَةُ بِالذَّكَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْأُنْثَى عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْبُوَيْطِيُّ. وَحُكِيَ [عَنْ] نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ الْأُنْثَى أَفْضَلُ، فَقِيلَ: لَيْسَ مُرَادُهُ تَفْضِيلَ الْأُنْثَى فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَفْضِيلَهَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، إِذَا قُوِّمَتْ لِإِخْرَاجِ الطَّعَامِ، فَالْأُنْثَى أَكْثَرُ قِيمَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ أُنْثَى لَمْ تَلِدْ أَفْضَلُ مِنَ الذَّكَرِ إِذَا كَثُرَ نَزَوَانُهُ، فَإِنْ فَرَضْنَا ذَكَرًا لَمْ يُنْزِ، وَأُنْثَى لَمْ تَلِدْ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا.

فصل

فَصْلٌ الشَّاةُ الْوَاحِدَةُ لَا يُضَحَّى بِهَا إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ، لَكِنْ إِذَا ضَحَّى بِهَا وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ، تَأَدَّى الشِّعَارُ وَالسُّنَّةُ لِجَمِيعِهِمْ، وَعَلَى هَذَا حُمِلَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشٍ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» . وَكَمَا أَنَّ الْفَرْضَ يَنْقَسِمُ إِلَى فَرْضِ عَيْنٍ، وَفَرْضِ كِفَايَةٍ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ التَّضْحِيَةَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ التَّضْحِيَةَ مَسْنُونَةٌ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ. قُلْتُ: وَقَدْ حَمَلَ جَمَاعَةٌ الْحَدِيثَ عَلَى الْإِشْرَاكِ فِي الثَّوَابِ، وَسَيَأْتِي [بَيَانُهُ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْبَدَنَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَكَذَا الْبَقَرَةُ، سَوَاءً كَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ، أَوْ بُيُوتٍ، سَوَاءً كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ بِقُرْبَةٍ مُتَّفِقَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ، وَاجِبَةٍ أَمْ مُسْتَحَبَّةٍ، أَمْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ. وَإِذَا اشْتَرَكُوا، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ قِسْمَةَ لَحْمِهَا تُبْنَى عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، أَمْ إِفْرَازٌ؟ إِنْ قُلْنَا: إِفْرَازٌ، جَازَتْ. وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، فَبَيْعُ اللَّحْمِ الرَّطْبِ بِمِثْلِهِ، لَا يَجُوزُ، فَالطَّرِيقُ أَنْ يَدْفَعَ الْمُتَقَرِّبُونَ نَصِيبَهُمْ إِلَى الْفُقَرَاءِ مَشَاعًا، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ اللَّحْمَ بِدَرَاهِمَ، أَوْ يَبِيعُ مُرِيدُ اللَّحْمِ نَصِيبَهُ لِلْمُتَقَرِّبِينَ بِدَرَاهِمَ. وَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوا اللَّحْمَ أَجْزَاءً بِاسْمِ كُلِّ وَاحِدٍ جُزْءٌ، ثُمَّ يَبِيعُ صَاحِبُ الْجُزْءِ نَصِيبَهُ مِنْ بَاقِي الْأَجْزَاءِ بِدَرَاهِمَ، وَيَشْتَرِي مِنْ أَصْحَابِهِ نَصِيبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يَتَقَاصُّونَ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» : تَصِحُّ الْقِسْمَةُ، قَطْعًا لِلْحَاجَةِ. وَكَمَا يَجُوزُ تَضْحِيَةُ سَبْعَةٍ بِبَدَنَةٍ

أَوْ بَقَرَةٍ، يَجُوزُ أَنْ يَقْصُدَ بَعْضُهُمُ التَّضْحِيَةَ، وَبَعْضُهُمُ الْهَدْيَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ الْوَاحِدُ الْبَدَنَةَ أَوِ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ لَزِمَتْهُ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَالتَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ، وَالْفَوَاتِ، وَمُبَاشَرَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَنَذْرِ التَّصَدُّقِ بِشَاةٍ، وَالتَّضْحِيَةِ بِشَاةٍ، لَكِنْ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، تُرَاعَى الْمُمَاثَلَةُ وَمُشَابَهَةُ الصُّورَةِ، فَلَا تُجْزِئُ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الظِّبَاءِ. وَلَوْ وَجَبَ شَاتَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ فِي قَتْلِ صَيْدَيْنِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَذْبَحَا عَنْهُمَا بَدَنَةً، وَيَجُوزَ أَنْ يَذْبَحَ الْوَاحِدُ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً، سُبْعُهَا عَنْ شَاةٍ لَزِمَتْهُ، وَيَأْكُلُ الْبَاقِي كَمُشَارَكَةِ مَنْ يُرِيدُ اللَّحْمَ. وَلَوْ جَعَلَ جَمِيعَ الْبَدَنَةِ أَوِ الْبَقَرَةِ مَكَانَ الشَّاةِ، فَهَلْ يَكُونُ [الْجَمِيعُ] وَاجِبًا حَتَّى لَا يَجُوزَ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، أَمِ الْوَاجِبُ السُّبْعُ فَقَطْ حَتَّى يَجُوزَ الْأَكْلُ مِنَ الْبَاقِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِي مَاسِحِ جَمِيعِ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ، هَلْ يَقَعُ جَمِيعُهُ فَرْضًا، أَمِ الْفَرْضُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ؟ قُلْتُ: قِيلَ: الْوَجْهَانِ فِي الْمَسْحِ فِيمَا إِذَا مَسَحَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ مَسَحَ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالثَّانِي سُنَّةٌ قَطْعًا، وَقِيلَ: الْوَجْهَانِ فِي الْحَالَيْنِ، وَمِثْلُهُمَا إِذَا طَوَّلَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالْقِيَامَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ، وَفَائِدَتُهُ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ فِي الْوَاجِبِ، وَالْأَرْجَحُ فِي الْجَمِيعِ أَنَّ الزِّيَادَةَ تَقَعُ تَطَوُّعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي شَاتَيْنِ، لَمْ تُجْزِئْهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يُجْزِئْ بَعْضُ شَاةٍ بِلَا خِلَافٍ بِكُلِّ حَالٍ. الشَّرْطُ الثَّانِي: الْوَقْتُ. فَيَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَمَضَى قَدَرُ رَكْعَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي وَجْهٍ: تُعْتَبَرُ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُطْبَتَهُ. وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِـ (ق) وَ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وَخَطَبَ خُطْبَةً مُتَوَسِّطَةً. وَقَالَتِ الْمَرَاوِزَةُ: الْخِلَافُ فِي طُولِ الصَّلَاةِ فَقَطْ، وَالْخُطْبَةُ مُخَفَّفَةٌ قَطْعًا، فَإِنْهُ السُّنَّةُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمَا أَرَى مَنْ يَعْتَبِرُ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، يَكْتَفِي بِأَقَلِّ مَا يُجْزِئُ، وَظَاهِرُ

كَلَامِ صَاحِبِ «الشَّامِلِ» خِلَافُهُ. وَفِي وَجْهٍ: يَكْفِي مُضِيُّ مَا يَسَعُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْخُطْبَتَانِ. وَيَخْرُجُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَيَجُوزُ لَيْلًا وَنَهَارًا، لَكِنْ تُكْرَهُ التَّضْحِيَةُ وَالذَّبْحُ مُطْلَقًا فِي اللَّيْلِ، فَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَ الْوَقْتِ، لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً، فَإِنْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ، فَاتَتْ، فَإِنْ ضَحَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْوَقْتِ، وَقَعَ عَنِ الْوَقْتِ، لَا عَنِ الْمَاضِي، وَهَذَا كُلُّهُ فِي أُضْحِيَّةِ التَّطَوُّعِ، فَأَمَّا الْمَنْذُورَةُ، فَفِي تَوْقِيتِهَا خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَهْلِيَّةُ الذَّابِحِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَ ضَحِيَّتَهُ وَهَدْيَهُ بِنَفْسِهِ. وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي ذَبْحِهَا مَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُوكِّلَ مُسْلِمًا فَقِيهًا، لِعِلْمِهِ بِشُرُوطِهَا. وَلَا يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ، بِخِلَافِ الْكِتَابِيِّ. وَإِذَا وَكَّلَ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضِرَ الذَّبْحَ. وَيُكْرَهُ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ فِي ذَبْحِهَا. وَفِي كَرَاهَةِ تَوْكِيلِ الْحَائِضِ، وَجْهَانِ: قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَهْيٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَائِضُ أَوْلَى مِنَ الصَّبِيِّ، وَالصَّبِيُّ الْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنَ الْكِتَابِيِّ. الثَّانِيَةُ: النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي التَّضْحِيَةِ. وَهَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الذَّبْحِ، أَمْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَقْرُونَةٌ بِهِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ ضَحِيَّةً، فَهَلْ يَكْفِيهِ التَّعْيِينُ وَالْقَصْدُ عَنْ نِيَّةِ الذَّبْحِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَكْفِيهِ؛ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَوَجَبَتِ النِّيَّةُ فِيهَا، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: الِاكْتِفَاءَ. وَلَوِ الْتَزَمَ ضَحِيَّةً فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، بُنِيَ [عَلَى] الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمُعَيَّنَةَ، هَلْ تَتَعَيَّنُ عَنِ الْمُطْلَقَةِ فِي الذِّمَّةِ؟ إِنْ قُلْنَا: [لَا] فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَإِلَّا، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ وَكَّلَ وَنَوَى عِنْدَ

ذَبْحِ الْوَكِيلِ، كَفَى وَلَا حَاجَةَ إِلَى نِيَّةِ الْوَكِيلِ، بَلْ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُضَحٍّ، لَمْ يَضُرَّ. وَإِنْ نَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْوَكِيلِ فَقَطْ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي تَقْدِيمِ النِّيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ النِّيَّةَ إِلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَإِنْ كَانَ كِتَابِيًّا، فَلَا. الثَّالِثَةُ: الْعَبْدُ الْقِنُّ، وَالْمُدَبِّرُ، وَالْمُسْتَوْلِدَةُ، لَا يَجُوزُ لَهُمُ التَّضْحِيَةُ إِنْ قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ: إِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ بِالتَّمْلِيكِ، فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ، وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ السَّيِّدِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُونَ، لَمْ يَجُزْ تَضْحِيَتُهُمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقُّ الِانْتِزَاعِ. فَإِنْ أَذِنَ، وَقَعَتْ عَنْهُمْ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُمْ فِي التَّصَدُّقِ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَا بَعْدَ جَعْلِهَا ضَحِيَّةً. وَالْمَكَاتَبُ لَا تَجُوزُ تَضْحِيَتُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَذِنَ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَبَرُّعِهِ بِإِذْنِهِ. وَمَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ، لَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِمَا مَلَكَهُ بِحُرِّيَّتِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ. الرَّابِعَةُ: لَوْ ضَحَّى عَنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَمْ يَقَعْ عَنْهُ. وَفِي التَّضْحِيَةِ عَنِ الْمَيِّتِ، كَلَامٌ يَأْتِي فِي الْوَصِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ: إِذَا ضَحَّى عَنْ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ، فَإِنْ كَانَتِ الشَّاةُ مُعَيَّنَةً بِالنَّذْرِ، وَقَعَتْ عَنِ الْمُضَحِّي، وَإِلَّا، فَلَا، كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» وَغَيْرُهُ. وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ إِبْرَهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: أَنَّهَا تَقَعُ عَنِ الْمُضَحِّي، قَالَ هُوَ وَصَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : لَوْ أَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي ثَوَابِ أُضْحِيَتِهِ وَذَبَحَ عَنْ نَفْسِهِ، جَازَ، قَالَا: وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ: «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الذَّبْحُ. فَالذَّبْحُ الَّذِي يُبَاحُ بِهِ الْحَيَوَانُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، إِنْسِيًّا كَانَ أَوْ وَحْشِيًّا، ضَحِيَّةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا، هُوَ التَّذْفِيفُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ مِنْ حَيَوَانٍ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ بِآلَةٍ لَيْسَتْ عَظْمًا وَلَا ظُفْرًا، فَهَذِهِ قُيُودٌ. أَمَّا الْقَطْعُ، فَاحْتِرَازٌ مِمَّا لَوِ اخْتَطَفَ رَأْسَ عُصْفُورٍ أَوْ غَيْرِهِ، بِيَدِهِ، أَوْ بِبُنْدُقَةٍ، فَإِنْهُ مَيْتَةٌ. وَأَمَّا الْحُلْقُومُ،

فَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ خُرُوجًا وَدُخُولًا، وَالْمَرِّيءُ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهُوَ تَحْتَ الْحُلْقُومِ، وَرَاءَهُمَا عِرْقَانِ فِي صَفْحَتَيِ الْعُنُقِ يُحِيطَانِ بِالْحُلْقُومِ، وَقِيلَ: بِالْمَرِّيءِ، وَيُقَالُ لَهُمَا: الْوَدَجَانِ، وَيُقَالُ لِلْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ مَعَهُمَا: الْأَوْدَاجُ. وَلَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَقَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: يَكْفِي أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَبْقَى بَعْدَهُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَخِلَافُ مَقْصُودِ الذَّكَاةِ، وَهُوَ الْإِزْهَاقُ بِمَا يُوحِي وَلَا يُعَذِّبُ. وَيُسْتَحَبُّ مَعَهُمَا قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَوْحَى، وَالْغَالِبُ أَنَّهُمَا يَنْقَطِعَانِ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، فَإِنْ تَرَكَهُمَا، جَازَ. وَلَوْ تَرَكَ مِنَ الْحُلْقُومِ أَوِ الْمَرِّيءِ شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ مَاتَ الْحَيَوَانُ، فَهُوَ مَيْتَةٌ. وَكَذَا لَوِ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، فَقَطَعَ الْمَتْرُوكَ، فَمَيْتَهٌ. وَفِي «الْحَاوِي» وَجْهٌ: إِنْ بَقِيَ الْيَسِيرُ، فَلَا يَضُرُّ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ فِي «الْحِلْيَةِ» ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَطَعَ مِنَ الْقَفَا حَتَّى وَصَلَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِّيءَ، عَصَى، لِزِيَادَةِ الْإِيلَامِ. ثُمَّ يَنْظُرُ، إِنْ وَصَلَ إِلَى الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ وَقَدِ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، لَمْ يَحِلَّ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ وَصَلَهُمَا وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَقَطَعَهُمَا، حَلَّ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ ذَكَّاهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ عِنْدَ ابْتِدَاءِ قَطْعِ الْمَرِّيءِ، وَلَكِنْ لَمَّا قَطَعَهُ مَعَ بَعْضِ الْحُلْقُومِ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ لِمَا نَالَهُ بِسَبَبِ قَطْعِ الْقَفَا، فَهُوَ حَلَالٌ؛ لِأَنَّ أَقْصَى مَا وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ عِنْدَ ابْتِدَاءِ قَطْعِ الْمَذْبَحِ. وَالْقَطْعُ مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، كَالْقَطْعِ مِنَ الْقَفَا. وَلَوْ أَدْخَلَ السِّكِّينَ فِي أُذُنِ الثَّعْلَبِ لِيَقْطَعَ الْمَرِّيءَ وَالْحُلْقُومَ مِنْ دَاخِلِ الْجِلْدِ، فَفِيهِ هَذَا التَّفْصِيلُ. وَلَوْ أَمَرَّ السِّكِّينَ مُلْصَقًا بِاللَّحْيَيْنِ فَوْقَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، وَأَبَانَ الرَّأْسَ، فَلَيْسَ هُوَ بِذَبْحٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعِ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِّيءَ. وَأَمَّا كَوْنُ التَّذْفِيفِ حَاصِلًا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَوْ أَخَذَ الذَّابِحُ فِي قَطْعِ الْحُلْقُومِ [وَالْمَرِّيءِ] ، وَأَخَذَ آخَرُ فِي نَزْعِ حَشْوَتِهِ، أَوْ نَخَسَ خَاصِرَتَهُ، لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّ التَّذْفِيفَ لَمْ يَتَمَخَّضْ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ. وَسَوَاءً كَانَ مَا يَجْرِي بِهِ قَطْعُ الْحُلْقُومِ مِمَّا يُذَفِّفُ لَوِ انْفَرَدَ، أَوْ كَانَ يُعِينُ عَلَى

التَّذْفِيفِ. وَلَوِ اقْتَرَنَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِقَطْعِ رَقَبَةِ الشَّاةِ مِنْ قَفَاهَا، بِأَنْ كَانَ يُجْرِي سِكِّينًا مِنَ الْقَفَا، وَسِكِّينًا مِنَ الْحُلْقُومِ حَتَّى الْتَقَتَا، فَهِيَ مَيْتَةٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَقَدَّمَ قَطْعُ الْقَفَا وَبَقِيَتِ الْحَيَاةُ مُسْتَقِرَّةٌ إِلَى وُصُولِ السِّكِّينِ الْمَذْبَحَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَجِبُ أَنْ يُسْرِعَ الذَّابِحُ فِي الْقَطْعِ، وَلَا يَتَأَنَّى بِحَيْثُ يَظْهَرُ انْتِهَاءُ الشَّاةِ قَبْلَ اسْتِتْمَامِ قَطْعِ الْمَذْبَحِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، وَهَذَا قَدْ يُخَالِفُ مَا سَبَقَ: أَنَّ الْمُتَعَبَّدَ بِهِ، كَوْنَ الْحَيَاةِ مُسْتَقِرَّةً عِنْدَ الِابْتِدَاءِ، فَيُشْبِهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا، إِذَا تَبَيَّنَ مَصِيرُهُ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، وَهُنَاكَ، إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْحَالُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ، خِلَافُ مَا سَبَقَ تَصْرِيحُ الْإِمَامِ بِهِ، بَلِ الْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مُقَصِّرٌ فِي الثَّانِي، فَلَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنْهُ لَا تَقْصِيرَ، وَلَوْ لَمْ يُحَلِّلْهُ، أَدَّى إِلَى حَرَجٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا كَوْنُ الْحَيَوَانِ عِنْدَ الْقَطْعِ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: لَوْ جَرَحَ السَّبْعُ صَيْدًا، أَوْ شَاةً، أَوِ انْهَدَمَ سَقْفٌ عَلَى بَهِيمَةٍ أَوْ جَرَحَتْ هِرَّةٌ حَمَامَةً، ثُمَّ أُدْرِكَتْ حَيَّةً فَذُبِحَتْ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، حَلَّتْ وَإِنْ تَيَقَّنَ هَلَاكُهَا بَعْدَ يَوْمٍ وَيَوْمَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، لَمْ تَحِلَّ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهَا تَحِلُّ فِي الْحَالَيْنِ، وَقَوْلٌ: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ فِيهِمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّاةِ إِذَا مَرِضَتْ، فَصَارَتْ إِلَى أَدْنَى الرَّمَقِ فَذُبِحَتْ، فَإِنْهَا تَحِلُّ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُحَالُ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَكَلَتِ الشَّاةُ نَبَاتًا مُضِرًّا، فَصَارَتْ إِلَى أَدْنَى الرَّمَقِ فَذُبِحَتْ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مَرَّةً: فِيهَا وَجْهَانِ، وَجَزَمَ مَرَّةً بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبٌ يُحَالُ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَجُرْحِ السَّبْعِ. ثُمَّ كَوْنُ الْحَيَوَانِ مُنْتَهِيًا إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، أَوْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، تَارَةً يَسْتَيْقِنُ، وَتَارَةً يَظُنُّ بِعَلَامَاتٍ وَقَرَائِنَ لَا تَضْبُطُهَا الْعِبَارَةُ، وَشَبَّهُوهُ بِعَلَامَاتِ الْخَجَلِ وَالْغَضَبِ وَنَحْوِهِمَا. وَمِنْ أَمَارَاتِ بَقَاءِ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ: الْحَرَكَةُ الشَّدِيدَةُ بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، وَانْفِجَارِ الدَّمِ

فصل

وَتَدَفُّقِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكْفِي دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ. قَالَ: وَالْأَصَحُّ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّهُ مَا قَدْ يَحْصُلَانِ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، لَكِنْ قَدْ يَنْضَمُّ إِلَى أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا قَرَائِنُ أَوْ أَمَارَاتٌ أُخَرُ تُفِيدُ الظَّنَّ أَوِ الْيَقِينَ، فَيَجِبُ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ. قُلْتُ: اخْتَارَ الْمُزَنِيُّ وَطَوَائِفٌ مِنَ الْأَصْحَابِ: الِاكْتِفَاءَ بِالْحَرَكَةِ الشَّدِيدَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا شَكَكْنَا فِي الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ فِي ظَنِّنَا شَيْءٌ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ، لِلشَّكِّ فِي الْمُبِيحِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْآلَةِ لَيْسَتْ عَظْمًا، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَجُوزُ بِكُلِّ قَاطِعٍ إِلَّا الظُّفْرَ وَالْعَظْمَ، سَوَاءٌ مِنَ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ، الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ فِي عَظْمِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ فِي سُنَنِ الذَّبْحِ وَآدَابِهِ سَوَاءً ذَبَحَ الْأُضْحِيَّةَ وَغَيْرَهَا. إِحْدَاهَا: تَحْدِيدُ الشَّفْرَةِ. الثَّانِيَةُ: إِمْرَارُ السِّكِّينِ بِقُوَّةٍ وَتَحَامُلٍ ذَهَابًا وَعَوْدًا، لِيَكُونَ أَوْحَى وَأَسْهَلَ. الثَّالِثَةُ: اسْتِقْبَالُ الذَّابِحِ الْقِبْلَةَ، وَتَوْجِيهُ الذَّبِيحَةِ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْقُرُبَاتِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوْجِيهِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يُوَجِّهُ مَذْبَحَهَا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلَا يُوَجِّهُ وَجْهَهَا، لِيُمْكِنَهُ هُوَ أَيْضًا الِاسْتِقْبَالُ. وَالثَّانِي: يُوَجِّهُهَا بِجَمِيعِ بَدَنِهَا. وَالثَّالِثُ: يُوَجِّهُ قَوَائِمَهَا.

الرَّابِعَةُ: التَّسْمِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَالرَّمْيِ إِلَى الصَّيْدِ، وَإِرْسَالُ الْكَلْبِ. فَلَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهَوًا، حَلَّتِ الذَّبِيحَةُ، لَكِنَّ تَرْكَهَا عَمْدًا، مَكْرُوهٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّهُ يَأْثَمُ بِهِ. وَهَلْ يَتَأَدَّى الِاسْتِحْبَابُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ عَضِّ الْكَلْبِ وَإِصَابَةِ السَّهْمِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي كَمَالِ الِاسْتِحْبَابِ. فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ [عِنْدَ الْإِرْسَالِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَدَارَكَهَا عِنْدَ الْإِصَابَةِ قَطْعًا، كَمَنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ] فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمِّيَ فِي أَثْنَائِهِمَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الذَّابِحُ وَالصَّائِدُ: بِاسْمِ مُحَمَّدٍ وَلَا بِاسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ مُحَمَّدٍ، بَلْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ الذَّبْحَ بِاسْمِهِ، وَالْيَمِينَ بِاسْمِهِ، وَالسُّجُودَ لَهُ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ مَخْلُوقٌ. وَذَكَرَ فِي «الْوَسِيطِ» : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيكٌ. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، بِالرَّفْعِ، فَلَا بَأْسَ. وَيُنَاسِبُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مَا حَكَاهُ فِي «الشَّامِلِ» وَغَيْرِهِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ذَبِيحَةٌ يَذْبَحُونَهَا بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْمَسِيحِ، لَمْ تَحِلَّ. وَفِي كِتَابِ الْقَاضِي ابْنِ كَجٍّ: أَنَّ الْيَهُودِيَّ لَوْ ذَبَحَ لِمُوسَى، وَالنَّصْرَانِيَّ لِعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، أَوْ لِلصَّلِيبِ، حُرِّمَتْ ذَبِيحَتُهُ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ ذَبَحَ لِلْكَعْبَةِ أَوْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقْوَى أَنْ يُقَالَ: يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ ذَبْحٌ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: وَخَرَّجَ أَبُو الْحُسَيْنِ وَجْهًا آخَرَ: أَنَّهَا تَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَذْبَحُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَعْتَقِدُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْتَقِدُهُ النَّصْرَانِيُّ فِي عِيسَى. قَالَ: وَإِذَا ذَبَحَ لِلصَّنَمِ، لَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ، سَوَاءً كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا. وُفِي تَعْلِيقَةٍ لِلشَّيْخِ إِبْرَاهِيمِ الْمَرْوَرُوذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ مَا يُذْبَحُ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ السُّلْطَانِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، أَفْتَى أَهْلُ بُخَارَى بِتَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الذَّبْحَ لِلْمَعْبُودِ وَبِاسْمِهِ، نَازِلٌ مُنْزِلَةِ السُّجُودِ لَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْظِيمِ وَالْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، فَمَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِهِ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ جَمَادٍ كَالصَّنَمِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالْعِبَادَةِ، لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ، وَكَانَ فِعْلُهُ كُفْرًا،

كَمَنْ سَجَدَ لِغَيْرِهِ سَجْدَةَ عِبَادَةٍ، وَكَذَا لَوْ ذَبَحَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَأَمَّا إِذَا ذَبَحَ لِغَيْرِهِ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بِأَنْ ضَحَّى أَوْ ذَبَحَ لِلْكَعْبَةِ تَعْظِيمًا لَهَا لِأَنَّهَا بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَ حِلَّ الذَّبِيحَةِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى، يَرْجِعُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَهْدَيْتُ لِلْحَرَمِ، أَوْ لِلْكَعْبَةِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، الذَّبْحُ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ السُّلْطَانِ، فَإِنْهُ اسْتِبْشَارٌ بِقُدُومِهِ، نَازِلٌ مَنْزِلَةَ ذَبْحِ الْعَقِيقَةِ لِوِلَادَةِ الْمَوْلُودِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَكَذَا السُّجُودُ لِلْغَيْرِ تَذَلُّلًا وَخُضُوعًا. وَعَلَى هَذَا، إِذَا قَالَ الذَّابِحُ: بِاسْمِ اللَّهِ وَبَاسِمِ مُحَمَّدٍ، وَأَرَادَ: أَذْبَحُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَأَتَبَرَّكُ بَاسِمِ مُحَمَّدٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْرُمَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَةَ مَكْرُوهَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ، يَصِحُّ نَفْيُ الْجَوَازِ وَالْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ عَنْهُ. وَوَقَعَتْ مُنَازَعَةٌ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَقِينَاهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ قَزْوِينَ [فِي] أَنَّ مَنْ ذَبَحَ بِاسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ؟ وَهَلْ يَكْفُرُ بِذَلِكَ؟ وَأَفْضَتْ تِلْكَ الْمُنَازَعَةُ إِلَى فِتْنَةٍ، وَالصَّوَابُ مَا بَيَّنَاهُ. وَتُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الذَّبْحِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» ، قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تُسْتَحَبُّ وَلَا تُكْرَهُ. قُلْتُ: أَتْقَنَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْفَصْلَ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ، مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَرُوذِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ، قَالَ: وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ النَّصْرَانِيَّ إِذَا سَمَّى غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْمَسِيحِ، لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ، قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَذْبَحُهَا لَهُ، فَأَمَّا إِنْ ذَكَرَ الْمَسِيحَ عَلَى مَعْنَى الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَائِزٌ. قَالَ: وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: تَحِلُّ مُطْلَقًا، وَإِنْ سَمَّى الْمَسِيحَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: الْمُسْتَحَبُّ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ، وَهُوَ قَطْعُ اللَّبَةِ أَسْفَلَ الْعُنُقِ، وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ

فصل

الذَّبْحُ، وَهُوَ قَطْعُ الْحَلْقِ أَعْلَى الْعُنُقِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ. فَلَوْ ذَبَحَ الْإِبِلَ وَنَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، حَلَّ، وَلَكِنْ تَرَكَ الْمُسْتَحَبَّ، وَفِي كَرَاهَتِهِ قَوْلَانِ، الْمَشْهُورُ: لَا يُكْرَهُ. السَّادِسَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنْحَرَ الْبَعِيرُ قَائِمًا عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمٍ مَعْقُولَ الرُّكْبَةِ، وَإِلَّا فَبَارِكًا، وَأَنْ تُضْجَعَ الْبَقَرَةُ وَالشَّاةُ عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ، وَتُتْرَكُ رِجْلُهَا الْيُمْنَى وَتُشَدُّ قَوَائِمُهَا الثَّلَاثُ. السَّابِعَةُ: إِذَا قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِّيءَ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسِكَ وَلَا يُبَيِّنَ رَأْسَهُ فِي الْحَالِ، وَلَا يَزِيدَ فِي الْقَطْعِ، وَلَا يُبَادِرَ إِلَى سَلْخِ الْجِلْدِ، وَلَا يَكْسِرَ الْفَقَارَ، وَلَا يَقْطَعَ عُضْوًا، وَلَا يُحَرِّكَ الذَّبِيحَةَ، وَلَا يَنْقِلَهَا إِلَى مَكَانٍ، بَلْ يَتْرُكُ جَمِيعَ ذَلِكَ حَتَّى تُفَارِقَ الرُّوحُ، وَلَا يُمْسِكَهَا بَعْدَ الذَّبْحِ مَانِعًا لَهَا مِنَ الِاضْطِرَابِ. وَالْأَوْلَى أَنْ تُسَاقَ إِلَى الْمَذْبَحِ بِرِفْقٍ، وَتُضْجَعَ بِرِفْقٍ، وَيَعْرِضَ عَلَيْهَا الْمَاءَ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَلَا يَحُدَّ الشَّفْرَةَ قِبَالَتِهَا، وَلَا يَذْبَحَ بَعْضَهَا قِبَالَةَ بَعْضٍ. الثَّامِنَةُ: يُسْتَحَبُّ عِنْدَ التَّضْحِيَةِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ، تَقَبَّلْ مِنِّي. وَفِي «الْحَاوِي» وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ. وَلَوْ قَالَ: تَقَبَّلْ مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ وَمُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، لَمْ يُكْرَهْ وَلَمْ يُسْتَحَبَّ، كَذَا نَقَلَهُ فِي «الْبَحْرِ» عَنِ الْأَصْحَابِ. قَالَ فِي «الْحَاوِي» : يَخْتَارُ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ التَّسْمِيَةِ وَبَعْدَهَا [ثَلَاثًا] فَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. فَصْلٌ قَدَّمْنَا أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي التَّضْحِيَةِ، وَأَنَّ الشَّاةَ إِذَا جَعَلَهَا أُضْحِيَّةً، هَلْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ عَنْ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يَكْفِيهِ. فَإِنْ

قُلْنَا: يَكْفِيهِ، اسْتُحِبَّ التَّجْدِيدُ. وَمَهْمَا كَانَ فِي مِلْكِهِ، بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ، فَقَالَ: جَعَلْتُ هَذَا ضَحِيَّةً، أَوْ هَذِهِ ضَحِيَّةً، أَوْ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَا، صَارَتْ ضَحِيَّةً مُعَيَّنَةً. وَكَذَا لَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ هَدْيًا، أَوْ هَذَا هَدْيٌ، أَوْ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ [هَذِهِ] ، صَارَ هَدْيًا. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنِ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ الْمُعَيَّنَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْرِيعُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَذَرَ إِعْتَاقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، لَا يَزُولُ مِلْكُهُ [عَنْهُ] مَا لَمْ يَعْتِقْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْهَدْيِ، وَالْأُضْحِيَةِ، وَالْمَالُ الْمُعَيَّنُ، يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَفِي الْعَبْدِ لَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَيْهِ، بَلْ يَنْفَكُّ الْمِلْكُ بِالْكُلِّيَّةِ. أَمَّا إِذَا نَوَى جَعْلَ هَذِهِ الشَّاةِ هَدْيًا، أَوْ أُضْحِيَّةً، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِشَيْءٍ، فَالْمَشْهُورُ الْجَدِيدُ: أَنَّهَا لَا تَصِيرُ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: تَصِيرُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ سُرَيْحٍ وَالِاصْطَخْرِيُّ. وَعَلَى هَذَا، فِيمَا يَصِيرُ بِهِ هَدْيًا، أَوْ أُضْحِيَّةً أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَمَا يَدْخُلُ فِي الصَّوْمِ بِالنِّيَّةِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ. وَالثَّانِي: بِالنِّيَّةِ وَالتَّقْلِيدِ أَوِ الْإِشْعَارِ، لِتَنْضَمَّ الدَّلَالَةُ الظَّاهِرَةُ إِلَى النِّيَّةِ، قَالَهُ الِاصْطَخْرِيُّ. وَالثَّالِثُ: بِالنِّيَّةِ وَالذَّبْحِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ كَالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ. وَالرَّابِعُ: بِالنِّيَّةِ وَالسَّوْقِ إِلَى الْمَذْبَحِ. وَلَوْ لَزِمَهُ هَدْيٌ أَوْ أُضْحِيَّةٌ بِالنَّذْرِ، فَقَالَ: عَيَّنْتُ هَذِهِ الشَّاةَ لِنَذْرِي، أَوْ جَعَلْتُهَا عَنْ نَذْرِي، أَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَا عَمَّا فِي ذِمَّتِي، فَفِي تَعَيُّنِهَا وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ، التَّعَيُّنُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَحَكَى الْإِمَامُ هَذَا الْخِلَافَ فِي صُوَرٍ رُتِّبَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلْنُورِدْهَا بِزَوَائِدَ؛ فَلَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: عَلَيَّ التَّضْحِيَةُ بِهَذِهِ الْبَدَنَةِ أَوِ الشَّاةِ، لَزِمَهُ التَّضْحِيَةُ قَطْعًا، وَتَتَعَيَّنُ تِلْكَ الشَّاةُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ، لَزِمَهُ الْعِتْقُ، وَفِي تَعْيِينِ هَذَا الْعَبْدِ، وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ، وَالْعَبْدُ أَوْلَى بِالتَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهُ ذُو حَقٍّ فِي الْعِتْقِ، بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ. فَلَوْ نَذَرَ إِعْتَاقَ عَبْدٍ، ثُمَّ عَيَّنَ عَبْدًا عَمَّا الْتَزَمَ، فَالْخِلَافُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي مِثْلِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذَا

الْعَبْدَ عَتِيقًا، لَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ، وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذَا الْمَالَ، أَوْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ صَدَقَةً، تَعَيَّنَتْ عَلَى الْأَصَحِّ كَشَاةِ الْأُضْحِيَّةِ، وَعَلَى الثَّانِي، لَا؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِ الدَّرَاهِمِ لِتَسَاوِيهَا، بِخِلَافِ الشَّاةِ. وَلَوْ قَالَ: عَيَّنْتُ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَمَّا فِي ذِمَّتِي مِنْ زَكَاةٍ أَوْ نَذْرٍ، لَغَا التَّعْيِينَ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابٍ، كَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي الدَّرَاهِمِ ضَعِيفٌ، وَتَعْيِينُ مَا فِي الذِّمَّةِ ضَعِيفٌ، فَيَجْتَمِعُ سَبَبَا ضَعْفٍ. قَالَ: وَ [قَدْ] يُقَاسُ بِتَعْيِينِ الدَّرَاهِمِ، كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، وَقَالَ: لَا تَخْلُو الصُّورَةُ عَنِ احْتِمَالٍ. فَرْعٌ سَبَقَ بَيَانُ وَقْتِ ضَحِيَّةِ التَّطَوُّعِ، فَلَوْ أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِالذَّبْحِ وَتَفْرِيقِ اللَّحْمِ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَمْ يَحْصُلْ لَهُ أُضْحِيَّةٌ وَلَا ثَوَابُهَا، لَكِنْ يَحْصُلُ ثَوَابُ صَدَقَةٍ. وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ ضَحِيَّةً، فَوَقْتُهَا وَقْتُ الْمُتَطَوِّعِ بِهَا. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِشَاةٍ، فَهَلْ تَتَوَّقَتُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّهَا فِي الذِّمَّةِ كَدِمَاءِ الْجَبْرَانِ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ضَحِيَّةً فِي الذِّمَّةِ، وَالضَّحِيَّةُ مُؤَقَّتَةٌ، وَهَذَا مُوَافِقٌ، نَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الَّتِي أَوْجَبَهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَوْ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَذْبَحْهَا حَتَّى فَاتَ الْوَقْتُ، فَإِنْهُ يَذْبَحُهَا قَضَاءً. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَتَوَقَّتُ، فَالْتَزَمَ بِالنَّذْرِ ضَحِيَّةً، ثُمَّ عَيَّنَ وَاحِدَةً عَنْ نَذْرِهِ، وَقُلْنَا: إِنَّهَا تَتَعَيَّنُ، فَهَلْ تَتَوَقَّتُ التَّضْحِيَةُ بِهَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا.

فصل

فَصْلٌ مَنْ أَرَادَ التَّضْحِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ، كُرِهَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ أَوْ يُقَلِّمَ ظُفْرَهُ حَتَّى يُضَحِّيَ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَحْرُمُ، حَكَاهُ صَاحِبُ «الرَّقْمِ» ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ يَبْقَى كَامِلَ الْأَجْزَاءِ لِتُعْتَقَ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: لِلتَّشْبِيهِ بِالْمُحْرِمِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنْهُ لَا يَتْرُكُ الطِّيبَ وَلِبْسَ الْمَخِيطِ وَغَيْرَهُمَا. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ الْحَلْقَ وَالْقَلْمَ، لَا يُكْرَهَانِ إِلَّا إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَاشْتَرَى ضَحِيَّةً، أَوْ عَيَّنَ شَاةً مِنْ مَوَاشِيهِ لِلتَّضْحِيَةِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْقَلْمُ. قُلْتُ: قَالَ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَرُوذِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ: حُكْمُ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَالشَّعْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا أَحْكَامُ الْأُضْحِيَّةِ، فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. الْأَوَّلُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَلَفِهَا وَإِتْلَافِهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: الْأُضْحِيَّةُ الْمُعَيَّنَةُ، وَالْهَدْيُ الْمُعَيَّنُ، يَزُولُ مِلْكُ الْمُتَقَرِّبِ عَنْهُمَا بِالنَّذْرِ، فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِمَا بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ، وَلَا إِبْدَالَ بِمِثْلِهِمَا، وَلَا بِخَيْرٍ مِنْهُمَا. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ حَتَّى يَذْبَحَ وَيَتَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ، كَمَا [لَوْ] قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ، لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ إِلَّا بِإِعْتَاقٍ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَالْفَرْقُ: مَا سَبَقَ. وَلَوْ نَذَرَ إِعْتَاقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَإِبْدَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَزُلِ الْمِلْكُ عَنْهُ. وَلَوْ خَالَفَ فَبَاعَ الْأُضْحِيَّةَ أَوِ الْهَدْيَ الْمُعَيَّنَ، اسْتَرَدَّ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةٌ، وَيَرُدُّ

الثَّمَنَ. فَإِنْ أَتْلَفَهَا الْمُشْتَرِي، أَوْ تَلَفَتَ عِنْدَهُ، لَزِمَهُ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ، وَيَشْتَرِي النَّاذِرُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ مِثْلَ التَّالِفَةِ، جِنْسًا وَنَوْعًا وَسِنًّا. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِالْقِيمَةِ الْمِثْلَ لِغَلَاءٍ حَدَثَ، ضَمَّ إِلَيْهَا مِنْ مَالِهِ تَمَامَ الثَّمَنِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ: يَضْمَنُ مَا بَاعَ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، لِرُخْصٍ حَدَثَ، فَعَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ. ثُمَّ إِنِ اشْتَرَى الْمِثْلَ بِعَيْنِ الْقِيمَةِ، صَارَ الْمُشْتَرَى ضَحِيَّةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ. وَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ، وَنَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ، فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلْيَجْعَلْهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ ضَحِيَّةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْأُضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، لَا يَصِحُّ إِجَارَتُهَا، وَيَجُوزُ إِعَارَتُهَا، لِأَنَّهَا إِرْفَاقٌ، فَلَوْ أَجَّرَهَا فَرَكِبَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَتَلَفَتْ، لَزِمَ الْمُؤَجِّرَ قِيمَتُهَا، وَالْمُسْتَأْجِرَ الْأُجْرَةُ. وَفِي الْأُجْرَةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: الْأَكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى. ثُمَّ هَلْ يَكُونُ مَصْرِفُهَا مَصْرِفَ الضَّحَايَا، أَمِ الْفُقَرَاءَ فَقَطْ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: إِذَا قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الْبَدَنَةَ، أَوْ [هَذِهِ] الشَّاةَ، ضَحِيَّةً، أَوْ نَذَرَ أَنْ يُضَحِّيَ بِبَدَنَةٍ أَوْ شَاةٍ عَيَّنَهَا، فَمَاتَتْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، أَوْ سُرِقَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَبْحِهَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَكَذَا الْهَدْيُ الْمُعَيَّنُ، إِذَا تَلِفَ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَنْسَكِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ دَمٌ عَنْ تَمَتُّعٍ، أَوْ قِرَانٍ. أَوْ أُضْحِيَّةٌ، أَوْ هَدْيٌ عَنْ نَذْرٍ مُطْلَقٍ، ثُمَّ عَيَّنَ بَدَنَةً أَوْ شَاةً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، فَقَدْ سَبَقَ خِلَافٌ فِي تَعْيِينِهِ، وَالْأَصَحُّ التَّعْيِينُ. وَحِينَئِذٍ الْمَذْهَبُ: زَوَالُ الْمِلْكِ عَنْهَا كَالْمُعَيَّنَةِ ابْتِدَاءً،

لَكِنْ لَوْ تَلَفَتْ، فَفِي وُجُوبِ الْإِبْدَالِ طَرِيقَانِ. قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْمُعَيَّنُ وَإِنْ زَالَ الْمِلْكُ عَنْهُ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ، فَاشْتَرَى مِنْهُ سِلْعَةً بِذَلِكَ الدَّيْنِ، فَتَلِفَتِ السِّلْعَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي يَدِ بَائِعِهَا، فَإِنْهُ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَيَعُودُ الدَّيْنُ كَمَا كَانَ، فَكَذَا هُنَا يَبْطُلُ التَّعْيِينُ، وَيَعُودُ مَا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا الْإِمَامُ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ الْإِبْدَالُ، لِأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ، فَهِيَ كَمَا لَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ أُضْحِيَّةً. الْخَامِسَةُ: إِذَا أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ، لَزِمَهُ الْقِيمَةُ، يَأْخُذُهَا الْمُضَحِّي، وَيَشْتَرِي بِهَا مِثْلَ الْأُولَى، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِهَا مِثْلَهَا، اشْتَرَى دُونَهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَذَرَ إِعْتَاقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَقُتِلَ، فَإِنْهُ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا يُعْتِقُهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ هُنَا لَمْ يُزَلْ عَنْهُ وَمُسْتَحِقُّ الْعِتْقِ هُوَ الْعَبْدُ، وَقَدْ هَلَكَ، وَمُسْتَحِقُّو الْأُضْحِيَةِ بَاقُونَ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِالْقِيمَةِ مَا يَصْلُحُ لِلْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ، فَفِي «الْحَاوِي» : أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُضَحِّي أَنْ يَضُمَّ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى الْقِيمَةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ أُضْحِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا، يُمْكِنُ أَنْ يَطْرُدَهُ فِي اللَّفِّ. وَهَذَا الَّذِي فِي «الْحَاوِي» شَاذٌّ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا شِقْصَ هَدْيٍ، أَوْ أُضْحِيَّةٍ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ وَالذَّبْحُ مَعَ الشَّرِيكِ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ، كَأَصْلِ الْأُضْحِيَّةِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ دَرَاهِمَ. فَعَلَى هَذَا أَطْلَقَ مُطْلِقُونَ: أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا. وَقَالَ الْإِمَامُ: يَصْرِفُهَا مَصْرِفَ الضَّحَايَا، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْهُ خَاتَمًا يَقْتَنِيهِ وَلَا يَبِيعُهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَوْجَهُ. وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ، بَلِ الْمُرَادُ: أَنْ لَا يَجِبَ شِقْصٌ، وَيَجُوزُ إِخْرَاجُ الدَّرَاهِمِ، وَقَدْ يَتَسَاهَلُ فِي ذِكْرِ الْمَصْرِفِ فِي مِثْلِ هَذَا.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنِ الْإِمَامِ، مِنْ جَوَازِ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ، تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يَشْتَرِي بِهَا لَحْمًا، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ [أَنْ يَشْتَرِيَ] بِهَا شِقْصًا، لِقِلَّتِهَا، فَفِيهِ الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ. وَرَتَّبَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» هَذِهِ الصُّوَرَ تَرْتِيبًا حَسَنًا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ ثَنِيَّةَ ضَأْنٍ مَثَلًا، وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالْقِيمَةِ مِثْلَهَا، وَأَمْكَنَ شِرَاءُ جَذَعَةِ ضَأْنٍ وَثَنِيِّةِ مَعْزٍ، تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ رِعَايَةً لِلنَّوْعِ، وَإِنْ أَمْكَنَ ثَنِيَّةُ مَعْزِ وَدُونَ جَذَعَةِ ضَأْنٍ، تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الثَّانِي لَا يَصْلُحُ لِلضَّحِيَّةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ دُونَ الْجَذَعَةِ، وَشِرَاءِ سَهْمٍ فِي ضَحِيَّةٍ، تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَا تَحْصُلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَفِي الْأَوَّلِ إِرَاقَةُ دَمٍ كَامِلٍ. وَإِنْ أَمْكَنَ شِرَاءُ لَحْمٍ، وَشِرَاءُ سَهْمٍ، تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ شَرِكَةً فِي إِرَاقَةِ دَمٍ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا شِرَاءُ اللَّحْمِ وَتَفْرِقَةُ الدَّرَاهِمِ، تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْأُضْحِيَّةِ. السَّادِسَةُ: إِذَا أَتْلَفَهَا الْمُضَحِّي فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْإِتْلَافِ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَأَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا وَتَحْصِيلُ مِثْلِهَا، كَمَا لَوْ بَاعَ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ وَتَلَفَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْإِتْلَافِ أَكْثَرَ، وَأَمْكَنَ شِرَاءُ مِثْلِ الْأُولَى بِبَعْضِهَا، اشْتَرَى بِهَا كَرِيمَةً أَوْ شَاتَيْنِ فَصَاعِدًا. فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ كَرِيمَةٌ، وَفَضَلَ مَا لَا يَفِي بِأُخْرَى، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَلَمْ تَفِ الْقِيمَةُ بِشَاةٍ. وَهُنَا وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ لَهُ صَرْفَ مَا فَضَلَ عَنْ شَاةٍ إِلَى غَيْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ حُصُولِ الْمِثْلِ كَابْتِدَاءِ تَضْحِيَةٍ. وَوَجْهٌ: أَنَّهُ يَمْلِكُ مَا فَضَلَ. السَّابِعَةُ: إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِ الْهَدْيِ بَعْدَ بُلُوغِهِ الْمَنْسَكَ، أَوْ مِنْ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَلَمْ يَذْبَحْ حَتَّى هَلَكَ، فَهُوَ كَالْإِتْلَافِ لِتَقْصِيرِهِ بِتَأْخِيرِهِ. الثَّامِنَةُ: اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَاضِلِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ شَاةً

أُخْرَى، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا. وَفِي مَعْنَاهُ: الْبَدَلُ الَّذِي يَذْبَحُهُ. وَفِي وَجْهٍ لِأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ: لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ مِنْهُ، لِتَعَدِّيهِ بِالْإِتْلَافِ. التَّاسِعَةُ: إِذَا جَعَلَ شَاتَهُ أُضْحِيَّةً، أَوْ نَذَرَ أَنْ يُضَحِّيَ بِمُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ ذَبَحَهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَيَلْزَمُهُ ذَبْحُ مِثْلِهَا يَوْمَ النَّحْرِ بَدَلًا عَنْهَا. وَكَذَا لَوْ ذَبَحَ الْهَدْيَ الْمُعَيَّنَ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَنْسَكِ، تَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ، وَعَلَيْهِ الْبَدَلُ. وَلَوْ بَاعَ الْهَدْيَ أَوِ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَيْنِ، فَذَبَحَهَا الْمُشْتَرِي، وَاللَّحْمُ بَاقٍ، أَخْذَهُ الْبَائِعُ وَتَصَدَّقَ بِهِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَرْشُ مَا نَقَصَ بِالذَّبْحِ، وَيَضُمُّ الْبَائِعُ إِلَيْهِ مَا يَشْتَرِي بِهِ الْبَدَلَ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَغْرَمُ الْمُشْتَرِي شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ سَلَّطَهُ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ ذَبَحَ أَجْنَبِيٌّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ بِسَبَبِ الذَّبْحِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ خِلَافٌ فِي أَنَّ اللَّحْمَ يُصْرَفُ إِلَى مَصَارِفِ الضَّحَايَا، أَمْ يَنْفَكُّ عَنْ حُكْمِ الْأُضْحِيَّةِ وَيَعُودُ مِلْكُهُ، كَمَا سَنَذْكُرُ مِثْلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِيمَا لَوْ ذَبَحَ الْأَجْنَبِيُّ يَوْمَ النَّحْرِ، وَقُلْنَا: لَا يَقَعُ ضَحِيَّةً؟ ثُمَّ مَا حَصَلَ مِنَ الْأَرْشِ مِنَ اللَّحْمِ، إِنْ عَادَ مِلْكًا لَهُ، اشْتَرَى بِهِ أُضْحِيَّةً يَذْبَحُهَا يَوْمَ النَّحْرِ. وَلَوْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، فَذَبَحَهَا أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، أَخَذَ اللَّحْمَ وَنُقْصَانَ الذَّبْحِ، وَمَلَكَ الْجَمِيعَ، وَبَقِيَ الْأَصْلُ فِي ذِمَّتِهِ. الْعَاشِرَةُ: لَوْ ذَبَحَ أَجْنَبِيٌّ أُضْحِيَّةً مُعَيَّنَةً ابْتِدَاءً فِي وَقْتِ التَّضْحِيَةِ، أَوْ هَدْيًا مُعَيَّنًا بَعْدَ بُلُوغِهِ الْمَنْسَكَ، فَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ يَقَعُ الْمَوْقِعَ، فَيَأْخُذُ صَاحِبُ الْأُضْحِيَّةِ لَحْمَهَا وَيُفَرِّقُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ إِلَى هَذِهِ الْجِهَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِعْلُهُ كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ، وَلِأَنَّ ذَبْحَهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ. فَإِذَا فَعَلَهُ غَيْرُهُ، أَجْزَأَ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ عَنِ الْقَدِيمِ: أَنَّ لِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنِ الذَّابِحِ، وَيُغَرِّمَهُ الْقِيمَةَ بِكَمَالِهَا بِنَاءً عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ، فَهَلْ عَلَى الذَّابِحِ أَرْشُ مَا نَقَصَ بِالذَّبْحِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ مَقْصُودًا، بَلْ خَفَّفَ مُؤْنَةَ الذَّبْحِ. وَأَصَحُّهُمَا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَهُوَ

الطَّرِيقُ الثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ إِرَاقَةَ الدَّمِ مَقْصُودَةٌ وَقَدْ فَوَّتَهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ شَدَّ قَوَائِمَ شَاتِهِ لِيَذْبَحَهَا، فَجَاءَ آخَرُ فَذَبَحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ النَّقْصِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عِنْدِي أَنَّهُ إِذَا ذَبَحَهَا وَفِي الْوَقْتِ سِعَةٌ، لَزِمَهُ الْأَرْشُ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا يَسَعُ ذَبْحَهَا فَذَبَحَهَا، فَلَا أَرْشَ، لِتَعَيُّنِ الْوَقْتِ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْأَرْشَ، فَهَلْ هُوَ لِلْمُضَحِّي لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَيْنِ الْأُضْحِيَّةِ وَلَا حَقَّ لِلْمَسَاكِينِ فِي غَيْرِهَا؟ أَمْ لِلْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَقْصِهَا وَلَيْسَ لِلْمُضَحِّي إِلَّا الْأَكْلَ؟ أَمْ سَلَكَ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ. فَعَلَى هَذَا، يَشْتَرِي بِهِ شَاةً. فَإِنْ لَمْ تَتَيَسَّرْ، عَادَ الْخِلَافُ السَّابِقُ أَنَّهُ يَشْتَرِي بِهِ جُزْءَ ضَحِيَّةٍ أَوْ لَحْمٍ، أَوْ يُفَرِّقُ نَفْسَهُ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا ذَبَحَ الْأَجْنَبِيُّ وَاللَّحْمُ بَاقٍ، فَإِنْ أَكَلَهُ أَوْ فَرَّقَهُ [فِي] مَصَارِفِ الضَّحِيَّةِ، وَتَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُهُ، فَهُوَ كَالْإِتْلَافِ بِغَيْرِ ذَبْحٍ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمَصْرُوفِ إِلَيْهِ، إِلَى الْمُضَحِّي، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَالْمَالِكُ يَشْتَرِي بِمَا يَأْخُذُهُ أُضْحِيَّةً. وَفِي وَجْهٍ: تَقَعُ التَّفْرِقَةُ عَنِ الْمَالِكِ، كَالذَّبْحِ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَفِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ قَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ، وَاخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا عِنْدَ الذَّبْحِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا بِلَا ذَبْحٍ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ الْأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ اللَّحْمِ [لِأَنَّهُ فَرَّقَ اللَّحْمَ مُتَعَدِّيًا. وَقِيلَ: يَغْرَمُ أَرْشَ الذَّبْحِ وَقِيمَةَ اللَّحْمِ] وَقَدْ يَزِيدُ الْأَرْشُ مَعَ قِيمَةِ اللَّحْمِ عَلَى قِيمَةِ الشَّاةِ، وَقَدْ يَنْقُصُ، وَقَدْ يَتَسَاوَيَانِ. وَلَا اخْتِصَاصَ لِهَذَا الْخِلَافِ بِصُورَةِ الضَّحِيَّةِ، بَلْ يَطَّرِدُ فِي كُلِّ مَنْ ذَبَحَ شَاةَ إِنْسَانٍ ثُمَّ أَتْلَفَ لَحْمَهَا. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي ذَبَحَهَا الْأَجْنَبِيُّ تَقَعُ ضَحِيَّةً. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَقَعُ، فَلَيْسَ عَلَى الذَّابِحِ إِلَّا أَرْشُ النَّقْصِ. وَفِي حُكْمِ اللَّحْمِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِجِهَةِ الْأُضْحِيَّةِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ مَلِكًا لَهُ. وَلَوِ الْتَزَمَ ضَحِيَّةً أَوْ هَدْيًا بِالنَّذْرِ، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، فَذَبَحَهَا أَجْنَبِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ، فَالْقَوْلُ فِي وُقُوعِهَا عَنْ صَاحِبِهَا وَفِي أَخْذِهِ اللَّحْمَ وَتَصَدُّقِهِ بِهِ، وَفِي غَرَامَةِ الذَّابِحِ أَرْشُ مَا نَقَصَ بِالذَّبْحِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا إِذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً فِي الِابْتِدَاءِ. فَإِنْ كَانَ اللَّحْمُ تَالِفًا، قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ: يَأْخُذُ الْقِيمَةَ

وَيَمْلِكُهَا، وَيَبْقَى الْأَصْلُ فِي ذِمَّتِهِ. وَفِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَنَا فِي صُورَةِ الْإِتْلَافِ: يَأْخُذُ الْقِيمَةَ وَيَشْتَرِي بِهَا مِثْلَ الْأَوَّلِ، يُرِيدُ بِهِ: أَنْ يَشْتَرِيَ بِقَدْرِهَا، فَإِنَّ نَفْسَ الْمَأْخُوذِ مِلْكُهُ، فَلَهُ إِمْسَاكُهُ. النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَحْكَامِ الْأُضْحِيَّةِ: فِي عَيْبِهَا. وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: لَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ ضَحِيَّةً، أَوْ نَذَرَ التَّضْحِيَةَ بِشَاةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَحَدَثَ بِهَا قَبْلَ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ عَيْبٌ يُمْنَعُ ابْتِدَاءُ التَّضْحِيَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِسَبَبِهِ كَتَلَفِهَا. وَلَا تَنْفَكُّ هِيَ عَنْ حُكْمِ الْأُضْحِيَّةِ، بَلْ تُجْزِئُهُ عَنِ التَّضْحِيَةِ، وَيَذْبَحُهَا فِي وَقْتِهَا. وَفِي وَجْهٍ: لَا تُجْزِئُهُ، بَلْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ بِسَلِيمَةٍ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. فَعَلَى الصَّحِيحِ: لَوْ خَالَفَ فَذَبَحَهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ، وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا ضَحِيَّةً أُخْرَى، لِأَنَّهَا بَدَلُ حَيَوَانٍ لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهِ ابْتِدَاءً. وَلَوْ تَعَيَّبَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الذَّبْحِ، ذَبَحَهَا وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، وَإِنْ تَعَيَّبَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ، ذَبَحَهَا وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، وَعَلَيْهِ ذَبْحُ بَدَلِهَا، وَتَقْصِيرُهُ بِالتَّأْخِيرِ كَالتَّعْيِيبِ. الثَّانِيَةُ: لَوْ لَزِمَ ذِمَّتَهُ ضَحِيَّةٌ بِنَذْرٍ، أَوْ هَدْيٍ عَنْ قِرَانٍ، أَوْ تَمَتُّعٍ، أَوْ نَذْرٍ، فَعَيَّنَ شَاةً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، فَحَدَثَ بِهَا عَيْبٌ قَبْلَ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ، أَوْ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَنْسَكِ، جَرَى الْخِلَافُ السَّابِقُ، فِي أَنَّهَا هَلْ تَتَعَيَّنُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَلَا أَثَرَ لِتَعْيِينِهَا. وَإِنْ قُلْنَا: تَتَعَيَّنُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَهَلْ عَلَيْهِ ذَبْحُ سَلِيمَةٍ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ سَلِيمٌ، فَلَا يَتَأَدَّى بِمَعِيبٍ. وَهَلْ تَنْفَكُّ تِلْكَ الْمُعَيَّنَةُ عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ذَبْحُهَا وَالتَّصَدُّقُ بِلَحْمِهَا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالتَّعْيِينِ. وَأَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: لَا تَلْزَمُهُ، بَلْ لَهُ تَمَلُّكُهَا وَبَيْعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمِ التَّصَدُّقَ بِهَا ابْتِدَاءً، إِنَّمَا عَيَّنَهَا لِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِهَا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ. وَيَقْرُبُ الْوَجْهَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ فِيمَنْ عَيَّنَ أَفْضَلَ مِمَّا عَلَيْهِ ثُمَّ تَعَيَّبَ، هَلْ يَلْزَمُهُ رِعَايَةُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي الْبَدَلِ؟ فَفِي وَجْهٌ: يَلْزَمُ، لِالْتِزَامِهِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ بِالتَّعْيِينِ. وَالْأَصَحُّ: لَا يَلْزَمُ، كَمَا لَوِ الْتَزَمَ مَعِيبَةً ابْتِدَاءً، فَهَلَكَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ.

الثَّالِثَةُ: إِذَا تَعَيَّبَ الْهَدْيُ بَعْدَ بُلُوغِ الْمَنْسَكِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ ذَبْحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ مَوْضِعَ الذَّبْحِ، صَارَ كَالْحَاصِلِ فِي يَدِ الْمَسَاكِينِ، وَيَكُونُ كَمَنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى الْإِمَامِ، فَتَلَفَتْ فِي يَدِهِ، فَإِنْهُ يَقَعُ زَكَاةً. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ فِي ضَمَانِهِ مَا لَمْ يُذْبَحْ. وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِنْ تَعَيَّبَ بَعْدَ بُلُوغِ الْمَنْسَكِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الذَّبْحِ، فَالْأَصْلُ فِي ذِمَّتِهِ وَهَلْ يَتَمَلَّكُ الْمُعَيَّنَ، أَمْ يَلْزَمُهُ ذَبْحُهُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ. وَإِنْ تَعَيَّبَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: يَكْفِيهِ ذَبْحُ الْمَعِيبِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ. وَيَقْرُبُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِيمَنْ شَدَّ قَوَائِمَ الشَّاةِ لِلتَّضْحِيَةِ، فَاضْطَرَبَتْ وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا. وَرَأَى الْإِمَامُ تَخْصِيصَهُمَا بِمَنْ عَيَّنَ عَنْ نَذْرٍ فِي الذِّمَّةِ، وَالْقَطْعُ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ إِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : لَوْ مَاتَ، أَوْ سُرِقَ بَعْدَ وُصُولِهِ الْحَرَمَ، أَجْزَأَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: لَوْ قَالَ لِمَعِيبَةٍ بِعَوَرٍ وَنَحْوِهِ: جَعَلْتُ هَذِهِ ضَحِيَّةً، أَوْ نَذَرَ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا ابْتِدَاءً، وَجَبَ ذَبْحُهَا، لِالْتِزَامِهِ، كَمَنْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ مَعِيبًا، يُعْتَقُ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَيَكُونُ ذَبْحُهَا قُرْبَةً، وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهَا صَدَقَةً وَلَا تُجْزِئُ عَنِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا الْمَشْرُوعَةِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِيهَا. وَهَلْ يَخْتَصُّ ذَبْحُهَا بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَتَجْرِي مَجْرَى الضَّحَايَا فِي الْمَصْرِفِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أُضْحِيَّةً، بَلْ شَاةَ لَحْمٍ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بَاسِمِ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَا مَحْمَلَ لِكَلَامِهِ إِلَّا هَذَا. فَعَلَى هَذَا، لَوْ ذَبَحَهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، تَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَلَا يَشْتَرِي أُخْرَى لِأَنَّ الْمَعِيبَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَلَوْ أَشَارَ إِلَى ظَبْيَةٍ وَقَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ ضَحِيَّةً، فَهُوَ لَاغٍ. وَلَوْ أَشَارَ إِلَى فَصِيلٍ أَوْ سَخْلَةٍ وَقَالَ: هَذِهِ أُضْحِيَّةٌ، فَهَلْ هُوَ كَالظَّبْيَةِ، أَمْ كَالْمَعِيبِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَإِذَا أَوْجَبَهُ مَعِيبًا ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ،

فَهَلْ يُجْزِئُ ذَبْحُهُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَهُوَ نَاقِصٌ، فَلَا يُؤْثِرُ الْكَمَالَ بَعْدَهُ، كَمَنْ أَعْتَقَ أَعْمَى عَنْ كَفَّارَتِهِ، ثُمَّ عَادَ بَصَرُهُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ، لِكَمَالِهِ وَقْتَ الذَّبْحِ، وَحَكَى هَذَا قَوْلًا قَدِيمًا. الْخَامِسَةُ: لَوْ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ أُضْحِيَّةٌ، أَوْ هَدْيٌ، بِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَعَيَّنَ مُعَيَّنَةً عَمَّا عَلَيْهِ، لَمْ تَتَعَيَّنْ، وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِذَبْحِهَا. وَهَلْ يَلْزَمُهُ بِالتَّعْيِينِ ذَبْحُ الْمُعَيَّنَةِ؟ نُظِرَ، إِنْ قَالَ: عَيَّنْتُ هَذِهِ عَمَّا فِي ذِمَّتِي، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ عَمَّا فِي ذِمَّتِي، أَوْ أُهْدِيَ هَذِهِ، أَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ ذَبَحُهَا عَنِ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّتِي، لَزِمَهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَالْتِزَامِهِ ابْتِدَاءً ذَبْحَ مَعِيبَةٍ، وَيَكُونُ كَإِعْتَاقِهِ الْأَعْمَى عَنِ الْكَفَّارَةِ، يُنَفَّذُ وَلَا يُجْزِئُ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَخْتَصُّ ذَبْحُهَا بِوَقْتِ التَّضْحِيَةِ إِنْ كَانَتْ ضَحِيَّةً؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. وَلَوْ زَالَ عَيْبُ الْمُعَيَّنَةِ الْمَعِيبَةِ قَبْلَ ذَبْحِهَا، فَهَلْ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. السَّادِسَةُ: هَذَا الَّذِي سَبَقَ، كُلُّهُ فِيمَا إِذَا تَعَيَّبَتْ لَا بِفِعْلِهِ. فَلَوْ تَعَيَّبَتِ الْمُعَيَّنَةُ ابْتِدَاءً، أَوْ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ بِفِعْلِهِ، لَزِمَهُ ذَبْحُ صَحِيحَةٍ. وَفِي انْفِكَاكِ الْمَعِيبَةِ عَنْ حُكْمِ الِالْتِزَامِ، الْخِلَافُ السَّابِقُ. السَّابِعَةُ: لَوْ ذَبَحَ الْأُضْحِيَّةَ الْمَنْذُورَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، أَوِ الْهَدْيَ الْمَنْذُورَ بَعْدَ بُلُوغِ الْمَنْسَكِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ لَحْمَهُ حَتَّى فَسَدَ، لَزِمَهُ قِيمَةُ اللَّحْمِ، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ إِرَاقَةُ الدَّمِ. وَكَذَا لَوْ غَصَبَ اللَّحْمَ غَاصِبٌ وَتَلِفَ عِنْدَهُ، أَوْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ، يَأْخُذُ الْقِيمَةَ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا. الثَّامِنَةُ: لَوْ نَذَرَ التَّضْحِيَةَ بِمَعِيبَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِشَاةٍ عَرْجَاءَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا فِيمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ: يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ صَحِيحَةٌ. وَالثَّالِثُ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي لُزُومِ ذَبْحِهَا، وَالتَّصَدُّقِ بِلَحْمِهَا، وَفِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الضَّحَايَا وَفِي أَنَّ

مَصْرِفَهَا، هَلْ هُوَ مَصْرِفُ الضَّحَايَا، عَلَى مَا سَبَقَ فِيمَنْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الْمَعِيبَةَ ضَحِيَّةً. وَلَوِ الْتَزَمَ التَّضْحِيَةَ بِظَبْيَةٍ، أَوْ فَصِيلٍ، فَفِيهِ التَّرْتِيبُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْمُعَيَّنَةِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ الْخِلَافُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِظَبْيَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ خِلَافٌ فِي قَوْلِهِ: جَعَلْتُ هَذِهِ الظَّبْيَةَ ضَحِيَّةً. النَّوْعُ الثَّالِثُ: فِي ضَلَالِهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: إِذَا ضَلَّ هَدْيَهُ، أَوْ ضَحِيَّتَهُ الْمُتَطَوِّعُ بِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. قُلْتُ: لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَبْحُهَا إِذَا وَجَدَهَا، وَالتَّصَدُّقُ بِهَا. مِمَّنْ نَصَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ. فَإِنْ ذَبَحَهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، كَانَتْ شَاةُ لَحْمٍ يَتَصَدَّقُ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: الْهَدْيُ الْمُلْتَزَمُ مُعَيَّنًا، يَتَعَيَّنُ ابْتِدَاءً، إِذَا ضَلَّ بِغَيْرِ تَقْصِيرِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ، فَإِنْ وَجَدَهُ، ذَبَحَهُ. وَالْأُضْحِيَّةُ، إِنْ وَجَدَهَا فِي وَقْتِ التَّضْحِيَةِ، ذَبَحَهَا، وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ، فَلَهُ ذَبْحُهَا قَضَاءً، وَلَا يَلْزَمُهُ الصَّبْرُ إِلَى قَابِلٍ. وَإِذَا ذَبَحَهَا، صَرَفَ لَحْمَهَا مَصَارِفَ الضَّحَايَا. وَفِي وَجْهٍ لِابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَصْرِفُهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ فَقَطْ، وَلَا يَأْكُلُ، وَلَا يَدَّخِرُ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. الثَّالِثَةُ: مَهْمَا كَانَ الضَّلَالُ بِغَيْرِ تَقْصِيرِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَبُ إِنْ كَانَ فِيهِ مُؤْنَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ، لَزِمَهُ. وَإِنْ كَانَ بِتَقْصِيرِهِ، لَزِمَهُ الطَّلَبُ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ. فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَزِمَهُ ذَبْحُ بَدَلِهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَتَأْخِيرُ الذَّبْحِ إِلَى مُضِيِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِلَا عُذْرٍ، تَقْصِيرٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَإِنْ مَضَى بَعْضُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ثُمَّ ضَلَّتْ، فَهَلْ هُوَ تَقْصِيرٌ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الَأَرْجَحُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِتَقْصِيرٍ، كَمَنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمُوَسَّعِ، لَا يَأْثَمُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: إِذَا عَيَّنَ هَدْيًا أَوْ أُضْحِيَّةً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، فُضِّلَتِ الْمُعَيَّنَةُ، قَالَ الْإِمَامُ:

هُوَ كَمَا لَوْ تَلَفَتْ هَذِهِ الْمُعَيَّنَةُ. وَفِي وُجُوبِ الْبَدَلِ، وَجْهَانِ. وَذَكَرْنَا هُنَاكَ حَالَ هَذَا الْخِلَافِ، وَمَا فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْبَدَلِ مِنَ التَّوَسُّعِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَلْزَمُ إِخْرَاجُ الْبَدَلِ الْمُلْتَزَمِ. فَإِنْ ذَبَحَ وَاحِدَةً عَمَّا عَلَيْهِ، ثُمَّ وَجَدَ الضَّالَّةَ، فَهَلْ يَلْزَمُ ذَبْحُهَا؟ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا فِي «التَّهْذِيبِ» : لَا يَلْزَمُهُ، بَلْ يَتَمَلَّكُهَا كَمَا سَبَقَ فِيمَا لَوْ تَعَيَّبَتْ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ، وَقُطِعَ بِهِ فِي «الشَّامِلِ» ، لِإِزَالَةِ مِلْكِهِ بِالتَّعْيِينِ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ صِفَةِ الْإِجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْمَعِيبَةِ. فَلَوْ عَيَّنَ عَنِ الضَّالَّةِ وَاحِدَةً، ثُمَّ وَجَدَهَا قَبْلَ ذَبْحِ الْبَدَلِ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ ذَبْحُهُمَا مَعًا. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الْبَدَلِ فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: ذَبْحُ الْأَوَّلِ فَقَطْ. وَالرَّابِعُ: يَتَخَيَّرُ فِيهِمَا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الثَّالِثُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ عَيَّنَ شَاةً عَنْ أُضْحِيَّةٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَقُلْنَا: تَتَعَيَّنُ، فَضَحَّى بِأُخْرَى عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: يَخْرُجُ عَلَى أَنَّ الْمُعَيَّنَةَ لَوْ تَلِفَتْ، هَلْ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ عَمَّا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ أُضْحِيَّةً، ثُمَّ ذَبَحَ بَدَلَهَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَفِي وُقُوعِ الثَّانِيَةِ عَمَّا عَلَيْهِ تَرَدُّدٌ. فَإِنْ قُلْنَا: تَقَعُ عَنْهُ، فَهَلْ تَنْفَكُّ الْأُولَى عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. فَرْعٌ لَوْ عَيَّنَ مَنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عَبْدًا عَنْهَا، فَفِي تَعْيِينِهِ خِلَافٌ، وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِالتَّعْيِينِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: التَّعْيِينُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ تَعَيَّبَ الْمُعَيَّنُ، لَزِمَهُ إِعْتَاقُ سَلِيمٍ. وَلَوْ مَاتَ الْمُعَيَّنُ، بَقِيَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بِالْكَفَّارَةِ. وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا أَجْزَأَ عَنْ كَفَّارَتِهِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِعْتَاقِ الْمُعَيَّنِ، فَالظَّاهِرُ: بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. قَوْلُهُ: الظَّاهِرُ، أَيْ: مِنَ الْوَجْهَيْنِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: فِي الْأَكْلِ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ وَفِيهِ فَصْلَانِ. الْأَوَّلُ: فِي الْأَكْلِ مِنَ الْوَاجِبِ، فَكُلُّ هَدْيٍ وَجَبَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ، كَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَجُبْرَانَاتِ الْحَجِّ، لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ. فَلَوْ أَكَلَ مِنْهُ، غَرِمَ، وَلَا تَجِبُ إِرَاقَةُ الدَّمِ ثَانِيًا. وَفِيمَا يَغْرَمُهُ، أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ: يَغْرَمُ قِيمَةَ اللَّحْمِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُهُ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ مِثْلُ ذَلِكَ اللَّحْمِ. وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ شِرَاءُ شِقْصٍ مِنْ حَيَوَانٍ مِثْلِهِ، وَيُشَارِكُ فِي ذَبْحِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ بَطَلَ حُكْمُ إِرَاقَةِ الدَّمِ فِيهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ وَأَكَلَ الْجَمِيعَ، فَإِنْهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ آخَرُ. وَأَمَّا الْمُلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ مِنَ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا، فَإِنْ عَيَّنَ بِالنَّذْرِ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ دَمٍ حَلَقَ وَتَطَيَّبَ أَوْ غَيْرَهُمَا شَاةً، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا، كَمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً بِهَذِهِ النِّيَّةِ بِغَيْرِ نَذْرٍ، وَكَالزَّكَاةِ. وَإِنْ نَذَرَ نَذْرَ مُجَازَاةٍ، كَتَعْلِيقِهِ الْتِزَامَ الْهَدْيِ، أَوِ الْأُضْحِيَّةِ بِشِفَاءِ الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يَجُزِ الْأَكْلُ أَيْضًا، كَجَزَاءِ الصَّيْدِ. وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُلْتَزِمِ مُعَيَّنًا، أَوْ مُرْسَلًا فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ يَذْبَحُ عَنْهُ. فَإِنْ أَطْلَقَ الِالْتِزَامَ، فَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِشَيْءٍ، وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ، فَإِنْ كَانَ الْمُلْتَزِمُ مُعَيَّنًا، بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ، أَوْ أُهْدِيَ هَذِهِ، فَفِي جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْهَا قَوْلَانِ وَوَجْهٌ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ دُونَ الْهَدْيِ، حَمْلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْمَعْهُودِ الشَّرْعِيِّ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، مَا إِذَا قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ ضَحِيَّةً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ الْتِزَامٍ. أَمَّا إِذَا الْتَزَمَ فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً عَمَّا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزِ الْأَكْلَ فِي الْمُعَيَّنَةِ ابْتِدَاءً، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَقَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ.

هَكَذَا فَصَّلَ حُكْمَ الْأَكْلِ فِي الْمُلْتَزِمِ كَثِيرُونَ مِنَ الْمُعْتَبِرِينَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ وَجْهَيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نَذْرِ الْمُجَازَاةِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ الْمُلْتَزِمِ الْمُعَيَّنِ وَالْمُرْسَلِ، وَبِالْمَنْعِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ. قَالَ الْمُحَامِلِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَالْجَوَازُ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ، وَالْإِمَامِ. قَالَ فِي «الْعُدَّةِ» : وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَتَوَسَّطَ فَيُرَجَّحُ فِي الْمُعَيَّنِ: الْجَوَازُ، وَفِي الْمُرْسَلِ: الْمَنْعُ، سَوَاءً عَيَّنَهُ عَنْهُ ثُمَّ ذَبَحَ، أَوْ ذَبَحَ بِلَا تَعْيِينٍ؛ لِأَنَّهُ عَنْ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَأَشْبَهَ الْجُبْرَانَاتِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» ، وَهُوَ مُقْتَضَى سِيَاقِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ. وَحَيْثُ مَنَعْنَا الْأَكْلَ فِي الْمَنْذُورِ فَأَكَلَ، فَفِيمَا يَغْرَمُهُ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ السَّابِقَةُ فِي الْجُبْرَانَاتِ. وَحَيْثُ جَوَّزْنَا، فَفِي قَدْرِ مَا يَأْكُلُهُ الْقَوْلَانِ فِي أُضْحِيَّةِ التَّطَوُّعِ. هَكَذَا قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَلَكَ أَنْ تَقُولَ ذَاكَ الْخِلَافَ فِي قَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ أَكْلُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُسْتَحَبُّ الْأَكْلُ، وَأَقَلُّ مَا فِي تَرْكِهِ: الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْأَكْلِ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ الْمُتَطَوَّعِ بِهِمَا. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ مِنْهُمَا شَيْئًا، بَلْ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُمَا، وَلَا أَنْ يُعْطِيَ الْجَزَّارَ شَيْئًا مِنْهُمَا أُجْرَةً لَهُ، بَلْ مُؤْنَةُ الذَّبْحِ عَلَى الْمُضَحِّي وَالْمَهْدِيِّ كَمُؤْنَةِ الْحَصَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهُمَا شَيْئًا لِفَقْرِهِ، أَوْ يُطْعِمَهُ إِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمَا، وَإِنْ جَازَ إِطْعَامُهُمْ. وَيَجُوزُ تَمْلِيكُ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمَا، لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ. بَلْ لَوْ أَصْلَحَ الطَّعَامَ وَدَعَا إِلَيْهِ الْفُقَرَاءَ، قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي يَنْقَدِحُ عِنْدِي إِذَا أَوْجَبْنَا التَّصَدُّقَ بِشَيْءٍ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّمْلِيكِ كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ، وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ الْفُقَرَاءَ لِيَأْكُلُوهُ مَطْبُوخًا؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي تَمَلُّكِهِ فَإِنْ دُفِعَ مَطْبُوخًا، لَمْ يَجُزْ، بَلْ يُفَرِّقُهُ نَيِّئًا، فَإِنَّ الْمَطْبُوخَ، كَالْخُبْزِ فِي الْفِطْرَةِ. وَهَلْ يَشْتَرِطُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، أَمْ يَجُوزُ أَكْلُ الْجَمِيعِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَكْلُ الْجَمِيعِ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ الْقَاصِّ، وَالِاصْطَخْرِيُّ، وَابْنُ الْوَكِيلِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَاصِّ عَنْ نَصِّهِ. قَالُوا: وَيَحْصُلُ

الثَّوَابُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِقَدْرٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِرْفَاقُ الْمَسَاكِينِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ أَكَلَ الْجَمِيعَ لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَفِي قَوْلٍ، أَوْ وَجْهٍ: يَضْمَنُ الْقَدْرَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ فِي التَّصَدُّقِ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي فِيهِ قَوْلَانِ، هَلْ هُوَ النِّصْفُ، أَمِ الثُلُثُ؟ وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَضْمَنُ الْجَمِيعَ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ بِأَكْلِهِ الْكُلَّ، عَدَلَ عَنْ حُكْمِ الضَّحِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَهَا. وَيُنْسَبُ هَذَا إِلَى أَبِي إِسْحَاقٍ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَعَلَى هَذَا، يَذْبَحُ الْبَدَلَ فِي وَقْتِ التَّضْحِيَةِ. فَإِنْ أَخَّرَهُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ. وَفِي جَوَازِ الْأَكْلِ مِنَ الْبَدَلِ وَجْهَانِ. وَهَذَا الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ عَنِ ابْنِ كَجٍّ، وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَالْمَعْرُوفُ، مَا سَبَقَ مِنَ الْخِلَافِ. ثُمَّ مَا يَضْمَنُهُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ وَرَقًا. وَهَلْ يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ إِلَى شِقْصِ أُضْحِيَّةٍ، أَمْ يَكْفِي صَرْفُهُ إِلَى اللَّحْمِ وَتَفْرِقَتِهِ؟ وَجْهَانِ: وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ الذَّبْحِ وَالتَّفْرِيقُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ لَيْسَ بِأُضْحِيَّةٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ. فَرْعٌ الْأَفْضَلُ وَالْأَحْسَنُ فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَأُضْحِيَّتِهِ، التَّصَدُّقُ بِالْجَمِيعِ إِلَّا لُقْمَةً، أَوْ لُقَمًا يُتَبَرَّكُ بِأَكْلِهَا، فَإِنْهَا مَسْنُونَةٌ. وَحَكَى فِي «الْحَاوِي» عَنْ أَبِي الطِّيبِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِالْجَمِيعِ، بَلْ يَجِبُ أَكْلُ شَيْءٍ. وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ التَّصَدُّقُ عَنْهُ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ: يَأْكُلُ النِّصْفَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالنِّصْفِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ عَنِ الْجَدِيدِ. فَنَقَلَ جَمَاعَةٌ عَنْهُ: أَنَّهُ يَأْكُلُ الثُلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثُلُثَيْنِ. وَنَقَلَ آخَرُونَ عَنْهُ: أَنَّهُ يَأْكُلُ الثُلُثَ، وَيَهْدِي إِلَى الْأَغْنِيَاءِ الثُلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثُلُثِ. وَكَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالثُلُثَيْنِ كَانَ أَحَبَّ. وَيُشْبِهُ أَنْ

لَا يَكُونَ اخْتِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ، لَكِنْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّصَدُّقِ بِالثُّلُثَيْنِ، ذَكَرَ الْأَفْضَلَ، أَوْ تَوَسَّعَ فَعَدَّ الْهَدِيَّةَ صَدَقَةً. وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ: أَنَّ الْهَدِيَّةَ لَا تُغْنِي عَنِ التَّصَدُّقِ بِشَيْءٍ إِذَا أَوْجَبْنَاهُ، وَأَنَّهَا لَا تُحْسَبُ مِنَ الْقَدْرِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَيَجُوزُ صَرْفُ الْقَدْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يَدَّخِرَ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ، وَكَانَ ادِّخَارُهَا فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَدْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَذِنَ فِيهِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: كَانَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: يَحْتَمِلُ التَّنْزِيهَ. وَذَكَرُوا عَلَى الْأَوَّلِ وَجْهَيْنِ، فِي أَنَّ النَّهْيَ كَانَ عَامًّا، ثُمَّ نُسِخَ، أَمْ كَانَ مَخْصُوصًا بِحَالَةِ الضِّيقِ الْوَاقِعِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَلَمَّا زَالَتِ انْتَهَى التَّحْرِيمُ؟ وَوَجْهَيْنِ عَلَى الثَّانِي: فِي أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا وَبِلَادِنَا، هَلْ يُحْكَمُ بِهِ؟ وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْيَوْمَ بِحَالٍ. وَإِذَا أَرَادَ الِادِّخَارَ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَصِيبِ الْأَكْلِ، لَا مِنْ نَصِيبِ الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَجِيزِ: يَتَصَدَّقُ بِالثُلُثِ، وَيَأْكُلُ الثُلُثَ، وَيَدَّخِرُ الثُلُثَ، فَبَعِيدٌ مُنْكَرٌ نَقْلًا وَمَعْنًى، فَإِنْهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي كِتَابٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَا مُتَأَخِّرٍ، وَالْمَعْرُوفُ الصَّوَابُ: مَا قَدَّمْنَاهُ. قُلْتُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمَبْسُوطِ» : أُحِبُّ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ بِالْأَكْلِ وَالِادِّخَارِ الثُلُثَ، أَنْ يَهْدِيَ الثُلُثَ، وَيَتَصَدَّقَ بِالثُلُثِ، هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ، وَقَدْ نَقَلَهُ أَيْضًا الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالصَّوَابِ، وَرَدٌّ لِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ يُخَالِفُهُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

إِحْدَاهَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَا جَعْلُهُ أُجْرَةً لِلْجَزَّارِ وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا، بَلْ يَتَصَدَّقُ بِهِ الْمُضَحِّي، أَوْ يَتَّخِذُ مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ مِنْ خُفٍّ [أَوْ نَعْلٍ] أَوْ دَلْوٍ، أَوْ فَرْوٍ، أَوْ يُعِيرُهُ لِغَيْرِهِ وَلَا يُؤَجِّرُهُ. وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» قَوْلًا غَرِيبًا: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْجِلْدِ، وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ مَصْرِفَ الْأُضْحِيَّةِ، وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْجِلْدِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ يُخَالِفُ الِانْتِفَاعَ بِاللَّحْمِ، فَيَجِبُ التَّشْرِيكُ فِيهِ، كَالِانْتِفَاعِ بِاللَّحْمِ. وَالْمَشْهُورُ: الْأَوَّلُ. وَلَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ، بَيْنَ بَيْعِهِ بِشَيْءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْبَيْتِ وَغَيْرِهِ. الثَّانِيَةُ: التَّصَدُّقُ بِالْجِلْدِ لَا يَكْفِي إِذَا أَوْجَبْنَا التَّصَدُّقَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ، وَالْقَرْنِ كَالْجِلْدِ. الثَّالِثَةُ: لَا يَجُزُّ صُوفَهَا إِنْ كَانَ فِي بَقَائِهِ مَصْلَحَةً، لِدَفْعِ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، أَوْ كَانَ وَقْتُ الذَّبْحِ قَرِيبًا وَلَمْ يَضُرَّ بَقَاؤُهُ، وَإِلَّا فَيَجُزُّهُ، وَلَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَالْأَفْضَلُ: التَّصَدُّقُ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّ صُوفَ الْهَدْيِ يَسْتَصْحِبُهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ كَالْوَلَدِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا وَلَدَتِ الْأُضْحِيَّةُ أَوِ الْهَدْيُ الْمُتَطَوَّعُ بِهِمَا، فَهُوَ مِلْكُهُ كَالْأُمِّ. وَلَوْ وَلَدَتِ الْمُعَيَّنَةُ بِالنَّذْرِ ابْتِدَاءً، تَبِعَهَا الْوَلَدُ، سَوَاءً كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ التَّعْيِينِ، أَمْ حَمَلَتْ بَعْدَهُ. فَإِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ، بَقِيَ الْوَلَدُ أُضْحِيَّةً، كَوَلَدِ الْمُدَبِّرَةِ لَا يَرْتَفِعُ تَدْبِيرُهُ بِمَوْتِهَا. وَلَوْ عَيَّنَهَا بِالنَّذْرِ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّ حُكْمَ وَلَدِهَا كَوَلَدِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّذْرِ ابْتِدَاءً. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَتْبَعُهَا، بَلْ هُوَ مِلْكٌ لِلْمُضَحِّي أَوِ الْمَهْدِيِّ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْفُقَرَاءِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي هَذِهِ، فَإِنْهَا لَوْ عَابَتْ عَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ. وَفِي وَجْهٍ: يَتْبَعُهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً. فَإِنْ مَاتَتْ، لَمْ يَبْقَ حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْوَلَدِ. وَالصَّحِيحُ: بَقَاؤُهُ، وَالْخِلَافُ جَارٍ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ الْمَبِيعَةِ إِذَا مَاتَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ. وَإِذَا لَمْ يَطِقْ وَلَدُ الْهَدْيِ الْمَشْيَ، يُحْمَلُ عَلَى أُمِّهِ أَوْ غَيْرِهَا لِيَبْلُغَ الْحَرَمَ. ثُمَّ إِذَا ذَبَحَ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ، فَفِي تَفْرِقَةِ لَحْمِهِمَا أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ ضَحِيَّةٍ، فَيَتَصَدَّقُ مِنْ كُلِّ

وَاحِدٍ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُمَا ضَحِيَّتَانِ. وَالثَّانِي: يَكْفِي التَّصَدُّقُ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ بَعْضُهَا. وَالثَّالِثُ: لَا بُدَّ مِنَ التَّصَدُّقِ مِنْ لَحْمِ الْأُمِّ، لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: الْأَوَّلُ: أَصَحُّ وَيَشْتَرِكُ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ فِي جَوَازِ أَكْلِ جَمِيعِ الْوَلَدِ. وَلَوْ ذَبَحَهَا، فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُطْرَدَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَيُحْتَمَلُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ بَعْضُهَا. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ، فِي أَنَّ الْحَمْلَ لَهُ حُكْمٌ، وَقِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَهُوَ بَعْضٌ كَيَدِهَا، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ: طَرْدُ الْخِلَافِ، وَيُحْتَمَلُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ بَعْضٌ. وَالْأَصَحُّ عَلَى الْجُمْلَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ جَمِيعِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: لَبَنُ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ، لَا يُحْلَبُ إِنْ كَانَ قَدْرَ كِفَايَةِ وَلَدِهَا. فَإِنْ حَلْبَهُ فَنَقَصَ الْوَلَدُ، ضَمِنَ النَّقْصَ. وَإِنْ فَضَلَ عَنْ رِيِّ الْوَلَدِ، حُلِبَ. ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: لَهُ شُرْبُهُ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ نَقْلُهُ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : إِنْ لَمْ نُجَوِّزْ أَكْلَ لَحْمِهَا، لَمْ يَشْرَبْهُ، وَيَنْقِلُ لَبَنَ الْهَدْيِ إِلَى مَكَّةَ إِنْ تَيَسَّرَ أَوْ أَمْكَنَ تَجْفِيفُهُ، وَإِلَّا فَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ هُنَاكَ. وَإِنْ جَوَّزْنَا اللَّحْمَ شَرِبَهُ. السَّادِسَةُ: يَجُوزُ رُكُوبُهُمَا وَإِرْكَابُهُمَا بِالْعَارِيَةِ، وَالْحَمْلُ عَلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ إِجْحَافٍ. فَإِنْ نَقَصَا بِذَلِكَ ضَمِنَ، وَلَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُمَا. السَّابِعَةُ: لَوِ اشْتَرَى شَاةً فَجَعَلَهَا ضَحِيَّةً، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَدِيمًا، لَمْ يَجُزْ رَدُّهَا لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهَا، كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا، لَكِنْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالْأَرْشِ. وَفِيمَا يَفْعَلُ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُصْرَفُ مَصْرِفَ الْأُضْحِيَّةِ، فَيَنْظُرُ، أَيُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ ضَحِيَّةً أَوْ جُزْءًا، أَمْ لَا؟ وَيَعُودُ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْشِ الْعَيْبِ بَعْدَ إِعْتَاقِ

فصل

الْعَبْدِ، فَإِنْهُ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ، بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِتْقِ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ، وَالْعَيْبُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ اللَّحْمُ، وَلَحْمُ الْمَعِيبِ نَاقِصٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِلْمُضَحِّي، لَا يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ لِلْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ لِلتَّعْيِينِ. وَبِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَقْوَى، وَنَسَبَهُ الْإِمَامُ إِلَى الْمُرَاوِزَةِ وَقَالَ لَا: يَصِحُّ غَيْرُهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. قُلْتُ: قَدْ نَقَلَ فِي الشَّامِلِ هَذَا الثَّانِي عَنْ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا، فَهُوَ الصَّحِيحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ إِحْدَاهَا: قَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ: مَنْ أَكَلَ بَعْضَ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ، وَتَصَدَّقَ بِبَعْضِهَا، هَلْ يُثَابُ عَلَى الْكُلِّ، أَوْ عَلَى مَا تَصَدَّقَ بِهِ؟ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ نَوَى صَوْمَ التَّطَوُّعِ ضَحْوَةً، هَلْ يُثَابُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَمْ مِنْ وَقْتِهِ؟ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَهُ ثَوَابُ التَّضْحِيَةِ بِالْكُلِّ، وَالتَّصَدُّقِ بِالْبَعْضِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْقَوَاعِدُ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ تَصْرِيحًا الشَّيْخُ الصَّالِحُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَرُوذِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: فِي جَوَازِ الصَّرْفِ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ إِلَى الْمُكَاتَبِ وَجْهَانِ: فِي وَجْهٍ: يَجُوزُ كَالزَّكَاةِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ كَجٍّ: مَنْ ذَبَحَ شَاةً، وَقَالَ: أَذْبَحُ لِرِضَى فُلَانٍ، حَلَّتِ الذَّبِيحَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ تَقَرَّبَ بِالذَّبْحِ إِلَى الصَّنَمِ. وَذَكَرَ

الرُّويَانِيُّ: أَنَّ مَنْ ذَبَحَ لِلْجِنِّ وَقَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيَصْرِفَ شَرَّهُمْ عَنْهُ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ قَصَدَ الذَّبْحَ لَهُمْ فَحَرَامٌ. الرَّابِعَةُ: قَالَ فِي «الْبَحْرِ» : قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مَنْ نَذَرَ الْأُضْحِيَّةَ فِي عَامٍ، فَأَخَّرَ عَصَى، وَيَقْضِي كَمَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ. الْخَامِسَةُ: قَالَ الرُّويَانِيُّ: مَنْ ضَحَّى بِعَدَدٍ، فَرَّقَهَ عَلَى أَيَّامِ الذَّبْحِ، فَإِنْ كَانَ شَاتَيْنِ، ذَبَحَ شَاةً فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَالْأُخْرَى فِي آخِرِ الْأَيَّامِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ، وَإِنْ كَانَ أَرْفَقَ بِالْمَسَاكِينِ، إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ، فَقَدْ نَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَةَ بَدَنَةٍ أَهْدَاهَا، فَالسُّنَّةُ: التَّعْجِيلُ وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَالْمُبَادَرَةُ بِالصَّالِحَاتِ، إِلَّا مَا ثَبَتَ خِلَافُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ: مَحَلُّ التَّضْحِيَةِ، بَلَدُ الْمُضَحِّي، بِخِلَافِ الْهَدْيِ. وَفِي نَقْلِ الْأُضْحِيَّةِ، وَجْهَانِ، تَخْرِيجًا مِنْ نَقْلِ الزَّكَاةِ. السَّابِعَةُ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُضَحِّيَ فِي بَيْتِهِ بِمَشْهَدِ أَهْلِهِ. وَفِي «الْحَاوِي» : أَنَّهُ يَخْتَارُ الْإِمَامُ أَنْ يُضَحِّيَ لِلْمُسْلِمِينَ كَافَّةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِبَدَنَةٍ، يَنْحَرُهَا فِي الْمُصَلَّى. فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ، فَشَاةٌ، وَأَنَّهُ يَتَوَلَّى النَّحْرَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ ضَحَّى مِنْ مَالِهِ، ضَحَّى حَيْثُ شَاءَ. قُلْتُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْبُوَيْطِيِّ» : الْأُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ وَجَدَ السَّبِيلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وَالْحَاضِرِ وَالْمُسَافِرِ، وَالْحَاجِّ مِنْ أَهْلِ مِنَى وَغَيْرِهِمْ، مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ. هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَا حَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْكِفَايَةُ» : أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ، إِلَّا فِي حَقِّ الْحَاجِّ بِمِنَى، فَإِنَّهُ لَا أُضْحِيَّةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مَا يُنْحَرُ بِمِنَى هَدْيٌ، وَكَمَا لَا يُخَاطَبُ الْحَاجُّ فِي مِنَى بِصَلَاةِ الْعِيدِ، فَكَذَا الْأُضْحِيَّةُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ الَّذِي ذَكَرْتُهُ.

باب العقيقة

وَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ فِي «جَامِعِهِ» وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: بِأَنَّ أَهْلَ مِنَى كَغَيْرِهِمْ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَثَبَتَ فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ضَحَّى فِي مِنَى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابُ الْعَقِيقَةِ هِيَ سُنَّةٌ، وَالْمُسْتَحَبُّ ذَبْحُهَا يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ يَوْمِ الْوِلَادَةِ، وَيُحْسَبُ مِنَ السَّبْعَةِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَإِنْ وُلِدَ لَيْلًا، حُسِبَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَطْعًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْبُوَيْطِيِّ» ، وَنَصَّ أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدَ فِي أَثْنَائِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُجْزِئُ ذَبْحُهَا قَبْلَ فَرَاغِ السَّبْعَةِ، وَلَا يُحْسَبُ قَبَلَ الْوِلَادَةِ، بَلْ تَكُونُ شَاةَ لَحْمٍ. وَلَا تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهَا عَنِ السَّبْعَةِ، لَكِنَّ الِاخْتِيَارَ أَنْ لَا تُؤَخَّرَ إِلَى الْبُلُوغِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُوشَنْجِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ لَمْ تُذْبَحْ فِي السَّابِعِ، ذُبِحَتْ فِي الرَّابِعِ عَشَرٍ، وَإِلَّا فَفِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ. وَقِيلَ: إِذَا تَكَرَّرَتِ السَّبْعَةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَاتَ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ. فَإِنْ أُخِّرَتْ حَتَّى بَلَغَ، سَقَطَ حُكْمُهَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَوْلُودِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْعَقِيقَةِ عَنْ نَفْسِهِ. وَاسْتَحْسَنَ الْقَفَّالُ وَالشَّاشِيُّ: أَنْ يَفْعَلَهَا. وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ. وَنَقَلُوا عَنْ نَصِّهِ فِي «الْبُوَيْطِيِّ» : أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَاسْتَغْرَبُوهُ. قُلْتُ: قَدْ رَأَيْتُ نَصَّهُ فِي نَفْسِ كِتَابِ «الْبُوَيْطِيِّ» قَالَ: وَلَا يَعُقُّ عَنْ كَبِيرٍ. هَذَا لَفْظُهُ، وَلَيْسَ مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يَعَقُّ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ عَقِّهِ عَنْ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ إِنَّمَا يَعُقُّ عَنِ الْمَوْلُودِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. وَأَمَّا عَقُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَمُئَوَّلٌ. قُلْتُ: تَأْوِيلُهُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَاهُمَا بِذَلِكَ، أَوْ أَعْطَى أَبَوَيْهِمَا مَا عَقَّ بِهِ أَوْ: أَنَّ أَبَوَيْهِمَا كَانَا عِنْدَ ذَلِكَ مُعْسِرَيْنِ، فَيَكُونَانِ فِي نَفَقَةِ جَدِّهِمَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يُعَقُّ عَنِ الْمَوْلُودِ مِنْ مَالِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُنْفِقُ عَاجِزًا عَنِ الْعَقِيقَةِ، فَأَيْسَرَ فِي السَّبْعَةِ اسْتَحَبَّ لَهُ الْعَقُّ. وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَهَا، أَوْ بَعْدَ مُدَّةِ النِّفَاسِ، فَهِيَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ وَإِنْ أَيْسَرَ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْأَصْحَابِ، لِبَقَاءِ أَثَرِ الْوِلَادَةِ. فَصْلٌ الْعَقِيقَةُ جَذَعَةُ ضَأْنٍ، أَوْ ثَنِيَّةُ مَعْزٍ، كَالْأُضْحِيَّةِ. وَفِي «الْحَاوِي» : أَنَّهُ يُجْزِئُ مَا دُونِهِمَا، وَيُشْتَرَطُ سَلَامَتُهُمَا مِنَ الْعَيْبِ الْمَانِعِ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَفِي «الْعُدَّةِ» : إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهٍ مُسَامِحٍ، قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: الْغَنَمُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، كَالْأُضْحِيَّةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَتَأَدَّى السُّنَّةُ بِسُبْعِ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ. فَصْلٌ حُكْمُ الْعَقِيقَةِ فِي التَّصَدُّقِ مِنْهَا، وَالْأَكْلِ وَالْهَدِيَّةِ، وَالِادِّخَارِ، وَقَدْرُ الْمَأْكُولِ، وَامْتِنَاعِ الْبَيْعِ، وَتَعْيِينِ الشَّاةِ إِذَا عُيِّنَتْ لِلْعَقِيقَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأُضْحِيَّةِ.

فصل

وَقِيلَ: إِنْ جَوَّزْنَا دُونَ الْجَذَعَةِ، لَمْ يَجِبِ التَّصَدُّقُ مِنْهَا، وَجَازَ تَخْصِيصُ الْأَغْنِيَاءِ بِهَا. فَصْلٌ يَنْوِي عِنْدَ ذَبْحِهَا، أَنَّهَا عَقِيقَةٌ. لَكِنْ إِنْ جَعَلَهَا عَقِيقَةً مِنْ قَبْلُ، فَفِي الْحَاجَةِ إِلَى النِّيَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، مَا ذَكَرْنَا فِي الْأُضْحِيَّةِ. فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا نَيِّئًا، بَلْ يَطْبُخُهُ. وَفِي «الْحَاوِي» : أَنَّا إِذَا لَمْ نُجَوِّزْ مَا دُونَ الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ، وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهَا نَيِّئًا. وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ أَوْجَبْنَا التَّصَدُّقَ بِمِقْدَارٍ، وَجَبَ تَمْلِيكُهُ وَهُوَ نَيِّءٌ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَفِيمَا يَطْبُخُهُ بِهِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِحُمُوضَةٍ، وَنَقَلَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» عَنِ النَّصِّ. وَأَصَحُّهُمَا: بِحُلْوٍ تَفَاؤُلًا بِحَلَاوَةِ أَخْلَاقِ الْمَوْلُودِ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ طُبِخَ بِحَامِضٍ، فَفِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا يُكْرَهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُكَسِّرَ عِظَامَ الْعَقِيقَةِ مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ كَسَرَ، لَمْ يُكْرَهْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالتَّصَدُّقُ بِلَحْمِهَا وَمَرَقِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، بِالْبَعْثِ إِلَيْهِمْ، أَفْضَلُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا. وَلَوْ دَعَا إِلَيْهَا قَوْمًا فَلَا بَأْسَ. فَصْلٌ يُعَقُّ عَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، وَعَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ، وَيَحْصُلُ أَصْلُ السُّنَّةِ بِوَاحِدَةٍ.

فصل

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الشَّاتَانِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَبْحُ الْعَقِيقَةِ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، وَأَنْ يُعَقَّ عَمَّنْ مَاتَ بَعْدَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الذَّبْحِ. وَقِيلَ: يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. وَأَنْ يَقُولَ الذَّابِحُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ: اللَّهُمَّ لَكَ وَإِلَيْكَ عَقِيقَةُ فُلَانٍ. وَيُكْرَهُ لَطْخُ رَأْسِ الصَّبِيِّ بِدَمِ الْعَقِيقَةِ، وَلَا بَأْسَ بِلَطْخِهِ بِالزَّعْفَرَانِ وَالْخَلُوقِ، وَقِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ. فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمَّى الْمَوْلُودُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُسَمَّى قَبْلَهُ. وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يَفْعَلُهُ، وَلَا يَتْرُكُ تَسْمِيَةَ السَّقْطِ، وَلَا مَنْ مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ السَّبْعَةِ، وَلْتَكُنِ التَّسْمِيَةُ بَاسِمٍ حَسَنٍ، وَتُكْرَهُ الْأَسْمَاءُ الْقَبِيحَةُ وَمَا يَتَطَيَّرُ بِنَفْيِهِ، كَنَافِعٍ، وَيَسَارٍ، وَأَفْلَحَ، وَنَجِيحٍ، وَبَرَكَةَ. فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْلَقَ رَأْسُ الْمَوْلُودِ [يَوْمَ السَّابِعِ] ، وَيُتَصَدَّقُ بِوَزْنِ شَعْرِهِ ذَهَبًا. فَإِنْ [لَمْ] يَتَيَسَّرْ، فَفِضَّةٌ، سَوَاءٌ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : يُحْلَقُ بَعْدَ ذَبْحِ الْعَقِيقَةِ. وَالَّذِي رَجَّحَهُ الرُّويَانِيُّ، وَنَقَلَهُ عَنِ النَّصِّ: أَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ الذَّبْحِ. قُلْتُ: وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُحَامِلِيُّ فِي الْمُقْنِعِ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَالْجُرْجَانِيُّ فِي «التَّحْرِيرِ» ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، فَهُوَ أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فِي أُذُنِهِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، أَذَّنَ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى، وَأَقَامَ فِي الْيُسْرَى، وَاسْتَحَبَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي أُذُنِهِ: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ، وَأَنْ يُحَنِّكَهُ بِتَمْرٍ، بِأَنْ يَمْضُغَهُ وَيُدَلِّكَ بِهِ حَنَكَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْرٌ، حَنَّكَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ حُلْوٍ، وَأَنْ يُهَنَّأَ الْوَالِدُ بِالْمَوْلُودِ، وَيُسْتَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ الْقَابِلَةَ رِجْلَ الْعَقِيقَةِ. فَصْلٌ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ» . فَالْفَرْعُ - بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ - أَوَّلُ نِتَاجِ الْبَهِيمَةِ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ وَلَا يَمْلِكُونَهُ رَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِي الْأُمِّ وَكَثْرَةِ نَسْلِهَا. وَالْعَتِيرَةُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ - ذَبِيحَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَّلِ مِنْ رَجَبٍ. وَيُسَمُّونَهَا: الرَّجَبِيَّةُ أَيْضًا. وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ وَغَيْرُهُ فِيهِمَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُكْرَهَانِ لِلْخَبَرِ. وَالثَّانِي: لَا كَرَاهَةَ فِيهِمَا، وَالْمَنْعُ رَاجِعٌ إِلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَهُوَ الذَّبْحُ لِآلِهَتِهِمْ، أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ نُفِيُ الْوُجُوبِ، أَوْ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا كَالْأُضْحِيَّةِ فِي الِاسْتِحْبَابِ، أَوْ فِي ثَوَابِ إِرَاقَةِ الدَّمِ. فَأَمَّا تَفْرِقَةُ اللَّحْمِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَبِرٌّ وَصَدَقَةٌ. وَحُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: إِنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ كُلُّ شَهْرٍ، كَانَ حَسَنًا. قُلْتُ: هَذَا النَّصُّ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سُنَنِ حَرْمَلَةَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ، وَفِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» وَغَيْرِهِ حَدِيثٌ آخَرُ

يَقْتَضِي التَّرْخِيصَ فِيهِمَا، بَلْ ظَاهِرُهُ النَّدْبُ، فَالْوَجْهُ الثَّانِي يُوَافِقُهُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الرَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ، تَرَكَ مَسَائِلَ مُهِمَّةً تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ. إِحْدَاهَا: يُكْرَهُ الْقَزَعُ، وَهُوَ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ، سَوَاءً كَانَ مُتَفَرِّقًا أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، لِحَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» بِالنَّهْيِ عَنْهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حَقِيقَةِ الْقَزَعِ، الصَّحِيحُ: مَا ذَكَرْتُهُ. وَأَمَّا حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ لَا يَخِفُّ عَلَيْهِ تَعَاهُدُهُ، وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِ لِمَنْ خَفَّ عَلَيْهِ. الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ فَرْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ. الثَّالِثَةُ: يُسْتَحَبُّ الِادِّهَانُ غَبًّا، أَيْ: وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، بِحَيْثُ يَجِفُّ الْأَوَّلُ. الرَّابِعَةُ: يُسْتَحَبُّ الِاكْتِحَالُ وِتْرًا. وَالصَّحِيحُ فِي مَعْنَاهُ: ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ. وَالْخَامِسَةُ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَإِزَالَةُ شَعْرِ الْعَانَةِ، بِحَلْقٍ، أَوْ نَتْفٍ، أَوْ قَصٍّ، أَوْ نَوْرَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ. وَيُسْتَحَبُّ إِزَالَةُ شَعْرِ الْإِبِطِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالنَّتْفُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ قَصُّ الشَّارِبِ، بِحَيْثُ يُبَيِّنُ طَرَفَ الشَّفَةِ بَيَانًا ظَاهِرًا. وَيَبْدَأُ فِي هَذِهِ كُلِّهَا، بِالْيَمِينِ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَيُكْرَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، تَأْخِيرُهَا عَنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لِلْحَدِيثِ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. السَّادِسَةُ: مِنَ السُّنَّةِ غَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَهِيَ عُقَدُ الْأَصَابِعِ وَمَفَاصِلُهَا، وَيَلْتَحِقُ بِهَا إِزَالَةُ مَا يَجْتَمِعُ مِنَ الْوَسَخِ فِي مَعَاطِفِ الْأُذُنِ وَصِمَاخِهَا، وَفِي الْأَنْفِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ. السَّابِعَةُ: خِضَابُ الشَّعْرِ الشَّائِبِ بِحُمْرَةٍ أَوْ صُفْرَةٍ سُنَّةٌ، وَبِالسَّوَادِ حَرَامٌ. وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا خِضَابُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَمُسْتَحَبٌّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ، وَحَرَامٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ إِلَّا لِعُذْرٍ. الثَّامِنَةُ: يُسْتَحَبُّ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ، وَتَسْرِيحُ اللِّحْيَةِ، وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ. التَّاسِعَةُ: ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، فِي اللِّحْيَةِ عَشْرُ خِصَالٍ مَكْرُوهَةٍ: خِضَابُهَا

بِالسَّوَادِ إِلَّا لِلْجِهَادِ، وَتَبْيِيضُهَا بِالْكِبْرِيتِ أَوْ غَيْرِهِ اسْتِعْجَالًا لِلشَّيْخُوخَةِ، وَنَتْفُهَا أَوَّلَ طُلُوعِهَا إِيثَارًا لِلْمُرُودَةِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ، وَنَتْفُ الشَّيْبِ، وَتَصْفِيفُهَا طَاقَةً فَوْقَ طَاقَةٍ تَحَسُّنًا، وَالزِّيَادَةُ فِيهَا، وَالنَّقْصُ مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ فِي شَعْرِ الْعِذَارَيْنِ مِنَ الصُّدْغَيْنِ، أَوْ أَخْذُ بَعْضِ الْعِذَارِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ، وَنَتْفِ جَانِبَيِ الْعَنْفَقَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَرْكِهَا شَعِثَةً إِظْهَارًا لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِنَفْسِهِ، وَالنَّظَرِ فِي بَيَاضِهَا وَسَوَادِهَا إِعْجَابًا وَافْتِخَارًا، وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِ سِبَالَيْهِ، وَهُمَا طَرَفَا الشَّارِبِ. الْعَاشِرَةُ: فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ» ، وَإِذَا سُمِّيَ إِنْسَانٌ بَاسِمٍ قَبِيحٍ، فَالسُّنَّةُ تَغْيِيرُهُ. وَيَنْبَغِي لِلْوَلَدِ وَالتِّلْمِيذِ وَالْغُلَامِ، أَنْ لَا يُسَمِّي أَبَاهُ وَمُعَلِّمَهُ وَسَيِّدَهُ بِاسْمِهِ. وَيُسْتَحَبُّ تَكْنِيَةُ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، سَوَاءً كَانَ لَهُ وَلَدٌ، أَمْ لَا، وَسَوَاءً كُنِّيَ بِوَلَدِهِ، أَمْ بِغَيْرِهِ. وَلَا بَأْسَ بِكُنْيَةِ الصَّغِيرِ، وَإِذَا كُنِّيَ مَنْ لَهُ أَوْلَادٌ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُكَنَّى بِأَكْبَرِهِمْ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ، سَوَاءً كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا، أَمْ غَيْرُهُ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي أَوَّلِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا بَأْسَ بِمُخَاطَبَةِ الْكَافِرِ وَالْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ بِكُنْيَتِهِ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ بِغَيْرِهَا، أَوْ خِيفَ مِنْ ذِكْرِهِ بِاسْمِهِ فِتْنَةً، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الِاسْمِ. وَالْأَدَبُ أَنْ لَا يَذْكُرَ الْإِنْسَانُ كُنْيَتَهُ فِي كِتَابِهِ وَلَا غَيْرِهِ، إِلَّا أَنْ لَا يُعْرَفَ بِغَيْرِهَا أَوْ كَانَتْ أَشْهَرَ مِنَ اسْمِهِ. وَلَا بَأْسَ بِتَرْخِيمِ الِاسْمِ إِذَا لَمْ يَتَأَذَّ صَاحِبُهُ، وَلَا بِتَلْقِيبِ الْإِنْسَانِ بِلَقَبٍ لَا يُكْرَهُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ تَلْقِيبِهِ بِمَا يَكْرَهُهُ، سَوَاءً كَانَ صِفَةً لَهُ، كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَجِ، أَوْ لِأَبِيهِ، أَوْ لِأُمِّهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ لِلتَّعْرِيفِ، لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ بِغَيْرِهِ، نَاوِيًا التَّعْرِيفَ فَقَطْ. وَثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الْبَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا

اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعَشَاءِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ» . فَهَذِهِ سُنَنٌ يَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، وَجُنْحُ اللَّيْلِ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا: ظَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا» - بِضَمِّ الرَّاءِ - عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا، أَيْ: تَجْعَلُوهُ عَرْضًا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ» هِيَ - بِالْفَاءِ جُمَعُ فَاشِيَةٍ - وَهُوَ كُلُّ مَا يُنْشَرُ مِنَ الْمَالِ كَالْبَهَائِمِ وَغَيْرِهَا، وَفُحْمَةُ الْعِشَاءِ: ظُلْمَتُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الصيد والذبائح

كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ الْحَيَوَانُ الْمَأْكُولُ، إِنْمَا يَصِيرُ مُذَكَّى بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الذَّبْحُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: الْعَقْرُ الْمُزْهِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ. ثُمَّ الذَّبْحُ وَالْعَقْرُ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: الْأَوَّلُ: الذَّابِحُ، وَالْعَاقِرُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا. وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ، سَوَاءً فِيهِ مَا يَسْتَحِلُّهُ الْكِتَابِيُّ، وَمَا لَا. وَحَقِيقَةُ الْكِتَابِيِّ تَأْتِي فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. تَعَالَى. وَفِي ذَبِيحَةِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيَّةِ، قَوْلَانِ، كَمُنَاكَحَتِهِ، وَالْمُنَاكَحَةُ وَالذَّبِيحَةُ، لَا يَفْتَرِقَانِ، إِلَّا أَنَّ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ، تَحِلُّ ذَبِيحَتُهَا دُونَ مُنَاكَحَتِهَا. وَلَوْ صَادَ مَجُوسِيٌّ سَمَكَةً، حَلَّتْ؛ لِأَنَّ مِيتَتَهَا حَلَالٌ. وَكَمَا تَحْرُمُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ، وَالْوَثَنِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ، يَحْرُمُ صَيْدُهُ بِسَهْمٍ، أَوْ كَلْبٍ. وَيَحْرُمُ مَا يُشَارِكُ فِيهِ مُسْلِمًا. فَلَوْ أَمَرَّا سِكِّينًا عَلَى حَلْقِ شَاةٍ، أَوْ قَطَعَ هَذَا بَعْضَ الْحُلْقُومِ، وَهَذَا بَعْضَهُ، أَوْ قَتَلَا صَيْدًا بِسَهْمٍ أَوْ كَلْبٍ، فَهُوَ حَرَامٌ. وَلَوْ رَمَيَا سَهْمَيْنِ، أَوْ أَرْسَلَا كَلْبَيْنِ، فَإِنْ سَبْقَ سَهْمُ الْمُسْلِمِ أَوْ كَلْبُهُ، فَقَتَلَ الصَّيْدَ، أَوْ أَنْهَاهُ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، حَلَّ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ مُسْلِمٌ شَاةً، ثُمَّ قَدَّهَا الْمَجُوسِيُّ. وَإِنْ سَبَقَ مَا أَرْسَلَهُ الْمَجُوسِيُّ، أَوْ جَرَحَاهُ مَعًا، أَوْ مُرَتَّبًا، وَلَمْ يَذْفُفْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَهَلَكَ بِهِمَا، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، فَحَرَامٌ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْبَحْرِ» : مَتَى اشْتَرَكَا فِي إِمْسَاكِهِ وَعَقْرِهِ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ بِالْآخَرِ، أَوِ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِأَحَدِهِمَا، فَحَرَامٌ. وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ كَلْبَانِ مُعَلَّمٌ وَغَيْرُهُ،

أَوْ مُعَلَّمَانِ، ذَهَبَ أَحَدُهُمَا بِلَا إِرْسَالٍ، فَقَتَلَا صَيْدًا، فَكَاشْتِرَاكِ كَلْبَيِ الْمُسْلِمِ وَالْمَجُوسِيِّ. وَلَوْ هَرَبَ الصَّيْدُ مِنْ كَلْبِ الْمُسْلِمِ، فَعَارَضَهُ كَلْبُ مَجُوسِيٍّ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ كَلْبُ الْمُسْلِمِ، حَلَّ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ الْمُسْلِمُ شَاةً أَمْسَكَهَا مَجُوسِيٌّ. وَلَوْ جَرَحَهُ مُسْلِمٌ أَوَّلًا، ثُمَّ قَتَلَهُ مَجُوسِيٌّ، أَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا غَيْرَ مُذَفَّفٍ، وَمَاتَ بِالْجُرْحَيْنِ، فَحَرَامٌ. فَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَثْخَنَهُ بِجِرَاحَتِهِ، فَقَدْ مَلَكَهُ. وَيُلْزِمُ الْمَجُوسِيَّ قِيمَتَهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَهُ بِجَعْلِهِ مَيْتَةً. وَيَحِلُّ مَا اصْطَادَهُ الْمُسْلِمُ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ، كَالذَّبْحِ بِسِكِّينِهِ. قُلْتُ: لَوْ أَكْرَهَ مَجُوسِيٌّ مُسْلِمًا عَلَى ذَبْحِ شَاةٍ، أَوْ مُحْرِمٌ حَلَالًا عَلَى ذَبْحِ صَيْدٍ، فَذَبَحَ، حَلَّ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ تَحِلُّ ذَبِيحَةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيَّزِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي غَيْرِ الْمُمَيَّزِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ، قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحِلُّ، كَمَنْ قَطَعَ حَلْقَ شَاةٍ يَظُنُّهُ خَشَبَةً. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، كَنَائِمٍ بِيَدِهِ سِكِّينٌ وَقَعَتْ عَلَى حُلْقُومِ شَاةٍ. وَصَحَّحَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ الثَّانِي. وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَصَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» بِالْحِلِّ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: الْحِلُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : فَإِنْ كَانَ لِلْمَجْنُونِ أَدْنَى تَمْيِيزٍ، وَلِلسَّكْرَانِ قَصْدٌ، حَلَّ قَطْعًا. وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْأَعْمَى قَطْعًا لَكِنْ تُكْرَهُ. وَفِي صَيْدِهِ بِالْكَلْبِ وَالرَّمْيِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَحِلُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ. وَقِيلَ: عَكْسُهُ. وَالْأَشْبَهُ: أَنَّ الْخِلَافَ مُخَصَّصٌ بِمَا إِذَا أَخْبَرَهُ بَصِيرُ الصَّيْدِ، فَأَرْسَلَ السَّهْمَ أَوِ الْكَلْبَ. وَكَذَا

صَوَّرَهَا فِي «التَّهْذِيبِ» ، وَأَطْلَقَ الْوَجْهَيْنِ جَمَاعَةٌ، وَيَجْرِيَانِ فِي اصْطِيَادِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِالْكَلْبِ وَالسَّهْمِ. وَقِيلَ: يَخْتَصَّانِ بِالْكَلْبِ، وَقَطَعَ بِالْحِلِّ فِي السَّهْمِ كَالذَّبْحِ. فَرْعٌ الْأَخْرَسُ، إِنْ كَانَ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ، وَإِلَّا، فَكَالْمَجْنُونِ، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَلْتَكُنْ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْجَزْمُ بِحِلِّ ذَبِيحَةِ الْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يَفْهَمُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الذَّبِيحُ. الْحَيَوَانُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: مَا لَا يُؤْكَلُ. وَالثَّانِي: مَأْكُولٌ يَحِلُّ مَيِّتُهُ. وَالثَّالِثُ: مَأْكُولٌ لَا يَحِلُّ مَيِّتُهُ. فَالْأَوَّلُ: ذَبْحُهُ كَمَوْتِهِ. وَالثَّانِي: كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَبْحِهِ. وَهَلْ يَحِلُّ أَكْلُ السَّمَكِ الصِّغَارِ إِذَا شُوَيَتْ وَلَمْ يُشَقَّ جَوْفُهَا وَيُخْرَجْ مَا فِيهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَجْهُ الْجَوَازِ: عُسْرُ تَتَبُّعِهَا، وَعَلَى الْمُسَامَحَةِ بِهَا جَرَى الْأَوَّلُونَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: بِهَذَا أُفْتِيَ، وَرَجِيعُهَا طَاهِرٌ عِنْدِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ. وَلَوْ وُجِدَتْ سَمَكَةٌ فِي جَوْفِ سَمَكَةٍ، فَهِيَ حَلَالٌ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوِ ابْتَلَعَتْ طَائِرًا فَوُجِدَ مَيِّتًا فِي جَوْفِهَا، لَا يَحِلُّ. وَلَوْ تَقَطَّعَتِ السَّمَكَةُ فِي جَوْفِ سَمَكَةٍ، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهَا، لَمْ تَحِلَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا كَالرَّوْثِ وَالْقَيْءِ. وَيُكْرَهُ ذَبْحُ السَّمَكِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا يَطُولُ بَقَاؤُهُ، فَيُسْتَحَبُّ ذَبْحُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، إِرَاحَةً لَهُ. وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ لِيَمُوتَ بِنَفْسِهِ. وَلَوِ ابْتَلَعَ سَمَكَةً حَيَّةً، أَوْ قَطَعَ فَلْقَةً مِنْهَا، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْأَصَحِّ، لَكِنْ يُكْرَهُ. قُلْتُ: وَطَرَدُوا الْوَجْهَيْنِ فِي الْجَرَادِ. وَلَوْ ذَبَحَ مَجُوسِيٌّ سَمَكَةً، حَلَّتْ. وَلَوْ

قَلَى السَّمَكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَطَرْحَهُ فِي الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ وَهُوَ يَضْطَرِبٌ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ. وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ فِي ابْتِلَاعِ السَّمَكَةِ حَيَّةً: أَنَّهُ حَرَامٌ. وَعَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ، يُبَاحُ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَضَرْبَانِ، مَقْدُورٌ عَلَى ذَبْحِهِ، وَمُتَوَحِّشٌ. فَالْمَقْدُورُ عَلَيْهِ: لَا يَحِلُّ إِلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْأُضْحِيَّةِ، وَسَوَاءٌ الْإِنْسِيُّ وَالْوَحْشِيُّ إِذَا ظَفِرَ بِهِ. وَأَمَّا الْمُتَوَحِّشُ، كَالصَّيْدِ، فَجَمِيعُ أَجْزَائِهِ مَذْبَحٌ مَا دَامَ مُتَوَحِّشًا. فَلَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ، أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ جَارِحَةً، فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ وَمَاتَ، حَلَّ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ تَوَحَّشَ إِنْسِيٌّ، بِأَنْ نَدَّ بَعِيرٌ، أَوْ شَرَدَتْ شَاةٌ، فَهُوَ كَالصَّيْدِ، يَحِلُّ بِالرَّمْيِ إِلَى غَيْرِ مَذْبَحِهِ، وَبِإِرْسَالِ الْكَلْبِ عَلَيْهِ. وَلَوْ تَرَدَّى بَعِيرِ فِي بِئْرٍ، وَلَمْ يُمْكِنْ قَطْعُ حُلْقُومِهِ، فَهُوَ كَالْبَعِيرِ النَّادِّ فِي حِلِّهِ بِالرَّمْيِ. وَهَلْ يَحِلُّ بِإِرْسَالِ الْكَلْبِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ «الْبَحْرِ» : التَّحْرِيمُ، وَاخْتَارَ الْبَصْرِيُّونَ الْحِلَّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: تَحْرِيمُهُ. وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الشَّاشِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّوَحُّشِ مُجَرَّدَ الْإِفْلَاتِ، بَلْ مَتَى تَيَسَّرَ اللُّحُوقُ بِعَدْوٍ، أَوِ اسْتِعَانَةٍ بِمَنْ مَسَكَ الدَّابَّةَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ تُوحُّشَا، وَلَا يَحِلُّ إِلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ. وَلَوْ تَحَقَّقَ الشُّرُودُ، وَحَصَلَ الْعَجْزُ فِي الْحَالِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ: أَنَّ الْبَعِيرَ كَالصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ الذَّبْحَ فِي الْحَالِ، فَتَكْلِيفُهُ الصَّبْرُ إِلَى الْقُدْرَةِ، يَشُقُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يُلْحَقَ بِالصَّيْدِ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا حَالَةٌ عَارِضَةٌ قَرِيبَةُ الزَّوَالِ، لَكِنْ لَوْ كَانَ الصَّبْرُ وَالطَّلَبُ يُؤَدِّي إِلَى مَهْلَكَةٍ أَوْ مَسْبَعَةٍ، فَهُوَ حِينَئِذٍ كَالصَّيْدِ. وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى مَوْضِعِ لُصُوصٍ وَغُصَّابٍ مُتَرَصِّدِينَ، فَوَجْهَانِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ تَصَرُّفَهُمْ وَإِتْلَافَهُمْ مُتَدَارَكٌ بِالضَّمَانِ. وَالْمَذْهَبُ: مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْأَصْحَابِ. ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْجُرْحِ الْمُفِيدِ لِلْحِلِّ فِي النَّادِّ وَالْمُتَرَدِّي، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ أَجَابَ الْأَكْثَرُونَ:

فصل

يَكْفِي جَرْحٌ يُفْضِي إِلَى الزَّهُوقِ كَيْفَ كَانَ. وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ جُرْحٍ مُذَفَّفٍ، وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ، وَالْإِمَامُ. فَصْلٌ إِذَا أَرْسَلَ سِلَاحًا، كَسَهْمٍ، وَسَيْفٍ، وَغَيْرِهِمَا، أَوْ كَلْبًا مُعَلَّمًا عَلَى صَيْدٍ، فَأَصَابَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّيْدَ حَيًّا، نَظَرَ، إِنْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، بِأَنْ كَانَ قَطَعَ حُلْقُومَهُ وَمَرِّيئَهُ، أَوْ أَجَافَهُ، أَوْ خَرَقَ أَمْعَاءَهُ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُمِرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ لِيُرِيحَهُ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَتَرْكَهُ حَتَّى مَاتَ، فَهُوَ حَلَالٌ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً فَاضْطَرَبَتْ أَوْ عَدَتْ. وَإِنْ بَقِيَتْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَبْحُهُ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْ صَائِدِهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَهُوَ حَلَالٌ أَيْضًا، لِلْعُذْرِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَعَذَّرَ ذَبْحُهُ، فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ، أَوْ تَعَذَّرَ بِتَقْصِيرِهِ فَمَاتَ، فَهُوَ حَرَامٌ، كَمَا تَرَدَّى بَعِيرٌ فَلَمْ يَذْبَحْهُ حَتَّى مَاتَ. فَمِنْ صُوَرِ الْحَالِ الْأَوَّلِ أَنْ يَشْغَلَ بِأَخْذِ الْآلَةِ وَسَلِّ السِّكِّينَ، فَيَمُوتُ قَبْلَ إِمْكَانِ ذَبْحِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَمْتَنِعَ بِمَا فِيهِ مِنْ بَقِيَّةِ قُوَّةٍ، وَيَمُوتُ قَبْلَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَجِدَ مِنَ الزَّمَانِ مَا يُمْكِنُ الذَّبْحُ فِيهِ. وَمِنْ صُوَرِ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونُ مَعَهُ آلَةُ ذَبْحٍ، أَوْ تَضِيعُ آلَتُهُ مِنْهُ، فَلَوْ نَشِبَتْ فِي الْغِمْدِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِخْرَاجِهَا حَتَّى مَاتَ، فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ غِمْدًا يُوَاتِيهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرِيُّ: يَحِلُّ. وَلَوْ غُصِبَتِ الْآلَةُ، فَالصَّيْدُ حَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: تَحِلُّ كَمَا لَوْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الصَّيْدِ لَسَبْعٍ حَائِلٍ حَتَّى مَاتَ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَلَوِ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَذْبَحِ فَلَمْ يَجِدْهُ حَتَّى مَاتَ، فَهُوَ حَلَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوِ اشْتَغَلَ بِتَحْدِيدِ السِّكِّينِ،

لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ. وَلَوْ كَانَ يُمِرُّ ظَهْرَ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِهِ غَلَطًا، فَمَاتَ، فَحَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ تَقْصِيرٌ. وَلَوْ وَقَعَ الصَّيْدُ مُنَكَّسًا، وَاحْتَاجَ إِلَى قَلْبِهِ لِيَقْدِرَ عَلَى الذَّبْحِ، فَمَاتَ، أَوِ اشْتَغَلَ بِتَوْجِيهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَمَاتَ، فَحَلَالٌ. وَلَوْ شَكَّ بَعْدَ مَوْتِ الصَّيْدِ، هَلْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَكَاتِهِ فَيَحْرُمُ، أَمْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَيَحِلُّ؟ فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَحِلُّ. وَهَلْ يَشْتَرِطُ الْعَدْوَ إِلَى الصَّيْدِ إِذَا أَصَابَهُ السَّهْمُ أَوِ الْكَلْبُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لَكِنْ لَا يُكَلَّفُ الْمُبَالَغَةَ بِحَيْثُ يُفْضِي إِلَى ضَرَرٍ ظَاهِرٍ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، بَلْ يَكْفِي الْمَشْيُ. وَعَلَى هَذَا، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ، فَأَدْرَكَهُ مَيِّتًا، حَلَّ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَسْرَعَ لَأَدْرَكَهُ حَيًّا. وَقَالَ الْإِمَامُ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِسْرَاعِ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ عَلَى هَيِّنَتِهِ، خَارِجٌ عَنْ عَادَةِ الطَّلَبِ. فَإِنْ شَرَطْنَا الْعَدْوَ، فَتَرَكَهُ، فَصَادَفَ الصَّيْدَ مَيِّتًا وَلَمْ يَدْرِ أَمَاتَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يَسَعُ الْعَدْوَ، أَمْ بَعْدَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فِيمَا إِذَا شَكَّ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الذَّكَاةِ. فَرْعٌ لَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَدَّهُ قِطْعَتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ أَوْ مُتَفَاوِتَتَيْنِ، فَهُمَا حَلَالٌ. وَلَوْ أَبَانَ مِنْهُ - بِسَيْفٍ أَوْ غَيْرِهِ - عُضْوًا، كَيَدٍ وَرِجْلٍ، نُظِرَ، إِنْ أَبَانَهُ بِجِرَاحَةٍ مُذَفَّفَةٍ وَمَاتَ فِي الْحَالِ، حَلَّ الْعُضْوُ وَبَاقِي الْبَدَنِ. وَإِنْ لَمْ يُذَفِّفْهُ فَأَدْرَكَهُ وَذَبَحَهُ، أَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا آخَرَ مُذَفَّفًا، فَالْعُضْوُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ أَبْيَنُ مِنْ حَيٍّ، وَبَاقِي الْبَدَنِ حَلَالٌ. وَإِنْ أَثْبَتَهُ بِالْجِرَاحَةِ الْأُولَى، فَقَدْ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ ذَبْحُهُ، وَلَا تُجْزِئُ سَائِرُ الْجِرَاحَاتِ. وَلَوْ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ، حَلَّ بَاقِي الْبَدَنِ، وَلَمْ يَحِلَّ الْعُضْوُ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ أَبْيَنٌ مِنْ حَيٍّ، فَهُوَ كَمَنْ قَطَعَ أَلْيَةَ شَاةٍ ثُمَّ ذَبَحَهَا، لَا تَحِلُّ الْأَلْيَةُ قَطْعًا. وَالثَّانِي: تَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْجَرْحَ كَالذَّبْحِ

لِلْجُمْلَةِ، فَتَبِعَهَا الْعُضْوُ. وَإِنْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً أُخْرَى وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَإِنْ كَانَتْ مُذَفَّفَةٌ، فَالصَّيْدُ حَلَالٌ، وَالْعُضْوُ حَرَامٌ، وَإِلَّا، فَالصَّيْدُ حَلَالٌ أَيْضًا، وَالْعُضْوُ حَرَامٌ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ لَمْ تَتَجَرَّدْ ذَكَاةً لِلصَّيْدِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: آلَةُ الذَّبْحِ وَالِاصْطِيَادِ، هِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: الْمُحَدَّدَاتُ الْجَارِحَةُ بِحَدِّهَا مِنَ الْحَدِيدِ، كَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ، وَالسَّهْمِ، وَالرُّمْحِ، أَوْ مِنَ الرَّصَاصِ أَوْ مِنَ النُّحَاسِ أَوِ الذَّهَبِ أَوِ الْخَشَبِ الْمُحَدَّدِ، أَوِ الْقَصَبِ أَوِ الزُّجَاجِ أَوِ الْحَجَرِ، فَيَحْصُلُ الذَّبْحُ بِجَمِيعِهَا، وَيَحِلُّ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ بِهَا، إِلَّا الظُّفْرَ وَالسِّنَّ وَسَائِرَ الْعِظَامِ، فَإِنْهُ لَا يَحِلُّ بِهَا، سَوَاءٌ عَظْمُ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ، الْمُتَّصِلُ [وَالْمُنْفَصِلُ] . وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ عَظْمَ الْمَأْكُولِ تَحْصُلُ الذَّكَاةُ بِهِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَلَوْ رَكَّبَ عَظْمًا عَلَى سَهْمٍ، وَجَعَلَهُ نَصْلًا لَهُ، فَقَتَلَ بِهِ صَيْدًا، لَمْ يَحِلَّ عَلَى الْمَشْهُورِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْآلَاتُ الْمُثْقَلَاتُ، إِذَا أَثَّرَتْ بِثِقْلِهَا دَقًّا أَوْ خَنْقًا، لَمْ يَحِلَّ الْحَيَوَانُ، وَكَذَا الْمُحَدَّدُ إِذَا قَتَلَ بِثِقْلِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْجُرْحِ. فَيَحْرُمُ الطَّيْرُ إِذَا مَاتَ بِبُنْدُقَةٍ رُمِيَ بِهَا، خَدَشَتْهُ، أَمْ لَا، قَطَعَتْ رَأْسَهُ، أَمْ لَا. وَلَوْ وَقَعَ صَيْدٌ فِي بِئْرٍ مَحْفُورَةٍ لَهُ، فَمَاتَ بِالِانْصِدَامِ، أَوِ الْخَنْقِ بِأُحْبُولَةٍ مَنْصُوبَةٍ لَهُ، أَوْ كَانَ رَأْسُ الْحَبْلِ بِيَدِهِ، فَجَّرَهُ وَمَاتَ الصَّيْدُ، أَوْ مَاتَ بِسَهْمٍ لَا نَصْلَ فِيهِ وَلَا حَدَّ لَهُ، أَوْ بِثِقَلِ السَّيْفِ، أَوْ مَاتَ الطَّيْرُ الضَّعِيفُ بِإِصَابَةِ عَرْضِ السَّهْمِ، أَوْ قُتِلَ بِسَوْطٍ، أَوْ عَصًا، فَكُلُّهُ حَرَامٌ. وَلَوْ ذُبِحَ بِحَدِيدَةٍ لَا تَقْطَعُ، لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ هُنَا بِقُوَّةِ الذَّابِحِ وَشِدَّةِ الِاعْتِمَادِ، لَا بِالْآلَةِ. وَلَوْ خَسَقَ فِيهِ الْعَصَا وَنَحْوَهُ، حَكَى الرُّويَانِيُّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُحَدَّدًا يَمُورُ مَوْرَ السِّلَاحِ، فَهُوَ حَلَالٌ. وَإِنْ كَانَ لَا يَمُورُ إِلَّا مُسْتَكْرَهًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْعُودُ خَفِيفًا قَرِيبًا مِنَ السَّهْمِ، حَلَّ. وَإِنْ كَانَ ثَقِيلًا، لَمْ يَحِلَّ.

فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَجْرَحِ الْكَلْبُ الصَّيْدَ، لَكِنْ تَحَامَلَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ بِضَغْطَتِهِ، حَلَّ عَلَى الْأَظْهَرِ. فَرْعٌ إِذَا مَاتَ الصَّيْدُ بِشَيْئَيْنِ: مُحَرَّمٍ، وَمُبِيحٍ، بِأَنْ مَاتَ بِسَهْمٍ وَبُنْدُقَةٍ أَصَابَاهُ مِنْ رَامٍ أَوْ رَامِيَيْنِ، أَوْ يُصِيبُ الصَّيْدَ طَرَفٌ مِنَ النَّصْلِ، فَيَجْرَحُهُ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ عَرْضُ السَّهْمِ فِي مُرُورِهِ فَيَمُوتُ مِنْهُمَا، أَوْ يَرْمِي إِلَى صَيْدٍ سَهْمًا فَيَقَعُ عَلَى طَرَفِ سَطْحٍ، ثُمَّ يَسْقُطُ مِنْهُ، أَوْ عَلَى جَبَلٍ فَيَتَدَهْوَرُ مِنْهُ، أَوْ يَقَعُ فِي مَاءٍ، أَوْ عَلَى شَجَرٍ فَيَنْصَدِمُ بِأَغْصَانِهِ، أَوْ يَقَعُ عَلَى مُحَدَّدٍ مِنْ سِكِّينِ وَغَيْرِهِ، فَكُلُّ هَذَا حَرَامٌ. وَلَوْ تَدَحْرَجَ الْمَجْرُوحُ مِنَ الْجَبَلِ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ، حَلَّ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي التَّلَفِ. وَإِنْ أَصَابَ السَّهْمُ الطَّائِرَ فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ، حَلَّ، سَوَاءً مَاتَ قَبْلَ وُصُولِهِ الْأَرْضَ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْوُقُوعِ، فَعُفِيَ عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ [الصَّيْدُ] قَائِمًا فَأَصَابَهُ السَّهْمُ وَوَقَعَ عَلَى جَنْبِهِ وَانْصَدَمَ بِالْأَرْضِ وَمَاتَ، فَإِنْهُ يَحِلُّ. وَلَوْ زَحَفَ قَلِيلًا بَعْدَ إِصَابَةِ السَّهْمِ، فَهُوَ كَالْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ، فَيَحِلُّ. وَلَوْ لَمْ يَجْرَحْهُ السَّهْمُ فِي الْهَوَاءِ، لَكِنْ كَسَرَ جَنَاحَهُ فَوَقَعَ وَمَاتَ، فَحَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ جُرْحٌ يُحَالُ الْمَوْتُ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ الْجُرْحُ خَفِيفًا لَا يُؤَثِّرُ مِثْلُهُ، لَكِنْ عَطَّلَ جَنَاحَهُ فَسَقَطَ وَمَاتَ، فَحَرَامٌ. وَلَوْ جَرَحَهُ السَّهْمُ فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ، إِنْ كَانَ فِيهَا مَاءٌ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ، وَإِلَّا، فَهُوَ حَلَالٌ، وَقَعْرُ الْبِئْرِ كَالْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ: إِذَا لَمْ تُصَادِمْهُ جُدْرَانُ الْبِئْرِ. وَلَوْ كَانَ الطَّائِرُ عَلَى شَجَرَةٍ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ،

حَلَّ. وَإِنْ وَقَعَ عَلَى غُصْنٍ ثُمَّ عَلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَحِلَّ. وَلَيْسَ الِانْصِدَامُ بِالْأَغْصَانِ، أَوْ بِأَحْرُفِ الْجَبَلِ عِنْدَ التَّدَهْوُرِ مِنْ أَعْلَاهُ، كَالِانْصِدَامِ بِالْأَرْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الِانْصِدَامَ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلَا غَالِبٍ، وَالِانْصِدَامُ بِالْأَرْضِ، لَازِمٌ. وَلِلْإِمَامِ احْتِمَالٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الطَّيْرِ عَلَى الشَّجَرِ، وَالِانْصِدَامُ بِطَرَفِ الْجَبَلِ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ فِيهِ. فَرْعٌ إِذَا رُمِيَ طَيْرُ الْمَاءَ، إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَأَصَابَهُ وَمَاتَ، حَلَّ، وَالْمَاءُ لَهُ كَالْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَاءِ، وَوَقَعَ فِيهِ بَعْدَ إِصَابَةِ السَّهْمِ، فَفِي حِلِّهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا فِي «الْحَاوِي» . وَقَطَعَ فِي «التَّهْذِيبِ» : بِالتَّحْرِيمِ. وَفِي شَرْحِ «مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ» : بِالْحِلِّ. فَلَوْ كَانَ الطَّائِرُ فِي هَوَاءِ الْبَحْرِ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْبَرِّ، لَمْ يَحِلَّ. وَإِنْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ، حَلَّ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا لَمْ يَنْتَهِ الصَّيْدُ بِتِلْكَ الْجِرَاحَةِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ. فَإِنِ انْتَهَى إِلَيْهَا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، أَوْ غَيْرِهِ، فَقَدْ تَمَّتْ ذَكَاتُهُ، وَلَا أَثَرَ لِمَا يَعْرِضُ بَعْدَهُ. فَرْعٌ لَوْ أُرْسِلَ كَلْبٌ فِي عُنُقِهِ قِلَادَةٌ مُحَدَّدَةٌ، فَجَرَحَ الصَّيْدَ بِهَا، حَلَّ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ سَهْمًا، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَقَدْ يَفْرِقُ بِأَنَّهُ قَصَدَ بِالسَّهْمِ الصَّيْدَ، وَلَمْ يَقْصِدْهُ بِالْقِلَادَةِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْجَوَارِحُ، فَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ، كَالْكَلْبِ، وَالْفَهْدِ، وَالنَّمِرِ، وَغَيْرِهَا. وَبِجَوَارِحِ الطَّيْرِ، كَالْبَازِيِّ، وَالشَّاهِينِ، وَالصَّقْرِ. وَفِي وَجْهٍ يُحْكَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ: لَا يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَالْمُرَادُ بِجَوَازِ الِاصْطِيَادِ بِهَا: أَنَّ مَا أَخَذَتْهُ وَجَرَحَتْهُ وَأَدْرَكَهُ صَاحِبُهَا مَيِّتًا، أَوْ فِي حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، حَلَّ أَكْلُهُ. وَيَقُومُ إِرْسَالُ الصَّائِدِ وَجَرْحُ الْجَارِحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، مَقَامَ الذَّبْحِ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الِاصْطِيَادُ بِمَعْنَى إِثْبَاتِ الْمِلْكِ، فَلَا يَخْتَصُّ، بَلْ يَحْصُلُ بِأَيِّ طَرِيقٍ تَيَسَّرَ. ثُمَّ يُشْتَرَطُ لِحِلٍّ مَا قَتَلَهُ الْجَوَارِحُ، كَوْنُ الْجَارِحِ مُعَلَّمًا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا، لَمْ يَحِلَّ مَا قَتَلَهُ. فَإِنْ أُدْرِكَ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، ذَكَّاهُ كَغَيْرِهِ. وَيُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ الْكَلْبِ مُعَلَّمًا، أَرْبَعَةُ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَنْزَجِرَ بِزَجْرِ صَاحِبِهِ، كَذَا أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ. فَأَمَّا إِذَا انْطَلَقَ وَاشْتَدَّ عَدْوُهُ، فَفِي اشْتِرَاطِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا يُشْتَرَطُ. الثَّانِي: أَنْ يَسْتَرْسِلَ بِإِرْسَالِهِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا أُغْرِيَ بِالصَّيْدِ هَاجَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَمْسِكَ الصَّيْدَ فَيَحْبِسَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا يُخَلِّيهِ. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ: لَا يَضُرُّ الْأَكْلُ. هَذَا حُكْمُ الْكَلْبِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ جَوَارِحِ السِّبَاعِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَنْطَلِقَ بِإِطْلَاقِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّهُ لَوِ انْطَلَقَ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا. وَرَآهُ الْإِمَامُ مُشْكِلًا، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكَلْبَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ، إِذَا رَأَى صَيْدًا بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى كَلَبِ الْجُوعِ، يُبْعِدُ انْكِفَافَهُ. وَأَمَّا جَوَارِحُ الطَّيْرِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَهِيجَ عِنْدَ الْإِغْرَاءِ أَيْضًا. وَيُشْتَرَطُ تَرْكُ أَكْلِهَا مِنَ الصَّيْدِ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَطْمَعُ فِي انْزِجَارِهَا بَعْدَ الطَّيَرَانِ، وَيَبْعُدُ أَيْضًا اشْتِرَاطُ انْكِفَافِهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ.

ثُمَّ فِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: الْأُمُورُ الْمُشْتَرِطَةُ فِي التَّعْلِيمِ، يُشْتَرَطُ تَكَرُّرُهَا لِيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ تَأَدُّبُ الْجَارِحَةِ. وَالرُّجُوعُ فِي عَدَدِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِالْجَوَارِحِ، عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ تَكَرُّرُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَقِيلَ: مَرَّتَيْنِ. الثَّانِيَةُ: إِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ قَبْلَ قَتْلِهِ أَوْ بَعْدَهُ، فَفِي حِلِّ ذَلِكَ الصَّيْدِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَحُلُّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَدِدْتُ لَوْ فَصَلَ فَاصِلٌ بَيْنَ أَنْ يَنْكَفَّ زَمَانًا ثُمَّ يَأْكُلُ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْكُلَ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، لَكِنْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ. قُلْتُ: فَصَلَ الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا: إِنْ أَكَلَ عَقِيبَ الْقَتْلِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، وَإِلَّا، فَيَحِلُّ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِذَا قُلْنَا بِالتَّحْرِيمِ، فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِئْنَافِ التَّعْلِيمِ، وَلَا يَنْعَطِفُ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا اصْطَادَهُ مِنْ قَبْلُ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْحِلِّ، فَتَكَرَّرَ أَكْلُهُ وَصَارَ عَادَةً لَهُ، حَرُمَ الصَّيْدُ الَّذِي أَكَلَ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي تَحْرِيمِ الصَّيُودِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا مِنْ قَبْلُ، وَجْهَانِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ مِنْهُمَا التَّحْرِيمُ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِذَا أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ الثَّانِي، حَرُمَ، وَفِي الْأَوَّلِ، الْوَجْهَانِ. وَإِذَا أَكَلَ مِنَ الثَّالِثِ، حَرُمَ، وَفِيمَا قَبْلَهُ، الْوَجْهَانِ. وَهَذَا ذَهَابٌ إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ مَرَّتَيْنِ، يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا خِلَافًا فِي تَكَرُّرِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا مُعَلَّمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَثَرَ التَّعْلِيمِ فِي الْحِلِّ، وَأَثَرَ الْأَكْلِ فِي التَّحْرِيمِ، فَعَمِلْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا. وَعَلَى هَذَا، لَوْ عَرِفْنَا كَوْنَهُ مُعَلَّمًا، لَمْ يَنْعَطِفِ الْحِلُّ عَلَى مَا سَبَقَ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي انْعِطَافِ التَّحْرِيمِ، الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَلَوْ لَعِقَ الْكَلْبُ الدَّمَ، لَمْ يَضُرَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى وَجْهٍ ضَعِيفٍ. وَلَوْ أَكَلَ حَشْوَةَ الصَّيْدِ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلِي اللَّحْمُ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْحِلِّ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ كَالدَّمِ. وَلَوْ لَمْ يَسْتَرْسِلْ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، أَوْ لَمْ يَنْزَجِرْ عِنْدَ الزَّجْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ وَخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا،

الْخِلَافُ فِي الْأَكْلِ قَالَ الْقَفَّالُ: لَوْ أَرَادَ الصَّائِدُ أَخْذَ الصَّيْدِ مِنْهُ فَامْتَنَعَ، وَصَارَ يُقَاتِلُ دُونَهُ، فَهُوَ كَالْأَكْلِ. وَجَوَارِحُ الطَّيْرِ إِذَا أَكَلَتْ مِنْهُ، وَقُلْنَا: يُشْتَرَطُ فِي التَّعْلِيمِ تَرْكُهَا الْأَكْلَ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ كَالْكَلْبِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْحِلِّ. الثَّالِثَةُ: مَعَضُّ الْكَلْبِ مِنَ الصَّيْدِ نَجِسٌ، يَجِبُ غَسْلُهُ سَبْعًا مَعَ التَّعْفِيرِ كَغَيْرِهِ. فَإِذَا غَسَلَ، حَلَّ أَكْلُهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: إِنْهُ طَاهِرٌ. وَقِيلَ: نَجِسٌ يُعْفَى عَنْهُ وَيَحِلُّ أَكْلُهُ بِلَا غُسْلٍ. وَقِيلَ: نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، بَلْ يَجِبُ تَقْوِيرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَطَرْحُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّبُ لُعَابَهُ، فَلَا يَتَخَلَّلُهُ الْمَاءُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الْقَائِلُ، يَطْرُدُ مَا ذَكَرَهُ فِي كُلِّ لَحْمٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ بِعَضَّةِ الْكَلْبِ، بِخِلَافِ مَوْضِعٍ يَنَالُهُ لُعَابُهُ بِغَيْرِ عَضٍّ. وَقِيلَ: إِنْ أَصَابَ نَابُ الْكَلْبِ عِرْقًا نَضَّاخًا بِالدَّمِ، سَرَى حُكْمُ النَّجَاسَةِ إِلَى جَمِيعِ الصَّيْدِ، وَلَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِالدَّمِ، فَالْعِرْقُ وِعَاءٌ حَاجِزٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّحْمِ، ثُمَّ الدَّمُ إِذَا كَانَ يَفُورُ، امْتَنَعَ غَوْصُ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَالْمَاءِ الْمُتَصَعِّدِ مِنْ فَوَّارَةٍ، إِذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ عَلَى أَعْلَاهُ، لَمْ يَنْجُسْ مَا تَحْتَهُ. فَرْعٌ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّمِرَ وَالْفَهْدَ، كَالْكَلْبِ فِي حِلِّ مَا قَتَلَاهُ. وَهَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ: أَنَّ الْفَهْدَ يَبْعُدُ فِيهِ التَّعَلُّمُ، لِأَنْفَتِهِ وَعَدَمِ انْقِيَادِهِ. فَإِنْ تُصُوِّرَ تَعَلُّمُهُ عَلَى نُدُورٍ، فَهُوَ كَالْكَلْبِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، لَا يُخَالِفُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ. وَفِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ مَا يُوهِمُ خِلَافَ هَذَا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: نَفْسُ الذَّبْحِ، وَعَقْرُ الصَّيْدِ. أَمَّا نَفْسُ الذَّبْحِ، فَسَبَقَ فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ. وَأَمَّا الْعَقْرُ الَّذِي يُبِيحُ الصَّيْدَ بِلَا ذَكَاةٍ، فَهُوَ الْجُرْحُ الْمَقْصُودُ الْمُزْهِقُ الْوَارِدُ عَلَى حَيَوَانٍ وَحْشِيٍّ. أَمَّا الْجُرْحُ، فَيَخْرُجُ عَنْهُ الْخَنْقُ وَالْوَقْذُ وَنَحْوَهُمَا. وَأَمَّا الْقَصْدُ، فَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: الْأُولَى: قَصْدُ أَصْلِ الْفِعْلِ الْجَارِحِ. فَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ سِكِّينٌ، فَسَقَطَ فَانْجَرَحَ بِهِ صَيْدٌ وَمَاتَ، أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا أَوْ مِنْجَلًا أَوْ حَدِيدَةً فَانْعَقَرَ بِهِ صَيْدٌ وَمَاتَ أَوْ كَانَ فِي يَدِهِ سِكِّينٌ فَاحْتَكَّتْ بِهَا شَاةٌ، فَانْقَطَعَ حُلْقُومُهَا، أَوْ وَقَعَتْ عَلَى حَلَقِهَا فَقَطَعَتْهُ، فَهِيَ حَرَامٌ. وَحُكِيَ وَجْهٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّهُ تَحِلُّ الشَّاةُ فِي صُورَةِ وُقُوعِ السِّكِّينِ مِنْ يَدِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّيْدَ فِي مَعْنَاهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ حَدِيدَةٌ فَحَرَّكَهَا، وَحَكَّتِ الشَّاةُ أَيْضًا حَلْقَهَا بِالْحَدِيدَةِ فَحَصَلَ انْقِطَاعُ حَلْقِهَا بِالْحَرَكَتَيْنِ، فَهِيَ حَرَامٌ. فَرْعٌ إِذَا اسْتَرْسَلَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ بِنَفْسِهِ، فَقَتَلَ صَيْدًا، فَهُوَ حَرَامٌ. فَلَوْ أَكَلَ مِنْهُ، لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مُعَلَّمًا، بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْمَا يُعْتَبَرُ الْإِمْسَاكُ إِذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ. وَلَوْ زَجَرَهُ صَاحِبُهُ لِمَا اسْتَرْسَلَ، فَانْزَجَرَ وَوَقَفَ، ثُمَّ أَغْرَاهُ فَاسْتَرْسَلَ وَقَتَلَ الصَّيْدَ، حَلَّ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ وَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ، لَمْ يَحِلَّ، سَوَاءٌ زَادَ عَدْوُهُ وَحِدَّتُهُ أَمْ لَا. فَلَوْ لَمْ يَزْجُرْهُ، بَلْ أَغْرَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَدْوُهُ فَحَرَامٌ. وَكَذَا إِذَا زَادَ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ كَانَ الْإِغْرَاءُ وَزِيَادَةُ الْعَدْوِ بَعْدَمَا زَجَرَهُ، فَلَمْ يَنْزَجِرْ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَأَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. وَلَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبًا، فَأَغْرَاهُ مَجُوسِيٌّ فَازْدَادَ عَدْوُهُ، فَإِنْ قُلْنَا فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ: لَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ

الِاسْتِرْسَالِ، وَلَا يُؤَثِّرُ الْإِغْرَاءُ، حَلَّ هُنَا. وَلَا يُؤَثِّرُ إِغْرَاءُ الْمَجُوسِيِّ. وَإِنْ قَطَعْنَاهُ، وَأَحَلْنَا عَلَى الْإِغْرَاءِ، لَمْ يَحِلَّ هُنَا، كَذَا ذَكَرَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْبِنَاءَ. وَقَطَعَ فِي «التَّهْذِيبِ» : بِالتَّحْرِيمِ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِلْأَوَّلِ أَوْ مُشَارَكَةٌ، وَكِلَاهُمَا يُحَرِّمُهُ. وَلَوْ أَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبًا فَأَغْرَاهُ مُسْلِمٌ، فَازْدَادَ عَدْوُهُ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى عَكْسِ مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالتَّحْرِيمِ. وَلَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ، فَزَجَرَهُ فُضُولِيٌّ فَانْزَجَرَ، ثُمَّ أَغْرَاهُ فَاسْتَرْسَلَ، فَأَخَذَ صَيْدًا، فَلِمَنْ يَكُونُ الصَّيْدُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لِلْغَاصِبِ. وَلَوْ زَجَرَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، فَأَغْرَاهُ، أَوْ لَمْ يَزْجُرْهُ، بَلْ أَغْرَاهُ وَزَادَ عَدْوُهُ، وَقُلْنَا: الصَّيْدُ لِلْغَاصِبِ، خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْإِغْرَاءَ يَقْطَعُ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَالصَّيْدُ لِصَاحِبِ الْكَلْبِ، وَإِلَّا فَلِلْغَاصِبِ الْفُضُولِيِّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَمْتَنِعُ تَخْرِيجُ وَجْهٍ بِاشْتِرَاكِهِمَا. فَرْعٌ لَوْ أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ بِإِعَانَةِ الرِّيحِ، وَكَانَ يَقْصُرُ عَنْهُ لَوْلَا الرِّيحُ، حَلَّ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ هُبُوبِهَا، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ كُلُّهُمْ، وَأَبْدَى الْإِمَامُ فِيهِ تَرَدُّدًا. وَلَوْ أَصَابَ الْأَرْضَ أَوِ انْصَدَمَ بِحَائِطٍ ثُمَّ ازْدَلَفَ وَأَصَابَ الصَّيْدَ، أَوْ أَصَابَ حَجَرًا فَنَبَا عَنْهُ وَأَصَابَ الصَّيْدَ أَوْ نَفَذَ فِيهِ إِلَى الصَّيْدِ، أَوْ كَانَ الرَّامِي فِي نَزْعِ الْقَوْسِ فَانْقَطَعَ الْوَتَرُ وَصَدَمَ الْفُوقَ فَارْتَمَى السَّهْمُ وَأَصَابَ الصَّيْدَ، حَلَّ عَلَى الْأَصَحِّ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: قَصْدُ جِنْسِ الْحَيَوَانِ، فَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمًا فِي الْهَوَاءِ، أَوْ فَضَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ، لِاخْتِبَارِ قُوَّتِهِ، أَوْ رَمَى إِلَى هَدَفٍ، فَاعْتَرَضَ صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ لَا يَخْطُرُ لَهُ الصَّيْدُ، أَوْ كَانَ يَرَاهُ، وَلَكِنْ رَمَى إِلَى الْهَدَفِ. أَوْ ذِئْبٍ،

وَلَا يَقْصِدُ الصَّيْدَ فَأَصَابَهُ، لَمْ يَحِلَّ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، لِعَدَمِ قَصْدِهِ. وَلَوْ كَانَ يُجِيلُ سَيْفَهُ فَأَصَابَ عُنُقَ شَاةٍ وَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِّيءَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِالْحَالِ، فَقَطَعَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: بِأَنَّهَا مَيْتَةٌ قَدْ يَجِيءُ فِي هَذَا الْخِلَافِ وَأَيْضًا الْوَجْهُ الْمَنْقُولُ فِيمَا لَوْ وَقَعَ السِّكِّينُ مِنْ يَدِهِ. وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا حَيْثُ لَا صَيْدَ، فَاعْتَرَضَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ، لَمْ يَحِلَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي «الْكَافِي» لِلرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ: فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ رَمَى مَا ظَنَّهُ حَجَرًا، أَوْ جُرْثُومَةً، أَوْ آدَمِيًّا مَعْصُومًا، أَوْ غَيْرَ مَعْصُومٍ، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ حَيَوَانًا آخَرَ مُحَرَّمًا، فَكَانَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ، أَوْ ظَنَّهُ صَيْدًا غَيْرَ مَأْكُولٍ فَكَانَ مَأْكُولًا، أَوْ قَطَعَ فِي ظُلْمَةٍ مَا ظَنَّهُ ثَوْبًا، فَكَانَ حَلْقَ شَاةٍ، فَانْقَطَعَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِّيءُ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا إِلَى شَاخِصٍ يَظُنْهُ حَجَرًا، فَكَانَ صَيْدًا، أَوْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ ذَبَحَ فِي ظُلْمَةٍ حَيَوَانًا يَظُنُّهُ مُحَرَّمًا، فَبَانَ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً، حَلَّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ رَمَى إِلَى شَاتِهِ الرَّبِيطَةِ سَهْمًا جَارِحًا، فَأَصَابَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِّيءَ وِفَاقًا، وَقَطَعَهُمَا، فَفِي حِلِّ الشَّاةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَبْحِهَا احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الْمَذْبَحَ بِسَهْمِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الشَّاةَ فَيُصِيبُ الْمَذْبَحَ. قُلْتُ: الْأَرْجَحُ: الْحِلُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: قَصْدُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا رَمَى صَيْدًا يَرَاهُ، أَوْ لَا يَرَاهُ، لَكِنْ يَحِسُّ بِهِ فِي ظُلْمَةٍ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، بِأَنْ كَانَ بَيْنَ أَشْجَارٍ مُلْتَفَّةٍ وَقَصَدَهُ، حَلَّ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، بِأَنْ رَمَى وَهُوَ لَا يَرْجُو صَيْدًا فَأَصَابَ صَيْدًا، فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّعُ صَيْدًا فَبَنَى الرَّمْيَ عَلَيْهِ، بِأَنْ رَمَى فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَقَالَ: رُبَّمَا أَصَبْتُ صَيْدًا فَأَصَابَهُ؛ فَأَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: التَّحْرِيمُ. وَالثَّانِي: يَحِلُّ. وَالثَّالِثُ: إِنْ تَوَقَّعَهُ بِظَنٍّ غَالِبٍ، حَلَّ، وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدَ تَجْوِيزٍ، حَرُمَ. وَلَوْ رَمَى إِلَى سِرْبٍ مِنَ الظِّبَاءِ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا فَأَصَابَ وَاحِدَةً مِنْهَا، فَهِيَ حَلَالٌ

قَطْعًا. وَلَوْ قَصَدَ مِنْهَا ظَبْيَةً بِالرَّمْيِ، فَأَصَابَ غَيْرَهَا؛ فَأَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: الْحِلُّ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: التَّحْرِيمُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ حَالَةَ الرَّمْيِ يَرَى الْمُصَابَ حَلَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ الْمُصَابُ مِنَ السِّرْبِ الَّذِي رَآهُ وَرَمَاهُ، حَلَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْحِلِّ، وَسَوَاءً عَدَلَ السَّهْمَ عَنِ الْجِهَةِ الَّتِي قَصَدَهَا إِلَى غَيْرِهَا، أَمْ لَا. وَلَوْ رَمَى شَاخِصًا يَعْتَقِدُهُ حَجَرًا، وَكَانَ حَجَرًا، فَأَصَابَ ظَبْيَةً، لَمْ تَحِلَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَإِنْ كَانَ الشَّاخِصُ صَيْدًا، وَمَالَ السَّهْمُ عَنْهُ وَأَصَابَ صَيْدًا آخَرَ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْحِلِّ. وَلَوْ رَمَى شَاخِصًا ظَنَّهُ خِنْزِيرًا، وَكَانَ خِنْزِيرًا، أَوْ صَيْدًا فَلَمْ يُصِبْهُ، وَأَصَابَ ظَبْيَةً، لَمْ يَحِلَّ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مُحَرَّمًا. وَالْخِلَافُ فِيمَا إِذَا كَانَ خِنْزِيرًا أَضْعَفُ. وَلَوْ رَمَى شَاخِصًا ظَنَّهُ صَيْدًا، فَبَانَ حَجَرًا أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ أَصَابَ السَّهْمُ صَيْدًا، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِنِ اعْتَبَرْنَا ظَنَّهُ فِيمَا إِذَا رَمَى مَا ظَنَّهُ حَجَرًا، فَكَانَ صَيْدًا، وَأَصَابَ السَّهْمُ صَيْدًا آخَرَ، وَقُلْنَا بِالتَّحْرِيمِ، فَهُنَا يَحِلُّ الصَّيْدُ الَّذِي أَصَابَهُ. وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْحَقِيقَةَ، وَقُلْنَا بِالْحِلِّ هُنَاكَ، حَرُمَ هُنَا. وَأَمَّا إِذَا أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ، فَقَتَلَ صَيْدًا آخَرَ، فَيُنْظَرُ، إِنْ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ جِهَةِ الْإِرْسَالِ، بَلْ كَانَ فِيهَا صُيُودًا، فَأَخَذَ غَيْرَ مَا أَغْرَاهُ عَلَيْهِ، حَلَّ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي السَّهْمِ، وَإِنْ عَدَلَ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَأَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: الْحِلُّ؛ لِأَنَّهُ تَعَسَّرَ تَكْلِيفُهُ تَرْكَ الْعُدُولِ، وَلِأَنَّ الصَّيْدَ لَوْ عَدَلَ فَتَبِعَهُ، حَلَّ قَطْعًا. وَالثَّانِي: يَحْرُمُ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ «الْحَاوِي» : إِنْ خَرَجَ عَادِلًا عَنِ الْجِهَةِ، حَرُمَ، وَإِنْ خَرَجَ إِلَيْهَا فَفَاتَهُ الصَّيْدُ، فَعَدَلَ إِلَى غَيْرِهَا وَصَادَ، حَلَّ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَذَقِهُ حَيْثُ لَمْ يَرْجِعْ خَائِبًا. وَقَطَعَ الْإِمَامُ بِالتَّحْرِيمِ إِذَا عَدَلَ وَظَهَرَ مِنْ عُدُولِهِ وَاخْتِيَارِهِ بِأَنِ امْتَدَّ فِي جِهَةِ الْإِرْسَالِ زَمَانًا ثُمَّ ثَارَ صَيْدٌ آخَرُ فَاسْتَدْبَرَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ وَقَصَدَ الْآخَرَ. وَأَمَّا كَوْنُ الْجُرْحِ مُزْهِقًا، فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا لَوْ مَاتَ بِصَدْمَةٍ أَوِ افْتِرَاسِ سَبْعٍ، أَوْ أَعَانَ ذَلِكَ الْجُرْحَ غَيْرُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي نَظَائِرِهِ، فَلَا يَحِلُّ. وَلَوْ غَابَ عَنْهُ الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا، لَمْ يَحِلَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِاحْتِمَالِ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَلَا أَثَّرَ لِتَضَمُّخِهِ بِدَمِهِ، فَرُبَّمَا جَرَحَهُ الْكَلْبُ وَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ أُخْرَى. وَإِنْ جَرَحَهُ

فصل

فَغَابَ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ مَيِّتًا، فَإِنِ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ بِالْجُرْحِ، حَلَّ، وَلَا أَثَرَ لِغَيْبَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ، فَإِنْ وُجِدَ فِي مَاءٍ، أَوْ وُجِدَ عَلَيْهِ أَثَرُ صَدْمَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أُخْرَى، لَمْ يَحِلَّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَثَرٌ آخَرُ، فَثَلَاثُ طُرُقٍ. أَحَدُهَا: يَحِلُّ قَطْعًا. وَالثَّانِي: يَحْرُمُ قَطْعًا. وَأَصَحُّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: التَّحْرِيمُ. وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» : التَّحْلِيلُ، وَتُسَمَّى هَذِهِ: مَسْأَلَةُ الْإِنْمَاءِ. قُلْتُ: الْحِلُّ أَصَحُّ دَلِيلًا. وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : وَثَبَتَتْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي التَّحْرِيمِ شَيْءٌ، وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْحِلَّ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَ [عِنْدَ] إِرْسَالِ الْكَلْبِ وَالسَّهْمِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ، فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ. فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يُمْلَكُ بِهِ الصَّيْدُ يُمْلَكُ بِطُرُقٍ مِنْهَا: أَنْ يَضْبُطَهُ بِيَدِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَصْدُ التَّمَلُّكِ فِي أَخْذِهِ بِيَدِهِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَ صَيْدًا لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ، مَلَكَهُ. وَلَوْ سَعَى خَلْفَ صَيْدٍ فَوَقَفَ الصَّيْدُ لِلْإِعْيَاءِ، لَمْ يَمْلِكْهُ حَتَّى يَأْخُذَهُ بِيَدِهِ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَجْرَحَهُ جِرَاحَةً مُذَفِّفَةً، أَوْ يَرْمِيَهُ فَيُثْخِنَهُ وَيُزْمِنَهُ، فَيَمْلِكَهُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ طَائِرًا فَكَسَرَ جَنَاحَهُ، فَعَجَزَ عَنِ الطَّيَرَانِ وَالْعَدْوِ جَمِيعًا. وَيَكْفِي لِلتَّمَلُّكِ إِبْطَالُ شِدَّةِ الْعَدْوِ وَصَيْرُورَتِهِ بِحَيْثُ يَسْهُلُ لَحَاقُهُ. وَلَوْ جَرَحَهُ فَعَطِشَ فَثَبَتَ، لَمْ يَمْلِكْهُ إِنْ كَانَ الْعَطَشُ لِعَدَمِ الْمَاءِ. وَإِنْ كَانَ لِعَجْزِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاءِ، مَلَكَهُ؛ لِأَنَّ عَجَزَهُ بِالْجِرَاحَةِ. وَمِنْهَا: وُقُوعُهُ فِي شَبَكَةٍ مَنْصُوبَةٍ لَهُ. فَلَوْ طَرَدَهُ طَارِدٌ فَوَقَعَ فِي الشَّبَكَةِ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الشَّبَكَةِ، لَا لِلطَّارِدِ. وَفِي «الْحَاوِي» : أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي شَبَكَةٍ ثُمَّ تَقَطَّعَتْ فَأَفْلَتَ الصَّيْدُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَطْعِ الصَّيْدِ الْوَاقِعِ، عَادَ مُبَاحًا، فَيَمْلِكُهُ مَنْ صَادَهُ، وَإِلَّا، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الشَّبَكَةِ، فَلَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» فِي بَابِ النَّثْرِ: لَوْ وَقَعَ فِي شَبَكَتِهِ فَأَفْلَتَ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمِنْهَا: إِذَا أَرْسَلَ كَلْبًا فَأَثْبَتَ صَيْدًا، مَلَكَهُ، فَلَوْ أَرْسَلَ سَبْعًا آخَرَ فَعَقَرَهُ وَأَثْبَتَهُ، قَالَ فِي «الْحَاوِي» : إِنْ كَانَ لَهُ يَدٌ عَلَى السَّبْعِ، مَلَكَهُ كَإِرْسَالِ الْكَلْبِ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ أَفْلَتَ الصَّيْدُ بَعْدَمَا أَخَذَهُ الْكَلْبُ، فَفِي «الْبَحْرِ» : أَنَّ بَعْضَ الْأَصْحَابِ قَالَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ صَاحِبُهُ، لَمْ يَمْلِكْهُ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَلَا زَالَ امْتِنَاعُهُ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَمْلِكُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: إِذَا أَلْجَأَهُ إِلَى مَضِيقٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْفِلَاتِ مِنْهُ، مَلَكَهُ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُدْخِلَهُ بَيْتًا وَنَحْوَهُ. وَقَدْ يَرْجِعُ جَمِيعُ هَذَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَيُقَالُ: سَبَبُ مِلْكِ الصَّيْدِ إِبْطَالُ امْتِنَاعِهِ وَحُصُولُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ.

فَرْعٌ لَوْ تَوَحَّلَ صَيْدٌ بِمَزْرَعَتِهِ وَصَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَمْلِكُهُ كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي شَبَكَتِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِسَقْيِ الْأَرْضِ الِاصْطِيَادَ. قَالَ الْإِمَامُ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ سَقْيُ الْأَرْضِ بِمَا يُقْصَدُ بِهِ تَوَحُّلُ الصَّيُودِ، فَإِنْ كَانَ يَقْصِدُ، فَهُوَ كَنَصْبِ الشَّبَكَةِ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الرُّويَانِيُّ لِمَزْرَعَةِ الشَّخْصِ، بَلْ قَالَ: لَوْ تَوَحَّلَ وَهُوَ فِي طَلَبِهِ، لَمْ يَمْلِكْهُ، لَأَنَّ الطِّينَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ. فَلَوْ كَانَ هُوَ أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي الْأَرْضِ، مَلَكَهُ؛ لِأَنَّ الْوَحْلَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، فَهُوَ كَالشَّبَكَةِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَرْجِعَ [هَذَا] إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مِنْ قَصْدِ الِاصْطِيَادِ بِالسَّقْيِ. وَلَوْ وَقَعَ صَيْدٌ فِي أَرْضِهِ وَصَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، أَوْ عَشَّشَ طَائِرٌ فِيهَا وَبَاضَ وَفَرَّخَ، وَحَصَلَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْبَيْضِ وَالْفَرْخِ، لَمْ يَمْلِكْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قُطِعَ فِي «التَّهْذِيبِ» وَقَالَ: لَوْ حَفَرَ حُفْرَةً لَا لِلصَّيْدِ، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ، لَمْ يَمْلِكْهُ. وَإِنْ حَفَرَ لِلصَّيْدِ، مَلَكَ مَا وَقَعَ فِيهِ. وَلَوْ أَغْلَقَ بَابَ الدَّارِ لِئَلَّا يَخْرُجَ، مَلَكَهُ. قَالَ الْإِمَامُ: قَالَ الْأَصْحَابُ: إِذَا قُلْنَا: لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُ الدَّارِ، فَهُوَ أَوْلَى بِتَمَلُّكِهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَدْخُلَ مِلْكَهُ وَيَأْخُذَهُ. فَإِنْ فَعَلَ، فَهَلْ يَمْلِكُهُ؟ وَجْهَانِ كَمَنْ تَحَجَّرَ مَوَاتًا وَأَحْيَاهُ غَيْرُهُ، هَلْ يَمْلِكُهُ؟ وَهَذِهِ الصُّورَةُ أَوْلَى بِثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ التَّحَجُّرَ لِلْإِحْيَاءِ، وَلَا يُقْصَدُ بِبَنَاءِ الدَّارِ تَمَلُّكُ الصَّيْدِ الْوَاقِعِ فِيهَا. وَلَوْ قَصَدَ بِبِنَاءِ الدَّارِ تَعْشِيشَ الطَّائِرِ، فَعَشَّشَ فِيهَا طَيْرٌ، أَوْ وَقَعَتِ الشَّبَكَةُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ، فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ، فَوَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي الْأُولَى قَصْدٌ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ. وَفِي الثَّانِيَةِ: حَصَلَ اسْتِيلَاءٌ بِمِلْكِهِ، لَكِنْ بِلَا قَصْدٍ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَمْلِكُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ.

فصل

فَرْعٌ لَوِ اضْطَرَّ سَمَكَةً إِلَى بِرْكَةٍ صَغِيرَةٍ، أَوْ حَوْضٍ صَغِيرٍ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ، مَلَكَهَا كَمَا سَبَقَ فِيمَنْ أَلْجَأَ صَيْدًا إِلَى مَضِيقٍ. وَالصَّغِيرُ مَا يَسْهُلُ أَخْذُهَا مِنْهُ. فَلَوْ دَخَلَتْ بِنَفْسِهَا، عَادَ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا دَخَلَ الصَّيْدُ مِلْكَهُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنْهُ لَا يَمْلِكُ بِالدُّخُولِ، فَسَدَّ مَنَافِذَ الْبِرْكَةِ، مَلَكَهَا؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إِلَى ضَبْطِهَا. وَلَوِ اضْطَرَّهَا إِلَى بِرْكَةٍ وَاسِعَةٍ يَعْسُرُ أَخْذُ السَّمَكَةِ مِنْهَا، أَوْ دَخَلَتْهَا السَّمَكَةُ فَسَدَّ مَنَافِذَهَا، لَمْ يَمْلِكْهَا، لَكِنْ يَثْبُتُ لَهُ اخْتِصَاصٌ كَالْمُتَحَجِّرِ. فَرْعٌ لَوْ دَخَلَ بُسْتَانَ غَيْرِهِ وَصَادَ فِيهِ طَائِرًا، مَلَكَهُ الصَّائِدُ بِلَا خِلَافٍ. فَصْلٌ مَنْ مَلَكَ صَيْدًا، ثُمَّ أَفْلَتَ مِنْهُ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ. وَمَنْ أَخَذَهُ، لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَيْهِ، وَسَوَاءً كَانَ يَدُورُ فِي الْبَلَدِ وَحَوْلَهُ، أَوِ الْتَحَقَ بِالْوُحُوشِ. وَلَوْ أَرْسَلَهُ مَالِكُهُ، لَمْ يَزُلْ عَنْهُ مِلْكُهُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ كَمَا لَوْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ سَوَائِبَ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِطُ بِالْمُبَاحِ فَيُصَادُ، وَقِيلَ: يَزُولُ. وَقِيلَ: إِنْ قَصَدَ بِإِرْسَالِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، زَالَ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ، عَادَ مُبَاحًا، فَمَنْ صَادَهُ مَلَكَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَصِيدَهُ إِذَا عَرَفَهُ. فَإِنْ قَالَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ: أَبَحْتُهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، حَصَلَتِ الْإِبَاحَةُ،

وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَكَلَهُ، لَكِنْ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفَهُ فِيهِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ، فَأَرْسَلَهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَلْ يَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِرُجُوعِهِ إِلَى الْإِبَاحَةِ أَمْ لَا، كَالْعَبْدِ الْمُعْتَقِ؟ وَجْهَانِ: قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْحَلُّ، لِئَلَّا يَصِيرَ فِي مَعْنَى سَوَائِبِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَلْقَى كِسْرَةَ خُبْزٍ مُعْرِضًا، فَهَلْ يَمْلِكُهَا مَنْ أَخَذَهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى إِرْسَالِ الصَّيْدِ. وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَمْلِكَ، بَلْ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمُلْقِي؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ فِي الصَّيْدِ الْيَدُ، وَقَدْ أَزَالَهَا. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا الْخِلَافُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ، وَمَا فَعَلَهُ إِبَاحَةٌ لِلطَّاعِمِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ الظَّاهِرَةَ تَكْفِي الْإِبَاحَةَ. هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ، وَيُوَضِّحُهُ مَا نُقِلَ عَنِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْتِقَاطِ السَّنَابِلِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَمْلِكُ الْكِسْرَةَ وَالسَّنَابِلَ وَنَحْوَهَا، وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ أَحْوَالِ السَّلَفِ، وَلَمْ يُحْكَ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ أَعْرَضَ عَنْ جِلْدِ مَيْتَةٍ، فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ وَدَبَغَهُ، مَلَكَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِلْأَوَّلِ، وَإِنْمَا كَانَ لَهُ اخْتِصَاصٌ ضَعِيفٌ زَالَ بِالْإِعْرَاضِ. فَرْعٌ مَنْ صَادَ صَيْدًا عَلَيْهِ أَثَرُ مِلْكٍ، بِأَنْ كَانَ مَوْسُومًا أَوْ مُقَرَّطًا أَوْ مَخْضُوبًا،

فصل

أَوْ مَقْصُوصَ الْجَنَاحِ، لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا فَأَفْلَتَ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ صَادَهُ مُحْرِمٌ، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَإِنْهُ تَقْدِيرٌ بَعِيدٌ. فَرْعٌ لَوْ صَادَ سَمَكَةً فِي جَوْفِهَا دُرَّةٌ مَثْقُوبَةٌ، لَمْ يَمْلِكِ الدُّرَّةَ، بَلْ تَكُونُ لُقَطَةً. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ، فَهِيَ لَهُ مَعَ السَّمَكَةِ. وَلَوِ اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فِي جَوْفِهَا دُرَّةً غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ كَانَتْ مَثْقُوبَةً، فَهِيَ لِلْبَائِعِ إِنِ ادَّعَاهَا، كَذَا قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: الدُّرَّةُ لِصَائِدِ السَّمَكَةِ، كَالْكَنْزِ الْمَوْجُودِ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ لِمُحْيِيهَا. فَصْلٌ إِذَا تَحَوَّلَ بَعْضُ حَمَامِ بُرْجِهِ إِلَى بُرْجِ غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُتَحَوِّلُ مِلْكًا لِلْأَوَّلِ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَيَلْزَمُ الثَّانِي رَدُّهُ. فَإِنْ حَصَلَ بَيْنَهُمَا بَيْضٌ أَوْ فَرْخٌ، فَهُوَ تَبَعٌ لِلْأُنْثَى دُونَ الذَّكَرِ. وَلَوِ ادَّعَى تَحَوُّلَ حَمَامِهِ إِلَى بُرْجٍ غَيْرِهِ، لَمْ يُصَدَّقْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَالْوَرَعُ أَنْ يُصِدِّقَهُ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ كَذِبَهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُتَحَوِّلُ مُبَاحًا دَخَلَ بُرْجَ الْأَوَّلِ، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي دُخُولِ الصَّيْدِ مِلْكَهُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنْهُ لَا يَمْلِكُهُ، فَلِلثَّانِي أَنْ يَتَمَلَّكَهُ، وَمَنْ دَخَلَ بُرْجَهُ حَمَامٌ وَشَكَّ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَمْ مَمْلُوكٌ؟ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُبَاحٌ. وَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ اخْتَلَطَ بِمِلْكِهِ مِلْكُ غَيْرِهِ، وَعَسُرَ التَّمْيِيزُ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ لَوِ اخْتَلَطَتْ حَمَامَةٌ وَاحِدَةٌ بِحَمَامَاتِهِ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالِاجْتِهَادِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً حَتَّى تَبْقَى وَاحِدَةٌ. كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتْ ثَمَرَةُ الْغَيْرِ بِثَمَرِهِ. وَالَّذِي حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَاحِدَةً مِنْهَا حَتَّى يُصَالِحَ

ذَلِكَ الْغَيْرَ أَوْ يُقَاسِمَهُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَنْبَغِي لِلْمُتَّقِي أَنْ يَجْتَنِبَ طَيْرَ الْبُرُوجِ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ بِنَاءَهَا. وَنَقَلَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ لِثَالِثٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْمِلْكُ. وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا أَوْ وَهَبَ لِلْآخَرِ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَتُحْتَمَلُ الْجَهَالَةُ لِلضَّرُورَةِ. وَلَوْ بَاعَا الْحَمَامَ الْمُخْتَلِطَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ لِثَالِثٍ، وَلَا يَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنَ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَعْدَادُ مَعْلُومَةً كَمِائَتَيْنِ وَمِائَةٍ، وَالْقِيمَةُ مُتَسَاوِيَةٌ، وَوَزَّعَا الثَّمَنَ عَلَى أَعْدَادِهِمَا، صَحَّ الْبَيْعُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَإِنْ جَهِلَا الْعَدَدَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَنِ. فَالطَّرِيقُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ: بِعْتُكَ الْحَمَامَ الَّذِي لِي فِي هَذَا الْبُرْجِ بِكَذَا، فَيَكُونُ الثَّمَنُ مَعْلُومًا. وَيُحْتَمَلُ الْجَهْلُ فِي الْمَبِيعِ لِلضَّرُورَةِ. قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَوْ تَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ، صَحَّ الْبَيْعُ وَاحْتُمِلَ الْجَهْلُ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا، مَا أَطْلَقَ فِي مُقَاسَمَتِهِمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تُجَوِّزُ الْمُسَامَحَةَ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْعُقُودِ، كَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَمَاتَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، يَصِحُّ اصْطِلَاحُهُنَّ عَلَى الْقِسْمَةِ بِالتَّسَاوِي أَوْ بِالتَّفَاوُتِ مَعَ الْجَهْلِ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ هُنَا أَيْضًا بِحَسَبِ تَرَاضِيهِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: بِعْتُ مَا لِي مِنْ حَمَامِ هَذَا الْبُرْجِ بِكَذَا، وَالْأَعْدَادُ مَجْهُولَةٌ، يَصِحُّ أَيْضًا مَعَ الْجَهْلِ بِمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَنْفَصِلَ الْأَمْرُ بِحَسَبِ مَا يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ حَمَامِ الْبُرْجِ بِإِذْنِ الْآخَرِ، فَيَكُونُ أَصِيلًا فِي الْبَعْضِ وَوَكِيلًا فِي الْبَعْضِ، جَازَ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الثَّمَنَ.

فَرْعٌ لَوِ اخْتَلَطَتْ حَمَامَةٌ مَمْلُوكَةٌ، أَوْ حَمَامَاتٌ بِحَمَامَاتٍ مُبَاحَةٍ مَحْصُورَةٍ، لَمْ يَجُزِ الِاصْطِيَادُ مِنْهَا. وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِحَمَامِ نَاحِيَةٍ، جَازَ الِاصْطِيَادُ فِي النَّاحِيَةِ. وَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ مَا لَا يُحْصَرُ فِي الْعَادَةِ بِاخْتِلَاطِ مَا يُحْصَرُ بِهِ. وَإِنِ اخْتَلَطَ حَمَامُ أَبْرَاجٍ مَمْلُوكَةٍ لَا يَكَادُ يُحْصَرُ بِحَمَامِ بَلْدَةٍ أُخْرَى مُبَاحَةٍ، فَفِي جَوَازِ الِاصْطِيَادِ مِنْهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجُوزُ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ. قُلْتُ: مِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ، ضَبْطُ الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ، فَإِنْهُ يَتَكَرَّرُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَقَلَّ مَنْ بَيَّنَهُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» فِي كِتَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: تَحْدِيدُ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنْمَا يُضْبَطُ بِالتَّقْرِيبِ. قَالَ: فَكُلُّ عَدَدٍ لَوِ اجْتَمَعَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَعْسُرُ عَلَى النَّاظِرِ عَدُّهُمْ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ، كَالْأَلْفِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ غَيْرُ مَحْصُورٍ. وَمَا سَهَلَ كَالْعَشْرَةِ وَالْعِشْرِينَ، فَهُوَ مَحْصُورٌ، وَبَيْنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْسَاطٌ مُتَشَابِهَةٌ تَلْحَقُ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِالظَّنِّ. وَمَا وَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ، اسْتُفْتِيَ فِيهِ الْقَلْبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا انْثَالَتْ حِنْطَتُهُ عَلَى حِنْطَةِ غَيْرِهِ، أَوِ انْصَبَّ مَائِعُهُ فِي مَائِعِهِ، وَجَهِلَا قَدْرَهُمَا، فَلْيَكُنِ الْحُكْمُ فِيهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَمَامِ الْمُخْتَلِطِ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ مَلَكَ الْمَاءَ بِالِاسْتِقَاءِ، ثُمَّ انْصَبَّ فِي نَهْرٍ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ مِنْهُ، وَلَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الِاسْتِقَاءِ، وَهُوَ فِي حُكْمِ اخْتِلَاطِ الْمَحْصُورِ بِغَيْرِ مَحْصُورٍ. قُلْتُ: وَلَوِ اخْتَلَطَ دِرْهَمٌ حَرَامٌ، أَوْ دِرْهَمٌ بِدَرَاهِمِهِ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ، أَوْ دَهَنَ بِدُهْنٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: طَرِيقُهُ أَنْ يَفْصِلَ قَدْرَ الْحَرَامِ فَيَصْرِفَهُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُحِبُّ صَرْفَهُ إِلَيْهَا، وَيَبْقَى الْبَاقِي لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا أَرَادَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي الِاشْتِرَاكِ وَالِازْدِحَامِ عَلَى الصَّيْدِ وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَعَاقَبَ جُرْحَانِ مِنِ اثْنَيْنِ. فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُذَفَّفًا وَلَا مُزْمِنًا، بَلْ بَقِيَ عَلَى امْتِنَاعِهِ، وَكَانَ الثَّانِي مُذَفَّفًا أَوْ مُزْمِنًا، فَالصَّيْدُ لِلثَّانِي، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَوَّلِ بِجِرَاحَتِهِ. وَإِنْ كَانَ جُرْحُ الْأَوَّلِ مُذَفَّفًا، فَالصَّيْدُ لِلْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي أَرْشُ مَا نَقَصَ مِنْ لَحْمِهِ وَجِلْدِهِ. وَإِنْ كَانَ جُرْحُ الْأَوَّلِ مُزْمِنًا، فَلَهُ الصَّيْدُ بِهِ، وَيَنْظُرُ فِي الثَّانِي، فَإِنْ ذَفَّفَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، فَهُوَ حَلَالٌ لِلْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَذْبُوحًا وَمُزْمِنًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِنَّمَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ إِذَا كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَإِنْ كَانَ مُتَأَلِّمًا، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُذْبَحْ لَهَلَكَ، فَمَا عِنْدِي أَنَّهُ يَنْقُصُ مِنْهُ بِالذَّبْحِ شَيْءٌ. وَإِنْ ذَفَّفَ الثَّانِي لَا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، أَوْ لَمْ يُذَفَّفْ وَمَاتَ بِالْجُرْحَيْنِ،

فَهُوَ مَيْتَةٌ. وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ رَمَى إِلَى صَيْدٍ فَأَزْمَنَهُ، ثُمَّ رَمَى إِلَيْهِ ثَانِيًا وَذَفَّفَ لَا بِقَطْعِ الْمَذْبَحِ، وَيَجِبُ عَلَى الثَّانِي كَمَالُ قِيمَةِ الصَّيْدِ مَجْرُوحًا إِنْ ذَفَّفَ. فَإِنْ جُرِحَ بِلَا تَذْفِيفٍ، وَمَاتَ بِالْجُرْحَيْنِ، فَفِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ كَلَامٌ لَهُ مُقَدِّمَةٌ نَذْكُرُهَا أَوَّلًا، وَهِيَ: إِذَا جَنَى رَجُلٌ عَلَى عَبْدٍ أَوْ بَهِيمَةٍ، أَوْ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، جِرَاحَةً أَرْشُهَا دِينَارٌ، ثُمَّ جَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أَرْشُهَا دِينَارٌ أَيْضًا، فَمَاتَ بِالْجُرْحَيْنِ، فَفِيمَا يَلْزَمُ الْجَارِحِينَ، أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعَةٌ وَنِصْفُ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَيْنِ سَرَيَا وَصَارَا قَتْلًا، فَلَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفُ قِيمَتِهِ يَوْمَ جِنَايَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَيَاعَ نِصْفِ دِينَارٍ عَلَى الْمَالِكِ. وَالثَّانِي، قَالَهُ الْمُزَنِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَالْقَفَّالُ: يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ خَمْسَةٌ. وَعَلَى هَذَا لَوْ نَقَصَتْ جِنَايَةُ الْأَوَّلِ دِينَارًا، وَالثَّانِي دِينَارَيْنِ، لَزِمَ الْأَوَّلَ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَالثَّانِي خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ، وَلَوْ نَقَصَتْ جِنَايَةُ الْأَوَّلِ دِينَارَيْنِ، وَالثَّانِي دِينَارًا، انْعَكَسَ، فَيَلْزَمُ الْأَوَّلَ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ، وَالثَّانِي أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ. وَضَعَّفُوا هَذَا الْوَجْهَ؛ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ قِيمَتِهِ حَالَ جِنَايَتِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ، حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الْقَفَّالِ أَيْضًا: يَلْزَمُ الْأَوَّلَ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ، وَالثَّانِي خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ كُلِّ وَاحِدٍ نَقَصَتْ دِينَارًا، ثُمَّ سُرَّتَا، وَالْأَرْشُ يَسْقُطُ إِذَا صَارَتِ الْجِنَايَةُ نَفْسًا، فَيَسْقُطُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهُ نِصْفُ الْقَتْلِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ، بِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُتْلِفِ. وَأَجَابَ الْقَفَّالُ، بِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَنْجَرُّ إِلَى إِيجَابِ زِيَادَةٍ، كَمَنْ قَطَعَ يَدَيْ عَبْدٍ فَقَتَلَهُ آخَرُ، وَأُجِيبَ عَنْهُ، بِأَنَّ قَاطِعَ الْيَدَيْنِ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِي الْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ يَقْطَعُ أَثَرَ الْقَتْلِ، وَيَقَعُ مَوْقِعَ الِانْدِمَالِ، وَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ، قَالَ أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلَمَةَ: يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفُ قِيمَتِهِ يَوْمَ جِنَايَتِهِ، وَنِصْفُ الْأَرْشِ، لَكِنْ لَا يَزِيدُ الْوَاجِبُ عَلَى الْقِيمَةِ، فَيَجْمَعُ مَا لَزِمَهُمَا تَقْدِيرًا، وَهُوَ عَشْرَةٌ وَنِصْفٌ، وَيُقَسِّمُ الْقَيِّمَةَ وَهِيَ عَشْرَةٌ عَلَى الْعَشْرَةِ وَالنِّصْفِ، لِيُرَاعِيَ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا، فَتُبْسَطُ أَنْصَافًا، فَتَكُونُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، فَيَلْزَمُ الْأَوَّلَ

أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ عَشْرَةٍ، وَيَلْزَمُ الثَّانِي عَشْرَةٌ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ مِنْ عَشْرَةٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، لِإِفْرَادِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَنْ بَدَلِ النَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ، عَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» وَغَيْرِهِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ: يَلْزَمُ الْأَوَّلَ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ، وَالثَّانِي أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوِ انْفَرَدَ بِالْجُرْحِ وَالسِّرَايَةِ، لَزِمَهُ الْعَشْرَةُ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَّا مَا يَلْزَمُ الثَّانِي، وَالثَّانِي إِنْمَا جَنَى عَلَى نِصْفِ مَا يُسَاوِي تِسْعَةً، وَفِيهِ ضَعْفٌ أَيْضًا. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ، قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْإِفْصَاحِ» ، وَأَطْبَقَ الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى تَرْجِيحِهِ: أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، فَيَكُونُ تِسْعَةَ عَشَرَ، فَيَقْسِمُ عَلَيْهِ مَا فَوَّتَا وَهُوَ عَشْرَةٌ، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ عَشْرَةٍ، وَعَلَى الثَّانِي تِسْعَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ عَشْرَةٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْجُنَاةُ ثَلَاثَةً، وَأَرْشُ كُلِّ جِنَايَةٍ دِينَارٌ وَالْقِيمَةُ عَشْرَةٌ، فَعَلَى طَرِيقَةِ الْمُزَنِيِّ: يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ: يَلْزَمُ الْأَوَّلَ أَرْبَعَةٌ، مِنْهَا ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ هِيَ ثُلْثُ الْقِيمَةِ، وَثُلُثَانِ وَهُمَا ثُلُثَا الْأَرْشِ. وَيَلْزَمُ الثَّانِي ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا ثُلُثُ الْقِيمَةِ يَوْمَ جِنَايَتِهِ، وَثُلُثَانِ هُمَا ثُلُثُ الْأَرْشِ، وَيَلْزَمُ الثَّالِثَ ثَلَاثَةٌ، مِنْهَا دِينَارَانِ وَثُلُثُ هِيَ ثُلُثُ الْقِيمَةِ يَوْمَ جِنَايَتِهِ، وَثُلُثَانِ هُمَا ثُلُثَا الْأَرْشِ، فَالْجُمْلَةُ عَشْرَةٌ وَثُلُثَانِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ: تُوَزَّعُ الْعَشْرَةُ عَلَى عَشْرَةٍ وَثُلُثَيْنِ. وَعَلَى الْخَامِسِ: يَلْزَمُ الْأَوَّلَ أَرْبَعَةٌ وَثُلُثٌ، وَالثَّانِي ثَلَاثَةٌ، وَالثَّالِثَ دِينَارَانِ وَثُلُثَانِ. وَعَلَى السَّادِسِ: تُجْمَعُ الْقِيَمُ، فَتَكُونُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، فَتُقَسَّمُ الْعَشْرَةُ عَلَيْهَا. أَمَّا إِذَا جَرَحَ مَالِكُ الْعَبْدِ أَوِ الصَّيْدِ جِرَاحَةً، وَأَجْنَبِيٌّ أُخْرَى، فَيُنْظَرُ فِي جِنَايَةِ الْمَالِكِ، أَهِيَ الْأُولَى أَمِ الثَّانِيَةُ؟ وَتَخْرُجُ عَلَى الْأَوْجُهِ، فَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ وَتَجِبُ حِصَّةُ الْأَجْنَبِيِّ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ: أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى الْعَبْدِ، هُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْجِنَايَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَإِنْ كَانَ، فَلَيْسَ الْعَبْدُ فِيهَا كَالْبَهِيمَةِ وَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ، حَتَّى لَوْ جَنَى عَلَى عَبْدٍ غَيْرِهِ جِنَايَةً لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَنَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ عَشْرَةً، ثُمَّ جَنَى آخَرُ جِنَايَةً لَا أَرْشَ لَهَا، فَنَقَصَتْ عَشْرَةً أَيْضًا، وَمَاتَ الْعَبْدُ

مِنْهُمَا، فَعَلَى الْأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ، وَعَلَى الثَّانِي خَمْسُونَ يُدْفَعُ مِنْهَا خَمْسَةٌ إِلَى الْأَوَّلِ. قَالَ: فَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ الْأُخْرَى، لَزِمَ الْأَوَّلَ نِصْفُ أَرْشِ الْيَدِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَنِصْفُ قِيمَتِهِ يَوْمَ جِنَايَتِهِ وَهُوَ خَمْسُونَ، وَلَزِمَ الثَّانِي نِصْفُ أَرْشِ الْيَدِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَنِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ جِنَايَتِهِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ، فَالْجُمْلَةُ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ جَمِيعُهَا لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الَّتِي لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ وَاجِبُهَا عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ فَقَتَلَهُ آخَرُ. هَذَا بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ. وَنَعُودُ إِلَى مَسْأَلَةِ الصَّيْدِ فَنَقُولُ: إِذَا جَرَحَ الثَّانِي جِرَاحَةً غَيْرَ مُذَفَّفَةٍ، وَمَاتَ الصَّيْدُ بِالْجُرْحَيْنِ، نُظِرَ، إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْأَوَّلُ مِنْ ذَبْحِهِ، لَزِمَ الثَّانِي تَمَامُ قِيمَتِهِ مُزْمِنًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَيْتَةً بِفِعْلِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ جَرَحَ شَاةَ نَفْسِهِ، وَجَرَحَهَا آخَرُ وَمَاتَتْ، فَإِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي إِلَّا نِصْفُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُرْحَيْنِ هُنَاكَ حَرَامٌ، وَالْهَلَاكُ حَصَلَ بِهِمَا، وَهُنَا فِعْلُ الْأَوَّلِ اكْتِسَابٌ وَذَكَاةٌ. ثُمَّ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ الصَّيْدُ يُسَاوِي عَشْرَةً غَيْرَ مُزْمِنٍ، وَتِسْعَةً مُزْمِنًا، لَزِمَ الثَّانِي تِسْعَةٌ. وَاسْتَدْرَكَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» فَقَالَ: فِعْلُ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِفْسَادًا، فَيُؤَثِّرُ فِي الذَّبْحِ وَحُصُولِ الزَّهُوقِ قَطْعًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فَيُقَالُ: إِذَا كَانَ غَيْرَ مُزْمِنٍ يُسَاوِي عَشْرَةً، وَمُزْمِنًا تِسْعَةً، وَمَذْبُوحًا ثَمَانِيَةً، لَزِمَهُ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ، فَإِنَّ الدِّرْهَمَ أَثَّرَ فِي فَوَاتِهِ الْفِعْلَانِ، فَيُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَلِلنَّظَرِ فِي هَذَا مَجَالٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُفْسِدُ يَقْطَعُ أَثَرَ فِعْلَيِ الْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَالْأَصَحُّ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» . وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ فَذَبَحَهُ، لَزِمَ الثَّانِي أَرْشُ جِرَاحَتِهِ إِنْ نَقَصَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْهُ وَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي سِوَى أَرْشُ النَّقْصِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُقَصِّرٌ بِتَرْكِ الذَّبْحِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَضْمَنُ زِيَادَةً عَلَى الْأَرْشِ، وَلَا يَكُونُ تَرْكُهُ الذَّبْحَ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ رَجُلٌ شَاتَهُ فَلَمْ يَذْبَحْهَا مَعَ التَّمَكُّنِ، لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ. فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَضْمَنُ وَجْهَانِ، قَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: كَمَالُ قِيمَتِهِ مُزْمِنًا، كَمَا لَوْ ذَفَّفَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا جَرَحَ

عَبَدَهُ أَوْ شَاتَهُ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلِ هُنَاكَ إِفْسَادٌ، وَالتَّحْرِيمُ حَصَلَ بِهِمَا، وَهُنَا الْأَوَّلُ إِصْلَاحٌ. وَالْأَصَحُّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ: لَا يَضْمَنُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، بَلْ هُوَ كَمَنْ جَرَحَ عَبَدَهُ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِهِمَا، وَكِلَاهُمَا إِفْسَادٌ. أَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَلِأَنَّ تَرْكَ الذَّبْحِ مَعَ التَّمَكُّنِ، يَجْعَلُ الْجُرْحَ وَسَرَايَتَهُ إِفْسَادًا. وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يُوجَدِ الْجُرْحُ الثَّانِي فَتُرِكَ الذَّبْحُ، كَانَ الصَّيْدُ مَيْتَةً. فَعَلَى هَذَا تَجِيءُ الْأَوْجُهُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّوْزِيعِ عَلَى الْجُرْحَيْنِ، فَحِصَّةُ الْأَوَّلِ تَسْقُطُ، وَحِصَّةُ الثَّانِي تَجِبُ. الْحَالُ الثَّانِي: إِذَا وَقَعَ الْجُرْحَانِ مَعًا، نَظَرَ إِنْ تَسَاوِيَا فِي سَبَبِ الْمِلْكِ، فَالصَّيْدُ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُذَفَّفًا، أَوْ مُزْمِنًا لَوِ انْفَرَدَ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُزْمِنًا، وَالْآخَرُ مُذَفَّفًا، وَسَوَاءً تَفَاوَتَ الْجُرْحَانِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا، أَوْ تَسَاوَيَا، أَوْ كَانَا فِي الْمَذْبَحِ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَحَدُهُمَا فِيهِ وَالْآخَرُ فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُذَفَّفًا، أَوْ مُزْمِنًا لَوِ انْفَرَدَ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَالصَّيْدُ لِمَنْ ذَفَّفَ أَوْ أَزْمَنَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرَحْ مِلْكَ الْغَيْرِ. وَلَوِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْإِزْمَانُ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، فَالصَّيْدُ بَيْنَهُمَا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَحِلَّ كُلُّ وَاحِدٍ الْآخَرَ تَوَرُّعًا. وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا مُذَفَّفٌ، وَشَكَكْنَا هَلْ لِلْآخَرِ أَثَرٌ فِي الْإِزْمَانِ وَالتَّذْفِيفِ أَمْ لَا؟ قَالَ الْقَفَّالُ: هُوَ بَيْنَهُمَا. فَقِيلَ لَهُ: لَوْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً مُذَفَّفَةً، وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً لَا نَدْرِي أَهِيَ مُذَفَّفَةٌ أَمْ لَا؟ فَمَاتَ، فَقَالَ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا بَعِيدٌ، وَالْوَجْهُ تَخْصِيصُ الْقِصَاصِ بِصَاحِبِ الْمُذَفَّفَةِ. وَفِي الصَّيْدِ، يُسَلِّمُ نِصْفَهُ لِمَنْ جَرَحَهُ مُذَفَّفًا، وَيُوقِفُ نِصْفَهُ بَيْنَهُمَا إِلَى التَّصَالُحِ أَوْ تَبَيُّنِ الْحَالِ. فَإِنْ لَمْ يُتَوَقَّعْ بَيَانٌ، جَعَلَ النِّصْفَ الْآخَرَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: إِذَا تَرَتَّبَ الْجُرْحَانِ، وَأَحَدُهُمَا مُزْمِنٌ لَوِ انْفَرَدَ، وَالْآخَرُ مُذَفَّفٌ وَارِدٌ عَلَى الْمَذْبَحِ، وَلَمْ يَعْرِفِ السَّابِقَ، فَالصَّيْدُ حَلَالٌ. فَإِنِ اخْتَلَفَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ جَرَحَهُ أَوَّلًا وَأَزْمَنَهُ، وَأَنَّهُ لَهُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ تَحْلِيفُ الْآخَرِ. فَإِنْ حَلَفَا،

فَالصَّيْدُ بَيْنَهُمَا، وَلَا شَيْءَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، فَالصَّيْدُ لَهُ، وَلَهُ عَلَى النَّاكِلِ أَرْشُ مَا نَقَصَ بِالذَّبْحِ. وَلَوْ تَرَتَّبَا، وَأَحَدُهُمَا مُزْمِنٌ، وَالْآخَرُ مُذَفَّفٌ فِي غَيْرِ الْمَذْبَحِ، وَلَمْ يُعْرَفِ السَّابِقُ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الصَّيْدَ حَرَامٌ، لِاحْتِمَالِ تَقَدُّمِ الْإِزْمَانِ، فَلَا يَحِلُّ بَعْدَهُ إِلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ. وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ، كَمَسْأَلَةِ الْإِنْمَاءِ السَّابِقَةِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ: اجْتِمَاعُ الْمُبِيحِ وَالْمُحَرِّمِ. وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ هُنَاكَ جُرْحٌ يُحَالُ عَلَيْهِ. فَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ أَزْمَنَهُ أَوَّلًا، وَأَنَّ الْآخَرَ أَفْسَدَهُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ تَحْلِيفُ الْآخَرِ. فَإِنْ حَلِفَا فَذَاكَ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، لَزِمَ النَّاكِلَ قِيمَتُهُ مُزْمِنًا. وَلَوْ قَالَ الْجَارِحُ أَوَّلًا: أَزْمَنْتُهُ أَنَا، ثُمَّ أَفْسَدْتَهُ بِقَتْلِكَ، فَعَلَيْكَ الْقِيمَةُ. وَقَالَ الثَّانِي: لَمْ تُزْمِنْهُ، بَلْ كَانَ عَلَى امْتِنَاعِهِ إِلَى أَنْ رَمْيَتُهُ فَأَزْمَنْتُهُ أَوْ ذَفَّفْتُهُ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى عَيْنِ جِرَاحَةِ الْأَوَّلِ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَبْقَى امْتِنَاعٌ مَعَهَا، كَكَسْرِ جَنَاحِهِ، وَكَسْرِ رِجْلِ الْمُمْتَنِعِ بَعَدْوِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَوَّلِ بِلَا يَمِينٍ، وَإِلَّا، فَقَوْلُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الِامْتِنَاعِ. فَإِنْ حَلَفَ، فَالصَّيْدُ لَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْأَوَّلُ، وَاسْتَحَقَّ قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا بِالْجِرَاحَةِ الْأُوْلَى، وَلَا يَحِلُّ الصَّيْدُ؛ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ بِزَعْمِهِ. وَهَلْ لِلثَّانِي أَكْلُهُ؟ وَجْهَانِ: قَالَ الْقَاضِي الطَّبَرِيُّ: لَا؛ لِأَنَّ إِلْزَامَهُ الْقِيمَةَ حُكْمٌ بِأَنَّهُ مَيْتَةٌ. وَقِيلَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ فِي خُصُومَةِ الْآدَمِيِّ لَا تُغَيِّرُ الْحُكْمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّ الْجِرَاحَةَ الْمُذَفَّفَةَ سَابِقَةٌ عَلَى الَّتِي لَوِ انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ مُزْمِنَةً، فَالصَّيْدُ حَلَالٌ. فَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: أَنَا ذَفَّفْتُهُ، فَلِكُلٍّ تَحْلِيفُ الْآخَرِ. فَإِنْ حَلَفَا، كَانَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، فَالصَّيْدُ لَهُ، وَعَلَى الْآخَرِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ. فَرْعٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : لَوْ رَمَاهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَلَمْ

يَدْرِ أَجَعَلَهُ الْأَوَّلُ مُمْتَنِعًا أَمْ لَا، جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ فَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُحَرَّمَ هَذَا الصَّيْدُ؛ لِاجْتِمَاعِ مَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَالتَّحْرِيمَ. وَبِتَقْدِيرِ الْحِلِّ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا، بَلْ لِمَنْ أَثْبَتَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْجَوَابِ، فَقِيلَ: النَّصُّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَصَابَ الْمَذْبَحَ، فَيَحِلُّ، سَوَاءً أَصَابَهُ الْأَوَّلُ أَوِ الثَّانِي، أَوْ عَلَى مَا إِذَا رَمَيَاهُ وَلَمْ يَمُتْ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ أَحَدُهُمَا، فَذَكَّاهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيهِ. وَإِنْمَا كَانَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمَا. وَقَدْ يُجْعَلُ الشَّيْءُ لِاثْنَيْنِ، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُهُ فِي الْبَاطِنِ لِأَحَدِهِمَا، كَمَنْ مَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِهِ. وَحَمَلَ أَبُو إِسْحَاقَ النَّصَّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: إِذَا رَمَيَاهُ مَاتَ، وَلَمْ يَدْرِ أَثَبَتَهُ الْأَوَّلُ، أَمِ الثَّانِي، كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ إِلَى أَنْ عَقَرَهُ الثَّانِي، فَيَكُونُ عَقْرُهُ ذَكَاةً، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ الْإِثْبَاتِ مِنْ كِلَيْهِمَا وَلَا مِزْيَةَ. وَقِيلَ: فِي حِلِّهِ قَوْلَانِ كَمَسْأَلَةِ الْإِنْمَاءِ. الْحَالُ الرَّابِعُ: إِذَا تَرَتَّبَ الْجُرْحَانِ وَحَصَلَ الْإِزْمَانُ بِمَجْمُوعِهِمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ لَوِ انْفَرَدَ لَمْ يُزْمِنْ، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الصَّيْدَ لِلثَّانِي. وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنْهُ لِلثَّانِي، أَوْ كَانَ الْجُرْحُ الثَّانِي مُزْمِنًا لَوِ انْفَرَدَ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَوَّلِ بِسَبَبِ جُرْحِهِ. فَلَوْ عَادَ بَعْدَ إِزْمَانِ الثَّانِي، وَجَرْحَهُ جِرَاحَةً أُخْرَى، نَظَرَ، إِنْ أَصَابَ الْمَذْبَحَ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَعَلَيْهِ لِلثَّانِي مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالذَّبْحِ، وَإِلَّا حُرِّمَ، وَعَلَيْهِ إِنْ ذَفَّفَ، قِيمَتُهُ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَتِهِ الْأُولَى، وَجِرَاحَةِ الثَّانِي، وَكَذَا إِنْ لَمْ يُذَفِّفْ وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الثَّانِي مِنْ ذَبْحِهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ وَتَرَكَ الذَّبْحَ، عَادَ الْخِلَافُ السَّابِقُ، فَعَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَيْسَ عَلَى الْأَوَّلِ إِلَّا أَرْشُ الْجِرَاحَةِ الثَّانِيَةِ، لِتَقْصِيرِ الْمَالِكِ، وَعَلَى أَصَحِّهِمَا: لَا يُقْصَرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا، فَفِي وَجْهٍ: عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ. وَخَرَّجَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ جَرَحَ عَبْدًا مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ فَجَرَحَهُ سَيِّدُهُ، ثُمَّ عَادَ الْأَوَّلُ وَجَرَحَهُ ثَانِيَةً وَمَاتَ مِنْهُمَا وَفِيمَا يَلْزَمُهُ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: ثُلُثُ الْقِيمَةِ. وَالثَّانِي: رَبُعُهَا، قَالَهُ الْقَفَّالُ. فَعَلَى هَذَا، يَجِبُ هُنَا رُبْعُ الْقِيمَةِ. وَعَنْ

فصل

صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» : أَنَّهُ تَعَوَّدَ فِي التَّوْزِيعِ الْأَوْجُهَ السَّابِقَةَ. وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ وُجُوبَ تَمَامِ الْقِيمَةِ. وَالْمَذْهَبُ: التَّوْزِيعُ، كَمَا سَبَقَ. فَرْعٌ الِاعْتِبَارُ فِي التَّرْتِيبِ وَالْمَعِيَّةِ بِالْإِصَابَةِ، لَا بِابْتِدَاءِ الرَّمْيِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ إِحْدَاهَا: وَقَعَ بَعِيرَانِ فِي بِئْرٍ، أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ، فَطُعِنَ الْأَعْلَى، فَمَاتَ الْأَسْفَلُ بِثِقْلِهِ، حَرُمَ الْأَسْفَلُ. فَإِنْ نَفَذَتِ الطَّعْنَةُ فَأَصَابَتْهُ أَيْضًا، حَلَّا جَمِيعًا. فَإِنْ شُكَّ، هَلْ مَاتَ بِالثِّقْلِ، أَوِ الطَّعْنَةِ النَّافِذَةِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا أَصَابَتْهُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ؟ حَلَّ. وَإِنْ شُكَّ، هَلْ أَصَابَتْهُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ، أَمْ بَعْدَهَا؟ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» فِي «الْفَتَاوَى» : يُحْتَمَلُ وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْعَبْدِ الْغَائِبِ الْمُنْقَطِعِ خَبَرُهُ، هَلْ يُجْزِئُ إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ. الثَّانِيَةُ: رَمَى غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَصَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَصَابَ غَيْرَ الْمَذْبَحِ، لَمْ يَحِلَّ. وَلَوْ رَمَى مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَصَارَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَأَصَابَ مَذْبَحَهُ حَلَّ. الثَّالِثَةُ: أَرْسَلَ سَهْمَيْنِ فَأَصَابَا مَعًا حَلَّ. وَإِنْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ. فَإِنْ أَزْمَنَهُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يُصِبِ الثَّانِي الْمَذْبَحَ، لَمْ يَحِلَّ. وَإِنْ أَصَابَهُ، حَلَّ وَإِنْ لَمْ يُزْمِنْهُ الْأَوَّلُ، وَقَتَلَهُ الثَّانِي حَلَّ. وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَيْنِ، فَأَزْمَنَهُ الْأَوَّلُ، وَقَتَلَهُ الثَّانِي، لَمْ يَحِلَّ، قَطَعَ الْمَذْبَحَ أَمْ لَا. وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ سَهْمًا وَكَلْبًا، إِنْ أَزْمَنَهُ السَّهْمُ

ثُمَّ أَصَابَهُ الْكَلْبُ، لَمْ يَحِلَّ. وَإِنْ أَزْمَنَهُ الْكَلْبُ، ثُمَّ أَصَابَ السَّهْمُ الْمَذْبَحَ حَلَّ. الرَّابِعَةُ: صَيْدٌ دَخَلَ دَارَ إِنْسَانٍ وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ: إِنْهُ لَا يَمْلِكُهُ، فَأَغْلَقَ أَجْنَبِيٌّ الْبَابَ، لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُ الدَّارِ وَلَا الْأَجْنَبِيُّ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ لَمْ يَحْصُلِ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ غَصَبَ شَبَكَةً وَاصْطَادَ بِهَا. الْخَامِسَةُ: لَوْ أَخَذَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ صَيْدًا بِغَيْرِ إِرْسَالٍ، ثُمَّ أَخَذَهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ فِيهِ، مَلَكَهُ الْآخِذُ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ أَخَذَ فَرْخَ طَائِرٍ مِنْ شَجَرَتِهِ. وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ إِذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ فَأَخَذَ صَيْدًا، فَأَخْذَهُ غَيْرُهُ مِنْ فِيهِ وَهُوَ حَيٌّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُرْسِلِ، وَيَكُونَ إِرْسَالُهُ كَنَصْبِ شَبَكَةٍ تَعَقَّلَ بِهَا الصَّيْدُ. وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا. السَّادِسَةُ: تَعَقَّلَ الصَّيْدُ بِالشَّبَكَةِ، ثُمَّ قَلَعَهَا وَذَهَبَ بِهَا، فَأَخَذَهُ إِنْسَانٌ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ يَعْدُو وَيَمْتَنِعُ مَعَ الشَّبَكَةِ، مَلَكَهُ الْآخِذُ، وَإِنْ كَانَ ثِقَلُ الشَّبَكَةِ يُبْطِلُ امْتِنَاعَهُ، بِحَيْثُ يَتَيَسَّرُ أَخْذُهُ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الشَّبَكَةِ لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ. السَّابِعَةُ: إِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ فَحَبَسَ صَيْدًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ، أَفْلَتَ، فَهَلْ يَمْلِكُهُ مَنْ أَخَذَهُ، أَمْ هُوَ مِلْكُ الْأَوَّلِ بِالْحَبْسِ؟ وَجْهَانِ: قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: يَمْلِكُهُ الْآخِذُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ: رَجُلَانِ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ اصْطَادَ هَذَا الصَّيْدَ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ. التَّاسِعَةُ: رَجُلٌ فِي يَدِهِ صَيْدٌ، فَقَالَ آخَرُ: أَنَا اصْطَدْتُهُ، فَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ: لَا عِلْمَ لِي بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَا يُقْنَعُ مِنْهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، بَلْ يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ أَوْ يُسَلِّمُهُ إِلَى مُدَّعِيهِ.

قُلْتُ: لَوْ أَخْبَرَ فَاسِقٌ أَوْ كِتَابِيٌّ أَنَّهُ ذَكَّى هَذِهِ الشَّاةَ، قَبِلْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، ذَكَرَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَلَوْ وَجَدَ شَاةً مَذْبُوحَةً، وَلَمْ يَدْرِ أَذَبَحَهَا مُسْلِمٌ، أَوْ كِتَابِيٌّ، أَمْ مَجُوسِيٌّ. فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَجُوسٌ وَمُسْلِمُونَ، لَمْ يَحِلَّ، لِلشَّكِّ فِي الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الأطعمة

كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ فِيهِ بَابَانِ. [الْبَابُ] الْأَوَّلُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ قَالَ الْأَصْحَابُ: مَا يَتَأَتَّى أَكْلُهُ مِنَ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ، لَا يُمْكِنُ حَصْرُ أَنْوَاعِهِ، لَكِنَّ الْأَصْلَ فِي الْجَمِيعِ الْحِلُّ، إِلَّا مَا يَسْتَثْنِيهِ أَحَدُ أُصُولٍ. الْأَوَّلُ: نَصَّ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ كَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَيَحِلُّ الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ وَالْخَيْلُ وَالْمُتَوَلِّدُ بَيْنَهُمَا. وَتَحْرُمُ الْبِغَالُ وَسَائِرُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ، سَوَاءً كَانَ الْحَرَامُ مِنْ أَصَلَيْهِ، الذَّكَرُ أَوِ الْأُنْثَى. وَيَحْرُمُ أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّائِرِ. وَالْمُرَادُ: مَا يَعْدُو عَلَى الْحَيَوَانِ وَيَتَقَوَّى بِنَابِهِ، فَيَحْرُمُ الْكَلْبُ وَالْأَسَدُ وَالذِّئْبُ وَالنَّمِرُ وَالدُّبُّ وَالْفَهْدُ وَالْقِرْدُ وَالْفِيلُ وَالْبَبْرُ. قُلْتُ: هُوَ الْبَبْرُ - بِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ - الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ، وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ يُعَادِي الْأَسَدَ، وَيُقَالُ لَهُ: الْفُرَانِقُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُوشَنْجِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَذْهَبَ مَالِكٍ، فَقَالَ: يَحِلُّ الْفِيلُ،

وَقَالَ: لَا يَعْدُو مِنَ الْفِيَلَةِ إِلَّا الْفَحْلُ الْمُغْتَلِمُ كَالْإِبِلِ. وَالصَّحِيحُ: تَحْرِيمُهُ. وَيَحْرُمُ مِنَ الطَّيْرِ: الْبَازِيُّ وَالشَّاهِينُ وَالنَّسْرُ وَالصَّقْرُ وَالْعُقَابُ وَجَمِيعُ جَوَارِحِ الطَّيْرِ. فَرْعٌ يَحِلُّ الضَّبُّ وَالضَّبْعُ وَالثَّعْلَبُ وَالْأَرْنَبُ وَالْيَرْبُوعُ. وَيَحْرُمُ ابْنُ آوَى وَابْنُ مُقْرِضٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُرَاوِزَةُ. وَيَحِلُّ الْوَبَرُ وَالدُّلْدُلُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. وَالْهِرَّةُ الْأَهْلِيَّةُ حَرَامٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: حَلَالٌ. وَالْوَحْشِيَّةُ حَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ الْخُضَرِيُّ: حَلَالٌ. وَيَحِلُّ السُّمُورُ وَالسِّنْجَابُ وَالْفَنْكُ وَالْقُمَاقِمُ وَالْحَوَاصِلُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. الثَّانِي: الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: مَا أُمِرَ بِقَتْلِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَهُوَ حَرَامٌ: كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ، وَكُلِّ سَبْعٍ ضَارٍ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَسَدُ وَالذِّئْبُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا سَبَقَ. وَقَدْ يَكُونُ لِلشَّيْءِ سَبَبَانِ أَوْ أَسْبَابٌ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ. فَرْعٌ تَحْرُمُ الْبُغَاثَةُ وَالرَّخْمَةُ، وَأَمَّا الْغُرَابُ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا: الْأَبْقَعُ وَهُوَ فَاسِقٌ مُحَرَّمٌ بِلَا خِلَافٍ، وَمِنْهَا: الْأَسْوَدُ الْكَبِيرُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْغِدَافُ الْكَبِيرُ، وَيُقَالُ: الْغُرَابُ الْجَبَلِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَسْكُنُ الْجِبَالَ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ. وَمِنْهَا: غُرَابُ الزَّرْعِ، وَهُوَ أَسْوَدُ صَغِيرٌ يُقَالُ لَهُ: الزَّاغُ، وَقَدْ يَكُونُ مُحْمَرُّ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ حَلَالٌ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَمِنْهَا: غُرَابٌ آخَرُ صَغِيرٌ أَسْوَدُ أَوْ رَمَادِيُّ اللَّوْنِ. وَقَدْ يُقَالُ لَهُ: الْغِدَافُ الصَّغِيرُ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَذَا الْعَقْعَقُ. الثَّالِثُ: مَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ، فَهُوَ حَرَامٌ فَيَحْرُمُ النَّمْلُ، وَالنَّحْلُ وَالْخُطَّافُ وَالصَّرْدُ وَالْهُدْهُدُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْجَمِيعِ. وَيَحْرُمُ الْخُفَّاشُ قَطْعًا، وَقَدْ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ. وَيَحْرُمُ اللَّقْلَقُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ كُلُّ ذَاتِ طَوْقٍ مِنَ الطَّيْرِ حَلَالٌ، وَاسْمُ الْحَمَامِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِهَا، فَيُدْخُلُ فِيهِ الْقُمْرِيُّ وَالدُّبْسِيُّ وَالْيَمَامُ وَالْفَوَاخِتُ. وَأَدْرَجَ فِي هَذَا الْقِسْمِ، الْوَرَشَانَ وَالْقَطَا وَالْحَجَلَ وَكُلَّهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَمَا عَلَى شَكْلِ الْعُصْفُورِ فِي حَدِّهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّعْوَةُ وَالزُّرْزُورُ وَالنُّغَرُ وَالْبُلْبُلُ وَتَحِلُّ الْحُمْرَةُ وَالْعَنْدَلِيبُ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا. وَتَحِلُّ النَّعَامَةُ وَالدَّجَاجُ وَالْكُرْكِيُّ وَالْحُبَارَى. وُفِي الْبَغْبَغَاءِ وَالطَّاوُوسِ، وَجْهَانِ: قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ. وَالشُّقْرَاقُ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : حَلَالٌ. وَقَالَ الصَّيْمَرِيُّ: حَرَامٌ. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: يَحْرُمُ مُلَاعِبُ ظِلِّهِ، وَهُوَ طَائِرٌ يَسْبَحُ فِي الْجَوِّ مِرَارًا، كَأَنَّهُ يَنْصَبُّ عَلَى طَائِرٍ. قَالَ: وَالْبُومُ حَرَامٌ كَالرَّخْمِ. وَالضَّوْعُ حَرَامٌ، وَفِي قَوْلٍ: حَلَالٌ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الضَّوْعَ غَيْرُ الْبُومِ، لَكِنْ فِي «الصِّحَاحِ» : أَنَّ الضَّوْعَ طَائِرٌ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ مَنْ جِنْسِ الْهَامِّ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: هُوَ ذَكَرُ الْبُومِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ فِي الضَّوْعِ قَوْلٌ، لَزِمَ إِجْزَاؤُهُ فِي الْبُومِ؛ لِأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَا يَفْتَرِقَانِ.

فصل

قُلْتُ: الضَّوْعُ - بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ وَوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَالْأَشْهَرُ: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْهَامِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: النَّهَّاسُ حَرَامٌ كَالسِّبَاعِ الَّتِي تَنْهَسُ. وَاللَّقَّاطُ حَلَالٌ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ النَّصُّ، وَأَحَلَّ الْبُوشَنْجِيُّ اللَّقَّاطَ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ. قَالَ: وَمَا تَقَوَّتَ بِالطَّاهِرَاتِ فَحَلَالٌ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ النَّصُّ، وَمَا تَقَوَّتَ بِالنَّجِسِ فَحَرَامٌ. فَرْعٌ أَطْلَقَ مُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِحِلِّ طَيْرِ الْمَاءِ، فَكُلُّهَا حَلَالٌ، إِلَّا اللَّقْلَقَ، فَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. وَحُكِيَ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ: أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُ طَيْرِ الْمَاءِ الْأَبْيَضِ، لِخُبْثِ لَحْمِهَا. فَصْلٌ الْحَيَوَانُ الَّذِي لَا يُهْلِكُهُ الْمَاءُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَعِيشُ فِيهِ، وَإِذَا أُخْرِجَ مِنْهُ كَانَ عَيْشُهُ عَيْشَ الْمَذْبُوحِ، كَالسَّمَكِ بِأَنْوَاعِهِ، فَهُوَ حَلَالٌ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَبْحِهِ كَمَا سَبَقَ، وَسَوَاءً مَاتَ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ، كَضَغْطَةٍ أَوْ صَدْمَةٍ أَوِ انْحِسَارِ مَاءٍ أَوْ ضَرْبٍ مِنَ الصَّيَّادِ، أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ عَلَى صُورَةِ السُّمُوكِ الْمَشْهُورَةِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. وَيُقَالُ: ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَصَحُّهَا: يَحِلُّ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ وَاخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ؛ لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ اسْمَ السَّمَكِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِهَا. وَالثَّانِي:

يَحْرُمُ. وَالثَّالِثُ: مَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ، كَالْبَقَرِ وَالشَّاءِ، فَحَلَالٌ، وَمَا لَا، كَخِنْزِيرِ الْمَاءِ فِي كَلْبِهِ، فَحَرَامٌ. فَعَلَى هَذَا، مَا لَا نَظِيرَ لَهُ حَلَالٌ. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا لَا يَحِلُّ مَا أَشْبَهَ الْحِمَارَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَرِّ حِمَارُ الْوَحْشِ الْمَأْكُولِ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا أَبَحْنَا الْجَمِيعَ، فَهَلْ تَشْتَرِطُ الذَّكَاةُ، أَمْ تَحِلُّ مِيتَتُهُ؟ وَجْهَانِ: وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: تَحِلُّ مَيْتَتُهُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَفِي الْبَرِّ أَيْضًا، فَمِنْهُ طَيْرُ الْمَاءِ، كَالْبَطِّ وَالْأَوِزِّ وَنَحْوِهِمَا، وَهِيَ حَلَالٌ كَمَا سَبَقَ، وَلَا تَحِلُّ مِيتَتُهَا قَطْعًا. وَعَدَّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْإِمَامُ، وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الضُّفْدَعَ وَالسَّرَطَانَ، وَهُمَا مُحَرَّمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَذَوَاتُ السُّمُومِ حَرَامٌ قَطْعًا. وَيَحْرُمُ التِّمْسَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالسُّلَحْفَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً اسْتَثْنَوُا الضُّفْدَعَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ، تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ حَلُّ الْجَمِيعِ. وَكَذَا اسْتَثْنَوُا الْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ. وَمُقْتَضَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا نَوْعُ كَذَا، وَنَوْعُ كَذَا. وَاسْتَثْنَى الْقَاضِي الطَّبَرِيُّ، النِّسْنَاسَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا. وَامْتَنَعَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مُسَاعَدَتِهِ. قُلْتُ: سَاعَدَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْأَصْلُ الرَّابِعُ: الْمُسْتَخْبَثَاتُ مِنَ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْبَابِ، فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، لِلِاسْتِطَابَةِ وَالِاسْتِخْبَاثِ. وَرَآهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَصْلَ الْأَعْظَمَ الْأَعَمَّ، وَلِذَلِكَ افْتَتَحَ بِهِ الْبَابَ، وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) [الْمَائِدَةِ: 4] .

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ هُنَا الْحَلَالَ. ثُمَّ قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَيَبْعُدُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى طَبَقَاتِ النَّاسِ، وَتَنْزِيلِ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى مَا يَسْتَطِيبُونَهُ أَوْ يَسْتَخْبِثُونَهُ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ مَوْضُوعَ الشَّرْعِ، فَرَأَوُا الْعَرَبَ أَوْلَى الْأُمَمِ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِاسْتِطَابَتِهِمْ وَاسْتِخْبَاثِهِمْ لِأَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ أَوَّلًا، وَهُمْ جِيلٌ لَا تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْعِيَافَةُ النَّاشِئَةُ مِنَ التَّنَعُّمِ فَيُضَيِّقُوا الْمَطَاعِمَ عَلَى النَّاسِ. وَإِنْمَا يَرْجِعُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى سُكَّانِ الْبِلَادِ وَالْقُرَى، دُونَ أَجْلَافِ الْبَوَادِي الَّذِينَ يَتَنَاوَلُونَ مَا دَبَّ وَدَرَجَ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ. وَتُعْتَبَرُ عَادَةُ أَهْلِ الْيَسَارِ وَالثَّرْوَةِ، دُونَ الْمُحْتَاجِينَ، وَتُعْتَبَرُ حَالَةُ الْخِصْبِ وَالرَّفَاهِيَةِ، دُونَ الْجَدَبِ وَالشِّدَّةِ. وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعَادَةِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ. وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: يَرْجِعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِلَى الْعَرَبِ الْمَوْجُودِينَ فِيهِ، فَإِنِ اسْتَطَابَتْهُ الْعَرَبُ، أَوْ سَمَّتْهُ بِاسْمِ حَيَوَانٍ حَلَالٍ فَهُوَ حَلَالٌ. وَإِنِ اسْتَخْبَثَتْهُ، أَوْ سَمَّتْهُ بَاسِمِ مُحَرَّمٍ فَحَرَامٌ. فَإِنِ اسْتَطَابَتْهُ طَائِفَةٌ، وَاسْتَخْبَثَتْهُ أُخْرَى اتَّبَعْنَا الْأَكْثَرِينَ. فَإِنِ اسْتَوَيَا، قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَأَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيِّ: تَتْبَعُ قُرَيْشَ؛ لِأَنَّهُمْ قُطْبُ الْعَرَبِ. فَإِنِ اخْتَلَفَتْ قُرَيْشٌ وَلَا تَرْجِيحَ، أَوْ شَكُّوا فَلَمْ يَحْكُمُوا بِشَيْءٍ، أَوْ لَمْ نَجِدْهُمْ وَلَا غَيْرَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ اعْتَبَرْنَاهُ بِأَقْرَبَ الْحَيَوَانِ شَبَهًا بِهِ. وَالشَّبَهُ تَارَةً يَكُونُ فِي الصُّورَةِ، وَتَارَةً فِي طَبْعِ الْحَيَوَانِ مِنَ الصِّيَانَةِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَارَةً فِي طَعْمِ اللَّحْمِ. فَإِنِ اسْتَوَى الشَّبَهَانِ، أَوْ لَمْ نَجِدْ مَا يُشْبِهُهُ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْحِلُّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْمَا يُرَاجِعُ الْعَرَبَ فِي حَيَوَانٍ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِتَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ، وَلَا أُمِرَ بِقَتْلِهِ، وَلَا نُهِيَ عَنْهُ. فَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ، اعْتَمَدْنَاهُ وَلَمْ نُرَاجِعْهُمْ قَطْعًا. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَشَرَاتِ كُلَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ، مَا يُدْرَجُ مِنْهَا وَمَا يَطِيرُ. فَمِنْهَا: ذَوَاتُ السُّمُومِ وَالْإِبَرِ. وَمِنْهَا: الْوَزَغُ وَأَنْوَاعُهَا، كَحِرْبَاءِ الظَّهِيرَةِ وَالْعِظَاءِ، وَهِيَ مَلْسَاءُ تُشْبِهُ سَامَّ

فصل

أَبْرَصَ، وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْهُ، الْوَاحِدَةُ عِظَاةٌ، وَعِظَايَةٌ، فَكُلُّ هَذَا حَرَامٌ. وَيَحْرُمُ الذَّرُّ وَالْفَأْرُ وَالذُّبَابُ وَالْخُنْفُسَاءُ وَالْقُرَادُ وَالْجُعَلَانُ وَبَنَاتُ وِرْدَانَ وَحِمَارُ قَبَّانَ وَالدِّيدَانُ. وَفِي دُودِ الْخَلِّ وَالْفَاكِهَةِ وَجْهٌ. وَتَحْرُمُ اللَّحْكَاءُ، وَهِيَ دُوَيْبَةٌ تَغُوصُ فِي الرَّمْلِ إِذَا رَأَتْ إِنْسَانًا. وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْحَشَرَاتِ الْيَرْبُوعُ وَالضَّبُّ وَكَذَا أُمُّ حَبِينَ؛ فَإِنَّهَا حَلَالٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَوَاتِ الْإِبَرِ الْجَرَادُ، فَإِنْهُ حَلَالٌ قَطْعًا، وَكَذَا الْقُنْفُذُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالصَّرَارَةُ حَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ كَالْخُنْفُسَاءِ. فَصْلٌ إِذَا وَجَدْنَا حَيَوَانًا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حُكْمِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا اسْتِطَابَةٍ، وَلَا اسْتِخْبَاثٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْأُصُولِ، وَثَبَتَ تَحْرِيمُهُ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَهَلْ يُسْتَصْحَبُ تَحْرِيمُهُ؟ قَوْلَانِ: الْأَظْهَرُ: لَا يُسْتَصْحَبُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، فَإِنِ اسْتَصْحَبْنَاهُ، فَشَرْطُهُ أَنْ يَثْبُتَ تَحْرِيمُهُ فِي شَرْعِهِمْ بِالْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ يَشْهَدَ بِهِ عَدْلَانِ أَسْلَمَا مِنْهُمْ يَعْرِفَانِ الْمُبَدَّلَ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ فِي «الْحَاوِي» : فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفُوا، اعْتُبِرَ حُكْمُهُ فِي أَقْرَبِ الشَّرَائِعِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهِيَ النَّصْرَانِيَّةُ. فَإِنِ اخْتَلَفُوا، عَادَ الْوَجْهَانِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ. فَصْلٌ يَحْرُمُ أَكْلُ نَجِسِ الْعَيْنِ وَالْمُتَنَجِّسِ كَالدِّبْسِ وَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَالدُّهْنِ. وَسَبَقَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَجْهٌ: أَنَّ الدُّهْنَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا غُسِلَ حَلَّ.

فَرْعٌ يُكْرَهُ أَكْلُ لَحْمِ الْجَلَّالَةِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي ذَكَرَهُ أَكْثَرُهُمْ، مِنْهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَفَّالُ: كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ. وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ. وَالْجَلَّالَةُ: هِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْعُذْرَةَ وَالنَّجَاسَاتِ، وَسَوَاءً كَانَتْ مِنَ الْإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ أَوِ الدَّجَاجِ. ثُمَّ قِيلَ: إِنْ كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ، فَهِيَ جَلَّالَةٌ. وَإِنْ كَانَ الطَّاهِرُ أَكْثَرَ فَلَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْكَثْرَةِ، بَلْ بِالرَّائِحَةِ وَالنَّتِنِ. فَإِنْ وُجِدَ فِي عَرَقِهَا وَغَيْرِهِ رِيحُ النَّجَاسَةِ، فَجَلَّالَةٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَقِيلَ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا وُجِدَتْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ بِتَمَامِهَا، أَوْ قَرُبَتِ الرَّائِحَةُ مِنَ الرَّائِحَةِ. فَإِنْ قُلْتَ الرَّائِحَةُ الْمَوْجُودَةُ، لَمْ تَضُرَّ. وَلَوْ حُبِسَتْ بَعْدَ ظُهُورِ النَّتَنِ، وَعُلِفَتْ طَاهِرًا فَزَالَتِ الرَّائِحَةُ، ثُمَّ ذُبِحَتْ، فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا. وَلَوْ لَمْ تُعْلَفْ، لَمْ يَزُلِ الْمَنْعُ بِغَسْلِ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَلَا بِالطَّبْخِ وَإِنْ زَالَتِ الرَّائِحَةُ بِهِ، وَكَذَا لَوْ زَالَتْ بِمُرُورِ الزَّمَانِ عِنْدَ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» . وَقِيلَ خِلَافُهُ. وَكَمَا يُمْنَعُ لَحْمُهَا، يُمْنَعُ لَبَنُهَا وَبَيْضُهَا، وَيُكْرَهُ الرُّكُوبُ عَلَيْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّاكِبِ حَائِلٌ. ثُمَّ قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إِذَا حَرَّمْنَا لَحْمَهَا فَهُوَ نَجِسٌ، وَيَطْهُرُ جِلْدُهَا بِالدِّبَاغِ، وَهَذَا يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْجِلْدِ أَيْضًا. وَهُوَ نَجِسٌ إِنْ ظَهَرَتِ الرَّائِحَةُ فِيهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَى الْأَصَحِّ، كَاللَّحْمِ. ثُمَّ ظُهُورُ النَّتَنِ وَإِنْ حَرَّمْنَا بِهِ اللَّحْمَ وَنَجَّسْنَاهُ، فَلَا نَجْعَلُهُ مُوجِبًا لِنَجَاسَةِ الْحَيَوَانِ فِي حَيَاتِهِ، بَلْ إِذَا حَكَمْنَا بِالتَّحْرِيمِ، كَانَ كَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ وَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ.

فصل

فَرْعٌ السَّخْلَةُ الْمُرَبَّاةُ بِلَبَنِ الْكَلْبَةِ، لَهَا حُكْمُ الْجَلَّالَةِ. وَلَا يَحْرُمُ الزَّرْعُ وَإِنْ كَثُرَ الزِّبْلُ وَسَائِرُ النَّجَاسَاتِ فِي أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا. قُلْتُ: وَإِذَا عَجَنَ دَقِيقًا بِمَاءٍ نَجِسٍ وَخَبَزَهُ، فَهُوَ نَجِسٌ يَحْرُمُ أَكْلُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَهُ لِشَاةٍ وَبَعِيرٍ وَنَحْوِهِمَا، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكَبِيرِ» فِي بَابِ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الدَّائِمِ عَنْ نَصِّهِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ. وَفِي فَتَاوَى صَاحِبِ «الشَّامِلِ» : أَنَّهُ يُكْرَهُ إِطْعَامُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ نَجَاسَةً. وَهَذَا لَا يُخَالِفُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَلَا يُكْرَهُ أَكْلُ الْبَيْضِ الْمَسْلُوقِ بِمَاءٍ نَجِسٍ، كَمَا لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِمَاءٍ سُخِّنَ بِالنَّجَاسَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الْحَيَوَانُ الْمَأْكُولُ، إِنْمَا يَحِلُّ إِذَا ذُبِحَ الذَّبْحَ الْمُعْتَبَرَ وَيُسْتَثْنَى السَّمَكُ، وَالْجَرَادُ، وَالْجَنِينُ الَّذِي يُوجَدُ مَيِّتًا فِي بَطْنِ الْمُذَكَّاةِ، فَإِنْهُ حَلَالٌ، سَوَاءً أَشَعَرَ أَمْ لَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ «الْفِرَقِ» : إِنْمَا يَحِلُّ إِذَا سَكَنَ فِي الْبَطْنِ عَقِيبَ ذَبْحِ الْأُمِّ، فَأَمَّا لَوْ بَقِيَ زَمَنًا طَوِيلًا يَضْطَرِبُ وَيَتَحَرَّكُ، ثُمَّ سَكَنَ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ حَرَامٌ. وَلَوْ خَرَجَ الْجَنِينُ فِي الْحَالِ وَبِهِ حَرَكَةُ الْمَذْبُوحِ حَلَّ. وَإِنْ خَرَجَ رَأْسُهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : لَا يَحِلُّ إِلَّا بِذَبْحِهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَحِلُّ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ بَعْضِ الْوَلَدِ كَعَدَمِ خُرُوجِهِ فِي «الْعُدَّةِ» وَغَيْرِهَا.

فصل

قُلْتُ: قَوْلُ الْقَفَّالِ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : لَوْ أَخْرَجَ رِجْلَهُ، فَقِيَاسُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي: أَنْ يَخْرُجَ لِيَحِلَّ، كَمَا لَوْ تَرَدَّى بِعِيرٌ فِي بِئْرٍ. وَلَوْ وُجِدَتْ مُضْغَةٌ لَمْ تَبِنْ فِيهَا الصُّورَةُ، وَلَا تَشَكُّلُ الْأَعْضَاءِ، فَفِي حِلِّهَا وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْغِرَّةِ فِيهَا، وَثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ. قُلْتُ: إِذَا ذَكَّى الْحَيَوَانَ وَلَهُ يَدٌ شَلَّاءُ، هَلْ تَحِلُّ بِالذَّكَاةِ أَمْ هِيَ مَيْتَةٌ؟ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ: الْحِلُّ. وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ كَسْبُ الْحَجَّامِ حَلَالٌ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: حَرَامٌ عَلَى الْأَحْرَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَهُ الْعَبِيدَ وَالدَّوَابَّ، وَهَذَا شَاذٌّ. وَلَا يُكْرَهُ أَكْلُ كَسْبِ الْحَجَّامِ لِلْعَبِيدِ، سَوَاءً كَسَبَهُ حُرٌّ أَمْ عَبْدٌ. وَيُكْرَهُ لِلْحُرِّ، سَوَاءً كَسَبَهُ حُرٌّ أَمْ عَبْدٌ. وَلِلْكَرَاهَةِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: مُخَالَطَةُ النَّجَاسَةِ. وَالثَّانِي: دَنَاءَتُهُ. فَعَلَى الثَّانِي: يُكْرَهُ كَسْبُ الْحَلَّاقِ وَنَحْوِهِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: يُكْرَهُ كَسْبُ الْكَنَّاسِ، وَالزَّبَّالِ، وَالدَّبَّاغِ، وَالْقَصَّابِ، وَالْخَاتِنِ. وَهَذَا الَّذِي أَطْلَقَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ. وَلَا يُكْرَهُ كَسْبُ الْفَاصِدِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي الْحَمَّامِيِّ وَالْحَائِكِ وَجْهَانِ: قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يُكْرَهُ كَسْبُ الْحَائِكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَرِهَ جَمَاعَةٌ كَسْبَ الصَّوَّاغِ.

فصل

فَرْعٌ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أُصُولُ الْمَكَاسِبِ: الزِّرَاعَةُ، وَالتِّجَارَةُ، وَالصَّنْعَةُ. وَأَيُّهَا أَطْيَبُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبٍ لِلنَّاسِ، أَشْبَهُهَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ التِّجَارَةَ أَطْيَبُ. قَالَ: وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي: أَنَّ الزِّرَاعَةَ أَطْيَبُ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّلِ. قُلْتُ: فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنْ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» . فَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَرْجِيحِ الزِّرَاعَةِ، وَالصَّنْعَةِ، لِكَوْنِهِمَا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، لَكِنَّ الزِّرَاعَةَ أَفْضَلُهُمَا؛ لِعُمُومِ النَّفْعِ بِهَا لِلْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ كُلُّ مَا ضَرَّ كَالزُّجَاجِ وَالْحَجَرِ وَالسُّمِّ يَحْرُمُ. وَكُلُّ طَاهِرٍ لَا ضَرَرَ فِيهِ، يَحِلُّ أَكْلُهُ، إِلَّا الْمُسْتَقْذَرَاتِ الطَّاهِرَةَ كَالْمَنِيِّ وَالْمُخَاطِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنْهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِلَّا الْحَيَوَانَ الَّذِي تَبْتَلِعُهُ حَيًّا، سِوَى السَّمَكِ وَالْجَرَادِ، فَإِنْهُ يَحْرُمُ قَطْعًا، وَكَذَا ابْتِلَاعُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ عَلَى وَجْهٍ كَمَا سَبَقَ. وَفِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الطَّهَارَةِ. وَيَجُوزُ شُرْبُ دَوَاءٍ فِيهِ قَلِيلُ سُمٍّ، إِذَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ، وَاحْتِيجَ إِلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ تَصَوَّرَ شَخْصٌ لَا يَضُرُّهُ أَكْلُ السُّمُومِ

الظَّاهِرَةِ، لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: النَّبَاتُ الَّذِي يُسْكِرُ وَلَيْسَ فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ، يَحْرُمُ أَكْلُهُ، وَلَا حَدَّ عَلَى آكِلِهِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّوَاءِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى السُّكْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ. وَمَا يُسْكِرُ مَعَ غَيْرِهِ وَلَا يُسْكِرُهُ بِنَفْسِهِ، إِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي دَوَاءٍ وَغَيْرِهِ حَرُمَ أَكْلُهُ. وَإِنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدَّوَاءِ حَلَّ التَّدَاوِي بِهِ. الْبَابُ الثَّانِي فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ فِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: لِلْمُضْطَرِّ إِذَا لَمْ يَجِدْ حَلَالًا، أَكَلَ الْمُحَرَّمَاتِ: كَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا. وَالْأَصَحُّ: وُجُوبُ أَكْلِهَا عَلَيْهِ، كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الْهَلَاكِ بِأَكْلِ الْحَلَالِ. وَالثَّانِي: يُبَاحُ فَقَطْ. الثَّانِيَةُ: فِي حَدِّ الضَّرُورَةِ، لَا خِلَافَ أَنَّ الْجُوعَ الْقَوِيَّ لَا يَكْفِي لِتَنَاوُلِ الْحَرَامِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِامْتِنَاعُ إِلَى أَنْ يُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ حِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُ. وَلَوِ انْتَهَى إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ، فَإِنْهُ غَيْرُ مُفِيدٍ. وَلَا خِلَافَ فِي الْحِلِّ إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ جُوعٍ أَوْ ضَعْفٍ عَنِ الْمَشْيِ أَوِ الرُّكُوبِ، وَيَنْقَطِعُ عَنْ رُفْقَتِهِ وَيَضِيعُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَلَوْ خَافَ حُدُوثَ مَرَضٍ مُخِيفٍ جِنْسُهُ، فَهُوَ كَخَوْفِ الْمَوْتِ. وَإِنْ خَافَ طُولَ الْمَرَضِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ أَوِ الْأَظْهَرِ. وَلَوْ عِيلَ صَبْرَهُ وَجُهْدَهُ الْجُوعُ فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ الْمُحَرَّمُ، أَمْ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَصِلَ إِلَى أَدْنَى الرَّمَقِ؟ قَوْلَانِ: قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا: الْحِلُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يُخَافُ مِنْهُ تَيَقُّنُ وُقُوعِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ، بَلْ يَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ.

الثَّالِثَةُ: يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ قَطْعًا، وَلَا تَحِلُّ الزِّيَادَةُ عَلَى الشِّبَعِ قَطْعًا. وَفِي حِلِّ الشِّبَعِ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْعُمْرَانِ لَمْ يَحِلَّ، وَإِلَّا فَيَحِلُّ. وَرَجَّحَ الْقَفَّالُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ الْمَنْعَ. وَرَجَّحَ صَاحِبُ «الْإِفْصَاحِ» وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ الْحِلَّ. هَكَذَا أَطْلَقَ الْخِلَافَ أَكْثَرُهُمْ. وَفَصَّلَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلًا حَاصِلُهُ: إِنْ كَانَ فِي بَادِيَةٍ وَخَافَ إِنْ تَرَكَ الشِّبَعَ لَا يَقْطَعُهَا وَيَهْلَكُ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَشْبَعُ. وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَتَوَقَّعَ الطَّعَامَ الْحَلَالَ قَبْلَ عَوْدِ الضَّرُورَةِ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ حُصُولُ طَعَامٍ حَلَالٍ، وَأَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَرَامِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، إِنْ لَمْ يَجِدِ الْحَلَالَ، فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. قُلْتُ: هَذَا التَّفْصِيلُ، هُوَ الرَّاجِحُ. وَالْأَصَحُّ مِنَ الْخِلَافِ: الِاقْتِصَارُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّدُ مِنَ الْمَيْتَةِ إِنْ لَمْ يُرْجَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَلَالِ. وَإِنْ رَجَاهُ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ: يَحْرُمُ. وَعَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّ مَنْ حَمَلَ الْمَيْتَةَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، لَمْ يَمْنَعْ مَا لَمْ يَتَلَوَّثْ بِالنَّجَاسَةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّزَوُّدِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَأَوْلَى. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: جَوَازُ التَّزَوُّدِ إِذَا رَجَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: إِذَا جَوَّزْنَا الشِّبَعَ، فَأَكَلَ مَا سَدَّ رَمَقَهُ، ثُمَّ وَجَدَ لُقْمَةً حَلَالًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمُحَرَّمِ حَتَّى يَأْكُلَهَا، فَإِذَا أَكَلَهَا هَلْ لَهُ الْإِتْمَامُ إِلَى الشِّبَعِ؟ وَجْهَانِ: وَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ بِاللُّقْمَةِ عَادَ إِلَى الْمَنْعِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى عَوْدِ الضَّرُورَةِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْجَوَازُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ: لَوْ لَمْ يَجِدِ الْمُضْطَرُّ إِلَّا طَعَامَ غَيْرِهِ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ مِنَ الْبَذْلِ،

فَهَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، أَمْ لَهُ الشِّبَعُ؟ فِيهِ طُرُقٌ أَصَحُّهَا: طَرْدُ الْخِلَافِ كَالْمَيْتَةِ. وَالثَّانِي: لَهُ الشِّبَعُ قَطْعًا. وَالثَّالِثُ: لَيْسَ لَهُ قَطْعًا. السَّابِعَةُ: الْمُحَرَّمُ الَّذِي يُضْطَرُّ إِلَى تَنَاوُلِهِ قِسْمَانِ، مُسْكِرٌ وَغَيْرُهُ، فَيُبَاحُ جَمِيعُهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِتْلَافٌ مَعْصُومٌ، فَيَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ قَتْلُ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَأَكْلُهُ قِطَعًا. وَكَذَا الزَّانِي الْمُحْصَنُ، وَالْمُحَارِبُ، وَتَارِكُ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمْ. وَلَوْ كَانَ لَهُ قِصَاصٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَوَجَدَهُ فِي حَالَةِ اضْطِرَارٍ، فَلَهُ قَتْلُهُ قِصَاصًا وَأَكْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ السُّلْطَانُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْحَرْبِيَّةُ وَصِبْيَانُ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِلْأَكْلِ وَجَوَّزَهُ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ. وَالْمَنْعُ مِنْ قَتْلِهِمْ، لَيْسَ لِحُرْمَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَلِهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِمْ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: قَوْلُ الْإِمَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالذِّمِّيُّ، وَالْمُعَاهِدُ، وَالْمُسْتَأْمِنُ، مَعْصُومُونَ، فَيَحْرُمُ أَكْلُهُمْ. وَلَا يَجُوزُ لِلْوَالِدِ قَتْلُ وَلَدِهِ لِلْأَكْلِ، وَلَا لِلسَّيِّدِ قَتْلُ عَبْدِهِ. وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا آدَمِيًّا مَعْصُومًا مَيِّتًا، فَالصَّحِيحُ حِلُّ أَكْلِهِ، قَالَ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ نَبِيًّا، فَلَا يَجُوزُ قَطْعًا. قَالَ فِي «الْحَاوِي» : فَإِذَا جَوَّزْنَا، لَا يَأْكُلُ مِنْهُ إِلَّا مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ؛ حِفْظًا لِلْحُرْمَتَيْنِ. قَالَ: وَلَيْسَ لَهُ طَبْخُهُ وَشَيِّهِ، بَلْ يَأْكُلُهُ نِيئًا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِذَلِكَ، وَطَبْخُهُ هَتْكٌ لِحُرْمَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَيْتَاتِ، فَإِنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُهَا نِيئَةً وَمَطْبُوخَةً. وَلَوْ كَانَ الْمُضْطَرُّ ذِمِّيًّا، وَالْمَيِّتُ مُسْلِمًا، فَهَلْ لَهُ أَكْلُهُ؟ حَكَى فِيهِ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَجْهَيْنِ: قُلْتُ: الْقِيَاسُ: تَحْرِيمُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وَجَدَ مَيْتَةً وَلَحْمَ آدَمِيٍّ، أَكَلَ الْمَيْتَةَ وَإِنْ كَانَتْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ. وَإِنْ وَجَدَ الْمُحَرَّمَ صَيْدًا وَلَحْمَ آدَمِيٍّ أَكَلَ الصَّيْدَ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ أَنْ يَقْطَعَ قِطْعَةً

مِنْ فَخْذِهِ أَوْ غَيْرِهَا لِيَأْكُلَهَا، فَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنْهُ كَالْخَوْفِ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ أَوْ أَشَدَّ حُرِّمَ، وَإِلَّا جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَجِدَ غَيْرَهُ. فَإِنْ وَجَدَ حُرِّمَ قَطْعًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَعْصُومِ غَيْرِهِ قَطْعًا، وَلَا لِلْغَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْمُضْطَرِّ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُسْكِرُ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شُرْبُ الْخَمْرِ لَا لِلتَّدَاوِي وَلَا لِلْعَطَشِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُمَا. وَقِيلَ لِهَذَا دُونَ ذَاكَ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ. فَإِذَا جَوَّزْنَا لِلْعَطَشِ، فَوَجَدَ خَمْرًا وَبَوْلًا شَرِبَ الْبَوْلَ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ أَخَفُّ. كَمَا لَوْ وَجَدَ بَوْلًا وَمَاءً نَجِسًا، شَرِبَ الْمَاءَ، لَأَنَّ نَجَاسَتَهُ طَارِئَةٌ. وَمَا سِوَى الْمُسْكِرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ كُلِّهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ. وَفِي جَوَازِ التَّبَخُّرِ بِالدَّنِّ الَّذِي فِيهِ خَمْرٌ وَجْهَانِ بِسَبَبِ دُخَّانِهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ دُخَانُ نَفْسِ النَّجَاسَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ: إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ طَعَامًا حَلَالًا لِغَيْرِهِ فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُ حَاضِرًا. فَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِهِ، وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَخْذُهُ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَفْضُلْ عَنْ حَاجَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، فَإِنْهُ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ بَذْلُهُ [لَهُ] ، فَإِنْ آثَرَ الْمَالِكُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَدْ أَحْسَنَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) . وَإِنْمَا يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ مُسْلِمًا. فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يُؤْثِرُهُ حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا، وَكَذَا لَا يُؤْثِرُ بَهِيمَةً عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالِكُ مُضْطَرًّا لَزِمَهُ إِطْعَامُ الْمُضْطَرِّ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمِنًا وَكَذَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ثَانِي الْحَالِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْخُذَهُ قَهْرًا أَوْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَتَى الْقِتَالُ عَلَى نَفْسِ الْمَالِكِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ. وَإِنْ قَتَلَ الْمَالِكُ الْمُضْطَرَّ فِي الدَّفْعِ عَنْ طَعَامِهِ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. وَإِنْ مَنْعَهُ الطَّعَامُ فَمَاتَ جُوعًا فَلَا ضَمَانَ. قَالَ فِي «الْحَاوِي» : وَلَوْ قِيلَ: يَضْمَنُ كَانَ مَذْهَبًا. وَهَلِ الْقَدْرُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى

الْمَالِكِ بَذْلُهُ، وَيَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَخَذُهُ قَهْرًا وَالْقِتَالُ [عَلَيْهِ] مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، أَمْ قَدْرُ الشِّبَعِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَلَالِ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ الْأَخْذُ قَهْرًا وَالْقِتَالُ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَجِبَ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: لَا يَجِبُ الْقِتَالُ، كَمَا لَا يَجِبُ دَفْعُ الصَّائِلِ وَأَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَخَصَّصَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» الْخِلَافَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَوْفٌ فِي الْأَخْذِ قَهْرًا. قَالَ: فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجِبْ قَطْعًا. فَرْعٌ حَيْثُ أَوْجَبْنَا عَلَى الْمَالِكِ بَذْلَهُ لِلْمُضْطَرِّ، فَفِي «الْحَاوِي» وَجْهٌ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ مَجَّانًا، وَلَا يَلْزَمُ الْمُضْطَرَّ شَيْءٌ، كَمَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ بِلَا شَيْءٍ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْبَذْلُ إِلَّا بِعِوَضٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إِذَا خَلَصَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ بِالْوُقُوعِ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ، فَإِنْهُ لَا تَثْبُتُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَلْزَمُهُ التَّخْلِيصُ، وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَى تَقْرِيرِ الْأُجْرَةِ، وَهُنَا بِخِلَافِهِ، وَسَوَّى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: إِنِ احْتَمَلَ الْحَالُ هُنَاكَ مُوَافَقَتَهُ عَلَى أُجْرَةٍ يَبْذُلُهَا أَوْ يَلْتَزِمُهَا لَمْ يَلْزَمْ تَخْلِيصُهُ حَتَّى يَلْتَزِمَهَا كَمَا فِي الْمُضْطَرِّ. وَإِنْ لَمْ يُحْتَمَلْ حَالُ التَّأْخِيرِ فِي صُورَةِ الْمُضْطَرِّ، فَأَطْعَمَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعِوَضُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ إِنْ بَذَلَ الْمَالِكُ طَعَامَهُ مَجَّانًا لَزِمَهُ قَبُولُهُ، وَيَأْكُلُهُ إِلَى أَنْ يَشْبَعَ، فَإِنْ بَذَلَهُ بِالْعِوَضِ نُظِرَ إِنْ لَمْ يُقَدِّرِ الْعِوَضَ لَزِمَ الْمُضْطَرَّ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَلَهُ أَنْ يَشْبَعَ، وَإِنْ قَدَّرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُفْرِدْ مَا يَأْكُلُهُ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ. وَإِنْ أَفْرَدَهُ فَإِنْ كَانَ الْمُقَدَّرُ ثَمَنَ الْمِثْلِ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَلِلْمُضْطَرِّ مَا فَضَلَ عَنِ الْأَكْلِ. وَإِنْ كَانَ

أَكْثَرَ وَالْتَزَمَهُ، فَفِيمَا يَلْزَمُهُ أَوْجُهٌ: أَقْيَسُهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ لَازِمٍ. وَأَصَحُّهَا عِنْدَ الرُّويَانِيِّ: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا ثَمَنُ الْمِثْلِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُكْرَهِ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ «الْحَاوِي» : إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْمُضْطَرِّ لِيَسَارِهِ لَزِمَتْهُ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَنْبَغِي لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَحْتَالَ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ؛ لِيَكُونَ الْوَاجِبُ الْقِيمَةَ قَطْعًا، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا يَلْزَمُ ثَمَنًا. لَكِنَّ الْوَجْهَ جَعَلُ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ لِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ، وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ هَلْ هُوَ مُكْرَهٌ أَمْ لَا؟ وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ، فَقَالَ: الشِّرَاءُ بِالثَّمَنِ الْغَالِي لِلضَّرُورَةِ، هَلْ يَجْعَلُهُ مَكْرُوهًا حَتَّى لَا يَصِحَّ الشِّرَاءُ؟ وَجْهَانِ أَقْيَسُهُمَا: صِحَّةُ الْبَيْعِ. قَالَ: وَكَذَا الْمُصَادَرُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ الظَّالِمِ إِذَا بَاعَ مَالَهُ لِلضَّرُورَةِ، وَلِدَفْعِ الْأَذَى الَّذِي يَنَالُهُ. وَالْأَصَحُّ: صِحَّةُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا إِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ، وَمَقْصُودُ الظَّالِمِ تَحْصِيلُ الْمَالِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ، وَاحْتَجَّ بِهِ لِوَجْهِ لُزُومِ الْمُسَمَّى فِي مَسْأَلَةِ الْمُضْطَرِّ. فَرْعٌ مَتَى بَاعَ الْمَالِكُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَمَعَ الْمُضْطَرِّ مَالٌ، لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ، وَصَرْفُ مَا مَعَهُ إِلَى الثَّمَنِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهُ إِزَارٌ فَقَطْ، لَزِمَهُ صَرْفُهُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَخَفِ الْهَلَاكَ بِالْبَرْدِ، وَيُصَلِّي عَارِيًا؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ أَخَفُّ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ. وَلِهَذَا يَجُوزُ أَخْذُ الطَّعَامِ قَهْرًا، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ سَاتِرِ الْعَوْرَةِ قَهْرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَالٌ، لَزِمَهُ الْتِزَامُهُ فِي ذِمَّتِهِ، سَوَاءً كَانَ لَهُ مَالٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَمْ لَا. وَيَلْزَمُ الْمَالِكَ فِي هَذَا الْحَالِ الْبَيْعُ نَسِيئَةً.

فَرْعٌ لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ الْأَخْذُ قَهْرًا إِذَا بَذَلَ الْمَالِكُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ. فَإِنْ طَلَبَ أَكْثَرَ، فَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ وَيَأْخُذَهُ قَهْرًا وَيُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ. فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِالزِّيَادَةِ مَعَ إِمْكَانِ أَخْذِهِ قَهْرًا فَهُوَ مُخْتَارٌ فِي الِالْتِزَامِ، فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى بِلَا خِلَافٍ. وَالْخِلَافُ السَّابِقُ إِنْمَا هُوَ فِيمَنْ عَجَزَ عَنِ الْأَخْذِ قَهْرًا. فَرْعٌ لَوْ أَطْعَمَهُ الْمَالِكُ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِبَاحَةِ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا عِوَضَ عَلَيْهِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ الْمُعْتَادَةِ فِي الطَّعَامِ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ: أَطْعَمْتُكَ بِعِوَضٍ فَقَالَ: بَلْ مَجَّانًا، فَهَلْ يَصْدُقُ الْمَالِكُ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِدَفْعِهِ، أَمِ الْمُضْطَرُّ لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ أَوْجَرَ الْمَالِكُ الْمُضْطَرَّ قَهَرًا، أَوْ أَوْجَرَهُ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْقِيمَةَ؟ وَجْهَانِ. أَحْسَنُهُمَا: يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّهُ خَلَّصَهُ مِنَ الْهَلَاكِ، كَمَنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. فَرْعٌ كَمَا يَجِبُ بَذْلُ الْمَالِ لِإِبْقَاءِ الْآدَمِيِّ الْمَعْصُومِ، يَجِبُ بَذْلُهُ لِإِبْقَاءِ الْبَهِيمَةِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلْغَيْرِ. وَلَا يَجِبُ الْبَذْلُ لِلْحَرْبِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ كَلْبٌ غَيْرُ عَقُورٍ جَائِعٌ وَشَاةٌ، لَزِمَهُ ذَبْحُ الشَّاةِ لِإِطْعَامِ الْكَلْبِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهَا، لِأَنَّهَا ذُبِحَتْ لِلْأَكْلِ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ غَائِبًا، فَيَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ طَعَامِهِ وَيَغْرَمُ لَهُ الْقِيمَةَ. وَفِي وُجُوبِ الْأَكْلِ وَقَدْرِ الْمَأْكُولِ مَا سَبَقَ مِنَ الْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، وَالْوَلِيُّ غَائِبٌ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ فِي مَالِهِمَا كَكَامِلِ الْحَالِ فِي مَالِهِ، وَهَذِهِ إِحْدَى الصُّوَرِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُ مَالِ الصَّبِيِّ نَسِيئَةً. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً، وَطَعَامَ الْغَيْرِ وَهُوَ غَائِبٌ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَيُقَالُ: أَقْوَالٌ، أَصَحُّهَا: يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ. وَالثَّانِي: الطَّعَامُ. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخِلَافِ فِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ. وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ حَاضِرًا، فَإِنْ بَذَلَهُ بِلَا عِوَضٍ، أَوْ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ بِزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا وَمَعَهُ ثَمَنُهُ، أَوْ رَضِيَ بِذِمَّتِهِ لَزِمَهُ الْقَبُولُ. وَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ كَبِيرَةٍ، فَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالطَّبَرِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَبْذُلْهُ أَصْلًا. وَإِذَا لَمْ يَبْذُلْهُ، لَا يُقَاتِلُهُ عَلَيْهِ الْمُضْطَرُّ إِنْ خَافَ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ خَافَ إِهْلَاكَ الْمَالِكِ فِي الْمُقَاتَلَةِ، بَلْ يَعْدُلُ إِلَى الْمَيْتَةِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ لِضَعْفِ الْمَالِكِ وَسُهُولَةِ دَفْعِهِ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِيمَا إِذَا كَانَ غَائِبًا. وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : يَشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ الْغَالِي، وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ. ثُمَّ يَجِيءُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى، أَوْ ثَمَنُ الْمِثْلِ؟ قَالَ: وَإِذَا لَمْ يَبْذُلْ أَصْلًا، وَقُلْنَا: طَعَامُ الْغَيْرِ أَوْلَى مِنَ الْمَيْتَةِ، يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُقَاتِلُهُ وَيَأْخُذُهُ قَهْرًا. الْعَاشِرَةُ: لَوِ اضْطُرَّ مُحْرِمٌ وَلَمْ يَجِدْ إِلَّا صَيْدًا، فَلَهُ ذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ، وَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ. وَإِنْ وَجَدَ صَيْدًا وَمَيْتَةً، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَكْلُ الْمِيتَةِ. وَفِي قَوْلٍ: الصَّيْدُ. وَفِي قَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ: يَتَخَيَّرُ. وَقِيلَ: يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ قَطْعًا. وَلَوْ وَجَدَ الْمُحْرِمُ لَحْمَ صَيْدٍ ذُبِحَ وَمَيْتَةً، فَإِنْ ذَبَحَهُ حَلَالٌ لِنَفْسِهِ، فَهَذَا مُضْطَرٌّ وَجَدَ مَيْتَةً، وَطَعَامَ الْغَيْرِ، وَإِنْ ذَبَحَهُ هَذَا الْمُحْرِمُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، فَهُوَ وَاجِدٌ طَعَامًا حَلَالًا لِنَفْسِهِ،

فَلَيْسَ مُضْطَرًّا. وَإِنْ ذَبَحَهُ فِي الْإِحْرَامِ، أَوْ ذَبَحَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: تَتَعَيَّنُ الْمَيْتَةُ. وَالثَّالِثُ: الصَّيْدُ. وَلَوْ وَجَدَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا، وَطَعَامَ الْغَيْرِ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ الصَّيْدُ، أَمِ الطَّعَامُ، أَمْ يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَوْ أَقْوَالٍ، سَوَاءً جَعَلْنَا الصَّيْدَ الَّذِي يَذْبَحُهُ الْمُحَرِمُ مَيْتَةً أَمْ لَا. وَإِنْ وَجَدَ صَيْدًا، وَمَيْتَةً، وَطَعَامَ الْغَيْرِ، فَسَبْعَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: تَتَعَيَّنُ الْمَيْتَةُ. وَالثَّانِي: الطَّعَامُ. وَالثَّالِثُ: الصَّيْدُ. وَالرَّابِعُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهَا. وَالْخَامِسُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالْمَيْتَةِ. وَالسَّادِسُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الصَّيْدِ وَالْمِيتَةِ. وَالسَّابِعُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الصَّيْدِ وَالطَّعَامِ. فَرْعٌ إِذَا لَمْ نَجْعَلْ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الصَّيْدِ مَيْتَةً، فَهَلْ عَلَى الْمُضْطَرِّ قِيمَةُ مَا يَأْكُلُ مِنْهُ؟ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ هَلْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَى الصَّيْدِ؟ الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: لَوْ وَجَدَ مَيْتَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولِ، دُونَ الْأُخْرَى أَوْ إِحْدَاهُمَا طَاهِرَةٌ فِي الْحَيَاةِ دُونَ الْأُخْرَى كَشَاةٍ وَحِمَارٍ أَوْ كَلْبٍ فَهَلْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، أَمْ تَتَعَيَّنُ الشَّاةُ؟ وَجْهَانِ: قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ تَرْكَ الْكَلْبِ، وَالتَّخْيِيرَ بَيْنَ الْبَاقِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَيْسَ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ حَتَّى يَتُوبَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا وَجَدَ مَعَ غَيْرِهِ طَعَامًا يَضُرُّهُ وَيَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، جَازَ لَهُ تَرْكُهُ وَأَكَلُ الْمَيْتَةِ، وَيَلْزَمُ مِثْلَهُ لَوْ كَانَ الطَّعَامُ لَهُ. وَعُدَّ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَا التَّدَاوِي كَمَا سَبَقَ. وَسَبَقَ أَيْضًا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، بَيَانُ الِانْتِفَاعِ بِالنَّجَاسَاتِ. وَلَوْ تَنَجَّسَ الْخُفُّ.

فصل

بِخَرَزِهِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، فَغَسَلَ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِتُرَابٍ، طَهَّرَ ظَاهِرَهُ دُونَ بَاطِنِهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْخَرَزِ. وَقِيلَ: كَانَ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ يُصَلِّي فِي الْخُفِّ النَّوَافِلَ دُونَ الْفَرَائِضِ، فَرَاجَعَهُ الْقَفَّالُ فِيهِ، فَقَالَ: الْأَمْرُ إِذَا ضَاقَ اتَّسَعَ، أَشَارَ إِلَى كَثْرَةِ النَّوَافِلِ. قُلْتُ: بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَتَعَذَّرُ أَوْ يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ مُطْلَقًا. وَإِنَّمَا كَانَ لَا يُصَلِّي فِيهِ الْفَرِيضَةَ احْتِيَاطًا لَهَا، وَإِلَّا فَمُقْتَضَى قَوْلِهِ الْعَفْوُ فِيهِمَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّفْلِ فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا تَأَوَّلْتُهُ، أَنَّ الْقَفَّالَ قَالَ فِي شَرْحِهِ «التَّلْخِيصِ» : سَأَلْتُ أَبَا زَيْدٍ عَنِ الْخُفِّ يُخَرَّزُ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ؟ فَقَالَ: الْأَمْرُ إِذَا ضَاقَ اتَّسَعَ، قَالَ الْقَفَّالُ: مُرَادُهُ أَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَى الْخَرْزِ بِهِ، فَلِلضَّرُورَةِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْأَطْعِمَةِ إِحْدَاهَا: قَالَ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ: وَرَدَتْ أَخْبَارٌ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الطِّينِ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ نَحْكُمَ بِالتَّحْرِيمِ إِنْ ظَهَرَتِ الْمَضَرَّةُ فِيهِ. قُلْتُ: قَطَعَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرُهُ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ التُّرَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الطَّعَامِ الْحَلَالِ فَوْقَ شِبَعِهِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَعِيبَ

الطَّعَامَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَسْفَلِ الصَّحْفَةِ، وَأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْفَرَاغِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ. الثَّالِثَةُ: إِذَا اسْتَضَافَ مُسْلِمٌ لَا اضْطِرَارَ بِهِ مُسْلِمًا، اسْتُحِبَّ لَهُ ضِيَافَتُهُ، وَلَا تَجِبُ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ، مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. الرَّابِعَةُ: مَنْ مَرَّ بِثَمَرِ غَيْرِهِ أَوْ زَرْعِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، وَلَا يَأْكُلَ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُضْطَرًّا، فَيَأْكُلَ وَيَضْمَنَ. وَحُكْمُ الثِّمَارِ السَّاقِطَةِ مِنَ الْأَشْجَارِ حُكْمُ سَائِرِ الثِّمَارِ إِنْ كَانَتْ دَاخِلَ الْجِدَارِ. فَإِنْ كَانَتْ خَارِجَهُ، فَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِإِبَاحَتِهَا، فَإِنْ جَرَتْ بِذَلِكَ، فَهَلْ تَجْرِي الْعَادَةُ الْمُطَّرِدَةُ مَجْرَى الْإِبَاحَةِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: تَجْرِي. وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ الْإِنْسَانِ مِنْ طَعَامِ قَرِيبِهِ وَصَدِيقِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَشَكَّكَ، فَحَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ. وَيُسْتَحَبُّ تَرْكُ التَّبَسُّطِ فِي الْأَطْعِمَةِ الْمُبَاحَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ السَّلَفِ، هَذَا إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، كَقِرَى الضَّيْفِ، وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَالِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ. وَالسُّنَّةُ: اخْتِيَارُ الْحُلْوِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَتَكْثِيرُ الْأَيْدِي عَلَى الطَّعَامِ، وَالتَّسْمِيَةُ فِي أَوَّلِهِ. فَإِنْ نَسِيَ وَتَرَكَهَا فِي أَوَّلِهِ، أَتَى بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ. وَيُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِهَا لِيُذَكِّرَ غَيْرَهُ، وَيُسْتَحَبُّ الْحَدِيثُ الْحَسَنُ عَلَى الْأَكْلِ، وَقَدْ بَقِيَتْ آدَابٌ تَتَعَلَّقُ بِالْأَكْلِ، أَخَّرْتُهَا إِلَى بَابِ الْوَلِيمَةِ لِكَوْنِهِ أَلْيَقَ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب النذر

كِتَابُ النَّذْرِ هُوَ الْتِزَامُ شَيْءٍ، وَفِيهِ فَصْلَانِ. أَحَدُهُمَا: فِي أَرْكَانِهِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: النَّاذِرُ، وَالْمَنْذُورُ، وَالصِّيغَةُ. الْأَوَّلُ: النَّاذِرُ. وَهُوَ كُلُّ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ، فَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَفِي نَذْرِ السَّكْرَانِ الْخِلَافُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ. وَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الْكَافِرِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ نَذْرُ الْقُرَبِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَا تَصِحُّ الْمَالِيَّةُ مِنَ السَّفِيهِ. وَأَمَّا الْمُفْلِسُ، فَإِنِ الْتَزَمَ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَالًا صَحَّ نَذْرُهُ، وَيُؤَدِّيهِ بَعْدَ قَضَاءِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ عَيَّنَ مَالًا بُنِيَ عَلَى مَا لَوْ أَعْتَقَ أَوْ وَهَبَ، هَلْ يُوقِفُ صِحَّةَ تَصَرُّفِهِ، أَمْ يَكُونُ بَاطِلًا؟ فَإِنْ أَبْطَلْنَاهُ فَكَذَا النَّذْرُ. وَإِنْ تَوَقَّفْنَا تَوَقَّفَ النَّذْرُ، قَالَهُ فِي التَّتِمَّةِ. قَالَ: وَلَوْ نَذَرَ عِتْقَ الْمَرْهُونِ انْعَقَدَ نَذْرُهُ. فَإِنْ نَفَّذْنَا عَتَقَهُ فِي الْحَالِ، أَوْ عِنْدَ أَدَاءِ الْمَالِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَمَنْ نَذَرَ إِعْتَاقَ مَنْ لَا يَمْلِكُهُ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الصِّيغَةُ. فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ إِلَّا بِاللَّفْظِ. وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: تَصِيرُ الشَّاةُ وَنَحْوُهَا هَدْيًا وَأُضْحِيَةً بِالنِّيَّةِ وَحْدَهَا، أَوْ بِهَا مَعَ التَّقْلِيدِ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ. ثُمَّ النَّذْرُ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: نَذْرُ التَّبَرُّرِ، وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: نَذْرُ الْمُجَازَاةِ، وَهُوَ أَنْ يَلْتَزِمَ قُرْبَةً فِي مُقَابَلَةِ حُدُوثِ نِعْمَةٍ، أَوِ انْدِفَاعِ

بَلِيَّةٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ رَزَقَنِي وَلَدًا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ إِعْتَاقٌ، أَوْ صَوْمٌ، أَوْ صَلَاةٌ. فَإِذَا حَصَلَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ. وَلَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ، وَلَمْ يَقُلْ: فَلِلَّهِ عَلَيَّ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي نِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَلْتَزِمَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ عَلَى شَيْءٍ، فَيَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ أَوْ أَصُومَ أَوْ أَعْتِقَ، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَصِحُّ، وَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. فَرْعٌ: لَوْ عَقَّبَ النَّذْرَ بِالْمَشِيئَةِ، فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا هُوَ فِي تَعْقِيبِ الْأَيْمَانِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعُقُودِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا إِنْ شَاءَ زَيْدٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَإِنْ شَاءَ زَيْدٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ فِعْلٍ، أَوْ يَحُثَّهَا عَلَيْهِ بِتَعْلِيقِ الْتِزَامِ قُرْبَةٍ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالتَّرْكِ. وَيُقَالُ فِيهِ: يَمِينُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ. وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: يَمِينُ الْغَلَقِ. وَيُقَالُ: نَذْرُ الْغَلَقِ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ - فَإِذَا قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا، أَوْ دَخَلْتُ الدَّارَ، أَوْ إِنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، أَوْ صَلَاةٌ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ، ثُمَّ كَلَّمَهُ، أَوْ دَخَلَ، أَوْ لَمْ يَخْرُجْ، فَفِيمَا يَلْزَمُهُ طُرُقٌ. أَشْهَرُهَا: عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَالرُّويَانِيُّ، وإِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ، وَالْمُوَفَّقُ بْنُ طَاهِرٍ، وَغَيْرُهُمْ - وُجُوبُ

الْكَفَّارَةِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالتَّخْيِيرِ. وَالثَّالِثُ: نَفْيُ التَّخْيِيرِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَالرَّابِعُ: الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّخْيِيرِ وَقَوْلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَنَفْيِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَالْخَامِسُ: الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَلُزُومِ الْوَفَاءِ، وَنَفْيِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْجَمِيعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَوَفَّى بِمَا الْتَزَمَ، لَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ كَانَ الْمُلْتَزَمُ مِنْ جِنْسِ مَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْكَفَّارَةِ تَقَعُ تَطَوُّعًا. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّخْيِيرِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَخُرِّجَ قَوْلٌ: إِنَّهُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِمَا خَاصَّةً؛ لِعِظَمِ أَمْرِهِمَا، كَمَا يَلْزَمَانِ بِالشُّرُوعِ. فَرْعٌ: إِذَا الْتَزَمَ عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ إِعْتَاقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: وَاجِبُهُ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ أَعْتَقَهُ كَيْفَ كَانَ. وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُجْزِئُ [فِي الْكَفَّارَةِ] فَلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ أَوْ يُعْتِقَ غَيْرَهُ، أَوْ يُطْعِمَ، أَوْ يَكْسُوَ. وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُجْزِئُ، وَاخْتَارَ الْإِعْتَاقَ، أَعْتَقَ غَيْرَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَتَخَيَّرُ، فَإِنِ اخْتَارَ الْوَفَاءَ، أَعْتَقَهُ كَيْفَ كَانَ، وَإِنِ اخْتَارَ التَّكْفِيرَ، اعْتَبَرَ فِي إِعْتَاقِهِ صِفَاتِ الْإِجْزَاءِ. وَإِنِ الْتَزَمَ إِعْتَاقَ عَبِيدِهِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْوَفَاءَ أَعْتَقَهُمْ. وَإِنْ أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ أَعْتَقَ وَاحِدًا، أَوْ أَطْعَمَ، أَوْ كَسَا. وَإِنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَعَ الْعِتْقُ إِذَا فَعَلَهُ بِلَا خِلَافٍ.

فَرْعٌ: لَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَعَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وإِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِنَا: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ. فَأَمَّا إِنْ أَوْجَبْنَا الْوَفَاءَ، فَيَلْزَمُهُ قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ، وَالتَّعْيِينُ إِلَيْهِ، وَلْيَكُنْ مَا يُعَيِّنُهُ مِمَّا يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ. وَعَلَى قَوْلِ التَّخْيِيرِ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَالْوَاجِبُ كَفَّارَةٌ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا. وَلَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ فَلِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينٌ فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِنَذْرٍ وَلَا صِيغَةِ يَمِينٍ، وَلَيْسَتِ الْيَمِينُ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِذَا فَعَلَهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَعَلَى هَذَا، فَالْوَجْهُ: أَنْ يُجْعَلَ كِنَايَةً وَيَرْجِعَ إِلَى نِيَّتِهِ. وَلَوْ قَالَ: نَذَرْتُ لِلَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ، فَهُوَ يَمِينٌ. وَإِنْ أَطْلَقَ فَوَجْهَانِ. وَلَوْ عَدَّدَ أَجْنَاسَ قُرَبٍ، فَقَالَ: إِنْ دَخَلْتُ فَعَلَيَّ حَجٌّ، وَعِتْقٌ، وَصَدَقَةٌ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْوَفَاءَ، لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ، وَإِنْ أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ، لَزِمَهُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ احْتِمَالٌ فِي تَعَدُّدِهَا. وَلَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَدْخَلَ الدَّارَ الْيَوْمَ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَكِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَوَاللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّكِ حَتَّى إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ التَّطْلِيقِ، لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ آكُلَ الْخُبْزَ، فَدَخَلَهَا، لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: هُوَ لَغْوٌ.

فَرْعٌ: لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ، وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: أَنَّهُ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِصِيغَةِ الْتِزَامٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي، فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ. وَالثَّالِثُ: يَصِيرُ مَالُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ صَدَقَةً، كَمَا لَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَةً. وَقَالَ فِي التَّتِمَّةِ: إِنْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنَ اللَّفْظِ فِي عُرْفِهِمْ مَعْنَى النَّذْرِ، أَوْ نَوَاهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي أَوْ أُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِلَّا فَلَغْوٌ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا، أَوْ فَعَلْتُ كَذَا، فَمَالِي صَدَقَةٌ، فَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي، أَوْ بِجَمِيعِ مَالِي. وَطَرِيقُ الْوَفَاءِ: أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ. وَإِذَا قَالَ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ عَلَى الْغُزَاةِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ: يَخْرُجُ هَذَا عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَالْمُعْتَمَدُ، مَا نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَهُ الْجُمْهُورُ. فَرْعٌ: الصِّيغَةُ قَدْ تَتَرَدَّدُ، فَتَحْتَمِلُ نَذْرَ التَّبَرُّرِ، وَتَحْتَمِلُ نَذْرَ اللَّجَاجِ، فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى قَصْدِ الشَّخْصِ وَإِرَادَتِهِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، بِأَنَّهُ فِي نَذْرِ التَّبَرُّرِ يَرْغَبُ فِي السَّبَبِ، وَهُوَ شِفَاءُ الْمَرِيضِ مَثَلًا بِالْتِزَامِ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ الْقُرْبَةُ الْمُسَمَّاةُ. وَفِي اللَّجَاجِ يَرْغَبُ عَنِ السَّبَبِ لِكَرَاهَتِهِ الْمُلْتَزَمَ. وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي ضَبْطِهِ، أَنَّ الْفِعْلَ إِمَّا طَاعَةٌ

وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ، وَإِمَّا مُبَاحٌ. وَالِالْتِزَامُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، تَارَةً يُعَلَّقُ بِالْإِثْبَاتِ، وَتَارَةً بِالنَّفْيِ. أَمَّا الطَّاعَةُ، فَفِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ يُتَصَوَّرُ نَذْرُ التَّبَرُّرِ، بِأَنْ يَقُولَ: إِنْ صَلَّيْتُ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ، مَعْنَاهُ: إِنْ وَفَّقَنِي اللَّهُ لِلصَّلَاةِ، صُمْتُ. فَإِذَا وُفِّقَ لَهَا، لَزِمَهُ الصَّوْمُ. وَيُتَصَوَّرُ اللَّجَاجُ، بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: صَلِّ، فَيَقُولُ: لَا أُصَلِّي، وَإِنْ صَلَّيْتُ فَعَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ عِتْقٌ، فَإِذَا صَلَّى، فَفِيمَا يَلْزَمُهُ الْأَقْوَالُ وَالطُّرُقُ السَّابِقَةُ. وَأَمَّا فِي طَرَفِ النَّفْيِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ نَذْرُ التَّبَرُّرِ؛ لِأَنَّهُ لَا بِرَّ فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ، وَيَدْخُلُهُ اللَّجَاجُ، بِأَنْ يُمْنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَيَقُولُ: إِنْ لَمْ أُصَلِّ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا، فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ، فَفِيمَا يَلْزَمُهُ الْأَقْوَالُ. وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَفِي طَرَفِ النَّفْيِ يُتَصَوَّرُ نَذْرُ التَّبَرُّرِ، بِأَنْ يَقُولَ: إِنْ لَمْ أَشْرَبِ الْخَمْرَ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا، وَيَقْصِدُ: إِنْ عَصَمَنِي اللَّهُ مِنَ الشُّرْبِ. وَيُتَصَوَّرُ نَذْرُ اللَّجَاجِ بِأَنْ يُمْنَعَ مِنْ شُرْبِهَا، وَيَقُولَ: إِنْ لَمْ أَشْرَبْهَا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ صَلَاةٌ. وَفِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا اللَّجَاجُ، بِأَنْ يُؤْمَرَ بِالشُّرْبِ، فَيَقُولُ: إِنْ شَرِبْتُ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا. وَأَمَّا الْمُبَاحُ، فَيُتَصَوَّرُ فِي طَرَفَيِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِ النَّوْعَانِ مَعًا. فَالتَّبَرُّرُ فِي الْإِثْبَاتِ: إِنْ أَكَلْتُ كَذَا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ، يُرِيدُ: إِنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِي. وَاللَّجَاجُ، أَنْ يُؤْمَرَ بِأَكْلِهِ فَيَقُولَ: إِنْ أَكَلْتُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا. وَالتَّبَرُّرُ فِي النَّفْيِ: إِنْ لَمْ آكُلْ كَذَا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ، يُرِيدُ: إِنْ أَعَانَنِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَسْرِ شَهْوَتِي فَتَرَكْتُهُ. وَاللَّجَاجُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ أَكْلِهِ فَيَقُولَ: إِنْ لَمْ آكُلْهُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا. وَإِنْ قَالَ: إِنْ رَأَيْتُ فُلَانًا، فَعَلَيَّ صَوْمٌ. فَإِنْ أَرَادَ: إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ رُؤْيَتَهُ، فَهُوَ نَذْرُ تَبَرُّرٍ. وَإِنْ ذَكَرَهُ لِكَرَاهَتِهِ رُؤْيَتَهُ، فَهُوَ لَجَاجٌ. وَفِي الْوَسِيطِ وَجْهٌ فِي مَنْعِ التَّبَرُّرِ فِي الْمُبَاحِ.

فَرْعٌ: لَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَعَلَيَّ كَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى. فَرْعٌ: لَوْ قَالَ: أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ لَازِمَةٌ لِي - قَالَ أَصْحَابُنَا: كَانَتِ الْبَيْعَةُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُصَافَحَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْحَجَّاجُ، رَتَّبَهَا أَيْمَانًا تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الطَّلَاقِ، وَالْإِعْتَاقِ، وَالْحَجِّ، وَصَدَقَةِ الْمَالِ - فَإِنْ يُرِدِ الْقَائِلُ الْأَيْمَانَ الَّتِي رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَإِنْ أَرَادَهَا نُظِرَ إِنْ قَالَ: فَطَلَاقُهَا وَعِتَاقُهَا لَازِمٌ لِي وَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ بِهِمَا وَلَا حَاجَةَ إِلَى النِّيَّةِ. وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِهِمَا، لَكِنْ نَوَاهُمَا، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا يَنْعَقِدَانِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ. وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرُ حَجٍّ إِنْ شَاءَ فُلَانٌ، فَشَاءَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: هَذَا إِذَا غَلَّبْنَا فِي اللَّجَاجِ مَعْنًى فِي النَّذْرِ. فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ يَمِينٌ، فَهُوَ كَمَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ زَيْدٌ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا إِنْ شَاءَ فُلَانٌ أَنْ لَا أَدْخُلَهَا. فَإِنْ شَاءَ فُلَانٌ، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عِنْدَ الْمَشِيئَةِ، وَإِلَّا فَلَا.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَنْذُورُ. الْمُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ: مَعْصِيَةٌ، أَوْ طَاعَةٌ، أَوْ مُبَاحٌ. فَالْمَعْصِيَةُ، كَنَذْرِ شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوِ الزِّنَا، أَوِ الْقَتْلِ، أَوِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْحَدَثِ، أَوِ الصَّوْمِ فِي حَالِ الْحَيْضِ، أَوِ الْقِرَاءَةِ حَالَ الْجَنَابَةِ، أَوْ نَذْرِ ذَبْحِ نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ الْمَعْصِيَةَ الْمَنْذُورَةَ، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ. وَحَكَى الرَّبِيعُ قَوْلًا فِي وُجُوبِهَا. وَاخْتَارَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ لِلْحَدِيثِ: لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ نَذْرُ اللَّجَاجِ. قَالُوا: وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ مِنْ كِيسِهِ. وَحَكَى بَعْضُهُمُ الْخِلَافَ وَجْهَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ، ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِنَّمَا صَحَّ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الطَّاعَةُ فَأَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: الْوَاجِبَاتُ، فَلَا يَصِحُّ نَذْرُهَا؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ، فَلَا مَعْنَى لِالْتِزَامِهَا، وَذَلِكَ كَنَذْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَكَذَا لَوْ نَذَرَ أَنْ لَا يَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَلَا يَزْنِيَ. وَسَوَاءٌ عَلَّقَ ذَلِكَ بِحُصُولِ نِعْمَةٍ، أَوِ الْتَزَمَهُ ابْتِدَاءً.

وَإِذَا خَالَفَ مَا ذَكَرَهُ، فَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ مَا سَبَقَ فِي قِسْمِ الْمَعْصِيَةِ. وَادَّعَى صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» أَنَّ الظَّاهِرَ هُنَا وُجُوبُهَا. النَّوْعُ الثَّانِي: الْعِبَادَاتُ الْمَقْصُودَةُ، وَهِيَ الَّتِي شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا. وَعُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ الِاهْتِمَامُ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ إِيقَاعَهَا عِبَادَةً، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالِاعْتِكَافِ وَالْعِتْقِ، فَهَذِهِ تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفُرُوضُ الْكِفَايَةِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِي أَدَائِهَا إِلَى بَذْلِ مَالٍ أَوْ مُقَاسَاةِ مَشَقَّةٍ، تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ أَيْضًا، كَالْجِهَادِ وَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى. وَيَجِيءُ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَذْرِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَجْهُ: أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ. وَعَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْجِهَادَ، لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ بَذْلُ مَالٍ، وَلَا كَبِيرُ مَشَقَّةٍ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لُزُومُهَا بِالنَّذْرِ أَيْضًا. فَرْعٌ: كَمَا يَلْزَمُ أَصْلُ الْعِبَادَةِ بِالنَّذْرِ، يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالصِّفَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ فِيهَا إِذَا شُرِطَتْ فِي النَّذْرِ، كَمَنَ شَرَطَ فِي الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ إِطَالَةَ الْقِيَامِ، أَوِ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ. أَوْ شَرَطَ الْمَشْيَ فِي الْحَجَّةِ الْمُلْتَزَمَةِ إِذَا قُلْنَا: الْمَشْيُ فِي الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنَ الرُّكُوبِ، فَلَوْ أُفْرِدَتِ الصِّفَةُ بِالنَّذْرِ، وَالْأَصْلُ وَاجِبٌ شَرْعًا، كَتَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الْفَرَائِضِ، أَوْ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصُّبْحِ مَثَلًا سُورَةَ كَذَا، أَوْ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ فِي جَمَاعَةٍ، فَالْأَصَحُّ: لُزُومُهَا؛ لِأَنَّهَا طَاعَةٌ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِئَلَّا تُغَيَّرَ عَمَّا وَضَعَهَا الشَّرْعُ عَلَيْهِ. وَلَوْ نَذَرَ فِعْلَ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، كَالْوِتْرِ، وَسُنَّةِ الْفَجْرِ، وَالظُّهْرِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا، وَبِهِ قُطِعَ فِي الْوَجِيزِ، وَنَقَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَلَهُ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ يُبْطِلُ رُخْصَةَ الشَّرْعِ. وَالثَّانِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَصَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» : انْعِقَادُهُ وَلُزُومُ الْوَفَاءِ كَسَائِرِ الْمُسْتَحَبَّاتِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ، فِيمَنْ نَذَرَ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ

فِي السَّفَرِ، إِذَا قُلْنَا: الْإِتْمَامُ أَفْضَلُ. وَيَجْرِيَانِ فِيمَنْ نَذَرَ الْقِيَامَ فِي النَّوَافِلِ، أَوِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ، أَوِ التَّثْلِيثِ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ، أَوْ أَنْ يَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ عِنْدَ مُقْتَضَيْهِمَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَعَلَى مَسَاقِ الْوَجْهِ، لَوْ نَذَرَ الْمَرِيضُ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ وَتَكَلُّفَ الْمَشَقَّةِ، أَوْ نَذَرَ صَوْمًا، وَشَرَطَ أَنْ لَا يُفْطِرَ بِالْمَرَضِ، لَمْ يَلْزَمِ الْوَفَاءُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ لَا يَزِيدُ عَلَى الْوَاجِبِ شَرْعًا، وَالْمَرَضَ مُرَخِّصٌ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْقُرُبَاتُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً، وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالٌ وَأَخْلَاقٌ مُسْتَحْسَنَةٌ رَغَّبَ الشَّرْعُ فِيهَا لِعِظَمِ فَائِدَتِهَا. وَقَدْ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُنَالُ الثَّوَابُ فِيهَا، كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَزِيَارَةِ الْقَادِمِينَ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. وَفِي لُزُومِهَا بِالنَّذْرِ، وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: اللُّزُومُ. وَيَلْزَمُ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ بِالنَّذْرِ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: لَوْ نَذَرَ الِاغْتِسَالَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، وَلْيَبْنِ هَذَا عَلَى أَنَّ تَجْدِيدَ الْغُسْلِ، هَلْ يُسْتَحَبُّ؟ قَالَ: وَلَوْ نَذَرَ الْوُضُوءَ، انْعَقَدَ نَذْرُهُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْوُضُوءِ عَنْ حَدَثٍ، بَلْ بِالتَّجْدِيدِ. قُلْتُ: جَزَمَ أَيْضًا بِانْعِقَادِ نَذْرِ الْوُضُوءِ، الْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يَخْرُجُ عَنِ النَّذْرِ إِلَّا بِالتَّجْدِيدِ، مَعْنَاهُ: بِالتَّجْدِيدِ حَيْثُ يُشْرَعُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى بِالْأَوَّلِ صَلَاةً مَا، عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، لَزِمَ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَإِذَا تَوَضَّأَ لَهَا عَنْ حَدَثٍ، لَا يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ لَهَا ثَانِيًا، بَلْ يَكْفِي الْوُضُوءُ الْوَاحِدُ عَنْ وَاجِبَيِ الشَّرْعِ وَالنَّذْرِ. قَالَ: وَلَوْ نَذَرَ التَّيَمُّمَ، لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى الْمَذْهَبِ. قَالَ: وَلَوْ نَذَرَ أَنْ لَا يَهْرُبَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى مُقَاوَمَتِهِمْ، انْعَقَدَ نَذْرُهُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ انْكِفَافٌ قَطُّ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَكْرُوهًا، لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي شَوَّالٍ، أَوْ مِنْ بَلَدِ كَذَا، لَزِمَهُ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَأَمَا الْمُبَاحُ فَالَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَرْغِيبٌ، كَالْأَكْلِ، وَالنَّوْمِ، وَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، فَلَوْ نَذَرَ فِعْلَهَا أَوْ تَرْكَهَا، لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَقَدْ يَقْصِدُ بِالْأَكْلِ التَّقَوِّيَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَبِالنَّوْمِ النَّشَاطَ عِنْدَ التَّهَجُّدِ، فَيَنَالُ الثَّوَابَ، لَكِنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَالثَّوَابُ يَحْصُلُ بِالْقَصْدِ الْجَمِيلِ. وَهَلْ يَكُونُ نَذْرُ الْمُبَاحِ يَمِينًا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ؟ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي نَذْرِ الْمَعَاصِي وَالْفَرْضِ. وَقَطَعَ الْقَاضِي بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْمُبَاحِ، وَذَكَرَ فِي الْمَعْصِيَةِ وَجْهَيْنِ، وَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِاللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُهُ. وَالصَّوَابُ فِي كَيْفِيَّةِ الْخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ. فَرْعٌ: لَوْ نَذَرَ الْجِهَادَ فِي جِهَةٍ بِعَيْنِهَا، فَفِي تَعْيِينِهَا أَوْجُهٌ. قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: يَتَعَيَّنُ، لِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: لَا يَتَعَيَّنُ، بَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يُجَاهِدَ فِي جِهَةٍ أَسْهَلَ وَأَقْرَبَ مِنْهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ الْأَعْدَلُ، لَا يَتَعَيَّنُ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الَّتِي يُجَاهِدُ فِيهَا كَالْمُعَيَّنَةِ فِي الْمَسَافَةِ وَالْمُؤْنَةِ، وَتُجْعَلُ مَسَافَاتُ الْجِهَاتِ كَمَسَافَاتِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ. فَرْعٌ: يُشْتَرَطُ فِي الْقُرْبَةِ الْمَالِيَّةِ، كَالصَّدَقَةِ، وَالتَّضْحِيَةِ، وَالْإِعْتَاقِ، أَنْ يَلْتَزِمَهَا فِي الذِّمَّةِ، أَوْ يُضِيفَ إِلَى مُعَيَّنٍ يَمْلِكُهُ. فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ قَطْعًا، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ فِي لُزُومِهَا وَجْهَيْنِ، وَهُوَ شَاذٌّ. قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: لَوْ قَالَ: إِنْ مَلَكْتُ عَبْدًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَهُ، انْعَقَدَ نَذْرُهُ. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي،

، فَكُلُّ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ، أَوْ فَعَبْدُ فُلَانٍ حُرٌّ إِنْ مَلَكْتُهُ، لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمِ التَّقَرُّبَ بِقُرْبَةٍ، لَكِنَّهُ عَلَّقَ الْحُرِّيَّةَ بَعْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ بِشَرْطٍ، وَلَيْسَ هُوَ مَالِكًا فِي حَالِ التَّعْلِيقِ، فَلَغَا، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ مَلَكْتُ عَبْدًا أَوْ عَبْدَ فُلَانٍ، فَهُوَ حُرٌّ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ قَطْعًا. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَعَبْدِي حُرٌّ إِنْ دَخَلَ الدَّارَ، انْعَقَدَ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ، وَقَدْ عَلَّقَهُ بِصِفَتَيْنِ، الشِّفَاءِ، وَالدُّخُولِ. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَشْتَرِيَ عَبْدًا وَأَعْتِقَهُ، انْعَقَدَ. فَرْعٌ: قَالَ: فِي «التَّهْذِيبِ» فِي بَابِ الِاسْتِسْقَاءِ: لَوْ نَذَرَ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ، لَزِمَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِي النَّاسِ وَيُصَلِّيَ بِهِمْ. وَلَوْ نَذَرَهُ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ، لَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا. وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِالنَّاسِ، لَمْ يَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُطِيعُونَهُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَخْطُبَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ، لَزِمَهُ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَخْطُبَ قَاعِدًا مَعَ اسْتِطَاعَتِهِ الْقِيَامَ؟ فِيهِ خِلَافٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ. فَرْعٌ: سُئِلَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَتَاوِيهِ عَمَّا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: إِنْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهَبَكَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا النَّذْرُ، أَمْ لَا؟ وَإِنْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ، هَلْ يَلْزَمُهُ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، وَهَذَا مُبَاحٌ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، إِلَّا إِذَا نُقِلَ مَذْهَبٌ مُعْتَبَرٌ فِي لُزُومِ ذَلِكَ النَّذْرِ.

فَرْعٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ نَذَرَ أَنْ يَكْسُوَ يَتِيمًا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ نَذْرِهِ بِالْيَتِيمِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ فِي الشَّرْعِ لِلْمُسْلِمِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَسْلُكُ بِالنَّذْرِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ، أَوْ جَائِزِهِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ إِعْتَاقَ رَقَبَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ النَّذْرِ إِذَا صَحَّ النَّذْرُ، لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ: مُقْتَضَى أَلْفَاظِ الِالْتِزَامِ. وَالْمُلْتَزَمَاتُ أَنْوَاعٌ. الْأَوَّلُ: الصَّوْمُ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْتَزَامَهُ، فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ، أَوْ أَنْ أَصُومَ، لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمٍ. وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ يَكْفِيهِ إِمْسَاكُ بَعْضِ يَوْمٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّذْرَ يُنَزَّلُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَصِحُّ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَنَّ إِمْسَاكَ بَعْضِ الْيَوْمِ صَوْمٌ، وَسَنَذْكُرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ أَيَّامٍ وَقَدَّرَهَا، فَذَاكَ. وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْأَيَّامِ، لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ. وَلَوْ قَالَ: أَصُومُ دَهْرًا أَوْ حِينًا، كَفَاهُ صَوْمُ يَوْمٍ.

فَرْعٌ: هَلْ يَجِبُ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ، أَمْ تَكْفِي نِيَّتُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ؟ يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا الْتَزَمَ عِبَادَةً بِالنَّذْرِ وَأَطْلَقَهَا، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُنَزَّلُ نَذْرُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَأْخُوذَانِ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أَحَدُهُمَا: يُنَزَّلُ عَلَى أَقَلِّ وَاجِبٍ مِنْ جِنْسِهِ يَجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ، فَجُعِلَ كَوَاجِبٍ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً. وَالثَّانِي: يُنَزَّلُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَصِحُّ مِنْ جِنْسِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: عَلَى أَقَلِّ جَائِزِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ النَّاذِرِ لَا يَقْتَضِي الْتِزَامَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَهَذَا الثَّانِي، أَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، فَقَدْ صَحَّحَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، والرُّويَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَوْجَبْنَا التَّبْيِيتَ، وَإِلَّا، جَوَّزْنَاهُ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ، هَذَا إِذَا أَطْلَقَ نَذْرَ الصَّوْمِ. فَأَمَّا إِذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ، فَصِحَّتُهُ بِنِيَّةِ النَّهَارِ مَعَ التَّنْزِيلِ عَلَى أَقَلِّ مَا يَصِحُّ، تَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ إِذَا نَوَاهُ نَهَارًا، هَلْ يَكُونُ صَائِمًا مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ، أَمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي بَابِهِ. وَالْأَصَحُّ: الثَّانِي. فَإِنْ قُلْنَا بِهِ، صَحَّ صَوْمُ النَّاذِرِ بِنِيَّةِ النَّهَارِ، وَإِلَّا، وَجَبَ التَّبْيِيتُ. وَيَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَنْزِيلِ النَّذْرِ، مَسَائِلُ: مِنْهَا: لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ وَأَطْلَقَ، إِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي، فَرَكْعَةٌ، وَإِلَّا، فَرَكْعَتَانِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَمِنْهَا: جَوَازُ الصَّلَاةِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَيْهِمَا. فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا، جَازَ الْقُعُودُ قَطْعًا، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِنَذْرِ رَكْعَةٍ، أَجْزَأَتْهُ قَطْعًا. فَإِنْ صَلَّى قَائِمًا، فَهُوَ أَفْضَلُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا، لَزِمَهُ الْقِيَامُ قَطْعًا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِتَشَهُّدٍ أَوْ بِتَشَهُّدَيْنِ، قَطَعَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» بِجَوَازِهِ. وَفِي التَّتِمَّةِ: فِيهِ وَجْهَانِ. وَيُمْكِنُ بِنَاؤُهُ عَلَى

الْأَصْلِ السَّابِقِ: إِنْ نَزَّلْنَا عَلَى وَاجِبِ الشَّرْعِ، لَمْ يُجْزِئْهُ كَمَا لَوْ صَلَّى الصُّبْحَ أَرْبَعًا، وَإِلَّا، أَجْزَأَهُ. وَإِنْ نَذَرَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَإِنْ نَزَّلْنَا عَلَى وَاجِبِ الشَّرْعِ، أَمَرْنَاهُ بِتَشَهُّدَيْنِ. فَإِنْ تَرَكَ الْأَوَّلَ، سَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِتَسْلِيمَتَيْنِ. وَإِنْ نَزَّلْنَا عَلَى الْجَائِزِ. تَخَيَّرَ، إِنْ شَاءَ أَدَّاهَا بِتَشَهُّدٍ، وَإِنْ شَاءَ بِتَشَهُّدَيْنِ. وَيَجُوزُ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَجُوزُ بِتَسْلِيمَتَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَاقِي الْمَسَائِلِ الْمُخَرَّجَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عَلَيْهِ، وُقُوعُ الصَّلَاةِ مَثْنَى، وَزِيَادَةُ فَضْلِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ، لَمْ يَجُزْ فِعْلُهُمَا عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَلَوْ نَذَرَ فِعْلَهُمَا عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَلَهُ فِعْلُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ مُسْتَقْبِلًا. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى أَيِّهِمَا يَحْصُلُ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَأَمَّا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ، فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ، بَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدَانَقٍ وَدُونَهُ مِمَّا يُتَمَوَّلُ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ فِي الزَّكَاةِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، بَلْ تَكُونُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَفِي الْخُلْطَةِ. وَمِنْهَا: إِذَا نَذَرَ إِعْتَاقَ رَقَبَةٍ، فَإِنْ نَزَّلْنَا عَلَى وَاجِبِ الشَّرْعِ، لَزِمَهُ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ سَلِيمَةٌ، وَإِلَّا، أَجْزَأَهُ كَافِرَةٌ مَعِيبَةٌ. قَالَ الدَّارَكِيُّ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الثَّانِي. مِنْهُمُ الْمَحَامِلِيُّ، وَصَاحِبَا «التَّنْبِيهِ» وَ «الْمُسْتَظْهَرِيُّ» ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الدَّلِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ قَيَّدَ، فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَلِيمَةٍ، لَمْ تُجْزِئْهُ الْكَافِرَةُ وَلَا الْمَعِيبَةُ قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ: كَافِرَةٍ، أَوْ مَعِيبَةٍ، أَجْزَأَتْهُ قَطْعًا. وَلَوْ أَعْتَقَ مُسْلِمَةً، أَوْ سَلِيمَةً، فَقِيلَ: لَا تُجْزِئُهُ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهَا أَكْمَلُ، وَذِكْرُ الْكُفْرِ وَالْعَيْبِ، لَيْسَ لِلتَّقَرُّبِ، بَلْ لِجَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّاقِصِ، فَصَارَ كَمَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِحِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ، يَجُوزُ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالْجَيِّدَةِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ هَذَا الْكَافِرَ، أَوِ الْمَعِيبَ، لَمْ يُجْزِئْهُ غَيْرُهُ،

فصل

لِتَعَلُّقِ النَّذْرِ بِعَيْنِهِ. أَمَّا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ، فَلَيْسَ جِنْسُ الِاعْتِكَافِ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِهِ وَجْهَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ اللَّبْثُ، أَمْ يَكْفِي الْمُرُورُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ النِّيَّةِ؟ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ لَبْثٍ، وَيُخْرِجُ عَنِ النَّذْرِ بِلَبْثِ سَاعَةٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْكُثَ يَوْمًا. وَإِنِ اكْتَفَيْنَا بِالْمُرُورِ، فَلِلْإِمَامِ فِيهِ احْتِمَالَانِ. أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ لَبْثٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِاعْتِكَافِ يُشْعِرُ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا، حَمْلًا لَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ شَرْعًا. فَصْلٌ إِذَا لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمٍ بِالنَّذْرِ، اسْتُحِبَّ الْمُبَادَرَةُ بِهِ، وَلَا تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ، بَلْ يُخْرِجُ عَنْ نَذْرِهِ بِأَيِّ يَوْمٍ كَانَ مِمَّا يَقْبَلُ الصَّوْمَ، غَيْرَ رَمَضَانَ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ خَمِيسٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ، صَامَ أَيَّ خَمِيسٍ شَاءَ. فَإِذَا مَضَى خَمِيسٌ وَلَمْ يَصُمْهُ، اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ الصَّوْمِ، فُدِيَ عَنْهُ. وَلَوْ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ يَوْمًا كَأَوَّلِ خَمِيسٍ مِنَ الشَّهْرِ، أَوْ خَمِيسِ هَذَا الْأُسْبُوعِ، تَعَيَّنَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، فَلَا يَجُوزُ الصَّوْمُ قَبْلَهُ، وَإِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُ، صَارَ قَضَاءً، فَإِنْ أَخَّرَ بِلَا عُذْرٍ، أَثِمَ، وَإِنْ أَخَّرَ بِعُذْرِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ، لَمْ يَأْثَمْ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: فِيهِ وَجْهَانِ. وَالثَّانِي مِنْهُمَا: لَا يَتَعَيَّنُ، كَمَا لَوْ عَيَّنَ مَكَانًا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الصَّوْمُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَلَوْ عَيَّنَ يَوْمًا مِنْ أُسْبُوعٍ، وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْأُسْبُوعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُعَيَّنَ، أَجْزَأَهُ وَكَانَ قَضَاءً. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ مُطْلَقٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ الْمُعَيَّنِ، صَامَ مِنْهُ أَيَّ يَوْمٍ كَانَ. فَرْعٌ: الْيَوْمُ الْمُعَيَّنُ بِالنَّذْرِ وَإِنْ عَيَّنَّاهُ، لَا يَثْبُتُ لَهُ خَوَاصُّ رَمَضَانَ مِنَ الْكَفَّارَةِ بِالْفِطْرِ بِالْجِمَاعِ فِيهِ، وَوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ لَوْ أَفْطَرَ فِيهِ، وَعَدَمِ قَبُولِ صَوْمٍ آخَرَ مِنْ

قَضَاءٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، بَلْ لَوْ صَامَهُ عَنْ قَضَاءٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، صَحَّ بِلَا خِلَافٍ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ كَأَيَّامِ رَمَضَانَ. فَرْعٌ: الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّ الْيَوْمَ الْمُعَيَّنَ بِالنَّذْرِ، هَلْ يَتَعَيَّنُ؟ يَجْرِي مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ إِذَا عَيَّنَ لَهَا فِي نَذْرِهَا وَقْتًا، وَفِي الْحَجِّ إِذَا عَيَّنَ لَهُ سَنَةً. وَجَزَمَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» بِالتَّعْيِينِ، قَالَ: لَوْ نَذَرَ صَلَاةً فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ، تَعَيَّنَ، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ، وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يُصَلِّ فِيهِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ ضَحْوَةً، صَلَّى فِي ضَحْوَةِ أَيِّ يَوْمٍ شَاءَ، فَلَوْ صَلَّى فِي غَيْرِ الضَّحْوَةِ، لَمْ يُجْزِهِ. وَلَوْ عَيَّنَ ضَحْوَةً، فَلَمْ يُصَلِّ فِيهَا، قَضَى أَيَّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ ضَحْوَةٍ وَغَيْرِهَا. وَلَوْ عَيَّنَ لِلصَّدَقَةِ وَقْتًا، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِهَا بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ: لَوْ نَذَرَ صَوْمَ أَيَّامٍ، مِثْلَ أَنْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَالْقَوْلُ فِي أَنَّ الْمُبَادَرَةَ تُسْتَحَبُّ وَلَا تَجِبُ، وَفِي أَنَّهُ إِذَا عَيَّنَهَا هَلْ تَتَعَيَّنُ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي تَعَيُّنِ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَيْنِ. وَحَيْثُ لَا نَذْكُرُهُ نَحْنُ وَلَا الْأَصْحَابُ، نَقْتَصِرُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَجُوزُ صَوْمُهَا مُتَتَابِعَةً وَمُتَفَرِّقَةً لِحُصُولِ الْوَفَاءِ بِالْمُسَمَّى. وَإِنْ قَيَّدَ النَّذْرَ بِالتَّتَابُعِ، لَزِمَهُ. فَلَوْ أَخَلَّ بِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ. وَلَوْ قَيَّدَ بِالتَّفْرِيقِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ التَّفْرِيقُ، وَأَقْرَبُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ، وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ مُعْتَبَرٌ فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ. فَعَلَى هَذَا، قَالُوا: لَوْ صَامَ عَشَرَةً مُتَتَابِعَةً، حُسِبَتْ لَهُ خَمْسَةٌ، وَيُلْغَى بَعْدَ كُلِّ يَوْمٍ يَوْمٌ.

فَرْعٌ: لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ، نَظَرَ، إِنْ عَيَّنَ كَرَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ، أَوْ قَالَ: أَصُومُ شَهْرًا مِنَ الْآنِ، فَالصَّوْمُ يَقَعُ مُتَتَابِعًا لِتَعَيُّنِ أَيَّامِ الشَّهْرِ. وَلَيْسَ التَّتَابُعُ مُسْتَحَقًّا فِي نَفْسِهِ، حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا، لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ. وَلَوْ فَاتَهُ الْجَمِيعُ، لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِي قَضَائِهِ كَرَمَضَانَ فَلَوْ شَرَطَ التَّتَابُعَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّتَابُعِ مَعَ تَعْيِينِ الشَّهْرِ لَغْوٌ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ: يَجِبُ، حَتَّى لَوْ أَفْسَدَ يَوْمًا، لَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ. وَإِذَا فَاتَ، قَضَاهُ مُتَتَابِعًا. وَإِنْ أَطْلَقَ وَقَالَ: أَصُومُ شَهْرًا، فَلَهُ التَّفْرِيقُ وَالتَّتَابُعُ. فَإِنْ فَرَّقَ، صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَإِنْ تَابَعَ وَابْتَدَأَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ، فَكَذَلِكَ، وَإِنِ ابْتَدَأَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَخَرَجَ نَاقِصًا، كَفَاهُ. فَرْعٌ: إِذَا نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ سَنَةً مُتَوَالِيَةً، كَقَوْلِهِ: أَصُومُ سَنَةَ كَذَا، أَوْ أَصُومُ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ شَهْرِ كَذَا، أَوْ مِنَ الْغَدِ فَصِيَامُهَا يَقَعُ مُتَتَابِعًا بِحَقِّ الْوَقْتِ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ عَنْ فَرْضِهِ، وَيُفْطِرُ الْعِيدَيْنِ، وَكَذَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يَحْرُمْ صَوْمُهَا، وَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي النَّذْرِ. وَإِذَا أَفْطَرَتْ بِحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ كَالْعِيدِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَصَحَّحَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ، والرُّويَانِيُّ. وَلَوْ أَفْطَرَ بِالْمَرَضِ، فَفِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَرَجَّحَ ابْنُ كَجٍّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَنْذُرَ صَوْمَ أَيَّامِ

الْحَيْضِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَنْذُرَ صَوْمَ أَيَّامِ الْمَرَضِ. وَلَوْ أَفْطَرَ بِالسَّفَرِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ كَجٍّ. وَإِذَا أَفْطَرَ بَعْضَ الْأَيَّامِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَثِمَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ بِلَا خِلَافٍ. وَسَوَاءٌ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ، أَمْ بِغَيْرِهِ، لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ. وَإِذَا فَاتَ صَوْمُ السَّنَةِ، لَمْ يَجِبِ التَّتَابُعُ فِي قَضَائِهِ كَرَمَضَانَ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّتَابُعِ. فَإِنْ شَرَطَ التَّتَابُعَ مَعَ التَّعْيِينِ لِلسَّنَةِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الشَّهْرِ. فَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ رِعَايَتُهُ فَأَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ. وَإِنْ أَفْطَرَتْ بِالْحَيْضِ، لَمْ يَجِبْ. وَالْإِفْطَارُ بِالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ، لَهُ حُكْمُ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْطُلُ التَّتَابُعُ، فَفِي الْقَضَاءِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ، تَنَاوَلَ السَّنَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَهِيَ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِلَى الْمُحَرَّمِ فَإِنْ كَانَ مَضَى بَعْضُهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا صَوْمُ الْبَاقِي. فَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ بَاقِيًا، لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ عَنِ النَّذْرِ، وَلَا قَضَاءُ الْعِيدَيْنِ. وَفِي التَّشْرِيقِ وَالْحَيْضِ وَالْمَرَضِ، مَا ذَكَرْنَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. الْحَالُ الثَّانِي: نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ وَأَطْلَقَ، نَظَرَ، إِنْ لَمْ يَشْرِطِ التَّتَابُعَ، صَامَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ، وَكُلُّ شَهْرٍ اسْتَوْعَبَهُ بِالصَّوْمِ فَنَاقَصَهُ كَالْكَامِلِ. وَإِنِ انْكَسَرَ شَهْرٌ، أَتَمَّهُ ثَلَاثِينَ. وَشَوَّالٌ وَذُو الْحِجَّةِ مُنْكَسِرَانِ بِسَبَبِ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ، وَلَا يَلْزَمُ التَّتَابُعُ. فَإِنْ صَامَ سَنَةً مُتَوَالِيَةً، قَضَى رَمَضَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقَ. وَلَا بَأْسَ بِصَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عَنِ النَّذْرِ، وَتَقْضِي أَيَّامَ الْحَيْضِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمَذْهَبُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ إِلَّا بِثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا. وَوَجْهُ: أَنَّهُ إِذَا صَامَ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِلَى الْمُحَرَّمِ، أَوْ مِنْ شَهْرٍ آخَرَ إِلَى مِثْلِهِ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: صَامَ سَنَةً، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ. أَمَّا إِذَا شَرَطَ التَّتَابُعَ، فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَى أَنْ أَصُومَ سَنَةً مُتَتَابِعًا، فَيَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ عَنْ فَرْضِهِ، وَيُفْطِرُ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقَ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا لِلنَّذْرِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ

فصل

عَلَى الِاتِّصَالِ بِآخِرِ الْمَحْسُوبِ مِنَ السَّنَةِ. وَالثَّانِي: فِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ كَالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ، ثُمَّ يَحْسِبُ بِالشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا. وَإِذَا أَفْطَرَ بِلَا عُذْرٍ، وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ. وَإِنْ أَفْطَرَتْ بِالْحَيْضِ لَمْ يَجِبِ الِاسْتِئْنَافُ. وَفِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، مَا ذَكَرْنَا فِي الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ. ثُمَّ فِي قَضَاءِ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ، الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، فَقَضَاءُ مَا يُفْطِرُهُ لِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ، عَلَى مَا سَبَقَ فِي السَّنَةِ. وَكَذَا لَوْ نَذَرَتْ صَوْمَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، فَحَاضَتْ، فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ الْقَوْلَانِ. وَلَوْ نَذَرَتْ صَوْمَ يَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَشَرَعَتْ فِي صَوْمٍ، فَحَاضَتْ، لَزِمَهَا الْقَضَاءُ. فَرْعٌ: لَوْ نَذَرَ صَوْمَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، لَزِمَهُ صَوْمُ هَذَا الْعَدَدِ، وَلَا يَجِبُ التَّتَابُعُ. وَلَوْ قَالَ: مُتَتَابِعَةً، وَجَبَ التَّتَابُعُ، وَيَقْضِي لِرَمَضَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ عَلَى الِاتِّصَالِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ التَّتَابُعَ يَلْغُو هُنَا، وَهُوَ شَاذٌّ. فَصْلٌ مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ تَطَوُّعٍ فَنَذَرَ إِتْمَامَهُ، لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ نَوَى فِيهِ صَوْمَ النَّفْلِ. وَإِذَا أَصْبَحَ مُمْسِكًا وَلَمْ يَنْوِ، فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ. فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ، فَقَدْ أَطْلَقُوا فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّذْرَ يُنَزَّلُ عَلَى وَاجِبِ الشَّرْعِ، أَمْ عَلَى مَا يَصِحُّ؟ قَالَ الْإِمَامُ: وَالَّذِي أَرَاهُ اللُّزُومُ، قَالَ: وَقَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَةً وَاحِدَةً، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا رَكْعَةٌ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ

أُصَلِّيَ كَذَا قَاعِدًا، لَزِمَهُ الْقِيَامُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ إِذَا حَمَلْنَا الْمَنْذُورَ عَلَى وَاجِبِ الشَّرْعِ، وَإِنَّهُمْ تَكَلَّفُوا فَرْقًا بَيْنَهُمَا، قَالَ: وَلَا فَرْقَ، فَيَجِبُ تَنْزِيلُهُمَا عَلَى الْخِلَافِ. فَرْعٌ: لَوْ نَذَرَ صَوْمَ بَعْضِ يَوْمٍ، لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي، يَنْعَقِدُ وَعَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ. وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ تَفْرِيعًا عَلَى الِانْعِقَادِ: أَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ عَنِ النَّذْرِ، أَجْزَأَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ شَيْئًا فِي أَوَّلِهِ. فَإِنْ أَكَلَ، لَا يُجْزِئُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِذَا نَوَى التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْأَكْلِ، أَجْزَأَهُ. فَعَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ: يُجْزِئُهُ هَذَا عَنْ نَذْرِهِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْضَ رَكْعَةٍ، فَفِي انْعِقَادِهِ وَجْهَانِ كَالصَّوْمِ. وَوَجْهُ الِانْعِقَادِ: أَنَّهُ قَدْ يُؤْمَرُ بِفِعْلِ مَا دُونَ رَكْعَةٍ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، حَتَّى يُدْرِكَ بِهِ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ. قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: فَعَلَى هَذَا، يَلْزَمُهُ رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَنْذُورِ مُنْفَرِدًا. وَإِنِ اقْتَدَى بِإِمَامٍ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ. وَقَطَعَ غَيْرُهُ، بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَكْعَةٌ مُطْلَقًا. وَلَوْ نَذَرَ رُكُوعًا، لَزِمَهُ رَكْعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُفَرِّعِينَ. وَلَوْ نَذَرَ تَشَهُّدًا، فَفِي التَّتِمَّةِ: أَنَّهُ يَأْتِي بِرَكْعَةٍ يَتَشَهَّدُ فِي آخِرِهَا، أَوْ يَقْتَدِي بِمَنْ قَعَدَ لِلتَّشَهُّدِ فِي آخِرِ صِلَاتِهِ، أَوْ يُكَبِّرُ وَيَسْجُدُ سَجْدَةً، وَيَتَشَهَّدُ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ يَقْتَضِي التَّشَهُّدَ، فَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ نَذْرِهِ. وَلَوْ نَذَرَ سَجْدَةً فَرْدَةً، فَطَرِيقَانِ. فِي التَّتِمَّةِ: أَنَّ السَّجْدَةَ قُرْبَةٌ، بِدَلِيلِ سَجْدَتَيِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ. فَيَكُونُ فِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ، الْوَجْهَانِ فِي نَذْرِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْعَقِدُ، فَالْحُكْمُ كَمَا فِي الرُّكُوعِ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُ

السَّجْدَةِ قَطْعًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ، أَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْبَةً بِلَا سَبَبٍ. فَرْعٌ: لَوْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ هَذِهِ السَّنَةَ. وَهُوَ عَلَى مِائَةِ فَرْسَخٍ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: فِي لُزُومِ كَفَّارَةٍ بِذَلِكَ خِلَافٌ سَبَقَ نَظَائِرُهُ. وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَيَقْضِي فِي سَنَةٍ أُخْرَى. فَرْعٌ: لَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدِمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَفِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: انْعِقَادُهُ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ قَدِمَ لَيْلًا، فَلَا صَوْمَ عَلَى النَّاذِرِ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ يَوْمُ قُدُومِهِ. وَلَوْ عَنَى بِالْيَوْمِ الْوَقْتَ، فَاللَّيْلُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلصَّوْمِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ الْغَدَ، أَوْ يَوْمًا آخَرَ. وَإِنْ قَدِمَ نَهَارًا، فَلِلنَّاذِرِ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ نَذْرِهِ يَوْمًا. وَهَلْ نَقُولُ: لَزِمَهُ بِالنَّذْرِ الصَّوْمُ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ الْقُدُومِ؟ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي صُوَرٍ. مِنْهَا: لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدِمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَقَدِمَ نِصْفَ النَّهَارِ. إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، اعْتَكَفَ بَاقِيَ الْيَوْمِ وَقَضَى مَا مَضَى. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا مَكَانَهُ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، اعْتَكَفَ بَاقِيَ الْيَوْمِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ.

وَمِنْهَا: إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدِمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَبَاعَهُ ضَحْوَةً، ثُمَّ قَدِمَ فُلَانٌ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، بَانَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ وَحُرِّيَّةُ الْعَبْدِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَلَا حُرِّيَّةَ. هَذَا إِذَا كَانَ قُدُومُ فُلَانٍ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا عَنِ الْمَجْلِسِ وَلُزُومِ الْعَقْدِ. أَمَّا لَوْ قَدِمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، فَيَحْصُلُ الْعِتْقُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَتِ الصِّفَةُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهَا، وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ، حَصَلَ الْعِتْقُ. وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ ضَحْوَةً، ثُمَّ قَدِمَ فُلَانٌ، لَمْ يُوَرَّثْ عَنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَيُوَرَّثُ عَلَى الثَّانِي. وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، ثُمَّ قَدِمَ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيُجْزِئُهُ عَلَى الثَّانِي. وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدِمُ فُلَانٌ، فَمَاتَتْ، أَوْ مَاتَ الزَّوْجُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، ثُمَّ قَدِمَ فُلَانٌ فِي بَقِيَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، بَانَ أَنَّ الْمَوْتَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ. وَلَوْ خَالَعَهَا فِي صَدْرِ النَّهَارِ، ثُمَّ قَدِمَ فُلَانٌ فِي آخِرِهِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْخُلْعِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَعَلَى الثَّانِي، يَصِحُّ الْخُلْعُ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقْدِمَ فُلَانٌ وَالنَّاذِرُ صَائِمٌ عَنْ وَاجِبٍ مِنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ، فَيُتِمُّ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَصُومُ لِهَذَا النَّذْرِ يَوْمًا آخَرَ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُعِيدَ الصَّوْمَ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ صَامَ يَوْمًا مُسْتَحَقَّ الصَّوْمِ، لِكَوْنِهِ يَوْمَ قُدُومِ فُلَانٍ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ صَامَهُ عَنْ نَذْرٍ آخَرَ أَوْ قَضَاءٍ، يَنْعَقِدُ، وَيَقْضِي نَذْرَ هَذَا الْيَوْمِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقْدِمُ وَهُوَ صَائِمٌ تَطَوُّعًا، أَوْ غَيْرُ صَائِمٍ، لَكِنَّهُ مُمْسِكٌ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ مَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ الْقُدُومِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمٍ آخَرَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُمْسِكَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَفِي التَّتِمَّةِ: أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى

فصل

جَوَازِ نَذْرِ صَوْمِ بَعْضِ يَوْمٍ. إِنْ جَوَّزْنَاهُ، نَوَى إِذَا قَدِمَ، وَكَفَاهُ ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيدَ يَوْمًا كَامِلًا لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ. وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْضِيَ. وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُ الصَّوْمُ مِنْ وَقْتِ الْقُدُومِ، فَهُنَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ صَوْمُ يَوْمٍ آخَرَ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَكُونُ أَوَّلُهُ تَطَوُّعًا، وَآخِرُهُ فَرْضًا. كَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ تَطَوُّعٍ، ثُمَّ نَذَرَ إِتْمَامَهُ، يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ. هَذَا إِذَا كَانَ صَائِمًا عَنْ تَطَوُّعٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، نَوَى، وَيَصُومُ بَقِيَّةَ النَّهَارِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ. أَمَّا إِذَا تَبَيَّنَ لِلنَّاذِرِ أَنَّ فُلَانًا يَقْدِمُ غَدًا، فَنَوَى الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْلِ، فَفِي إِجْزَائِهِ عَنْ نَذْرِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّهُ بَنَى النِّيَّةَ عَلَى أَصْلٍ مَظْنُونٍ. وَخَصَّ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ الْوَجْهَيْنِ بِمَا إِذَا قُلْنَا: يَلْزَمُ الصَّوْمُ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ، قَالَ: فَإِنْ قُلْنَا بِاللُّزُومِ مِنْ وَقْتِ الْقُدُومِ، لَمْ يُجْزِهِ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقْدِمَ فُلَانٌ يَوْمَ الْعِيدِ، أَوْ فِي رَمَضَانَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَدِمَ لَيْلًا. فَصْلٌ إِذَا نَذَرَ صَوْمَ [يَوْمِ] الِاثْنَيْنِ أَبَدًا، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ: أَنَّ الْوَقْتَ الْمُعَيَّنَ لِلصَّوْمِ يَتَعَيَّنُ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدِمُ فِيهِ فُلَانٌ أَبَدًا، فَقَدِمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، فَفِي انْعِقَادِ [نَذْرِ] ذَلِكَ الْيَوْمِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَسَائِرُ الْأَثَانِينَ تَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْأَثَانِينَ. وَلَا يَجِبُ قَضَاءُ الْأَثَانِينَ الْوَاقِعَةِ فِي رَمَضَانَ، لَكِنْ لَوْ وَقَعَ فِيهِ خَمْسَةُ أَثَانِينَ، فَفِي قَضَاءِ الْخَامِسِ قَوْلَانِ - وَكَذَا لَوْ وَقَعَ يَوْمُ عِيدٍ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ - أَظْهَرُهُمَا: لَا قَضَاءَ كَالْأَثَانِينَ فِي رَمَضَانَ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ كَالْعِيدِ، بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ: أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الصَّوْمَ. وَلَوْ صَدَرَ هَذَا النَّذْرُ مِنِ امْرَأَةٍ،

وَأَفْطَرَتْ فِي بَعْضِ الْأَثَانِينَ بِحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَالْعِيدِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَقِيلَ، يَجِبُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ وَاجِبَهُ شَرْعًا يُقْضَى، فَكَذَا بِالنَّذْرِ. ثُمَّ الطَّرِيقَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ غَالِبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ، فَعَدَمُ الْقَضَاءِ فِيمَا يَقَعُ فِي عَادَتِهَا أَظْهَرُ، وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ. وَقِيلَ: خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ تَخْتَلِفُ. وَلَوْ أَفْطَرَ النَّاذِرُ بَعْضَ الْأَثَانِينَ بِالْمَرَضِ، فَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَبِهِ قَطَعَ قَاطِعُونَ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ نَذَرَ سَنَةً بِعَيْنِهَا. وَلَوْ لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنْ كَفَّارَةٍ، قَدَّمَ صَوْمَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْأَثَانِينَ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، أَوْ تَأَخَّرَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَضَاءُ الْأَثَانِينَ. وَلَوْ عَكَسَ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْكَفَّارَةِ، لِفَوَاتِ التَّتَابُعِ. ثُمَّ إِنْ لَزِمَتِ الْكَفَّارَةُ بَعْدَ نَذْرِ الْأَثَانِينَ، قَضَى الْأَثَانِينَ الْوَاقِعَةَ فِي الشَّهْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ بَعْدَ النَّذْرِ وَإِنْ لَزِمَتِ الْكَفَّارَةُ قَبْلَهُ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» وَطَائِفَةٍ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ: يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَيُحْكَى عَنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ. وَالثَّانِي: لَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْقَاضِيَيْنِ أَبِي الطَّيِّبِ، وَابْنِ كَجٍّ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ. قُلْتُ: الثَّانِي: أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، أَوْ شَهْرَيْنِ، أَوْ أُسْبُوعًا، ثُمَّ نَذَرَ الْأَثَانِينَ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الشَّهْرَ، أَوِ الشَّهْرَيْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، ثُمَّ نَذَرَ الْأَثَانِينَ. وَإِنْ عَيَّنَ، فَفِي التَّتِمَّةِ: أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَيَّنَ وَقْتًا لِلصَّوْمِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ فِيهِ عَنْ قَضَاءٍ، أَوْ نَذْرٍ آخَرَ؟ وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ. وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ، فَحُكْمُ ذَلِكَ الشَّهْرِ حُكْمُ رَمَضَانَ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» . وَقَالَ أَيْضًا: إِذَا صَادَفَ نَذْرَانِ زَمَانًا مُعَيَّنًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ الثَّانِي، وَطُرِدَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ التَّالِيَ لِقُدُومِهِ، وَإِنْ قَدِمَ عَمْرٌو، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ

فصل

أَوَّلَ خَمِيسٍ بَعْدَ قُدُومِهِ، فَقَدِمَا مَعًا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ. وَنُقِلَ أَنَّهُ يَصُومُ عَنْ أَوَّلِ نَذْرٍ نَذَرَهُ، وَيَقْضِي يَوْمًا لِلنَّذْرِ الثَّانِي. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَوَّلَ خَمِيسٍ بَعْدَ شِفَاءِ مَرِيضِهِ، وَنَذَرَ أَنْ يَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدِمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَشُفِيَ الْمَرِيضُ، وَأَصْبَحَ النَّاذِرُ فِي أَوَّلِ الْخَمِيسِ صَائِمًا، فَقَدِمَ فِيهِ فُلَانٌ، يَقَعُ صَوْمًا عَمَّا نَوَاهُ، وَالنَّذْرُ لِلْآخَرِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْعَقِدُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَنْعَقِدُ، قَضَى عَنْهُ يَوْمًا آخَرَ. فَصْلٌ إِذَا نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ، انْعَقَدَ نَذْرُهُ، وَيُسْتَثْنَى عَنْهُ أَيَّامُ الْعِيدِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَقَضَاءُ رَمَضَانَ. وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ حَالِ النَّذْرِ. فَلَوْ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ بَعْدَ النَّذْرِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَصُومُ عَنْهَا وَيَفْدِي عَنِ النَّذْرِ. وَقَالَ فِي التَّتِمَّةِ: يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ يَسْلُكُ بِالنَّذْرِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ، أَمْ جَائِزِهِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، لَمْ يَصُمْ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَيَصِيرُ كَالْعَاجِزِ عَنْ جَمِيعِ الْخِصَالِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، صَامَ عَنِ الْكَفَّارَةِ. ثُمَّ إِنْ لَزِمَتْ بِسَبَبٍ هُوَ فِيهِ مُخْتَارٌ، لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَيُقَدِّمُهُ عَلَى النَّذْرِ، كَمَا يُقَدِّمُ الْأَدَاءَ. ثُمَّ إِنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ، فَلَا فِدْيَةَ. وَإِنْ تَعَدَّى، لَزِمَتْهُ. وَلَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا، فَلَا سَبِيلَ إِلَى قَضَائِهِ؛ لِاسْتِغْرَاقِ الْعُمُرِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ بِعُذْرِ مَرَضٍ، أَوْ سَفَرٍ، فَلَا فِدْيَةَ. وَإِنْ تَعَدَّى، لَزِمَتْهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ نَوَى فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ قَضَاءَ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ مُتَعَدِّيًا، فَالْوَجْهُ: أَنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ غَيْرَ مَا فَعَلَ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ الْمَدُّ لِمَا تَرَكَ مِنَ الْأَدَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي صِحَّتِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّ الزَّمَنَ الْمُعَيَّنَ لِصَوْمِ النَّذْرِ، هَلْ يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُهُ لِأَنَّ أَيَّامَ عُمُرِهِ مُتَعَيِّنَةٌ لِلنَّذْرِ؟ قَالَ الْإِمَامُ: وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ عَنِ الْمُفْطِرِ الْمُتَعَدِّي وَلَيُّهُ فِي حَيَاتِهِ

فصل

تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ يَصُومُ عَنِ الْمَيِّتِ وَلَيُّهُ؟ الظَّاهِرُ: جَوَازُهُ؛ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ مِنْهُ. وَفِيهِ احْتِمَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عُذْرٌ يَجُوزُ تَرْكُ الصَّوْمِ لَهُ، وَيُتَصَوَّرُ تَكَلُّفُ الْقَضَاءِ مِنْهُ، وَقَدْ يُسْتَفَادُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ: أَنَّهُ إِذَا سَافَرَ، قَضَى مَا أَفْطَرَ فِيهِ مُتَعَدِّيًا، وَيَنْسَاقُ النَّظَرُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُسَافِرَ لِيَقْضِيَ؟ فَصْلٌ لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ، لَمْ يَنْعَقِدْ، كَمَا لَوْ نَذَرَتْ صَوْمَ يَوْمِ الْحَيْضِ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا عَلَى وَجْهِ صَوْمِهَا لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ، فَفِي انْعِقَادِهَا وَجْهَانِ، كَنَذْرِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، وَلَا الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ. النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْمُلْتَزَمَاتِ: الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ. الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، يَلْزَمَانِ بِالنَّذْرِ، فَإِذَا نَذَرَهُمَا مَاشِيًا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ، أَمْ لَهُ الرُّكُوبُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا أَفْضَلُ، أَمْ رَاكِبًا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: الْمَشْيُ أَفْضَلُ. وَالثَّانِي: الرُّكُوبُ أَفْضَلُ. وَالثَّالِثُ: هُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: هُمَا سَوَاءٌ مَا لَمْ يُحْرِمْ. فَإِذَا أَحْرَمَ، فَالْمَشْيُ أَفْضَلُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: مَنْ سَهُلَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، فَهُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ ضَعُفَ وَسَاءَ خُلُقُهُ لَوْ مَشَى، فَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ: أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ لُزُومَ الْمَشْيِ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا الْمَشْيُ أَفْضَلُ لَزِمَهُ النَّذْرُ وَإِنْ قُلْنَا الرُّكُوبُ، أَوْ سَوَّيْنَا، لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَشْيُ بِالنَّذْرِ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى لُزُومِ الْمَشْيِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: لَوْ صَرَّحَ بِابْتِدَاءِ الْمَشْيِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ إِلَى الْفَرَاغِ، هَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، فَلَوْ أَطْلَقَ الْحَجَّ مَاشِيًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِهِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ مِنْ وَقْتِ الْإِحْرَامِ، سَوَاءٌ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْ قَبْلَهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ جَمَاعَةٌ. وَبَنَى صَاحِبُ التَّتِمَّةِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ؟ فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَعَنْ غَيْرِهِ: مِنَ الْمِيقَاتِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَمْشِي مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَعَلَى الثَّانِي: مِنَ الْمِيقَاتِ. وَلَوْ قَالَ: أَمْشِي حَاجًّا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: أَحُجُّ مَاشِيًا. وَمُقْتَضَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، اقْتِرَانُ الْحَجِّ وَالْمَشْيِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَمْشِي حَاجًّا، يَقْتَضِي أَنْ يَمْشِيَ مِنْ مَخْرَجِهِ إِلَى الْحَجِّ. الثَّانِيَةُ: فِي نِهَايَةِ الْمَشْيِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ التَّحَلُّلَيْنِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَلَهُ الرُّكُوبُ بَعْدَ التَّحَلُّلَيْنِ وَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ أَيَّامَ مِنَى. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: لَهُ الرُّكُوبُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ، فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ، فَيَمْشِي حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا. وَالْقِيَاسُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَتَرَدَّدُ فِي خِلَالِ أَعْمَالِ النُّسُكِ لِغَرَضِ تِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا، فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ. الثَّالِثَةُ: لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ مَاشِيًا. وَإِذَا تَحَلَّلَ فِي سَنَةِ الْفَوَاتِ بِأَعْمَالِ عُمْرَةٍ، هَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْفَوَاتِ عَنْ أَنْ يُجْزِئَهُ عَنْ نَذْرِهِ. وَلَوْ فَسَدَ الْحَجُّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَهَلْ يَجِبُ الْمَشْيُ فِي الْمُضِيِّ فِي فَاسِدِهِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. الرَّابِعَةُ: لَوْ تَرَكَ الْمَشْيَ بِعُذْرٍ، بِأَنْ عَجَزَ، فَحَجَّ رَاكِبًا، وَقَعَ حَجُّهُ عَنِ النَّذْرِ. وَهَلْ عَلَيْهِ جَبْرُ الْمَشْيِ الْفَائِتِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ؟ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا،

كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ قَائِمًا، فَعَجَزَ، صَلَّى قَاعِدًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَأَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. فَعَلَى هَذَا، يَلْزَمُهُ شَاةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ: بَدَنَةٌ، وَإِنْ تَرَكَ الْمَشْيَ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَحَجَّ رَاكِبًا، فَقَدْ أَسَاءَ. وَفِيهِ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ حَجِّهِ، بَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى صِفَتِهِ الْمُلْتَزَمَةِ. وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؟ قَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. وَهَلْ هُوَ شَاةٌ، أَمْ بَدَنَةٌ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. فَرْعٌ: مَنْ نَذَرَ حَجًّا، اسْتُحِبَّ أَنْ يُبَادِرَ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ، أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ؟ وَإِنْ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ سَنَةً، تَعَيَّنَتْ عَلَى الصَّحِيحِ كَالصَّوْمِ، فَلَوْ حَجَّ قَبْلَهَا، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَلَوْ قَالَ: أَحُجُّ فِي عَامِي هَذَا، وَهُوَ عَلَى مَسَافَةٍ يُمْكِنُ الْحَجُّ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْعَامِ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَعَ الْإِمْكَانِ، صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يَقْضِيهِ بِنَفْسِهِ. فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَقْضِ، أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِنْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ، أَوْ لَمْ يَجِدْ رُفْقَةً، وَكَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا لَا يَتَأَتَّى لِلْآحَادِ سُلُوكُهُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ حَجٌّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَكَمَا لَا تَسْتَقِرُّ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَلَوْ صَدَّهُ عَدُوٌّ أَوْ سُلْطَانٌ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ حَتَّى مَضَى الْعَامُ، قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ لِلْعَدُوِّ، فَالْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَا قَضَاءَ. وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا: أَنَّهُ يَجِبُ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ. كَمَا لَوْ قَالَ: أَصُومُ غَدًا، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ حَتَّى مَضَى الْغَدُ، يَجِبُ الْقَضَاءُ. وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ مَنَعَهُ عَدُوٌّ أَوْ سُلْطَانٌ وَحْدَهُ، أَوْ مَنَعَهُ رَبُّ الدَّيْنِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ

عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ مَنَعَهُ الْمَرَضُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَلَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الصَّدِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالصَّدِّ وَلَا يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ. وَحَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ، تَخْرِيجَهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّدِّ، وَكَذَلِكَ حَكَى الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا امْتَنَعَ الْحَجُّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ بَعْدَ الِاسْتِطَاعَةِ. وَإِذَا رَأَيْتَ كُتُبَ الْأَصْحَابِ، وَجَدْتَهَا مُتَّفِقَةً عَلَى أَنَّ الْحَجَّةَ الْمَنْذُورَةَ فِي ذَلِكَ، كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، إِنِ اجْتَمَعَتْ فِي الْعَامِ الَّذِي عَيَّنَهُ شَرَائِطُ فَرْضِ الْحَجِّ، وَجَبَ الْوَفَاءُ وَاسْتَقَرَّ فِي الذِّمَّةِ، وَإِلَّا، فَلَا. وَالنِّسْيَانُ وَخَطَأُ الطَّرِيقِ وَالضَّلَالُ فِيهِ، كَالْمَرَضِ. وَلَوْ كَانَ النَّاذِرُ مَعْضُوبًا وَقْتَ النَّذْرِ، أَوْ طَرَأَ الْعَضْبُ وَلَمْ يَجِدِ الْمَالَ حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ الْمُعَيَّنَةُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً، أَوْ صَوْمًا أَوِ اعْتِكَافًا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَمَنَعَهُ عَمَّا نَذَرَ عَدُوٌّ أَوْ سُلْطَانٌ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، بِخِلَافِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ، كَالْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ يَجِبُ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ مَعَ الْعَجْزِ، فَلَزِمَا بِالنَّذْرِ. وَالْحَجُّ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالِاسْتِطَاعَةِ. فَرْعٌ: إِذَا نَذَرَ حَجَّاتٍ كَثِيرَةً، انْعَقَدَ نَذْرُهُ، وَيَأْتِي بِهِنَّ عَلَى تَوَالِي السِّنِينَ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ. فَإِنْ أَخَّرَ، اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ مَا أَخَّرَهُ. فَإِذَا نَذَرَ عَشْرَ حَجَّاتٍ، وَمَاتَ بَعْدَ خَمْسِ سِنِينَ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ فِيهِنَّ، قُضِيَ مِنْ مَالِهِ خَمْسُ حَجَّاتٍ. وَلَوْ نَذَرَهَا الْمَعْضُوبُ، وَمَاتَ بَعْدَ سَنَةٍ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ الْحِجَجَ الْعَشْرَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، قُضِيَتْ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ لَمْ يَفِ مَالُهُ إِلَّا بِحَجَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، لَمْ يَسْتَقِرَّ إِلَّا الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ.

فَرْعٌ: مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ، لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْضُوبًا فَيُحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ. فَرْعٌ: لَوْ نَذَرَ الْحَجَّ رَاكِبًا، فَإِنْ قُلْنَا: الْمَشْيُ أَفْضَلُ، أَوْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ شَاءَ مَشَى، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ. وَإِنْ قُلْنَا: الرُّكُوبُ أَفْضَلُ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ. فَإِنْ مَشَى، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : عِنْدِي أَنَّهُ لَا دَمَ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ إِلَى أَشَقِّ الْأَمْرَيْنِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ حَافِيًا، فَلَهُ لُبْسُ النَّعْلَيْنِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ: يَخْرُجُ النَّاذِرُ عَنْ حَجِّ النَّذْرِ بِالْإِفْرَادِ، وَبِالتَّمَتُّعِ، وَبِالْقِرَانِ. وَإِذَا نَذَرَ الْقِرَانَ، فَقَدِ الْتَزَمَ النُّسُكَيْنِ. فَإِنْ أَتَى بِهِمَا مُفْرَدَيْنِ، فَقَدْ أَتَى بِالْأَفْضَلِ، وَخَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ. وَإِنْ تَمَتَّعَ، فَكَذَلِكَ وَإِنْ نَذَرَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مُفْرَدَيْنِ، فَقَرَنَ، أَوْ تَمَتَّعَ وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا وَقُلْنَا: الْمَشْيُ أَفْضَلُ، فَحَجَّ رَاكِبًا.

فَرْعٌ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، لَزِمَهُ لِلنَّذْرِ حَجَّةٌ أُخْرَى، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَعَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، يَلْزَمُهُ صَلَاةٌ أُخْرَى. النَّوْعُ الثَّالِثُ: إِتْيَانُ الْمَسَاجِدِ. فَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَوْ آتِيهِ، أَوْ أَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، لَزِمَهُ إِتْيَانُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي لُزُومِهِ قَوْلَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، أَوْ آتِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ: الْحَرَامِ، فَوَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يُحْمَلُ عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. وَلَوْ قَالَ: أَمْشِيَ إِلَى الْحَرَامِ، أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ إِلَى مَكَّةَ، أَوْ ذَكَرَ بُقْعَةً أُخْرَى مِنْ بِقَاعِ الْحَرَمِ، كَالصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ، وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَمِنَى، وَمُزْدَلِفَةَ، وَمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَقُبَّةِ زَمْزَمَ، وَغَيْرِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. حَتَّى لَوْ قَالَ: آتِي دَارَ أَبِي جَهْلٍ، أَوْ دَارَ الْخَيْزُرَانِ، كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ؛ لِشُمُولِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فِي تَنْفِيرِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ، فَإِنْ أَرَادَ الْتِزَامَ الْحَجِّ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِشُهُودِ عَرَفَةَ، أَوْ نَوَى أَنْ يَأْتِيَهَا مُحْرِمًا، اِنْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْحَجِّ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ؛ لِأَنَّ عَرَفَاتٍ مِنَ الْحِلِّ، فَهُوَ كَبَلَدٍ آخَرَ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ إِنْ نَذَرَ إِتْيَانَ عَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَاتٍ، لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا حَاجًّا. وَقُيِّدَ فِي التَّتِمَّةِ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا إِذَا قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: الِاكْتِفَاءُ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُ شُهُودُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَرُبَّمَا قَالَ بِهَذَا الْجَوَابِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَلَوْ قَالَ: آتِي مَرَّ الظَّهْرَانِ، أَوْ بُقْعَةً أُخْرَى قَرِيبًا مِنَ الْحَرَمِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ قَطْعًا، وَسَوَاءٌ فِي لُزُومِ الْإِتْيَانِ، لَفْظُ الْمَشْيِ، وَالْإِتْيَانِ، وَالِانْتِقَالِ، وَالذَّهَابِ، وَالْمُضِيِّ، وَالْمَصِيرِ، وَالْمَسِيرِ، وَنَحْوِهَا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَمَسَّ بِثَوْبِهِ حَطِيمَ الْكَعْبَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى إِتْيَانَهَا.

وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، أَوِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَفِي لُزُومِ إِتْيَانِهِمَا قَوْلَانِ. قَالَ فِي «الْبُوَيْطِيِّ» : يَلْزَمُ، وَقَالَ فِي «الْأُمِّ» : لَا يَلْزَمُ، وَيَلْغُو النَّذْرُ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ والرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ. التَّفْرِيعُ: إِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّهُ يَلْزَمُ إِتْيَانُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْتِزَامِهِ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنْ حَمَلْنَا النَّذْرَ عَلَى الْوَاجِبِ شَرْعًا، لَزِمَهُ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَاجِبِ، بُنِيَ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ دُخُولَ مَكَّةَ هَلْ يَقْتَضِي الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَإِذَا أَتَاهُ، لَزِمَهُ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَهُوَ كَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُ إِتْيَانُهُ؟ وَإِذَا لَزِمَ، فَتَفْرِيعُهُ كَتَفْرِيعِ الْمَسْجِدَيْنِ. أَمَّا إِذَا أَوْجَبْنَا إِتْيَانَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى، فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَعَ الْإِتْيَانِ شَيْءٌ آخَرُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، إِذْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، إِذِ الْإِتْيَانُ الْمُجَرَّدُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَلْزَمُهُ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: يَتَعَيَّنُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أَتَاهُ. قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ، بَلْ يَكْفِيهِ رَكْعَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَهَلْ يَكْفِي أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةً، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ صَلَاةٍ زَائِدَةٍ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى وَجْهَيْنِ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا بِصَوْمٍ، فَهَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رَمَضَانَ؟ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ يَعْتَكِفُ فِيهِ وَلَوْ سَاعَةً؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ أَخَصُّ الْقُرُبَاتِ بِالْمَسْجِدِ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ: يُتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَبِهِ قُطِعَ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يَكْفِي فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْإِمَامُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الزِّيَارَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ وَتَعْظِيمِهِ. قَالَ: وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ صَامَ يَوْمًا، كَفَاهُ. وَالظَّاهِرُ: الِاكْتِفَاءُ بِالزِّيَارَةِ. وَإِذَا نَزَّلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَنْزِلَةَ الْمَسْجِدَيْنِ، وَأَوْجَبْنَا ضَمَّ قُرْبَةٍ إِلَى الْإِتْيَانِ، فَفِي تِلْكَ الْقُرْبَةِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: الصَّلَاةُ. وَالثَّانِي: الْحَجُّ أَوِ الْعُمْرَةُ. وَالثَّالِثُ:

يُتَخَيَّرُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ قِيلَ: يَكْفِي الطَّوَافُ، لَمْ يَبْعُدْ. ثُمَّ مَهْمَا قَالَ: أَمْشِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّكُوبُ عَلَى الْأَصَحِّ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ كَمَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا قَالَ: أَحُجُّ مَاشِيًا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: يَمْشِي مِنَ الْمِيقَاتِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. لَكِنْ يُحْرِمُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، أَمْ مِنَ الْمِيقَاتِ؟ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْإِفْصَاحِ: مِنَ الْمِيقَاتِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَلَوْ قَالَ: أَمْشِي إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوِ الْأَقْصَى، وَأَوْجَبْنَا الْإِتْيَانَ، فَفِي وُجُوبِ الْمَشْيِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ. وَلَوْ كَانَ لَفْظُ النَّاذِرِ الْإِتْيَانَ، أَوِ الذَّهَابَ، أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّا سِوَى الْمَشْيِ، فَلَهُ الرُّكُوبُ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا إِذَا نَذَرَ إِتْيَانَ مَسْجِدٍ آخَرَ سِوَى الثَّلَاثَةِ، فَلَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، إِذْ لَيْسَ فِي قَصْدِهَا قُرْبَةٌ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُشَدُّ الرِّحَّالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ. . . الْحَدِيثَ. قَالَ الْإِمَامُ: كَانَ شَيْخِي يُفْتِي بِالْمَنْعِ مِنْ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى غَيْرِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَقُولُ: يُحْرِمُ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَلَا كَرَاهَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ، تَخْصِيصُ الْقُرْبَةِ بِقَصْدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَبَقَ فِي الِاعْتِكَافِ، أَنَّ مَنْ عَيَّنَ بِنَذْرِهِ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، أَوِ الْأَقْصَى لِلِاعْتِكَافِ، تَعَيَّنَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالْفَرْقُ: أَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمَسْجِدِ، فَإِذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ فَضْلٌ، فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ فَضِيلَةً فِي الْعِبَادَةِ الْمُلْتَزَمَةِ، وَالْإِتْيَانَ بِخِلَافِهِ، وَيُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إِتْيَانَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَفِي مِثْلِهِ فِي الِاعْتِكَافِ خِلَافٌ.

فَرْعٌ: إِذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، لَزِمَهُ الصَّلَاةُ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ إِنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، تَعَيَّنَ لِلصَّلَاةِ الْمُلْتَزَمَةِ. وَإِنْ عَيَّنَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْأَقْصَى، فَطَرِيقَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: فِي تَعْيِينِهِ الْقَوْلَانِ فِي لُزُومِ الْإِتْيَانِ. وَقَطَعَ الْمَرَاوِزَةُ بِالتَّعَيِينِ، وَالتَّعْيِينُ هُنَا أَرْجَحُ كَالِاعْتِكَافِ، وَإِنْ عَيَّنَ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَوَاضِعِ، لَمْ يَتَعَيَّنْ. وَإِذَا عَيَّنَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ، وَقُلْنَا بِالتَّعْيِينِ، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ. وَهَلْ تَقُومُ الصَّلَاةُ فِي أَحَدِهِمَا مَقَامَ الصَّلَاةِ فِي الْآخَرِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَقُومُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ مَقَامَ الْأَقْصَى، دُونَ عَكْسِهِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَنُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْبُوَيْطِيِّ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَصَلَّى فِي غَيْرِهِ أَلْفَ صَلَاةٍ، لَمْ يَخْرُجْ عَنْ نَذْرِهِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَلْفَ صَلَاةٍ، لَا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَأَنَّ شَيْخَهُ كَانَ يَقُولُ: لَوْ نَذَرَ صَلَاةً فِي الْكَعْبَةِ، فَصَلَّى فِي أَطْرَافِ الْمَسْجِدِ، خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ. فَرْعٌ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَذْهَبَ فِي نَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَنَّهُ يَجِبُ قَصْدُهُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ. فَلَوْ قَالَ فِي نَذْرِهِ: أَمْشِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ بِلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ وَيَلْغُو قَوْلُهُ: بِلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ. وَالثَّانِي: لَا يَنْعَقِدُ،

ثُمَّ إِذَا أَتَاهُ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا إِحْرَامًا لِدُخُولِ مَكَّةَ، لَزِمَهُ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: يَنْعَقِدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لَوْ قَالَ: أُصَلِّي الْفَرَائِضَ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ فِي الْوَسِيطِ: يَلْزَمُهُ إِذَا قُلْنَا: صِفَاتُ الْفَرَائِضِ تُفْرَدُ بِالِالْتِزَامِ. فَرْعٌ: قَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ: إِذَا نَذَرَ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ وَجْهًا وَاحِدًا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ غَيْرِهِ، فَوَجْهَانِ. فَرْعٌ: قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَوْ قَالَ: أَمْشِي، وَنَوَى بِقَلْبِهِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، اِنْعَقَدَ النَّذْرُ إِلَى مَا نَوَى، وَإِنْ نَوَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، جُعِلَ مَا نَوَاهُ كَأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِهِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا. إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ حَيَوَانٍ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَدْيٍ وَلَا أُضْحِيَةٍ، بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ هَذِهِ الْبَقَرَةَ، أَوْ أَنْحَرَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ، فَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: وَأَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، أَوْ نَوَاهُ، لَزِمَهُ الذَّبْحُ وَالتَّصَدُّقُ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ وَلَا نَوَاهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَيَلْزَمُهُ الذَّبْحُ وَالتَّصَدُّقُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْعَقِدُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ بَدَنَةً أَوْ شَاةً إِلَى مَكَّةَ، أَوْ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِسَوْقِهَا إِلَيْهَا

وَيَذْبَحَهَا وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا عَلَى فُقَرَائِهَا، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلذَّبْحِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ، لَزِمَهُ الذَّبْحُ بِهَا أَيْضًا. وَفِي تَفْرِقَةِ اللَّحْمِ بِهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تَجِبُ تَفْرِقَتُهُ بِهَا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ، بَلْ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَأَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ خَارِجَ الْحَرَمِ وَيُفَرِّقَ اللَّحْمَ فِي الْحَرَمِ عَلَى أَهْلِهِ. قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: الذَّبْحُ خَارِجَ الْحَرَمِ لَا قُرْبَةَ فِيهِ، فَيَذْبَحُ حَيْثُ شَاءَ، وَيَلْزَمُهُ تَفْرِقَةُ اللَّحْمِ، وَكَأَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى مَكَّةَ لَحْمًا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ بِمَكَّةَ وَيُفَرِّقَ اللَّحْمَ عَلَى فُقَرَاءِ بَلَدٍ آخَرَ، وَفَّى بِمَا الْتَزَمَ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ أَوْ أَذْبَحَ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلَفْظِ الْقُرْبَةِ وَالتَّضْحِيَةِ، وَلَا التَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ، فَفِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِانْعِقَادُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ التَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ عَلَى فُقَرَائِهَا الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. وَلَوْ نَذَرَ الذَّبْحَ بِأَفْضَلِ بَلَدٍ، كَانَ كَنَذْرِ الذَّبْحِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْبِلَادِ. وَلَوْ نَذَرَ الذَّبْحَ أَوِ النَّحْرَ بِبَلْدَةٍ أُخْرَى وَلَمْ يَقُلْ مَعَ ذَلِكَ: وَأَتَصَدَّقُ عَلَى فُقَرَائِهَا، وَلَا نَوَاهُ، فَوَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ «الْأُمُّ» : لَا يَنْعَقِدُ. وَالثَّانِي: يَنْعَقِدُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَنْعَقِدُ لَوْ تَلَفَّظَ مَعَ ذَلِكَ بِالتَّصَدُّقِ أَوْ نَوَاهُ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ، عَلَى فُقَرَائِهَا، أَمْ يَجُوزُ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِمْ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: أَنَّهُمْ يَتَعَيَّنُونَ. وَقِيلَ: فِيهِ خِلَافٌ مَأْخُوذٌ مِنْ نَقْلِ الصَّدَقَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَعَيَّنُونَ، لَمْ يَجِبِ الذَّبْحُ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ، بِخِلَافِ مَكَّةَ، فَإِنَّهَا مَحَلُّ ذَبْحِ الْهَدَايَا. وَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَيَّنُونَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ الذَّبْحُ بِهَا، بَلْ لَوْ ذَبَحَ خَارِجَهَا وَنَقَلَ اللَّحْمَ إِلَيْهَا طَرِيًّا، جَازَ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَجَمَاعَةٌ. وَالثَّانِي: تَتَعَيَّنُ إِرَاقَةُ الدَّمِ بِهَا كَمَكَّةَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَحَكَوْهُ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» . وَلَوْ قَالَ: أُضَحِّي بِبَلَدِ كَذَا، وَأُفَرِّقُ اللَّحْمَ عَلَى أَهْلِهَا، انْعَقَدَ نَذْرُهُ، وَيُغْنِي ذِكْرُ التَّصَدُّقِ، وَنِيَّتُهُ. وَجَعَلَ الْإِمَامُ وُجُوبَ التَّفْرِقَةِ عَلَى أَهْلِهَا وَوُجُوبَ الذَّبْحِ بِهَا عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. قَالَ: وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أُضَحِّي بِهَا، فَهَلْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ تَخْصِيصَ التَّفْرِقَةِ بِهِمْ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ: أَنَّهُ تَجِبُ

فصل

التَّفْرِقَةُ وَالذَّبْحُ بِهَا. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةٍ عَلَى فُلَانٍ، فَشَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَهَلْ لِفُلَانٍ مُطَالَبَتُهُ بِالتَّصَدُّقِ بَعْدَ الشِّفَاءِ؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: نَعَمْ، كَمَا لَوْ نَذَرَ إِعْتَاقَ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ إِنْ شُفِيَ، فَشُفِيَ، لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْإِعْتَاقِ، وَكَمَا لَوْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَالْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ مَحْصُورُونَ، لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ. فَصْلٌ إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِبَدَنَةٍ أَوْ أُهْدِيَ بَدَنَةً. قَالَ الْإِمَامُ: الْبَدَنَةُ فِي اللُّغَةِ: الْإِبِلُ، ثُمَّ الشَّرْعُ قَدْ يُقِيمُ مَقَامَهَا بَقَرَةً، أَوْ سَبْعًا مِنَ الْغَنَمِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجَمَاعَةٌ: اِسْمُ الْبَدَنَةِ يَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ جَمِيعًا. ثُمَّ لَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلِقَ الْتِزَامَ الْبَدَنَةِ، فَلَهُ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْإِبِلِ. وَهَلْ لَهُ الْعُدُولُ إِلَى بَقَرَةٍ أَوْ سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ إِنْ وُجِدَتِ الْإِبِلُ، لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ، وَإِلَّا جَازَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقَيِّدَ فَيَقُولُ: عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِبَدَنَةٍ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ يَنْوِيهَا، فَلَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ الْإِبِلِ إِذَا وُجِدَتْ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ عُدِمَتْ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصْبِرُ إِلَى أَنْ يَجِدَهَا وَلَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا. وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّ الْبَقَرَةَ تُجْزِئُهُ بِالْقِيمَةِ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَقَرَةِ دُونَ قِيمَةِ الْبَدَنَةِ مِنَ الْإِبِلِ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْفَاضِلِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِ الْفَاضِلِ، فَفِي الْكَافِي لِلْقَاضِي الرُّويَانِيِّ: أَنَّهُ يَشْتَرِي بِهِ بَقَرَةً أُخْرَى إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا، فَهَلْ يَشْتَرِي بِهِ شِقْصًا، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ؟ وَجْهَانِ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ. وَقَالَ

الْمُتَوَلِّي: يُشَارِكُ إِنْسَانًا فِي بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ يَشْتَرِي بِهِ شَاةً. وَإِذَا عَدَلَ إِلَى الْغَنَمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ أَيْضًا. ثُمَّ نَقَلَ الرُّويَانِيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِبِلَ فِي حَالَةِ التَّقْيِيدِ، يُتَخَيَّرُ بَيْنَ الْبَقَرَةِ وَالْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْقِيمَةِ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالْمُتَوَلِّي: أَنَّهُ لَا يَعْدِلُ إِلَى الْغَنَمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَقَرَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ. وَلَوْ وَجَدَ ثَلَاثَ شِيَاهٍ بِقِيمَةِ الْبَدَنَةِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا تُجْزِئُهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ السَّبْعَ مِنْ عِنْدِهِ. وَالثَّانِي: تُجْزِئُهُ لِوَفَائِهِنَّ بِالْقِيمَةِ، قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ النَّسَوِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا شَيْخٌ كَانَ فِي زَمَنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ خَيْرَانَ. وَلَوْ نَذَرَ شَاةً، فَجَعَلَ بَدَلَهَا بَدَنَةً، جَازَ. وَهَلْ يَكُونُ الْكُلُّ فَرْضًا؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ: فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَنْذُورِ مُطْلَقًا. فَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ بَعِيرًا، أَوْ بَقَرَةً، أَوْ شَاةً، فَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ السِّنُّ الْمُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَةِ وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ؟ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ النَّذْرِ يُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ مَا وَجَبَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، أَوْ عَلَى أَقَلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ. وَالْأَوَّلُ: أَظْهَرُ. وَلَوْ قَالَ: أُضَحِّي بِبَعِيرٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، فَفِيهِ مِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَبِالِاتِّفَاقِ لَا يُجْزِئُ الْفَصِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى بَعِيرًا، وَلَا الْعِجْلُ إِذَا ذَكَرَ الْبَقَرَةَ، وَلَا السَّخْلَةُ إِذَا ذَكَرَ الشَّاةَ. وَلَوْ قَالَ: أُضَحِّي بِبَدَنَةٍ أَوْ أُهْدِي بَدَنَةً، جَرَى الْخِلَافُ. وَرَأَى الْإِمَامُ هَذِهِ الصُّورَةَ أَوْلَى بِاشْتِرَاطِ السِّنِّ وَالسَّلَامَةِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ، أَوْ أَنْ أُهْدِيَ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ إِنْ حَمْلَنَا عَلَى أَقَلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ، خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ بِكُلِّ مِنْحَةٍ حَتَّى الدَّجَاجَةِ وَالْبَيْضَةِ وَكُلِّ مَا يُتَمَوَّلُ، لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِيصَالُهُ مَكَّةَ، وَصَرْفُهُ إِلَى فُقَرَائِهَا، بَلْ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى

«الْإِمْلَاءِ» وَالْقَدِيمِ. وَإِنْ حَمْلَنَا عَلَى أَقَلِّ مَا يَجِبُ مِنْ جِنْسِهِ، حُمِلَ عَلَى مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَةِ، وَيُنْسَبُ هَذَا إِلَى الْجَدِيدِ. وَعَلَى هَذَا يَجِبُ إِيصَالُهُ مَكَّةَ، فَإِنَّ مَحَلَّ الْهَدْيِ الْحَرَمُ. وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ الْهَدْيَ، حُمِلَ عَلَى الْمَعْهُودِ الشَّرْعِيِّ بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ: وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا مُعَيَّنًا، وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ. وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ. ثُمَّ يُنْظَرُ، إِنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ مِنَ النِّعَمِ، بِأَنْ قَالَ: أُهْدِي هَذِهِ الْبَدَنَةَ أَوِ الشَّاةَ، وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ، وَلَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهَا حَيَّةً؛ لِأَنَّ فِي ذَبْحِهَا قُرْبَةً، وَيَجِبُ الذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ خَارِجَ الْحَرَمِ، بِشَرْطِ أَنْ يَنْقُلَ اللَّحْمَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ النِّعَمِ وَتَيَسَّرَ نَقْلُهُ إِلَى الْحَرَمِ، بِأَنْ قَالَ: أُهْدِي هَذِهِ الظَّبْيَةَ، أَوِ الطَّائِرَ، أَوِ الْحِمَارَ، أَوِ الثَّوْبَ، وَجَبَ حَمْلُهُ إِلَى الْحَرَمِ. وَأَطْلَقَ مُطْلِقُونَ: أَنَّ مُؤْنَةَ النَّقْلِ عَلَى النَّاذِرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، بِيعَ بَعْضُهُ لِنَقْلِ الْبَاقِي. وَأَسْتَحْسِنُ مَا حُكِيَ عَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّهُ إِنْ قَالَ: أُهْدِي هَذَا، فَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: جَعَلْتُهُ هَدْيًا، فَالْمُؤْنَةُ فِيهِ، يُبَاعُ بَعْضُهُ. لَكِنَّ مُقْتَضَى جَعْلِهِ هَدْيًا، أَنْ يُوصَلَ كُلُّهُ الْحَرَمَ، فَيَلْتَزِمُ مُؤْنَتَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أُهْدِي. ثُمَّ إِذَا بَلَغَ الْحَرَمَ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ. لَكِنْ لَوْ نَوَى صَرْفَهُ إِلَى تَطْيِيبِ الْكَعْبَةِ، أَوْ جَعْلِ الثَّوْبِ سِتْرًا لَهَا، أَوْ قُرْبَةً أُخْرَى هُنَاكَ، صَرَفَهُ إِلَى مَا نَوَى. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ وَإِنْ أَطْلَقَ، فَلَهُ صَرْفُهُ إِلَى مَا يَرَى. وَوَجْهٌ أَضْعَفُ مِنْهُ: أَنَّ الثَّوْبَ الصَّالِحَ لِلسَّتْرِ، يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. قَالَ الْإِمَامُ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ وَالَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ، يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ وَتَفْرِقَةُ ثَمَنِهِ، بَلْ يَتَصَدَّقُ بِعَيْنِهِ، وَيُنَزَّلُ تَعْيِينُهُ مَنْزِلَةَ تَعْيِينِ الْأُضْحِيَةِ وَالشَّاةِ

فِي الزَّكَاةِ، فَيَتَصَدَّقُ بِالظَّبْيَةِ وَالطَّائِرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا حَيًّا، وَلَا يَذْبَحُهُ، إِذْ لَا قُرْبَةَ فِي ذَبْحِهِ. وَلَوْ ذَبَحَهُ فَنَقَصَتِ الْقِيمَةُ، تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ وَغَرِمَ مَا نَقَصَ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ آخَرُ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ يَذْبَحُ. وَطَرْدُهُمَا فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الْحَيَوَانِ وَقُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُهْدِيَ مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَةِ. أَمَّا إِذَا نَذَرَ إِهْدَاءَ بَعِيرٍ مَعِيبٍ، فَهَلْ يَذْبَحُهُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، نَظَرًا إِلَى جِنْسِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّضْحِيَةِ كَالظَّبْيَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالُ الْمُعَيَّنُ مِمَّا لَا يَتَيَسَّرُ نَقْلُهُ، كَالدَّارِ، وَالْأَرْضِ، وَالشَّجَرِ، وَحَجَرِ الرَّحَى، فَيُبَاعُ وَيُنْقَلُ ثَمَنُهُ فَيُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَيَتَوَلَّى النَّاذِرُ الْبَيْعَ وَالنَّقْلَ بِنَفْسِهِ. فَرْعٌ: فِي مَسَائِلَ مِنَ «الْأُمِّ» لَوْ قَالَ: أَنَا أُهْدِي هَذِهِ الشَّاةَ نَذْرًا، لَزِمَهُ أَنْ يُهْدِيَهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ: إِنِّي سَأُحْدِثُ نَذْرًا، أَوْ سَأُهْدِيهَا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ هَدْيًا، وَنَوَى بَهِيمَةً، أَوْ جَدْيًا، أَوْ رَضِيعًا، أَجْزَأَهُ. وَالْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ نَذْرَ الْهَدْيِ، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ شَاةً عَوْرَاءَ، أَوْ عَمْيَاءَ، أَوْ مَا لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهِ، أَهْدَاهُ، وَلَوْ أَهْدَى تَامًّا، كَانَ أَفْضَلَ.

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ إِحْدَاهَا: إِذَا نَذَرَ الصَّوْمَ فِي بَلَدٍ، لَمْ يَتَعَيَّنْ، بَلْ لَهُ أَنْ يَصُومَ حَيْثُ شَاءَ، سَوَاءٌ عَيَّنَ مَكَّةَ أَوْ غَيْرَهَا. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: إِذَا عَيَّنَ الْحَرَمَ، اخْتُصَّ بِهِ. الثَّانِيَةُ: سَتْرُ الْكَعْبَةِ وَتَطْيِيبُهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ، سَوَاءٌ سَتَرَهَا بِالْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ نَذَرَ سَتْرَهَا وَتَطْيِيبَهَا، صَحَّ نَذْرُهُ. وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَجْعَلَ مَا يُهْدِيهِ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ وَطِيبِهَا، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: يَنْقُلُهُ إِلَيْهَا وَيُسَلِّمُهُ إِلَى الْقَيِّمِ لِيَصْرِفَهُ فِي الْجِهَةِ الْمَذْكُورَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَصَّ فِي نَذْرِهِ أَنَّهُ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ نَذَرَ تَطْيِيبَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوِ الْأَقْصَى، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمَسَاجِدِ، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ. وَمَالَ الْإِمَامُ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْكَعْبَةِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الثَّالِثَةُ: نَقَلَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعَجِّلَ زَكَاةَ مَالِي، هَلْ يَصِحُّ نَذْرُهُ؟ وَوَجْهَيْنِ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ عَنْ وَلَدِي، هَلْ يَلْزَمُهُ الذَّبْحُ عَنْ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ عَنِ الْأَوْلَادِ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ؟ وَوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ ابْنِيَ، فَإِنْ لَمْ يَجُزْ فَشَاةٌ مَكَانَهُ، هَلْ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ شَاةٍ؟ وَوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا نَذَرَ النَّصْرَانِيُّ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ يَصُومَ، ثُمَّ أَسْلَمَ، هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شَرْعِنَا وَصَوْمَهُ؟ قُلْتُ: الْأَصَحُّ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ: الصِّحَّةُ. وَفِي الْبَاقِي: الْبُطْلَانُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً

لِنَذْرِهِ، فَلَمَّا قَدَّمَهَا لِلذَّبْحِ صَارَتْ مَعِيبَةً، لَا تُجْزِئُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ شَاةً، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً، وَذَهَبَ بِهَا إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا قَدَّمَهَا لِلذَّبْحِ تَعَيَّبَتْ، أَجْزَأَتْهُ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ، وَبِالْوُصُولِ إِلَيْهِ حَصَلَ الْإِهْدَاءُ، وَالتَّضْحِيَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالذَّبْحِ. الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: لَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَشْتَرِيَ بِدِرْهَمٍ خُبْزًا وَأَتَصَدَّقَ بِهِ، لَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخُبْزٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمٍ. السَّادِسَةُ: لَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَى رِجْلِي حَجٌّ مَاشِيًا، صَحَّ نَذْرُهُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ إِلْزَامَ الرِّجْلِ حَاجَةً. وَلَوْ قَالَ: عَلَى نَفْسِي أَوْ رَقَبَتِي، صَحَّ. السَّابِعَةُ: إِذَا نَذَرَ إِعْتَاقَ رَقَبَةٍ وَكَانَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ عَنْ كَفَّارَةٍ، فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ، وَنَوَاهُمَا عَنِ الْوَاجِبِ، أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ. الثَّامِنَةُ: لَوْ نَذَرَ صَلَاتَيْنِ، لَمْ يَخْرُجْ عَنْ نَذْرِهِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. التَّاسِعَةُ: لَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، صَحَّ نَذْرُهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِمَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ. وَلَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ أَلْفٌ، وَلَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا بِاللَّفْظِ وَلَا بِالنِّيَّةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. الْعَاشِرَةُ: وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ، وَمَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ، يُطْعَمُ عَنْهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَزِمَهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ لِمَرَضٍ، أَوْ سَفَرٍ، وَمَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، لَا يُطْعَمُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ مُسْتَقِرٌّ بِنَفْسِ النَّذْرِ، قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَبَنَى عَلَى هَذَا: أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَرْضَهُ الصِّيَامَ، فَمَاتَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، يُطْعَمُ عَنْهُ. وَأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ حَجَّةً، وَمَاتَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، يُحَجُّ عَنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحَجِّ.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقَفَّالُ: مَنِ الْتَزَمَ بِالنَّذْرِ أَنْ لَا يُكَلِّمَ الْآدَمِيِّينَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْعِنَا، كَمَا لَوْ نَذَرَ الْوُقُوفَ فِي الشَّمْسِ. قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَصَحُّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ النَّذْرِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَلِدُ أَوْلَادًا وَيَمُوتُونَ، فَقَالَتْ: إِنْ عَاشَ لِي وَلَدٌ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، قَالَ: يُشْتَرَطُ لِلُزُومِ الْعِتْقِ أَنْ يَعِيشَ لَهَا وَلَدٌ أَكْثَرَ مِمَّا عَاشَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهَا الْمَوْتَى، وَإِنْ قَلَّتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ: مَتَى وَلَدَتْ حَيًّا، لَزِمَهَا الْعِتْقُ وَإِنْ لَمْ يَعِشْ أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَاشَ. وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ. وَأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ التَّضْحِيَةَ بِهَذِهِ الشَّاةِ عَلَى أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، لَا يَنْعَقِدُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، فَشُفِيَ، فَأَرَادَ التَّصَدُّقَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَرِيضِ وَهُوَ فَقِيرٌ، فَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، جَازَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِي أَوْ عَلَى زَيْدٍ وَزَيْدٌ مُوسِرٌ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ ; لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ جَائِزَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ قَالَ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْأَثَانِينَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ مُسْتَحَقٌّ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ: يَنْعَقِدُ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ، فَقَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ، فَعَلَيَّ عِتْقُهُ، قَالَ: يَنْعَقِدَانِ، فَإِنْ وَقَعَا مَعًا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، هَذَا آخِرُ الْمَنْقُولِ مِنْ فَتَاوَى الْقَاضِي.

وَمِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ: إِذَا نَذَرَ زَيْتًا، أَوْ شَمْعًا، أَوْ نَحْوَهُ لِيُسْرِجَ بِهِ فِي مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ - وَلَوْ عَلَى النُّدُورِ - مُصَلٍّ هُنَاكَ أَوْ نَائِمٌ أَوْ غَيْرُهُمَا، صَحَّ وَلَزِمَ. وَإِنْ كَانَ يُغْلَقُ وَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنَ الدُّخُولِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ وَقَفَ شَيْئًا لِيُشْتَرَى مِنْ غَلَّتِهِ زَيْتٌ أَوْ غَيْرُهُ لِيُسْرِجَ بِهِ فِي مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَحُكْمُهُ فِي الصِّحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي النُّذُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب البيع

كِتَابُ الْبَيْعِ بَابُ مَا يَصِحُّ بِهِ الْبَيْعُ الْبَيْعُ: مُقَابَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: الصِّيغَةُ، وَهِيَ الْإِيجَابُ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ أَوْ مَلَّكْتُكَ وَنَحْوِهِمَا. وَفِي مَلَّكْتُكَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَالْقَبُولُ مِنَ الْمُشْتَرِي، كَقَوْلِهِ: قَبِلْتُ، أَوِ ابْتَعْتُ، أَوِ اشْتَرَيْتُ، أَوْ تَمَلَّكْتُ. وَيَجِيءُ فِي «تَمَلَّكْتُ» ذَلِكَ الْوَجْهُ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْبَائِعِ: بِعْتُ، أَوْ قَوْلُ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْحَالَيْنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ، بَلْ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ، أَوِ اشْتَرَيْتَ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: تَمَلَّكْتُ، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ: مَلَّكْتُكَ. فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ. فَرْعٌ: الْمُعَاطَاةُ، لَيْسَتْ بَيْعًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا مِنَ الْخِلَافِ فِي مَصِيرِ الْهَدْيِ مَنْذُورًا بِالتَّقْلِيدِ: أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهَا فِي الْمُحَقَّرَاتِ، وَبِهِ أَفْتَى الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْمُحَقَّرُ، كَرَطْلِ خُبْزٍ وَغَيْرِهِ، مِمَّا يُعْتَادُ فِيهِ الْمُعَاطَاةُ. وَقِيلَ: هُوَ مَا دُونَ نِصَابِ السَّرِقَةِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ فِي حُكْمِ الْمَأْخُوذِ بِالْمُعَاطَاةِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ

إِبَاحَةٌ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَهُ حُكْمُ الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَيُطَالِبُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ بِمَا دَفَعَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ بِضَمَانِهِ إِنْ تَلِفَ. فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ الَّذِي قَبَضَهُ الْبَائِعُ مِثْلَ الْقِيمَةِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: هَذَا مُسْتَحِقٌّ ظَفَرَ بِمِثْلِ حَقِّهِ، وَالْمَالِكُ رَاضٍ، فَلَهُ تَمَلُّكُهُ لَا مَحَالَةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا مُطَالَبَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُمَا بِالتَّرَاضِي، وَهَذَا يُشْكِلُ بِسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنَّهُ لَا بَرَاءَةَ وَإِنْ وُجِدَ التَّرَاضِي. وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، هُوَ الرَّاجِحُ دَلِيلًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي الشَّرْعِ اشْتِرَاطُ لَفْظٍ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ. وَمِمَّنِ اخْتَارَهُ: الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لَوْ قَالَ: بِعْنِي، فَقَالَ: بِعْتُكَ. إِنْ قَالَ بَعْدَهُ: اشْتَرَيْتُ، أَوْ قَبِلْتُ، انْعَقَدَ قَطْعًا، وَإِلَّا، انْعَقَدَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ مِنِّي، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : هُوَ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَنْعَقِدُ قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ: أَتَبِيعُنِي عَبْدَكَ بِكَذَا، أَوْ قَالَ: بِعْتَنِي بِكَذَا، فَقَالَ: بِعْتُ، لَمْ يَنْعَقِدْ، حَتَّى يَقُولَ بَعْدَهُ: اشْتَرَيْتُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَتَشْتَرِي دَارِيَ؟ أَوِ اشْتَرَيْتَ مِنِّي؟ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقُولَ بَعْدَهُ: بِعْتُ.

فَرْعٌ: كُلُّ تَصَرُّفٍ يَسْتَقِلُّ بِهِ الشَّخْصُ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ، يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ كَانْعِقَادِهِ بِالصَّرِيحِ. وَمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، بَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ، ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الشَّهَادَةُ كَالنِّكَاحِ وَبَيْعِ الْوَكِيلِ إِذَا شَرَطَ الْمُوَكِّلُ الْإِشْهَادَ، فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَعْلَمُ النِّيَّةَ. وَالثَّانِي: مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَقْبَلُ مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ، كَالْكِتَابَةِ، وَالْخُلْعِ، فَيَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ. وَالثَّانِي: مَا لَا يَقْبَلُ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَفِي انْعِقَادِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِانْعِقَادُ كَالْخُلْعِ. وَمِثَالُ الْكِنَايَةِ فِي الْبَيْعِ، أَنْ يَقُولَ: خُذْهُ مِنِّي، أَوْ تَسَلَّمْهُ بِأَلْفٍ، أَوْ أَدْخَلْتُهُ فِي مِلْكِكَ، أَوْ جَعَلْتُهُ لَكَ بِكَذَا وَمَا أَشْبَهَهَا. وَلَوْ قَالَ: سَلَّطْتُكَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ، فَفِي كَوْنِهِ كِنَايَةً وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَقَوْلِهِ: أَبَحْتُكَهُ بِأَلْفٍ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لَوْ كَتَبَ إِلَى غَائِبٍ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ، هَلْ يَقَعُ بِالْكَتْبِ مَعَ النِّيَّةِ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَهَذِهِ الْعُقُودُ أَوْلَى أَنْ لَا تَنْعَقِدَ، وَإِلَّا، فَفِيهَا الْوَجْهَانِ فِي انْعِقَادِهَا بِالْكِنَايَاتِ. فَإِنْ قُلْنَا: تَنْعَقِدُ، فَشَرْطُهُ أَنْ يَقْبَلَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِمُجَرَّدِ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْكِتَابِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالْمُكَاتَبَةِ لِحُصُولِ التَّرَاضِي، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرَّاجِحَ انْعِقَادُهُ بِالْمُعَاطَاةِ. وَقَدْ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ بِتَرْجِيحِ صِحَّتِهِ بِالْمُكَاتَبَةِ فِي كِتَابِ

الطَّلَاقِ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسَائِلُ كُلُّهَا مَبْسُوطَةً فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ، قَالَ: وَإِذَا قَبِلَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ، ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الْقَبُولِ، وَيَتَمَادَى خِيَارُ الْكَاتِبِ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ خِيَارُ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْإِيجَابِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ مَجْلِسَهُ، صَحَّ رُجُوعُهُ، وَلَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَبَايَعَ حَاضِرَانِ بِالْمُكَاتَبَةِ، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ فِي الْغَيْبَةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. وَحُكْمُ الْكَتْبِ عَلَى الْقِرْطَاسِ، وَالرَّقِّ، وَاللَّوْحِ، وَالْأَرْضِ، وَالنَّقْشِ عَلَى الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ - وَاحِدٌ، وَلَا أَثَرَ لِرَسْمِ الْأَحْرُفِ عَلَى الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَفْرِيعًا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِالْمُكَاتَبَةِ. لَوْ قَالَ: بِعْتُ دَارِيَ لِفُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ قَالَ: قَبِلْتُ، انْعَقَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ النُّطْقَ أَقْوَى مِنَ الْكَتْبِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، فِي أَنَّ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ، هَلْ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ هُوَ فِيمَا إِذَا عُدِمَتْ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ، فَإِنْ تَوَفَّرَتْ وَأَفَادَتِ التَّفَاهُمَ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ، لَكِنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ وَإِنْ تَوَفَّرَتِ الْقَرَائِنُ. وَأَمَّا الْبَيْعُ الْمُقَيَّدُ بِالْإِشْهَادِ، فَقَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : الظَّاهِرُ انْعِقَادُهُ عِنْدَ تَوَفُّرِ الْقَرَائِنِ. قُلْتُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: لَوْ قَالَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ: بِعْنِي، فَقَالَ: قَدْ بَاعَكَ اللَّهُ، أَوْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ، أَوْ قَالَ فِي النِّكَاحِ: زَوَّجَكَ اللَّهُ بِنْتِي، أَوْ قَالَ فِي الْإِقَالَةِ: قَدْ أَقَالَكَ اللَّهُ، أَوْ قَدْ رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَهَذَا كِنَايَةٌ، فَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِكُلِّ حَالٍ. وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالْإِقَالَةُ، فَإِنْ نَوَاهُمَا، صَحَّا، وَإِلَّا، فَلَا. وَإِذَا نَوَاهُمَا، كَانَ التَّقْدِيرُ: قَدْ أَقَالَكَ اللَّهُ لِأَنِّي قَدْ أَقَلْتُكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ مَالَ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ، أَوْ مَالَ نَفْسِهِ لِوَلَدِهِ، فَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى صِيغَتَيِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، أَمْ تَكْفِي إِحْدَاهُمَا؟ وَجْهَانِ سَيَأْتِيَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِفُرُوعِهِمَا فِي بَابِ الْخِيَارِ. فَرْعٌ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَطُولَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَأَنْ لَا يَتَخَلَّلَهُمَا كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْعَقْدِ، فَإِنْ طَالَ، أَوْ تَخَلَّلَ، لَمْ يَنْعَقِدْ، سَوَاءٌ تَفَرَّقَا عَنِ الْمَجْلِسِ، أَمْ لَا. وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَوَارِثُهُ حَاضِرٌ، فَقَبِلَ، فَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. وَقَالَ الدَّارَكِيُّ: يَصِحُّ. فَرْعٌ: يُشْتَرَطُ مُوَافَقَةُ الْقَبُولِ الْإِيجَابَ. فَلَوْ قَالَ: بِعْتُ بِأَلْفٍ صَحِيحَةٍ، فَقَالَ: قَبِلْتُ بِأَلْفٍ قُرَاضَةٍ، أَوْ بِالْعَكْسِ. أَوْ قَالَ: بِعْتُ جَمِيعَ الثَّوْبِ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَبِلْتُ نِصْفَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَبِلْتُ نِصْفَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَنِصْفَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : يَصِحُّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَهُوَ غَرِيبٌ.

فَرْعٌ: لَوْ قَالَ الْمُتَوَسِّطُ لِلْبَائِعِ: بِعْتَ كَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَوْ بِعْتُ. وَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتَ بِكَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَوِ اشْتَرَيْتُ، انْعَقَدَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِوُجُودِ الصِّيغَةِ وَالتَّرَاضِي. وَالثَّانِي: لَا، لِعَدَمِ تَخَاطُبِهِمَا. فَرْعٌ: لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَبِلْتُ، صَحَّ قَطْعًا، بِخِلَافِ النِّكَاحِ، يُشْتَرَطُ فِيهِ عَلَى رَأْيٍ أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، احْتِيَاطًا لِلْأَبْضَاعِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، انْعَقَدَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ. فَرْعٌ: يَصِحُّ بَيْعُ الْأَخْرَسِ وَشِرَاؤُهُ بِالْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ. فَرْعٌ: جَمِيعُ مَا سَبَقَ، هُوَ فِيمَا لَيْسَ بِضِمْنِيٍّ مِنَ الْبُيُوعِ. فَأَمَّا الْبَيْعُ الضِّمْنِيُّ فِيمَا إِذَا قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الصِّيَغُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، بَلْ يَكْفِي فِيهِ الِالْتِمَاسُ وَالْجَوَابُ قَطْعًا. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَهْلِيَّةُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا لِصِحَّةِ الْبَيْعِ: التَّكْلِيفُ،

فَلَا يَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لَا لِأَنْفُسِهِمَا، وَلَا لِغَيْرِهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، بَاشَرَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَسَوَاءٌ بَيْعُ الِاخْتِبَارِ وَغَيْرُهُ. وَبَيْعُ الِاخْتِبَارِ: هُوَ الَّذِي يَمْتَحِنُهُ الْوَلِيُّ بِهِ لِيَسْتَبِينَ رُشْدَهُ عِنْدَ مُنَاهَزَةِ الِاحْتِلَامِ، وَلَكِنْ يُفَوَّضُ إِلَيْهِ الِاسْتِيَامُ وَتَدْبِيرُ الْعَقْلِ، فَإِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى اللَّفْظِ، أَتَى بِهِ الْوَلِيُّ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَصِحُّ مِنْهُ بَيْعُ الِاخْتِبَارِ. قُلْتُ: وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ، الِاخْتِيَارُ. فَإِنْ أُكْرِهَا عَلَى الْبَيْعِ، لَمْ يَصِحَّ، إِلَّا إِذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ، بِأَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ بَيْعُ مَالِهِ لِوَفَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ، أَوْ شِرَاءُ مَالٍ أُسْلِمَ إِلَيْهِ فِيهِ، فَأَكْرَهَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، صَحَّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ إِكْرَاهٌ بِحَقٍّ. فَأَمَّا بَيْعُ الْمُصَادَرِ، فَالْأَصَحُّ: صِحَّتُهُ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي نِصْفِ الْبَابِ الثَّانِي مِنَ الْأَطْعِمَةِ. وَيَصِحُّ بَيْعُ السَّكْرَانِ وَشِرَاؤُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لَوِ اشْتَرَى الصَّبِيُّ شَيْئًا فَتَلِفَ فِي يَدِهِ، أَوْ أَتْلَفَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَلَا بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَكَذَا لَوِ اقْتَرَضَ مَالًا؛ لَأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْمُضَيِّعُ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ. وَمَا دَامَا بَاقِيَيْنِ، فَلِلْمَالِكِ الِاسْتِرْدَادُ. وَلَوْ سَلَّمَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ، لَزِمَ الْوَلِيَّ اسْتِرْدَادُهُ، وَلَزِمَ الْبَائِعَ رَدُّهُ إِلَى الْوَلِيِّ. فَإِنْ رَدَّهُ إِلَى الصَّبِيِّ، لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الضَّمَانِ. وَهَذَا كَمَا لَوْ سَلَّمَ الصَّبِيَّ دِرْهَمًا إِلَى صَرَّافٍ لِيَنْقُدَهُ، أَوْ سَلَّمَ مَتَاعًا إِلَى مُقَوِّمٍ لِيُقَوِّمَهُ، فَإِذَا أَخَذَهُ، لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ إِلَى الصَّبِيِّ، بَلْ يَرُدُّهُ إِلَى وَلِيِّهِ إِنْ كَانَ الْمَالُ لِلصَّبِيِّ. وَإِنْ كَانَ لِكَامِلٍ، فَإِلَى الْمَالِكِ. فَلَوْ أَمَرَهُ الْوَلِيُّ بِدَفْعِهِ إِلَى الصَّبِيِّ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ إِنْ كَانَ الْمَالُ لِلْوَلِيِّ. وَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ، فَلَا، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِإِلْقَاءِ مَالِ الصَّبِيِّ

فِي الْبَحْرِ فَفَعَلَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ. وَلَوْ تَبَايَعَ صَبِيَّانِ وَتَقَابَضَا، وَأَتْلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا قَبَضَهُ، نَظَرَ، إِنْ جَرَى ذَلِكَ بِإِذْنِ الْوَلِيَّيْنِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، وَإِلَّا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى الصَّبِيَّيْنِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُمَا لَا يُعَدُّ تَسْلِيطًا وَتَضْيِيعًا. فَرْعٌ: لَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الصَّبِيِّ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ، لَكِنْ فِي تَدْبِيرِ الْمُمَيِّزِ وَوَصِيَّتِهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَوْ فَتَحَ بَابًا وَأَخْبَرَ بِإِذْنِ أَهْلِ الدَّارِ فِي الدُّخُولِ، أَوْ أَوْصَلَ هَدِيَّةً وَأَخْبَرَ عَنْ إِهْدَاءِ مُهْدِيْهَا، فَهَلْ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ؟ نَظَرَ، إِنِ انْضَمَّتْ قَرَائِنُ تُحَصِّلُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ، جَازَ الدُّخُولُ وَالْقَبُولُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَمَلٌ بِالْعِلْمِ، لَا بِقَوْلِهِ. وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ، نَظَرَ، إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونِ الْقَوْلِ، لَمْ يُعْتَمَدْ، وَإِلَّا، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالِاعْتِمَادِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ. فَرْعٌ: كَمَا لَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ اللَّفْظِيَّةُ، لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ فِي تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ، فَلَا يُفِيدُ قَبْضُهُ الْمِلْكَ فِي الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِنِ اتَّهَبَهُ الْوَلِيُّ، وَلَا لِغَيْرِهِ إِذَا أَمَرَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْقَبْضِ لَهُ. وَلَوْ قَالَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ لِمَنْ عَلَيْهِ: سَلِّمْ حَقِّي إِلَى هَذَا الصَّبِيِّ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ قَدْرَ حَقِّهِ، لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الدَّيْنِ، وَكَانَ مَا سَلَّمَهُ بَاقِيًا فِي مِلْكِهِ، حَتَّى لَوْ ضَاعَ، لَضَاعَ عَلَيْهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ ضَيَّعَهُ بِتَسْلِيمِهِ، وَيَبْقَى الدَّيْنُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِقَبْضٍ صَحِيحٍ، فَلَا يَزُولُ عَنِ الذِّمَّةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَلْقِ حَقِّي فِي الْبَحْرِ، فَأَلْقَى قَدْرَ حَقِّهِ، لَا يَبْرَأُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مَالِكُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودِعِ: سَلِّمْ مَالِيَ إِلَى هَذَا الصَّبِيِّ، فَسَلَّمَ، خَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَهُ فِي حَقِّهِ الْمُتَعَيَّنِ

فصل

كَمَا لَوْ قَالَ: أَلْقِهَا فِي الْبَحْرِ، فَامْتَثَلَ. وَلَوْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ لِلصَّبِيِّ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، ضَمِنَ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ تَضْيِيعُهَا وَإِنْ أَمَرَهُ الْوَلِيُّ بِهِ. فَصْلٌ إِسْلَامُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مُطْلَقِ التَّبَايُعِ، لَكِنْ لَوِ اشْتَرَى كَافِرٌ عَبْدًا مُسْلِمًا، أَوِ اتَّهَبَهُ، أَوْ أُوصِيَ لَهُ بِهِ، فَقَبِلَ، لَمْ يُمَلِّكْهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : الْقَوْلَانِ فِي الْوَصِيَّةِ، إِذَا قُلْنَا: يَمْلِكُهَا بِالْقَبُولِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَوْتِ، ثَبَتَ بِلَا خِلَافٍ كَالْإِرْثِ. وَلَوِ اشْتَرَى مُصْحَفًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: وَكُتُبُ الْفِقْهِ الَّتِي فِيهَا آثَارُ السَّلَفِ، لَهَا حُكْمُ الْمُصْحَفِ فِي هَذَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ يَصِحُّ بَيْعُهَا لِلْكَافِرِ. وَفِي أَمْرِهِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْهَا، وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْخِلَافُ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ، وَالْمُصْحَفِ، وَالْحَدِيثِ، وَالْفِقْهِ، إِنَّمَا هُوَ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، مَعَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ شِرَاءُ الْكَافِرِ عَبْدًا مُسْلِمًا، فَاشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ كَأَبِيهِ وَابْنِهِ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي كُلِّ شِرَاءٍ يَسْتَعْقِبُ عِتْقًا، كَقَوْلِ الْكَافِرِ لِمُسْلِمٍ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ الْمُسْلِمَ عَنِّي بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَإِجَابَتِهِ، وَكَمَا إِذَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ مُسْلِمٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ. وَرَتَّبَ الْإِمَامُ الْخِلَافَ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ عَلَى شِرَاءِ الْقَرِيبِ. وَقَالَ: الْأُولَى أَوْلَى بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا ضِمْنِيٌّ، وَالثَّانِيَةُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهَا وَإِنْ حُكِمَ بِهِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ غَيْرُ مُحَقَّقٍ، بِخِلَافِ الْقَرِيبِ. وَلَوِ اشْتَرَى الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا بِشَرْطِ الْإِعْتَاقِ، وَصَحَّحْنَا الشِّرَاءَ بِهَذَا

الشَّرْطِ، فَهُوَ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ. فَرْعٌ: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، كَدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ بِعَيْنِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنِ الْمَنَافِعِ، بِأَنْ يُؤَجِّرَهُ مُسْلِمًا؟ وَجْهَانِ. قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: بِأَنَّهُ يُؤْمَرُ. قُلْتُ: وَإِذَا صَحَّحْنَا إِجَارَةَ عَيْنِهِ، فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي ارْتِهَانِهِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ، وَجْهَانِ. وَيَجُوزُ إِعَارَةُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ قَطْعًا. وَكَذَا إِيدَاعُهُ عِنْدَهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: صِحَّةُ ارْتِهَانِهِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ وَالْمُصْحَفَ، وَيُسَلَّمُ إِلَى عَدْلٍ. وَفِي الْإِعَارَةِ وَجْهٌ: أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّنْبِيهُ» وَالْجُرْجَانِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا - وَرِثَهُ، أَوْ أَسْلَمَ عِنْدَهُ - بِثَوْبٍ، ثُمَّ وَجَدَ بِالثَّوْبِ عَيْبًا، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَهُ رَدُّ الثَّوْبِ بِالْعَيْبِ. وَهَلْ لَهُ اسْتِرْدَادُ الْعَبْدِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَهُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: لَا، بَلْ يَسْتَرِدُّ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْهَالِكِ. وَطَرَدَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ رَدِّ الثَّوْبِ. وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قُطِعَ فِي

التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ وَجَدَ مُشْتَرِي الْعَبْدِ بِهِ عَيْبًا، فَفِي رَدِّهِ وَاسْتِرْدَادِهِ الثَّوْبَ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ بَاعَ الْكَافِرُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ، ثُمَّ تَقَايَلَا، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِقَالَةُ بَيْعٌ، لَمْ يَنْفُذْ، وَإِنْ قُلْنَا: فُسِخَ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. فَرْعٌ: وَلَوْ وَكَّلَ كَافِرٌ مُسْلِمًا لِيَشْتَرِيَ عَبْدًا مُسْلِمًا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ أَوَّلًا، وَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ آخِرًا وَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا مُسْلِمًا، فَإِنْ سَمَّى الْمُوَكِّلَ فِي الشِّرَاءِ، صَحَّ، وَإِلَّا، فَإِنْ قُلْنَا: يَقَعُ الْمِلْكُ لِلْوَكِيلِ أَوَّلًا، لَمْ يَصِحَّ: وَإِنْ قُلْنَا: يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ، صَحَّ. فَرْعٌ: لَوِ اشْتَرَى كَافِرٌ مُرْتَدًّا، فَوَجْهَانِ، لِبَقَاءِ عَلْقَةِ الْإِسْلَامِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ بِذِمِّيٍّ. فَرْعٌ: لَوِ اشْتَرَى كَافِرٌ كَافِرًا، فَأَسْلَمَ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ كَمَنِ اشْتَرَى عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ قَبْلَ قَبْضِهِ، أَمْ لَا كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبِقِ قَبْلَ قَبْضِهِ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْطُلُ، فَهَلْ يَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي، أَمْ يُنَصِّبُ الْحَاكِمُ مَنْ يَقْبِضُ عَنْهُ ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ؟ وَجْهَانِ. وَقَطَعَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ: بِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ، وَيَقْبِضُهُ الْحَاكِمُ، وَهَذَا أَصَحُّ.

فَرْعٌ: جَمِيعُ مَا سَبَقَ، تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ الْمَنْعِ. أَمَّا إِذَا صَحَّحْنَا شِرَاءَهُ، فَإِنْ عَلِمَ الْحَاكِمُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَيُمَكِّنُهُ مِنَ الْقَبْضِ، أَمْ يُنَصِّبُ مَنْ يَقْبِضُهُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِذَا حَصَلَ الْقَبْضُ، أَوْ عُلِمَ بِهِ بَعْدَ قَبْضِهِ، أَمَرَ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ فِيهِ، كَمَا نَذْكُرُهُ فِي الْفَرْعِ بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ: إِذَا كَانَ فِي يَدِ الْكَافِرِ عَبْدٌ، فَأَسْلَمَ، لَمْ يَزَلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يُقَرُّ فِي يَدِهِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ، بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ غَيْرِهَا. وَلَا يَكْفِي الرَّهْنُ وَالتَّزْوِيجُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْحَيْلُولَةُ، وَتَكْفِي الْكِتَابَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَتَكُونُ كِتَابَةً صَحِيحَةً. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَكْفِي، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كِتَابَةٌ فَاسِدَةٌ، فَيُبَاعُ الْعَبْدُ. وَالثَّانِي: صَحِيحَةٌ. ثُمَّ إِنْ جَوَّزْنَا بَيْعَ الْمُكَاتَبِ، بِيعَ مُكَاتَبًا، وَإِلَّا، فُسِخَتِ الْكِتَابَةُ وَالْبَيْعُ. وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ إِزَالَةِ مِلْكِهِ، بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، كَمَا يَبِيعُ مَالَ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُشْتَرِيًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ، صَبَرَ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَيَسْتَكْسِبُ لَهُ، وَتُؤْخَذُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ. وَلَوْ أَسْلَمَتْ مُسْتَوْلِدَةُ كَافِرٍ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى إِعْتَاقِهَا؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا يُجْبَرُ، بَلْ يُحَالُ بَيْنَهُمَا وَيُنْفَقُ عَلَيْهَا وَتَسْتَكْسِبُ لَهُ فِي يَدِ مُسْلِمٍ. وَلَوْ مَاتَ كَافِرٌ أَسْلَمَ عَبْدٌ فِي يَدِهِ، صَارَ لِوَارِثِهِ، وَأُمِرَ بِمَا كَانَ يُؤْمَرُ بِهِ مُورِثُهُ، فَإِنِ امْتَثَلَ، وَإِلَّا، بِيعَ عَلَيْهِ.

قُلْتُ: قَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابِهِ «اللُّبَابِ» : لَا يَدْخُلُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فِي مِلْكِ كَافِرٍ ابْتِدَاءً، إِلَّا فِي سِتِّ مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: بِالْإِرْثِ. الثَّانِيَةُ: يَسْتَرْجِعُهُ بِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي. الثَّالِثَةُ: يَرْجِعُ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ. الْخَامِسَةُ: إِذَا قَالَ لِمُسْلِمٍ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي، فَأَعْتَقَهُ وَصَحَّحْنَاهُ. السَّادِسَةُ: إِذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ الْكَافِرَ، فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ، ثُمَّ عَجَزَ عَنِ النُّجُومِ، فَلَهُ تَعْجِيزُهُ، وَهَذِهِ السَّادِسَةُ فِيهَا تَسَاهُلٌ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ فِيهِ لِيَتَجَدَّدَ بِالتَّعْجِيزِ. وَتَرَكَ سَابِعَةً، وَهِيَ: إِذَا اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: صَلَاحِيَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَيُعْتَبَرُ فِي الْمَبِيعِ لِصِحَّةِ بَيْعِهِ، خَمْسَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: الطَّهَارَةُ، فَالنَّجَسُ ضَرْبَانِ، نَجَسُ الْعَيْنِ، وَنَجَسٌ بِعَارِضٍ. فَالْأَوَّلُ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، فَمِنْهُ الْكَلْبُ، وَالْخِنْزِيرُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَسَوَاءٌ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُهُ، وَمِنْهُ الْمَيْتَةُ، وَسِرْجِينُ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ، وَالْبَوْلُ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفَيْلَجِ وَفِي بَاطِنِهِ الدُّودُ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ مِنْ مَصَالِحِهِ، كَالنَّجَاسَةِ فِي جَوْفِ الْحَيَوَانِ. قُلْتُ: الْفَيْلَجُ - بِالْفَاءِ - وَهُوَ الْقَزُّ. وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَفِيهِ الدُّودُ، سَوَاءٌ كَانَ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا، وَسَوَاءٌ بَاعَهُ وَزْنًا، أَوْ جُزَافًا، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي بَيْعِ بَزْرِ الْقَزِّ وَفَأْرَةِ الْمِسْكِ، وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى طَهَارَتِهِمَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مُتَنَجِّسٌ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، كَالثَّوْبِ،

وَالْخَشَبَةِ، وَالْآجُرِّ، فَيَجُوزُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ جَوْهَرَهَا طَاهِرٌ. فَإِنِ اسْتَتَرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنَّجَاسَةِ الْوَارِدَةِ، خَرَجَ عَلَى بَيْعِ الْغَائِبِ. وَالثَّانِي: مَا لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، كَالْخَلِّ، وَاللَّبَنِ، وَالدِّبْسِ، إِذَا تَنَجَّسَتْ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا. وَأَمَّا الدُّهْنُ، فَإِنْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ، كَوَدَكِ الْمَيْتَةِ، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ بِحَالٍ. وَإِنْ نَجُسَ بِعَارِضٍ، فَهَلْ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. فَعَلَى هَذَا، لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ كَالْبَوْلِ. وَالثَّانِي: يُمْكِنُ. فَعَلَى هَذَا، فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ، هَذَا تَرْتِيبُ الْأَصْحَابِ. وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، جَازَ بَيْعُهُ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: هَذَا التَّرْتِيبُ غَلَطٌ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جُزِمَ بِهِ فِي الْوَسِيطِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ؟ قَالَ الْمُتَوَلِّي: فِي بَيْعِ الصِّبْغِ النَّجِسِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: كَالزَّيْتِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَإِنَّمَا يُصْبَغُ بِهِ الثَّوْبُ ثُمَّ يُغْسَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي بَيْعِ الْمَاءِ النَّجِسِ، وَجْهَانِ، كَالدُّهْنِ إِذَا قُلْنَا: يُمْكِنُ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الْمَاءِ مُمْكِنٌ بِالْمُكَاثَرَةِ. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْجَزْمِ بِالْمَنْعِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِتَطْهِيرٍ، بَلْ يَسْتَحِيلُ بِبُلُوغِهِ قُلَّتَيْنِ مِنْ صِفَةِ النَّجَاسَةِ إِلَى الطَّهَارَةِ، كَالْخَمْرِ تَتَخَلَّلُ. وَيَجُوزُ نَقْلُ الدُّهْنِ النَّجِسِ إِلَى الْغَيْرِ بِالْوَصِيَّةِ، كَالْكَلْبِ. وَأَمَّا هِبَتُهُ وَالصَّدَقَةُ بِهِ، فَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: مَنْعُهُمَا. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا مَا فِي هِبَةِ الْكَلْبِ مِنَ الْخِلَافِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ بِصِحَّةِ الصَّدَقَةِ بِهِ لِلِاسْتِصْبَاحِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ جَزَمَ الْمُتَوَلِّي، بِأَنَّهُ يَجُوزُ نَقْلُ الْيَدِ فِيهِ بِالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي «الْمُخْتَصَرِ» : لَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ إِلَّا لِصَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، أَوْ زَرْعٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، هَذَا نَصُّهُ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى جَوَازِ اقْتِنَائِهِ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَى اقْتِنَائِهِ لِتَعْلِيمِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهُ،

وَالْأَصَحُّ: جَوَازُ اقْتِنَائِهِ لِحِفْظِ الدُّورِ وَالدُّرُوبِ وَتَرْبِيَةِ الْجَرْوِ لِذَلِكَ، وَتَحْرِيمُ اقْتِنَائِهِ قَبْلَ شِرَاءِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ. وَكَذَا كَلْبُ الصَّيْدِ لِمَنْ لَا يَصِيدُ. وَيَجُوزُ اقْتِنَاءُ السِّرْجِينِ، وَتَرْبِيَةُ الزَّرْعِ بِهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ. وَاقْتِنَاءُ الْخَمْرِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ. فَمَا لَا نَفْعَ فِيهِ، لَيْسَ بِمَالٍ، فَأَخْذُ الْمَالِ فِي مُقَابَلَتِهِ بَاطِلٌ. وَلِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ سَبَبَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقِلَّةُ، كَالْحَبَّةِ وَالْحَبَّتَيْنِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يُعَدُّ مَالًا، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى ظُهُورِ النَّفْعِ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا إِلَى مَا يُفْرَضُ مِنْ وَضْعِ الْحَبَّةِ فِي فَخٍّ. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ زَمَانِ الرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ. وَمَعَ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْحَبَّةِ مِنْ صُبْرَةِ الْغَيْرِ. فَإِنْ أَخَذَ، لَزِمَهُ رَدُّهَا. فَإِنْ تَلِفَتْ، فَلَا ضَمَانَ، إِذْ لَا مَالِيَّةَ لَهَا. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَضْمَنُ مِثْلَهَا. وَحَكَى صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَجْهًا: أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِقِلَّتِهِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. السَّبَبُ الثَّانِي: الْخِسَّةُ، كَالْحَشَرَاتِ. وَالْحَيَوَانُ الطَّاهِرُ، ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، كَالنَّعَمِ، وَالْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَالظِّبَاءِ، وَالْغِزْلَانِ. وَمِنَ الْجَوَارِحِ، كَالصُّقُورِ، وَالْبُزَاةِ، وَالْفَهْدِ. وَمِنَ الطَّيْرِ، كَالْحَمَامِ، وَالْعُصْفُورِ، وَالْعُقَابِ. وَمَا يُنْتَفَعُ بِلَوْنِهِ كَالطَّاوُوسِ، أَوْ صَوْتِهِ كَالزُّرْزُورِ. وَمِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، الْقِرْدُ، وَالْفِيلُ، وَالْهِرَّةُ، وَدُودُ الْقَزِّ. وَبَيْعُ النَّحْلِ فِي الْكِوَارَةِ صَحِيحٌ إِنْ شَاهَدَ جَمِيعَهُ، وَإِلَّا، فَهُوَ مِنْ بَيْعِ الْغَائِبِ. وَإِنْ بَاعَهُ وَهُوَ طَائِرٌ، فَوَجْهَانِ. قُطِعَ فِي «التَّتِمَّةِ» : بِالصِّحَّةِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» : بِالْبُطْلَانِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَالْخَنَافِسِ، وَالْعَقَارِبِ، وَالْحَيَّاتِ، وَالْفَأْرِ، وَالنَّمْلِ، وَنَحْوِهَا، وَلَا نَظَرَ إِلَى مَنَافِعِهَا الْمَعْدُودَةِ مِنْ خَوَاصِّهَا، وَفِي مَعْنَاهَا السِّبَاعُ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ وَالْقِتَالِ عَلَيْهَا، كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ. وَلَا يُنْظَرُ إِلَى اقْتِنَاءِ الْمُلُوكِ لَهَا لِلْهَيْبَةِ وَالسِّيَاسَةِ. وَنَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَجْهًا فِي جَوَازِ بَيْعِهَا؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ. وَالِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهَا مُتَوَقَّعٌ بِالدِّبَّاغِ. وَنَقَلَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ وَجْهًا آخَرَ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ النَّمْلِ فِي «عَسْكَرَ مُكْرَمٍ» وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْمَشْهُورَةُ بِخُرَاسَانَ؛ لِأَنَّهُ يُعَالَجُ بِهِ السُّكَّرُ، وَ «نَصِيبِينَ» ؛ لِأَنَّهُ تُعَالَجَ بِهِ الْعَقَارِبُ الطَّيَّارَةُ. وَالْوَجْهَانِ شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِدَأَةِ، وَالرَّخَمَةِ، وَالْغُرَابِ. فَإِنْ كَانَ فِي أَجْنِحَةِ بَعْضِهَا فَائِدَةٌ، جَاءَ فِيهَا الْوَجْهُ الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ الْجُلُودَ تُدْبَغُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَطْهِيرِ الْأَجْنِحَةِ. قُلْتُ: وَجْهُ الْجَوَازِ، الِانْتِفَاعُ بِرِيشِهَا فِي النَّبْلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ، يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي النَّبْلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْيَابِسَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَصِحُّ بَيْعُ الْعَلَقِ عَلَى الْأَصَحِّ لِمَنْفَعَةِ امْتِصَاصِ الدَّمِ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْحِمَارِ الزَّمِنِ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الزَّمِنِ، فَإِنَّهُ يُتَقَرَّبُ بِإِعْتَاقِهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِغَرَضِ جَلْدِهِ إِذَا مَاتَ. فَرْعٌ: السُّمُّ إِنْ كَانَ يَقْتُلُ كَثِيرُهُ وَيَنْفَعُ قَلِيلُهُ، كَالسُّقَمُونِيَا، وَالْأَفْيُونِ، جَازَ بَيْعُهُ. وَإِنْ قَتَلَ كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ، فَقُطِعَ بِالْمَنْعِ. وَمَالَ الْإِمَامُ وَشَيْخُهُ إِلَى الْجَوَازِ لِيُدَسَّ فِي طَعَامِ الْكَافِرِ.

فَرْعٌ: آلَاتُ الْمَلَاهِي: كَالْمِزْمَارِ وَالطُّنْبُورِ وَغَيْرِهِمَا، إِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تُعَدُّ بَعْدَ الرَّضِّ وَالْحَلِّ مَالًا، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا مَعْدُومَةٌ شَرْعًا. وَإِنْ كَانَ رُضَاضُهَا يُعَدُّ مَالًا، فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهَا وَبَيْعِ الْأَصْنَامِ وَالصُّوَرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهِمَا، وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. وَتَوَسَّطَ الْإِمَامُ، فَذَكَرَ الْإِمَامُ وَجْهًا ثَالِثًا اخْتَارَهُ هُوَ وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّهُ إِنِ اتُّخِذَتْ مِنْ جَوْهَرٍ نَفِيسٍ، صَحَّ بَيْعُهَا. وَإِنِ اتُّخِذَتْ مِنْ خَشَبٍ وَنَحْوِهِ، فَلَا، وَالْمَذْهَبُ: الْمَنْعُ الْمُطْلَقُ، وَبِهِ أَجَابَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ. فَرْعٌ: الْجَارِيَةُ الْمُغَنِّيَةُ الَّتِي تُسَاوِي أَلْفًا بِلَا غَنَاءٍ، إِذَا اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْنِ، فِيهِ أَوْجُهٌ. قَالَ الْمَحْمُودِيُّ: بِالْبُطْلَانِ، وَالْأَوْدَنِيُّ: بِالصِّحَّةِ، وَأَبُو زَيْدٍ: إِنْ قَصَدَ الْغَنَاءَ، بَطُلَ، وَإِلَّا، فَلَا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: قَوْلُ الْأَوْدَنِيِّ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ الْقِيَاسُ السَّدِيدُ وَلَوْ بِيعَتْ بِأَلْفٍ، صَحَّ قَطْعًا. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي كَبْشِ النِّطَاحِ وَالدِّيكِ الْهَرَّاشِ. وَلَوْ بَاعَ إِنَاءً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، صَحَّ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الذَّهَبُ فَقَطْ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: يُكْرَهُ بَيْعُ الشِّطْرَنْجِ. قَالَ: وَالنَّرْدُ، إِنْ صَلُحَ لِبَيَاذِقِ الشِّطْرَنْجِ، فَكَالشِّطْرَنْجِ، وَإِلَّا، فَكَالْمِزْمَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: بَيْعُ الْمَاءِ الْمَمْلُوكِ صَحِيحٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَسَتَأْتِي تَفَارِيعُهُ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِذَا صَحَّحْنَاهُ، فَفِي بَيْعِهِ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، وَبَيْعِ التُّرَابِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَبَيْعِ الْحِجَارَةِ بَيْنَ الشِّعَابِ الْكَثِيرَةِ، وَالْأَحْجَارِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. فَرْعٌ: بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ صَحِيحٌ. قُلْتُ: وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ نَجِسٌ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، حَكَاهُ فِي «الْحَاوِي» عَنِ الْأَنْمَاطِيِّ، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ، وَسَبَقَ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ «الطَّهَارَةِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِمَنْ يَقَعُ الْعَقْدُ لَهُ. فَإِنْ بَاشَرَ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ، فَلْيَكُنْ لَهُ، وَإِنْ بَاشَرَهُ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَةٍ أَوْ وِكَالَةٍ، فَلْيَكُنْ لِذَلِكَ الْغَيْرِ. فَلَوْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ وَلَا وِلَايَةٍ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: بُطْلَانُهُ. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَ، نَفَذَ، وَإِلَّا، لَغَا. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِيمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَةَ غَيْرِهِ أَوِ ابْنَتَهُ، أَوْ طَلَّقَ مَنْكُوحَتَهُ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، أَوْ أَجَّرَ دَارَهُ، أَوْ وَهَبَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَلَوِ اشْتَرَى الْفُضُولِيُّ لِغَيْرِهِ، نَظَرَ، إِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ الْغَيْرِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، وَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، نَظَرَ، إِنْ أَطْلَقَ أَوْ نَوَى كَوْنَهُ لِلْغَيْرِ، فَعَلَى الْجَدِيدِ: يَقَعُ لِلْمُبَاشِرِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ: يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، فَإِنْ رَدَّ،

نَفَذَ فِي حَقِّ الْفُضُولِيِّ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ لِفُلَانٍ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَهُوَ كَاشْتِرَائِهِ بِعَيْنِ مَالِ الْغَيْرِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ لِفُلَانٍ بِأَلْفٍ، وَلَمْ يُضِفِ الثَّمَنَ إِلَى ذِمَّتِهِ، فَعَلَى الْجَدِيدِ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَلْغُو الْعَقْدُ، وَالثَّانِي: يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ. وَعَلَى الْقَدِيمِ: يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ فُلَانٍ، فَإِنْ رَدَّ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ، نَظَرَ، إِنْ لَمْ يُسَمِّهُ، وَقَعَ الْعَقْدُ عَنِ الْمُبَاشِرِ، سَوَاءٌ أَذِنَ ذَلِكَ الْغَيْرُ، أَمْ لَا. وَإِنْ سَمَّاهُ، نَظَرَ، إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، لَغَتِ التَّسْمِيَةُ. وَهَلْ يَقَعُ عَنْهُ، أَمْ يَبْطُلُ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ، فَهَلْ تَلْغُو التَّسْمِيَةُ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَهَلْ يَبْطُلُ مِنْ أَصْلِهِ، أَمْ يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا، وَقَعَ عَنِ الْآذِنِ. وَهَلْ يَكُونُ الثَّمَنُ الْمَدْفُوعُ قَرْضًا، أَمْ هِبَةً؟ وَجْهَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَحَيْثُ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَقْدِ مُجِيزٌ فِي الْحَالِ، مَالِكًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ الطِّفْلِ، أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَالْمُعْتَبَرُ إِجَازَةُ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عِنْدَ الْعَقْدِ. حَتَّى لَوْ بَاعَ مَالَ الطِّفْلِ، فَبَلَغَ وَأَجَازَ، لَمْ يَنْفُذْ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ، ثُمَّ مَلَكَهُ وَأَجَازَ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَمْ يَعْرِفِ الْعِرَاقِيُّونَ هَذَا الْقَوْلَ الْقَدِيمَ، وَقَطَعُوا بِالْبُطْلَانِ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ هَذَا الْقَدِيمَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، الْمَحَامِلِيُّ فِي «اللُّبَابِ» ، وَالشَّاشِيُّ، وَصَاحِبُ «الْبَيَانِ» ، وَنُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْبُوَيْطِيِّ» ، وَهُوَ قَوِيٌّ، وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ هُوَ الْجَدِيدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لَوْ غَصَبَ أَمْوَالًا وَبَاعَهَا وَتَصَرَّفَ فِي أَثْمَانِهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: بُطْلَانُ الْجَمِيعِ. وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِ أَنْ يُجِيزَهَا وَيَأْخُذَ الْحَاصِلَ مِنْهَا، لِعُسْرِ تَتَبُّعِهَا بِالْإِبْطَالِ.

فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَيٌّ وَهُوَ فُضُولِيٌّ، فَبَانَ مَيِّتًا حِينَئِذٍ، وَأَنَّهُ مَلَكَ الْعَاقِدَ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، لِصُدُورِهِ مِنْ مَالِكٍ. وَالثَّانِي: الْبُطْلَانُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُعَلَّقِ بِمَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ كَالْغَائِبِ. وَلَا يَبْعُدُ تَشْبِيهُ هَذَا الْخِلَافِ بِبَيْعِ الْهَازِلِ - هَلْ يَنْعَقِدُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ - وَبِالْخِلَافِ فِي بَيْعِ التَّلْجِئَةِ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَخَافَ غَصْبَ مَالِهِ، أَوِ الْإِكْرَاهَ عَلَى بَيْعِهِ، فَيَبِيعَهُ لِإِنْسَانٍ بَيْعًا مُطْلَقًا. وَقَدْ تَوَافَقَا قَبْلَهُ عَلَى أَنَّهُ لِدَفْعِ الشَّرِّ، لَا عَلَى حَقِيقَةِ الْبَيْعِ. وَالصَّحِيحُ: صِحَّتُهُ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ آبِقٌ أَوْ مَكَاتَبٌ، فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ، وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ. وَيَجْرِي فِيمَنْ زَوَّجَ أَمَةَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَيٌّ، فَبَانَ مَيِّتًا، هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ؟ فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَقَدْ نَقَلُوا وَجْهَيْنِ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ مَاتَ أَبِي فَقَدْ زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ. فَرْعٌ: الْقَوْلَانِ فِي أَصْلِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَفِي الْفَرْعَيْنِ بَعْدَهُ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِقَوْلَيْ وَقْفِ الْعُقُودِ. وَحَيْثُ قَالُوا: فِيهِ قَوْلَا وَقْفِ الْعُقُودِ، أَرَادُوا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَسُمِّيَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ آيِلٌ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ، هَلْ يَنْعَقِدُ عَلَى التَّوَقُّفِ، أَمْ لَا بَلْ يَكُونُ بَاطِلًا؟ ثُمَّ ذَكَرَ الْإِمَامُ: أَنَّ الصِّحَّةَ عَلَى قَوْلِ الْوَقْفِ نَاجِزَةٌ، لَكِنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْإِجَازَةِ. قَالَ: وَيَطَّرِدُ الْوَقْفُ فِي كُلِّ عَقْدٍ يَقْبَلُ الِاسْتِنَابَةَ، كَالْبُيُوعِ، وَالْإِجَارَاتِ، وَالْهِبَاتِ، وَالْعِتْقِ، وَالطَّلَاقِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِهَا. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا. وَفَوَاتُهَا قَدْ يَكُونُ حِسًّا، وَقَدْ يَكُونُ شَرْعًا. وَفِيهِ مَسَائِلُ.

إِحْدَاهَا: بَيْعُ الْآبِقِ وَالضَّالِّ بَاطِلٌ، عَرَفَ مَوْضِعَهُ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْحُكْمِ بِالْبُطْلَانِ، الْيَأْسُ مِنَ التَّسْلِيمِ، بَلْ يَكْفِي ظُهُورُ التَّعَذُّرِ. وَأَحْسَنَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، فَقَالَ: إِذَا عَرَفَ مَوْضِعَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَصِلُهُ إِذَا رَامَ وُصُولَهُ، فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْآبِقِ. الثَّانِيَةُ: إِذَا بَاعَ الْمَالِكُ مَالَهُ الْمَغْصُوبَ، نَظَرَ، إِنْ قَدَرَ الْبَائِعُ عَلَى اسْتِرْدَادِهِ وَتَسَلُّمِهِ، صَحَّ الْبَيْعُ، كَمَا يَصِحُّ بَيْعُ الْوَدِيعَةِ. وَإِنْ عَجَزَ، نَظَرَ، إِنْ بَاعَهُ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنَ الْغَاصِبِ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ بَاعَهُ مِنْ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ إِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْحَالِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ. لَكِنْ لَوْ عَجَزَ عَنِ انْتِزَاعِهِ لِضَعْفٍ عَرَضَ لَهُ أَوْ قُوَّةٍ عَرَضَتْ لِلْغَاصِبِ، فَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا حَالَ الْعَقْدِ، فَلَهُ الْخِيَارُ. وَلَوْ بَاعَ الْآبِقَ مِمَّنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ رَدُّهُ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ فِي الْمَغْصُوبِ. وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْآبِقَةِ وَالْمَغْصُوبَةِ، وَإِعْتَاقُهُمَا. قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : لَا يَجُوزُ كِتَابَةُ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّمْكِينَ مِنَ التَّصَرُّفِ. الثَّالِثَةُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ. وَلَوْ بَاعَ السَّمَكَ فِي بِرْكَةٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُمْكِنُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ، صَحَّ. وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلَّا بِتَعَبٍ شَدِيدٍ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَحَيْثُ صَحَّحْنَا، فَهُوَ إِذَا لَمْ يَمْنَعِ الْمَاءُ رُؤْيَتَهُ، فَإِنْ مَنَعَهَا، فَعَلَى قَوْلَيْ بَيْعِ الْغَائِبِ إِنْ عَرَفَ قَدْرَهُ وَصِفَتَهُ، وَإِلَّا، فَلَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَبَيْعُ الْحَمَامِ فِي الْبُرْجِ عَلَى تَفْصِيلِ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْبِرْكَةِ. وَلَوْ بَاعَهَا وَهِيَ طَائِرَةٌ اعْتِمَادًا عَلَى عَادَةِ عَوْدِهَا لَيْلًا، فَوَجْهَانِ كَمَا سَبَقَ فِي النَّحْلِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: الصِّحَّةُ، كَالْعَبْدِ الْمَبْعُوثِ فِي شُغُلٍ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْمَنْعُ، إِذْ لَا وُثُوقَ بِعَوْدِهَا، لِعَدَمِ عَقْلِهَا. قُلْتُ: وَلَوْ بَاعَ ثَلْجًا أَوْ جَمَدًا وَزْنًا، وَكَانَ يَنْمَاعُ إِلَى أَنْ يُوزَنَ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى

الْأَصَحِّ، وَسَيَأْتِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَنْثُورَةِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: لَوْ بَاعَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ سَيْفٍ أَوْ إِنَاءٍ وَنَحْوِهِمَا، صَحَّ وَصَارَ مُشْتَرَكًا. وَلَوْ عَيَّنَ بَعْضَهُ وَبَاعَهُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِقَطْعِهِ، وَفِيهِ نَقْصٌ وَتَضْيِيعٌ لِلْمَالِ. وَلَوْ بَاعَ ذِرَاعًا فَصَاعِدًا مِنْ ثَوْبٍ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الذِّرَاعَ، فَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ عَيَّنَهُ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ نَفِيسًا تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بِالْقَطْعِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ كَذِرَاعٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَكَمَا يَصِحُّ بَيْعُ أَحَدِ زَوْجَيِ الْخُفِّ وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُمَا بِتَفْرِيقِهِمَا، وَالْقِيَاسُ طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ السَّيْفِ وَالْإِنَاءِ. وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ بِالْقَطْعِ كَغَلِيظِ الْكِرْبَاسِ، صَحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَشَيْخُهُ فِيهِ وَجْهَيْنِ. وَلَوْ بَاعَ جُزْءًا مُعَيَّنًا مِنْ جِدَارٍ أَوْ أُسْطُوَانَةٍ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ شَيْءٌ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِلَّا بِهَدْمِ مَا فَوْقَهُ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ قِطْعَةً وَاحِدَةً مِنْ طِينٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ; لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ كَانَ مِنْ لَبَنٍ أَوْ آجُرٍّ ; جَازَ. هَكَذَا أَطْلَقَهُ فِي «التَّلْخِيصِ» ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَا لَوْ جُعِلَتِ النِّهَايَةُ صَفًّا مِنَ الْآجُرِّ أَوِ اللَّبِنِ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ الْمَقْطَعُ نِصْفَ سُمْكِهَا. وَفِي تَجْوِيزِ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ مِنْ لَبِنٍ أَوْ آجُرٍّ إِشْكَالٌ، وَإِنْ جُعِلَ النِّهَايَةُ مَا ذَكَرُوهُ ; لِأَنَّ مَوْضِعَ الشَّقِّ قِطْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّ رَفْعَ بَعْضِ الْجِدَارِ يَنْقُصُ قِيمَةَ الْبَاقِي، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ. وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ بَاعَ جِذْعًا فِي بِنَاءٍ ; لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّ الْهَدْمَ يُوجِبُ النَّقْصَ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجِذْعِ وَالْآجُرِّ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ فَصًّا فِي خَاتَمٍ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ لِـ «الْمِفْتَاحِ» : أَنَّهُ لَوْ بَاعَ دَارًا إِلَّا بَيْتًا فِي صَدْرِهَا لَا يَلِي شَارِعًا وَلَا مِلْكًا لَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا مَمَرَّ لَهُ فِي الْمَبِيعِ، لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ. الْخَامِسَةُ: لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَرْهُونِ بَعْدَ الْإِقْبَاضِ قَبْلَ الْفِكَاكِ. السَّادِسَةُ: جِنَايَةُ الْعَبْدِ، إِنْ أَوْجَبَتْ مَالًا مُتَعَلِّقًا بِذِمَّتِهِ، لَمْ يُمْنَعْ بَيْعُهُ بِحَالٍ. وَإِنْ أَوْجَبَتْهُ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ، فَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ، صَحَّ، كَذَا أَطْلَقَهُ فِي

«التَّهْذِيبِ» . وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَلَا، وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ الْخِلَافَ الْآتِيَ فِي الْمُوسِرِ، وَحَكَمَ بِالْخِيَارِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ صَحَّحْنَا. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَقِيلَ: مَوْقُوفٌ. فَإِنْ فَدَاهُ، نَفَذَ، وَإِلَّا، فَلَا. فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحِ الْبَيْعَ، فَالسَّيِّدُ عَلَى خِيرَتِهِ، إِنْ شَاءَ فَدَاهُ، وَإِلَّا، فَيُسَلِّمُهُ لِيُبَاعَ فِي الْجِنَايَةِ. وَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، فَالسَّيِّدُ مُلْتَزِمٌ لِلْفِدَاءِ بِبَيْعِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِجِنَايَتِهِ، فَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْفِدَاءِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ قَتَلَهُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى خِيرَتِهِ، إِنْ فَدَى، أَمْضَى الْبَيْعَ، وَإِلَّا، فَسَخَ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِلْفِدَاءِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْفِدَاءِ أَوْ تَأَخَّرَ لِإِفْلَاسِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ أَوْ صَبْرِهِ عَلَى الْحَبْسِ، فُسِخَ الْبَيْعُ، وَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ سَبَقَ حَقَّ الْمُشْتَرِي. هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَوْجَبَتِ الْجِنَايَةُ الْمَالَ، لِكَوْنِهَا خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، أَوْ عَفَا مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ، أَوْ أَتْلَفَ الْعَبْدُ مَالًا. أَمَّا إِذَا أَوْجَبَتْ قِصَاصًا وَلَا عَفْوَ، فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْبَيْعِ كَبَيْعِ الْمَرِيضِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْمَوْتِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَإِذَا اخْتَصَرْتَ، قُلْتَ: الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ إِنْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ مَالٌ، وَيَصِحُّ إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ قِصَاصٌ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْجَانِي، فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُعْسِرًا، لَمْ يَنْفُذْ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: لَا يَنْفُذُ قَطْعًا. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، نَفَذَ عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ. وَالثَّالِثُ: مَوْقُوفٌ. إِنْ فَدَاهُ، نَفَذَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَاسْتِيلَادُ الْجَانِيَةِ، كَإِعْتَاقِهَا. وَمَتَى فَدَى السَّيِّدُ الْجَانِي، فَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ يَفْدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأَرْشِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: يَتَعَيَّنُ الْأَرْشُ وَإِنْ كَثُرَ. قُلْتُ: وَلَوْ وَلَدَتِ الْجَارِيَةُ، لَمْ يَتَعَلَّقِ الْأَرْشُ بِالْوَلَدِ قَطْعًا، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي «نَمَاءِ الرَّهْنِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا. وَلَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ. أَمَّا الْعَيْنُ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ عَبْدًا مِنَ الْعَبِيدِ، أَوْ أَحَدَ عَبْدَيَّ أَوْ عَبِيدِي هَؤُلَاءِ، أَوْ شَاةً مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ،

فَهُوَ بَاطِلٌ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: بِعْتُهُمْ، إِلَّا وَاحِدًا، مُبْهَمًا. وَسَوَاءٌ تَسَاوَتْ قِيمَةُ الْعَبِيدِ وَالشِّيَاهِ، أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ قَالَ: وَلَكَ الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ، أَمْ لَا. وَحَكَى فِي «التَّتِمَّةِ» قَوْلًا قَدِيمًا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ أَحَدَ عَبِيدَيَّ، أَوْ عَبِيدِي الثَّلَاثَةَ، عَلَى أَنْ تَخْتَارَ مَنْ شِئْتَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ، صَحَّ الْعَقْدُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ فَاخْتَلَطَ بِعَبِيدٍ لِغَيْرِهِ، فَقَالَ: بِعْتُكَ عَبْدِي مِنْ هَؤُلَاءِ، وَالْمُشْتَرِي يَرَاهُمْ وَلَا يَعْرِفُ عَيْنَهُ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَهُ حُكْمُ بَيْعِ الْغَائِبِ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : عِنْدِي أَنَّهُ بَاطِلٌ. فَرْعٌ: بَيْعُ الْجُزْءِ الشَّائِعِ مَنْ كُلِّ جُمْلَةٍ مَعْلُومَةٍ، مِنْ دَارٍ، وَأَرْضٍ، وَعَبْدٍ، وَصُبْرَةٍ، وَثَمَرَةٍ، وَغَيْرِهَا، صَحِيحٌ. لَكِنْ لَوْ بَاعَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ شَيْءٍ بِمِثْلِهِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، كَالدَّارِ وَالْفَرَسِ، [كَمَا إِذَا كَانَ] بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، بَاعَ نِصْفَهُ بِنِصْفِ صَاحِبِهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ، لِوُجُودِ شَرَائِطِهِ، وَلَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا: لَوْ كَانَا جَمِيعًا أَوْ أَحَدُهُمَا مِلْكَ نَصِيبِهِ بِالْهِبَةِ مِنْ أَبِيهِ، انْقَطَعَتْ وَلَايَةُ الرُّجُوعِ. وَمِنْهَا: لَوْ مَلَكَهُ بِالشِّرَاءِ، ثُمَّ اطَّلَعَ بَعْدَ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى عَيْبٍ، لَمْ يَمْلِكِ الرَّدَّ عَلَى بَائِعِهِ. وَمِنْهَا: لَوْ مَلَّكَتْهُ بِالصَّدَاقِ، فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ. قُلْتُ: وَلَوْ بَاعَ نِصْفَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ نِصْفِ صَاحِبِهِ، فَفِي صِحَّتِهِ الْوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، وَيَصِيرُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» ، وَاسْتَبْعَدَهُ الْإِمَامُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ «الصُّلْحِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَاعَ الْجُمْلَةَ، وَاسْتَثْنَى مِنْهَا جُزْءًا شَائِعًا، جَازَ. مِثَالُهُ: بِعْتُكَ ثَمَرَةَ هَذَا الْبُسْتَانِ، إِلَّا رُبُعَهَا وَقَدْرَ الزَّكَاةِ مِنْهَا. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ ثَمَرَةَ هَذَا الْبُسْتَانِ بِثَلَاثَةِ

آلَافِ دِرْهَمٍ، إِلَّا مَا يَخُصُّ أَلْفًا، فَإِنْ أَرَادَ مَا يَخُصُّهُ إِذَا وُزِّعَتِ الثَّمَرَةُ عَلَى الْمَبْلَغِ الْمَذْكُورِ، صَحَّ، وَكَانَ اسْتِثْنَاءً لِلثُّلُثِ. وَإِنْ أَرَادَ مَا يُسَاوِي أَلْفًا عِنْدَ التَّقْوِيمِ، فَلَا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. فَرْعٌ: إِذَا بَاعَ أَذْرُعًا مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ ثَوْبٍ، فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ جُمْلَةَ ذُرْعَانِهَا، بِأَنْ بَاعَ ذِرَاعًا مِنْ عَشَرَةٍ، وَيَعْلَمَانِ أَنَّ الْجُمْلَةَ عَشَرَةٌ، صَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَأَنَّهُ بَاعَهُ الْعَشْرَ. قَالَ الْإِمَامُ: إِلَّا أَنْ يَعْنِيَ مُعَيَّنًا فَيَبْطُلُ، كَشَاةٍ مِنَ الْقَطِيعِ. وَلَوِ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَرَدْتُ الْإِشَاعَةَ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْبَائِعُ: بَلْ أَرَدْتُ مُعَيَّنًا، فَفِيمَنْ يُصَدَّقُ؟ احْتِمَالَانِ. قُلْتُ: أَرْجَحُهُمَا: الْبَائِعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَعْلَمُ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى طَرَفِ الْأَرْضِ وَقَالَ: بِعْتُكَ كَذَا ذِرَاعًا مِنْ مَوْقِفِي هَذَا فِي جَمِيعِ الْعَرْضِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي فِي الطُّولِ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَا مَبْلَغَ صِيعَانِهَا فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ قَطْعًا، وَيُنَزَّلُ عَلَى الْإِشَاعَةِ. وَلَوْ كَانَتِ الصُّبْرَةُ مِائَةَ صَاعٍ، فَالْمَبِيعُ عُشْرُ الْعُشْرِ، فَلَوْ تَلِفَ بَعْضُهَا، تَلِفَ بِقَدْرِهِ مِنَ الْمَبِيعِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى الْإِمَامُ فِي تَنْزِيلِهِ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: الْمَبِيعُ صَاعٌ مِنَ الْجُمْلَةِ غَيْرُ مُشَاعٍ، أَيُّ صَاعٍ كَانَ. فَعَلَى هَذَا، يَبْقَى الْمَبِيعُ مَا بَقِيَ صَاعٌ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْلَمَا أَوْ أَحَدُهَا مَبْلَغَ صِيعَانِهَا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ: لَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ فَرَّقَ صِيعَانَ الصُّبْرَةِ، وَقَالَ: بِعْتُكَ صَاعًا مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَأَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، يُفْتِي بِهَذَا الثَّانِي مَعَ ذَهَابِهِ إِلَى الْأَوَّلِ، وَيَقُولُ: الْمُسْتَفْتِي يَسْتَفْتِينِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَا عَمَّا عِنْدِي. وَعَلَى هَذَا، الْمَبِيعُ صَاعٌ مِنْهَا، أَيُّ صَاعٍ كَانَ. فَلَوْ تَلِفَ جَمِيعُهَا إِلَّا صَاعًا، تَعَيَّنَ الْعَقْدُ فِيهِ، وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ صَاعًا مِنْ أَعْلَى الصُّبْرَةِ أَوْ أَسْفَلَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَسْفَلُ مَرْئِيًّا؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ ظَاهِرِ الصُّبْرَةِ كَرُؤْيَةِ كُلِّهَا. قُلْتُ: وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَوْ فُرِّقَتْ صِيعَانُهَا فَبَاعَ صَاعًا لَمْ يَصِحَّ، فَهَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» فِي تَعْلِيقِهِ فِي الْخِلَافِ عَنْ شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ صِحَّةَ بَيْعِهِ، لِعَدَمِ الْغَرَرِ. وَالصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: إِبْهَامُ مَمَرِّ الْأَرْضِ الْمَبِيعَةِ، كَإِبْهَامِ نَفْسِ الْمَبِيعِ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَبِيعَ أَرْضًا مَحْفُوفَةً بِمِلْكِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَيَشْرُطُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْمَمَرِّ مِنْ جَانِبٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِالْمَمَرِّ. فَإِنْ عَيَّنَ الْمَمَرَّ مِنْ جَانِبٍ، صَحَّ الْبَيْعُ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَهَا بِحُقُوقِهَا، صَحَّ، وَثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْمَمَرِّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا كَانَ ثَابِتًا لِلْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْبَيْعَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَمَرِّ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَهَا بِحُقُوقِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْمَمَرَّ، فَعَلَى هَذَا هُوَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْمَمَرِّ، وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: بُطْلَانُ الْبَيْعِ، لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ فِي الْحَالِ، وَالثَّانِي: الصِّحَّةُ؛ لِإِمْكَانِ تَحْصِيلِ الْمَمَرِّ، وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ مَمَرٍّ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ

فصل

كَانَتِ الْأَرْضُ الْمَبِيعَةُ مُلَاصِقَةً لِلشَّارِعِ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي سُلُوكُ مِلْكِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِهَا الدُّخُولُ مِنَ الشَّارِعِ، فَيُنَزَّلُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَتْ مُلَاصِقَةً مِلْكِ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْمُرُورِ فِيمَا بَقِيَ لِلْبَائِعِ، بَلْ يَدْخُلُ مِنْ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ. وَأَبْدَى الْإِمَامُ فِيهِ احْتِمَالًا، قَالَ: وَهَذَا إِذَا أَطْلَقَ الْبَيْعَ، أَمَّا إِذَا قَالَ: بِحُقُوقِهَا، فَلَهُ الْمَمَرُّ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ. وَلَوْ بَاعَ دَارًا وَاسْتَثْنَى لِنَفْسِهِ بَيْتًا فَلَهُ الْمَمَرُّ، فَإِنْ نَفَى الْمَمَرَّ، نَظَرَ، إِنْ أَمْكَنَ اتِّخَاذُ مَمَرٍّ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانُ كَمَنْ بَاعَ ذِرَاعًا مِنْ ثَوْبٍ يَنْقُصُ بِالْقَطْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْقَدْرُ، فَالْمَبِيعُ قَدْ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُعَيَّنًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ السَّلَمُ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَشْهُورُ بِاسْمِ الْبَيْعِ، وَالثَّمَنُ فِيهِمَا جَمِيعًا قَدْ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ يُشْتَرَطُ فِي السَّلَمِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَقَدْ يَكُونُ مُعَيَّنًا، فَمَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنَ العِوَضَيْنِ، اشْتُرِطَ كَوْنُهُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ مِلْءَ هَذَا الْبَيْتِ حِنْطَةً، أَوْ بِزِنَةِ هَذِهِ الصَّنْجَةِ ذَهَبًا، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ بِمَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ فَرَسَهُ أَوْ ثَوْبَهُ، وَأَحَدُهُمَا لَا يَعْلَمُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِلْغَرَرِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ، لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْعِلْمِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ، كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، يَصِحُّ الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَجْهُولَةً فِي الْحَالِ. وَقِيلَ: إِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، صَحَّ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، لَمْ يَصِحَّ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَا قِيمَةَ الدِّينَارِ بِالدَّرَاهِمِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَلَّا يَكْفِيَ عِلْمُهُمَا بِالْقِيمَةِ، بَلْ يُشْتَرَطُ مَعَهُ قَصْدُهُمَا اسْتِثْنَاءَ الْقِيمَةِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْمُسْتَظْهَرِيِّ» فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمَا حَالَ الْعَقْدِ قِيمَةَ الدِّينَارِ بِالدَّرَاهِمِ،

ثُمَّ عَلِمَا فِي الْحَالِ طَرِيقَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: عَلَى وَجْهَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لَمْ يَصِحَّ. فَرْعٌ: إِذَا بَاعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، اشْتُرِطَ الْعِلْمُ بِنَوْعِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ، أَوْ نُقُودٌ يَغْلِبُ التَّعَامُلُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، انْصَرَفَ الْعَقْدُ إِلَى الْمَعْهُودِ وَإِنْ كَانَ فُلُوسًا، إِلَّا أَنْ يُعَيَّنَ غَيْرُهُ. فَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ مَغْشُوشًا، فَفِي صِحَّةِ الْمُعَامَلَةِ بِهِ وَجْهَانِ ذَكْرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ «الزَّكَاةِ» ، إِلَّا أَنَّا خَصَّصْنَاهُمَا بِمَا إِذَا كَانَ قَدْرُ النَّقْرَةِ مَجْهُولًا، وَرُبَّمَا نَقَلَ الْعِرَاقِيُّونَ الْوَجْهَيْنِ مُطْلَقًا، وَوَجَّهُوا الْمَنْعَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ عَمَّا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، فَصَارَ كَمَا لَوْ شِيبَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَبِيعَ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَحُكِيَ وَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْغِشُّ غَالِبًا، لَمْ يَجُزِ التَّعَامُلُ بِهَا. وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا، جَازَ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ، الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ مُطْلَقًا، وَعَلَى هَذَا، يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْعَقْدُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَلَوْ بَاعَ بِمَغْشُوشَةٍ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ فِضَّتَهَا قَلِيلَةٌ جِدًّا، فَلَهُ الرَّدُّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ أَوْ نُقُودٌ لَا غَلَبَةَ لِبَعْضِهَا، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ حَتَّى يُعَيَّنَ. وَتَقْوِيمُ الْمُتْلَفِ يَكُونُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ. فَإِنْ كَانَ فِيهِ نَقْدَانِ فَصَاعِدًا، وَلَا غَالِبَ، عَيَّنَ الْقَاضِي وَاحِدًا لِلتَّقْوِيمِ. وَلَوْ غَلَبَ مِنْ جِنْسِ الْعُرُوضِ نَوْعٌ، فَهَلْ يَنْصَرِفُ الذِّكْرُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَنْصَرِفُ كَالنَّقْدِ. وَمِنْ صُوَرِهِ: أَنْ يَبِيعَ صَاعًا مِنَ الْحِنْطَةِ بِصَاعٍ مِنْهَا أَوْ بِشَعِيرٍ فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ يُحْضِرُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ. وَكَمَا يَنْصَرِفُ الْعَقْدُ إِلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ، يَنْصَرِفُ فِي الصِّفَاتِ إِلَيْهِ أَيْضًا. حَتَّى لَوْ بَاعَ بِدِينَارٍ أَوْ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَالْمَعْهُودُ فِي الْبَلَدِ الصِّحَاحُ، انْصَرَفَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْهُودُ الْمُكَسَّرَ، انْصَرَفَ إِلَيْهِ. قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : إِلَّا أَنْ تَتَفَاوَتَ قِيمَةُ

الْمُكَسَّرِ، فَلَا يَصِحُّ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، لَوْ كَانَ الْمَعْهُودُ، أَنْ يُؤْخَذَ نِصْفُ الثَّمَنِ مِنْ هَذَا، وَنِصْفُهُ مِنْ ذَاكَ، أَوْ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى نِسْبَةٍ أُخْرَى، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ يُعْهَدُ التَّعَامُلُ بِهَذَا مَرَّةً، وَبِهَذَا مَرَّةً، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَسَلَّمَ مَا شَاءَ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ بَطَلَ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ غَالِبَانِ وَأُطْلِقَ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ بِأَلْفٍ صِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ وَيُحْمَلُ عَلَى التَّنْصِيفِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَجْرِيَ هَذَا الْوَجْهُ فِيمَا إِذَا قَالَ: بِعْتُ بِأَلْفٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً. قُلْتُ: لَا جَرَيَانَ لَهُ هُنَاكَ، وَالْفَرْقُ كَثْرَةُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَعْظُمُ الْغَرَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِدِينَارٍ صَحِيحٍ، فَجَاءَ بِصَحِيحَيْنِ وَزْنُهُمَا مِثْقَالٌ، لَزِمَهُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ. وَإِنْ جَاءَ بِصَحِيحٍ وَزْنُهُ مِثْقَالٌ وَنِصْفٌ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَزِمَهُ قَبُولُهُ، وَالزِّيَادَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ، لِمَا فِي الشَّرِكَةِ مِنَ الضَّرَرِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي «الْبَيَانِ» نَحْوُ هَذَا، فَلَوْ تَرَاضَيَا بِهِ، جَازَ. وَحِينَئِذٍ لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا كَسْرَهُ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، لِمَا فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مِنَ الضَّرَرِ. وَلَوْ بَاعَ بِنِصْفِ دِينَارٍ صَحِيحٍ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مُدَوَّرًا، جَازَ إِنْ كَانَ يَعُمُّ وُجُودُهُ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ، فَعَلَيْهِ شَقٌّ وَزْنُهُ نِصْفُ مِثْقَالٍ. فَإِنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ صَحِيحًا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ مِثْقَالٍ وَتَرَاضَيَا بِالشَّرِكَةِ فِيهِ، جَازَ. وَلَوْ بَاعَهُ شَيْئًا بِنِصْفِ دِينَارٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ بَاعَهُ شَيْئًا آخَرَ بِنِصْفِ دِينَارٍ صَحِيحٍ، فَإِنْ سَلَّمَ صَحِيحًا عَنْهُمَا، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَإِنْ سَلَّمَ قِطْعَتَيْنِ وَزْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ دِينَارٍ، جَازَ. فَلَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي تَسْلِيمَ صَحِيحٍ عَنْهُمَا، فَالْعَقْدُ الثَّانِي فَاسِدٌ، وَالْأَوَّلُ مَاضٍ

عَلَى الصِّحَّةِ إِنْ جَرَى الثَّانِي بَعْدَ لُزُومِهِ، وَإِلَّا، فَهُوَ إِلْحَاقُ شَرْطٍ فَاسِدٍ بِالْعَقْدِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ بِنَقْدٍ قَدِ انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ. وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ، وَيُوجَدُ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا إِلَى مُدَّةٍ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ فِيهَا، فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا إِلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُ نَقْلُهُ فِيهَا، صَحَّ. ثُمَّ إِنْ حَلَّ الْأَجَلُ وَقَدْ أَحْضَرَهُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ عَنِ الثَّمَنِ، هَلْ يَجُوزُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَهُوَ كَانْقِطَاعِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ. وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، اسْتُبْدِلَ، وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يَنْفَسِخُ. فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي الْبَلَدِ، إِلَّا أَنَّهُ عَزِيزٌ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ، صَحَّ الْعَقْدُ. فَإِنْ وُجِدَ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَيُسْتَبْدَلُ. وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ، لَمْ يَصِحَّ. فَلَوْ كَانَ النَّقْدُ الَّذِي جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ مَوْجُودًا، ثُمَّ انْقَطَعَ. فَإِنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ، اسْتُبْدِلَ، وَإِلَّا، فَهُوَ كَانْقِطَاعِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ. فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ بِنَقْدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقٍ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، فَأَبْطَلَ السُّلْطَانُ ذَلِكَ النَّقْدَ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ إِلَّا ذَاكَ النَّقْدُ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ فَرَخُصَتْ، فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ أَجَازَ الْعَقْدَ بِذَلِكَ النَّقْدِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ، كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ قَبْلَ الْقَبْضِ.

فَرْعٌ: لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ، كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ، أَوِ الثَّوْبَ، كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ هَذِهِ الْأَغْنَامَ، كُلُّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ، صَحَّ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا تَضُرُّ جَهَالَةُ جُمْلَةِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ التَّفْصِيلِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يَصِحُّ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ عَشَرَةً مِنْ هَذِهِ الْأَغْنَامِ بِكَذَا، لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ عَلِمَ عَدَدَ الْجُمْلَةِ، بِخِلَافِ مِثْلِهِ فِي الثَّوْبِ وَالصُّبْرَةِ وَالْأَرْضِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الشِّيَاهِ تَخْتَلِفُ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَصِحُّ فِي صَاعٍ فَقَطْ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ كُلَّ صَاعٍ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ بِدِرْهَمٍ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ وَشَيْخُهُ الصِّحَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ مِثْلَهُ فِي الْأَرْضِ وَالثَّوْبِ، نَظَرَ، إِنْ خَرَجَ كَمَا ذَكَرَ، صَحَّ الْبَيْعُ. وَإِنْ خَرَجَ زَائِدًا أَوْ نَاقِصًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَصِحُّ، لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، لِإِشَارَتِهِ إِلَى الصُّبْرَةِ وَيَلْغُو الْوَصْفُ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ خَرَجَ نَاقِصًا، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ. فَإِنْ أَجَازَ، فَهَلْ يُجِيزُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِمُقَابَلَةِ الصُّبْرَةِ بِهِ، أَمْ بِالْقِسْطِ لِمُقَابَلَةِ كُلِّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ خَرَجَ زَائِدًا، فَلِمَنْ تَكُونُ الزِّيَادَةُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لِلْمُشْتَرِي، فَلَا خِيَارَ لَهُ قَطْعًا، وَلَا لِلْبَائِعِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: يَكُونُ لِلْبَائِعِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ عَلَى الْأَصَحِّ.

فَرْعٌ: هَذَا الَّذِي سَبَقَ، هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْعِوَضُ فِي الذِّمَّةِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا، فَلَا تُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. فَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ، أَوْ بِعْتُكَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، صَحَّ وَتَكْفِي الْمُشَاهَدَةُ، لَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ بَيْعُ الصُّبْرَةِ جُزَافًا؟ قَوْلَانِ. قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا: يُكْرَهُ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ، وَكَذَا الْبَيْعُ بِصُبْرَةِ الدَّرَاهِمِ مَكْرُوهٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَتِ الصُّبْرَةُ عَلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ فِيهِ ارْتِفَاعٌ وَانْخِفَاضٌ، أَوْ بَاعَ السَّمْنَ أَوْ نَحْوَهُ فِي ظَرْفٍ مُخْتَلِفِ الْأَجْزَاءِ رِقَّةً وَغِلَظًا، فَثَلَاثُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا: أَنَّ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَيْ بَيْعِ الْغَائِبِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ، وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْمُحَقِّقِينَ. فَإِنْ قُلْنَا: بِالصِّحَّةِ فَوَقْتُ الْخِيَارِ هُنَا مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الصُّبْرَةِ، أَوِ التَّمَكُّنُ مِنْ تَخْمِينِهِ بِرُؤْيَةِ مَا تَحْتَهَا، وَإِنْ قُلْنَا: بِالْبُطْلَانِ، فَلَوْ بَاعَ الصُّبْرَةَ وَالْمُشْتَرِي يَظُنُّهَا عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَرْضِ، ثُمَّ بَانَ تَحْتَهَا دَكَّةٌ، فَهَلْ نَتَبَيَّنُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا، وَلَكِنْ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، كَالْعَيْبِ وَالتَّدْلِيسِ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ إِلَّا صَاعًا، فَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّيعَانِ، صَحَّ، وَإِلَّا، فَلَا.

فصل

فَصْلٌ وَأَمَّا الصِّفَةُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ وَالْحَاضِرَةِ الَّتِي لَمْ تُرَ، قَوْلَانِ. قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَ «الْإِمْلَاءِ» : وَالصَّرْفُ مِنَ الْجَدِيدِ يَصِحُّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَالَ بِتَصْحِيحِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَأَفْتَوْا بِهِ، مِنْهُمُ، الْبَغَوِيُّ، والرُّويَانِيُّ. وَقَالَ فِي «الْأُمِّ» وَ «الْبُوَيْطِيُّ» : لَا يَصِحُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَفِي مَحَلِّ الْقَوْلَيْنِ، ثَلَاثُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُمَا فِيمَا لَمْ يَرَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بِلَا فَرْقٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا فِيمَا شَاهَدَهُ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ الْبَائِعُ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا. وَالثَّالِثُ: إِنْ رَآهُ الْمُشْتَرِي، صَحَّ قَطْعًا، وَإِلَّا، فَالْقَوْلَانِ. الثَّانِيَةُ: الْقَوْلَانِ فِي شِرَاءِ الْغَائِبِ وَبَيْعِهِ يَجْرِيَانِ فِي إِجَارَتِهِ، وَفِيمَا إِذَا أَجَّرَ بِعَيْنٍ غَائِبَةٍ، أَوْ صَالَحَ عَلَيْهَا، أَوْ جَعَلَهَا رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ وَسَلَّمَهَا فِي الْمَجْلِسِ. أَمَّا إِذَا أَصْدَقَهَا عَيْنًا غَائِبَةً، أَوْ خَالَعَهَا عَلَيْهَا، أَوْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى عَيْنٍ غَائِبَةٍ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَتَقَعُ الْبَيْنُونَةُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ قَطْعًا. وَفِي صِحَّةِ الْمُسَمَّى، الْقَوْلَانِ. فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الرَّجُلِ فِي النِّكَاحِ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْخُلْعِ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ. وَيَجْرِيَانِ فِي رَهْنِ الْغَائِبِ وَهِبَتِهِ، وَهُمَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ؛ لِعَدَمِ الْغَرَرِ. وَلِهَذَا، إِذَا صَحَّحْنَاهُمَا، فَلَا خِيَارَ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ. الثَّالِثَةُ: إِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْغَائِبِ وَشِرَاؤُهُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ أَيْضًا، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى رُؤْيَتِهِ، فَيَكُونُ كَبَيْعِ الْغَائِبِ عَلَى أَنْ لَا خِيَارَ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ، وَيُقَامُ وَصْفُ غَيْرِهِ لَهُ مَقَامَ رُؤْيَتِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، لَمْ يَصِحَّ

مِنْهُ الْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ وَالْهِبَةُ أَيْضًا. وَهَلْ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ؟ قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَا. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : الْمَذْهَبُ جَوَازُهُ، تَغْلِيبًا لِلْعِتْقِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ، وَلِلْعَبْدِ الْأَعْمَى أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَقْبَلَ الْكِتَابَةَ عَلَى نَفْسِهِ لِعِلْمِهِ بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ. وَإِذَا زَوَّجَ مُوَلِّيَتَهُ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْعَمَى غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْوِلَايَةِ، وَالصَّدَاقَ عَيْنُ مَالٍ، لَمْ يَثْبُتِ الْمُسَمَّى، وَكَذَا لَوْ خَالَعَ الْأَعْمَى عَلَى مَالٍ. أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، أَوْ أَسْلَمَ إِلَيْهِ، فَيَنْظُرُ، إِنْ عَمِيَ بَعْدَ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ الْأَوْصَافَ، ثُمَّ يُوَكِّلُ مَنْ يَقْبِضُ عَنْهُ عَلَى الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ، وَلَا يَصِحُّ قَبْضُهُ بِنَفْسِهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ خُلِقَ أَعْمَى، أَوْ عَمِيَ قَبْلَ التَّمْيِيزِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْأَكْثَرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ: الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ بِالسَّمَاعِ. فَعَلَى هَذَا، إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مَوْصُوفًا مُعَيَّنًا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَهُوَ كَبَيْعِهِ الْعَيْنَ. ثُمَّ كُلُّ مَا لَا يَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، فَطَرِيقُهُ أَنْ يُوَكِّلَ، وَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ الْأَعْمَى رَأَى شَيْئًا مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ، صَحَّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ إِيَّاهُ إِذَا صَحَّحْنَا ذَلِكَ مِنَ الْبَصِيرِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: إِذَا لَمْ نُجَوِّزْ بَيْعَ الْغَائِبِ وَشِرَاءَهُ، فَعَلَيْهِ فُرُوعٌ. أَحَدُهَا: لَوِ اشْتَرَى غَائِبًا رَآهُ قَبْلَ الْعَقْدِ، نَظَرَ، إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ غَالِبًا، كَالْأَرْضِ، وَالْأَوَانِي، وَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَنَحْوِهَا، أَوْ كَانَ لَا يَتَغَيَّرُ فِي الْمُدَّةِ الْمُتَخَلِّلَةِ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ وَالشِّرَاءِ، صَحَّ الْعَقْدُ؛ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الْمَقْصُودِ. وَقَالَ الْأَنْمَاطِيُّ: لَا يَصِحُّ، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ. فَإِذَا صَحَّحْنَاهُ، فَوَجَدَهُ كَمَا رَآهُ أَوَّلًا، فَلَا خِيَارَ. وَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، وَلَهُ الْخِيَارُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ.

وَذَكَرَ فِي «الْوَسِيطِ» وَجْهًا: أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ لِتَبَيُّنِ انْتِفَاءِ الْمَعْرِفَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِتَغَيُّرِهِ حُدُوثَ عَيْبٍ، فَإِنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، بَلِ الرُّؤْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فِي الصِّفَاتِ الْكَائِنَةِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ. فَكُلُّ مَا فَاتَ مِنْهَا، فَهُوَ كَتَبَيُّنِ الْخُلْفِ فِي الشَّرْطِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ غَالِبًا، بِأَنْ رَأَى مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ صَالِحَةٍ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَغَيَّرَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ، أَوْ كَانَ حَيَوَانًا، فَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ. فَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا، فَلَهُ الْخِيَارُ. وَإِذَا اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: تَغَيَّرَ. وَقَالَ الْبَائِعُ: هُوَ بِحَالِهِ، فَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ عِلْمَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَمْ يَقْبَلْ كَادِّعَائِهِ اطِّلَاعَهُ عَلَى الْعَيْبِ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ. الثَّانِي: اسْتِقْصَاءُ الْأَوْصَافِ عَلَى الْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ فِي السَّلَمِ، هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ - وَكَذَا سَمَاعُ وَصْفِهِ - بِطُرُقِ التَّوَاتُرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. الثَّالِثُ: لَوْ رَأَى بَعْضَ الشَّيْءِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ عَلَى الْبَاقِي، صَحَّ الْبَيْعُ قَطْعًا، وَذَلِكَ مِثْلُ رُؤْيَةِ ظَاهِرِ صُبْرَةِ الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا. ثُمَّ لَا خِيَارَ إِذَا رَأَى بَاطِنَهَا، إِلَّا إِذَا خَالَفَ ظَاهِرَهَا. وَحُكِيَ قَوْلٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا يَكْفِي رُؤْيَةُ ظَاهِرِ الصُّبْرَةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقَلِّبَهَا لِيَعْرِفَ بَاطِنَهَا، وَالْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَفِي مَعْنَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، صُبْرَةُ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالدَّقِيقِ. فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي وِعَاءٍ، فَرَأَى أَعْلَاهُ، أَوْ رَأَى أَعْلَى السَّمْنِ وَالْخَلِّ وَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ فِي ظُرُوفِهَا، كَفَى. وَلَوْ كَانَتِ الْحِنْطَةُ فِي بَيْتٍ مَمْلُوءٍ مِنْهَا، فَرَأَى بَعْضَهَا مِنَ الْكُوَّةِ أَوِ الْبَابِ، كَفَى إِنْ عَرَفَ سِعَةَ الْبَيْتِ وَعُمْقِهِ، وَإِلَّا، فَلَا. وَكَذَا حُكْمُ الْجَمَدِ فِي الْمُجَمَّدَةِ. وَلَا تَكْفِي رُؤْيَةُ صُبْرَةِ الْبِطِّيخِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالرُّمَّانِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا. وَلَا يَكْفِي فِي سَلَّةِ الْعِنَبِ وَالْخَوْخِ وَنَحْوِهِمَا، رُؤْيَةُ أَعْلَاهَا؛ لِكَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْحُبُوبِ. وَأَمَّا التَّمْرُ، فَإِنْ لَمْ تَلْزَقْ حَبَّاتُهُ، فَصُبْرَتُهُ

كَصُبْرَةِ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ. وَإِنِ الْتَزَقَتْ كَالْقَوْصَرَّةِ، كَفَى رُؤْيَةُ أَعْلَاهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَأَمَّا الْقُطْنُ فِي الْعِدْلِ، فَهَلْ تَكْفِي رُؤْيَةُ أَعْلَاهُ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ جَمِيعِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ الصَّيْمَرِيُّ وَقَالَ: الْأَشْبَهُ عِنْدِي، أَنَّهُ كَقَوْصَرَّةِ التَّمْرِ. الرَّابِعُ: لَوْ أَرَاهُ أُنْمُوذَجًا وَبَنَى أَمْرَ الْبَيْعِ عَلَيْهِ، نَظَرَ، إِنْ قَالَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَذَا، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ مَالًا وَلَمْ يُرَاعِ شُرُوطَ السَّلَمِ، وَلَا يَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ الْوَصْفِ فِي السَّلَمِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِاللَّفْظِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ النِّزَاعِ. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ الْحِنْطَةَ الَّتِي فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَهَذَا الْأُنْمُوذَجُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلِ الْأُنْمُوذَجُ فِي الْبَيْعِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ غَيْرُ مَرْئِيٍّ. وَإِنْ أَدْخَلَهُ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَسْأَلَةَ الْأُنْمُوذَجِ، مَفْرُوضَةٌ فِي الْمُتَمَاثِلَاتِ. الْخَامِسُ: إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مِمَّا لَا يُسْتَدَلُّ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ عَلَى الْبَاقِي. فَإِنْ كَانَ الْمَرْئِيُّ صِوَانًا لَهُ، كَقِشْرِ الرُّمَّانِ وَالْبَيْضِ، كَفَى رُؤْيَتُهُ، وَكَذَا شِرَاءُ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي الْقِشْرِ الْأَسْفَلِ. وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ اللُّبِّ وَحْدَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِكَسْرِ الْقِشْرِ فَيَنْقُصُ عَيْنُ الْمَبِيعِ. وَلَوْ رَأَى الْمَبِيعَ مِنْ وَرَاءِ قَارُورَةٍ هُوَ فِيهَا، لَمْ يَكْفِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ لَا تَحْصُلُ بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ صَلَاحٌ لَهُ، بِخِلَافِ السَّمَكِ يَرَاهُ فِي الْمَاءِ الصَّافِي، يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَكَذَا الْأَرْضُ يَعْلُوهَا مَاءٌ صَافٍ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ صَلَاحِهِمَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ تَكْفِ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ. السَّادِسُ: الرُّؤْيَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ. فَفِي شِرَاءِ الدَّارِ، لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْبُيُوتِ، وَالسُّقُوفِ وَالسُّطُوحِ، وَالْجُدْرَانِ، دَاخِلًا وَخَارِجًا، وَالْمُسْتَحَمِّ وَالْبَالُوعَةِ. وَفِي الْبُسْتَانِ، يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الْأَشْجَارِ، وَالْجُدْرَانِ، وَمَسَايِلِ الْمَاءِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى رُؤْيَةِ أَسَاسِ الْبُنْيَانِ وَعُرُوقِ الْأَشْجَارِ وَنَحْوِهِمَا. وَقِيلَ: فِي

اشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ طَرِيقِ الدَّارِ، وَمَجْرَى الْمَاءِ الَّذِي تَدُورُ بِهِ الرَّحَى، وَجْهَانِ. وَيُشْتَرَطُ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ رُؤْيَةُ الْوَجْهِ، وَالْأَطْرَافِ، وَلَا يَجُوزُ رُؤْيَةُ الْعَوْرَةِ. وَفِي بَاقِي الْبَدَنِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاشْتِرَاطُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبَا «التَّهْذِيبِ» وَ «الرَّقْمِ» . وَفِي الْجَارِيَةِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: كَالْعَبْدِ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْخِدْمَةِ. وَالثَّالِثُ: تَكْفِي رُؤْيَةُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. وَفِي الْأَسْنَانِ وَاللِّسَانِ، وَجْهَانِ. وَيُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الشَّعْرِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهَا كَالْعَبْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّوَابِّ رُؤْيَةُ مُقَدَّمِهَا، وَمُؤَخَّرِهَا وَقَوَائِمِهَا، وَيُشْتَرَطُ رَفْعُ السَّرْجِ وَالْإِكَافِ، وَالْجُلِّ. وَفِي وَجْهٍ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَجْرِيَ الْفَرَسُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَعْرِفَ سَيْرَهُ، وَيُشْتَرَطُ فِي الثَّوْبِ الْمَطْوِيِّ نَشْرُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُصَحَّحَ بَيْعُ الثِّيَابِ الَّتِي لَا تُنْشَرُ أَصْلًا إِلَّا عِنْدَ الْقَطْعِ، لِمَا فِي نَشْرِهَا مِنَ النَّقْصِ. قُلْتُ: قَالَ الْقَفَّالُ فِي «شَرْحِ التَّلْخِيصِ» : لَوِ اشْتَرَى الثَّوْبَ الْمَطْوِيَّ وَصَحَّحْنَاهُ، فَنَشَرَهُ، وَاخْتَارَ الْفَسْخَ، وَكَانَ لِطَيِّهِ مُؤْنَةٌ، وَلَمْ يُحْسِنْ طَيَّهُ، لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ مُؤْنَةُ الطَّيِّ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَقَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَإِنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِذَا نُشِرَتْ، فَمَا كَانَ صَفِيقًا كَالدِّيبَاجِ الْمُنَقَّشِ، فَلَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ وَجْهَيْهِ، وَكَذَا الْبُسُطُ وَالزِّلَّالِيُّ. وَمَا كَانَ رَقِيقًا، لَا يَخْتَلِفُ وَجْهَاهُ، كَالْكِرْبَاسِ، كَفَى رُؤْيَةُ أَحَدِ وَجْهَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الثِّيَابِ التُّوزِيَّةِ فِي الْمُسُوحِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا بُدَّ فِي شِرَاءِ الْمُصْحَفِ وَالْكُتُبِ مِنْ تَقْلِيبِ الْأَوْرَاقِ وَرُؤْيَةِ جَمِيعِهَا. وَفِي الْوَرَقِ الْبَيَاضِ، لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ جَمِيعِ الطَّاقَاتِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ: الْفُقَّاعُ يُفْتَحُ رَأْسُهُ فَيَنْظُرُ فِيهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، لِيَصِحَّ بَيْعُهُ. وَأَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : الْمُسَامَحَةُ بِهِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: قَوْلُ الْغَزَالِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا جَوَّزْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ، فَعَلَيْهِ فُرُوعٌ. أَحَدُهَا: بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ بَاطِلٌ. فَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي فِي ضَرْعِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ كَذَا، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِعَدَمِ تَيَقُّنِ وُجُودِ ذَلِكَ الْقَدْرِ. وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَا بَيْعِ الْغَائِبِ. وَلَوْ حَلَبَ شَيْئًا مِنَ اللَّبَنِ فَأَرَاهُ، ثُمَّ بَاعَهُ رَطْلًا مِمَّا فِي الضَّرْعِ، فَوَجْهَانِ كَالْأُنْمُوذَجِ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ الْوَجْهَيْنِ، فِيمَا لَوْ قَبَضَ قَدْرًا مِنَ الضَّرْعِ وَأَحْكَمَ شَدَّهُ وَبَاعَ مَا فِيهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ فِي الصُّورَتَيْنِ الْبُطْلَانُ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ مِمَّا يَنْصَبُّ فِي الضَّرْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ. وَفِي وَجْهٍ: يَجُوزُ بِشَرْطِ الْجَزِّ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَوَانِ بَعْدَ الذَّكَاةِ، وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ. الثَّالِثُ: بَيْعُ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ قَبْلَ السَّلْخِ، بَاطِلٌ، سَوَاءٌ بِيعَ الْجِلْدُ وَاللَّحْمُ مَعًا، أَوْ أَحَدُهُمَا. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَكَارِعِ وَالرُّءُوسِ قَبْلَ الْإِبَانَةِ. وُفِي الْأَكَارِعِ وَجْهٌ شَاذٌّ. وَيَجُوزُ بَيْعُهَا بَعْدَ الْإِبَانَةِ نَيِّئَةً وَمَشْوِيَّةً. وَكَذَا الْمَسْمُوطُ نَيِّئًا وَمَشْوِيًّا. وَفِي النَّيِّءِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. الرَّابِعُ: بَيْعُ الْمِسْكِ فِي الْفَأْرَةِ، بَاطِلٌ، سَوَاءٌ بِيعَ مَعَهَا أَوْ دُونَهَا، كَاللَّحْمِ فِي الْجِلْدِ، سَوَاءٌ فَتَحَ رَأْسَ الْفَأْرَةِ، أَمْ لَا. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِذَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً، نَظَرَ، إِنْ لَمْ يَتَفَاوَتْ ثَخْنُهُا، وَشَاهَدَ الْمِسْكَ فِيهَا، صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ الْفَأْرَةِ مُطْلَقًا، كَالْجَوْزِ. وَلَوْ رَأَى الْمِسْكَ خَارِجَ الْفَأْرَةِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الرَّدِّ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ رَأْسُهَا مَفْتُوحًا فَرَآهُ، جَازَ، وَإِلَّا، فَعَلَى قَوْلَيْ بَيْعِ الْغَائِبِ.

قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ بَاعَ الْمِسْكَ الْمُخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَجْهُولٌ. كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ اللَّبَنِ الْمَخْلُوطِ بِمَاءٍ. وَلَوْ بَاعَ سَمْنًا فِي ظَرْفٍ، وَرَأَى أَعْلَاهُ مَعَ ظَرْفِهِ أَوْ دُونَهُ، صَحَّ. فَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَهُ بِظَرْفِهِ، كُلُّ رَطْلٍ بِدِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلظَّرْفِ قِيمَةٌ، بَطَلَ. وَإِنْ كَانَ، فَقَدْ قِيلَ: يَصِحُّ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا، كَمَا لَوْ بَاعَ فَوَاكِهَ مُخْتَلِطَةً، أَوْ حِنْطَةً مُخْتَلِطَةً بِشَعِيرٍ وَزْنًا أَوْ كَيْلًا. وَقِيلَ: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ السَّمْنُ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، بِخِلَافِ الْفَوَاكِهِ، فَكُلُّهَا مَقْصُودَةٌ. وَقِيلَ: إِنْ عَلِمَا وَزْنَ الظَّرْفِ وَالسَّمْنِ، جَازَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، صَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَطَعَ بِهِ مُعْظَمُ الْعِرَاقِيِّينَ. وَإِنْ بَاعَ الْمِسْكَ بِفَأْرَةٍ، كُلُّ مِثْقَالٍ بِدِينَارٍ، فَكَالسَّمْنِ بِظَرْفِهِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسُ: لَوْ رَأَى بَعْضَ الثَّوْبِ، وَبَعْضُهُ الْآخَرُ فِي صُنْدُوقٍ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْغَائِبِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: بَاطِلٌ قَطْعًا. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئَيْنِ، رَأَى أَحَدَهُمَا فَقَطْ، فَإِنْ أَبْطَلْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ، بَطَلَ فِيمَا لَمْ يَرَهُ، وَفِي الْمَرْئِيِّ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَإِلَّا، فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فِيهِمَا، الْقَوْلَانِ فِيمَنْ جَمَعَ فِي صَفْقَةٍ بَيْنَ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ مَا رَآهُ لَا خِيَارَ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَرَهُ فِيهِ الْخِيَارَ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَلَهُ رَدُّ مَا لَمْ يَرَهُ وَإِمْسَاكُ مَا رَآهُ. السَّادِسُ: إِذَا لَمْ يَشْرُطِ الرُّؤْيَةَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ وَنَوْعِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ عَبْدِيَ التُّرْكِيَّ، أَوْ فَرَسِيَ الْعَرَبِيَّ. وَلَا يَكْفِي: بِعْتُكَ مَا فِي كُمِّي أَوْ كَفِّي أَوْ خِزَانَتِي، أَوْ مِيرَاثِي مِنْ فُلَانٍ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُشْتَرِي. وَفِي وَجْهٍ: يَكْفِي. وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: يَكْفِي ذِكْرُ الْجِنْسِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى النَّوْعِ، فَيَقُولُ: عَبْدِي، وَهُمَا شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ. وَإِذَا ذَكَرَ الْجِنْسَ وَالنَّوْعَ، لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى ذِكْرِ الصِّفَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ فِي «الْإِمْلَاءِ» وَالْقَدِيمِ. وَفِي وَجْهٍ: يَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرِ مُعْظَمِ الصِّفَاتِ، وَضَبْطُ ذَلِكَ بِمَا يَصِفُ بِهِ الْمُدَّعَى عِنْدَ الْقَاضِي، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ. وَفِي وَجْهٍ أَضْعَفَ

مِنْهُ: يَفْتَقِرُ إِلَى صِفَاتِ السَّلَمِ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ. فَعَلَى الْأَصَحِّ: لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ مِنْ أَنْوَاعٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ يَقَعُ بِهَا التَّمْيِيزُ كَالتَّعَرُّضِ لِلسِّنِّ أَوْ غَيْرِهِ. السَّابِعُ: إِذَا قُلْنَا: يُشْتَرَطُ الْوَصْفُ فَوَصَفَ، فَإِنْ وَجَدَهُ كَمَا وَصَفَ، فَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَهُ الْخِيَارُ قَطْعًا. وَإِنْ وَجَدَهُ دُونَ وَصْفِهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ قَطْعًا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا حَاجَةَ إِلَى الْوَصْفِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْخِيَارَ، أَمْ لَا. وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إِلَّا أَنْ يَشْرُطَهُ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَنْفُذُ فَسْخُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، وَلَا تَنْفُذُ إِجَازَتُهُ. وَالثَّانِي: يَنْفُذَانِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَنْفُذَانِ. وَأَمَّا الْبَائِعُ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ رَأَى الْمَبِيعَ، أَمْ لَا. وَقِيلَ: لَهُ الْخِيَارُ فِي الْحَالَيْنِ. وَقِيلَ: لَهُ الْخِيَارُ إِنْ لَمْ يَكُنْ رَآهُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ وَمُتَابِعُوهُ كَالْمُشْتَرِي. ثُمَّ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ حَيْثُ ثَبَتَ، هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، أَمْ يَمْتَدُّ امْتِدَادَ مَجْلِسِ الرُّؤْيَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَمْتَدُّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَثْبُتُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ كَشِرَاءِ الْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ، أَمْ لَا يَثْبُتُ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ: خِيَارُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْفَوْرِ، لِئَلَّا يَثْبُتَ خِيَارُ مَجْلِسَيْنِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَمْتَدُّ. الثَّامِنُ: لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، فَفِي انْفِسَاخِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ، كَنَظِيرِهِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ. وَلَوْ بَاعَهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، لَمْ يَصِحَّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ فِي زَمَنِ خِيَارِ الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُجِيزًا لِلْعَقْدِ، وَهُنَا لَا إِجَازَةَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ. التَّاسِعُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الرُّؤْيَةِ مَنْ يَفْسَخُ أَوْ يُجِيزُ مَا يَسْتَصْوِبُهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجُوزُ كَالتَّوْكِيلِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ وَالْخُلْفِ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّهُ خِيَارُ شَهْوَةٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْصٍ وَلَا غَرَضٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، يُوَكِّلُ فِي الِاخْتِيَارِ. الْعَاشِرُ: نَقَلَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَالرُّويَانِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عَلَى قَوْلِ اشْتِرَاطِ

الرُّؤْيَةِ، الذَّوْقُ فِي الْخَلِّ وَنَحْوُهُ، وَالشَّمُّ فِي الْمِسْكِ وَنَحْوُهُ، وَاللَّمْسُ فِي الثِّيَابِ وَنَحْوُهَا، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهَا لَا تُعْتَبَرُ. الْحَادِيَ عَشَرَ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِ الْمَبِيعِ الْغَائِبِ. فَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ بَلَدِ التَّبَايُعِ، وَجَبَ تَسْلِيمُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ تَسْلِيمِهِ فِي بَلَدِ التَّبَايُعِ. بِخِلَافِ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ. وَالْعَيْنُ الْغَائِبَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ، فَاشْتِرَاطُ نَقْلِهَا، يَكُونُ بَيْعًا وَشَرْطًا. الثَّانِيَ عَشَرَ: لَوْ رَأَى ثَوْبَيْنِ فَسَرَقَ أَحَدَهُمَا، فَاشْتَرَى الْبَاقِيَ وَلَا يَعْلَمُ أَيَّهُمَا الْمَسْرُوقُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» : إِنْ تَسَاوَتْ صِفَتُهُمَا وَقَدْرُهُمَا وَقِيمَتُهُمَا، كَنِصْفَيْ كِرْبَاسٍ وَاحِدٍ، صَحَّ قَطْعًا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، خَرَجَ عَلَى بَيْعِ الْغَائِبِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: إِذَا لَمْ نَشْرُطِ الرُّؤْيَةَ، فَاخْتَلَفَا، فَقَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: رَأَيْتَ الْمَبِيعَ فَلَا خِيَارَ لَكَ، فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ شَرَطْنَا الرُّؤْيَةَ فَاخْتَلَفَا، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ إِقْدَامَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَقْدِ، اعْتِرَافٌ بِصِحَّتِهِ، وَلَا يَنْفَكُّ هَذَا عَنْ خِلَافٍ. قُلْتُ: هَذِهِ مَسْأَلَةُ اخْتِلَافِهِمَا فِي مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، وَفِيهَا الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَهَا الْغَزَالِيُّ. وَبَقِيَتْ مَسَائِلُ تَعْلَقُ بِالْبَابِ، مِنْهَا بَيْعُ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فِيهِ خِلَافٌ قَدَّمْتُهُ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ. وَبَيْعُ أَشْجَارِ الْحَرَمِ وَصَيْدِهِ، حَرَامٌ بَاطِلٌ. قَالَ الْقَفَّالُ: إِلَّا أَنْ يَقْطَعَ شَيْئًا يَسِيرًا لِدَوَاءٍ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ حِينَئِذٍ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرَ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ كَالطَّعَامِ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ أَكْلُهُ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. قَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» : حُكْمُ شَجَرِ النَّقِيعِ - بِالنُّونِ - الَّذِي هُوَ الْحِمَى، حُكْمُ أَشْجَارِ الْحَرَمِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَمِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ بَيْعِ نَصِيبِهِ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي مِنَ النَّهْرِ. قَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي «اللُّبَابِ» : هَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَبِيعَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْقَدْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ

باب الربا

غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَسَيَأْتِي هَذَا مَعَ غَيْرِهِ مَبْسُوطًا فِي آخِرِ كِتَابِ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابُ الرِّبَا إِنَّمَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي الْمَطْعُومِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ. فَأَمَّا الْمَطْعُومُ، فَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، أَمْ لَا، هَذَا هُوَ الْجَدِيدُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ الطُّعْمِ الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ. فَعَلَى هَذَا، لَا رِبَا فِي السَّفَرْجَلِ، وَالرُّمَّانِ، وَالْبَيْضِ، وَالْجَوْزِ، وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ. وَقَالَ الْأَوْدَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَالٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا يُشْتَرَطُ الطُّعْمُ، وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ. وَالْمُرَادُ بِالْمَطْعُومِ: مَا يُعَدُّ لِلطُّعْمِ غَالِبًا تَقَوُّتًا، أَوْ تَأَدُّمًا، أَوْ تَفَكُّهًا، أَوْ غَيْرَهَا، فَيَدْخُلُ فِي الْفَوَاكِهِ، وَالْحُبُوبِ، وَالْبُقُولِ، وَالتَّوَابِلِ، وَغَيْرِهَا. وَسَوَاءٌ مَا أُكِلَ نَادِرًا كَالْبَلُّوطِ، وَالطَّرْثُوثِ، وَمَا أُكِلَ غَالِبًا، وَمَا أُكِلَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ. وَيَجْرِي الرِّبَا فِي الزَّعْفَرَانِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَوَاءٌ مَا أُكِلَ لِلتَّدَاوِي كَالْإِهْلِيلَجِ، وَالْبَلِيلَجِ، وَالسَّقَمُونِيَا وَغَيْرِهَا، وَمَا أُكِلَ لِغَرَضٍ آخَرَ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ: أَنَّهُ مَا يَقْتُلُ كَثِيرُهُ وَيُسْتَعْمَلُ قَلِيلُهُ فِي الْأَدْوِيَةِ كَالسَّقَمُونِيَا، لَا رِبَا فِيهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالطِّينُ الْخُرَاسَانِيُّ، لَيْسَ رِبَوِيًّا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَالْأَرْمَنِيُّ رِبَوِيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ دَوَاءٌ. وَدُهْنُ الْبَنَفْسَجِ، وَالْوَرْدِ، وَالَبَّانِ، رِبَوِيٌّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَدُهْنُ الْكَتَّانِ، وَالسَّمَكِ، وَحَبُّ الْكَتَّانِ، وَمَاءُ الْوَرْدِ، وَالْعُودِ، لَيْسَ رِبَوِيًّا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالزَّنْجَبِيلُ، وَالْمَصْطَكَى، رِبَوِيٌّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْمَاءُ إِذَا صَحَّحْنَا بَيْعَهُ، رِبَوِيٌّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا رِبَا فِي الْحَيَوَانِ، وَلَكِنْ مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ عَلَى هَيْئَتِهِ كَالسَّمْكِ الصَّغِيرِ، عَلَى وَجْهٍ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، فَقِيلَ: يَثْبُتُ الرِّبَا فِيهِمَا

فصل

لِعَيْنِهِمَا، لَا لِعِلَّةٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْعِلَّةُ فِيهِمَا صَلَاحِيَةُ الثَّمَنِيَّةِ الْغَالِبَةِ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: جَوْهَرِيَّةُ الْأَثْمَانِ غَالِبًا. وَالْعِبَارَتَانِ تَشْمَلَانِ التِّبْرَ، وَالْمَضْرُوبَ، وَالْحُلِيَّ، وَالْأَوَانِيَ مِنْهُمَا. وَفِي تَعَدِّي الْحُكْمِ إِلَى الْفُلُوسِ إِذَا رَاجَتْ وَجْهٌ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا رِبَا فِيهِمَا لِانْتِفَاءِ الثَّمَنِيَّةِ الْغَالِبَةِ. وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الْفُلُوسِ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَغَيْرِهَا قَطْعًا. فَصْلٌ إِذَا بَاعَ مَالًا بِمَالٍ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَا رِبَوِبَّيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا. فَالْحَالُ الْأَوَّلُ يَشْمَلُ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا رِبَوِيٌّ، وَمَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رِبَوِيًّا. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِي هَذَا الْحَالِ، لَا تَجِبُ رِعَايَةُ التَّمَاثُلِ، وَلَا الْحُلُولِ، وَلَا التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْجِنْسُ، أَوِ اخْتَلَفَ. حَتَّى لَوْ بَاعَ حَيَوَانًا بِحَيَوَانَيْنِ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي ثَوْبَيْنِ مِنْ جِنْسِهِ، جَازَ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِي: فَتَارَةً يَكُونَانِ رِبَوِيَّيْنِ بِعِلَّتَيْنِ، وَتَارَةً بِعِلَّةٍ. فَإِنْ كَانَا بِعِلَّتَيْنِ، لَمْ تَجِبْ رِعَايَةُ التَّمَاثُلِ وَلَا التَّقَابُضِ وَلَا الْحُلُولِ. وَمِنْ صُوَرِهِ: أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ فِي الْحِنْطَةِ، أَوْ يَبِيعَ الْحِنْطَةَ بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ، نَقْدًا، أَوْ نَسِيئَةً وَإِنْ كَانَا بِعِلَّةٍ. فَإِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، بِأَنْ بَاعَ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَالْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ، ثَبَتَتْ أَحْكَامُ الرِّبَا الثَّلَاثَةُ، فَتَجِبُ رِعَايَةُ التَّمَاثُلِ وَالْحُلُولِ وَالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ. وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، لَمْ تُعْتَبَرِ الْمُمَاثَلَةُ، وَيُعْتَبَرُ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.

فَرْعٌ: حَيْثُ اعْتَبَرْنَا التَّقَابُضَ، فَتَفَرَّقَا قَبْلَهُ، بَطَلَ الْعَقْدُ. وَلَوْ تَقَابَضَا بَعْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ العِوَضَيْنِ، ثُمَّ تَفَرَّقَا، بَطَلَ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ. وَفِي الْمَقْبُوضِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَالتَّخَايُرُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّقَابُضِ، كَالتَّفَرُّقِ، فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَبْطُلُ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا وَكِيلًا بِالْقَبْضِ، فَقَبَضَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْمُوَكَّلِ الْمَجْلِسَ، جَازَ، وَبَعْدَهُ لَا يَجُوزُ. فَرْعٌ: قَدْ سَبَقَ: بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مَعَ زِيَادَةٍ لَا يَجُوزُ. فَلَوْ أَرَادَ بَيْعَ صِحَاحٍ بِمُكَسَّرَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مَعَ الزِّيَادَةِ، فَلَهُ طُرُقٌ. مِنْهَا: أَنْ يَبِيعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ، أَوْ بِعَرْضٍ. فَإِذَا تَقَابَضَا وَتَخَايَرَا، أَوْ تَفَرَّقَا، اشْتَرَى مِنْهُ الدَّرَاهِمَ الْمُكَسَّرَةَ بِالدِّنَانِيرِ أَوِ الْعَرْضَ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ، سَوَاءٌ اتَّخَذَهُ عَادَةً، أَمْ لَا. وَلَوِ اشْتَرَى الْمُكَسَّرَةَ بِالدَّنَانِيرِ، أَوِ الْعَرْضِ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ قَبْضِهِ وَقَبْلَ التَّفَرُّقِ وَالتَّخَايُرِ، جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ لِغَيْرِ بَائِعِهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَالتَّخَايُرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ خِيَارِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَهُنَا يَحْصُلُ بِتَبَايُعِهِمَا الثَّانِي إِجَازَةُ الْأَوَّلِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُقْرِضَ صَاحِبَهُ الصِّحَاحَ، وَيَسْتَقْرِضَ مِنْهُ الْمُكَسَّرَةَ، ثُمَّ يُبْرِئُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ.

فصل

وَمِنْهَا: أَنْ يَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مَالَهُ لِلْآخَرِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَبِيعَ الصِّحَاحَ بِوَزْنِهَا مَكْسُورَةً، وَيَهَبَهُ صَاحِبُ الْمَكْسُورَةِ الزِّيَادَةَ، فَجَمِيعُ هَذِهِ الطُّرُقِ جَائِزَةٌ، إِذَا لَمْ يَشْرُطْ فِي إِقْرَاضِهِ وَهِبَتِهِ وَبَيْعِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْآخَرُ. قُلْتُ: هَذِهِ الطُّرُقُ وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً عِنْدَنَا، فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ إِذَا نَوَيَا ذَلِكَ. وَدَلَائِلُ الْكَرَاهَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ نِصْفًا شَائِعًا مِنْ دِينَارٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِخَمْسَةٍ، جَازَ، وَيُسَلِّمُ إِلَيْهِ الدِّينَارَ لِيَحْصُلَ تَسْلِيمُ النِّصْفِ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الْآخَرُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْقَابِضِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ عَشَرَةٌ عَلَيْهِ، فَأَعْطَاهُ عَشَرَةً عَدَدًا فَوُزِنَتْ، فَكَانَتْ أَحَدَ عَشَرَ، كَانَ الدِّينَارُ الْفَاضِلُ لِلدَّافِعِ عَلَى الْإِشَاعَةِ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ إِذَا سَلَّمَ الدَّرَاهِمَ الْخَمْسَةَ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَهَا وَيَشْتَرِيَ بِهَا النِّصْفَ الْآخَرَ. وَلَوْ بَاعَهُ كُلَّ الدِّينَارِ بِعَشَرَةٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةٌ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ خَمْسَةً أُخْرَى، فَقَبَضَهَا وَرَدَّهَا إِلَيْهِ عَنِ الثَّمَنِ، جَازَ، وَلَوِ اسْتَقْرَضَ الْخَمْسَةَ الْمَدْفُوعَةَ، لَمْ يَكْفِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ مِعْيَارُ الشَّرْعِ الَّذِي تُرْعَى الْمُمَاثَلَةُ بِهِ، هُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ. فَالْمَكِيلُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَزْنًا، وَلَا يَضُرُّ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْكَيْلِ التَّفَاوُتُ وَزْنًا. وَالْمَوْزُونُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيْلًا، وَلَا يَضُرُّ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْوَزْنِ التَّفَاوُتُ كَيْلًا.

وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، مَوْزُونَانِ. وَالْحِنْطَةُ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالزَّبِيبُ، وَالْمِلْحُ، وَنَحْوُهَا، مَكِيلَةٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَكِيلًا بِالْحِجَازِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ مَكِيلٌ، وَمَا كَانَ مَوْزُونًا، فَمَوْزُونٌ. فَلَوْ أَحْدَثَ النَّاسُ خِلَافَ ذَلِكَ، فَلَا اعْتِبَارَ بِإِحْدَاثِهِمْ. فَلَوْ كَانَ الْمِلْحُ قِطَعًا كِبَارًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُسْحَقُ وَيُبَاعُ كَيْلًا، فَإِنَّهُ الْأَصْلُ. وَأَصَحُّهُمَا: يُبَاعُ وَزْنًا اعْتِبَارًا بِهَيْئَتِهِ فِي الْحَالِ. وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَتَجَافَى فِي الْكَيْلِ، يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَزْنًا، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ كَانَ وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ كَانَ يُكَالُ، أَمْ يُوزَنُ؟ أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ يُوزَنُ مَرَّةً وَيُكَالُ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ أَكْبَرَ جَرْمًا مِنَ التَّمْرِ، اعْتُبِرَ فِيهِ الْوَزْنُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَصْغَرَ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: تُعْتَبَرُ عَادَةُ الْوَقْتَ فِي بَلَدِ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: عَادَةُ الْوَقْتِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ. فَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَلَا غَالِبَ، اعْتَبَرْنَا شِبْهَ الْأَشْيَاءِ بِهِ. وَالثَّالِثُ: يُعْتَبَرُ الْوَزْنُ. وَالرَّابِعُ: الْكَيْلُ. وَالْخَامِسُ: يُعْتَبَرُ بِأَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ بِهِ. وَالسَّادِسُ: يُتَخَيَّرُ بَيْنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّ هَذَا الْخِلَافَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْءِ أَصْلٌ مَعْلُومُ الْعِيَارِ. أَمَّا إِذَا اسْتُخْرِجَ مَا هَذَا حَالُهُ مِنْ أَصْلٍ. فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَسَوَاءٌ الْمِكْيَالُ الْمُعْتَادُ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَائِرُ الْمَكَايِيلِ الْمُحْدَثَةِ بَعْدَهُ، كَمَا أَنَّا إِذَا عَرَفْنَا التَّسَاوِيَ بِالتَّعْدِيلِ فِي كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ، تَكْتَفِي بِهِ وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ قَدْرَ مَا فِي كُلِّ كِفَّةٍ. وَفِي الْكَيْلِ بِالْقَصْعَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يُعْتَادُ الْكَيْلُ بِهِ، تَرَدُّدٌ لِلْقَفَّالِ. وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ. وَالْوَزْنُ بِالطَّيَّارِ وَالْقَرَسْطُونِ وَزْنٌ. وَأَمَّا الْمَاءُ، فَقَدْ يَتَأَتَّى بِهِ الْوَزْنُ، بِأَنْ يُوضَعَ الشَّيْءُ فِي ظَرْفٍ وَيُلْقَى فِي الْمَاءِ، وَيُنْظَرَ قَدْرُ غَوْصِهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ وَزْنًا شَرْعِيًّا وَلَا عُرْفِيًّا، فَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ. قُلْتُ: قَدْ عَوَّلَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ فِي أَدَاءِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، وَفِي الزَّكَاةِ، فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءِ بَعْضُهُ ذَهَبٌ وَبَعْضُهُ فِضَّةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِهِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، كُلُّهُ فِي مُقَدَّرٍ يُبَاعُ بِجِنْسِهِ. أَمَّا مَا لَا يُقَدَّرُ بِكَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ، كَالْبِطِّيخِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالرُّمَّانِ، وَالسَّفَرْجَلِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّهُ لَا رِبَا فِيهَا، جَازَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ كَيْفَ شَاءَ، حَتَّى قَالَ الْقَفَّالُ: لَوْ جُفِّفَ شَيْءٌ مِنْهَا، وَكَانَ يُوزَنُ فِي جَفَافِهِ، فَلَا رِبَا فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا رِبَا فِيهِ فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ وَهُوَ حَالُ الرُّطُوبَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالظَّاهِرُ جَرَيَانُ الرِّبَا فِيهِ، فَإِنَّهُ فِي حَالِ الْجَفَافِ مَطْعُومٌ مُقَدَّرٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ: إِنَّ فِيهِ الرِّبَا، جَازَ بَيْعُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَأَمَّا بِجِنْسِهِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ مِمَّا يُجَفَّفُ، كَالْبِطِّيخِ الَّذِي يُفَلَّقُ، وَحَبِّ الرُّمَّانِ الْحَامِضِ، وَكُلِّ مَا يُجَفَّفُ مِنَ الثِّمَارِ، وَإِنْ مُقَدَّرًا كَالْمِشْمِشِ، وَالْخَوْخِ، وَالْكُمِّثْرَى الَّذِي يُفَلَّقُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فِي حَالِ الرُّطُوبَةِ، وَيَجُوزُ حَالَ الْجَفَافِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الشَّاذِّ: لَا يَجُوزُ، إِذْ لَيْسَ لَهُ حَالُ كَمَالٍ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُجَفَّفُ، كَالْقِثَّاءِ وَنَحْوِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ؟ فِيهِ وَفِي الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لَا تُجَفَّفُ، كَالرُّطَبِ الَّذِي لَا يَتَتَمَّرُ، وَالْعِنَبِ الَّذِي لَا يَتَزَبَّبُ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجُوزُ، كَالرُّطَبِ بِالرُّطَبِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ، كَاللَّبَنِ بِاللَّبَنِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَيْلُهُ، كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ، بِيعَ وَزْنًا. وَإِنْ أَمْكَنَ، كَالتُّفَّاحِ وَالتِّينِ، فَيُبَاعُ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: وَزْنًا، وَلَا بَأْسَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بِتَفَاوُتِ الْعَدَدِ. فَرْعٌ: لَوْ أَرَادَ شَرِيكَانِ قِسْمَةَ رِبَوِيٍّ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ: إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، لَمْ يَجُزْ

قِسْمَةُ الْمَكِيلِ وَزْنًا، وَلَا الْمَوْزُونِ كَيْلًا. وَمَا لَا يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، كَالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ، لَا يُقَسَّمُ أَصْلًا. وَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ إِفْرَازٌ، جَازَ قِسْمَةُ الْمَكِيلِ وَزْنًا وَعَكْسُهُ، وَجَازَ قِسْمَةُ الرُّطَبِ وَنَحْوِهِ وَزْنًا. وَلَا يَجُوزُ قِسْمَةُ غَيْرِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ خَرْصًا. وَيَجُوزُ قِسْمَتُهُمَا خَرْصًا إِذَا قُلْنَا: إِفْرَازٌ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ. فَرْعٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ جُزَافًا، وَلَا بِالتَّخْمِينِ وَالتَّحَرِّي. فَلَوْ بَاعَ صُبْرَةَ حِنْطَةٍ بِصُبْرَةٍ، أَوْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ جُزَافًا، وَخَرَجَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ التَّسَاوِيَ شَرْطٌ. وَشَرْطُ الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَلِهَذَا، لَوْ نَكَحَ امْرَأَةً لَا يَعْلَمُ أَهِيَ أُخْتُهُ، أَمْ مُعْتَدَّةٌ، أَمْ لَا؟ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَسَوَاءٌ جَهِلَا الصُّبْرَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ مُكَايَلَةً، أَوْ كَيْلًا بِكَيْلٍ، أَوْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِتِلْكَ مُوَازَنَةً، أَوْ وَزْنًا بِوَزْنٍ، فَإِنْ كَالَا، أَوْ وَزَنَا، وَخَرَجَتَا سَوَاءً، صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِلَّا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَصِحُّ فِي الْكَبِيرَةِ بِقَدْرِ مَا يُقَابِلُ الصَّغِيرَةَ، وَلِمُشْتَرِي الْكَبِيرَةِ الْخِيَارُ. وَحَيْثُ صَحَّحْنَا، فَتَفَرَّقَا بَعْدَ تَقَابُضِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَقَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِكَيْلِهَا مِنْ صُبْرَتِكَ، وَصُبْرَةُ الْمُخَاطَبِ أَكْبَرُ، صَحَّ. ثُمَّ إِنْ كَالَا فِي الْمَجْلِسِ وَتَقَابَضَا، تَمَّ الْعَقْدُ. وَإِنْ تَقَابَضَا الْجُمْلَتَيْنِ وَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْكَيْلِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ بَاعَ صُبْرَةَ حِنْطَةٍ بِصُبْرَةِ شَعِيرٍ جُزَافًا، جَازَ، وَلَوْ بَاعَهَا بِهَا صَاعًا بِصَاعٍ، أَوْ بِصَاعَيْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. قُلْتُ: قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: إِذَا بَاعَ صُبْرَةَ حِنْطَةٍ بِصُبْرَةِ شَعِيرٍ، صَاعًا بِصَاعٍ، وَخَرَجَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ، صَحَّ. وَإِنْ تَفَاضَلَتَا، فَرَضِيَ صَاحِبُ الزَّائِدَةِ بِتَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ، تَمَّ

فصل

الْبَيْعُ، وَلَزِمَ الْآخَرَ قَبُولُهَا. وَإِنْ رَضِيَ صَاحِبُ النَّاقِصَةِ بِقَدْرِهَا مِنَ الزَّائِدَةِ، أُقِرَّ الْعَقْدُ. وَإِنْ تَشَاحَّا، فُسِخَ الْبَيْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِمُدِّ عَجْوَةٍ وَمَقْصُودُهُ: أَنْ يَشْتَمِلَ الْعَقْدُ عَلَى رِبَوِيٍّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَيَخْتَلِفَ الْعِوَضَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، جِنْسًا، أَوْ نَوْعًا، أَوْ صِفَةً، وَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: يَكُونُ الرِّبَوِيُّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ جِنْسًا، وَالثَّانِي: يَكُونُ جِنْسَيْنِ. فَالْأَوَّلُ: فِيهِ تَقَعُ الْقَاعِدَةُ الْمَقْصُودَةُ. فَمِنْ صُوَرِهِ: أَنْ يَخْتَلِفَ الْجِنْسُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، كَمَا إِذَا بَاعَ مُدَّ عَجْوَةٍ، وَدِرْهَمًا بِمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ، أَوْ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ، أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ بَاعَ صَاعَ حِنْطَةٍ وَصَاعَ شَعِيرٍ بِصَاعِ حِنْطَةٍ وَصَاعِ شَعِيرٍ، أَوْ بِصَاعَيْ حِنْطَةٍ، أَوْ بِصَاعَيْ شَعِيرٍ. وَمِنْ صُوَرِهِ: أَنْ يَخْتَلِفَ النَّوْعُ أَوِ الصِّفَةُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، كَمَا إِذَا بَاعَ مُدَّ عَجْوَةٍ وَمُدَّ صَيْحَانِيٍّ، بِمُدِّ عَجْوَةٍ، وَمُدِّ صَيْحَانِيٍّ، أَوْ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ، أَوْ بِمُدَّيْ صَيْحَانِيٍّ، أَوْ بَاعَ مِائَةَ دِينَارٍ جَيِّدَةٍ، وَمِائَةَ دِينَارٍ رَدِيئَةٍ [بِمِائَتَيْ] دِينَارٍ جَيِّدٍ، أَوْ رَدِيءٍ، أَوْ وَسَطٍ، أَوْ بِمِائَةِ جَيِّدٍ، وَمِائَةِ رَدِيءٍ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ وَنَظَائِرِهَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ إِذَا بَاعَ مُدَّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمًا بِمُدٍّ وَدِرْهَمٍ، وَالدِّرْهَمَانِ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ، وَالْمُدَّانِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بَاعَ صَاعَ حِنْطَةٍ وَصَاعَ شَعِيرٍ بِمِثْلِهِمَا، وَصَاعَا الْحِنْطَةِ مِنْ صُبْرَةٍ، وَكَذَا الشَّعِيرُ، صَحَّ. وَيُحْكَى هَذَا عَنِ الْقَاضِيَيْنِ أَبِي الطَّيِّبِ وَحُسَيْنٍ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ. وَحَكَى صَاحِبُ «الْبَيَانِ» وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ، إِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ. وَالْمَعْرُوفُ مَا سَبَقَ.

وَمِنْ صُوَرِ هَذَا الْأَصْلِ: أَنْ يَبِيعَ دِينَارًا صَحِيحًا وَدِينَارًا مُكَسَّرًا بِدِينَارٍ صَحِيحٍ وَآخَرَ مُكَسَّرٍ، أَوْ بِصَحِيحَيْنِ، أَوْ بِمُكَسَّرَيْنِ إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمُكَسَّرِ دُونَ الصَّحِيحِ، وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّ صِفَةَ الصِّحَّةِ فِي مَحَلِّ الْمُسَامَحَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَصْحَابَ، أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِالْبُطْلَانِ فِي حِكَايَتِهِمُ الْمَذْهَبَ. وَحَكَى صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ إِذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْمُدِّ الْمَضْمُومِ إِلَى الدِّرْهَمِ وَفِيمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْمُدَّيْنِ. وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الدِّرْهَمِ وَمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْمُدَّيْنِ؟ فِيهِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ مَا لَوْ بَاعَهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ بَاعَ صَاعَ حِنْطَةٍ وَصَاعَ شَعِيرٍ، بِصَاعَيْ حِنْطَةٍ، أَوْ بِصَاعَيْ شَعِيرٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ مَحْمُولًا عَلَى مَا فَصَّلَهُ. وَلَوْ كَانَ الْجَيِّدُ مَخْلُوطًا بِالرَّدِيءِ، فَبَاعَ صَاعًا مِنْهُ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِجَيِّدٍ، أَوْ بِرَدِيءٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ التَّوْزِيعَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَمَيُّزِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ عَنِ الْآخَرِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ صَاعًا وَسَطًا بِجَيِّدٍ، أَوْ رَدِيءٍ، فَيَجُوزُ. ثُمَّ صُوَرُ الْبُطْلَانِ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إِذَا قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ. فَلَوْ فُصِّلَ، فَتَبَايَعَا مُدَّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمًا بِمُدٍّ وَدِرْهَمٍ، وَجَعَلَا الْمُدَّ فِي مُقَابَلَةِ الْمُدِّ، وَالدِّرْهَمَ فِي مُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ، أَوْ جَعَلَا الْمُدَّ فِي مُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ، وَالدِّرْهَمَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُدِّ جَازَ، وَكَانَ كَصَفْقَتَيْنِ مُتَبَايِنَتَيْنِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرِّبَوِيُّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ جِنْسَيْنِ، وَفِي الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا شَيْءٌ آخَرُ، فَاخْتَلَفَتْ عِلَّةُ الرِّبَا، بِأَنْ بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِصَاعِ حِنْطَةٍ وَصَاعِ شَعِيرٍ، جَازَ. وَإِنِ اتَّفَقَتْ، فَإِنْ كَانَ التَّقَابُضُ شَرْطًا فِي جَمِيعِ الْعِوَضَيْنِ، بِأَنْ بَاعَ صَاعَ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ، بِصَاعَيْ تَمْرٍ، أَوْ بِصَاعِ تَمْرٍ وَصَاعِ مِلْحٍ، جَازَ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ التَّقَابُضُ شَرْطًا فِي الْبَعْضِ فَقَطْ، بِأَنْ بَاعَ صَاعَ حِنْطَةٍ وَدِرْهَمًا، بِصَاعَيْ شَعِيرٍ، فَفِيهِ قَوْلَا الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الدِّرْهَمَ مِنَ الشَّعِيرِ، لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ. وَمَا يُقَابِلُ الْحِنْطَةَ يُشْتَرَطُ فِيهِ.

فصل

فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ صَاعَ حِنْطَةٍ بِصَاعِ حِنْطَةٍ، وَفِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا زُوَانٌ، أَوْ عُقَدُ التِّبْنِ، أَوْ مَدَرٌ، أَوْ حَبَّاتُ شَعِيرٍ، لَمْ يَجُزْ. وَضَبَطَ الْإِمَامُ الْمَنْعَ، بِأَنْ يَكُونَ الْخَلِيطُ قَدْرًا لَوْ مُيِّزَ ظَهَرَ عَلَى الْمِكْيَالِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ، لَمْ يَضُرَّ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا دُقَاقُ تِبْنٍ، أَوْ قَلِيلُ تُرَابٍ، لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي تَضَاعِيفِ الْحِنْطَةِ، وَلَا يَظْهَرُ فِي الْمِكْيَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ مُوَزُونًا بِجِنْسِهِ وَفِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا قَلِيلُ تُرَابٍ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْوَزْنِ. وَلَوْ بَاعَ حِنْطَةً بِشَعِيرٍ وَفِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا حَبَّاتٌ مِنَ الْآخَرِ يَسِيرَةٌ ; صَحَّ، وَإِنْ كَثُرَ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يُضْبَطُ ذَلِكَ بِالتَّأْثِيرِ فِي الْكَيْلِ، وَلَا بِالتَّمَوُّلِ، بَلْ ضَبْطُ الْكَثِيرِ أَنْ يَكُونَ الشَّعِيرُ الْمَخَالِطُ لِلْحِنْطَةِ قَدْرًا يُقْصَدُ تَمْيِيزُهُ لِيُسْتَعْمَلَ شَعِيرًا، وَكَذَا بِالْعَكْسِ. فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ دَارًا بِذَهَبٍ، فَظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنُ ذَهَبٍ، أَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا بِئْرُ مَاءٍ بِدَارٍ فِيهَا بِئْرُ مَاءٍ، وَقُلْنَا: الْمَاءُ رِبَوِيٌّ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ، كَبَيْعِ دَارٍ مُوِّهَتْ بِذَهَبٍ تَمْوِيهًا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ بِذَهَبٍ. فَصْلٌ فِي الْحَالِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، الرِّبَوِيُّ ضَرْبَانِ. مَا يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمَا لَا يَتَغَيَّرُ.

فَالْمُتَغَيِّرُ، تُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ فِي بَيْعِ الْجِنْسِ مِنْهُ بِالْجِنْسِ فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ. فَمِنْهُ: الْفَوَاكِهُ، فَتُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ حَالَ الْجَفَافِ خَاصَّةً، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِتَمْرٍ وَلَا رُطَبٍ، وَلَا بَيْعُ الْعِنَبِ بِعِنَبٍ وَلَا زَبِيبٍ، وَكَذَا كُلُّ ثَمَرَةٍ لَهَا حَالُ جَفَافٍ، كَالتِّينِ، وَالْمِشْمِشِ، وَالْخَوْخِ، وَالْبِطِّيخِ وَالْكُمِّثْرَى اللَّذَيْنِ يُفَلَّقَانِ، وَالْإِجَّاصِ، وَالرُّمَّانِ الْحَامِضِ، لَا يُبَاعُ رُطَبُهَا بِرُطَبِهَا وَلَا بِيَابِسِهَا. وَحُكِيَ وَجْهٌ فِي الْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ، وَمَا لَا يَعُمُّ تَجْفِيفُهُ عُمُومَ تَجْفِيفِ الرُّطَبِ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي حَالِ الرُّطُوبَةِ؛ لِأَنَّهَا أَكْمَلُ أَحْوَالِهَا. وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْجَدِيدِ بِالْعَتِيقِ، إِلَّا أَنْ تَبْقَى فِي الْجَدِيدِ نَدَاوَةٌ بِحَيْثُ يَظْهَرُ أَثَرُ زَوَالِهَا فِي الْمِكْيَالِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ حَالُ جَفَافٍ، كَالْعِنَبِ الَّذِي لَا يَتَزَبَّبُ، وَالرُّطَبِ الَّذِي لَا يَتَتَمَّرُ، وَالْبِطِّيخِ وَالْكُمِّثْرَى اللَّذَيْنِ لَا يُفَلَّقَانِ، وَالرُّمَّانِ الْحُلْوِ، وَالْبَاذِنْجَانِ، وَالْقَرْعِ، وَالْبُقُولِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَجَوَّزَ الْمُزَنِيُّ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَيُسْتَثْنَى مِنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، صُورَةُ الْعَرَايَا، وَسَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ: يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ مِنَ الْقِشْرِ وَالتِّبْنِ، مَا دَامَتْ عَلَى هَيْأَتِهَا بَعْدَ تَنَاهِي جَفَافِهَا. فَإِذَا بَطَلَتْ تِلْكَ الْهَيْئَةُ خَرَجَتْ عَنِ الْكَمَالِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِشَيْءٍ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْهَا مِنَ الْمَطْعُومَاتِ، كَالدَّقِيقِ، وَالسَّوِيقِ، وَالْخُبْزِ، وَالنَّشَا، وَلَا بِمَا فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنَ الْحِنْطَةِ، كَالْمَصْلِ فَفِيهِ الدَّقِيقُ، وَالْفَالُوذَجِ فَفِيهِ النَّشَا. وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَشْيَاءِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، لِخُرُوجِهَا عَنْ حَالِ الْكَمَالِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَشْهُورُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ كَيْلًا، وَجَعَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْقَوْلَ، فِي أَنَّ الْحِنْطَةَ وَالدَّقِيقَ جِنْسَانِ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِمَا. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَحَكَى الْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيُّ قَوْلًا: أَنَّهُ يَجُوزُ

بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ، كَالدُّهْنِ بِالدُّهْنِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْخُبْزِ الْجَافِّ الْمَدْقُوقِ بِمِثْلِهِ كَيْلًا. وَقَوْلٌ: أَنَّ الْحِنْطَةَ مَعَ السَّوِيقِ جِنْسَانِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ شَاذَّةٌ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ وَلَا الْمَبْلُولَةِ بِمِثْلِهَا وَلَا بِغَيْرِهَا. وَإِنْ جُفِّفَتِ الْمَبْلُولَةُ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِتَفَاوُتِ جَفَافِهَا، وَالْحِنْطَةُ الَّتِي فُرِكَتْ وَأُخْرِجَتْ مِنَ السَّنَابِلِ وَلَمْ يَتِمَّ جَفَافُهَا، كَالْمَبْلُولَةِ. وَالنُّخَالَةُ لَيْسَتْ رِبَوِيَّةً، وَكَذَا الْحِنْطَةُ الْمُسَوَّسَةُ الَّتِي لَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ اللُّبِّ، فَيَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْحِنْطَةِ وَبَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا. فَرْعٌ: السِّمْسِمُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُبُوبِ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَدْهَانُ حَالَ كَمَالِهَا مَا دَامَتْ عَلَى هَيْأَتِهَا كَالْأَقْوَاتِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ طَحِينِهَا بِطَحِينِهَا، كَالدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ. وَأَمَّا دُهْنُهَا الْمُسْتَخْرَجُ، فَكَامِلٌ، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَمَاثِلًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِمَا يُطْرَحُ فِيهِ مِنْ مِلْحٍ وَنَحْوِهِ. فَرْعٌ: قَدْ يَكُونُ لِلشَّيْءِ حَالَتَا كَمَالٍ، كَالزَّبِيبِ وَالْخَلِّ كَامِلَانِ، وَأَصْلُهُمَا الْعِنَبُ. وَكَذَا الْعَصِيرُ، كَامِلٌ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَجُوزُ بَيْعُ عَصِيرِ الْعِنَبِ بِعَصِيرِ الْعِنَبِ، وَعَصِيرِ الرُّطَبِ بِعَصِيرِ الرَّطَبِ. وَالْمِعْيَارُ فِيهِ وَفِي الدُّهْنِ الْكَيْلُ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكُسْبِ بِالْكُسْبِ وَزْنًا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَلْطٌ. فَإِنْ كَانَ، لَمْ يَجُزْ.

فَرْعٌ: الْأَدْهَانُ الْمُطَيِّبَةُ، كَدُهْنِ الْوَرْدِ، وَالْبَنَفْسَجِ، وَالنَّيْلُوفَرِ، كُلُّهَا مُسْتَخْرَجَةٌ مِنَ السِّمْسِمِ. فَإِذَا قُلْنَا: يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا، جَازَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَإِنْ رَبَّى السِّمْسِمَ فِيهَا ثُمَّ اسْتَخْرَجَ دُهْنَهُ. وَإِنِ اسْتَخْرَجَ الدُّهْنَ ثُمَّ طُرِحَتْ أَوْرَاقُهَا فِيهِ، لَمْ يَجُزْ. فَرْعٌ: عَصِيرُ الرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ وَسَائِرِ الثِّمَارِ، كَعَصِيرِ الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، وَكَذَا عَصِيرُ قَصَبِ السُّكَّرِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ خَلِّ الرُّطَبِ، بِخَلِّ الرُّطَبِ، وَخَلِّ الْعِنَبِ، بِخَلِّ الْعِنَبِ كَيْلًا. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بِمِثْلِهِ، وَلَا خَلِّ التَّمْرِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا مَاءً، فَيَمْتَنِعُ الْعِلْمُ بِالْمُمَاثَلَةِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ خَلِّ الْعِنَبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ، وَلَا خَلِّ الرُّطَبِ بِخَلِّ التَّمْرِ؛ لِأَنَّ فِي أَحَدِهِمَا مَاءً. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بِخَلِّ التَّمْرِ إِذَا قُلْنَا: الْمَاءُ رِبَوِيٌّ. قُلْتُ: فَإِنْ قُلْنَا: الْمَاءُ غَيْرُ رِبَوِيٍّ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الرَّافِعِيِّ جَوَازُهُ، وَبِهِ صَرَّحَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ، فِيمَنْ جَمَعَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْخَلَّيْنِ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ الْمَاءَيْنِ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الطَّرِيقَ - الْبَغَوِيُّ فِي كِتَابِهِ «التَّعْلِيقُ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ» . وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الصَّوَابُ، وَلَعَلَّ الْأَصْحَابَ اقْتَصَرُوا عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ بَيْعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بِخَلِّ الرُّطَبِ، وَخَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ الْعِنَبِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْخَلَّيْنِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ.

فَرْعٌ: اللَّبَنُ كَامِلٌ، فَيُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، سَوَاءٌ فِيهِ الْحَلِيبُ، وَالْحَامِضُ، وَالرَّائِبُ الْخَاثِرُ، مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلِيًّا بِالنَّارِ، فَيُبَاعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَيْلًا. وَلَا مُبَالَاةَ بِكَوْنِ مَا يَحْوِيهِ الْمِكْيَالُ مِنَ الْخَاثِرِ أَكْثَرَ وَزْنًا؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْكَيْلِ، كَالْحِنْطَةِ الصُّلْبَةِ بِالرَّخْوَةِ. وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ مَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ جَمِيعًا. وَيَجُوزُ بَيْعُ السَّمْنِ بِالسَّمْنِ كَيْلًا إِنْ كَانَ ذَائِبًا، وَوَزْنًا إِنْ كَانَ جَامِدًا، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» ، وَهُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ وَجْهَيْنِ أَطْلَقَهُمَا الْعِرَاقِيُّونَ. الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يُوزَنُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُكَالُ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَخِيضِ بِالْمَخِيضِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا مَاءٌ. وَمَالَ الْمُتَوَلِّي إِلَى الْمَنْعِ. وَالْمَذْهَبُ: الْجَوَازُ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَقِطِ بِالْأَقِطِ، وَلَا الْمَصْلِ بِالْمَصْلِ، وَلَا الْجُبْنِ بِالْجُبْنِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزُّبْدِ بِالزُّبْدِ، وَلَا بِالسَّمْنِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِمَا اتُّخِذَ مِنْهُ، كَالسَّمْنِ وَالْمَخِيضِ وَغَيْرِهِمَا. فَرْعٌ: الرِّبَوِيُّ الْمَعْرُوضُ عَلَى النَّارِ، ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَعْرُوضُ لِلْعَقْدِ وَالطَّبْخِ، كَالدِّبْسِ وَاللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدِّبْسِ بِالدِّبْسِ، وَالسُّكَّرِ بِالسُّكَّرِ، وَالْفَانِيذِ بِالْفَانِيذِ، وَاللِّبَأِ بِاللِّبَأِ، عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْجَمِيعِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ قَصَبِ السُّكَّرِ بِقَصَبِ السُّكَّرِ، وَلَا بِالسُّكَّرِ، كَالرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، وَبِالتَّمْرِ. أَمَّا اللَّحْمُ، إِذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَا طَرِيَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَا مُقَدَّدَيْنِ، جَازَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا مِنَ الْمِلْحِ مَا يَظْهَرُ فِي الْوَزْنِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَتَنَاهَى جَفَافُهُ، بِخِلَافِ

التَّمْرِ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ الْجَدِيدُ مِنْهُ بِالْعَتِيقِ وَبِالْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ، وَأَثَرُ الرُّطُوبَةِ الْبَاقِيَةِ، لَا تَظْهَرُ فِي الْمِكْيَالِ، وَاللَّحْمُ مَوْزُونٌ، فَيَظْهَرُ أَثَرُ الرُّطُوبَةِ فِي الْوَزْنِ. هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ اللَّحْمُ مَطْبُوخًا وَلَا مَشْوِيًّا. فَأَمَّا الْمَطْبُوخُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا بِمِثْلِهِمَا وَلَا بِالنَّيِّءِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْمَعْرُوضُ لِلتَّمْيِيزِ وَالتَّصْفِيَةِ، فَهُوَ كَامِلٌ، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، كَالسَّمْنِ. وَفِي الْعَسَلِ الْمُصَفَّى بِالنَّارِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَامِلٌ كَالْمُصَفَّى بِالشَّمْسِ، وَمِعْيَارُهُ مِعْيَارُ السَّمْنِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّهْدِ بِالشَّهْدِ، وَلَا بِالْعَسَلِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الشَّمْعِ بِالْعَسَلِ وَبِالشَّهْدِ؛ لِأَنَّ الشَّمْعَ لَيْسَ رِبَوِيًّا. فَرْعٌ: التَّمْرُ إِذَا نُزِعَ نَوَاهُ، بَطَلَ كَمَالُهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ. فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَنْزُوعِ النَّوَى بِمِثْلِهِ، وَلَا بِغَيْرِ مَنْزُوعِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ فِيهِمَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ بِمِثْلِهِ فَقَطْ. وَمُفَلَّقُ الْمِشْمِشِ، وَالْخَوْخِ، وَنَحْوِهِمَا، لَا يَبْطُلُ كَمَالُهُ بِنَزْعِ النَّوَى عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَبْطُلُ كَمَالُ اللَّحْمِ بِنَزْعِ عَظْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ صَلَاحُهُ بِبَقَائِهِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ نَزْعُ الْعَظْمِ فِي جَوَازِ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الِاشْتِرَاطُ. وَالثَّانِي: يُسَامَحُ بِهِ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الْفَخِذِ بِالْجَنْبِ، وَلَا يَضُرُّ تَفَاوُتُ الْعِظَامِ، كَمَا لَا يَضُرُّ تَفَاوُتُ النَّوَى.

فصل

فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْجِنْسِيَّةِ قَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، أَنَّ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ، يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ. وَبِغَيْرِ جِنْسِهِ، يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ. وَالتَّجَانُسُ وَعَدَمُهُ، قَدْ يَظْهَرَانِ، وَقَدْ يَشْتَبِهَانِ، فَمَا ظَهَرَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَنْصِيصٍ عَلَيْهِ، وَمَا اشْتَبَهَ، يَحْتَاجُ. فَمِنْ ذَلِكَ، لُحُومُ الْحَيَوَانَاتِ، هَلْ هِيَ جِنْسٌ، أَمْ أَجْنَاسٌ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُمَا أَجْنَاسٌ. فَإِنْ قُلْنَا: جِنْسٌ، فَالْحَيَوَانَاتُ الْبَرِّيَّةُ وَحْشِيُّهَا وَأَهْلِيُّهَا كُلُّهَا جِنْسٌ، وَكَذَا الْبَحْرِيَّةُ كُلُّهَا جِنْسٌ. وَفِي الْبَحْرِيَّةِ مَعَ الْبَرِّيَّةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: جِنْسٌ. وَالثَّانِي: جِنْسَانِ. وَإِنْ قُلْنَا: أَجْنَاسٌ، فَحَيَوَانُ الْبَرِّ مَعَ الْبَحْرِ جِنْسَانِ، وَالْأَهْلِيُّ مَعَ الْوَحْشِيِّ جِنْسَانِ. ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَاسٌ، فَلُحُومُ الْإِبِلِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ الْبَقَرِ جَوَامِيسِهِا وَغَيْرِهَا جِنْسٌ، وَالْغَنَمُ ضَأْنُهُا وَمَعِزُهَا جِنْسٌ، وَالْبَقَرُ الْوَحْشِيُّ جِنْسٌ، وَالظِّبَاءُ جِنْسٌ. وَفِي الظَّبْيِ مَعَ الْإِبِلِ تَرَدُّدٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَاسْتَقَرَّ جَوَابُهُ أَنَّهُمَا كَالضَّأْنِ وَالْمَعِزِ. وَأَمَّا الطُّيُورُ، فَالْعَصَافِيرُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا جِنْسٌ، وَالْبَطُّوطُ جِنْسٌ. وَعَنِ الرَّبِيعِ: أَنَّ الْحَمَامَ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ كُلُّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ، جِنْسٌ. فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقُمْرِيُّ، وَالدُّبْسِيُّ، وَالْفَوَاخِتُ. وَاخْتَارَ هَذَا جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ، وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» ، وَاسْتَبْعَدَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَجَعَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا جِنْسًا. وَسُمُوكُ الْبَحْرِ جِنْسٌ. وَأَمَّا غَنَمُ الْمَاءِ وَبَقَرُهُ وَغَيْرُهُمَا، فَفِيهَا - مَعَ السَّمَكِ - أَوْ مَعَ مِثْلِهَا، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا أَجْنَاسٌ. وَفِي الْجَرَادِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِ اللُّحُومِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ لُحُومِ الْبَرِّيَّاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ لُحُومِ الْبَحْرِيَّاتِ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ الْوَاحِدِ، كَالْكَرِشِ، وَالْكَبِدِ، وَالطِّحَالِ، وَالْقَلْبِ، وَالرِّئَةِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهَا أَجْنَاسٌ. وَالْمُخُّ، جِنْسٌ آخَرُ، وَكَذَا الْجِلْدُ. قُلْتُ: الْمَعْرُوفُ، أَنَّ الْجِلْدَ لَيْسَ رِبَوِيًّا، فَيَجُوزُ بَيْعُ جِلْدٍ بِجُلُودٍ وَبِغَيْرِهَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَشَحْمُ الظَّهْرِ مَعَ شَحْمِ الْبَطْنِ، جِنْسَانِ. وَسَنَامُ الْبَعِيرِ مَعَهُمَا، جِنْسٌ آخَرُ. وَالرَّأْسُ، وَالْأَكَارِعُ، مِنْ جِنْسِ اللُّحُومِ. وُفِي الْأَكَارِعِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. وَأَمَّا الْأَدِقَّةُ وَالْخُلُولُ وَالْأَدْهَانُ، فَهِيَ أَجْنَاسٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَكَذَا عَصِيرُ الْعِنَبِ مَعَ عَصِيرِ الرُّطَبِ. وَحُكِيَ فِي الْأَدِقَّةِ قَوْلٌ أَنَّهَا جِنْسٌ، وَوَجْهٌ أَبْعَدُ مِنْهُ فِي الْخُلُولِ وَالْأَدْهَانِ، وَيَجْرِي مِثْلُهُ فِي عَصِيرِ الْعِنَبِ مَعَ عَصِيرِ الرُّطَبِ. وَالْأَلْبَانُ أَجْنَاسٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَيَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْبَقَرِ بِلَبَنِ الْغَنَمِ مُتَفَاضِلًا، وَبَيْعُ أَحَدِهِمَا بِمَا يُتَّخَذُ مِنَ الْآخَرِ. وَلَبَنُ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ جِنْسٌ، وَلَبَنُ الْوَعْلِ مَعَ الْمَعِزِ الْأَهْلِيِّ جِنْسَانِ. وَبُيُوضُ الطَّيْرِ أَجْنَاسٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا أَجْنَاسٌ. وَزَيْتُ الزَّيْتُونِ مَعَ زَيْتِ الْفُجْلِ، وَالتَّمْرُ الْمَعْرُوفُ مَعَ التَّمْرِ الْهِنْدِيِّ، أَجْنَاسٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي الْبِطِّيخِ الْمَعْرُوفِ مَعَ الْهِنْدِيِّ، وَالْقِثَّاءِ مَعَ الْخِيَارِ، وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُمَا جِنْسَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْبُقُولُ، كَالْهِنْدِبَاءِ وَالنُّعْنُعِ وَغَيْرِهِمَا، أَجْنَاسٌ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا رِبَوِيَّةٌ. وَدُهْنُ السِّمْسِمِ وَكُسْبُهُ، جِنْسَانِ، كَالْمَخِيضِ مَعَ السَّمْنِ. وَفِي عَصِيرِ الْعِنَبِ مَعَ خَلِّهِ، وَالسُّكَّرِ مَعَ الْفَانِيذِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: جِنْسَانِ. وَالسُّكَّرُ الطَّبَرْزَدُ وَالنَّبَاتُ، جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَالسُّكَّرُ الْأَحْمَرُ مَعَ الْأَبْيَضِ، جِنْسٌ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ عَكَرُ الْأَبْيَضِ، إِلَّا أَنَّ صِفَتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ.

فَرْعٌ: بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ مِنْ جِنْسِهِ بَاطِلٌ، خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ. وَإِنْ بَاعَهُ بِحَيَوَانٍ مَأْكُولٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَلَحْمِ غَنَمٍ بِبَقَرَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: اللُّحُومُ جِنْسٌ، بَطَلَ. وَإِنْ قُلْنَا: أَجْنَاسٌ، بَطَلَ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِنْ بَاعَهُ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ، بَطَلَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَفِي بَيْعِ الشَّحْمِ وَالْأَلْيَةِ وَالطِّحَالِ وَالْقَلْبِ وَالْكُلْيَةِ وَالرِّئَةِ بِالْحَيَوَانِ، وَالسَّنَامِ بِالْبَعِيرِ، وَلَحْمِ السَّمَكِ بِالشَّاةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي بَيْعِ الْجِلْدِ بِالْحَيَوَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْبُوغًا. فَإِنْ دُبِغَ فَلَا مَنْعَ. فَرْعٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُهْنِ السِّمْسِمِ وَلَا كُسْبِهِ بِالسِّمْسِمِ، وَلَا دُهْنِ الْجَوْزِ بِلُبِّهِ، وَلَا بَيْعُ السَّمْنِ بِاللَّبَنِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ وَزْنًا، وَاللَّوْزِ بِاللَّوْزِ كَيْلًا مَعَ قِشْرِهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ بَيْعُ لُبِّ الْجَوْزِ بِلُبِّهِ، وَلُبِّ اللَّوْزِ بِلُبِّهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ فِي قِشْرِهِ وَزْنًا، عَلَى الْمَذْهَبِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الشَّاةِ بِشَاةٍ لَيْسَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ، بِأَنْ جَرَى الْبَيْعُ عَقِيبَ الْحَلْبِ، فَإِنْ كَانَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ، لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ بَاعَ شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَبَيْعُ بَيْضٍ بِدَجَاجَةٍ كَبَيْعِ لَبَنٍ بِشَاةٍ. وَلَوْ بَاعَ لَبَنَ شَاةٍ بِبَقَرَةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْأَلْبَانُ جِنْسٌ، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا، فَقَوْلَانِ، لِلْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ مَا يُقَابِلُ اللَّبَنَ مِنَ اللَّبَنِ، يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ، وَمَا يُقَابِلُ الْحَيَوَانَ، لَا يُشْتَرَطُ.

باب البيوع المنهي عنها

فَرْعٌ: يَجْرِي الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ جَرَيَانَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ فِيهِ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ. بَابُ الْبُيُوعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا مَا وَرَدَ فِيهِ النَّهْيُ مِنَ الْبُيُوعِ، قَدْ يُحْكَمُ بِفَسَادِهِ وَهُوَ الْأَغْلَبُ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى النَّهْيِ. وَقَدْ لَا يُحْكَمُ بِفَسَادِهِ، لِكَوْنِ النَّهْيِ لَيْسَ لِخُصُوصِيَّةِ الْبَيْعِ، بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْوَاعٌ. مِنْهَا: بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، وَقَدْ سَبَقَ. وَمِنْهَا: بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَبَيْعُ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وَبَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ. وَسَنَشْرَحُهَا بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: بَيْعُ الْغَرَرِ. وَمِنْهَا: بَيْعُ مَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَقَدْ سَبَقَ. وَمِنْهَا: بَيْعُ مَالِ الْغَيْرِ. وَمِنْهَا: بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَفِيهِ تَفْسِيرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَ غَائِبًا. وَالثَّانِي: مَا لَا يَمْلِكُهُ لِيَشْتَرِيَهُ فَيُسَلِّمَهُ. وَمِنْهَا: بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا فِي شَرَائِطِ الْمَبِيعِ. وَمِنْهَا: بَيْعُ عَسْبِ الْفَحْلِ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ -، وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ: أَنَّهُ ضِرَابُهُ، وَقِيلَ: أُجْرَةُ ضِرَابِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَاؤُهُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، تَقْدِيرُهُ: بَدَلُ عَسْبِ الْفَحْلِ. وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:

نُهِيَ عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ. وَالْحَاصِلُ: إِنْ بُذِلَ عِوَضًا عَنِ الضِّرَابِ، إِنْ كَانَ بَيْعًا، فَبَاطِلٌ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ إِجَارَةً عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ صَاحِبُ الْأُنْثَى صَاحِبَ الْفَحْلِ شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ. وَمِنْهَا: بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، هُوَ نَتَاجُ النَّتَاجِ. وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنٍ إِلَى أَنْ يَلِدَ وَلَدُ هَذِهِ الدَّابَّةِ. كَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عُمَرَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقِيلَ: هُوَ بَيْعُ وَلَدِ نَتَاجِ هَذِهِ الدَّابَّةِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَهْلُ اللُّغَةِ. وَمِنْهَا: بَيْعُ الْمَلَاقِيحِ، وَهِيَ مَا فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ مِنَ الْأَجِنَّةِ، الْوَاحِدَةُ: مَلْقُوحَةٌ. وَبَيْعُ الْمَضَامِينِ، وَهِيَ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ. وَمِنْهَا: بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ. وَفِيهِ تَأْوِيلَاتٌ. أَحَدُهَا: تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِثَوْبٍ مَطْوِيٍّ، أَوْ فِي ظُلْمَةٍ، فَيَلْمَسُهُ الْمُسْتَامُ فَيَقُولُ صَاحِبُهُ: بِعْتُكَهُ بِكَذَا، بِشَرْطِ أَنْ يَقُومَ لَمْسُكَ مَقَامَ نَظَرِكِ، وَلَا خِيَارَ لَكَ إِذَا رَأَيْتَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَ اللَّمْسِ بَيْعًا، فَيَقُولُ: إِذَا لَمَسْتَهُ فَهُوَ مَبِيعٌ لَكَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمَسَهُ انْقَطَعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ، وَلَزِمَ الْبَيْعُ. وَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ عَلَى التَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا. وَفِي الْأَوَّلِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَقَالَهُ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» تَفْرِيعًا عَلَى صِحَّةِ نَفْيِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَعَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي، لَهُ حُكْمُ الْمُعَاطَاةِ. وَالْمَذْهَبُ: الْجَزْمُ بِالْبُطْلَانِ عَلَى التَّأْوِيلَاتِ. وَمِنْهَا: بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ، وَفِيهِ تَأْوِيلَاتٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ النَّبْذِ بَيْعًا، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ بَيْعٌ بَاطِلٌ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ فِي الْمُعَاطَاةِ، فَإِنَّ الْمُنَابَذَةَ مَعَ قَرِينَةِ الْبَيْعِ، هِيَ نَفْسُ الْمُعَاطَاةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ عَلَى أَنِّي إِذَا نَبَذْتُهُ إِلَيْكَ، لَزِمَ الْبَيْعُ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ نَبْذُ الْحَصَاةِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: بَيْعُ الْحَصَاةِ، وَفِيهِ تَأْوِيلَاتٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ مِنْ

هَذِهِ الْأَثْوَابِ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحَصَاةُ الَّتِي أَرْمِيهَا، أَوْ بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ هُنَا إِلَى مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاةُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ أَرْمِيَ الْحَصَاةَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ الرَّمْيِ بَيْعًا، فَيَقُولَ: إِذَا رَمَيْتُ الْحَصَاةَ، فَهَذَا الثَّوْبُ مَبِيعٌ لَكَ بِكَذَا، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ فِي جَمِيعِهَا. وَمِنْهَا: بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» . أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ، عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي دَارَكَ بِكَذَا، أَوْ تَشْتَرِيَ مِنِّي دَارِي بِكَذَا، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ نَقْدًا، أَوْ بِأَلْفَيْنِ نَسِيئَةً، فَخُذْهُ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ أَوْ شِئْتُ أَنَا، وَهُوَ بَاطِلٌ. أَمَّا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ نَقْدًا، وَبِأَلْفَيْنِ نَسِيئَةً، أَوْ قَالَ: بِعْتُكَ نِصْفَهُ بِأَلْفٍ، وَنِصْفَهُ بِأَلْفَيْنِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، نِصْفُهُ بِسِتِّمِائَةٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ كَلَامِهِ يَقْتَضِي تَوْزِيعَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُثَمَّنِ بِالسَّوِيَّةِ، وَآخِرُهُ يُنَاقِضُهُ. وَمِنْهَا: بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: بَيْعُ الْمَجْرِ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ - وَهُوَ مَا فِي الرَّحِمِ، وَقِيلَ: هُوَ الرِّبَا. وَقِيلَ: هُوَ الْمُحَاقَلَةُ وَالْمُزَابَنَةُ. وَمِنْهَا: بَيْعُ السِّنِينَ، وَلَهُ تَفْسِيرَانِ. أَحَدُهُمَا: بَيْعُ ثَمَرَةِ النَّخْلَةِ سِنِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا سَنَةً، عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَضَتِ السَّنَةُ فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا، فَتَرُدُّ إِلَيَّ الْمَبِيعَ وَأَرُدُّ إِلَيْكَ الثَّمَنَ. وَمِنْهَا: بَيْعُ الْعُرْبَانِ. وَيُقَالُ: الْعُرْبُونُ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً مِنْ غَيْرِهِ وَيَدْفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ السِّلْعَةَ، فَهِيَ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِلَّا، فَهِيَ لِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ مَجَّانًا. وَيُفَسَّرُ أَيْضًا بِأَنْ يَدْفَعَ دَرَاهِمَ إِلَى صَانِعٍ لِيَعْمَلَ لَهُ خُفًّا أَوْ خَاتَمًا أَوْ يَنْسِجَ لَهُ ثَوْبًا، عَلَى أَنَّهُ إِنْ رَضِيَهُ، فَالْمَدْفُوعُ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِلَّا، فَهُوَ لِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: بَيْعُ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَسْوَّدَ، وَالْحَبِّ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، وَبَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمِنْهَا: بَيْعُ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، لَا يَصِحُّ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُمُ الْحَدِيدَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلسِّلَاحِ. قُلْتُ: بَيْعُ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، صَحِيحٌ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ والرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْهِرَّةِ. قَالَ الْقَفَّالُ: الْمُرَادُ: الْهِرَّةُ الْوَحْشِيَّةُ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَةُ اسْتِئْنَاسٍ وَلَا غَيْرِهِ. قُلْتُ: مَذْهَبُنَا: أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ الْهِرَّةِ الْأَهْلِيَّةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ مِنْ أَوْجُهٍ، ذَكَرَهَا الْخَطَّابِيُّ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي صِحَّتِهِ. وَالثَّانِي: جَوَابُ الْقَفَّالِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ النَّاسَ يَتَسَامَحُونَ بِهِ وَيَتَعَاوَرُونَهُ. هَذِهِ أَجْوِبَةُ الْخَطَّابِيُّ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: النَّهْيُ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَهُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَرْضِ. وَمِنْهَا: النَّهْيُ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ. وَالشَّرْطُ يَنْقَسِمُ إِلَى فَاسِدٍ، وَصَحِيحٍ. فَالْفَاسِدُ: يُفْسِدُ الْعَقْدَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ كَلَامٌ سَيَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَمِنَ الْفَاسِدِ، إِذَا بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ دَارَهُ، أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ دَارَهُ، وَبِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ عَشَرَةً، فَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ. فَإِذَا أَتَيَا بِالْبَيْعِ الثَّانِي، نَظَرَ، إِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ بُطْلَانَ الْأَوَّلِ، صَحَّ، وَإِلَّا، فَلَا؛ لِأَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ بِهِ عَلَى حُكْمِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، كَذَا قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ. وَالْقِيَاسُ: صِحَّتُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ، وَحَكَاهُ عَنْ شَيْخِهِ فِي كِتَابِ «الرَّهْنِ» . وَلَوِ اشْتَرَى زَرْعًا، وَشَرَطَ عَلَى بَائِعِهِ أَنْ يَحْصُدَهُ، بَطَلَ الْبَيْعُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ. وَقِيلَ: شَرْطُ الْحَصَادِ بَاطِلٌ. وَفِي الْبَيْعِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ أَفْرَدَ الشِّرَاءَ

بِعِوَضٍ وَالِاسْتِئْجَارَ بِعِوَضٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ بِعَشَرَةٍ، عَلَى أَنْ تَحْصُدَهُ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِجَارَةَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الزَّرْعَ، وَاسْتَأْجَرْتُكَ عَلَى حَصَادِهِ بِعَشَرَةٍ، فَقَالَ: بِعْتُ وَأَجَّرْتُ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ. وَالثَّانِي: تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ. وَفِي الْبَيْعِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الزَّرْعَ بِعَشَرَةٍ، وَاسْتَأْجَرْتُكَ لِحَصْدِهِ بِدِرْهَمٍ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ. وَنَظَائِرُ مَسْأَلَةِ الزَّرْعِ تُقَاسُ بِهَا، كَمَا إِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ صَبْغَهُ، وَخِيَاطَتَهُ، أَوْ لَبَنًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ طَبْخَهُ، أَوْ نَعْلًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْعَلَ بِهِ دَابَّتَهُ، أَوْ عَبْدًا رَضِيعًا عَلَى أَنَّهُ يُتِمُّ إِرْضَاعَهُ، أَوْ مَتَاعًا عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى بَيْتِهِ، وَالْبَائِعُ يَعْرِفُ بَيْتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، بَطَلَ قَطْعًا. وَلَوِ اشْتَرَى حَطَبًا عَلَى ظَهْرِ بَهِيمَةٍ مُطْلَقًا، فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيُسَلِّمُهُ إِلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ، أَمْ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَشْتَرِطَ تَسْلِيمَهُ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ تَقْتَضِي حَمْلَهُ إِلَى دَارِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الصَّحِيحُ فِي الْبَيْعِ، فَمِنْ أَنْوَاعِهِ شَرْطُ الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ فِي الثَّمَنِ. فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا، بَطَلَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَلَوْ أَجَّلَ الثَّمَنَ أَلْفَ سَنَةٍ، بَطَلَ الْعَقْدُ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَعِيشُ هَذِهِ الْمُدَّةَ. فَعَلَى هَذَا، يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْأَجَلِ، احْتِمَالُ بَقَائِهِ إِلَيْهِ. قُلْتُ: لَا يُشْتَرَطُ احْتِمَالُ بَقَائِهِ إِلَيْهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ، لَكِنَّ التَّأْجِيلَ بِأَلْفِ سَنَةٍ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَبْعُدُ بَقَاءُ الدُّنْيَا إِلَيْهِ، فَاسِدٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ مَوْضِعُ الْأَجَلِ، إِذَا كَانَ الْعِوَضُ فِي الذِّمَّةِ. فَأَمَّا ذِكْرُهُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْتُ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنْ أُسَلِّمَهَا فِي وَقْتِ كَذَا، فَبَاطِلٌ، يُبْطِلُ الْبَيْعَ. وَلَوْ حَلَّ الْأَجَلُ، فَأَجَّلَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مُدَّةً، أَوْ زَادَ فِي الْأَجَلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ، فَهُوَ وَعْدٌ لَا يَلْزَمُ. كَمَا أَنَّ بَدَلَ الْإِتْلَافِ لَا يَتَأَجَّلُ وَإِنْ

أَجَّلَهُ. وَلَوْ أَوْصَى مَنْ لَهُ دَيْنٌ حَالٌّ عَلَى إِنْسَانٍ بِإِمْهَالِهِ مُدَّةً، لَزِمَ وَرَثَتَهُ إِمْهَالُهُ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَاتِ بَعْدَ الْمَوْتِ تَلْزَمُ، قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَلَوْ أَسْقَطَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ الْأَجَلَ، فَهَلْ يَسْقُطُ حَتَّى يَتَمكَّنَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ مُطَالَبَتِهِ فِي الْحَالِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ صِفَةٌ تَابِعَةٌ، وَالصِّفَةُ لَا تُفْرَدُ بِالْإِسْقَاطِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْحِنْطَةِ الْجَيِّدَةِ، أَوِ الدَّنَانِيرِ الصِّحَاحِ، لَوْ أَسْقَطَ صِفَةَ الْجَوْدَةِ وَالصِّحَّةِ، لَمْ تَسْقُطْ. وَمِنْ أَنْوَاعِهِ، شَرْطُ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: شَرْطُ الرَّهْنِ، وَالْكَفِيلِ، وَالشَّهَادَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَنْ يَرْهَنَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، أَوْ يَتَكَفَّلَ بِهِ كَفِيلٌ، أَوْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَشْرُطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ كَفِيلًا بِالْعُهْدَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الرَّهْنِ الْمُشَاهَدَةُ أَوِ الْوَصْفُ بِصِفَةِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ. وَفِي الْكَفِيلِ الْمُشَاهَدَةُ، أَوِ الْمَعْرِفَةُ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ، وَلَا يَكْفِي الْوَصْفُ، كَقَوْلِهِ: رَجُلٌ مُوسِرٌ ثِقَةٌ. هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ لِلْأَصْحَابِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الِاكْتِفَاءُ بِالْوَصْفِ أَوْلَى مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِمُشَاهَدَةِ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، لَمْ يَكُنْ مُبْعِدًا. وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ: لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْكَفِيلِ. فَإِذَا أَطْلَقَ، أَقَامَ مَنْ شَاءَ كَفِيلًا، وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ. وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الشُّهُودِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَادَّعَى الْإِمَامُ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَطْعًا، وَرَدَّ الْخِلَافَ إِلَى أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ الشُّهُودَ، هَلْ يَتَعَيَّنُونَ؟ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِكَوْنِ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ أَوْ عِنْدَ عَدْلٍ عَلَى الْأَصَحِّ، بَلْ إِنِ اتَّفَقَا عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ عَدْلٍ، وَإِلَّا جَعَلَهُ الْحَاكِمُ فِي يَدِ عَدْلٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ رَهْنُهُ غَيْرَ الْمَبِيعِ. فَلَوْ شَرَطَ كَوْنَ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ رَهْنًا بِالثَّمَنِ، بَطَلَ الْبَيْعُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ، إِلَّا الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْبَدَاءَةَ بِالتَّسْلِيمِ بِمَنْ؟ فَإِنْ قُلْنَا: بِالْبَائِعِ أَوْ يُجْبِرَانِ، أَوْ لَا يُجْبِرَانِ، بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَاهُ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالْمُشْتَرِي، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا.

وَالثَّانِي: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ، سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَيَرُدَّهُ إِلَيْهِ، بَطَلَ الْبَيْعُ أَيْضًا. وَلَوْ رَهَنَهُ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، صَحَّ إِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَلَا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ ثَابِتٌ لَهُ. وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا، فَهُوَ كَرَهْنِ الْمَبِيعِ بِدَيْنٍ آخَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ. ثُمَّ إِذَا لَمْ يَرْهَنِ الْمُشْتَرِي مَا شَرَطَهُ، أَوْ لَمْ يَشْهَدْ، أَوْ لَمْ يَتَكَفَّلِ الَّذِي عَيَّنَهُ، فَلَا إِجْبَارَ، لَكِنْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ. وَلَا يَقُومُ رَهْنٌ وَكَفِيلٌ آخَرُ مَقَامَ الْمُعَيَّنِ. فَإِنْ فَسَخَ، فَذَاكَ. وَإِنْ أَجَازَ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. وَلَوْ عَيَّنَ شَاهِدَيْنِ، فَامْتَنَعَا مِنَ التَّحَمُّلِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الشَّاهِدَيْنِ، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الرَّهْنِ، فَهَلَكَ الْمَرْهُونُ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ تَعَيَّبَ، أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا قَدِيمًا، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِنْ تَعَيَّبَ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلَا خِيَارَ. وَلَوِ ادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّهُ حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قَبْلَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ. وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَوْ تَعَيَّبَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ، فَلَا أَرْشَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ: فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ. وَالثَّانِي: يَبْطُلَانِ. وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ. فَإِذَا صَحَّحْنَا الشَّرْطَ، فَذَاكَ إِذَا أَطْلَقَ، أَوْ قَالَ: بِشَرْطِ أَنْ تُعْتِقَهُ عَنْ نَفْسِكَ. أَمَّا إِذَا قَالَ: بِشَرْطِ أَنْ تُعْتِقَهُ عَنِّي، فَهُوَ لَاغٍ. ثُمَّ فِي الْعِتْقِ الْمَشْرُوطِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى،

كَالْمُلْتَزِمِ بِالنَّذْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقٌّ لِلْبَائِعِ، فَعَلَى هَذَا لِلْبَائِعِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَطْعًا. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلِلْبَائِعِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، فَالْوَلَاءُ لَهُ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَمْ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَهُ. فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْعِتْقِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى، أُجْبِرَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْبَائِعِ، لَمْ يُجْبَرْ، بَلْ يُخَيَّرُ الْبَائِعُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْإِجْبَارِ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَوْلَى إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الطَّلَاقِ، فَيُعْتِقُهُ الْقَاضِي عَلَى قَوْلٍ، وَيَحْبِسُهُ حَتَّى يُعْتِقَ عَلَى قَوْلٍ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ احْتِمَالَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: يَتَعَيَّنُ الْحَبْسُ. فَإِذَا قُلْنَا: الْعِتْقُ حَقٌّ لِلْبَائِعِ، فَأَسْقَطَهُ، سَقَطَ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا ثُمَّ عَفَا عَنْهُ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أَنَّ شَرْطَ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ لَا يُفْرَدُ بِالْإِسْقَاطِ، كَالْأَجَلِ، فَلَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِلْبَائِعِ، وَلَمْ يَأْذَنْ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ أَذِنَ، أَجْزَأَهُ عَنْهَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُ، وَالْوَطْءُ وَالْإِكْسَابُ لِلْمُشْتَرِي. وَلَوْ قُتِلَ، كَانَتِ الْقِيمَةُ لَهُ، وَلَا يُكَلِّفُهُ صَرْفَهَا إِلَى عَبْدٍ آخَرَ لِيُعْتِقَهُ. وَلَوْ بَاعَهُ لِغَيْرِهِ وَشَرَطَ عَلَيْهِ عِتْقَهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ أَوْلَدَ الْجَارِيَةَ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الْإِعْتَاقِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ عِتْقِهِ، فَأَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الثَّمَنُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ غَيْرَهُ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ قَدْرُ التَّفَاوُتِ بِمِثْلِ نِسْبَتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَالثَّالِثُ: لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَجَازَ الْعَقْدَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَرَدَّ مَا أَخَذَ مِنَ الثَّمَنِ وَرَجَعَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ. وَالرَّابِعُ: يَنْفَسِخُ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَوْجُهَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ لِلْبَائِعِ، أَمْ مُطَّرِدَةٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا: لَهُ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى؟ فِيهِ رَأْيَانِ لِلْإِمَامِ. أَظْهَرُهُمَا الثَّانِي. قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي، مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَإِطْلَاقِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ أَنْ يُدَبِّرَهُ، أَوْ يُكَاتِبَهُ، أَوْ يُعْتِقَهُ بَعْدَ شَهْرٍ

فصل

أَوْ سَنَةٍ، أَوْ دَارًا بِشَرْطِ أَنْ يَجْعَلَهَا وَقْفًا، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَشَرْطِ الْإِعْتَاقِ. وَجَمِيعُ مَا سَبَقَ فِي شَرْطِ الْإِعْتَاقِ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْوَلَاءِ. فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ مَعَ الْعِتْقِ كَوْنَ الْوَلَاءِ لِلْبَائِعِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا: أَنَّهُ يَصِحُّ الشَّرْطُ أَيْضًا، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْوَجْهُ عَنْ غَيْرِ الْإِمَامِ. وَلَوِ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْوَلَاءِ دُونَ شَرْطِ الْإِعْتَاقِ، بِأَنْ قَالَ: بِعْتُكَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِيَ الْوَلَاءُ إِنْ أَعْتَقْتَهُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ قَطْعًا، ذَكَرَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَلَوِ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ قَطْعًا، لِتَعَذُّرِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ، فَإِنَّهُ يُعْتِقُ عَلَيْهِ قَبْلَ إِعْتَاقِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. قُلْتُ: قَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ «كَفَّارَةِ الظِّهَارِ» عَنِ ابْنِ كَجٍّ: أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ أَنْ يُعَلِّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةٍ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا بِشَرْطِ الْعِتْقِ، فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَعْتَقَهَا، هَلْ يَتْبَعُهَا الْوَلَدُ؟ وَأَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْعِتْقِ، فَالْمَذْهَبُ: بُطْلَانُ الْبَيْعِ. وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ: أَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي ضَبْطِ صَحِيحِ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَفَاسِدِهَا قَالَ الْأَصْحَابُ: الشَّرْطُ ضَرْبَانِ: مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ الْعَقْدِ، وَمَا لَا يَقْتَضِيهِ. فَالْأَوَّلُ: كَالْإِقْبَاضِ وَالِانْتِفَاعِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَضُرُّ التَّعَرُّضُ لَهَا وَلَا يَنْفَعُ. وَالثَّانِي: قِسْمَانِ: مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ. فَالْأَوَّلُ: قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَنِ، كَشَرْطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمُثَمَّنِ، كَشَرْطِ أَنْ يَكُونَ

الْعَبْدُ خَيَّاطًا، أَوْ كَاتِبًا، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، كَشَرْطِ الْخِيَارِ. فَهَذِهِ الشُّرُوطُ لَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَتَصِحُّ فِي أَنْفُسِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: نَوْعَانِ. مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ يُورِثُ تَنَازُعًا، وَمَا يَتَعَلَّقُ. فَالْأَوَّلُ: كَشَرْطِ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا الْهَرِيسَةَ، وَلَا يَلْبَسَ إِلَّا الْخَزَّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، بَلْ يَلْغُو، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : لَوْ شَرَطَ الْتِزَامَ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، بِأَنْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يُصَلِّيَ النَّوَافِلَ، أَوْ يَصُومَ شَهْرًا غَيْرَ رَمَضَانَ، أَوْ يُصَلِّيَ الْفَرَائِضَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَمُقْتَضَى هَذَا فَسَادُ الْعَقْدِ فِي مَسْأَلَةِ الْهَرِيسَةِ. وَالثَّانِي: كَشَرْطِهِ أَنْ لَا يَقْبِضَ مَا اشْتَرَاهُ، أَوْ لَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالْوَطْءِ وَنَحْوِهِمَا، وَكَشَرْطِ بَيْعِ آخَرَ، أَوْ قَرْضٍ، وَكَشَرْطِ أَنْ لَا خَسَارَةَ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِهِ إِنْ بَاعَهُ فَنَقَصَ، فَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَأَشْبَاهُهَا فَاسِدَةٌ تُفْسِدُ الْبَيْعَ، إِلَّا الْإِعْتَاقَ عَلَى مَا سَبَقَ. فَرْعٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَمْلِ، لَا مِنْ مَالِكِ الْأُمِّ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. وَلَوْ بَاعَ حَامِلًا بَيْعًا مُطْلَقًا، دَخَلَ الْحَمْلُ فِي الْبَيْعِ. وَلَوْ بَاعَهَا وَاسْتَثْنَى حَمْلَهَا، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى الْإِمَامُ فِيهِ وَجْهَيْنِ. وَلَوْ كَانَتِ الْأُمُّ لِإِنْسَانٍ، وَالْحَمْلُ لِآخَرَ، فَبَاعَ الْأُمَّ لِمَالِكِ الْحَمْلِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ بَاعَ جَارِيَةً حَامِلًا بِحُرٍّ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَقِيلَ: يَصِحُّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ. وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً، أَوْ دَابَّةً بِشَرْطِ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَصِحُّ الْبَيْعُ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ. وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي الْجَارِيَةِ قَطْعًا، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ يُعْلَمُ، أَمْ لَا. إِنْ قُلْنَا: لَا، لَمْ يَصِحَّ، وَإِلَّا،

صَحَّ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَحَمْلَهَا، أَوْ هَذِهِ الشَّاةَ وَمَا فِي ضَرْعِهَا مِنَ اللَّبَنِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَجْهُولَ مَبِيعًا مَعَ الْمَعْلُومِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَإِنَّهُ وَصْفٌ تَابِعٌ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَلَا يَضُرُّ ذِكْرُهُ كَأَسَاسِ الدَّارِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ الْجُبَّةَ بِحَشْوِهَا، فَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْحَشْوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْجُبَّةِ، فَذِكْرُهُ تَأْكِيدٌ لِلَفْظِ الْجُبَّةِ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْبُطْلَانِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: فِي صُورَةِ الْجُبَّةِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي الظِّهَارَةِ وَالْبِطَانَةِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَفِي صُورَةِ الدَّابَّةِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْحَشْوَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قِيمَتِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا حَسَنٌ. وَلَوْ بَاعَ حَامِلًا وَشَرَطَ وَضْعَهَا لِرَأْسِ الشَّهْرِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ قَطْعًا، وَبَيْضُ الطَّيْرِ كَحَمْلِ الدَّابَّةِ وَالْجَارِيَةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَلَوْ بَاعَ شَاةً بِشَرْطِ أَنَّهَا لَبُونٌ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْحَمْلِ، لَكِنَّ الصِّحَّةَ هُنَا أَقْوَى. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: يَصِحُّ قَطْعًا؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ صِفَةٍ فِيهَا لَا يَقْتَضِي وُجُودَ اللَّبَنِ فِيهَا حَالَةَ الْعَقْدِ، فَهُوَ كَشَرْطِ الْكِتَابَةِ فِي الْعَبْدِ. فَلَوْ شَرَطَ كَوْنَ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، كَانَ كَشَرْطِ الْحَمْلِ قَطْعًا. وَلَوْ شَرَطَ كَوْنَهَا تُدِرُّ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا رِطْلًا مِنَ اللَّبَنِ، بَطَلَ الْبَيْعُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ، فَصَارَ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْعَبْدِ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ يَوْمٍ عَشْرَ وَرَقَاتٍ. وَلَوْ بَاعَ لَبُوْنًا، وَاسْتَثْنَى لَبَنَهَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَى الصَّحِيحِ، كَاسْتِثْنَاءِ حَمْلِ الْجَارِيَةِ، وَالْكُسْبِ فِي بَيْعِ السِّمْسِمِ، وَالْحَبِّ فِي بَيْعِ الْقُطْنِ. فَرْعٌ: وَمِنَ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ بِاتِّفَاقٍ، أَوْ عَلَى خِلَافٍ، مَسَائِلُ نُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا مُخْتَصَرَةً.

مِنْهَا الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ. وَمِنْهَا: بَيْعُ الثِّمَارِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَذْرُوعًا، بِشَرْطِ أَنْ يُكَالَ بِمِكْيَالٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ بِوَزْنٍ [مُعَيَّنٍ] ، أَوْ بِذَرْعٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ، فَفِيهِ خِلَافٌ نَشْرَحُهُ فِي بَابِ السَّلَمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي مَعْنَاهُ، تَعْيِينُ رَجُلٍ يَتَوَلَّى الْكَيْلَ أَوِ الْوَزْنَ. وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ دَارًا وَاسْتَثْنَى لِنَفْسِهِ سُكْنَاهَا، أَوْ دَابَّةً اسْتَثْنَى ظَهْرَهَا، إِنْ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُدَّةَ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ قَطْعًا، وَإِنْ بَيَّنَهَا، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا، بَطَلَ الْعَقْدُ. وَإِنْ كَانَ حَالًّا، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْبَدَاءَةَ بِالتَّسْلِيمِ بِمَنْ؟ فَإِنْ جَعْلَنَا ذَلِكَ [مِنْ] مُقْتَضَى الْعَقْدِ، لَمْ يَضُرَّ ذِكْرُهُ، وَإِلَّا، فَيُفْسِدُ الْعَقْدَ. وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ [هَذِهِ] الصُّبْرَةَ كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَزِيدَكَ صَاعًا، فَإِنْ أَرَادَ هِبَةَ صَاعٍ أَوْ بَيْعِهِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا إِنْ خَرَجَتْ عَشَرَةَ [آصُعٍ] أَخَذْتُ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ، فَإِنْ كَانَتِ الصِّيعَانُ مَجْهُولَةً، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حِصَّةَ كُلِّ صَاعٍ. وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً، صَحَّ. فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةً، فَقَدْ بَاعَ كُلَّ صَاعٍ وَتُسْعًا بِدِرْهَمٍ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ أَنْقُصَكَ صَاعًا، فَإِنْ أَرَادَ رَدَّ صَاعٍ إِلَيْهِ، فَهُوَ فَاسِدٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا إِنْ خَرَجَتْ تِسْعَةَ آصُعٍ، أَخَذْتُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَإِنْ كَانَتِ الصِّيعَانُ مَجْهُولَةً، لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً، صَحَّ. فَإِنْ كَانَتْ تِسْعَةَ آصُعٍ، فَقَدْ بَاعَ كُلَّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَتُسْعٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْعِلْمِ أَيْضًا؛ لِقُصُورِ الْعِبَارَةِ عَنِ الْمَحْمَلِ الْمَذْكُورِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ أَزِيدَكَ صَاعًا، أَوْ أَنْقُصَكَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ، فَهُوَ فَاسِدٌ.

وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ، فَخَرَجَتْ دُونَ الْمِائَةِ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: صِحَّةُ الْبَيْعِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ قَطْعًا لِلْإِشَارَةِ، وَصَارَ كَالْخُلْفِ فِي الصِّفَةِ فَعَلَى هَذَا، لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، وَلَا يَسْقُطُ بِحَطِّ الْبَائِعِ مِنَ الثَّمَنِ قَدْرَ النَّقْصِ. وَإِذَا أَجَازَ، يُجِيزُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِقِسْطِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَلَوْ خَرَجَتْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ الْقَوْلَانِ. فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ. فَإِنْ أَجَازَ، كَانَتْ كُلُّهَا لِلْمُشْتَرِي، وَلَا يُطَالِبُهُ لِلزِّيَادَةِ بِشَيْءٍ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، اخْتَارَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ، بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى، وَيُنَزَّلُ شَرْطُهُ مَنْزِلَةً مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْمَبِيعِ مَعِيبًا فَخَرَجَ سَلِيمًا، لَا خِيَارَ لَهُ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَا تَفْسَخْ، فَأَنَا أَقْنَعُ بِالْقَدْرِ الْمَشْرُوطِ شَائِعًا وَلَكَ الزِّيَادَةُ، لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الْبَائِعِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ قَالَ: لَا تَفْسَخْ لِأَزِيدَكَ فِي الثَّمَنِ لَمَا زَادَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ خِيَارُ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ. وَيُقَاسُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا إِذَا بَاعَ الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، أَوِ الْقَطِيعَ عَلَى أَنَّهُ عِشْرُونَ شَاةً، أَوِ الصُّبْرَةَ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُونَ صَاعًا، وَحَصَلَ نَقْصٌ أَوْ زِيَادَةٌ. وَفَرَّقَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» بَيْنَ الصُّبْرَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَالَ: إِنْ زَادَتِ الصُّبْرَةُ، رَدَّ الزِّيَادَةَ. وَإِنْ نَقَصَتْ وَأَجَازَ الْمُشْتَرِي، أَجَازَ بِالْحِصَّةِ، وَفِيمَا سِوَاهَا يُجِيزُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدَكَ مِنْ زَيْدٍ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ عَلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ، فَبَاعَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَيَجِبُ عَلَى زَيْدٍ أَلْفٌ، وَعَلَى الْآمِرِ خَمْسُمِائَةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ عَلَى أَنَّ عَلَيَّ كَذَا.

فصل

فَصْلٌ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ شَرْطٌ، فَذَلِكَ الشَّرْطُ ضَرْبَانِ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ. فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ. وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ، نَظَرَ: إِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ غَرَضٌ يُورِثُ تَنَازُعًا، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ كَمَا سَبَقَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، مَا إِذَا عُيِّنَ الشُّهُودُ لِتَوْثِيقِ الثَّمَنِ، وَقُلْنَا: لَا يَتَعَيَّنُونَ، فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضٌ، فَسَدَ الْبَيْعُ بِفَسَادِهِ، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَلَنَا قَوْلٌ رَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ: أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ بِحَالٍ؛ لِقِصَّةِ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ، كَالرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ، فَهَلْ يَفْسَدُ الْبَيْعُ لِفَسَادِهِمَا؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَفْسَدُ، كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. وَالثَّانِي: لَا، كَالصَّدَاقِ الْفَاسِدِ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ. وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، أَوْ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَفِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا شِرَاءً فَاسِدًا، إِمَّا لِشَرْطٍ فَاسِدٍ، وَإِمَّا لِسَبَبٍ آخَرَ، ثُمَّ قَبَضَهُ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْقَبْضِ، وَلَا يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَيَلْزَمْهُ رَدُّهُ، وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهِ كَالْمَغْصُوبِ. وَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُ، لِاسْتِرْدَادِ الثَّمَنِ. وَلَا يُقَدَّمُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ وَوَجْهٌ لِلْإِصْطَخْرِيِّ: أَنَّ لَهُ حَبْسَهُ وَيُقَدَّمُ بِهِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَتَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ فِي يَدِهِ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ، أَمْ

تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ. وَإِنْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ النَّقْصِ، وَإِنْ تَلِفَ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ، كَالْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ كُلَّ لَحْظَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِرَدِّهِ. وَفِي وَجْهٍ: تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ. وَفِي وَجْهٍ: يَوْمَ الْقَبْضِ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ بِالْأَقْوَالِ. وَكَيْفَ كَانَ، فَالْمَذْهَبُ: اعْتِبَارُ الْأَكْثَرِ. وَمَا حَدَثَ مِنَ الزَّوَائِدِ الْمُنْفَصِلَةِ، كَالْوَلَدِ، وَالثَّمَرَةِ، وَالْمُتَّصِلَةِ، كَالسِّمَنِ، وَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، مَضْمُونٌ عَلَيْهِ كَزَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ عِنْدَ التَّلَفِ. وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَى الْعَبْدِ مُدَّةً، لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِفَسَادِ الْبَيْعِ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا لَا يَرْجِعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً، فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ وَالْمَوْطُوءَةُ جَاهِلِينَ، فَلَا حَدَّ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ. وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ، وَجَبَ الْحَدُّ إِنِ اشْتَرَاهَا بِمَيْتَةٍ، أَوْ دَمٍ. وَإِنِ اشْتَرَاهَا بِخَمْرٍ، أَوْ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ، فَلَا حَدَّ، لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي حُصُولِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُمَلِّكُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَصَارَ كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَنَحْوِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ الْحَدُّ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُبِيحُ الْوَطْءَ، وَإِنْ كَانَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ. وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ، وَجَبَ الْمَهْرُ. فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَجَبَ مَعَ مَهْرِ الْبِكْرِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ. أَمَّا مَهْرُ الْبِكْرِ، فَلِلِاسْتِمْتَاعِ بِبِكْرٍ. وَأَمَّا الْأَرْشُ، فَلِإِتْلَافِ الْبَكَارَةِ. وَإِنِ اسْتَوْلَدَهَا، فَالْوَلَدُ حُرٌّ لِلشُّبْهَةِ. فَإِنْ خَرَجَ حَيًّا، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ، وَتَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ. بِخِلَافِ مَا لَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً وَاسْتَوْلَدَهَا فَخَرَجَتْ مُسْتَحِقَّةً، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ الْوَلَدِ، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ فِي الْحَالِ أُمَّ وَلَدٍ. فَإِنْ كَانَ مَلَكَهَا فِي وَقْتٍ، فَقَوْلَانِ. وَإِنْ نَقَصَتْ بِالْحَمْلِ أَوِ الْوَضْعِ، لَزِمَهُ الْأَرْشُ. وَإِنْ خَرَجَ الْوَلَدُ مَيِّتًا، فَلَا قِيمَةَ. لَكِنْ إِنْ سَقَطَ بِجِنَايَةٍ، وَجَبَتِ الْغُرَّةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي، وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ وَالْغُرَّةِ، وَيُطَالِبُ

فصل

بِهِ الْمَالِكُ مَنْ شَاءَ مِنَ الْجَانِي وَالْمُشْتَرِي. وَلَوْ مَاتَتْ فِي الطَّلْقِ، لَزِمَهُ قِيمَتُهَا، وَكَذَا لَوْ وَطِئَ أَمَةَ الْغَيْرِ بِشُبْهَةٍ فَأَحْبَلَهَا فَمَاتَتْ فِي الطَّلْقِ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَأَخَوَاتُهَا، مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ «الرَّهْنِ» وَاضِحَةٌ. فَرْعٌ: لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا شِرَاءً فَاسِدًا، فَبَاعَهُ لِآخَرَ، فَهُوَ كَالْغَاصِبِ يَبِيعُ الْمَغْصُوبَ. فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ الثَّانِي، لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَى الْمَالِكِ. فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، نَظَرَ، إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي يَدِهِمَا سَوَاءً، أَوْ كَانَتْ فِي يَدِ الثَّانِي أَكْثَرَ، رَجَعَ الْمَالِكُ بِالْجَمِيعِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَالْقَرَارُ عَلَى الثَّانِي؛ لِحُصُولِ التَّلَفِ فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ فِي يَدِ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ، فَضَمَانُ النَّقْصِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْبَاقِي يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَالْقَرَارُ عَلَى الثَّانِي. وَكُلُّ نَقْصٍ حَدَثَ فِي يَدِ الثَّانِي، يُطَالِبُ بِهِ الْأَوَّلَ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الثَّانِي، وَكَذَا حُكْمُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَصْلٌ إِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ حَذَفَا الشَّرْطَ، لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَذْفُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ. وَفِي وَجْهٍ: يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِنْ حُذِفَ فِي الْمَجْلِسِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَلَوْ زَادَ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، أَوْ زَادَ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ، أَوِ الْأَجَلِ، أَوْ قَدْرُهُمَا، نَظَرَ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ، لَمْ يَلْحَقْ بِالْعَقْدِ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْمُسَلَّمِ فِيهِ وَالصَّدَاقِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَا الْحَطُّ، لَا يُلْحَقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ، حَتَّى إِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ بِمَا سُمِّيَ فِي الْعَقْدِ، لَا بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ. وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْإِلْحَاقَاتُ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ، بِأَنْ كَانَتْ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي زَمَنِ خِيَارِ الشَّرْطِ، فَأَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: لَا يُلْحَقُ،

وَصَحَّحَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَالثَّانِي: يُلْحَقُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، دُونَ خِيَارِ الشَّرْطِ، قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَالْقَفَّالُ. وَالثَّالِثُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يُلْحَقُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ. فَعَلَى هَذَا فِي مَحَلِّ الْجَوَازِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِنَا: الْمِلْكُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، أَوْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ وَفُسِخَ الْعَقْدُ، فَأَمَّا إِنْ قُلْنَا لِلْمُشْتَرِي، أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ مَوْقُوفٌ وَأُمْضِيَ الْعَقْدُ، فَلَا يُلْحَقُ كَمَا بَعْدَ اللُّزُومِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَازَ مُطَّرِدٌ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ. فَإِذَا قُلْنَا: يُلْحَقُ، فَالزِّيَادَةُ تَلْزَمُ الشَّفِيعَ كَمَا تَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ. وَفِي الْحَطِّ قَبْلَ اللُّزُومِ، مِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ. فَإِنْ أَلْحَقْنَاهُ بِالْعَقْدِ، انْحَطَّ عَنِ الشَّفِيعِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ: مَا يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، لَهُ حُكْمُ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ فِي إِفْسَادِهِ، وَيَنْحَطُّ جَمِيعُ الثَّمَنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِلَا ثَمَنٍ. الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْمَنَاهِي: مَا لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ. فَمِنْهُ الِاحْتِكَارُ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ، وَلَا يَدَعَهُ لِلضُّعَفَاءِ، وَيَحْبِسَهُ لِيَبِيعَهُ بِأَكْثَرَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَاجَةِ. وَلَا بَأْسَ بِالشِّرَاءِ فِي وَقْتِ الرُّخْصِ لِيَبِيعَ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ. وَلَا بَأْسَ بِإِمْسَاكِ غَلَّةِ ضَيْعَتِهِ لِيَبِيعَ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَبِيعَ مَا فَضَلَ عَنْ كِفَايَتِهِ. وَفِي كَرَاهَةِ إِمْسَاكِهِ وَجْهَانِ. ثُمَّ تَحْرِيمُ الِاحْتِكَارِ يَخْتَصُّ بِالْأَقْوَاتِ. وَمِنْهَا: التَّمْرُ، وَالزَّبِيبُ، وَلَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَطْعِمَةِ. وَمِنْهَا: التَّسْعِيرُ، وَهُوَ حَرَامٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ دُونَ الرُّخْصِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَجْلُوبًا، حَرُمَ التَّسْعِيرُ. وَإِنْ كَانَ يُزْرَعُ فِي الْبَلَدِ وَيَكُونُ عِنْدَ الْقُنَاةِ، جَازَ. وَحَيْثُ جَوَّزْنَا التَّسْعِيرَ، فَذَلِكَ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَيَلْحَقُ بِهَا عَلَفُ الدَّوَابِّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا سَعَّرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، فَخَالَفَ، اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ. وَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي «التَّتِمَّةِ» .

فصل

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: صِحَّةُ الْبَيْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ يَحْرُمُ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ، وَهُوَ أَنْ يَقْدُمَ إِلَى الْبَلَدِ بَدَوِيٌّ أَوْ قَرَوِيٌّ بِسِلْعَةٍ يُرِيدُ بَيْعَهَا بِسِعْرِ الْوَقْتِ، لِيَرْجِعَ إِلَى وَطَنِهِ، فَيَأْتِيهِ بَلَدِيٌّ فَيَقُولُ: ضَعْ مَتَاعَكَ عِنْدِي لِأَبِيعَهُ لَكَ عَلَى التَّدْرِيجِ بِأَغْلَى مِنْ هَذَا السِّعْرِ. وَلِتَحْرِيمِهِ، شُرُوطٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ فِيهِ. وَهَذَا شَرْطٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَنَاهِي. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ الْمَجْلُوبُ مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، كَالْأَطْعِمَةِ وَنَحْوِهَا. فَأَمَّا مَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلَّا نَادِرًا، فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ بِبَيْعِ ذَلِكَ الْمَتَاعِ سَعَةٌ فِي الْبَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِكِبَرِ الْبَلَدِ، أَوْ قِلَّةِ مَا مَعَهُ، أَوْ لِعُمُومِ وَجُودِهِ وَرُخْصِ السِّعْرِ، فَوَجْهَانِ أَوْفَقُهُمَا لِلْحَدِيثِ التَّحْرِيمُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَعْرِضَ الْحَضَرِيُّ، ذَلِكَ عَلَى الْبَدَوِيِّ وَيَدْعُوَهُ إِلَيْهِ. أَمَّا إِذَا الْتَمَسَ الْبَدَوِيُّ مِنْهُ بِيعَهُ تَدْرِيجًا، أَوْ قَصَدَ الْإِقَامَةَ فِي الْبَلَدِ لِيَبِيعَهُ كَذَلِكَ، فَسَأَلَ الْبَلَدِيَّ تَفْوِيضَهُ إِلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَنْعِ الْمَالِكِ مِنْهُ، وَلَوْ أَنَّ الْبَلَدِيَّ اسْتَشَارَ الْبَلَدِيَّ فِيمَا فِيهِ حَظُّهُ، فَهَلْ يُرْشِدُهُ إِلَى الِادِّخَارِ وَالْبَيْعِ عَلَى التَّدْرِيجِ؟ وَجْهَانِ. حَكَى الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِرْشَادُهُ إِلَيْهِ، أَدَاءً لِلنَّصِيحَةِ. وَعَنْ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ: أَنَّهُ لَا يُرْشِدُهُ إِلَيْهِ تَوْسِيعًا عَلَى النَّاسِ. ثُمَّ لَوْ بَاعَ الْبَلَدِيُّ لِلْبَدَوِيِّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ شُرُوطِ التَّحْرِيمِ، أَثِمَ وَصَحَّ الْبَيْعُ. قُلْتُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْإِثْمُ عَلَى الْبَلَدِيِّ دُونَ الْبَدَوِيِّ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ يَحْرُمُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَهُوَ أَنْ يَتَلَقَّى طَائِفَةً يَحْمِلُونَ طَعَامًا إِلَى الْبَلَدِ، فَيَشْتَرِيَهِ مِنْهُمْ قَبْلَ قُدُومِهِمُ الْبَلَدَ وَمَعْرِفَةِ سِعْرِهِ. وَشَرْطُ تَحْرِيمِهِ، أَنْ يَعْلَمَ النَّهْيَ وَيَقْصِدَ التَّلَقِّي. فَلَوْ خَالَفَ فَتَلَقَّى وَاشْتَرَى، أَثِمَ، وَصَحَّ الْبَيْعُ، وَلَا خِيَارَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدُمُوا وَيَعْلَمُوا السِّعْرَ، وَبَعْدَهُ يَثْبُتُ لَهُمُ الْخِيَارُ إِنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِأَرْخَصَ مِنْ سِعْرِ الْبَلَدِ، سَوَاءٌ أَخَبْرَ كَاذِبًا أَوْ لَمْ يُخْبِرْ. وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِسِعْرِ الْبَلَدِ أَوْ أَكْثَرَ، فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا خِيَارَ لَهُمْ. وَلَوِ ابْتَدَأَ الْقَادِمُونَ فَالْتَمَسُوا مِنْهُ الشِّرَاءَ وَهُمْ عَالِمُونَ بِسِعْرِ الْبَلَدِ أَوْ غَيْرُ عَالِمِينَ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ التَّلَقِّي، بَلْ خَرَجَ لِشُغُلٍ مِنِ اصْطِيَادٍ وَغَيْرِهِ، فَرَآهُمْ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَعْصِي؛ لِعَدَمِ التَّلَقِّي، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يَعْصِي؛ لِشُمُولِ الْمَعْنَى. فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا خِيَارَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَغْبُونِينَ. وَقِيلَ: إِنْ أَخْبَرَ بِالسِّعْرِ كَاذِبًا، فَلَهُمُ الْخِيَارُ. وَحَيْثُ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: يَمْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَلَوْ تَلَقَّى الرُّكْبَانَ وَبَاعَهُمْ مَا يَقْصِدُونَ شِرَاءَهُ مِنَ الْبَلَدِ، فَهَلْ هُوَ كَالْمُتَلَقِّي لِلشِّرَاءِ؟ وَجْهَانِ. فَصْلٌ يَحْرُمُ السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ. وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا لِيَشْتَرِيَهُ، فَيَجِيءَ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَقُولَ: رُدَّهُ حَتَّى أَبِيعَكَ خَيْرًا مِنْهُ بِهَذَا الثَّمَنِ، أَوْ يَقُولَ لِمَالِكِهِ: اسْتَرِدَّهُ لِأَشْتَرِيَهُ مِنْكَ بِأَكْثَرَ. وَإِنَّمَا يَحْرُمُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ. فَأَمَّا مَا يُطَافُ بِهِ فِيمَنْ يَزِيدُ وَطَلَبَهُ طَالِبٌ، فَلِغَيْرِهِ الدُّخُولُ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ. وَإِنَّمَا يَحْرُمُ، إِذَا حَصَلَ

فصل

التَّرَاضِي صَرِيحًا. فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ، وَلَكِنْ جَرَى مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، فَفِي التَّحْرِيمِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَحْرُمُ. فَإِنْ لَمْ يَجْرِ شَيْءٌ، بَلْ سَكَتَ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالرَّدِّ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَيَحَرُمُ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ. فَالْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، أَنْ يَقُولَ لِمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً فِي زَمَنِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوِ الشَّرْطِ: افْسَخْ لِأَبِيعَكَ خَيْرًا مِنْهُ، أَوْ أَرْخَصَ. وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَائِهِ أَنْ يَقُولَ لِلْبَائِعِ: افْسَخْ لِأَشْتَرِيَهُ مِنْكَ بِأَكْثَرَ. وَشَرَطَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ فِي الْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ، أَنْ لَا يَكُونَ الْمُشْتَرِي مَغْبُونًا غَبْنَا مُفْرِطًا. فَإِنْ كَانَ، فَلَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ وَيَبِيعَ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ النَّصِيحَةِ. قُلْتُ: هَذَا الشَّرْطُ انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ كَجٍّ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَذِنَ الْبَائِعُ فِي بَيْعِهِ، ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ عَلَى الصَّحِيحِ. فَصْلٌ يَحْرُمُ النَّجْشُ، وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ الْمَعْرُوضَةِ لِلْبَيْعِ وَهُوَ غَيْرُ رَاغِبٍ فِيهَا لِيَغُرَّ غَيْرَهَ. فَإِنِ اغْتَرَّ بِهِ إِنْسَانٌ فَاشْتَرَاهَا، صَحَّ الْبَيْعُ، ثُمَّ لَا خِيَارَ لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الَّذِي فَعَلَهُ النَّاجِشُ بِمُوَاطَأَةٍ مِنَ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ، فَلَا خِيَارَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَعْطَيْتُ بِهَذِهِ السِّلْعَةِ كَذَا، فَصَدَّقَهُ وَاشْتَرَاهُ، فَبَانَ خِلَافُهُ، قَالَ ابْنَ الصَّبَّاغِ: فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ، الْوَجْهَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِتَعْصِيَةِ النَّاجِشِ، وَشَرَطَ فِي تَعْصِيَةِ الْبَائِعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ النَّجْشَ خَدِيعَةٌ، وَتَحْرِيمُ الْخَدِيعَةِ وَاضِحٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، مَعْلُومٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا

فصل

الْحَدِيثَ، وَالْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، إِنَّمَا عُرِفَ تَحْرِيمُهُ مِنَ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ فَلَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْخَبَرَ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، إِضْرَارٌ أَيْضًا، وَتَحْرِيمُ الْإِضْرَارِ مَعْلُومٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ، وَالْوَجْهُ تَخْصِيصُ التَّعْصِيَةِ بِمَنْ عَرَفَ التَّحْرِيمَ بِعُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ. فَصْلٌ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا الصَّغِيرِ بِالْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ فِي الْعِتْقِ، وَلَا فِي الْوَصِيَّةِ. وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَجْهَانِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً وَوَلَدَهَا الصَّغِيرَ، ثُمَّ تَفَاسَخَا الْبَيْعَ فِي أَحَدِهِمَا، جَازَ، وَحُكْمُ التَّفْرِيقِ فِي الرَّهْنِ مَذْكُورٌ فِي بَابِهِ. وَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَسْلِيمِهِ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْبَزَّازُ: الْقَوْلَانِ فِي التَّفْرِيقِ بَعْدَ أَنْ تَسْقِيَهُ اللِّبَأَ، أَمَّا قَبْلَهُ، فَلَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَإِلَى مَتَى يَمْتَدُّ تَحْرِيمُ التَّفْرِيقِ؟ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: إِلَى الْبُلُوغِ. وَأَظْهَرُهُمَا: إِلَى بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ سَبْعَ سِنِينَ، أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ تَقْرِيبًا. وَيُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. فَلَوْ فَرَّقَ بَعْدَهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، يَصِحُّ قَطْعًا. وَلَوْ كَانَتِ الْأُمُّ رَقِيقَةً وَالْوَلَدُ حُرًّا، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَلَا مَنْعَ مِنْ بَيْعِ الرَّقِيقِ مِنْهُمَا. وَهَلِ الْجَدَّةُ وَالْأَبُ وَسَائِرُ الْمَحَارِمِ كَالْأُمِّ؟ فِيهِ كَلَامٌ يَأْتِي فِي كِتَابِ «السِّيَرِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَوَلَدِهَا بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنِ اللَّبَنِ، جَائِزٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ الشَّاذُّ فِي مَنْعِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَوَلَدِهَا، هُوَ فِي التَّفْرِيقِ بِغَيْرِ الذَّبْحِ. وَأَمَّا ذَبْحُ أَحَدِهِمَا، فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ بَيْعُ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ مِمَّنْ يُتَوَهَّمُ اتِّخَاذُهُ إِيَّاهُ نَبِيذًا، أَوْ خَمْرًا، مَكْرُوهٌ. وَإِنْ تَحَقَّقَ اتِّخَاذُهُ ذَلِكَ، فَهَلْ يَحْرُمُ، أَوْ يُكْرَهُ؟ وَجْهَانِ. فَلَوْ بَاعَ، صَحَّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: التَّحْرِيمُ. ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : بَيْعُ الْغِلْمَانِ الْمُرْدِ، إِنْ عُرِفَ بِالْفُجُورِ بِالْغِلْمَانِ، لَهُ حُكْمُ بَيْعِ الْعِنَبِ مِنَ الْخِمَارِ. وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ يُفْضِي إِلَى مَعْصِيَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَيْعُ السِّلَاحِ لِلْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، مَكْرُوهٌ، وَلَكِنَّهُ يَصِحُّ. وَتُكْرَهُ مُبَايَعَةُ مَنِ اشْتَمَلَتْ يَدُهُ عَلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَلَالُ أَكَثُرَ، أَوْ بِالْعَكْسِ. فَلَوْ بَاعَهُ، صَحَّ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ دَخَلَ قَرْيَةً يَسْكُنُهَا مَجُوسٌ، لَمْ يَصِحَّ شِرَاءُ اللَّحْمِ مِنْهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَهْلِيَّةَ الذَّابِحِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ، فَلَا يَزَالُ إِلَّا يَقِينٌ أَوْ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَيْسَ مِنَ الْمَنَاهِي بَيْعُ الْعِينَةِ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ الْيَاءِ نُونٌ - وَهُوَ أَنْ

يَبِيعَ غَيْرَهُ شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ نَقْدًا. وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنٍ نَقْدًا وَيَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ إِلَى أَجَلٍ، سَوَاءٌ قَبَضَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ، أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ صَارَتِ الْعِينَةُ عَادَةً لَهُ غَالِبَةً فِي الْبَلَدِ، أَمْ لَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَأَفْتَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الِاسْفَرَايِينِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: بِأَنَّهُ إِذَا صَارَ عَادَةً لَهُ، صَارَ الْبَيْعُ الثَّانِي كَالْمَشْرُوطِ فِي الْأَوَّلِ، فَيَبْطُلَانِ جَمِيعًا.

فصل

فَصْلٌ يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ، وَبَيْعُ الْمُصْحَفِ، وَكُتُبِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الصَّيْمَرِيُّ: يُكْرَهُ بَيْعُ الْمُصْحَفِ. قُلْتُ: وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى كَرَاهَةِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يُكْرَهُ، وَسَائِرُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، يَجُوزُ بَيْعُهَا بِلَا كَرَاهَةٍ. وَمِنَ الْمَنَاهِي: الْبَيْعُ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِهَا. وَمِنْهَا فِي الْحَدِيثِ: نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ تَأْوِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِهِ: الْمُكْرَهُ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ إِنْ أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ صَحَّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دُيُونٌ مُسْتَغْرِقَةٌ، فَتَحْتَاجُ إِلَى بَيْعِ مَا مَعَهُ بِالْوَكْسِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُبْتَاعَ مِنْهُ، بَلْ يُعَانَ، إِمَّا بِهِبَةٍ، وَإِمَّا بِقَرْضٍ، وَإِمَّا بِاسْتِمْهَالِ صَاحِبِ الدَّيْنِ. فَإِنِ اشْتَرَى مِنْهُ صَحَّ.

وَمِنْهَا: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا فِيهِ عَيْبٌ، إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَهُ، وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْعَقِدُ. وَمِنْهَا: النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ، وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي الِاعْتِكَافِ. وَمِنْهَا: يُكْرَهُ غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ الْعِينَةِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ. وَمِنْهَا: مَا قَالَهُ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» . قَالَ: نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ

باب تفريق الصفقة

عَلَى مَا إِذَا أَفْرَدَ مَاءَ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ بِالْبَيْعِ، فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ الْأَرْضِ، بِأَنْ بَاعَ أَرْضًا مَعَ شُرْبِهَا مِنَ الْمَاءِ فِي نَهْرٍ أَوْ وَادٍ، صَحَّ، وَدَخَلَ الْمَاءُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا. وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ فِي إِنَاءٍ أَوْ حَوْضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مُجْتَمِعًا، فَبَيْعُهُ صَحِيحٌ مُفْرَدًا وَتَابِعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ فِي صَفْقَةٍ، فَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: فِي عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ التَّفْرِيقُ فِي الِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ فِي الِانْتِهَاءِ. فَالْحَالُ الْأَوَّلُ: يُنْظَرُ، إِنْ جَمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ جَمْعٌ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، أَوْ خَمْسِ نِسْوَةٍ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِلٌ لِمَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ عَيْنَيْنِ فِي الْبَيْعِ، صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا. ثُمَّ إِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَعَبْدٍ وَثَوْبٍ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ، لَكِنَّهُمَا مُخْتَلِفَا الْقِيمَةِ كَعَبْدَيْنِ، وُزِّعَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَمُتَّفِقِي الْقِيمَةِ كَقَفِيزَيْ حِنْطَةٍ وَاحِدَةٍ، وُزِّعَ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قَابِلًا لِذَلِكَ الْعَقْدِ، كَمَنْ بَاعَ خَمْرًا وَمَيْتَةً، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَابِلًا فَالَّذِي هُوَ غَيْرُ قَابِلٍ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَقَوَّمًا، كَمَنْ بَاعَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَفِي

صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي عَبْدِهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَصِحُّ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ. وَفِي عِلَّتِهِ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْجَمْعُ بَيْنَ حَلَالٍ وَحَرَامٍ. وَالثَّانِي: جَهَالَةُ الْعِوَضِ الَّذِي يُقَابِلُ الْحَلَالَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُتَقَوَّمًا، وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَأَتَّى تَقْدِيرُ التَّقْوِيمِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ تَغَيُّرِ الْخِلْقَةِ، كَمَنْ بَاعَ حُرًّا وَعَبْدًا، فَالْحُرُّ غَيْرُ مُتَقَوَّمٍ، لَكِنْ يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ رَقِيقًا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْفَسَادِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْقَوْلَانِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا بِالْحَالِ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَالْوَجْهُ: الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ. وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ وَمُكَاتَبَهُ، أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَقَوَّمَانِ بِدَلِيلِ الْإِتْلَافِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَأَتَّى تَقْدِيرُ تَقْوِيمِهِ مِنْ غَيْرِ فَرْضِ تَغَيُّرِ الْخِلْقَةِ، كَمَنْ بَاعَ خَلًّا وَخَمْرًا، أَوْ مُذَكَّاةً وَمَيْتَةً، أَوْ شَاةً وَخِنْزِيرًا، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي الْخَلِّ وَالْمُذَكَّاةِ وَالشَّاةِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَبْدِ مَعَ الْحُرِّ، وَأَوْلَى بِالْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّقْوِيمِ مِنَ التَّقْدِيرِ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ الْمُقَوَّمُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ. وَلَوْ رَهَنَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ، أَوْ حُرًّا وَعَبْدًا، أَوْ وَهَبَهُمَا، فَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْعِلَّتَيْنِ. وَلَوْ زَوَّجَ أُخْتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً، أَوْ مُسْلِمَةً وَمَجُوسِيَّةً، فَكَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ التَّفْرِيقُ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا، كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِهِمَا، انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِي التَّالِفِ، وَفِي الْبَاقِي طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي جَمْعِ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ؛ لِعَدَمِ الْعِلَّتَيْنِ. وَلَوْ تَفَرَّقَا فِي السَّلَمِ وَبَعْضُ رَأْسِ الْمَالِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، أَوْ فِي

الصَّرْفِ وَبَعْضُ الْعِوَضِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ. وَفِي الْبَاقِي الطَّرِيقَانِ. فَلَوْ قَبَضَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَتَلِفَ الْآخَرُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، تَرَتَّبَ الِانْفِسَاخُ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى الصُّوَرِ السَّابِقَةِ، وَهَذِهِ أَوْلَى بِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ؛ لِتَأَكُّدِ الْعَقْدِ فِيهِ بِانْتِقَالِ الضَّمَانِ إِلَى الْمُشْتَرِي. هَذَا إِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ تَلِفَ الْآخَرُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَالْقَوْلُ بِالِانْفِسَاخِ أَضْعَفُ؛ لِتَلَفِهِ عَلَى ضَمَانِهِ. وَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ، فَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَيَرُدُّ قِيمَتَهُ. وَالثَّانِي: لَا، وَعَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ. وَلَوِ اكْتَرَى دَارًا وَسَكَنَهَا بَعْضَ الْمُدَّةِ، ثُمَّ انْهَدَمَتْ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُخَرَّجُ فِي الْمَاضِي عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَقْبُوضِ التَّالِفِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، فَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا فَسْخَ، فَعَلَيْهِ مِنَ الْمُسَمَّى مَا يُقَابِلُ الْمَاضِيَ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْفَسْخِ، وَفُسِخَ، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْمَاضِي. وَلَوِ انْقَطَعَ بَعْضُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحَلِّ وَالْبَاقِي مَقْبُوضٌ، أَوْ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، وَقُلْنَا: لَوِ انْقَطَعَ الْكُلُّ، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، انْفَسَخَ فِي الْمُنْقَطِعِ. وَفِي الْبَاقِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا تَلِفَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِمَا. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، فَلَهُ الْفَسْخُ. فَإِنْ أَجَازَ، فَعَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَقَطْ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ الْكُلُّ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ، فَالْمُسَلِّمُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ فِي الْكُلِّ. وَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ فِي الْقَدْرِ الْمُنْقَطِعِ وَالْإِجَازَةُ فِي الْبَاقِي؟ قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْقِسْمِ الَّذِي يَلِيهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا، كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا، فَهَلْ لَهُ إِفْرَادُهُ بِالرَّدِّ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَيْسَ لَهُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَالْقَوْلَانِ فِي الْعَبْدَيْنِ وَكُلِّ شَيْئَيْنِ لَا تَتَّصِلُ مَنْفَعَةُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. فَأَمَّا فِي زَوْجَيْ خُفٍّ وَمِصْرَاعَيْ بَابٍ وَنَحْوِهِمَا، فَلَا يَجُوزُ الْإِفْرَادُ قَطْعًا. وَشَذَّ بَعْضُهُمْ، فَطَرَدَ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا فَرْقَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَتَّفِقَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ

أَوْ قَبْلَهُ. فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزِ الْإِفْرَادَ، فَقَالَ: رَدَدْتُ الْمَعِيبَ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ رَدًّا لَهُمَا؟ أَصَحُّهُمَا: لَا، بَلْ هُوَ لَغْوٌ. وَلَوْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِإِفْرَادِهِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا جَوَّزْنَا الْإِفْرَادَ فَرَدَّهُ، اسْتَرَدَّ قِسْطَهُ مِنَ الثَّمَنِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَوْ أَرَادَ رَدَّ السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ جَمِيعًا فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ وَجَدَ الْعَيْبَ بِالْعَبْدَيْنِ مَعًا، وَأَرَادَ إِفْرَادَ أَحَدِهِمَا بِالرَّدِّ، جَرَى الْقَوْلَانِ. وَلَوْ تَلِفَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ أَوْ بَاعَهُ، وَوَجَدَ بِالْبَاقِي عَيْبًا، فَفِي إِفْرَادِهِ بِالرَّدِّ قَوْلَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ؛ لِتَعَذُّرِ رَدِّهِمَا. فَإِنْ جَوَّزْنَا الْإِفْرَادَ، رَدَّ الْبَاقِيَ وَاسْتَرَدَّ مِنَ الثَّمَنِ حِصَّتَهُ. وَطَرِيقُ التَّوْزِيعِ: تَقْدِيرُ الْعَبْدَيْنِ سَلِيمَيْنِ، وَتَقْوِيمُهُمَا، وَتَقْسِيطُ الْمُسَمَّى عَلَى الْقِيمَتَيْنِ. فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ التَّالِفِ، فَادَّعَى الْمُشْتَرِي مَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْمَرْجُوعِ بِهِ عَلَى مَا اعْتَرَفَ بِهِ الْبَائِعُ، فَالْأَظْهَرُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مِلْكُهُ، فَلَا يَسْتَرِدُّ مِنْهُ إِلَّا مَا اعْتَرَفَ بِهِ. وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزِ الْإِفْرَادَ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا فَسْخَ لَهُ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ أَعْظَمُ مِنَ الْعَيْبِ. وَلَوْ حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الرَّدِّ. فَعَلَى هَذَا، إِنِ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ التَّالِفِ عَادَ الْقَوْلَانِ. وَهَلِ النَّظَرُ فِي قِيمَةِ التَّالِفِ إِلَى يَوْمِ الْعَقْدِ، أَوْ يَوْمِ الْقَبْضِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي سَيَأْتِي فِي مَعْرِفَةِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضُمُّ قِيمَةَ التَّالِفِ إِلَى الْبَاقِي، وَيَرُدُّهُمَا وَيَفْسَخُ الْعَقْدَ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ التَّالِفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِئَلَّا تُزَالَ يَدُهُ عَمَّا لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ. فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ شَيْئًا يَتَوَزَّعُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ، بَعْضُهُ لَهُ كَعَبْدٍ، أَوْ صَاعِ حِنْطَةٍ لَهُ نِصْفُهَا، أَوْ صَاعَيْ حِنْطَةٍ لَهُ أَحَدُهُمَا، صَفْقَةً وَاحِدَةً، تَرَتَّبَ عَلَى مَا إِذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ

أَحَدُهُمَا لَهُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ هُنَاكَ فِي مِلْكِهِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. إِنْ عَلَّلْنَا بِالْجَمْعِ بَيْنَ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ عَلَّلْنَا بِالْجَهَالَةِ صَحَّ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْمَمْلُوكِ مَعْلُومَةٌ. وَلَوْ بَاعَ جَمِيعَ الثِّمَارِ وَفِيهَا الزَّكَاةُ، فَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ؟ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ «الزَّكَاةِ» . فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ فَالتَّرْتِيبُ فِي الْبَاقِي كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَنْ بَاعَ عَبْدًا لَهُ نِصْفُهُ. وَلَوْ بَاعَ أَرْبَعِينَ شَاةً فِيهَا وَاجِبُ الزَّكَاةِ، وَقُلْنَا: لَا يَصِحُّ بَيْعُ قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَالتَّرْتِيبُ فِي الْبَاقِي كَمَا سَبَقَ فِيمَنْ بَاعَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ. فَرْعٌ: وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ لَوْ مَلَكَ زَيْدٌ عَبْدًا، وَعَمْرٌو آخَرَ، فَبَاعَاهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ قَوْلَانِ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ عَبْدَيْنِ لَهُ لِرَجُلَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، إِنْ عَلَّلْنَا بِالْجَمْعِ بَيْنَ حَلَالٍ وَحَرَامٍ صَحَّ، وَإِنْ عَلَّلْنَا بِالْجَهَالَةِ فَلَا؛ لِأَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مَجْهُولَةٌ. وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَنًا، فَقَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِمِائَةٍ، وَهَذَا بِخَمْسِينَ، فَإِنْ عَلَّلْنَا بِالْجَمْعِ فَسَدَ، وَإِنْ عَلَّلْنَا بِالْجَهَالَةِ صَحَّ فِي عَبْدِهِ، كَذَا قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: سَنَذْكُرُ أَنَّ تَفْصِيلَ الثَّمَنِ مِنْ أَسْبَابِ تَعَدُّدِ الْعَقْدِ، وَإِنْ تَعَدَّدَ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالصِّحَّةِ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ. فَرْعٌ: اعْلَمْ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْأَصْحَابِ تَوَسَّطُوا بَيْنَ قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَقَالُوا: الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ فِي الْمَمْلُوكِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَتَوَزَّعُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ. وَالْأَصَحُّ الْفَسَادُ إِنْ كَانَ مِمَّا يَتَوَزَّعُ عَلَى قِيمَتِهِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ فِي الْقِسْمَيْنِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا بَاعَ مَالَهُ وَمَالَ غَيْرِهِ، وَصَحَّحْنَاهُ فِي مَالِهِ نُظِرَ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا بِالْحَالِ، فَلَهُ الْخِيَارُ. فَإِنْ أَجَازَ فَكَمْ يَلْزَمُهُ مِنَ الثَّمَنِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: حِصَّةُ الْمَمْلُوكِ فَقَطْ إِذَا وُزِّعَ عَلَى الْقِيمَتَيْنِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ، ثُمَّ قِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَقَسَّطُ عَلَى أَجْزَائِهِ، فَالْوَاجِبُ الْقِسْطُ قَطْعًا. وَالْأَصَحُّ: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ جَمِيعُ الثَّمَنِ، فَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْطُ، فَلَا خِيَارَ لَهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحَالِ فَلَا خِيَارَ لَهُ كَمَا لَوِ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ. وَكَمْ يَلْزَمُهُ مِنَ الثَّمَنِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْجَمِيعُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ عَالِمًا. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا وَحُرًّا، أَوْ خَلًّا وَخَمْرًا، أَوْ مُذَكَّاةً وَمَيْتَةً، أَوْ شَاةً وَخِنْزِيرًا، وَصَحَّحْنَا الْعَقْدَ فِيمَا يَقْبَلُهُ، وَكَانَ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا بِالْحَالِ فَأَجَازَ، أَوْ كَانَ عَالِمًا، فَفِيمَا يَلْزَمُهُ؟ الطَّرِيقَانِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقِسْطَ، فَفِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ الثَّمَنِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: يُنْظَرُ إِلَى قِيمَتِهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى لَهَا قِيمَةً. وَالثَّانِي: يُقَدَّرُ الْخَمْرُ خَلًّا، وَيُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ، وَتُقَدَّرُ الْمَيْتَةُ مُذَكَّاةً، وَالْخِنْزِيرُ شَاةً، وَيُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَقِيلَ: يُقَدَّرُ الْخَمْرُ عَصِيرًا، وَالْخِنْزِيرُ بَقَرَةً. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ، احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. وَالصَّحِيحُ: هُوَ الثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ، وَحَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَفَّالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ نَكَحَ مُسْلِمَةً وَمَجُوسِيَّةً فِي عَقْدٍ، وَصَحَّحْنَا نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ، فَالَّذِي قَطَعَ

بِهِ الْجَمَاهِيرُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى قَوْلٍ. وَقِيلَ: فِي قَوْلٍ: يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي رَدِّ الْمُسَمَّى وَالرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَفِيمَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: قِسْطُهَا مِنَ الْمُسَمَّى إِذَا وُزِّعَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَمَهْرِ مِثْلِ الْمَجُوسِيَّةِ. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ، وَقُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ فِي الْبَاقِي، فَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِ. فَإِنْ أَجَازَ، فَالْوَاجِبُ قِسْطُهُ مِنَ الثَّمَنِ قَطْعًا. كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ. وَطَرَدَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِيهِ الْقَوْلَيْنِ. فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ، فَخَرَجَ بَعْضُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُسْتَحَقًّا، وَصَحَّحْنَا الْعَقْدَ فِي الْبَاقِي فَأَجَازَ، فَالْوَاجِبُ الْقِسْطُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا حَرَامٌ. فَرْعٌ: لَوْ بَاعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا، لَمْ يَصِحَّ فِي الْمَجْهُولِ، وَيَنْبَنِي فِي الْمَعْلُومِ عَلَى مَا لَوْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ وَأَحَدُهُمَا لِغَيْرِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ فِيمَا لَهُ، لَمْ يَصِحَّ هُنَا فِي الْمَعْلُومِ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَمْ يَلْزَمُهُ مِنَ الثَّمَنِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: الْجَمِيعُ صَحَّ، وَلَزِمَهُ هُنَا أَيْضًا جَمِيعُ الثَّمَنِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْطُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِتَعَذُّرِ التَّقْسِيطِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَلَهُ الْخِيَارُ. فَإِنْ أَجَازَ لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ.

فَرْعٌ: فِي الْإِشَارَةِ إِلَى طَرَفٍ مِنْ مَسَائِلِ الدَّوْرِ يَتَعَلَّقُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَابَاةَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، حُكْمُهَا حُكْمُ هِبَتِهِ وَسَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ، تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ عَبْدًا يُسَاوِي ثَلَاثِينَ بِعَشَرَةٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ، وَفِي الْبَاقِي طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ هُنَا وَصِيَّةٌ، وَهِيَ تَقْبَلُ مِنَ الْغَرَرِ مَا لَا يَقْبَلُ غَيْرُهَا. فَإِنْ صَحَّحْنَا بَيْعَ الْبَاقِي، فَفِي كَيْفِيَّتِهِ قَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ، وَالْقَدْرِ الَّذِي يُوَازِي الثَّمَنَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَيَبْطُلُ فِي الْبَاقِي، فَيَصِحُّ فِي ثُلُثَيِ الْعَبْدِ بِالْعَشَرَةِ، وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ ثُلُثُ الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، وَالثَّمَنُ وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْمُحَابَاةِ وَهِيَ عَشَرَةٌ. وَلَا تَدُورُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ الْبَيْعُ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ، وَجَبَ أَنْ يَرْتَدَّ [إِلَى] الْمُشْتَرِي مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ، فَتَدُورُ الْمَسْأَلَةُ؛ لِأَنَّ مَا يَنْفُذُ فِيهِ الْبَيْعُ، يَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ، يَدْخُلُ فِيهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يَنْفُذُ فِيهِ الْبَيْعُ، يَزِيدُ بِزِيَادَةِ التَّرِكَةِ، وَيَنْقُصُ بِنَقْصِهَا. وَيُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَقْصُودِ بِطُرُقٍ. مِنْهَا أَنْ يُنْسَبَ ثُلُثُ الْمَالِ إِلَى قَدْرِ الْمُحَابَاةِ. وَيُصَحَّحُ الْبَيْعُ فِي الْمَبِيعِ بِمِثْلِ نِسْبَةِ الثُّلُثِ مِنَ الْمُحَابَاةِ. فَنَقُولُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: ثُلُثُ الْمَالِ عَشَرَةٌ، وَالْمُحَابَاةُ عِشْرُونَ، وَالْعَشَرَةُ نِصْفُ الْعِشْرِينَ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ، وَقِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، كَأَنَّهُ اشْتَرَى سُدُسَهُ بِخَمْسَةٍ، وَوَصَّى لَهُ بِثُلُثِهِ، وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ

نِصْفُ الْعَبْدِ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالثَّمَنُ وَهُوَ خَمْسَةٌ، فَالْمَبْلَغُ عِشْرُونَ. وَذَلِكَ مِثْلُ الْمُحَابَاةِ. وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي الْأَصَحِّ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْكَيْفِيَّةِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. قَالَ الْقَفَّالُ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالُوا: وَالثَّانِي خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَرْجِيحِ الثَّانِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْحِسَابِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ، وَابْنُ اللَّبَّانِ، وَتَابَعَهُمَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَهَذَا أَقْوَى فِي الْمَعْنَى. وَلَوْ بَاعَ مَرِيضٌ صَاعَ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عِشْرِينَ بِصَاعٍ لِصَحِيحٍ يُسَاوِي عَشَرَةً، وَمَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ فِيهِمَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ صِحَّةُ الْبَيْعِ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ. وَفِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ صَاعِ الصَّحِيحِ الْمُشْتَرَى، وَهُوَ نِصْفُهُ فَيَكُونُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ صَاعٍ فِي مُقَابَلَةِ صَاعٍ، وَذَلِكَ رِبًا. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، صَحَّ الْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْ صَاعِ الْمَرِيضِ بِثُلُثَيْ صَاعِ الصَّحِيحِ، وَبَطَلَ فِي الْبَاقِي. وَقَطَعَ قَاطِعُونَ بِهَذَا الثَّانِي هُنَا؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ غَرَضُ الْمَيِّتِ فِي الْوَصِيَّةِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَطَرِيقُهُ: أَنَّ ثُلُثَ مَالِ الْمَرِيضِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَالْمُحَابَاةَ عَشَرَةٌ، وَالسِّتَّةُ وَالثُّلُثَانِ ثُلُثَا الْعَشَرَةِ، فَنَفَذَ الْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْ صَاعٍ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلصَّحِيحِ؛ لِتَبْعِيضِ صَفْقَتِهِ، وَلَا خِيَارَ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِئَلَّا يُبْطِلُوا الْمُحَابَاةَ الَّتِي هِيَ وَصِيَّةٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَغَلَّطُوا صَاحِبَ «التَّلْخِيصِ» فِي إِطْلَاقِهِ قَوْلَيْنِ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَصَاعُ الْمَرِيضِ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ، وَقُلْنَا: يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ صَاعٍ بِنِصْفِ صَاعٍ. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا وَصَاعُ الْمَرِيضِ يُسَاوِي أَرْبَعِينَ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي أَرْبَعَةِ أَتْسَاعِ الصَّاعِ بِأَرْبَعَةِ أَتْسَاعِ الصَّاعِ. وَلَوْ أَتْلَفَ الْمَرِيضُ الصَّاعَ الَّذِي أَخَذَهُ ثُمَّ مَاتَ، وَفَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجِيءُ عَلَيْهِ الدَّوْرُ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي ثُلُثِهِ بِثُلُثِ صَاعِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ صَاعِ الْمَرِيضِ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ مَا أَتْلَفَهُ قَدْ نَقَصَ مِنْ مَالِهِ. أَمَّا مَا صَحَّ الْبَيْعُ فِيهِ

فَهُوَ مِلْكُهُ، وَقَدْ أَتْلَفَهُ. وَأَمَّا مَا بَطَلَ فِيهِ الْبَيْعُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، فَيَنْقُصُ قَدْرَ الْغُرْمِ مِنْ مَالِهِ. وَمَتَى كَثُرَتِ الْقِيمَةُ، كَانَ الْمَصْرُوفُ إِلَى الْغُرْمِ أَقَلَّ، وَالْمُحَابَاةُ أَكْثَرَ. وَمَتَى قَلَّتْ كَانَ الْمَصْرُوفُ إِلَى الْغُرْمِ أَكْثَرَ، وَالْمُحَابَاةُ أَقَلَّ. مِثَالُهُ: كَانَتْ قِيمَةُ صَاعِ الْمَرِيضِ عِشْرِينَ، وَصَاعُ الصَّحِيحِ عَشَرَةٌ، فَمَالُ الْمَرِيضِ عِشْرُونَ، وَقَدْ أَتْلَفَ عَشَرَةً نَحُطُّهَا مِنْ مَالِهِ، يَبْقَى عَشَرَةٌ كَأَنَّهَا كُلُّ مَالِهِ، وَالْمُحَابَاةُ عَشَرَةٌ، فَثُلُثُ مَالِهِ هُوَ ثُلُثُ الْمُحَابَاةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي ثُلُثِ الصَّاعِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ صَاعِ الْمَرِيضِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَثُلُثَ صَاعِ الصَّحِيحِ: ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، فَالْمُحَابَاةُ بِثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ، وَقَدْ بَقِيَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ثُلُثَا صَاعٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، يُؤَدُّونَ مِنْهُ قِيمَةَ ثُلُثَيْ صَاعِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، تَبْقَى فِي أَيْدِيهِمْ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَهِيَ مِثْلَا الْمُحَابَاةِ. فَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا وَصَاعُ الْمَرِيضِ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ، فَمَالُ الْمَرِيضِ ثَلَاثُونَ، وَقَدْ أَتْلَفَ عَشَرَةً نَحُطُّهَا مِنْ مَالِهِ، يَبْقَى عِشْرُونَ كَأَنَّهَا كُلُّ مَالِهِ، وَالْمُحَابَاةُ عِشْرُونَ مِثْلُ مَالِهِ، فَثُلُثُ مَالِهِ هُوَ ثُلُثُ الْمُحَابَاةِ، فَصَحَّ الْبَيْعُ فِي ثُلُثِ صَاعٍ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ صَاعِ الْمَرِيضِ عَشَرَةٌ، وَثُلُثَ صَاعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، فَالْمُحَابَاةُ بِسِتَّةٍ وَثُلُثَيْنِ، وَقَدْ بَقِيَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ثُلُثَا صَاعٍ، وَهُوَ عِشْرُونَ، يُؤَدُّونَ مِنْهُ قِيمَةَ ثُلُثَيْ صَاعِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، يَبْقَى فِي أَيْدِيهِمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، وَهِيَ مِثْلَا الْمُحَابَاةِ. الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ جَمْعِ الصَّفْقَةِ: أَنْ يَجْمَعَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ. فَإِذَا جَمَعَ فِي صَفْقَةٍ بَيْنَ إِجَارَةٍ وَسَلَمٍ، أَوْ إِجَارَةٍ وَبَيْعٍ، أَوْ سَلَمٍ وَبَيْعِ عَيْنٍ، أَوْ صَرْفٍ وَغَيْرِهِ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِمَا. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَصُورَةُ الْإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ: أَجَّرْتُكَ دَارِي سَنَةً، وَبِعْتُكَ كَذَا سَلَمًا بِكَذَا. وَصُورَةُ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ: بِعْتُكَ عَبْدِي وَأَجَّرْتُكَ دَارِي سَنَةً بِكَذَا. وَلَوْ جَمَعَ بَيْعًا وَنِكَاحًا، فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ جَارِيَتِي هَذِهِ، وَبِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِكَذَا، وَالْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، وَبِعْتُكَ عَبْدَهَا، وَهِيَ فِي حِجْرِهِ أَوْ رَشِيدَةٌ وَكَّلَتْهُ فِي بَيْعِهِ، صَحَّ النِّكَاحُ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي الْبَيْعِ وَالْمُسَمَّى فِي

فصل

النِّكَاحِ الْقَوْلَانِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، وُزِّعَ الْمُسَمَّى عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِلَّا وَجَبَ فِي النِّكَاحِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْعًا وَكِتَابَةً، فَقَالَ لِعَبْدِهِ: كَاتَبْتُكَ عَلَى نَجْمَيْنِ، وَبِعْتُكَ [ثَوْبِي] هَذَا جَمِيعًا بِأَلْفٍ، فَإِنْ حَكَمْنَا بِالْبُطْلَانِ فِي الصُّوَرِ السَّابِقَةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَفِي الْكِتَابَةِ الْقَوْلَانِ. فَصْلٌ مَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَسَائِلِ الْبَابِ، إِذَا اتَّحَدَتِ الصَّفْقَةُ دُونَ مَا إِذَا تَعَدَّدَتْ حَتَّى لَوْ بَاعَ مَالَهُ فِي صَفْقَةٍ، وَمَالَ غَيْرِهِ فِي صَفْقَةٍ أُخْرَى، صَحَّ فِي مَالِهِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا بَيَانُ تَعَدُّدِهَا وَاتِّحَادِهَا، فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: إِذَا سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّيْئَيْنِ ثَمَنًا مُفَصَّلًا، فَقَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، وَهَذَا بِكَذَا، فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَهُمَا عَقْدَانِ مُتَعَدِّدَانِ. وَلَوْ جَمَعَ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبُولِ، فَقَالَ: قَبِلْتُ فِيهِمَا، فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِيجَابِ. فَإِذَا وَقَعَ مُفَسَّرًا، فَكَذَلِكَ الْقَبُولُ. وَقِيلَ: إِنَّ الصَّفْقَةَ مُتَّحِدَةٌ، وَهُوَ شَاذٌّ وَتَتَعَدَّدُ الصَّفْقَةُ أَيْضًا بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ وَإِنِ اتَّحَدَ الْمُشْتَرِي وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا بَاعَ رَجُلَانِ عَبْدًا لِرَجُلٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً. وَهَلْ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا؟ فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: تَتَعَدَّدُ كَالْبَائِعِ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَانٍ عَلَى الْإِيجَابِ السَّابِقِ، فَالنَّظَرُ إِلَى مَنْ أَوْجَبَ الْعَقْدَ. وَلِلتَّعَدُّدِ وَالِاتِّحَادِ فَوَائِدُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا. مِنْهَا: إِذَا حَكَمْنَا بِالتَّعَدُّدِ، فَوَزَنَ أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَنِ، لَزِمَ الْبَائِعَ تَسْلِيمُ قِسْطِهِ مِنَ الْمَبِيعِ بِتَسْلِيمِ الْمُشَاعِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالِاتِّحَادِ، لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَى أَحَدِهِمَا وَإِنْ وَزَنَ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ، حَتَّى يَزِنَ الْآخَرُ؛ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحَبْسِ، كَمَا لَوِ اتَّحَدَ الْمُشْتَرِي وَسَلَّمَ بَعْضَ الثَّمَنِ، لَا يُسَلِّمُ إِلَيْهِ قِسْطَهُ مِنَ الْمَبِيعِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ الْقِسْطَ إِذَا كَانَ مِمَّا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، وَهُوَ شَاذٌّ.

وَمِنْهَا: إِذَا قُلْنَا بِالتَّعَدُّدِ فَخَاطَبَ رَجُلٌ رَجُلَيْنِ فَقَالَ: بِعْتُكُمَا هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، أَوْ قَالَ مَالِكَا عَبْدٍ لِرَجُلٍ: بِعْنَاكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، فَقَبِلَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ: إِذَا وَكَّلَ رَجُلَانِ رَجُلًا فِي الْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ وَقُلْنَا: الصَّفْقَةُ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، أَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ فِي الْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ، فَهَلِ الِاعْتِبَارُ فِي تَرَدُّدِ الْعَقْدِ وَاتِّحَادِهِ بِالْعَاقِدِ، أَوِ الْمَعْقُودِ لَهُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْعَاقِدِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ رُؤْيَتُهُ دُونَ رُؤْيَةِ الْمُوَكِّلِ، وَخِيَارَ الْمَجْلِسِ يَتَعَلَّقُ بِهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ. وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْقُودِ لَهُ، قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَالْخُضَرِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَجِيزِ» ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ. وَالثَّالِثُ: الِاعْتِبَارُ فِي طَرَفِ الْبَيْعِ بِالْمَعْقُودِ لَهُ، وَفِي الشِّرَاءِ بِالْعَاقِدِ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَقْدَ يَتِمُّ فِي الشِّرَاءِ بِالْمُبَاشِرِ دُونَ الْمَعْقُودِ لَهُ. وَلِهَذَا لَوْ أَنْكَرَ الْمَعْقُودُ لَهُ الْإِذْنَ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَقَعَ الْعَقْدُ لِلْمُبَاشِرِ، بِخِلَافِ طَرَفِ الْبَيْعِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الْفَرْقُ فِيمَا إِذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ. فَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِثَوْبٍ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ كَالتَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ. وَالرَّابِعُ: الِاعْتِبَارُ فِي جَانِبِ الشِّرَاءِ بِالْمُوَكِّلِ وَفِي الْبَيْعِ بِهِمَا جَمِيعًا، فَأَيُّهُمَا تَعَدَّدَ تَعَدَّدَ الْعَقْدُ اعْتِبَارًا بِالشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمُوَكِّلِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَلَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْوَكِيلِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجَهِ مَسَائِلُ. مِنْهَا: لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا بِوَكَالَةِ رَجُلَيْنِ، فَخَرَجَ مَعِيبًا، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْعَاقِدَ، فَلَيْسَ لِأَحَدِ الْمُوَكِّلَيْنِ إِفْرَادُ نَصِيبِهِ بِالرَّدِّ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى وَمَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ وَخَرَجَ مَعِيبًا، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا إِفْرَادُ نَصِيبِهِ [بِالرَّدِّ] . وَهَلْ لِأَحَدِ الْمُوَكِّلَيْنِ وَالِابْنَيْنِ أَخْذُ

باب خيار المجلس والشرط

الْأَرْشِ؟ إِنْ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ رَدِّ الْآخَرِ بِأَنْ رَضِيَ بِهِ فَنَعَمْ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمِنْهَا: لَوْ وَكَّلَ رَجُلَانِ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُمَا، أَوْ وَكَّلَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ صَاحِبَهُ، فَبَاعَ الْكُلَّ، ثُمَّ خَرَجَ مَعِيبًا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا. وَعَلَى الْأَوْجُهِ الْأُخَرِ: يَجُوزُ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلَيْنِ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ، فَبَاعَاهُ لِرَجُلٍ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا. وَعَلَى الْأَوْجُهِ الْأُخَرِ: لَا يَجُوزُ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلَانِ رَجُلًا فِي شِرَاءِ عَبْدٍ، أَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا فِي شِرَاءِ عَبْدٍ لَهُ وَلِنَفْسِهِ، فَفَعَلَ، وَخَرَجَ الْعَبْدُ مَعِيبًا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ: لَيْسَ لِأَحَدِ الْمُوَكِّلَيْنِ إِفْرَادُ نَصِيبِهِ بِالرَّدِّ. وَعَلَى الثَّانِي وَالرَّابِعِ: يَجُوزُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ أَنَّهُ يَشْتَرِي لَهُمَا، فَلِأَحَدِهِمَا رَدُّ نَصِيبِهِ لِرِضَا الْبَائِعِ بِالتَّشْقِيصِ. وَإِنْ جَهِلَهُ فَلَا. وَمِنْهَا: لَوْ وَكَّلَ رَجُلَانِ رَجُلًا فِي بَيْعِ عَبْدٍ، وَرَجُلَانِ رَجُلًا فِي شِرَائِهِ، فَتَبَايَعَ الْوَكِيلَانِ، فَخَرَجَ مَعِيبًا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ. وَعَلَى الْوُجُوهِ الْأُخَرِ: يَجُوزُ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلَيْنِ فِي بَيْعِ عَبْدٍ، وَوَكَّلَ رَجُلٌ آخَرَيْنِ فِي شِرَائِهِ، فَتَبَايَعَ الْوُكَلَاءُ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَجُوزُ التَّفْرِيقُ. وَعَلَى الْأَوْجُهِ الْأُخَرِ: لَا يَجُوزُ. بَابُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ الْخِيَارُ ضَرْبَانِ: خِيَارُ نَقْصٍ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِ شَيْءٍ مَظْنُونِ الْحُصُولِ. وَخِيَارُ شَهْوَةٍ وَهُوَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِ شَيْءٍ. فَالْأَوَّلُ لَهُ بَابٌ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فصل

وَأَمَّا الثَّانِي، فَلَهُ سَبَبَانِ: الْمَجْلِسُ، وَالشَّرْطُ. وَإِذَا صَحَّحْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ، أَثْبَتْنَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، فَتَصِيرُ الْأَسْبَابُ ثَلَاثَةً. السَّبَبُ الْأَوَّلُ: كَوْنُهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَتَخَايَرَا. فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْعُقُودِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَالَّتِي لَا تَثْبُتُ فِيهَا الْعُقُودُ، ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ، إِمَّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، كَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَةِ، وَإِمَّا مِنْ أَحَدِهِمَا، كَالضَّمَانِ، وَالْكِتَابَةِ، فَلَا خِيَارَ فِيهَا، وَكَذَا الرَّهْنُ، لَكِنْ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ وَأَقْبَضَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، أَمْكَنَ فَسْخُ الرَّهْنِ، بِأَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، فَيَنْفَسِخُ الرَّهْنُ تَبَعًا. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْكِتَابَةِ وَالضَّمَانِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْعُقُودُ اللَّازِمَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ: وَارِدَةٌ عَلَى الْعَيْنِ، وَوَارِدَةٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ. فَالْأَوَّلُ: كَالصَّرْفِ، وَبَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ، وَالسَّلَمِ، وَالتَّوْلِيَةِ، وَالتَّشْرِيكِ، وَصُلْحِ الْمُعَاوَضَةِ، فَيَثْبُتُ فِيهَا جَمِيعًا خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَتُسْتَثْنَى صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: إِذَا بَاعَ مَالَهُ لِوَلَدِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَفِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يَثْبُتُ. فَعَلَى هَذَا، يَثْبُتُ خِيَارٌ لِلْأَبِ، وَخِيَارٌ لِلْوَلَدِ وَالْأَبُ نَائِبُهُ. فَإِنْ أَلْزَمَ الْبَيْعَ لِنَفْسِهِ وَلِلْوَلَدِ، لَزِمَ. وَإِنْ أَلْزَمَ لِنَفْسِهِ بَقِيَ الْخِيَارُ لِلْوَلَدِ، إِذَا

فَارَقَ الْمَجْلِسَ، لَزِمَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: لَا يُلْزَمُ إِلَّا بِالْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَارِقَ نَفْسَهُ وَإِنْ فَارَقَ الْمَجْلِسَ. الثَّانِيَةُ: لَوِ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، كَأَبِيهِ وَابْنِهِ، قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: يُبْنَى ثُبُوتُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى أَقْوَالِ الْمِلْكِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لِلْبَائِعِ، فَلَهُمَا الْخِيَارُ، وَلَا نَحْكُمُ بِالْعِتْقِ حَتَّى يَمْضِيَ زَمَنُ الْخِيَارِ. وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَلَهُمَا الْخِيَارُ. وَإِذَا أَمْضَيْنَا الْعَقْدَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَتَقَ بِالشِّرَاءِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَيَثْبُتُ لِلْبَائِعِ. وَمَتَى يَعْتِقُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ حَتَّى يَمْضِيَ زَمَنُ الْخِيَارِ، ثُمَّ نَحْكُمُ يَوْمَئِذٍ بِعِتْقِهِ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ. وَالثَّانِي: نَحْكُمُ بِعِتْقِهِ حِينَ الشِّرَاءِ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يَنْقَطِعُ خِيَارُ الْبَائِعِ؟ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي مَا إِذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْأَجْنَبِيَّ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَيُحْتَمَلُ أَنْ نَحْكُمَ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، وَأَنْ لَا يَعْتِقَ الْعَبْدُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا إِلَّا بِأَصْلِ الْعَقْدِ. هَذِهِ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْمَذْهَبُ، أَنَّهُ لَا خِيَارَ. وَقَالَ الْأَوْدَنِيُّ: يَثْبُتُ، وَتَابَعَ الْغَزَالِيَّ إِمَامَهُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ عَنِ الْأَصْحَابِ. الثَّالِثَةُ: الصَّحِيحُ: أَنَّ شِرَاءَ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ جَائِزٌ. وَفِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَسَنٍ الْعَبَّادِيُّ، وَمَالَ إِلَى تَرْجِيحِ ثُبُوتِهِ، وَقَطَعَ الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ. الرَّابِعَةُ: فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي شِرَاءِ الْجَمْدِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ يَتْلَفُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ. الْخَامِسَةُ: إِنْ صَحَّحْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ، وَلَمْ نُثَبِتْ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَهَذَا الْبَيْعُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِثْنَاءِ.

السَّادِسَةُ: إِنْ بَاعَ بِشَرْطِ نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ سَنَذْكُرُهَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَحَدُهَا: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةً، هَذَا حُكْمُ الْمَبِيعِ بِأَنْوَاعِهِ. وَلَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي صُلْحِ الْحَطِيطَةِ، وَلَا فِي الْإِبْرَاءِ، وَلَا فِي الْإِقَالَةِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا فَسْخٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا بَيْعٌ، فَفِيهَا الْخِيَارُ. وَلَا يَثْبُتُ فِي الْحَوَالَةِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ مُعَاوَضَةً، وَإِنْ قُلْنَا: مُعَاوَضَةٌ، فَكَذَا أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى قَوَاعِدِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَلَا يَثْبُتُ فِي الشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي، وَفِي ثُبُوتِهِ لِلشَّفِيعِ وَجْهَانِ. فَإِنْ أَثْبَتْنَاهُ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ مَعَ تَفْرِيعِنَا عَلَى قَوْلِ الْفَوْرِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا غَلَطٌ، بَلِ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. ثُمَّ لَهُ الْخِيَارُ فِي نَقْضِ الْمِلْكِ وَرَدِّهِ. وَمَنِ اخْتَارَ عَيْنَ مَالِهِ لِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي، فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَهُ الْخِيَارُ، مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ. وَلَا خِيَارَ فِي الْوَقْفِ كَالْعِتْقِ، وَلَا فِي الْهِبَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَوَابًا. فَإِنْ كَانَ ثَوَابًا مَشْرُوطًا، أَوْ قُلْنَا: يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ، فَلَا خِيَارَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى بَيْعًا، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ. وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْقِسْمَةِ، إِنْ كَانَ فِيهَا رَدٌّ، وَإِلَّا فَإِنْ جَرَتْ بِالْإِجْبَارِ فَلَا خِيَارَ، وَإِنْ جَرَتْ بِالتَّرَاضِي فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا إِقْرَارٌ فَلَا خِيَارَ، وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ فَكَذَا عَلَى الْأَصَحِّ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْعَقْدُ الْوَارِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، فَمِنْهُ: النِّكَاحُ وَلَا خِيَارَ فِيهِ، وَلَا خِيَارَ فِي الصَّدَاقِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ أَثْبَتْنَاهُ فَفَسَخَتْ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ثُبُوتُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ، وَلَا تَنْدَفِعُ الْفُرْقَةُ بِحَالٍ. وَمِنْهُ: الْإِجَارَةُ، وَفِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِيهَا، وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ «الْمُهَذَّبِ» وَشَيْخِهِ الْكَرْخِيِّ: يَثْبُتُ، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَصَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَصَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» وَالْأَكْثَرِينَ: لَا يَثْبُتُ،

وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ خَيْرَانَ. قَالَ الْقَفَّالُ فِي طَائِفَةٍ: الْخِلَافُ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ. أَمَّا الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَيَثْبُتُ فِيهَا قَطْعًا كَالسَّلَمِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ، فَفِي ابْتِدَاءِ مُدَّتِهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ وَقْتِ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ بِالتَّفَرُّقِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الْمُؤَجِّرُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِغَيْرِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، قَالَ الْإِمَامُ: لَمْ يُجِزْهُ أَحَدٌ فِيمَا أَظُنُّ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فِي الْقِيَاسِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا تُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ. فَعَلَى هَذَا عَلَى مَنْ تُحْسَبُ مُدَّةُ الْخِيَارِ؟ إِنْ كَانَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَهِيَ مَحْسُوبَةٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ فَوَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي زَمَنِ الْخِيَارِ مِنْ ضَمَانِ مَنْ يَكُونُ؟ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَعَلَى هَذَا، يُحْسَبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَعَلَيْهِ تَمَامُ الْأُجْرَةِ. وَالثَّانِي: مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. فَعَلَى هَذَا يُحْسَبُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، وَيَحُطُّ مِنَ الْأُجْرَةِ قَدْرَ مَا يُقَابِلُ تِلْكَ الْمُدَّةَ. وَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ، فَفِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِيهَا طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى الْخِلَافِ فِي الْإِجَارَةِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، لِعِظَمِ الْغَرَرِ فِيهَا، فَلَا يُضَمُّ إِلَيْهِ غَرَرُ الْخِيَارِ. وَالْمُسَابَقَةُ، كَالْإِجَارَةِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لَازِمَةٌ، وَكَالْعُقُودِ الْجَائِزَةِ إِنْ قُلْنَا: جَائِزَةٌ. فَرْعٌ لَوْ تَبَايَعَا بِشَرْطِ نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ وَلَا خِيَارَ، وَالثَّالِثُ: صَحِيحٌ، وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ وَلَوْ شَرَطَ نَفْيَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ عَلَى قَوْلِ صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَطَرَّدَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِيهِ الْخِلَافَ. وَهَذَا الْخِلَافُ يُشْبِهُ الْخِلَافَ فِي شَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ مَا إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ بَاعَهُ بِشَرْطِ نَفْيِ الْخِيَارِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْبَيْعُ

فصل

بَاطِلٌ أَوْ صَحِيحٌ وَلَا خِيَارَ لَمْ يَعْتِقْ. وَإِنْ قُلْنَا: صَحِيحٌ وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ، عَتَقَ ; لِأَنَّ عِتْقَ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَافِذٌ. فَصْلٌ فِيمَا يَنْقَطِعُ بِهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ ثَبَتَ فِيهِ هَذَا الْخِيَارُ، فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِالتَّخَايُرِ، وَيَنْقَطِعُ أَيْضًا بِأَنْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ. أَمَّا التَّخَايُرُ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَا: تَخَايَرْنَا، أَوِ اخْتَرْنَا إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، أَوْ أَمْضَيْنَاهُ، أَوْ أَجَزْنَاهُ، أَوْ أُلْزِمْنَاهُ، وَمَا أَشْبَهَهَا. فَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: اخْتَرْتُ إِمْضَاءَهُ، انْقَطَعَ خِيَارُهُ، وَبَقِيَ خِيَارُ الْآخَرِ، كَمَا إِذَا أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا خِيَارَ الشَّرْطِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَا يَبْقَى خِيَارٌ لِلْآخَرِ ; لِأَنَّ هَذَا الْخِيَارَ لَا يَتَبَعَّضُ ثُبُوتُهُ، فَلَا يَتَبَعَّضُ سُقُوطُهُ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ، أَوْ: خَيَّرْتُكَ، فَقَالَ الْآخَرُ: اخْتَرْتُ، انْقَطَعَ خِيَارُهُمَا. وَإِنْ سَكَتَ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُهُ، وَيَنْقَطِعْ خِيَارُ الْقَائِلِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا. وَلَوْ أَجَازَ وَاحِدٌ، وَفَسَخَ الْآخَرُ، قُدِّمَ الْفَسْخُ. وَلَوْ تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ، وَتَبَايَعَا الْعِوَضَيْنِ بَيْعًا ثَانِيًا، صَحَّ الْبَيْعُ الثَّانِي أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِلُزُومِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ، هَلْ يَمْنَعُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ؟ إِنْ قُلْنَا: يَمْنَعُ لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ تَقَابَضَا فِي الصَّرْفِ ثُمَّ أَجَازَا فِي الْمَجْلِسِ، لَزِمَ الْعَقْدُ. فَإِنْ أَجَازَاهُ قَبْلَ التَّقَابُضِ فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تُلْغَى الْإِجَازَةُ، فَيَبْقَى الْخِيَارُ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُ الْعَقْدُ وَعَلَيْهِمَا التَّقَابُضُ. فَإِنَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَا يَأْثَمَانِ إِنْ تَفَرَّقَا عَنْ تَرَاضٍ. وَإِنِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْمُفَارَقَةِ أَثِمَ. وَأَمَّا التَّفَرُّقُ، فَأَنْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، فَلَوْ أَقَامَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مُدَّةً مُتَطَاوِلَةً، أَوْ قَامَا وَتَمَاشَيَا مَرَاحِلَ،

فَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَوَجْهٌ: أَنَّهُمَا لَوْ شَرَعَا فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَأَعْرَضَا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ، وَطَالَ الْفَصْلُ، انْقَطَعَ الْخِيَارُ. ثُمَّ الرُّجُوعُ فِي التَّفَرُّقِ إِلَى الْعَادَةِ. فَمَا عَدَّهُ النَّاسُ تَفَرُّقًا، لَزِمَ بِهِ الْعَقْدُ. فَلَوْ كَانَا فِي دَارٍ صَغِيرَةٍ، فَالتَّفَرُّقُ أَنْ يَخْرُجَ أَحَدُهُمَا مِنْهَا، أَوْ يَصْعَدَ السَّطْحَ. وَكَذَا لَوْ كَانَا فِي مَسْجِدٍ صَغِيرٍ، أَوْ سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ. فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ كَبِيرَةً، حَصَلَ التَّفَرُّقُ بِأَنْ يَخْرُجَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الصَّحْنِ، أَوْ مِنَ الصَّحْنِ إِلَى بَيْتٍ أَوْ صُفَّةٍ. وَإِنْ كَانَا فِي صَحْرَاءٍ أَوْ فِي سُوقٍ، فَإِذَا وَلَّى أَحَدُهُمَا ظَهْرَهُ وَمَشَى قَلِيلًا، حَصَلَ التَّفَرُّقُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ صَاحِبِهِ بِحَيْثُ لَوْ كَلَّمَهُ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الصَّوْتِ، لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ. وَلَا يَحْصُلُ التَّفَرُّقُ بِأَنْ يُرْخَى سِتْرٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُشَقَّ نَهْرٌ. وَلَا يَحْصُلُ بِبِنَاءِ جِدَارٍ بَيْنَهُمَا مِنْ طِينٍ أَوْ جِصٍّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَصَحْنُ الدَّارِ وَالْبَيْتِ [الْوَاحِدِ] إِذَا تَفَاحَشَ اتِّسَاعُهُمَا كَالصَّحْرَاءِ. فَرْعٌ لَوْ تَنَادَيَا مُتَبَاعِدَيْنِ وَتَبَايَعَا صَحَّ الْبَيْعُ. قَالَ الْإِمَامُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا خِيَارَ لَهُمَا ; لِأَنَّ التَّفَرُّقَ الطَّارِئَ يَقْطَعُ الْخِيَارَ، فَالْمُقَارِنُ يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَثْبُتُ مَا دَامَا فِي مَوْضِعِهِمَا، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» . ثُمَّ إِذَا فَارَقَ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَهُ، بَطَلَ خِيَارُهُ. وَهَلْ يَبْطُلُ خِيَارُ الْآخَرِ أَمْ يَدُومُ إِلَى أَنْ يُفَارِقَ مَكَانَهُ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: ثُبُوتُ الْخِيَارِ، وَأَنَّهُ مَتَى فَارَقَ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَهُ، بَطَلَ خِيَارُ الْآخَرِ. وَلَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا فِي بَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ أَوْ صَحْنٍ وَصُفَّةٍ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا كَالْمُتَبَاعِدَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَأَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ حَتَّى يُفَارِقَ أَحَدُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْمَجْلِسِ، نَصَّ أَنِ الْخِيَارَ لِوَارِثِهِ، وَقَالَ فِي الْمُكَاتَبِ: إِذَا بَاعَ وَمَاتَ فِي الْمَجْلِسِ وَجَبَ الْبَيْعُ. وَلِلْأَصْحَابِ ثَلَاثُ طُرُقٍ أَصَحُّهَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْوَارِثِ وَالسَّيِّدِ، كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْمُفَارَقَةِ بِالْبَدَنِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: يَثْبُتُ لَهُمَا قَطْعًا. وَقَوْلُهُ فِي الْمُكَاتَبِ: وَجَبَ الْبَيْعُ مَعْنَاهُ: لَا يَبْطُلُ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ. وَالثَّالِثُ: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ. وَالْفَرْقُ بِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ بِخِلَافِ السَّيِّدِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ مِنْ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ: أَنَّهُ لَا يُورَثُ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ أَوِ اشْتَرَى، وَمَاتَ فِي الْمَجْلِسِ فَكَالْمُكَاتَبِ. وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إِذَا مَاتَ فِي الْمَجْلِسِ، هَلْ لِلْمُوَكِّلِ الْخِيَارُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ كَالْمُكَاتَبِ. هَذَا إِذَا فَرَّغْنَا عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَجْلِسِ التَّوْكِيلِ. وَفِي وَجْهٍ: يُعْتَبَرُ مَجْلِسُ الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ شَاذٌّ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ لِلْوَارِثِ، فَقَدِ انْقَطَعَ خِيَارُ الْمَيِّتِ. وَأَمَّا الْحَيُّ فَفِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّ خِيَارَهُ لَا يَنْقَطِعُ حَتَّى يُفَارِقَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ. وَقَالَ الْإِمَامُ: يَلْزَمُ الْعَقْدُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيرُ خِلَافٍ فِيهِ، لِمَا سَبَقَ أَنَّ هَذَا الْخِيَارَ لَا يَتَبَعُّضُ سُقُوطُهُ كَثُبُوتِهِ. قُلْتُ: قَوْلُ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» أَصَحُّ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: يَمْتَدُّ حَتَّى يَجْتَمِعَ هُوَ وَالْوَارِثُ. وَرَابِعٌ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ: أَنَّهُ يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ. فَإِذَا بَلَغَ الْخَبَرُ الْوَارِثَ، حَدَثَ لِهَذَا الْخِيَارُ مَعَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْوَارِثِ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ، امْتَدَّ الْخِيَارُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَاقِدِ الْآخَرِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ يَتَخَايَرَا. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَيْهِ. وَهَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، أَمْ يَمْتَدُّ امْتِدَادَ مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ

إِلَيْهِ؟ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ إِذَا وَرِثَهُ الْوَارِثُ وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَفِي وَجْهٍ: يَمْتَدُّ كَمَا كَانَ يَمْتَدُّ لِلْمَيِّتِ لَوْ بَقِيَ. وَمِنْهُمْ مَنْ بَنَاهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ لِلْعَاقِدِ الْبَاقِي. أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ خِيَارُ الْوَارِثِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يُشَاهِدُ فِيهِ الْمَبِيعَ. وَالثَّانِي: يَتَأَخَّرُ خِيَارُهُ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ هُوَ وَالْوَارِثُ فِي مَجْلِسٍ، فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْوَارِثِ. قُلْتُ: حَاصِلُ الْخِلَافِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِلْوَارِثِ الْغَائِبِ، أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. مِنْهَا ثَلَاثَةٌ جَمَعَهَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ. أَصَحُّهَا: يَمْتَدُّ الْخِيَارُ حَتَّى يُفَارِقَ مَجْلِسَ الْخَبَرِ. وَالثَّانِي: حَتَّى يَجْتَمِعَا. وَالثَّالِثُ: عَلَى الْفَوْرِ. وَالرَّابِعُ: يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إِذَا أَبْصَرَ الْمَبِيعَ، وَلَا يَتَأَخَّرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا وَرِثَهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَكَانُوا حُضُورًا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَلَهُمُ الْخِيَارُ إِلَى أَنْ يُفَارِقُوا الْعَاقِدَ الْآخَرَ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِمُفَارَقَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانُوا غَائِبَيْنِ عَنِ الْمَجْلِسِ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِنْ قُلْنَا فِي الْوَارِثِ الْوَاحِدِ: يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِ مُشَاهَدَةِ الْمَبِيعِ، فَلَهُمُ الْخِيَارُ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ الْخِيَارُ إِذَا اجْتَمَعَ هُوَ وَالْعَاقِدُ، فَكَذَا لَهُمُ الْخِيَارُ إِذَا اجْتَمَعُوا بِهِ. وَمَتَى فَسَخَ بَعْضُهُمْ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ فَفِي وَجْهٍ: لَا يَنْفَسِخُ فِي شَيْءٍ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَنْفَسِخُ فِي الْجَمِيعِ، كَالْمُوَرِّثِ إِذَا فَسَخَ فِي حَيَاتِهِ فِي الْبَعْضِ وَأَجَازَ فِي الْبَعْضِ. قُلْتُ: وَسَوَاءٌ فَسَخَ بَعْضُهُمْ فِي نَصِيبِهِ فَقَطْ، أَوْ فِي الْجَمِيعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

فَرْعٌ إِذَا حُمِلَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَأُخْرِجَ مِنَ الْمَجْلِسِ مُكْرَهًا، فَإِنْ مُنِعَ الْفَسْخَ بِأَنْ سُدَّ فَمُهُ، لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ كَالْقَوْلَيْنِ فِي الْمَوْتِ، وَهُنَا أَوْلَى بِبَقَائِهِ ; لِأَنَّ إِبْطَالَ حَقِّهِ قَهْرًا بَعِيدٌ. وَإِنْ لَمْ يُمْنَعِ الْفَسْخَ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْقَطِعُ. وَأَصَحُّهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْقَطِعُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ، انْقَطَعَ أَيْضًا خِيَارُ الْمَاكِثِ، وَإِلَّا فَلَهُ التَّصَرُّفُ بِالْفَسْخِ وَالْإِجَارَةِ إِذَا تَمَكَّنَ. وَهَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَقَيَّدُ بِالْفَوْرِ، وَكَانَ مُسْتَقِرًّا حِينَ زَايَلَهُ الْإِكْرَاهُ فِي الْمَجْلِسِ، امْتَدَّ الْخِيَارُ امْتِدَادَ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَإِنْ كَانَ مَارًّا، فَإِذَا فَارَقَ فِي مُرُورِهِ مَكَانَ التَّمَكُّنِ انْقَطَعَ خِيَارُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الِانْقِلَابُ إِلَى مَجْلِسِ الْعَقْدِ لِيَجْتَمِعَ بِالْعَاقِدِ الْآخَرِ إِنْ طَالَ الزَّمَانُ. وَإِنْ قَصَرَ فَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُ الْمُخْرَجِ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُ الْمَاكِثِ أَيْضًا إِنْ مُنِعَ الْخُرُوجَ مَعَهُ، وَإِلَّا بَطَلَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ ضُرِبَا حَتَّى تَفَرَّقَا بِأَنْفُسِهِمَا، فَفِي انْقِطَاعِ الْخِيَارُ قَوْلَانِ كَحِنْثِ الْمُكْرَهِ. وَلَوْ هَرَبَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَتْبَعْهُ الْآخَرُ مَعَ التَّمَكُّنِ، بَطَلَ خِيَارُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ بَطَلَ خِيَارُ الْهَارِبِ وَحْدَهُ، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . قُلْتُ: أَطْلَقَ الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبَا «الْعُدَّةِ» وَ «الْبَيَانِ» وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُمَا بِلَا تَفْصِيلٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنَ الْفَسْخِ بِالْقَوْلِ، وَلِأَنَّ الْهَارِبَ فَارَقَ مُخْتَارًا، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ، فَإِنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ

لَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، لَمْ يَنْقَطِعِ الْخِيَارُ، بَلْ يَقُومُ وَلَيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، فَيَفْعَلُ مَا فِيهِ الْحَظُّ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ. وَفِي وَجْهٍ مُخَرَّجٍ مِنَ الْمَوْتِ: أَنَّهُ يَنْقَطِعُ. وَلَوْ خَرَسَ أَحَدُهُمَا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ، فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ، وَإِلَّا نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ. فَرْعٌ لَوْ جَاءَ الْمُتَعَاقِدَانِ مَعًا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: تَفَرَّقَنَا بَعْدَ الْبَيْعِ، فَلَزِمَ، وَأَنْكَرَ الثَّانِي التَّفَرُّقَ، وَأَرَادَ الْفَسْخَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّانِي مَعَ يَمِينِهِ، لِلْأَصْلِ. وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى التَّفَرُّقِ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا: فَسَخْتُ قَبْلَهُ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى الثَّانِي: قَوْلُ مُدَّعِي الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِتَصَرُّفِهِ. وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى عَدَمِ التَّفَرُّقِ، وَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَدَعْوَاهُ الْفَسْخَ فَسْخٌ. السَّبَبُ الثَّانِي لِلْخِيَارِ: الشَّرْطُ. يَصِحُّ خِيَارُ الشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّ زَادَ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَيَجُوزُ دُونَ الثَّلَاثَةِ. فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، فَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ أَوْ يَصِحُّ وَيُبَاعُ عِنْدَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْفَسَادِ، وَيُقَامُ ثَمَنُهُ مَقَامَهُ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ «الْبَيَانِ» . قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مُتَّصِلَةً بِالْعَقْدِ. فَلَوْ شَرَطَا خِيَارَ ثَلَاثَةٍ فَمَا دُونَهَا مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، أَوْ مَتَى شَاءَا، أَوْ شَرَطَا خِيَارَ الْغَدِ دُونَ الْيَوْمِ، بَطَلَ الْبَيْعُ.

وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ مُطْلَقًا، وَلَا تَقْدِيرُهُ بِمُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ. فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَلَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْغَدِ جَازَ. وَلَوْ قَالَا: إِلَى طُلُوعِهَا، قَالَ الزُّبِيرِيُّ: لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ السَّمَاءَ قَدْ تَغِيمُ فَلَا تَطْلُع، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ التَّغَيُّمَ إِنَّمَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِشْرَاقِ وَاتِّصَالِ الشُّعَاعِ، لَا مِنَ الطُّلُوعِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: إِلَى الْغُرُوبِ، وَإِلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: خِلَافُ قَوْلِ الزُّبِيرِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَبَايَعَا نَهَارًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ إِلَى اللَّيْلِ، أَوْ عَكْسِهِ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِأَلْفٍ إِلَى رَمَضَانَ، لَا يَدْخُلُ رَمَضَانُ فِي الْأَجَلِ. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ، كَمَا لَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا لَا بِعَيْنِهِ. وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، فَفِيهِ قَوْلَا الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلِفِي الْحُكْمِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ فِي أَحَدِهِمَا خِيَارَ يَوْمٍ وَفِي الْآخَرِ يَوْمَيْنِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِيمَا شَرَطَ كَمَا شَرَطَ. وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِمَا، ثُمَّ أَرَادَ الْفَسْخَ فِي أَحَدِهِمَا، فَعَلَى قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَلَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا مِنْ وَاحِدٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَلِأَحَدِهِمَا الْفَسْخُ فِي نَصِيبِهِ، كَمَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَلَوْ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا الْخِيَارُ دُونَ الْآخَرِ، صَحَّ الْبَيْعُ عَلَى الْأَظْهَرِ. فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى بِشَرْطِ أَنَّهُ [إِنْ] لَمْ يُنْقِدْهُ الثَّمَنَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا،

أَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ رَدَّ الثَّمَنَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَا بَيْعَ بَيْنِهِمَا، بَطَلَ الْبَيْعُ، كَمَا لَوْ تَبَايَعَا بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ الْيَوْمَ، فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ، وَالْمَذْكُورُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي. وَفِي الثَّانِيَةِ: شَرْطٌ لِلْبَائِعِ. فَرْعٌ قَدِ اشْتُهِرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا خِلَابَةَ، عِبَارَةٌ عَنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَإِذَا أَطْلَقَاهَا عَالِمَيْنِ بِمَعْنَاهَا، كَانَ كَالتَّصْرِيحِ بِالِاشْتِرَاطِ. وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ. فَإِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا شَرَطَا الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَسْقَطَا الْيَوْمَ الْأَوَّلَ، سَقَطَ الْكُلُّ. فَرْعٌ إِذَا تَبَايَعَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةً فَمَا دُونَهَا، فَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَمْ مِنْ وَقْتِ التَّفَرُّقِ، أَوِ التَّخَايُرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ. وَأَمَّا ابْتِدَاءُ مُدَّةِ الْأَجَلِ، فَإِنْ جَعَلْنَا الْخِيَارَ مِنَ الْعَقْدِ، فَالْأَجَلُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. فَإِذَا قُلْنَا: ابْتِدَاءُ الْخِيَارِ مِنَ الْعَقْدِ، فَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَهُمَا مُصْطَحِبَانِ بَعْدُ، انْقَطَعَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَبَقِيَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ. وَإِنْ تَفَرَّقَا وَالْمُدَّةُ بَاقِيَةٌ، فَالْحُكْمُ بِالْعَكْسِ. وَلَوْ أَسْقَطَا

فصل

أَحَدَ الْخِيَارَيْنِ، لَمْ يَسْقُطِ الْآخَرُ. وَلَوْ قَالَا: أَلْزَمْنَا الْعَقْدَ، أَوْ أَسْقَطْنَا الْخِيَارَ مُطْلَقًا، سَقَطَا. وَلَوْ شَرَطَا الِابْتِدَاءَ مِنْ وَقْتِ التَّفَرُّقِ، بَطَلَ الْعَقْدُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: ابْتِدَاءُ الْخِيَارِ مِنَ التَّفَرُّقِ، فَإِذَا تَفَرَّقَا انْقَطَعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَاسْتُؤْنِفَ خِيَارُ الشَّرْطِ. وَلَوْ أَسْقَطَا الْخِيَارَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، بَطَلَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَيَبْطُلُ الْآخَرُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَلَوْ شَرَطَا ابْتِدَاءَهُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ. وَلَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَقُلْنَا بِثُبُوتِهِ، فَالْحُكْمُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَخْتَلِفُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: يُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ الشَّرْطِ، لَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَلَا مِنَ التَّفَرُّقِ. فَرْعٌ مَنْ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ حَضَرَ صَاحِبُهُ أَوْ غَابَ، وَلَا يَفْتَقِرُ نُفُوذُ هَذَا الْفَسْخِ إِلَى الْحَاكِمِ. فَصْلٌ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ مِنَ الْعُقُودِ وَمَا لَا يَثْبُتُ وَالْقَوْلُ الْجُمَلِيُّ فِيهِ: أَنَّهُ مَعَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ يَتَلَازَمَانِ فِي الْأَغْلَبِ، لَكِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ أَسْرَعُ وَأَوْلَى ثُبُوتًا مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ، فَرُبَّمَا انْفَكَّا لِذَلِكَ، فَإِذَا أَرَدْتَ التَّفْصِيلَ فَرَاجِعْ مَا سَبَقَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَاعْلَمْ بِأَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي صُورَةِ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ، إِلَّا أَنَّ الْبُيُوعَ الَّتِي يُشْتَرَطُ

فصل

فِيهَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَالصَّرْفِ وَبَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ، أَوِ الْقَبْضِ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، كَالسَّلَمِ - لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا وَإِنْ ثَبَتَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَإِلَّا أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ فِي الشُّفْعَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا فِي الْحَوَالَةِ عَلَى مَا حَكَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَإِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْغَرِيبَ الْمَذْكُورَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِلْبَائِعِ لِمُفْلِسٍ، لَمْ يُطَرِّدُوهُ هُنَا، وَإِلَّا أَنَّ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الثَّوَابِ طَرِيقَةً قَاطِعَةً تَنْفِي خِيَارَ الشَّرْطِ، وَإِلَّا أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ أَيْضًا طَرِيقَةً مِثْلَ ذَلِكَ. وَحُكْمُ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الصَّدَاقِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ. فَصْلٌ يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُشْرَطَ لِأَحَدِهِمَا يَوْمٌ، وَلِلْآخَرِ يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ. فَإِنْ شَرَطَهُ لِغَيْرِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْغَيْرُ أَجْنَبِيًّا، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَفْسُدُ الْبَيْعُ. وَأَظْهَرُهُمَا: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْعَبْدِ. وَلَا فَرْقَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَشْرُطَا جَمِيعًا أَوْ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَشْرُطَ هَذَا الْخِيَارَ لِوَاحِدٍ وَهَذَا لِآخَرَ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلشَّارِطِ أَيْضًا قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الصَّرْفِ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، اقْتِصَارًا عَلَى الشَّرْطِ. فَإِذَا لَمْ نُثْبِتِ الْخِيَارَ لِلْعَاقِدِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، فَمَاتَ الْأَجْنَبِيُّ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، ثَبَتَ لَهُ الْآنَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِلْعَاقِدِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِقْلَالُ بِالْفَسْخِ. وَلَوْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا وَأَجَازَ الْآخَرُ، فَالْفَسْخُ أَوْلَى. وَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنْ يُؤَامِرَ فُلَانًا، فَيَأْتِيَ بِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، فَالْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ حَتَّى يَقُولَ: اسْتَأْمَرْتُهُ، فَأَمَرَنِي بِالْفَسْخِ.

وَتَكَلَّمُوا فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِمَاذَا شَرَطَ أَنْ يَقُولَ: اسْتَأْمَرْتُهُ؟ قَالَ الَّذِينَ خَصُّوا الْخِيَارَ الْمَشْرُوطَ لِلْأَجْنَبِيِّ بِهِ: هَذَا جَوَابٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قُلْنَاهُ وَمُؤَيِّدٌ لَهُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّهُ مَذْكُورٌ احْتِيَاطًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَطْلَقَ فِي التَّصْوِيرِ شَرْطَ الْمُؤَامَرَةِ، فَهَلْ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ؟ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ، وَاللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا قَيَّدَ الْمُؤَامَرَةَ بِالثَّلَاثِ فَمَا دُونَهَا. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ الْإِطْلَاقُ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ، كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُوَكَّلَ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُوَكَّلِ فَقَطْ، وَلِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْمُوَكَّلِ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ. وَطَرَّدَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْوَجْهَيْنِ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ أَيْضًا. وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا لِلْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ شَرْطُهُ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ خَالَفَ بَطَلَ الْعَقْدُ. وَإِذَا شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ، وَجَوَّزْنَاهُ، أَوْ أَذِنَ فِيهِ صَرِيحًا، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، وَلَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلْمُوَكَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ الْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ، لَا يَلْزَمُهُ رِعَايَةُ الْحَظِّ، هَكَذَا ذَكَرُوهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَجْعَلَ شَرْطَ الْخِيَارِ لَهُ ائْتِمَانًا، وَهَذَا أَظْهَرُ إِذَا جَعَلْنَاهُ نَائِبًا عَنِ الْعَاقِدِ. ثُمَّ هَلْ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ الْخِيَارُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا إِذَا شَرَطَ لِلْأَجْنَبِيِّ، هَلْ يَثْبُتُ لِلْعَاقِدِ؟ وَحَكَى الْإِمَامُ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ الْوَكِيلُ شَرْطَ الْخِيَارِ بِالْإِذْنِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْمُوَكِّلِ، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ أَوْ لِلْمُوَكَّلِ أَمْ لَهُمَا؟ قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لِلْوَكِيلِ. وَلَوْ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فَحَجَرَ عَلَى الْوَكِيلِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَمَنَعَهُ الْفَسْخَ وَالْإِجَازَةَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ كَلَامًا مَعْنَاهُ: أَنَّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الِامْتِثَالُ، وَيَنْقَطِعُ خِيَارُ الْوَكِيلِ، قَالَ: وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ رُجُوعُ الْخِيَارِ إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ. وَالثَّانِي: لَا يَمْتَثِلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ السَّبَبِ السَّابِقِ، وَهُوَ الْبَيْعُ، وَلَكِنَّهُ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ شَأْنَ الْوَكَالَةِ الَّتِي مُقْتَضَاهَا امْتِثَالُ قَوْلِ الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا الثَّانِي أَرْجَحُ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْغَزَالِيِّ

فصل

فِي «الْبَسِيطِ» «وَالْوَسِيطِ» . وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَتُهُ مُوهِمَةً إِثْبَاتَ خِلَافٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ مِلْكُ الْمَبِيعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ لِمَنْ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا، لِلْمُشْتَرِي، وَالْمِلْكُ فِي الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ. وَالثَّانِي: لِلْبَائِعِ، وَالْمِلْكُ فِي الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي. وَالثَّالِثُ: مَوْقُوفٌ. فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، بَانَ حُصُولُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْبَيْعِ، وَإِلَّا بَانَ أَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لَمْ يَزَلْ. وَكَذَا يُتَوَقَّفُ فِي الثَّمَنِ. وَفِي مَوْضِعِ الْأَقْوَالِ طُرُقٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، إِمَّا بِالشَّرْطِ، وَإِمَّا بِالْمَجْلِسِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا، فَهُوَ مَالِكُ الْمَبِيعِ، لِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، فَالْمِلْكُ لَهُ. وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي، فَلَهُ. وَإِنْ كَانَ لَهُمَا، فَمَوْقُوفٌ. وَتُنَزَّلُ الْأَقْوَالُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَالثَّالِثُ: طَرْدُ الْأَقْوَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، مِنْهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالْحَلِيمِيُّ. وَأَمَّا الْأَظْهَرُ مِنَ الْأَقْوَالِ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ: الْأَظْهَرُ: أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ. وَقَالَ آخَرُونَ، الْأَظْهَرُ: الْوَقْفُ، وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» ، وَالْأَشْبَهُ: تَوَسُّطٌ. ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، فَالْأَظْهَرُ: بَقَاءُ الْمِلْكِ لَهُ. وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي، فَالْأَظْهَرُ: انْتِقَالُهُ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُمَا، فَالْأَظْهَرُ: الْوَقْفُ. التَّفْرِيعُ. لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا: مَا يُذْكَرُ فِي أَبْوَابِهِ.

وَمِنْهَا: مَا يُذْكَرُ هُنَا. فَمِنْ ذَلِكَ كَسْبُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ الْمَبِيعَيْنِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ أَوْ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْبَائِعِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: الْكَسْبُ لِلْبَائِعِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ عِنْدَ حُصُولِهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: لِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ، أَوْ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لِلْمُشْتَرِي. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لِلْبَائِعِ. وَفِي مَعْنَى الْكَسْبِ: اللَّبَنُ، وَالثَّمَرَةُ، وَالْبَيْضُ، وَمَهْرُ الْجَارِيَةِ إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ. وَمِنْهُ النِّتَاجُ، فَإِنْ فُرِضَ حُدُوثُ الْوَلَدِ وَانْفِصَالُهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِامْتِدَادِ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ كَالْكَسْبِ. وَإِنْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ أَوِ الْبَهِيمَةُ حَامِلًا عِنْدَ الْبَيْعِ، وَوَلَدَتْ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَأَعْضَائِهَا. فَعَلَى هَذَا هُوَ كَالْكَسْبِ بِلَا فَرْقٍ. وَأَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ بِيعَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ مَعَ الْأُمِّ. فَعَلَى هَذَا، الْحَمْلُ مَعَ الْأُمِّ كَعَيْنَيْنِ بِيعَتَا مَعًا. فَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَهُمَا لِلْبَائِعِ، وَإِلَّا فَلِلْمُشْتَرِي. وَمِنْهُ الْعِتْقُ، فَإِذَا أَعْتَقَ الْبَائِعُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ لَهُمَا أَوْ لِلْبَائِعِ، نَفَذَ إِعْتَاقُهُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، لَمْ يَنْفُذْ إِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ، وَكَذَا إِنْ تَمَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَالْعِتْقُ أَيْضًا مَوْقُوفٌ، فَإِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، بَانَ نُفُوذُهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، فَفِي الْعِتْقِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: لَا يَنْفُذُ، صِيَانَةً لِحَقِّ الْبَائِعِ عَنِ الْإِبْطَالِ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يَنْفُذُ، لِمُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ. ثُمَّ قِيلَ بِالنُّفُوذِ عَنْهُ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، فَيَنْفُذُ، أَوْ مُعْسِرًا، فَلَا يَنْفُذُ، كَالْمَرْهُونِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفُذُ، فَاخْتَارَ الْبَائِعُ الْإِجَارَةَ، فَفِي الْحُكْمِ بِنُفُوذِهِ الْآنَ وَجْهَانِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَنْفُذُ، فَمِنْ

وَقْتِ الْإِجَازَةِ أَمِ الْإِعْتَاقِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ. وَإِنْ قُلْنَا بِوَجْهِ ابْنِ سُرَيْجٍ، فَفِي بُطْلَانِ خِيَارِ الْبَائِعِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الثَّمَنُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَبْطُلُ، لَكِنْ لَا يُرَدُّ الْعِتْقُ، بَلْ إِذَا فَسَخَ أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ، كَنَظِيرِهِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، أَوْ لِلْبَائِعِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي، فَيُنَفَذُ إِعْتَاقُهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا مُصَادِفٌ مِلْكَهُ وَإِمَّا إِجَازَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، لَمْ يَنْفُذْ، تَمَّ الْبَيْعُ أَمْ فُسِخَ. وَيَجِيءُ فِيمَا لَوْ فُسِخَ الْوَجْهُ النَّاظِرُ إِلَى الْمَآلِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَقْفِ، لَمْ يَنْفُذْ إِنَّ تَمَّ الْبَيْعُ، وَإِلَّا نَفَذَ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لِلْبَائِعِ، فَإِنِ اتَّفَقَ الْفَسْخُ فَهُوَ نَافِذٌ، وَإِلَّا فَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَهُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لَازِمٌ، فَهُوَ كَإِعْتَاقِ الرَّاهِنِ. وَمِنْهُ: الْوَطْءُ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْبَائِعِ، فَفِي حِلِّهِ لِلْبَائِعِ طُرُقٌ. أَحَدُهَا: أَنَّا إِنْ جَعَلْنَا الْمِلْكَ لَهُ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَجْهُ الْحِلِّ: أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْفَسْخَ، وَفِي ذَلِكَ عَوْدُ الْمِلْكِ إِلَيْهِ مَعَهُ أَوْ قُبَيْلَهُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: إِنْ لَمْ نَجْعَلِ الْمِلْكَ لَهُ، فَحَرَامٌ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَجْهُ التَّحْرِيمِ: ضَعْفُ الْمِلْكِ، وَ [الطَّرِيقُ] الثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِالْحِلِّ مُطْلَقًا. وَالْمَذْهَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: الْحِلُّ، إِنْ جَعَلْنَا الْمِلْكَ لَهُ، وَالتَّحْرِيمُ، إِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ لَهُ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ بِحَالٍ. وَأَمَّا وَطْءُ الْمُشْتَرِي، فَحَرَامٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ مَلَكَ عَلَى قَوْلٍ، فَمِلْكٌ ضَعِيفٌ، وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ عَلَى الْأَقْوَالِ، لِوُجُودِ الْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ؟ إِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، فَلَا، إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْبَائِعِ، وَجَبَ الْمَهْرُ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجِبُ، نَظَرًا إِلَى الْمَآلِ. وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ وَجَبَ الْمَهْرُ لِلْبَائِعِ إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ أَوْ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، فَلَا مَهْرَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَوْلَدَهَا فَالْوَلَدُ حُرٌّ نَسِيبٌ عَلَى الْأَقْوَالِ. وَهَلْ يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ؟ إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، فَلَا. ثُمَّ إِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، أَوْ مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَفِي ثُبُوتِهِ حِينَئِذٍ قَوْلَانِ، كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ

غَيْرِهِ بِشُبْهَةٍ ثُمَّ مَلَكَهَا. وَعَلَى وَجْهِ النَّاظِرِ إِلَى الْمَآلِ، إِذَا تَمَّ الْبَيْعُ، نَفَذَ الِاسْتِيلَادُ بِلَا خِلَافٍ. وَعَلَى قَوْلِ الْوَقْفِ، إِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، بَانَ ثُبُوتُ الِاسْتِيلَادِ، وَإِلَّا فَلَا. فَلَوْ مَلَكَهَا يَوْمًا عَادَ الْقَوْلَانِ. وَعَلَى قَوْلِنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، فَفِي ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْعِتْقِ. فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَالِ وَتَمَّ الْبَيْعُ، بَانَ ثُبُوتُهُ. وَرَتَّبَ الْأَئِمَّةُ الْخِلَافَ فِي الِاسْتِيلَادِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعِتْقِ، فَقِيلَ: الِاسْتِيلَادُ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ. وَقِيلَ عَكْسُهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَبْعُدُ الْقَوْلُ بِالتَّسْوِيَةِ. وَالْقَوْلُ فِي وُجُوبِ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْمُشْتَرِي كَالْقَوْلِ فِي الْمَهْرِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، فَحُكْمُ حِلِّ الْوَطْءِ كَمَا سَبَقَ فِي حِلِّ الْوَطْءِ فِي طَرَفِ الْبَائِعِ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، أَوْ لَهُ. وَأَمَّا الْبَائِعُ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ هُنَا. فَلَوْ وَطِئَ، فَالْقَوْلُ فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ وَثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ وَوُجُوبِ الْقِيمَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي طَرَفِ الْمُشْتَرِي، إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، أَوْ لِلْبَائِعِ. فَرْعٌ إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، انْفَسَخَ أَيْضًا، فَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ، وَيَغَرُمُ لِلْبَائِعِ الْقِيمَةَ. وَفِي الْقِيمَةِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي كَيْفِيَّةِ غَرَامَةِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَامِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ مَوْقُوفٌ، فَوَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْفَسِخُ أَيْضًا، لِحُصُولِ الْهَلَاكِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْفَسِخُ، لِدُخُولِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ، وَلَا أَثَرَ لِوِلَايَةِ الْفَسْخِ كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالِانْفِسَاخِ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيمَةُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهُنَا يُقْطَعُ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ يَوْمِ التَّلَفِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ، فَهَلْ يَنْقَطِعُ الْخِيَارُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا يَنْقَطِعُ خِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ. وَأَصَحُّهُمَا:

لَا، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ التَّحَالُفُ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ، وَيُخَالِفُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ ; لِأَنَّ الضَّرَرَ ثَمَّ يَنْدَفِعُ بِالْأَرْشِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، اسْتَقَرَّ الْعَقْدُ وَلَزِمَ الثَّمَنُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَإِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، لَزِمَ الثَّمَنُ، وَإِلَّا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ. فَإِنْ تَنَازَعَا فِي تَعْيِينِ الْقِيمَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَطَعَ بِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ. وَذَكَرُوا تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ حَتَّى انْقَضَى زَمَنُ الْخِيَارِ، فَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيمَةُ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا تَخْلِيطٌ ظَاهِرٌ. فَرْعٌ لَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ وَأَتْلَفُهُ مُتْلِفٌ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ كَالتَّلَفِ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي أَوْ مَوْقُوفٌ، نُظِرَ، إِنْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، بُنِيَ عَلَى مَا لَوْ تَلَفَ. إِنْ قُلْنَا: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ هُنَاكَ، فَهُوَ كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَكَذَا هُنَا، وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ الْقِيمَةُ، وَالْخِيَارُ بِحَالِهِ. فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِلَّا فَلِلْبَائِعِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي، اسْتَقَرَّ الثَّمَنُ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَتْلَفَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَجَعَلْنَا إِتْلَافَهُ قَبْضًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَلَفَ فِي يَدِهِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَفِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى أَنَّ إِتْلَافَهُ كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، أَمْ كَالتَّلَفِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؟ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَرْعٌ لَوْ تَلَفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ الْقَبْضِ، بِأَنِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، فَفِي الِانْفِسَاخِ فِي التَّالِفِ الْخِيَارُ السَّابِقُ. فَإِنِ انْفَسَخَ جَاءَ فِي الِانْفِسَاخِ فِي الْبَاقِي قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَإِنْ لَمْ يَنْفَسِخْ، فَفِي خِيَارِهِ فِي الْبَاقِي، إِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ رَدُّ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ إِذَا اشْتَرَاهُمَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَإِلَّا فَفِي بَقَاءِ الْخِيَارِ فِي الْبَاقِي، الْوَجْهَانِ. وَإِذَا بَقِيَ الْخِيَارُ فِيهِ، فَفَسَخَ، رَدَّهُ مَعَ قِيمَةِ الْهَالِكِ. فَرْعٌ إِذَا قَبَضَ الْمَبِيعُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَتَلَفَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَلَفَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. حَتَّى إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ، يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ، وَيَغَرُمُ الْقِيمَةَ، حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ. ثُمَّ أَبْدَى احْتِمَالًا فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ لِحُصُولِ التَّلَفِ بَعْدَ الْعَوْدِ إِلَى يَدِ الْمَالِكِ. فَرْعٌ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ. فَلَوْ تَبَرَّعَ أَحَدُهُمَا بِالتَّسْلِيمِ، لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، وَلَا يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا عِنْدَهُ، وَلَهُ اسْتِرْدَادُ الْمَدْفُوعِ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ، وَلَهُ أَخَذَ مَا عِنْدَ صَاحِبِهِ دُونَ رِضَاهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

فصل

فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ خَاطَبَهَا بِالطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنْ تَمَّ الْعَقْدُ وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ مَوْقُوفٌ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْبَائِعِ، وَقَعَ. وَإِنْ فَسَخَ وَقُلْنَا: لِلْبَائِعِ أَوْ مَوْقُوفٌ، وَقَعَ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، فَوَجْهَانِ. وَلَيْسَ لَهُ الْوَطْءُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَطَأُ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالزَّوْجِيَّةِ؟ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ. وَفِي وَجْهٍ: لَهُ الْوَطْءُ. فَصْلٌ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَسْخُ وَالْإِجَازَةُ في البيع في زمن الخيار لَا يَخْفَى مَا يَحْصُلَانِ بِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، كَقَوْلِ الْبَائِعِ: فَسَخْتُ الْبَيْعَ، أَوِ اسْتَرْجَعْتُ الْمَبِيعَ، أَوْ رَدَدْتُ الثَّمَنَ. وَقَالَ الصَّيْمَرِيُّ: قَوْلُ الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ: لَا أَبِيعُ حَتَّى يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ، وَقَوْلُ الْمُشْتَرِي: لَا أَفْعَلُ، فَسْخٌ، وَكَذَا قَوْلُ الْمُشْتَرِي: لَا أَشْتَرِي حَتَّى تُنْقِصَ لِي مِنَ الثَّمَنِ، وَقَوْلُ الْبَائِعِ: لَا أَفْعَلُ، وَكَذَا طَلَبُ الْبَائِعِ حُلُولَ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَطَلَبُ الْمُشْتَرِي تَأْجِيلَ الثَّمَنِ الْحَالِّ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ، فَوَطْؤُهُ الْمَبِيعَةَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَسْخٌ عَلَى الصَّحِيحِ، لِإِشْعَارِهِ بِاخْتِيَارِ الْإِمْسَاكِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَكُونُ فَسْخًا. وَفِي وَجْهٍ: إِنَّمَا يَكُونُ

فَسَخًا إِذَا نَوَى بِهِ الْفَسْخَ. فَعَلَى الصَّحِيحِ، لَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ، لَا يَكُونُ فَسَخًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَذَا الرُّكُوبُ وَالِاسْتِخْدَامُ. وَقَطَعَ فِي «التَّهْذِيبِ» بِأَنَّ الْجَمِيعَ فَسْخٌ. فَرْعٌ إِعْتَاقُ الْبَائِعِ إِنْ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، فَسْخٌ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي بَيْعِهِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ فَسْخٌ. فَعَلَى هَذَا، فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ الْمَأْتِيِّ بِهِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، كَالْعِتْقِ. وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِي الْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ، وَكَذَا فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ إِنِ اتَّصَلَ بِهِمَا الْقَبْضُ، وَسَوَاءٌ وَهَبَ لِمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ، أَوْ يَتَمَكَّنُ، كَوَلَدِهِ. فَإِنْ تَجَرَّدَ الرَّهْنُ وَالْهِبَةُ عَنِ الْقَبْضِ، فَهُوَ كَالْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ إِذَا عَلِمَ الْبَائِعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَطَأُ الْجَارِيَةَ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ، هَلْ يَكُونُ مُجِيزًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ سَكَتَ عَلَى بَيْعِهِ وَإِجَارَتِهِ، وَكَمَا لَوْ سَكَتَ عَلَى وَطْءِ أَمَتِهِ، لَا يَسْقُطُ بِهِ الْمَهْرُ. وَلَوْ وَطِئَ بِالْإِذْنِ حَصَلَتِ الْإِجَازَةُ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُشْتَرِي مَهْرٌ وَلَاً قِيمَةُ وَلَدٍ، وَثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ قَطْعًا. وَمَا سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْمَاضِي مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْبَائِعُ فِي الْوَطْءِ وَلَا عَلِمَ بِهِ.

فَرْعٌ وَطْءُ الْمُشْتَرِي، هَلْ هُوَ إِجَازَةٌ مِنْهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَإِعْتَاقُهُ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ نَفَذَ وَحَصَلَتِ الْإِجَازَةُ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَإِلَّا فَفِي نُفُوذِهِ مَا سَبَقَ. فَإِنْ نَفَذَ حَصَلَتِ الْإِجَازَةُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْحُصُولُ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أَعْتَقَ وَهُوَ يَعْلَمُ عَدَمَ نُفُوذِهِ، لَمْ يَكُنْ إِجَازَةً قَطْعًا. وَإِنْ بَاعَ، أَوْ وَقَفَ، أَوْ وَهَبَ وَأُقْبِضَ بِغَيْرِ إِذَنِ الْبَائِعِ لَمْ يَنْفُذْ قَطْعًا، وَلَكِنْ يَكُونُ إِجَازَةً عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ بَاشَرَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِإِذْنِ الْبَائِعِ، أَوْ بَاعَ لِلْبَائِعِ نَفْسِهِ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، يَلْزَمُ الْبَيْعُ، وَيَسْقُطُ الْخِيَارُ. وَقِيَاسُ مَا سَبَقَ: أَنَّا إِذَا لَمْ نُنْفِذْهَا، كَانَ سُقُوطُ الْخِيَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْبَائِعُ فِي طَحْنِ الْحِنْطَةِ الْمَبِيعَةِ، فَطَحَنَهَا، كَانَ مُجِيزًا. وَمُجَرَّدُ الْإِذْنِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، لَا يَكُونُ إِجَازَةً مِنَ الْبَائِعِ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ، كَانَ عَلَى خِيَارِهِ، ذَكَرَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ. فَرْعٌ فِي الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْإِذْنِ وَالتَّوْكِيلِ فِيهِ وَجْهَانِ وَكَذَا فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ دُونَ الْقَبْضِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كُلَّهَا فَسْخٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، وَإِجَازَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ فَسْخًا، وَلَا إِجَازَةً. وَلَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْبَائِعِ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْهِبَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْقَبْضِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ، فَفِيهِ احْتِمَالٌ؛ لِأَنَّهُ أَبْقَى لِنَفْسِهِ مُسْتَدْرَكًا.

فَرْعٌ اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا مَعًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، عَتَقَتِ الْجَارِيَةُ، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ إِعْتَاقَ الْبَائِعِ نَافِذٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْفَسْخِ، وَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَى وَإِنْ جَعَلْنَا الْمِلْكَ فِيهِ لِمُشْتَرِيهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ صَاحِبِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِنَفَاذِ إِعْتَاقِ الْمُشْتَرَى، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، يَعْتِقُ الْعَبْدُ، وَلَا تَعْتِقُ الْجَارِيَةُ. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِمُشْتَرِي الْعَبْدِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يَعْتِقُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ إِجَازَةٌ. وَالْأَصْلُ: اسْتِمْرَارُ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: تَعْتِقُ الْجَارِيَةُ ; لِأَنَّ عِتْقَهَا فَسْخٌ، فَقُدِّمَ عَلَى الْإِجَازَةِ. وَلِهَذَا لَوْ فَسَخَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَأَجَازَ الْآخَرُ، قُدِّمَ الْفَسْخُ. وَالثَّالِثُ: لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِبَائِعِ الْعَبْدِ وَحْدَهُ، فَالْمُعْتِقُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعَبْدِ مُشْتَرٍ، وَالْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ، وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجَارِيَةِ بَائِعٌ. وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِي إِعْتَاقِهِمَا وَالَّذِي يُفْتَى بِهِ: أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَالِ. فَإِنْ فَسَخَ صَاحِبُهُ، نَفَذَ فِي الْجَارِيَةِ، وَإِلَّا فَفِي الْعَبْدِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَأَعْتَقَهُمَا مُشْتَرِي الْجَارِيَةِ، فَقِسِ الْحُكْمَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقُلْ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، عَتَقَ الْعَبْدُ دُونَ الْجَارِيَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ وَحْدَهُ، فَعَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ. فِي الْأَوَّلِ: يُعْتَقُ الْعَبْدُ، وَفِي الثَّانِي: الْجَارِيَةُ، وَلَا يَخْفَى الثَّالِثُ.

باب خيار النقيصة.

بَابُ خِيَارِ النَّقِيصَةِ. هُوَ مَنُوطٌ بِفَوَاتِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَانَ يَظُنُّ حُصُولَهُ، وَذَلِكَ الظَّنُّ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. أَوَّلُهَا: شَرْطُ كَوْنِهِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَثَانِيهَا: اطِّرَادُ الْعُرْفِ بِحُصُولِهَا فِيهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَفْعَلَ الْعَاقِدُ مَا يُورِثُ ظَنَّ حُصُولَهَا. فَالْأَوَّلُ: [مِنْ أَسْبَابِ الظَّنِّ] : كَقَوْلِهِ: بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِشَرْطِ كَوْنِهِ كَاتِبًا. وَالصِّفَاتُ الْمُلْتَزَمَةُ بِالشَّرْطِ، قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مَقْصُودٌ، فَالْخُلْفُ فِيهَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ وِفَاقًا، أَوْ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَذَلِكَ بِحَسْبَ قُوَّةِ الْغَرَضِ وَضَعْفِهِ. وَالثَّانِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مَقْصُودٌ، فَاشْتِرَاطُهُ لَغْوٌ، وَلَا خِيَارَ بِفَقْدِهِ. فَإِذَا شَرَطَ كَوْنَ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ خَبَّازًا أَوْ صَائِغًا، فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَيَكْفِي أَنْ يُوجَدَ مِنَ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَلَا تُشْتَرَطُ النِّهَايَةُ فِيهَا. وَلَوْ شَرَطَ إِسْلَامَ الْعَبْدِ، فَبَانَ كَافِرًا، أَوْ شَرَطَ كَوْنَ الْجَارِيَةِ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً، فَبَانَتْ مَجُوسِيَّةً، ثَبَتَ الْخِيَارُ. وَلَوْ شَرَطَ كُفْرَهُ، فَبَانَ مُسْلِمًا، ثَبَتَ الْخِيَارُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ، أَوْ فِي نَاحِيَةٍ أَغْلَبُ أَهْلِهَا الذِّمِّيُّونَ، ثَبَتَ الْخِيَارُ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا خِيَارَ أَصْلًا. وَلَوْ شَرَطَ بَكَارَةَ الْجَارِيَةِ، فَبَانَتْ ثَيِّبًا، فَلَهُ الرَّدُّ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُزَوَّجَةً، أَمْ لَا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا خِيَارَ إِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً ; لِأَنَّ الِافْتِضَاضَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُهَا. وَلَوْ شَرَطَ ثِيابَتَهَا، فَبَانَتْ بِكْرًا، أَوْ شَرَطَ سُبُوطَةَ شَعْرِهَا، فَبَانَ جَعْدًا، فَلَا خِيَارَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا أَفْضَلُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ كَوْنَ الْعَبْدِ أُمِّيًّا، فَبَانَ كَاتِبًا، أَوْ كَوْنَهُ فَاسِقًا، فَبَانَ عَفِيفًا. وَلَوْ شَرَطَ الْجُعُودَةَ، فَبَانَ سِبْطًا، ثَبَتَ الْخِيَارُ. وَلَوْ شَرَطَ كَوْنَ الْعَبْدِ خَصِيًّا، فَبَانَ فَحْلًا

أَوْ عَكْسَهُ، فَلَهُ الرَّدُّ، لِشِدَّةِ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ. وَقِيلَ: لَا رَدَّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَلَوْ شَرَطَ كَوْنَهُ مَخْتُونًا، فَبَانَ أَقْلَفَ، فَلَهُ الرَّدُّ، وَبِالْعَكْسِ لَا رَدَّ. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجُوسِيًّا. وَهُنَاكَ مَجُوسٌ يَشْتَرُونَ الْأَقْلَفَ بِزِيَادَةٍ، فَلَهُ الرَّدُّ. وَلَوْ شَرَطَ كَوْنَهُ أَحْمَقَ أَوْ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ، فَهُوَ لَغْوٌ. وَخِيَارُ الْخُلْفِ عَلَى الْفَوْرِ، فَيَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ كَمَا سَنَذْكُرُ فِي الْعَيْبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِهَلَاكٍ وَغَيْرِهِ، فَلَهُ الْأَرْشُ كَمَا فِي الْعَيْبِ. وَمَسَائِلُ الْفَصْلِ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الشَّرْطِ لَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ. وَحُكِيَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يُفْسِدُهُ. الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ الظَّنِّ: اطِّرَادُ الْعُرْفِ. فَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا، فَلَهُ الرَّدُّ. وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا يَعْلَمُ بِهِ عَيْبًا وَجَبَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ لِلْمُشْتَرِي. قُلْتُ: وَيَجِبُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ الْبَائِعِ مِمَّنْ عَلِمَهُ إِعْلَامُ الْمُشْتَرِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَمِنَ الْعُيُوبِ: الْخِصَاءُ، وَالْجَبُّ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ فِي الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَالْإِبَاقُ، وَالْبَخَرُ وَالصُّنَانُ فِيهِمَا. وَالْبَخَرُ الَّذِي هُوَ عَيْبٌ، هُوَ النَّاشِئُ مِنْ تَغَيُّرِ الْمَعِدَةِ، دُونَ مَا يَكُونُ لِقَلَحِ الْأَسْنَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَزُولُ بِتَنْظِيفِ الْفَمِ. وَالصُّنَانُ الَّذِي هُوَ عَيْبٌ، هُوَ الْمُسْتَحْكِمُ الَّذِي يُخَالِفُ الْعَادَةَ، دُونَ مَا يَكُونُ لِعَارِضِ عَرَقٍ، أَوْ حَرَكَةٍ عَنِيفَةٍ، أَوِ اجْتِمَاعِ وَسَخٍ. وَنَصَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ زَنَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَلِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ حَالُهُ ; لِأَنَّ تُهْمَةَ الزِّنَا لَا تَزُولُ، وَلِهَذَا لَا يَعُودُ إِحْصَانُ الْحُرِّ الزَّانِي بِالتَّوْبَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ، يَكْفِي فِي كَوْنِهِمَا عَيْبًا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَمِنَ الْعُيُوبِ: كَوْنُ الدَّارِ أَوِ الضَّيْعَةِ مَنْزِلَ الْجُنْدِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ: هَذَا إِذَا اخْتُصَّتْ مِنْ بَيْنِ مَا حَوَالَيْهَا بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مَا حَوَالَيْهَا مِنَ الدُّورِ بِمَثَابَتِهَا، فَلَا رَدَّ، وَكَوْنُهَا ثَقِيلَةَ الْخَرَاجِ عَيْبٌ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَرَى أَصْلَ الْخَرَاجِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، لِتَفَاوُتِ الْقِيمَةِ

وَالرَّغْبَةِ. وَنَعْنِي بِثِقَلِ الْخَرَاجِ كَوْنَهُ فَوْقَ الْمُعْتَادِ فِي أَمْثَالِهَا. وَفِي وَجْهٍ: لَا رَدَّ بِثِقَلِ الْخَرَاجِ، وَلَا بِكَوْنِهَا مَنْزِلَ الْجُنْدِ. وَأَلْحَقَ فِي «التَّتِمَّةِ» بِهَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ، مَا إِذَا اشْتَرَى دَارًا، فَوَجَدَ بِقُرْبِهَا قَصَّارِينَ يُؤْذُونَ بِصَوْتِ الدَّقِّ، وَيُزَعْزِعُونَ الْأَبْنِيَةَ، أَوْ أَرْضًا فَوَجَدَ بِقُرْبِهَا خَنَازِيرَ تُفْسِدُ الزَّرْعَ. وَلَوِ اشْتَرَى أَرْضًا يَتَوَهَّمُ أَنْ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، فَبَانَ خِلَافُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِثْلِهَا خَرَاجٌ، فَلَهُ الرَّدُّ. وَإِنْ كَانَ عَلَى مِثْلِهَا ذَلِكَ الْقَدْرُ، فَلَا رَدَّ. وَبَوْلُ الرَّقِيقِ فِي الْفِرَاشِ، عَيْبٌ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ. أَمَّا فِي الصِّغَرِ، فَلَا. وَقَدَّرَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» بِمَا دُونَ سَبْعِ سِنِينَ. وَالْأَصَحُّ: اعْتِبَارُ مَصِيرِهِ عَادَةً. وَمِنَ الْعُيُوبِ: مَرَضُ الرَّقِيقِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، سِوَى الْمَرَضِ الْمَخُوفِ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهَا: كَوْنُ الرَّقِيقِ مَجْنُونًا، أَوْ مُخَبَّلًا، أَوْ أَبْلَهَ، أَوْ أَبْرَصَ، أَوْ مَجْذُومًا، أَوْ أَشَلَّ، أَوْ أَقْرَعَ، أَوْ أَصَمَّ، أَوْ أَعْمَى، أَوْ أَعْوَرَ، أَوْ أَخْفَشَ، أَوْ أَجْهَرَ، أَوْ أَعْشَى، أَوْ أَخْشَمَ، أَوْ أَبْكَمَ، أَوْ أَرَتَّ لَا يُفْهِمُ، أَوْ فَاقِدَ الذَّوْقِ أَوْ أُنْمُلَةٍ أَوِ الشَّعْرِ أَوِ الظُّفْرِ، أَوْ لَهُ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، أَوْ سِنٌّ شَاغِيَةٌ، أَوْ مَقْلُوعَ بَعْضِ الْأَسْنَانِ، وَكَوْنُ الْبَهِيمَةِ دَرْدَاءَ، إِلَّا فِي السَّنِّ الْمُعْتَادِ، وَكَوْنُهُ ذَا قُرُوحٍ أَوْ ثَآلِيلٍ كَثِيرَةٍ، أَوْ بَهَقٍ، أَوْ أَبْيَضَ الشَّعْرِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، وَلَا بَأْسَ بِحُمْرَتِهِ. قُلْتُ: الْبَهَقُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْهَاءِ - وَهُوَ بَيَاضٌ يَعْتَرِي الْجِلْدَ يُخَالِفُ لَوْنَهُ، لَيْسَ بِبَرَصٍ. وَأَمَّا السِّنُّ الشَّاغِيَةُ، فَهِيَ الزَّائِدَةُ الْمُخَالِفَةُ لِنَبَاتِ الْأَسْنَانِ. وَالْأَخْفَشُ، نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: ضَعِيفُ الْبَصَرِ خِلْقَةً. وَالثَّانِي: يَكُونُ بِعِلَّةٍ حَدَثَتْ، وَهُوَ الَّذِي يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، وَفِي يَوْمِ الْغَيْمِ دُونَ الصَّحْوِ، وَكِلَاهُمَا عَيْبٌ. وَأَمَّا الْأَجْهَرُ - بِالْجِيمِ - فَهُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ فِي الشَّمْسِ. وَالْأَعْشَى: هُوَ الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ، وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ. وَالْمَرْأَةُ عَشْوَاءُ. وَالْأَخْشَمُ: الَّذِي فِي أَنْفِهِ دَاءٌ لَا يَشُمُّ شَيْئًا. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْأَرَتِّ فِي صِفَةِ الْأَئِمَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: كَوْنُهُ نَمَّامًا، أَوْ سَاحِرًا، أَوْ قَاذِفًا لِلْمُحْصَنَاتِ، أَوْ مُقَامِرًا، أَوْ تَارِكًا

لِلصَّلَوَاتِ، أَوْ شَارِبًا لِلْخَمْرِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَا رَدَّ بِالشُّرْبِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا: كَوْنُهُ خُنْثَى مُشْكِلًا، أَوْ غَيْرَ مُشْكِلٍ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: إِنْ كَانَ رَجُلًا وَيَبُولُ مِنْ فَرْجِ الرِّجَالِ، فَلَا رَدَّ وَمِنْهَا: كَوْنُ الْعَبْدِ مُخَنَّثًا، أَوْ مُمَكِّنًا مِنْ نَفْسِهِ، وَكَوْنُ الْجَارِيَةِ رَتْقَاءَ، أَوْ قَرْنَاءَ، أَوْ مُسْتَحَاضَةً، أَوْ مُعْتَدَّةً، أَوْ مُحْرِمَةً، أَوْ مُزَوَّجَةً، وَكَوْنُ الْعَبْدِ مُزَوَّجًا. وَفِي التَّزْوِيجِ، وَجْهٌ ضَعِيفٌ. قُلْتُ: إِذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّ لَهُ تَحْلِيلَهُ، كَالْبَائِعِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِمَا، وَلَا رَدَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ. وَمِنْهَا: كَوْنُهُمَا مُرْتَدَّيْنِ، فَلَوْ بَانَا كَافِرَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ، فَقِيلَ: لَا رَدَّ، لَا فِي الْعَبْدِ، وَلَا فِي الْإِمَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، كَالتَّمَجُّسِ وَالتَّوَثُّنِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَالتَّهَوُّدِ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» . وَالْأَصَحُّ مَا فِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ الْجَارِيَةَ مَجُوسِيَّةً أَوْ وَثَنِيَّةً، فَلَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ وَجَدَهَا كِتَابِيَّةً، أَوْ وَجَدَ الْعَبْدَ كَافِرًا أَيَّ كُفْرٍ كَانَ، فَلَا رَدَّ إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ، بِحَيْثُ لَا تَقِلُّ الرَّغْبَةُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، حَيْثُ تَقِلُّ الرَّغْبَةُ فِي الْكَافِرِ وَتَنْقُصُ قِيمَتُهُ، فَلَهُ الرَّدُّ. وَلَوْ وَجَدَ الْجَارِيَةَ لَا تَحِيضُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَوْ آيِسَةً، فَلَا رَدَّ. وَإِنْ كَانَتْ فِي سِنٍّ تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا، فَلَهُ الرَّدُّ. وَلَوْ تَطَاوَلَ طُهْرُهَا وَجَاوَزَ الْعَادَاتِ الْغَالِبَةَ، فَلَهُ الرَّدُّ. وَالْحَمْلُ فِي الْجَارِيَةِ عَيْبٌ وَفِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ، لَيْسَ بِعَيْبٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : عَيْبٌ. وَمِنَ الْعُيُوبِ: كَوْنُ الدَّابَّةِ جَمُوحًا، أَوْ عَضُوضًا، أَوْ رَمُوحًا، وَكَوْنُ الْمَاءِ مُشَمَّسًا، وَالرَّمْلِ تَحْتَ الْأَرْضِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا تُطْلَبُ لِلْبِنَاءِ. وَالْأَحْجَارُ إِنْ كَانَتْ مِمَّا تُطْلَبُ لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ. وَلَيْسَتْ حُمُوضَةُ الرُّمَّانِ بِعَيْبٍ، بِخِلَافِ الْبَطِّيخِ.

فَرْعٌ لَا رَدَّ بِكَوْنِ الرَّقِيقِ رَطْبَ الْكَلَامِ، أَوْ غَلِيظَ الصَّوْتِ، أَوْ سَيِّئَ الْأَدَبِ، أَوْ وَلَدَ زِنَا، أَوْ مُغَنِّيًا، أَوْ حَجَّامًا، أَوْ أَكُولًا، أَوْ قَلِيلَ الْأَكْلِ. وَتُرَدُّ الدَّابَّةُ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ. وَلَا بِكَوْنِ الْأَمَةِ ثَيِّبًا، إِلَّا إِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً وَالْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهَا الْبَكَارَةُ، وَلَا بِكَوْنِهَا عَقِيمًا، وَكَوْنِ الْعَبْدِ عِنِّينًا. وَعَنِ الصَّيْمَرِيِّ، إِثْبَاتُ الرَّدِّ بِالتَّعْنِينِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ. وَلَا بِكَوْنِ الْأَمَةِ مَخْتُونَةً، أَوْ غَيْرَ مَخْتُونَةٍ، وَلَا بِكَوْنِ الْعَبْدِ مَخْتُونًا، أَوْ غَيْرَ مَخْتُونٍ، إِلَّا إِذَا كَانَ كَبِيرًا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الْخِتَانِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا تُسْتَثْنَى هَذِهِ الْحَالَةُ أَيْضًا. وَلَا بِكَوْنِ الرَّقِيقِ مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا بِكَوْنِ الْأَمَةِ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوِ النَّسَبِ، أَوْ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ، أَوِ ابْنِهِ، بِخِلَافِ الْمُحْرِمَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ ; لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَاكَ عَامٌّ، فَتَقِلُّ الرَّغْبَةُ، وَهُنَا خَاصٌّ بِهِ. وَفِي وَجْهٍ: يُلْحِقُ مَا نَحْنُ فِيهِ بِالْمُحْرِمَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ. وَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهَا صَائِمَةً عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: بَاطِلٌ. وَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا، فَبَانَ أَنَّ بَائِعَهُ بَاعَهُ بِوَكَالَةٍ، أَوْ وِصَايَةٍ، أَوْ وِلَايَةٍ، أَوْ أَمَانَةٍ، فَهَلْ لَهُ الرَّدُّ لِخَطَرِ فَسَادِ النِّيَابَةِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: [أَنَّهُ] لَا رَدَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَانَ كَوْنُ الْعَبْدِ مَبِيعًا فِي جِنَايَةِ عَمْدٍ، وَقَدْ تَابَ عَنْهَا، فَوَجْهَانِ. فَإِنْ لَمْ يَتُبْ، فَعَيْبٌ. وَجِنَايَةُ الْخَطَأِ، لَيْسَتْ بِعَيْبٍ، إِلَّا أَنْ يَكْثُرَ.

فَرْعٌ مِنَ الْعُيُوبِ: نَجَاسَةُ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ يَنْقُصُ بِالْغَسْلِ. وَمِنْهَا: خُشُونَةُ مَشْيِ الدَّابَّةِ، بِحَيْثُ يُخَافُ مِنْهَا السُّقُوطُ، وَشُرْبُ الْبَهِيمَةِ لَبَنَ نَفْسِهَا. فَرْعٌ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدِ بْنُ أَحْمَدَ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِأَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ، فَصْلًا فِي عُيُوبِ الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي. مِنْهَا: اصْطِكَاكُ الْكَعْبَيْنِ، وَانْقِلَابُ الْقَدَمَيْنِ إِلَى الْوَحْشِيِّ، وَالْخِيلَانُ الْكَثِيرَةُ، وَآثَارُ الشِّجَاجِ وَالْقُرُوحِ وَالْكَيِّ، وَسَوَادُ الْأَسْنَانِ، وَالْكَلَفُ الْمُغَيِّرُ لِلْبَشَرَةِ، وَذَهَابُ الْأَشْفَارِ، وَكَوْنُ أَحَدِ ثَدْيَيِ الْجَارِيَةِ أَكْبَرَ مِنَ الْآخَرِ، وَالْحَفْرُ فِي الْأَسْنَانِ، وَهُوَ تَرَاكُمُ الْوَسَخِ الْفَاحِشِ فِي أُصُولِهَا. قُلْتُ: فِي فَتَاوِي الْغَزَالِيِّ: إِذَا اشْتَرَى أَرْضًا، فَبَانَ أَنَّهَا تَنُزُّ إِذَا زَادَتْ دِجْلَةٌ، وَتَضُرُّ بِالزَّرْعِ، فَلَهُ الرَّدُّ إِنْ قَلَّتِ الرَّغْبَةُ بِسَبَبِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا مَا حَضَرَ ذِكْرُهُ مِنَ الْعُيُوبِ، وَلَا مَطْمَعَ فِي اسْتِيعَابِهَا. فَإِنْ أَرَدْتَ ضَبْطًا، فَأَشَدُّ الْعِبَارَاتِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: يَثْبُتُ الرَّدُّ بِكُلِّ مَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ مُنَقِّصِ الْعَيْنِ، أَوِ الْقِيمَةِ تَنْقِيصًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي أَمْثَالِهِ عَدَمَهُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا نَقْصَ الْعَيْنِ لِمَسْأَلَةِ الْخِصَاءِ. وَإِنَّمَا لَمْ نَكْتَفِ بِنَقْصِ الْعَيْنِ، بَلْ شَرَطْنَا فَوَاتَ غَرَضٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ مِنْ فَخْذِهِ أَوْ سَاقِهِ قِطْعَةً يَسِيرَةً لَا تُورِثُ شَيْنًا وَلَا تُفَوِّتُ غَرَضًا، لَا يَثْبُتُ الرَّدُّ. وَلِهَذَا قَالَ

فصل

صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: إِنْ قَطَعَ مِنْ أُذُنِ الشَّاةِ مَا يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ، ثَبَتَ الرَّدُّ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ ; لِأَنَّ الثَّيَابَةَ مَثَلًا فِي الْإِمَاءِ، مَعْنًى يُنْقِصُ الْقِيمَةَ، لَكِنْ لَا رَدَّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَالِبُ فِيهِنَّ عَدَمَ الثَّيَابَةِ. فَصْلٌ الْعَيْبُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْبَيْعِ، فَيَثْبُتُ بِهِ الرَّدُّ، وَإِلَى مَا حَدَثَ بَعْدَهُ، فَيُنْظَرُ: إِنْ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَكَمِثْلٍ. وَإِنْ حَدَثَ بَعْدَهُ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَسْتَنِدَ إِلَى سَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْقَبْضِ، فَلَا رَدَّ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَنِدَ، وَفِيهِ صِوَرٌ. إِحْدَاهَا: بَيْعُ الْمُرْتَدِّ صَحِيحٌ عَلَى الصَّحِيحِ، كَالْمَرِيضِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَصِحُّ كَالْجَانِي. وَأَمَّا الْقَاتِلُ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَإِنْ تَابَ قَبْلَ الظَّفَرِ بِهِ، فَبَيْعُهُ كَبَيْعِ الْجَانِي، لِسُقُوطِ الْعُقُوبَةِ الْمُتَحَتِّمَةِ. وَكَذَا إِنْ تَابَ بَعْدَ الظَّفَرِ وَقُلْنَا بِسُقُوطِ الْعُقُوبَةِ، وَإِلَّا فَثَلَاثُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ كَالْمُرْتَدِّ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، إِذْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِاسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ قَدْ يُسْلِمُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَبَيْعِ الْجَانِي. فَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ أَوِ الْمُحَارِبِ أَوِ الْجَانِي جِنَايَةٌ تُوجِبُ الْقِصَاصَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، وَكَانَ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا بِحَالِهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَتَعَلُّقُ الْقَتْلِ بِهِ كَالْعَيْبِ. فَإِذَا هَلَكَ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالْأَرْشِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُسْتَحِقَّ الْقَتْلِ وَغَيْرَ مُسْتَحِقِّهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَيَخْرُجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مُؤْنَةِ تَجْهِيزِهِ مِنَ الْكَفَنِ وَالدَّفْنِ وَغَيْرِهِمَا. فَفِي الْأَوَّلِ: هِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَفِي الثَّانِي: عَلَى الْبَائِعِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحَالِ عِنْدَ الشِّرَاءِ،

أَوْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَرُدَّ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ. وَعَلَى الثَّانِي: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، لِدُخُولِهِ فِي الْعَقْدِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَإِمْسَاكِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» : كُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ، فَعَلَى مُتْلِفِهِ الْقِيمَةُ، إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ، وَهُوَ الْعَبْدُ الْمُرْتَدُّ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا قَيِمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ. قَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا صَحِيحٌ، لَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْإِتْلَافِ. قَالَ: وَكَذَا الْعَبْدُ إِذَا قَتَلَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ، فَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْقَتْلِ. قَالَ: فَهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا قَيِمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ، فَهَذِهِ صُورَةٌ ثَانِيَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: بَيْعُ مَنْ وَجَبَ قَطْعُهُ بِقِصَاصٍ أَوْ سَرِقَةٍ، صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ. فَلَوْ قُطِعَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، عَادَ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ. فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِحَالِهِ حَتَّى قُطِعَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ، لِكَوْنِ الْقَطْعِ مِنْ ضَمَانِهِ، لَكِنْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالْأَرْشِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُسْتَحِقَّ الْقَطْعِ وَغَيْرَ مُسْتَحِقِّهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَعَلَى الْأَصَحِّ: لَهُ الرَّدُّ وَاسْتِرْجَاعُ جَمِيعِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ قُطِعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ. فَلَوْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِسَبَبٍ، فَالنَظَرُ فِي الْأَرْشِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْعَبْدِ سَلِيمًا وَأَقْطَعَ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا، فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ وَلَا الْأَرْشُ. الثَّالِثَةُ: إِذَا اشْتَرَى مُزَوَّجَةً لَمْ يَعْلَمْ حَالَهَا حَتَّى وَطِئَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَلَهُ الرَّدُّ. وَإِنَّ كَانَتْ بِكْرًا، فَنَقْصُ الِافْتِضَاضِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. إِنْ جَعَلْنَاهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَلِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ بِكَوْنِهَا مُزَوَّجَةً. فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِسَبَبٍ، رَجَعَ بِالْأَرْشِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا بِكْرًا غَيْرَ مُزَوَّجَةٍ وَمُزَوَّجَةً مُفْتَضَّةً مِنَ الثَّمَنِ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَلَا رَدَّ لَهُ، وَلَهُ الْأَرْشُ، وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا بِكْرًا غَيْرَ مُزَوَّجَةٍ وَبِكْرًا مُزَوَّجَةً مِنَ الثَّمَنِ.

وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِزَوَاجِهَا، أَوْ عَلِمَ وَرَضِيَ، فَلَا رَدَّ لَهُ. فَإِنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَدِيمًا بَعْدَمَا افْتُضَّتْ فِي يَدِهِ، فَلَهُ الرَّدُّ إِنْ جَعَلْنَاهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَإِلَّا رَجَعَ بِالْأَرْشِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا مُزَوَّجَةً ثَيِّبًا سَلِيمَةً وَمِثْلِهَا مَعِيبَةً. الرَّابِعَةُ: لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا مَرِيضًا، وَاسْتَمَرَّ مَرَضُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَلِيمِيُّ. وَأَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ; لِأَنَّ الْمَرَضَ يَتَزَايَدُ، وَالرِّدَّةُ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ وُجِدَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ كَانَ جَاهِلًا، رَجَعَ بِالْأَرْشِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَمَرِيضًا. وَتَوَسَّطَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، فَقَطَعَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ مَخُوفًا، بِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَجَعَلَ الْمَرَضَ الْمَخُوفَ وَالْجُرْحَ السَّارِيَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. الثَّالِثُ مِنْ أَسْبَابِ الظَّنِّ: الْفِعْلُ الْمُغَرِّرُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ: التَّصْرِيَةُ، وَهِيَ أَنْ يَرْبُطَ أَخْلَافَ النَّاقَةِ، أَوْ غَيْرِهَا، وَيَتْرُكَ حَلْبَهَا يَوْمًا فَأَكْثَرَ حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا، فَيَظُنُّ الْمُشْتَرِي غَزَارَةَ لِبَنِهَا، [فَيَزِيدُ] فِي ثَمَنِهَا. وَهَذَا الْفِعْلُ حَرَامٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّدْلِيسِ، وَيَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي. وَفِي خِيَارِهِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. وَالثَّانِي: يَمْتَدُّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَلَوْ عَرَفَ التَّصْرِيَةَ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، فَخِيَارُهُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَمْتَدُّ إِلَى آخَرِ الثَّلَاثَةِ. وَهَلِ ابْتِدَاؤُهَا مِنَ الْعَقْدِ أَوْ مِنَ التَّفَرُّقِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ. وَلَوْ عَرَفَ التَّصْرِيَةَ فِي آخِرِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: لَا خِيَارَ، لِامْتِنَاعِ مُجَاوَزَةِ الثَّلَاثَةِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ قَطْعًا. وَلَوِ اشْتَرَى عَالِمًا بِالتَّصْرِيَةِ، فَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى الثَّانِي، لِلْحَدِيثِ، وَلَا خِيَارَ عَلَى الْأَوَّلِ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ.

فَرْعٌ. إِنْ عَلِمَ التَّصْرِيَةَ قَبْلَ الْحَلْبِ، رَدَّهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ بَاقِيًا، لَمْ يُكَلَّفِ الْمُشْتَرِي رَدَّهُ مَعَ الْمُصَرَّاةِ ; لِأَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْبَيْعِ مِلْكُهُ، وَقَدِ اخْتَلَطَ بِالْمَبِيعِ، وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ. وَإِذَا أَمْسَكَهُ كَانَ كَمَا لَوْ تَلَفَ. فَإِنْ أَرَادَ رَدَّهُ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْبَائِعُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ بَدَلِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِذَهَابِ طَرَاوَتِهِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ حَمَضَ، لَمْ يُكَلَّفْ أَخْذَهُ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَيَرُدُّ مَعَ الْمُصَرَّاةِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَهَلْ يَتَعَيَّنُ جِنْسُ التَّمْرِ وَقَدْرُ الصَّاعِ؟ أَمَّا الْجِنْسُ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّمْرُ. فَإِنْ أَعْوَزَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: رَدَّ قِيمَتَهُ بِالْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَتَعَيَّنُ. فَعَلَى هَذَا، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَائِمُ مَقَامَهُ الْأَقْوَاتُ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَتَعَدَّى هُنَا إِلَى الْأَقِطِّ. وَعَلَى هَذَا، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأَقْوَاتِ. وَأَصَحُّهُمَا: الِاعْتِبَارُ بِغَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَقُومُ مَقَامَهُ أَيْضًا غَيْرُ الْأَقْوَاتِ. حَتَّى لَوْ عَدَلَ إِلَى مِثْلِ اللَّبَنِ، أَوْ قِيمَتِهِ عِنْدَ إِعْوَازِ الْمِثْلِ، أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى الْقَبُولِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ. وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ، فَأَمَّا لَوْ تَرَاضَيَا بِغَيْرِ التَّمْرِ مِنْ قُوتٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ عَلَى رَدِّ اللَّبَنِ الْمَحْلُوبِ عِنْدَ بَقَائِهِ، فَيَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، كَذَا قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ إِبْدَالِ التَّمْرِ بِالْبُرِّ إِذَا تَرَاضَيَا. وَأَمَّا الْقَدْرُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوَاجِبُ صَاعٌ، قَلَّ اللَّبَنُ أَوْ كَثُرَ، لِلْحَدِيثِ. وَالثَّانِي: يَتَقَدَّرُ الْوَاجِبُ بِقِدْرِ اللَّبَنِ. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يَزِيدُ الْوَاجِبُ عَلَى الصَّاعِ، وَقَدْ يَنْقُصُ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّ هَذَا الْوَجْهَ بِمَا إِذَا زَادَتْ قِيمَةُ الصَّاعِ عَلَى نِصْفِ قِيمَةِ الشَّاةِ، وَقَطَعَ بِوُجُوبِ الصَّاعِ إِذَا نَقَصَتْ عَنِ النِّصْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَهُ. وَمَتَى قُلْنَا بِالثَّانِي، قَالَ الْإِمَامُ: تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ الْوَسَطُ لِلتَّمْرِ بِالْحِجَازِ، وَقِيمَةُ مِثْلِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ بِالْحِجَازِ. فَإِذَا كَانَ اللَّبَنُ عُشْرَ الشَّاةِ مَثَلًا، أَوْجَبْنَا مِنَ الصَّاعِ عُشْرَ قِيمَةِ الشَّاةِ.

فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى شَاةً بِصَاعِ تَمْرٍ، فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً، فَعَلَى الْأَصَحِّ: يَرُدُّهَا وَصَاعًا، وَيَسْتَرِدُّ الصَّاعَ الَّذِي هُوَ ثَمَنٌ. وَعَلَى الثَّانِي: تُقَوَّمُ مُصَرَّاةً وَغَيْرَ مُصَرَّاةٍ، وَيَجِبُ بِقَدْرِ التَّفَاوُتِ مِنَ الصَّاعِ. فَرْعٌ غَيْرُ الْمُصَرَّاةِ إِذَا حَلَبَ لَبَنَهَا، ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : رَدَّ بَدَلَ اللَّبَنِ كَالْمُصَرَّاةِ. وَفِي تَعْلِيقِ أَبِي حَامِدٍ حِكَايَةٌ عَنْ نَصِّهِ: أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ غَيْرُ مُعْتَنًى بِجَمْعِهِ، بِخِلَافِ الْمُصَرَّاةِ. وَرَأَى الْإِمَامُ تَخْرِيجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ، هَلْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ، أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ: الْأَخْذُ. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يَقْصِدِ الْبَائِعُ التَّصْرِيَةَ، لَكِنْ تَرَكَ الْحَلْبَ نَاسِيًا، أَوْ لِشُغْلٍ عَرَضَ، أَوْ تَصَرَّتْ بِنَفْسِهَا، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ لِعَدَمِ التَّدْلِيسِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» : نَعَمْ، لِحُصُولِ الضَّرَرِ. فَرْعٌ خِيَارُ التَّصْرِيَةِ يَعُمُّ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةَ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يُخْتَصُّ بِالنَّعَمِ.

وَلَوِ اشْتَرَى أَتَانًا فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً، فَأَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَرُدُّهَا، وَلَا يَرُدُّ لِلَّبَنٍ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ. وَالثَّانِي: يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ بَدَلَهُ، قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ، لِذَهَابِهِ إِلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ مَشْرُوبٌ. وَالثَّالِثُ: لَا يَرُدُّهَا لِحَقَارَةِ لَبَنِهَا. وَلَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَرُدُّ، وَلَا يَرُدُّ بَدَلَ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَاضُ عَنْهُ غَالِبًا. وَالثَّانِي: يَرُدُّ، وَيَرُدُّ بَدَلَهُ. وَالثَّالِثُ: لَا يَرُدُّ، بَلْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ. فَرْعٌ هَذَا الْخِيَارُ غَيْرُ مَنُوطٍ بِالتَّصْرِيَةِ لِذَاتِهَا، بَلْ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّلْبِيسِ، فَيَلْتَحِقُ بِهَا مَا يُشَارِكُهَا فِيهِ. حَتَّى لَوْ حَبَسَ مَاءَ الْقَنَاةِ، أَوِ الرَّحَى، ثُمَّ أَرْسَلَهُ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ الْإِجَارَةِ، فَظَنَّ الْمُشْتَرِي كَثْرَتَهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَالُ، فَلَهُ الْخِيَارُ. وَكَذَا لَوْ حَمَّرَ وَجْهَ الْجَارِيَةِ، أَوْ سَوَّدَ شَعْرَهَا، أَوْ جَعَّدَهُ، أَوْ أَرْسَلَ الزُّنْبُورَ عَلَى وَجْهِهَا، فَظَنَّهَا الْمُشْتَرِي سَمِينَةً، ثُمَّ بَانَ خِلَافُهُ، فَلَهُ الْخِيَارُ. وَلَوْ لَطَّخَ ثَوْبَ الْعَبْدِ بِالْمِدَادِ، أَوْ أَلْبَسَهُ ثَوْبَ الْكُتَّابِ أَوِ الْخَبَّازِينَ، وَخَيَّلَ كَوْنَهُ كَاتِبًا أَوْ خَبَّازًا، فَبَانَ خِلَافُهُ، أَوْ أَكْثَرَ عَلَفَ الْبَهِيمَةِ حَتَّى انْتَفَخَ بَطْنُهَا، فَظَنَّهَا الْمُشْتَرِي حَامِلًا، أَوْ أَرْسَلَ الزُّنْبُورَ فِي ضَرْعِهَا فَانْتَفَخَ وَظَنَّهَا لَبُونًا، فَلَا خِيَارَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِتَقْصِيرِ الْمُشْتَرِي. فَرْعٌ لَوْ بَانَتِ التَّصْرِيَةُ، لَكِنْ دَرُّ اللَّبَنِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي أَشْعَرَتْ بِهِ التَّصْرِيَةُ، وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ، إِلَّا بَعْدَ زَوَالِهِ، وَكَالْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ عَتَقَتِ الْأَمَةُ تَحْتَ عَبْدٍ وَلَمْ يَعْلَمْ عِتْقَهَا حَتَّى عَتَقَ الزَّوْجُ.

فصل

فَرْعٌ رَضِيَ بِإِمْسَاكِ الْمُصَرَّاةِ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَدِيمًا، نَصَّ أَنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ بَدَلَ اللَّبَنِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَتَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَأَرَادَ رَدَّ الْآخَرِ، فَيُخَرَّجُ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَرْعٌ الْخِيَارُ فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ مُسْتَنَدُهُ التَّغْرِيرُ، كَالتَّصْرِيَةِ. وَكَذَا خِيَارُ النَّجَشِ إِنْ أَثْبَتْنَاهُ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي بَابِ الْمَنَاهِي. فَرْعٌ مُجَرَّدُ الْغُبْنِ، لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَإِنْ تَفَاحَشَ. وَلَوِ اشْتَرَى زُجَاجَةً بِثَمَنٍ كَثِيرٍ يَتَوَهَّمُهَا جَوْهَرَةً، فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْغُبْنِ ; لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْهُ حَيْثُ لَمْ يُرَاجِعْ أَهْلَ الْخِبْرَةِ، وَنَقَلَ الْمُتَوَلِّي وَجْهًا شَاذًّا: أَنَّهُ كَشِرَاءِ الْغَائِبِ، وَتُجْعَلُ الرُّؤْيَةُ الَّتِي لَا تُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ وَلَا تَنْفِي الْغَرَرَ، كَالْمَعْدُومَةِ. فَصْلٌ إِذَا بَاعَ بِشَرْطٍ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ؟ فِيهِ أَرْبَعُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: يَبْرَأُ فِي الْحَيَوَانِ عَمَّا لَا يَعْلَمُهُ الْبَائِعُ دُونَ مَا يَعْلَمُهُ، وَلَا يَبْرَأُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ بِحَالٍ. وَالثَّانِي: يَبْرَأُ

مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَلَا رَدَّ بِحَالٍ. وَالثَّالِثُ: لَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ مَا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: يَبْرَأُ فِي الْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ الْمَعْلُومِ، دُونَ الْمَعْلُومِ، وَلَا يَبْرَأُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْمَعْلُومِ، وَفِي غَيْرِ الْمَعْلُومِ قَوْلَانِ. وَالطَّرِيقُ الرَّابِعُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ. ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْلُومِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَرُدُّ الْعَيْبَ، جَرَى فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَزَعَمَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ فَاسِدٌ قَطْعًا، مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ. وَلَوْ عَيَّنَ عَيْبًا وَشَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُعَايَنُ، كَقَوْلِهِ: بِشَرْطِ بَرَاءَتِي مِنَ الزِّنَا أَوِ السَّرِقَةِ أَوِ الْإِبَاقِ، بَرِئَ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ ذِكْرَهَا إِعْلَامٌ بِهَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُعَايَنُ، كَالْبَرَصِ، فَإِنْ أَرَاهُ قَدْرَهُ وَمَوْضِعَهُ، بَرِئَ قَطْعًا، وَإِلَّا فَهُوَ كَشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مُطْلَقًا، لِتَفَاوُتِ الْأَغْرَاضِ بِاخْتِلَافِ قَدْرِهِ وَمَوْضِعِهِ. وَهَكَذَا فَصَّلُوا، وَكَأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا يَعْرِفُهُ فِي الْمَبِيعِ مِنَ الْعُيُوبِ. فَأَمَّا مَا لَا يَعْرِفُهُ وَيُرِيدُ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ لَوْ كَانَ، فَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ تَفْرِيعًا عَلَى فَسَادِ الشَّرْطِ فِيهِ خِلَافًا. . التَّفْرِيعُ: إِنْ بَطَلَ هَذَا الشَّرْطُ، لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْبَيْعُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ صَحَّ، فَذَلِكَ فِي الْعُيُوبِ الْمَوْجُودَةِ حَالَ الْعَقْدِ. فَأَمَّا الْحَادِثُ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَجُوزُ الرَّدُّ بِهِ. وَلَوْ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعُيُوبِ الْكَائِنَةِ وَالَّتِي سَتَحْدُثُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ فَاسِدٌ. فَإِنْ أَفْرَدَ مَا سَيَحْدُثُ بِالشَّرْطِ، فَأَوْلَى بِالْفَسَادِ. وَأَمَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ، فَكَمَا لَا يَبْرَأُ عَمَّا عَلِمَهُ وَكَتَمَهُ، فَكَذَا لَا يَبْرَأُ عَنِ الْعُيُوبِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ، لِسُهُولَةِ مَعْرِفَتِهَا، وَإِنَّمَا يَبْرَأُ عَنْ عُيُوبِ بَاطِنِ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا. وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ نَفْسَ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَهَلْ يَلْحَقُ مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ بِالْحَيَوَانِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، لِعُسْرِ مَعْرِفَتِهِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا، لِتَبَدُّلِ أَحْوَالِ الْحَيَوَانِ.

فصل

فَصْلٌ مِنْ مَوَانِعِ الرَّدِّ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَّ الْمُشْتَرِي مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِهَلَاكِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ بَقَائِهِ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي، قَدْ يَكُونُ لِخُرُوجِهِ عَنْ قَبُولِ النَّقْلِ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ، وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ قَبُولِهِ لِلنَّقْلِ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي، فَرُبَّمَا كَانَ لِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ بَقَائِهِ لِتَعَلُّقِ حَقٍّ مَانِعٍ. الْحَالُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي: إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، بِأَنْ مَاتَ الْعَبْدُ، أَوْ قُتِلَ، أَوْ تَلَفَ الثَّوْبُ، أَوْ أُكِلَ الطَّعَامُ، أَوْ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَقْبَلَ النَّقْلَ، بِأَنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ، أَوِ اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ، أَوْ وَقَفَ الضَّيْعَةَ، ثُمَّ عَلِمَ كَوْنَهُ مَعِيبًا، فَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ، لِفَوَاتِ الْمَرْدُودِ، لَكِنْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالْأَرْشِ، وَالْأَرْشُ جُزْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ نِسْبَةَ مَا يُنْقِصُ الْعَيْبُ مِنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ لَوْ كَانَ سَلِيمًا إِلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ الرُّجُوعُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ كُلُّ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْبَائِعِ، كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ. فَإِذَا احْتَبَسَ جُزْءًا مِنْهُ، كَانَ مَضْمُونًا بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ. مِثَالُهُ: كَانَتِ الْقِيمَةُ مِائَةً دُونَ الْعَيْبِ، وَتِسْعِينَ مَعَ الْعَيْبِ، فَالتَّفَاوُتُ بِالْعُشَرِ، فَيَكُونُ الرُّجُوعُ بِعُشْرِ الثَّمَنِ. فَإِنْ كَانَ مِائَتَيْنِ، فَبِعُشْرَيْنِ. وَإِنْ كَانَ خَمْسِينَ، فَبِخَمْسَةٍ. وَأَمَّا الْقِيمَةُ الْمُعْتَبَرَةُ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ تَعْتَبِرُ أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ الْبَيْعِ وَيَوْمِ الْقَبْضِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَقِيلَ: فِيهَا أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا هَذَا. وَالثَّانِي: يَوْمَ الْقَبْضِ. وَالثَّالِثُ: يَوْمَ الْبَيْعِ. وَإِذَا ثَبَتَ الْأَرْشُ، فَلَوْ كَانَ الْأَرْشُ بَعْدُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، بَرِئَ مِنْ قَدْرِ الْأَرْشِ. وَهَلْ يَبْرَأُ بِمُجَرَّدِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْبِ، أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّلَبِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَفَّاهُ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي، أَمْ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ إِبْدَالُهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ،

وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا وَالثَّمَنُ تَالِفًا، جَازَ الرَّدُّ، وَيَأْخُذُ مِثْلَهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُتَقَوَّمًا أَقَلَّ مَا كَانَتْ مِنْ يَوْمِ الْبَيْعِ إِلَى يَوْمِ الْقَبْضِ، وَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ عَنْهُ كَالْقَرْضِ، وَخُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، كَالتَّلَفِ. وَلَوْ خَرَجَ وَعَادَ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ لِأَخْذِ الْمُشْتَرِي، أَمْ لِلْبَائِعِ إِبْدَالُهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَوَّلُهُمَا. وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا فِي يَدِهِ بِحَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي الْعَقْدِ أَخَذَهُ. وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَنَقَدَهُ، فَفِي تَعْيِينِهِ لِأَخْذِ الْمُشْتَرِي، وَجْهَانِ. وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، نُظِرَ، إِنْ تَلَفَ بَعْضُهُ، أَخَذَ الْبَاقِي وَبَدَّلَ التَّالِفَ. وَإِنْ كَانَ نَقْصَ صِفَةٍ، كَالشَّلَلِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يَغْرُمِ الْأَرْشَ عَلَى الْأَصَحِّ. كَمَا لَوْ زَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، يَأْخُذُهَا مَجَّانًا. وَلَوْ لَمْ تَنْقُصِ الْقِيمَةُ بِالْعَيْبِ، كَخُرُوجِ الْعَبْدِ خَصِيًّا، فَلَا أَرْشَ. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْعِتْقِ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا بَعْدَمَا أَعْتَقَهُ، نَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ: أَنَّهُ لَا أَرْشَ لَهُ هُنَا. وَنَقَلَ عَنْهُ وَجْهَيْنِ فِيمَنِ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، قَالَ: وَعِنْدِي: لَهُ الْأَرْشُ فِي الصُّورَتَيْنِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: لَوْ زَالَ مِلْكُهُ عَنِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا، فَلَا رَدَّ فِي الْحَالِ. وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ، فَإِنْ زَالَ بِعِوَضٍ كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الثَّوَابِ وَالْبَيْعِ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ كَمَا لَوْ مَاتَ، وَهَذَا تَخْرِيجُ ابْنِ سُرَيْجٍ. فَعَلَى تَخْرِيجِهِ لَوْ أَخَذَ الْأَرْشَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ مُشْتَرِيهِ بِالْعَيْبِ، فَهَلْ لَهُ رَدُّهُ مَعَ الْأَرْشِ وَاسْتِرْدَادُ الثَّمَنِ؟ وَجْهَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَشْهُورُ: لَا يَرْجِعُ. وَلِمَ لَا يَرْجِعُ؟ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ الْحَدَّادِ: لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ الظُّلَامَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لِأَنَّهُ مَا أَيِسَ مِنَ الرَّدِّ، فَرُبَّمَا عَادَ إِلَيْهِ فَرَدَّهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى، هُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ. وَإِنْ زَالَ بِلَا عِوَضٍ، فَعَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ سُرَيْجٍ: يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ. وَعَلَى الْمَشْهُورِ، وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ. إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ: رَجَعَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدْرِكِ الظُّلَامَةَ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَلَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا

عَادَ إِلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِعَدَمِ الرُّجُوعِ هُنَا. وَإِنْ عَادَ الْمِلْكُ إِلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِهِ، نُظِرَ، هَلْ زَالَ بِعِوَضٍ، أَمْ بِغَيْرِهِ؟ فَهُمَا ضَرْبَانِ. [الضَّرْبُ] الْأَوَّلُ: أَنْ يَزُولَ بِعِوَضٍ، بِأَنْ بَاعَهُ، فَيُنْظَرُ، أَعَادَ بِطَرِيقِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَمْ بِغَيْرِهِ؟ فَهُمَا قِسْمَانِ. [الْقِسْمُ] الْأَوَّلُ: أَنْ يَعُودَ بِطَرِيقِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ التَّعَذُّرُ وَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَدْرِكِ الظُّلَامَةَ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ مِنْهُ. وَلَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، ثُمَّ ظَهَرَ عَيْبٌ قَدِيمٌ فَعَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ سُرَيْجٍ: لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَخْذُ الْأَرْشِ مِنْ بَائِعِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَحْدُثْ عَيْبٌ، وَلَا يَخْفَى الْحُكْمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي. وَعَلَى الْمَشْهُورِ: يُنْظَرُ، إِنْ قَبِلَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ مَعَ عَيْبِهِ الْحَادِثِ، خُيِّرَ بَائِعُهُ، إِنْ قَبِلَهُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا أَخَذَ الْأَرْشَ مِنْهُ. وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ: لَا يَأْخُذُهُ، وَاسْتِرْدَادُهُ رِضًا بِالْعَيْبِ. وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ وَغَرِمَ الْأَرْشَ لِلثَّانِي، فَفِي رُجُوعِهِ بِالْأَرْشِ عَلَى بَائِعِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَبِلَهُ، رُبَّمَا قَبِلَهُ مِنْهُ بَائِعُهُ، فَكَانَ مُتَبَرِّعًا بِغَرَامَةِ الْأَرْشِ وَأَصَحُّهُمَا: يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَقْبَلُهُ بَائِعُهُ، فَيَتَضَرَّرُ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ: لَا يَرْجِعُ مَا لَمْ يَغْرَمْ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يُطَالِبُهُ فَيَبْقَى مُسْتَدْرِكًا لِلظُّلَامَةِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَتَلَفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي أَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ [الْعَيْبُ] الْقَدِيمُ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْأَرْشِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ بِالْأَرْشِ عَلَى بَائِعٍ بِلَا خِلَافٍ، لِحُصُولِ الْيَأْسِ مِنَ الرَّدِّ، لَكِنْ هَلْ يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ قَبْلَ أَنْ يَغْرُمَهُ لِمُشْتَرِيهِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ. إِنْ عَلَّلْنَا بِاسْتِدْرَاكِ الظُّلَامَةِ، لَمْ يَرْجِعْ مَا لَمْ يَغْرُمْ، وَإِنْ عَلَّلْنَا بِالثَّانِي، رَجَعَ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ أَبْرَأَهُ الثَّانِي، هَلْ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى بَائِعِهِ؟ . الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعُودَ لَا بِطْرِيقِ الرَّدِّ، بِأَنْ عَادَ بِإِرْثٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ قَبُولِ وَصِيَّةٍ، أَوْ إِقَالَةٍ، فَهَلْ لَهُ رَدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ؟ وَجْهَانِ لَهُمَا مَأْخَذَانِ. أَحَدُهُمَا: الْبِنَاءُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ

إِنْ عَلَّلْنَا بِالْأَوَّلِ، لَمْ يُرَدَّ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ الظُّلَامَةَ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاكُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ. وَإِنْ عَلَّلْنَا بِالثَّانِي، رَدَّ، لِزَوَالِ التَّعَذُّرِ، كَمَا لَوْ رَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ. وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِلْكَ الْعَائِدَ، هَلْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الزَّائِلِ؟ وَإِنْ عَادَ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَيْبٌ قَدِيمٌ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ عَلَّلْنَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، لَمْ يَرُدَّ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ، لِحُصُولِ الِاسْتِدْرَاكِ، وَيَرُدُّ عَلَى الثَّانِي. وَإِنْ عَلَّلْنَا بِالثَّانِي، فَإِنْ شَاءَ رَدَّ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الثَّانِي. وَإِذَا رَدَّ عَلَى الثَّانِي، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَرُدُّ عَلَى الْأَوَّلِ. وَيَجِيءُ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَرُدُّ عَلَى الْأَوَّلِ، بِنَاءً عَلَى أَنِ الزَّائِلَ الْعَائِدَ كَالَّذِي لَمْ يَعُدْ. وَوَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَرُدُّ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ عَلَيْهِ، لَرَدَّ هُوَ أَيْضًا عَلَيْهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَزُولَ لَا بِعِوَضٍ، فَيُنْظَرُ، إِنْ عَادَ أَيْضًا لَا بِعِوَضٍ، فَجَوَازُ الرَّدِّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ لَوْ لَمْ يَعُدْ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَلَهُ الرَّدُّ. وَإِنْ قُلْنَا: يَأْخُذُ، فَهَلْ يَنْحَصِرُ الْحَقُّ فِيهِ، أَمْ يَعُودُ إِلَى الرَّدِّ عِنْدَ الْقُدْرَةِ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ عَادَ بِعِوَضٍ، بِأَنِ اشْتَرَاهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرُدُّ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، فَكَذَا هُنَا، وَيَرُدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَخِيرِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَرُدُّ، فَهُنَا هَلْ يَرُدُّ عَلَى الْأَوَّلِ، أَوْ عَلَى الثَّانِي، أَمْ يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. فَرْعٌ بَاعَ زَيْدٌ عَمْرًا شَيْئًا، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَظَهَرَ عَيْبٌ كَانَ فِي يَدِ زَيْدٍ، فَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِالْحَالِ، فَلَا رَدَّ. وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا، فَلَا رَدَّ لَهُ وَلَا لِعَمْرٍو أَيْضًا، لِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَلَا أَرْشَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِاسْتِدْرَاكِ الظُّلَامَةِ، أَوْ لِتَوَقُّعِ الْعَوْدِ. فَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِ زَيْدٍ، أَخَذَ الْأَرْشَ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي. وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ بَاعَهُ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ عَمْرٌو عَالِمًا، فَلَا رَدَّ لَهُ، وَلِزَيْدٍ الرَّدُّ. وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ، فَلِزَيْدٍ.

فصل

الرَّدُّ إِنِ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ جِنْسِ مَا بَاعَهُ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ لِعَمْرٍو أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِمِثْلِهِ، فَلَا رَدَّ لِزَيْدٍ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ; لِأَنَّ عَمْرًا يَرُدُّهُ عَلَيْهِ، فَلَا فَائِدَةَ، وَلَهُ الرَّدُّ فِي أَصَحِّهِمَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا رَضِيَ بِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ. وَلَوْ تَلَفَ فِي يَدِ زَيْدٍ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا قَدِيمًا، فَحَيْثُ يَرُدُّ لَوْ بَقَيَ يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ، وَحَيْثُ لَا يَرُدُّ، لَا يَرْجِعُ. الْحَالُ الرَّابِعُ: إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ، بِأَنْ رَهَنَهُ، ثُمَّ عَلِمَ الْعَيْبَ، فَلَا رَدَّ فِي الْحَالِ وَهَلْ لَهُ الْأَرْشُ؟ إِنْ عَلَّلْنَا بِاسْتِدْرَاكِ الظُّلَامَةِ، فَنَعَمْ. وَإِنْ عَلَّلْنَا بِتَوَقُّعِ الْعَوْدِ، فَلَا. فَعَلَى هَذَا، لَوْ تَمَكَّنَ مِنَ الرَّدِّ رَدَّهُ. وَإِنْ حَصَلَ الْيَأْسُ أَخَذَ الْأَرْشَ. وَإِنْ أَجَّرَهُ وَلَمْ نُجَوِّزْ بَيْعَ الْمُسْتَأْجِرِ، فَهُوَ كَالرَّهْنِ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِهِ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ، رَدَّ عَلَيْهِ، وَإِلَّا تَعَذَّرَ الرَّدُّ، وَفِي الْأَرْشِ وَجْهَانِ. وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِإِبَاقٍ أَوْ غَصْبٍ. وَلَوْ عَرِفَ الْعَيْبَ بَعْدَ تَزْوِيجِ الْجَارِيَةِ أَوِ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِالْأَخْذِ، قَطَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الْأَرْشَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدْرِكِ الظُّلَامَةَ، وَالنِّكَاحُ يُرَادُ لِلدَّوَامِ، فَالْيَأْسُ حَاصِلٌ. وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، وَالْمُتَوَلِّي. وَلَوْ عَرَفَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، فَفِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ كَالتَّزْوِيجِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، بَلْ يَصْبِرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَدْرِكُ الظُّلَامَةَ بِالنُّجُومِ، وَقَدْ يَعُودُ إِلَيْهِ بِالْعَجْزِ، فَيَرُدُّهُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَالرَّهْنِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالنُّجُومِ. فَصْلٌ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْفَوْرِ، فَيَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ بِلَا عُذْرٍ. وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُضُورِ الْخَصْمِ وَقَضَاءِ الْقَاضِي. وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الرَّدِّ مُعْتَبَرَةٌ بِالْعَادَةِ، فَلَا يُؤْمَرُ بِالْعَدْوِ وَالرَّكْضِ لِيَرُدَّ. وَلَوْ كَانَ مَشْغُولًا بِصَلَاةٍ أَوْ أَكْلٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ، فَلَهُ التَّأْخِيرُ إِلَى فَرَاغِهِ

وَكَذَا لَوِ اطَّلَعَ حِينَ دَخَلَ وَقْتُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَاشْتَغَلَ بِهَا، فَلَا بَأْسَ. وَكَذَا لَوْ لَبِسَ ثَوْبًا أَوْ أَغْلَقَ بَابًا. وَلَوِ اطَّلَعَ لَيْلًا، فَلَهُ التَّأْخِيرُ إِلَى الصَّبَاحِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ تَرْتِيبًا مُشْكِلًا خِلَافَ الْمَذْهَبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْمُبَادَرَةِ وَمَا يَكُونُ تَقْصِيرًا وَمَا لَا يَكُونُ، إِنَّمَا نَبْسُطُهُ فِي كِتَابِ «الشُّفْعَةِ» ، وَنَذْكُرُ هُنَا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَالَّذِي فَهِمْتُهُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ: أَنَّ الْبَائِعَ إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ، رَدَّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ وَكِيلُهُ حَاضِرًا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمُرَافَعَةِ إِلَى الْقَاضِي. وَلَوْ تَرَكَهُ، وَرَفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، فَهُوَ زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ. وَحَاصِلُ هَذَا تَخَيْيُرُهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْبَلَدِ رَفَعَ إِلَى الْقَاضِي. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ: يَدَّعِي شِرَاءَ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَأَنَّهُ أَقْبَضَهُ الثَّمَنَ وَظَهَرَ الْعَيْبُ، وَأَنَّهُ فَسَخَ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي وَجْهٍ مُسَخَّرٍ يَنْصِبُهُ الْقَاضِي، وَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي مَعَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَبِيعَ مِنْهُ وَيَضَعُهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ، وَيَبْقَى الثَّمَنُ دَيْنًا عَلَى الْغَائِبِ، فَيَقْضِيهِ الْقَاضِي مِنْ مَالِهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ سِوَى الْمَبِيعِ، بَاعَهُ فِيهِ. وَإِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْخَصْمِ أَوِ الْقَاضِي فِي الْحَالَيْنِ، لَوْ تَمَكَّنَ مِنَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْفَسْخِ، هَلْ يَلْزَمُهُ؟ وَجْهَانِ. قَطَعَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرُهُ، بِاللُّزُومِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ أَخَّرَ بِعُذْرِ مَرَضٍ، أَوْ غَيْرِهِ. وَلَوْ عَجَزَ فِي الْحَالِ عَنِ الْإِشْهَادِ، فَهَلْ عَلَيْهِ التَّلَفُّظُ بِالْفَسْخِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ، وَصَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» : لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَإِذَا لَقِيَ الْبَائِعَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، لَمْ يَضُرَّ. فَلَوِ اشْتَغَلَ بِمُحَادَثَتِهِ، بَطَلَ حَقُّهُ.

فَرْعٌ لَوْ أَخَّرَ الرَّدَّ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ، ثُمَّ قَالَ: أَخَّرْتُ لِأَنِّي لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي الرَّدَّ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَرِّيَّةٍ لَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَهُ الرَّدُّ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ، قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ. قُلْتُ: إِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَوْلُ الشَّفِيعِ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ، وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِهَذَا فِي كِتَابِ «الشُّفْعَةِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ حَيْثُ بَطَلَ الرَّدُّ بِالتَّقْصِيرِ، بَطَلَ الْأَرْشُ. فَرْعٌ لَيْسَ لِمَنْ لَهُ الرَّدُّ، أَنْ يُمْسِكَ الْمَبِيعَ وَيُطَالِبَ بِالْأَرْشِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الرَّدِّ، وَيَدْفَعُ الْأَرْشَ. فَلَوْ رَضِيَا بِتَرْكِ الرَّدِّ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، أَوْ مَالٍ آخَرَ، فَفِي صِحَّةِ هَذِهِ الْمُصَالَحَةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ مَا أَخَذَ. وَهَلْ يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنَ الرَّدِّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، وَالْوَجْهَانِ إِذَا ظَنَّ صِحَّةَ الْمُصَالَحَةِ. فَإِنْ عَلِمَ بُطْلَانَهَا، بَطَلَ حَقُّهُ قَطْعًا.

فَرْعٌ كَمَا أَنَّ تَأْخِيرَ الرَّدِّ مَعَ الْإِمْكَانِ تَقْصِيرٌ، فَكَذَا الِاسْتِعْمَالُ وَالِانْتِفَاعُ وَالتَّصَرُّفُ، لِإِشْعَارِهَا بِالرِّضَا. فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ رَقِيقًا، فَاسْتَخْدَمَهُ فِي مُدَّةِ طَلَبِ الْخَصْمِ أَوِ الْقَاضِي، بَطَلَ حَقُّهُ. وَإِنْ كَانَ بِشَيْءٍ خَفِيفٍ، كَقَوْلِهِ: اسْقِنِي أَوْ نَاوِلْنِي الثَّوْبَ أَوْ أَغْلِقِ الْبَابَ، فَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُ الْمَمْلُوكِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ. قُلْتُ: قَالَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ «التَّلْخِيصِ» : لَوْ جَاءَهُ الْعَبْدُ بِكُوزِ مَاءٍ، فَأَخَذَ الْكُوزَ، لَمْ يَضُرَّ لَأَنَّ وَضْعَ الْكُوزِ فِي يَدِهِ، كَوَضْعِهِ عَلَى الْأَرْضِ. فَإِنْ شَرِبَ وَرَدَّ الْكُوزَ إِلَيْهِ، فَهُوَ اسْتِعْمَالٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لَا لِلرَّدِّ، بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِنْ رَكِبَهَا لِلرَّدِّ أَوِ السَّقْيِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانِ أَيْضًا، كَمَا لَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ لِلرَّدِّ، فَإِنْ كَانَتْ جَمُوحًا يَعْسُرُ سَوْقُهَا وَقَوْدُهَا، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي الرُّكُوبِ. وَلَوْ رَكِبَهَا لِلِانْتِفَاعِ فَاطَّلَعَ عَلَى الْعَيْبِ، لَمْ تَجُزِ اسْتِدَامَةُ الرُّكُوبِ وَإِنْ تَوَجَّهَ لِلرَّدِّ. وَإِنْ كَانَ لَابِسًا، فَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبِ الثَّوْبِ فِي الطَّرِيقِ فَتَوَجَّهَ لِلرَّدِّ وَلَمْ يَنْزِعْ، فَهُوَ مَعْذُورٌ ; لِأَنَّ نَزْعَ الثَّوْبِ فِي الطَّرِيقِ لَا يُعْتَادُ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ. وَلَوْ عَلَفَ الدَّابَّةَ أَوْ سَقَاهَا أَوْ حَلَبَهَا فِي الطَّرِيقِ، لَمْ يَضُرَّ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا سَرْجٌ أَوْ إِكَافٌ، فَتَرَكَهُ عَلَيْهَا، بَطَلَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَاجَ إِلَى حَمْلٍ أَوْ تَحْمِيلٍ. وَيُعْذَرُ بِتَرْكِ الْعِذَارِ وَاللِّجَامِ؛ لِأَنَّهُمَا خَفِيفَانِ لَا يُعَدُّ تَعْلِيقُهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ انْتِفَاعًا، وَلِأَنَّ الْقَوْدَ يَعْسُرُ دُونَهُمَا. وَلَوْ أَنْعَلَهَا فِي الطَّرِيقِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إِنْ كَانَتْ تَمْشِي بِلَا نَعْلٍ بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ وَجْهًا فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ فِي الطَّرِيقِ مُطْلَقًا، حَتَّى رَوَى عَنْ أَبِيهِ جَوَازَ وَطْءِ الْجَارِيَةِ الثَّيِّبِ.

فصل

قُلْتُ: لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَأَجَازَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ، ثُمَّ أَرَادَ الْفَسْخَ، فَلَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعُدِ الْعَبْدُ إِلَيْهِ. وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ الْمَسَائِلِ الْمَنْثُورَةِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ وَسَأَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَاكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِجِنَايَةٍ أَوْ آفَةٍ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ، لَمْ يَمْلِكِ الرَّدَّ قَهْرًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْبَائِعِ، وَلَا يُكَلَّفُ الْمُشْتَرِي الرِّضَا بِهِ [بَلْ يُعْلِمُ الْبَائِعَ بِهِ] فَإِنْ رَضِيَ بِهِ مَعِيبًا، قِيلَ لِلْمُشْتَرِي: إِمَّا أَنْ تَرُدَّهُ، وَإِمَّا أَنْ تَقْنَعَ بِهِ وَلَا شَيْءَ لَكَ. وَإِنْ لَمْ يَرْضَ [بِهِ] ، فَلَا بُدَّ [مِنْ] أَنْ يَضُمَّ الْمُشْتَرِي أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ إِلَى الْمَبِيعِ لِيَرُدَّهُ، أَوْ يَغْرُمَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَرْشَ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ لِيُمْسِكَهُ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَسْلَكَيْنِ، فَذَاكَ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى الرَّدِّ مَعَ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ، وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى الْإِمْسَاكِ وَغَرَامَةِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا: الْمُتَّبَعُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: رَأْيُ الْبَائِعِ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ أَصَحُّهَا: الْمُتَّبَعُ رَأْيُ مَنْ يَدْعُو إِلَى الْإِمْسَاكِ وَالرُّجُوعِ بِأَرْشِ الْقَدِيمِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعَ أَوِ الْمُشْتَرِيَ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِعْلَامِ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ، يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ. فَإِنْ أَخَّرَهُ بِلَا عُذْرٍ بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ الرَّدِّ وَالْأَرْشِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ الْحَادِثُ قَرِيبَ الزَّوَالِ غَالِبًا، كَالرَّمَدِ وَالْحُمَّى، فَلَا يُعْتَبَرُ الْفَوْرُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، بَلْ لَهُ انْتِظَارُ زَوَالِهِ لِيَرُدَّهُ سَلِيمًا عَنِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ. وَمَهْمَا زَالَ الْعَيْبُ الْحَادِثُ بَعْدَمَا أَخَذَ الْمُشْتَرِي أَرْشَ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، أَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي وَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ وَرَدُّ الْأَرْشِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا وَلَوْ تَرَاضَيَا، وَلَا قَضَاءَ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ لَهُ الْفَسْخَ.

فَرْعٌ لَوْ عَلِمَ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ بَعْدَ زَوَالِ الْحَادِثِ، رَدَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَلَوْ زَالَ الْقَدِيمُ قَبْلَ أَخْذِ أَرْشِهِ، لَمْ يَأْخُذْهُ. وَإِنْ زَالَ بَعْدَ أَخْذِهِ، رَدَّهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ نَبَتَتْ سِنُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ، هَلْ يَرُدُّهَا؟ . فَرْعٌ. كُلُّ مَا يُثْبِتُ الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ، يَمْنَعُ الرَّدَّ إِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. وَمَا لَا رَدَّ [بِهِ] عَلَى الْبَائِعِ، لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، إِلَّا فِي الْأَقَلِّ. فَلَوْ خُصِيَ الْعَبْدُ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا قَدِيمًا، فَلَا رَدَّ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ. وَلَوْ نَسِيَ الْقُرْآنَ أَوْ صَنْعَةً، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا قَدِيمًا، فَلَا رَدَّ، لِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ. وَلَوْ زَوَّجَهَا، ثُمَّ عَلِمَ بِهَا عَيْبًا، فَكَذَلِكَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِلَّا أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: إِنْ رَدَّكِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهُ الرَّدُّ، لِزَوَالِ الْمَانِعِ. وَلَوْ عَلِمَ عَيْبَ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا مِنْ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ، فَلَهُ الرَّدُّ وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَى الْبَائِعِ ; لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَمْ تَنْقُصْ بِذَلِكَ. وَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ رَضِيعَةً، فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّ الْبَائِعِ أَوِ ابْنَتُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ عَلِمَ بِهَا عَيْبًا. وَإِقْرَارُ الرَّقِيقِ عَلَى نَفْسِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِدَيْنِ الْمُعَامَلَةِ، أَوْ بِدَيْنِ الْإِتْلَافِ، مَعَ تَكْذِيبِ الْمَوْلَى، لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى عَلَى دَيْنِ الْإِتْلَافِ، مُنِعَ مِنْهُ. فَإِنْ عَفَا الْمُقَرُّ لَهُ بَعْدَ مَا أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْأَرْشَ، فَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ وَرَدُّ الْأَرْشِ؟

وَجْهَانِ جَارِيَانِ فِيمَا إِذَا أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْأَرْشَ لِرَهْنِهِ الْعَبْدَ أَوْ كِتَابَتِهِ أَوْ إِبَاقِهِ أَوْ غَصْبِهِ وَنَحْوِهَا. إِنْ مَكَّنَّاهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ زَالَ الْمَانِعُ مِنَ الرَّدِّ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : أَصَحُّهُمَا: لَا فَسْخَ. فَرْعٌ حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي نُكْتَةُ بَيَاضٍ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ، وَوَجَدَ نُكْتَةً قَدِيمَةً، فَزَالَتْ إِحْدَاهُمَا فَقَالَ الْبَائِعُ: الزَّائِلَةُ الْقَدِيمَةُ، فَلَا رَدَّ وَلَا أَرْشَ. وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلِ الْحَادِثَةُ، وَلِي الرَّدُّ، حَلَفَا عَلَى مَا قَالَا. فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، قُضِيَ لَهُ. وَإِنْ حَلَفَا اسْتَفَادَ الْبَائِعُ دَفْعَ الرَّدِّ، وَالْمُشْتَرِي أَخْذَ الْأَرْشِ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأَرْشِ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْأَقَلُّ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَيْقَنُ. فَرْعٌ إِذَا اشْتَرَى حُلِيًّا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةٌ مَثَلًا، بِمِائَةٍ مِنْ جِنْسِهِ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ، وَقَدْ حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يُفْسَخُ الْبَيْعُ، وَيُرَدُّ الْحُلِيُّ مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ الْحَادِثِ، وَلَا يَلْزَمُ الرِّبَا ; لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْحُلِيِّ وَالثَّمَنِ، وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ. وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، كَعَيْبِ الْمَأْخُوذِ عَلَى جِهَةِ السَّوْمِ، فَعَلَيْهِ غَرَامَتُهُ. وَالثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يُفْسَخُ الْعَقْدُ، لِتَعَذُّرِ إِمْضَائِهِ، وَلَا يُرَدُّ الْحُلِيُّ عَلَى الْبَائِعِ، لِتَعَذُّرِ رَدِّهِ مَعَ الْأَرْشِ وَدُونَهُ، فَيُجْعَلُ كَالتَّالِفِ، فَيَغْرَمُ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مَعِيبًا بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ، سَلِيمًا عَنِ الْحَادِثِ. وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْوَجْهَ، وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ. وَالثَّالِثُ، وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ، وَالدَّارِكِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، كَسَائِرِ الصُّوَرِ.

وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الرِّبَوِيِّ، إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَالْأَرْشُ حَقٌّ وَجَبَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَقْدِ السَّابِقِ. وَقِيَاسُ هَذَا الْوَجْهِ: تَجْوِيزُ الرَّدِّ مَعَ الْأَرْشِ عَنِ الْحَادِثِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَإِذَا أَخَذَ الْأَرْشَ، فَقِيلَ: يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْعِوَضَيْنِ، حَذَرًا مِنَ الرِّبَا. وَالْأَصَحُّ: جَوَازُهُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ الْجِنْسُ، لَامْتَنَعَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ رِبَوِيٍّ بِجِنْسِهِ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ. وَلَوْ عَرَفَ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ بَعْدَ تَلَفِ الْحُلِيِّ عِنْدَهُ، فَالَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبَا الشَّامِلِ وَ «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ يَفْسَخُ الْعَقْدَ وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ، وَيَغَرَمُ قِيمَةَ التَّالِفِ، وَلَا يُمْكِنُ أَخْذُ الْأَرْشِ لِلرِّبَا. وَفِي وَجْهٍ: يَجُوزُ أَخْذُ الْأَرْشِ، وَصَحَّحَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَعَلَى هَذَا، فَفِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، مَا سَبَقَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْحُلِيِّ وَالنَّقْدِ، بَلْ تَجْرِي فِي كُلِّ رِبَوِيٍّ بِيعَ بِجِنْسِهِ. فَرْعٌ لَوْ أَنْعَلَ الدَّابَّةَ، ثُمَّ عَلِمَ بِهَا عَيْبًا قَدِيمًا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُعِبْهَا نَزْعُ النَّعْلِ، فَلَهُ نَزْعُهُ وَالرَّدُّ. فَإِنْ لَمْ يَنْزِعْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْبَائِعِ قَبُولُ النَّعْلِ. وَإِنْ كَانَ النَّزْعُ يَخْرِمُ ثُقْبَ الْمَسَامِيرِ، وَيَعِيبُ الْحَافِرَ، فَنَزَعَ، بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ الرَّدِّ وَالْأَرْشِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. وَلَوْ رَدَّهَا مَعَ النَّعْلِ، أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى الْقَبُولِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي طَلَبُ قِيمَةِ النَّعْلِ. ثُمَّ تَرَكَ النَّعْلَ، هَلْ هُوَ تَمْلِيكٌ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ لَوْ سَقَطَ، أَمْ إِعْرَاضٌ فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي؟ وَجْهَانِ. أَشْبَهُهُمَا الثَّانِي. فَرْعٌ لَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ بِمَا زَادَ فِي قِيمَتِهِ، ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ، فَإِنْ رَضِيَ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ

فصل

أَنْ يُطَالِبَ بِشَيْءٍ، فَعَلَى الْبَائِعِ الْقَبُولُ، وَيَصِيرُ الصَّبْغُ مِلْكًا لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلثَّوْبِ لَا تُزَايِلُهُ، وَلَيْسَ كَالنَّعْلِ. هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ، قَالَ: وَلَا صَائِرَ إِلَى أَنَّهُ يَرُدُّ وَيَبْقَى شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ، وَالِاحْتِمَالُ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ. وَإِنْ أَرَادَ الرَّدَّ وَأَخْذَ قِيمَةِ الصَّبْغِ، فَفِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا تَجِبُ، لَكِنْ يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْأَرْشَ. وَلَوْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي أَرْشَ الْعَيْبِ، وَقَالَ الْبَائِعُ: رُدَّ الثَّوْبَ لِأَغْرَمَ لَكَ قِيمَةَ الصَّبْغِ، فَفِيمَنْ يُجَابُ؟ وَجْهَانِ. وَقَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي، بِأَنَّ الْمُجَابَ الْبَائِعُ، وَلَا أَرْشَ لِلْمُشْتَرِي. فَرْعٌ لَوْ قَصَّرَ الثَّوْبَ، ثُمَّ عَلِمَ الْعَيْبَ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْقِصَارَةَ عَيْنٌ أَوْ أَثَرٌ؟ إِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، فَكَالصَّبْغِ. وَإِنْ قُلْنَا: أَثَرٌ، رَدَّ الثَّوْبَ بِلَا شَيْءٍ، كَالزِّيَادَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، وَعَلَى هَذَا فَقِسْ نَظَائِرَهُ. فَصْلٌ إِذَا اشْتَرَى مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ، كَالرَّانِجِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالرُّمَّانِ، وَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَالْبُنْدُقِ، وَالْبَيْضِ، فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِفَاسِدِهِ قِيمَةٌ كَالْبَيْضَةِ الْمَذِرَةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ، وَالْبِطِّيخَةِ الشَّدِيدَةِ التَّغَيُّرِ، رَجَعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَكَيْفَ طَرِيقُهُ؟ قَالَ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ: يَتَبَيَّنُ فَسَادُ الْبَيْعِ لِوُرُودِهِ عَلَى غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَطَائِفَةٌ: لَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ الْبَيْعِ، بَلْ طَرِيقُهُ

اسْتِدْرَاكُ الظُّلَامَةِ. وَكَمَا يَرْجِعُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ لِنَقْصِ جُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ، يَرْجِعُ بِكُلِّهِ لِفَوَاتِ كُلِّ الْمَبِيعِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْقُشُورَ الْبَاقِيَةَ بِمَنْ تَخْتَصُّ حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ تَنْظِيفُ الْمَوْضِعِ مِنْهَا؟ أَمَّا إِذَا كَانَ لِفَاسَدِهِ قِيمَةٌ، كَالرَّانِجِ، وَبَيْضِ النَّعَامِ، وَالْبِطِّيخِ إِذَا وَجَدَهُ حَامِضًا، أَوْ مُدَوَّدَ بَعْضِ الْأَطْرَافِ، فَلِلْكَسْرِ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُوقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادِ إِلَّا بِمِثْلِهِ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَهُ رَدُّهُ قَهْرًا كَالْمُصَرَّاةِ. وَالثَّانِي، لَا، كَمَا لَوْ قَطَعَ الثَّوْبَ. فَعَلَى هَذَا هُوَ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ، فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، أَوْ يَضُمُّ أَرْشَ النُّقْصَانِ إِلَيْهِ، وَيَرُدُّهُ كَمَا سَبَقَ. وَعَلَى الْأَوَّلِ، هَلْ يَغَرَمُ أَرْشَ الْكَسْرِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَالثَّانِي: يَغَرَمُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا فَاسِدَ اللُّبِّ وَمَكْسُورًا فَاسِدَ اللُّبِّ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى الثَّمَنِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُمْكِنَ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْكَسْرِ، فَلَا رَدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَكَسْرُ الْجَوْزِ وَنَحْوِهِ، وَثَقْبُ الرَّانِجِ، مِنْ صُوَرِ الْحَالِ الْأَوَّلِ. وَكَسْرُ الرَّانِجِ وَتَرْضِيضُ بَيْضِ النَّعَامِ مِنْ صُوَرِ الْحَالِ الثَّانِي. وَكَذَا تَقْوِيرُ الْبِطِّيخِ الْحَامِضِ إِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ حُمُوضَتِهِ بِغَرْزِ شَيْءٍ فِيهِ، وَكَذَا التَّقْوِيرُ الْكَبِيرُ إِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ بِالتَّقْوِيرِ الصَّغِيرِ. وَالتَّدْوِيدُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالتَّقْوِيرِ، وَقَدْ يُحْتَاجُ إِلَى الشَّقِّ لِيُعْرَفَ، وَقَدْ يُسْتَغْنَى فِي مَعْرِفَةِ حَالِ الْبَيْضِ بِالْقَلْقَلَةِ عَنِ الْكَسْرِ. وَلَوْ شَرَطَ فِي الرُّمَّانِ الْحَلَاوَةَ، فَبَانَ حَامِضًا بِالْغَرْزِ، رَدَّ، وَإِنْ بَانَ بِالشَّقِّ، فَلَا. فَرْعٌ اشْتَرَى ثَوْبًا مَطْوِيًّا وَهُوَ مِمَّا يَنْقُصُ بِالنَّشْرِ، فَنَشَرَهُ وَوَقَفَ عَلَى عَيْبٍ

فصل

بِهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالنَّشْرِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. كَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ مَعَ جَعْلِهِمْ بَيْعَ الثَّوْبِ الْمَطْوِيِّ مِنْ صُوَرِ بَيْعِ الْغَائِبِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْأَئِمَّةُ لِهَذَا الْإِشْكَالِ إِلَّا مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ هَذَا الْفَرْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصْحِيحِ بَيْعِ الْغَائِبِ. وَالثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَغَيْرُهُ: إِنْ كَانَ مَطْوِيًّا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ طَاقَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ إِنْ لَمْ نُجَوِّزْ بَيْعَ الْغَائِبِ. وَإِنْ كَانَ مَطْوِيًّا عَلَى طَاقَيْنِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَرَى جَمِيعَ الثَّوْبِ مِنْ جَانِبَيْهِ، وَهَذَا حَسَنٌ، لَكِنَّ الْمَطْوِيَّ عَلَى طَاقَيْنِ، لَا يَرَى مِنْ جَانِبَيْهِ إِلَّا أَحَدَ وَجْهَيِ الثَّوْبِ، وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ سَبَقَ. وَوَرَاءَ هَذَا تَصْوِيرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَفْرِضَ رُؤْيَةَ الثَّوْبِ قَبْلَ الطَّيِّ، وَالطَّيُّ قَبْلَ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا نَقَصَ بِالنَّشْرِ مَرَّةً، يَنْقُصُ بِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. فَلَوْ نُشِرَ مَرَّةً، وَبِيعَ وَأُعِيدَ طَيُّهُ، ثُمَّ نَشَرَهُ الْمُشْتَرِي فَزَادَ النَّقْصُ بِهِ، انْتَظَمَ التَّصْوِيرُ. فَصْلٌ الْمَبِيعُ فِي الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ، إِنْ كَانَ شَيْئَيْنِ، بِأَنِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَخَرَجَا مَعِيبَيْنِ، فَلَهُ رَدُّهُمَا، وَكَذَا لَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مَعِيبًا. وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ بَعْضِهِ إِنْ كَانَ الْبَاقِي بَاقِيًا فِي مِلْكِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْقِيصِ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي زَائِلًا عَنْ مِلْكِهِ، بِأَنْ عَرَفَ الْعَيْبَ بَعْدَ بَيْعِ بَعْضِ الْمَبِيعِ، فَفِي رَدِّ الْبَاقِي طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا فِي مِلْكِهِ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ؟ أَمَّا لِلْقَدْرِ الْمَبِيعِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا بَاعَ الْكُلَّ. وَأَمَّا لِلْقَدْرِ الْبَاقِي، فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: يَرْجِعُ، لِتَعْذُرِ الرَّدِّ، وَلَا يَنْتَظِرُ عَوْدَ الزَّائِلِ لِيَرُدَّ الْجَمِيعَ، كَمَا لَا يَنْتَظِرُ زَوَالَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَبَاعَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ عَلِمَ الْعَيْبَ وَلَمْ

نُجَوِّزْ رَدَّ الْبَاقِي، هَلْ يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ؟ وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا وَمَاتَ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ، فَوَجَدَا بِهِ عَيْبًا، فَالْأَصَحُّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ: لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالرَّدِّ ; لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَقَعَتْ مُتَّحِدَةً. وَلِهَذَا لَوْ سَلَّمَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ نِصْفَ الثَّمَنِ، لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ تَسْلِيمُ النِّصْفِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: يَنْفَرِدُ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ جَمِيعَ مَا مَلَكَ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا اتَّحَدَ الْعَاقِدَانِ، أَمَّا إِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ عَبْدًا وَخَرَجَ مَعِيبًا، فَلَهُ أَنْ يُفْرِدَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا بِالرَّدِّ ; لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْبَائِعِ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْعَقْدِ. وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلَانِ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ جَمِيعَ مَا مَلَكَ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الِانْفِرَادَ فَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا، فَهَلْ تَبْطُلُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا وَيَخْلُصُ لِلْمُمْسِكِ مَا أَمْسَكَ، وَلِلرَّادِّ مَا اسْتَرَدَّ، أَمْ تَبْقَى الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا أَمْسَكَ وَاسْتَرَدَّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ. وَإِنْ مَنَعْنَا الِانْفِرَادَ فَذَاكَ فِيمَا يَنْقُصُ بِالتَّبْعِيضِ. أَمَّا مَا لَا يَنْقُصُ، كَالْحُبُوبِ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ ضَرَرُ التَّبْعِيضِ، أَوِ اتِّحَادُ الصَّفْقَةِ؟ وَلَوْ أَرَادَ الْمَمْنُوعُ مِنَ الرَّدِّ الْأَرْشَ، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ إِمْكَانِ رَدِّ نَصِيبَ الْآخَرِ، بِأَنْ أَعْتَقَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَلَهُ أَخْذُ الْأَرْشِ، وَإِلَّا نُظِرَ، فَإِنْ رَضِيَ صَاحِبُهُ بِالْعَيْبِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى نَصِيبَ صَاحِبِهِ وَضَمَّهُ إِلَى نَصِيبِهِ، وَأَرَادَ الْكُلَّ وَالرُّجُوعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، هَلْ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ النَّعْلِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا: لَا، أَخَذَ الْأَرْشَ. وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ تَوَقُّعٌ بَعِيدٌ. وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ غَائِبًا لَا يَعْرِفُ الْحَالَ، فَفِي الْأَرْشِ وَجْهَانِ بِسَبَبِ الْحَيْلُولَةِ النَّاجِزَةِ. وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلَانِ عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا رُبُعَ الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ رَدُّ الرُّبُعِ إِلَى أَحَدِهِمَا. وَلَوِ اشْتَرَى ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُشْتَرِيًا تُسُعَ الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِينَ. وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلَانِ، عَبْدَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ، فَقَدِ اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعَ كُلِّ عَبْدٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ رَدُّ جَمِيعِ مَا اشْتَرَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ. وَلَوْ رَدَّ رُبُعَ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ وَحْدَهُ، فَفِيهِ قَوْلَا التَّفْرِيقِ.

فصل

وَلَوِ اشْتَرَى بَعْضَ عَبْدٍ فِي صَفْقَةٍ، وَبَاقِيَهُ فِي صَفْقَةٍ مِنَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَهُ رَدُّ أَحَدِ الْبَعْضَيْنِ وَحْدَهُ، لِتَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ. وَلَوْ عَلِمَ الْعَيْبَ بَعْدَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الرَّدُّ، فَاشْتَرَى الْبَاقِيَ، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْبَاقِي، وَلَهُ رَدٌّ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. فَصْلٌ إِذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، فَقَالَ الْبَائِعُ: حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَقَالَ الْمُشْتَرِيَ: بَلْ كَانَ عِنْدَكَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ، وَشَيْنِ الشَّجَّةِ الْمُنْدَمِلَةِ، وَقَدْ جَرَى الْبَيْعُ أَمْسِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ تَقَدُّمَهُ، كَجِرَاحَةٍ طَرِيَّةٍ، وَقَدْ جَرَى الْبَيْعُ وَالْقَبْضُ مِنْ سَنَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. وَإِنِ احْتَمَلَ قِدَمَهُ وَحُدُوثَهُ كَالْمَرَضِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ لُزُومُ الْعَقْدِ وَاسْتِمْرَارُهُ. وَكَيْفَ يَحْلِفُ؟ يُنْظَرُ فِي جَوَابِهِ لِلْمُشْتَرِي. فَإِنِ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَأَرَادَ الرَّدَّ، فَقَالَ فِي جَوَابِهِ: لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ عَلِيَّ بِالْعَيْبِ الَّذِي يَذْكُرُهُ، أَوْ لَا يَلْزَمُنِي قَبُولُهُ، حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُكَلَّفُ التَّعَرُّضَ لِعَدَمِ الْعَيْبِ يَوْمَ الْبَيْعِ، وَلَا يَوْمَ الْقَبْضِ، لِجَوَازِ أَنَّهُ أَقْبَضَهُ مَعِيبًا وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، أَوْ أَنَّهُ رَضِيَ بِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَلَوْ نَطَقَ بِهِ لَصَارَ مُدَّعِيًا مُطَالَبًا بِالْبَيِّنَةِ. وَإِنْ قَالَ فِي الْجَوَابِ: مَا بِعْتُهُ إِلَّا سَلِيمًا، أَوْ: مَا أَقْبَضْتُهُ إِلَّا سَلِيمًا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ كَذَلِكَ، أَمْ يَكْفِيه الِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ؟ أَوْ: لَا يَلْزَمُنِي قَبُولُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ التَّعَرُّضُ لِمَا تَعْرَّضَ لَهُ فِي الْجَوَابِ، لِتُطَابِقَ الْيَمِينُ الْجَوَابَ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ وَالْخِلَافُ، جَارِيَانِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى وَالْأَجْوِبَةِ. ثُمَّ يَمِينُهُ تَكُونُ عَلَى الْبَتِّ، فَيَحْلِفُ: لَقَدْ بِعْتُهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ. وَلَا يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُهُ وَلَا أَعْلَمُ بِهِ هَذَا الْعَيْبَ. وَتَجُوزُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتِّ إِذَا اخْتَبَرَ حَالَ الْعَبْدِ، وَعَلِمَ خَفَايَا أَمْرِهِ،

فصل

كَمَا يَجُوزُ بِمِثْلِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِعْسَارِ وَعَدَالَةِ الشُّهُودِ، وَغَيْرِهِمَا. وَعِنْدَ عَدَمِ الِاخْتِبَارِ، يَجُوزُ أَيْضًا الِاعْتِمَادُ عَلَى ظَاهِرِ السَّلَامَةِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ، وَلَا ظَنَّ خِلَافَهُ. فَرْعٌ لَوْ زَعَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، فَأَنْكَرَهُ الْبَائِعُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ، هَلْ هُوَ عَيْبٌ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْحَالُ مِنْ غَيْرِهِمَا. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِنْ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ: إِنَّهُ عَيْبٌ، ثَبَتَ الرَّدُّ. وَاعْتَبَرَ فِي «التَّتِمَّةِ» شَهَادَةَ اثْنَيْنِ. وَلَوِ ادَّعَى الْبَائِعُ عِلْمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ، أَوْ تَقْصِيرَهُ فِي الرَّدِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. فَرْعٌ مَدَارُ الرَّدِّ عَلَى التَّعَيُّبِ عِنْدَ الْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعِيبًا عِنْدَ الْبَيْعِ، فَقَبَضَهُ وَقَدْ زَالَ الْعَيْبُ، فَلَا رَدَّ بِمَا كَانَ، بَلْ مَهْمَا زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ الْعِلْمِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الرَّدِّ، سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الرَّدِّ. فَصْلٌ الْفَسْخُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ، لَا مِنْ أَصْلِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يَرْفَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ. وَفِي وَجْهٍ: يَرْفَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ.

فَرْعٌ الِاسْتِخْدَامُ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ وَطِئَ الْمُشْتَرِي الثَّيِّبَ، فَلَهُ الرَّدُّ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ. وَوَطْءُ الْأَجْنَبِيِّ وَالْبَائِعِ بِشُبْهَةٍ كَوَطْءِ الْمُشْتَرِي، لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ. وَ [أَمَّا] وَطْؤُهَا مُخْتَارَةً زِنًى، فَهُوَ عَيْبٌ حَادِثٌ. هَذَا فِي الْوَطْءِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنْ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَهُ الرَّدُّ، وَلَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إِنْ سُلِّمَتْ وَقَبَضَهَا. فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَهَلْ عَلَيْهِ الْمَهْرُ لِلْبَائِعِ؟ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَسْخَ قَبْلَ الْقَبْضِ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ حِينِهِ؟ الصَّحِيحُ: لَا مَهْرَ. وَإِنْ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ وَهِيَ زَانِيَةٌ، فَهُوَ عَيْبٌ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، فَلِلْمُشْتَرِي الْمَهْرُ، وَلَا خِيَارَ لَهُ بِهَذَا الْوَطْءِ. وَطْءُ الْبَائِعِ كَوَطْءِ الْأَجْنَبِيِّ، لَكِنْ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ جِنَايَةَ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ. أَمَّا الْبِكْرُ، فَافْتِضَاضُهَا بَعْدَ الْقَبْضِ عَيْبٌ حَادِثٌ، وَقَبْلَهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَإِنِ افْتَضَّهَا الْأَجْنَبِيُّ بِغَيْرِ آلَةِ الِافْتِضَاضِ، فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا. وَإِنِ افْتَضَّ بِآلَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ. وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ، أَمْ يُفْرَدُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَدْخُلُ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بِكْرًا. وَالثَّانِي: يُفْرَدُ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا ثَيِّبًا. ثُمَّ الْمُشْتَرِي إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ، فَالْجَمِيعُ لَهُ، وَإِلَّا فَقَدْرُ أَرْشِ الْبَكَارَةِ لِلْبَائِعِ، لِعَوْدِهَا إِلَيْهِ نَاقِصَةً، وَالْبَاقِي لِلْمُشْتَرِي. وَإِنِ افْتَضَّهَا الْبَائِعُ، فَإِنْ أَجَازَ الْمُشْتَرِي، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ إِنْ قُلْنَا: جِنَايَتُهُ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ. وَإِنْ فَسَخَ الْمُشْتَرِي، فَلَيْسَ عَلَى الْبَائِعِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ. وَهَلْ عَلَيْهِ مَهْرُهَا ثَيِّبًا؟ إِنِ افْتَضَّ بِآلَتِهِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ جِنَايَتَهُ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، أَمْ لَا؟ وَإِنِ افْتَضَّهَا الْمُشْتَرِي، اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا. فَإِنْ سُلِّمَتْ حَتَّى قَبَضَهَا، فَعَلَيْهِ

الثَّمَنُ بِكَمَالِهِ. وَإِنْ تَلَفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ نَقْصِ الِافْتِضَاضِ مِنَ الثَّمَنِ. وَهَلْ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِ ثَيِّبٍ؟ إِنِ افْتَضَّهَا بِآلَةِ الِافْتِضَاضِ، يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ مِنْ حِينِهِ؟ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي وَجْهٍ: افْتِضَاضُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ، كَافْتِضَاضِ الْأَجْنَبِيِّ. فَرْعٌ زِيَادَةُ الْمَبِيعِ ضَرْبَانِ، مُتَّصِلَةٌ، وَمُنْفَصِلَةٌ. أَمَّا الْمُتَّصِلَةُ: كَالسِّمَنِ وَالتَّعْلِيمِ وَكِبَرِ الشَّجَرَةِ، فَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ فِي الرَّدِّ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ بِسَبَبِهَا. وَأَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ كَالْأُجْرَةِ وَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَكَسْبِ الرَّقِيقِ وَمَهْرِ الْجَارِيَةِ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، فَلَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، وَتُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ الزَّوَائِدُ الْحَادِثَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ. وَفِيمَا إِذَا كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهَا لِلْبَائِعِ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْفَسْخَ دَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ. فَلَوْ نَقَصَتِ الْجَارِيَةُ أَوِ الْبَهِيمَةُ بِالْوِلَادَةِ، امْتَنَعَ الرَّدُّ لِلنَّقْصِ الْحَادِثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَلَدُ مَانِعًا. وَتَكَلَّمُوا فِي إِفْرَادِ الْجَارِيَةِ بِالرَّدِّ وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ بِالْوِلَادَةِ بِسَبَبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الرَّدُّ، وَيَتَعَيَّنُ الْأَرْشُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ بَعْدَ بُلُوغِ الْوَلَدِ حَدًّا يَجُوزُ فِيهِ التَّفْرِيقُ. وَقِيلَ: لَا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ هُنَا لِلْحَاجَةِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ مَعَ نَظِيرِهَا فِي الرَّهْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَرْعٌ اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ بَهِيمَةً حَامِلًا، فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا، فَإِنْ كَانَتْ بَعْدُ حَامِلًا، رَدَّهَا كَذَلِكَ. وَإِنْ وَضَعَتِ الْحَمْلَ وَنَقَصَتْ بِالْوِلَادَةِ، فَلَا رَدَّ. وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ، فَفِي رَدِّ الْوَلَدِ مَعَهَا قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ يُعْرَفُ وَيَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ، أَمْ لَا؟ وَالْأَظْهَرُ: نَعَمْ. وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ: أَنَّهُ هَلْ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْوَلَدِ إِلَى اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ؟ وَأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، هَلْ يَسْقُطُ مِنَ الثَّمَنِ بِحِصَّتِهِ؟ وَأَنَّهُ هَلْ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُ الْوَلَدِ قَبْلَ الْقَبْضِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ، جَازَ الْحَبْسُ، وَسَقَطَ الثَّمَنُ، وَلَمْ يَجُزِ الْبَيْعُ، وَإِلَّا انْعَكَسَ الْحُكْمُ. وَلَوِ اشْتَرَى نَخْلَةً وَعَلَيْهَا طَلْعٌ مُؤَبَّرٌ، وَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا بَعْدَ التَّأْبِيرِ، فَفِي الثَّمَرَةِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْحَمْلِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَخْذِهَا قِسْطًا، لِأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ مُسْتَيْقَنَةٌ. وَلَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ بَهِيمَةً حَائِلًا، فَحَبَلَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ، فَإِنْ نَقَصَتْ بِالْحَمْلِ، فَلَا رَدَّ إِنْ كَانَ الْحَمْلُ حَصَلَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ لَمْ يُنْقِصِ الْحَمْلُ، أَوْ كَانَ الْحَمْلُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَلَهُ الرَّدُّ. وَحُكْمُ الْوَلَدِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ. إِنْ قُلْنَا: يَأْخُذُ قِسْطًا، بَقِيَ لِلْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُهُ إِذَا انْفَصَلَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّهُ لِلْبَائِعِ، لِاتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ عِنْدَ الرَّدِّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَأْخُذُ، فَهِيَ لِلْبَائِعِ. وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَمْلَ الْحَادِثَ نَقْصٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجَارِيَةِ يُؤَثِّرُ فِي النَّشَاطِ وَالْجَمَالِ، وَفِي الْبَهِيمَةِ يُنْقِصُ اللَّحْمَ وَيُخِلُّ بِالْحَمْلِ عَلَيْهَا وَالرُّكُوبِ. وَلَوِ اشْتَرَى نَخْلَةً وَأَطْلَعَتْ فِي يَدِهِ، ثُمَّ عَلِمَ عَيْبًا، فَلِمَنِ الطَّلْعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَوَانِ صُوفٌ عِنْدَ الْبَيْعِ، فَجَزَّهُ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا، رَدَّ الصُّوفَ مَعَهُ. فَإِنِ اسْتَجَزَّ ثَانِيًا وَجَزَّهُ، ثُمَّ عَلِمَ الْعَيْبَ، لَمْ يَرُدَّ الثَّانِيَ لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ لَمْ يَجُزُّهُ، رَدَّهُ تَبَعًا. وَلَوِ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا أَصُولُ الْكُرَّاثِ وَنَحْوُهُ وَأَدْخَلْنَاهَا

فصل

فِي الْبَيْعِ، فَنَبَتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ عَلِمَ بِالْأَرْضِ عَيْبًا، رَدَّهَا وَبَقِيَ النَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ تَبَعًا لِلْأَرْضِ. فَصْلٌ الْإِقَالَةُ بَعْدَ الْبَيْعِ جَائِزَةٌ، بَلْ إِذْ نَدَمَ أَحَدُهُمَا، يُسْتَحَبُّ لِلْآخَرِ إِقَالَتُهُ، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْمُتَبَايِعَانِ: تَقَايَلْنَا، أَوْ تَفَاسَخْنَا. أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: أَقَلْتُكَ، فَيَقُولُ الْآخَرُ: قَبِلْتُ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَفِي كَوْنِهَا فَسْخًا أَوْ بَيْعًا، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: فَسْخٌ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِي لَفْظِ الْإِقَالَةِ. فَأَمَّا إِنْ قَالَا: تَفَاسَخْنَا، فَفَسْخٌ قَطْعًا. فَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، تَجَدَّدَتْ بِهَا الشُّفْعَةُ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ تَقَايَلَا فِي الصَّرْفِ، وَجَبَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ إِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، إِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ، وَإِلَّا فَهِيَ كَبَيْعِ الْمَبِيعِ مِنَ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَتَجُوزُ فِي السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْصِ إِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ إِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، وَإِلَّا فَالْأَصَحُّ: الْجَوَازُ، كَالْفَسْخِ بِالتَّحَالُفِ، فَعَلَى هَذَا، يَرُدُّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ مِثْلَ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُتَقَوَّمًا. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، فَفِي الْإِقَالَةِ فِي الْبَاقِي خِلَافٌ مُرَتَّبٌ ; لِأَنَّ الْإِقَالَةَ تُصَادِفُ الْقَائِمَ، فَيَسْتَتْبِعُ التَّالِفَ. وَإِنْ تَقَابَلَا وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فِيهِ إِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، وَنَفَذَ إِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ. فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، انْفَسَخَتِ الْإِقَالَةُ إِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، وَبَقِيَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى حُكْمِ الْعِوَضِ، كَالْمَأْخُوذِ قَرَضًا أَوْ سَوْمًا، وَالْوَاجِبُ فِيهِ، إِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا، أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ. وَإِنْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، يُخَيَّرُ الْبَائِعُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ الْإِقَالَةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ. وَإِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ، غَرِمَ أَرْشَ الْعَيْبِ. وَلَوِ اسْتَعْمَلَهُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، فَهُوَ

كَالْبَيْعِ يَسْتَعْمِلُهُ الْبَائِعُ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ. وَلَوْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا كَانَ حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِقَالَةِ، فَلَا رَدَّ لَهُ إِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَهُ رَدُّهُ. وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي حَبْسُ الْمَبِيعِ، لِاسْتِرْدَادِهِ الثَّمَنَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِقَالَةِ ذِكْرُ الثَّمَنِ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِذَلِكَ الثَّمَنِ. فَلَوْ زَادَ أَوْ نَقَصَ، بَطَلَتْ، وَبَقِيَ الْبَيْعُ بِحَالِهِ، حَتَّى لَوْ أَقَالَهُ عَلَى أَنْ يُنْظِرَهُ بِالثَّمَنِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الصِّحَاحَ عَنِ الْمُكَسَّرِ، لَمْ يَصِحَّ. وَيَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ الْإِقَالَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَتَجُوزُ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا إِذَا لَمْ تَلْزَمْ جَهَالَةٌ. أَمَّا إِذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَتَقَايَلَا [فِي] أَحَدِهِمَا مَعَ بَقَاءِ الثَّانِي، فَلَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِنَا: بَيْعٌ، لِلْجَهْلِ بِحِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ. وَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِي بَعْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، لَكِنْ لَوْ أَقَالَهُ فِي الْبَعْضِ لِيُعَجِّلَ الْبَاقِيَ، أَوْ عَجَّلَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْبَعْضَ لِيُقِيلَهُ فِي الْبَاقِي، فَهِيَ فَاسِدَةٌ. قُلْتُ: قَالَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِهِ «التَّلْخِيصُ» : لَوْ تَقَايَلَا، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْإِقَالَةُ بَيْعٌ أَوْ فَسْخٌ، أَصَحُّهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَرْزُبَانِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَالثَّالِثُ: يَتَحَالَفَانِ وَتَبْطُلُ الْإِقَالَةُ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَإِذَا تَقَايَلَا وَقَدْ زَادَ الْمَبِيعُ، فَالزِّيَادَةُ الْمُتَمَيِّزَةُ لِلْمُشْتَرِي، وَغَيْرُهَا لِلْبَائِعِ. قَالَ: وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الْإِقَالَةِ، صُدِّقَ مُنْكِرُهَا. قَالَ: وَلَوْ بَاعَهُ، ثُمَّ تَقَايَلَا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَدَفْعِ الْمَالِ، اسْتَرْجَعَهُ الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَصْبِرَ قَدْرَ الْأَجَلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ، سَقَطَ وَبَرِئَا جَمِيعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ. إِحْدَاهَا: الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ إِذَا خَرَجَ مَعِيبًا، يُرَدُّ بِالْعَيْبِ كَالْمَبِيعِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا اسْتُبْدِلَ، وَلَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ، سَوَاءٌ خَرَجَ مَعِيبًا بِخُشُونَةٍ أَوْ سَوَادٍ أَوْ وُجِدَتْ [سَكَّتُهُ مُخَالِفَةً] سَكَّةَ النَّقْدِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ، أَوْ خَرَجَ نُحَاسًا، أَوْ رَصَاصًا. الثَّانِيَةُ: تَصَارَفَا وَتَقَابَضَا، ثُمَّ وَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَ خَلَلًا، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرِدَ الْعَقْدُ عَلَى مُعَيَّنَيْنِ فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا نُحَاسًا، بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ، تَغْلِيبًا لِلْإِشَارَةِ. هَذَا إِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَجِئْ هَذَا الْوَجْهُ الضَّعِيفُ. وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِيهِ، وَفِي الْبَاقِي قَوْلَا تَفْرِيقِ الصِّفَةِ. فَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ، فَلَهُ الْخِيَارُ. فَإِنْ أَجَازَ وَالْجِنْسُ مُخْتَلِفٌ، بِأَنْ تَبَايَعَا ذَهَبًا بِفِضَّةٍ، جَاءَ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّ الْإِجَازَةَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَمْ بِالْقِسْطِ؟ وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُتَّفِقًا، فَالْإِجَازَةُ الْحِصَّةُ قَطْعًا، لِامْتِنَاعِ التَّفَاضُلِ. وَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمْ خَشِنًا، فَلِمَنْ أَخَذَهُ الْخِيَارُ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ كَذَلِكَ، فَلَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا. وَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ فِي الْمَعِيبِ، وَالْإِجَازَةُ فِي الْبَاقِي؟ فِيهِ قَوْلَا التَّفْرِيقِ. فَإِنْ جَوَّزْنَا فَالْإِجَازَةُ بِالْحِصَّةِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَرِدَ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ يُحْضِرَاهُ وَيَتَقَابَضَا، فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا نُحَاسًا وَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ، اسْتُبْدِلَ. وَإِنْ تَفَرَّقَا، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ غَيْرُ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ. وَإِنْ خَرَجَ خَشِنًا، أَوْ أَسْوَدَ، فَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الرِّضَا بِهِ وَالِاسْتِبْدَالِ وَإِنْ تَفَرَّقَا، فَهَلْ لَهُ الِاسْتِبْدَالُ؟ قَوْلَانِ.

أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. كَالْمُسْلَمِ فِيهِ إِذَا خَرَجَ مَعِيبًا ; لِأَنَّ الْقَبْضَ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ، إِذْ لَوْ رَضِيَ بِهِ لَجَازَ. وَالْبَدَلُ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَيَجِبُ أَخْذُ الْبَدَلِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ عَنْ مَجْلِسِ الرَّدِّ. وَإِنْ خَرَجَ الْبَعْضُ كَذَلِكَ وَقَدْ تَفَرَّقَا، فَإِنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ، اسْتَبْدَلَ، وَإِلَّا فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ وَالْإِجَازَةِ. وَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ وَالْإِجَازَةُ فِي الْبَاقِي؟ فِيهِ قَوْلَا التَّفْرِيقِ. وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ، حُكْمُهُ حُكْمُ عِوَضِ الصَّرْفِ. وَلَوْ وَجَدَ أَحَدُ الْمُتَصَارِفَيْنِ بِمَا أَخَذَهُ عَيْبًا بَعْدَ تَلَفِهِ، أَوْ تَبَايَعَا طَعَامًا بِطَعَامٍ، ثُمَّ وَجَدَ أَحَدُهُمَا بِالْمَأْخُوذِ عَيْبًا بَعْدَ تَلَفِهِ، نُظِرَ، وَإِنْ وَرَدَ الْعَقْدُ فِي مُعَيَّنَيْنِ، وَاخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْعَرَضِ بِالنَّقْدِ. وَإِنْ كَانَ مُتَّفِقًا، فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي مَسْأَلَةِ الْحُلِيِّ. وَإِنْ وَرَدَ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ وَلَمْ يَتَفَرَّقَا بَعْدُ، غَرَمَ مَا تَلَفَ عِنْدَهُ وَيَسْتَبْدِلُ. وَكَذَا إِنْ تَفَرَّقَا، وَجَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ. وَلَوْ وَجَدَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَيْبًا بَعْدَ تَلَفِهِ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَعُيِّنَ وَتَفَرَّقَا، وَلَمْ نُجَوِّزِ الِاسْتِبْدَالَ، سَقَطَ مِنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِقَدْرِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ قِيمَةِ رَأْسِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ، غَرَمَ التَّالِفَ وَاسْتَبْدَلَ. وَكَذَا إِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَجَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ، وَأَخَذَ بِالْأَلْفِ ثَوْبًا، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا وَرَدَّهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يَرْجِعُ بِالثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَمَلَّكَهُ بِالثَّمَنِ. وَإِذَا فُسِخَ الْبَيْعُ سَقَطَ الثَّمَنُ فَانْفَسَخَ بَيْعُ الثَّوْبِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَرْجِعُ بِالْأَلْفِ ; لِأَنَّ الثَّوْبَ مَمْلُوكٌ بِعَقْدٍ آخَرَ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَرْجِعُ بِالْأَلْفِ دُونَ الثَّوْبِ ; لِأَنَّ الِانْفِسَاخَ بِالتَّلَفِ يَقْطَعُ الْعَقْدَ، وَلَا يَرْفَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ. الرَّابِعَةُ: بَاعَ عَصِيرًا، فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا بَعْدَمَا صَارَ خَمْرًا، فَلَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّ الْخَمْرِ، فَيَأْخُذُ الْأَرْشَ. فَإِنْ تَخَلَّلَ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَلَا يَدْفَعَ الْأَرْشَ. وَلَوِ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، وَعَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْخَمْرِ عَيْبًا، اسْتَرَدَّ جُزْءًا

مِنَ الثَّمَنِ عَلَى سَبِيلِ الْأَرْشِ، وَلَا رَدَّ. وَلَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ وَحْدَهُ، فَلَا رَدَّ أَيْضًا. وَلَوْ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، فَلَهُ الرَّدُّ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَتَمَلَّكُ الْخَمْرَ، بَلْ نُزِيلُ يَدَهُ عَنْهَا. الْخَامِسَةُ: مُؤْنَةُ رَدِّ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ، عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، ضَمِنَهُ. السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ بَعْدَ رَدِّ الْمَبِيعِ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ. وَقِيلَ: يَتَحَالَفَانِ وَتَبْقَى السِّلْعَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلَهُ الْأَرْشُ عَلَى الْبَائِعِ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَقِيلَ لَهُ: إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الثَّمَنُ، كَيْفَ يُعْرَفُ الْأَرْشَ؟ فَقَالَ: أَحْكُمُ بِالْأَرْشِ مِنَ الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. السَّابِعَةُ: لَوِ احْتِيجَ إِلَى الرُّجُوعِ بِالْأَرْشِ، فَاخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي: قَوْلُ الْمُشْتَرِي. الثَّامِنَةُ: أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِبَيْعِ عَبْدِهِ أَوْ ثَوْبِهِ وَشِرَاءِ جَارِيَةٍ بِثَمَنِهِ وَإِعْتَاقِهَا، فَفَعَلَ الْوَصِيُّ ذَلِكَ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ عَيْبًا، فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى الْوَصِيِّ وَمُطَالَبَتُهُ بِالثَّمَنِ، كَمَا يَرُدُّ عَلَى الْوَكِيلِ، ثُمَّ الْوَصِيُّ يَبِيعُ الْعَبْدَ الْمَرْدُودَ، وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ إِلَى الْمُشْتَرِي. وَلَوْ فُرِضَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْوَكِيلِ، فَهَلْ لِلْوَكِيلِ بَيْعُهُ ثَانِيًا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَالْوَصِيِّ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا ; لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ جَدِيدٌ فَاحْتَاجَ إِلَى إِذْنٍ جَدِيدٍ، بِخِلَافِ الْإِيصَاءِ، فَإِنَّهُ تَوْلِيَةٌ وَتَفْوِيضٌ كُلِّيٌّ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، فَامْتَثَلَ وَرَدَّ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قُلْنَا: مِلْكُ الْبَائِعِ لَمْ يَزُلْ، فَلَهُ بَيْعُهُ ثَانِيًا. وَإِنْ قُلْنَا: زَالَ وَعَادَ، فَهُوَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. ثُمَّ إِذَا بَاعَهُ الْوَصِيُّ ثَانِيًا، نُظِرَ، إِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَذَاكَ. وَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ، فَهَلِ النَّقْصُ عَلَى الْوَصِيِّ، أَوْ فِي ذِمَّةِ الْمُوصِي؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ الْجَارِيَةِ بِثَمَنِ الْعَبْدِ،

لَا بِالزِّيَادَةِ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ بِنَفْسِ الرَّدِّ، غَرَمَ جَمِيعَ الثَّمَنِ. وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ قِيمَةٍ أَوْ رَغْبَةِ رَاغِبٍ، دَفَعَ قَدْرَ الثَّمَنِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَالْبَاقِي لِلْوَارِثِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ، لِلْغُبْنِ. وَيَقَعُ عِتْقُ الْجَارِيَةِ عَنِ الْوَصِيِّ إِنِ اشْتَرَاهَا فِي الذِّمَّةِ، وَإِنِ اشْتَرَاهَا بِعَيْنِ ثَمَنِ الْعَبْدِ، لَمْ يَنْفُذِ الشِّرَاءُ وَلَا الْإِعْتَاقُ، وَعَلَيْهِ شِرَاءُ جَارِيَةٍ أُخْرَى بِهَذَا الثَّمَنِ وَإِعْتَاقُهَا عَنِ الْمُوصِي، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْيِيدٍ وَتَأْوِيلٍ ; لِأَنَّ بَيْعَهُ بِالْغُبْنِ وَتَسْلِيمَهُ عَنْ عِلْمٍ بِالْحَالِ، خِيَانَةٌ. وَالْأَمِينُ يَنْعَزِلُ بِالْخِيَانَةِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ شِرَاءِ جَارِيَةٍ أُخْرَى. قُلْتُ: لَيْسَ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ بَاعَ بِالْغُبْنِ عَالِمًا، فَالصُّورَةُ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ لَمْ يَعْلَمِ الْغُبْنَ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ تَصْوِيرِهَا فِي الْعَالَمِ وَأَنَّ الْقَاضِيَ جَدَّدَ لَهُ وِلَايَةً. وَهَذِهِ مَسَائِلُ أَلْحَقْتُهَا. لَوِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِأَلْفٍ فِي الذِّمَّةِ، فَقَضَاهُ عَنْهُ أَجْنَبِيُّ مُتَبَرِّعًا فَرُدَّتِ السِّلْعَةُ بِعَيْبٍ، لَزِمَ الْبَائِعَ رَدُّ الْأَلْفِ. وَعَلَى مَنْ يُرَدُّ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ الدَّافِعُ. وَالثَّانِي: عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ. فَإِذَا رَدَّ الْمَبِيعَ، رَدَّ إِلَيْهِ مَا قَابَلَهُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ صَاحِبُ الْمُعَايَاةِ ذَكَرَهُ فِي بَابِ الرَّهْنِ. قَالَ: وَلَوْ خَرَجَتِ السِّلْعَةُ مُسْتَحَقَّةً، رُدَّ الْأَلْفُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ قَطْعًا، لَأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ لَا ثَمَنَ وَلَا بَيْعَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا انْعَقَدَ الْبَيْعُ، لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهِ الْفَسْخُ إِلَّا بِأَحَدِ سَبْعَةِ أَسْبَابٍ: خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَالشَّرْطِ، وَالْعَيْبِ، وَخُلْفِ الْمَشْرُوطِ الْمَقْصُودِ، وَالْإِقَالَةِ، وَالتَّحَالُفِ، وَهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. قَالَ الْقَفَّالُ وَالصَّيْدَلَانِيُّ، وَآخَرُونَ: لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا وَقَبَضَهُ وَسَلَّمَ ثَمَنَهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِالثَّوْبِ عَيْبًا قَدِيمًا فَرَدَّهُ، فَوَجَدَ الثَّمَنَ مَعِيبًا نَاقِصَ الصِّفَةِ بِأَمْرٍ حَدَثَ عِنْدَ الْبَائِعِ - يَأْخُذُهُ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهُ بِسَبَبِ النَّقْصِ. وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، ذَكَرَهُ فِي بَابِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

باب حكم المبيع قبل القبض وبعده وصفة القبض.

بَابُ حُكْمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَصِفَةُ الْقَبْضِ. لِلْقَبْضِ حُكْمَانِ. أَحَدُهُمَا: انْتِقَالُ الضَّمَانِ إِلَى الْمُشْتَرِي. فَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ تَلَفَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ. فَلَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ مِنْ ضَمَانِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَهَلْ يَبْرَأُ حَتَّى لَوْ تَلَفَ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَلَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَبْرَأُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْعَقْدِ. ثُمَّ إِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ، كَانَ الْمَبِيعُ هَالِكًا عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ. حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا، كَانَتْ مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ عَلَى الْبَائِعِ. وَهَلْ نَقُولُ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ قُبَيْلَ الْهَلَاكِ، أَمْ يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ؟ وَجْهَانِ خَرَّجَهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ اخْتِيَارُهُ وَاخْتِيَارُ ابْنِ الْحَدَّادِ: لَا يَرْتَفِعُ مِنْ أَصْلِهِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفِي الزَّوَائِدِ الْحَادِثَةِ بِيَدِ الْبَائِعِ مِنَ الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ وَالْكَسْبِ وَغَيْرِهَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ، وَذَكَرْنَا نَظِيرَهُمَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَطَرَّدَهُمَا جَمَاعَةٌ فِي الْإِقَالَةِ إِذَا جَعَلْنَاهَا فَسْخًا، وَخَرَّجُوا عَلَيْهِمَا الزَّوَائِدَ. وَالْأَصَحُّ فِي الْجَمِيعِ: أَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي، وَتَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْبَائِعِ. وَلَوْ هَلَكَتْ وَالْأَصْلُ بَاقٍ بِحَالِهِ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. وَفِي مَعْنَى الزَّوَائِدِ، الرِّكَازُ الَّذِي يَجِدُهُ الْعَبْدُ وَمَا وُهِبَ لَهُ فَقَبَضَهُ وَقَبِلَهُ، وَمَا أُوصِي لَه [بِهِ] فَقَبِلَهُ، هَذَا حُكْمُ التَّلَفِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ. أَمَّا إِذَا تَلَفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يُتْلِفَهُ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ قَبْضٌ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَهُ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْمَالِكُ الْمَغْصُوبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، يَبْرَأُ الْغَاصِبُ وَيَصِيرُ الْمَالِكُ مُسْتَرِدًّا بِالْإِتْلَافِ. وَفِي وَجْهٍ: إِتْلَافُهُ لَيْسَ بِقَبْضٍ، لَكِنْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ

لِلْبَائِعِ، وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ، وَيَكُونُ التَّلَفُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. هَذَا عِنْدَ الْعِلْمِ. أَمَّا إِذَا كَانَ جَاهِلًا، بِأَنْ قَدَّمَ الْبَائِعُ الطَّعَامَ الْمَبِيعَ إِلَى الْمُشْتَرِي فَأَكَلَهُ، فَهَلْ يُجْعَلُ قَبْضًا؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا قَدَّمَ الْغَاصِبُ الطَّعَامَ الْمَغْصُوبَ إِلَى الْمَالِكِ فَأَكَلَهُ جَاهِلًا، هَلْ يَبْرَأُ الْغَاصِبُ؟ فَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ قَابِضًا، فَهُوَ كَإِتْلَافِ الْبَائِعِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُتْلِفَهُ أَجْنَبِيُّ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالتَّلَفِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ. وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ، بَلْ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ، وَيَغَرُمُ الْأَجْنَبِيُّ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ وَغَرَمَ الْأَجْنَبِيُّ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْقَوْلِ الثَّانِي، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ. وَإِذَا قُلْنَا بِهِ فَهَلْ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْقِيمَةِ لِأَخْذِ الثَّمَنِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ. كَمَا يَحْبِسُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَةَ الْمَرْهُونِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، كَالْمُشْتَرِي إِذَا أَتْلَفَ الْمَبِيعَ، لَا يَغَرُمُ الْقِيمَةَ لِيَحْبِسَهَا الْبَائِعُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ تَلَفَتِ الْقِيمَةُ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، هَلْ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَبِيعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُتْلِفَهُ الْبَائِعُ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ كَالْآفَةِ. وَالثَّانِي: لَا، بَلْ إِنْ شَاءَ فَسَخَ وَسَقَطَ الثَّمَنُ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ وَغَرَمَ الْبَائِعُ الْقِيمَةَ وَأَدَّى لَهُ الثَّمَنَ. وَقَدْ يَقَعُ ذَلِكَ فِي أَقْوَالِ التَّقَاصِّ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِالِانْفِسَاخِ، عَادَ الْخِلَافُ فِي حَبْسِ الْقِيمَةِ. وَقِيلَ: لَا حَبْسَ هُنَا قَطْعًا، لِتَعَدِّيهِ بِإِتْلَافِ الْعَيْنِ. فَرْعٌ بَاعَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ وَأَعْتَقَ بَاقِيَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَسَقَطَ الثَّمَنُ إِنْ جَعَلْنَا إِتْلَافَ الْبَائِعِ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَّا فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ.

فَرْعٌ لَوِ اسْتَعْمَلَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ إِنْ جَعَلْنَا إِتْلَافَهُ كَالْآفَةِ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ. فَرْعٌ إِتْلَافُ الْأَعْجَمِيِّ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ بِأَمْرِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، كَإِتْلَافِهِمَا. وَإِتْلَافُ الْمُمَيَّزِ بِأَمْرِهِمَا، كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، أَنَّ إِذْنَ الْمُشْتَرِي لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الْإِتْلَافِ يَلْغُو، وَإِذَا أَتْلَفَ، فَلَهُ الْخِيَارُ. وَأَنَّهُ لَوْ أَذِنَ الْبَائِعُ فِي الْأَكْلِ وَالْإِحْرَاقِ، فَفَعَلَ، كَانَ التَّلَفُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَذِنَ لِلْغَاصِبِ فَفَعَلَ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ مُسْتَقِرٌّ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّ إِتْلَافَ عَبْدِ الْبَائِعِ، كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَكَذَا إِتْلَافُ عَبْدِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنْ أَجَازَ جُعِلَ قَابِضًا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِنَفْسِهِ. وَإِنْ فَسَخَ، اتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَلَفًا، فَاعْتَلَفَهُ حِمَارُ الْمُشْتَرِي بِالنَّهَارِ، يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ. وَإِنِ اعْتَلَفَهُ بِاللَّيْلِ لَمْ يَنْفَسِخْ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، فَإِنْ أَجَازَ، فَهُوَ قَابِضٌ، وَإِلَّا، طَالَبَهُ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ مَا أَتْلَفَ حِمَارُهُ. وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ إِتْلَافَ بَهِيمَةِ الْبَائِعِ، كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ. فَقِيلَ لَهُ: فَهَلَّا فَرَّقْتَ فِيهَا أَيْضًا بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؟ فَقَالَ: هَذَا مَوْضِعُ فِكْرٍ. فَرْعٌ لَوْ صَالَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَقَتَلَهُ دَفْعًا، قَالَ الْقَاضِي: يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ لِغَرَضِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَسْتَقِرُّ.

قُلْتُ: قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ أَصَحُّ. وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ الْأَجْنَبِيُّ، وَلَا الْمُحْرِمُ لَوْ كَانَ صَيْدًا. وَكَذَا لَوْ صَالَ الْمَغْصُوبُ عَلَى مَالِكِهِ فَقَتَلَهُ دَفْعًا، لَمْ يَبْرَأِ الْغَاصِبُ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ مَلَكَهُ، أَمْ لَا. وَفِي الْعَالِمِ وَجْهٌ شَاذٌّ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْغَصْبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ، فَلِلْبَائِعِ الِاسْتِرْدَادُ إِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ، فَإِنْ أَتْلَفَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، لِاسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ بِالْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فِيهِ. وَالثَّانِي: يُجْعَلُ مُسْتَرَدًّا بِالْإِتْلَافِ، كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَابِضٌ بِالْإِتْلَافِ. وَعَلَى هَذَا، فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ أَوْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي. قَالَ الْإِمَامُ: الظَّاهِرُ الثَّانِي. فَرْعٌ وُقُوعُ الدُّرَّةِ فِي الْبَحْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَالتَّلَفِ، فَيَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ. وَكَذَا انْفِلَاتُ الصَّيْدِ الْمُتَوَحِّشِ وَالطَّيْرِ، قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَلَوْ غَرَّقَ الْمَاءُ الْأَرْضَ الْمُشْتَرَاةَ، أَوْ وَقَعَ عَلَيْهَا صُخُورٌ عَظِيمَةٌ مِنْ جَبَلٍ، أَوْ رَكِبَهَا رَمْلٌ، فَهَلْ هُوَ كَالتَّلَفِ أَوْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الثَّانِي.

فَرْعٌ لَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ ضَاعَ فِي انْتِهَابِ الْعَسْكَرِ، لَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ، لِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ وَرَجَاءِ الْعَوْدِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَنْفَسِخُ كَالتَّلَفِ. وَلَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْخِيَارُ. فَإِنْ أَجَازَ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ، وَإِنْ سَلَّمَهُ، قَالَ الْقَفَّالُ: لَيْسَ لَهُ الِاسْتِرْدَادِ، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْفَسْخِ. وَإِنْ أَجَازَ ثُمَّ أَرَادَ الْفَسْخَ، فَلَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوِ انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَأَجَازَ ثُمَّ أَرَادَ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ كُلَّ سَاعَةٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْقَفَّالِ مِثْلُهُ فِيمَا إِذَا أَتْلَفَ الْأَجْنَبِيُّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَجَازَ الْمُشْتَرِي لِيَتْبَعَ الْأَجْنَبِيَّ، ثُمَّ أَرَادَ الْفَسْخَ، قَالَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنَ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِمَا فِي ذِمَّةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَأَشْبَهَ الْحَوَالَةَ. فَرْعٌ لَوْ جَحَدَ الْبَائِعُ الْعَيْنَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ، لِلتَّعَذُّرِ. فَرْعٌ مَنْقُولٌ مِنْ فَتَاوَى الْقَاضِي. بَاعَ عَبْدَهُ رَجُلًا، ثُمَّ بَاعَهُ لِآخَرَ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، وَعَجَزَ عَنِ انْتِزَاعِهِ مِنْهُ وَتَسْلِيمِهِ إِلَى الْأَوَّلِ، فَهَذَا جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَى الْمَبِيعِ، فَهُوَ كَالْجِنَايَةِ الْحِسِّيَّةِ، فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَبَيْنَ أَنْ يُجِيزَ وَيَأْخُذَ الْقِيمَةَ مِنَ الْبَائِعِ. وَلَوْ طَالَبَ الْبَائِعَ بِالتَّسْلِيمِ، وَزَعَمَ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْبَائِعُ: أَنَا عَاجِزٌ عَنْهُ، حَلَفَ. فَإِنْ نَكَلَ،

فصل

حَلَفَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ قَادِرٌ، وَحُبِسَ إِلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ أَوْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِعَجْزِهِ، فَإِنِ ادَّعَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي الْعِلْمَ بِالْحَالِ فَأَنْكَرَ، حَلَّفَهُ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ هُوَ وَأَخَذَ مِنْهُ. فَصْلٌ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَيْبٌ أَوْ نَقْصٌ، نُظِرَ إِنْ كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، بِأَنْ عَمِيَ الْعَبْدُ، أَوْ شُلَّتْ يَدُهُ، أَوْ سَقَطَتْ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِلَّا أَجَازَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلَا أَرْشَ لَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفَسْخِ. وَإِنْ كَانَ بِجِنَايَةٍ، عَادَتِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ. أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الْجَانِي هُوَ الْمُشْتَرِيَ. فَإِذَا قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ مَثَلًا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ ; لِأَنَّ النَّقْصَ بِفِعْلِهِ، بَلْ يَمْتَنِعُ بِسَبَبِهِ الرَّدُّ بِجَمِيعِ الْعُيُوبِ الْقَدِيمَةِ، وَيُجْعَلُ قَابِضًا لِبَعْضِ الْمَبِيعِ، حَتَّى يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ. فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، لَمْ يَضْمَنِ الْمُشْتَرِي الْيَدَ بِأَرْشِهَا الْمُقَدَّرِ، وَلَا بِمَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهَا بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، كَمَا يَضْمَنُ الْجَمِيعَ بِكُلِّ الثَّمَنِ. وَفِي مِعْيَارِهِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ الْحَدَّادِ: يُقَوَّمُ الْعَبْدُ صَحِيحًا ثُمَّ مَقْطُوعًا، وَيُعْرَفُ التَّفَاوُتُ، فَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ بِمِثْلِ تِلْكَ النِّسْبَةِ. . بَيَانُهُ: قُوِّمَ صَحِيحًا بِثَلَاثِينَ، وَمَقْطُوعًا بِخَمْسَةَ عَشَرَ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الثَّمَنِ. وَلَوْ قُوِّمَ مَقْطُوعًا بِعِشْرِينَ، كَانَ عَلَيْهِ ثُلُثُ الثَّمَنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يَسْتَقِرُّ مِنَ الثَّمَنِ بِنِسْبَةِ أَرْشِ الْيَدِ مِنَ الْقِيمَةِ، وَهُوَ النِّصْفُ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَانْدَمَلَتَا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ تَمَامُ الثَّمَنِ. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّ إِتْلَافَ الْمُشْتَرِي قَبْضٌ. فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ.

فصل

الضَّعِيفِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِقَبْضٍ، فَلَا يُجْعَلُ قَابِضًا لِشَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْيَدِ بِأَرْشِهَا الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا، فَيَقْطَعُ يَدَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ وَتَبِعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَغَرَمَ الْجَانِي. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا يَغْرُمُهُ إِذَا قَبَضَ الْعَبْدَ. أَمَّا قَبْلَهُ فَلَا، لِجَوَازِ مَوْتِ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَانْفِسَاخِ الْبَيْعِ. ثُمَّ الْغَرَامَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، هَلْ هِيَ نِصْفُ الْقِيمَةِ، أَوْ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ بِالْقَطْعِ؟ قَوْلَانِ جَارِيَانِ فِي جِرَاحِ الْعَبِيدِ مُطْلَقًا. وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجْنِيَ الْبَائِعُ، فَيَقْطَعُ يَدَ الْعَبْدِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ: إِنَّ جِنَايَتَهُ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَإِنْ قُلْنَا: كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا، إِنْ فَسَخَ فَذَاكَ، وَإِنْ أَجَازَ رَجَعَ بِالْأَرْشِ عَلَى الْبَائِعِ. وَفِي قَدْرِهِ الْقَوْلَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْأَجْنَبِيِّ. فَصْلٌ إِذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَتَلَفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ، وَفِي الْبَاقِي قَوْلَا التَّفْرِيقِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، وَأَجَازَ، فَبِكَمْ يُجِيزُ؟ فِيهِ خِلَافٌ قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَوِ احْتَرَقَ سَقْفُ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ تَلَفَ بَعْضُ أَبْنِيَتِهَا، فَوَجْهِانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالتَّعَيُّبِ، كَسُقُوطِ يَدِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَتَلَفِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِيهِ. وَفِي الْبَاقِي الْقَوْلَانِ ; لِأَنَّ السَّقْفَ يُمْكِنُ بَيْعُهُ مُنْفَصِلًا، بِخِلَافِ يَدِ الْعَبْدِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ إِذَا احْتَرَقَ.

مِنَ الدَّارِ مَا يُفَوِّتَ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا طَرَفٌ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَجُعِلَ فَوَاتُ الْبَعْضِ فِي ذَلِكَ، كَفَوَاتِ الْكُلِّ. الْحُكْمُ الثَّانِي لِلْقَبْضِ: التَّسَلُّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، عَقَارًا كَانَ أَوْ مَنْقُولًا، لَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ، وَلَا دُونَ إِذْنِهِ، لَا قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ، وَلَا بَعْدَهُ. وَفِي الْإِعْتَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَصِحُّ، وَيَصِيرُ قَبْضًا، سَوَاءٌ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ، أَمْ لَا. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ. وَالثَّالِثُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ، بِأَنْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا أَوْ حَالًّا [وَقَدْ] أَدَّاهُ الْمُشْتَرِي، صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ وَقَفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِنْ قُلْنَا: الْوَقْفُ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، فَهُوَ كَالْبَيْعِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْإِعْتَاقِ، وَبِهِ قَطَعَ فِي «الْحَاوِي» ، وَقَالَ: يَصِيرُ قَابِضًا، حَتَّى لَوْ لَمْ يَرْفَعِ الْبَائِعُ يَدَهُ عَنْهُ، صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ. وَكَذَا قَالَ فِي إِبَاحَةِ الطَّعَامِ لِلْمَسَاكِينِ إِذَا كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ جُزَافًا. وَالْكِتَابَةُ كَالْبَيْعِ عَلَى الْأَصَحِّ، إِذْ لَيْسَ لَهَا قُوَّةُ الْعِتْقِ وَغَلَبَتُهُ، وَالِاسْتِيلَادُ كَالْعِتْقِ. وَفِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ: لَا يَصِحَّانِ. وَإِذَا صَحَّحْنَاهُمَا، فَنَفْسُ الْعَقْدِ لَيْسَ بِقَبْضٍ، بَلْ يَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْبَائِعِ، ثُمَّ يُسَلِّمُهُ لِلْمُتَّهِبِ وَالْمُرْتَهِنِ. فَلَوْ أَذِنَ لِلْمُتَّهِبِ وَالْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِهِ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : يَكْفِي، وَيَتِمُّ بِهِ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ وَالْهِبَةُ بَعْدَهُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَكْفِي ذَلِكَ لِلْبَيْعِ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ، إِنْ قَصَدَ قَبْضَهُ لِلْمُشْتَرِي، صَحَّ قَبْضُ الْبَيْعِ، وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِئْنَافِ قَبْضٍ لِلْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. وَإِنْ قَصَدَ قَبْضَهُ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَحْصُلِ الْقَبْضُ لِلْبَيْعِ، وَلَا لِلْهِبَةِ ; لِأَنَّ قَبْضَهَا، يَجِبُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ تَمَامِ الْبَيْعِ. . وَالْإِقْرَاضُ وَالتَّصَدُّقُ كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، فَفِيهِمَا الْخِلَافُ. وَلَا تَصِحُّ إِجَارَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَيَصِحُّ التَّزْوِيجُ عَلَى أَصَحِّ الْأَوْجُهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الثَّانِي. وَفِي الثَّالِثِ: إِنْ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ،

لَمْ يَصِحَّ، وَإِلَّا صَحَّ. وَطَرَّدَ هَذَا الْوَجْهَ فِي الْإِجَارَةِ. وَإِذَا صَحَّحْنَا التَّزْوِيجَ، فَوَطِئَ الزَّوْجُ، لَمْ يَكُنْ قَبْضًا. فَرْعٌ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ أُجْرَةً وَلَا عِوَضًا فِي صُلْحٍ وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ وَلَا التَّوْلِيَةُ وَالْإِشْرَاكُ. وَفِي التَّوْلِيَةِ وَالْإِشْرَاكِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ غَيْرِ الْبَائِعِ. أَمَّا إِذَا بَاعَهُ لِلْبَائِعِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَهُمَا فِيمَا إِذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ، أَوْ بِزِيَادَةٍ، أَوْ نَقْصٍ، أَوْ تَفَاوُتِ صِفَةٍ، وَإِلَّا فَهُوَ إِقَالَةٌ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ، قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَلَوْ رَهَنَهُ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ كَغَيْرِهِ. فَإِنْ جَوَّزْنَا، فَأُذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ، فَقَبَضَ، ملَكَ فِي صُورَةِ الْهِبَةِ، وَثَبَتَ الرَّهْنُ. وَلَا يَزُولُ ضَمَانُ الْبَيْعِ فِي صُورَةِ الرَّهْنِ، بَلْ إِنْ تَلَفَ انْفَسَخَ الْبَيْعُ. وَلَوْ رَهَنَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. فَرْعٌ لِابْنِ سُرَيْجٍ. بَاعَ عَبْدًا بِثَوْبٍ، وَقَبَضَ الثَّوْبَ، وَلَمْ يُسَلِّمِ الْعَبْدَ، فَلَهُ بَيْعُ الثَّوْبِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ بَيْعُ الْعَبْدِ. فَلَوْ بَاعَ الثَّوْبَ وَهَلَكَ الْعَبْدُ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ، وَلَا يَبْطُلُ فِي الثَّوْبِ، وَيَغْرُمُ قِيمَتَهُ لِبَائِعِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَلَاكُ الْعَبْدِ.

فصل

بَعْدَ تَسْلِيمِ الثَّوْبِ أَوْ قَبْلَهُ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، وَلَوْ تَلَفَ الثَّوْبُ وَالْعَبْدُ فِي يَدِهِ، غَرَمَ لِبَائِعِ الثَّوْبِ الْقِيمَةَ، وَلِمُشْتَرِيهِ الثَّمَنَ. فَصْلٌ الْمَالُ الْمُسْتَحَقُّ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ غَيْرِهِ، عَيْنٌ وَدَيْنٌ. أَمَّا الثَّانِي، فَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَضَرْبَانِ، أَمَانَةٌ وَمَضْمُونٌ. [الضَّرْبُ] الْأَوَّلُ: الْأَمَانَاتُ، فَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ بَيْعُهَا، لِتَمَامِ الْمِلْكِ، وَهِيَ كَالْوَدِيعَةِ فِي يَدِ الْمُوَدَعِ وَمَالِ الشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ فِي يَدِ الشَّرِيكِ وَالْعَامِلِ، وَالْمَالِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهُ، وَفِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ فِكَاكِ الرَّهْنِ، وَفِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُدَّةِ، وَالْمَالِ فِي يَدِ الْقَيَّمِ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ رَشِيدًا، وَمَا كَسَبَهُ الْعَبْدُ بِاحْتِطَابٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ قَبِلَهُ بِالْوَصِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ السَّيِّدُ. وَلَوْ وَرِثَ مَالًا، فَلَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ أَخْذِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُوَرِّثُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ أَيْضًا مِثْلَ مَا اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ. وَلَوِ اشْتَرَى مِنْ مُوَرِّثِهِ شَيْئًا، وَمَاتَ الْمُوَرِّثُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَلَهُ بَيْعُهُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى االْمُوَرِّثِ دَيْنٌ أَمْ لَا. وَحَقُّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ، لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ فِي قَدْرِ نَصِيبِ الْآخَرِ حَتَّى يَقْبِضَهُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِمَالٍ، فَقَبِلَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ، جَازَ إِنْ قُلْنَا: تُمْلَكُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَوْتِ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالْقَبُولِ، أَوْ [هُوَ] مَوْقُوفٌ، فَلَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْمَضْمُونَاتُ، وَهِيَ نَوْعَانِ. الْأَوَّلُ: الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ، وَيُسَمَّى ضَمَانَ الْيَدِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، لِتَمَامِ الْمِلْكِ فِيهِ. وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ بِعَقْدٍ مَفْسُوخٍ وَغَيْرِهِ. حَتَّى لَوْ بَاعَ

عَبْدًا، فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا وَفَسَخَ الْبَيْعَ، كَانَ لِلْبَائِعِ بَيْعُ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرِدُّهُ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِلَّا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ الثَّمَنَ، فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي حَبْسَهُ إِلَى اسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ. وَلَوْ فُسِخَ السَّلَمُ لِانْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَلِلْمُسَلِّمِ بَيْعُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ اسْتِرْدَادِهِ. وَكَذَا لِلْبَائِعِ بَيْعُ الْمَبِيعِ إِذَا فُسِخَ بِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَسْتَرِدُّهُ بَعْدُ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَامِ، وَفِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْمُتَّهِبِ فِي الشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ الْفَاسِدَيْنِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ. . النَّوْعُ الثَّانِي: الْمَضْمُونُ بِعِوَضٍ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، لِتَوَهُّمِ الِانْفِسَاخِ بِتَلَفِهِ، وَذَلِكَ كَالْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ وَالْعِوَضِ الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ عَنِ الْمَالِ. وَفِي بَيْعِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ ضَمَانَ الْعَقْدِ أَوْ ضَمَانَ الْيَدِ؟ وَالْأَظْهَرُ: ضَمَانُ الْعَقْدِ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي بَيْعِ الزَّوْجِ بَدَلَ الْخُلْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَبَيْعِ الْعَافِي عَنِ الْقَوْدِ الْمَالَ الْمَعْفُوَّ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِمِثْلِ هَذَا الْمَأْخَذِ. فَرْعٌ وَرَاءَ مَا ذَكَرْنَا صُوَرٌ، إِذَا تَأَمَّلْتَهَا عَرَفْتَ مِنْ أَيِّ ضَرْبٍ هِيَ. فَمِنْهَا: حَكَى صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْأَرْزَاقَ الَّتِي يُخْرِجُهَا السُّلْطَانُ لِلنَّاسِ، يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ. فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: هَذَا إِذَا أَفْرَزَهُ السُّلْطَانُ، فَتَكُونُ يَدُ السُّلْطَانِ فِي الْحِفْظِ يَدَ الْمُفْرَزِ لَهُ، وَيَكْفِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، وَحَمَلَ النَّصَّ عَلَى مَا إِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ، فَقَبَضَهُ الْوَكِيلُ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ، وَإِلَّا فَهُوَ بَيْعُ شَيْءٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْقَفَّالُ فِي الشَّرْحِ.

قُلْتُ: الْأَوَّلُ: أَصَحُّ وَأَقْرَبُ إِلَى النَّصِّ. وَقَوْلُهُ: وَبِهِ قَطَعَ الْقَفَّالُ، يَعْنِي بِعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ، لَا بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ فِي شَرْحِ «التَّلْخِيصِ» لِلْقَفَّالِ، الْمَنْعَ الْمَذْكُورَ. قَالَ: وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالرِّزْقِ، الْغَنِيمَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ. وَدَلِيلُ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُ، أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلْقَاعِدَةِ، احْتُمِلَ لِلْمَصْلَحَةِ وَالرِّفْقِ بِالْجُنْدِ، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: بَيْعُ أَحَدِ الْغَانِمِينَ نَصِيبَهُ عَلَى الْإِشَاعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا وَحَكَمْنَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْغَنِيمَةِ. وَفِيمَا يَمْلِكُهَا بِهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي بَابِهِ. وَمِنْهَا: لَوْ رَجَعَ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ، فَلَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمِنْهَا: الشَّفِيعُ إِذَا تَمَلَّكَ الشِّقْصَ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَخْذَ بِهَا مُعَاوَضَةٌ. قُلْتُ: الثَّانِي أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بَيْعُ الثَّمَرَةِ الْخَارِجَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَوْقُوفَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهَا. وَمِنْهَا: إِذَا اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا لِصَبْغِ ثَوْبٍ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ بَيْعُهُ قَبْلَ صَبْغِهِ ; لِأَنَّ لَهُ حَبْسَهُ لِعَمَلِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْأُجْرَةَ. وَإِذَا صَبَغَهُ، فَلَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ اسْتِرْدَادِهِ إِنْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ حَبْسَهُ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ قَصَّارًا لِقَصْرِ ثَوْبٍ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ قَصْرِهِ، فَإِذَا قَصَّرَهُ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْقِصَارَةَ عَيْنٌ فَيَكُونُ كَمَسْأَلَةِ الصَّبْغِ، أَوْ أَثَرٌ، فَلَهُ الْبَيْعُ،

إِذْ لَيْسَ لِلْقَصَّارِ الْحَبْسُ عَلَى هَذَا، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ صَبْغِ الذَّهَبِ، وَرِيَاضَةِ الدَّابَّةِ، وَنَسْجِ الْغَزْلِ. وَمِنْهَا: إِذَا قَاسَمَ شَرِيكَهُ، فَبَيْعُ مَا صَارَ لَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، أَوْ إِفْرَازٌ؟ وَمِنْهَا: إِذَا أَثْبَتَ صَيْدًا بِالرَّمْيِ، أَوْ وَقَعَ فِي شَبَكِهِ، فَلَهُ بَيْعُهُ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» هُنَا، قَالَ الْقَفَّالُ: لَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِإِثْبَاتِهِ قَبَضَهُ حُكْمًا. فَرْعٌ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِي زَوَائِدِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَالْوَلَدِ، وَالثَّمَرَةِ، يُبْنَى عَلَى أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الْبَائِعِ لَوْ عَرَضَ انْفِسَاخٌ، أَوْ لَا تَعَوُدُ، فَإِنْ أَعَدْنَاهَا، لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا كَالْأَصْلِ، وَإِلَّا تَصَرَّفَ. وَلَوْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ حَامِلًا عِنْدَ الْبَيْعِ، وَوَلَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، إِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ يُقَابِلُهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ، لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْبَيْعِ. فَرْعٌ إِذَا بَاعَ مَتَاعًا بِدَرَاهِمَ، أَوْ بِدَنَانِيرَ مُعَيَّنَةٍ، فَلَهَا حُكْمُ الْمَبِيعِ، فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فِيهَا قَبْلَ قَبْضِهَا، لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي إِبْدَالُهَا بِمِثْلِهَا، وَلَوْ تَلَفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَلَوْ وَجَدَ الْبَائِعُ بِهَا عَيْبًا، لَمْ يَسْتَبْدِلْ بِهَا، بَلْ إِنْ رَضِيَهَا، وَإِلَّا فَسَخَ الْعَقْدَ، فَلَوْ أَبْدَلَهَا بِمِثْلِهَا، أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا بِرِضَا الْبَائِعِ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْمَبِيعِ لِلْبَائِعِ.

فصل

فَصْلٌ الدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. مُثَمَّنٌ، وَثَمَنٌ، وَغَيْرُهُمَا. وَفِي حَقِيقَةِ الثَّمَنِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا: مَا أُلْصِقَ بِهِ الْبَاءُ، قَالَهُ الْقَفَّالُ وَالثَّانِي: النَّقْدُ، وَالْمُثَمَّنُ مَا يُقَابِلُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَأَصَحُّهَا: أَنَّ الثَّمَنَ: النَّقْدُ، وَالْمُثَمَّنُ: مَا يُقَابِلُهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ نَقْدٌ، أَوْ كَانَ الْعِوَضَانِ نَقْدَيْنِ، فَالثَّمَنُ مَا أُلْصِقَ بِهِ الْبَاءُ، وَالْمُثَمَّنُ مَا يُقَابِلُهُ. فَلَوْ بَاعَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: لَا مُثَمَّنَ فِيهِ. وَلَوْ بَاعَ عَرَضًا بِعَرَضٍ، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: لَا ثَمَنَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَادَلَةٌ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِهَذَا الْعَبْدِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: الْعَبْدُ ثَمَنٌ، وَالدَّرَاهِمُ مُثَمَّنٌ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ: فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ، كَالسَّلَمِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَالْعَبْدُ مُثَمَّنٌ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِعَبْدٍ، وَوَصَفَهُ، صَحَّ الْعَقْدُ، فَإِنْ قُلْنَا: الثَّمَنُ مَا أُلْصِقَ بِهِ الْبَاءُ، فَالْعَبْدُ ثَمَنٌ. وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الثَّوْبِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِلَّا فَفِي وُجُوبِ تَسْلِيمِ الثَّوْبِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ السَّلَمِ، لَكِنْ فِيهِ مَعْنَاهُ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، عُدْنَا إِلَى بَيَانِ الْأَضْرُبِ. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الْمُثَمَّنُ، وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ عَنْهُ، وَلَا بَيْعُهُ. وَهَلْ تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِهِ، بِأَنْ يُحِيلَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْمُسْلَمَ بِحَقِّهِ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنُ قَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ، أَوِ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُحِيلَ الْمُسْلَمَ مَنْ لَهُ دَيْنُ قَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: لَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ، وَتَجُوزُ بِهِ. هَكَذَا حَكَوُا الثَّالِثَ، وَعَكَسَهُ فِي «الْوَسِيطِ» فَقَالَ: تَجُوزُ عَلَيْهِ لَا بِهِ، وَلَا أَظُنُّ نَقْلَهُ ثَابِتًا. الضَّرْبُ الثَّانِي: الثَّمَنُ، فَإِذَا بَاعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فِي الذِّمَّةِ، فَفِي

الِاسْتِبْدَالِ عَنْهَا، طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ الْقَطَّانِ. وَأَشْهَرُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا، وَهُوَ الْجَدِيدُ: جَوَازُهُ. وَالْقَدِيمُ: مَنْعُهُ. وَلَوْ بَاعَ فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنْ قُلْنَا: الثَّمَنُ مَا أُلْصِقَ بِهِ الْبَاءُ، جَازَ الِاسْتِبْدَالُ عَنْهُ كَالنَّقْدَيْنِ، وَادَّعَى فِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ مُثَمَّنًا، لَمْ يَجُزِ الِاسْتِبْدَالُ عَنْهُ. وَالْأُجْرَةُ كَالثَّمَنِ، وَالصَّدَاقُ وَبَدَلُ الْخُلْعِ كَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا مَضْمُونَانِ ضَمَانَ الْعَقْدِ، وَإِلَّا فَهُمَا كَبَدَلِ الْإِتْلَافِ. التَّفْرِيعُ: إِنْ مَنَعْنَا الِاسْتِبْدَالَ عَنِ الدَّرَاهِمِ، فَذَاكَ إِذَا اسْتَبْدَلَ عَنْهَا عَرَضًا. فَلَوِ اسْتَبْدَلَ نَوْعًا مِنْهَا بِنَوْعٍ، أَوِ اسْتَبْدَلَ الدَّرَاهِمَ عَنِ الدَّنَانِيرِ، فَوَجْهَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الرَّوَاجِ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَدَلٍ وَبَدَلٍ. ثُمَّ يُنْظَرُ، إِنِ اسْتَبْدَلَ مَا يُوَافِقُهُمَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا كَدَنَانِيرَ عَنْ دَرَاهِمَ، اشْتَرَطَ قَبْضَ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ، وَكَذَا إِنِ اسْتَبْدَلَ عَنِ الْحِنْطَةِ الْمَبِيعِ بِهَا شَعِيرًا إِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ. وَفِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ، وَإِلَّا فَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ تَصَارَفَا فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ عَيَّنَا وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ. وَإِنِ اسْتَبْدَلَ مَا لَا يُوَافِقُهَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا، كَالطَّعَامِ وَالثِّيَابِ عَنِ الدَّرَاهِمِ، نُظِرَ، إِنْ عَيَّنَ الْبَدَلَ، جَازَ. وَفِي اشْتِرَاطِ قَبْضِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ. صَحَّحَ الْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ الِاشْتِرَاطَ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَصَحَّحَ الْإِمَامُ وَالْبَغَوَيُّ عَدَمَهُ. قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ، وَصَحَّحَهُ فِي «الْمُحَرَّرِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، بَلْ وَصَفَ فِي الذِّمَّةِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ. إِنْ جَوَّزْنَا اشْتِرَاطَ التَّعْيِينِ فِي الْمَجْلِسِ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ الْوَجْهَانِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا لَيْسَ بِثَمَنٍ وَلَا مُثَمَّنٍ، كَدَيْنِ الْقَرْضِ وَالْإِتْلَافِ،

فصل

فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ عَنْهُ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا [لَوْ] كَانَ [لَهُ] فِي يَدِ غَيْرِهِ مَالٌ بِغَصْبٍ أَوْ عَارِيَةٍ، يَجُوزُ بَيْعُهُ لَهُ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي اعْتِبَارِ التَّعْيِينِ وَالْقَبْضِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَفِي الشَّامِلِ أَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يُسْتَبْدَلُ عَنْهُ إِذَا تَلَفَ. فَإِنْ بَقِيَ فِي يَدِهِ، فَلَا، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ. وَلَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُ الْمُؤَجَّلِ عَنِ الْحَالِ، وَيَجُوزُ عَكْسُهُ. فَرْعٌ اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بَيْعٌ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ. فَأَمَّا بَيْعُهُ لِغَيْرِهِ، كَمَنْ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ مِائَةٌ، فَاشْتَرَى مِنْ آخَرَ عَبْدًا بِتِلْكَ الْمِائَةِ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَصِحُّ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْبِضَ مُشْتَرِي الدَّيْنِ [الدَّيْنَ] مِمَّنْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقْبِضَ بَائِعُ الدَّيْنِ الْعِوَضَ فِي الْمَجْلِسِ. فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِهِمَا، بَطَلَ الْعَقْدُ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: الصِّحَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إِنْسَانٍ، وَالْآخَرُ مِثْلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا مَا لَهُ عَلَيْهِ بِمَا لِصَاحِبِهِ، لَمْ يَصِحَّ، اتَّفَقَ الْجِنْسُ أَوِ اخْتَلَفَ، لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ. فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ الْقَبْضِ. وَالْقَوْلُ الْجُمَلِيُّ فِيهِ، أَنَّ الرُّجُوعَ فِيمَا يَكُونُ قَبْضًا إِلَى الْعَادَةِ. وَيَخْتَلِفُ بِحَسْبَ اخْتِلَافِ الْمَالِ. وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ الْمَبِيعَ نَوْعَانِ.

[النَّوْعُ] الْأَوَّلُ: مَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ، إِمَّا لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ، وَإِمَّا مَعَ إِمْكَانِهِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ كَالْأَرْضِ وَالدُّورِ، فَقَبَضَهُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَتَمْكِينِهِ مِنَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ بِتَسْلِيمِ الْمِفْتَاحِ إِلَيْهِ. وَلَا يُعْتَبَرُ دُخُولُهُ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فَارِغًا مِنْ أَمْتِعَةِ الْبَائِعِ، فَلَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا أَمْتِعَةٌ لِلْبَائِعِ، تَوَقَّفَ التَّسْلِيمُ عَلَى تَفْرِيغِهَا، وَكَذَا لَوْ بَاعَ سَفِينَةً مَشْحُونَةً بِالْقُمَاشِ. قُلْتُ: وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذَا وَجْهًا عِنْدَ بَيْعِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ فِي بَابِ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْبَيْعِ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الدَّارِ الْمَشْحُونَةِ، وَأَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ ادَّعَى أَنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ جَمَعَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ فِي بَيْتٍ مِنَ الدَّارِ، وَخَلَّى بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ الدَّارِ، حَصَلَ الْقَبْضُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ الْبَيْتَ. وَفِي اشْتِرَاطِ حُضُورِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عِنْدَ الْمَبِيعِ، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: يُشْتَرَطُ، فَإِنْ حَضَرَا عِنْدَهُ فَقَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: دُونَكَ هَذَا وَلَا مَانِعَ، حَصَلَ الْقَبْضُ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ. وَأَصَحُّهَا: لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ. فَعَلَى هَذَا هَلْ يُشْتَرَطُ زَمَانُ إِمْكَانِ الْمُضِيِّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَفِي مَعْنَى الْأَرْضِ الشَّجَرُ الثَّابِتُ، وَالثَّمَرَةُ الْمَبِيعَةُ عَلَى الشَّجَرِ قَبْلَ أَوَانِ الْجِدَادِ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِيهِ التَّخْلِيَةُ، بَلْ يُشْتَرَطُ النَّقْلُ وَالتَّحْرِيكُ. وَفِي قَوْلٍ رَوَاهُ حَرْمَلَةُ: يَكْفِي. وَفِي وَجْهٍ: يَكْفِي لِنَقْلِ الضَّمَانِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا يَكْفِي لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: يَأْمُرُ الْعَبْدَ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَيَسُوقُ الدَّابَّةَ أَوْ يَقُودُهَا. قُلْتُ: وَلَا يَكْفِي اسْتِعْمَالُهُ [الدَّابَّةِ] وَرُكُوبُهَا بِلَا نَقْلٍ، وَكَذَا وَطْءُ الْجَارِيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. ذَكَرَهُ فِي الْبَيَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُخْتَصُّ بِالْبَائِعِ، كَمَوَاتٍ وَمَسْجِدٍ وَشَارِعٍ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ يُخْتَصُّ بِالْمُشْتَرِي، فَالتَّحْوِيلُ إِلَى مَكَانٍ مِنْهُ كَافٍ. وَإِنْ كَانَ فِي بُقْعَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِالْبَائِعِ، فَالنَّقْلُ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْهُ إِلَى زَاوِيَةٍ، أَوْ مِنْ بَيْتٍ مِنْ دَارِهِ إِلَى بَيْتٍ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ لَا يَكْفِي لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ، وَيَكْفِي لِدُخُولِهِ فِي ضَمَانِهِ. وَإِنْ نَقَلَ بِإِذْنِهِ، حَصَلَ الْقَبْضُ، وَكَأَنَّهُ اسْتَعَارَ مَا نَقَلَ إِلَيْهِ. وَلَوِ اشْتَرَى الدَّارَ مَعَ أَمْتِعَةٍ فِيهَا صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَخَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، حَصَلَ الْقَبْضُ فِي الدَّارِ. وَفِي الْأَمْتِعَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُشْتَرَطُ نَقْلُهَا كَمَا لَوْ أُفْرِدَتْ. وَالثَّانِي: يَحْصُلُ فِيهَا الْقَبْضُ تَبَعًا، وَبِهِ قِطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَزَادَ فَقَالَ: لَوِ اشْتَرَى صُبْرَةً وَلَمْ يَنْقِلْهَا حَتَّى اشْتَرَى الْأَرْضَ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّبْرَةُ، وَخَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، حَصَلَ الْقَبْضُ فِي الصُّبْرَةِ. قُلْتُ: قَالَ: وَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا، فَوَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَيْسَ قَبْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الْقَبْضِ، فَجَاءَ الْبَائِعُ بِالْمَبِيعِ، فَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهِ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَصَرَّ، أَمَرَ الْحَاكِمُ مَنْ يَقْبِضُهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ غَائِبًا. فَرْعٌ لَوْ جَاءَ الْبَائِعُ بِالْمَبِيعِ، فَقَالَ الْمُشْتَرِيَ: ضَعْهُ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَصَلَ الْقَبْضُ، وَإِنْ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَمْ يَقُلِ الْمُشْتَرِي شَيْئًا، أَوْ قَالَ: لَا أُرِيدُهُ،

فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَحْصُلُ الْقَبْضُ، كَمَا لَا يَحْصُلُ الْإِيدَاعُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَحْصُلُ، لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ، كَمَا لَوْ وَضَعَ [الْغَاصِبُ] الْمَغْصُوبَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَالِكِ، يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ. فَعَلَى هَذَا، لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَلَوْ تَلَفَ، فَمِنْ ضَمَانِهِ. لَكِنْ لَوْ خَرَجَ مُسْتَحِقًّا وَلَمْ نُجِزْ إِلَّا وَضْعَهُ، فَلَيْسَ لِلْمُسْتَحِقِّ مُطَالَبَةُ الْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ ; لَأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَكْفِي لِضَمَانِ الْغَصْبِ. وَلَوْ وَضَعَ الْمَدْيُونُ الدَّيْنَ بَيْنَ يَدَيْ مُسْتَحِقِّهِ، فَفِي حُصُولِ التَّسْلِيمِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَبِيعِ، وَأَوْلَى بِعَدَمِ الْحُصُولِ، لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الدَّيْنِ فِيهِ. فَرْعٌ لِلْمُشْتَرِي الِاسْتِقْلَالُ بِنَقْلِ الْمَبِيعِ، إِنْ كَانَ دَفَعَ الثَّمَنَ، أَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا، كَمَا لِلْمَرْأَةِ قَبْضُ الصَّدَاقِ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا، وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَيْهِ الرَّدُّ ; لِأَنَّ الْبَائِعَ يَسْتَحِقُّ الْحَبْسَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، لَكِنْ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ. فَرْعٌ دَفَعَ ظَرْفًا إِلَى الْبَائِعِ وَقَالَ: اجْعَلِ الْمَبِيعَ فِيهِ، فَفَعَلَ، لَا يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُشْتَرِي قَبْضٌ، وَالظَّرْفُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِهِ. وَفِي مِثْلِهِ فِي السَّلَمِ، يَكُونُ الظَّرْفُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ لِلْبَائِعِ: أَعِرْنِي ظَرْفَكَ، وَاجْعَلِ الْمَبِيعَ فِيهِ، فَفَعَلَ، لَا يَصِيرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ، بِأَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا أَوْ أَرْضًا مُذَارَعَةً، أَوْ مَتَاعًا مُوَازَنَةً، أَوْ صُبْرَةً مُكَايِلَةً، أَوْ مَعْدُودًا بِالْعَدَدِ، فَلَا يَكْفِي لِلْقَبْضِ مَا سَبَقَ فِي

النَّوْعِ الْأَوَّلِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الذَّرْعِ، أَوِ الْوَزْنِ، أَوِ الْكَيْلِ، أَوِ الْعَدِّ. وَكَذَا لَوْ أَسَلَمَ فِي آصُعِ طَعَامٍ، أَوْ أَرْطَالٍ مِنْهُ، يُشْتَرَطُ فِي قَبْضِهِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ. فَلَوْ قَبَضَ جُزَافًا مَا اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً، دَخَلَ الْمَقْبُوضُ فِي ضَمَانِهِ. وَأَمَّا تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ بَاعَ الْجَمِيعَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ. فَإِنْ بَاعَ مَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَهُ، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَبْضُ مَا اشْتَرَاهُ كَيْلًا بِالْوَزْنِ، أَوْ وَزْنًا بِالْكَيْلِ، كَقَبْضِهِ جُزَافًا. وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: خُذْهُ، فَإِنَّهُ كَذَا، فَأَخَذَهُ مُصَدِّقًا لَهُ، فَالْقَبْضُ فَاسِدٌ أَيْضًا حَتَّى يَقَعَ اكْتِيَالٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ زَادَ، رَدَّ الزِّيَادَةَ. وَأَنْ نَقَصَ أَخَذَ التَّمَامَ. فَلَوْ تَلَفَ الْمَقْبُوضُ، فَزَعَمَ الدَّافِعُ أَنَّهُ [كَانَ] قَدْرَ حَقِّهِ أَوْ أَكْثَرَ، وَزَعَمَ الْقَابِضُ أَنَّهُ كَانَ دُونَ حَقِّهِ أَوْ قَدْرِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ. فَلَوْ أَقَرَّ بِجَرَيَانِ الْكَيْلِ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ خِلَافُهُ. وَلِلْمَبِيعِ مُكَايَلَةً صِوَرٌ. مِنْهَا: قَوْلُهُ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ. وَمِنْهَا: بِعْتُكَهَا عَلَى أَنَّهَا عَشْرَةُ آصُعٍ. وَمِنْهَا: بِعْتُكَ عَشَرَةَ آصُعٍ مِنْهَا، وَهُمَا يَعْلَمَانِ صِيعَانَهَا، أَوْ لَا يَعْلَمَانِ إِذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ. فَرْعٌ لَيْسَ عَلَى الْبَائِعِ الرِّضَا بِكَيْلِ الْمُشْتَرِي، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي الرِّضَا بِكَيْلِ الْبَائِعِ، بَلْ يَتَّفِقَانِ عَلَى كَيَّالٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا، نَصَّبَ الْحَاكِمُ أَمِينًا يَتَوَلَّاهُ، قَالَهُ فِي «الْحَاوِي» .

فَرْعٌ. مُؤْنَةُ الْكَيْلِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْقَبْضُ عَلَى الْبَائِعِ، كَمُؤْنَةِ إِحْضَارِ الْمَبِيعِ الْغَائِبِ، وَمُؤْنَةُ وَزْنِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِتَوَقُّفِ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ. وَمُؤْنَةُ نَقْدِ الثَّمَنِ هَلْ عَلَى الْبَائِعِ، أَوِ الْمُشْتَرِي؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا عَلَى الْبَائِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو طَعَامٌ سَلَمًا، وَلِآخَرَ مِثْلُهُ عَلَى زَيْدٍ، فَأَرَادَ زَيْدٌ أَدَاءَ مَا عَلَيْهِ مِمَّا لَهُ عَلَى عَمْرٍو، فَقَالَ لِغَرِيمِهِ: اذْهَبْ إِلَى عَمْرٍو وَاقْبِضْ لِنَفْسِكَ مَا لِي عَلَيْهِ، فَقَبَضَهُ، فَهُوَ فَاسِدٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: احْضَرْ مَعِي لِأَكْتَالَهُ مِنْهُ لَكَ، فَفَعَلَ. وَإِذَا فَسَدَ الْقَبْضُ، فَالْمَقْبُوضُ مَضْمُونٌ عَلَى الْقَابِضِ. وَهَلْ تَبْرَأُ ذِمَّةُ عَمْرٍو مِنْ حَقِّ زَيْدٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَبْرَأُ، فَعَلَى الْقَابِضِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ إِلَى عَمْرٍو. وَلَوْ قَالَ زَيْدٌ: اذْهَبْ فَاقْبِضْهُ لِي، ثُمَّ اقْبِضْهُ مِنِّي لِنَفْسِكَ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، أَوْ قَالَ: احْضَرْ مَعِي لِأَقْبِضَهُ لِنَفْسِي، ثُمَّ تَأْخُذُهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، فَفَعَلَ، فَقَبَضَهُ لِزَيْدٍ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَقَبَضَ زَيْدٌ لِنَفْسِهِ فِي الثَّانِيَةِ، صَحِيحَانِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ عَمْرٍو مِنْ حَقِّ زَيْدٍ، وَالْقَبْضُ الْآخَرُ فَاسِدٌ، وَالْمَقْبُوضُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ. وَفِي وَجْهٍ: يَصِحُّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَلَوِ اكْتَالَ زَيْدٌ وَقَبَضَهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ كَالَهُ عَلَى مُشْتَرِي وَأَقْبَضَهُ، فَقَدْ جَرَى الصَّاعَانِ وَصَحَّ الْقَبْضَانِ. فَلَوْ زَادَ حِينَ كَالَهُ ثَانِيًا أَوْ نَقَصَ، فَالزِّيَادَةُ لِزَيْدٍ، وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَدْرًا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ. فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْكَيْلَ الْأَوَّلَ غَلَطٌ، فَيَرُدُّ زَيْدٌ الزِّيَادَةَ، وَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ.

وَلَوْ أَنَّ زَيْدًا لَمَّا اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ الْمِكْيَالِ، وَسَلَّمَهُ كَذَلِكَ إِلَى مُشْتَرِيهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ الْقَبْضُ الثَّانِي حَتَّى يُخْرِجَهُ وَيَبْتَدِئَ كَيْلًا. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ اسْتِدَامَتَهُ فِي الْمِكْيَالِ، كَابْتِدَاءِ الْكَيْلِ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ كَمَا تَجْرِي فِي دَيْنَيِ السَّلَمِ تَجْرِي فِيمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْتَحِقًّا بِالسَّلَمِ، وَالْآخَرُ بِقَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ. فَرْعٌ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْقَبْضِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْإِقْبَاضِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُوَكِّلَ الْمُشْتَرِي مَنْ يَدُهُ يَدُ الْبَائِعِ، كَعَبْدِهِ، وَمُسْتَوْلَدَتِهِ، وَلَا بَأْسَ بِتَوْكِيلِ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَمُكَاتِبِهِ. وَفِي تَوْكِيلِهِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ. وَلَوْ قَالَ لِلْبَائِعِ: وَكِّلْ مَنْ يَقْبِضُ لِي مِنْكَ، فَفَعَلَ، جَازَ، وَيَكُونُ وَكِيلًا لِلْمُشْتَرِي. وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ الْبَائِعُ بِأَنْ يَأْمُرَ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ لِلْمُوَكَّلِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْقَابِضُ وَالْمُقْبِضُ وَاحِدًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ الْبَائِعُ رَجُلًا بِالْإِقْبَاضِ، وَيُوَكِّلَهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ. كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَهُ هَذَا بِالْبَيْعِ وَذَاكَ بِالشِّرَاءِ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ طَعَامٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ سَلَمٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَدَفَعَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ دَرَاهِمَ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِهَا مِثْلَ مَا تَسْتَحِقُّهُ لِي، وَاقْبِضْهُ لِي، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ، فَفَعَلَ، صَحَّ الشِّرَاءُ وَالْقَبْضُ لِلْمُوَكِّلِ، وَلَا يَصِحُّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ، لِاتِّحَادِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ، وَلِامْتِنَاعِ كَوْنِهِ وَكِيلًا لِغَيْرِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَصِحُّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ قَبْضُهُ مِنْ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ لِي، وَاقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ، فَفَعَلَ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ

الْمَقْبُوضُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَهَلْ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الدَّافِعِ مِنْ حَقِّ الْمُوَكِّلِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِنَفْسِكَ، فَالتَّوْكِيلُ فَاسِدٌ، وَتَكُونُ الدَّرَاهِمُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهَا لِيَمْلِكَهَا. فَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، وَقَعَ عَنْهُ وَأَدَّى الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ. وَإِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِهَا، فَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ قَالَ لِمُسْتَحِقِّ الْحِنْطَةِ: اكْتَلْ حَقَّكَ مِنَ الصُّبْرَةِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ الْكَيْلَ أَحَدُ رُكْنَيِ الْقَبْضِ، وَقَدْ صَارَ نَائِبًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، مُتَأَصِّلًا لِنَفْسِهِ. فَرْعٌ يُسْتَثْنَى عَنِ الشَّرْطِ الثَّانِي، مَا إِذَا اشْتَرَى الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْقَبْضِ، كَمَا يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْبَيْعِ. وَفِي احْتِيَاجِهِ إِلَى النَّقْلِ فِي الْمَنْقُولِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَحْتَاجُ، كَمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْكَيْلِ إِذَا بَاعَ كَيْلًا. فَرْعٌ يُسْتَثْنَى عَنْ صُورَةِ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ، إِتْلَافُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، فَإِنَّهُ قَبْضٌ كَمَا سَبَقَ. قُلْتُ: وَمِمَّا يُسْتَثْنَى أَيْضًا، إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ خَفِيفًا يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ، فَقَبَضَهُ بِالتَّنَاوُلِ وَاحْتِوَاءِ الْيَدِ عَلَيْهِ، كَذَا قَالَهُ الْمُحَامِلِيُّ وَصَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ قَبْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ قَبْضُ الْجُزْءِ الشَّائِعِ، إِنَّمَا يَحْصُلُ بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ، وَيَكُونُ مَا عَدَا الْمَبِيعَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَلَوْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : يُجَابُ إِلَيْهَا، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ إِفْرَازٌ، فَظَاهِرٌ. وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، فَالرَّضَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ، فَإِنَّ الشَّرِيكَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ. وَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرِ الرِّضَا، جَازَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الْقَبْضُ كَالشُّفْعَةِ. فَصْلٌ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَسْلِيمُ الْعِوَضِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْآخَرُ. فَإِنْ قَالَ كُلٌّ: لَا أُسَلِّمُ حَتَّى أَقْبِضَ مَا أَسْتَحِقُّهُ، فَأَرْبَعَةُ أَقُوالٍ. أَحَدُهَا: يُلْزِمُ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ بِإِحْضَارِ مَا عَلَيْهِ، فَإِذَا أَحْضَرَ، سَلَّمَ الثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ، وَالْمَبِيعَ إِلَى الْمُشْتَرِي، يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، أَوْ يَأْمُرُهُمَا بِالْوَضْعِ عِنْدَ عَدْلٍ لِيَفْعَلَ الْعَدْلُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: لَا يُجْبِرُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، بَلْ يَمْنَعُهُمَا مِنَ التَّخَاصُمِ. فَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا، أَجْبَرَ الْآخَرَ. وَالثَّالِثُ: يُجْبِرُ الْمُشْتَرِيَ. وَأَظْهَرُهُمَا: يُجْبِرُ الْبَائِعَ. وَقِيلَ: يُجْبِرُ الْبَائِعَ قَطْعًا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. هَذَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا سَقَطَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ. قُلْتُ: الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَسْقُطُ الرَّابِعُ أَيْضًا، كَمَا إِذَا بَاعَهُ عَرَضًا بِعَرَضٍ ; لِأَنَّ الثَّمَنَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ تَبَايَعَا عَرَضًا بِعَرَضٍ، سَقَطَ الْقَوْلُ الرَّابِعُ أَيْضًا، وَبَقِيَ الْأَوَّلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُجْبَرَانِ، وَبِهِ قَطَعَ فِي الشَّامِلِ. فَإِذَا قُلْنَا: يُجْبَرُ الْبَائِعُ أَوَّلًا، أَوْ قُلْنَا: لَا يُجْبَرُ، فَتَبَرَّعَ، وَسَلَّمَ أَوَّلًا، أُجْبِرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ، وَإِلَّا فَلِلْمُشْتَرِي حَالَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ فِي الْبَلَدِ، حَجَرَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ الثَّمَنَ، لِئَلَّا يَتَصَرَّفَ فِي أَمْوَالِهِ بِمَا يُبْطِلُ حَقَّ الْبَائِعِ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، وَيُمْهَلُ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بِالثَّمَنِ. وَلَمْ أَرَ هَذَا الْوَجْهَ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ لِغَيْرِهِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ، قَالَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ: يَحْجُرُ عَلَيْهِ فِي الْمَبِيعِ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِ. وَقِيلَ: لَا يَحْجُرُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ إِنْ كَانَ مَالُهُ وَافِيًا بِدُيُونِهِ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي الِاحْتِسَابِ؟ وَجْهَانِ. أَشْبَهُهُمَا: يَدْخُلُ. قُلْتُ: هَذَا الْحَجْرُ يُخَالِفُ الْحَجْرَ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُسَلَّطُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى عَيْنِ الْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ضِيقِ الْمَالِ عَنِ الْوَفَاءِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ، لَمْ يُحْجَرْ أَيْضًا هَذَا الْحَجْرَ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا عَنِ الْبَلَدِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، لَمْ يُكَلَّفِ الْبَائِعُ الصَّبْرَ إِلَى إِحْضَارِهِ. وَفِيمَا يَفْعَلُ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُبَاعُ فِي حَقِّهِ وَيُودَى مِنْ ثَمَنِهِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ لَهُ فَسْخَ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ تَحْصِيلِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ. فَإِنْ فَسَخَ، فَذَاكَ، وَإِنْ صَبَرَ إِلَى الْإِحْضَارِ، فَالْحَجْرُ عَلَى مَا سَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَا فَسْخَ، بَلْ يَرُدُّ الْمَبِيعَ إِلَى الْبَائِعِ، وَيَحْجُرُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيُمْهَلُ إِلَى الْإِحْضَارِ، وَزَعَمَ فِي «الْوَسِيطِ» أَنَّهُ الْأَصَحُّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَهَلْ هُوَ كَالَّذِي فِي الْبَلَدِ، أَوْ كَالَّذِي عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ فِي «الْمُحَرَّرِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا، فَهُوَ مُفْلِسٌ، وَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ. وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا فَسْخٌ، بَلْ تُبَاعُ السِّلْعَةُ وَيُوَفَّى مِنْ ثَمَنِهَا حَقُّ الْبَائِعِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، فَلِلْمُشْتَرِي.

فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْوَلِ وَالتَّفْرِيعِ، جَارٍ فِيمَا إِذَا اخْتَلَفَ الْمُكْرِي وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْلِيمِ بِلَا فَرْقٍ. فَرْعٌ هُنَا أَمْرٌ مُهِمٌّ، وَهُوَ أَنَّ طَائِفَةً تَوَهَّمَتْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْلِيمِ، خِلَافٌ فِي أَنَّ الْبَائِعَ، هَلْ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: الِابْتِدَاءُ بِالْبَائِعِ، فَلَيْسَ لَهُ حَبْسُ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَإِلَّا فَلَهُ. وَنَازَعَ الْأَكْثَرُونَ فِيهِ، وَقَالُوا: هَذَا الْخِلَافُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَ نِزَاعُهُمَا فِي مُجَرَّدِ الِابْتِدَاءِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَبْذُلُ مَا عَلَيْهِ، وَلَا يَخَافُ فَوْتَ مَا عِنْدَ صَاحِبِهِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَبْذُلِ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ وَأَرَادَ حَبْسَهُ خَوْفًا مِنْ تَعَذُّرِ الثَّمَنِ، فَلَهُ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي حَبْسُ الثَّمَنِ خَوْفًا مِنْ تَعَذُّرِ الْمَبِيعِ. وَبِهَذَا صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ. وَالْمُثْبِتُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالُوا: وَإِنَّمَا يَحْبِسُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا. أَمَّا الْمُؤَجَّلُ فَلَيْسَ لَهُ الْحَبْسُ بِهِ، لِرِضَاهُ بِتَأْخِيرِهِ. وَلَوْ لَمْ يَتَّفِقِ التَّسْلِيمُ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ، فَلَا حَبْسَ أَيْضًا. وَلَوْ تَبَرَّعَ بِالتَّسْلِيمِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ إِلَى حَبْسِهِ، وَكَذَا لَوْ أَعَارَهُ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَوْدَعَهُ إِيَّاهُ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَلَوْ صَالَحَ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى مَالٍ، فَلَهُ إِدَامَةُ حَبْسِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْعِوَضِ. وَلَوِ اشْتَرَى بِوَكَالَةِ اثْنَيْنِ شَيْئًا، وَوَفَّى نِصْفَ الثَّمَنِ عَنْ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ تَسْلِيمُ النِّصْفِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْعَاقِدِ. وَلَوْ بَاعَ بِوَكَالَةِ اثْنَيْنِ، فَإِذَا قَبَضَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا مِنَ الثَّمَنِ، لَزِمَ تَسْلِيمُ النِّصْفِ، كَذَا قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ وَجْهٌ فِي لُزُومِ تَسْلِيمِ النِّصْفِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ

باب.

فِي بَابِ [تَفْرِيقِ] الصَّفْقَةِ، أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ، هَلْ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ قِسْطِهِ مِنَ الْمَبِيعِ؟ وَوَجْهٌ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْوَكِيلِ لِأَحَدِهِمَا وَحْدَهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إِذَا بَاعَاهُ، هَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَفَرَّدَ بِأَخْذِ نَصِيبِهِ. بَابٌ. بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُطْلَقُ فِي الْبَيْعِ وَتَتَأَثَّرُ بِالْقَرَائِنِ الْمُنْضَمَّةِ إِلَيْهَا. هِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، رَاجِعَةٌ إِلَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَإِلَى الثَّمَنِ، وَإِلَى الْمَبِيعِ. . الْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَفْظَانِ. أَحَدُهُمَا: التَّوْلِيَةُ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولَ لِغَيْرِهِ: وَلَّيْتُكَ هَذَا الْعَقْدَ، فَيَجُوزُ. وَيُشْتَرَطُ قَبُولُهُ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى عَادَةِ التَّخَاطُبِ، بِأَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ، أَوْ تَوَلَّيْتُ، وَيَلْزَمُهُ مِثْلُ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَدْرًا وَصِفَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ إِذَا عَلِمَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ الْمُشْتَرِي، أَعْلَمَهُ بِهِ ثُمَّ وَلَّاهُ. وَهِيَ نَوْعُ بَيْعٍ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّقَابُضِ إِذَا كَانَ صَرْفًا، وَسَائِرُ الشُّرُوطِ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالزَّوَائِدُ الْمُنْفَصِلَةُ قَبْلَ التَّوْلِيَةِ تَبَقَى لِلْمُوَلِّي، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا مَشْفُوعًا وَعَفَا الشَّفِيعُ، تَجَدَّدَتِ الشُّفْعَةُ بِالتَّوْلِيَةِ. وَلَوْ حَطَّ الْبَائِعُ بَعْدَ التَّوْلِيَةِ بَعْضَ الثَّمَنِ، انْحَطَّ عَلَى الْمُوَلَّى أَيْضًا. وَلَوْ حَطَّ الْكُلَّ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَيْعًا جَدِيدًا، فَخَاصِّيَّتُهُ وَفَائِدَتُهُ التَّنْزِيلُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ يَنْبَغِي جَرَيَانُ خِلَافٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. فَفِي وَجْهٍ: يُجْعَلُ الْمُوَلَّى نَائِبًا عَنِ الْمُوَلِّي، فَتَكُونُ الزَّوَائِدُ لِلنَّائِبِ، وَلَا تَتَجَدَّدُ الشُّفْعَةُ، وَيَلْحَقُهُ الْحَطُّ. وَفِي وَجْهٍ: تُعْكَسُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، وَنَقُولُ: هِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ. وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ حَطَّ الْبَعْضَ قَبْلَ التَّوْلِيَةِ، لَمْ تَصِّحَ التَّوْلِيَةُ إِلَّا بِالْبَاقِي. وَلَوْ حَطَّ الْكُلَّ، لَمْ تَصِّحَ التَّوْلِيَةُ.

فَرْعٌ مِنْ شَرْطِ التَّوْلِيَةِ، كَوْنُ الثَّمَنِ مِثْلِيًّا. فَلَوِ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ، لَمْ يَصِحَّ، إِلَّا إِذَا انْتَقَلَ ذَلِكَ الْعَرَضُ مِنَ الْبَائِعِ إِلَى إِنْسَانٍ فَوَلَّاهُ الْعَقْدَ. وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ وَقَالَ: «قَامَ عَلَيَّ» بِكَذَا، وَقَدْ وَلَّيْتُكَ الْعَقْدَ بِمَا «قَامَ عَلَيَّ» ، أَوْ أَرَادَتْ عَقْدَ التَّوْلِيَةِ عَلَى صَدَاقِهَا بِلَفْظِ الْقِيَامِ، أَوْ أَرَادَهَا الرَّجُلُ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ، فَوَجْهَانِ. وَلَوْ أَخْبَرَ الْمُوَلِّيَ عَمَّا اشْتَرَى وَكَذِبَ، فَقِيلَ: هُوَ كَالْكَذِبِ فِي الْمُرَابَحَةِ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: يُحَطُّ [قَدْرُ الْخِيَانَةِ] قَوْلًا وَاحِدًا. اللَّفْظُ الثَّانِي: الْإِشْرَاكُ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا، ثُمَّ يُشْرِكُ غَيْرَهُ فِيهِ لِيَصِيرَ بَعْضُهُ لَهُ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ. ثُمَّ إِنْ صَرَّحَ بِالْمُنَاصَفَةِ وَغَيْرِهِا، فَذَاكَ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْإِشْرَاكَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : يَفْسَدُ الْعَقْدُ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَقَطَعَ بِهِ فِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُحْمَلُ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ. قُلْتُ: قَطَعَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ «التَّلْخِيصِ» بِالْوَجْهِ الثَّانِي، وَصَحَّحَهُ فِي «الْمُحَرَّرِ» وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَصُورَةُ التَّصْرِيحِ بِالْإِشْرَاكِ فِي النِّصْفِ، أَنْ يَقُولَ: أَشْرَكْتُكَ بِالنِّصْفِ. فَإِنْ قَالَ: أَشْرَكْتُكَ فِي النِّصْفِ، كَانَ لَهُ الرُّبُعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْإِشْرَاكُ فِي الْبَعْضِ كَالتَّوْلِيَةِ فِي الْكُلِّ فِي الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُرَابَحَةُ: بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَهُوَ عَقْدٌ يُبْنَى الثَّمَنُ فِيهِ عَلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةٍ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِمِائَةٍ، ثُمَّ يَقُولَ لِغَيْرِهِ: بِعْتُكَ هَذَا بِمَا اشْتَرَيْتُهُ وَرِبْحِ ده يازده، أَوْ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ لِكُلِّ عِشْرَةٍ، أَوْ فِي كُلِّ عِشْرَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَضُمَّ إِلَى رَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا ثُمَّ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، مِثْلَ أَنْ

فصل

يَقُولَ: اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةٍ، وَقَدْ بِعْتُكَهُ بِمِائَتَيْنِ وَرَبِحَ ده يازده، وَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعْتُ بِمِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَكَمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً، يَجُوزُ مُحَاطَّةً مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُ بِمَا اشْتَرَيْتُ بِهِ وَحَطِّ ده يازده. وَفِي الْقَدْرِ الْمَحْطُوطِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ كُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدٌ، كَمَا زِيدَ فِي الْمُرَابَحَةِ عَلَى كُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدٌ. وَأَصَحُّهُمَا: يُحَطُّ مِنْ كُلِّ أَحَدَ عَشَرَ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي الْمُرَابَحَةِ جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ، فَكَذَا الْحَطُّ، وَلَيْسَ فِي حَطِّ وَاحِدٍ مِنْ عَشْرَةِ رِعَايَةٌ لِلنِّسْبَةِ. فَإِذَا كَانَ قَدِ اشْتَرَى بِمِائَةٍ، فَالثَّمَنُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: تِسْعُونَ. وَعَلَى الثَّانِي: تِسْعُونَ وَعَشَرَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ. وَلَوِ اشْتَرَى بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ، فَالثَّمَنُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ. وَعَلَى الثَّانِي، مِائَةٌ. وَطَرَّدَ كَثِيرُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُمُ الْوَجْهَيْنِ. فَمَنْ قَالَ: بِعْتُ بِمَا اشْتَرَيْتُ بِحَطِّ دِرْهَمٍ مِنْ كُلِّ عَشْرَةٍ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ تَصْرِيحًا بِحَطِّ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ عِشْرَةٍ، فَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِيهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ بَيِّنٌ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: بِحَطِّ دِرْهَمٍ مِنْ كُلِّ عَشْرَةٍ، فَالْمَحْطُوطُ دِرْهَمٌ مِنْ كُلِّ عَشْرَةٍ. وَإِنْ قَالَ: بِحَطِّ دِرْهَمٍ لِكُلِّ عَشْرَةٍ، فَالْمَحْطُوطُ وَاحِدٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ. فَصْلٌ لِبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ عِبَارَاتٌ. أَكْثَرُهَا دَوَرَانًا عَلَى الْأَلْسِنَةِ ثَلَاثٌ. إِحْدَاهُنَّ بِعْتُ بِمَا اشْتَرَيْتُ، أَوْ بِمَا بَذَلْتُ مِنَ الثَّمَنِ وَرِبْحِ كَذَا. الثَّانِيَةُ: بِعْتُ بِمَا «قَامَ عَلَيَّ» وَرِبْحِ كَذَا. وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعِبَارَتَيْنِ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَهُمَا، وَفِيمَا يَجِبُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ، كَمَا سَنُفَصِّلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِذَا قَالَ: بِعْتُ بِمَا اشْتَرَيْتُ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ سِوَى الثَّمَنِ. فَإِذَا قَالَ: بِمَا «قَامَ عَلَيَّ» ، دَخَلَ فِيهِ مَعَ الثَّمَنِ أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالدَّلَالِ وَالْحَمَّالِ وَالْحَارِسِ وَالْقَصَّارِ وَالرَّفَّاءِ وَالصَّبَّاغِ، وَقِيمَةِ الصَّبْغِ،

وَأُجْرَةُ الْخِتَانِ، وَتَطْيِينِ الدَّارِ، وَسَائِرِ الْمُؤَنِ الَّتِي تُلْتَزَمُ لِلْاسْتِرْبَاحِ، وَأُلْحِقَ بِهَا كِرَاءُ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ الْمَتَاعُ. وَأَمَّا الْمُؤَنُ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا اسْتِبْقَاءُ الْمِلْكِ دُونَ الْاسْتِرْبَاحِ، كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ وَكُسْوَتِهِ، وَعَلَفِ الدَّابَّةِ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَقَعُ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَوْفَاةِ مِنَ الْمَبِيعِ، لَكِنَّ الْعَلَفَ الزَّائِدَ عَلَى الْمُعْتَادِ لِلتَّسْمِينِ، يَدْخُلُ. وَأُجْرَةُ الطَّبِيبِ إِنِ اشْتَرَاهُ مَرِيضًا، كَأُجْرَةِ الْقَصَّارِ. فَإِنْ حَدَثَ الْمَرَضُ عِنْدَهُ، فَكَالنَّفَقَةِ. وَفِي مُؤْنَةِ السَّائِسِ، تَرَدُّدٌ عِنْدَ الْإِمَامِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهَا كَالْعَلَفِ. وَلَوْ قَصَّرَ الثَّوْبَ بِنَفْسِهِ، أَوْ كَالَ، أَوْ حَمَلَ، أَوْ طَيَّنَ الدَّارَ بِنَفْسِهِ، لَمْ تَدْخُلِ الْأُجْرَةُ فِيهِ ; لِأَنَّ السِّلْعَةَ إِنَّمَا تُعَدُّ قَائِمَةً عَلَيْهِ بِمَا بَذَلَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْبَيْتُ مِلْكَهُ، أَوْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِالْعَمَلِ، أَوْ بِإِعَارَةِ الْبَيْتِ، فَإِنْ أَرَادَ اسْتِدْرَاكَ ذَلِكَ، فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْتُ، أَوْ «قَامَ عَلَيَّ» بِكَذَا، وَعَمِلْتُ فِيهِ مَا أُجْرَتُهُ كَذَا، وَقَدْ بِعْتُكَهُ بِهِمَا وَرِبْحِ كَذَا. الْعِبَارَةُ الثَّالِثَةُ: بِعْتُكَ بِرَأْسِ الْمَالِ وَرِبْحِ كَذَا، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: بِمَا اشْتَرَيْتُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هُوَ كَقَوْلِهِ: بِمَا «قَامَ عَلَيَّ» ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. فَرْعٌ قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : الْمَكْسُ الَّذِي يَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْقِيَامِ. قَالَ: وَفِي دُخُولِ فِدَاءِ الْعَبْدِ إِذَا جَنَى فَفَدَاهُ، وَجْهَانِ. وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْفِدَاءَ لَا يَدْخُلُ، وَلَا مَا أَعْطَاهُ لِمَنْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ.

فصل

فَرْعٌ الْعِبَارَاتُ الثَّلَاثُ تَجْرِي فِي الْمُحَاطَّةِ جَرَيَانَهَا فِي الْمُرَابَحَةِ. فَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ، أَوْ مَا قَامَتْ بِهِ السِّلْعَةُ، مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ مُرَابَحَةً. فَإِنْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ كَغَيْرِ الْمُرَابَحَةِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ زَالَتِ الْجَهَالَةُ فِي الْمَجْلِسِ، لَمْ يَنْقَلِبْ صَحِيحًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ: يَصِحُّ ; لِأَنَّ الثَّمَنَ الثَّانِيَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَوَّلِ، وَمَعْرِفَتُهُ سَهْلَةٌ، فَصَارَ كَالشَّفِيعِ يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ لِسُهُولَتِهَا. فَعَلَى هَذَا، فِي اشْتِرَاطِ زَوَالِ الْجَهَالَةِ فِي الْمَجْلِسِ، وَجْهَانِ. وَمَهْمَا كَانَ الثَّمَنُ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً غَيْرَ مَعْلُومَةِ الْوَزْنِ. فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ مُرَابَحَةً الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، الْأَصَحُّ: الْبَطَلَانِ. فَصْلٌ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَمَانَةِ، فَعَلَى الْبَائِعِ الصِّدْقُ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا اشْتَرَى بِهِ، وَعَمَّا قَامَ بِهِ عَلَيْهِ إِنْ بَاعَ بِلَفْظِ الْقِيَامِ. وَلَوِ اشْتَرَى بِمِائَةٍ، وَخَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ، فَرَأْسُ مَالِهِ خَمْسُونَ، وَلَا يَجُوزُ ضَمُّ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إِلَيْهِ. وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِمِائَةٍ، وَبَاعَهُ بِخَمْسِينَ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا بِمِائَةٍ، فَرَأْسُ مَالِهِ مِائَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ خُسْرَانَهُ أَوَّلًا، فَيُخْبِرُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ. وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِمِائَةٍ،

وَبَاعَهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِمِائَةٍ، فَإِنْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِلَفْظِ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ بِلَفْظِ «مَا اشْتَرَيْتُ» ، أَخْبَرَ بِمِائَةٍ. وَإِنْ بَاعَهُ بِلَفْظِ «قَامَ عَلَيَّ» ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُخْبِرُ بِمِائَةٍ. وَالثَّانِي: بِخَمْسِينَ. فَرْعٌ يُكْرَهُ أَنْ يُوَاطِئَ صَاحِبَهُ فَيَبِيعَهُ بِمَا اشْتَرَاهُ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهِ مِنْهُ بِأَكْثَرَ، لِيُخْبِرَ بِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ. قُلْتُ: مِمَّنْ خَالَفَهُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى سِلْعَةً، ثُمَّ قَبِلَ لُزُومَ الْعَقْدِ، أَلْحَقَا بِالثَّمَنِ زِيَادَةً أَوْ نَقْصًا، وَصَحَّحْنَاهُ، فَالثَّمَنُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ. وَإِنْ حَطَّ عَنْهُ بَعْضَ الثَّمَنِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَبَاعَ بِلَفْظِ «مَا اشْتَرَيْتُ» ، لَمْ يَلْزَمْهُ حَطُّ الْمَحْطُوطِ عَنْهُ، وَإِنْ بَاعَ بِلَفْظِ «قَامَ عَلَيَّ» ، لَمْ يُخْبِرْ إِلَّا بِالْبَاقِي. فَإِنْ حَطَّ الْكُلَّ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَوْ حَطَّ عَنْهُ بَعْضَ الثَّمَنِ بَعْدَ جَرَيَانِ الْمُرَابَحَةِ، لَمْ يَلْحَقِ الْحَطُّ الْمُشْتَرَى مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يَلْحَقُ كَمَا فِي التَّوْلِيَةِ وَالْإِشْرَاكِ. فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا بِعِرَضٍ، وَبَاعَهُ مُرَابَحَةً بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، أَوْ بِلَفْظِ الْقِيَامِ،

ذَكَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ قِيمَتُهُ كَذَا، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ الْقِيمَةِ. وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِدَيْنٍ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ مَلِيئًا غَيْرَ مُمَاطِلٍ، لَمْ يَجِبِ الْإِخْبَارُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مُمَاطِلًا، وَجَبَ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مُرَابَحَةَ بَعْضَ مَا اشْتَرَاهُ، وَيَذْكُرَ قِسْطَهُ مِنَ الثَّمَنِ. وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى قَفِيزَيْ حِنْطَةٍ وَنَحْوَهَا، وَبَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ أَوْ ثَوْبَيْنِ، وَأَرَادَ بَيْعَ أَحَدِهِمَا مُرَابَحَةً، فَطَرِيقُهُ أَنْ يَعْرِفَ قِيمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ الشِّرَاءِ، وَيُوَزِّعَ الثَّمَنَ عَلَى الْقِيمَتَيْنِ، ثُمَّ يَبِيعَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. فَرْعٌ يَجِبُ الْإِخْبَارُ بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ فِي يَدِهِ، سَوَاءٌ حَدَثَ الْعَيْبُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِجِنَايَتِهِ، أَوْ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ نَقَصَ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ. وَلَوِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ، فَرَضِيَ بِهِ، ذَكَرَهُ فِي الْمُرَابَحَةِ. وَلَوْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ وَأَخَذَ الْأَرْشَ، فَإِنْ بَاعَهُ بِلَفْظِ: «قَامَ عَلَيَّ» ، حَطَّ الْأَرْشَ، وَإِنْ بَاعَ بِلَفْظِ: مَا اشْتَرَيْتُ، ذَكَرَ مَا جَرَى بِهِ الْعَقْدُ وَالْعَيْبُ، وَأَخَذَ الْأَرْشَ. وَلَوْ أَخَذَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ، فَإِنْ بَاعَ بِلَفْظِ «مَا اشْتَرَيْتُ» ، ذَكَرَ الثَّمَنَ وَالْجِنَايَةَ. وَإِنْ بَاعَ بِلَفْظِ: «قَامَ عَلَيَّ» فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْكَسْبِ وَالزِّيَادَاتِ، وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِتَمَامِ الثَّمَنِ. [وَأَصَحُّهُمَا: يُحَطُّ الْأَرْشَ مِنَ الثَّمَنِ، كَأَرْشِ الْعَيْبِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَرْشِ هُنَا: قَدْرُ النَّقْصِ، لَا الْمَأْخُوذُ بِتَمَامِهِ] . فَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ فَنَقَصَ ثَلَاثِينَ، أَخَذَ خَمْسِينَ مِنَ الْجَانِي، وَحَطَّ مِنَ الثَّمَنِ ثَلَاثِينَ، لَا خَمْسِينَ، هَذَا هُوَ

الصَّحِيحُ. وَفِي وَجْهٍ: يَحُطُّ جَمِيعَ الْمَأْخُوذِ مِنَ الثَّمَنِ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَلَوْ نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْشِ الْمُقَدَّرِ، حَطَّ مَا أَخَذَ مِنَ الثَّمَنِ، وَأَخْبَرَ عَنْ قِيَامِهِ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي، وَأَنَّهُ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ كَذَا. فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَاهُ بِغُبْنٍ، لَزِمَ الْإِخْبَارُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ. وَلَوِ اشْتَرَى مِنِ ابْنِهِ الطِّفْلِ، وَجَبَ الْإِخْبَارُ بِهِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي مِثْلِهِ الزِّيَادَةُ، نَظَرًا لِلطِّفْلِ، وَدَفْعًا لِلتُّهْمَةِ. وَلَوِ اشْتَرَى مِنْ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ الرَّشِيدِ، لَمْ يَجِبِ الْإِخْبَارُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ بِاتِّفَاقِهِمْ، كَالشِّرَاءِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَمُكَاتِبِهِ. وَفِي الشَّامِلِ مَا يَقْتَضِي تَرَدُّدًا فِي الْمُكَاتَبِ. فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَجَبَ الْإِخْبَارُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ لَا يَجِبُ الْإِخْبَارُ بِوَطْءِ الثَّيِّبِ، وَلَا مَهْرِهَا الَّذِي أَخَذَهُ، وَلَا الزِّيَادَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ، كَالْوَلَدِ، وَاللَّبَنِ، وَالصُّوفِ، وَالثَّمَرَةِ. وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا يَوْمَ الشِّرَاءِ، أَوْ كَانَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ، أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا صُوفٌ، أَوْ عَلَى النَّخْلَةِ طَلْعٌ، فَاسْتَوْفَاهَا، حَطَّ بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ. وَهَذَا فِي الْحَمْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ.

فصل

فَصْلٌ لَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِمِائَةٍ، وَبَاعَهُ مُرَابَحَةً، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِتِسْعِينَ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ عَلَى الصَّحِيحِ. فَعَلَى هَذَا، كَذِبَهُ ضَرْبَانِ، خِيَانَةٌ، وَغَلَطٌ. وَفِي الضَّرْبَيْنِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُحْكَمُ بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ وَحِصَّتِهَا مِنَ الرِّبْحِ. وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا خِيَارَ. وَالثَّانِي: يَثْبُتُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: إِنْ بَانَ كَذِبُهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَهُ الْخِيَارُ. وَإِنْ بَانَ بِالْإِقْرَارِ، فَلَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ بِالْبَيِّنَةِ، لَا يُؤْمَنُ خِيَانَةً أُخْرَى، وَالْإِقْرَارُ يُشْعِرُ بِالْأَمَانَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا خِيَارَ، أَوْ قُلْنَا بِهِ، فَأَمْسَكَ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ، فَهَلْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ؟ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَقِيلَ الْوَجْهَانِ فِي صُورَةِ الْخِيَانَةِ. وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْغَلَطِ، فَلَهُ الْخِيَارُ قَطْعًا. وَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ السُّقُوطِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكَذِبِ الْبَائِعِ، فَيَكُونُ كَمَنِ اشْتَرَى مَعِيبًا وَهُوَ يَعْلَمُهُ. وَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ، فَقَالَ الْبَائِعُ: لَا تَفْسَخْ، فَإِنِّي أَحُطُّ عَنْكَ الزِّيَادَةَ، فَفِي سُقُوطِ خِيَارِهِ وَجْهَانِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا. فَأَمَّا إِذَا ظَهَرَ الْحَالُ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ، فَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ وَرِبْحِهَا. وَالْأَصَحُّ: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، نَقَلَهُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَالشَّاشِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. وَأَمَّا الْبَائِعُ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ، فَكَذَا هُنَا، وَإِلَّا، فَيَثْبُتُ هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ السُّقُوطِ، فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْعَيْبَ بَعْدَ

تَلَفِ الْمَبِيعِ، لَكِنْ يَرْجِعُ بِقَدْرِ التَّفَاوُتِ وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ، كَمَا يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ. وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِمُؤَجَّلٍ فَلَمْ يُبَيِّنِ الْأَجَلَ، لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَلَكِنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَكَذَا إِذَا تَرَكَ شَيْئًا آخَرَ مِمَّا يَجِبُ ذِكْرُهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِذَا لَمْ يُخْبِرْ عَنِ الْعَيْبِ، فَفِي اسْتِحْقَاقِ حَطِّ قَدْرِ التَّفَاوُتِ الْقَوْلَانِ فِي الْكَذِبِ - وَلَمْ أَرَ لِغَيْرِهِ تَعَرُّضًا لِذَلِكَ - فَإِنْ ثَبَتَ الْخِلَافُ، فَالطَّرِيقُ عَلَى قَوْلِ الْحَطِّ النَظَرُ إِلَى الْقِيمَةِ وَتَقْسِيطُ الثَّمَنِ عَلَيْهَا. قُلْتُ: الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا حَطَّ بِذَلِكَ، وَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنِ الْمُشْتَرِي بِثُبُوتِ الْخِيَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا كَذَبَ بِالنُّقْصَانِ فَقَالَ: كَانَ الثَّمَنُ، أَوْ رَأْسُ الْمَالِ، أَوْ مَا قَامَتْ بِهِ السِّلْعَةُ مِائَةً، وَبَاعَ مُرَابَحَةً، ثُمَّ قَالَ: غَلِطْتُ، إِنَّمَا هُوَ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ، فَيُنْظَرُ، إِنْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الْبَيْعُ، كَمَا لَوْ غَلِطَ بِالزِّيَادَةِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْبَغَوَيِّ: لَا يَصِحُّ، لِتَعَذُّرِ إِمْضَائِهِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُحَامِلِيُّ، وَالْجُرْجَانِيُّ، وَصَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» ، وَالشَّاشِيُّ، وَخَلَائِقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَثْبُتُ، لَكِنْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَثْبُتُ مَعَ رِبْحِهَا، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ. وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُبَيِّنَ لِلْغَلَطِ وَجْهًا مُحْتَمَلًا، فَلَا يُقْبَلُ [قَوْلُهُ] ، وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً، لَمْ تُسْمَعْ. فَلَوْ زَعَمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَالِمٌ بِصِدْقِهِ، وَطَلَبَ تَحْلِيفَهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَجْهَانِ.

فصل

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَهُ تَحْلِيفُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُحَامِلِيُّ فِي الْمُقْنِعِ وَغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا: يُحَلِّفُهُ، فَنَكَلَ، فَفِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: تُرَدُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا قُلْنَا: يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِنْ حَلَفَ، أُمْضِي الْعَقْدُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَإِنْ نَكَلَ، وَرَدَدْنَا الْيَمِينَ، فَالْبَائِعُ يَحْلِفُ عَلَى الْقَطْعِ. وَإِذَا حَلَفَ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْفَسْخِ، كَذَا أَطْلَقُوهُ. وَمُقْتَضَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَالْإِقْرَارِ، أَنْ يَعُودَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي حَالَةِ التَّصْدِيقِ الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ لِلْغَلَطِ وَجْهًا مُحْتَمَلًا، بِأَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا اشْتَرَاهُ وَكِيلِي وَأُخْبِرْتُ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ فَبَانَ خِلَافُهُ، أَوْ وَرَدَ عَلَيَّ مِنْهُ كِتَابٌ فَبَانَ مُزَوَّرًا، أَوْ كُنْتُ رَاجَعْتُ جَرِيدَتِي، فَغَلَطْتُ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِلتَّحْلِيفِ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ فِي التَّحْلِيفِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُحَلَّفُ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ، وَإِلَّا سُمِعَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ قَوْلُهُ فِي الْمُرَابَحَةِ: بِعْتُكَ بِكَذَا، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِنْ جَنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ جَعْلُ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَصْلِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِكَذَا، وَبِعْتُكَ بِهِ وَرِبْحِ دِرْهَمًا عَلَى كُلِّ عَشْرَةٍ، فَالرِّبْحُ يَكُونُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ، لِإِطْلَاقِهِ الدَّرَاهِمَ، وَيَكُونُ الْأَصْلُ مِثْلَ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ غَيْرِهِ.

فصل

فَصْلٌ لَوِ اتَّهَبَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْقِيمَةَ وَيَبِيعَ بِهَا مُرَابَحَةً. وَلَوِ اتَّهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، ذَكَرَهُ وَبَاعَ بِهِ مُرَابَحَةً، وَإِذَا أَجَّرَ دَارًا بِعَبْدٍ، أَوْ نَكَحَتْ عَلَى عَبْدٍ، أَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ، أَوْ صَالَحَ مِنْ دَمٍ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْعَبْدِ مُرَابَحَةً بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، وَيَجُوزُ بِلَفْظِ: «قَامَ عَلَيَّ» . وَيَذْكُرُ فِي الْإِجَارَةِ أُجْرَةَ مِثْلِ الدَّارِ. وَفِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، مَهْرُ الْمِثْلِ. وَفِي الصُّلْحِ، الدِّيَةُ. فَصْلٌ أَطْبَقُوا عَلَى تَصْوِيرِ الْمُرَابَحَةِ، فِيمَا إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ بِمَا اشْتَرَيْتُ وَرِبْحِ كَذَا، وَبِمَا «قَامَ عَلَيَّ» ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ خِلَافًا. وَذَكَرُوا فِيمَا إِذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِنَصِيبِ ابْنِي، وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ، إِذَا قَالَ: بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِي، فَكَأَنَّهُمُ اقْتَصَرُوا هُنَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا التَّأْوِيلُ، خِلَافُ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ قَوْلِهِ: بِمَا اشْتَرَيْتُ، أَنَّ مَعْنَاهُ: بِمِثْلِ مَا اشْتَرَيْتُ، وَحَذْفُهُ اخْتِصَارٌ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّقْدِيرُ فِي الْوَصِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فِيمَا يُطْلَقُ مِنَ الْأَلْفَاظِ فِي الْمَبِيعِ، وَهِيَ سِتَّةٌ. الْأَوَّلُ: لَفْظُ الْأَرْضِ، وَفِي مَعْنَاهَا الْبُقْعَةُ، وَالسَّاحَةُ، وَالْعَرْصَةُ. فَإِذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ، وَكَانَ فِيهَا أَبْنِيَةٌ وَأَشْجَارٌ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: دُونَ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ، لَمْ تَدْخُلِ الْأَشْجَارُ وَالْأَبْنِيَةُ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ قَالَ: بِمَا فِيهَا، دَخَلَتْ.

فصل

وَكَذَا إِنْ قَالَ: بِعْتُكَهَا بِحُقُوقِهَا عَلَى الصَّحِيحِ. فَإِنْ أَطْلَقَ، فَنَصَّ هُنَا أَنَّهَا تَدْخُلُ. وَنَصَّ فِيمَا لَوْ رَهَنَ الْأَرْضَ وَأَطْلَقَ، أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ. وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ. وَالثَّانِي: فِيهِمَا قَوْلَانِ. وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الدُّخُولِ فِيهِمَا، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ. فَصْلٌ الزَّرْعُ، ضَرْبَانِ. الْأَوَّلُ: مَا يُؤْخَذُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ بَيْعِ الْأَرْضِ. وَيَصِحُّ بَيْعُ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا مَشْحُونَةً بِأَمْتِعَتِهِ. وَقِيلَ: يَخْرُجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي بَيْعِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إِنْ جَهَلَ الْحَالَ، بِأَنْ كَانَتْ رُؤْيَةُ الْأَرْضِ سَابِقَةً [عَلَى] الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَلْ يُحْكَمُ بِمَصِيرِ الْأَرْضِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَدُخُولِهَا فِي ضَمَانِهِ إِذَا خَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ فَاشْتَبَهَتِ الْمَشْحُونَةَ بِأَمْتِعَتِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِحُصُولِ تَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ الْمَبِيعَةِ. وَيُخَالِفُ الدَّارَ، فَإِنَّ تَفْرِيغَهَا مُمْكِنٌ فِي الْحَالِ وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا خِلَافٌ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ جَزَرٌ أَوْ فِجْلٌ أَوْ سَلْقٌ أَوْ ثُومٌ، لَمْ يَدْخُلْ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ كَالْحِنْطَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ زَرْعٍ لَا يَدْخُلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، لَا يَدْخُلُ وَإِنْ قَالَ: بِحُقُوقِهَا.

فَرْعٌ لَا يُؤْمَرُ الْبَائِعُ بِقَطْعِ زَرْعِهِ فِي الْحَالِ، بَلْ لَهُ تَرْكُهُ إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ، فَعِنْدَ وَقْتِ الْحَصَادِ يُؤْمَرُ بِالْقَطْعِ وَالتَّفْرِيغِ. وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ، وَقَلْعُ الْعُرُوقِ الَّتِي يَضُرُّ بَقَاؤُهَا الْأَرْضَ، كَعُرُوقِ الذُّرَةِ تَشْبِيهًا بِمَا إِذَا كَانَ فِي الدَّارِ أَمْتِعَةٌ لَا يَتَّسِعُ لَهَا بَابُ الدَّارِ، فَإِنَّهُ يُنْقَضُ وَعَلَى الْبَائِعِ ضَمَانُهُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا تُؤْخَذُ ثَمَرَتُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فِي سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، كَالْقُطْنِ الْحِجَازِيِّ، وَالنَّرْجِسِ، وَالْبَنَفْسَجِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ ثِمَارِهَا عِنْدَ بَيْعِ الْأَرْضِ يَبْقَى لِلْبَائِعِ. وَفِي دُخُولِ الْأُصُولِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْأَشْجَارِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ فِي النَّرْجِسِ وَالْبَنَفْسَجِ: أَنَّهُمَا مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا مَا يُجَزُّ مِرَارًا، كَالْقَتِّ، وَالْقَصَبِ، وَالْهِنْدِبَاءِ، وَالنُّعْنُعِ، وَالْكَرَفْسِ، وَالطَّرْخُونِ، فَتَبْقَى جَزَّتُهَا الظَّاهِرَةُ عِنْدَ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ. وَفِي دُخُولِ الْأُصُولِ، الْخِلَافُ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، الْقَطْعُ بِدُخُولِهَا فِي بَيْعِ الْأَرْضِ. وَإِذَا قُلْنَا بِدُخُولِهَا، فَلْيُشْتَرَطْ عَلَى الْبَائِعِ قَطْعُ الْجَزَّةِ الظَّاهِرَةِ، لِأَنَّهَا تَزِيدُ، وَيَشْتَبِهُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ كَانَ مَا ظَهَرَ بَالِغًا أَوَانَ الْجَزِّ، أَمْ لَا. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِلَّا الْقَصَبَ، فَلَا يُكَلَّفُ قَطْعَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ قَدْرًا يَنْتَفِعُ بِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ أَشْجَارُ خِلَافٍ تُقْطَعُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَهِيَ كَالْقَصَبِ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمَبِيعَةُ مَبْذُورَةً، فَفِي الْبَذْرِ الْكَامِنِ مِثْلُ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الزَّرْعِ. فَالْبَذْرُ الَّذِي لَا ثَبَاتَ لِنَبَاتِهِ، وَيُؤْخَذُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ، وَيَبْقَى إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْبَائِعُ لَهُ، سَقَطَ خِيَارُهُ، وَعَلَيْهِ الْقَبُولُ، وَلَوْ قَالَ: آخُذُهُ وَأُفَرِّغُ الْأَرْضَ، سَقَطَ الْخِيَارُ أَيْضًا إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ. وَالْبَذْرُ الَّذِي يَدُومُ، كَنَوَى النَّخِيلِ، وَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَبِذْرِ الْكُرَّاثِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْبُقُولِ، حُكْمُهُ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ بَيْعِ الْأَرْضِ، حُكْمُ الْأَشْجَارِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، هُوَ فِيمَنْ أَطْلَقَ بَيْعَ الْأَرْضِ. فَأَمَّا إِنْ بَاعَهَا مَعَ الزَّرْعِ أَوِ الْبَذْرِ، فَسَنَذْكُرُهُ فِي اللَّفْظِ السَّادِسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ الْحِجَارَةُ إِنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً فِي الْأَرْضِ، أَوْ مُثَبَّتَةً، دَخَلَتْ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ. فَإِنْ كَانَتْ تَضُرُّ بِالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ، فَهُوَ عَيْبٌ إِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ تُقْصَدُ لِذَلِكَ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَوَاتُ فَضِيلَةٍ. وَإِنْ كَانَتْ مَدْفُونَةً فِيهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ، كَالْكُنُوزِ وَالْأَقْمِشَةِ فِي الدَّارِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِهِ، فَلَا خِيَارَ [لَهُ] فِي فَسْخِ الْعَقْدِ، وَلَهُ إِجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَى الْقَلْعِ وَالنَّقْلِ، تَفْرِيغًا لِمِلْكِهِ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ، فَإِنَّ لَهُ أَمَدًا يُنْتَظَرُ، وَلَا أُجْرَةَ لِلْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْقَلْعِ وَالنَّقْلِ وَإِنْ طَالَتْ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى دَارًا فِيهَا أَقْمِشَةٌ يَعْلَمُهَا، فَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي مُدَّةِ نَقْلِهَا،

وَيَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ إِذَا نَقَلَ تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَلِلْحِجَارَةِ مَعَ الْأَرْضِ، أَرْبَعَةُ أَحْوَالَ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْعِهَا وَلَا فِي تَرْكِهَا ضَرَرٌ، بِأَنْ لَا يُحْوِجَ النَّقْلُ وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ إِلَى مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ، وَلَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ بِهَا، فَلِلْبَائِعِ النَّقْلُ، وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَلَهُ إِجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَى النَّقْلِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُجْبِرُهُ، وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْعِهَا ضَرَرٌ، وَيَكُونَ فِي تَرْكِهَا ضَرَرٌ، فَيُؤْمَرُ الْبَائِعُ بِالنَّقْلِ. وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، كَمَا لَوِ اشْتَرَى دَارًا، فَلَحِقَ سَقْفَهَا خَلَلٌ يَسِيرٌ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فِي الْحَالِ، أَوْ كَانَتْ مُنْسَدَّةَ الْبَالُوعَةِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: أَنَا أُصْلِحُهُ وَأُنَقِّيهَا، لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَلْعُ وَالتَّرْكُ مُضِرَّيْنِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، سَوَاءٌ جَهِلَ أَصْلَ الْأَحْجَارِ، أَوْ كَوْنَ قَلْعِهَا مُضِرًّا، وَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِتَرْكِ الْبَائِعِ الْأَحْجَارَ لِأَنَّ بَقَاءَهَا مُضِرٌّ. وَهَلْ يَسْقُطُ بِقَوْلِ الْبَائِعِ: لَا تَفْسَخْ لَأَغْرَمَ لَكَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مُدَّةَ النَّقْلِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: لَا تَفْسَخْ بِالْعَيْبِ لَأَغْرَمَ لَكَ الْأَرْشَ. ثُمَّ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءَ الْبَيْعِ، لَزِمَ الْبَائِعَ النَّقْلُ وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ، سَوَاءٌ كَانَ النَّقْلُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ. وَهَلْ تَجِبُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمُدَّةِ النَّقْلِ؟ نُظِرَ إِنْ كَانَ النَّقْلُ قَبْلَ الْقَبْضِ بُنِيَ عَلَى أَنَّ جِنَايَةَ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَمْ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، لَمْ تَجِبْ، وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا لَوْ نُقِلَ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَإِنْ كَانَ النَّقْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَفِي وُجُوبِهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: تَجِبُ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ، عَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَإِنِ اخْتَصَرْتَ قُلْتَ: فِي الْأُجْرَةِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ النَّقْلُ قَبْلَ الْقَبْضِ، لَمْ

يَجِبْ، وَبَعْدَهُ يَجِبُ. وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الْأَرْشِ لَوْ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ التَّسْوِيَةِ عَيْبٌ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي قَلْعِهَا ضَرَرٌ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِهَا ضَرَرٌ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، فَإِنْ أَجَازَ، فَفِي وُجُوبِ الْأُجْرَةِ وَالْأَرْشِ مَا سَبَقَ، وَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِقَوْلِ الْبَائِعِ: اقْلَعْ وَأَغَرَمُ الْأُجْرَةَ أَوْ أَرْشَ النَّقْصِ، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ. وَلَوْ رَضِيَ بِتَرْكِ الْأَحْجَارِ فِي الْأَرْضِ، سَقَطَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي. ثُمَّ يُنْظَرُ، إِنْ قَالَ: تَرَكْتُهَا لِلْمُشْتَرِي، فَهَلْ هُوَ تَمْلِيكٌ لِلْمُشْتَرِي، أَمْ مُجَرَّدُ إِعْرَاضٍ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ؟ وَجْهَانِ. كَالْوَجْهَيْنِ فِي تَرْكِ نَعْلِ الدَّابَّةِ الْمَرْدُودَةِ بِالْعَيْبِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَلَوْ قَلَعَهَا الْمُشْتَرِي يَوْمًا، فَهِيَ لَهُ. وَلَوْ أَرَادَ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ فِيهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَهِيَ لِلْبَائِعِ. فَلَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَهُ ذَلِكَ، وَيَعُودُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا رُجُوعَ لَهُ، وَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِالتَّرْكِ. وَإِنْ قَالَ: وَهَبْتُهَا لَكَ، وَاجْتَمَعَتْ شَرَائِطُ الْهِبَةِ، حَصَلَ الْمِلْكُ، وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ. فَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ، فَفِي صِحَّتِهَا لِلضَّرُورَةِ وَجْهَانِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَفِي حُصُولِ الْمِلْكِ مَا ذَكَرْنَا فِي لَفْظِ التَّرْكِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِيهَا غِرَاسٌ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ حَاصِلًا يَوْمَ الْبَيْعِ وَاشْتَرَاهُ مَعَ الْأَرْضِ، فَنُقْصَانُ الْغِرَاسِ وَتَعَيُّبُهُ بِالْأَحْجَارِ، كَتَعَيُّبِ الْأَرْضِ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَإِنْ أَحْدَثَهُ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْأَحْجَارِ، فَلِلْبَائِعِ قَلْعُهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِ الْغِرَاسِ. وَإِنْ أَحْدَثَهُ جَاهِلًا، لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ الضَّرَرَ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ الْمَبِيعِ. فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ أَيْضًا بِالْأَحْجَارِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِالْغَرْسِ وَقَلْعِ الْمَغْرُوسِ نَقْصٌ فِي الْأَرْضِ، فَلَهُ الْقَلْعُ وَالْفَسْخُ. وَإِنْ حَصَلَ، فَلَا خِيَارَ فِي الْفَسْخِ، إِذْ لَا يَجُوزُ رَدُّ الْمَبِيعِ نَاقِصًا، لَكِنْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ. وَإِذَا قَلَعَ الْبَائِعُ، فَنَقَصَ الْغِرَاسُ، لَزِمَهُ أَرْشُ النَّقْصِ بِلَا خِلَافٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ فَوْقَ الْأَحْجَارِ زَرْعٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي،

فَفِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ يُتْرَكُ إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ ; لِأَنَّ لَهُ غَايَةً مُنْتَظَرَةً، بِخِلَافِ الْغِرَاسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغِرَاسِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: قَوْلُ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» ، وَقَدْ وَافَقَهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْإِبَانَةِ» : إِذَا قَلَعَ الْبَائِعُ الْأَحْجَارَ بَعْدَ الْحَصَادِ، فَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ هَلْ لَهُ الْأُجْرَةُ فِي مُدَّةِ بَقَاءِ الزَّرْعِ؟ قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنْ لَا أُجْرَةَ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا أُجْرَةَ، وَتَقَعُ تِلْكَ الْمُدَّةُ مُسْتَثْنَاةً، كَمَنْ بَاعَ دَارًا مَشْحُونَةً بِأَمْتِعَةٍ، لَا يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي أُجْرَةً لِمُدَّةِ التَّفْرِيغِ. فَرْعٌ تَكَلَّمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَنَّ الْأَصْحَابَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، لَمْ يُوجِبُوا عَلَى هَادِمِ الْجِدَارِ إِعَادَتَهُ، بَلْ أَوْجَبُوا أَرْشَهُ، وَأَوْجَبُوا تَسْوِيَةَ الْحَفْرِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْغَاصِبِ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ طَمَّ الْحَفْرِ لَا يَكَادُ يَتَفَاوَتُ، وَهَيْئاتُ الْأَبْنِيَةِ تَتَفَاوَتُ، فَشَبَّهَ الطَّمَّ بِذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَالْجِدَارَ بِذَوَاتِ الْقِيَمِ. حَتَّى لَوْ رَفَعَ لَبِنَةً أَوْ لَبِنَتَيْنِ مِنْ رَأَسِ جِدَارٍ، وَأَمْكَنَ الرَّدُّ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ فِي الْهَيْئَةِ، فَهُوَ كَطَمِّ الْحَفْرِ. وَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الْجِدَارِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي الصُّلْحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّفْظُ الثَّانِي: الْبُسْتَانُ، وَالْبَاغُ - بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ - وَهُوَ بِمَعْنَى الْبُسْتَانِ. فَإِذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْبَاغَ أَوِ الْبُسْتَانَ، دَخَلَ فِي الْبَيْعِ الْأَرْضُ وَالْأَشْجَارُ

وَالْحَائِطُ. وَفِي دُخُولِ الْبَنَّاءِ الَّذِي فِيهِ، مَا سَبَقَ فِي دُخُولِهِ فِي لَفْظِ الْأَرْضِ، وَفِي الْعَرِيشِ الَّذِي تُوضَعُ عَلَيْهِ الْقُضْبَانُ تَرَدُّدٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْإِمَامِ: دُخُولُهُ. وَذَكَرُوا أَنَّ لَفْظَ الْكَرْمِ، كَلَفْظِ الْبُسْتَانِ. لَكِنَّ الْعَادَةَ فِي نَوَاحِينَا، إِخْرَاجُ الْحَائِطِ عَنْ مُسَمَّى الْكَرْمِ، وَإِدْخَالُهُ فِي مُسَمَّى الْبُسْتَانِ. وَلَكِنْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عَلَى مَا اسْتَمَرَّ الِاصْطِلَاحُ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ الْبُسْتَانُ، دَخَلَ الْأَبْنِيَةُ وَالْأَشْجَارُ جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْحَائِطُ، الْبُسْتَانُ، أَوْ هَذِهِ الْمُحَوَّطَةُ، دَخَلَ الْحَائِطُ الْمُحَوَّطُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَشْجَارِ، وَفِي الْبِنَاءِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» ، وَلَا يَظْهَرُ فِي لَفْظِ الْمُحَوَّطَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ، فَلْيَدْخُلَا، أَوْ لِيَكُونَا عَلَى الْخِلَافِ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ، دَخَلَتِ الْأَبْنِيَةُ وَالسَّاحَاتُ الَّتِي يُحِيطُ بِهَا السُّورُ. وَفِي الْأَشْجَارِ وَسَطُهَا، الْخِلَافُ. الصَّحِيحُ: دُخُولُهَا. وَفِي الْمَزَارِعِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: لَا تَدْخُلُ، سَوَاءٌ قَالَ: بِحُقُوقِهَا، أَمْ لَا، بَلْ لَا تَدْخُلُ إِلَّا بِالنَّصِّ عَلَى الْمَزَارِعِ. وَالثَّانِي قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: تَدْخُلُ. وَالثَّالِثُ قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ: إِنْ قَالَ: بِحُقُوقِهَا، دَخَلَتْ، وَإِلَّا فَلَا. قُلْتُ: قَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: بِعْتُكَ الدَّسْكَرَةَ كَبِعْتُكَ الْقَرْيَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ اللَّفْظُ الثَّالِثُ: الدَّارُ، فَإِذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، دَخَلَتِ الْأَرْضُ وَالْأَبْنِيَةُ جَمِيعُهَا، حَتَّى يَدْخُلَ الْحَمَّامُ الْمَعْدُودُ مِنْ مَرَافِقِهَا. وَحُكِيَ عَنْ نَصِّهِ أَنَّ الْحَمَّامَ لَا يَدْخُلُ، [وَ] حَمَلُوهُ عَلَى حَمَّامَاتِ الْحِجَازِ، وَهِيَ بُيُوتٌ مِنْ خَشَبٍ تُنْقَلُ. وَلَوْ كَانَ فِي وَسَطِهَا شَجَرٌ فَفِي دُخُولِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي لَفْظِ الْأَرْضِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي

دُخُولِهَا، ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. ثَالِثُهَا: إِنْ كَثُرَتْ بِحَيْثُ يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الدَّارِ بُسْتَانًا، لَمْ تَدْخُلْ، وَإِلَّا دَخَلَتْ. وَأَمَّا الْآلَاتُ فِي الدَّارِ، فَثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: الْمَنْقُولَاتُ، كَالدَّلْوِ، وَالْبَكَرَةِ، وَالرِّشَاءِ، وَالْمَجَارِفِ، وَالسُّرُرِ، وَالرُّفُوفِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْأَوْتَادِ، وَالسَّلَالِمِ الَّتِي لَمْ تُسَمَّرْ وَلَمْ تُطَيَّنْ، وَالْأَقْفَالِ، وَالْكُنُوزِ، وَالدَّفَائِنِ، فَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهَا. وَفِي مِفْتَاحِ الْمِغْلَاقِ الْمُثَبَّتِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَدْخُلُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي أَلْوَاحِ الدَّكَاكِينِ، وَفِي الْأَعْلَى مِنْ حَجَرَيِ الرَّحَى. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا أُثْبِتَ تَتِمَّةً لِلدَّارِ لِيَبْقَى فِيهَا، كَالسَّقْفِ وَالْأَبْوَابِ الْمَنْصُوبَةِ وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَغْلَاقِ وَالْحِلَقِ وَالسَّلَاسِلِ وَالضَّبَّاتِ، فَتَدْخُلُ قَطْعًا. [الضَّرْبُ] الثَّالِثُ: مَا أُثْبِتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، كَالرُّفُوفِ وَالدِّنَانِ وَالْأَجَّانَاتِ الْمُثَبَّتَةِ وَالسَّلَالِمِ الْمُسَمَّرَةِ، وَالْأَوْتَادِ الْمُثَبَّتَةِ فِي الْأَرْضِ، أَوْ فِي الْجِدَارِ، وَالْأَسْفَلِ مِنْ حَجَرَيِ الرَّحَى، وَخَشَبِ الْقَصَّارِ، وَمَعْجَنِ الْخَبَّازِ، فَيَدْخُلُ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِثَبَاتِهَا. وَأَشَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى الْقَطْعِ بِدُخُولِ الْحَجَرَيْنِ فِي الْبَيْعِ بِاسْمِ الطَّاحُونَةِ، وَتَدْخُلُ الْأَجَّانَاتُ الْمُثَبَّتَةُ إِذَا بَاعَ بِاسْمِ الْمَدْبَغَةِ وَالْمَصْبَغَةِ، وَإِنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْبَيْعِ بِاسْمِ الدَّارِ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» مَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ اسْمِ الدَّارِ وَالْمَدْبَغَةِ. قُلْتُ: وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي قَدْرِ الْحَمَّامِ، قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَا تَدْخُلُ مَسَايِلُ الْمَاءِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شُرْبُهَا مِنَ الْقَنَاةِ وَالنَّهْرِ الْمَمْلُوكَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَشْرُطَهُ، أَوْ يَقُولَ: بِحُقُوقِهَا. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَكْفِي ذِكْرُ الْحُقُوقِ.

فَرْعٌ لَوْ كَانَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ بِئْرُ مَاءٍ، دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ، وَالْمَاءُ الْحَاصِلُ فِي الْبِئْرِ حَالَ الْبَيْعَ، لَا يَدْخُلُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يَدْخُلُ، كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُؤَبَّرْ، لِلْعُرْفِ. وَإِنْ شَرَطَ دُخُولَهُ فِي الْبَيْعِ صَحَّ عَلَى قَوْلِنَا: الْمَاءُ مَمْلُوكٌ، بَلْ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ دُونَ هَذَا الشَّرْطِ، وَإِلَّا، اخْتَلَطَ الْمَاءُ الْمَوْجُودُ لِلْبَائِعِ بِمَاءٍ يَحْدُثُ لِلْمُشْتَرِي، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ. قُلْتُ: هَذَا الشَّرْطُ عَلَى قَوْلِنَا: الْمَاءُ مَمْلُوكٌ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُمْلَكُ، صَحَّ الْبَيْعُ مُطْلَقًا، بَلْ لَا يَجُوزُ شَرْطُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، كَمَا لَوْ تَوَحَّلَ صَيْدٌ فِي أَرْضِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الْمَاءِ وَفُرُوعِهِ، يَأْتِي فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ أَوِ الدَّارِ مَعْدِنٌ ظَاهِرٌ، كَالنِّفْطِ، وَالْمِلْحِ، وَالْقَارِ، وَالْكِبْرِيتِ، فَهُوَ كَالْمَاءِ. وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا، كَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، دَخَلَ فِي الْبَيْعِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا فِيهِ مَعْدِنُ ذَهَبٍ بِالذَّهَبِ، بِسَبَبِ الرِّبَا. وَفِي بَيْعِهِ بِالْفِضَّةِ قَوْلَانِ، لِلْجَمْعِ بَيْنَ الصَّرْفِ وَالْبَيْعِ فِي صَفْقَةٍ.

فَرْعٌ بَاعَ دَارًا فِي طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ، دَخَلَ حَرِيمُهَا فِي الْبَيْعِ. وَفِي دُخُولِ الْأَشْجَارِ، الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقٍ نَافِذٍ، لَمْ يَدْخُلِ الْحَرِيمُ وَالْأَشْجَارُ فِي الْبَيْعِ، بَلْ لَا حَرِيمَ لِمِثْلِ هَذِهِ الدَّارِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. اللَّفْظُ الرَّابِعُ: الْعَبْدُ. إِذَا مَلَّكَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ مَالًا، لَمْ يَمْلِكْهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. فَلَوْ مَلَّكَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ، لَمْ يَدْخُلِ الْمَالُ فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ الْمَالِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ، اعْتُبِرَ فِي الْمَالِ شُرُوطُ الْمَبِيعِ. حَتَّى لَوْ كَانَ مَجْهُولًا أَوْ غَائِبًا، أَوْ دَيْنًا وَالثَّمَنُ دَيْنٌ، أَوْ ذَهَبًا وَالثَّمَنُ ذَهَبٌ، لَمْ يَصِحَّ. فَلَوْ كَانَ ذَهَبًا، وَالثَّمَنُ فِضَّةٌ، أَوْ عَكْسُهُ، فَفِيهِ قَوْلَا الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعٍ وَصَرْفٍ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ، فَقَدْ نَصَّ أَنَّ الْمَالَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي مَعَ الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِجَهَالَتِهِ وَغَيْبَتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ احْتِمَالِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لِأَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ، وَيُحْتَمَلُ فِي التَّابِعِ مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي الْأَصْلِ، كَمَا يُحْتَمَلُ الْجَهْلُ بِحُقُوقِ الدَّارِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، مَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مَبِيعًا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا، وَيَكُونُ شَرْطُهُ تَبْقِيَةً لَهُ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا كَانَ، فَلِلْمُشْتَرِي انْتِزَاعُهُ كَمَا كَانَ لِلْبَائِعِ [الِانْتِزَاعُ] . فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ الثَّمَنُ رِبَوِيًّا، وَالْمَالُ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَا بَأْسَ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا يَجُوزُ. وَلَا يُحْتَمَلُ الرِّبَا فِي التَّابِعِ، كَمَا لَا يُحْتَمَلُ فِي الْأَصْلِ. فَرْعٌ الثِّيَابُ الَّتِي عَلَى الْعَبْدِ فِي دُخُولِهَا فِي بَيْعِهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ

مِنْهَا. وَالثَّانِي: تَدْخُلُ. وَالثَّالِثُ: يَدْخُلُ سَاتِرُ الْعَوْرَةِ فَقَطْ. وَلَا يَدْخُلُ عِذَارُ الدَّابَّةِ فِي بَيْعِهَا عَلَى الْأَصَحِّ كَالسَّرْجِ، وَيَدْخُلُ النَّعْلُ، وَبُرَةُ النَّاقَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَهَبٍ. اللَّفْظُ الْخَامِسُ: الشَّجَرُ، فَإِذَا بَاعَ الشَّجَرَةَ مُطْلَقًا، دَخَلَتِ الْأَغْصَانُ لَكِنْ لَا يَدْخُلُ الْغُصْنُ الْيَابِسُ فِي بَيْعِ الشَّجَرَةِ الرَّطْبَةِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ قَطْعُهُ كَالثِّمَارِ، وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَدْخُلَ كَالصُّوفِ عَلَى الْغَنَمِ، وَتَدْخُلَ الْعُرُوقُ وَالْأَوْرَاقُ، إِلَّا أَنَّ شَجَرَةَ الْفِرْصَادِ إِذَا بِيعَتْ فِي الرَّبِيعِ وَقَدْ خَرَجَتْ أَوْرَاقُهَا، فَفِي دُخُولِهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الدُّخُولُ كَغَيْرِ وَقْتِ الرَّبِيعِ، وَتَدْخُلُ أَوْرَاقُ شَجَرِ النَّبْقِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: كِالْفِرْصَادِ. قُلْتُ: وَتَدْخُلُ الْكِمَامُ تَحْتَ اسْمِ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّهَا تَبْقَى بَقَاءَ الْأَغْصَانِ، قَالَهُ فِي «الْوَسِيطِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَاعَ شَجَرَةً يَابِسَةً نَابِتَةً، لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ تَفْرِيغُ الْأَرْضِ مِنْهَا، لِلْعَادَةِ. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَوْ شَرَطَ إِبْقَاءَهَا، بَطَلَ الْبَيْعُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى ثَمَرَةً مُؤَبَّرَةً وَشَرَطَ عَدَمَ الْقَطْعِ عِنْدَ الْجِدَادِ، وَإِنْ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، جَازَ. وَتَدَخُلُ الْعُرُوقُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ شَرْطِ الْقَلْعِ، وَلَا تَدَخُلُ عِنْدَ شَرْطِ الْقَطْعِ، بَلْ تُقْطَعُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَتِ الشَّجَرَةُ رَطْبَةً فَبَاعَهَا بِشَرْطِ الْإِبْقَاءِ أَوْ بِشَرْطِ الْقَلْعِ، اتُّبِعَ الشَّرْطُ، وَإِنْ أَطْلَقَ جَازَ الْإِبْقَاءُ لِلْعَادَةِ. وَهَلْ يَدْخُلُ الْمُغْرَسُ فِي الْبَيْعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا ; لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُهُ، فَإِنْ أَدْخَلْنَاهُ فَانْقَلَعَتِ الشَّجَرَةُ، أَوْ قَلَعَهَا الْمَالِكُ، كَانَ لَهُ غَرْسُ بَدَلِهَا، وَلَهُ بَيْعُ الْمُغْرَسِ، وَإِلَّا فَلَا. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ، فِيمَا لَوِ اشْتَرَى أَرْضًا وَشَرَطَ الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ شَجَرَةً، هَلْ يَبْقَى لَهُ الْمُغْرَسُ، أَمْ لَا؟ قُلْتُ: وَإِذَا لَمْ يَدْخُلِ الْمُغْرَسُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ قَلْعُ الشَّجَرَةِ

فصل

مَجَّانًا. وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِبْقَاؤُهَا مَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي، أَمْ لَهُ قَلْعُهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ وَيَغْرُمُ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ كَالْعَارِيَةِ؟ وَجْهَانِ مَحْكِيَّانِ فِي «النِّهَايَةِ» وَ «الْبَسِيطِ» فِي كِتَابِ «الرَّهْنِ» . أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْحَالِ الَّذِي تَنْدَرِجُ فِيهِ الثَّمَرَةُ فِي بَيْعِ الشَّجَرَةِ النَّخْلُ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ. وَمُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنَ الذُّكُورِ، اسْتِصْلَاحُ الْإِنَاثِ بِهَا. وَالَّذِي يَبْدُو فِيهَا أَوَّلًا أَكِمَّةٌ صِغَارٌ، ثُمَّ تَكْبُرُ وَتَطُولُ حَتَّى تَصِيرَ كَآذَانِ الْحُمُرِ. فَإِذَا كَبِرَتْ شُقِّقَتْ فَظَهَرَتِ الْعَنَاقِيدُ فِي أَوْسَاطِهَا، فَيُذَرُّ فِيهَا طَلْعُ الذُّكُورِ لِيَكُونَ رُطَبُهَا أَجْوَدَ. وَالتَّشْقِيقُ وَذْرُّ الطَّلْعِ فِيهَا يُسَمَّى: التَّأْبِيرُ، وَيُسَمَّى: التَّلْقِيحُ. ثُمَّ الْأَكْثَرُونَ يُسَمُّونَ الْكِمَامَ الْخَارِجَ كُلَّهُ: طَلْعًا. وَالْإِمَامُ خَصَّ اسْمَ الطَّلْعِ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ النَّوْرِ عَلَى الْعُنْقُودِ عِنْدَ تَشَقُّقِ الْكِمَامِ. ثُمَّ الْمُتَعَهِّدُونَ لِلنَّخْلِ لَا يُؤَبِّرُونَ جَمِيعَ الْكِمَامِ، بَلْ يَكْتَفُونَ بِتَأْبِيرِ الْبَعْضِ، وَيَتَشَقَّقُ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ، وَتَنْبَثُّ رِيحُ الذُّكُورِ إِلَيْهِ. وَقَدْ لَا يُؤَبَّرُ فِي الْحَائِطِ شَيْءٌ، وَتَتَشَقَّقُ الْأَكِمَّةُ بِنَفْسِهَا، إِلَّا أَنَّ رُطَبَهُ لَا يَجِيءُ جَيِّدًا. وَكَذَا الْخَارِجُ مِنَ الذُّكُورِ يَتَشَقَّقُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُشَقَّقُ غَالِبًا. فَإِذَا بَاعَ نَخْلَةً عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ، فَإِنْ شُرِطَتْ لِأَحَدِهِمَا اتُّبِعَ الشَّرْطُ. وَإِنْ أَطْلَقَا، فَإِنْ كَانَتْ شُقِّقَتْ أَوْ تَشَقَّقَتْ بِنَفْسِهَا، فَهِيَ لِلْبَائِعِ، وَإِلَّا فَلِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ بَاعَ الذُّكُورَ مِنَ النَّخْلِ بَعْدَ تَشَقُّقِ طَلْعِهَا، فَالطَّلْعُ لِلْبَائِعِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لِلْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: لِلْبَائِعِ.

فَرْعٌ مَا عَدَا النَّخْلَ مِنَ الشَّجَرِ، أَقْسَامٌ. أَحَدُهَا: مَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْوَرَقُ، كَشَجَرِ الْفِرْصَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : وَشَجَرُ الْحِنَّاءِ وَنَحْوُهُ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ كَالْفِرْصَادِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ وَرَقُهُ، كَانَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَمَرَ لَهَا سِوَى الْوَرَقِ، بِخِلَافِ الْفِرْصَادِ، فَإِنَّ لَهُ ثَمَرَةً مَأْكُولَةً. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْوَرْدُ، وَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: يَخْرُجُ فِي كِمَامٍ ثُمَّ يَتَفَتَّحُ كَالْوَرْدِ الْأَحْمَرِ. فَإِذَا بِيعَ أَصْلُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَتَفَتُّحِهِ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ كَطَلْعِ النَّخْلِ الْمُتَشَقِّقِ إِنْ بِيعَ قَبْلَ تَفَتُّحِهِ، فَلِلْمُشْتَرِي عَلَى الْأَصَحِّ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يَخْرُجُ وَرْدُهُ ظَاهِرًا كَالْيَاسَمِينِ. فَإِنْ خَرَجَ وَرْدُهُ، فَلِلْبَائِعِ، وَإِلَّا فَلِلْمُشْتَرِي. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يُقْصَدُ مِنْهُ الثَّمَرَةُ، وَهُوَ نَوْعَانِ. مَا تَخْرُجُ ثَمَرَتُهُ بَارِزَةً بِلَا قِشْرٍ وَلَا كِمَامٍ، كَالتِّينِ، وَالْعِنَبِ، فَهُوَ كَالْيَاسَمِينِ. وَالثَّانِي: مَا تَخْرُجُ بِهِمَا، وَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا تَخْرُجُ ثَمَرَتُهُ فِي نَوْرٍ، ثُمَّ يَتَنَاثَرُ نَوْرُهُ فَتَبْرُزُ الثَّمَرَةُ بِلَا حَائِلٍ، كَالْمِشْمِشِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْكُمَّثْرَى وَشَبَهِهَا. فَإِنْ بَاعَ الْأَصْلَ قَبْلَ انْعِقَادِ الثَّمَرَةِ، انْعَقَدَتْ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ النَّوْرُ قَدْ خَرَجَ. وَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ الِانْعِقَادِ [وَتَنَاثُرِ النَّوْرِ فَلِلْبَائِعِ. وَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ الِانْعِقَادِ] وَقَبْلَ تَنَاثُرِ النَّوْرِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ: أَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: لِلْبَائِعِ [الضَّرْبُ] الثَّانِي: مَا يَبْقَى لَهُ حَائِلٌ عَلَى الثَّمَرَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَهُوَ صِنْفَانِ.

أَحَدُهُمَا: لَهُ قِشْرٌ وَاحِدٌ كَالرُّمَّانِ. فَإِذَا بِيعَ أَصْلُهُ وَقَدْ ظَهَرَ الرُّمَّانُ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: مَا لَهُ قِشْرَانِ، كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ وَالْرَانِجِ. فَإِنْ بَاعَهَا قَبْلَ خُرُوجِهَا، فَالَّذِي يَخْرُجُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِلَّا فَلِلْبَائِعِ. وَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ تَشَقُّقُ الْقِشْرِ الْأَعْلَى عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ مِنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، مَا تَخْرُجُ ثَمَرَتُهُ فِي قِشْرٍ بِغَيْرِ نَوْرٍ، كَالْجَوْزِ وَالْفُسْتُقِ. وَمِنْهَا: مَا تَخْرُجُ فِي نَوْرٍ، ثُمَّ يَتَنَاثَرُ نَوْرُهُ، كَالرُّمَّانِ، وَاللَّوْزِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُكْمِهِمَا هُوَ فِيمَا إِذَا بِيعَ الْأَصْلُ بَعْدَ تَنَاثُرِ النَّوْرِ. فَإِنْ بِيعَ قَبْلَهُ عَادَ فِيهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ. فَرْعٌ الْقُطْنُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ سَاقٌ يَبْقَى سِنِينَ يُثْمِرُ كُلَّ سَنَةٍ، وَهُوَ قُطْنُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ، فَهُوَ كَالنَّخْلِ، إِنْ بِيعَ أَصْلُهُ قَبْلَ تَشَقُّقِ الْجَوْزَقِ، فَالثَّمَرُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِلَّا فَلِلْبَائِعِ. وَالثَّانِي: مَا لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فَهُوَ كَالزَّرْعِ، إِنْ بَاعَهُ قَبْلَ خُرُوجَ الْجُوزَقِ، أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ تَكَامُلِ الْقُطْنِ، وَجَبَ شَرْطُ الْقَطْعِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى خَرَجَ الْجَوْزَقُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ تَكَامُلِ الْقُطْنِ، فَإِنْ تَشَقَّقَ الْجُوزَقُ، صَحَّ الْبَيْعُ مُطْلَقًا، وَدَخَلَ الْقُطْنُ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ، لَا تَدْخُلُ ; لِأَنَّ الشَّجَرَةَ مَقْصُودَةٌ لِثِمَارِ جَمِيعِ الْأَعْوَامِ، وَلَا مَقْصُودَ هُنَا سِوَى الثَّمَرَةِ الْمَوْجُودَةِ. وَإِنْ لَمْ يَتَشَقَّقْ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَسْتُورٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ صَلَاحِهِ، بِخِلَافِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي الْقِشْرِ الْأَسْفَلِ.

فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ الثَّمَرَةِ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ التَّأْبِيرُ فِي كُلِّ كِمَامٍ وَعُنْقُودٍ، بَلْ إِذَا بَاعَ نَخْلَةً أَبَّرَ بَعْضَهَا، فَالْكُلُّ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ بَاعَ نَخَلَاتٍ أَبَّرَ بَعْضَهَا فَقَطْ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي بُسْتَانٍ وَاحِدٍ، فَيُنْظَرُ، إِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ وَالصَّفْقَةُ، فَجَمِيعُ الثِّمَارِ لِلْبَائِعِ. وَإِنْ أُفْرِدَ بِالْبَيْعِ غَيْرُ الْمُؤَبَّرِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ الثَّمَرَةَ لِلْمُشْتَرِي، وَالثَّانِي لِلْبَائِعِ اكْتِفَاءً بِوَقْتِ التَّأْبِيرِ عَنْهُ. وَإِنِ اخْتَلَفَ النَّوْعُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَمِيعَ لِلْبَائِعِ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: غَيْرُ الْمُؤَبَّرِ لِلْمُشْتَرِي، وَالْمُؤَبَّرُ لِلْبَائِعِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي بُسْتَانَيْنِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَتَفَرَّدُ كُلُّ بُسْتَانٍ بِحُكْمِهِ. وَقِيلَ: هُمَا كَالْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ، سَوَاءٌ تَبَاعَدَ الْبُسْتَانَانِ أَوْ تَلَاصَقَا. فَرْعٌ بَاعَ نَخْلَةً وَبَقِيَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ، ثُمَّ خَرَجَ طَلْعٌ آخَرُ مِنْ تِلْكَ النَّخْلَةِ، أَوْ مِنْ أُخْرَى حَيْثُ يَقْتَضِي الْحَالُ اشْتِرَاكَهُمَا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الطَّلْعُ الْجَدِيدُ لِلْبَائِعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ الْعَامِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لِلْمُشْتَرِي، لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِ. فَرْعٌ جَمَعَ فِي صَفْقَةٍ ذُكُورَ النَّخْلِ وَإِنَاثَهَا، لَهُ حُكْمُ الْجَمْعِ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْإِنَاثِ.

فصل

فَرْعٌ قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : تَشَقُّقُ بَعْضِ جَوْزِ الْقُطْنِ، كَتَشَقُّقِ كُلِّهِ. وَمَا تَشَقَّقَ مِنَ الْوَرْدِ، لِلْبَائِعِ، وَمَا لَمْ يَتَشَقَّقْ، لِلْمُشَتَّرِي وَإِنْ كَانَا عَلَى شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بِخِلَافِ النَّخْلِ ; لِأَنَّ الْوَرْدَ يُجْنَى فِي الْحَالِ، فَلَا يُخَافُ اخْتِلَاطُهُ. قَالَ: وَلَوْ ظَهَرَ بَعْضُ التِّينِ وَالْعِنَبِ، فَالظَّاهِرُ لِلْبَائِعِ، وَغَيْرُهُ لِلْمُشْتَرِي، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ نَظَرٌ. فَصْلٌ إِذَا بَاعَ الشَّجَرَةَ، وَبَقِيَتِ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ فِي الْحَالِ، لَزِمَهُ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي تَكْلِيفُهُ الْقَطْعَ فِي الْحَالِ، بَلْ لَهُ الْإِبْقَاءُ إِلَى أَوَانِ الْجِدَادِ وَقِطَافِ الْعِنَبِ. فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْجِدَادِ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهَا عَلَى التَّدْرِيجِ، وَلَا أَنْ يُؤَخِّرَهَا إِلَى نِهَايَةِ النُّضْجِ. وَلَوْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مِنْ نَوْعٍ يُعْتَادُ قَطْعُهُ قَبْلَ النُّضْجِ، كُلِّفَ الْقَطْعَ عَلَى الْعَادَةِ. وَلَوْ تَعَذَّرَ السَّقْيُ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ وَعَظُمَ ضَرَرُ النَّخْلِ بِبَقَاءِ الثَّمَرَةِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِبْقَاءُ. وَلَوْ أَصَابَ الثِّمَارَ آفَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهَا فَائِدَةٌ، فَهَلْ لَهُ الْإِبْقَاءُ؟ قَوْلَانِ. وَسَقْيُ الثِّمَارِ عِنْدَ الْحَاجَةِ عَلَى الْبَائِعِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي تَمْكِينُهُ مِنْ دُخُولِ الْبُسْتَانِ لِلسَّقْيِ. فَإِنْ لَمْ يَأْتَمِنْهُ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ أَمِينًا لِلسَّقْيِ، وَمُؤْنَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ. وَإِذَا كَانَ السَّقْيُ يَنْفَعُ الثِّمَارَ وَالْأَشْجَارَ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ السَّقْيُ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ مَنْعُهُ. وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا السَّقْيُ إِلَّا بِرِضَا الْآخَرِ، وَإِنْ أَضَرَّ بِالثِّمَارِ وَنَفَعَ الْأَشْجَارَ، فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي السَّقْيَ، فَمَنَعَهُ الْبَائِعُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ السَّقْيُ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ إِنْ سَامَحَ أَحَدُهُمَا بِحَقِّهِ [أُقِرَّ] ،

وَإِلَّا فُسِخَ الْبَيْعُ، وَإِنْ أَضَرَّ بِالشَّجَرِ وَنَفَعَ الثِّمَارِ، فَتَنَازَعَا، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، الْأَصَحُّ: يُفْسَخُ إِنْ لَمْ يُسَامِحْ. وَالثَّانِي: لِلْبَائِعِ السَّقْيُ. هَذَا نَقْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: فِي الصُّورَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُجَابُ الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: الْبَائِعُ. وَالثَّالِثُ: يَتَسَاوَيَانِ. وَلَوْ كَانَ السَّقْيُ يَضُرُّ بِوَاحِدٍ، وَتَرْكُهُ يَمْنَعُ حُصُولَ زِيَادَةٍ لِلْآخَرِ، فَفِي إِلْحَاقِهِ بِتَقَابُلِ الضَّرَرِ احْتِمَالَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ. وَلَوْ لَمْ يَسْقِ الْبَائِعُ، وَتَضَرَّرَ الْمُشْتَرِي بِبَقَاءِ الثِّمَارِ لِامْتِصَاصِهَا رُطُوبَةَ الشَّجَرِ، أُجْبِرَ عَلَى السَّقْيِ أَوِ الْقَطْعِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ السَّقْيُ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. قُلْتُ: هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ نَفْعٌ فِي تَرْكِ الثَّمَرَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اللَّفْظُ السَّادِسُ: الثِّمَارُ، وَهِيَ تُبَاعُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَقَبْلَهُ. الْحَالَةُ الْأُولَى: إِذَا بِيعَتْ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، جَازَ مُطْلَقًا، وَبِشَرْطِ إِبْقَائِهَا إِلَى وَقْتِ الْجِدَادِ، وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأُصُولُ لِلْبَائِعِ، أَمْ لِلْمُشْتَرِي، أَمْ لِغَيْرِهِمَا. فَإِنْ أَطْلَقَ، فَلَهُ الْإِبْقَاءُ إِلَى وَقْتِ الْجِدَادِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الثِّمَارِ بَعْدَ الصَّلَاحِ مَعَ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا. الثَّانِيَةُ: إِذَا بِيعَتْ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَإِمَّا أَنْ تُبَاعَ مُفْرَدَةً عَنِ الشَّجَرِ، وَإِمَّا مَعَهُ. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الْمُفْرَدَةُ. وَلِلْأَشْجَارِ صُورَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ لِلْبَائِعِ [الْغَلَّةُ أَوْ لِلْمُشْتَرِي] أَوْ لِغَيْرِهِمَا. فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الثِّمَارِ مُطْلَقًا، وَلَا بِشَرْطِ الْإِبْقَاءِ، وَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ كَانَتِ الْكُرُومُ فِي بِلَادٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ بِحَيْثُ لَا تَنْتَهِي ثِمَارُهَا إِلَى الْحَلَاوَةِ، وَاعْتَادَ أَهْلُهَا قَطْعَ الْحِصْرِمِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْقَفَّالُ: يَجُوزُ بَيْعُهَا بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، وَيَكُونُ الْمُعْتَادُ كَالْمَشْرُوطِ. وَمَنَعَ الْأَكْثَرُونَ ذَلِكَ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ جَرَتْ عَادَةُ قَوْمٍ بِانْتِفَاعِ الْمُرْتَهِنِ

بِالْمَرْهُونِ، حَتَّى تُنَزَّلَ عَادَتُهُمْ عَلَى رَأْيِ مُنَزِّلِهِ شَرْطَ الِانْتِفَاعِ، وَيُحْكَمُ بِفَسَادِ الرَّهْنِ. وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ. فَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى تَرْكِهِ، فَلَا بَأْسَ، وَيَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ، كَكِبَرِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، إِذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ مُنْتَفَعًا بِهِ، كَالْحِصْرِمِ وَاللَّوْزِ وَنَحْوِهِمَا. فَأَمَّا مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، كَالْجَوْزِ وَالْكُمَّثْرَى، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَيْضًا. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْأَشْجَارُ لِلْمُشْتَرِي، بِأَنْ يَبِيعَ إِنْسَانًا شَجَرَةً، وَتَبْقَى الثَّمَرَةُ لَهُ، ثُمَّ يَبِيعَهُ الثَّمَرَةَ، أَوْ يُوصِي لِإِنْسَانٍ بِالثَّمَرَةِ فَيَبِيعُهَا لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ، فَفِي اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يُشْتَرَطُ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ هُنَا، بَلْ لَهُ الْإِبْقَاءُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِ قَطْعَ ثِمَارِهِ عَنْ أَشْجَارِهِ وَلَوْ بَاعَ شَجَرَةً عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ مُؤَبَّرَةٌ، فَبَقِيَتْ لِلْبَائِعِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ ; لِأَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الشَّجَرَةُ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَعَرِّضَةٍ لِلْعَاهَاتِ، وَالثَّمَرَةُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ بِحُكْمِ الدَّوَامِ. وَلَوْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، فَاسْتَثْنَاهَا لِنَفْسِهِ، فَفِي وُجُوبِ شَرْطِ الْقَطْعِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدَامَةٌ لِمِلْكِهَا. فَعَلَى هَذَا، لَهُ الْإِبْقَاءُ إِلَى وَقْتِ الْجِدَادِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِشَرْطِ الْإِبْقَاءِ، جَازَ. وَالثَّانِي: يَجِبُ، وَلَا يَصِحُّ التَّصْرِيحُ بِالْإِبْقَاءِ. قُلْتُ: قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا قُلْنَا: يَجِبُ شَرْطُ الْقَطْعِ، فَأَطْلَقَ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَاطِلٌ، وَالثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي. قَالَ: وَهَذَا مُشْكِلٌ، فَإِنَّ صَرْفَ الثَّمَرَةِ إِلَيْهِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِاسْتِثْنَائِهَا مُحَالٌ. قَالَ: فَالْوَجْهُ عَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُطْلَقِ شَرْطًا فَاسِدًا مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فِي الْأَشْجَارِ، كَاسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ مَعَ الشَّجَرِ، فَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، بَلْ لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْقَطْعِ. قُلْتُ: لَوْ قَطَعَ شَجَرَةً عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ ثُمَّ بَاعَ الثَّمَرَةَ وَهِيَ عَلَيْهَا، جَازَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ ; لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَبْقَى عَلَيْهَا، فَيَصِيرُ كَشَرْطِ الْقَطْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ شَرْطِ الْقَطْعِ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي كُلِّ عُنْقُودٍ، بَلْ إِذَا بَاعَ ثَمَرَةَ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ بَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِهَا، صَحَّ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ. وَلَوْ بَاعَ ثِمَارَ أَشْجَارٍ بَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِهَا، نُظِرَ، إِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، لَمْ يُغَيِّرْ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي جِنْسِ حُكْمِ جِنْسٍ آخَرَ. فَلَوْ بَاعَ رُطَبًا وَعِنَبًا بَدَا الصَّلَاحُ فِي أَحَدِهِمَا فَقَطْ، وَجَبَ شَرْطُ الْقَطْعِ فِي الْآخَرِ. وَإِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، فَالْكَلَامُ فِي اتِّحَادِ الْبُسْتَانِ وَتَعَدُّدِهِ. وَإِذَا اتَّحَدَ، فَفِي بَيْعِهَا صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِفْرَادُ مَا لَمْ يَبْدُ فِيهِ الصَّلَاحُ بِالْبَيْعِ. وَحُكْمُ الْأَقْسَامِ كُلِّهَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي التَّأْبِيرِ بِلَا فَرْقٍ، حَتَّى أَنَّ الْأَصَحَّ: أَنَّهُ لَا تَبَعِيَّةَ عِنْدَ الْإِفْرَادِ، وَأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ النَّوْعِ، وَأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ بُسْتَانٌ بُسْتَانًا. وَلَوْ بَدَا الصَّلَاحُ فِي مِلْكِ غَيْرِ الْبَائِعِ، وَلَمْ يَبْدُ فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ كَانَا فِي بُسْتَانَيْنِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ كَانَا فِي بُسْتَانٍ وَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ أُبِّرَ مِلْكُ غَيْرِ الْبَائِعِ فِي بُسْتَانٍ وَاحِدٍ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْمَبِيعِ حُكْمُ الْمُؤَبَّرِ. فَرْعٌ يَحْصُلُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ بِظُهُورِ النُّضْجِ، وَمَبَادِئِ الْحَلَاوَةِ، وَزَوَالِ الْعُفُوصَةِ أَوِ الْحُمُوضَةِ الْمُفْرِطَتَيْنِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتَلَوُّنُ، بِأَنْ يَتَمَوُّهَ وَيَلِينَ، وَفِيمَا يَتَلَوُّنُ، بِأَنْ يَحْمَرَّ

أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يَسُودَّ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ وَإِنْ عُرِفَ بِهَا بُدُوُّ الصَّلَاحِ، فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا شَرْطًا فِيهِ ; لِأَنَّ الْقِثَّاءَ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا، بَلْ يُسْتَطَابُ أَكْلُهُ صَغِيرًا وَكَبِيرًا. وَإِنَّمَا بُدُوُّ صَلَاحِهِ، أَنْ يَكْبُرَ بِحَيْثُ يُجْنَى فِي الْغَالِبِ وَيُؤْكَلُ، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ فِي الصِّغَرِ عَلَى النُّدُورِ. وَكَذَا الزَّرْعُ، لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَبُدُوُّ صَلَاحِهِ بِاشْتِدَادِ الْحَبِ. قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : بَيْعُ أَوْرَاقِ الْفِرْصَادِ قَبْلَ تَنَاهِيهَا، لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَبَعْدَهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ. وَالْعِبَارَةُ الشَّامِلَةُ أَنْ يُقَالَ: بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ضَرُورَتُهَا إِلَى الصِّفَةِ الَّتِي تُطْلَبُ غَالِبًا لِكَوْنِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ. فَرْعٌ بَيْعُ الْبِطِّيخِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، لَا يَصْحُّ [مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ] ، فَإِنْ بَدَا الصَّلَاحُ فِي كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ يَخَافُ خُرُوجَ غَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْقَطْعِ، فَإِنْ شَرَطَ فَلَمْ يَقْطَعْ حَتَّى اخْتَلَطَ، فَفِي انْفِسَاخِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ يَأْتِي نَظِيرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ خُرُوجَ غَيْرِهِ، جَازَ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ. هَذَا إِذَا أَفْرَدَ الْبِطِّيخَ بِالْبَيْعِ، وَوَرَاءَهُ حَالَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: لَوْ أَفْرَدَ أُصُولَهُ بِالْبَيْعِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: يَجُوزُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الِاخْتِلَاطَ. ثُمَّ الْحَمْلُ الْمَوْجُودُ يَبْقَى لِلْبَائِعِ، وَمَا يَحْدُثُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرَى. وَإِنْ خِيفَ اخْتِلَاطُ الْحِمْلَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْقَطْعِ. فَإِنْ شَرَطَ، فَلَمْ يَتَّفِقْ حَتَّى وَقَعَ الِاخْتِلَاطُ، فَطَرِيقَانِ سَنَذْكُرُهُمَا فِي نَظِيرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ بَاعَ الْأُصُولَ قَبْلَ خُرُوجِ الْحَمْلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْقَطْعِ وَالْقَلْعِ، كَالزَّرْعِ الْأَخْضَرِ. وَإِذَا شَرَطَ، ثُمَّ اتَّفَقَ بَقَاؤُهُ حَتَّى خَرَجَ الْحَمْلُ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرَى. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: بَاعَ الْبِطِّيخَ مَعَ أُصُولِهِ، قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ

شَرْطِ الْقَطْعِ ; لِأَنَّ الْبِطِّيخَ مَعَ أُصُولِهِ مُتَعَرِّضٌ لِلْعَاهَةِ، بِخِلَافِ الشَّجَرَةِ مَعَ الثَّمَرَةِ. فَلَوْ بَاعَ الْبِطِّيخَ مَعَ الْأَرْضِ، اسْتُغْنِيَ عَنْ شَرْطِ الْقَطْعِ، وَالْأَرْضُ كَالشَّجَرِ. وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَيْعِ الْأُصُولِ وَحْدَهَا إِذَا لَمْ يَخَفِ الِاخْتِلَاطَ، أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ. وَالْبَاذِنْجَانُ وَنَحْوُهُ، كَالْبِطِّيخِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ. فَرْعٌ لِابْنِ الْحَدَّادِ لَوْ بَاعَ نِصْفَ الثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ مَشَاعًا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، لَمْ يَصِحَّ. وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَفْتَقِرُ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ، وَلَا يُمْكِنُ قَطْعُ النِّصْفِ إِلَّا بِقَطْعِ الْكُلِّ، فَيَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ بِقَطْعِ غَيْرِ الْمَبِيعِ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا بَاعَ نِصْفًا مُعَيَّنًا مِنْ سَيْفٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ قَطْعَ النِّصْفِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِقَطْعِ الْجَمِيعِ، إِنَّمَا يَسْتَمِرُّ بِتَقْدِيرِ دَوَامِ الْإِشَاعَةِ وَامْتِنَاعِ الْقِسْمَةِ. أَمَّا إِذَا جَوَّزْنَا قِسْمَةَ الثِّمَارِ الرَّطْبَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا إِفْرَازٌ، فَيُمْكِنُ قَطْعُ النِّصْفِ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الْجَمِيعِ، بِأَنْ يُقَسَّمَ أَوَّلًا، فَلْيَكُنْ مَنْعُ الْبَيْعِ مَبْنِيًّا عَلَى الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ الْقِسْمَةِ، لَا مُطْلَقًا، وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُ ابْنِ الْحَدَّادِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَوْ بَاعَ نَصْفَهَا مَعَ نِصْفِ النَّخْلِ، صَحَّ وَكَانَتِ الثِّمَارُ تَابِعَةً. وَلَوْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ لِوَاحِدٍ، وَالشَّجَرَةُ لِآخَرَ، فَبَاعَ صَاحِبُ الثَّمَرَةِ صَاحِبَ الشَّجَرَةِ نِصْفَهَا، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ هُنَا. وَلَوْ كَانَتِ الْأَشْجَارُ وَالثِّمَارُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوِ اشْتَرَى نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ بِنَصِيبِهِ مِنَ الشَّجَرِ، لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا، وَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ ; لِأَنَّ جُمْلَةَ الثِّمَارِ تَصِيرُ لِمُشْتَرِي الثَّمَرَةِ، وَجُمْلَةَ الشَّجَرِ لِلْآخَرِ، وَيَلْزَمُ مُشْتَرِيَ الثَّمَرَةِ قَطْعُ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْتَزَمَ قَطْعَ النِّصْفِ الْمُشْتَرَى، وَتَفْرِيغَ الْأَشْجَارِ لِصَاحِبِهِ. وَبَيْعُ الشَّجَرَةِ عَلَى أَنْ يُفَرِّغَهَا الْبَائِعُ، جَائِزٌ. وَكَذَا

لَوْ كَانَتِ الْأَشْجَارُ لِأَحَدِهِمَا، وَالثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا، فَاشْتَرَى صَاحِبُ الشَّجَرِ نَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنَ الثَّمَرِ بِنِصْفِ الشَّجَرِ عَلَى شَرْطِ الْقَطْعِ، جَازَ. فَرْعٌ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ. فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ الْأَرْضِ، جَازَ تَبَعًا. وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبُقُولِ فِي الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ إِلَّا بِشَرْطِ [الْقِطَعِ أَوِ الْقِلْعِ] ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُجَزُّ مِرَارًا، أَوْ لَا يُجَزُّ إِلَّا مَرَّةً، هَكَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ فِي الْبُقُولِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: بَيْعُ أُصُولِ الْبُقُولِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، إِذْ لَا تَتَعَرَّضُ لِلْآفَةِ. وَبِيعُ الزَّرْعِ بَعْدَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ كَبَيْعِ الثَّمَرِ بَعْدَ صَلَاحِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْمَقْصُودِ. فَإِذَا بَاعَ ثَمَرَةً لَا كِمَامَ لَهَا، كَالتِّينِ وَالْعِنَبِ وَالْكُمَّثْرَى، جَازَ، سَوَاءٌ بَاعَهَا عَلَى الشَّجَرَةِ، أَوْ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَوْ بَاعَ الشَّعِيرَ أَوِ السُّلْتَ مَعَ سُنْبُلِهِ، جَازَ بَعْدَ الْحَصَادِ وَقَبْلَهُ ; لِأَنَّ حَبَّاتِهِ ظَاهِرَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ لِلثَّمَرِ أَوِ لِلْحَبِّ كِمَامٌ لَا يُزَالُ إِلَّا عِنْدَ الْأَكْلِ، كَالرُّمَّانِ وَالْعَلَسِ، فَكَمِثْلٍ. وَأَمَّا مَا لَهُ كِمَامَانِ يُزَالُ أَحَدُهُمَا، وَيَبْقَى الْآخَرُ إِلَى وَقْتِ الْأَكْلِ، كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْرَانِجِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْقِشْرِ الْأَسْفَلِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَعْلَى، لَا عَلَى الشَّجَرِ، وَلَا عَلَى الْأَرْضِ. وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ فِي الْقِشْرِ الْأَعْلَى مَا دَامَ رَطْبًا. وَبِيعُ الْبَاقِلَاءِ فِي الْقِشْرِ الْأَعْلَى، فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَادَّعَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، أَنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ الصِّحَّةُ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَمَرَ أَنْ يُشْتَرَى لَهُ الْبَاقِلَاءُ الرَّطْبُ.

قُلْتُ: الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ. قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ: هُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» . هَذَا إِذَا كَانَ الْجَوْزُ وَاللَّوْزُ وَالْبَاقِلَاءُ رَطْبًا. فَإِنْ بَقِيَ فِي قِشْرِهِ الْأَعْلَى، فَيَبِسَ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَجْهًا وَاحِدًا إِذَا لَمْ نُجَوِّزْ بَيْعَ الْغَائِبِ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا. وَحَكَى فِيهِ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَجْهًا: أَنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ أَبْطَلْنَا [بَيْعَ] الْغَائِبِ. وَيَصِحُّ بَيْعُ طَلْعِ النَّخْلِ مَعَ قِشْرِهِ فِي الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا لَا يُرَى حَبُّهُ فِي سُنْبُلِهِ، كَالْحِنْطَةِ، وَالْعَدَسِ، وَالسِّمْسِمِ، فَمَا دَامَ فِي سُنْبُلِهِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُفْرَدًا عَنْ سُنْبُلِهِ قَطْعًا، وَلَا مَعَهُ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ، كَبَيْعِ تُرَابِ الصَّاغَةِ، وَكَبَيْعِ الْحِنْطَةِ فِي تَبْنِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ [قَطْعًا] . وَفِي الْأُرْزِ، طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ كَالشَّعِيرِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ فِي سُنْبُلِهِ. وَقِيلَ: كَالْحِنْطَةِ. وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْجَزَرِ، وَالثُّومِ، وَالْبَصَلِ، وَالْفِجْلِ، وَالسَّلْقِ فِي الْأَرْضِ، لِتَسَتُّرِ مَقْصُودِهَا. وَيَجُوزُ بَيْعُ أَوْرَاقِهَا الظَّاهِرَةِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْقُنَّبِيطِ فِي الْأَرْضِ، لِظُهُورِهِ، وَكَذَا نَوْعٌ مِنَ السَّلْجَمِ يَكُونُ ظَاهِرًا. وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّوْزِ فِي الْقِشْرِ الْأَعْلَى قَبْلَ انْعِقَادِ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ كُلُّهُ كَالتُّفَّاحِ. وَهَلِ الْمَنْعُ فِي صُوَرِ الْفَرْعِ مَقْطُوعٌ بِهِ، أَمْ مُفَرَّعٌ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْغَائِبِ؟ قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ جَوَّزْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهَا. وَفِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّ الْمَنْعَ فِي بَيْعِ الْجَزَرِ وَنَحْوِهِ فِي الْأَرْضِ، لَيْسَ مُفَرَّعًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ يُمْكِنُ رَدُّ الْمَبِيعِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ بِصِفَتِهِ، وَهُنَا لَا يُمْكِنُ. قُلْتُ: هَذَا أَصَحُّ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ. وَنَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ كَقَوْلِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْجَزَرِ وَنَحْوِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَبَاعَ الْجَوْزَ مَثَلًا فِي الْقِشْرِ الْأَعْلَى مَعَ الشَّجَرَةِ، أَوْ بَاعَ

فصل

الْحِنْطَةَ فِي سُنْبُلِهَا مَعَ الْأَرْضِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ فِي الْجَوْزِ وَالْحِنْطَةِ. وَفِي الشَّجَرَةِ وَالْأَرْضِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ فِي الْجَمِيعِ، لِلْجَهْلِ بِأَحَدِ الْمَقْصُودَيْنِ، وَتَعَذُّرِ التَّوْزِيعِ. وَلَوْ بَاعَ أَرْضًا مَبْذُورَةً مَعَ الْبَذْرِ، فَقِيلَ: يَصِحُّ فِي الْبَذْرِ أَيْضًا تَبَعًا لِلْأَرْضِ. وَالْمَذْهَبُ: بُطْلَانُ الْبَيْعِ فِيهِ. ثُمَّ فِي الْأَرْضِ الطَّرِيقَانِ. وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ فِي الْأَرْضِ لَا يَذْهَبُ إِلَى التَّوْزِيعِ، بَلْ يُوجِبُ جَمِيعَ الثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِأَخْذِ جَمِيعِ الثَّمَنِ. فَصْلٌ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الْحِنْطَةَ فِي سُنْبُلِهَا بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْحِنْطَةِ. وَلِبُطْلَانِهِ عِلَّتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ بَيْعُ حِنْطَةٍ وَتَبْنٍ بِحِنْطَةٍ، وَذَلِكَ رِبًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ بَيْعُ حِنْطَةٍ فِي سُنْبُلِهَا. فَلَوْ بَاعَ شَعِيرًا فِي سُنْبُلِهِ بِحِنْطَةٍ خَالِصَةٍ، وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ بَاعَ زَرْعًا قَبْلَ ظُهُورِ الْحَبِّ بِحَبٍّ، جَازَ ; لِأَنَّ الْحَشِيشَ غَيْرُ رِبَوِيٍّ. فَصْلٌ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ بَيْعُ الْعَرَايَا، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ رُطَبَ نَخْلَةٍ أَوْ نَخَلَاتٍ بِاعْتِبَارِ الْخَرْصِ بِقَدْرِ كَيْلِهَا مِنَ التَّمْرِ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْخَرْصِ. وَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ بِتَسْلِيمِ التَّمْرِ إِلَى الْبَائِعِ بِالْكَيْلِ، وَتَخْلِيَةِ الْبَائِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّخْلَةِ. فَإِنْ كَانَ التَّمْرُ غَائِبًا عَنْهُمَا، أَوْ كَانَا غَائِبَيْنِ عَنِ النَّخْلِ، فَأَحْضَرَاهُ أَوْ حَضَرَا عِنْدَ النَّخْلِ، جَازَ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَفَاوُتٌ بَيْنَ التَّمْرِ الْمَجْعُولِ عِوَضًا، وَبَيْنَ مَا فِي الرُّطَبِ مِنَ التَّمْرِ، بِأَنْ أُكِيلَ الرُّطَبُ فِي الْحَالِ، فَذَاكَ. وَإِنْ ظَهَرَ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ، لَمْ يَضُرَّ. وَإِنْ

كَانَ أَكْثَرَ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَصِحُّ فِي قَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ، وَلِمُشْتَرِي الْكَثِيرِ الْخِيَارُ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَرَايَا فِي الْعِنَبِ كَالرُّطَبِ، وَلَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ، لَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ قَطْعًا، وَلَا فِي خَمْسَةٍ عَلَى الْأَظْهَرِ. هَذَا إِذَا بَاعَ فِي صَفْقَةٍ. فَلَوْ بَاعَ قَدْرًا كَثِيرًا فِي صَفَقَاتٍ لَا تَزِيدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، جَازَ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ فِي صَفْقَةٍ لِرَجُلَيْنِ بِحَيْثُ يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ الْقَدْرُ الْجَائِزُ. فَلَوْ بَاعَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَبَيْعِ رَجُلٍ لِرَجُلَيْنِ. وَالثَّانِي: كَبَيْعِهِ لِرَجُلٍ صَفْقَةً. وَلَوْ بَاعَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ صَفْقَةً، لَمْ يَجُزْ فِيمَا زَادَ عَلَى عَشْرَةِ أَوْسُقٍ، وَيَجُوزُ فِيمَا دُونَ الْعَشْرَةِ. وَفِي الْعَشْرَةِ الْقَوْلَانِ. قُلْتُ: وَسَوَاءٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كَانَتِ الْعُقُودُ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ. حَتَّى لَوْ بَاعَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ أَلْفَ وَسَقٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِصَفَقَاتٍ، كُلُّ [وَاحِدَةٍ] دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، جَازَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَلَوْ بَاعَ رُطَبًا عَلَى النَّخْلِ، بِرُطَبٍ عَلَى النَّخْلِ خَرْصًا فِيهِمَا، أَوْ بِرُطَبٍ عَلَى الْأَرْضِ كَيْلًا فِيهِ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يَجُوزُ، قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ، قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ. وَالثَّالِثُ: إِنِ اخْتَلَفَ نَوْعُهُمَا جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَالرَّابِعُ: جَرَيَانُ هَذَا التَّفْصِيلِ إِنْ كَانَا عَلَى النَّخْلِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ، حُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَلَوْ بَاعَ الرُّطَبَ بِالرُّطَبِ عَلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ الْبَيْعُ وَهُمَا عَلَى النَّخْلِ، وَاحْتُمِلَتْ جَهَالَةُ الْخَرْصِ، فَالْجَوَازُ مَعَ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ بِالْكَيْلِ أُولَى.

فصل

فَرْعٌ يَجُوزُ بَيْعُ الْعَرَايَا لِلْمُحْتَاجِينَ، وَفِي الْأَغْنِيَاءِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ. فَصْلٌ إِذَا بَاعَ الثَّمَرَةَ بَعْدَ [بُدُوِّ] الصَّلَاحِ، لَزِمَهُ سَقْيُهَا قَبْلَ التَّخْلِيَةِ وَبَعْدَهَا بِقَدْرِ مَا تُنَمَّى بِهِ الثِّمَارُ وَتَسْلَمُ مِنَ التَّلَفِ وَالْفَسَادِ. فَلَوْ شَرَطَ كَوْنَ السَّقْيِ عَلَى الْمُشْتَرِي، بَطَلَ الْبَيْعُ، ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَتَسَلَّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَرَةِ بَعْدَ تَخْلِيَةِ الْبَائِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَإِنْ عَرَضَتْ جَائِحَةٌ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ جَرَادٍ، أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ نَحْوِهَا قَبْلَ التَّخْلِيَةِ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. فَإِنْ تَلَفَ جَمِيعُ الثِّمَارِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ. وَإِنْ تَلَفَ بَعْضُهَا انْفَسَخَ فِيهِ. وَفِي الْبَاقِي قَوْلَا التَّفَرُّقِ. وَإِنْ عَرَضَتْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ بَاعَهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: أَنِ الْجَوَائِحَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهَا مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. وَلَا فَرْقَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَشْرُطَ الْقَطْعَ، أَمْ لَا. وَقِيلَ: إِنْ شَرَطَهُ، كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي قَطْعًا، لِتَفْرِيطِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا عَلَقَةَ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا يَجِبُ السَّقْيُ عَلَى الْبَائِعِ هُنَا، وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الْقَفَّالِ. وَقِيلَ: إِنْ شَرَطَهُ، كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ قَطْعًا ; لِأَنَّ مَا شُرِطَ قَطْعُهُ، فَقَبْضُهُ بِالْقَطْعِ وَالنَّقْلِ، فَقَدْ تَلَفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ فُرُوعٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَحْكُومَ بِكَوْنِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، مَا تَلَفَ قَبْلَ وَقْتِ الْجِدَادِ أَمَّا مَا تَلَفَ بَعْدَ وَقْتِ الْجِدَادِ وَإِمْكَانِ النَّقْلِ، فَمِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: عَلَى الْأَصَحِّ لِتَقْصِيرِهِ. وَعَلَى الثَّانِي: مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ التَّامِّ. قَالَ

الْإِمَامُ: وَهَذَا الْخِلَافُ إِذَا لَمْ يُعَدَّ مُقَصِّرًا مُضَيِّعًا بِتَأْخِيرِهِ، كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ. فَإِنْ عُدَّ، فَلَا مَسَاغَ لِلْخِلَافِ. الثَّانِي: لَوْ تَلَفَ بَعْضُ الثَّمَرِ، فَالْحُكْمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا لَوْ تَلَفَ قَبْلَ التَّخْلِيَةِ. وَلَوْ عَابَتِ الثَّمَرَةُ بِالْجَائِحَةِ، ثَبَتَ الْخِيَارُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، كَمَا [لَوْ] عَابَتْ قَبْلَ التَّخْلِيَةِ. وَعَلَى الْجَدِيدِ: لَا يَثْبُتُ. الثَّالِثُ: لَوْ ضَاعَتِ الثَّمَرَةُ بِغَصْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْجَائِحَةُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. قُلْتُ: إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَاخْتَلَفَا فِي الْفَائِتِ بِالْجَائِحَةِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: رُبْعُ الثَّمَرَةِ. وَقَالَ الْمُشْتَرِي: نِصْفُهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَعَدَمُ الْهَلَاكِ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَوِ اخْتَلَفَا فِي وُقُوعِ الْجَائِحَةِ، فَالْغَالِبُ أَنَّهَا لَا تَخْفَى، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ أَصْلًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ بِلَا يَمِينٍ. وَإِنْ عُرِفَ وُقُوعُهَا عَامًّا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي بِلَا يَمِينٍ وَإِنْ أَصَابَتْ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ بِيَمِينِهِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْهَلَاكِ وَلُزُومُ الثَّمَنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، هُوَ فِي الْجَوَائِحِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي لَا تُنْسَبُ إِلَى الْبَائِعِ بِحَالٍ. فَأَمَّا إِنْ تَرَكَ السَّقْيَ وَعَرَضَتْ فِي الثِّمَارِ [آفَةٌ] بِسَبَبِ الْعَطَشِ. فَإِنْ تَلَفَتْ، فَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ. وَقِيلَ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَالسَّمَاوِيَّةِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا انْفِسَاخَ، لَزِمَ الْبَائِعَ الضَّمَانُ بِالْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْلِ. وَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَا تَلَفَ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى مَا كَانَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ لَوْلَا الْعَارِضُ. وَإِنْ تَعَيَّبَتْ، فَلِلْمُشْتَرَى الْخِيَارُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْجَائِحَةُ مِنْ ضَمَانِهِ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ الْبَائِعَ تَنْمِيَةَ الثِّمَارِ بِالسَّقْيِ، فَالتَّعَيُّبُ الْحَادِثُ بِتَرْكِ

السَّقْيِ، كَالْعَيْبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْقَبْضِ. وَإِنْ أَفْضَى التَّعَيُّبُ إِلَى تَلَفٍ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ الْمُشْتَرِي حَتَّى تَلَفَ، عَادَ الْخِلَافُ فِي الِانْفِسَاخِ، وَلَزِمَ الْبَائِعَ الضَّمَانُ إِنْ قُلْنَا: لَا انْفِسَاخَ وَلَا خِيَارَ بَعْدَ التَّلَفِ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ. وَإِنْ شَعَرَ بِهِ وَلَمْ يَفْسَخْ حَتَّى تَلَفَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَغْرُمُ الْبَائِعُ، لِعُدْوَانِهِ. وَالثَّانِي: لَا، لِتَقْصِيرِ الْمُشْتَرِي بِتَرْكِ الْفَسْخِ. فَرْعٌ بَاعَ الثَّمَرَ مَعَ الشَّجَرِ، فَتَلَفَ الثَّمَرُ بِجَائِحَةٍ قَبْلَ التَّخْلِيَةِ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ. وَفِي الشَّجَرِ الْقَوْلَانِ. وَإِنْ تَلَفَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ، فَمِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِلَا خِلَافٍ. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ لِرَجُلٍ، وَالشَّجَرُ لِآخَرَ، فَبَاعَهَا لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ، وَخَلَّى بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَلَفَتْ، فَمِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِلَا خِلَافٍ، لِانْقِطَاعِ الْعَلَائِقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ اشْتَرَى طَعَامًا مُكَايَلَةً، وَقَبَضَهُ جُزَافًا، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَفِي انْفِسَاخِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ، لِبَقَاءِ الْكَيْلِ بَيْنَهُمَا. فَرْعٌ مِنَ الْعَوَارِضِ، اخْتِلَاطُ الثِّمَارِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهَا لِتَلَاحُقِهَا. فَأَمَّا الِاخْتِلَاطُ الَّذِي يَبْقَى مَعَهُ التَّمْيِيزُ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ، فَإِذَا بَاعَ الثَّمَرَةَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَالشَّجَرَةُ تُثْمِرُ فِي السَنَةِ مَرَّتَيْنِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلُبُ التَّلَاحُقُ فِيهِ، وَعُلِمَ أَنَّ الْحَمْلَ الثَّانِيَ يَخْتَلِطُ بِالْأَوَّلِ، كَالتِّينِ وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبَاذِنْجَانِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ،

إِلَّا أَنْ يُشْرَطَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْطَعُ ثَمَرَتَهُ عِنْدَ خَوْفِ الِاخْتِلَاطِ. وَفِي قَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. فَإِنْ سَمَحَ الْبَائِعُ بِمَا حَدَثَ، تَبَيَّنَ انْعِقَادُ الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ إِذَا شَرَطَ الْقَطْعَ فَلَمْ يَتَّفِقْ حَتَّى اخْتَلَطَ، فَهُوَ كَالتَّلَاحُقِ فِيمَا يَنْدُرُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْدُرُ فِيهِ التَّلَاحُقُ، وَعَلِمَ عَدَمَ الِاخْتِلَاطِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ مُطْلَقًا، وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ وَالتَّبْقِيَةِ. ثُمَّ إِنْ حَصَلَ الِاخْتِلَاطُ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْصُلَ قَبْلَ التَّخْلِيَةِ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا، لِبَقَاءِ عَيْنِ الْمَبِيعِ، فَعَلَى هَذَا، يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ. وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ: لَا خِيَارَ. وَالِاخْتِلَاطُ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَهَوَ بَعْدَهُ. ثُمَّ إِنْ سَمَحَ الْبَائِعُ بِتَرْكِ الثَّمَرَةِ الْجَدِيدَةِ لِلْمُشْتَرِيِ، سَقَطَ خِيَارُهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ فِي نَعْلِ الدَّابَّةِ. وَإِنْ بَاعَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَلَمْ يَتَّفِقِ الْقَطْعُ حَتَّى اخْتَلَطَتْ، جَرَى الْقَوْلَانِ فِي الِانْفِسَاخِ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا إِذَا بَاعَ حِنْطَةً فَانْصَبَّ عَلَيْهَا مِثْلَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَا فِي الْمَائِعَاتِ. وَإِنِ اخْتَلَطَ الثَّوْبُ بِأَمْثَالِهِ، أَوِ الشَّاةُ الْمَبِيعَةُ بِأَمْثَالِهَا، فَالصَّحِيحُ الِانْفِسَاخُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا، لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ. وَلَوْ بَاعَ جَزَّةً مِنَ الْقَتِّ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَلَمْ يَقْطَعْهَا حَتَّى طَالَتْ، وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ، جَرَى الْقَوْلَانِ. وَقِيلَ: لَا يَنْفَسِخُ هُنَا قَطْعًا، تَشْبِيهًا لِطُولِهَا بِكِبَرِ الثَّمَرَةِ وَالشَّجَرَةِ، وَبِنَمَاءِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْبَائِعَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ بِزِيَادَتِهَا، وَهُنَا لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا زَادَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ الِاخْتِلَاطُ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ، فَطَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا انْفِسَاخَ، فَإِنْ تَصَالَحَا وَتَوَافَقَا عَلَى شَيْءٍ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي قَدْرِ حَقِّ الْآخَرِ. وَلِمَنِ الْيَدُ فِي صُورَةِ الثِّمَارِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا: لِلْبَائِعِ. وَالثَّانِي: لِلْمُشْتَرِي. وَالثَّالِثُ: لَهُمَا. وَفِي صُورَةِ الْحِنْطَةِ لِلْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَوْدَعَهُ الْحِنْطَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ اخْتَلَطَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ.

باب معاملات العبيد

فَرْعٌ بَاعَ شَجَرَةً عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ لِلْبَائِعِ، وَهِيَ مِمَّا تُثْمِرُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَيَغْلُبُ تَلَاحُقُهَا، لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِلَّا بِشَرْطِ قَطْعِ الْبَائِعِ ثَمَرَتَهُ عِنْدَ خَوْفِ الِاخْتِلَاطِ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ هُوَ الثَّمَرَةَ. ثُمَّ إِذَا تَبَايَعَ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَلَمْ يَتَّفِقِ الْقَطْعُ حَتَّى اخْتَلَطَا، أَوْ كَانَتِ الشَّجَرَةُ مِمَّا يَنْدُرُ فِيهَا التَّلَاحُقُ وَالِاخْتِلَاطُ، فَاتَّفَقَ وُقُوعُهُ، فَطَرِيقَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: فِي الِانْفِسَاخِ الْقَوْلَانِ. وَقِيلَ: لَا انْفِسَاخَ قَطْعًا. فَإِنْ قُلْنَا: لَا انْفِسَاخَ، فَسَمَحَ الْبَائِعُ بِتَرْكِ الثَّمَرَةِ الْقَدِيمَةِ، أُجْبِرَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَبُولِ. وَإِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِتَرْكِ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ، أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى الْقَبُولِ وَأُقِرَّ الْعَقْدُ. وَيُحْتَمَلُ خِلَافٌ فِي الْإِجْبَارِ، فَإِنِ اسْتَمَرَّا عَلَى النِّزَاعِ، فَالْمُثْبِتُونَ لِلْقَوْلَيْنِ قَالُوا: يُفْسَخُ الْعَقْدُ. وَالْقَاطِعُونَ قَالُوا: لَا فَسْخَ، بَلْ أَيُّهُمَا كَانَتِ الثَّمَرَةُ وَالشَّجَرَةُ فِي يَدِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْآخَرُ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَرْفَعُ النِّزَاعَ، لِبَقَاءِ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ لِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ قُلْنَا بِالِانْفِسَاخِ، اسْتَرَدَّ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَرَدَّ الشَّجَرَةَ مَعَ جَمِيعِ الثِّمَارِ، قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . بَابُ مُعَامَلَاتِ الْعَبِيدِ الْعَبْدُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهِ. الْأَوَّلُ: الْمَأْذُونُ لَهُ، فَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالْإِجْمَاعِ. وَيَسْتَفِيدُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ كُلُّ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ اسْمِهَا، وَمَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِهَا وَتَوَابِعِهَا، كَالنَّشْرِ وَالطَّيِّ،

وَحَمْلِ الْمَتَاعِ إِلَى الْحَانُوتِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْمُخَاصَمَةِ فِي الْعُهْدَةِ، وَنَحْوِهَا. وَلَا يَسْتَفِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ، هَذَا جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ. وَتَفْصِيلُهُ بِصُوَرٍ. إِحْدَاهَا: لَيْسَ لِلْمَأْذُونِ فِي التِّجَارَةِ أَنْ يَنْكِحَ، كَمَا لَيْسَ لِلْمَأْذُونِ فِي النِّكَاحِ أَنْ يَتَّجِرَ. الثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ مَالَ التِّجَارَةِ كَعَبِيدِهَا وَثِيَابِهَا وَدَوَابِّهَا عَلَى الْأَصَحِّ. الثَّالِثَةُ: إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي نَوْعٍ، أَوْ شَهْرٍ، أَوْ سَنَةٍ، لَمْ يَتَجَاوَزِ الْمَأْذُونَ. الرَّابِعَةُ: لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا وَقَالَ: اتَّجِرْ فِيهِ، فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَيْنِ الْأَلْفِ، وَبِقَدْرِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَزِيدُ. وَلَوْ قَالَ: اجْعَلْهُ رَأْسَ مَالِكَ، وَتَصَرَّفْ أَوِ اتَّجِرْ، فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْأَلْفِ. الْخَامِسَةُ: لَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ. فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ السَّيِّدُ، جَازَ، ثُمَّ يَنْعَزِلُ الْمَأْذُونُ الثَّانِي بِعَزْلِ السَّيِّدِ، سَوَاءٌ انْتَزَعَهُ مِنْ يَدِ الْمَأْذُونِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا. وَهَلْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ عَبْدَهُ فِي آحَادِ التَّصَرُّفَاتِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: نَعَمْ. وَالثَّانِي: لَا، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» . قُلْتُ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ أَجْنَبِيًّا، كَالْوَكِيلِ لَا يُوَكِّلُ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ: لَا يَتَّخِذُ دَعْوَةً لِلْمُجَهَّزِينَ، وَلَا يَتَصَدَّقُ، وَلَا يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ السَّيِّدِ، وَلَا يُعَامِلُ سَيِّدَهُ بَيْعًا وَشِرَاءً. السَّابِعَةُ: مَا كَسَبَهُ الْمَأْذُونُ بِالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ وَالِاتِّهَابِ وَقَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَالْأَخْذِ مِنَ الْمَعْدِنِ، هَلْ يُضَمُّ إِلَى مَالِ التِّجَارَةِ حَتَّى يَتَصَرَّفَ فِيهِ؟

فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا فِي «التَّهْذِيبِ» : نَعَمْ، لِأَنَّهَا مِنَ الْأَكْسَابِ. وَالثَّانِي: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْفُورَانِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ. الثَّامِنَةُ: لَا يَنْعَزِلُ الْمَأْذُونُ بِالْإِبَاقِ، بَلْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ، إِلَّا إِذَا خَصَّ السَّيِّدُ الْإِذْنَ بِهَذَا الْبَلَدِ. قُلْتُ: وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي الْغَيْبَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ: لَهُ أَنْ يَأْذَنَ فِي التِّجَارَةِ لِمُسْتَوْلَدَتِهِ قَطْعًا. وَلَوْ أَذِنَ لَأَمَتِهِ ثُمَّ اسْتَوْلَدَهَا، لَمْ تَنْعَزِلْ عَلَى الصَّحِيحِ. الْعَاشِرَةُ: لَوْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي، فَسَكَتَ عَنْهُ، لَمْ يَصِرْ مَأْذُونًا. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُ سَيِّدِهِ عَمَّا فِي يَدِهِ. فَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ بِإِذْنِ الْمَأْذُونِ وَالْغُرَمَاءِ، جَازَ، وَيَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ. وَإِنْ أَذِنَ الْعَبْدُ دُونَ الْغُرَمَاءِ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ أَذِنُوا دُونَهُ، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ. وَصَحَّحَهُ الْبَغَوَيُّ ; لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَرْضَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِدَيْنِ الْمُعَامَلَةِ مَقْبُولٌ، سَوَاءٌ أَقَرَّ لِأَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِنَسِيئَةٍ، وَلَا بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَلَا يُسَافِرُ بِمَالِ التِّجَارَةِ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَلَا يَتَمَكَنُّ مِنْ عَزْلِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَبْدٌ، فَأَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي التِّجَارَةِ، لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَأْذَنَ الْآخَرُ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي النِّكَاحِ، لَا يَصِحُّ حَتَّى يَأْذَنَ الْآخَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ قَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : فِي جَوَازِ مُعَامَلَةِ مَنْ لَا يُعْرَفُ رِقُّهُ وَحُرِّيَّتُهُ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ. لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالْغَالِبَ الْحُرِّيَّةُ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَجْرِ. وَقَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْجَوَازِ. وَمَنْ عَرَفَ رِقَّهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُعَامِلَهُ حَتَّى يَعْرِفَ إِذْنَ السَّيِّدِ. وَلَا يَكْفِي قَوْلُ الْعَبْدِ: أَنَا مَأْذُونٌ، كَمَا لَوْ زَعَمَ الرَّاهِنُ إِذْنَ الْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ، وَإِنَّمَا يُعَرَفُ كَوْنُهُ مَأْذُونًا بِسَمَاعِ الْإِذْنِ مِنَ السَّيِّدِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ. فَإِنْ شَاعَ فِي النَّاسِ كَوْنُهُ مَأْذُونًا، كَفَى عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا عَلِمَ كَوْنَهُ مَأْذُونًا، فَقَالَ: حَجَرَ عَلَيَّ السَّيِّدُ، لَمْ تَجُزْ مُعَامَلَتُهُ. فَإِنْ قَالَ السَّيِّدُ: لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يُعَامَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ، وَهُوَ يَقُولُ: الْعَقْدُ بَاطِلٌ. وَلَوْ عَامَلَ الْمَأْذُونَ مَنْ يَعْلَمُ رِقَّهُ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْإِذْنَ، فَبَانَ مَأْذُونًا، قَالَ الْأَئِمَّةُ: هُوَ كَمَنْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ فَبَانَ مَيِّتًا، وَمِثْلُهُ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْحَلِيمِيُّ فِيمَا إِذَا ادَّعَى الْوَكَالَةَ فَكَذَّبَهُ، فَعَامَلَهُ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ وَكِيلٌ. قُلْتُ: وَلَوْ بَاعَ مَالًا يَظُنُّهُ لِنَفْسِهِ، فَبَانَ مَالَ أَبِيهِ وَكَانَ مَيِّتًا حَالَ الْعَقْدَ، صَحَّ بِلَا خِلَافٍ، كَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ شَيْخِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ عَلِمَ كَوْنَهُ مَأْذُونًا فَعَامَلَهُ، ثُمَّ امْتَنَعَ مِنَ التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى الْإِذْنِ، فَلَهُ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ إِنْكَارِ السَّيِّدِ، كَمَا لَوْ صَدَّقَ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الْحَقِّ، ثُمَّ امْتَنَعَ مِنَ التَّسْلِيمِ حَتَّى يَشْهَدَ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكَالَةِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ سِلْعَةً وَقَبَضَ الثَّمَنَ، فَاسْتُحِقَّتْ وَقَدْ تَلَفَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْعَبْدِ، فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرُ الْعَقْدِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ السَّيِّدِ. وَفِي مُطَالَبَتِهِ السَّيِّدَ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يُطَالَبُ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْعَقْدَ لَهُ. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ فِي يَدِ الْعَبْدِ وَفَاءٌ، لَمْ يُطَالَبْ، وَإِلَّا فَيُطَالَبُ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ كَانَ السَّيِّدُ دَفَعَ إِلَيْهِ عَيْنَ مَالٍ وَقَالَ: بِعْهَا وَخُذْ ثَمَنَهَا وَاتَّجِرْ فِيهِ، أَوْ قَالَ: اشْتَرِ هَذِهِ السِّلْعَةَ وَبِعْهَا وَاتَّجِرْ فِي ثَمَنِهَا، فَفَعَلَ، ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ، فَطَالَبَهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ السَّيِّدَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ فِيهِ. وَإِنِ اشْتَرَى بِاخْتِيَارِهِ سِلْعَةً وَبَاعَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ، فَلَا. وَلَوِ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ شَيْئًا لِلتِّجَارَةِ، فَفِي مُطَالَبَةِ السَّيِّدِ بِالثَّمَنِ هَذِهِ الْأَوْجُهُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي جَارِيَانِ فِي رَبِّ الْمَالِ مَعَ عَامِلِ الْقِرَاضِ. وَلَوْ سَلَّمَ الرَّجُلُ إِلَى وَكِيلِهِ أَلْفًا، وَقَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا وَأَدِّ هَذَا الْأَلْفَ فِي ثَمَنِهِ، فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ، فَفِي مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ طَرِيقَانِ. أَقْيَسُهُمَا: طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمُطَالَبَةِ، وَلَا حُكْمَ لِهَذَا التَّعْيِينِ. وَإِذَا تَوَجَّهَتِ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْعَبْدِ، لَمْ تَنْدَفِعْ بِعِتْقِهِ. وَفِي رُجُوعِهِ بِالْمَغْرُومِ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَرْجِعُ. فَصْلٌ لَوْ سَلَّمَ إِلَى عَبْدِهِ أَلْفًا لِيَتَّجِرَ فِيهِ، فَاشْتَرَى بِعَيْنِهِ شَيْئًا، ثُمَّ تَلَفَ الْأَلْفُ فِي يَدِهِ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ. وَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ عَلَى عَزْمِ صَرْفِ الْأَلْفِ فِي الثَّمَنِ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، بَلْ إِنْ أَخْرَجَ السَّيِّدُ أَلْفًا آخَرَ،

فصل

أُمْضِيَ الْعَقْدُ، وَإِلَّا فَلِلْبَائِعِ فَسْخُهُ. وَالثَّانِي: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَلْفٌ آخَرُ. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ الثَّمَنُ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ. وَالرَّابِعُ: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ. فَإِذَا قُلْنَا: عَلَى السَّيِّدِ أَلْفٌ آخَرُ، فَهَلْ يَتَصَرَّفُ الْعَبْدُ فِيهِ بِالْإِذْنِ السَّابِقِ، أَمْ يُشْتَرَطُ إِذْنٌ جَدِيدٌ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِنَّمَا يُطَالِبُ بِالْأَلْفِ الْجَدِيدِ الْبَائِعَ دُونَ الْعَبْدِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى أَلْفٍ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِيمَا يُسَلِّمُهُ الْبَائِعُ. وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ، فِيمَا لَوِ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِسَبَبٍ وَرَجَعَ الْأَلْفُ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : لَوِ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ شَيْئًا بِعَرَضٍ، فَتَلَفَ الشَّيْءُ ثُمَّ خَرَجَ الْعَرَضُ مُسْتَحِقًّا، فَالْقِيمَةُ فِي كَسْبِهِ أَمْ عَلَى السَّيِّدِ؟ وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ دُيُونُ مُعَامَلَاتِ الْمَأْذُونِ، تُؤَدَّى مِمَّا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ، سَوَاءٌ الْأَرْبَاحُ الْحَاصِلَةُ بِتِجَارَتِهِ وَرَأْسُ الْمَالِ. وَهَلْ تُؤَدَّى مِنْ أَكْسَابِهِ بِغَيْرِ التِّجَارَةِ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَسَائِرِ أَمْوَالِ السَّيِّدِ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. كَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَهْرُ وَمُؤَنُ النِّكَاحِ، ثُمَّ مَا فَضَلَ يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَعْتِقَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَلَا بِذِمَّةِ السَّيِّدِ قَطْعًا، وَلَا بِمَا يَكْسِبُهُ الْمَأْذُونُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا بَاعَهُ السَّيِّدُ أَوْ أَعْتَقَهُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي قَضَاءِ دُيُونِهِ مِمَّا يَكْسِبُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا كَسَبَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَأْذُونِ [لَهَا] أَوْلَادٌ، لَمْ يَتَعَلَّقِ الدَّيْنُ بِهِمْ. وَلَوْ أَتْلَفَ السَّيِّدُ مَا فِي يَدِ الْمَأْذُونِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ، لَزِمَهُ مَا أَتْلَفَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ. وَلَوْ قَتَلَهُ السَّيِّدُ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مَالٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الدُّيُونِ.

فَرْعٌ لَوْ تَصَرَّفَ السَّيِّدُ فِيمَا فِي يَدِ الْمَأْذُونِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إِعْتَاقٍ، وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَأْذُونِ، جَازَ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يُشْتَرَطُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ حَجْرًا. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُ تَصَرُّفِهِ. فَرْعٌ لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَالًا، فَعَنْ أَبِي طَاهِرٍ الزِّيَادَيِّ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا الْإِذْنُ. وَعَنْ غَيْرِهِ: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِي أَنْوَاعِ أَمْوَالِهِ. وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْ أَحْكَامِ الْمَأْذُونِ مَسَائِلُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوْضِعِهَا. قُلْتُ: قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَوْ جُنِيَ عَلَى الْمَأْذُونِ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، لَا تُقْضَى دُيُونُ التِّجَارَةِ مِنَ الْأَرْشِ وَالْمَهْرِ. وَلَوِ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى سَيِّدِهِ [بِغَيْرِ إِذْنِهِ] ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَظْهَرِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ، عَتَقَ عَلَى الْمَوْلَى. وَإِنْ كَانَ دَيْنٌ، فَفِي عِتْقِهِ قَوْلَانِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى بِإِذْنِ الْمَوْلَى. وَإِنِ اشْتَرَى بِإِذْنِهِ صَحَّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ، عَتَقَ. وَإِنْ كَانَ فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَعْتِقُ. وَالثَّانِي: يَعْتِقُ وَيَغْرُمُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ. وَلَوْ مَاتَ الْمَأْذُونُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ مُؤَجَّلَةٌ، وَفِي يَدِهِ أَمْوَالٌ، حَلَّتِ الْمُؤَجَّلَةُ، كَمَا تَحِلُّ بِمَوْتِ الْحُرِّ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي الْفَتَاوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْذُونِ، فَقَدْ يَكُونُ مَأْذُونًا فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَأْذُونًا أَصْلًا. وَأَحْكَامُهُ مُفَرَّقَةٌ فِي أَبْوَابِهَا، لَكِنْ نُذْكُرُ مِنْهَا طَرَفًا، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَهَكَذَا حُكْمُ كُلِّ تَصَرُّفٍ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ. فَإِنْ وُصِّيَ لَهُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ، كَانَ وَصِيَّةً وَهِبَةً لِسَيِّدِهِ. وَفِي صِحَّةِ قَبُولِهِ فِيهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَجْهَانِ. وَالْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ، كَمَا لَوْ خَالَعَ، صَحَّ، وَدَخَلَ الْعِوَضُ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ قَهْرًا. وَفِي صِحَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ بِفُرُوعِهِمَا فِي بَابِهِ. وَفِي صِحَّةِ شِرَائِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِبُطْلَانِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانُ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، فَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ. وَذَكَرُوا وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِلْكَ لِلسَّيِّدِ. ثُمَّ إِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ رِقَّهُ، لَمْ يُطَالِبْهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْتِقَ، وَإِلَّا فَلَهُ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ صَبَرَ إِلَى الْعِتْقِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَرَجَعَ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمِلْكَ لِلْعَبْدِ، ثُمَّ السَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِرَّهُ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْهُ. وَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ إِلَى عَيْنِ الْمَبِيعِ مَا دَامَ فِي يَدِ الْعَبْدِ، لِتَعَذُّرِ الثَّمَنِ، كَالْإِفْلَاسِ. وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِهِ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الصَّبْرُ، إِلَى أَنْ يَعْتِقَ. وَإِنِ انْتَزَعَهُ السَّيِّدُ، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا لَوْ زَالَتْ يَدُ الْمُفْلِسِ عَمَّا اشْتَرَاهُ. وَفِي وَجْهٍ: يَرْجِعُ فَيَأْخُذُهُ مِنَ السَّيِّدِ. وَأَمَّا إِذَا أَبْطَلْنَا شِرَاءَهُ، فَلِلْمَالِكِ اسْتِرْدَادُ الْعَيْنِ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي يَدِ السَّيِّدِ، أَوِ الْعَبْدِ. فَإِنْ تَلَفَتْ فِي يَدِ الْعَبْدِ، تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِذِمَّتِهِ. وَإِنْ تَلَفَتْ فِي يَدِ السَّيِّدِ، فَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَتُهُ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَإِنْ أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ، فَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ الضَّمَانُ إِذَا رَآهُ فَلَمْ يَأْخُذْهُ مِنْ يَدِ الْعَبْدِ. وَالِاسْتِقْرَاضُ كَالشِّرَاءِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ.

فصل

فَرْعٌ لِلْعَبْدِ إِجَارَةُ نَفْسِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَهُ بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوِ اشْتَرَى أَوْ بَاعَ لِغَيْرِهِ بِالْوَكَالَةِ بِغَيْرِ إِذَنِ السَّيِّدِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِتَعَلُّقِ الْعُهْدَةِ بِالْوَكِيلِ. فَصْلٌ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ بِتَمْلِيكِ غَيْرِ سَيِّدِهِ. وَفِي مِلْكِهِ بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ، قَوْلَانِ. الْأَظْهَرُ الْجَدِيدُ: لَا يَمْلِكُ. فَعَلَى الْقَدِيمِ: لِلسَّيِّدِ الرُّجُوعُ فِيهِ مَتَى شَاءَ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. فَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ، فَمَلَّكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَالْحُكْمُ لِلتَّمْلِيكِ الثَّانِي، وَهُوَ رُجُوعٌ عَنِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ وَقَعَا مَعًا مِنْ وَكِيلَيْنِ، تَدَافَعَا. فَإِنْ مَلَّكَهُ جَارِيَةً، وَقُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَهَلْ لِلْعَبْدِ وَطْؤُهَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: يَجُوزُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: يَحْرُمُ مُطْلَقًا، لِضَعْفِ مِلْكِهِ. قُلْتُ: قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَوْ أَوْلَدَهَا، فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِلْعَبْدِ، وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ، لِنُقْصَانِ مِلْكِهِ. فَإِذَا عَتَقَ، عَتَقَ الْوَلَدُ. قَالَ: وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ عَلَى صِفَةٍ، كَالْقَنِّ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمُ الْوَطْءُ عَلَى الْجَدِيدِ وَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ فِيهِ. وَفِي حِلِّهِ عَلَى الْقَدِيمِ مَا ذَكَرْنَا. وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، إِذَا مَلَكَ بِحُرِّيَّتِهِ مَالًا، فَاشْتَرَى جَارِيَةً، مَلَكَهَا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا عَلَى الْجَدِيدِ، وَيَحِلُّ فِي الْقَدِيمِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَلَا يَحِلُّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ; لِأَنَّ بَعْضَهُ مَمْلُوكٌ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّسَرِّي. وَلَا يَحِلُّ لِلْمُكَاتَبِ التَّسَرِّي بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ، كَتَبَرُّعِهِ. وَقِيلَ: إِنْ حَرَّمْنَا التَّسَرِّيَ عَلَى الْعَبْدِ، فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

باب اختلاف المتبايعين [وتحالفهما]

بَابُ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ [وَتَحَالُفِهِمَا] إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ صِفَتِهِ، أَوْ شَرْطِ الْخِيَارِ أَوِ الْأَجَلِ، أَوْ قَدْرِهِمَا، أَوْ فِي شَرْطِ الرَّهْنِ أَوِ الْكَفِيلِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَقْدٍ صَحِيحٍ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، قُضِيَ بِهَا. فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ وَقُلْنَا بِالتَّسَاقُطِ، فَكَأَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ، وَإِلَّا، تَوَقَّفْنَا إِلَى ظُهُورِ الْحَالِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا، سَوَاءٌ كَانَتِ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً، وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ أَوْ وَرَثَتُهُمَا، وَكَذَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: بِعْتَنِيهِ مَعَ الْجَارِيَةِ بِأَلْفَيْنِ، تَحَالَفَا. فَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ: بَلِ الْجَارِيَةَ، وَاتَّفَقَا عَلَى الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا، تَحَالَفَا. وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَحَالَفَانِ، قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ. وَالثَّانِي: لَا، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ، وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» . فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَحَالُفَ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِيَمِينَيْهِمَا فَسْخٌ وَلَا انْفِسَاخٌ. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً تُوَافِقُهُ، سُلِّمَتِ الْجَارِيَةُ لِلْمُشْتَرِي. وَأَمَّا الْعَبْدُ، فَقَدْ أَقَرَّ الْبَائِعُ بِبَيْعِهِ، وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، أُقِرَّ عِنْدَهُ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُسَلَّمُ إِلَى الْمُشْتَرِي وَيُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُجْبَرُ، بَلْ يَقْبِضُهُ الْحَاكِمُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ، وَرَأَى الْحَظَّ فِي بَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ، فَعَلَ.

فَرْعٌ يَجْرِي التَّحَالُفُ فِي جَمِيعِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، كَالسَّلَمِ، وَالْإِجَارَةِ وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْجَعَالَةِ، وَالصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ، وَالْكِتَابَةِ. ثُمَّ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَعْدَ التَّحَالُفِ، أَوْ يَنْفَسِخُ وَيَتَرَادَّانِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ، لَا يَعُودُ اسْتِحْقَاقُهُ، بَلْ أَثَرُ التَّحَالُفِ الرُّجُوعُ إِلَى الدِّيَةِ، وَكَذَا لَا يَرْجِعُ الْبِضْعُ، بَلْ فِي النِّكَاحِ تَرْجِعُ الْمَرْأَةُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. وَفِي الْخُلْعِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ الزَّوْجُ. قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ قِيلَ: أَيُّ مَعْنَى لِلتَّحَالُفِ فِي الْقِرَاضِ، مَعَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَسْخَهُ بِكُلِّ حَالٍ، وَقَدْ مَنَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، لِإِمْكَانِ الْفَسْخِ بِالْخِيَارِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّحَالُفَ مَا وُضِعَ لِلْفَسْخِ، بَلْ عُرِضَتِ الْأَيْمَانُ رَجَاءَ أَنْ يَنْكِلَ الْكَاذِبُ، فَيُقَرَّرُ الْعَقْدُ بِيَمِينِ الصَّادِقِ. فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ وَأَصَرَّا، فُسِخَ الْعَقْدُ لِلضَّرُورَةِ. وَنَازَعَ الْقَاضِيَ فِيمَا ذَكَرَهُ، ثُمَّ مَالَ إِلَى مُوَافَقَتِهِ، وَرَأَى فِي الْقِرَاضِ أَنْ يُفَصَّلَ فَيُقَالَ: التَّحَالُفُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ لَا مَعْنًى لَهُ، وَبَعْدَهُ يَؤُولُ النِّزَاعُ إِلَى مَقْصُودٍ مِنْ رِبْحٍ أَوْ أُجْرَةِ مِثْلٍ، فَيَتَحَالَفَانِ وَالْجِعَالَةُ كَالْقِرَاضِ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ، فَقَالَ: بَلْ وَهَبْتَنِيهِ، فَلَا تَحَالُفَ إِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى عَقْدٍ، بَلْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْيِ مَا يُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِذَا حَلَفَا، لَزِمَ مُدَّعِيَ الْهِبَةِ رَدُّهُ بِزَوَائِدِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْهِبَةِ. وَشَذَّ صَاحِبُ

فصل

«التَّتِمَّةِ» فَحَكَى وَجْهًا: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الصَّحِيحُ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: وَهَبْتَنِيهِ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْيِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ، وَرَدَّ الْأَلْفَ، وَاسْتَرَدَّ الْعَيْنَ. وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتَكَهُ بِأَلْفٍ اسْتَقْرَضْتَهُ، فَقَالَ: بَلْ بِعْتَنِيهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَرُدُّ الْأَلْفَ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ. فَصْلٌ وَإِنِ اخْتَلَفَا مِنْ غَيْرِ اتِّفَاقٍ عَلَى عَقْدٍ صَحِيحٍ، بِأَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَالْآخَرُ فَسَادَهُ. مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: بَلْ بِأَلْفٍ وَزِقِّ خَمْرٍ، أَوْ قَالَ: شَرَطْنَا شَرْطًا مُفْسِدًا، فَأَنْكَرَ، فَلَا تَحَالُفَ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ. كَمَا لَوْ قَالَ: هَذَا الَّذِي بِعْتَنِيهِ حُرُّ الْأَصْلِ، فَقَالَ: بَلْ هُوَ مَمْلُوكٌ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْآخَرِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: بَلْ بِخَمْرٍ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَقِيلَ: يُقْطَعُ بِالْفَسَادِ، فَإِذَا قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ، فَقَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: بَلْ بِخَمْسِمِائَةٍ وَزِقِّ خَمْرٍ، وَحَلَفَ الْبَائِعُ عَلَى نَفْيِ سَبَبِ الْفَسَادِ، صُدِّقَ، وَبَقِيَ النِّزَاعُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَيَتَحَالَفَانِ. فَصْلٌ لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا، فَقَبَضَهُ، ثُمَّ جَاءَ بِمَعِيبٍ لِيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: لَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي سَلَّمْتُهُ إِلَيْكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ. فَلَوْ كَانَ

ذَلِكَ فِي السَّلَمِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي سَلَّمْتُ إِلَيْكَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ ; لِأَنَّ اشْتِغَالَ الذِّمَّةِ بِمَالِ السَّلَمِ مَعْلُومٌ، وَالْبَرَاءَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَيُخَالِفُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى قَبْضِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الشِّرَاءُ، وَتَنَازَعَا فِي سَبَبِ الْفَسْخِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعَقْدِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الدَّافِعِ أَمِ الْقَابِضِ؟ وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَجْهٌ ثَالِثٌ، يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَمَا لَا يَمْنَعُ. فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، وَكَانَ مَا أَرَادَ الْبَائِعُ رَدَّهُ زُيُوفًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، لِإِنْكَارِهِ أَصْلَ الْقَبْضِ الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَتْ وَرِقًا رَدِيئَةَ النَّوْعِ، لِخُشُونَةٍ، أَوِ اضْطِرَابِ سَكَّةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَلَا يَخْفَى مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا، فَهُوَ كَالْمَبِيعِ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَكِنْ لَوْ كَانَ الْمُعَيَّنُ نُحَاسًا لَا قِيمَةَ لَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّادِّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَالْآخَرُ فَسَادَهُ. فَرْعٌ اشْتَرَى طَعَامًا كَيْلًا، وَقَبَضَهُ بِالْكَيْلِ، أَوْ وَزْنًا، وَقَبَضَهُ بِالْوَزْنِ، أَوْ أَسْلَمَ فِيهِ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ جَاءَ وَادَّعَى نَقْصًا، فَإِنْ كَانَ قَدْرًا يَنْفَعُ مِثْلُهُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ قُبِلَ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْأَظْهَرِ. فَرْعٌ اخْتَلَفَا فِي الْقَبْضِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي.

فصل

فَرْعٌ بَاعَ عَصِيرًا وَأَقْبَضَهُ، وَوُجِدَ خَمْرًا، فَقَالَ الْبَائِعُ: تَخَمَّرَ فِي يَدِكَ، فَقَالَ: بَلْ سَلَّمْتَهُ خَمْرًا، فَيَكُونُ الْقَبْضُ فَاسِدًا، وَأَمْكَنَ صِدْقُهُمَا، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ قَوْلَانِ. قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا تَصْدِيقُ الْبَائِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: كَانَ خَمْرًا عِنْدَ الْبَيْعِ، فَهَذَا يَدَّعِي فَسَادَ الْعَقْدِ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي صِحَّتَهُ، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. وَعَلَى هَذَا يُقَاسُ مَا لَوِ اشْتَرَى لَبَنًا، فَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي فِي ظَرْفٍ، ثُمَّ وُجِدَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ مَيِّتَةٌ، وَتَنَازَعَا فِي نَجَاسَتِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ، أَوْ عِنْدَ الْقَبْضِ. فَرْعٌ قَالَ بِعْتَنِيهِ بِشَرْطِ أَنَّهُ كَاتِبٌ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ الشَّرْطَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَتَحَالَفَانِ، كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَجَلِ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعَيْبِ. وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، فَاخْتَلَفَا فِي انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ. فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ التَّحَالُفِ قَاعِدَتُهُ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى إِثْبَاتِ قَوْلِهِ وَنَفْيِ قَوْلِ صَاحِبِهِ. وَفِيمَنْ يُبْدَأُ بِيَمِينِهِ؟ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْبَائِعُ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: الْبَائِعُ. وَالثَّانِي: الْمُشْتَرِي. وَالثَّالِثُ: يَتَسَاوَيَانِ. وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا:

يَتَخَيَّرُ الْحَاكِمُ فَيَبْدَأُ بِمَنِ اتَّفَقَ. وَالثَّانِي: يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ تَحَالَفَ الزَّوْجَانِ فِي الصَّدَاقِ، فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ يَبْدَأُ بِالزَّوْجِ. وَعَلَى الثَّانِي: إِنْ قَدَّمْنَا الْبَائِعَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَأَقْرَبُهُمَا إِلَى النَّصِّ: يَبْدَأُ بِالزَّوْجِ. وَالثَّانِي: بِالْمَرْأَةِ. وَإِنْ قَدَّمْنَا الْمُشْتَرِيَ، فَالْقِيَاسُ انْعِكَاسُ الْوَجْهَيْنِ. وَلَا يَخْفَى مَنْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ. ثُمَّ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِاشْتِرَاطِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَصَاحِبَا «التَّتِمَّةِ» وَ «التَّهْذِيبِ» . وَتَقْدِيمُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا بَاعَ عَرَضًا بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ. فَأَمَّا إِذَا تَبَادَلَا عَرَضًا بِعَرَضٍ، فَلَا يَتَّجِهُ إِلَّا التَّسْوِيَةُ. قَالَهُ الْإِمَامُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مَاذَا؟ فَرْعٌ الْمَذْهَبُ وَظَاهِرُ النَّصِّ: الِاكْتِفَاءُ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ - مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ - تَجْمَعُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، فَيَقُولُ الْبَائِعُ: مَا بِعْتُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنَّمَا بِعْتُ بِأَلْفٍ. وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: مَا اشْتَرَيْتُ بِأَلْفٍ، وَإِنَّمَا اشْتَرَيْتُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَفِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَرَّجٌ: أَنَّهُ يَحْلِفُ أَوَّلًا عَلَى مُجَرَّدِ النَّفْيِ. فَإِنِ اكْتَفَيْنَا بِيَمِينٍ تَجْمَعُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ، قُضِيَ لِلْحَالِفِ، سَوَاءٌ نَكَلَ عَنِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَعًا، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَى الْإِثْبَاتِ ; لِأَنَّ النَّفْيَ هُوَ الْأَصْلُ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُقَدَّمُ الْإِثْبَاتُ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِحْبَابِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: فِي الِاسْتِحْقَاقِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْمُخَرَّجِ: إِنَّهُ يَحْلِفُ أَوَّلًا عَلَى مُجَرَّدِ النَّفْيِ، فَأَضَافَ إِلَيْهِ الْإِثْبَاتَ كَانَ لَغْوًا. فَإِذَا حَلَفَ مَنِ ابْتُدِئَ بِهِ، عَرَضْنَا الْيَمِينَ عَلَى الْآخَرِ. فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْأَوَّلُ يَمِينًا ثَانِيَةً عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَقُضِيَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْإِثْبَاتِ، لَمْ يُقْضَ لَهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَيَكُونُ كَمَا لَوْ تَحَالَفَا ; لَأَنَّ نُكُولَ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ عَنْ يَمِينِ الرَّدِّ، نَازِلٌ فِي الدَّعَاوَى

فصل

مَنْزِلَةَ حَلِفِ النَّاكِلِ أَوَّلًا. وَلَوْ نَكَلَ الْأَوَّلُ عَنْ يَمِينِ النَّفْيِ أَوَّلًا، حَلَفَ الْآخَرُ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَقُضِيَ لَهُ. وَلَوْ حَلَفَا عَلَى النَّفْيِ فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَكْفِي ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ بَعْدَهُ إِلَى يَمِينِ الْإِثْبَاتِ ; لِأَنَّ الْمُحْوِجَ إِلَى الْفَسْخِ جَهَالَةُ الثَّمَنِ وَقَدْ حَصَلَتْ. وَالثَّانِي: تُعْرَضُ يَمِينُ الْإِثْبَاتِ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ حَلَفَا تَمَّ التَّحَالُفُ. وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا، قُضِيَ لِلْحَالِفِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُخَرَّجِ فِي تَقْدِيمِ النَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا عَلَى الْمَذْهَبِ. فَلَوْ نَكَلَا جَمِيعًا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَتَحَالُفِهِمَا. وَالثَّانِي: يُوقَفُ الْأَمْرُ وَكَأَنَّهُمَا تَرَكَا الْخُصُومَةَ. قُلْتُ: هَذَانِ الْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ احْتِمَالَيْنِ لِنَفْسِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمَذْهَبِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ أَنَّهُ رَأَى التَّوَقُّفَ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : لَهُ حُكْمُ التَّحَالُفِ عَلَى الظَّاهِرِ. وَالْأَصَحُّ: اخْتِيَارُ التَّوَقُّفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا تَحَالَفَا، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِمُجَرَّدِ التَّحَالُفِ. وَفِي وَجْهٍ: يَنْفَسِخُ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ، فَإِنْ قُلْنَا: يَنْفَسِخُ، فَتَصَادَقَا بَعْدَهُ، لَمْ يَعُدِ الْبَيْعُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ عَقْدٍ. وَهَلْ يَنْفَسِخُ فِي الْحَالِ، أَوْ نَتَبَيَّنُ ارْتِفَاعَهُ مَنْ أَصْلِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ لِنُفُوذِ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الِاخْتِلَافِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ دَعَاهُمَا الْحَاكِمُ بَعْدَ التَّحَالُفِ إِلَى الْمُوَافَقَةِ، فَإِنْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي مَا طَلَبَهُ الْبَائِعُ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ، وَإِلَّا فَإِنْ قَنَعَ بِمَا قَالَهُ الْمُشْتَرِي فَذَاكَ، وَإِلَّا فَيُفْسَخُ الْعَقْدُ. وَفِي مَنْ يَفْسَخُ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْحَاكِمُ. وَأَصَحُّهُمَا لِلْعَاقِدَيْنِ أَيْضًا أَنْ يَفْسَخَا، وَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ كَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا قُلْنَا: الْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يَفْسَخُ، فَذَاكَ إِذَا اسْتَمَرَّا عَلَى النِّزَاعِ وَلَمْ يَفْسَخَا،

أَوِ الْتَمَسَا الْفَسْخَ. أَمَّا إِذَا أَعْرَضَا عَنِ الْخُصُومَةِ، وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ، وَلَا فَسَخَا، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ. ثُمَّ إِذَا فُسِخَ الْعَقْدُ ارْتَفَعَ فِي الظَّاهِرِ. وَفِي ارْتِفَاعِهِ فِي الْبَاطِنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الْبَائِعُ صَادِقًا ارْتَفَعَ؛ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ. كَمَا لَوْ فُسِخَ بِإِفْلَاسِهِ. وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَلَا؛ لِتَمَكُّنِهِ بِالصِّدْقِ مِنْ حَقِّهِ. وَهَلْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ إِذَا قُلْنَا: يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ التَّحَالُفِ، أَمْ يُقْطَعُ بِالِارْتِفَاعِ بَاطِنًا؟ وَجْهَانِ. فَإِذَا قُلْنَا: يَرْتَفِعُ بَاطِنًا، تَرَادَّا، وَتَصَرَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ فِيمَا عَادَ إِلَيْهِ. وَإِنْ مَنَعْنَاهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُمَا التَّصَرُّفُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ صَادِقًا، فَقَدْ ظَفَرَ بِمَالِ مَنْ ظَلَمَهُ، وَهُوَ الْمَبِيعُ الَّذِي اسْتَرَدَّهُ، فَلَهُ بَيْعُهُ بِالْحَاكِمِ عَلَى وَجْهٍ، وَبِنَفْسِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ صَدَرَ الْفَسْخُ مِنَ الْمُحِقِّ، فَالْوَجْهُ تَنْفِيذُهُ بَاطِنًا. وَإِنْ صَدَرَ مِنَ الْمُبْطِلِ، فَالْوَجْهُ مَنْعُهُ. وَإِنْ صَدَرَ مِنْهُمَا، فَلَا شَكَّ فِي الِانْفِسَاخِ بَاطِنًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ تَقَابَلَا. وَإِذَا صَدَرَ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَلَمْ يُنْفِذْهُ بَاطِنًا فَطَرِيقُ الصَّادِقِ إِنْشَاءُ الْفَسْخِ إِنْ أَرَادَ الْمِلْكَ فِيمَا عَادَ إِلَيْهِ. وَإِنْ صَدَرَ مِنَ الْقَاضِي فَالظَّاهِرُ: الِانْفِسَاخُ بَاطِنًا لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْمُحِقُّ. فَرْعٌ إِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِالتَّحَالُفِ أَوْ فُسِخَ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ رَدُّ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا بِحَالِهِ، وَيَبْقَى لَهُ الْوَلَدُ وَالثَّمَرَةُ وَالْكَسْبُ وَالْمَهْرُ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا لَزِمَهُ قِيمَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَكَثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ، أَمْ لَا. قُلْتُ: وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ لِابْنِ خَيْرَانَ: لَا يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ زِيَادَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْقِيمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ أَوْجُهٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ: أَقْوَالٌ. أَصَحُّهَا: قِيمَةُ يَوْمِ التَّلَفِ. وَالثَّانِي: يَوْمَ الْقَبْضِ. وَالثَّالِثُ: أَقَلُّهَا. وَالرَّابِعُ: أَكْثَرُ الْقِيَمِ مِنَ الْقَبْضِ إِلَى

التَّلَفِ. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَتَلَفَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ اخْتَلَفَا وَتَحَالَفَا، فَهَلْ يُرَدُّ الْعَبْدُ الْبَاقِي؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي مِثْلِهِ إِذَا وُجِدَ الْبَاقِي مَعِيبًا. إِنْ قُلْنَا: يُرَدُّ، فَيَضُمُّ قِيمَةَ التَّالِفِ إِلَيْهِ. وَفِي الْقِيمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ هَذِهِ الْأَوْجُهُ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا، لَكِنْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ، رَدَّهُ مَعَ الْأَرْشِ، وَهُوَ قَدْرُ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ، فَبَعْضُهُ بِبَعْضِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَاقْتَضَى الْحَالُ الْأَرْشَ، يَجِبُ جُزْءٌ مِنَ الثَّمَنِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَبَعْضُهُ بِبَعْضِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا أَصْلٌ مُطَّرِدٌ فِي الْمَسَائِلِ: أَنَّ مَا ضُمِنَ كُلُّهُ بِالْقِيمَةِ، فَبَعْضُهُ بِبَعْضِهَا كَالْمَغْصُوبِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا فِي صُورَةٍ، وَهِيَ لَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ، فَتَلَفَ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَكَانَ مَا عَجَّلَهُ تَالِفًا، يَغْرُمُ الْقَابِضُ الْقِيمَةَ. وَلَوْ كَانَ مَعِيبًا، فَفِي الْأَرْشِ وَجْهَانِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الزَّكَاةِ وَمَيْلَ الشَّيْخِ إِلَى طَرْدِ الْأَصْلِ فِيهَا. ثُمَّ التَّلَفُ قَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا، بِأَنْ وَقَفَ الْمَبِيعَ، أَوْ أَعْتَقَهُ، أَوْ بَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مَاضِيَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ الْفَارِسِيُّ: نَتَبَيَّنُ بِالتَّحَالُفِ فَسَادَهَا، وَتُرَدُّ الْعَيْنُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَالتَّعَيُّبُ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا، بِأَنْ زَوَّجَ الْأَمَةَ، فَعَلَيْهِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا مُزَوَّجَةً وَخَلِيَّةً، وَتَعُودُ إِلَى الْبَائِعِ، وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ. وَعَنِ الْفَارِسِيِّ: أَنَّهُ يَبْطُلُ النِّكَاحُ. وَمَهْمَا اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ أَوِ الْأَرْشِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ قَدْ أَبَقَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي حِينَ تَحَالَفَا، لَمْ يَمْتَنِعِ الْفَسْخُ، فَإِنَّ الْإِبَاقَ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّلَفِ، وَيَغْرُمُ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ، لِتَعَذُّرِ حُصُولِهِ. وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً صَحِيحَةً. وَإِنْ رَهَنَهُ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ صَبَرَ إِلَى فِكَاكِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ. وَإِنْ آجَرَهُ، بُنِيَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُسْتَأْجَرِ. إِنْ مَنَعْنَاهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ فَلِلْبَائِعِ أَخْذُهُ، لَكِنَّهُ يُتْرَكُ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَالْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ لِلْمُشْتَرِي، وَعَلَيْهِ لِلْبَائِعِ أُجْرَةُ

فصل

الْمِثْلِ لِلْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ. وَإِنْ كَانَ آجَرَهُ لِلْبَائِعِ، فَلَهُ أَخْذُهُ قَطْعًا. وَفِي انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ بَاعَ الدَّارَ لِمُسْتَأْجِرِهَا. إِنْ قُلْنَا: لَا تَنْفَسِخُ، فَعَلَى الْبَائِعِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ لِلْمُشْتَرِي، وَعَلَى الْمُشْتَرِي أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ لِلْبَائِعِ. وَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ السَّبَبُ الْحَائِلُ، وَأَمْكَنَ الرَّدُّ، فَهَلْ يَرُدُّ الْعَيْنَ وَيَسْتَرِدُّ الْقِيمَةَ؟ يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ ارْتِفَاعِ الْحَائِلِ مِلْكٌ لِمَنْ؟ أَمَّا الْآبِقُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسْخُ، كَمَا لَا يُبَاعُ، وَإِنَّمَا هُوَ وَارِدٌ عَلَى الْقِيمَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ فِي إِبَاقِهِ مِلْكُ الْبَائِعِ، وَالْفَسْخُ وَارِدٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ لِلْحَيْلُولَةِ. وَأَمَّا الْمَرْهُونُ وَالْمُكَاتَبُ، فَفِيهِمَا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. كَمَا إِذَا أَفْلَسَ وَالْمَبِيعُ آبِقٌ، يَجُوزُ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ مَرْهُونًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُسْتَأْجَرُ، فَإِنْ مَنَعْنَا بَيْعَهُ، فَهَلْ هُوَ كَالْمَرْهُونِ، أَمْ كَالْآبِقِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ. فَإِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، فَالْفَسْخُ وَارِدٌ عَلَى الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ تَلَفَ، فَلَا رَدَّ وَلَا اسْتِرْدَادَ. وَإِنْ قُلْنَا بِانْقِلَابِهِ إِلَى الْبَائِعِ، ثَبَتَ الرَّدُّ وَالِاسْتِرْدَادُ عِنْدَ زَوَالِ الْحَيْلُولَةِ. فَصْلٌ لَوِ اخْتَلَفَا، ثُمَّ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ التَّحَالُفِ أَوْ قَبْلَهُ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، لَمْ يَعْتِقْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ صَادِقٌ بِزَعْمِهِ، فَإِنْ عَادَ الْعَبْدُ إِلَى الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ أَوْ بِغَيْرِهِ، عَتَقَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَاذِبٌ بِزَعْمِهِ، فَهُوَ كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ. وَلَا يَعْتِقُ فِي الْبَاطِنِ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ كَاذِبًا، وَيَعْتِقُ عَلَى الْمُشْتَرِي إِنْ كَانَ صَادِقًا. وَوَلَاءُ هَذَا الْعَبْدِ مَوْقُوفٌ لَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ وَلَا الْمُشْتَرِي. وَلَوْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ، حُكِمَ بِعِتْقِهِ عَلَيْهِ، وَيُرَدُّ الْفَسْخُ إِنْ تَفَاسَخَا.

فصل

كَمَا لَوْ رَدَّ الْعَبْدَ بِعَيْبٍ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ، يُرَدُّ الْفَسْخُ وَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ. فَلَوْ صَدَّقَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ، نُظِرَ، إِنْ حَلَفَ الْبَائِعُ بِالْحُرِّيَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا صَدَّقَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ يَمِينِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبِ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَمَا حَلَفَ بِالْحُرِّيَّةِ حَتَّى يُجْعَلَ مُقِرًّا بِعِتْقِهِ. وَإِنْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي بِحُرِّيَّتِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ حَلَفَ الْبَائِعُ، وَصَدَّقَهُ، عَتَقَ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ حَلِفَهُ بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي تَكْذِيبٌ لَهُ وَاعْتِرَافٌ بِالْحُرِّيَّةِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَكِنَّ الْمَبِيعَ بَعْضُ الْعَبْدِ، فَإِذَا عَادَ إِلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْعِتْقُ بِمُبَاشَرَتِهِ. فَصْلٌ لَوْ جَرَى الْعَقْدُ بَيْنَ وَكِيلَيْنِ، فَفِي تَحَالُفِهِمَا وَجْهَانِ ; لَأَنَّ فَائِدَةَ الْيَمِينِ الْإِقْرَارُ، وَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ لَا يُقْبَلُ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ التَّحَالُفَ. وَفَائِدَتُهُ الْفَسْخُ، أَوْ أَنْ يَنْكِلَ أَحَدُهُمَا، فَيَحْلِفَ الْآخَرُ، وَيُقْضَى لَهُ إِذَا قُلْنَا: حَلِفُهُ مَعَ النُّكُولِ كَالْبَيِّنَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً، فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ اخْتَلَفَا وَتَحَالَفَا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ رَدِّهَا. وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا رَدَّهَا مَعَ أَرْشِ الْبَكَارَةِ؛ لِأَنَّهُ نُقْصَانُ جُزْءٍ. وَلَوْ تَرَافَعَ الْمُتَنَازِعَانِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَلَمْ يَتَحَالَفَا بَعْدُ، فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ الْمَبِيعَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِبَقَاءِ مِلْكِهِ. وَفِي جَوَازِهِ بَعْدَ التَّحَالُفِ وَقَبْلَ الْفَسْخِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ.

فصل

فَصْلٌ لَوْ تَقَايَلَا، أَوْ رَدَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بَعْدَ قَبْضِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ الشَّجَرَةَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ، فَالثَّمَرَةُ لِي، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ قَبْلَهُ فَلِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِ. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَتَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَرَدَّهُ، وَقُلْنَا: يَجُوزُ رَدُّ أَحَدِهِمَا، فَاخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ التَّالِفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ عَلَى الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الثَّمَنَ، فَلَا يُزَالُ مِلْكُهُ إِلَّا عَمَّا يُقِرُّ بِهِ، وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمُشْتَرِي كَالْغَارِمِ. وَذَكَرَ فِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهًا: أَنَّهُمَا إِذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْبَيْعِ، لَا يَتَحَالَفَانِ، بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمَشْرُوطَةَ تُلْحِقُهُ بِالْعَيْبِ، فَصَارَ كَدَعْوَاهُ عَيْبًا. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِ وُجُودِ الْعَيْبِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ كَمَا سَبَقَ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، حُكِيَ عَنْ نَصِّهِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي السَّلَمِ ; لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي السَّلَمِ حَقُّ الْبَائِعِ، فَإِذَا ادَّعَى [الْمُسْلِمُ] انْقِضَاءَهُ، فَقَدِ ادَّعَى اسْتِحْقَاقَ مُطَالَبَةٍ، وَالْبَائِعُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ يُنْكِرُهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي انْقِضَاءِ الْأَجَلِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى قَدْرِهِ، اخْتِلَافٌ فِي تَارِيخِ الْعَقْدِ، فَكَانَ الْمُسْلِمُ يَدَّعِي وُقُوعَهُ فِي شَهْرٍ، وَالْمُسْلَمُ إِلَيْهِ يُنْكِرُهُ. فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مُنْكِرِهِ، فَكَذَا هُنَا. وَأَمَّا فِي بَابِ الشِّرَاءِ، الْأَجَلُ حَقُّ الْمُشْتَرِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّتَيْنِ. فَلَوْ بَاعَ شَيْئًا وَمَاتَ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ لِابْنِ الْمَيِّتِ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَاعَهُ عَلَيْكَ أَبُوكَ

فِي صِغَرِكَ لِحَاجَةٍ، وَصَدَّقَهُ الِابْنُ أَنَّ الْأَبَ بَاعَهُ فِي صِغَرِهِ، لَكِنْ قَالَ: لَمْ يَبِعْهُ عَلَيَّ، بَلْ بَاعَهُ لِنَفْسِهِ مُتَعَدِّيًا، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ; لِأَنَّ الْأَبَ نَائِبُ الشَّرْعِ، فَلَا يُتَّهَمُ إِلَّا بِحُجَّةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْ وَكِيلِكَ، فَقَالَ: هُوَ وَكِيلِي، وَلَكِنْ بَاعَ لِنَفْسِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

كتاب السلم

كِتَابُ السَّلَمِ يُقَالُ: السَّلَمُ وَالسَّلَفُ، وَلَفْظَةُ السَّلَفِ تُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَرْضِ، وَيَشْتَرِكُ السَّلَمُ وَالْقَرْضُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِثْبَاتُ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ بِمَبْذُولٍ فِي الْحَالِ، وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ السَّلَمِ عِبَارَاتٍ مُتَقَارِبَةً. مِنْهَا: أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ بِبَدَلٍ يُعْطَى عَاجِلًا. وَقِيلَ: إِسْلَامُ عِوَضٍ حَاضَرٍ فِي مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ. وَقِيلَ: إِسْلَافٌ عَاجِلٌ فِي عِوَضٍ لَا يَجِبُ تَعْجِيلُهُ. ثُمَّ السَّلَمُ: بَيْعٌ، كَمَا سَبَقَ، وَيَخْتَصُّ بِشُرُوطٍ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ. فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِهِ، بَطَلَ الْعَقْدُ. وَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ بَعْضِهِ، بَطَلَ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ، وَسَقَطَ بِقِسْطِهِ مِنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَالْحُكْمُ فِي الْمَقْبُوضِ، كَمَنِ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ فَتَلِفَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ، بَلْ لَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ دَيْنَارًا فِي ذِمَّتِي فِي كَذَا، ثُمَّ عُيِّنَ وَسُلِّمَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّرْفِ لَوْ بَاعَ دَيْنَارًا بِدَيْنَارٍ، أَوْ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، عُيِّنَ وَسُلِّمَ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَوْ بَاعَ طَعَامًا بِطَعَامٍ فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ عُيِّنَ وَسُلِّمَ فِي الْمَجْلِسِ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ: الْجَوَازُ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِيهِ يَطُولُ بِخِلَافِ الصَّرْفِ. فَلَوْ قَبَضَ رَأْسَ الْمَالِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْمُسْلَمِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ. وَلَوْ رَدَّهُ إِلَيْهِ عَنْ دَيْنٍ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفٌ قَبْلَ انْبِرَامِ مِلْكِهِ. فَإِذَا تَفَرَّقَا، فَعَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَصِحُّ السَّلَمُ لِحُصُولِ الْقَبْضِ وَانْبِرَامِ الْمِلْكِ، وَيَسْتَأْنِفُ إِقْبَاضَهُ لِلدَّيْنِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي لِي فِي ذِمَّتِكَ فِي كَذَا، فَإِنْ أَسْلَمَ مُؤَجَّلًا أَوْ حَالًّا وَلَمْ يَقْبِضِ الْمُسْلَمَ فِيهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَهُوَ

بَاطِلٌ، وَكَذَا إِنْ أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَطْلَقَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ تَسْلِيمَ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ وَهُوَ حَالٌّ هَلْ يُغْنِي عَنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ؟ وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحِيلَ الْمُسْلِمُ بِرَأْسِ الْمَالِ عَلَى رَجُلٍ، وَإِنْ قَبْضَهُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَجْلِسِ. فَلَوْ قَالَ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ: سَلِّمْهُ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ، لَمْ يَكْفِ لِصِحَّةِ السَّلَمِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي إِزَالَةِ مِلْكِهِ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا لِغَيْرِهِ، لَكِنْ يَصِيرُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ وَكِيلًا عَنِ الْمُسْلِمِ فِي قَبْضِ ذَلِكَ. ثُمَّ السَّلَمُ يَقْتَضِي قَبْضًا آخَرَ، وَلَا يَصِحُّ قَبْضُهُ مِنْ نَفْسِهِ. وَلَوْ أَحَالَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَتَفَرَّقَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَإِنْ جَعَلْنَا الْحَوَالَةَ قَبْضًا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السَّلَمِ الْقَبْضُ الْحَقِيقِيُّ. وَلَوْ أَحْضَرَ رَأْسَ الْمَالِ، فَقَالَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ: سَلِّمْهُ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ، صَحَّ، وَيَكُونُ الْمُحْتَالُ وَكِيلًا عَنِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فِي الْقَبْضِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، فَصَالَحَ عَنْهَا عَلَى الْمَالِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ قَبَضَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَصِحَّ إِنْ لَمْ يُصَحَّحْ إِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَوْ نُفِّذَ، لَكَانَ قَبْضًا حُكْمًا، وَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي السَّلَمِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا مُتَفَرِّقًا قَبْلَ قَبْضِهِ، بَطَلَ الْعَقْدُ. وَإِلَّا فَيَصِحُّ. وَفِي نُفُوذِ الْعِتْقِ وَجْهَانِ.

فَرْعٌ مَتَى فُسِخَ السَّلَمُ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ مُعَيَّنًا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَهُوَ بَاقٍ، رَجَعَ الْمُشْتَرِيَ بِعَيْنِهِ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، رَجَعَ إِلَى بَدَلِهِ، وَهُوَ الْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ، وَالْقِيمَةُ فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ، وَعُيِّنَ فِي الْمَجْلِسِ وَهُوَ بَاقٍ، فَهَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعَيْنِهِ، أَمْ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ الْإِبْدَالُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. فَرْعٌ لَوْ وَجَدْنَا رَأْسَ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: أَقْبَضْتُكَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَقَالَ: بَلْ قَبْلَهُ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً عَلَى قَوْلِهِ، فَبَيِّنَةُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَوْلَى. حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ فِي الذِّمَّةِ، اشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، وَذِكْرُ صِفَتِهِ أَيْضًا إِنْ كَانَ عِوَضًا. فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا وَهُوَ مِثْلِيٌّ، فَهَلْ تَكْفِي مُعَايَنَتُهُ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ صِفَتِهِ وَقَدْرِهِ، كَيْلًا فِي الْمَكِيلِ، وَوَزْنًا فِي الْمَوْزُونِ، وَذَرْعًا فِي الْمَذْرُوعِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ حَالًّا كَفَتْ قَطْعًا. وَالْمَذْهَبُ: طَرَدُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا. وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا وَضُبِطَتْ صِفَاتُهُ بِالْمُعَايَنَةِ، فَفِي اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ طَرِيقَانِ. قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: بِطَرَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا فَرْقَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ السَّلَمِ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِي الْمُؤَجَّلِ، فَأَمَّا الْحَالُّ، فَتَكْفِي فِيهِ الْمُعَايِنَةُ قَطْعًا، كَمَا فِي الْبَيْعِ. ثُمَّ مَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ، إِذَا تَفَرَّقَا

قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ. فَلَوْ عَلِمَا ثُمَّ تَفَرَّقَا، صَحَّ بِلَا خِلَافٍ. وَبَنَى كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ رَأْسُ الْمَالِ مَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَالْجَوْهَرَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: بِالْأَظْهَرِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ هُوَ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ، بَلِ الْجَوْهَرَةُ الْمُثَمَّنَةُ إِذَا عَرَفَا قِيمَتَهَا وَبَالَغَا فِي وَصْفِهَا، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ جَعْلُهَا رَأْسَ مَالٍ؛ لِأَنَّ مَنْعَ السَّلَمِ فِيهِ سَبَبُهُ عِزَّةُ الْمَوْجُودِ، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ عُمُومِ الْوُجُودِ فِي رَأْسِ الْمَالِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا السَّلَمَ وَرَأْسُ الْمَالِ جُزَافٌ، وَاتَّفَقَ فَسْخٌ، وَتَنَازَعَا فِي قَدْرِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ. قُلْتُ: إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، حُمِلَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ. فَلَوِ اسْتَوَتْ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يُبَيَّنَ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا، فَلَوِ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ السَّلَمِ فِي الْعَيْنِ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ، فَلَيْسَ هَذَا سَلَمًا. وَفِي انْعِقَادِهِ بَيْعًا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا لِاخْتِلَالِ لَفْظِهِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَهُ بِلَا ثَمَنٍ، أَوْ لَا ثَمَنَ لِي عَلَيْكَ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، وَقَبَضَهُ، فَهَلْ يَكُونُ هِبَةً؟ فِيهِ مِثْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَهَلْ يَكُونُ الْمَقْبُولُ مَضْمُونًا؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلثَّمَنِ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْمَقْبُوضُ مَضْمُونٌ. وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ أَسْلَمَ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ طَعَامًا أَوْ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَقَالَ: بِعْتُكَ انْعَقَدَ. وَهَلْ هُوَ سَلَمٌ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى، أَمْ بَيْعٌ اعْتِبَارًا بِلَفْظِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَعَلَى هَذَا، لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الدَّرَاهِمِ فِي الْمَجْلِسِ، وَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ. وَفِي جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنِ الثَّوْبِ قَوْلَانِ، كَمَا فِي الثَّمَنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْمَنْعِ. وَإِنْ قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى، وَجَبَ تَسْلِيمُ الدَّرَاهِمِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ، وَلَمْ يَجُزِ الِاعْتِيَاضُ عَنِ الثَّوْبِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ

فصل

ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا فِي ذِمَّتِكَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِي، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ سَلَمًا، وَجَبَ تَعْيِينُ الدَّرَاهِمِ وَتَسْلِيمُهَا فِي الْمَجْلِسِ. وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ لَمْ يَجِبْ. فَصْلٌ يَصِحُّ السَّلَمُ الْحَالُّ كَالْمُؤَجَّلِ. فَإِنْ صُرِّحَ بِحُلُولٍ أَوْ تَأْجِيلٍ فَذَاكَ، وَإِنْ أُطْلِقَ فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَصِحُّ وَيَكُونُ حَالًّا. وَالثَّانِي لَا يَنْعَقِدُ. وَلَوْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ ثُمَّ أَلْحَقَا بِهِ أَجَلًا فِي الْمَجْلِسِ، فَالنَّصُّ لُحُوقُهُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي سَائِرِ الْإِلْحَاقَاتِ. وَلَوْ صَرَّحَا بِالْأَجَلِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، ثُمَّ أَسْقَطَاهُ فِي الْمَجْلِسِ، سَقَطَ وَصَارَ الْعَقْدُ حَالًّا. فَرْعٌ الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ لِلْعَقْدِ، إِذَا حَذَفَاهُ فِي الْمَجْلِسِ، هَلْ يَنْحَذِفُ وَيَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: لَا. وَفِي وَجْهٍ: لَوْ حَذَفَا الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ فِي الْمَجْلِسِ، انْقَلَبَ الْعَقْدُ صَحِيحًا. وَاخْتَلَفُوا فِي جَرَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ فِي سَائِرِ الْمُفْسِدَاتِ، كَالْخِيَارِ وَالرَّهْنِ الْفَاسِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْإِمَامُ: الْأَصَحُّ تَخْصِيصُهُ بِالْأَجَلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ زَمَنَ الْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ، هَلْ يَلْحَقُ بِالْمَجْلِسِ فِي حَذْفِ الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الضَّعِيفِ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ. فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ مُؤَجَّلًا، اشْتُرِطَ كَوْنُهُ مَعْلُومًا، فَلَا يَجُوزُ تَوْقِيتُهُ بِمَا يَخْتَلِفُ كَالْحَصَادِ، وَقُدُومِ الْحَاجِّ. وَلَوْ قَالَ: إِلَى الْعَطَاءِ لَمْ يَصِحَّ، إِنْ أَرَادَ وُصُولَهُ، فَإِنْ أَرَادَ وَقْتَ

خُرُوجِهِ وَقَدْ عَيَّنَ السُّلْطَانُ لَهُ وَقْتًا جَازَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ. وَلَوْ قَالَ: إِلَى الشِّتَاءِ أَوِ الصَّيْفِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْوَقْتَ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ قَالَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْقِيتُ بِالْيَسَارِ. فَرْعٌ التَّوْقِيتُ بِشُهُورِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ جَائِزٌ كَشُهُورِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَكَذَا التَّوْقِيتُ بِالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ جَائِزٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَصِحُّ. قَالَ الْإِمَامُ: لِأَنَّهُمَا يُطْلَقَانِ عَلَى الْوَقْتَيْنِ اللَّذَيْنِ تَنْتَهِي الشَّمْسُ فِيهِمَا إِلَى أَوَائِلِ بُرْجَيِ الْحَمَلِ وَالْمِيزَانِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ ذَلِكَ لَيْلًا، ثُمَّ يَنْحَبِسُ مَسِيرُ الشَّمْسِ كُلَّ سَنَّةٍ قَدْرَ رُبْعِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَلَوْ وَقَّتَ بِفِصْحِ النَّصَارَى، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِظَاهِرِهِ اجْتِنَابًا لِمَوَاقِيتِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: إِنِ اخْتَصَّ بِمَعْرِفَتِهِ الْكُفَّارُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِمَادَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَإِنْ عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ، جَازَ كَالنَّيْرُوزِ. ثُمَّ اعْتَبَرَ جَمَاعَةٌ فِيهِمَا مَعْرِفَةَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: يَكْفِي مَعْرِفَةُ النَّاسِ. وَسَوَاءٌ اعْتَبَرْنَا مَعْرِفَتَهُمَا أَمْ لَا. فَلَوْ عَرَفَا كَفَى عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَاهُمَا ; لِأَنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَرْجِعٍ. وَفِي مَعْنَى الْفِصْحِ سَائِرُ أَعْيَادِ أَهْلِ الْمِلَلِ، كَفَطِيرِ الْيَهُودِ وَنَحْوِهِ. قُلْتُ: الْفِصْحُ، بِكَسْرِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ عِيدٌ لَهُمْ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ. وَالْفَطِيرُ، عِيدُ الْيَهُودِ لَيْسَ عَرَبِيًّا، وَقَدْ طَرَدَ صَاحِبُ الْحَاوِي الْوَجْهَ فِي الْفِصْحِ فِي شُهُورِ الْفُرْسِ وَشُهُورِ الرُّومِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ وَقَّتَا بِنَفْرِ الْحَجِيجِ وَقَيَّدَا بِالْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، جَازَ. وَإِنْ أَطْلَقَا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ. وَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: صِحَّتُهُ، وَيُحْمَلُ عَلَى النَّفْرِ الْأَوَّلِ لِتَحَقُّقِ الِاسْمِ بِهِ

وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي التَّوْقِيتِ بِشُهُورِ رَبِيعٍ، أَوْ جُمَادَى، أَوِ الْعِيدِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ السَّنَةِ إِذَا حَمَلْنَا الْمَذْكُورَ عَلَى الْأَوَّلِ. وَفِي «الْحَاوِي» وَجْهٌ: أَنَّ التَّوْقِيتَ بِالنَّفْرِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَعْرِفُونَهُ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَذَكَرَ وَجْهَيْنِ فِي التَّوْقِيتِ بِيَوْمِ الْقَرِّ لِأَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا خَوَاصُّهُمْ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا إِنِ اعْتَبَرْنَا عِلْمَ الْعَاقِدَيْنِ فَلَا فَرْقَ، وَإِلَّا فَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ عِنْدِ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ. قُلْتُ: يَوْمُ الْقَرِّ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَهُوَ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ يَقِرُّونَ فِيهِ بِمِنًى، وَيَنْفِرُونَ بَعْدَهُ النَّفْرَيْنِ، فِي الثَّانِي عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ. وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي «الْحَاوِي» قَوِيٌّ. وَدَعْوَى الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ شُهْرَتَهُ عِنْدَ غَيْرِ الْفُقَهَاءِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ لَا تُقْبَلُ، بَلْ رُبَّمَا لَا يَعْرِفُ الْقَرَّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَفَقِّهِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ أَجَّلَا إِلَى سَنَّةٍ أَوْ سِنِينَ مُطْلَقَةٍ، حُمِلَ عَلَى الْهِلَالِيَّةِ. فَإِنْ قُيِّدَ بِالرُّومِيَّةِ، أَوِ الْفَارِسِيَّةِ، أَوِ الشَّمْسِيَّةِ، أَوِ الْعَدَدِيَّةِ. وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا تَقَيَّدَ. وَكَذَا مُطْلَقُ الْأَشْهُرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَشْهُرِ الْهِلَالِيَّةِ. ثُمَّ إِنْ جَرَى الْعَقْدُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، اعْتُبِرَ الْجَمِيعُ بِالْأَهِلَّةِ، تَامَّةً كَانَتْ أَوْ نَاقِصَةً. وَإِنْ جَرَى بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الشَّهْرِ، عُدَّ بِاقِيهِ بِالْأَيَّامِ، وَاعْتُبِرَتِ الشُّهُورُ بَعْدَهُ بِالْأَهِلَّةِ، ثُمَّ يُتَمَّمُ الْمُنْكَسِرُ بِثَلَاثِينَ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِذَا انْكَسَرَ شَهْرٌ، اعْتُبِرَ جَمِيعُ الشُّهُورِ بِالْعَدَدِ. وَضَرَبَ الْإِمَامُ مَثَلًا لِلتَّأْجِيلِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مَعَ الِانْكِسَارِ فَقَالَ: عَقَدَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ صَفَرٍ لَحْظَةٌ، وَنَقَصَ الرَّبِيعَانِ وَجُمَادَى، فَيُحْسَبُ الرَّبِيعَانِ بِالْأَهِلَّةِ، وَيُضَمُّ جُمَادَى إِلَى اللَّحْظَةِ مِنْ صَفَرٍ، وَيُكَمَّلُ جُمَادَى

الْآخِرَةُ بِيَوْمٍ إِلَّا لَحْظَةً. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ: كُنْتُ أَوَدُّ أَنَّ يُكْتَفَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهَا جَرَتْ عَرَبِيَّةً كَوَامِلَ. وَمَا تَمَنَّاهُ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرُهُ، وَقَطَعُوا بِحُلُولِ الْأَجَلِ بِانْسِلَاخِ جُمَادَى الْأُولَى. قَالُوا: وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْعَدَدُ إِذَا عُقِدَ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ: إِلَى يَوْمِ الْجُمْعَةِ، أَوْ إِلَى رَمَضَانَ، حَلَّ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، لِتَحَقُّقِ الِاسْمِ. وَرُبَّمَا يُقَالُ: بِانْتِهَاءِ لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ، وَبِانْتِهَاءِ شَعْبَانَ، وَهُمَا بِمَعْنًى، وَلَوْ قَالَ: مَحَلُّهُ فِي الْجُمْعَةِ، أَوْ فِي رَمَضَانَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْيَوْمَ ظَرْفًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَيُحْمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ. قُلْتُ: كَذَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ. إِذَا قَالَ فِي يَوْمِ كَذَا، أَوْ شَهْرِ كَذَا، أَوْ سَنَةِ كَذَا، لَا يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَوَّوْا بَيْنَهُمَا، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ فِي الْعَدِّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَصِحُّ فِي يَوْمِ كَذَا دُونَ الشَّهْرِ، وَجَعَلَ صَاحِبُ الْحَاوِي هَذِهِ الصُّوَرَ عَلَى مَرَاتِبَ، فَقَالَ: مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: يَبْطُلُ فِي السَّنَةِ دُونَ الشَّهْرِ، قَالَ: فَأَمَّا الْيَوْمُ فَالصَّحِيحُ فِيهِ الْجَوَازُ لِقُرْبِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ. وَالْأَصَحُّ الْمُعْتَمَدُ قَدَّمْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: إِلَى أَوَّلِ رَمَضَانَ أَوْ آخِرِهِ بَطَلَ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَوِ الْأَخِيرِ. قَالَ الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ نِصْفٍ، كَمَسْأَلَةِ النَّفَرِ، وَكَالْيَوْمِ وَالشَّهْرِ، يُحْمَلُ عَلَى أَوَّلِهِمَا، وَكَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ.

فَرْعٌ لَوْ أَسْلَمَ فِي جِنْسٍ إِلَى أَجَلَيْنِ، أَوْ جِنْسَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، صَحَّ عَلَى الْأَظْهَرِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ السَّلَمِ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ بَيْعٍ كَمَا سَبَقَ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِهِ. وَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ الْحَالِّ فِي الْحَالِ، وَفِي السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ عِنْدَ الْمَحَلِّ. فَلَوْ أَسْلَمَ فِي مُنْقَطِعٍ لَدَى الْمَحَلِّ، كَالرُّطَبِ فِي الشِّتَاءِ، أَوْ فِيمَا يَعِزُّ وُجُودُهُ كَالصَّيْدِ حَيْثُ يَعِزُّ لَمْ يَصِحَّ. فَلَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ وَجُودُهُ لَكِنْ لَا يُحَصِّلُهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، كَالْقَدْرِ الْكَثِيرِ فِي الْبَاكُورَةِ، فَوَجْهَانِ. أَقْرَبُهُمَا إِلَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ: الْبُطْلَانُ. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ لَا يُوجَدُ بِبَلَدِهِ وَيُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَ: وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، وَإِنَّمَا التَّقْرِيبُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ يُعْتَادُ نَقْلُهُ إِلَيْهِ فِي غَرَضِ الْمُعَامَلَةِ، لَا لِلتُّحَفِ وَالْمُصَادَرَاتِ صَحَّ السَّلَمُ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَامَّ الْوُجُودِ عِنْدَ الْمَحَلِّ، فَلَا بَأْسَ بِانْقِطَاعِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَإِنْ أَسْلَمَ فِيمَا يَعُمُّ، ثُمَّ انْقَطَعَ عِنْدَ الْمَحَلِّ لِجَائِحَةٍ فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا، بَلْ يَتَخَيَّرُ الْمُسْلِمُ، فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ إِلَى وُجُودِهِ. وَلَا فَرْقَ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ أَنْ لَا يُوجَدَ عِنْدَ الْمَحَلِّ أَصْلًا، أَوْ وُجِدَ فَسَوَّفَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ حَتَّى انْقَطَعَ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى. أَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا يَنْفَسِخُ فِيهَا قَطْعًا بِحَالٍ، فَإِنْ أَجَازَ ثُمَّ بَدَا لَهُ، مُكِّنَ مِنَ الْفَسْخِ كَزَوْجَةِ الْمَوْلَى إِذَا رَضِيَتْ ثُمَّ أَرَادَتِ الْمُطَالَبَةَ، كَانَ لَهَا ذَلِكَ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» فِي بَابِ التَّفْلِيسِ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ هَذَا الْخِيَارَ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ لَا؟ كَالْوَجْهَيْنِ فِي خِيَارِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ بِالْإِفْلَاسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ صَرَّحَ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْفَسْخِ لَمْ يَسْقُطْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ: لَا تَصْبِرْ وَخُذْ رَأْسَ مَالِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ حَلَّ الْأَجَلُ بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْدُومٌ جَرَى الْقَوْلَانِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحَلِّ وَتَأَخَّرَ التَّسْلِيمُ لِغَيْبَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، ثُمَّ حَضَرَ وَقَدِ انْقَطَعَ بَعْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي بَابِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَوْ أَسْلَمَ فِيمَا يَعُمُّ عِنْدَ الْمَحَلِّ، فَعَرَضَتْ آفَةٌ عُلِمَ بِهَا انْقِطَاعُ الْجِنْسِ عَنِ الْمَحَلِّ، فَهَلْ يَتَنَجَّزُ حُكْمَ الِانْقِطَاعِ فِي الْحَالِ، أَمْ يَتَأَخَّرُ إِلَى الْمَحَلِّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. فَرْعٌ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الِانْقِطَاعُ فَإِذَا لَمْ يُوجَدُ الْمُسْلَمُ فِيهِ أَصْلًا، بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ يَنْشَأُ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَأَصَابَهُ جَائِحَةٌ مُسْتَأْصِلَةٌ، فَهَذَا انْقِطَاعٌ حَقِيقِيٌّ. وَلَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، لَكِنْ يَفْسُدُ بِنَقْلِهِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا عِنْدَ قَوْمٍ امْتَنَعُوا مِنْ بَيْعِهِ، فَهُوَ انْقِطَاعٌ. وَلَوْ كَانُوا يَبِيعُونَهُ بِثَمَنٍ غَالٍ فَلَيْسَ بِانْقِطَاعٍ، بَلْ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ. وَلَوْ أَمْكَنَ نَقْلُهُ وَجَبَ إِنْ كَانَ قَرِيبًا. وَفِيمَا يُضْبَطُ بِهِ الْقُرْبُ خِلَافٌ، نَقَلَ فِيهِ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ فِي آخَرِينَ وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ نَقْلُهُ مِمَّا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. وَالثَّانِي: مِنْ مَسَافَةٍ لَوْ خَرَجَ إِلَيْهَا بُكْرَةً أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ إِلَى أَهْلِهِ لَيْلًا. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا اعْتِبَارَ لِمَسَافَةِ الْقَصْرِ. فَإِنْ أَمْكَنَ النَّقْلُ عَلَى عُسْرٍ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ قَطْعًا. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: بَيَانُ مَحَلِّ التَّسْلِيمِ، فِي اشْتِرَاطِ بَيَانِ مَكَانِ تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ الْمُؤَجَّلِ اخْتِلَافُ نَصٍّ وَطُرُقٍ لِلْأَصْحَابِ. أَحَدُهَا: فِيهِ قَوْلَانِ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: إِنْ عَقَدَا فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لِلتَّسْلِيمِ لَمْ يُشْتَرَطِ التَّعْيِينُ، وَإِلَّا اشْتُرِطَ. وَالثَّالِثُ:

إِنْ كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ اشْتُرِطَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالرَّابِعُ: إِنْ لَمْ يَصْلُحِ الْمَوْضِعُ اشْتُرِطَ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. وَالْخَامِسُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ لَمْ يُشْتَرَطْ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. وَالسَّادِسُ: إِنْ كَانَ لَهُ مُؤْنَةٌ اشْتُرِطَ. وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا أَصَحُّ الطُّرُقِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ. وَالْمَذْهَبُ الَّذِي يُفْتَى بِهِ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: وُجُوبُ التَّعْيِينِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَوْضِعُ صَالِحًا، أَوْ كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَمَتَى شَرَطْنَا التَّعْيِينَ فَتَرَكَاهُ بَطَلَ الْعَقْدُ. وَإِنْ لَمْ نَشْرُطْهُ فَعُيِّنَ تَعَيَّنَ. وَعِنْدَ الطَّلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى مَكَانِ الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي التَّتِمَّةِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ سَلَّمَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ صَالِحٍ شَاءَ. وَحَكَى وَجْهًا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَوْضِعُ صَالِحًا لِلتَّسْلِيمِ حُمِلَ عَلَى أَقْرَبِ مَوْضِعٍ صَالِحٍ. وَلَوْ عَيَّنَ مَوْضِعًا فَخَرِبَ، وَخَرَجَ عَنْ صَلَاحِيَةِ التَّسْلِيمِ فَأَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ. وَالثَّانِي: لَا وَلِلْمُسْلِمِ الْخِيَارُ. وَالثَّالِثُ: يَتَعَيَّنُ أَقْرَبُ مَوْضِعٍ صَالِحٍ. قُلْتُ: الثَّالِثُ أَقْيَسُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا السَّلَمُ الْحَالُّ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ، كَالْبَيْعِ. وَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ، لَكِنْ لَوْ عَيَّنَا غَيْرَهُ جَازَ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ; لَأَنَّ السَّلَمَ يَقْبَلُ التَّأْجِيلَ، فَقَبِلَ شَرْطًا يَتَضَمَّنُ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ. وَالْأَيْمَانُ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْجِيلَ، فَلَا تَحْتَمِلُ مَا يَتَضَمَّنُ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَلَا نَعْنِي بِمَكَانِ الْعَقْدِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِعَيْنِهِ، بَلْ تِلْكَ النَّاحِيَةَ. وَحُكْمُ الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ حُكْمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَهُوَ كَالْمَبِيعِ. قُلْتُ: قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ وَالْأُجْرَةُ إِذَا كَانَتْ دَيْنًا، وَكَذَا الصَّدَاقُ، وَعِوَضُ الْخُلْعِ، وَالْكِتَابَةُ، وَمَالُ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَكُلُّ عِوَضٍ مُلْتَزَمٍ فِي الذِّمَّةِ لَهُ حُكْمُ السَّلَمِ فِي الْحَالِّ، إِنْ عُيِّنَ لِلتَّسْلِيمِ مَكَانٌ جَازَ، وَإِلَّا تَعَيَّنَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْأَعْوَاضِ الْمُلْتَزَمَةِ فِي الذِّمَّةِ تَقْبَلُ التَّأْجِيلَ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْعِلْمُ بِالْمِقْدَارِ، وَالْعِلْمُ يَكُونُ بِالْكَيْلِ، أَوِ الْوَزْنِ، أَوِ الذَّرْعِ، أَوِ الْعَدِّ. وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمَكِيلِ وَزْنًا، وَفِي الْمَوْزُونِ كَيْلًا إِذَا تَأَتَّى كَيْلُهُ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَا يَجُوزُ فِي الْمَوْزُونِ كَيْلًا، وَحَمَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِطْلَاقَ الْأَصْحَابِ جَوَازَ كَيْلِ الْمَوْزُونِ عَلَى مَا يُعَدُّ الْكَيْلُ فِي مِثْلِهِ ضَابِطًا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فِي فُتَاتِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَنَحْوِهِمَا كَيْلًا لَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا الْبِطِّيخُ، وَالْقِثَّاءُ، وَالْبُقُولُ، وَالسَّفَرْجَلُ، وَالرُّمَّانُ، وَالْبَاذِنْجَانُ، وَالرَّانِجُ، وَالْبَيْضُ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهَا الْوَزْنُ. وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَزْنًا، إِذَا لَمْ تَخْتَلِفُ قُشُورُهُ غَالِبًا، وَيَجُوزُ كَيْلًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَذَا الْفُسْتُقُ وَالْبُنْدُقُ. فَصْلٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبِطِّيخَةِ، والسَّفَرْجَلَةِ، وَلَا فِي عَدَدٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ حَجْمِهَا وَوَزْنِهَا، وَذَلِكَ يُورِثُ عَزَّةَ الْوُجُودِ. وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ وَصَفَهُ، وَقَالَ: وَزْنُهُ كَذَا، أَوْ فِي مِائَةِ صَاعٍ حِنْطَةً عَلَى أَنَّ وَزْنَهَا كَذَا، لَا يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ ذَكَرَ وَزْنَ الْخَشَبِ مَعَ صِفَاتِهِ الْمَشْرُوطَةِ، جَازَ ; لِأَنَّهُ إِنْ زَادَ، أَمْكَنَ نَحْتُهُ. وَأَمَّا اللَّبِنُ، فَيَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْعَدَدِ وَالْوَزْنِ. فَيَقُولُ: كَذَا لَبِنَةٍ، وَزْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ كَذَا؛ لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَعِزُّ، ثُمَّ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى التَّقْرِيبِ. قُلْتُ: هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُّونَ يُشْتَرَطُ فِي اللَّبِنِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَدَدِ وَالْوَزْنِ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْعِرَاقِيُّونَ أَوْ مُعْظَمُهُمُ الْوَزْنَ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي آخِرِ كِتَابِ السَّلَمِ مِنَ الْأُمِّ عَلَى أَنَّ الْوَزْنَ فِيهِ مُسْتَحَبٌّ، لَوْ تَرَكَهُ فَلَا بَأْسَ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَذْكُرَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَثَخَانَتَهُ، وَأَنَّهُ مِنْ طِينٍ مَعْرُوفٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ لَوْ عُيِّنَ لِلْكَيْلِ مَالًا يُعْتَادُ الْكَيْلُ بِهِ، كَالْكُوزِ، بَطَلَ السَّلَمُ. وَلَوْ قَالَ فِي الْبَيْعِ: بِعْتُكَ مِلْءَ هَذَا الْكُوزِ مِنْ هَذِهِ الصَّبِرَةِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِعَدَمِ الْغَرَرِ. وَلَوْ عُيِّنَ فِي الْبَيْعِ أَوِ السَّلَمِ مِكْيَالًا مُعْتَادًا لَمْ يَفْسَدِ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ، بَلْ يَلْغُو تَعْيِينُهُ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا غَرَضَ فِيهَا. وَهَلِ السَّلَمُ الْحَالُّ كَالْمُؤَجَّلِ، أَمْ كَالْبَيْعِ؟ وَجْهَانِ. قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، بِأَنَّهُ كَالْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْ أَصْدَقَهَا مِلْءَ هَذِهِ الْجَرَّةِ خَلًّا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَنْكَسِرُ، فَلَا يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ، فَكَذَا هُنَا. وَلَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ فِي ثَوْبٍ كَهَذَا الثَّوْبِ، أَوْ مِائَةَ صَاعٍ حِنْطَةً كَهَذِهِ الْحِنْطَةِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: لَا يَصِحُّ كَمَسْأَلَةِ الْكُوزِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحِنْطَةَ وَالثَّوْبَ قَدْ يَتْلَفَانِ. وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : يَصِحُّ وَيَقُومُ مَقَامَ الْوَصْفِ. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ وَصَفَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ آخَرَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، جَازَ إِنْ كَانَا ذَاكِرَيْنِ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ. فَرْعٌ لَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ نَاحِيَةٍ، أَوْ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ، نُظِرَ، إِنْ أَفَادَ تَنْوِيعًا كَمَعْقِلِيِّ الْبَصْرَةِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَعَ مَعْقِلِيِّ بَغْدَادَ صِنْفٌ [وَاحِدٌ] ، لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي الْأَوْصَافِ، فَلَهُ غَرَضٌ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يُفِدْ تَنْوِيعًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَتَعْيِينِ الْمِكْيَالِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ غَالِبًا. الشَّرْطُ السَّادِسُ: مَعْرِفَةُ الْأَوْصَافِ. فَذِكْرُ أَوْصَافِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْعَقْدِ، شَرْطٌ، فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيمَا لَا يَنْضَبِطُ أَوْصَافُهُ، أَوْ كَانَتْ تَنْضَبِطُ، فَتَرَكَا بَعْضَ مَا يَجِبُ

ذِكْرُهُ. ثُمَّ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يَشْتَرِطُ التَّعَرُّضَ لِلْأَوْصَافِ الَّتِي يَخْتَلِفُ بِهَا الْغَرَضُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ الْأَوْصَافَ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا الْقِيمَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ قَوِيًّا فِي الْعَمَلِ، أَوْ ضَعِيفًا، أَوْ كَاتِبًا، أَوْ أُمِّيًّا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْصَافٌ يَخْتَلِفُ بِهَا الْغَرَضُ وَالْقِيمَةُ، وَلَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهَا. وَلِتَعْذُّرِ الضَّبْطِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا: الِاخْتِلَاطُ، وَالْمُخْتَلِطَاتُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ. الْأَوَّلُ: الْمُخْتَلِطَاتُ الْمَقْصُودَةُ الْأَرْكَانِ، وَلَا يَنْضَبِطُ أَقْدَارُ أَخْلَاطِهَا، وَأَوْصَافُهَا، كَالْهَرِيسَةِ، وَمُعْظَمِ الْمَرَقِ، وَالْحَلْوَى، وَالْمَعْجُونَاتِ، وَالْغَالِيَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ الْمِسْكِ، وَالْعُودِ، وَالْعَنْبَرِ، وَالْكَافُورِ، وَالْقِسِيِّ، فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي الْخِفَافِ، وَالنِّعَالِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالتِّرْيَاقِ الْمَخْلُوطِ كَالْغَالِيَةِ. فَإِنْ كَانَ نَبَاتًا وَاحِدًا، أَوْ حَجَرًا، جَازَ السَّلَمُ فِيهِ. وَالنِّبْلُ بَعْدَ الْخَرْطِ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَقَبْلَهُمَا، يَجُوزُ، وَالْمَغَازِلُ كَالنِّبَالِ. الثَّانِي: الْمُخْتَلِطَاتُ الْمَقْصُودَةُ الْأَرْكَانِ، الَّتِي تَنْضَبِطُ أَقْدَارُهَا وَصِفَاتُهَا، كَثَوْبِ الْعِتَابِيِّ، وَالْخَزِّ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْإِبْرِيسَمِ، وَالْوَبَرِ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ لِسُهُولَةِ ضَبْطِهَا. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي الثَّوْبِ الْمَعْمُولِ عَلَيْهِ بِالْإِبْرَةِ بَعْدَ النَّسْجِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَصْلِ، كَالْإِبْرِيسَمِ عَلَى الْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، فَإِنْ كَانَ تَرْكِيبُهَا بِحَيْثُ لَا تَنْضَبِطُ أَرْكَانُهَا، فَهِيَ كَالْمَعْجُونَاتِ. الثَّالِثُ: الْمُخْتَلِطَاتُ الَّتِي لَا يُقْصَدُ مِنْهَا إِلَّا الْخَلِيطُ الْوَاحِدُ، كَالْخُبْزِ فِيهِ الْمِلْحُ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ. وَفِي السَّلَمِ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا يَصِحُّ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: الصِّحَّةُ. وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجُبْنِ، وَالْأَقِطِ، وَخَلِّ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالسَّمَكُ الَّذِي عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْمِلْحِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْجَمِيعِ، لِحَقَارَةِ أَخِلَاطِهَا. وَأَمَّا الْأَدْهَانُ الْمُطَيِّبَةُ، كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ، وَالْبَانِ، وَالْوَرْدِ، فَإِنْ خَالَطَهَا شَيْءٌ مِنْ جِرْمِ الطِّيبِ لَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِيهَا، وَإِنْ تَرَوَّحَ السِّمْسِمُ بِهَا وَاعْتُصِرَ، جَازَ. وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَخِيضِ الَّذِي يُخَالِطُهُ الْمَاءُ، نُصَّ عَلَيْهِ. وَفِي التَّتِمَّةِ: أَنَّ الْمَصْلَ كَالْمَخِيضِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِطُهُ الدَّقِيقُ.

الرَّابِعُ: الْمُخْتَلِطَاتُ خِلْقَةً، كَالشَّهْدِ، وَالْأَصَحُّ: صِحَّةُ السَّلَمِ فِيهِ، وَالشَّمْعُ فِيهِ كَنَوَى التَّمْرِ. وَيَجُوزُ فِي الْعَسَلِ وَالشَّمْعِ. فَرْعٌ سَبَقَ أَنَّ مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَالشَّيْءُ قَدْ يَنْدُرُ مِنْ حَيْثُ جَنْسِهِ، كَلَحْمِ الصَّيْدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَقَدْ يَنْدُرُ بِاسْتِقْصَاءِ الْأَوْصَافِ لِنُدُورِ اجْتِمَاعِهَا، فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّآلِئِ الْكِبَارِ، وَالْيَوَاقِيتِ، وَالزَّبَرْجَدِ، وَالْمَرْجَانِ، وَيَجُوزُ فِي اللَّآلِئِ الصِّغَارِ إِذَا عَمَّ وَجُودُهَا كَيْلًا وَوَزْنًا. قُلْتُ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّرْطِ الْخَامِسِ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّ مَا لَا يُعَدُّ الْكَيْلُ فِيهِ ضَبْطًا، لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ كَيْلًا، فَكَأَنَّهُ اخْتَارَ هُنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَصْحَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ الصَّغِيرِ، فَقِيلَ: مَا يُطْلَبُ لِلتَّدَاوِي، صَغِيرٌ، وَمَا طُلِبَ لِلزِّينَةِ، كَبِيرٌ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أَنَّ مَا وَزَنُهُ سُدُسُ دَيْنَارٍ، يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُطْلَبُ لِلتَّزَيُّنِ. وَالْوَجْهُ: أَنَّ اعْتِبَارَهُ السُّدُسَ لِلتَّقْرِيبِ. فَرْعٌ لَوْ أَسْلَمَ فِي الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا، أَوْ أُخْتِهَا، أَوْ عَمَّتِهَا، أَوْ شَاةٍ وَسَخْلَتِهَا لَمْ يَصِحَّ لِنُدُورِ اجْتِمَاعِهِمَا بِالصِّفَاتِ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَصْحَابُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الزِّنْجِيَّةِ الَّتِي لَا تَكْثُرُ صِفَاتُهَا، وَتَمْتَنِعُ فِيمَنْ تَكْثُرُ. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي عَبْدٍ وَجَارِيَةٍ، وَشَرَطَ كَوْنَهَ كَاتِبًا وَهِيَ مَاشِطَةٌ، جَازَ. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي الْجَارِيَةِ، وَشَرَطَ

فصل

كَوْنَهَا حَامِلًا، بَطَلَ السَّلَمُ فِي الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ، هَلْ لَهُ حُكْمٌ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، جَازَ، وَإِلَّا، فَلَا. لَوْ أَسْلَمَ فِي شَاةٍ لَبُونٍ، فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ أَجَابَ الْبَغَوِيُّ. فَصْلٌ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ. مِنْهَا، الرَّقِيقُ، فَإِذَا أَسْلَمَ فِيهِ، وَجَبَ التَّعَرُّضُ لِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: النَّوْعُ، فَيَذْكُرُ أَنَّهُ تُرْكِيٌّ أَوْ رُومِيٌّ، فَإِنِ اخْتَلَفَ صِنْفُ النَّوْعِ، وَجَبَ ذِكْرُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. الثَّانِي: اللَّوْنُ، فَيَذْكُرُ أَنَّهُ أَبْيَضُ أَوْ أَسْوَدُ، وَيَصِفُ الْبَيَاضَ بِالسُّمْرَةِ أَوِ الشُّقْرَةِ، وَالسَّوَادَ بِالصَّفَاءِ أَوِ الْكُدْرَةِ، هَذَا إِنِ اخْتَلَفَ لَوْنُ الصِّنْفِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ لَمْ يَجِبْ ذِكْرُ اللَّوْنِ. الثَّالِثُ: الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ. الرَّابِعُ: السِّنُّ، فَيَقُولُ: مُحْتَلِمٌ، أَوِ ابْنُ سِتٍّ، أَوْ سَبْعٍ، وَالْأَمْرُ فِي السِّنِّ عَلَى التَّقْرِيبِ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ كَوْنَهُ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ مَثَلًا بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ لِنُدُورِهِ. وَالرُّجُوعُ فِي الِاحْتِلَامِ، إِلَى قَوْلِ الْعَبْدِ. وَفِي السَّنِّ، يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ إِنْ كَانَ بَالِغًا، وَقَوْلُ سَيِّدِهِ إِنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا، فَالرُّجُوعُ إِلَى النَّخَّاسِينَ، فَتُعْتَبَرُ ظُنُونُهُمْ. الْخَامِسُ: الْقَدُّ، فَيُبَيِّنُ أَنَّهُ طَوِيلٌ، أَوْ قَصِيرٌ، أَوْ رَبْعٌ، وَنَقْلَ الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ الْقَدِّ. وَالْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ، الْقَطْعُ بِوُجُوبِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ وَصْفُ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ بِأَوْصَافِهِ الْمَقْصُودَةِ، وَإِنْ تَفَاوَتَ بِهِ الْغَرَضُ

وَالْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ غِرَّةً. وَفِي ذِكْرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَيُرَغِّبُ فِي الْأَرِقَّاءِ، كَالْكَحَلِ، وَالدَّعَجِ، وَتَكَلْثُمِ الْوَجْهِ، وَسِمَنِ الْجَارِيَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجِبُ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْمَلَاحَةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْكُرَ كَوْنَهُ مُفَلَّجَ الْأَسْنَانِ أَوْ غَيْرَهُ، وَجَعْدُ الشَّعْرِ أَوْ سَبْطُهُ. وَيَجِبُ ذِكْرُ الثِّيَابَةِ، وَالْبَكَارَةِ، عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ لَوْ شَرَطَ كَوْنَ الْعَبْدِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، جَازَ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَلَوْ شَرَطَ أَنَّهُ ذُو زَوْجَةٍ، أَوْ أَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ، جَازَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَنْدُرُ. قَالَ: وَلَوْ شَرَطَ كَوْنَهُ زَانِيًا، أَوْ قَاذِفًا، أَوْ سَارِقًا، جَازَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ كَوْنَ الْجَارِيَةِ مُغَنِّيَةً، أَوْ قَوَّادَةً، لَا يَصِحُّ. فَرْعٌ لَوْ أَسْلَمَ جَارِيَةً صَغِيرَةً فِي كَبِيرَةٍ، فَوَجْهَانِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهَا قَدْ تَكْبُرُ وَهِيَ بِالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، فَيُسَلِّمُهَا بَعْدَ أَنْ يَطَأَهَا، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى اقْتِرَاضِ الْجَوَارِي. وَالصَّحِيحُ: الْجَوَازُ، كَإِسْلَامِ صِغَارِ الْإِبِلِ فِي كِبَارِهَا. وَهَلْ يُمَكَّنُ مِنْ تَسْلِيمِهَا عَمَّا عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُمَكَّنُ، فَلَا مُبَالَاةَ بِالْوَطْءِ كَوَطْءِ

فصل

الثَّيِّبِ، وَرَدِّهَا بِالْعَيْبِ. وَمِنْهَا الْإِبِلُ، وَيَجِبُ فِيهَا ذِكْرُ الْأُنُوثَةِ، وَالذُّكُورَةِ، وَالسَّنِّ، وَاللَّوْنِ، وَالنَّوْعِ، فَيَقُولُ: مِنْ نَعَمِ بَنِي فُلَانٍ وَنِتَاجِهِمْ، هَذَا إِذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ وَعُرِفَ لَهُمُ النِّتَاجُ، كَبَنِي تَمِيمٍ. فَأَمَّا النِّسْبَةُ إِلَى طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ، فَكَتَعْيِينِ ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ. وَلَوِ اخْتَلَفَ نَعَمُ بَنِي فُلَانٍ، فَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينَ. وَمِنْهَا الْخَيْلُ، فَيَجِبُ ذِكْرُ مَا يَجِبُ فِي الْإِبِلِ. وَلَوْ ذَكَرَ مَعَهَا الشِّيَاتِ كَالْأَغَرِّ، وَالْمُحَجَّلِ، وَاللَّطِيمِ، كَانَ أَوْلَى. فَإِنْ تَرَكَهُ، جَازَ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ. وَمَا لَا يَبِينُ نَوْعُهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى قَوْمٍ، يَبِينُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى بَلَدٍ وَغَيْرِهِ. وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الطُّيُورِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ. وَفِي الْمُهَذَّبِ: لَا يَجُوزُ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، وَصَفَ مِنْهَا النَّوْعَ، وَالصِّغَرَ، وَالْكِبَرَ مِنْ حَيْثُ الْجُثَّةِ، وَلَا يَكَادُ يَعْرِفُ سِنَّهَا. فَإِنْ عَرَفَ، وَصَفَ بِهِ. وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي السَّمَكِ وَالْجَرَادِ حَيًّا وَمَيِّتًا عِنْدَ عُمُومِ الْوُجُودِ، وَيُوصَفُ كُلُّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ. فَصْلٌ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ جَائِزٌ، وَيَجِبُ فِيهِ بَيَانُ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: الْجِنْسُ، كَلَحْمِ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ. الثَّانِي: النَّوْعُ. فَيَقُولُ: لَحْمُ بَقَرٍ عِرَابٍ أَوْ جَوَامِيسَ، وَضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ. الثَّالِثُ: ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، خَصِيٌّ أَوْ فَحْلٌ. الرَّابِعُ: السِّنُّ، فَيَقُولُ: لَحْمٌ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ، وَمِنَ الصَّغِيرِ، رَضِيعٌ أَوْ فَطِيمٌ. وَمِنَ الْكَبِيرِ، جَذَعٌ أَوْ ثَنِيٌّ.

الْخَامِسُ: يُبَيِّنُ أَنَّهُ مِنْ رَاعِيَةٍ أَوْ مَعْلُوفَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا أَكْتَفِي بِالْعَلَفِ بِالْمَرَّةِ وَالْمَرَّاتِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مَبْلَغٍ يُؤَثِّرُ فِي اللَّحْمِ. السَّادِسُ: يُبَيِّنُ أَنَّهُ منَ الْفَخِذِ، أَوِ الْكَتِفِ أَوِ الْجَنْبِ. وَفِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ، أَمْرٌ سَابِعٌ، وَهُوَ بَيَانُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ. وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْأَعْجَفِ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ، وَشَرْطُهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ. وَيَجُوزُ فِي اللَّحْمِ الْمُمَلَّحِ، وَالْقَدِيدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُمَلَّحِ. فَإِنْ كَانَ، فَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ فِي نَظِيرِهِ. ثُمَّ إِذَا أَطْلَقَ السَّلَمَ فِي اللَّحْمِ، وَجَبَ قَبُولُ مَا فِيهِ مِنَ الْعَظْمِ عَلَى الْعَادَةِ. وَإِنْ شَرَطَ نَزْعَهُ، جَازَ وَلَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ. فَرْعٌ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الشَّحْمِ، وَالْأَلْيَةِ، وَالْكَبِدِ، وَالطِّحَالِ، وَالْكُلْيَةِ، وَالرِّئَةِ. فَرْعٌ إِذَا أَسْلَمَ فِي لَحْمِ صَيْدٍ، ذَكَرَ مَا يَجِبُ فِي سَائِرِ اللُّحُومِ. لَكِنَّ الصَّيْدَ لَا يَكُونُ خَصِيًّا، وَلَا مَعْلُوفًا، فَلَا يَجِبُ ذِكْرُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ: يُبَيِّنُ أَنَّهُ صِيدَ بِأُحْبُولَةٍ، أَوْ بِسَهْمٍ، أَوْ بِجَارِحَةٍ، وَأَنَّهَا كَلْبٌ، أَوْ فَهْدٌ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْكَلْبِ أَطْيَبُ. فَرْعٌ فِي لَحْمِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ يُبَيِّنُ الْجِنْسَ، وَالنَّوْعَ، وَالصِّغَرَ، وَالْكِبَرَ مِنْ حَيْثُ الْجُثَّةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، إِلَّا إِذَا أَمْكَنَ التَّمْيِيزُ، وَتَعَلَّقَ

فصل

بِهِ غَرَضٌ. وَيُبَيِّنُ مَوْضِعَ اللَّحْمِ إِذَا كَانَ الطَّيْرُ وَالسَّمَكُ كَبِيرَيْنِ. وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلِ مِنَ الطَّيْرِ، وَالذَّنَبِ مِنَ السَّمَكِ. فَصْلٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ وَالْمَشْوِيِّ، وَلَا فِي الْخُبْزِ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ. وَفِي الدِّبْسِ، وَالْعَسَلِ الْمُصَفَّى بِالنَّارِ، وَالسُّكَّرِ، وَالْفَانِيذِ، وَاللِّبَأِ، وَجْهَانِ، وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ الْمَنْعَ فِيهَا كُلِّهَا. قُلْتُ: وَمِمَّنِ اخْتَارَ الصِّحَّةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَرَدَّدَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» فِي السَّلَمِ فِي الْمَاءِ، وَرُدَّ لِاخْتِلَافِ تَأْثِيرِ النَّارِ فِيمَا يَتَصَعَّدُ وَيَقْطُرُ، وَلَا عِبْرَةَ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ، فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْعَسَلِ الْمُصَفَّى بِالشَّمْسِ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي رُءُوسِ الْحَيَوَانِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَالْأَكَارِعُ كَالرُّءُوسِ. قُلْتُ: فَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فِي الْأَكَارِعِ، فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَقُولَ: مِنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ جَوَّزْنَا، فَلَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ. أَنْ تَكُونَ نِيئَةً، وَأَنْ تَكُونَ مُنَقَّاةً مِنَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ، وَيُسَلَّمُ فِيهَا وَزْنَا، فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا.

فصل

فَصْلٌ يَذْكُرُ فِي التَّمْرِ النَّوْعَ، فَيَقُولُ: مَعْقِلِيٌّ أَوْ بُرْنِيٌّ، وَالْبَلَدَ، فَيَقُولُ: بَغْدَادِيٌّ، وَاللَّوْنَ، وَصِغَرَ الْحَبَّاتِ، وَكِبَرَهَا، وَكَوْنَهُ جَدِيدًا، أَوْ عَتِيقًا. وَالْحِنْطَةِ، وَسَائِرِ الْحُبُوبِ، كَالتَّمْرِ. وَفِي الرُّطَبِ، يَذْكُرُ جَمِيعَ ذَلِكَ، إِلَّا الْجَدِيدَ وَالْعَتِيقَ. قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» يَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الرُّطَبِ دُونَ الْحِنْطَةِ وَالْحُبُوبِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَفِي الْعَسَلِ، يَذْكُرُ أَنَّهُ جَبَلِيٌّ، أَوْ بَلَدِيٌّ، صَيْفِيٌّ أَوْ خَرِيفِيٌّ، أَوْ أَصْفَرُ أَوْ أَبْيَضُ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْجَدِيدِ وَالْعَتِيقِ، وَيُقْبَلُ مَا رَقَّ بِسَبَبِ الْحَرِّ، وَلَا يُقْبَلُ مَا رَقَّ رِقَّةَ عَيْبٍ. فَصْلٌ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبَنِ، وَيُبَيِّنُ فِيهِ مَا يُبَيِّنُ فِي اللَّحْمِ، سِوَى الْأَمْرِ الثَّالِثِ وَالسَّادِسِ، وَيُبَيِّنُ نَوْعَ الْعَلَفِ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ اللَّوْنِ وَالْحَلَاوَةِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْحُلْوِ، بَلْ لَوْ أَسْلَمَ فِي اللَّبَنِ الْحَامِضِ لَمْ يَجُزْ، لَأَنَّ الْحُمُوضَةَ عَيْبٌ. وَإِذَا أَسْلَمَ فِي لَبَنِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا بَقِيَ حُلْوًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَإِذَا أَسْلَمَ فِي السَّمْنِ، يُبَيِّنُ مَا يُبَيِّنُ فِي اللَّبَنِ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ أَبْيَضُ، أَوْ أَصْفَرُ. وَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا بَلِ الْعَتِيقُ مَعِيبٌ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: الْعَتِيقُ الْمُتَغَيِّرُ هُوَ الْمَعِيبُ، لَا كُلُّ عَتِيقٍ، فَيَجِبُ بَيَانُهُ. وَفِي الزُّبْدِ يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُ فِي السَّمْنِ، وَأَنَّهُ زُبْدُ يَوْمِهِ أَوْ أَمْسِهِ. وَيَجُوزُ فِي اللَّبَنِ كَيْلًا وَوَزْنًا، لَكِنْ لَا يُكَالُ حَتَّى تَسْكُنَ رَغْوَتُهُ، وَيُوزَنُ قَبْلَ سُكُونِهَا. وَالسَّمْنُ يُكَالُ وَيُوزَنُ، إِلَّا إِذَا كَانَ جَامِدًا يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ،

فصل

فَيَتَعَيَّنُ الْوَزْنُ، وَلَيْسَ فِي الزُّبْدِ إِلَا الْوَزْنُ، وَكَذَا اللِّبَأُ الْمُجَفَّفُ، وَقَبْلَ الْجَفَافِ، هُوَ كَاللَّبَنِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا السَّلَمَ فِي الْجُبْنِ، وَجَبَ بَيَانُ نَوْعِهِ وَبَلَدِهِ، وَأَنَّهُ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ. وَأَمَّا الْمَخِيضُ الَّذِي فِيهِ مَاءٌ، فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَاءٌ، جَازَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَضُرُّ وَصْفُ الْحُمُوضَةِ ; لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ فِيهِ. فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ فِي الصُّوفِ، قَالَ: صُوفُ بَلَدِ كَذَا، وَذَكَرَ لَوْنَهُ وَطُولَهُ وَقِصَرَهُ، وَأَنَّهُ خَرِيفِيٌّ أَوْ رَبِيعِيٌّ، مِنْ ذُكُورٍ أَوْ إِنَاثٍ ; لِأَنَّ صُوفَ الْإِنَاثِ أَشَدُّ نُعُومَةً. وَاسْتَغْنَوْا بِذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللِّينِ وَالْخُشُونَةِ، وَلَا يُقْبَلُ إِلَّا خَالِصًا مِنَ الشَّوْكِ وَالْبَعْرِ، فَإِنْ شَرَطَ كَوْنَهُ مَغْسُولًا، جَازَ، إِلَّا أَنْ يَعِيبَهُ الْغَسْلُ. وَالشَّعْرُ وَالْوَبَرُ، كَالصُّوفِ، وَيُضْبَطُ الْجَمِيعُ وَزْنًا. فَصْلٌ يُبَيِّنُ فِي الْقُطْنِ بَلَدَهُ، وَلَوْنَهُ، وَكَثْرَةَ لَحْمِهِ، وَقِلَّتَهُ، وَالْخُشُونَةَ، وَالنُّعُومَةَ، وَكَوْنَهُ عَتِيقًا أَوْ جَدِيدًا إِنِ اخْتَلَفَ الْغَرَضُ بِهِ، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْجَافِّ وَعَلَى مَا فِيهِ الْحَبُّ. وَيَجُوزُ فِي الْحَلِيجِ، وَفِي حَبِّ الْقُطْنِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْقُطْنِ فِي الْجَوْزَقِ قَبْلَ التَّشَقُّقِ. وَأَمَّا بَعْدَهُ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ يَجُوزُ. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِاسْتِتَارِ الْمَقْصُودِ بِمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَطْلَقَ الْعِرَاقِيُّونَ حِكَايَتَهُ عَنِ النَّصِّ.

فصل

فَصْلٌ يُبَيِّنُ فِي الْإِبْرِيسَمِ لَوْنَهُ، وَبَلَدَهُ، وَدِقَّتَهُ، وَغِلَظَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْخُشُونَةِ وَالنُّعُومَةِ، وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْقَزِّ وَفِيهِ الدُّودُ، لَا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ وَزْنِ الْقَزِّ. وَبَعْدَ خُرُوجِ الدُّودِ، يَجُوزُ. فَصْلٌ وَإِذَا أَسْلَمَ فِي الْغَزْلِ، ذَكَرَ مَا يُذْكَرُ فِي الْقُطْنِ، وَيَذْكُرُ الدِّقَّةَ وَالْغِلَظَ. وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي غَزْلِ الْكَتَّانِ، وَيَجُوزُ شَرْطُ كَوْنِهِ مَصْبُوغًا، وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ الصَّبْغِ. فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ فِي الثِّيَابِ، ذَكَرَ جِنْسَهَا مِنْ إِبْرِيسَمٍ، أَوْ قُطْنٍ، أَوْ كَتَّانٍ، وَالنَّوْعَ، وَالْبَلَدَ الَّذِي يُنْسَجُ فِيهِ إِنِ اخْتَلَفَ بِهِ الْغَرَضُ، وَقَدْ يُغْنِي ذِكْرُ النَّوْعِ عَنْهُ، وَعَنِ الْجِنْسِ أَيْضًا، وَيُبَيِّنُ الطُّولَ، وَالْعَرْضَ، وَالْغِلَظَ، وَالدِّقَّةَ، وَالنُّعُومَةَ، وَالْخُشُونَةَ، وَيَجُوزُ فِي الْمَقْصُودِ، وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَامِ. وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَلْبُوسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ. وَيَجُوزُ فِيمَا صُبِغَ غَزْلُهُ قَبْلَ النَّسْجِ، كَالْبُرُودِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَصْبُوغُ بَعْدَ النَّسْجِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ، قَالَهُ طَائِفَةٌ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَصَاحِبُ «الْحَاوِي» ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْقُمُصِ، وَالسَّرَاوِيلَاتِ، إِذَا ضُبِطَتْ طُولًا وَعَرْضًا، وَسِعَةً وَضِيقًا.

فصل

فَصْلٌ الْخَشَبُ أَنْوَاعٌ. مِنْهَا الْحَطَبُ، فَيَذْكُرُ نَوْعَهُ، وَغِلَظَهُ، وَدِقَّتَهُ، وَأَنَّهُ مِنْ نَفْسِ الشَّجَرِ، أَوْ أَغْصَانِهِ، وَوَزْنَهُ، وَلَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لِلرُّطُوبَةِ، وَالْجَافُّ، وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَفَافِ، وَيَجِبُ قَبُولُ الْمُعْوَجِّ، وَالْمُسْتَقِيمِ. وَمِنْهَا مَا يُطْلَبُ لِلْبِنَاءِ، كَالْجُذُوعِ، فَيَذْكُرُ النَّوْعَ، وَالطُّولَ، وَالْغِلَظَ، وَالدِّقَّةَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْوَزْنُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَشَرَطَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَلَوْ ذُكِرَ، جَازَ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ. وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَخْرُوطِ، لِاخْتِلَافِ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ. وَمِنْهَا مَا يُطْلَبُ لِيُغْرَسَ، فَيَذْكُرُ الْعَدَدَ، وَالنَّوْعَ، وَالطُّولَ، وَالْغِلَظَ. وَمِنْهَا مَا يُطْلَبُ لِيُتَّخَذَ مِنْهُ الْقِسِيُّ وَالسِّهَامُ، فَيَذْكُرُ فِيهِ النَّوْعَ، وَالدِّقَّةَ، وَالْغِلَظَ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهُ سَهْلِيًّا، أَوْ جَبَلِيًّا؛ لِأَنَّ الْجَبَلِيَّ أَصْلَحُ. وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ الْوَزْنَ فِيهِ، وَفِي خَشَبِ الْبِنَاءِ. فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ فِي الْحَدِيدِ، ذَكَرَ نَوْعَهُ، وَأَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، وَلَوْنَهُ، وَخُشُونَتَهُ، وَلِينَهُ. وَفِي الرَّصَاصِ يَذْكُرُ نَوْعَهُ مِنْ قَلْعٍ وَغَيْرِهِ. وَفِي الصُّفْرِ، مِنْ شَبَهٍ وَغَيْرِهِ، وَلَوْنَهُمَا، وَخُشُونَتَهُمَا، وَلِينَهُمَا، وَلَا بُدَّ مِنَ الْوَزْنِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. فَرْعٌ كُلُّ شَيْءٍ لَا يَتَأَتَّى وَزْنُهُ بِالْقَبَّانِ لِكِبَرِهِ، يُوزَنُ بِالْعَرْضِ عَلَى الْمَاءِ. قُلْتُ: قَدْ سَبَقَتْ كَيْفِيَّةُ الْوَزْنِ بِالْمَاءِ فِي بَابِ الرِّبَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا سَبَقَ إِحْدَاهَا: السَّلَمُ فِي الْمَنَافِعِ، كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، جَائِزٌ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ. الثَّانِيَةُ: السَّلَمُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، جَائِزٌ عَلَى الْأَصَحِّ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ غَيْرَهُمَا. قُلْتُ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْلَامُ الدَّرَاهِمِ فِي الدَّنَانِيرِ، وَلَا عَكْسُهُ سَلَمًا مُؤَجَّلًا. وَفِي الْحَالِ وَجْهَانِ مَحْكِيَّانِ فِي «الْبَيَانِ» وَغَيْرِهِ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» فِي مَوَاضِعَ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ بِشَرْطِ قَبْضِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ السَّلَمُ فِي أَنْوَاعِ الْعِطْرِ الْعَامَّةِ الْوُجُودِ، كَالْمِسْكِ، وَالْعَنْبَرِ، وَالْكَافُورِ، فَيَذْكُرُ وَزْنَهَا وَنَوْعَهَا فَيَقُولُ: عَنْبَرٌ أَشْهَبُ. الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الزُّجَاجِ، وَالطِّينِ، وَالْجِصِّ، وَالنَّوْرَةِ، وَحِجَارَةُ الْأَرْحِيَةِ، وَالْأَبْنِيَةِ، وَالْأَوَانِي، فَيَذْكُرُ نَوْعَهَا وَطُولَهَا وَعَرْضَهَا وَغِلَظَهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْوَزْنُ. قُلْتُ: عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْوَزْنِ فِي الْأَرْحِيَةِ، هُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْبَغَوِيُّ، وَآخَرُونَ، وَقَطَعَ الْغَزَالِيُّ بِاشْتِرَاطِهِ. وَادَّعَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحِبَابِ، وَالْكِيزَانِ، وَالطُّسُوتِ، وَالْقَمَاقِمِ، وَالطَّنَاجِيرِ

فصل

وَالْمَنَائِرِ، وَالْبِرَامِ الْمَعْمُولَةِ، لِنُدُورِ اجْتِمَاعِ الْوَزْنِ مَعَ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ. وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيمَا يُصَبُّ مِنْهَا فِي الْقَالَبِ، لِعَدَمِ اخْتِلَافِهِ، وَفِيَّ الْأَسْطَالِ الْمُرَبَّعَةِ. السَّادِسَةُ: يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْكَاغِدِ عَدَدًا، وَيُبَيِّنُ نَوْعَهُ وَطُولَهُ. وَيَجُوزُ فِي الْآجُرِّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَصِحُّ لِتَأْثِيرِ النَّارِ. وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْعَقَارِ، وَلَا فِي الْأُرْزِ، وَالْعَلْسِ، لِاسْتِتَارِهِمَا بِالْكِمَامِ، وَيَجُوزُ فِي الدَّقِيقِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَصْلٌ هَلْ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: يُشْتَرَطُ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا يُشْتَرَطُ، وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْجِيِّدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. قُلْتُ: قَوْلُهُ: ظَاهِرُ النَّصِّ، مِمَّا يُنْكَرُ عَلَيْهِ. فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ «الْأُمِّ» نَصًّا صَرِيحًا، وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَوَاءٌ قُلْنَا بِالِاشْتِرَاطِ، أَوْ شَرَطَا، يَنْزِلُ عَلَى أَقَلِّ الدَّرَجَاتِ. وَلَوْ شَرَطَ الْأَجْوَدَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ كَالْأَرْدَأِ. وَلَوْ شَرَطَا الرَّدَاءَةَ، فَإِنْ كَانَتْ رَدَاءَةَ الْعَيْبِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ. وَإِنْ كَانَتْ رَدَاءَةَ النَّوْعِ، فَقَالَ كَثِيرُونَ: يَصِحُّ. وَأَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ الْبُطْلَانَ. قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ بِالْبُطْلَانِ أَيْضًا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَالْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ نَصًّا صَرِيحًا فِي مَوَاضِعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ شَرَطَ الْأَرْدَأَ، جَازَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: الْأَصَحُّ.

فصل

فَرْعٌ يَنْزِلُ الْوَصْفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى أَقَلِّ دَرَجَاتِهِ. فَإِذَا أَتَى بِمَا يَقَعُ عَلَى اسْمِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ، كَفَى، وَوَجَبَ قَبُولُهُ ; لِأَنَّ الرُّتَبَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَهِيَ كَمَنْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ. فَصْلٌ صِفَاتُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَغَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَاقِدَيْنِ صِفَاتَهُ. فَإِنْ جَهِلَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، وَهَلْ يَكْفِي مَعْرِفَتُهُمَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، وَهُوَ مَنْصُوصٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ عَدْلَيْنِ لِيُرْجَعَ إِلَيْهِمَا عِنْدَ تَنَازُعِهِمَا. وَقِيلَ: تُعْتَبَرُ فِيهَا الِاسْتِفَاضَةُ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْمِكْيَالَ الْمَذْكُورَ إِلَّا عَدْلَانِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ الْآنَ، يُخَالِفُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي فِصْحِ النَّصَارَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَلَعَلَّ الْفَرْقَ، أَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ عَائِدَةٌ إِلَى الْأَجَلِ، وَهُنَا إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يَحْتَمِلَ هُنَاكَ مَا لَا يَحْتَمِلُ هُنَا. فَصْلٌ فِي أَدَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَالْكَلَامِ فِي صِفَتِهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ أَمَّا صِفَتُهُ، فَإِنْ أَتَى بِغَيْرِ جِنْسِهِ لَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ، إِذْ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ. وَإِنْ أَتَى بِجِنْسِهِ وَعَلَى صِفَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ، وَجَبَ قَبُولُهُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ أَجْوَدُ، جَازَ قَبُولُهُ قَطْعًا، وَوَجَبَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ أَرْدَأُ، جَازَ قَبُولُهُ وَلَمْ يَجِبْ. وَإِنْ أَتَى بِنَوْعٍ آخَرَ، بِأَنْ أَسْلَمَ فِي التَّمْرِ الْمَعْقِلِيِّ، فَأَحْضُرُ الْبَرْنِيُّ، أَوْ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ، فَأَتَى بِمَرْوِيٍّ، فَأَوْجُهٌ.

أَصَحُّهَا: يَحْرُمُ قَبُولُهُ. وَالثَّانِي: يَجِبُ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَتِ الصِّفَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ التُّرْكِيِّ وَالْهِنْدِيِّ، تَفَاوُتُ جِنْسٍ، أَمْ تَفَاوُتُ نَوْعٍ؟ وَالصَّحِيحُ: الثَّانِي. وَفِي أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ، وَبَيْنَ مَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَمَا سُقِيَ بِغَيْرِهِ، تَفَاوُتُ نَوْعٍ، أَوْ صِفَةٍ؟ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ مَا أَسْلَمَ فِيهِ كَيْلًا قَبَضَهُ كَيْلًا. وَمَا أَسْلَمَ فِيهِ وَزْنًا، قَبَضَهُ وَزْنًا وَلَا يَجُوزُ الْعَكْسُ. وَإِذَا كَالَ لَا يُزَلْزِلُ الْمِكْيَالَ، وَلَا يَضَعُ الْكَفَّ عَلَى جَوَانِبِهِ. وَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهِا نَقِيَّةً مِنَ الزُّوَانِ وَالْمَدَرِ وَالتُّرَابِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ قَلِيلٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَسْلَمَ كَيْلًا، جَازَ، وَإِنْ أَسْلَمَ وَزْنًا لَمْ يَجُزْ. قُلْتُ: هَكَذَا أَطْلَقَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : فِيمَا إِذَا أَسْلَمَ كَيْلًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِإِخْرَاجِ التُّرَابِ مُؤْنَةٌ، فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهَا. قَالَ فِي «الْبَيَانِ» دِقَاقُ التِّبْنِ كَالتُّرَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجِبُ تَسْلِيمُ التَّمْرِ جَافًّا، وَالرُّطَبِ صَحِيحًا غَيْرَ مُشَدَّخٍ. وَأَمَّا زَمَانُهُ: فَإِنْ كَانَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا لَمْ يَخْفَ أَنْهُ لَا مُطَالَبَةَ قَبْلَ الْمَحَلِّ. فَإِنْ أَتَى بِهِ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهِ، قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: إِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي الِامْتِنَاعِ، بِأَنْ كَانَ وَقْتَ نَهْبٍ، أَوْ كَانَ حَيَوَانًا يَحْتَاجُ عَلَفًا، أَوْ ثَمَرَةً، أَوْ لَحْمًا يُرِيدُ أَكْلَهَا عِنْدَ الْمَحَلِّ طَرِيًّا، أَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى مَكَانٍ لَهُ مُؤْنَةٌ، كَالْحِنْطَةِ وَشِبْهِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي الِامْتِنَاعِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُؤَدِّي غَرَضٌ سِوَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، بِأَنْ كَانَ بِهِ رَهْنٌ أَوْ كَفِيلٌ، أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ.

وَهَلْ يَلْحَقُ بِهَذِهِ الْأَعْذَارِ خَوْفُهُ مِنَ انْقِطَاعِ الْجِنْسِ قَبْلَ الْحُلُولِ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: يَلْحَقُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَدِّي غَرَضٌ سِوَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَقَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُجْبَرُ، وَإِنْ تَقَابَلَ غَرَضَاهُمَا، فَالْمَرْعِيُّ جَانِبُ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَكَسَ الْغَزَالِيُّ هَذَا التَّرْتِيبَ، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ. وَحُكْمُ سَائِرِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا حُكْمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ السَّلَمُ حَالًّا، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي الْحَالِ. فَلَوْ أَتَى بِهِ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهِ، فَإِنْ كَانَ لِلدَّافِعِ غَرَضٌ سِوَى الْبَرَاءَةِ، أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِلَّا، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ أَوِ الْإِبْرَاءِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَحَيْثُ ثَبَتَ الْإِجْبَارُ، فَلَوْ أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ، أَخْذَهُ الْحَاكِمُ لَهُ. وَأَمَّا مَكَانُهُ: فَإِذَا قُلْنَا: يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ، أَوْ قُلْنَا: لَا يَتَعَيَّنُ فَعَيَّنَاهُ، وَجَبَ التَّسْلِيمُ فِيهِ. فَلَوْ وَجَدَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَإِنْ كَانَ لِنَقْلِهِ مُؤْنَةٌ لَمْ يُطَالِبْ بِهِ. وَهَلْ يُطَالِبُ بِالْقِيمَةِ لِلْحَيْلُولَةِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ، فَعَلَى هَذَا، لِلْمُسْلِمِ الْفَسْخُ وَاسْتِرْدَادُ رَأْسِ الْمَالِ، كَمَا لَوِ انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِنَقْلِهِ مُؤْنَةٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِهِ، وَأَشَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى الْخِلَافِ فِيهِ. وَلَوْ ظَفَرَ الْمَالِكُ بِالْغَاصِبِ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْغَصْبِ أَوِ الْإِتْلَافِ، فَهَلْ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْمِثْلِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ: لَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ إِلَّا بِالْقِيمَةِ. وَلَوْ أَتَى الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فِي غَيْرِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ، فَامْتَنَعَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ أَخْذِهِ، فَإِنْ كَانَ لِنَقْلِهِ مُؤْنَةٌ، أَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ مُخَوِّفًا لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي التَّعْجِيلِ قَبْلَ الْمَحَلِّ. فَلَوْ رَضِيَ، وَأَخَذَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ مُؤْنَةَ النَّقْلِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: إِجْبَارُهُ. وَلَوِ اتَّفَقَ كَوْنُ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى صِفَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَأَحْضَرَهُ، فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ قَبُولُهُ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

باب القرض

بَابُ الْقَرْضِ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ. وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ. الْعَاقِدَانِ، وَالصِّيغَةُ، وَالشَّيْءُ الْمُقْرَضُ، فَلَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ. وَأَمَّا الصِّيغَةُ، فَالْإِيجَابُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَقْرَضْتُكَ، أَوْ أَسَلَّفْتُكَ، أَوْ خُذْهُ هَذَا بِمِثْلِهِ، أَوْ خُذْ هَذَا وَاصْرِفْهُ فِي حَوَائِجِكَ وَرَدَّ بَدَلَهُ، أَوْ مَلَّكْتُكَ عَلَى أَنْ تَرُدَّ بَدَلَهُ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى «مَلَّكْتُكَهُ» فَهُوَ هِبَةٌ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي ذِكْرِ الْبَدَلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآخِذِ. قُلْتُ: وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الدَّافِعِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ: أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى «مَلَّكْتُكَهُ» قَرْضٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْقَبُولُ، فَشَرْطٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَادَّعَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ عَدَمَ الِاشْتِرَاطِ أَصَحُّ. قُلْتُ: وَقَطَعَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِيجَابُ، وَلَا الْقَبُولُ، بَلْ إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: أَقْرِضْنِي كَذَا، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَالَ، صَحَّ الْقَرْضُ. وَكَذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، ثَبَتَ الْقَرْضُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمُقْرَضُ، فَالْمَالُ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، فَيَجُوزُ إِقْرَاضُهُ حَيَوَانًا كَانَ، أَوْ غَيْرَهُ. لَكِنْ إِنْ كَانَ جَارِيَةً، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ مُحَرَّمًا لِلْمُسْتَقْرِضِ، بِنَسَبٍ، أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ، جَازَ إِقْرَاضُهَا قَطْعًا. وَإِنْ كَانَتْ حَلَالًا لَمْ يَجُزْ عَلَى الْأَظْهَرِ الْمَنْصُوصِ قَدِيمًا وَجَدِيدًا.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي جُزِمَ بِهِ مِنْ جَوَازِ إِقْرَاضِ الْمُحَرَّمِ، هُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ. وَقَالَ فِي «الْحَاوِي» ، إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَسْتَبِيحُهَا الْمُسْتَقْرِضُ، بِأَنِ اقْتَرَضَهَا مَحْرَمٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: يَجُوزُ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: لَا يَجُوزُ وَيَصِرْنَ جِنْسًا لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، فَجَوَازُ إِقْرَاضِهِ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُتَقَوِّمَاتِ رَدُّ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ، إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَمْ يُجْزِ. وَبِالثَّانِي، جَازَ. وَفِي إِقْرَاضِ الْخُبْزِ، وَجْهَانِ، كَالسَّلَمِ فِيهِ. أَصَحُّهُمَا فِي «التَّهْذِيبِ» : لَا يَجُوزُ. وَاخْتَارَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ: الْجَوَازَ. وَأَشَارَ فِي «الْبَيَانِ» إِلَى تَرْتِيبِ الْخِلَافِ، إِنْ جَوَّزْنَا السَّلَمَ، جَازَ هُنَا، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. قَالَ: فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، رَدَّ مِثْلَهُ وَزْنًا إِنْ أَوْجَبْنَا فِي الْمُتَقَوِّمَاتِ الْمِثْلَ. وَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ، وَجَبَتْ هُنَا. فَإِنْ شَرَطَ الْمِثْلَ فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: قَطَعَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَالْمُسْتَظْهِرَيُّ، بِجَوَازِ قَرْضِهِ وَزْنًا. وَاحْتَجَّ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ عَلَى فِعْلِهِ فِي الْأَعْصَارِ بِلَا إِنْكَارٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَجْهَيْنِ فِي إِقْرَاضِ الْخَمِيرِ الْحَامِضِ. أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ: لَا يَجُوزُ إِقْرَاضُ الرَّوْبَةِ ; لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِالْحُمُوضَةِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ إِقْرَاضُ الْمَنَافِعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا، وَلَا إِقْرَاضُ مَاءِ الْقَنَاةِ ; لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرَضُ مَعْلُومُ الْقَدْرِ، وَيَجُوزُ إِقْرَاضُ الْمِكِيلِ وَزْنًا وَعَكْسُهُ

فصل

كَالسَّلَمِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَجُوزُ إِقْرَاضُ الْمَكِيلِ وَزْنًا، بِخِلَافِ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِوَاءُ الْعِوَضَيْنِ. وَزَادَ فَقَالَ: لَوْ أَتْلَفَ مِائَةَ رِطْلٍ حِنْطَةً، ضَمِنَهَا بِالْكَيْلِ. وَلَوْ بَاعَ شِقْصًا بِمِائَةِ رِطْلٍ حِنْطَةً، أَخَذَ الشَّفِيعَ بِمِثْلِهَا كَيْلًا. وَالْأَصَحُّ فِي الْجَمِيعِ: الْجَوَازُ. فَصْلٌ يَحْرُمُ كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، كَشَرْطِ رَدِّ الصَّحِيحِ عَنِ الْمُكَسَّرِ، أَوِ الْجَيِّدِ عَنِ الرَّدِيءِ، وَكَشَرْطِ رَدِّهِ بِبَلَدٍ آخَرَ، فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةً فِي الْقَدْرِ، حَرُمَ إِنْ كَانَ الْمَالُ رِبَوِيًّا، وَكَذَا إِنْ كَانَ غَيْرَ رِبَوِيٍّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى الْإِمَامُ أَنَّهُ يَصِحُّ الشَّرْطُ الْجَارُّ لِلْمَنْفَعَةِ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيِّ، وَهُوَ شَاذٌّ غَلَطٌ. فَإِنْ جَرَى الْقَرْضُ بِشَرْطٍ مِنْ هَذِهِ، فَسَدَ الْقَرْضُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ. وَقِيلَ: لَا يَفْسَدُ ; لِأَنَّهُ عَقْدُ مُسَامَحَةٍ. وَلَوْ أَقْرَضَهُ بِلَا شَرْطٍ، فَرَدَّ أَجْوَدَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ بِبَلَدٍ آخَرَ، جَازَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّبَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ الرَّجُلِ الْمَشْهُورِ بِرَدِّ الزِّيَادَةِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَوْ قَصَدَ إِقْرَاضَ الْمَشْهُورِ بِالزِّيَادَةِ لِلزِّيَادَةِ، فَفِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ شَرَطَ رَدَّ الْأَرْدَأِ أَوِ الْمُكَسَّرِ، لَغَا الشَّرْطُ، وَلَا يَفْسَدُ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى خِلَافٍ فِي صِحَّةِ الشَّرْطِ. وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْأَجَلِ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ بِحَالٍ. فَلَوْ شَرَطَ أَجَلًا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ غَرَضٌ فِيهِ، فَهُوَ كَشَرْطِ رَدِّ الْمُكَسَّرِ عَنِ الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَ، بِأَنْ كَانَ زَمَنَ نَهْبٍ وَالْمُسْتَقْرِضُ مَلِيءٌ، فَهُوَ كَالتَّأْجِيلِ بِلَا غَرَضٍ، أَمْ كَشَرْطِ رَدِّ الصَّحِيحِ عَنِ الْمُكَسَّرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَيَجُوزُ فِيهِ شَرْطُ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ، وَشَرْطُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَوْ يُقِرَّ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. فَإِنْ شَرَطَ

فصل

رَهْنًا بِدَيْنٍ آخَرَ، فَهُوَ كَشَرْطِ زِيَادَةِ الصِّفَةِ. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُقْرِضَهُ مَالًا آخَرَ، صَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَا شُرِطَ، بَلْ هُوَ وَعْدٌ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَهَبَهُ غَيْرُهُ. فَصْلٌ فِيمَا يُمَلَّكُ بِهِ الْمُقْرَضُ قَوْلَانِ مُنْتَزَعَانِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَظْهَرُهُمَا: بِالْقَبْضِ. وَالثَّانِي: بِالتَّصَرُّفِ. فَإِنْ قُلْنَا: بِالْقَبْضِ، فَهَلْ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يُلْزِمَهُ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ مَا دَامَ بَاقِيًا، أَمْ لِلْمُسْتَقْرِضِ رَدُّ بَدَلِهِ مَعَ وُجُودِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ رَدَّهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِعَيْنِهِ لَزِمَ الْمُقْرِضُ قَبُولَهُ قَطْعًا. وَإِذْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ بِالتَّصَرُّفِ، فَمَعْنَاهُ: إِذَا تَصَرَّفَ، تَبَيَّنَ ثُبُوتُ مِلْكِهِ. ثُمَّ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ كُلُّ تَصَرُّفٍ يُزِيلُ الْمِلْكَ. وَالثَّانِي: كُلُّ تَصَرُّفٍ يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ. وَالثَّالِثُ: كُلُّ تَصَرُّفٍ يَسْتَدْعِي الْمِلْكَ. فَعَلَى الْأَوْجُهِ: يَكْفِي الْبَيْعُ، وَالْهِبَةُ، وَالْإِعْتَاقُ، وَالْإِتْلَافُ. وَلَا يَكْفِي الرَّهْنُ، وَالتَّزْوِيجُ، وَالْإِجَارَةُ، وَطَحْنُ الْحِنْطَةِ، وَخَبْزُ الدَّقِيقِ، وَذَبْحُ الشَّاةِ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: فَتَكُونُ هَذِهِ الْعُقُودُ بَاطِلَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَكْفِي مَا سِوَى الْإِجَارَةِ عَلَى الثَّانِي، وَمَا سِوَى الرَّهْنِ، عَلَى الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَ الرَّهْنَ، فَيَرْهَنَهُ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّهُ كُلُّ تَصَرُّفٍ يَمْنَعُ رُجُوعَ الْوَاهِبِ وَالْبَائِعِ عِنْدَ إِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَهَلْ يَكْفِي الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَلَا، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُهُ بِصِفَةِ اللُّزُومِ.

فصل

فَرْعٌ اقْتَرَضَ حَيَوَانًا، إِنْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ بِالْقَبْضِ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ، وَإِلَّا، فَعَلَى الْمُقْرِضِ إِلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُسْتَقْرِضُ. وَلَوِ اقْتَرَضَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، عَتَقَ إِذَا قَبَضَهُ إِنْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ بِهِ، وَلَا يَعْتِقُ إِنْ قُلْنَا: بِالتَّصَرُّفِ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَعْتِقُ وَيَحْكُمُ بِالْمِلْكِ قُبَيْلَهُ. قُلْتُ: جَزَمَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» بِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَلَكِنَّ الْمَعْرُوفَ: أَنْ لَا يُعْتَقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ أَدَاءُ الْقَرْضِ فِي الصِّفَةِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ. وَلَوْ ظَفِرَ بِالْمُسْتَقْرِضِ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْإِقْرَاضِ، فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْمِثْلِ، وَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْقِيمَةِ. فَلَوْ عَادَ إِلَى مَكَانِ الْإِقْرَاضِ، فَهَلْ لَهُ رَدُّ الْقَيِّمَةِ وَالْمُطَالِبَةُ بِالْمِثْلِ؟ وَهَلْ لِلْمُقْرِضِ مُطَالَبَتُهُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْقِيمَةُ الَّتِي يُطَالِبُ بِهَا، قِيمَةُ بَلَدِ الْقَرْضِ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ. وَكَذَا فِي السَّلَمِ يُطَالِبُ بِقِيمَةِ بَلَدِ الْعَقْدِ إِذَا جَوَّزْنَا أَخْذَ قِيمَتِهِ. قُلْتُ: الْمُعْتَبَرُ فِي السَّلَمِ، قِيمَةُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ فِيهِ التَّسْلِيمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ إِذَا اقْتَرَضَ مِثْلِيًّا، رَدَّ مِثْلِيًّا، وَإِنْ رَدَّ مُتَقَوِّمًا، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ يَرُدُّ مِثْلَهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ. وَالثَّانِي: يَرُدُّ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْقَبْضِ إِنْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ بِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالتَّصَرُّفِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: تَجِبُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنَ الْقَبْضِ إِلَى التَّصَرُّفِ. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْقِيمَةِ، أَوْ صِفَةِ الْمِثْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَقْرِضِ. قُلْتُ: قَالَ فِي الْمُهَذَّبِ، لَوْ قَالَ: أَقْرَضْتُكَ أَلْفًا وَقَبِلَ وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا، فَإِنْ لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ، جَازَ، وَإِلَّا، فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا إِقْرَاضَ الْخُبْزِ، فَهَلْ يَرُدُّ الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْقِيمَةَ، فَشَرَطَ الْخُبْزَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالرِّفْقِ. قَالَ الشَّاشِيُّ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: إِذَا أَهْدَى الْمُسْتَقْرِضُ لِلْمُقْرِضِ هَدِيَّةً، جَازَ قَبُولُهَا بِلَا كَرَاهَةٍ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَرِهَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ. قَالَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يَرُدَّ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُ ذَلِكَ. وَلَوْ أَقْرَضَهُ نَقْدًا، فَأَبْطَلَ السُّلْطَانُ الْمُعَامَلَةَ بِهِ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا النَّقْدُ الَّذِي أَقْرَضَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْبَيْعِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَقْرِضْنِي عَشْرَةً، فَقَالَ: خُذْهَا مِنْ فُلَانٍ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، لَا يَكُونُ قَرْضًا، بَلْ هَذَا تَوْكِيلٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ، فَبَعْدَ الْقَبْضِ لَا بُدَّ مِنْ قَرْضٍ جَدِيدٍ. وَلَوْ كَانَتِ الْعَشْرَةُ فِي يَدِ فُلَانٍ مُعِيَّنَةً، وَدِيعَةً أَوْ غَيْرَهَا، صَحَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الرهن

كِتَابُ الرَّهْنِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ. الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: الْمَرْهُونُ، وَلَهُ شُرُوطٌ. وَالْأَوَّلُ: كَوْنُهُ عَيْنًا، فَلَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمَنْفَعَةِ، بِأَنْ يَرْهَنَهُ سُكْنَى الدَّارِ مُدَّةً، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الْمَرْهُونُ بِهِ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا. وَلَا يَصِحُّ رَهْنُ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَصِحُّ رَهْنُ الْمَشَاعِ، سَوَاءٌ رَهَنَهُ عِنْدَ شَرِيكِهِ أَوْ غَيْرِهِ، قَبِلَ الْقِسْمَةَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْهَا. قُلْتُ: سَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمَشَاعِ لِلرَّاهِنِ أَمْ لِغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ رَهَنَ نَصِيبَهُ مِنْ بَيْتٍ مِنْ دَارٍ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، صَحَّ، وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: صِحَّتُهُ كَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: فَسَادُهُ، وَادَّعَى طَرْدَ الْخِلَافِ فِي الْبَيْعِ. قُلْتُ: وَمِمَّنْ وَافَقَ الْإِمَامَ فِي تَصْحِيحِ صِحَّتِهِ الْغَزَالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» ، وَصَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» ، وَغَيْرُهُمَا. وَأَمَّا طَرْدُ الْخِلَافِ فِي الْبَيْعِ، فَشَاذٌّ، فَقَدْ قَطَعَ الْأَصْحَابُ بِصِحَّتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُسِّمَتِ الدَّارُ، فَوَقْعَ هَذَا الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَهَلْ هُوَ كَتَلَفِ الْمَرْهُونِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَمْ يَغْرَمُ الرَّاهِنُ قِيمَتَهُ، وَيَكُونُ رَهْنًا لِكَوْنِهِ حَصَلَ لَهُ بَدَلُهُ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: إِنْ كَانَ مُخْتَارًا فِي الْقِسْمَةِ، غَرِمَ، وَإِنْ كَانَ مُجْبَرًا، فَلَا.

قُلْتُ: هَذَا الْمَذْكُورُ تَفْرِيعٌ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ: أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً. وَشَذَّ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» فَقَالَ: لَا تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، بَلْ يُقَسَّمُ الْبَيْتُ وَحْدَهُ، وَيُسَلَّمُ نَصِيبُ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهَنِ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي، كَمَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ. وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَمَنْ تَابَعَهُ، إِلَى أَنَّهُمَا إِذَا اقْتَسَمَا فَخَرَجَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، يَبْقَى مَرْهُونًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَالْمُتَحَصِّلُ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ: أَنَّ الْمُخْتَارَ جَوَازُ قِسْمَتِهِمَا جُمْلَةً، وَأَنْ لَا يَبْقَى مَرْهُونًا، بَلْ يَغْرَمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا رُهِنَ الْمُشَاعُ، فَقَبْضُهُ بِتَسْلِيمٍ لَهُ، فَإِذَا قُبِضَ، جَرَتِ الْمُهَايَأَةُ بَيْنَ الْمُرْتَهَنِ وَالشَّرِيكِ جَرَيَانَهَا بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ. وَلَا بَأْسَ بِتَبَعُّضِ الْيَدِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَا لَا بَأْسَ بِهِ لِاسْتِيفَاءِ الرَّاهِنِ الْمَنَافِعَ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ، خَلَّى الرَّاهِنُ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَبَيْنَهُ، سَوَاءٌ حَضَرَ الشَّرِيكُ أَمْ لَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ لَمْ يَحْصُلْ قَبْضُهُ إِلَّا بِالنَّقْلِ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الشَّرِيكِ. فَإِنْ أَذِنَ، قَبَضَ، وَإِنِ امْتَنَعَ، فَإِنْ رَضِيَ الْمُرْتَهِنُ بِكَوْنِهَا فِي يَدِ الشَّرِيكِ، جَازَ، وَنَابَ عَنْهُ فِي الْقَبْضِ، وَإِنْ تَنَازَعَا، نَصَّبَ الْحَاكِمُ عَدْلًا يَكُونُ فِي يَدِهِ لَهُمَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْفَعَةٌ آجَرَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ صَلَاحِيَةُ الْمُرْتَهَنِ، لِثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِ. فَإِنْ رَهَنَ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ مُصْحَفًا عِنْدَ كَافِرٍ، أَوِ السِّلَاحَ عِنْدَ حَرْبِيٍّ، أَوْ جَارِيَةً حَسْنَاءَ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ، صَحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي جَمِيعِهَا، فَيُجْعَلُ الْعَبْدُ وَالْمُصْحَفُ فِي يَدِ عَدْلٍ.

قُلْتُ: وَإِذَا صَحَّحْنَا رَهْنَ الْعَبْدِ وَالْمُصْحَفِ عِنْدَ الْكَافِرِ، فَفِي «تَهْذِيبِ» الشَّيْخِ نَصْرٍ الْمَقْدِسِيِّ الزَّاهِدِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْعَقْدَ حَرَامٌ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» لِلْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ صَغِيرَةً لَا تُشْتَهَى، فَهِيَ كَالْعَبْدِ، وَإِلَّا، فَإِنْ رُهِنَتْ عِنْدَ مَحْرَمٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَذَاكَ. وَإِنْ رُهِنَتْ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ ثِقَةٍ وَعِنْدَهُ زَوْجَتُهُ، أَوْ جَارِيَتُهُ، أَوْ نِسْوَةٌ يُؤْمَنُ مَعَهُمُ الْإِلْمَامَ بِهَا، فَلَا بَأْسَ، وَإِلَّا، فَلْتُوضَعْ عِنْدَ مَحْرَمٍ لَهَا أَوِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، أَوْ رَجُلٍ عَدْلٍ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُرْتَهَنِ. فَإِنْ شَرَطَ وَضْعَهَا عِنْدَ غَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ. وَأَلْحَقَ الْإِمَامُ بِالصَّغِيرَةِ الْخَسِيسَةِ مَعَ دَمَامَةِ الصُّورَةِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ. وَلَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ خُنْثَى، فَكَالْجَارِيَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُوضَعُ عِنْدَ امْرَأَةٍ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: كَوْنُ الْعَيْنِ قَابِلَةً لِلْبَيْعِ عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَلَا يَصِحُّ رَهْنُ أُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمَكَاتَبِ، وَالْوَقْفِ، وَسَائِرِ مَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ. وَسَوَادُ الْعِرَاقِ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ. وَأَبْنِيَتُهُ، وَأَشْجَارُهُ، إِنْ كَانَتْ مِنْ تُرْبَتِهِ وَغِرَاسِهِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْوَقْفِ، فَهِيَ كَالْأَرْضِ. وَإِنْ أُحْدِثْتَ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا، جَازَ رَهْنُهَا. فَإِنْ رُهِنَتْ مَعَ الْأَرْضِ، فَهِيَ مِنْ صُوَرِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَكَذَا رَهْنُ الْأَرْضِ مُطْلَقًا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ يَدْخُلَانِ فِيهِ. وَإِذَا صَحَّ الرَّهْنُ فِي الْبِنَاءِ، فَلَا خَرَاجَ عَلَى الْمُرْتَهَنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الرَّاهِنِ. فَإِنْ أَدَّاهُ الْمُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ، وَإِنْ أَدَّاهُ بِإِذْنِهِ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ، رَجَعَ. وَإِنْ لَمْ يَشْرُطِ الرُّجُوعَ، فَوَجْهَانِ يَجْرِيَانِ فِي أَدَاءِ دَيْنِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ مُطْلَقًا، وَظَاهِرُ النَّصِّ: الرُّجُوعُ.

فصل

فَصْلٌ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا الصَّغِيرِ، حَرَامٌ، وَفِي إِفْسَادِهِ الْبَيْعَ قَوْلَانِ سَبَقَا. وَيَصِحُّ رَهْنُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. وَإِذَا أُرِيدَ الْبَيْعُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُبَاعُ الْمَرْهُونُ وَحْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ التَّفْرِيقُ لِلضَّرُورَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: يُبَاعَانِ جَمِيعًا، وَيُوَزَّعُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا. وَفِي كَيْفِيَّتِهِ كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ رَجُلٌ رَهَنَ أَرْضًا بَيْضَاءَ، فَنَبَتَ فِيهَا نَخْلٌ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْهَنَ الْأَرْضَ ثُمَّ يَدْفِنَ النَّوَى فِيهَا، أَوْ يَحْمِلَهُ السَّيْلُ أَوِ الطَّيْرُ، فَهِيَ لِلرَّاهِنِ، وَلَا يُجْبَرُ فِي الْحَالِ عَلَى قَلْعِهَا، فَلَعَلَّهُ يُؤَدِّي الدَّيْنَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ. فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيْعِ الْأَرْضِ، نُظِرَ، إِنْ وَفَّى ثَمَنُ الْأَرْضِ إِذَا بِيعَتْ وَحْدَهَا بِالدَّيْنِ، بِيعَتْ وَحْدَهَا وَلَمْ يُقْلَعِ النَّخْلُ. وَكَذَا لَوْ لَمْ يَفِ بِهِ، إِلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْأَرْضِ وَفِيهَا الْأَشْجَارُ كَقِيمَتِهَا بَيْضَاءَ. وَلَوْ لَمْ يَفِ بِهِ وَقِيمَتُهَا تَنْقُصُ بِالْأَشْجَارِ، فَلِلْمُرْتَهَنِ قَلْعُهَا لِبَيْعِ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الرَّاهِنُ فِي بَيْعِهَا مَعَ الْأَرْضِ، فَتُبَاعَانِ وَيُوَزَّعُ الثَّمَنُ عَلَيْهَا. هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الرَّاهِنُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ. فَإِنْ كَانَ، فَلَا قَلْعَ بِحَالٍ، لِتُعَلِّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ، بَلْ يُبَاعَانِ وَيُوَزَّعُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا، فَمَا قَابَلَ الْأَرْضَ، اخْتَصَّ بِهِ الْمُرْتَهِنُ، وَمَا قَابَلَ الْأَشْجَارَ، قُسِّمَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ بِسَبَبِ الْأَشْجَارِ، حُسِبَ النَّقْصُ عَلَى الشَّجَرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهَنِ فِي الْأَرْضِ فَارِغَةً. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّوَى مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ يَوْمَ الرَّهْنِ، ثُمَّ يَنْبُتُ. فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ جَاهِلًا بِالْحَالِ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الَّذِي شَرَطَ فِيهِ هَذَا الرَّهْنُ. فَإِنْ فَسَخَ، وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ عَالِمًا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَلَا خِيَارَ. وَإِذَا بِيعَتِ الْأَرْضُ مَعَ النَّخْلِ، وُزِّعَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ، قِيمَةُ الْأَرْضِ

فَارِغَةً. وَفِي الْحَالِ الثَّانِي، قِيمَةُ أَرْضٍ مَشْغُولَةٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَشْغُولَةً يَوْمَ الرَّهْنِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ الشَّجَرِ وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا الْإِمَامُ فِي الْحَالَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: تُقَوَّمُ الْأَرْضُ وَحْدَهَا. فَإِذَا قِيلَ: هِيَ مِائَةٌ، قُوِّمَتْ مَعَ الْأَشْجَارِ، فَإِذَا قِيلَ: هِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، فَالزِّيَادَةُ بِسَبَبِ الْأَشْجَارِ سُدْسٌ، فَيُرَاعِي فِي الثَّمَنِ نِسْبَةُ الْأَسْدَاسِ. وَالثَّانِي: تُقَوَّمُ الْأَشْجَارُ وَحْدَهَا. فَإِذَا قِيلَ: هِيَ خَمْسُونَ، كَانَتِ النِّسْبَةُ بِالثُّلْثِ، ثُمَّ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ لِإِيضَاحِ الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ قِيمَةُ الْأَرْضِ نَاقِصَةً بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ، لِأَنَّا فَرَضْنَا قِيمَتَهَا وَحْدَهَا مِائَةً، وَقِيمَةَ الْأَشْجَارِ وَحْدَهَا ثَابِتَةً خَمْسِينَ، وَقِيمَةَ الْمَجْمُوعِ مِائَةً وَعِشْرِينَ. عُدْنَا إِلَى مَسْأَلَةِ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ، فَإِذَا بِيعَا مَعًا، وَأَرَدْنَا التَّوْزِيعَ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوْزِيعَ عَلَيْهِمَا كَالتَّوْزِيعِ عَلَى الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأُمِّ وَحْدَهَا. وَفِي الْوَلَدِ الْوَجْهَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّ لَا تُقَوَّمُ وَحْدَهَا، بَلْ تُقَوَّمُ مَعَ الْوَلَدِ وَهِيَ خَاصَّتُهُ؛ لِأَنَّهَا رُهِنَتْ وَهِيَ ذَاتُ وَلَدٍ، وَالْأَرْضُ بِلَا أَشْجَارٍ. وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. فَلَوْ حَدَثَ الْوَلَدُ بَعْدَ الرَّهْنِ وَالتَّسْلِيمِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًى، وَبَيْعَا مَعًا، فَلِلْمُرْتَهِنِ قِيمَةُ جَارِيَةٍ لَا وَلَدَ لَهَا. قُلْتُ: ذَكَرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْغِرَاسِ وَالْأَرْضِ الْفَرْقَ بَيْنَ عِلْمِ الْمُرْتَهِنِ، وَجَهْلِهِ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مِثْلُهُ. وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الشَّامِلِ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْوَلَدِ حَالَ الِارْتِهَانِ، فَلَا خِيَارَ، وَإِلَّا، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الرَّهْنُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: إِنْ عَلِمَ، فَلَا خِيَارَ، وَإِلَّا، فَإِنْ قُلْنَا: تُبَاعُ الْأُمُّ دُونَ الْوَلَدِ، فَلَا خِيَارَ، وَإِنْ قُلْنَا: يُبَاعَانِ، فَفِي الْخِيَارِ وَجْهَانِ. وَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ نَقْصُهَا، بَلْ قَدْ تَزِيدُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي التَّوْزِيعِ، وَالرَّاهِنُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ بِكُلِّ حَالٍ؟ ! قُلْنَا: تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ عِنْدَ ازْدِحَامِ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ وَالْمُفْلِسِ،

فصل

وَفِي تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَيُنَفَّذُ فِي حِصَّةِ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا رَهَنَ مَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَجْفِيفُهُ كَالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ، صَحَّ رَهْنُهُ وَجُفِّفَ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَا تُجَفَّفُ، وَالرَّيْحَانِ، وَالْجَمَدِ، فَإِنْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ حَالٍّ، صَحَّ، ثُمَّ إِنْ بِيعَ فِي الدَّيْنِ، أَوْ قُضِيَ الدَّيْنُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَاكَ، وَإِلَّا بِيعَ وَجُعِلَ الثَّمَنُ رَهْنًا، فَلَوْ تَرَكَهُ الْمُرْتَهِنُ حَتَّى فَسَدَ، قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ أَذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ، ضِمْنَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَلَيْهِ الرَّفْعُ إِلَى الْقَاضِي لِيَبِيعَهُ. قُلْتُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوِيٌّ أَوْ مُتَعَيِّنٌ. وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: إِنْ سَكَتَا حَتَّى فَسَدَ، أَوْ طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ بَيْعَهُ، فَامْتَنَعَ الرَّاهِنُ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ. وَإِنْ طَلَبَ الرَّاهِنُ بَيْعَهُ، فَامْتَنَعَ الْمُرْتَهِنُ، فَمِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ حُلُولَ الْأَجَلِ قَبْلَ فَسَادِهِ، فَهُوَ كَرَهْنِهِ بِالْحَالِّ. الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ عَكْسَهُ. فَإِنْ شَرَطَ فِي الرَّهْنِ بَيْعَهُ عِنْدَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْفَسَادِ، وَجَعَلَ ثَمَنَهُ رَهْنًا، صَحَّ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ. فَلَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُبَاعُ بِحَالٍ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، بَطَلَ الرَّهْنُ لِمُنَاقَضَتِهِ مَقْصُودَ الرَّهْنِ. وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ ذَا وَلَا ذَاكَ، فَهَلْ هُوَ كَشَرْطِ الْبَيْعِ أَمْ كَشَرْطِ عَدَمِ الْبَيْعِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: الثَّانِي، وَمَيْلُ غَيْرِهِمْ إِلَى الْأَوَّلِ.

فصل

قُلْتُ: قَالَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» أَظْهَرُهُمَا: لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا مُحْتَمَلَانِ، فَالْمَذْهَبُ: الصِّحَّةُ. وَلَوْ رَهَنَ مَا لَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، فَحَدَثَ مَا عَرَّضَهُ لِلْفَسَادِ قَبْلَ الْأَجَلِ، بِأَنِ ابْتَلَّتِ الْحِنْطَةُ، وَتَعَذَّرَ تَجْفِيفُهَا لَمْ يَنْفَسِخْ بِحَالٍ. وَلَوْ طَرَأَ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَفِي الِانْفِسَاخِ وَجْهَانِ، كَمَا فِي حُدُوثِ الْمَوْتِ وَالْجُنُونِ. وَإِذَا لَمْ يَنْفَسِخُ، بِيعَ وَجُعِلَ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَهُ. قُلْتُ: الْأَرْجَحُ: أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ، وَهَذَا الَّذِي قَطَعَ بِهِ، مِنْ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْفَسِخْ يُبَاعُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ: أَنَّ الْأَئِمَّةَ قَطَعُوا بِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بَيْعُهُ. وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» فِيهِ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بَيْعِهِ حِفْظًا لِلْوَثِيقَةِ، كَمَا يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهِ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهَنِ فِي حَبْسِهِ فَقَطْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُحَارِبِ، كَبَيْعِهِ. وَرَهْنُ الْمُرْتَدِّ صَحِيحٌ عَلَى الْمَذْهَبِ كَبَيْعِهِ. فَإِنْ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ رِدَّتَهُ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الرَّهْنُ. وَإِنْ جَهِلَ، يُخَيِّرُ، فَإِنْ قُتِلَ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ. وَإِنْ قُتِلَ بَعْدَهُ، فَمِنْ ضَمَانِ مَنْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ قُلْنَا: مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَلِلْمُرْتَهَنِ فَسْخُ الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَلَا فَسْخَ وَلَا أَرْشَ، كَمَا لَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ. قُلْتُ: وَلَوْ رَهَنَهُ عَبْدًا مَرِيضًا لَمْ يَعْلَمْ بِمَرَضِهِ الْمُرْتَهِنُ حَتَّى مَاتَ فِي يَدِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ، قَالَهُ فِي الْمُعَايَاةِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَوْتَ بِأَلَمٍ حَادِثٍ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ الْجَانِي إِنْ لَمْ نُصَحِّحْ بَيْعَهُ، فَرَهْنُهُ أَوْلَى، وَإِلَّا، فَقَوْلَانِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الطَّارِئَةَ، يُقَدَّمُ صَاحِبُهَا عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَالْمُتَقَدِّمَةُ أَوْلَى. فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْ رَهْنَهُ، فَفَدَاهُ السَّيِّدُ، أَوْ أَسْقَطَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِئْنَافِ رَهْنٍ. وَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، فَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ وَالْإِمَامُ: يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَا يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ بَاقٍ هُنَا، وَالْجِنَايَةُ لَا تُنَافِي الرَّهْنَ. قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ أَيْضًا: يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلْفِدَاءِ. وَلَكِنِ الْأَكْثَرُونَ قَالُوا كَقَوْلِ ابْنِ الصَّبَّاغِ مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَغَيْرُهُمْ. قَالُوا: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهِ وَتَسْلِيمِهِ لِلْبَيْعِ فِي الْجِنَايَةِ. فَإِنْ فَدَاهُ، بَقِيَ الرَّهْنُ، وَإِلَّا بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ، وَبَطَلَ الرَّهْنُ إِنِ اسْتَغْرَقَهُ الْأَرْشُ، وَإِلَّا بِيعَ بِقَدْرِهِ، وَاسْتَقَرَّ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْجَانِي، فَسَوَاءٌ كَانَ الْأَرْشُ دِرْهَمًا، وَالْعَبْدُ يُسَاوِي الْوَفَاءَ، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَصْحَابُ. وَأَمَّا إِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِلْمُرْتَهَنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ رَهْنُهُ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي «الْحَاوِي» وَغَيْرِهِ. إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ، فَلَا خِيَارَ فِي الْحَالِ. فَإِنِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي طَرَفِهِ، بَقِيَ رَهْنًا، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ، لِعِلْمِهِ بِالْعَيْبِ. وَإِنْ قُتِلَ قِصَاصًا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَلَهُ الْخِيَارُ كَمَا لَوْ بَانَ مُسْتَحِقًّا، وَإِنْ قُلْنَا: مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَلَا خِيَارَ؛ لِأَنَّهُ مَعِيبٌ عُلِمَ بِهِ، وَإِنْ عَفَا مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ عَلَى مَالِهِ، فَإِنْ فَدَاهُ، بَقِيَ رَهْنًا، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ بِيعَ لِلْجِنَايَةِ، بَطَلَ الرَّهْنُ. وَفِي الْخِيَارِ وَجْهَانِ. وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ، سَقَطَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِالْجِنَايَةِ، فَإِنْ عَلِمَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا، يُخَيَّرُ. فَإِنْ فَسَخَ، وَإِلَّا فَيَصِيرُ عَالِمًا، وَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ إِلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا عَلَى قِصَاصِ طَرَفٍ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِالْقِصَاصِ، لَكِنْ

لِلْمُرْتَهَنِ الْخِيَارُ. وَإِنْ كَانَ قِصَاصَ نَفْسٍ، بَطَلَ الرَّهْنُ. وَفِي الْخِيَارِ الْوَجْهَانِ. وَإِنِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا عَلَى مَالٍ، فَإِنْ فَدَاهُ، كَانَ كَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ. وَإِنْ بِيعَ، بَطَلَ الرَّهْنُ. وَفِي الْخِيَارِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ عَفَا بِلَا مَالٍ، سَقَطَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَتُبِ الْعَبْدُ مِنَ الْجِنَايَةِ وَكَانَ مُصِرًّا، فَهَذَا عَيْبٌ، فَلِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ. وَإِنْ تَابَ، فَهَلْ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْحَالِ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: عَيْبٌ، فَلَهُ الْخِيَارُ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَعْتَبِرُ الِابْتِدَاءَ فَيُثْبِتُهُ. وَالْآخَرُ: يَنْظُرُ فِي الْحَالِ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْحَاوِي وَفِيهِ نَفَائِسُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا قُلْنَا: يَصِحُّ رَهْنُ الْجَانِي جِنَايَةً تُوجِبِ الْقِصَاصَ، وَلَا يَصِحُّ إِذَا أَوْجَبَتْ مَالًا، فَرَهَنَ وَالْوَاجِبُ الْقِصَاصَ، فَعَفَا عَلَى مَالٍ، فَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ مِنْ أَصْلِهِ، أَمْ يَكُونُ كَجِنَايَةٍ تَصْدُرُ مِنَ الْمَرْهُونِ حَتَّى يَبْقَى الرَّهْنُ لَوْ لَمْ يُبَعْ فِي الْجِنَايَةِ؟ وَجْهَانِ. اخْتَارَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَوَّلَهُمَا. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ، فَمَاتَ فِيهَا بَعْدَمَا رُهِنَ إِنْسَانٌ، فَفِي تَبَيُّنِ الْفَسَادِ، وَجْهَانِ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ رُهِنَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَهُوَ جَانٍ. فَرْعٌ رَهْنُ الْمُدَبَّرِ بَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ نَصُّهُ، وَرَجَّحَهُ الْجُمْهُورُ. فَعَلَى هَذَا، التَّدْبِيرُ بَاقٍ عَلَى صِحَّتِهِ. وَإِنْ صَحَّحْنَا رَهْنَهُ، بَطَلَ التَّدْبِيرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ وَصِيَّةٌ، فَقَدْ رَجَعَ عَنْهَا. وَقِيلَ: لَا يَبْطُلُ فَيَكُونُ مُدَبَّرًا مَرْهُونًا. فَعَلَى هَذَا إِنْ قَضَى الدَّيْنُ مِنْ غَيْرِهِ، فَذَاكَ، وَإِنْ رَجَعَ فِي التَّدْبِيرِ وَبَاعَهُ فِي الدَّيْنِ، بَطَلَ التَّدْبِيرُ. وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الرُّجُوعِ وَمِنْ بَيْعِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ، أُجْبِرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ. وَالثَّانِي: يُحْكَمُ بِفَسَادِ الرَّهْنِ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَ حُكْمُ الْمَذْهَبِ، وَلَا يُغْتَرُّ بِقَوْلِهِ فِي الْوَسِيطِ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ إِلَى صِحَّةِ رَهْنِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا فِي الدَّلِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ رَهْنُ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، لَهُ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: رَهَنُهُ بَدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ تَيَقَّنَ حُلُولَهُ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، فَيَصِحُّ وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ بَيْعُهُ حَتَّى وُجِدَتِ الصِّفَةُ، بُنِيَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ بِحَالَةِ التَّعْلِيقِ، أَمْ بِحَالِ وُجُودِ الصِّفَةِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، عُتِقَ، وَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الرَّهْنُ إِنْ كَانَ جَاهِلًا. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ مِنْ ثُبُوتِ الْفَسْخِ لِلْمُرْتَهَنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ، وَجَزَمَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ بِأَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ سُلِّمَ لَهُ ثُمَّ بَطَلَ فَصَارَ كَمَوْتِهِ، وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ، وَأَقْيَسُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَهُوَ كَإِعْتَاقِ الْمَرْهُونِ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ: رَهْنُهُ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ تَيَقَّنَ وُجُودَ الصِّفَةِ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَالْمَذْهَبُ: بُطْلَانُ الرَّهْنِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَعَلَى الصِّحَّةِ: يُبَاعُ إِذَا قَرُبَ أَوَانُ الصِّفَةِ. وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ رَهْنًا. الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَتَيَقَّنَ تَقَدُّمَ الصِّفَةِ عَلَى الْحُلُولِ وَعَكْسُهُ، فَالْأَظْهَرُ: بُطْلَانُهُ. وَقِيلَ: بَاطِلٌ قَطْعًا.

فَرْعٌ رَهْنُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ لَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْهَنَهُ مَعَ الشَّجَرِ. فَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ مِمَّا يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ، صَحَّ، سَوَاءٌ بَدَا فِيهَا الصَّلَاحُ. أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، وَلَمْ نُصَحِّحْ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ الْفَسَادُ، فَالْمَذْهَبُ: بُطْلَانُ رَهْنِ الثَّمَرِ. وَفِي الشَّجَرِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ فِيهِمَا قَطْعًا. الثَّانِي: رَهْنُ الثَّمَرِ وَحْدَهُ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَجْفِيفُهُ، فَهُوَ كَرَهْنِ مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ، وَإِلَّا، فَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: يُرْهَنُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ. فَإِنْ رَهَنَ بِدَيْنٍ حَالٍّ وَشَرَطَ قَطْعَهَا وَبَيْعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، جَازَ. وَإِنْ أَطْلَقَ، جَازَ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِنْ رَهَنَ بِمُؤَجَّلٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ يَحُلُّ قَبْلَ بُلُوغِ الثَّمَرِ وَقْتَ الْإِدْرَاكِ أَوْ بَعْدَهُ، فَهُوَ كَالْحَالِّ. وَإِنْ كَانَ يَحُلُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَقْتَ الْإِدْرَاكِ، فَإِنْ رَهَنَهَا مُطْلَقًا لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا كَالْبَيْعِ. وَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ، فَقِيلَ: يَصِحُّ قَطْعًا. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَجْهُ الْمَنْعِ: التَّشْبِيهُ بِمَنْ بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ بَعْدَ مُدَّةٍ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ الصِّحَّةُ فِيمَا إِذَا شَرَطَ الْقَطْعَ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَمُطْلَقًا. إِنْ رَهَنَ بِحَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ، هُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَإِنْ رَهَنَهُ بِمُؤَجَّلٍ يَحُلُّ قَبْلَ بُلُوغِهَا وَقْتَ الْإِدْرَاكِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. وَمَتَى صَحَّ رَهْنُ الثِّمَارِ عَلَى الْأَشْجَارِ، فَمُؤْنَةُ السَّقْيِ وَالْجِدَادِ وَالتَّجْفِيفِ عَلَى الرَّاهِنِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، بَاعَ الْحَاكِمُ جُزْءًا مِنْهَا وَأَنْفَقَهُ عَلَيْهَا. وَلَوْ تَوَافَقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى تَرْكِ السَّقْيِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُجْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى عَلْفِ الْحَيَوَانِ. وَادَّعَى الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَلَوْ

أَرَادَ أَحَدُهُمَا قَطْعَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ وَقْتِ الْجِدَادِ، فَلِلْآخَرِ الِامْتِنَاعُ، وَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ بَعْدَ وَقْتِ الْجِدَادِ، بَلْ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ إِنْ حَلَّ، وَإِلَّا، أَمْسَكَهُ رَهْنًا. فَرْعٌ الشَّجَرَةُ الَّتِي تُثْمِرُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، يَجُوزُ رَهْنُ ثَمَرِهَا الْحَاصِلِ بِدَيْنٍ حَالٍّ. وَبِمُؤَجَّلٍ يَحُلُّ قَبْلَ اخْتِلَاطِ الثَّمَرَةِ الثَّانِيَةِ بِالْأُولَى، وَإِلَّا، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يُقْطَعَ عِنْدَ خُرُوجِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ شَرَطَ قَطْعَهُ، صَحَّ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَوْلَانِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، أَوْ رَهَنَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَلَمْ يَقْطَعَ حَتَّى اخْتَلَطَ، فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ كَالْقَوْلَيْنِ فِي الْبَيْعِ إِذَا عَرَضَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالرَّهْنُ بَعْدَ الْقَبْضِ، كَالْبَيْعِ قَبْلَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَبْطُلُ الرَّهْنُ، فَذَاكَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْطُلُ، فَلَوِ اتَّفَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ، بَطَلَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ، فَإِنْ رَضِيَ الرَّاهِنُ، يَكُونُ الْجَمِيعُ رَهْنًا أَوْ تَوَافَقَا عَلَى كَوْنِ النِّصْفِ - مِنَ الْجُمْلَةِ مَثَلًا - رَهْنًا، فَذَاكَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَرْهُونِ، هَلْ هُوَ نِصْفُ الْمُخْتَلِطِ، أَوْ ثُلُثُهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: قَوْلُ الْمُرْتَهَنِ. فَرْعٌ رَهَنَ زَرْعًا بَعْدَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ، فَكَبَيْعِهِ، إِنْ كَانَ تَرَى حَبَّاتِهِ فِي سُنْبُلِهِ، صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا، عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِنْ رَهَنَهُ وَهُوَ بَقْلٌ، فِكَرَهْنِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: لَا يَجُوزُ قَطْعًا إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، وَإِنْ صَرَّحَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ عِنْدَ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُسَنْبَلًا. وَقَدْ يَقَعُ الْحُلُولُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلِأَنَ زِيَادَةَ الزَّرْعِ يُطَوِّلُهُ، فَهُوَ كَثَمَرَةٍ تَحْدُثُ وَتَخْتَلِطُ.

فصل

فَصْلٌ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمَرْهُونِ مِلْكَ الرَّاهِنِ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَلَوِ اسْتَعَادَ عَبْدًا لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنٍ، فَرَهَنَهُ، جَازَ. وَهَلْ سَبِيلُهُ سَبِيلُ الضَّمَانِ، أَمِ الْعَارِيَّةِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ ضَمِنَ الدَّيْنَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا الْعَقْدُ أَخَذَ شَبَهًا مِنْ ذَا، وَشَبَهًا مِنْ ذَاكَ، وَلَيْسَ الْقَوْلَانِ فِي تَمَحُّضِهِ عَارِيَّةً أَوْ ضَمَانًا، وَإِنَّمَا هُمَا فِي أَنَّ الْمُغَلَّبَ أَيُّهُمَا؟ وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِذَا جَعَلْنَاهُ عَارِيَّةً لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّصَرُّفُ ; لِأَنَّ الرَّهْنَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ بِالْقَبْضِ، وَالْعَارِيَّةُ لَا يَلْتَزِمُ. فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَرْهُونِ كَوْنُهُ مِلْكَ الرَّاهِنِ. وَالصَّوَابُ، مَا سَبَقَ، وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ. وَالْعَارِيَّةُ قَدْ تَلْزَمُ، كَالْإِعَارَةِ لِلدَّفْنِ، وَنَظَائِرِهِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَذْهَبِ فُرُوعٌ. أَحَدُهَا: لَوْ أَذِنَ فِي رَهْنِ عَبْدِهِ، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنَ، جَازَ، وَبَعْدَ قَبْضِهِ: لَا رُجُوعَ عَلَى قَوْلِ الضَّمَانِ قَطْعًا، وَلَا عَلَى قَوْلِ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِلَّا، فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَلَا وُثُوقَ بِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» إِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، رَجَعَ. وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا، فَفِي جَوَازِ رُجُوعِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ أَعَارَ لِلْغِرَاسِ مُدَّةً. وَمَتَى جَوَّزْنَاهُ فَرَجَعَ، وَكَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، فَلِلْمُرْتَهَنِ فَسْخُ الْبَيْعِ إِنْ جَهِلَ الْحَالَ. الثَّانِي: لَوْ أَرَادَ الْمَالِكُ إِجْبَارَ الرَّاهِنِ عَلَى فَكِّهِ، فَلَهُ ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ، إِلَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، وَقُلْنَا: إِنَّهُ ضَمَانٌ، وَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَأَمْهَلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُرْتَهِنِ: إِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ، وَإِمَّا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالدَّيْنِ لِيُؤَدِّيَ فَيَنْفَكَّ الرَّهْنُ، كَمَا إِذَا ضَمِنَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا وَمَاتَ الْأَصِيلُ، فَلِلضَّامِنِ أَنْ يَقُولَ: إِمَّا أَنْ تُطَالِبَ بِحَقِّكَ، وَإِمَّا أَنْ تُبَرِّئَنِي. الثَّالِثُ: إِذَا حَلَّ الْمُؤَجَّلُ، أَوْ كَانَ حَالًّا، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ ضَمَانٌ،

لَمْ يُبَعْ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، إِنْ قَدَرَ الرَّاهِنُ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ إِلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، بِيعَ وَإِنْ سَخِطَ الْمَالِكُ. وَإِنْ قُلْنَا: عَارِيَّةٌ لَمْ يُبَعْ إِلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا، أَوْ مُعْسِرًا. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الرَّهْنُ وَإِنْ صَدَرَ مِنَ الْمَالِكِ، لَا يُسَلَّطُ عَلَى الْبَيْعِ إِلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ، بِيعَ عَلَيْهِ، فَالْمُرَاجَعَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا. ثُمَّ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْبَيْعِ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا: عَارِيَّةٌ، عَادَ الْوَجْهُ فِي جَوَازِ رُجُوعِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانٌ، وَلَمْ يُؤَدِّ الرَّاهِنُ الدَّيْنَ لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَيُبَاعُ عَلَيْهِ مُعْسِرًا كَانَ الرَّاهِنُ أَوْ مُوسِرًا، كَمَا لَوْ ضَمِنَ فِي ذِمَّتِهِ، يُطَالَبُ مُوسِرًا كَانَ الْأَصِيلُ، أَوْ مُعْسِرًا، ثُمَّ إِذَا بِيعَ فِي الدَّيْنِ بِقِيمَتِهِ، رَجَعَ بِهَا الْمَالِكُ عَلَى الرَّاهِنِ. وَإِنْ بِيعَ بِأَقَلَّ بِقَدْرٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانٌ، رَجَعَ بِمَا بِيعَ بِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: عَارِيَّةٌ، رَجَعَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ بِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ رَجَعَ بِمَا بِيعَ بِهِ إِنْ قُلْنَا: ضَمَانٌ. وَإِنْ قُلْنَا: عَارِيَّةٌ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَرْجِعُ إِلَّا بِالْقِيمَةِ ; لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ بِهَا يَضْمَنُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يَرْجِعُ بِمَا بِيعَ بِهِ كُلِّهُ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ مِلْكِهِ وَقَدْ صُرِفَ إِلَى دَيْنِ الرَّاهِنِ، وَهَذَا أَحْسَنُ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالرُّويَانِيُّ. قُلْتُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعُ: لَوْ تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ قُلْنَا: عَارِيَّةٌ، لَزِمَ الرَّاهِنُ الضَّمَانَ. وَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُرْتَهَنِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَهِنٌ لَا مُسْتَعِيرٌ.

وَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، كَمَا لَوْ تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَأَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ، أَنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: الضَّمَانُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسُ: لَوْ جَنَى فِي يَدِ الْمُرْتَهَنِ، فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: عَارِيَّةٌ، لَزِمَ الرَّاهِنُ الْقِيمَةَ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا إِذَا قُلْنَا: الْعَارِيَّةُ تُضْمَنُ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ، وَإِلَّا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. السَّادِسُ: إِذَا قُلْنَا: ضَمَانٌ، وَجَبَ بَيَانُ جِنْسِ الدَّيْنِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ فِي الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا، وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ: أَنَّ الْحُلُولَ وَالتَّأْجِيلَ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُمَا، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَنْ يَرْهَنُ عِنْدَهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا عَيَّنَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ، لَكِنْ لَوْ عَيَّنَ قَدْرًا فَرَهَنَ بِمَا دُونَهُ، جَازَ، وَلَوْ زَادَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: يَبْطُلُ فِي الزَّائِدِ، وَفِي الْمَأْذُونِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصِّفَةِ، وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ فِي الْجَمِيعِ لِلْمُخَالَفَةِ. وَكَمَا لَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، لَا يَصِحُّ فِي شَيْءٍ. وَلَوْ قَالَ: أَعِرْنِي لِأَرْهَنَهُ بِأَلْفٍ، أَوْ عِنْدَ فُلَانٍ، كَانَ ذَلِكَ كَتَقْيِيدِ الْمُعِيرِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَإِذَا قُلْنَا: عَارِيَّةٌ، فَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِأَيِّ جِنْسٍ شَاءَ، وَبِالْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ. قَالَ فِي التَّتِمَّةِ لَكِنْ لَا يَرْهَنُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ; لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا. فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فَكُّهُ إِلَّا بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ. وَلَوْ أَذِنَ فِي حَالٍّ فَرَهَنَهُ بِمُؤَجَّلٍ لَمْ يَصِحَّ كَعَكْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ إِلَى أَجَلٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعُ: لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَالِكُ، إِنْ قُلْنَا: ضَمَانٌ، فَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْقَاضِي: أَنَّهُ يُنَفَّذُ وَيُوقَفُ فِيهِ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ كَإِعْتَاقِ الْمَرْهُونِ، وَإِنْ قُلْنَا: عَارِيَّةٌ،

قَالَ الْقَاضِي: كَإِعْتَاقِ الْمَرْهُونِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى اللُّزُومِ، هَذَا الرَّهْنُ عَلَى قَوْلِ الْعَارِيَّةِ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَكُونُ رُجُوعًا، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى عَدَمِ اللُّزُومِ. الثَّامِنُ: لَوْ قَالَ مَالِكُ الْعَبْدِ: ضَمِنْتُ مَا لِفُلَانٍ عَلَيْكَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِي هَذَا، قَالَ الْقَاضِي: صَحَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الضَّمَانِ، وَيَكُونُ كَالْإِعَارَةِ لِلرَّهْنِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ تَرَدُّدٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ لَمْ يَقْبَلْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْقَبُولُ فِي الضَّمَانِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْأَعْيَانِ، تَقْرِيبًا لَهُ مِنَ الْمَرْهُونِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِي الضَّمَانِ الْمُطْلَقِ فِي الذِّمَّةِ. التَّاسِعُ: لَوْ قَضَى الْمُعِيرُ الدَّيْنَ بِمَالِ نَفْسِهِ، انْفَكَّ الرَّهْنُ، ثُمَّ رُجُوعُهُ عَلَى الرَّاهِنِ يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِ الْقَضَاءِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أَمْ بِغَيْرِهِ، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي بَابِ الضَّمَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَلَوْ شَهِدَ الْمُرْتَهِنُ لِلْمُعِيرِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ. وَلَوْ رَهَنَ عَبَدَهُ بِدَيْنِ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنِهِ، جَازَ، وَإِذَا بِيعَ فِيهِ، فَلَا رُجُوعَ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَرْهُونُ بِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: كَوْنُهُ دَيْنًا، فَلَا يَصِحُّ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، كَالْمَبِيعِ، أَوْ بِحُكْمِ الْيَدِ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمُسْتَعَارِ، وَالْمَأْخُوذِ عَلَى جِهَةِ السَّوْمِ، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَجُوزُ كُلُّ ذَلِكَ. الثَّانِي: كَوْنُهُ ثَابِتًا، فَلَا يَصِحُّ بِمَا لَمْ يَثْبُتْ، بِأَنْ رَهَنَهُ بِمَا يَسْتَقْرِضُهُ، أَوْ بِثَمَنِ مَا سَيَشْتَرِيهِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يَصِحُّ إِنْ عَيَّنَ مَا يَسْتَقْرِضُهُ. وَفِي وَجْهٍ: لَوْ تَرَاهَنَا بِالثَّمَنِ، ثُمَّ لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى تَبَايَعَا، صَحَّ الرَّهْنُ إِلْحَاقًا لِلْحَاصِلِ فِي الْمَجْلِسِ بِالْمُقَارَنِ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. فَعَلَى الصَّحِيحِ: لَوِ ارْتَهَنَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ وَقَبْضِهِ، كَانَ مَأْخُوذًا عَلَى جِهَةِ سَوْمِ الرَّهْنِ. فَإِذَا اسْتَقْرَضَ أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ لَمْ يَصِرْ دَيْنًا إِلَّا بِرَهْنٍ جَدِيدٍ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَصِيرُ. وَلَوِ امْتَزَجَ الرَّهْنُ وَسَبَّبَ ثُبُوتَ الدَّيْنِ، بِأَنْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ، وَارْتَهَنْتُ هَذَا الثَّوْبَ بِهِ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ وَرَهَنْتُ، أَوْ قَالَ:

أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، وَارْتَهَنْتُ بِهَا عَبْدَكَ، فَقَالَ: اسْتَقْرَضْتُهَا وَرَهَنْتُهُ، صَحَّ الرَّهْنُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ. وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: ارْتَهَنْتُ وَبِعْتُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِيَ اشْتَرَيْتُ وَرَهَنْتُ لَمْ يَصِحَّ لِتَقَدُّمِ شِقَّيِ الرَّهْنِ عَلَى أَحَدِ شِقَّيِ الْبَيْعِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: ارْتَهَنْتُ وَبِعْتُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: رَهَنْتُ وَاشْتَرَيْتُ، لِتَقَدُّمِ شِقَّيِ الرَّهْنِ عَلَى شِقَّيِ الْبَيْعِ، فَالشَّرْطُ أَنْ يَقَعَ أَحَدُ شِقَّيِ الرَّهْنِ بَيْنَ شَقِّيِ الْبَيْعِ، وَالْآخَرُ بَعْدَ شَقَّيِ الْبَيْعِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْنِي عَبْدَكَ بِكَذَا وَرَهَنْتُ بِهِ هَذَا الثَّوْبَ، فَقَالَ: بِعْتُ وَارْتَهَنْتُ، بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْنِي بِكَذَا عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي دَارَكَ، فَقَالَ اشْتَرَيْتُ وَرَهَنْتُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا، يَتِمُّ الْعَقْدُ بِمَا جَرَى. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» هُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ. وَالثَّانِي، قَالَهُ الْقَاضِي: لَا يَتِمُّ بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ: ارْتَهَنْتُ أَوْ قَبِلْتُ؛ لِأَنَّ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ الشَّرْطُ إِيجَابُ الرَّهْنِ لَا اسْتِيجَابُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: افْعَلْ كَذَا لِتَبِيعَنِي، لَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلْبَيْعِ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ صَاحِبِ التَّهْذِيبِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَرَّقَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِالْتِمَاسِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ السَّبَبِ الدَّاعِي لَهُ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُنَا بَاعَ وَشَرَطَ الرَّهْنَ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ الِالْتِمَاسَ، أَوْ أَبْلَغَ مِنْهُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: كَوْنُهُ لَازِمًا. وَالدُّيُونُ الثَّابِتَةُ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَصِيرُ لَازِمًا بِحَالٍ، كَنُجُومِ الْكِتَابَةِ، فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ، وَالْآخَرُ غَيْرُهُ. وَهُوَ نَوْعَانِ. لَازِمٌ فِي حَالِ الرَّهْنِ، وَغَيْرُ لَازِمٍ. فَالْأَوَّلُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَسْبُوقًا بِحَالَةِ الْجَوَازِ، أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْتَقِرًّا، كَالْقَرْضِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ الْمُقْتَرَضِ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، كَالثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَالْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي وَضْعِهِ اللُّزُومُ، كَالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، صَحَّ الرَّهْنُ بِهِ أَيْضًا، لِقُرْبِهِ مِنَ اللُّزُومِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ فِي الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ، فَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ مَانِعًا، فَالظَّاهِرُ مَنْعُ الرَّهْنِ، لِوُقُوعِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ الْمَرْهُونُ فِي الثَّمَنِ مَا لَمْ

يَمْضِ مُدَّةُ الْخِيَارِ. أَمَّا مَا كَانَ أَصْلُ وَضْعِهِ عَلَى الْجَوَازِ، كَالْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، وَقَبْلَ تَمَامِهِ، فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ، صَحَّ قَطْعًا، لِلُزُومِهِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا، لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ، وَعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمُسْتَحِقِّ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ هُوَ الصَّوَابُ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ كَثِيرِينَ مِنَ الْأَصْحَابِ، أَوْ أَكْثَرِهِمْ، إِجْرَاءُ الْوَجْهَيْنِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، لَا سِيَّمَا عِبَارَةُ الْوَسِيطِ وَتَعْلِيلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْمُسَابَقَةُ، فَإِنْ جَعَلْنَاهَا كَالْإِجَارَةِ، أَوْ كَالْجَعَالَةِ، فَلَهَا حُكْمُهَا. فَرْعٌ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِالْمَنَافِعِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْإِجَارَةِ إِنْ وَرَدَتْ عَلَى الذِّمَّةِ، وَيُبَاعُ الْمَرْهُونُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَتَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ مِنْ ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةُ عَيْنٍ لَمْ يَصِحَّ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ. فَرْعٌ لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمِلَاكِ بِالزَّكَاةِ، وَالْعَاقِلَةِ بِالدِّيَةِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، لِفَوَاتِ الشَّرْطِ الثَّانِي، وَيَجُوزُ بَعْدَهُ. فَرْعٌ التَّوَثُّقُ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ شَدِيدُ التَّقَارُبِ، فَمَا جَازَ الرَّهْنُ بِهِ، جَازَ ضَمَانُهُ،

فصل

وَكَذَا عَكْسُهُ إِلَّا أَنَّ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ جَائِزٌ. وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْعُهْدَةِ. وَوَجْهٌ عَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا. قُلْتُ: كَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي التَّعْلِيقِ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ مَا صَحَّ ضَمَانُهُ، صَحَّ الرَّهْنُ بِهِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْعُهْدَةِ وَيُسْتَثْنَى أَيْضًا، أَنَّ ضَمَانَ رَدِّ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ، صَحِيحٌ عَلَى الْمَذْهَبِ بِهَا، بَاطِلٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمِمَّنِ اسْتَثْنَاهَا الْغَزَالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ بِالدَّيْنِ الْوَاحِدِ رَهْنًا بَعْدَ رَهْنٍ، ثُمَّ هُوَ كَمَا لَوْ رَهَنَهُمَا مَعًا. وَلَوْ كَانَ الشَّيْءُ مَرْهُونًا بِعَشَرَةٍ، وَأُقْرَضَهُ عَشْرَةً أُخْرَى عَلَى أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا بِهَا أَيْضًا لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ. فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، فَطَرِيقُهُ أَنْ يَفْسَخَ الْمُرْتَهَنُ الرَّهْنَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ يَرْهَنُهُ بِالْجَمِيعِ. وَلَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ، فَفَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لِيَكُونَ مَرْهُونًا، بِالدَّيْنِ وَالْفِدَاءِ، صَحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ نَصُّهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحَ الرَّهْنُ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِبْقَاءَهُ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَلَوِ اعْتَرَفَ الرَّاهِنُ أَنَّهُ مَرْهُونٌ بِعِشْرِينَ، ثُمَّ رَهَنَهُ أَوَّلًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بِعَشَرَةٍ، وَقُلْنَا: لَا يَجُوزُ، وَنَازَعَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ اعْتِرَافَ الرَّاهِنِ، يُقَوِّي جَانِبَهُ، وَلَوْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ فِي جَوَابِهِ: فَسَخْنَا الرَّهْنَ الْأَوَّلَ، وَاسْتَأْنَفْنَا بِالْعِشْرِينَ رَهْنًا، فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِاعْتِضَادِهِ بِقَوْلِ الرَّاهِنِ، رَهَنَ بِعِشْرِينَ أَمْ قَوْلُ الرَّاهِنِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْفَسْخِ؟ وَجْهَانِ، مَيْلُ الصَّيْدَلَانِيِّ إِلَى أَوَّلِهِمَا، وَصَحَّحَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ الثَّانِي، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ رَهَنَهُ بِأَلْفٍ، ثُمَّ بِأَلْفَيْنِ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ رَهَنَ بِأَلْفَيْنِ، مَا لَمْ يُصَرِّحَا بِأَنَّ الثَّانِي كَانَ بَعْدَ فَسْخِ الْأَوَّلِ.

فَرْعٌ رَهَنَ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ اسْتَقْرَضَ عَشْرَةً لِيَكُونَ رَهْنًا بِهِمَا، وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ رَهَنَ بِالْعِشْرِينَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الشَّاهِدَانِ الْحَالَ وَنَقَلَا مَا سَمِعَا، فَهَلْ يُحْكَمْ بِكَوْنِهِ رَهْنًا بِالْعِشْرِينَ، إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ يَعْتَقِدُ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ، وَجْهَانِ. وَإِنْ عَرَفَا الْحَالَ، فَإِنْ كَانَا يَعْتَقِدَانِ جَوَازَ الْإِلْحَاقِ، فَهَلْ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِأَنَّهُ رَهَنَ بِالْعِشْرِينَ، أَمْ عَلَيْهِمَا بَيَانُ الْحَالِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِلَى الْحَاكِمِ، لَا إِلَيْهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَا يَعْتَقِدَانِ مَنْعَ الْإِلْحَاقِ لَمْ يَشْهَدَا إِلَّا بِمَا جَرَى بَاطِنًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ، فِيمَا إِذَا شَهِدَا بِنَفْسِ الرَّهْنِ، وَفِيهِ صُوَرُ الْجُمْهُورِ: فَإِنْ شَهِدَا عَلَى إِقْرَارِ الرَّاهِنِ، فَالْوَجْهُ تَجْوِيزُهُ مُطْلَقًا. قُلْتُ: كَذَا أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ هَذَا التَّفْصِيلَ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ مُجْتَهِدَيْنَ، فَفِيهِ التَّفْصِيلُ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُجْتَهِدَيْنَ لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا، وَلَزِمَهُمَا شَرْحُ الْحَالِ. وَلَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، فَرَهَنَ الْوَارِثُ التَّرِكَةَ عِنْدَ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ أَيْضًا، فَفِي صِحَّتِهِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الصِّيغَةُ، فَيُعْتَبَرُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، اعْتِبَارُهُمَا فِي الْبَيْعِ، وَالْخِلَافُ فِي الْمُعَاطَاةِ وَالِاسْتِيجَابِ وَالْإِيجَابُ عَائِدٌ كُلُّهُ هُنَا. فَرْعٌ الرَّهْنُ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مَشْرُوطٌ فِي عَقْدٍ، كَمَنْ بَاعَ، أَوْ أَجَّرَ، أَوْ أَسْلَمَ، أَوْ زَوَّجَ بِشَرْطِ الرَّهْنِ بِالثَّمَنِ، أَوِ الْأُجْرَةِ، أَوِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، أَوِ الصَّدَاقِ. وَالْقَسْمُ

الثَّانِي: مَا لَمْ يُشْرَطْ، وَيُسَمَّى: رَهْنُ التَّبَرُّعِ، وَالرَّهْنُ الْمُبْتَدَأُ. فَالْأَوَّلُ، كَبِعْتُكَ دَارِي بِكَذَا عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِهِ عَبْدَكَ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ وَرَهَنْتُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا خِلَافًا فِي أَنَّهُ يَتِمُّ الرَّهْنُ بِهَذَا، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: ارْتَهَنْتُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَقُومُ الشَّرْطُ مَقَامَ الْقَبُولِ، كَمَا يَقُومُ الِاسْتِيجَابُ مَقَامَهُ، وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُمَا إِذَا شَرَطَا الرَّهْنَ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ، صَارَ مَرْهُونًا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ رَهْنٍ، وَيُقَامُ التَّشَارُطُ مَقَامَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. فَرْعٌ الشَّرْطُ فِي الرَّهْنِ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: شَرْطٌ يَقْتَضِيهِ، فَلَا يَضُرُّ ذِكْرُهُ فِي رَهْنِ التَّبَرُّعِ، وَلَا فِي الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي عَقْدٍ، كَقَوْلِهِ: رِهْنَتُكَ عَلَى أَنْ تُبَاعَ فِي دَيْنِكَ، أَوْ لَا تُبَاعَ إِلَّا بِإِذْنِكَ، أَوْ يَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ. وَالثَّانِي: مَا لَا يَقْتَضِيهِ، وَهُوَ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، كَالْإِشْهَادِ، وَإِمَّا لَا غَرَضَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا الْهَرِيسَةَ، وَحُكْمُهُمَا كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا غَيْرُهُمَا، وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا يَنْفَعُ الْمُرْتَهِنَ وَيَضُرُّ الرَّاهِنَ، كَشَرْطِ الْمَنَافِعِ أَوِ الزَّوَائِدِ لِلْمُرْتَهَنِ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، فَإِنْ كَانَ رَهْنَ تَبَرُّعٍ، بَطَلَ الرَّهْنُ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَجُرَّ جَهَالَةَ الثَّمَنِ، بِأَنْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا عَلَى أَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَحْبُوسًا شَهْرًا، فَسَدَ الرَّهْنُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَفِي فَسَادِ الْبَيْعِ الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا شَرَطَ عَقْدًا فَاسِدًا فِي بَيْعٍ، فَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارَ، صَحَّ الرَّهْنُ أَمْ فَسَدَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ الشَّرْطُ، وَإِنْ جَرَّ جَهَالَةً، بِأَنَّ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا تَكُونُ مَنَافِعُهُ لِلْمُرْتَهَنِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَجُرُّ جَهَالَةً، ثُمَّ الْبُطْلَانُ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ الْمَنْفَعَةَ. فَلَوْ قَيَّدَهَا فَقَالَ: وَيَكُونُ مَنْفَعَتُهَا لِي سَنَةً مَثَلًا، فَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ فِي صَفْقَةٍ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ.

النَّوْعُ الثَّانِي: يَنْفَعُ الرَّاهِنَ وَيَضُرُّ الْمُرْتَهِنَ، كَرَهَنْتُكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُبَاعَ فِي الدَّيْنِ، أَوْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بَعْدَ الْمَحَلِّ بِشَهْرٍ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوْ بِرِضَايَ، فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ، كَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَعَنِ ابْنِ خَيْرَانَ: أَنَّهُ قَالَ: يَجِيءُ فِي فَسَادِهِ الْقَوْلَانِ، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، فَلَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، عَادَ الْقَوْلَانِ فِي فَسَادِهِ بِفَسَادِ الرَّهْنِ، فَإِنْ لَمْ يَفْسَدْ، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ. فَرْعٌ زَوَائِدُ الْمَرْهُونِ غَيْرُ مَرْهُونَةٍ، فَلَوْ رَهَنَ شَجَرَةً أَوْ شَاةً بِشَرْطِ أَنْ تُحْدِثَ الثَّمَرَةَ أَوِ الْوَلَدَ مَرْهُونًا لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ مَعْدُومٌ، فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَفِي إِكْسَابِ الْعَبْدِ إِذَا شَرَطَ كَوْنَهَا مَرْهُونَةً وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَصْلِ. وَإِنْ أَفْسَدْنَا، فَفِي صِحَّةِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ. فَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي بَيْعٍ، وَصَحَّحْنَا الشَّرْطَ، أَوْ أَبْطَلْنَاهُ وَصَحَّحْنَا الرَّهْنَ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ، وَإِلَّا فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ. وَإِذَا اخْتَصَرْتُ قُلْتُ: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: بُطْلَانُ الْجَمِيعِ. وَالثَّانِي: صِحَّةُ الْجَمِيعِ. وَالثَّالِثُ: صِحَّةُ الْبَيْعِ فَقَطْ. وَالرَّابِعُ: صِحَّتُهُ مَعَ الرَّهْنِ دُونَ الشَّرْطِ. قُلْتُ: هَذَا الرَّابِعُ، هُوَ الْمَنْصُوصُ، كَذَا قَالَهُ فِي الشَّامِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ أَقْرَضَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَرْهَنَ بِهِ شَيْئًا يَكُونُ مَنَافِعُهُ لِلْمُقْرِضِ، فَالْقَرْضُ بَاطِلٌ. فَلَوْ

شَرَطَ كَوْنَ الْمَنَافِعِ مَرْهُونَةً، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَالْقَرْضُ صَحِيحٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ نَفْعًا وَفِي صِحَّةِ الرَّهْنِ الْقَوْلَانِ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ: أَقْرَضْتُكَ هَذَا الْأَلْفَ بِشَرْطِ أَنْ تَرْهَنَ بِهِ، وَبِالْأَلْفِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ كَذَا أَوْ بِذَلِكَ الْأَلْفِ وَحْدَهُ، فَالْقَرْضُ فَاسِدٌ. وَلَوْ قَالَ الْمُسْتَقْرِضُ: أَقْرِضْنِي أَلْفًا عَلَى أَنْ أَرْهَنَهُ، وَبِالْأَلْفِ الْقَدِيمِ، أَوْ بِالْقَدِيمِ فَقَطْ كَذَا، فَالْأَصَحُّ فَسَادُ الْقَرْضِ. لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَرْهَنَ بِالثَّمَنِ وَالدَّيْنِ، أَوْ بِالدَّيْنِ رَهْنًا، بَطَلَ الْبَيْعُ كَمَا سَبَقَ. فَلَوْ رَهَنَ الْمُسْتَقْرِضُ، أَوِ الْمُشْتَرِي كَمَا شَرَطَ، فَإِنْ عَلِمَ فَسَادَ الشَّرْطِ، نُظِرَ، إِنْ رَهَنَ بِالْأَلْفِ الْقَدِيمِ، صَحَّ، وَإِنْ رَهَنَ بِهِمَا لَمْ يَصِحَّ بِالْأَلْفِ الَّذِي فَسَدَ قَرْضُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَضْمُونٌ فِي يَدِهِ، وَالْأَعْيَانُ لَا يُرْهَنُ بِهَا. وَفِي صِحَّتِهِ فِي الْأَلْفِ الْقَدِيمِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ صَحَّ لَمْ يُوَزَّعْ، بَلْ كُلُّهُ مَرْهُونٌ بِالْأَلْفِ الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الرَّهْنِ عَلَى وَثِيقِ كُلِّ بَعْضٍ مِنْ [أَبْعَاضِ] الدَّيْنِ بِجَمِيعِ الْمَرْهُونِ. فَلَوْ تَلِفَ الْأَلْفُ الَّذِي فَسَدَ قَبَضَهُ فِي يَدِهِ، صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَصَحَّ الرَّهْنُ بِالْأَلْفَيْنِ حِينَئِذٍ. وَإِنْ ظَنَّ صِحَّتَهُ، فَإِنْ رَهَنَ بِالْقَدِيمِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ: يَصِحُّ. قُلْتُ: قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، هُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَزَيَّفَ الْإِمَامُ قَوْلَ الْقَاضِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ رَهَنَ بِالْأَلْفَيْنِ وَقُلْنَا: الصَّفْقَةُ تُفَرَّقُ، فَصِحَّتُهُ بِالْأَلْفِ الْقَدِيمِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ بَيْعٍ آخَرَ، فَأَنْشَأَهُ ظَانًّا صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي بَابِهَا.

فصل

فَصْلٌ سَبَقَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي دُخُولِ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ فِي الرَّهْنِ تَحْتَ اسْمِ الْأَرْضِ، وَفِي دُخُولِ الْمُغْرَسِ تَحْتَ رَهْنِ الشَّجَرَةِ، وَالْأُسِّ تَحْتَ الْجِدَارِ، خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْبَيْعِ، وَ [الرَّهْنُ] أَوْلَى بِالْمَنْعِ لِضَعْفِهِ. وَلَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ تَحْتَ رَهْنِ الشَّجَرَةِ قَطْعًا، وَلَا غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا. وَلَا يَدْخُلُ الْبِنَاءُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ تَحْتَ رَهْنِ الْأَشْجَارِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالِانْتِفَاعِ. وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ إِلَّا بِتَبَعِيَّةِ الْأَشْجَارِ فَلِذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ كَالْمُغْرَسِ. وَيَدْخُلُ فِي الْأَشْجَارِ، الْأَغْصَانُ، وَالْأَوْرَاقُ، لَكِنَّ الَّذِي يُفْصَلُ غَالِبًا، كَأَغْصَانِ الْخِلَافِ، وَوَرَقِ الْآسِ، وَالْفِرْصَادِ، فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الثَّمَرَةِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ، وَفِي انْدِرَاجِ الْجَنِينِ تَحْتَ رَهْنِ الْحَيَوَانِ خِلَافٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا يَدْخُلُ الصُّوفُ عَلَى الظَّهْرِ. وَقِيلَ: يَدْخُلُ قَطْعًا. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ أَوَانَ الْجَزِّ لَمْ يَدْخُلْ، وَإِلَّا دَخَلَ. فَصْلٌ قَالَ: رَهَنْتُكَ هَذِهِ الْخَرِيطَةَ بِمَا فِيهَا، أَوْ هَذَا الْحُقَّ بِمَا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مَا فِيهِمَا مَعْلُومًا مَرْئِيًّا، صَحَّ الرَّهْنُ فِي الظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ فِي الْمَظْرُوفِ. وَفِي الْخَرِيطَةِ وَالْحُقِّ قَوْلَا الصَّفْقَةِ. وَأَمَّا نَصُّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ عَلَى الصِّحَّةِ فِي الْحُقِّ، وَعَدَمِهَا فِي الْخَرِيطَةِ، فَسَبَبُهُ أَنَّهُ فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي حُقٍّ لَهُ قِيمَةٌ تُقْصَدُ بِالرَّهْنِ، وَفِي خَرِيطَةٍ لَيْسَتْ لَهَا قِيمَةٌ تُقْصَدُ بِالرَّهْنِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مَا فِيهَا. وَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ مُضَافًا إِلَى مَا فِيهِمَا جَمِيعًا، وَكَانَ مَا فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ فِيهِ،

بَطَلَ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَفِي وَجْهٍ: يَصِحُّ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ وَلَوْ عَكَسْتَ التَّصْوِيرَ فِي الْحُقِّ وَالْخَرِيطَةِ، كَانَ الْحُكْمُ يُعْكَسُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بِلَا فَرْقٍ. وَلَوْ قَالَ: رَهَنْتُكَ الظَّرْفَ دُونَ مَا فِيهِ، صَحَّ الرَّهْنُ فِيهِ مَهْمَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ. فَإِنْ قُلْتَ: لِأَنَّهُ إِذَا أَفْرَدَهُ فَقَدْ وَجَّهَ الرَّهْنَ نَحْوَهُ، وَجَعَلَهُ الْمَقْصُودَ. وَإِنْ رَهَنَ الظَّرْفَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا فِيهِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا. فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُقْصَدُ بِالرَّهْنِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الْمَرْهُونُ لَا غَيْرَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقْصَدُ مُنْفَرِدًا لَكِنَّهُ مُتَمَوَّلٌ، فَهَلِ الْمَرْهُونُ الظَّرْفُ فَقَطْ؟ أَوْ مَعَ الْمَظْرُوفِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَوَّلُهُمَا. وَيَجِيءُ عَلَى قِيَاسِهِ وَجْهَانِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَوَّلًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَنْزِلُ عَلَى الْمَظْرُوفِ أَمْ يُلْغَى. قُلْتُ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الرَّهْنِ، يَجْرِي مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ حَرْفًا حَرْفًا، فِيمَا إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ الْخَرِيطَةَ بِمَا فِيهَا، أَوْ وَحْدَهَا، أَوِ الْخَرِيطَةَ ; لِأَنَّ مَأْخَذَهُ اللَّفْظُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْعَاقِدَانِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِمَا التَّكْلِيفُ، لَكِنَّ الرَّهْنَ تَبَرُّعٌ. فَإِنْ صَدَرَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ فِيمَا لَهُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالشَّرْطُ وُقُوعُهُ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ وَالِاحْتِياطِ، فَرَهَنَ الْوَلِيُّ مَالَ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، وَارْتِهَانُهُ لَهُمْ، مَشْرُوطَانِ بِالْمُصْلِحَةِ وَالِاحْتِيَاطِ، فَمِنْ صُوَرِ الرَّهْنِ لِلْمَصْلَحَةِ، أَنْ يَشْتَرِيَ لِلطِّفْلِ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْنِ بِمِائَةٍ نَسِيئَةً، وَيَرْهَنُ بِهِ مَا يُسَاوِي مِائَةً مِنْ مَالِهِ، فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُعْرَضْ تَلِفَ، فَفِيهِ غِبْطَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَإِنْ تَلِفَ الْمَرْهُونُ، كَانَ فِي الْمُشْتَرَى مَا يَجْبُرُهُ. وَلَوِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ إِلَّا بَرْهَنِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ، تَرَكَ هَذَا الشِّرَاءَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَلِفَ الْمَرْهُونُ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتْلَفُ فِي الْعَادَةِ كَالْعَقَارِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَيْلٌ إِلَى جَوَازِهِ. وَمِنْهَا إِذَا وَقَعَ نَهْبٌ أَوْ حَرِيقٌ، وَخَافَ الْوَلِيُّ عَلَى مَالِهِ، فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَقَارًا، وَيَرْهَنَ بِالثَّمَنِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ

أَدَاؤُهُ فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَبِعْ صَاحِبُ الْعَقَارِ عَقَارَهُ إِلَّا بِشَرْطِ الرَّهْنِ. وَلَوِ اقْتَرَضَ لَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَرَهَنَ بِهِ لَمْ يَجُزْ، قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ التَّلَفَ عَلَى مَا يُقْرِضُهُ خَوْفَهُ عَلَى مَا يَرْهَنُهُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَوْدِعُهُ، وَوَجَدَ مَنْ يَرْتَهِنُهُ، وَالْمَرْهُونُ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنَ الْقَرْضِ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ رَهْنُهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ لِحَاجَتِهِ إِلَى النَّفَقَةِ، أَوِ الْكُسْوَةِ، أَوْ لِتَوْفِيَةِ مَا لَزِمَهُ، أَوْ لِإِصْلَاحِ ضَيَاعِهِ أَوْ مَرَمَّتِهَا ارْتِقَابًا لِغَلَّتِهَا، أَوْ لِانْتِظَارِ حُلُولِ دَيْنٍ لَهُ مُؤَجَّلٍ، أَوْ نَفَاقِ مَتَاعِهِ الْكَاسِدِ فَإِنْ لَمْ يَرْتَقِبْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَبَيْعُ مَا يُرِيدُ رَهْنَهُ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِقْرَاضِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُ مَالِ الصَّبِيِّ بِحَالٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا الِارْتِهَانُ، فَمِنْ صُوَرِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَى الْوَلِيِّ اسْتِيفَاءُ دَيْنِ الصَّبِيِّ، فَيَرْتَهِنُ بِهِ إِلَى تَيْسِيرِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ دَيْنُهُ مُؤَجَّلًا بِأَنْ وَرِثَهُ كَذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الْوَلِيُّ مَالَهُ مُؤَجَّلًا بِغِبْطَةٍ، فَلَا يُكْتَفَى بِيَسَارِ الْمُشْتَرِي، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِارْتِهَانِ بِالثَّمَنِ. وَفِي النِّهَايَةِ إِشَارَةٌ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، أَخْذًا مِنْ جَوَازِ إِبْضَاعِ مَالِهِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ جَازَ أَنْ يَرْتَهِنَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا يُسَاوِي الْمَبِيعَ نَقْدًا، وَإِنَّمَا يَرْتَهِنُ وَيُؤَجِّلُ بِالنَّسِيئَةِ لِلْفَاضِلِ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ عَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ: إِنَّهُ مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَلَا ذِكْرَ لِهَذَا الْوَجْهِ فِي مُعْظَمِ كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ. وَإِنَّمَا اشْتُهِرَ الْخِلَافُ عِنْدَهُمْ، فِيمَا إِذَا بَاعَ مَا يُسَاوِي مِائَةً نَقْدًا، وَمِائَةً وَعِشْرِينَ نَسِيئَةً بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ نَسِيئَةً، وَأَخَذَ بِالْجَمِيعِ رَهْنًا، فَفِيهِ عِنْدُهُمْ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ وَظَاهِرُ النَّصِّ، وَقَوْلُ أَكْثَرِهِمْ: إِنَّهُ صَحِيحٌ. قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي، وَشَيْخُهُ الصَّيْمَرِيُّ، وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ: فَإِذَا جَوَّزْنَا الْبَيْعَ نَسِيئَةً، فَشَرْطُهُ كَوْنُ الْمُشْتَرِيَ ثِقَةً مُوسِرًا، وَيَكُونُ الْأَجَلُ قَصِيرًا: قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْأَجَلِّ الَّذِي لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: سَنَةٌ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَتَقَدَّرُ بِالسَّنَةِ،

فصل

بَلْ يُعْتَبَرُ عُرْفُ النَّاسِ. وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الرَّهْنِ وَافِيًا بِالثَّمَنِ، فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ، بَطَلَ الْبَيْعُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْإِشْهَادَ، فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ يُقْرِضَ مَالَهُ أَوْ يَبِيعَهُ لِضَرُورَةِ نَهْبٍ، وَيَرْتَهِنَ بِهِ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَرْتَهِنَ إِذَا خِيفَ تَلَفُ الْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ وَيَرْفَعُهُ إِلَى حَاكِمٍ يَرَى سُقُوطَ الدَّيْنِ بِتَلَفِ الرَّهْنِ، وَحَيْثُ جَازَ الرَّهْنُ، فَشَرْطُهُ أَنْ يُرْهَنَ عِنْدَ أَمِينٍ يَجُوزُ إِيدَاعُهُ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا، أَوْ جَدًّا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ حَاكِمًا، أَوْ أَمِينَهُ. لَكِنْ حَيْثُ جَازَ الرَّهْنُ أَوِ الِارْتِهَانُ، جَازَ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ أَنْ يُعَامِلَا بِهِ أَنْفُسَهُمَا، وَيَتَوَلَّيَا الطَّرَفَيْنِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمَا ذَلِكَ، وَإِذَا تَوَلَّى الْأَبُ الطَّرَفَيْنِ، فَقَبْضُهُ وَإِقْبَاضُهُ سَنَذْكُرُهُمَا قَرِيبًا فِي رَهْنِ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ الْمُودِعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ رَهْنُ الْمُكَاتَبِ وَارْتِهَانُهُ، جَائِزَانِ بِشَرْطِ الْمَصْلَحَةِ وَالِاحْتِيَاطِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّبِيِّ. وَتَفْصِيلُ صُوَرِ الِارْتِهَانِ، كَمَا سَبَقَ فِي الصَّبِيِّ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالرَّهْنِ، وَبِإِذْنِ السَّيِّدِ قَوْلَانِ، تَنْزِيلًا لِرَهْنِهِ مَنْزِلَةَ تَبَرُّعِهِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ اسْتِقْلَالُهُ بِالْبَيْعِ نَسِيئَةً بِحَالٍ، وَبِإِذْنِ السَّيِّدِ الْقَوْلَانِ. فَصْلٌ الْمَأْذُونُ إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ سَيِّدُهُ مَالًا لِيَتَّجِرَ فِيهِ، فَهُوَ كَالْمُكَاتَبِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَهْنَهُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، لِكَوْنِ الرَّهْنِ لَيْسَ مِنْ عَقْدِ التِّجَارَةِ. وَالثَّانِي: لَهُ الْبَيْعُ

فصل

نَسِيئَةً بِإِذْنِ سَيِّدِهِ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ قَالَ لَهُ: اتَّجِرْ بِجَاهِكَ، وَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ مَالًا، فَلَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الذِّمَّةِ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا، وَكَذَا الرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ، إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَى سَيِّدِهِ. فَإِنْ فَضَلَ فِي يَدِهِ مَالٌ، كَانَ كَمَا لَوْ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالًا. قُلْتُ: قَوْلُهُ: إِنَّ رَهْنَهُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، يَعْنِي مَا مَنَعْنَاهُ فِي الْمُكَاتَبِ فَهُنَا أَوْلَى، وَمَا لَا، فَوَجْهَانِ. وَهَذَا تَرْتِيبُ الْإِمَامِ، وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَصَاحِبَا الشَّامِلِ وَالتَّهْذِيبِ بِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الْقَبْضِ وَالطَّوَارِئِ قَبْلَهُ الْقَبْضُ رُكْنٌ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ. وَلَوْ رَهَنَ وَلَمْ يَقْبِضْ، فَلَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ شَرْطٌ فِي بَيْعٍ، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ. ثُمَّ مَنْ صَحَّ ارْتِهَانُهُ، صَحَّ قَبْضُهُ. وَتَجْرِي النِّيَابَةُ فِي الْقَبْضِ جَرَيَانَهَا فِي الْعَقْدِ، لَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَنِيبَ الرَّاهِنَ، وَلَا عَبْدَهُ وَمُدَبَّرَهُ، وَأُمَّ وَلَدِهِ قَطْعًا، وَلَا عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ عَلَى أَصَحِّ الْأَوْجُهِ. وَفِي الثَّالِثِ: إِنْ رَكِبَتْهُ دُيُونٌ، صَحَّتِ اسْتِنَابَتُهُ، لِانْقِطَاعِ سُلْطَةِ السَّيِّدِ عَمَّا فِي يَدِهِ كَالْمُكَاتَبِ، وَإِلَّا، فَلَا، وَيَصِحُّ اسْتِنَابَةُ الْمُكَاتَبِ، لِاسْتِقْلَالِهِ بِالْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ. فَصْلٌ صِفَةُ الْقَبْضِ هُنَا فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ، وَيُطْرَدُ الْخِلَافُ فِي كَوْنِ التَّخْلِيَةِ فِي الْمَنْقُولِ قَبْضًا، وَعَنِ الْقَاضِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهَا لَا تَكْفِي هُنَا ; لِأَنَّ الْقَبْضَ مُسْتَحَقٌّ هُنَاكَ.

فَرْعٌ أَوْدَعَ عِنْدَ رَجُلٍ مَالًا، ثُمَّ رَهَنَهُ عِنْدَهُ، فَظَاهِرُ نَصِّهِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنٍ جَدِيدٍ فِي الْقَبْضِ، وَلَوْ وَهَبَهُ لَهُ، فَظَاهِرُ نَصِّهِ: حُصُولُ الْقَبْضِ بِلَا إِذْنٍ فِي الْقَبْضِ، وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: فِيهِمَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: اشْتِرَاطُ الْإِذْنِ فِيهِمَا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ تَوْثِيقٌ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِغَيْرِ الْقَبْضِ، وَالْهِبَةُ تَمْلِيكٌ، وَمَقْصُودُهُ الِانْتِفَاعُ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالْقَبْضِ، فَكَانَتِ الْهِبَةُ لِمَنْ فِي يَدِهِ رِضًا بِالْقَبْضِ. وَالثَّالِثُ بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ فِيهِمَا، قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ. وَسَوَاءٌ شَرَطَ الْإِذْنَ الْجَدِيدَ، أَمْ لَا، فَلَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ مَا لَمْ يَمْضِ زَمَانٌ يَتَأَتَّى فِيهِ صُورَةُ الْقَبْضِ. لَكِنْ إِذَا شَرَطَ الْإِذْنَ، فَهَذَا الزَّمَانُ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْإِذْنِ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، فَمِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ. وَقَالَ حَرْمَلَةُ: لَا حَاجَةَ إِلَى مُضِيِّ هَذَا الزَّمَانِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِنَفْسِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: قَوْلُهُ: قَالَ حَرْمَلَةُ مَعْنَاهُ: قَالَ حَرْمَلَةُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، لَا نَقْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَآخَرُونَ. وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى هَذَا، لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِعِبَارَةِ صَاحِبِ «الْمُهَذَّبِ» فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ، أَوْ كَالصَّرِيحَةِ، فِي أَنَّ حَرْمَلَةَ نَقَلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَحَصَلَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ وَجْهَيْنِ، لَا قَوْلَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلَى الصَّحِيحِ، إِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ مَنْقُولًا غَائِبًا، اعْتُبِرَ زَمَانٌ يُمْكِنُ الْمَصِيرُ فِيهِ إِلَيْهِ وَنَقْلُهُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ نَفْسُ الْمَصِيرِ وَمُشَاهَدَتُهُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ مِمَّا يُشَكُّ فِي بَقَائِهِ، كَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْآفَاتِ، اشْتُرِطَ. وَإِنْ تَيَقَّنَ بَقَاؤُهُ، فَلَا، فَإِنْ شَرَطْنَا الْحُضُورَ وَالْمُشَاهَدَةَ، فَالْمَذْهَبُ

أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ نَقْلُهُ، فَإِنْ شَرَطْنَا النَّقْلَ، أَوِ الْمُشَاهَدَةَ، فَهَلْ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، كَابْتِدَاءِ الْقَبْضِ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْقَبْضِ لَهُ، فَلْيُتِمَّهُ. فَرْعٌ لَوْ ذَهَبَ لِيَقْبِضَهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ ذَهَبَ مِنْ يَدِهِ، نُظِرَ، إِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَلَهُ أَخْذُهُ حَيْثُ وَجَدَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَى يَقْبِضَهُ الرَّاهِنُ، سَوَاءٌ شَرَطْنَا الْإِذْنَ الْجَدِيدَ، أَمْ لَا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدَانَ، وَكَأَنَّهُ صَوَّرَهُ فِيمَا إِذَا عَلِمَ خُرُوجَهُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ. أَمَّا إِذَا خَرَجَ بَعْدَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْإِذْنَ الْجَدِيدَ، فَقَدْ جَعَلْنَا الرَّهْنَ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ إِذْنًا فِي الْقَبْضِ، فَلْيَكُنْ كَمَا لَوِ اسْتَأْنَفَ إِذْنًا. فَرْعٌ إِذَا رَهَنَ الْأَبُ مَالَ الطِّفْلِ عِنْدَ نَفْسِهِ، أَوْ مَالَهُ عِنْدَ الطِّفْلِ، فَفِي اشْتِرَاطِ مُضِيِّ زَمَانٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْقَبْضُ، وَجْهَانِ. فَإِنْ شَرَطْنَاهُ، فَهُوَ كَرَهْنِ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ الْمُودِعِ، فَيَعُودُ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَقَصْدُ الْأَبِ قَبْضًا وَإِقْبَاضًا، كَالْإِذْنِ الْجَدِيدِ هُنَاكَ. فَرْعٌ إِذَا بَاعَ الْمَالِكُ الْوَدِيعَةَ، أَوِ الْعَارِيَّةَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ زَمَانُ إِمْكَانِ الْقَبْضِ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ وَانْتِقَالِ الضَّمَانِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ اشْتِرَاطُ الْمُشَاهَدَةِ

وَالنَّقْلِ، كَمَا سَبَقَ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ، فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ فِي الْقَبْضِ؟ نُظِرَ، إِنْ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا وَلَمْ يُوفِّهِ لَمْ يَحْصُلْ عَلَى الْقَبْضِ إِلَّا بِإِذْنِ الْبَائِعِ، فَإِنْ وَفَّاهُ أَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: هُوَ كَالرَّهْنِ، وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَذْهَبِ: أَنَّ الْقَبْضَ مُسْتَحَقٌّ فِي الْبَيْعِ، فَكَفَى دَوَامُهُ. فَرْعٌ إِذَا رَهَنَ الْمَالِكُ مَالَهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ، أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، أَوِ الْمُسْتَامِ، أَوِ الْوَكِيلِ، صَحَّ. وَالْقَوْلُ فِي افْتِقَارِ لُزُومِهِ إِلَى مُضِيِّ زَمَانٍ يَتَأَتَّى فِيهِ الْقَبْضُ، وَإِلَى إِذْنٍ جَدِيدٍ فِي الْقَبْضِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي رَهْنِ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ الْمُودَعِ. وَقِيلَ: لَا بُدَّ فِي الْغَصْبِ مِنْ إِذْنٍ قَطْعًا، لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِي أَوَّلِ الْيَدِ. وَإِذَا رَهَنَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، لَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ، فَإِنْ أَرَادَ الْبَرَاءَةَ، رَدَّهُ إِلَى الرَّاهِنِ، ثُمَّ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ بِحُكْمِ الِارْتِهَانِ. فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ قَبْضِهِ، فَلَهُ إِجْبَارُهُ. وَلَوْ أَرَادَ الرَّاهِنُ إِجْبَارَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى رَدِّهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ هُوَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي، إِذْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ، بَرِئَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْإِيدَاعِ، الِائْتِمَانُ، وَالضَّمَانُ وَالْأَمَانَةُ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَعَدَّى فِي الْوَدِيعَةِ لَمْ يَبْقَ أَمِينًا، بِخِلَافِ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ هُوَ وَالضَّمَانُ، فَإِنَّهُ لَوْ تَعَدَّى فِي الرَّهْنِ، صَارَ ضَامِنًا وَبَقِيَ الرَّهْنُ. وَالْإِجَارَةُ، وَالتَّوْكِيلُ، وَالْقِرَاضُ عَلَى الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، وَتَزْوِيجُهُ لِلْجَارِيَةِ الَّتِي غَصَبَهَا لَا يُفِيدُ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِإِبْرَاءِ الْغَاصِبِ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ، وَالْمَالُ بَاقٍ فِي يَدِهِ، فَفِي بَرَاءَتِهِ وَمَصِيرِ يَدِهِ يَدَ أَمَانَةٍ، وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَبْرَأُ. قُلْتُ: قَطَعَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» بِأَنَّهُ يَبْرَأُ، وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ، قَالَ صَاحِبًا الشَّامِلِ وَالْمُهَذَّبِ: هُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ رَهَنَ الْعَارِيَّةَ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ، أَوِ الْمَقْبُوضِ بِالسَّوْمِ، أَوْ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ عِنْدَ قَابِضِهُ لَمْ يَبْرَأْ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» : إِذَا رَهَنَ الْعَارِيَّةَ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ لَمْ يَزَلْ ضَمَانُهَا، وَكَانَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا. فَإِنْ مَنَعَهُ الِانْتِفَاعَ، فَفِي زَوَالِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ. وَقَالَ فِي الْحَاوِي: فِي بُطْلَانِ الْعَارِيَّةِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تُبْطُلُ، وَلَهُ الِانْتِفَاعُ. فَعَلَى هَذَا، يَبْقَى الضَّمَانُ. وَالثَّانِي: تُبْطَلُ الْعَارِيَّةُ، وَلَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ، وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي الطَّوَارِئِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. الْأَوَّلُ: مَا يُنْشِؤُهُ الرَّاهِنُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، فَكُلُّ مُزِيلٍ لِلْمِلْكِ، كَالْبَيْعِ، وَالْإِعْتَاقِ، وَالْإِصْدَاقِ، وَجَعْلِهِ أُجْرَةً، وَالرَّهْنِ، وَالْهِبَةِ مَعَ الْقَبْضِ وَالْكِتَابَةِ، وَالْوَطْءِ مَعَ الْإِحْبَالِ، يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الرَّهْنِ إِذَا وُجِدَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالتَّزْوِيجُ، وَالْوَطْءُ بِلَا إِحْبَالٍ، لَيْسَ بِرُجُوعٍ، بَلْ رَهْنُ الْمُزَوَّجَةِ ابْتِدَاءً جَائِزٌ. وَأَمَّا الْإِجَارَةُ، فَإِنْ جَوَّزْنَا رَهْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْعَهُ، فَلَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَإِلَّا، فَرُجُوعٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالتَّدْبِيرُ، رُجُوعٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَصَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : إِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ إِلَى مُدَّةٍ تَنْقَضِي قَبْلَ مَحَلِّ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا قَطْعًا، وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ وَالْبِنَاءِ الْمَذْكُورِ.

وَالْأَصَحُّ عَلَى الْجُمْلَةِ: أَنَّهَا لَيْسَتْ رُجُوعًا مُطْلَقًا، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَغَوِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَعْرِضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنَ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَنَصَّ: أَنَّهُ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، وَفِيهِمَا طُرُقٌ. أَصَحُّهَا. فِيهِمَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَبْطُلُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى اللُّزُومِ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِمَا كَالْبَيْعِ. وَالثَّانِي: يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ، فَبَطَلَ كَالْوِكَالَةِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ بَعْدَ مَوْتِ الرَّاهِنِ، مِلْكٌ لِوَارِثِهِ. وَفِي إِبْقَاءِ الرَّهْنِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، وَفِي مَوْتِ الْمُرْتَهِنِ يَبْقَى الدَّيْنُ وَالْوَارِثُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْوَثِيقَةِ حَاجَةَ مَيِّتِهِ. وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ فِيهِمَا. فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلَيْنِ، فَقِيلَ: هُمَا مُخْتَصَّانِ بِرَهْنِ التَّبَرُّعِ. فَأَمَّا الْمَشْرُوطُ فِي بَيْعٍ، فَلَا يَبْطُلُ قَطْعًا لِتَأَكُّدِهِ. وَالْمَذْهَبُ: طَرْدُهُمَا فِي النَّوْعَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. فَإِذَا أَبْقَيْنَا الرَّهْنَ، قَامَ وَارِثُ الرَّاهِنِ مَقَامَهُ فِي الْإِقْبَاضِ، وَوَارِثُ الْمُرْتَهِنِ فِي الْقَبْضِ، وَسَوَاءٌ أَبْطَلْنَاهُ أَمْ لَا، وَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْوَفَاءُ بِالرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ، ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ. وَلَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. فَإِنْ لَمْ نُبْطِلْهُ، فَجُنَّ الْمُرْتَهِنُ، قَبَضَ مَنْ يَنْظُرُ فِي مَالِهِ. فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ الرَّاهِنُ وَكَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، فَعَلَ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ. وَإِنْ جُنَّ الرَّاهِنُ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، وَخَافَ النَّاظِرُ فَسْخَ الْمُرْتَهِنِ إِنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ، وَالْحَظُّ فِي الْإِمْضَاءِ، سَلَّمَهُ. وَإِنْ لَمْ يَخَفْ، أَوْ كَانَ الْحَظُّ فِي الْفَسْخِ، أَوْ كَانَ رَهْنَ تَبَرُّعٍ لَمْ يُسَلِّمْهُ، كَذَا أَطْلَقُوهُ، وَمُرَادُهُمْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً وَلَا غِبْطَةً؛ لِأَنَّهُمَا تُجَوِّزَانِ رَهْنَ مَالِ الْمَجْنُونِ ابْتِدَاءً، فَالِاسْتِدَامَةُ أَوْلَى. وَلَوْ طَرَأَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَجْرُ سَفَهٍ، أَوْ فَلَسٍ لَمْ يَبْطُلْ عَلَى الْمَذْهَبِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يَعْرِضُ فِي الْمَرْهُونِ. فَلَوْ رَهَنَ عَصِيرًا وَأَقْبَضَهُ، فَانْقَلَبَ فِي

يَدِ الْمُرْتَهِنِ خَمْرًا، بَطَلَ الرَّهْنُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، لِخُرُوجِهِ عَنِ الْمَالِيَّةِ. وَقِيلَ: إِنْ عَادَ خَلًّا، بَانَ أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَبْطُلْ، وَإِلَّا، بَانَ بُطْلَانُهُ، فَإِنْ أَبْطَلْنَا، فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهَنِ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ ; لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي يَدِهِ، فَإِنْ عَادَ خَلًّا، عَادَ الرَّهْنُ عَلَى الْمَشْهُورِ، كَمَا يَعُودُ الْمِلْكُ. وَمُرَادُهُمْ بِبُطْلَانِهِ أَوَّلًا: ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ مَا دَامَ خَمْرًا، وَلَمْ يُرِيدُوا اضْمِحْلَالَ أَثَرِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَوْ رَهْنَ شَاةً فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَدَبَغَ جِلْدَهَا لَمْ يَعُدْ رَهَنًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَاخْتَارَهُ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَدَّثَتْ بِالْمُعَالَجَةِ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ، وَلِأَنَّ الْعَائِدَ غَيْرُ ذَلِكَ الْمِلْكِ. وَلَوِ انْقَلَبَ خَمْرًا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَفِي بُطْلَانِهِ الْبُطْلَانَ الْكُلِّيَّ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِاخْتِلَالِهِ فِي حَالِ ضَعْفِ الرَّهْنِ، وَعَدَمِ لُزُومِهِ. وَالثَّانِي: لَا، كَمَا بَعْدَ الْقَبْضِ. وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ، تَرْجِيحُ هَذَا. قُلْتُ: قَدْ قَطَعَ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وَ «الْبَيَانِ» بِالْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ الثَّانِيَ أَصَحُّ، وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ لَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، ثَبُتَ الْخِيَارُ لِلْمُرْتَهَنِ، لَأَنَّ الْخَلَّ دُونَ الْعَصِيرِ. وَلَا يَصِحُّ الْإِقَبَاضُ فِي حَالِ الْخَمْرِيَّةِ، فَلَوْ فَعَلَ وَعَادَ خَلًّا، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنَ اسْتِئْنَافِ قَبْضٍ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا بُدَّ مِنَ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، ثُمَّ الْقَبْضُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا رَهَنَهُ مَا هُوَ فِي يَدِهِ. فَرْعٌ لَوِ انْقَلَبَ الْمَبِيعُ خَمْرًا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَالْكَلَامُ فِي انْقِطَاعِ الْبَيْعِ وَعَوْدِهِ إِذَا عَادَ خَلًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي انْقِلَابِ الْعَصِيرِ الْمَرْهُونِ خَمْرًا بَعْدَ الْقَبْضِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَقَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ،

فصل

مِنْهُمْ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» بِأَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ، بِأَنَّ الرَّهْنَ عَادَ تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّاهِنِ، وَهُنَا يَعُودُ مِلْكَ الْبَائِعِ لِعَدَمِ الْبَيْعِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ جَنَى الْمَرْهُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ أَرْشٌ، وَقُلْنَا: رَهْنُ الْجَانِي ابْتِدَاءً فَاسِدٌ، فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ وَجْهَانِ، كَتَخَمُّرِ الْعَصِيرِ، وَهُنَا أَوْلَى بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ، لِدَوَامِ الْمِلْكِ فِي الْجَانِي. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِبَاقُ الْمَرْهُونِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ انْتَهَى إِلَى حَالَةٍ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَبْطُلُ، وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي تَخَلُّلِ الْخَمْرِ وَتَخْلِيلِهَا الْخَمْرُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: مُحْتَرَمَةٌ، وَهِيَ الَّتِي اتُّخِذَ عَصِيرُهَا لِيَصِيرَ خَلًّا، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُحْتَرَمَةً؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْخَلِّ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَنْقَلِبُ الْعَصِيرُ إِلَى الْحُمُوضَةِ إِلَّا بِتَوَسُّطِ الشِّدَّةِ، فَلَوْ لَمْ يُحْتَرَمْ وَأُرِيقَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، لَتَعَذَّرَ اتِّخَاذُ الْخَلِّ. النَّوْعُ الثَّانِي: غَيْرُ مُحْتَرَمَةٍ، وَهِيَ الَّتِي اتِّخَاذُ عَصِيرِهَا لِلْخَمْرِيَّةِ. ثُمَّ فِي النَّوْعَيْنِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: تَخْلِيلُ الْخَمْرِ بِطَرْحِ الْعَصِيرِ، أَوِ الْمِلْحِ، أَوِ الْخَلِّ، أَوِ الْخُبْزِ الْحَارِّ، أَوْ غَيْرِهَا [فِيهَا] حَرَامٌ. وَالْخَلُّ الْحَاصِلُ مِنْهَا نَجِسُّ لِعِلَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: تَحْرِيمُ التَّخْلِيلِ. وَالثَّانِيَةُ: نَجَاسَةُ الْمَطْرُوحِ بِالْمُلَاقَاةِ، فَتَسْتَمِرُّ نَجَاسَتُهُ، إِذْ لَا مُزِيلَ لَهَا، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى الْحُكْمِ بِانْقِلَابِهِ طَاهِرًا، بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الدَّنِّ. ثُمَّ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْخَمْرُ

الْمُحْتَرَمَةُ وَغَيْرُهَا، وَالْمَطْرُوحُ قَصْدًا، أَوِ اتِّفَاقًا، كَإِلْقَاءِ الرِّيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يَجُوزُ تَخْلِيلُ الْمُحْتَرَمَةِ. وَفِي وَجْهٍ: تَطْهُرُ إِذَا طُرِحَ بِغَيْرِ قَصْدٍ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ طَرَحَ فِي الْعَصِيرِ بَصَلًا، أَوْ مِلْحًا، وَاسْتَعْجَلَ بِهِ الْحُمُوضَةَ بَعْدَ الِاشْتِدَادِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ لَاقَاهُ فِي حَالِ طَهَارَتِهِ كَأَجْزَاءِ الدَّنِّ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْمَطْرُوحَ تَنَجَّسَ بِالتَّخَمُّرِ، فَيَسْتَمِرُّ، بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الدَّنِّ لِلضَّرُورَةِ. وَلَوْ طَرَحَ الْعَصِيرَ عَلَى الْخَلِّ، وَكَانَ الْعَصِيرُ غَالِبًا يَغْمُرُ الْخَلَّ عِنْدَ الِاشْتِدَادِ، فَفِي طَهَارَتِهِ إِذَا انْقَلَبَ خَلًّا هَذَانِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ كَانَ الْخَلُّ غَالِبًا يَمْنَعُ الْعَصِيرَ مِنَ الِاشْتِدَادِ، فَلَا بَأْسَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِمْسَاكُ الْمُحْتَرَمَةِ لِتَصِيرَ خَلًّا، جَائِزٌ، وَغَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ يَجِبُ إِرَاقَتُهَا. فَلَوْ لَمْ يُرِقْهَا فَتَخَلَّلَتْ، طَهُرَتْ ; لِأَنَّ النَّجَاسَةَ وَالتَّحْرِيمَ لِلشِّدَّةِ، وَقَدْ زَالَتْ، وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ غَيْرَ الْمُحْتَرَمَةِ فَتَخَلَّلَتْ لَمْ تَطْهُرْ. وَحَكَى الْإِمَامُ عَنْ بَعْضِ الْخِلَافِيِّينِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِمْسَاكُ الْمُحْتَرَمَةِ، بَلْ طَرِيقُهُ أَنْ يُعْرَضَ عَنِ الْعَصِيرِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ خَلًّا، فَإِنِ اتَّفَقَ رُؤْيَتُهُ إِيَّاهُ خَمْرًا، أَرَاقَهُ، وَهَذَانَ شَاذَّانِ مُنْكَرَانِ. فَرْعٌ مَتَى عَادَتِ الطِّهَارَةُ بِالتَّخَلُّلِ، طَهُرَتْ أَجْزَاءُ الظَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، وَعَنِ الدَّارِكِيِّ: إِنْ لَمْ يَتَشَرَّبْ شَيْئًا مِنَ الْخَمْرِ كَالْقَوَارِيرِ، طَهُرَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ: الطَّهَارَةُ مُطْلَقًا. وَكَمَا يَطْهُرُ مَا يُلَاقِي الْخَلَّ بَعْدَ التَّخَلُّلِ، يَطْهُرُ مَا فَوْقَهُ مِمَّا أَصَابَهُ الْخَمْرُ فِي حَالِ الْغَلَيَانِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الْأَيْلَاقِيُّ. قُلْتُ: هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتَ، وَبِالْقَافِ مَنْسُوبٌ إِلَى إِيلَاقَ، وَهِيَ نَاحِيَةٌ مِنْ بِلَادِ الشَّاشِ، وَاسْمُ أَبِي الرَّبِيعِ هَذَا: طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، إِمَامٌ جَلِيلٌ، مِنْ أَصْحَابِ الْقَفَّالِ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَ يَنْقُلُهَا مِنَ الظِّلِّ إِلَى الشَّمْسِ وَعَكْسِهِ، أَوْ يَفْتَحُ رَأْسَهَا لِيُصِيبَهَا الْهَوَاءُ اسْتِعْجَالًا لِلْحُمُوضَةِ، طَهُرَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ: لَا تَطْهُرُ، وَالْمُحْتَرَمَةُ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ. فَرْعٌ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ، خِلَافٌ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْخَمْرِ الْمُحْتَرَمَةِ، بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي طَهَارَتِهَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي الطِّهَارَةِ. وَإِذَا اسْتَحَالَتْ أَجْوَافُ حَبَّاتِ الْعَنَاقِيدِ خَمْرًا، فَفِي بَيْعِهَا اعْتِمَادًا عَلَى طِهَارَةِ ظَاهِرِهَا، وَتَوَقُّعِ طَهَارَةِ بَاطِنِهَا، وَجْهَانِ، وَطَرَدُوهُمَا فِي الْبَيْضَةِ الْمُسْتَحِيلِ بَاطِنُهَا دَمًا، وَالصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْمَرْهُونِ بَعْدَ الْقَبْضِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ. الْأَوَّلُ: فِي جَانِبِ الرَّاهِنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ يُزِيلُ الْمِلْكَ وَيَنْقُلُ الْعَيْنَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَمِمَّا يَزْحَمُ الْمُرْتَهِنَ فِي مَقْصُودِ الرَّهْنِ، وَهُوَ الرَّهْنُ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَمِنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ يُنْقِصُ الْمَرْهُونَ، أَوْ يُقَلِّلُ الرَّغْبَةَ فِيهِ، كَالتَّزْوِيجِ. قُلْتُ: فَلَوْ خَالَفَ فَزَوَّجَ الْعَبْدَ أَوِ الْأُمَّةَ الْمَرْهُونَيْنِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَقِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْإِجَارَةُ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا يَحِلُّ قَبْلَ انْقِضَاءِ مَدَّتِهَا، بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: إِنْ جَوَّزْنَا بَيْعَ الْمُسْتَأْجَرِ، صَحَّتْ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : تَبْطُلُ فِي قَدْرِ الْأَجَلِ. وَفِي الزَّائِدِ قَوْلَا تَفْرِيقِ

الصِّفَةِ. وَلَمْ يَفْصِلِ الْجُمْهُورُ، بَلْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِالْبُطْلَانِ. وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ يَحُلُّ بَعْدَ انْقِضَائِهَا مُدَّةَ الْإِجَارَةِ أَوْ مَعَهَا، صَحَّتْ قَطْعًا. فَإِنْ حَلَّ قَبْلَ انْقِضَائِهَا بِمَوْتِ الرَّاهِنِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ، وَيُضَارِبُ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْأُجْرَةِ الْمَدْفُوعَةِ مَعَ الْغُرَمَاءِ. وَالثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْقَطَّانِ: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَصْبِرُ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، كَمَا يَصْبِرُ الْغُرَمَاءُ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِتَسْتَوْفِيَ الْمُعْتَدَّةُ حَقَّ السُّكْنَى جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ. وَعَلَى هَذَا، يُضَارِبُ الْمُرْتَهِنُ بِدَيْنِهِ فِي الْحَالِّ. فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَبِيعَ الْمَرْهُونُ، قُضِيَ بَاقِي دَيْنِهِ. فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، فَلِلْغُرَمَاءِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَجَّرَ لِغَيْرِ الْمُرْتَهِنِ. فَلَوْ أَجَّرَهُ، جَازَ وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مُسْتَأْجِرَهُ فَرَهَنَهُ عِنْدَهُ، جَازَ. فَلَوْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ، ثُمَّ سَلَّمَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، جَازَ. وَلَوْ سَلَّمَ عَنِ الرَّهْنِ، وَقَعَ عَنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْإِجَارَةِ مُسْتَحَقٌّ. وَلَوْ سَلَّمَ عَنِ الْإِجَارَةِ، لَوْ يَحْصُلُ قَبْضُ الرَّهْنُ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَنْعِ الرَّاهِنِ [مِنْ] الْبَيْعِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَالْحُكْمُ بِإِبْطَالِهَا، هُوَ الْجَدِيدُ الْمَشْهُورُ. وَعَلَى الْقَدِيمِ الْمُجَوِّزِ وَقْفُ الْعُقُودِ: تَكُونُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْفِكَاكِ وَعَدَمِهِ، وَمَالَ الْإِمَامُ إِلَى تَخْرِيجِهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِ الْمُفْلِسِ مَالَهُ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ إِذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ، فَفِي تَنْفِيذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: الثَّالِثُ، وَهُوَ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، نُفِّذَ، وَإِلَّا، فَلَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُنَفَّذُ، فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ، فَلَوِ انْفَكَّ بِإِبْدَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يُنَفَّذُ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إِعْتَاقَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، ثُمَّ زَالَ حَجْرُهُ. وَقَطَعَ جَمَاعَةٌ بِالنُّفُوذِ. وَإِنْ بِيعَ فِي الدَّيْنِ ثُمَّ مَلَكَهُ لَمْ يُعْتَقْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ.

وَإِنْ قُلْنَا: يَنْفُذُ مُطْلَقًا، لَزِمَ الرَّاهِنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، أُخِذَتْ فِي الْحَالِ، وَجُعِلَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَإِلَّا، أُمْهِلُ إِلَى الْيَسَارِ، فَإِذَا أَيْسَرَ، أُخِذَتْ وَجُعِلَتْ رَهْنًا إِنْ لَمْ يَحُلَّ الدَّيْنُ، وَإِنْ حَلَّ، طُولِبَ بِهِ، وَلَا مَعْنَى لِلرَّهْنِ، كَذَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: كَمَا أَنَّ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ قَدْ يَكُونُ بِالْحَالِّ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْمُؤَجَّلِ، فَكَذَا قَدْ تَقْتَضِي الْمُصْلِحَةُ أَخْذَ الْقِيمَةِ رَهْنًا، وَإِنْ حَلَّ إِلَى تَيَسُّرِ الِاسْتِيفَاءِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمَهْمَا بَذَلَ الْقَيِّمَةَ عَلَى قَصْدِ الْغُرْمِ، صَارَتْ رَهْنًا وَلَا حَاجَةَ إِلَى عَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ، وَالِاعْتِبَارُ بِقَصْدِ الْمُؤَدِّي. وَمَتَى كَانَ مُوسِرًا، وَقُلْنَا: يُنَفَّذُ مُطْلَقًا، أَوْ مِنَ الْمُوسِرِ، فَفِي وَقْتِ نُفُوذِهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْأَقْوَالِ فِي وَقْتِ نُفُوذِ عِتْقِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ. فَفِي قَوْلٍ: يَتَعَجَّلُ. وَفِي قَوْلٍ: يَتَأَخَّرُ إِلَى دَفْعِ الْقِيمَةِ. وَفِي قَوْلٍ: يَتَوَقَّفُ. فَإِذَا غَرِمَ، أَسْنَدْنَا الْعِتْقَ تَبَيُّنًا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِنُفُوذِهِ فِي الْحَالِ. وَالْفَرْقُ: أَنَّ الْعِتْقَ هُنَاكَ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلَا يَزُولُ إِلَّا بِقَبْضِهِ قِيمَتَهُ، وَهُنَا يُصَادِفُ مِلْكَهُ. قُلْتُ: قَوْلُهُ: إِذَا كَانَ مُوسِرًا، فَفِيهِ طَرِيقَانِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُعْسِرَ إِذَا نَفَّذْنَا عِتْقَهُ، يُعْتَقُ فِي الْحَالِ بِلَا خِلَافٍ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِفِكَاكِ الرَّهْنِ، نُفِّذَ عِنْدَ الْفِكَاكِ، إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ عُلِّقَ بِصِفَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ وُجِدَتْ قَبْلَ فِكَاكِ الرَّهْنِ، فَفِيهِ أَقْوَالُ التَّنْجِيزِ. وَإِنْ وُجِدَتْ بَعْدَهُ، نُفِّذَ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ لَوْ رَهَنَ نِصْفَ الْعَبْدِ ثُمَّ أَعْتَقَ نِصْفَهُ، فَإِنْ أَضَافَ الْعِتْقَ إِلَى النِّصْفِ الْمَرْهُونِ،

فصل

فَفِيهِ الْأَقْوَالُ. وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى النِّصْفِ الْآخَرِ، أَوْ أَطْلَقَ، عُتِقَ مَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَيَسْرِي إِلَى الْمَرْهُونِ إِنْ نَفَّذْنَا إِعْتَاقَهُ، وَكَذَا إِنْ لَمْ نُنَفِّذْهُ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهُ يَسْرِي إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَمِلْكُهُ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا، يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ عَلَى الْأَصَحِّ، حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ، وَجَزَمَ فِي «التَّتِمَّةِ» بِأَنْ لَا فَرْقَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ. قُلْتُ: إِذَا أَعْتَقَ الْمَرْهُونَ عَنْ كَفَّارَتِهِ، أَجْزَأَهُ إِنْ قُلْنَا: يُنَفَّذُ إِعْتَاقُهُ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَةِ غَيْرِهِ، فَلَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ بِيعَ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي «الْفَتَاوَى» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ وَقْفُ الْمَرْهُونِ، بَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْأَقْوَالِ. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» إِنْ قُلْنَا: لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ، فَكَالْعِتْقِ، وَإِلَّا فَبَاطِلٌ. فَصْلٌ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ وَطْءُ الْمَرْهُونَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، عَزَلَ، أَمْ لَا. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَجُوزُ وَطْءُ ثَيِّبٍ لَا تَحْبَلُ لِصِغَرٍ، أَوْ إِيَاسٍ، وَوَطْءُ الْحَامِلِ مِنَ الزِّنَا، وَلَكِنْ وَطْءُ الْحَامِلُ مِنَ الزِّنَا، مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا. قُلْتُ: وَفِي وَجْهٍ: يَحْرُمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ خَالَفَ فَوَطَءَ، فَلَا حَدَّ وَلَا مَهْرَ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ إِنِ افْتَضَّهَا. فَإِنْ شَاءَ جَعْلَهُ رَهْنًا، وَإِنْ شَاءَ قَضَاهُ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنْ أَوْلَدَهَا، فَالْوَلَدُ نَسِيبٌ حُرٌّ، وَلَا

قِيمَةَ عَلَيْهِ، وَفِي مَصِيرِهَا أُمَّ وَلَدٍ أَقْوَالُ الْعِتْقِ، وَهُنَا أَوْلَى بِالنُّفُوذِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، لِقُوَّةِ الْإِحْبَالِ. وَقِيلَ: عَكْسُهُ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى مِنْ جِهَةٍ، فَإِنَّهُ تُنْجَزُ بِهِ الْحَرِيَّةُ، بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ. وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: فِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ، الْقَطْعُ بِالنُّفُوذِ، وَعَدَمُهُ، وَأَصَحُّهَا وَهُوَ الثَّالِثُ: طَرْدُ الْأَقْوَالِ، فَإِنْ نُفِّذَ بِالِاسْتِيلَادِ، لَزِمَهُ الْقِيمَةُ، وَالْحُكْمُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْعِتْقِ، وَإِلَّا، فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ. فَلَوْ حَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَامِلٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهَا حَامِلٌ بِحُرٍّ. وَإِذَا وَلَدَتْ لَا تُبَاعُ حَتَّى تَسْقِيَ الْوَلَدَ اللِّبَأَ، وَنَجِدُ مُرْضِعًا خَوْفًا مِنْ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا الْمُشْتَرِي، فَيَهْلَكُ الْوَلَدُ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْمُرْضِعُ، بِيعَتِ الْأُمُّ، وَلَا يُبَالَى بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ لِلضَّرُورَةِ. ثُمَّ إِنِ اسْتَغْرَقَهَا الدَّيْنُ، بِيعَتْ كُلُّهَا، وَإِلَّا فَيُبَاعُ قَدْرُ الدَّيْنِ وَإِنْ أَفْضَى التَّشْقِيصُ إِلَى نُقْصَانِ رِعَايَةٍ لِحَقِّ الِاسْتِيلَادِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَشْتَرِي الْبَعْضَ، بِيعَ الْجَمِيعُ لِلضَّرُورَةِ، وَإِذَا بِيعَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ، انْفَكَّ الرَّهْنُ عَنِ الْبَاقِي وَاسْتَقَرَّ الِاسْتِيلَادُ فِيهِ، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَوْلِدِ بِحَسْبِ النَّصِيبَيْنِ، وَيَكُونُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا. وَمَتَى عَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ بَعْدَ بَيْعِهَا فِي الدَّيْنِ، نَفَذَ الِاسْتِيلَادُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا. وَلَوِ انْفَكَّ رَهْنُهَا مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ، نَفَذَ الِاسْتِيلَادُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَا لَوْ بِيعَتْ ثُمَّ مَلَكَهَا. وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنَّ يَهَبَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ لِلْمُرْتَهَنِ، وَإِنَّمَا تُبَاعُ فِي الْحَقِّ لِلضَّرُورَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ: الِاسْتِيلَادُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ. فَرْعٌ لَوْ مَاتَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ. وَقُلْنَا: الِاسْتِيلَادُ لَا يُنَفَّذُ، لَزِمَهُ قِيمَتُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، فَتَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهَا. وَلَوْ أَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِشُبْهَةٍ وَمَاتَتْ بِالْوِلَادَةِ، وَجَبَتْ قِيمَتُهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ

فصل

سَبَبٌ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ فِي الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ اسْتِيلَاءٌ عَلَيْهَا، وَالْعُلُوقَ مِنْ آثَارِهِ، فَأَدَمْنَا الِاسْتِيلَاءَ كَالْمُحْرِمِ إِذَا نَفَّرَ صَيْدًا وَبَقِيَ نِفَارُهُ إِلَى الْهَلَاكِ بِالتَّعَثُّرِ وَغَيْرِهِ. وَالْحُرَّةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاسْتِيلَاءِ. وَلَوْ أَوْلَدَ امْرَأَةً بِالزِّنَا مُكْرَهَةً، فَمَاتَتْ بِالْوِلَادَةِ حُرَّةً [كَانَتْ] أَوْ أُمَّةً لَمْ يَجِبِ الضَّمَانُ عَلَى الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَيْهِ، لِقَطْعِ النَّسَبِ. وَلَوْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْوِلَادَةِ لَمْ يَجِبِ الضَّمَانُ بِلَا خِلَافٍ، لِتَوَلُّدِهِ مِنْ مُسْتَحِقٍّ. وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا ضَمَانَ الْحُرَّةِ، فَهُوَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ، وَجَبَ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْإِحْبَالِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّلَفِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَبَقِيَ زَمَنًا حَتَّى مَاتَ وَقِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، لَزِمَهُ مِائَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَجِبُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّلَفِ. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ أَكْثَرُهُمَا، كَالْغَصْبِ. وَلَوْ لَمْ تَمُتْ، وَنَقَصَتْ بِالْوِلَادَةِ، لَزِمَهُ الْأَرْشُ. فَإِنْ شَاءَ جَعْلَهُ رَهْنًا مَعَهَا، وَإِنْ شَاءَ صَرَفَهُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ. فَصْلٌ لِلرَّاهِنِ اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا تَضُرُّ بِالْمُرْتَهِنِ، كَسُكْنَى الدَّارِ، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ، وَاسْتِكْسَابُ الْعَبْدِ، وَلُبْسُ الثَّوْبِ، وَإِلَّا إِذَا نَقَصَ بِاللُّبْسِ، وَإِنْزَاءُ الْفَحْلِ، إِلَّا إِذَا نَقَصَ قِيمَتُهُ. وَالْإِنْزَاءُ عَلَى الْأُنْثَى، إِنْ كَانَ الدَّيْنُ يَحُلُّ قَبْلَ ظُهُورِ الْحَمْلِ، أَوْ تَلِدُ قَبْلَ حُلُولِهِ. فَإِنْ كَانَ يَحُلُّ بَعْدَ ظُهُورِهِ وَقَبْلَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ لَا يُعْرَفُ، جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تُبَاعُ مَعَ الْحَمْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُعْرَفُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا دُونَ الْحَمْلِ، وَهُوَ غَيْرُ مَرْهُونٍ. وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ فِي الْأَرْضِ الْمَرْهُونَةِ، وَلَا الْغِرَاسُ، وَفِي وَجْهٍ: يَجُوزُ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، وَالصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. وَالزَّرْعُ إِنْ نَقَصَ قِيمَةَ الْأَرْضِ لِاسْتِيفَاءِ قُوَّتِهَا، مَمْنُوعٌ. وَإِنْ لَمْ يُنْقِصْ وَكَانَ بِحَيْثُ يُحْصَدُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَلَا [مَنْعَ] . فَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِدْرَاكُ لِعَارِضٍ، تُرِكَ إِلَى الْإِدْرَاكِ.

فصل

وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُحْصَدُ بَعْدَ الْحُلُولِ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، مُنِعَ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّهُ تَقِلُّ الرَّغْبَةُ فِي الْمَزْرُوعَةِ. وَفِي قَوْلٍ: لَا مَنْعَ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَطْعِ عِنْدَ الْمَحَلِّ إِنْ لَمْ يَفِ قِيمَتُهَا مَزْرُوعَةً دُونَ الزَّرْعِ بِالدَّيْنِ. وَلَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى حَيْثُ مَنَعْنَاهُ لَمْ يُقْلَعْ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَلَعَلَّهُ يَقْضِي الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْبَيْعِ، فَيُقْلَعُ إِنْ لَمْ تَفِ قِيمَةُ الْأَرْضِ بِدَيْنِهِ، وَزَادَتْ بِالْقَلْعِ. فَلَوْ صَارَ الرَّاهِنُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ، فَفِي الْقَلْعِ وَجْهَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَبَتَ النَّخْلُ مِنْ نَوًى حَمَلَهُ السَّيْلُ، حَيْثُ جَزَمْنَا بِأَنَّهُ لَا يُقْلَعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّا مَنَعْنَاهُ هُنَا. فَصْلٌ الْيَدُ عَلَى الْمَرْهُونِ، مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُرْتَهَنِ ; لِأَنَّهَا مَقْصُودُ التَّوَثُّقِ. فَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَالنُّقُودِ وَالْحُبُوبِ، لَا تُزَالُ يَدُ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُ. وَأَمَّا غَيْرُهُ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ مَعَ بَقَائِهِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، تَعَيَّنَ فِعْلُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَإِنَّمَا تُزَالُ يَدُهُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُكْتَسِبًا وَتَيَسَّرَ اسْتِكْسَابُهُ هُنَاكَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ إِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ الِاسْتِكْسَابَ. فَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِخْدَامَ أَوِ الرُّكُوبَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنَ الِانْتِفَاعِ الْمُحْوِجِ إِلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ، فَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: لَا يَخْرُجُ، وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ يَخْرُجُ. ثُمَّ إِنِ اسْتَوْفَى تِلْكَ الْمَنَافِعَ بِإِعَارَةٍ لِعَدْلٍ، أَوْ إِجَارَةٍ بِشَرْطِهَا السَّابِقِ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَهَا بِنَفْسِهِ، قَالَ فِي «الْأُمِّ» : لَهُ ذَلِكَ، وَمَنْعَهُ فِي الْقَدِيمِ، فَحَمَلَ حَامِلُونَ الْأَوَّلَ عَلَى الثِّقَةِ الْمَأْمُونِ جُحُودُهُ. وَالثَّانِي: عَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمَا قَوْلَانِ مُطْلَقًا، وَهَذَا أَصَحُّ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: جَوَازُهُ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفَرَّعَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ عَلَى الْجَوَازِ: أَنَّهُ إِنْ وَثِقَ الْمُرْتَهِنُ بِالتَّسْلِيمِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا أَشْهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِلِانْتِفَاعِ، فَإِنْ كَانَ مَوْثُوقًا بِهِ عِنْدَ النَّاسِ، مَشْهُورَ الْعَدَالَةِ لَمْ يُكَلَّفِ الْإِشْهَادَ فِي كُلِّ أَخْذَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ جَارِيَةً، فَأَرَادَ أَخْذَهَا لِلِاسْتِخْدَامِ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ، إِلَّا إِذَا أَمِنَ غِشْيَانَهُ، بِأَنْ كَانَ مُحَرَّمًا، أَوْ ثِقَةً وَلَهُ أَهْلٌ. ثُمَّ إِنْ كَانَ لَهُ إِخْرَاجُ الْمَرْهُونِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِمَنْفَعَةٍ يَدُومُ اسْتِيفَاؤُهَا، فَذَاكَ. وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَوْفَى [فِي] بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، كَالرُّكُوبِ، وَالِاسْتِخْدَامِ، اسْتُوْفِيَ نَهَارًا، وَرُدَّ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لَيْلًا. فَرْعٌ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ الْمُسَافَرَةُ بِهِ بِحَالٍ وَإِنْ قَصُرَ سَفَرُهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ. وَلِهَذَا مُنِعَ زَوْجُ الْأَمَةِ مِنَ السَّفَرِ بِهَا. وَإِنَّمَا جَازَ لِسَيِّدِهَا السَّفَرُ بِهَا لِحَقِّهِ الْمُتَعَلِّقِ بِالرَّقَبَةِ، وَلِئَلَّا يَمْتَنِعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا، وَيَجُوزُ لِلْحُرِّ السَّفَرُ بِزَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ. فَرْعٌ كَلَامُ الْغَزَالِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْتَزَعُ الْعَبْدُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِكْسَابُهُ، وَإِنْ طَلَبَ الرَّاهِنُ خِدْمَتَهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْأَكْثَرُ لِذَلِكَ. وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ: أَنَّ لَهُ الِاسْتِخْدَامَ مَعَ إِمْكَانِ الِاسْتِكْسَابِ. قُلْتُ: كَلَامُ الْغَزَالِيُّ، مَحْمُولٌ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَصْحَابِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ تَأْوِيلَهُ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ لَا تَزَالُ يَدُ الْبَائِعِ عَنِ الْعَبْدِ الْمَحْبُوسِ بِالثَّمَنِ بِسَبَبِ الِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمَلِكَ الرَّاهِنِ مُسْتَقِرٌّ. وَهَلْ يَسْتَكْسِبُ فِي يَدِهِ لِلْمُشْتَرِي، أَمْ تُعَطَّلُ مَنَافِعُهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ لِلْأَصْحَابِ. قُلْتُ: الْأَرْجَحُ: اسْتِكْسَابُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي مُنِعَ بِهَا الرَّاهِنُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، إِذَا أَذِنَ فِيهَا، نُفِّذَتْ. فَإِنْ أَذِنَ فِي الْوَطْءِ، حَلَّ، فَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ، فَالْمَرْهُونُ وَالرَّهْنُ بِحَالِهِ. وَإِنْ أَحْبَلَ، أَوْ أَعْتَقَ، أَوْ بَاعَ بِالْإِذْنِ، نَفَذَتْ وَبَطَلَ الرَّهْنُ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَنِ الْإِذْنِ قَبْلَ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ. وَإِذَا رَجَعَ، فَالتَّصَرُّفُ بَعْدَهُ تَصَرُّفٌ بِلَا إِذْنٍ. وَلَوْ أَذِنَ فِي الْهِبَةِ وَالْإِقْبَاضِ، وَرَجَعَ قَبْلَ الْإِقْبَاضِ، صَحَّ وَامْتَنَعَ الْإِقْبَاضُ. وَلَوْ أَذِنَ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَ الرَّاهِنُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَبْنِيُّ عَلَى اللُّزُومِ. وَلَوْ رَجَعَ عَنِ الْإِذْنِ وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّاهِنُ، فَتَصْرَّفَ لَمْ يُنَفَّذْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمَتَى أَحْبَلَ، أَوْ أَعْتَقَ، أَوْ بَاعَ وَادَّعَى الْإِذْنَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ حَلَفَ، فَتَصَرُّفُهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَإِنْ نَكَلَ، فَحَلَفَ الرَّاهِنُ، فَهُوَ كَالتَّصَرُّفِ بِالْإِذْنِ. فَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ، فَفِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْجَارِيَةِ وَالْعَبْدِ، طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْغُرَمَاءِ إِذَا نَكَلَ الْوَارِثُ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالرَّدِّ ; لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ يُثْبِتُونَ الْحَقَّ ابْتِدَاءً لِلْمَيِّتِ، وَهَذَانَ يُثْبِتَانِ لِأَنْفُسِهِمَا. وَلَوِ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَوَرَثَةُ الْمُرْتَهِنِ، حَلَفُوا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. وَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُرْتَهِنُ وَوَرِثَةُ الرَّاهِنِ، حَلَفُوا يَمِينَ الرَّدِّ عَلَى الْبَتِّ. وَفِي

ثُبُوتِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ، الْقِيَاسُ: الْمَنْعُ، كَالْوَكَالَةِ. فَرْعٌ لَوْ حَصَلَ عِنْدَ الْمَرْهُونَةِ وَلَدٌ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: وَطِئْتُهَا بِإِذْنِكَ فَأَتَتْ بِهَذَا الْوَلَدِ مِنِّي وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ هُوَ مَنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًى، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ بِلَا يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِكَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ، فَلَا يَحْلِفُ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، وَهِيَ: الْإِذْنُ فِي الْوَطْءِ، وَأَنَّهُ وَطِئَ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْ، وَأَنَّهَا مَضَتْ مُدَّةُ إِمْكَانِ الْوَلَدِ مِنْهُ. فَإِنْ أَنْكَرَ وَاحِدًا مِنَ الْأَرْبَعَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَفِي وَجْهٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْوَطْءِ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُرْتَهِنُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَنْعًا وَتَسْلِيمًا، وَاقْتَصَرَ عَلَى إِنْكَارِ الِاسْتِيلَادِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَعَلَى الرَّاهِنِ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَرْعٌ لَوْ أَعْتَقَ أَوْ وَهَبَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ الرَّهْنِ، سَوَاءٌ كَانَ دَيْنُهُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ قِيمَتَهُ رَهْنًا مَكَانَهُ. وَلَوْ بَاعَ بِإِذْنِهِ وَالدَّيْنُ مُؤَجَّلٌ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ حَالًّا، قَضَى حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ، وَحُمِلَ إِذْنُهُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْبَيْعِ لِغَرَضِهِ. وَلَوْ أَذِنَ بِشَرْطِ أَنْ يَجْعَلَ الثَّمَنَ رَهْنًا مَكَانَهُ، فَقَوْلَانِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا. أَظْهَرُهُمَا: يَبْطُلُ الْإِذْنُ وَالْبَيْعُ. وَالثَّانِي: يَصِحَّانِ، وَيَلْزَمُ الرَّاهِنُ الْوَفَاءَ بِالشَّرْطِ. وَلَوْ أَذِنَ فِي الْإِعْتَاقِ بِشَرْطِ جَعْلِ الْقِيمَةِ رَهْنًا، أَوْ فِي الْوَطْءِ بِهَذَا

فصل

الشَّرْطِ، إِنْ أَحْبَلَ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. وَلَوْ أَذِنَ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ أَنْ يَجْعَلَ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ وَهُوَ مُؤَجَّلٌ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: فَسَادُ الْبَيْعِ وَالْإِذْنِ، لِفَسَادِ الشَّرْطِ. وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ: يَصِحَّانِ، وَيُجْعَلُ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَهُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: أَذِنْتُ بِشَرْطِ أَنْ تَرْهَنَ الثَّمَنَ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ أَذِنْتَ مُطْلَقًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَلَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، وَحَلَفَ الْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ صَحَّحْنَا الْإِذْنَ، فَعَلَى الرَّاهِنِ رَهْنُ الثَّمَنِ، وَإِلَّا، فَإِنْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِي الْمُرْتَهِنَ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَيَبْقَى مَرْهُونًا. وَإِنْ كَذَّبَهُ، نُظِرَ، إِنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الرَّهْنِ، حَلَفَ، وَعَلَى الرَّاهِنِ أَنْ يَرْهَنَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِكَوْنِهِ مَرْهُونًا، وَادَّعَى مِثْلَ مَا ادَّعَاهُ الرَّاهِنُ، فَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَبِيعِ وَيَمِينُ الْمُرْتَهِنِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَلَوْ أَقَامَ الْمُرْتَهِنُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ مَرْهُونًا، فَهُوَ كَإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي بِهِ. فَرْعٌ مَنْقُولٌ عَنْ «الْأُمِّ» لَوْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي ضَرْبِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ، فَهَلَكَ فِي الضَّرْبِ، فَلَا ضَمَانَ ; لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ مَأْذُونٍ فِيهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي الْوَطْءِ وَأَحْبَلَ. وَلَوْ قَالَ: أَدِّبْهُ، فَضَرَبَهُ فَهَلَكَ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ. فَصْلٌ الدُّيُونُ الَّتِي عَلَى الْمَيِّتِ، تَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ قَطْعًا. وَقَدْ سَبَقَ فِي آخِرِ بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، أَنَّ هَذَا التَّعَلُّقَ لَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ عَلَى الصَّحِيحِ. فَعَلَى هَذَا، فِي كَيْفِيَّتِهِ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: كَتَعَلُّقِ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْجَانِي. وَأَظْهَرُهُمَا: كَتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا أَثْبَتَ هَذَا التَّعَلُّقَ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ، لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ، فَاللَّائِقُ بِهِ، أَنْ لَا يُسَلَّطَ

الْوَارِثُ عَلَيْهِ. فَلَوْ أَعْتَقَ الْوَارِثُ أَوْ بَاعَ وَهُوَ مُعْسِرٌ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا، سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُ كَالْجَانِي أَوْ كَالْمَرْهُونِ. وَيَجِيءُ فِي الْإِعْتَاقِ خِلَافٌ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، نُفِّذَ فِي وَجْهٍ، بِنَاءً عَلَى تَعَلُّقِ الْأَرْشِ، وَلَا يُنَفَّذُ فِي وَجْهٍ، بِنَاءً عَلَى تَعَلُّقِ الْمَرْهُونِ. وَفِي وَجْهٍ: هُمَا مَوْقُوفَانِ. فَإِنْ قُضِيَ الدَّيْنُ، تَبَيَّنَا نُفُوذَهُمَا، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الدَّيْنِ مُسْتَغْرِقًا لِلتَّرِكَةِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا عَلَى الْأَصَحِّ عَلَى قِيَاسِ الْمَرْهُونِ. وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ، نُفِّذَ تَصَرُّفُ الْوَارِثِ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى إِلَّا قَدْرَ الدَّيْنِ ; لِأَنَّ الْحَجْرَ فِي مَالٍ كَثِيرٍ لِشَيْءٍ حَقِيرٍ، بَعِيدٌ. وَإِذَا حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِ الْوَارِثِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ، فَتَصَرَّفَ، ثُمَّ ظَهَرَ دَيْنٌ، بِأَنْ كَانَ بَاعَ شَيْئًا وَأَكْلَ ثَمَنَهُ، فَرُدَّ بِالْعَيْبِ، وَلَزِمَ رَدُّ الثَّمَنِ، أَوْ سَقَطَ سَاقِطٌ فِي بِئْرٍ كَانَ احْتَفَرَهَا عُدْوَانًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَبَيَّنَ فَسَادُ التَّصَرُّفِ لِتَقَدُّمِ سَبَبِ الدَّيْنِ، فَأُلْحِقْ بِالْمُقَارَنِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَفْسُدُ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ أَدَّى الْوَارِثُ الدَّيْنَ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُفْسَخُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ لِيَصِلَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ حَقُّهُ. وَالثَّانِي: لَا، بَلْ يُطَالَبُ الْوَارِثُ بِالدَّيْنِ، وَيُجْعَلُ كَالضَّامِنِ، وَلِلْوَارِثِ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْ يُمْسِكَ عَيْنَ التَّرِكَةِ وَيُؤَدِّيَ الدَّيْنَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ مِنَ التَّرِكَةِ، فَقَالَ الْوَارِثُ: آخُذُهَا بِقِيمَتِهَا، وَأَرَادَ الْغُرَمَاءُ بَيْعَهَا لِتَوَقُّعِ زِيَادَةِ رَاغِبٍ، أَيُّهُمَا يُجَابُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوَارِثُ. وَفِي تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِزَوَائِدِ التَّرِكَةِ، كَالْكَسْبِ وَالنِّتَاجِ، خِلَافٌ مَبْنِيُّ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْإِرْثَ، أَمْ لَا؟ إِنْ مَنَعَ، تَعَلَّقَ، وَإِلَّا، فَلَا. قُلْتُ: سَوَاءٌ تَصَرَّفَ الْوَارِثُ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ أَوْ فِي بَعْضِهَا، فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْوَارِثُ بِالدَّيْنِ الْمُقَارِنِ، أَمْ لَا، قَالَهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ؛ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، لَا يُخْتَلَفُ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْيَدِ بَعْدَ لُزُومِ الرَّهْنِ، وَلَا تُزَالُ

يَدُهُ إِلَّا لِلِانْتِفَاعِ كَمَا سَبَقَ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلَيْهِ لَيْلًا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مِمَّنْ يَعْمَلُ لَيْلًا كَالْحَارِسِ، رُدَّ إِلَيْهِ نَهَارًا. وَلَوْ شَرَطَا فِي الِابْتِدَاءِ وَضْعَهُ فِي يَدِ ثَالِثٍ، جَازَ فَإِنْ شَرَطَا عِنْدَ اثْنَيْنِ، وَنَصَّا عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ بِالْحِفْظِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَحْفَظَاهُ مَعًا فِي حِرْزٍ، اتُّبِعَ الشَّرْطُ. وَإِنْ أَطْلَقْنَاهُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْحِفْظِ. كَمَا لَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ، أَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ فِي شَيْءٍ لَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُهُمَا، فَعَلَى هَذَا يَجْعَلَانِهِ فِي حِرْزٍ لَهُمَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ الِانْفِرَادُ لِئَلَّا يَشُقُّ عَلَيْهِمَا، فَعَلَى هَذَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى كَوْنِهِ عِنْدَ أَحَدِهِمَا، فَذَاكَ، وَإِنْ تَنَازَعَا وَالرَّهْنُ مِمَّا يَنْقَسِمُ، قُسِمَ وَحَفِظَ كُلُّ وَاحِدٍ نِصْفَهُ، وَإِلَّا حَفِظَ هَذَا مُدَّةً، وَهَذَا مُدَّةً. وَلَوْ قَسَمَاهُ بِالتَّرَاضِي وَالتَّفْرِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرُدَّ مَا فِي يَدِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: قَطَعَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا أَرَادَ الَّذِي وَضَعَاهُ عِنْدَهُ الرَّدَّ، رَدَّهُ إِلَيْهِمَا، أَوْ إِلَى وَكِيلِهِمَا، فَإِنْ كَانَا غَائِبَيْنِ وَلَا وَكِيلَ، فَهُوَ كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ وَاسْتُرِدَّ مِنْهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، نُظِرَ، إِنْ دَفَعَهُ إِلَى الرَّاهِنِ، رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِكَمَالِ قِيمَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى حَقِّهِ، لِيَكُونَ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَيُغَرِّمُ مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّاهِنِ، وَالْقَرَارُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ دَفَعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، ضَمِنَا، وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ، جَاءَ الْكَلَامُ فِي التَّقَاصِّ، وَإِنْ غَصَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنُ مِنْ يَدِ الْعَدْلِ، ضَمِنَ. فَلَوْ رَدَّهُ إِلَيْهِ بَرِئَ. وَقِيلَ: لَا يَبْرَأُ إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى

الْمَالِكِ، أَوْ بِإِذْنٍ جَدِيدٍ لِلْعَدْلِ فِي أَخْذِهِ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ غَصَبَ الْوَدِيعَةَ مِنَ الْمُودِعِ، أَوِ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجِرَةَ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ، أَوِ الْمَرْهُونَةَ مِنَ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ رَدَّ إِلَيْهِمْ. وَلَوْ غَصَبَ اللُّقْطَةَ مِنَ الْمُلْتَقِطِ، ثُمَّ رَدَّ إِلَيْهِ لَمْ يَبْرَأْ. وَلَوْ غَصَبَ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ أَوِ الْمُسْتَامِّ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَوَجْهَانِ ; لِأَنَّهُمَا مَأْذُونَانِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ، لَكِنَّهُمَا ضَامِنَانِ. فَرْعٌ لَوِ اتَّفَقَ الْمُتَرَاهِنَانِ عَلَى نَقْلِ الرَّهْنِ إِلَى يَدِ عَدْلٍ آخَرَ، جَازَ، وَإِنْ طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا، لَا يُجَابُ، إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ بِفِسْقٍ أَوْ ضَعْفٍ عَنِ الْحِفْظِ، أَوْ تَحْدُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا عَدَاوَةٌ، وَيَطْلُبُ نَقْلَهُ، فَيُنْقَلُ إِلَى آخَرَ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَشَاحَّا، وَضَعَهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ. وَلَوْ كَانَ مَنْ وَضَعَاهُ عِنْدَهُ فَاسِقًا فِي الِابْتِدَاءِ، فَازْدَادَ فِسْقًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَدَثَ فِسْقُهُ. وَكَذَا لَوْ مَاتَ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا إِخْرَاجَهُ مِنْ يَدِ وَارِثِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَتَغَيَّرَ حَالُهُ، أَوْ مَاتَ، كَانَ لِلرَّاهِنِ نَقْلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ: لَا تُزَالُ يَدُ وَرَثَتِهِ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِيَدِهِمْ، ضَمَّ الْقَاضِي إِلَيْهِمْ مُشْرِفًا. فَرْعٌ إِذَا ادَّعَى الْعَدْلُ هَلَاكُ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ، أَوْ رَدَّهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، كَالْمُودِعِ. وَلَوْ أَتْلَفَ الرَّهْنَ عَمْدًا، أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ وَوُضِعَتْ عِنْدَ آخَرَ. وَلَوْ أَتْلَفَهُ مُخْطِئًا، أَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُهُ، أُخِذَتِ الْقِيمَةُ وَوُضِعَتْ عِنْدَهُ، كَذَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اسْتِحْفَاظٍ جَدِيدٍ. وَقِيَاسُهُ، أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَأُتْلِفَ وَأَخَذَ بَدَلَهُ، كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ لَا يَرْضَى بِيَدِهِ فِي الْبَدَلِ.

فصل

فَصْلٌ الْمُرْتَهِنُ يَسْتَحِقُّ بَيْعَ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَتَقَدَّمُ بِثَمَنِهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَبِيعُهُ أَوْ وَكِيلُهُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، فَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ الْمُرْتَهِنُ، وَأَرَادَ الرَّاهِنُ بَيْعَهُ، قَالَ لَهُ الْقَاضِي: ائْذَنْ فِي بَيْعِهِ وَخُذْ حَقَّكَ مِنْ ثَمَنِهِ، أَوْ أَبْرِئْهُ. وَإِنْ طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ بَيْعَهُ، وَأَبَى الرَّاهِنُ، وَلَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ، أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى قَضَائِهِ، أَوِ الْبَيْعِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ، أَوْ وَكِيلِهِ، فَإِنْ أَصَرَّ، بَاعَهُ الْحَاكِمُ. وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ غَائِبًا، أَثْبَتَ الْحَالَ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيَبِيعَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ حَاكِمٌ، فَلَهُ بَيْعُهُ بِنَفْسِهِ كَمَنْ ظَفِرَ بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ وَهُوَ جَاحِدٌ وَلَا بَيِّنَةَ. فَرْعٌ لَوْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهَنِ فِي بَيْعِهِ بِنَفْسِهِ، فَبَاعَ فِي غَيْبَةِ الرَّاهِنِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ غَيْرِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، فَيُتَّهَمُ فِي الِاسْتِعْجَالِ وَتَرْكِ النَّظَرِ. وَإِنْ بَاعَهُ بِحُضُورِهِ، صَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّهِ، فَعَلَى هَذَا، لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ بِبَيْعِهِ أَصْلًا، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ رَهْنُ تَبَرُّعٍ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الشَّرْطِ الْفَاسِدِ النَّافِعِ لِلْمُرْتَهَنِ أَنَّهُ هَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ؟ وَلَوْ قَالَ لِلْمُرْتَهَنِ: بِعِ الْمَرْهُونَ، وَاسْتَوْفِ الثَّمَنَ لِي، ثُمَّ اسْتَوْفِهِ لِنَفْسِكَ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَالِاسْتِيفَاءُ لِلرَّاهِنِ، وَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِيفَاءُ لِنَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ إِدَامَةِ الْيَدِ وَالْإِمْسَاكِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَزْنٍ جَدِيدٍ، أَوْ كَيْلٍ جَدِيدٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقَبْضِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ. ثُمَّ إِذَا اسْتَوْفَاهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ

بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي نَظَائِرِهِمَا فِي الْبَيْعِ، لِاتِّحَادِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الرَّاهِنِ مِنَ الدَّيْنِ، وَالْمُسْتَوْفِي مِنْ ضَمَانِهِ. وَإِنْ أَبْطَلْنَا وَهُوَ الْأَصَحُّ لَمْ يَبْرَأِ الرَّاهِنُ، وَيَدْخُلُ الْمُسْتَوْفِي فِي ضَمَانِهِ ; لِأَنَّ الْقَبْضَ الْفَاسِدَ كَالصَّحِيحِ فِي اقْتِضَاءِ الضَّمَانِ. قُلْتُ: دُخُولُهُ فِي ضَمَانِهِ، يَكُونُ بَعْدَ قَبْضِهِ لِنَفْسِهِ، فَأَمَّا قَبْلَهُ، فَهُوَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا لَوْ نَوَى إِمْسَاكَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ فِعْلٍ، فَالْأَمَانَةُ مُسْتَمِرَّةٌ، صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَغَيْرُهُمَا. وَلَوْ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ بِفِعْلٍ مِنْ غَيْرِ وَكِيلٍ وَلَا وَزْنٍ، دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ فَاسِدٌ، فَلَهُ فِي الضَّمَانِ حُكْمُ الصَّحِيحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَتِ الصِّيغَةُ: ثُمَّ أَمْسِكْهُ لِنَفْسِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِحْدَاثِ فِعْلٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: يَكْفِي مُجَرَّدُ الْإِمْسَاكِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ لِي وَاسْتَوْفِ الثَّمَنَ لِنَفْسِكَ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَلَمْ يَصِحَّ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ لِلرَّاهِنِ، لَا يُتَصَوَّرُ الْقَبْضُ لِنَفْسِهِ، وَهُنَا بِمُجَرَّدِ قَبْضِهِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ لِنَفْسِكَ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّ الْإِذْنَ بَاطِلٌ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَبِيعَ الْإِنْسَانُ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ: بِعْهُ، وَإِلْغَاءً لِلْبَاقِي، وَلِأَنَّ السَّابِقَ أَنَّ الْفَهْمَ مِنْهُ، الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ لِغَرَضِهِ بِالتَّوَصُّلِ إِلَى دَيْنِهِ. وَلَوْ أَطْلَقَ وَقَالَ: بِعْهُ، وَلَمْ يَقُلْ: لِي، وَلَا لِنَفْسِكَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: صِحَّةُ الْبَيْعِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: بِعْهُ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ لِعِلَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ مُسْتَحِقٌّ لِلْمُرْتَهَنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعْهُ لِنَفْسِكَ. وَالثَّانِيَةُ: التُّهْمَةُ كَمَا سَبَقَ. وَعَلَى الْعِلَّتَيْنِ، لَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا وَقَالَ: بِعْهُ، صَحَّ، لِانْتِفَائِهِمَا. وَإِنْ قَالَ: بِعْهُ وَاسْتَوْفِ حَقَّكَ مِنْ ثَمَنِهِ، جَاءَتِ التُّهْمَةُ. وَإِنْ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ عَلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى، وَيَصِحُّ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا عِنْدَ الْبَيْعِ.

فَرْعٌ إِذْنُ الْوَارِثِ لِغُرَمَاءِ الْمَيِّتِ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ، كَإِذْنِ الرَّاهِنِ لِلْمُرْتَهَنِ، وَكَذَا إِذْنُ السَّيِّدِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي بَيْعِ الْجَانِي. فَرْعٌ إِذَا وَضَعَا الرَّهْنَ عِنْدَ عَدْلٍ، وَشَرَطَا أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ الْمَحَلِّ، جَازَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَجْدِيدُ إِذْنِ الرَّاهِنِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ. وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ، فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: يُشْتَرَطُ مُرَاجَعَتُهُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لِإِيصَالِهِ حَقَّهُ إِذَا طَالَبَ، فَلْيُسْتَأْذَنْ، فَرُبَّمَا أَمْهَلَ، وَرُبَّمَا أَبْرَأَ. وَعَكَسَهُ الْإِمَامُ فَقَالَ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُرَاجَعَ ; لِأَنَّ غَرَضَهُ تَوْفِيَةُ الْحَقِّ، بِخِلَافِ الرَّاهِنِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُبْقِي الْعَيْنَ لِنَفْسِهِ. فَرْعٌ لَوْ عُزِلَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ قَبْلَ الْبَيْعِ، انْعَزَلَ. وَلَوْ عَزَلَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْعَزِلُ ; لِأَنَّهُ وَكِيلُ الرَّاهِنِ، فَإِنَّهُ الْمَالِكُ. وَالثَّانِي: يَنْعَزِلُ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، كَمَا لَوْ عَزَلَهُ الرَّاهِنُ ; لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لَهُمَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْبَيْعِ لَمْ يَبِعْ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْمُرْتَهِنِ، فَجَدَّدَ لَهُ إِذْنًا، جَازَ الْبَيْعُ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ تَجْدِيدُ تَوْكِيلِ الرَّاهِنِ. قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» وَمَسَاقُ هَذَا، أَنَّهُ لَوْ عَزَلَهُ الرَّاهِنُ، ثُمَّ عَادَ فَوَكَّلَهُ، اشْتُرِطَ إِذْنٌ جَدِيدٌ مِنَ الْمُرْتَهِنِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: لَا يُعْتَدُّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ تَوْكِيلِ الرَّاهِنِ، وَلَا بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ لِلْوَكِيلِ قَبْلَ تَوْكِيلِ الْوَلِيِّ إِيَّاهُ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ.

فَرْعٌ إِذَا بَاعَ الْعَدْلُ وَأَخْذَ الثَّمَنَ، فَهُوَ أَمِينٌ، وَالثَّمَنُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ إِلَى أَنْ يَتَسَلَّمَهُ الْمُرْتَهِنُ. فَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِ الْعَدْلِ، ثُمَّ خَرَجَ الرَّهْنُ مُسْتَحَقًّا، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْعَدْلِ أَوِ الرَّاهِنِ، وَالْقَرَارُ عَلَى الرَّاهِنِ. وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ، فَأَمَرَ الْحَاكِمُ الْعَدْلَ أَوْ غَيْرَهُ بِبَيْعِهِ فَبَاعَهُ، وَتَلِفَ الثَّمَنُ ثُمَّ خَرَجَ مُسْتَحِقًّا، رَجَعَ الْمُشْتَرِي فِي مَالِ الرَّهْنِ، وَلَا يَكُونُ الْعَدْلُ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهُ نَائِبُ الْحَاكِمِ، وَالْحَاكِمُ لَا يَضْمَنُ. وَالثَّانِي: يَكُونُ كَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ. وَإِذَا ادَّعَى الْعَدْلُ تَلَفَ الثَّمَنِ فِي يَدِهِ، قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنِ ادَّعَى تَسْلِيمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ، أَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الرَّاهِنِ، وَرَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّسْلِيمِ. وَلَوْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ فِي التَّسْلِيمِ، فَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْإِشْهَادِ، ضَمِنَ الْعَدْلُ بِلَا خِلَافٍ، لِتَقْصِيرِهِ. وَكَذَا إِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِتَفْرِيطِهِ. فَلَوْ قَالَ: أَشْهَدْتُ وَمَاتَ شُهُودِي، وَصَدَّقَهُ الرَّاهِنُ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَوَجْهَانِ سَنَذْكُرُهُمَا مَعَ نَظَائِرِهِمَا فِي بَابِ الضَّمَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ الْعَدْلُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ، أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ: بِالْمُؤَجَّلِ، وَهُوَ غَلَطٌ. وَلَوْ سَلَّمَ الْمَالَ إِلَى الْمُشْتَرِي، صَارَ ضَامِنًا. فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا، اسْتُرِدَّ، وَجَازَ لِلْعَدْلِ بَيْعُهُ بِالْإِذْنِ السَّابِقِ وَإِنْ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَإِذَا بَاعَهُ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَإِنْ بَاعَ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ بِمُؤَجَّلٍ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ فِي التَّغْرِيمِ

مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي كَمَالَ قِيمَتِهِ. وَكَذَا إِنْ بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي: إِنْ غَرِمَ الْعَدْلُ، حُطَّ النَّقْصُ الَّذِي كَانَ يُحْتَمَلُ فِي الِابْتِدَاءِ لِلْغَبْنِ الْمُعْتَادِ. مِثَالُهُ، ثَمَنُ مِثْلِهِ عَشَرَةٌ، وَيُتَغَابَنُ فِيهِ بِدِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِيَةٍ، نُغَرِّمُهُ تِسْعَةً، وَنَأْخُذُ الدِّرْهَمَ الْبَاقِيَ مِنَ الْمُشْتَرِي، كَذَا نَقَلُوهُ. وَغَالِبُ الظَّنِّ طَرْدُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَفِي الْمُؤَجَّلِ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ النَّصُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْغَبْنِ ; لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْأَمْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ التَّهْذِيبِ وَآخَرِينَ، جَعَلُوا كَيْفِيَّةَ تَغْرِيمِ الْوَكِيلِ إِذَا بَاعَ عَلَى صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَسَوَّوْا بَيْنَ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَدْلِ فِي الرَّهْنِ وَسَائِرِ الْوُكَلَاءِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالْقَرَارُ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِحُصُولِ الْهَلَاكِ عِنْدَهُ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ أَحَدُ الْمُتَرَاهِنَيْنِ: بِعْهُ بِالدَّرَاهِمِ، وَقَالَ الْآخَرُ: بِالدَّنَانِيرِ لَمْ يُبَعْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَرْفَعَانِ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيَبِيعَ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقُّ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِلَّا صُرِفَ نَقْدُ الْبَلَدِ إِلَيْهِ. فَلَوْ رَأَى الْحَاكِمُ بَيْعَهُ بِجِنْسِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، جَازَ. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، فَزَادَ رَاغِبٌ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَلْيَفْسَخِ الْبَيْعَ، وَلْيَبِعْهُ لَهُ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهَا، وَأَصَحُّهُمَا الِانْفِسَاخُ ; لِأَنَّ الْمَجْلِسَ كَحَالِ الْعَقْدِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ بَدَا لِلرَّاغِبِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ بَيْعِهِ، فَالْبَيْعُ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، بَطَلَ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيْعٍ جَدِيدٍ. وَفِي وَجْهٍ: إِذَا بَدَا لَهُ، بَانَ أَنَّ الْبَيْعَ بِحَالِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ لَمْ يَفْسَخِ الْعَدْلُ، بَلْ بَاعَ الرَّاغِبُ،

فصل

فَفِي كَوْنِهِ فَسْخًا لِذَلِكَ الْبَيْعِ، ثُمَّ فِي صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ، خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْبَيْعِ، وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ بَاعَ ثُمَّ فَسَخَ الْبَيْعَ، هَلْ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْبَيْعِ مَرَّةً أُخْرَى، فِيهِ خِلَافٌ. وَالْأَمْرُ بِالْبَيْعِ مِنَ الرَّاغِبِ هُنَا، تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ. أَوْ مَفْرُوضٌ فِيمَنْ صُرِّحَ لَهُ فِي الْإِذْنِ بِذَلِكَ. وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، تَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْوَكَالَاتِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ فَزَادَ رَاغِبٌ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فِيهِ نَقْصٌ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، لِيَعُمَّ خِيَارَيِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ، فَإِنَّ حُكْمَهُمَا فِي هَذَا سَوَاءٌ. صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ زَادَ الرَّاغِبُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، لَزِمَ الْبَيْعُ، وَلَا أَثَرَ لِلزِّيَادَةِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْعَدْلِ أَنْ يَسْتَقِيلَ الْمُشْتَرِي لِيَبِيعَهُ بِالزِّيَادَةِ لِلرَّاغِبِ، أَوْ لِهَذَا الْمُشْتَرِي إِنْ شَاءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ مُؤْنَةُ الرَّهْنِ الَّتِي يَبْقَى بِهَا، كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ وَكُسْوَتِهِ، وَعَلَفِ الدَّابَّةِ عَلَى الرَّاهِنِ. وَفِي مَعْنَاهَا، سَقْيُ الْأَشْجَارِ وَالْكُرُومِ، وَمُؤْنَةُ الْجِدَادِ، وَتَجْفِيفُ الثِّمَارِ، وَأُجْرَةُ الِاصْطَبْلِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الْمَتَاعُ الْمَرْهُونُ إِذَا لَمْ يَتَبَرَّعُ بِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَأُجْرَةُ مَنْ يَرُدُّ الْآبِقَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَالْمُتَوَلِّي وَجْهَيْنِ، فِي أَنَّ هَذِهِ الْمُؤَنَ، هَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهَا الرَّاهِنُ حَتَّى يَقُومَ بِهَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ، أَصَحُّهُمَا: الْإِجْبَارُ، حِفْظًا لِلْوَثِيقَةِ. وَالثَّانِي: عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ: لَا يُجْبَرُ، بَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي جُزْءًا مِنْهُ فِيهَا بِحَسْبِ الْحَاجَةِ. وَفَرَّعَ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا، أَنَّ النَّفَقَةَ لَوْ كَانَتْ تَأْكُلُ الرَّهْنَ قَبْلَ الْأَجَلِ، أُلْحِقَ فِي ذَلِكَ بِمَا يَفْسَدُ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَيُبَاعُ وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ رَهْنًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَكَذَا أَصْلُهُ الْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ فَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ شَيْءٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، بَاعَ الْحَاكِمُ جُزْءًا مِنَ الْمَرْهُونِ وَاكْتَرَى بِهِ بَيْتًا يُحْفَظُ فِيهِ الرَّهْنُ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ.

وَأَمَّا الْمُؤْنَاتُ الدَّائِرَةُ، فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: حُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَوْ هَرَبَ الْجَمَّالُ وَتَرَكَ الْجِمَالَ الْمُسْتَأْجِرَةَ، أَوْ عَجَزَ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا. قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: أَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ لِأَرْجِعَ فِي مَالِ الرَّاهِنِ، أَذِنَ لَهُ الْحَاكِمُ. فَإِنِ اتَّفَقَ وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِالنَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ، فَهُوَ كَفِدَائِهِ الْمَرْهُونَ الْجَانِيَ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِالدَّيْنِ وَالْفِدَاءِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى جَوَازِهِ، وَفِيهِ طَرِيقَانِ تَقَدَّمَا. وَالْمَذْهَبُ: الصِّحَّةُ. فَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْحَاكِمُ، أَوْ لَمْ يُمَكِّنْهُ، وَلَمْ يَشْهَدْ، فَلَا رُجُوعَ، وَإِنْ أَشْهَدْ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى هَرَبِ الْجَمَّالُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَا يَمْنَعُ الرَّاهِنُ مَصْلَحَةً فِي الْمَرْهُونِ، كَفَصْدِهِ وَحِجَامَتِهِ، وَتَوْدِيجِ الدَّابَّةِ وَبَزْغِهَا وَالْمُعَالَجَةِ بِالْأَدْوِيَةِ وَالْمَرَاهِمِ، لَكِنْ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ. وَطَرَدَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» الْوَجْهَيْنَ فِي الْمُدَاوَاةِ. ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْمُدَاوَاةُ مِمَّا يُرْجَى نَفْعُهُ وَيُؤْمَنُ ضَرَرُهُ، فَذَاكَ، وَإِنْ خِيفَ وَغَلَبَتِ السَّلَامَةُ، فَهَلْ لِلْمُرْتَهَنِ مَنْعُهُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجْرِيَانِ فِي قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ إِذَا كَانَ فِي قَطْعِهَا وَتَرْكِهَا خَطَرٌ. فَإِنْ كَانَ الْخَطَرُ فِي التَّرْكِ دُونَ الْقَطْعِ، فَلَهُ الْقَطْعُ، وَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ سِلْعَةٍ وَأُصْبُعٍ لَا خَطَرَ فِي تَرْكِهَا، إِذَا خِيفَ ضَرَرٌ، فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ، فَعَلَى الْخِلَافِ. وَلَهُ خِتَانُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي وَقْتِ اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ، إِنْ كَانَ يَنْدَمِلُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ; لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ، وَالْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةُ. وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلْ، وَكَانَ فِيهِ نَقْصٌ لَمْ يَجُزْ. وَكَذَا لَوْ كَانَ بِهِ عَارِضٌ يُخَافُ مَعَهُ مِنَ الْخِتَانِ.

قُلْتُ: كَذَا أَطْلَقَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، أَوْ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ، جَوَازَ الْخِتَانِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَصَرَّحَ الْمُتَوَلِّي وَالشَّيْخُ نَصْرٌ، بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَمَنْ تَابَعَهُ: يُمْنَعُ مِنْ خِتَانِ الْكَبِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ، لِخَوْفِ التَّلَفِ. وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» وَ «الْمُخْتَصَرِ» وَيُؤَيِّدُهُ، أَنَّهُمْ عَدُّوا عَدَمَ الْخِتَانِ عَيْبًا فِي الْكَبِيرِ، دُونَ الصَّغِيرِ، كَمَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَهُ تَأْبِيرُ النَّخْلِ الْمَرْهُونَةِ. وَلَوِ ازْدَحَمَتْ، وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: تَحْوِيلُهَا أَنْفَعُ، جَازَ تَحْوِيلُهَا، وَكَذَا لَوْ رَأَوْا قَطْعَ الْبَعْضِ لِصَلَاحِ الْأَكْثَرِ. ثُمَّ مَا يُقْطَعُ مِنْهَا أَوْ يَجِفُّ، يَبْقَى مَرْهُونًا، بِخِلَافِ مَا يَحْدُثُ مِنَ السَّعَفِ وَيَجِفُّ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَرْهُونٍ، كَالثَّمَرَةِ، وَمَا كَانَ ظَاهِرًا مِنْهَا عِنْدَ الرَّهْنِ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : هُوَ مَرْهُونٌ. وَقَالَ فِي «الشَّامِلِ» : لَا فَرْقَ. قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَمَا يَحْصُلُ مِنَ اللِّيفِ، وَالْعَرَاجِينِ وَالْكَرَبِ، كَالسَّعَفِ. وَالْكَرَبُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالرَّاءِ: أُصُولُ السَّعَفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَا يُمْنَعُ مِنْ رَعْيِ الْمَاشِيَةِ وَقْتَ الْأَمْنِ، وَتَأْوِي لَيْلًا إِلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوِ الْعَدْلِ. وَلَوْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُبْعِدَ فِي طَلَبِ النَّجْعَةِ، وَبِالْقُرْبِ مَا يُبَلِّغُ مِنْهَا مَبْلَغًا، فَلِلْمُرْتَهَنِ الْمَنْعُ، وَإِلَّا، فَلَا مَنْعَ، وَتَأْوِي إِلَى يَدِ عَدْلٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا، فَيُنَصِّبُهُ الْحَاكِمُ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِالْقُرْبِ مَا يَكْفِي لَمْ يُمْنَعْ. وَكَذَا لَوْ أَرَادَ نَقْلَ الْمَتَاعِ

فصل

مِنْ بَيْتٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ إِلَى مُحْرَزٍ. وَلَوْ أَرَادَ الِانْتِقَالَ مِنْ مَكَانِهِمَا، فَإِنِ انْتَقَلَا إِلَى أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، جُعِلَتِ الْمَاشِيَةُ مَعَ الرَّاهِنِ، وَيَحْتَاطُ لَيْلًا كَمَا سَبَقَ. فَصْلٌ الرَّهْنُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لَا يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ، وَلَا يَلْزَمُهُ، ضَمَانُهُ إِلَّا إِذَا تَعَدَّى فِيهِ. وَإِذَا بَرِئَ الرَّاهِنُ مِنَ الدَّيْنِ بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ أَوْ حَوَالَةٍ، بَقِيَ الرَّهْنُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَصِيرُ مَضْمُونًا إِلَّا إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الرَّدِّ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، كَمَنْ طَيَّرَتِ الرِّيحُ ثُوبًا إِلَى دَارِهِ، فَيُعْلِمُ الْمُرْتَهِنُ بِهِ، أَوْ يَرُدُّهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِيَدِهِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْوَثِيقَةِ. فَرْعٌ كُلُّ عَقْدٍ اقْتَضَى صَحِيحُهُ الضَّمَانَ، فَكَذَلِكَ فَاسِدُهُ. وَمَا لَا يَقْتَضِي صَحِيحُهُ الضَّمَانَ، فَكَذَا فَاسِدُهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الصَّحِيحَ إِذَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ، فَالْفَاسِدُ أَوْلَى. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنْ إِثْبَاتَ الْيَدِ عَلَيْهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِالْعَقْدِ ضَمَانًا. فَرْعٌ لَوْ أَعَارَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ لِلْمُرْتَهَنِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، ضِمْنَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا، وَأَذِنَ لَهُ فِي غِرَاسِهَا بَعْدَ شَهْرٍ، فَهِيَ بَعْدَ الشَّهْرِ عَارِيَّةٌ، غَرَسَ، أَمْ لَا؟ وَقَبِلَهُ أَمَانَةً، حَتَّى لَوْ غَرَسَ قَبْلَهُ قَلَعَ.

فَرْعٌ رَهْنَهُ مَالًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ، فَهُوَ مَبِيعٌ لَهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَبِيعٌ لَهُ بَعْدَ شَهْرٍ، فَالْبَيْعُ وَالرَّهْنُ بَاطِلَانِ، وَيَكُونُ الْمَالُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْبَيْعِ، وَبَعْدَهُ مَضْمُونٌ ; لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ ضَمَانٍ. وَفِي وَجْهٍ: إِنَّمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا، إِذَا أَمْسَكَهُ عَلَى سَبِيلِ الشِّرَاءِ. أَمَّا إِذَا أَمْسَكَهُ عَلَى مُوجَبِ الدَّيْنِ، فَلَا، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. فَلَوْ كَانَ أَرْضًا، فَغَرَسَ فِيهَا الْمُرْتَهِنُ، أَوْ بَنَى قَبْلَ وَقْتِ الْبَيْعِ، قَلَعَ مَجَّانًا، وَكَذَا لَوْ غَرَسَ بَعْدَهُ عَالِمًا بِفَسَادِ الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ يَقْلَعْ مَجَّانًا، لِوُقُوعِهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَجَهْلِهِ التَّحْرِيمَ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ غَرَسَ الْمُسْتَعِيرُ وَرَجَعَ الْمُعِيرُ. فَرْعٌ إِذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ تَلَفَ الْمَرْهُونِ فِي يَدِهِ، قَبْلَ قَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنِ ادَّعَى رَدَّهُ إِلَى الرَّاهِنِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ; لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُسْتَعِيرَ، بِخِلَافِ دَعْوَى التَّلَفِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالِاخْتِيَارِ، فَلَا تُسَاعِدُهُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ. قَالُوا: وَكَذَا حُكْمُ الْمُسْتَأْجِرِ إِذَا ادَّعَى الرَّدَّ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْمُودِعِ وَالْوَكِيلِ بِغَيْرِ جَعْلٍ مَعَ يَمِينِهِمَا. لِأَنَّهُمَا أَمِينَانِ مُتَمَحِّضَانِ. وَفِي الْوَكِيلِ بِجَعْلٍ. وَالْمُضَارِبُ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ، إِذَا لَمْ نُضَمِّنْهُ، ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ مَعَ الْيَمِينِ ; لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا الْعَيْنَ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِكِ، وَانْتِفَاعُهُمْ بِالْعَمَلِ فِي الْعَيْنِ، لَا بِالْعَيْنِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ، هِيَ طَرِيقَةُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، لَاسِيَّمَا قُدَمَاؤُهُمْ، وَتَابَعَهُمُ الرُّويَانِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنَ الْمَرَاوِزَةِ وَغَيْرِهِمْ: كُلُّ أَمِينٍ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الرَّدِّ، كَالتَّلَفِ. فَقَدِ اتَّفَقُوا فِي الطَّرْقِ، عَلَى تَصْدِيقِ جَمِيعِهِمْ فِي دَعْوَى التَّلَفِ. وَفِي عِبَارَةِ الْغَزَالِيِّ مَا يَقْتَضِي خِلَافًا فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ قَطْعًا.

فَرْعٌ لَوْ رَهَنَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ إِنْسَانٍ، فَتَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ الْغَاصِبِ. وَفِي تَضْمِينِهِ الْمُرْتَهِنَ، طَرِيقَانِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا ; لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ. وَأَصَحُّهُمَا: يَضْمَنُ، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى مَا لَمْ يَأْتَمِنْهُ مَالِكُهُ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، لِحُصُولِ التَّلَفِ عِنْدَهُ وَنُزُولِ التَّلَفِ مَنْزِلَةَ الْإِتْلَافِ فِي الْغَصْبِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ لِتَغْرِيرِهِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِتَضْمِينِهِ وَعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ، قَالَهُ الْمَرَاوِزَةُ وَيَجْرِي الطَّرِيقَانِ فِي الْمُسْتَأْجِرِ مِنَ الْغَاصِبِ، وَالْمُسْتَوْدِعِ، وَالْمَضَارِبِ، وَوَكِيلِهِ فِي بَيْعِهِ. وَكُلُّ هَذَا إِذَا جَهِلُوا الْغَصْبَ، فَإِنْ عَلِمُوا، فَهُمْ غَاصِبُونَ أَيْضًا، وَالْمُسْتَعِيرُ مِنْهُ، وَالْمُسْتَامُ، يُطَالَبَانِ وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ ; لِأَنَّهَا يَدُ ضَمَانٍ. فَرْعٌ لَوْ رَهَنَ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَضْمُونًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَسَدَ الشَّرْطُ وَالرَّهْنُ، وَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِمَا سَبَقَ. فَرْعٌ قَالَ: خُذْ هَذَا الْكِيسَ وَاسْتَوْفِ حَقَّكَ مِنْهُ، فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ، فَإِذَا اسْتَوْفَى، كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ فِيهِ دَرَاهِمُ، فَقَالَ: خُذْهُ بِدَرَاهِمِكَ، وَكَانَتِ الدَّرَاهِمُ الَّتِي فِيهِ مَجْهُولَةَ الْقَدْرِ، أَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ دَرَاهِمِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَدَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ. وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً وَبِقَدْرِ حَقِّهِ، مَلَكَهُ. وَلَوْ قَالَ:

فصل

خُذْ هَذَا الْعَبْدَ بِحَقِّكَ، وَلَمْ يَكُنْ سَلَمًا، فَقَبِلَ، مَلَكَهُ. وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ وَأَخَذَهُ، دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ. فَصْلٌ لَيْسَ لِلْمُرْتَهَنِ فِي الْمَرْهُونِ إِلَّا حَقُّ الِاسْتِيثَاقِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وَمِنَ الِانْتِفَاعِ. فَلَوْ وَطِئَ الْمَرْهُونَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ، فَكَوَطْءِ غَيْرِهَا. فَإِنْ ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، فَلَا حَدَّ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَالْوَلَدُ نَسِيبٌ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلرَّاهِنِ. وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَدَّعِ جَهْلًا، فَهُوَ زَانٍ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ وَطِئَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمُسْتَأْجَرَةَ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً. وَإِنْ طَاوَعَتْهُ، فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنِ ادَّعَى الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُقْبَلُ، لِدَفْعِ الْحَدِّ. وَحَكَى الْمَسْعُودِيُّ فِي قَبُولِهِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ وَحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَالْمَهْرِ، خِلَافًا. وَالْأَصَحُّ: ثُبُوتُ الْجَمِيعِ ; لِأَنَّ الشُّبْهَةَ كَمَا تَدْفَعُ الْحَدَّ، تُثْبِتُ النَّسَبَ وَالْحُرِّيَّةَ. وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ، وَجَبَ الْمَهْرُ. وَإِنْ وَطِئَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَرَامٌ، لَزِمَهُ الْحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنِ ادَّعَى جَهْلَ التَّحْرِيمِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ فِي مَعْنَاهُ. وَأَصَحُّهُمَا: يُقْبَلُ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى التَّحْرِيمُ مَعَ الْإِذْنِ. وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ، سَقَطَ الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ مُطَاوَعَةً، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِسُقُوطِ الْحَدِّ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمُفَوَّضَةِ فِي النِّكَاحِ. وَالثَّانِي لَا يَجِبُ، لِإِذْنِ مُسْتَحِقِّهِ، فَأَشْبَهَ زِنَا الْحُرَّةِ. فَإِنْ أَوْلَدَهَا بِوَطْئِهِ، فَالْوَلَدُ لَهُ نَسِيبٌ حُرٌّ، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ.

فصل

وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الْمَهْرِ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي الْحَالِ. فَإِنْ مَلَكَهَا، فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا تَصِيرُ. فَرْعٌ زَعَمَ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الْوَطْءِ أَنَّ الرَّاهِنَ كَانَ بَاعَهُ إِيَّاهَا، أَوْ وَهَبَهَا لَهُ، وَأَقْبَضَهُ، وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ حَلَفَ، فَهِيَ وَالْوَلَدُ رَقِيقَانِ لَهُ. فَإِنْ مَلَكَهَا الْمُرْتَهِنَ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ لِإِقْرَارِهِ. فَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ، فَحَلَفَ الْمُرْتَهِنُ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ. فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِ الْمَرْهُونِ قَطْعًا. وَأَمَّا غَيْرُ الْعَيْنِ، فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: بَدَلُ الْعَيْنِ فَلَوْ جَنَى عَلَى الْمَرْهُونِ، وَأَخَذَ الْأَرْشَ، وَانْتَقَلَ الرَّهْنُ إِلَيْهِ، كَمَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكَ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَيُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي يَدِهِ. وَمَا دَامَ الْأَرْشُ فِي ذِمَّةِ الْجَانِي، هَلْ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مَرْهُونٌ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا ; لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَكُونُ رَهْنًا. فَإِذَا تَعَيَّنَ، صَارَ مَرْهُونًا، وَالْحَالَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ، كَتَخَمُّرِ الْعَصِيرِ وَتَخَلُّلِهِ بَعْدُ. وَالثَّانِي: نَعَمْ ; لِأَنَّهُ مَالٌ بِخِلَافِ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا يُمْتَنَعُ رَهْنُ الدَّيْنِ ابْتِدَاءً. قُلْتُ: الثَّانِي: أَرْجَحُ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْمُرَاوِزَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْخَصْمُ فِي بَدَلِ الْمَرْهُونِ، هُوَ الرَّاهِنُ. فَلَوْ تَرَكَ الْخُصُومَةَ، فَهَلْ يُخَاصِمُ الْمُرْتَهِنُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ: لَا، كَذَا قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» .

قُلْتُ: وَقَطَعَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، بِأَنَّهُ يُخَاصِمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا خَاصَمَ الرَّاهِنُ، فَلِلْمُرْتَهَنِ حُضُورَ خُصُومَتِهِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْمَأْخُوذِ. ثُمَّ إِنْ أَقَرَّ الْجَانِي، أَوْ أَقَامَ الرَّاهِنُ بَيِّنَةً، أَوْ حَلَفَ بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ. وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ، فَهَلْ يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ؟ قَوْلَانِ، كَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ إِذَا نَكَلَ. فَرْعٌ إِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ، فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا، فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْبِضَ وَيُبْطِلَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ، ثَبَتَ الْمَالُ إِنْ قُلْنَا: مُطَلَقُ الْعَفْوِ يَقْتَضِي الْمَالَ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، كَذَا قَالَهُ فِي التَّهْذِيبِ. وَإِنْ عَفَا عَلَى أَنْ لَا مَالَ، فَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْعُمَدُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْمَالِ، وَإِنْ قُلْنَا: مُوجَبُهُ الْقَوْدُ، فَإِنْ قُلْنَا الْعَفْوُ الْمُطْلَقُ لَا يُوجِبُ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُهُ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يُجِبُ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يُوجِبْهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِعَفْوِهِ، وَذَلِكَ نَوْعُ اكْتِسَابٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاكْتِسَابُ لِلْمُرْتَهَنِ. وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ وَلَمْ يَعْفُ، فَقِيلَ: يُجْبَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: مُوجَبُهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، أُجْبِرَ، وَإِلَّا، فَلَا ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، فَتَأْخِيرُهُ أَوْلَى بِأَنْ يُمَلِّكَهُ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا: إِذَا عَفَا عَلَى أَنْ لَا مَالَ لَا يَصِحُّ، أُجْبِرَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً، أَوْ عَفَا وَوَجَبَ الْمَالُ، فَعَفَا عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ. وَفِي قَوْلِ الْعَفْوِ مَوْقُوفٌ، وَيُؤْخَذُ الْمَالُ فِي الْحَالِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ،

فَإِنِ انْفَكَّ الرَّهْنُ، رُدَّ إِلَى الْجَانِي، وَبَانَ صِحَّةُ الْعَفْوِ، وَإِلَّا بَانَ بُطْلَانُهُ. وَلَوْ أَرَادَ الرَّاهِنُ الْمُصَالَحَةَ عَنِ الْأَرْشِ الْوَاجِبِ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ. وَإِذَا أَذِنَ، صَحَّ وَكَانَ الْمَأْخُوذُ مَرْهُونًا، كَذَا نَقَلُوهُ. وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُرْتَهِنُ الْجَانِي لَمْ يَصِحَّ، لَكِنْ لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنَ الْوَثِيقَةِ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ، فَلَا يَصِحُّ مَا تَضَمَّنَهُ. كَمَا لَوْ وُهِبَ الْمَرْهُونُ لِرَجُلٍ. الضَّرْبُ الثَّانِي: زَوَائِدُهُ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً، كَسِمَنِ الْعَبْدِ، وَكِبَرِ الشَّجَرَةِ، تَبِعَتِ الْأَصْلَ فِي الرَّهْنِ. وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً، كَالثَّمَرَةِ، وَالْوَلَدِ، وَاللَّبَنِ، وَالْبَيْضِ، وَالصُّوفِ لَمْ يَسْرِ إِلَيْهَا الرَّهْنُ، وَكَذَا الْأَكْسَابُ وَالْمَهْرُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْدُثُ بَعْدَ الرَّهْنِ. وَلَوْ رَهَنَ حَامِلًا، وَاحْتِيجَ إِلَى بَيْعِهَا حَامِلًا، بِيعَتْ كَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ يُعْلَمُ، فَكَأَنَّهُ رَهْنَهُمَا، وَإِلَّا، فَقَدْ رَهَنَهَا وَالْحَمْلُ مَحْضُ صِفَةٍ. وَلَوْ وَلَدَتْ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَهَلِ الْوَلَدُ رَهْنٌ قَوْلَانِ. إِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ لَا يُعْلَمُ، فَلَا، وَإِلَّا فَنَعَمْ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، لِضَعْفِ الرَّهْنِ عَنِ الِاسْتِتْبَاعِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَقَالَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ: رَهَنْتُهَا مَعَ حَمْلِهَا، لَا يَكُونُ مَرْهُونًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَجَازَ إِفْرَادُهُ بِالرَّهْنِ. أَمَّا إِذَا حَبِلَتْ بَعْدَ الرَّهْنِ، وَكَانَتْ يَوْمَ الْبَيْعِ حَامِلًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْلَمُ، بِيعَتْ، وَهُوَ كَالسِّمَنِ، وَإِلَّا، فَلَا يَكُونُ مَرْهُونًا، وَيَتَعَذَّرُ بَيْعُهَا ; لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْحَمْلِ مُتَعَذِّرٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى بَيْعِهَا حَامِلًا وَتَوْزِيعِ الثَّمَنِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا تُعْرَفُ قِيمَتُهُ. فَرْعٌ لَوْ رَهَنَ نَخْلَةً، ثُمَّ أَطْلَعَتْ، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْعَهَا مَعَ الطَّلْعِ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَالْحَمْلِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّ الطَّلْعَ غَيْرُ مَرْهُونٍ. فَعَلَى هَذَا يُبَاعُ النَّخْلُ، وَيُسْتَثْنَى

الطَّلْعُ، بِخِلَافِ الْحَامِلِ. وَلَوْ كَانَتْ مُطْلِعَةً وَقْتَ الرَّهْنِ، فَفِي دُخُولِ الطَّلْعِ، عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ أَدْخَلْنَاهُ، فَكَانَ وَقْتُ الْبَيْعِ طَلَعَا بَعْدُ، بِيعَ مَعَ النَّخْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ أُبِّرَتْ، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ، كَمَا لَوْ وَلَدَتِ الْحَامِلُ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِبَيْعِهِ مَعَ النَّخْلَةِ ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مَشَاهَدٌ وَقْتَ الرَّهْنِ. فَرْعٌ الِاعْتِبَارُ فِي مُقَارَنَةِ الْوَلَدِ الرَّهْنَ وَحُدُوثِهِ، وَسَائِرِ الزَّوَائِدِ، بِحَالَةِ الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: بِحَالَةِ الْقَبْضِ ; لِأَنَّ الرَّهْنَ بِهِ يَلْزَمُ. فَرْعٌ أَرْشُ الْبَكَارَةِ، وَأَطْرَافِ الْعَبْدِ مَرْهُونٌ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الزَّوَائِدِ، بَلْ بَدَلُ جُزْءٍ. فَرْعٌ ضَرَبَ الرِّجْلُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، لَزِمَ الضَّارِبَ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَلَا يَكُونُ مَرْهُونًا ; لِأَنَّهُ بَدَلُ الْوَلَدِ، فَإِنْ دَخَلَهَا نَقْصٌ لَمْ يَجِبْ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ قَدْرُ أَرْشِ النَّقْصِ مِنَ الْعُشْرِ يَكُونُ رَهْنًا، فَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيَّا وَمَاتَ، فَفِيمَا يَلْزَمُ الْجَانِي قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: قِيمَةُ الْجَنِينِ حَيًّا، وَأَرْشُ نُقْصَانِ الْأُمِّ إِنْ نَقَصَتْ. فَعَلَى هَذَا؛ الْقِيمَةُ لِلرَّاهِنِ، وَالْأَرْشُ مَرْهُونٌ. وَالثَّانِي: أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ النَّقْصِ، وَقِيمَةِ الْجَنِينِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ كَانَ الْأَرْشُ أَكْثَرَ، فَالْمَأْخُوذُ رَهْنٌ كُلُّهُ. وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ

أَكْثَرَ، فَقَدْرُ الْأَرْشِ رَهْنٌ. وَأَمَّا الْبَهِيمَةُ الْمَرْهُونَةُ، إِذَا ضُرِبَتْ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ سِوَى أَرْشُ النَّقْصِ إِنْ نَقَصَتْ، وَيَكُونُ رَهْنًا. الثَّالِثُ: فِي فَكِّ الرَّهْنِ. يَنْفَكُّ بِأَسْبَابٍ. أَحَدُهَا: فَسْخُ الْمُرْتَهِنِ. وَالثَّانِي: تَلَفُ الْمَرْهُونِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ. إِذَا جَنَى الْمَرْهُونُ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِمَجْرَدِهِ، بَلِ الْجِنَايَةُ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِأَجْنَبِيٍّ، فَيُقَدَّمُ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي الرَّقَبَةِ. وَحَقٌّ الْمُرْتَهِنِ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ. فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ، بَطَلَ الرَّهْنُ. فَإِنْ وَجَبَ مَالٌ، فَبِيعَ فِيهِ، بَطَلَ أَيْضًا. حَتَّى لَوْ عَادَ إِلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا. وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، بِيعَ بِقَدْرِهِ، وَالْبَاقِي رَهْنٌ. فَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُ بَعْضِهِ، أَوْ نَقَصَ بِالتَّبْعِيضِ، بِيعَ كُلُّهُ، وَمَا فَضَلَ عَنِ الْأَرْشِ يَكُونُ رَهْنًا. وَلَوْ عَفَا عَنِ الْأَرْشِ، أَوْ فَدَاهُ الرَّاهِنُ، بَقِيَ رَهْنًا. وَكَذَا لَوْ فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ. ثُمَّ فِي رُجُوعِهِ عَلَى الرَّاهِنِ مَا سَبَقَ فِي رَهْنِ أَرْضِ الْخَرَاجِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا جَنَى بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ. فَإِنْ أَمَرَهُ السَّيِّدُ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا، أَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ طَاعَةِ السَّيِّدِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ، فَالْجَانِي هُوَ السَّيِّدُ، وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوِ الضَّمَانُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْمَالُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ، فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ، لَزِمَ السَّيِّدُ أَنْ يَرْهَنَ قِيمَتَهُ مَكَانَهُ. وَإِذَا جَنَى مِثْلَ هَذَا الْعَبْدِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: أَنَا أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، بَلْ يُبَاعُ الْعَبْدُ فِيهَا، وَعَلَى السَّيِّدِ الْقِيمَةُ، لِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُمَيِّزًا يَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يُطَاعُ السَّيِّدُ فِيهِ، بَالِغًا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَالِغٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَأْذَنِ السَّيِّدُ إِلَّا أَنَّ السَّيِّدَ يَأْثَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالسَّيِّدِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِذَا جَنَى عَلَى طَرَفِ سَيِّدِهِ عَمْدًا، فَلَهُ الْقِصَاصُ. فَإِنِ اقْتَصَّ، بَطَلَ الرَّهْنُ. وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ ; لِأَنَّ السَّيِّدَ

لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ، فَيَبْقَى الرَّهْنُ كَمَا كَانَ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ الْمَالُ، وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى فَكِّ الرَّهْنِ. الثَّانِيَةُ: جَنَى عَلَى نَفْسِ السَّيِّدِ عَمْدًا، فَلِلْوَارِثِ الْقِصَاصُ. فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْأَظْهَرِ. الثَّالِثَةُ: جَنَى عَلَى طَرَفِ مَنْ يَرِثُهُ السَّيِّدُ، كَأَبِيهِ، فَلَهُ الْقِصَاصُ، وَلَهُ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ. وَلَوْ جَنَى خَطَأً، ثَبَتَ الْمَالُ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَوَرِثَهُ السَّيِّدُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الصَّيْدَلَانِيِّ وَالْإِمَامِ: يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ اسْتِدَامَةُ الدَّيْنِ، كَمَا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ: لَا يَسْقُطُ، وَلَهُ بَيْعُهُ فِيهِ كَمَا كَانَ لِلْمُورِثِ. الرَّابِعَةُ: جَنَى عَلَى نَفْسِ الْمُورِثِ عَمْدًا، فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ. فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتْ خَطَأً، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، أَمْ يَتَلَقَّاهَا عَنِ الْمُوَرِّثِ. إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَمْ يَثْبُتْ، وَإِلَّا، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا جَنَى عَلَى طَرَفِهِ وَانْتَقَلَ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ. الْخَامِسَةُ: قُتِلَ عَبْدٌ آخَرُ لِلرَّاهِنِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْتُولُ مَرْهُونًا، فَهُوَ كَمَا [لَوْ] جَنَى عَلَى السَّيِّدِ. وَحُكْمُ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ مَرْهُونًا أَيْضًا، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عِنْدَ غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ الْقَاتِلِ، فَإِنْ قُتِلَ عَمْدًا، فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ، وَيَبْطُلُ الرَّهْنَانِ جَمِيعًا، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ قَتَلَ خَطَأً، وَجَبَ الْمَالُ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ الْقَتِيلِ. وَإِنْ عَفَا بِلَا مَالٍ، فَإِنْ قُلْنَا: مُوجَبُ الْعَمْدِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَجَبَ الْمَالُ، وَلَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ إِلَّا بِرِضَى الْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ قُلْنَا: مُوجِبُهُ الْقَوْدُ، فَإِنْ قُلْنَا: الْعَفْوُ الْمُطْلَقُ لَا يُوجِبُ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُهُ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا، فَإِنْ قُلْنَا: مُطْلَقُ الْعَفْوِ يُوجِبُ الْمَالَ، ثَبَتَ كَمَا لَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُوجِبُهُ، صَحَّ الْعَفْوُ، وَبَطَلَ رَهْنُ مُرْتَهِنِ الْقَتِيلِ، وَبَقِيَ الْقَاتِلُ رَهْنًا. وَعَفْوُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ، كَعَفْوِ الرَّاهِنِ ; لِأَنَّ أَمْوَالَ الْمُفْلِسِ وَالْمَرْهُونِ

سَوَاءٌ فِي الْحَجْرِ. ثُمَّ مَتَى وَجَبَ الْمَالُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْقَاتِلِ أَوْ مِثْلَهَا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُنْقَلُ الْقَاتِلُ إِلَى يَدِ مُرْتَهَنِ الْقَتِيلِ، وَلَا يُبَاعُ ; لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَأَصَحُّهُمَا: يُبَاعُ وَيُجْعَلُ الثَّمَنُ رَهْنًا فِي يَدِهِ ; لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ، لَا فِي عَيْنِهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَرْغَبُ رَاغِبٌ بِزِيَادَةٍ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْقَاتِلِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَنْتَقِلُ مِنَ الْقَاتِلِ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ إِلَى مُرْتَهَنِ الْقَتِيلِ. وَعَلَى الثَّانِي: يُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَيَبْقَى الْبَاقِي رَهْنًا. فَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُ الْبَعْضِ، أَوْ نَقَصَ بِالتَّبْعِيضِ، بِيعَ الْجَمِيعِ، وَجُعِلَ الزَّائِدُ عَلَى الْوَاجِبِ عِنْدَ مُرْتَهَنِ الْقَاتِلِ. وَإِنَّمَا يَجِيءُ الْوَجْهَانِ، إِذَا طَلَبَ الرَّاهِنُ النَّقْلَ، وَمُرْتَهِنُ الْقَتِيلِ الْبَيْعَ، فَأَيُّهُمَا يُجَابُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. أَمَّا إِذَا طَلَبَ الرَّاهِنُ الْبَيْعَ، وَمُرْتَهَنُ الْقَتِيلِ النَّقْلَ، فَالْمُجَابُ الرَّاهِنُ ; لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُرْتَهَنِ الْمَذْكُورِ فِي عَيْنِهِ. وَلَوِ اتَّفَقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنَانِ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ، فَهُوَ الْمَسْلُوكُ قَطْعًا. وَلَوِ اتَّفَقَ الرَّاهِنُ وَمُرْتَهِنُ الْقَتِيلِ عَلَى النَّقْلِ، قَالَ الْإِمَامُ: لَيْسَ لِمُرْتَهِنِ الْقَاتِلِ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ، وَطَلَبُ الْبَيْعِ. وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ السَّابِقِ، يَتَوَقَّعُ رَاغِبٌ أَنَّهُ لَهُ ذَلِكَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عِنْدَ مُرْتَهِنِ الْقَاتِلِ أَيْضًا. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدَانِ مَرْهُونَيْنِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ نَقَصَتِ الْوَثِيقَةُ وَلَا جَابِرَ، كَمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا. وَإِنْ كَانَا مَرْهُونَيْنِ بَدَيْنَيْنِ، نُظِرَ فِي الدَّيْنَيْنِ، أَهُمَا مُخْتَلِفَانِ حُلُولًا وَتَأْجِيلًا، أَمْ لَا؟ فَإِنِ اخْتَلَفَا، فَلَهُ التَّوَثُّقُ لِدَيْنِ الْقَتِيلِ بِالْقَاتِلِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَالُّ دَيْنُ الْمَقْتُولِ، فَفَائِدَتُهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ ثَمَنِهِ فِي الْحَالِّ. وَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْقَاتِلِ، فَتَحْصُلُ الْوَثِيقَةُ بِالْمُؤَجَّلِ، وَيُطَالَبُ بِالْحَالِّ. وَكَذَا الْحُكْمُ، لَوْ كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ، وَأَحَدُ الْأَجَلَيْنِ أَطْوَلُ. وَإِنِ اتَّفَقَا فِي الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ، نُظِرَ، هَلْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ قَدْرٍ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَعَشَرَةٍ وَعَشَرَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدَانِ مُخْتَلِفَيِ الْقِيمَةِ، وَقِيمَةُ الْقَتِيلِ أَكْثَرُ لَمْ تُنْقَلِ الْوَثِيقَةُ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ، نُقِلَ مِنْهُ قَدْرُ قِيمَةِ الْقَتِيلِ إِلَى دَيْنِ الْقَتِيلِ، وَبَقِيَ الْبَاقِي رَهْنًا بِمَا كَانَ. وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فِي الْقِيمَةِ، بَقِيَ الْقَاتِلُ رَهْنًا بِمَا كَانَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي

النَّقْلِ. وَإِنِ اخْتَلَفَ قَدْرُ الدَّيْنَيْنِ، نُظِرَ، إِنْ تَسَاوَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ، أَوْ كَانَ الْقَتِيلُ أَكْثَرَ قِيمَةً، فَإِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ بِأَكْثَرِ الدَّيْنَيْنِ هُوَ الْقَتِيلُ، فَلَهُ تَوْثِيقُهُ بِالْقَاتِلِ. وَإِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ بِأَقَلِّهِمَا هُوَ الْقَتِيلُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّقْلِ. وَإِنْ كَانَ الْقَتِيلُ أَقَلَّهُمَا قِيمَةً، فَإِنْ كَانَ مَرْهُونًا بِأَقَلِّ الدَّيْنَيْنِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّقْلِ. وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرِهِمَا، نُقِلَ مِنَ الْقَاتِلِ قَدْرُ قِيمَةِ الْقَتِيلِ إِلَى الدَّيْنِ الْآخَرِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: تُنْقَلُ الْوَثِيقَةُ، فَهَلْ يُبَاعُ وَيُقَامُ ثَمَنُهُ مَقَامَ الْقَتِيلِ، أَمْ يُقَامُ عَيْنُهُ مَقَامَهُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَقْسَامِ اخْتِلَافِ الدَّيْنَيْنِ، هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَقَطْ، كَذَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ. فَلَوِ اخْتَلَفَ الدَّيْنَانِ فِي الِاسْتِقْرَارِ وَعَدِمَهُ، بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عِوَضَ مَا يُتَوَقَّعُ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ، أَوْ صَدَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا أَثَرَ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَحَكَى فِي «الشَّامِلِ» عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مَرْهُونًا بِالْمُسْتَقِرِّ، فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّفْلِ. وَإِنْ كَانَ مَرْهُونًا بِالْآخَرِ، فَوَجْهَانِ وَكَذَا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي «الْوَسِيطِ» : اخْتِلَافُ جِنْسِ الدَّيْنَيْنِ، كَاخْتِلَافِ الْقَدْرِ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُتَّجِهًا فِي الْمَعْنَى، فَمُخَالِفٌ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَصْحَابِ كُلِّهِمْ: أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. قُلْتُ: الْمُرَادُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا دَنَانِيرَ، وَالْآخِرُ دَرَاهِمَ، وَاسْتَوَيَا فِي الْمَالِيَّةِ بِحَيْثُ لَوْ قُوِّمَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ تَسَاوَى الدَّيْنَانِ فِي الْأَوْصَافِ، وَقُلْنَا: الْوَثِيقَةُ لَا تُنْقَلُ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قَدْ جَنَى فَلَا آمَنُهُ، فَبِيعُوهُ وَضَعُوا ثَمَنَهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، هَلْ يُجَابُ؟ وَجْهَانِ.

فَرْعٌ لَوْ جُنِيَ عَلَى مَكَاتَبِ السَّيِّدِ، فَانْتَقَلَ الْحَقُّ إِلَيْهِ بِمَوْتِهِ أَوْ عَجْزِهِ، فَهُوَ كَالْمُنْتَقِلِ مِنَ الْمُورِثِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ لِانْفِكَاكِ الرَّهْنِ: بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ عَنْ جَمِيعِ الدَّيْنِ بِالْقَضَاءِ، أَوِ الْإِبْرَاءِ، أَوِ الْحَوَالَةِ، أَوِ الْإِقَالَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلثَّمَنِ الْمَرْهُونِ بِهِ، أَوِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ الْمَرْهُونِ بِهِ. وَلَوِ اعْتَاضَ عَنِ الدَّيْنِ عَيْنًا، انْفَكَّ الرَّهْنُ، لِتَحَوُّلِ الْحَقِّ مِنَ الذِّمَّةِ إِلَى الْعَيْنِ. ثُمَّ لَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، بَطَلَ الِاعْتِيَاضُ، وَيَعُودُ الرَّهْنُ كَمَا عَادَ الدَّيْنُ، وَلَا يَنْفَكُّ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ بَعْضُ الرَّهْنِ، كَمَا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ يَبْقَى مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَلَا يُعْتَقُ شَيْءٌ مِنَ الْمُكَاتَبِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ. وَلَوْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ وَسَلَّمَ أَحَدَهُمَا، كَانَ الْمُسَلَّمُ مَرْهُونًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ. فَرْعٌ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُ بَعْضِ الْمَرْهُونِ بِأَحَدِ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: تَعَدُّدُ الْعَقْدِ، بِأَنْ رَهَنَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِعَشَرَةٍ، وَنِصْفَهُ الْآخَرَ فِي صَفْقَةٍ أُخْرَى. الثَّانِي: أَنْ يَتَعَدَّدَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ، بِأَنْ رَهَنَهُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ بَرِئَ مِنْ دَيْنِ أَحَدِهِمَا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، انْفَكَّ الرَّهْنُ بِقِسْطِ دَيْنِهِ. وَفِي وَجْهٍ: إِنِ اتَّحَدَتْ جِهَةُ دَيْنَيْهِمَا، بِأَنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِمَا مَالًا، أَوِ ابْتَاعَ مِنْهُمَا لَمْ يَنْفَكَّ شَيْءٌ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا يَنْفَكُّ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ. وَالصَّحِيحُ: الِانْفِكَاكُ مُطْلَقًا. الثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَدَّدَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، بِأَنْ رَهَنَ رَجُلَانِ عِنْدَ رَجُلٍ، فَإِذَا بَرِئَ أَحَدُهُمَا، انْفَكَّ نَصِيبُهُ.

الرَّابِعُ: إِذَا وَكَّلَ رَجُلَانِ رَجُلًا يَرْهَنُ عَبْدَهُمَا عِنْدَ زَيْدٍ بِدَيْنِهِ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ قَضَى أَحَدُ الْمُوَكِّلَيْنِ دَيْنَهُ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِانْفِكَاكِ نَصِيبِهِ، وَلَا نَظَرَ إِلَى اتِّحَادِ الْوَكِيلِ وَتَعَدُّدِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: لِأَنَّ مَدَارَ الْبَابِ عَلَى اتِّحَادِ الدَّيْنِ وَتَعَدُّدِهِ، وَمَتَى تَعَدَّدَ الْمُسْتَحِقُّ أَوِ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ، تَعَدَّدَ الدَّيْنُ. وَيُخَالِفُ هَذَا، الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، حَيْثُ ذَكَرْنَا خِلَافًا فِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ وَاتِّحَادِهَا بِالْمُتَبَايِعَيْنِ، أَمْ بِالْوَكِيلِ؟ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ عَقْدَ ضَمَانٍ حَتَّى يُنْظَرَ فِيهِ إِلَى الْمُبَاشِرِ. الْخَامِسُ: إِذَا اسْتَعَارَ عَبْدًا مِنْ مَالِكِيهِ لِيَرْهَنَهُ، فَرَهَنَهُ، ثُمَّ أَدَّى نِصْفَ الدَّيْنِ، وَقَصَدَ بِهِ الشُّيُوعَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِحِصَّةِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَنْفَكَّ مِنَ الرَّهْنِ شَيْءٌ. وَإِنْ قَصَدَ أَدَاءً عَنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لِيَنْفَكَّ نَصِيبُهُ، فَفِي انْفِكَاكِهِ أَقْوَالٌ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّ الْعَبْدَ لِمَالِكَيْنِ، انْفَكَّ، وَإِلَّا، فَلَا، حَكَاهُ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا نَعْلَمُ لِهَذَا وَجْهًا ; لِأَنَّ عَدَمَ الِانْفِكَاكِ لِاتِّحَادِ الدَّيْنِ وَالْعَاقِدَيْنِ، وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْجَهْلِ وَالْعِلْمِ، وَإِنَّمَا أَثَّرَ الْجَهْلُ إِثْبَاتَ الْخِيَارِ. ثُمَّ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَظْهَرَ الِانْفِكَاكُ. قُلْتُ: صَرَّحَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَغَيْرُهُ، بِأَنَّ الِانْفِكَاكَ أَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَبْدَانِ مُتَمَاثِلَا الْقِيمَةِ، فَاسْتَعَارَهُمَا لِلرَّهْنِ، فَرَهَنَهُمَا، ثُمَّ قَضَى نِصْفَ الدَّيْنِ لِيَنْفَكَّ أَحَدُهُمَا، فَالْأَصَحُّ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: يَنْفَكُّ قَطْعًا. وَإِذَا قُلْنَا بِالِانْفِكَاكِ، وَكَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، فَلِلْمُرْتَهَنِ الْخِيَارُ إِذَا جَهِلَ بِأَنَّهُ لِمَالِكَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ. وَلَوِ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَرَهَنَ عِنْدَ رَجُلَيْنِ، كَانَ نَصِيبُ كَلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِكَيْنِ مَرْهُونًا عِنْدَ الرَّجُلَيْنِ. فَلَوْ أَرَادَ فَكَّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِقَضَاءِ نِصْفِ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُرْتَهِنَيْنِ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْ أَرَادَ فَكَّ نِصْفِ الْعَبْدِ بِقَضَاءِ دَيْنِ أَحَدِهِمَا، فَلَهُ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوِ اسْتَعَارَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ، وَرُهِنَا

عِنْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ قَضَى أَحَدُهُمَا مَا عَلَيْهِ، انْفَكَّ النِّصْفُ لِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ، هَكَذَا نَقَلُوهُ. فَرْعٌ قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَوِ اسْتَعَارَ لِيَرْهَنَ عِنْدَ وَاحِدٍ، فَرَهَنَ عِنْدَ اثْنَيْنِ، أَوْ بِالْعَكْسِ لَمْ يَجُزْ. أَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَلِعَدَمِ الْإِذْنِ، وَأَمَّا الْعَكْسُ، فَلِأَنَّهُ إِذَا رَهَنَ عِنْدَ اثْنَيْنِ، يَنْفَكُّ بَعْضُ الرَّهْنِ بِأَدَاءِ دَيْنِ أَحَدِهِمَا، وَإِذَا رَهَنَ عِنْدَ وَاحِدٍ، لَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ إِلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، وَنَقَلَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرُهُ الْجَوَازَ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. السَّادِسُ: لَوْ رَهَنَ عَبْدًا بِمِائَةٍ، ثُمَّ مَاتَ عَنِ اثْنَيْنِ، فَقَضَى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ الدَّيْنِ، فَفِي انْفِكَاكِ نَصِيبِهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَنْفَكُّ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ ; لِأَنَّ الرَّهْنَ صَدَرَ أَوَّلًا مِنْ وَاحِدٍ. وَلَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِتَرِكَتِهِ، فَقَضَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ نَصِيبَهُ، قَالَ الْإِمَامُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْرُجَ انْفِكَاكُ نَصِيبِهِ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ لَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ، وَأَنْكَرَ الْبَاقُونَ، هَلْ عَلَى الْمُقِرِّ أَدَاءُ جَمِيعِ الدَّيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ التَّرِكَةِ؟ وَعَلَى هَذَا الْبِنَاءِ، فَالْأَصَحُّ الِانْفِكَاكُ ; لِأَنَّ الْجَدِيدَ: أَنَّهُ لَا يُلْزَمُ أَدَاءُ جَمِيعِ الدَّيْنِ مِمَّا فِي يَدِهِ مِنَ التَّرِكَةِ ثُمَّ الْحُكْمُ بِانْفِكَاكِ نَصِيبِهِ، إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّعَلُّقِ مَعَ ابْتِدَاءِ تَعَدُّدِ الْمُلَّاكِ. فَلَوْ كَانَ الْمَوْتُ مَسْبُوقًا بِالْمَرَضِ، كَانَ التَّعَلُّقُ سَابِقًا عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ لِلدَّيْنِ أَثَرًا بَيِّنًا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ. فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي انْفِكَاكِ نَصِيبِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، ثَابِتًا بِإِقْرَارِ الْوَارِثِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ وَقَدْ قَيَّدَهَا الْغَزَالِيُّ، بِمَا إِذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْوَارِثِ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ غَنِيَّةٌ عَنْ هَذَا الْقَيْدِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.

قُلْتُ: قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ: الْحُكْمُ بِالِانْفِكَاكِ، إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّعَلُّقِ. . . إِلَى آخِرِهِ. هَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى إِطْلَاقِهَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ الْأُولَى فِي شَيْءٍ ; لِأَنَّ الْأُولَى: فِي انْفِكَاكِ نَصِيبِ الِابْنِ مِنَ الْعَيْنِ الَّتِي رَهَنَهَا الْمَيِّتُ. وَالثَّانِيَةُ: فِي فَكِّ نَصِيبِهِ مِنْ تَعَلُّقِ التَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لِلرَّهْنِ فِي الثَّانِيَةِ وُجُودٌ، فَفِي قَوْلٍ: يَنْفَكُّ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِنَصِيبِهِ، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ. وَفِي قَوْلٍ: لَا يَنْفَكُّ التَّعَلُّقُ، فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي نَصِيبِهِ إِذَا مَنَعْنَا تَصَرُّفَ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ الْمَرْهُونُ لِمَالِكَيْنِ، وَانْفَكَّ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، فَأَرَادَ الْقِسْمَةَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ بِالْأَجْزَاءِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَلَهُ أَنْ يُقَاسِمَ الْمُرْتَهِنَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ بِالْأَجْزَاءِ كَالثِّيَابِ، وَالْعَبِيدِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: لَا يُجَابُ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ أَرْضًا مُخْتَلِفَةَ الْأَجْزَاءِ كَالدَّارِ، قَالُوا: لَزِمَ الشَّرِيكُ أَنْ يُوَافِقَهُ، وَفِي الْمُرْتَهِنِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَهُ الِامْتِنَاعُ لِمَا فِي الْقِسْمَةِ مِنَ التَّبْعِيضِ وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ فِي طُرُقِهِمْ. وَزَادَ آخَرُونَ، مِنْهُمْ أَصْحَابُ الْقَفَّالِ، فَقَالُوا: تَجْوِيزُ الْقِسْمَةِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهُ، مَبْنِيُّ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ، فَإِنْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا، فَهُوَ بَيْعُ الْمَرْهُونِ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَالْجُمْهُورُ أَطْبَقُوا عَلَى تَجْوِيزِ الْقِسْمَةِ هُنَا، وَجَعَلُوا تَأْثِيرَ كَوْنِهَا بَيْعًا افْتِقَارَهَا إِلَى إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ. ثُمَّ إِذَا جَوَّزْنَا الْقِسْمَةَ، فَطَرِيقُ الطَّالِبِ أَنْ يُرَاجِعَ الشَّرِيكَ، فَإِنْ سَاعَدَ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَيَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيُقَسِّمَ. وَفِي وَجْهٍ: لَا حَاجَةَ إِلَى إِذْنِ الشَّرِيكِ فِي الْمُتَمَاثِلَاتِ ; لِأَنَّ قِسْمَتَهَا إِجْبَارٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَاسَمَ الْمُرْتَهِنَ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ، أَوِ الْحَاكِمِ عِنْدَ امْتِنَاعِ

الْمَالِكِ، جَازَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَإِذَا مَنَعْنَاهَا فَرَضِيَ الْمُرْتَهِنُ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ صِحَّتُهَا. قَالَ الْإِمَامُ: لَا يَصِحُّ وَإِنْ رَضِيَ ; لِأَنَّ رِضَاهُ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي فَكِّ الرَّهْنِ. فَأَمَّا فِي بَيْعِهِ بِمَا لَيْسَ بِرَهْنٍ لِيَصِيرَ رَهْنًا، فَلَا. وَهَذَا إِشْكَالٌ قَوِيٌّ. قُلْتُ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، وَلَا يُسَلَّمُ الْحُكْمُ الَّذِي ادَّعَاهُ، فَالْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَرَادَ الرَّاهِنَانِ الْقِسْمَةَ قَبْلَ انْفِكَاكِ شَيْءٍ مِنَ الرَّهْنِ، فَعَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي بَيَّنَاهُ. وَلَوْ رَهَنَ وَاحِدٌ عِنْدَ اثْنَيْنِ، وَقَضَى نَصِيبَ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ أَرَادَ الْقِسْمَةَ لِيَمْتَازَ مَا بَقِيَ رَهْنًا، فَفِي اشْتِرَاطِ رِضَى الَّذِي بَقِيَ رَهْنُهُ مَا ذَكَرْنَا. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الِاخْتِلَافِ التَّنَازُعُ فِي الرَّهْنِ يُفْرَضُ فِي أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: أَصْلُ الْعَقْدِ. فَإِذَا قَالَ: رَهَنْتَنِي، فَأَنْكَرَ الْمَالِكُ، أَوْ رَهَنْتَنِي ثَوْبَكَ، فَقَالَ: بَلْ عَبْدِي. أَوْ بِأَلْفَيْنِ، فَقَالَ: بَلْ بِأَلْفٍ. أَوْ رَهَنْتَنِي الْأَرْضَ بِأَشْجَارِهَا، فَقَالَ: بَلْ وَحْدَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ قَالَ: رَهَنْتَنِي الْأَشْجَارَ مَعَ الْأَرْضِ يَوْمَ رَهْنِ الْأَرْضِ، فَقَالَ: لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَشْجَارُ أَوْ بَعْضُهَا يَوْمَ رَهْنِ الْأَرْضِ، بَلْ أَحْدَثْتُهَا بَعْدُ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَشْجَارُ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا يَوْمَ الرَّهْنِ، فَالْمُرْتَهِنُ كَاذِبٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ بِلَا يَمِينٍ. وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهَا بَعْدَهُ، فَالرَّاهِنُ كَاذِبٌ، فَإِنِ اعْتَرَفَ فِي مُفَاوَضَتِهَا أَنَّهُ رَهَنَ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا، كَانَتِ الْأَشْجَارُ مَرْهُونَةً، وَلَا حَاجَةَ إِلَى يَمِينِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ زَعَمَ رَهْنَ الْأَرْضِ وَحْدَهَا، أَوْ مَا سِوَى الْأَشْجَارِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الْوُجُودِ،

فصل

فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَذِبِهِ فِي إِنْكَارِ الْوُجُودِ كَوْنُهَا مَرْهُونَةً، فَيُطَالَبُ بِجَوَابِ دَعْوَى الرَّهْنِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى إِنْكَارِ الْوُجُودِ، فَقَدْ جُعِلَ نَاكِلًا، وَرُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ. فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْوُجُودِ، وَأَنْكَرَ رَهْنَهَا، قَبِلْنَا إِنْكَارَهُ، وَحَلَفَ لِجَوَازِ صِدْقِهِ فِي نَفْيِ الرَّهْنِ. وَإِنْ كَانَ الشَّجَرُ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ يَوْمَ رَهْنِ الْأَرْضِ، وَالْحُدُوثَ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ. فَإِذَا حَلَفَ، فَهِيَ كَالشَّجَرَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الرَّهْنِ فِي الْقَلْعِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ مِنْهُ بِإِنْكَارِ الْوُجُودِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا بُدَّ مِنْ إِنْكَارِ الرَّهْنِ صَرِيحًا. وَالْحُكْمُ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي رَهْنِ تَبَرُّعٍ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي رَهْنٍ مَشْرُوطٍ فِي بَيْعٍ، تَحَالَفَا كَسَائِرِ صِفَاتِ الْبَيْعِ إِذَا اخْتُلِفَ فِيهَا. فَصْلٌ لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا رَهَنَاهُ عَبَدَهُمَا بِمِائَةٍ، وَأَقْبَضَاهُ، فَأَنْكَرَا الرَّهْنَ، أَوِ الرَّهْنَ وَالدَّيْنَ جَمِيعًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ الْيَمِينِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، فَنُصِيبُهُ رَهْنٌ بِخَمْسِينَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَذِّبِ فِي نَصِيبِهِ مَعَ يَمِينِهِ. فَلَوْ شَهِدَ الْمُصَدِّقِ لِلْمُدَّعِي عَلَى شَرِيكِ الْمُكَذِّبِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، فَإِنْ شَهِدَ مَعَهُ آخَرُ، وَحَلَفَ الْمُدَّعِي، ثَبَتَ رَهْنُ الْجَمِيعِ. وَلَوْ زَعَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَا رَهَنَ نَصِيبَهُ، وَأَنَّ شَرِيكَهُ رَهَنَ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ، فَوَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ كَاذِبٌ ظَالِمٌ بِالْجُحُودِ. وَطَعْنُ الْمَشْهُودِ لَهُ فِي الشَّاهِدِ، يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِ لَهُ. وَأَصَحُّهُمَا: تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا نَسِيَا. فَإِنْ تَعَمَّدَا، فَالْكِذْبَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُوجِبُ الْفِسْقَ. وَلِهَذَا، لَوْ تَخَاصَمَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ شَهِدَا فِي حَادِثَةٍ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فِي ذَلِكَ التَّخَاصُمِ. فَعَلَى هَذَا، إِذَا حَلَفَ مَعَ

كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ أَقَامَ شَاهِدًا آخَرَ، ثَبَتَ رَهْنُ الْجَمِيعِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الَّذِي شَهِدَ أَوَّلًا يُقْبَلُ، دُونَ الْآخَرِ ; لِأَنَّهُ انْتَهَضَ خَصْمًا مُنْتَقِمًا. فَرْعٌ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ رَهَنَهُمَا وَأَقْبَضَهُمَا، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا أَوْ كَذَّبَهُمَا لَمْ يَخْفَ الْحُكْمُ. وَإِنْ صَدَّقَ أَحَدَهُمَا، فَنِصْفُ الْعَبْدِ رَهْنٌ عِنْدِهِ، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ. وَهَلْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُصَدِّقِ لِلْمُكَذِّبِ؟ قَالَ ابْنُ كَجٍّ: نَعَمْ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: لَا. وَحَكَى الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا ادَّعَيَا حَقًّا أَوْ مَلِكًا بِابْتِيَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَصُدِّقَ أَحَدُهُمَا، هَلْ يَسْتَبِدُّ بِالنِّصْفِ، أَمْ يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا: يَسْتَبِدُّ، قُبِلَتْ، وَإِلَّا، فَلَا ; لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ لَمْ يُنْكِرْ إِلَّا الرَّهْنَ، قُبِلَ. وَإِنْ أَنْكَرَ الرَّهْنَ وَالدَّيْنَ، فَحِينَئِذٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ دَعْوَاهُمَا الْإِرْثُ وَغَيْرُهُ. وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْتَى بِهِ، الْقَبُولُ إِنْ كَانَتِ الْحَالُ لَا تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ، وَالْمَنْعُ إِنِ اقْتَضَتْ ; لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ. فَرْعٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ادَّعَى زَيْدٌ وَعَمْرٌو عَلَى ابْنَيْ بَكْرٍ، أَنَّهُمَا رَهَنَا عِنْدَهُمَا عَبَدَهُمَا الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا بِمِائَةٍ، فَصَدَّقَا أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ، ثَبَتَ مَا ادَّعَاهُ، وَكَانَ لَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ الْمِائَةِ، وَنِصْفُ نَصِيبِ كَلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونٌ بِهِ. وَإِنْ صَدَّقَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ زَيْدًا، وَالْآخِرُ عَمْرًا، ثَبَتَ الرَّهْنُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي رُبُعِهِ بِرُبُعِ الْمِائَةِ. فَلَوْ شَهِدَ

أَحَدُ الِاثْنَيْنِ عَلَى أَخِيهِ، قُبِلَتْ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ لِلْآخَرِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ. فَرْعٌ مَنْصُوصٌ فِي الْمُخْتَصَرِ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ هَذَا وَأَقْبَضْتَنِيهِ، فَإِنْ كَذَّبَهُمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَمِينًا. وَإِنْ كَذَّبَ أَحَدَهُمَا، وَصَدَّقَ الْآخَرَ، قُضِيَ بِالرَّهْنِ لِلْمُصَدَّقِ. وَفِي تَحْلِيفِهِ لِلْمُكَذِّبِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا. فَإِنْ قُلْنَا: يَحْلِفُ، فَنَكَلَ، فَحَلَفَ الْمُكَذِّبِ يَمِينَ الرَّدِّ، فَفِيمَا يَسْتَفِيدُ بِهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُقْضَى لَهُ بِالرَّهْنِ وَيُنْزَعُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَأْخُذُ الْقِيمَةَ مِنَ الْمَالِكِ، لِيَكُونَ رَهْنًا عِنْدَهُ. وَإِنْ صَدَّقَهُمَا جَمِيعًا، نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَا السَّبْقَ، أَوِ ادَّعَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَا أَعْرِفُ السَّابِقَ، وَصَدَّقَاهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ تَنَازَعَا شَيْئًا فِي يَدِ ثَالِثٍ فَاعْتَرَفَ لَهُمَا، وَأَصَحُّهُمَا: يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ وَلِيَّانِ وَلَمْ يُعْرَفِ السَّابِقُ. وَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ السَّبْقَ، وَأَنَّ الرَّاهِنَ عَالِمٌ بِصِدْقِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ نَكَلَ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، قُضِيَ لَهُ. وَإِنْ حَلَفَا، أَوْ نَكَلَا، تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ السَّابِقِ، وَعَادَ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ صُدِّقَ أَحَدُهُمَا فِي السَّبْقِ، وَكُذِّبَ الْآخَرُ، قُضِيَ لِلْمُصَدَّقِ. وَهَلْ يُحَلِّفُهُ الْمُكَذَّبُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: مُقْتَضَى الصِّدْقِ، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُكَذَّبِ. فَإِنْ كَانَ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ. وَأَظْهَرُهُمَا: الْمُصَدَّقُ يُقَدَّمُ ; لِأَنَّ الْيَدَ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الرَّهْنِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي أَيْدِيهِمَا،

فَالْمُصَدَّقُ مُقَدَّمٌ فِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ، الْقَوْلَانِ. وَالِاعْتِبَارُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ بِسَبْقِ الْقَبْضِ، لَا الْعَقْدِ. حَتَّى لَوْ صَدَقَ هَذَا فِي سَبْقِ الْعَقْدِ، وَهَذَا فِي سَبْقِ الْقَبْضِ، قُدِّمَ الثَّانِي. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: رَهَنْتُهُ عِنْدَ أَحَدِكُمَا، وَنَسِيْتُ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. فَإِنْ نَكَلَ، رُدَّتْ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ حَلَفَا، أَوْ نَكَلَا، انْفَسَخَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ فِي الطُّرُقِ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ عَنِ الْأَصْحَابِ. وَخَرَجَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ، بَلْ يَفْسَخُهُ الْحَاكِمُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ صَاحِبُ الْوَسِيطِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، تَحَالَفَا عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ نَكَلَ. وَفِي وَجْهٍ: انْتَهَتِ الْخُصُومَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ دَفَعَ مَتَاعًا إِلَى رَجُلٍ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى غَيْرِهِ لِيَسْتَقْرِضَ مِنْهُ لِلدَّافِعِ وَيَرْهَنَ الْمَتَاعَ، فَفَعَلَ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ: اسْتَقْرَضَ مِائَةً وَرَهْنَهُ بِهَا، وَقَالَ الْمُرْسِلُ: لَمْ آذَنْ إِلَّا فِي خَمْسِينَ، نُظِرَ، إِنْ صَدَّقَ الرَّسُولُ الْمُرْسِلَ، فَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِ مُدَّعٍ عَلَى الْمُرْسِلِ بِالْإِذْنِ، وَعَلَى الرَّسُولِ بِالْأَخْذِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا فِي نَفْيِ دَعْوَاهُ. وَإِنْ صَدَّقَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ، فَالْقَوْلُ فِي نَفِي الزِّيَادَةِ قَوْلُ الْمُرْسَلِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ عَلَى الرَّسُولِ بِالزِّيَادَةِ إِنْ صَدَّقَهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمُرْسِلِ ; لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِزَعْمِهِ. وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ، رَجَعَ عَلَيْهِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّسُولِ وَإِنْ صِدَّقَهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمُرْسِلِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: الْقَبْضُ. فَإِذَا تَنَازَعَا فِي قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ النِّزَاعِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَقَالَ:

قَبَضْتُهُ عَنِ الرَّهْنِ، وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ، فَقَالَ: بَلْ غَصَبْتَنِيهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَإِنْ قَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ قَبْضَتَهُ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى مَأْذُونٍ فِيهَا، بِأَنْ قَالَ: أَوْدَعْتُكَهُ، أَوْ أَعَرْتُ، أَوْ أَكْرَيْتُ، أَوْ أَكْرَيْتُهُ لِفُلَانٍ فَأَكْرَاكَهُ، فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى قَبْضٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، أَوْ قَوْلُ الرَّاهِنِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا ادَّعَاهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَيَجْرِي مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ، فِيمَا إِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، حَيْثُ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ، وَصَادَفَنَا الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ أَعَارَهُ، أَوْ أَوْدَعَهُ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا حُصُولُ الْقَبْضِ، لِقُوَّةِ يَدِهِ بِالْمِلْكِ. وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ بِالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. وَلَوْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ فِي إِذْنِهِ فِي الْقَبْضِ عَلَى جِهَةِ الرَّهْنِ، وَلَكِنْ قَالَ: رَجَعْتُ قَبْلَ قَبْضِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي عَدَمِ الرُّجُوعِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ: لَمْ يَقْبِضْهُ بَعْدُ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قَبَضْتُهُ، فَمَنْ كَانَ الْمَرْهُونُ فِي يَدِهِ مِنْهُمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا النَّصَّيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي «الْأُمِّ» . فَرْعٌ إِقْرَارُ الرَّاهِنِ بِإِقْبَاضِ الْمَرْهُونِ، مَقْبُولٌ مُلْزِمٌ، لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ. حَتَّى لَوْ قَالَ: رَهَنْتُهُ الْيَوْمَ دَارِي بِالشَّامِ، وَأَقْبَضْتُهُ إِيَّاهَا وَهُمَا بِمَكَّةَ، فَهُوَ لَاغٍ. وَلَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْإِقْبَاضِ فِي مَوْضِعِ الْإِمْكَانِ، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ إِقْرَارِي عَنْ حَقِيقَةٍ، فَحَلَّفُوهُ أَنَّهُ قَبَضَ، نُظِرَ، إِنْ ذَكَرَ لِإِقْرَارِهِ تَأْوِيلًا، بِأَنْ قَالَ: كُنْتُ أَقَبَضْتُهُ بِالْقَوْلِ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْفِي قَبْضًا، أَوْ وَقْعَ إِلَيَّ كِتَابٌ عَلَى لِسَانِ وَكِيلِي بِأَنَّهُ أَقْبَضَ وَكَانَ مُزَوَّرًا، أَوْ قَالَ: أَشْهَدْتُ عَلَى رَسْمِ الْقُبَالَةِ قَبْلَ حَقِيقَةِ الْقَبْضِ، فَلَهُ تَحْلِيفُهُ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ تَأْوِيلًا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: يُحَلِّفُهُ، وَبِهِ قَالَ:

ابْنُ خَيْرَانَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمَرَاوِزَةِ: لَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ. قُلْتُ: طَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ أَفْقَهُ وَأَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَكَى فِي «الْوَسِيطِ» وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يُحَلِّفُهُ مُطْلَقًا وَإِنْ ذَكَرَ تَأْوِيلًا. وَهَذَا الْوَجْهُ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِمَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَلَوْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى إِقْرَارِهِ، بَلْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يُحَلِّفُهُ وَإِنْ ذَكَرَ تَأْوِيلًا ; لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُقِرُّ عِنْدَ الْقَاضِي إِلَّا عَنْ تَحْقِيقٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا فَرْقَ، لِشُمُولِ الْإِمْكَانِ. وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى نَفْسِ الْقَبْضِ، فَلَيْسَ لَهُ التَّحْلِيفُ بِحَالٍ، وَكَذَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهِ، فَقَالَ: مَا أَقْرَرْتُ ; لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلشُّهُودِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، فَقَالَ الْمُشْتَرِيَ: أَقْبَضْتُ، ثُمَّ تَلِفَ الرَّهْنُ، فَلَا خِيَارَ لَكَ فِي الْبَيْعِ، وَأَقَامَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ حُجَّةً، فَأَرَادَ الْمُرْتَهِنُ تَحْلِيفَهُ، فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي إِقْرَارِ الرَّهْنِ وَطَلَبِ الرَّاهِنِ يَمِينَ الْمُرْتَهِنِ. وَيُقَاسُ عَلَى هَذَا، مَا إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِإِقْرَارِهِ لِزَيْدٍ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَقْرَرْتُ وَأَشْهَدْتُ لِيُقْرِضَنِي، ثُمَّ لَمْ يُقْرِضْنِي، وَكَذَا سَائِرُ نَظَائِرِهَا. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الْجِنَايَةُ، وَهِيَ ضَرْبَانِ. الْأَوَّلُ: جُنِيَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ، فَأَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ الْجَانِي، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُتَرَاهِنَانِ أَوْ كَذَّبَاهُ لَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ فَقَطْ، أَخَذَ الْأَرْشَ وَفَازَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهَنِ التَّوَثُّقُ بِهِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ فَقَطْ، أَخَذَ الْأَرْشَ وَكَانَ مَرْهُونًا.

فَإِنْ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَرُدُّ الْأَرْشَ إِلَى الْمُقِرِّ. وَالثَّانِي: يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ. الضَّرْبُ الثَّانِي: جِنَايَةُ الْمَرْهُونِ، وَالنِّزَاعُ فِي جِنَايَتِهِ، يَقَعُ تَارَةً بَعْدَ لُزُومِ الرَّهْنِ، وَتَارَةً قَبْلَهُ. الْحَالُ الْأَوَّلُ: بَعْدَهُ، فَإِذَا أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِأَنَّهُ جَنَى، وَوَافَقَهُ الْعَبْدُ أَمْ لَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِذَا بِيعَ فِي دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ إِلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ السَّابِقِ. وَلَوْ أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِجِنَايَتِهِ، وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَإِذَا بِيعَ فِي الدَّيْنِ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا: أَنَّهُ يُقْبَلُ إِقْرَارُ الرَّاهِنِ، وَيُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الْجِنَايَةِ، وَيُغَرَّمُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ. الْحَالُ الثَّانِي: تَنَازَعَا فِي جِنَايَتِهِ قَبْلَ لُزُومِ الرَّهْنِ، فَأَقَرَّ الرَّاهِنُ بِأَنَّهُ كَانَ أَتْلَفَ مَالًا، أَوْ جَنَى جِنَايَةً تُوجِبُ الْمَالَ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ، أَوْ عَيَّنَهُ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، أَوْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ، فَالرَّهْنُ مُسْتَمِرٌّ بِحَالِهِ. وَإِنْ عَيَّنَهُ وَادَّعَاهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، نُظِرَ، إِنْ صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ، بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ. وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، صِيَانَةً لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ ; لِأَنَّهُ مَالِكٌ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِيمَا لَوْ قَالَ: كُنْتُ غَصَبْتُهُ، أَوِ اشْتَرَيْتُهُ شِرَاءً فَاسِدًا، أَوْ بِعْتُهُ، أَوْ وَهَبْتُهُ وَأَقْبَضْتُهُ وَأَعْتَقْتُهُ. وَلَا حَاجَةَ فِي صُورَةِ الْعِتْقِ إِلَى تَصْدِيقِ الْعَبْدِ وَدَعْوَاهُ، بِخِلَافِ الْمُقَرِّ لَهُ فِي بَاقِي الصُّوَرِ. وَفِي الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، نُفِّذَ، وَإِلَّا، فَلَا، كَالْإِعْتَاقِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ هَذَا الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الرَّاهِنِ، فَالْقَوْلُ فِي بَقَاءِ الرَّهْنِ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ. وَإِذَا حَلَفَ وَاسْتَمَرَّ الرَّهْنُ، فَهَلْ يَغْرَمُ الرَّاهِنُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؟ قَوْلَانِ. قَالَ الْأَئِمَّةُ أَظْهَرُهُمَا: يُغَرَّمُ كَمَا لَوْ قَبِلَهُ ; لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّهِ، وَهُمَا كَالْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ أَقَرَّ بِالدَّارِ لِزَيْدٍ، ثُمَّ لِعَمْرٍو،

هَلْ يَغْرَمُ لِعَمْرٍو؟ وَيُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِقَوْلَيِ الْغُرْمُ لِلْحَيْلُولَةِ ; لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ حَالَ بَيْنَ مَنْ أَقَرَّ لَهُ ثَانِيًا وَبَيْنَ حَقِّهِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَغْرَمُ، طُولِبَ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِذَا أَيْسَرَ. وَفِيمَا يَغْرَمُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؟ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ. وَثَانِيهِمَا: الْأَرْشُ بَالِغًا مَا بَلَغَ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَغْرَمُ الْأَقَلُّ قَطْعًا، كَأُمِّ الْوَلَدِ، لِامْتِنَاعِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْقِنِّ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَغْرَمُ الرَّاهِنُ، فَإِنْ بِيعَ فِي الدَّيْنِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. لَكِنْ لَوْ مَلَكَهُ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ فِي الْجِنَايَةِ، وَكَذَا لَوِ انْفَكَّ رَهْنُهُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ نَكَلَ، فَعَلَى مَنْ تُرَدُّ الْيَمِينُ؟ قَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الرَّاهِنِ ; لِأَنَّهُ مَالِكُ الْعَبْدِ، وَالْخُصُومَةُ تَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ. وَأَظْهَرُهُمَا: عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، وَالرَّاهِنُ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا. فَإِذَا حَلَفَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، بِيعَ الْعَبْدُ فِي الْجِنَايَةِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهَنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ ; لِأَنَّ فَوَاتَهُ حَصَلَ بِنُكُولِهِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ يَسْتَغْرِقُ الْوَاجِبُ قِيمَتَهُ، بِيعَ كُلُّهُ، وَإِلَّا فَبِقَدْرِ الْأَرْشِ. وَهَلْ يَكُونُ الْبَاقِي رَهْنًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا ; لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْبَيِّنَةِ، كَالْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ كَانَ جَانِيًا فِي الِابْتِدَاءِ، فَلَا يَصِحُّ رَهْنُ شَيْءٍ مِنْهُ. وَإِذَا رَدَدْنَا عَلَى الرَّاهِنِ، فَنَكَلَ، فَهَلْ يُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؟ قَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا ; لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تُرَدُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. فَعَلَى هَذَا، نُكُولُ الرَّاهِنِ كَحَلِفِ الْمُرْتَهِنِ فِي تَقْرِيرِ الرَّهْنِ. وَهَلْ يَغْرَمُ الرَّاهِنُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَإِنْ رَدَدْنَاهُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَنَكَلَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: تَسْقُطُ دَعْوَاهُ، وَانْتَهَتِ الْخُصُومَةُ. وَطَرَدَ الْعِرَاقِيُّونَ فِي الرَّدِّ مِنْهُ عَلَى الرَّاهِنِ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ فِي عَكْسِهِ. وَإِذَا لَمْ تُرَدَّ، لَا يَغْرَمُ لَهُ الرَّاهِنُ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَتُحَالُ الْحَيْلُولَةُ عَلَى نُكُولِهِ، هَذَا تَمَامُ التَّفْرِيعِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ. فَإِنْ قَبِلْنَاهُ، فَهَلْ يَحْلِفُ، أَمْ يَقْبَلُ بِلَا يَمِينٍ؟ قَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا:

لَا يَحْلِفُ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ لِلزَّجْرِ لِيَرْجِعَ الْكَاذِبُ. وَهُنَا لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ: يَحْلِفُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ. وَسَوَاءٌ حَلَّفْنَاهُ، أَمْ لَا، فَيُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الْجِنَايَةِ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلِلْمُرْتَهَنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ. وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّا إِنَّمَا حَلَّفْنَا الرَّاهِنَ لِحَقِّهِ. وَفِي فَائِدَةِ حَلِفِهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّ فَائِدَتَهُ: تَقْدِيرُ الرَّهْنِ فِي الْعَبْدِ عَلَى مَا هُوَ قِيَاسُ الْخُصُومَاتِ. وَالثَّانِي: فَائِدَتُهُ: أَنْ يَغْرَمَ الرَّاهِنُ قِيمَتَهُ، لِيَكُونَ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَيُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الْجِنَايَةِ بِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَهَلْ يَغْرَمُ الرَّاهِنُ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِكَوْنِهِ حَالَ بِنُكُولِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّهِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَهَلْ لِلْمُرْتَهَنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِفَوَاتِ الْعَيْنِ الْمَشْرُوطَةِ. وَالثَّانِي: لَا، لِحُصُولِ الْوَثِيقَةِ بِالْقِيمَةِ. وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ، بِيعَ الْعَبْدُ فِي الْجِنَايَةِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لَا غُرْمَ عَلَى الرَّاهِنِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَبْنِيُّ عَلَى أَنَّ رَهْنَ الْجَانِي لَا يَصِحُّ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، فَقِيلَ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ قَطْعًا، فَيَغْرَمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَيَسْتَمِرُّ الرَّهْنُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ يَحُلُّ بِلُزُومِ الرَّهْنِ ; لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يَبِيعُ الْمَرْهُونَ لَوْ عَجَزَ عَنْ تَغْرِيمِ الرَّاهِنِ. فَرْعٌ لَوْ أَقَرَّ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ الْقِصَاصَ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ عَلَى الْعَبْدِ، فَلَوْ قَالَ، ثُمَّ عَفَا عَلَى مَالٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ. فَرْعٌ لَوْ أَقَرَّ بِالْعِتْقِ وَقُلْنَا: لَا يُقْبَلُ، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يُجْعَلُ كَإِنْشَاءِ الْإِعْتَاقِ.

وَفِيهِ الْأَقْوَالُ ; لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ إِنْشَاءَ أَمْرٍ، قُبِلَ إِقْرَارُهُ بِهِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي نُفُوذِهِ وَجْهَيْنِ، مَعَ قَوْلِنَا: يُنَفَّذُ الْإِنْشَاءُ. فَرْعٌ رَهْنُ الْجَارِيَةِ الْمَوْطُوءَةِ جَائِزٌ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ، لِاحْتِمَالِ الْحَمْلِ. فَإِذَا رَهَنَ جَارِيَةً، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، فَإِنْ كَانَ الِانْفِصَالُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْوَطْءِ، أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ، وَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي، وَكُنْتُ وَطِئْتُهَا قَبْلَ لُزُومِ الرَّهْنِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ، وَلِلْمُرْتَهَنِ فَسْخُ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ رَهْنُهَا. وَإِنْ كَذَّبَهُ وَلَا بَيِّنَةَ، فَفِي قَبُولِ إِقْرَارِهِ لِثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ، قَوْلَانِ، كَإِقْرَارِهِ بِالْعِتْقِ وَنَظَائِرِهِ، وَالتَّفْرِيعُ كَمَا سَبَقَ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ ثَابِتُ النَّسَبِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. وَلَوْ لَمْ يُصَادِفْ وَلَدًا فِي الْحَالِ، وَزَعْمَ الرَّاهِنُ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ قَبْلَ الرَّهْنِ، فَفِيهِ التَّفْصِيلُ السَّابِقُ وَالْخِلَافُ، وَحَيْثُ قُلْنَا: يَحْلِفُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، تَحْلِفُ الْمُسْتَوْلِدَةُ، فَإِنَّهَا فِي مَرْتَبَتِهِ، وَفِي الْعِتْقِ يَحْلِفُ الْعَبْدُ. قُلْتُ: وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا بَعْدَ لُزُومِ الرَّهْنِ، فَإِنْ لَمْ يُنَفَّذِ اسْتِيلَادُهُ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ، وَإِلَّا، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي إِقْرَارِهِ بِالْعِتْقِ، أَصَحُّهُمَا: يُقْبَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ عَبْدًا، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَنَّهُ كَانَ غَصَبَهُ، أَوْ بَاعَهُ، أَوِ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ; لِأَنَّهُ أَقَرَّ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ ظَاهِرًا، وَيُخَالِفُ إِقْرَارَ الرَّاهِنِ،

فصل

فَإِنَّهُ فِي مِلْكِهِ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ، وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ. وَعَلَى هَذَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ نَكَلَ فَهَلِ الرَّدُّ عَلَى الْمُدَّعِي، أَمْ عَلَى الْمُقِرِّ الْبَائِعِ؟ قَوْلَانِ وَلَوْ أَجَّرَ عَبْدًا، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ بِعْتُهُ، أَوْ أَجَّرْتُهُ، أَوْ أَعْتَقْتُهُ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الرَّهْنِ، كَبَقَاءِ الْمِلْكَ. وَلَوْ كَاتَبَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِمَا لَا يَصِحُّ مَعَهُ كِتَابَةً، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: فِيهِ الْخِلَافُ. وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ; لِأَنَّ الْمَكَاتَبَ كَمَنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ: مَا يُفَكُّ بِهِ الرَّهْنُ. فَإِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ، فَبَاعَ الرَّاهِنُ، وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْإِذْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ: رَجَعْتُ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَلَمْ يَصِحَّ، وَبَقِيَ رَهْنًا كَمَا كَانَ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ رَجَعْتَ بَعْدَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: قَوْلُ الرَّاهِنِ. وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِنْ قَالَ الرَّاهِنُ أَوَّلًا: تَصَرَّفْتُ بِإِذْنِكَ، ثُمَّ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: كُنْتُ رَجَعْتُ قَبْلَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ. وَإِنْ قَالَ: رَجَعْتُ، ثُمَّ قَالَ الرَّاهِنُ: كُنْتُ بِعْتُ قَبْلَ رُجُوعِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ. وَلَوْ أَنْكَرَ الرَّاهِنُ أَصْلَ الرُّجُوعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. فَصْلٌ عَلَيْهِ دَيْنَانِ، أَحَدُهُمَا حَالٌّ، وَبِهِ رَهْنٌ، أَوْ كَفِيلٌ، أَوْ هُوَ ثَمَنُ مَبِيعٍ مَحْبُوسٍ بِهِ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَلْفًا، وَقَالَ: أَعْطَيْتُكَ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَابِضُ: بَلْ عَنِ الدَّيْنِ الْآخَرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ، سَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي نِيَّتِهِ أَوْ لَفْظِهِ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: فَالِاعْتِبَارُ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ، بِقَصْدِ الْمُؤَدِّي. حَتَّى لَوْ ظَنَّ الْمُسْتَحِقُّ أَنَّهُ يُودِعُهُ عِنْدَهُ، وَنَوَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَدَاءَ الدَّيْنِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَصَارَ الْمَدْفُوعُ مِلْكًا لِلْقَابِضِ. فَرْعٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنَانِ، فَأَدَّى عَنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَقَعَ عَنْهُ. وَإِنِ أَدَّى عَنْهُمَا، قَسَّطَ

عَلَيْهِمَا. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ فِي الْحَالِ شَيْئًا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُرَاجَعُ، فَيَصْرِفُهُ إِلَيْهِمَا أَوْ إِلَى مَا شَاءَ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: يَقَعُ عَنْهُمَا. وَعَلَى هَذَا تَرَدَّدَ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي حِكَايَتِهِ، أَنَّهُ يُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا بِالتَّسْوِيَةِ، أَمْ بِالتَّقْسِيطِ؟ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ نَظَائِرُ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا إِذَا تَبَايَعَ مُشْرِكَانِ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَسَلَّمَ الزِّيَادَةَ مَنِ الْتَزَمَهَا، ثُمَّ أَسْلَمَا، فَإِنْ قَصَدَ تَسْلِيمَهُ عَنِ الزِّيَادَةِ، لَزِمَهُ الْأَصْلُ، وَإِنْ قَصَدَ تَسْلِيمَهُ عَنِ الْأَصْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَصَدَ تَسْلِيمَهُ عَنْهُمَا، وُزِّعَ عَلَيْهِمَا، وَسَقَطَ مَا بَقِيَ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ كَانَ لِزَيْدٍ عَلَيْهِ مِائَةٌ، وَلِعَمْرٍو مِثْلُهَا، فَوَكَّلَا وَكِيلًا بِالِاسْتِيفَاءِ، فَدَفَعَ الْمَدْيُونُ إِلَى الْوَكِيلِ لِزَيْدٍ أَوْ لِعَمْرٍو، فَذَاكَ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: خُذْهُ وَادْفَعْهُ إِلَى فُلَانٍ، أَوْ إِلَيْهِمَا، فَهَذَا تَوْكِيلٌ مِنْهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَهُ التَّغْيِيرُ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ، اقْتِصَارٌ عَلَى الْأَصَحِّ. فَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِذَا قَالَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِهَذَا الْوَكِيلِ: خُذِ الْأَلْفَ وَادْفَعْهُ إِلَى فُلَانٍ، فَوَجْهَانِ. أَفْقَهُهُمَا أَنَّهُ بِالْقَبْضِ يَنْعَزِلُ عَنْ وَكَالَةِ الْمُسْتَحِقِّ، وَصَارَ وَكِيلًا لِلْمَدْيُونِ. وَالثَّانِي: يَبْقَى وَكِيلًا لِلْأَوَّلِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ تَلِفَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ، فَمِنْ ضَمَانِ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَقَدْ بَرِئَ الدَّافِعُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: هُوَ مِنْ ضَمَانِ الدَّافِعِ، وَالدَّيْنُ بَاقٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَصَّرَ الْوَكِيلُ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَأَيُّهُمَا يُطَالِبُهُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي جَرَيَانِ الْوَجْهَيْنِ قَبُولُ الْوَكِيلِ صَرِيحًا بِالْقَوْلِ، بَلْ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ: ادْفَعْ إِلَى فُلَانٍ، فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَبْرَأَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنَيْنِ الْمَدْيُونَ عَنْ مِائَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةً، فَإِنْ قَصَدَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا، فَهُوَ لِمَا قَصَدَ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُبَرِّئُ: أَبْرَأْتُ عَنِ الدَّيْنِ الْخَالِي عَنِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ، فَقَالَ الْمَدْيُونُ: بَلْ عَنِ الْآخَرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُبَرِّئِ مَعَ يَمِينِهِ.

فصل

فَصْلٌ اخْتَلَفَا فِي قِدَمِ عَيْبِ الْمَرْهُونِ وَحُدُوثِهِ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ. وَلَوْ رَهَنَهُ عَصِيرًا، ثُمَّ بَعْدَ قَبْضِهِ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قَبَضْتُهُ وَقَدْ تَخَمَّرَ، فَلِيَ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ صَارَ عِنْدَكَ خَمْرًا، فَالْأَظْهَرُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ لُزُومِ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ قَبْضٍ صَحِيحٍ. وَلَوْ زَعَمَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ كَانَ خَمْرًا يَوْمَ الْعَقْدِ، وَكَانَ شَرْطُهُ فِي الْبَيْعِ شَرْطَ رَهْنٍ فَاسِدٍ، فَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ قَطْعًا. وَلَوْ سَلَّمَ الْعَبْدَ الْمَشْرُوطَ رَهْنُهُ مُلْتَفًّا بِثَوْبٍ، ثُمَّ وُجِدَ مَيِّتًا، فَقَالَ الرَّاهِنُ: مَاتَ عِنْدَكَ، فَقَالَ: بَلْ أَعْطَيْتَنِيهِ مَيِّتًا، فَأَيُّهُمَا يُقْبَلُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَلَوِ اشْتَرَى مَائِعًا، وَجَاءَ بِظَرْفٍ فَصَبَّهُ الْبَائِعُ فِيهِ، فَوُجِدَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ مَيْتَةٌ، فَقَالَ الْبَائِعُ: كَانَتْ فِي ظَرْفِكَ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَبَضْتُهُ وَفِيهِ الْفَأْرَةُ، فَفِيمَنْ يُصَدَّقُ؟ الْقَوْلَانِ. وَلَوْ زَعَمَ الْمُشْتَرِي كَوْنَهَا فِيهِ حَالَ الْبَيْعِ، فَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي جَرَيَانِ الْعَقْدِ صَحِيحًا، أَمْ فَاسِدًا؟ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. فَصْلٌ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقُولَ: أَحْضِرِ الْمَرْهُونَ وَأَنَا أَقْضِي دَيْنَكَ مِنْ مَالِي، [بَلْ] لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْضَارُ بَعْدَ قَضَائِهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ كَالْمُودِعِ. وَالْإِحْضَارُ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةٍ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَلَوِ احْتِيجَ إِلَى بَيْعِهِ فِي الدَّيْنِ، فَمُؤْنَةُ الْإِحْضَارِ عَلَى الرَّاهِنِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْمُعَايَاةِ» : إِذَا رَهَنَ شَيْئًا وَلَمْ يَشْرُطْ جَعْلَهُ فِي يَدِ عَدْلٍ، أَوِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ كَانَ جَارِيَةً، صَحَّ قَطْعًا، وَكَذَا غَيْرُهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْفَرْقُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَغَيْرُهَا قَدْ يَكُونُ، فَيَتَنَازَعَانِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ كَانَ

بِالْمَرْهُونِ عَيْبٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُرْتَهِنُ حَتَّى مَاتَ، أَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ، كَمَا لَوْ جَرَى ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالْأَرْشِ لِيَكُونَ مَرْهُونًا، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ، وَسَلَّمَ أَحَدَهُمَا فَمَاتَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَامْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ تَسْلِيمِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ رَدُّهُ عَلَى حَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب التفليس

كِتَابُ التَّفْلِيسِ التَّفْلِيسُ فِي اللُّغَةِ: النِّدَاءُ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَشَهْرُهُ بِصِفَةِ الْإِفْلَاسِ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ، فَقَالَ الْأَئِمَّةُ الْمُفْلِسُ: مَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ لَا يَفِي بِهَا مَالُهُ. وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ يَحْجُرُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِالشَّرَائِطِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ، ثَبَتَ حُكْمَانِ. أَحَدُهُمَا: تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِمَالِهِ حَتَّى لَا يُنَفَّذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ بِالْغُرَمَاءِ، وَلَا تُزَاحِمُهَا الدُّيُونُ الْحَادِثَةُ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ وَجَدَ عِنْدَ الْمُفْلِسِ عَيْنَ مَالِهِ، كَانَ أَحَقَّ بِهِ مَنْ غَيْرِهِ. فَلَوْ مَاتَ مُفْلِسًا قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، تَعَلَّقَتِ الدُّيُونُ بِتَرِكَتِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الرَّهْنِ. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُفْلِسِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ الثَّانِي، وَيَكُونُ مَوْتُهُ مُفْلِسًا كَالْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ مَالُ الْمَيِّتِ وَافِيًا بِدُيُونِهِ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ، كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، لِتَيَسُّرِ الثَّمَنِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَرْجِعُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعَلُّقَ الْمَانِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ، يَفْتَقِرُ إِلَى حَجْرِ الْقَاضِي عَلَيْهِ قَطْعًا. وَكَذَا الرُّجُوعُ إِلَى عَيْنِ الْمَبِيعِ. هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا. وَقَدْ يُشْعِرُ بَعْضُ كَلَامِهِمْ بِالِاسْتِغْنَاءِ فِيهِ عَنْ حَجْرِ الْقَاضِي، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ. فَصْلٌ يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَى الْمُفْلِسِ بِالْتِمَاسِ الْغُرَمَاءِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِالدُّيُونِ الْحَالَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى قَدْرِ مَالِهِ، فَهَذِهِ قُيُودٌ. الْأَوَّلُ: الِالْتِمَاسُ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ. فَلَيْسَ لِلْقَاضِي الْحَجْرُ بِغَيْرِ الْتِمَاسٍ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ. فَلَوْ

كَانَتِ الدُّيُونُ لِمَجَانِينَ أَوْ صِبْيَانٍ، أَوْ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، حَجَرَ لِمَصْلَحَتِهِمْ بِلَا الْتِمَاسٍ، وَلَا يَحْجُرُ لِدَيْنِ الْغَائِبِينَ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي مَالَهُمْ فِي الذِّمَمِ، إِنَّمَا يَحْفَظُ أَعْيَانَ أَمْوَالِهِمْ. قُلْتُ: وَإِذَا وَجَدَ الِالْتِمَاسَ مَعَ بَاقِي الشُّرُوطِ الْمُجَوِّزَةِ لِلْحَجْرِ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ الْحَجْرُ، صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا كَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَأَصْحَابِ «الْحَاوِي» وَ «الشَّامِلِ» وَ «الْبَسِيطِ» وَآخَرِينَ. وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عِبَارَةَ كَثِيرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: «فَلِلْقَاضِي الْحَجْرُ» ، وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقَيْدُ الثَّانِي: كَوْنُ الِالْتِمَاسِ مِنَ الْغُرَمَاءِ، فَلَوِ الْتَمَسَ بَعْضُهُمْ وَدَيْنُهُ قَدْرٌ يَجُوزُ الْحَجْرُ بِهِ، حَجَرَ، وَإِلَّا، فَلَا، عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا حَجَرَ، لَا يَخْتَصُّ أَثَرُهُ بِالْمُلْتَمِسِ، بَلْ يَعُمُّهُمْ كُلُّهُمْ. قُلْتُ: أَطْلَقَ أَبُو الطِّيبِ وَأَصْحَابُ «الْحَاوِي» وَ «التَّتِمَّةِ» وَ «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ إِذَا عَجَزَ مَالُهُ عَنْ دُيُونِهِ، فَطَلَبَ الْحَجْرَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ، حَجَرَ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا قَدْرَ دَيْنِ الطَّالِبِ، وَهَذَا قُوِّيَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ لَمْ يَلْتَمِسْ أَحَدٌ عَنْهُمْ، وَالْتَمَسَهُ الْمُفْلِسُ، حَجَرَ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: كَوْنُ الدَّيْنِ حَالًّا، فَلَا حَجْرَ بِالْمُؤَجَّلِ وَإِنْ لَمْ يَفِ الْمَالُ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ فِي الْحَالِ. فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا، فَإِنْ كَانَ قَدْرًا يَجُوزُ الْحَجْرُ لَهُ [حَجَرَ] وَإِلَّا، فَلَا. فَرْعٌ إِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ، لَا يَحُلُّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ عَلَى الْمَشْهُورِ ; لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ مَقْصُودٌ لَهُ فَلَا يَفُوتُ. وَفِي قَوْلٍ: يَحُلُّ كَالْمَوْتِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا مُؤَجَّلٌ هَلْ يُحْجَرُ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا. وَلَوْ جُنَّ وَعَلَيْهِ مُؤَجَّلٌ،

حَلَّ عَلَى الْمَشْهُورِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْحُلُولِ، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَ أَصْحَابِ هَذِهِ الدُّيُونِ. وَأَصْحَابِ الْحَالَّةِ مِنَ الِابْتِدَاءِ، كَمَا لَوْ مَاتَ. وَإِنْ كَانَ فِي الْمُؤَجَّلِ ثَمَنُ مَتَاعٍ مَوْجُودٍ عِنْدَ الْمُفْلِسِ، فَلِبَائِعِهِ الرُّجُوعُ إِلَى عَيْنِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَالًّا فِي الِابْتِدَاءِ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ فَائِدَةَ الْحُلُولِ، أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْمَتَاعِ حَقُّ غَيْرِ بَائِعِهِ، فَيَحْفَظُهُ إِلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ. فَإِنْ وُجِدَ وَفَاءً، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَحِينَئِذٍ يَنْفَسِخُ. وَقِيلَ: لَا فَسْخَ حِينَئِذٍ أَيْضًا. بَلْ لَوْ بَاعَ بِمُؤَجَّلٍ وَحَلَّ الْأَجَلُ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَحَجَرَ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ وَالرُّجُوعُ. وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ. وَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ الْحُلُولِ، بِيعَ مَالُهُ، وَقُسِّمَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَالِّ، وَلَا يَدَّخِرُ لِأَصْحَابِ الْمُؤَجَّلِ شَيْءٌ، وَلَا يُدَامُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِأَصْحَابِ الْمُؤَجَّلِ، كَمَا لَا يَحْجُرُ بِهِ ابْتِدَاءً. وَهَلْ تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الْأَمْتِعَةُ الْمُشْتَرَاةُ بِمُؤَجَّلٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلَيْسَ لِبَائِعِهَا تَعَلُّقٌ بِهَا ; لِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ فِي الْحَالِ عَلَى هَذَا. فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ بَيْعُهَا وَقِسْمَتُهَا حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ، فَفِي جَوَازِ الْفَسْخِ الْآنَ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، قَالَهُ فِي «الْوَجِيزِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُبَاعُ، فَإِنَّهَا كَالْمَرْهُونَةِ بِحُقُوقِ بَائِعِهَا، بَلْ تُوقَفُ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، فَإِنِ انْقَضَى وَالْحَجْرُ بَاقٍ، ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ. وَإِنْ فُكَّ، فَكَذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَةِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّحِيحِ، بَلْ عَزْلُهَا وَانْتِظَارُ الْأَجَلِ كَبَقَاءِ الْحَجْرِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَبِيعِ. الْقَيْدُ الرَّابِعُ: كَوْنُ الدُّيُونِ زَائِدَةً عَلَى أَمْوَالِهِ. فَلَوْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً وَالرَّجُلُ كَسُوبٌ يُنْفِقُ مِنْ كَسْبِهِ، فَلَا حَجْرَ. وَإِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْإِفْلَاسِ، بِأَنَّ لَمْ يَكُنْ كَسُوبًا، وَكَانَ يُنْفِقْ مِنْ مَالِهِ، أَوْ لَمْ يَفِ كَسْبُهُ بِنَفَقَتِهِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: لَا حَجْرَ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ الْحَجْرَ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ، فِيمَا إِذَا كَانَتِ

فصل

الدُّيُونُ أَقَلَّ، وَكَانَتْ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَصِيرُهَا إِلَى النَّقْصِ أَوِ الْمُسَاوَاةِ، لِكَثْرَةِ النَّفَقَةِ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ. وَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْمُسَاوَاةِ، فَهَلْ لِمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ الرُّجُوعُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي: لَا، لِتَمَكُّنِهُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بِكَمَالِهِ. وَهَلْ تَدْخُلُ هَذِهِ الْأَعْيَانُ فِي حِسَابِ أَمْوَالِهِ، وَأَثْمَانُهَا فِي حِسَابِ دُيُونِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْإِدْخَالُ. فَصْلٌ وَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ، اسْتُحِبَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ، لِيَحْذَرَ النَّاسُ مُعَامَلَتَهُ. وَإِذَا حَجَرَ، امْتَنَعَ مِنْهُ كُلُّ تَصَرُّفٍ مُبْتَدَأٍ يُصَادِفُ الْمَالَ الْمَوْجُودَ عِنْدَ الْحَجْرِ، فَهَذِهِ قُيُودٌ. الْأَوَّلُ: كَوْنُ التَّصَرُّفِ مُصَادِفًا لِلْمَالِ. وَالتَّصَرُّفُ ضَرْبَانِ. إِنْشَاءٌ، وَإِقْرَارٌ. الْأَوَّلُ: الْإِنْشَاءُ، وَهُوَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: يُصَادِفُ الْمَالَ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى تَحْصِيلٍ، كَالِاحْتِطَابِ وَالِاتِّهَابِ، وَقَبُولِ الْوَصِيَّةِ، وَلَا مَنْعَ مِنْهُ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ كَامِلُ الْحَالِ. وَغَرَضُ الْحَجْرِ: مَنْعُهُ مِمَّا يَضُرُّ الْغُرَمَاءَ وَإِلَى تَفْوِيتٍ، فَيُنْظَرُ، إِنْ تَعَلَّقْ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ التَّدْبِيرُ وَالْوَصِيَّةُ، صَحَّ، فَإِنْ فَضَلَ الْمَالُ، نُفِّذَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْرِدُهُ عَيْنَ مَالٍ، وَإِمَّا فِي الذِّمَّةِ، فَهُمَا نَوْعَانِ. الْأَوَّلُ: كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْإِعْتَاقِ، وَالْكِتَابَةِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ، إِنْ فَضَلَ مَا يَصْرِفُ فِيهِ عَنِ الدَّيْنِ لِارْتِفَاعِ الْقِيمَةِ، أَوْ إِبْرَاءٌ، نَفَّذْنَاهُ، وَإِلَّا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَغْوًا. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالْأَعْيَانِ، كَالرَّهْنِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ الْقَوْلَيْنِ، فَقِيلَ: هُمَا فِيمَا إِذَا اقْتَصَرَ الْحَاكِمُ عَلَى الْحَجْرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ مَالَهُ لِغُرَمَائِهِ حَيْثُ وَجَدُوهُ. فَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُنَفَّذْ تَصَرُّفُهُ قَطْعًا، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا جَعَلَ مَالَهُ لِغُرَمَائِهِ، فَلَا

زَكَاةَ عَلَيْهِ وَطَرَدَهُمَا آخَرُونَ فِي الْحَالَيْنِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْأَظْهَرِ مَا دَامَ مِلْكُهُ بَاقِيًا، وَالنَّصُّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا بَاعَهُ لَهُمْ. فَإِنْ نَفَّذْنَاهُ بَعْدَ الْحَجْرِ، وَجَبَ تَأْخِيرُ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَعَلَّهُ يَفْضُلُ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ، نَقَصْنَا مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ الْأَضْعَفَ فَالْأَضْعَفَ، وَالْأَضْعَفُ الرَّهْنُ وَالْهِبَةُ، لِخُلُوِّهِمَا عَنِ الْعِوَضِ، ثُمَّ الْبَيْعُ، ثُمَّ الْكِتَابَةُ، ثُمَّ الْعِتْقُ، قَالَ الْإِمَامُ: فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ رَاغِبٌ فِي أَمْوَالِ الْمُفْلِسِ إِلَّا فِي الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ، فَقَالَ الْغُرَمَاءُ: بِيعُوهُ وَنَجِّزُوا حَقَّنَا، فَفِيهِ احْتِمَالٌ. وَغَالِبُ الظَّنِّ أَنَّهُمْ يُجَابُونَ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ فَسْخِ الْأَضْعَفِ فَالْأَضْعَفِ، هُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ عَنِ الْأَصْحَابِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَفْسَخَ الْآخِرَ فَالْآخِرَ، كَمَا قُلْنَا فِي تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ إِذَا عَجَزَ عَنْهَا الثُّلْثُ، وَالْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ وَقَفَ وَعَتَقَ، فَفِي الشَّامِلِ أَنَّ الْعِتْقَ يُفْسَخُ، ثُمَّ الْوَقْفُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: يَنْبَغِي أَنْ يُفْسَخَ الْوَقْفُ أَوَّلًا ; لِأَنَّ الْعِتْقَ لَهُ قُوَّةٌ وَسِرَايَةٌ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَلَوْ تَعَارَضَ الرَّهْنُ وَالْهِبَةُ، فُسِخَ الرَّهْنُ ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِهِ الْعَيْنَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي بَيْعِهِ لِغَيْرِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنْ بَاعَهُمْ، فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يُرَدُّ عَلَى الذِّمَّةِ بِأَنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، أَوْ بَاعَ طَعَامًا سَلَمًا، فَيَصِحُّ وَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ. وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ: لَا يَصِحُّ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُصَادِفُ الْمَالَ، فَلَا مَنْعَ مِنْهُ، كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَاسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ، وَنَفْيِهِ بِاللِّعَانِ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: الْإِقْرَارُ. فَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ عَنْ مُعَامَلَةٍ، أَوْ إِتْلَافٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ؟ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا. لِئَلَّا يَضُرُّهُمْ بِالْمُزَاحَمَةِ. وَأَظْهَرُهُمَا: يُقْبَلُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ. وَكَإِقْرَارِ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ يَزْحَمُ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ، وَلِعَدَمِ التُّهْمَةِ الظَّاهِرَةِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ، فَإِنْ قَالَ: عَنْ مُعَامَلَةٍ لَمْ تُقْبَلْ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ. وَإِنْ قَالَ: عَنِ إِتْلَافٍ أَوْ جِنَايَةٍ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ كَمَا قَبْلَ الْحَجْرِ، وَقِيلَ: كَدَيْنِ الْمُعَامَلَةِ بَعْدَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ وَلَمْ يَنْسُبْهُ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ: التَّنْزِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَجَعْلُهُ كَإِسْنَادِهِ إِلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ. قُلْتُ: هَذَا ظَاهِرٌ إِنْ تَعَذَّرَتْ مُرَاجَعَةُ الْمُقِرِّ. فَإِنْ أَمْكَنَتْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاجَعَ ; لِأَنَّهُ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِعَيْنِ مَالٍ لِغَيْرِهِ، فَقَالَ: غَصَبْتُهُ، أَوِ اسْتَعَرْتُهُ، أَوْ أَخَذْتُهُ سَوْمًا، فَقَوْلَانِ كَمَا لَوْ أَسْنَدَ الدَّيْنَ إِلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ، أَظْهَرُهُمَا: الْقَبُولُ. لَكِنْ إِذَا قَبِلْنَا، فَفَائِدَتُهُ هُنَاكَ مُزَاحَمَةُ الْمُقِرِّ لَهُ الْغُرَمَاءُ، وَهُنَا تُسَلَّمُ إِلَيْهِ الْعَيْنُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ، فَإِنْ فَضَلَ، سُلِّمَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا، فَالْغُرْمُ فِي ذِمَّتِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ، حَيْثُ أَبْطَلْنَاهُ فِي الْحَالِّ قَطْعًا وَكَذَا عِنْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ حَيْثُ قَبِلْنَاهُ فِي الْمُفْلِسِ قَطْعًا، وَفِي الْغُرَمَاءِ عَلَى الْأَظْهَرِ، أَنَّ مَقْصُودَ الْحَجْرِ، مَنْعُهُ التَّصَرُّفَ، فَأَبْطَلْنَاهُ. وَالْإِقْرَارُ إِخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ، وَالْحَجْرُ لَا يَسْلُبُهُ الْعِبَارَةَ. فَرْعٌ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ تُوجِبُ الْقَطْعَ، قُطِعَ. وَفِي رَدِّ الْمَسْرُوقِ، الْقَوْلَانِ. وَالْقَبُولُ هُنَا أَوْلَى، لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَعَفَا عَلَى مَالٍ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ بِدَيْنِ الْجِنَايَةِ. وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِالْقَبُولِ، لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ.

فَرْعٌ ادُّعِيَ عَلَيْهِ مَالٌ لَزِمَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ، فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي، إِنْ قُلْنَا: النُّكُولُ وَرَدُّ الْيَمِينِ كَالْبَيِّنَةِ، زَاحَمَ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ. الْقَيْدُ الثَّانِي: كَوْنُهُ مُصَادِفًا لِلْمَالِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْحَجْرِ. فَلَوْ تَجَدَّدَ بَعْدَهُ بِاصْطِيَادٍ، أَوِ اتِّهَابٍ، أَوْ قَبُولِ وَصِيَّةٍ، فَفِي تَعَدِّي الْحَجْرِ إِلَيْهِ وَمَنْعِهِ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: التَّعَدِّي. وَلَوِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، فَفِي تَصَرُّفِهِ، هَذَانِ الْوَجْهَانِ. وَهَلْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ وَالتَّعَلُّقُ بِعَيْنِ مَتَاعِهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ، وَهُوَ إِثْبَاتُهُ لِلْجَاهِلِ دُونَ الْعَالِمِ. فَإِنْ لَمْ نُثْبِتْهُ، فَهَلْ يُزَاحِمُ الْغُرَمَاءَ بِالثَّمَنِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا ; لِأَنَّهُ حَادِثٌ بِرِضَى مُسْتَحِقِّهِ، وَالْمُزَاحَمَةُ بِالدَّيْنِ الْحَادِثِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: مَا لَزِمَ بِرِضَى مُسْتَحِقِّهِ. فَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، فَفِيهِ هَذَانَ الْوَجْهَانِ، وَإِلَّا، فَلَا مُزَاحَمَةَ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ يَصِيرُ إِلَى انْفِكَاكِ الْحَجْرِ. الثَّانِي: مَا لَزِمَ بِغَيْرِ رِضَى الْمُسْتَحِقِّ، كَالْجِنَايَةِ وَالْإِتْلَافِ، فَيُزَاحَمُ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ، لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْأَوَّلِينَ، كَمَا لَوْ جَنَى وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا عَبْدٌ مَرْهُونٌ، لَا يُزَاحِمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنَ. الثَّالِثُ: مَا يَتَجَدَّدُ بِسَبَبِ مُؤْنَةِ الْمَالُ، كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ، وَالْوَزَّانِ، وَالْحَمَّالِ وَالْمُنَادِي، وَالدَّلَّالِ، وَكَرَّاءِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ الْمَتَاعُ، فَهَذِهِ الْمُؤَنُ تُقَدَّمَ عَلَى حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ ; لِأَنَّهَا لِمَصْلَحَةِ الْحَجْرِ. هَذَا إِنْ لَمْ نَجِدْ مُتَبَرِّعًا. فَإِنْ وُجِدَ، أَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ سِعَةٌ لَمْ يُصْرَفْ مَالُ الْمُفْلِسِ إِلَيْهَا. قُلْتُ: لَوْ تَجَدَّدَ دَيْنٌ بَعْدَ الْحَجْرِ، وَأَقَرَّ بِسَابِقٍ وَقُلْنَا: لَا مُزَاحَمَةَ بِهِمَا، فَهُمَا سَوَاءٌ، وَمَا فَضَلَ، قُسِّمَ بَيْنَهُمَا، قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْقَيْدُ الثَّالِثُ: كَوْنُ التَّصَرُّفِ مُبْتَدَأً، فَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا قَبْلَ الْحَجْرِ، فَوَجَدَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ مَعِيبًا، فَلَهُ رَدُّهُ إِنْ كَانَ فِي الرَّدِّ غِبْطَةٌ ; لِأَنَّ الْحَجْرَ لَا يَنْعَطِفُ عَلَى مَاضٍ، فَإِنْ مُنِعَ مِنَ الرَّدِّ عَيْبٌ حَادِثٌ، لَزِمَهُ الْأَرْشُ، وَلَمْ يَمْلِكِ الْمُفْلِسُ إِسْقَاطَهُ. وَإِنْ كَانَتِ الْغِبْطَةُ فِي بَقَائِهِ لَمْ يَمْلِكْ رَدَّهُ ; لِأَنَّهُ تَفْوِيتٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَلِهَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى فِي صِحَّتِهِ شَيْئًا، ثُمَّ مَرِضَ، وَوَجَدَهُ مَعِيبًا، فَأَمْسَكَهُ وَالْغِبْطَةُ فِي رَدِّهِ، كَانَ الْقَدْرُ الَّذِي نَقَصَهُ الْعَيْبُ مَحْسُوبًا مِنَ الثُّلُثِ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ إِذَا وَجَدَ مَا اشْتَرَاهُ لِلطِّفْلِ مَعِيبًا، لَا يَرُدُّهُ إِذَا كَانَتِ الْغِبْطَةُ فِي بَقَائِهِ، وَلَا يَثْبُتُ الْأَرْشُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ; لِأَنَّ الرَّدَّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي الِامْتِنَاعَ. فَرْعٌ لَوْ تَبَايَعَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَفَلَّسَا أَوْ أَحَدُهُمَا، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا إِجَازَةُ الْبَيْعِ وَرَدُّهُ بِغَيْرِ رِضَى الْغُرَمَاءِ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا: الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ، فَيَجُوزُ الْفَسْخُ وَالْإِجَازَةُ عَلَى وَفْقِ الْغِبْطَةِ، وَعَلَى خِلَافِهَا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ تَصَرُّفٍ. وَالثَّانِي: تَجْوِيزُهُمَا بِشَرْطِ الْغِبْطَةِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ وَقَعَا عَلَى وَفْقِ الْغِبْطَةِ، صَحَّ، وَإِلَّا، فَيُبْنَى عَلَى أَقْوَالِ الْمِلْكِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، وَيُنْظَرُ مَنْ أَفْلَسَ. فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي، وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْإِجَازَةُ وَالْفَسْخُ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، فَلَهُ الْإِجَازَةُ ; لِأَنَّهَا اسْتِدَامَةُ مِلْكٍ، وَلَا فَسْخَ ; لِأَنَّهُ إِزَالَةٌ. وَإِنْ أَفْلَسَ الْبَائِعُ، وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ، فَلَهُ الْفَسْخُ ; لِأَنَّهُ اسْتِدَامَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِجَازَةُ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، فَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ وَالْإِجَازَةُ.

فصل

فَصْلٌ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَادَّعَى وَارِثُهُ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَأَقَامَ شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَهُ، ثَبَتَ الْحَقُّ وَجُعِلَ فِي تَرِكَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْغُرَمَاءِ عَلَى الْجَدِيدِ. وَلَوِ ادَّعَى الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ دَيْنًا وَالتَّصْوِيرُ كَمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَحْلِفِ الْغُرَمَاءُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَحَكَى الْإِمَامُ عَنْ شَيْخِهِ طَرْدَ الْخِلَافِ فِي ابْتِدَاءِ الدَّعْوَى مِنَ الْغُرَمَاءِ. وَعَنِ الْأَكْثَرِينَ، الْقَطْعُ بِمَنْعِ الدَّعْوَى ابْتِدَاءً، وَتَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالْيَمِينِ بَعْدَ دَعْوَى الْوَارِثِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَالْمُفْلِسِ فِي الثَّانِيَةِ. قُلْتُ: وَطَرَدَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ الْقَوْلَيْنِ فِي الدَّعْوَى مِنْ غَرِيمِ الْمَيِّتِ إِذَا تَرَكَهَا وَارِثُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ: وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِنَا: يَحْلِفُ الْغُرَمَاءُ، أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ فَقَطْ، اسْتَحَقَّ الْحَالِفُونَ بِالْقِسْطِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ. قَالَ: وَلَوْ حَلَفُوا ثُمَّ أَبْرَئُوا مِنْ دُيُونِهِمْ، فَهَلْ يَكُونُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَهُمْ وَيَبْطُلُ الْإِبْرَاءُ؟ أَمْ يَكُونُ لِلْمُفْلِسِ؟ أَمْ يَسْقُطُ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يُسْتَوْفَى أَصْلًا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصَحُّهَا: كَوْنَهُ لِلْمُفْلِسِ. وَيَجِيءُ مِثْلُهُ فِي غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا الْمَذْكُورُ عَنِ ابْنِ كَجٍّ فِي حَلِفِ بَعْضِهِمْ، قَالَهُ آخَرُونَ، مِنْهُمْ صَاحِبُ «الْحَاوِي» . وَلَوِ ادَّعَى الْمُفْلِسُ عَلَى رَجُلٍ مَالًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ، وَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمُفْلِسُ، فَفِي حَلِفَ الْغُرَمَاءِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ مَعَ الشَّاهِدِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» . وَلَا يَحْلِفُ الْغَرِيمُ إِلَّا عَلَى قَدْرِ دَيْنِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ حَالًّا، فَلِصَاحِبِهِ مَنْعُهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَقَّهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ هَذَا مَنْعًا مِنَ السَّفَرِ، كَمَا يَمْنَعُ عَبْدَهُ وَزَوْجَتَهُ السَّفَرَ، بَلْ يَشْغَلُهُ عَنِ السَّفَرِ بِرَفْعِهِ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي وَمُطَالَبَتِهِ حَتَّى يُوَفِّيَ. وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّفَرُ مَخُوفًا، فَلَا مَنْعَ، إِذْ لَا مُطَالَبَةَ، وَلَيْسَ لَهُ طَلَبُ رَهْنٍ وَلَا كَفِيلٍ قَطْعًا، وَلَا يُكَلِّفْهُ الْإِشْهَادَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَجَلُ قَرِيبًا أَمْ بَعِيدًا، فَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ مَعَهُ لِيُطَالِبَهُ عِنْدَ حُلُولِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُلَازِمَهُ. فَإِنْ كَانَ السَّفَرُ مَخُوفًا، كَالْجِهَادِ، وَرُكُوبِ الْبَحْرِ، فَلَا مَنْعَ عَلَى الْأَصَحِّ مُطْلَقًا. وَفِي وَجْهٍ: يُمْنَعُ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَقَّ، أَوْ يُعْطِيَ كَفِيلًا، قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ. وَفِي وَجْهٍ: إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً، مَنَعَهُ. وَفِي وَجْهٍ: إِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ مِنَ الْمُرْتَزَقَةِ لَمْ يُمْنَعِ الْجِهَادَ، وَإِلَّا، مُنِعَ، وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفِيلِ فِي السَّفَرِ الْمَخُوفِ، وَفِي السَّفَرِ الْبَعِيدِ عِنْدَ قُرْبِ الْحُلُولِ. فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ إِعْسَارُ الْمَدْيُونِ لَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ، وَلَا مُلَازَمَتُهُ، بَلْ يُمْهَلُ إِلَى أَنْ

يُوسِرَ. وَأَمَّا الَّذِي لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهُ إِذَا طُلِبَ. فَإِذَا امْتَنَعَ، أَمْرَهُ الْحَاكِمُ بِهِ. فَإِنِ امْتَنَعَ، بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَسَّمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ. قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ: إِذَا امْتَنَعَ، فَالْحَاكِمُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ بَاعَ مَالَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَكْرَهَهُ عَلَى بَيْعِهِ، وَعَزَّرَهُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنِ الْتَمَسَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، حُجِرَ عَلَى الْأَصَحِّ كَيْلَا يُتْلِفَ مَالَهُ. فَإِنْ أَخْفَى مَالَهُ، حَبَسَهُ الْقَاضِي حَتَّى يَظْهِرَهُ. فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِالْحَبْسِ. زَادَ فِي تَعْزِيرِهِ بِمَا يَرَاهُ مِنَ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ مَالُهُ ظَاهِرًا، فَهَلْ يَحْبِسُهُ لِامْتِنَاعِهِ؟ قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : فِيهِ وَجْهَانِ. الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ، الْحَبْسُ. فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ تَلِفَ وَصَارَ مُفْلِسًا، فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. ثُمَّ إِنْ شَهِدُوا عَلَى التَّلَفِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَلَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِمِ الْخِبْرَةُ مُطْلَقًا. وَإِنْ شَهِدُوا بِإِعْسَارِهِ، قُبِلَتْ بِشَرْطِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَيُحْمَلُ قَوْلُهُمْ: مُعْسِرٌ، عَلَى أَنَّهُمْ وَقَفُوا عَلَى تَلَفِ الْمَالِ. فَرْعٌ إِذَا ادَّعَى الْمَدْيُونُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ، أَوْ قَسَّمَ مَالَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَبَقِيَ بَعْضُ الدَّيْنِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا آخَرَ، وَأَنْكَرَ الْغُرَمَاءُ، نُظِرَ، إِنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ، بِأَنِ اشْتَرَى، أَوِ اقْتَرَضَ، أَوْ بَاعَ سَلَمًا، فَهُوَ كَمَا لَوِ ادَّعَى هَلَاكَ الْمَالِ، فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. وَإِنْ لَزِمَهُ لَا فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. وَالثَّانِي: يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيِّنَةِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ كَالصَّدَاقِ وَالضَّمَانِ لَمْ يُقْبَلْ، وَاحْتَاجَ إِلَى الْبَيِّنَةِ، إِنْ لَزِمَهُ لَا بِاخْتِيَارِهِ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَغَرَامَةِ الْمُتْلَفِ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَرْعٌ

الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِعْسَارِ مَسْمُوعَةٌ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالنَّفْيِ لِلْحَاجَةِ، كَشَهَادَةِ أَنْ لَا وَارِثَ غَيْرَهُ، وَتُسْمَعُ وَإِنْ أَقَامَهَا فِي الْحَالِ. وَيُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ مَعَ شُرُوطِ الشُّهُودِ، الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَةُ كَطُولِ الْجِوَارِ أَوِ الْمُخَالَطَةِ. فَإِنْ عَرَفَ الْقَاضِي أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَلَهُ اعْتِمَادُ قَوْلِهِمْ: إِنَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَيَكْفِي شَاهِدَانِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَقَالَ الْفُورَانِيُّ: يُشْتَرَطُ ثَلَاثَةٌ، وَهَذَا شَاذٌّ. وَفِيهِ حَدِيثٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِظْهَارِ وَالِاحْتِيَاطِ. وَأَمَّا صِيغَةُ شَهَادَتِهِمْ، فَأَنْ يَقُولُوا: هُوَ مُعْسِرٌ لَا يَمْلِكُ إِلَّا قُوتَ يَوْمِهِ وَثِيَابَ بَدَنِهِ. وَلَوْ أَضَافُوا إِلَيْهِ: وَهُوَ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، جَازَ وَلَا يُشْتَرَطُ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَلَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ، حَتَّى لَا تَتَمَحَّضَ شَهَادَتُهُمْ نَفْيًا، لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيَحْلِفُ الْمَشْهُودُ لَهُ مَعَ الْبَيِّنَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ فِي الْبَاطِنِ. وَهَلْ هَذَا التَّحْلِيفُ وَاجِبٌ، أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ قَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْوُجُوبُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، هَلْ يُتَوَقَّفُ عَلَى اسْتِدْعَاءِ الْخَصْمِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَمَا لَوِ ادُّعِيَ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ. فَعَلَى هَذَا هُوَ مِنْ آدَابِ الْقَضَاءِ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. كَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا سَكَتَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَسْتُ أَطْلُبُ يَمِينَهُ، وَرَضِيْتُ بِإِطْلَاقِهِ، فَلَا يَحْلِفُ بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ حَيْثُ قَبِلْنَا قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَيُقْبَلُ فِي الْحَالِ كَالْبَيِّنَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَأَنَّى الْقَاضِي وَيَسْأَلَ عَنْ بَاطِنِ حَالِهِ، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَادَّعَى أَنَّ الْغُرَمَاءَ يَعَرِفُونَ إِعْسَارَهُ، فَلَهُ تَحْلِيفُهُمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِنْ نَكَلُوا، حَلَفَ وَثَبَتَ إِعْسَارُهُ. وَإِنْ حَلَفُوا، حُبِسَ. وَمَهْمَا ادَّعَى ثَانِيًا وَثَالِثًا أَنَّهُ بَانَ لَهُمْ

إِعْسَارُهُ، فَإِنَّ لَهُ تَحْلِيفَهُمْ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَقْصِدُ الْإِيذَاءَ وَاللَّجَاجَ. فَرْعٌ إِذَا حَبَسَهُ، لَا يَغْفُلُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ. فَلَوْ كَانَ غَرِيبًا لَا يَتَأَتَّى لَهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ الْقَاضِي مَنْ يَبْحَثُ عَنْ وَطَنِهِ وَمُنْقَلَبِهِ، وَيَتَفَحَّصُ عَنْ أَحْوَالِهِ بِحَسْبِ الطَّاقَةِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِعْسَارُهُ، شَهِدَ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي لِئَلَّا يَتَخَلَّدَ فِي الْحَبْسِ، وَمَتَى ثَبَتَ الْإِعْسَارُ، وَخَلَّاهُ الْحَاكِمُ، فَعَادَ الْغُرَمَاءُ وَادَّعَوْا بَعْدَ أَيَّامٍ أَنَّهُ اسْتَفَادَ مَالًا، وَأَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَعَلَيْهِمُ الْبَيِّنَةُ. فَإِنْ أَتَوْا بِشَاهِدَيْنِ فَقَالَا: رَأَيْنَا فِي يَدِهِ مَالًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، أَخَذَهُ الْغُرَمَاءُ. فَإِنْ قَالَ: أَخَذْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَدِيعَةً أَوْ قَرَاضًا، وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَهُوَ لَهُ وَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْغُرَمَاءِ. وَهَلْ لَهُمْ تَحْلِيفُهُ: أَنَّهُ لَمْ يُوَاطِئِ الْمُقَرَّ لَهُ، وَأَقَرَّ عَنْ تَحْقِيقٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا ; لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، صُرِفَ إِلَى الْغُرَمَاءِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِقْرَارِهِ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ غَائِبًا، تَوَقَّفَ حَتَّى يَحْضُرَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ، أَخَذَهُ، وَإِلَّا، فَيَأْخُذُهُ الْغُرَمَاءُ. فَرْعٌ فِي حَبْسِ الْوَالِدَيْنِ بِدَيْنِ الْوَلَدِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: يُحْبَسُ. وَأَصَحُّهُمَا فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ، لَا يُحْبَسُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَيْنِ النَّفَقَةِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.

قُلْتُ: وَإِذَا حُبِسَ الْمُفْلِسُ لَمْ يَأْثَمْ بِتَرْكِ الْجُمْعَةِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ الْغَرِيمِ حَتَّى يَمْنَعَهُ، فَيَسْقُطُ الْحُضُورُ. وَالنَّفَقَةُ فِي الْحَبْسِ فِي مَالِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى الصَّيْمَرِيُّ، وَالشَّاشِيُّ، وَصَاحِبُ «الْبَيَانِ» فِيهَا وَجْهَيْنِ ثَانِيهِمَا أَنَّهَا عَلَى الْغَرِيمِ. فَإِنْ كَانَ الْمُفْلِسُ ذَا صَنْعَةٍ، مُكِّنَ مِنْ عَمَلِهَا فِي الْحَبْسِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: يُمْنَعُ إِنْ عُلِمَ مِنْهُ مُمَاطَلَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَكَاهُمَا الصَّيْمَرِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَصَاحِبُ «الْبَيَانِ» . وَرَأَيْتُ فِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ سُئِلَ، هَلْ يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْجُمْعَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَمُحَادَثَةِ أَصْدِقَائِهِ؟ فَقَالَ: الرَّأْيُ إِلَى الْقَاضِي فِي تَأْكِيدِ الْحَبْسِ بِمَنْعِ الِاسْتِمْتَاعِ وَمُحَادَثَةِ الصَّدِيقِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْجُمْعَةِ إِلَّا إِذَا ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي مَنْعِهِ. وَفِي فَتَاوَى صَاحِبِ «الشَّامِلِ» أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ شَمَّ الرَّيَاحِينِ فِي الْحَبْسِ، إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يُمْنَعْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ بَلْ يُرِيدُ التَّرَفُّهَ، مُنِعَ. وَأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهَا لِحَاجَةٍ كَحَمْلِ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ. وَأَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا حُبِسَتْ فِي دَيْنٍ اسْتَدَانَتْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يُسْقِطْ نَفَقَتَهَا مُدَّةَ الْحَبْسِ ; لِأَنَّهُ بِغَيْرِ رِضَاهَا فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ. وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، سَقَطَتْ، هَكَذَا قَالَ، وَالْمُخْتَارُ سُقُوطُهَا فِي الْحَالَيْنِ، كَمَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَاعْتَدَتْ، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْذُورَةً. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ حُبِسَ فِي حَقِّ رَجُلٍ، فَجَاءَ آخَرُ وَادَّعَى عَلَيْهِ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فَسَمِعَ الدَّعْوَى، ثُمَّ يَرُدُّهُ. قَالَ فِي الْبَيَانِ لَوْ مَرِضَ فِي الْحَبْسِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَخْدِمُهُ فِيهِ، أُخْرِجَ. فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَخْدِمُهُ، فَفِي وُجُوبِ إِخْرَاجِهِ، وَجْهَانِ. فَإِنْ جُنَّ، أُخْرِجَ قَطْعًا. وَإِذَا حُبِسَ لِحَقِّ جَمَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ إِخْرَاجُهُ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى إِخْرَاجِهِ وَلَوْ حُبِسَ لِحَقِّ غَرِيمٍ، ثُمَّ

فصل

اسْتَحَقَّ آخِرُ حَبْسَهُ، جَعْلَهُ الْقَاضِي مَحْبُوسًا لِلِاثْنَيْنِ، فَلَا يَخْرُجُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا. قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ إِعْسَارُهُ، أَخْرَجَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْغَرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَى الْمُفْلِسِ، اسْتُحِبَّ أَنْ يُبَادِرَ بِبَيْعِ مَالِهِ وَقِسْمَتِهِ، لِئَلَّا يَطُولَ زَمَنُ الْحَجْرِ، وَلَا يُفَرِّطَ فِي الِاسْتِعْجَالِ، لِئَلَّا يُبَاعَ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبِيعَ بِحَضْرَةِ الْمُفْلِسِ، أَوْ وَكِيلِهِ، وَكَذَا يَفْعَلُ إِذَا بَاعَ الْمَرْهُونَ، وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا إِحْضَارُ الْغُرَمَاءِ، وَيُقَدَّمُ بَيْعُ الْمَرْهُونِ وَالْجَانِي، لِيَتَعَجَّلَ حَقُّ مُسْتَحِقِّيهِمَا. فَإِنْ فَضَلَ عَنْهُمَا شَيْءٌ ضُمَّ إِلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَإِنْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ، ضَارَبَ بِهِ. قُلْتُ: وَيُقَدَّمُ أَيْضًا الْمَالُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ عَامِلِ الْقِرَاضِ، وَيُقَدَّمُ بِالرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ، صَرَّحَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَبِيعُ أَوَّلًا مَا يَخَافُ فَسَادَهُ، ثُمَّ الْحَيَوَانَ، ثُمَّ سَائِرَ الْمَنْقُولَاتِ، ثُمَّ الْعَقَارَ، وَيُبَاعُ كُلُّ شَيْءٍ فِي سُوقِهِ. قُلْتُ: بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ فِي سُوقِهِ، مُسْتَحَبٌّ. فَلَوْ بَاعَ فِي غَيْرِهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، صَحَّ، قَالَهُ أَصْحَابُنَا. وَهَذَا الْمَذْكُورُ مِنْ تَقْدِيمِ بَيْعِ الْمَرْهُونِ وَالْجَانِي، وَهُوَ إِذَا لَمْ يَخَفْ تَلَفَ مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ. فَإِنْ خِيفَ، قُدِّمَ بَيْعُهُ عَلَيْهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيَجِبُ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ حَالًّا مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ. فَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّقْدِ، وَلَمْ يَرْضَ الْمُسْتَحِقُّونَ إِلَّا بِجِنْسِ حَقِّهِمْ، صَرَفَهُ إِلَيْهِ. وَإِلَّا فَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَلَمًا. فَرْعٌ لَا يُسَلَّمُ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ سَبَقَ أَقْوَالُهُ، فِيمَا إِذَا تَنَازَعَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبُدَاءَةِ بِالتَّسْلِيمِ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: نَصُّهُ هُنَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِنَا يُبْدَأُ بِالْمُشْتَرِي، وَيَجِيءُ عِنْدَ النِّزَاعِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ مَعًا، وَلَا يَجِيءُ قَوْلُنَا لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ الْحَالَّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ، وَلَا قَوْلُنَا: الْبُدَاءَةُ بِالْبَائِعِ ; لِأَنَّ مِنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ، لَزِمَهُ الِاحْتِيَاطُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: تَجِبُ الْبُدَاءَةُ هُنَا بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ، بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ لَوْ خَالَفَ الْوَاجِبَ وَسَلَّمَ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، ضَمِنَ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ الضَّمَانِ. فَرْعٌ مَا يَقْبِضُهُ الْحَاكِمُ مِنْ أَثْمَانِ أَمْوَالِهِ عَلَى التَّدْرِيجِ إِنْ كَانَ يَسْهُلُ قِسْمَتُهُ عَلَيْهِمْ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُؤَخَّرَ. وَإِنْ كَانَ يَعْسُرُ لِقِلَّتِهِ وَكَثْرَةِ الدُّيُونِ. فَلَهُ التَّأْخِيرُ لِتَجْتَمِعَ، فَإِنْ أَبَوُا التَّأْخِيرَ، فَفِي «الِنِهَايَةِ» إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُجِيبُهُمْ. وَالظَّاهِرُ، خِلَافُهُ وَإِذَا تَأَخَّرَتِ الْقِسْمَةُ، فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُقْرِضُهُ إِيَّاهُ، فَعَلَ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَمَانَةُ وَالْيَسَارُ. وَلْيُودَعْ عِنْدَ مَنْ يَرْضَاهُ الْغُرَمَاءُ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَوْ عَيَّنُوا غَيْرَ عَدْلٍ، فَالرَّأْيُ لِلْحَاكِمِ، وَلَا يُقْنَعُ بِغَيْرِ عَدْلٍ. وَلَوْ تَلِفَ شَيْءٌ فِي يَدِ الْعَدْلِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُفْلِسِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَيَاةِ الْمُفْلِسِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ.

فَرْعٌ لَا يُكَلَّفُ الْغُرَمَاءُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا غَرِيمَ سِوَاهُمْ، وَيَكْفِي بِأَنَّ الْحَجْرَ قَدِ اسْتَفَاضَ. فَلَوْ كَانَ غَرِيمٌ، لَظَهَرَ وَطَلَبَ حَقَّهُ، هَكَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْقِسْمَةِ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ الْقِسْمَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ. فَإِذَا قُلْنَا: فِي الْوَرَثَةِ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ بِأَنْ لَا وَارِثَ غَيْرَهُمْ، فَكَذَا الْغُرَمَاءُ. وَالْفَارِقُ أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ الْوَرَثَةَ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَضْبَطُ مِنَ الْغُرَمَاءِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: قَوْلُ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ. وَيُفَرَّقُ أَيْضًا، بِأَنِ الْغَرِيمَ الْمَوْجُودَ، تَيَقَّنَا اسْتِحْقَاقَهُ لِمَا يَخُصُّهُ، وَشَكَكْنَا فِي مُزَاحِمٍ. ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ مُزَاحِمٌ لَمْ يَخْرُجْ هَذَا عَنْ كَوْنِهِ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْقَدْرَ فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَتْ مُزَاحَمَةُ الْغَرِيمِ مُتَحَتِّمَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ أَوْ أَعْرَضَ، سَلَّمْنَا الْجَمِيعَ إِلَى الْآخَرِ، وَالْوَارِثُ يُخَالِفُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا جَرَتِ الْقِسْمَةُ، ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تُنْقَضُ، وَلَكِنْ يُشَارِكُهُمْ بِالْحِصَّةِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ. وَفِي وَجْهٍ، يُنْقَضُ فَيُسْتَأْنَفُ. فَعَلَى الصَّحِيحِ، لَوْ قَسَّمَ مَالَهُ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى غَرِيمَيْنِ، لِأَحَدِهِمَا عِشْرُونَ، وَلِلْآخَرِ عَشْرَةٌ، فَأَخَذَ الْأَوَّلُ عَشْرَةً، وَالْآخَرُ خَمْسَةً، فَظَهْرَ غَرِيمٌ لَهُ ثَلَاثِينَ، اسْتَرَدَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ. وَلَوْ كَانَ دَيْنُهُمَا عَشْرَةً وَعَشْرَةً، فَقَسَّمَ الْمَالَ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ بِعَشَرَةٍ، رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِثُلْثِ مَا أَخَذَهُ. فَإِنْ أَتْلَفَ أَحَدُهُمَا، مَا أَخَذَ وَكَانَ مُعْسِرًا لَا يُحَصَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَأْخُذُ الْغَرِيمُ الثَّالِثُ مِنَ الْآخَرِ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ، وَكَأَنَّهُ كُلُّ مَالٍ ثُمَّ إِذَا أَيْسَرَ الْمُتْلِفُ أَخَذَ مِنْهُ ثُلُثَ مَا أَخَذَهُ وَقَسَّمَاهُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: لَا يَأْخُذُ مِنْهُ إِلَّا ثُلُثَ مَا أَخَذَهُ، وَلَهُ

فصل

ثُلُثُ مَا أَخَذَ الْمُتْلِفُ دَيْنٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ ظَهَرَ الْغَرِيمُ الثَّالِثُ، وَظَهَرَ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ عَتِيقٌ، أَوْ حَادِثٌ بَعْدَ الْحَجْرِ، صُرِفَ مِنْهُ إِلَى مَنْ ظَهَرَ بِقِسْطِ مَا أَخَذَهُ الْأَوَّلَانِ. فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ قُسِّمَ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي ظُهُورِ غَرِيمٍ بِدَيْنٍ قَدِيمٍ. فَإِنْ كَانَ بِحَادِثٍ بَعْدَ الْحَجْرِ، فَلَا مُشَارَكَةَ فِي الْمَالِ الْقَدِيمِ. وَإِنْ ظَهْرَ مَالٌ قَدِيمٌ، وَحَدَثَ مَالٌ بِاحْتِطَابِ وَغَيْرِهِ، فَالْقَدِيمُ لِلْقُدَمَاءِ خَاصَّةٌ، وَالْحَادِثُ لِلْجَمِيعِ. فَرْعٌ لَوْ خَرَجَ شَيْءٌ مِمَّا بَاعَهُ الْمُفْلِسُ قَبْلَ الْحَجْرِ مُسْتَحَقًّا، وَالثَّمَنُ غَيْرُ بَاقٍ، فَهُوَ كَدَيْنٍ ظَهَرَ، وَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ. وَإِنْ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ، فَظَهَرَ مُسْتَحِقًّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَتَلَفِهِ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي فِي مَالِ الْمُفْلِسِ، وَلَا يُطَالِبُ الْحَاكِمَ بِهِ. وَلَوْ نَصَّبَ أَمِينًا فَبَاعَهُ، فَفِي كَوْنِهِ طَرِيقًا، وَجْهَانِ. كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَدْلِ الَّذِي نَصَّبَهُ الْقَاضِي لِيَبِيعَ الْمَرْهُونَ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَكُونُ، قَالَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا رَجَعَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْأَمِينُ إِذَا جَعَلْنَاهُ طَرِيقًا، وَغَرِمَ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ، قُدِّمَا عَلَى الْغُرَمَاءِ عَلَى الْمَذْهَبِ ; لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ الْبَيْعِ كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ لِئَلَّا يَرْغَبَ عَنِ الشِّرَاءِ مِنْ مَالِهِ. وَفِي قَوْلٍ، يُضَارِبَانِ. وَقِيلَ: إِنْ رَجَعَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، قُدِّمَا. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَاسْتِئْنَافِ حَجْرٍ بِسَبَبِ مَالٍ تَجَدَّدَ، ضَارَبَا. فَصْلٌ فِيمَا يُبَاعُ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ فِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يُنْفِقُ الْحَاكِمُ عَلَى الْمُفْلِسِ إِلَى فَرَاغِهِ مِنْ بَيْعِ مَالِهِ وَقِسْمَتِهِ، وَكَذَا

يُنْفِقُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ ; لِأَنَّهُ مُوسِرٌ مَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ. وَكَذَلِكَ يَكْسُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ. هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ يُصْرَفُ إِلَى هَذِهِ الْجِهَاتِ. وَأَمَّا قَدْرُ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ، فَقَالَ الْإِمَامُ: لَا شَكَّ أَنَّ نَفَقَتَهُ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ. وَهَذَا قِيَاسُ الْبَابِ، إِذْ لَوْ كَانَ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ، لَمَا أُنْفِقَ عَلَى الْقَرِيبِ. قُلْتُ: يُرَجَّحُ قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: أُنْفِقَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ كُلَّ يَوْمٍ أَقَلَّ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: يُبَاعُ مَسْكَنُهُ وَخَادِمُهُ. وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مَنْ يَخْدِمُهُ لِزَمَانَةٍ، أَوْ كَانَ مَنْصِبُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ. وَفِي وَجْهٍ، يَبْقَيَانِ إِذَا كَانَا لَائِقَيْنِ بِهِ بِدُونِ النَّفِيسَيْنِ. وَفِي وَجْهٍ، يَبْقَى الْمَسْكَنُ فَقَطْ. الثَّالِثَةُ: يُتْرَكُ لَهُ دَسْتُ ثِيَابٍ تَلِيقُ بِهِ، مِنْ قَمِيصِ، وَسَرَاوِيلَ، وَمِنْعَلٍ، وَمُكَعَّبٍ. وَإِنْ كَانَ فِي الشِّتَاءِ زَادَ جُبَّةً. وَيُتْرَكُ لَهُ عِمَامَةٌ، وَطَيْلَسَانٌ، وَخُفٌّ وَدُرَّاعَةٌ يَلْبَسُهَا فَوْقَ الْقَمِيصِ، إِنْ كَانَ يَلِيقُ بِهِ لُبْسُهَا. وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ فِي الْخُفِّ وَالطَّيْلَسَانِ وَقَالَ: تَرْكُهُمَا لَا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ. وَذَكَرَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِهِ فِي إِفْلَاسِهِ، لَا فِي بَسْطَتِهِ وَثَرْوَتِهِ. لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُمْ لَا يُوَافِقُونَهُ وَيُمْنَعُونَ قَوْلَهُ: تَرْكُهُمَا لَا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ. وَلَوْ كَانَ يَلْبَسُ قَبْلَ إِفْلَاسِهِ فَوْقَ مَا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ رَدَدْنَاهُ إِلَى مَا يَلِيقُ، وَلَوْ كَانَ يَلْبَسُ دُونَ اللَّائِقِ تَقْتِيرًا لَمْ يُرَدَّ إِلَيْهِ. وَيُتْرَكُ لِعِيَالِهِ مِنَ الثَّوْبِ، كَمَا يُتْرَكُ لَهُ. وَلَا يُتْرَكُ الْفَرْشُ وَالْبُسُطُ، لَكِنْ يُسَامَحُ بِاللُّبَدِ وَالْحَصِيرَ الْقَلِيلِ الْقِيمَةِ. الرَّابِعَةُ: يُتْرَكُ قُوتُ يَوْمِ الْقِسْمَةِ لَهُ وَلِمَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ; لِأَنَّهُ مُوسِرٌ فِي أَوَّلِهِ.

فصل

وَلَا يُزَادُ عَلَى نَفَقَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ، أَنَّهُ يُتْرَكُ لَهُ سُكْنَى ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْضًا، فَاسْتَمَرَّ عَلَى قِيَاسِ النَّفَقَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ غَيْرُهُ. الْخَامِسَةُ: كُلُّ مَا قُلْنَا يُتْرَكُ لَهُ، إِنْ لَمْ نَجِدْهُ فِي مَالِهِ، اشْتُرِيَ لَهُ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» يُبَاعُ عَلَيْهِ مَرْكُوبُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَا مُرُوءَةٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا مَاتَ الْمُفْلِسُ، قُدِّمَ كَفَنُهُ، وَحَنُوطُهُ، وَمُؤْنَةُ غُسْلِهِ وَدَفْنِهِ عَلَى الدُّيُونِ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ عَبِيدِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَزَوْجَتِهِ إِنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ كَفَنَهَا، وَكَذَلِكَ أُقَارِبُهُ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ. قَالَ فِي «الْبَيَانِ» وَتُسَلَّمُ إِلَيْهِ النَّفَقَةُ يَوْمًا بِيَوْمٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْبَابِ، أَنَّ الْمُفْلِسَ لَا يُؤْمَرُ بِتَحْصِيلِ مَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ تَفْوِيتِ مَا هُوَ حَاصِلٌ. فَلَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى عَبْدِهِ، فَلَهُ الْقِصَاصُ. وَلَا يَلْزَمُهُ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ. فَلَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِوَارِثِهِ الْعَفْوُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْغُرَمَاءِ. وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ مُسَامِحًا بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ الْمَشْرُوطَةِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ. وَلَوْ كَانَ وَهَبَ هِبَةً تَقْتَضِي الثَّوَابَ، وَقُلْنَا: يَتَقَدَّرُ الثَّوَابُ بِمَا يَرْضَى بِهِ الْوَاهِبُ، فَلَهُ أَنْ يَرْضَى بِمَا شَاءَ. وَلَا يُكَلِّفْهُ طَلَبُ زِيَادَةٍ ; لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ. وَإِنْ قُلْنَا: يَتَقَدَّرُ الْمِثْلُ لَمْ يَجُزِ الرِّضَى بِمَا دُونَهُ. وَلَوْ زَادَ عَلَى الْمِثْلِ لَمْ يَجِبِ الْقَبُولُ. وَلَيْسَ عَلَى الْمُفْلِسِ أَنْ يَكْتَسِبَ، وَيُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِيَصْرِفَ الْكَسْبَ، وَالْأُجْرَةَ فِي الدُّيُونِ أَوْ بَقِيَّتِهَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ أَوْ صِيغَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ، فَهَلْ يُؤَاجَرَانِ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. مَيْلُ الْإِمَامِ إِلَى الْمَنْعِ. وَفِي تَعَالِيقِ الْعِرَاقِيِّينَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيجَارَ أَصَحُّ. فَعَلَى هَذَا، يُؤَجَّرُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ يَفْنَى الدَّيْنُ. وَمُقْتَضَى هَذَا، إِدَامَةُ الْحَجْرِ إِلَى فَنَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا كَالْمُسْتَبْعَدِ.

فصل

قُلْتُ: الْإِيجَارُ أَصَحُّ، وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إِجَارَةِ الْوَقْفِ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَفَاوُتٌ بِسَبَبِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ إِلَى حَدٍّ لَا يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ فِي عَرْضِ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا قَسَّمَ الْحَاكِمُ مَالَ الْمُفْلِسِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، فَهَلْ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ بِنَفْسِهِ، أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى فَكِّ الْحَاكِمِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَحْتَاجُ كَحَجْرِ السَّفَهِ. هَذَا إِنِ اعْتَرَفَ الْغُرَمَاءُ أَنْ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ. فَإِنِ ادَّعَوْا مَالًا آخَرَ، فَأَنْكَرَ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَلَوِ اتَّفَقَ الْغُرَمَاءُ عَلَى دَفْعِ الْحَجْرِ، فَهَلْ يَرْتَفِعُ كَالْمَرْهُونِ، أَمْ لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِالْحَاكِمِ لِاحْتِمَالِ غَرِيمٍ آخَرَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلَوْ بَاعَ الْمُفْلِسُ مَالَهُ لِغَرِيمِهِ بِدَيْنِهِ وَلَا غَرِيمَ سِوَاهُ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِجَمَاعَةٍ، فَبَاعَهُمْ أَمْوَالَهُ بِدُيُونِهِمْ، فَهَلْ يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا بُدَّ مِنْ إِذْنِهِ. وَلَوْ بَاعَهُ لِغَرِيمِهِ بِعَيْنٍ أَوْ بِبَعْضِ دَيْنِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ ; لَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ ارْتِفَاعَ الْحَجْرِ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا بَاعَ بِكُلِّ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الدَّيْنُ، وَإِذَا سَقَطَ، ارْتَفَعَ الْحَجْرُ. وَلَوْ بَاعَ لِأَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ الْإِمَامُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ. الْحُكْمُ الثَّانِي: الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ الْمَالِ، وَنُقْدِمُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِإِفْلَاسٍ، وَوَجَدَ مَنْ بَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ مَتَاعَهُ عِنْدَهُ، فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّ هَذَا الْخِيَارَ عَلَى الْفَوْرِ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالْخُلْفِ. فَإِنْ عَلِمَ فَلَمْ يَفْسَخْ، بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الْعَيْنِ. وَفِي وَجْهٍ: يَدُومُ كَخِيَارِ الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ. وَفِي وَجْهٍ: يَدُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

فصل

الثَّانِيَةُ: فِي افْتِقَارِ هَذَا الْفَسْخِ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَفْتَقِرُ، لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ فِيهِ، كَخِيَارِ الْعِتْقِ. وَلِوُضُوحِ الْحَدِيثِ، قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِمَنْعِ الْفَسْخِ، نَقَضْنَا حُكْمَهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنْ لَا يُنْقَضَ، لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: لَا يَحْصُلُ هَذَا الْفَسْخُ بِبَيْعِ الْبَائِعِ، وَإِعْتَاقِهِ، وَوَطْئِهِ الْمَبِيعَةَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَتَلْغُو هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ. الرَّابِعَةُ: صِيغَةُ الْفَسْخِ، كَقَوْلِهِ: فَسَخْتُ الْبَيْعَ، أَوْ نَقَضْتُهُ، أَوْ رَفَعْتُهُ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى رَدَدْتُ الثَّمَنَ، أَوْ فَسَخْتُ الْبَيْعَ فِيهِ، حَصَلَ الْفَسْخُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّ مُقْتَضَى الْفَسْخِ، إِضَافَتُهُ إِلَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ. فَصْلٌ حَقُّ الرُّجُوعِ، إِنَّمَا يَثْبُتُ بِشُرُوطٍ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَبِيعِ، بَلْ يَجْرِي فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ، وَيَحْصُلُ بَيَانُهُ بِالنَّظَرِ فِي الْعِوَضِ الْمُتَعَذَّرِ تَحْصِيلُهُ، وَالْمُعَوَّضِ الْمُسْتَرْجَعِ، وَالْمُعَاوَضَةِ الَّتِي انْتَقَلَ الْمِلْكُ بِهَا إِلَى الْمُفْلِسِ. أَمَّا الْعِوَضُ وَهُوَ الثَّمَنُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَعْوَاضِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ وَصْفَانِ. أَحَدُهُمَا: تَعَذُّرُ اسْتِئْنَافِهِ بِالْإِفْلَاسِ، وَفِيهِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: إِذَا كَانَ مَالُهُ وَافِيًا بِالدُّيُونِ وَجَوَّزْنَا الْحَجْرَ، فَحُجِرَ، فَفِي ثُبُوتِ الرُّجُوعِ، وَجْهَانِ. وَقَطَعَ الْغَزَالِيُّ بِالْمَنْعِ ; لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الثَّمَنِ. الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ الْغُرَمَاءُ: لَا نَفْسَخُ لِتَقَدُّمِكَ بِالثَّمَنِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ فِيهِ مِنَّةً وَقَدْ يَظْهَرُ مُزَاحِمٌ. وَلَوْ قَالُوا: نُؤَدِّي الثَّمَنَ مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِنَا، أَوْ تَبَرَّعَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَبُولُ. وَلَوْ أَجَابَ، ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ لَمْ يُزَاحِمْهُ

فِي الْمَأْخُوذِ. وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْوَارِثُ: لَا تَرْجِعْ فَأَنَا أُقَدِّمُكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَبُولُ. فَلَوْ قَالَ: أُؤَدِّي مِنْ مَالِي، فَوَجْهَانِ. وَقَطَعَ فِي التَّتِمَّةِ بِلُزُومِ الْقَبُولِ ; لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ. الثَّالِثَةُ: لَوِ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ مَعَ الْيَسَارِ، أَوْ هَرَبَ، أَوْ مَاتَ مَلِيئًا، وَامْتَنَعَ الْوَارِثُ مِنَ التَّسْلِيمِ، فَلَا فَسْخَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِعَدَمِ عَيْبِ الْإِفْلَاسِ، وَإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ بِالسُّلْطَانِ. فَإِنْ فُرِضَ عَجْزٌ، فَنَادِرٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ. وَلَوْ ضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ بِالثَّمَنِ. وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ صَارَ فِي ذِمَّتِهِ، وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ، بِخِلَافِ الْمُتَبَرِّعِ. وَلَوْ أُعِيرَ لِلْمُشْتَرِي شَيْءٌ، فَرَهَنَهُ عَلَى الثَّمَنِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَلَوِ انْقَطَعَ جِنْسُ الثَّمَنِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ، فَلَا تَعَذُّرَ فِي اسْتِيفَاءِ عِوَضٍ عَنْهُ، فَلَا فَسْخَ، وَإِلَّا فَكَانْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَيَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَنْفَسِخُ. الْوَصْفُ الثَّانِي: كَوْنُ الثَّمَنِ حَالًّا. فَلَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا، فَلَا فَسْخَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِيهِ وَجْهٌ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. وَلَوْ حَلَّ الْأَجَلُ قَبْلَ انْفِكَاكِ حَجْرِهِ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ هُنَاكَ وَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ، فَيُعْتَبَرُ فِيمَا مَلَكَ بِهِ الْمُفْلِسُ، شَرْطَانِ. أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مُعَاوَضَةً مُخْتَصَّةً، فَيَدْخُلُ فِيهِ أَشْيَاءُ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ أَشْيَاءُ. فَمَا يَخْرُجُ أَنَّهُ لَا فَسْخَ بِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ عِوَضِ الصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عِوَضُ الْخُلْعِ قَطْعًا. وَأَنَّهُ لَا فَسْخَ لِلزَّوْجِ بِامْتِنَاعِهَا مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا. وَفِي فَسْخِهَا بِتَعَذُّرِ الصَّدَاقِ، خِلَافٌ مَعْرُوفٌ. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ، فَمِنْهُ السَّلَمُ، وَالْإِجَارَةُ. أَمَّا السَّلَمُ، فَإِذَا أَفْلَسَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَدَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَلِرَأْسِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا، فَلِلْمُسْلِمِ فَسْخُ الْعَقْدِ وَالرُّجُوعُ إِلَى رَأْسِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَارِبَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، فَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ الْمُضَارَبَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَالِفًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ وَالْمُضَارَبَةُ بِرَأْسِ الْمَالِ ;

لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَى تَمَامِ حَقِّهِ، فَأَشْبَهَ انْقِطَاعَ جِنْسَ الْمُسْلَمِ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا قِيلَ: يَجِيءُ قَوْلٌ بِانْفِسَاخِ السَّلَمِ، كَمَا جَاءَ فِي الِانْقِطَاعِ. وَقِيلَ: لَا ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا حَصَلَ بِاسْتِقْرَاضٍ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ صُورَةِ الِانْقِطَاعِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَالْمَبِيعُ تَالِفٌ. وَيُخَالِفُ الِانْقِطَاعَ ; لِأَنَّ هُنَاكَ إِذَا فَسَخَ، رَجَعَ إِلَى رَأْسِ الْمَالِ بِتَمَامِهِ، وَهُنَا لَيْسَ إِلَّا الْمُضَارَبَةُ، وَلَوْ لَمْ يَفْسَخْ لَضَارَبَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَهُوَ أَنْفَعُ غَالِبًا، فَعَلَى هَذَا يَقُومُ الْمُسْلَمُ فِيهِ وَيُضَارِبُ الْمُسْلِمُ بِقِيمَتِهِ، فَإِذَا عَرَفَ حِصَّتَهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ مِنْ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، صَرَفَهُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَشْتَرِي بِحِصَّتِهِ مِنْهُ وَيُعْطَاهُ ; لِأَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ لَا يَجُوزُ. هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ جِنْسُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُنْقَطِعًا. فَإِنْ كَانَ، فَقِيلَ: لَا فَسْخَ، إِذْ لَا بُدَّ مِنَ الْمُضَارَبَةِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَالصَّحِيحُ: ثُبُوتُ الْفَسْخِ ; لِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُفْلِسِ، فَفِي حَقِّهِ أَوْلَى، وَكَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَفِيهِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّ مَا يَخُصُّهُ بِالْفَسْخِ، يَأْخُذُهُ فِي الْحَالِ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَمَا يَخُصُّهُ بِلَا فَسْخٍ، لَا يُعْطَاهُ، بَلْ يُوقَفُ إِلَى عَوْدِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَشْتَرِي بِهِ. فَرْعٌ لَوْ قَوَّمْنَا الْمُسْلَمَ فِيهِ، فَكَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ، فَأَفْرَزْنَا لِلْمُسْلَمِ فِيهِ مِنَ الْمَالِ عَشَرَةً، لِكَوْنِ الدَّيْنِ مِثْلَ الْمَالِ، فَرَخَّصَ السِّعْرَ قَبْلَ الشِّرَاءِ، فَوُجِدَ بِالْعَشَرَةِ جَمِيعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ فِي «الشَّامِلِ» : يُرَدُّ الْمَوْقُوفُ إِلَى مَا يَخُصُّهُ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ آخِرًا، فَيُصْرَفُ إِلَيْهِ خَمْسَةٌ، وَالْخَمْسَةُ الْبَاقِيَةُ تُوَزَّعُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ; لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُفْلِسِ، وَحَقُّ الْمُسْلِمِ فِي الْحِنْطَةِ، فَإِذَا صَارَتِ الْقِيمَةُ عَشْرَةً، فَهِيَ دَيْنُهُ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ فِي «التَّهْذِيبِ» وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنِ الْجَمَاهِيرِ: يَشْتَرِي بِهِ جَمِيعَ حَقِّهِ وَيُعْطَاهُ، اعْتِبَارًا بِيَوْمِ الْقِسْمَةِ. وَهُوَ إِنْ لَمْ يَمْلِكِ الْمَوْقُوفَ،

فَهُوَ كَالْمَرْهُونِ بِحَقٍّ، وَانْقَطَعَ بِهِ حَقُّهُ مِنَ الْحِصَصِ، حَتَّى لَوْ تَلِفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ مِمَّا عِنْدَ الْغُرَمَاءِ وَبَقِيَ حَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ فَضَلَ الْمَوْقُوفُ عَنْ جَمِيعِ حَقِّ الْمُسْلَمِ، كَانَ الْفَاضِلُ لِلْغُرَمَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: الزَّائِدُ لِي. وَلَوْ وَقَفْنَا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ عَشْرَةً، فَغَلَا السِّعْرُ، وَلَمْ نَجِدِ الْقَدْرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ إِلَّا بِأَرْبَعِينَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَانَ أَنَّ الدَّيْنَ أَرْبَعُونَ، فَيُسْتَرْجَعُ مِنَ الْغُرَمَاءِ مَا يَتِمُّ بِهِ حِصَّتَهُ أَرْبَعِينَ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُزَاحِمُهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا وُقِفَ لَهُ. فَرْعٌ لَوْ تَضَارَبُوا، وَأَخَذَ الْمُسْلِمُ مَا يَخُصُّهُ قَدْرًا مِنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَارْتَفَعَ الْحَجْرُ عَنْهُ، ثُمَّ حَدَثَ لَهُ مَالٌ وَأُعِيدَ الْحَجْرُ، وَاحْتَاجُوا إِلَى الْمُضَارَبَةِ ثَانِيًا، قَدَّمْنَا الْمُسْلَمَ فِيهِ. فَإِنْ وَجَدْنَا قِيمَتَهُ كَقِيمَتِهِ أَوَّلًا فَذَاكَ. وَإِنْ زَادَتْ فَالتَّوْزِيعُ الْآنَ يَقَعُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ الزَّائِدَةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ، فَهَلِ الِاعْتِبَارُ بِالْقِيمَةِ الثَّانِيَةِ، أَمْ بِالْقِيمَةِ الْأُولَى؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا أَعْرِفُ لِلثَّانِي وَجْهًا. وَلَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا، فَحِصَّةُ الْمُسْلِمِ يُشْتَرَى بِهَا شِقْصٌ مِنْهُ لِلضَّرُورَةِ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، فَلِلْمُسْلِمِ الْفَسْخُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِعْضُ رَأْسِ الْمَالِ بَاقِيًا، وَبَعْضُهُ تَالِفًا، وَهُوَ كَتَلَفِ بَعْضِ الْمَبِيعِ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْإِجَارَةُ، فَنَتَكَلَّمُ فِي إِفْلَاسِ الْمُسْتَأْجِرِ، ثُمَّ الْمُؤَجِّرِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُسْتَأْجِرُ، وَالْإِجَارَةُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: إِجَارَةُ عَيْنٍ. فَإِذَا أَجَّرَ أَرْضًا، أَوْ دَابَّةً، وَأَفْلَسَ الْمُسْتَأْجِرُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْأُجْرَةِ وَمُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَلِلْمُؤَجِّرِ فِيهِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، تَنْزِيلًا لِلْمَنَافِعِ مَنْزِلَةَ

الْأَعْيَانِ فِي الْبَيْعِ. وَفِي قَوْلٍ: لَا؛ إِذْ لَا وُجُودَ لَهَا. فَعَلَى الْمَشْهُورِ: إِنْ لَمْ يَفْسَخْ، وَاخْتَارَ الْمُضَارَبَةَ بِالْأُجْرَةِ فَلَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَارِغَةً، أَجَّرَهَا الْحَاكِمُ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَصَرَفَ الْأُجْرَةَ إِلَى الْغُرَمَاءِ. وَإِنْ كَانَ الْفَلَسُ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ فَلِلْمُؤَجِّرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ فِي الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْمُضَارَبَةُ بِقِسْطِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَبْدَيْنِ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ أَفْلَسَ، يُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي، وَيُضَارِبُ بِثَمَنِ التَّالِفِ. وَلَوْ أَفْلَسَ مُسْتَأْجِرُ الدَّابَّةِ فِي خِلَالِ الطَّرِيقِ، وَحُجِرَ عَلَيْهِ، فَفَسَخَ الْمُؤَجِّرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرْكُ مَتَاعِهِ فِي الْبَادِيَةِ الْمُهْلِكَةِ، وَلَكِنْ يَنْقُلُهُ إِلَى مَأْمَنٍ بِأُجْرَةِ مِثْلٍ يَقْدَمُ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ ; لِأَنَّهُ لِصِيَانَةِ الْمَالِ، ثُمَّ فِي الْمَأْمَنِ يَضَعُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَلَوْ وَضَعَهُ عِنْدَ عَدْلٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، فَوَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي نَظَائِرِهِمَا. وَلَوْ فَسَخَ وَالْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مَشْغُولَةٌ بِزَرْعِ الْمُسْتَأْجِرِ، نُظِرَ إِنِ اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَصَادِ، وَتَفْرِيغِ الْأَرْضِ، وَإِلَّا فَإِنِ اتَّفَقَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى قَطْعِهِ قُطِعَ أَوْ عَلَى التَّبْقِيَةِ إِلَى الْإِدْرَاكِ فَلَهُمْ ذَلِكَ، بِشَرْطِ أَنْ يُقَدِّمُوا الْمُؤَجِّرَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِلْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ ; لِأَنَّهَا لِحِفْظِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ. وَإِنِ اخْتَلَفُوا، فَأَرَادَ بَعْضُهُمُ الْقَطْعَ، وَبَعْضُهُمُ التَّبْقِيَةَ، فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: يُعْمَلُ بِالْمَصْلَحَةِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ قُطِعَ، أَجَبْنَا مَنْ أَرَادَ الْقَطْعَ مِنَ الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ تَنْمِيَةُ مَالِهِ لَهُمْ، وَلَا عَلَيْهِمُ انْتِظَارُ النَّمَاءِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَأْخُذِ الْمُؤَجِّرُ أُجْرَةَ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ، فَهُوَ أَحَدُ الْغُرَمَاءِ، فَلَهُ طَلَبُ الْقَطْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ لَوْ قُطِعَ أَجَبْنَا مَنْ طَلَبَ التَّبْقِيَةَ، إِذْ لَا فَائِدَةَ لَطَالِبِ الْقَطْعِ. وَإِذَا أَبْقَوُا الزَّرْعَ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ بَطَلَبِ بَعْضِهِمْ، وَأَجَبْنَاهُ، فَالسَّقْيُ وَسَائِرُ الْمُؤَنِ إِنْ تَطَوَّعَ بِهَا الْغُرَمَاءُ أَوْ بَعْضُهُمْ، أَوْ أَنْفَقُوا عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ فَذَاكَ، وَإِنْ أَنْفَقَ بَعْضُهُمْ لِيَرْجِعَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِذْنِ الْحَاكِمِ، أَوِ اتِّفَاقِ الْغُرَمَاءِ وَالْمُفْلِسِ. فَإِذَا حَصَلَ الْإِذْنُ، قُدِّمَ الْمُنْفِقُ بِمَا أَنْفَقَ. وَكَذَا لَوْ أَنْفَقُوا عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ، قُدِّمَ الْمُنْفِقُونَ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَى الْغُرَمَاءِ. وَهَلْ

يَجُوزُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مَنْ مَالِ الْمُفْلِسِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّ حُصُولَ الْفَائِدَةِ مُتَوَهَّمٌ. قُلْتُ: وَإِنْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْمُفْلِسِ وَحْدَهُ، عَلَى أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ، جَازَ وَكَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، لَا يُشَارِكُ بِهِ الْغُرَمَاءَ ; لِأَنَّهُ وَجَبَ بَعْدَ الْحَجْرِ. وَإِنْ أَنْفَقَ بَعْضُهُمْ بِإِذْنِ بَاقِيهِمْ فَقَطْ، عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ، رَجَعَ عَلَيْهِمْ فِي مَالِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ. وَلَنَا خِلَافٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ، هَلْ لَهَا حُكْمُ السَّلَمِ حَتَّى يَجِبَ فِيهَا تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَهِيَ كَإِجَارَةِ الْعَيْنِ، وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ لِلْإِفْلَاسِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لِمَصِيرِ الْأُجْرَةِ مَقْبُوضَةً قَبْلَ التَّفَرُّقِ. فَلَوْ فُرِضَ الْفَلَسُ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِيهَا، اسْتُغْنِيَ عَنْ هَذَا الْخِيَارِ، وَإِلَّا، فَهِيَ كَإِجَارَةِ الْعَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: إِفْلَاسُ الْمُؤَجِّرِ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ، أَوِ الذِّمَّةِ. أَمَّا الْأُولَى، فَإِذَا أَجَّرَ دَابَّةً، أَوْ دَارًا لِرَجُلٍ فَأَفْلَسَ فَلَا فَسْخَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ; لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَحَقَّةَ لَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِ ذَلِكَ الْمَالِ، فَيُقَدَّمُ بِهَا كَمَا يُقَدَّمُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ إِذَا طَلَبَ الْغُرَمَاءُ بَيْعَ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ، فَعَلَيْهِمُ الصَّبْرُ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، أُجِيبُوا وَلَا مُبَالَاةَ بِمَا يَنْقُصُ مِنْ ثَمَنِهِ بِسَبَبِ الْإِجَارَةِ، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِمُ الصَّبْرُ لِتَنْمِيَةِ الْمَالِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَإِذَا الْتَزَمَ فِي ذِمَّتِهِ نَقْلَ مَتَاعٍ إِلَى بَلَدٍ، ثُمَّ أَفْلَسَ نُظِرَ، إِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمُفْلِسِ، فَلَهُ فَسْخُ الْأُجْرَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً فَلَا فَسْخَ، وَيُضَارِبُ الْغُرَمَاءُ بِقِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَهِيَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، كَمَا يُضَارِبُ الْمُسْلِمُ بِقِيمَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ. ثُمَّ إِنْ جَعَلْنَا هَذِهِ الْإِجَارَةَ سَلَمًا، فَحِصَّتُهُ بِالْمُضَارَبَةِ لَا تُسَلَّمُ إِلَيْهِ؛ لِامْتِنَاعِ الِاعْتِيَاضِ عَنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، بَلْ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ قَابِلَةً لِلتَّبْعِيضِ، بِأَنْ كَانَ الْمُلْتَزِمُ حَمَلَ مِائَةَ رِطْلٍ، فَيَنْقُلُ بِالْحِصَّةِ بَعْضَ الْمِائَةِ. وَإِنْ لَمْ

يَقْبَلْهُ كَقِصَارَةِ ثَوْبٍ، وَرِيَاضَةِ دَابَّةٍ، وَرُكُوبٍ إِلَى بَلَدٍ، وَلَوْ نُقِلَ إِلَى نِصْفِ الطَّرِيقِ لَبَقِيَ ضَائِعًا، قَالَ الْإِمَامُ: لِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ بِهَذَا السَّبَبِ، وَالْمُضَارَبَةُ بِالْأُجْرَةِ الْمَبْذُولَةِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ نَجْعَلْ هَذِهِ الْإِجَارَةَ سَلَمًا، فَتُسَلَّمُ الْحِصَّةُ بِعَيْنِهَا إِلَيْهِ، لِجَوَازِ الِاعْتِيَاضِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ عَيْنًا لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمُلْتَزَمَةِ. فَإِنْ كَانَ الْتَزَمَ النَّقْلَ، وَسُلِّمَ دَابَّةً لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَفْلَسَ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الدَّابَّةَ الْمُسَلَّمَةَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَفِيهَا وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: تَتَعَيَّنُ فَلَا فَسْخَ، وَنُقَدِّمُ الْمُسْتَأْجِرَ بِمَنْفَعَتِهَا، كَالْمُعَيَّنَةِ فِي الْعَقْدِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُسَلِّمْهَا. فَرْعٌ اقْتَرَضَ مَالًا، ثُمَّ أَفْلَسَ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِهِ، فَلِلْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِيهِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ أَوْ بِالتَّصَرُّفِ. فَرْعٌ بَاعَ مَالًا وَاسْتَوْفَى ثَمَنَهُ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، أَوْ هَرَبَ فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ كَمَا لَوْ أَبَقَ الْمَبِيعُ، أَمْ لَا لِأَنَّهُ لَا نَقْصَ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الشَّرْطُ الثَّانِي لِلْمُعَاوَضَةِ: أَنْ تَكُونَ سَابِقَةً لِلْحَجْرِ. وَفِي بَعْضِ مَسَائِلِ هَذَا الشَّرْطِ خِلَافٌ. فَإِذَا اشْتَرَى الْمُفْلِسُ شَيْئًا بَعْدَ الْحَجْرِ، وَصَحَّحْنَاهُ، فَقَدْ سَبَقَ فِي ثُبُوتِ الرُّجُوعِ خِلَافٌ. وَلَوْ أَجَّرَ دَارًا وَسَلَّمَهَا إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَقَبَضَ الْأُجْرَةَ ثُمَّ أَفْلَسَ وَحُجِرَ عَلَيْهِ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْإِجَارَةَ مُسْتَمِرَّةٌ، فَإِنِ انْهَدَمَتْ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ، وَضَارَبَ الْمُسْتَأْجِرُ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِنْ كَانَ الِانْهِدَامُ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمَالِ بَيْنَهُمْ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا ضَارَبَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِاسْتِنَادِهِ إِلَى

عَقْدٍ سَبَقَ الْحَجْرَ، فَأَشْبَهَ انْهِدَامَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ دَيْنٌ حَدَثَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً بِعَبْدٍ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ أَفْلَسَ مُشْتَرِي الْجَارِيَةِ وَحُجِرَ عَلَيْهِ، وَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ، ثُمَّ وَجَدَ بَائِعُهَا بِالْعَبْدِ عَيْبًا، فَرَدَّهُ، فَلَهُ طَلَبُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لَا مَحَالَةَ. وَكَيْفَ يُطَالِبُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُضَارِبُ كَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقِيمَتِهَا ; لِأَنَّهُ أَدْخَلَ بَدَلَهَا عَبْدًا فِي الْمَالِ، وَيُخَالِفُ هَذَا مَنْ بَاعَهَ شَيْئًا ; لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ مُسْتَنِدٌ إِلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ. وَأَمَّا الْمُعَوَّضُ فَيُشْتَرَطُ فِي الْمَبِيعِ الْمَرْجُوعِ فِيهِ شَرْطَانِ. أَحَدُهُمَا: بَقَاؤُهُ فِي مِلْكِ الْمُفْلِسِ. فَلَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ لَمْ يَرْجِعْ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الثَّمَنِ، أَوْ أَكَثُرَ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْمُضَارَبَةُ بِالثَّمَنِ. وَفِي وَجْهٍ: إِنْ زَادَتِ الْقِيمَةُ، ضَارَبَ بِهَا وَاسْتَفَادَ زِيَادَةَ حِصَّتِهِ. وَلَوْ خَرَجَ عَنْ مَلِكِهِ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ، أَوْ وَقْفٍ، كَالْهَلَاكِ، وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِخِلَافِ الشَّفِيعِ، فَإِنَّهُ يَفْسَخُهَا. لَسَبْقِ حَقِّهِ عَلَيْهَا. وَلَوِ اسْتَوْلَدَ، أَوْ كَاتَبَ، فَلَا رُجُوعَ. وَلَوْ دَبَّرَ، أَوْ عَلَّقَ بِصِفَةٍ، أَوْ زَوَّجَهَا، رَجَعَ. وَإِنْ أَجَّرَ، فَلَا رُجُوعَ إِنْ لَمْ نُجَوِّزْ بَيْعَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِلَّا، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِلَّا، فَيُضَارِبُ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ جَنَى، أَوْ رَهَنَ، فَلَا رُجُوعَ. فَإِنْ قَضَى حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَالْمُرْتَهِنِ بِبَيْعِ بَعْضِهِ، فَالْبَائِعُ وَاجِدٌ لِبَعْضِ الْمَبِيعِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوِ انْفَكَّ الرَّهْنُ، أَوْ بَرِئَ عَنِ الْجِنَايَةِ رَجَعَ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ صَيْدًا فَأَحْرَمَ الْبَائِعُ لَمْ يَرْجِعْ. فَرْعٌ لَوْ زَالَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ عَادَ، ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ بِلَا عِوَضٍ،

كَالْإِرْثِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ. وَإِنْ عَادَ بَعُوضٍ، بِأَنِ اشْتَرَاهُ، فَإِنْ كَانَ دَفَعَ الثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ الثَّانِي، فَكَعَوْدِهِ بِلَا عِوَضٍ. وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ، وَقُلْنَا بِثُبُوتِهِ لِلْبَائِعِ لَوْ عَادَ بِلَا عِوَضٍ، فَهَلِ الْأَوَّلُ أَوْلَى لَسَبْقِ حَقِّهِ، أَمِ الثَّانِي لَقُرْبِ حَقِّهِ، أَمْ يَشْتَرِكَانِ وَيُضَارِبُ كُلٌّ بِنِصْفِ الثَّمَنِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. قُلْتُ: أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ أَوَّلًا: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَجْزُ الْمَكَاتَبُ وَعَوْدُهُ، كَانْفِكَاكِ الرَّهْنِ. وَقِيلَ: كَعَوْدِ الْمِلْكِ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا مَشْفُوعًا، وَلَمْ يَعْلَمِ الشَّفِيعُ حَتَّى حَجَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَأَفْلَسَ بِالثَّمَنِ، فَأَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الثَّمَنُ، فَيَخُصُّ بِهِ الْبَائِعَ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ. وَالثَّانِي يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَآخَرِينَ: يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ كُلِّهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ تَغَيُّرٌ مَانِعٌ. وَلِلتَّغَيُّرِ حَالَانِ. حَالٌ بِالنَّقْصِ، وَحَالٌ بِالزِّيَادَةِ. الْأَوَّلُ: النَّقْصُ، وَهُوَ قِسْمَانِ، أَحَدُهُمَا: نَقْصٌ لَا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ، وَلَا يُفْرَدُ بِعَقْدٍ كَالْعَيْبِ. فَإِنْ كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ. إِنْ شَاءَ رَجَعَ فِيهِ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَارَبَ بِالثَّمَنِ كَتَعَيُّبِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ حِسِّيًّا كَسُقُوطِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ وَالْعَمَى أَوْ غَيْرِهِ، كَنِسْيَانِ الْحِرْفَةِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْإِبَاقِ وَالزِّنَا. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهُ يَأْخُذُ الْمَعِيبَ، وَيُضَارِبُ بِأَرْشِ النَّقْصِ، كَمَا نَذْكُرُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَإِنْ كَانَ بِجِنَايَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ، لَزِمَهُ الْأَرْشُ،

إِمَّا مُقَدَّرٌ، وَإِمَّا غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ، فِي أَنَّ جُرْحَ الْعَبْدِ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا؟ وَلِلْبَائِعِ أَخْذُهُ مَعِيبًا، وَالْمُضَارَبَةُ بِمِثْلِ نِسْبَةِ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ مِنَ الثَّمَنِ. وَإِنْ كَانَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ، فَكَالْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ كَانَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: أَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ ; لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُشْتَرِي قَبْضٌ وَاسْتِيفَاءٌ، فَكَأَنَّهُ صَرَفَ جُزْءًا مِنَ الْمَبِيعِ إِلَى غَرَضِهِ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ كَجِنَايَةِ الْبَائِعِ عَلَى الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَفِي قَوْلٍ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَعَلَى الْأَظْهَرِ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَاتٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: نَقْصٌّ يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ، وَيَصِحُّ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ، كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ أَوْ ثَوْبَيْنِ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ، فَلِلْبَائِعِ أَخْذُ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَالْمُضَارَبَةُ بِحِصَّةِ ثَمَنِ التَّالِفِ. وَلَوْ بَقِيَ جَمِيعُ الْمَبِيعِ، وَأَرَادَ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ فِي بَعْضِهِ مُكِّنَ ; لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْغُرَمَاءِ مِنَ الْفَسْخِ فِي كُلِّهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَجَعَ الْأَبُ فِي نِصْفِ مَا وَهَبَهُ، يَجُوزُ. وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ حَكَى قَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، أَمْ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا يُضَارِبُ بِشَيْءٍ؟ قَالَ الْإِمَامُ: وَطَرَدَهُمَا أَصْحَابُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تُضَاهِيهَا. حَتَّى لَوْ بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا بِمِائَةٍ، يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ عَلَى قَوْلٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ هَذَا إِذَا تَلِفَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ وَلَمْ يَقْبِضْ مِنَ الثَّمَنِ شَيْئًا. أَمَّا إِذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ مُتَسَاوِيَيِ الْقِيمَةِ بِمِائَةٍ، وَقَبَضَ خَمْسِينَ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَفْلَسَ فَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ لَا رُجُوعَ، بَلْ يُضَارِبُ بِبَاقِي الثَّمَنِ مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَالْجَدِيدُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ. فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ الْبَاقِي بِمَا يَفِي مِنَ الثَّمَنِ، وَيَجْعَلُ مَا قَبَضَ فِي مُقَابَلَةِ التَّالِفِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَالْمَنْصُوصُ. وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ: أَنَّهُ يَأْخُذُ نِصْفَ الْعَبْدِ الْبَاقِي بِنِصْفِ بَاقِي الثَّمَنِ، وَيُضَارِبُ الْغُرَمَاءَ بِنِصْفِهِ. وَلَوْ قَبَضَ بَعْضَ

الثَّمَنِ، وَلَمْ يَتْلَفْ شَيْءٌ مِنَ الْمَبِيعِ، فَفِي رُجُوعِهِ، الْقَوْلَانِ، الْقَدِيمُ، وَالْجَدِيدُ. فَعَلَى الْجَدِيدِ: يَرْجِعُ فِي الْمَبِيعِ بِقِسْطِ الْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ. فَلَوْ قَبَضَ نِصْفَ الثَّمَنِ، رَجَعَ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ، أَوِ الْعَبْدَيْنِ الْمَبِيعَيْنِ. فَرْعٌ لَوْ أَغْلَى الزَّيْتَ الْمَبِيعَ حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُهُ، ثُمَّ أَفْلَسَ، فَالْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ كَتَلَفِ بَعْضِ الْمَبِيعِ، كَمَا لَوِ انْصَبَّ. فَعَلَى هَذَا إِنْ ذَهَبَ نِصْفُهُ، أَخَذَ الْبَاقِيَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَضَارَبَ بِنِصْفِهِ. وَإِنْ ذَهَبَ ثُلُثُهُ، أَخَذَ بِثُلُثَيْهِ وَضَارَبَ بِثُلُثِ الثَّمَنِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَتَعَيُّبِ الْمَبِيعِ، فَيَرْجِعُ فِيمَا بَقِيَ إِنْ شَاءَ، وَيَقْنَعُ بِهِ. وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الزَّيْتِ عَصِيرٌ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ كَالزَّيْتِ. وَقِيلَ: تَعِيبُ قَطْعًا ; لِأَنَّ الذَّاهِبَ مِنْهُ الْمَاءُ، وَلَا مَالِيَّةَ لَهُ، بِخِلَافِ الزَّيْتِ. فَإِذَا قُلْنَا: بِالْأَصَحِّ، فَكَانَ الْعَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَرْطَالٍ، يُسَاوِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَأَغْلَاهَا فَصَارَتْ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ، فَيَرْجِعُ فِي الْبَاقِي، وَيُضَارِبُ بِرُبُعِ الثَّمَنِ لِلذَّاهِبِ، وَلَا عِبْرَةَ بِنَقْصِ قِيمَةِ الْمَغْلِيِّ لَوْ عَادَتْ إِلَى دِرْهَمَيْنِ. فَلَوْ زَادَتْ فَصَارَتْ أَرْبَعَةً، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَاصِلَةَ بِالصَّنْعَةِ، عَيْنٌ، أَمْ أَثَرٌ؟ إِنْ قُلْنَا: أَثَرٌ، فَازَ الْبَائِعُ بِمَا زَادَ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، قَالَ الْقَفَّالُ: الْجَوَابُ كَذَلِكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَكُونُ الْمُفْلِسُ شَرِيكًا بِالدِّرْهَمِ الزَّائِدِ. فَلَوْ بَقِيَتِ الْقِيمَةُ ثَلَاثَةً، فَإِنْ قُلْنَا: الزِّيَادَةُ أَثَرٌ، فَازَ بِهَا الْبَائِعُ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْقَفَّالِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ، يَكُونُ الْمُفْلِسُ شَرِيكًا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ دِرْهَمٍ، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ قِسْطُ الرِّطْلِ الذَّاهِبِ، فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَمِرُّ عَلَى الْقَوَاعِدِ. وَلِصَاحِبِ التَّلْخِيصِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ غَلَّطُوهُ فِيهِ.

فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَانْهَدَمَتْ، وَلَمْ يَتْلَفْ مِنْ نَقْضِهَا شَيْءٌ، فَلَهُ حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، كَالْعَمَى وَنَحْوِهِ. وَإِنْ تَلَفَ نَقْضُهَا بِإِحْرَاقٍ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، كَذَا أَطْلَقُوهُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: يَنْبَغِي أَنْ يُطْرَدَ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي تَلَفِ سَقْفِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَنَّهُ كَالتَّعَيُّبِ، أَوْ كَتَلَفِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ. الْحَالُ الثَّانِي: التَّغَيُّرُ بِالزِّيَادَةِ، وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: الزِّيَادَاتُ الْحَاصِلَةُ، لَا مِنْ خَارِجٍ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: الْمُتَّصِلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَالسِّمَنِ، وَتَعَلُّمِ الصَّنْعَةِ، وَكِبَرِ الشَّجَرَةِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهَا. وَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْتَزِمُهُ لِلزِّيَادَةِ، وَهَذَا حُكْمُ الزِّيَادَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَبْوَابِ، إِلَّا الصَّدَاقَ، فَإِنِ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، لَا يَرْجِعُ فِي النِّصْفِ الزَّائِدِ إِلَّا بِرِضَاهَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: الزِّيَادَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَالْوَلَدِ، وَاللَّبَنِ، وَالثَّمَرَةِ، فَيَرْجِعُ فِي الْأَصْلِ، وَتَبْقَى الزَّوَائِدُ لِلْمُفْلِسِ. فَلَوْ كَانَ وَلَدُ الْأَمَةِ صَغِيرًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ بَذَلَ قِيمَةَ الْوَلَدِ، أَخَذَهُ مَعَ الْأُمِّ، وَإِلَّا، فَيُضَارُّ لِامْتِنَاعِ التَّفْرِيقِ. وَأَصَحُّهُمَا: إِنْ بَذَلَ قِيمَةَ الْوَلَدِ، وَإِلَّا فَيُبَاعَانِ وَيُصْرَفُ مَا يَخُصُّ الْأُمَّ إِلَى الْبَائِعِ، وَمَا يَخُصُّ الْوَلَدَ إِلَى الْمُفْلِسِ. وَذَكَرْنَا وَجْهَيْنِ، فِيمَا إِذَا وَجَدَ الْأُمَّ مَعِيبَةً، وَهُنَاكَ وَلَدٌ صَغِيرٌ: أَنَّهُ الرَّدُّ وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْأَرْشِ، أَوْ يَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ لِلضَّرُورَةِ. وَفِيمَا إِذَا رَهَنَ الْأُمَّ دُونَ الْوَلَدِ، أَنَّهُمَا يُبَاعَانِ مَعًا، أَوْ يُحْتَمَلُ التَّفْرِيقُ. وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ احْتِمَالَ التَّفْرِيقِ، بَلِ احْتَالُوا فِي دَفْعِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَجِيءُ وَجْهُ التَّفْرِيقِ هُنَا، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ اقْتِصَارًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ مَالَ الْمُفْلِسِ مَبِيعٌ كُلُّهُ، مَصْرُوفٌ إِلَى الْغُرَمَاءِ، فَلَا وَجْهَ لِاحْتِمَالِ التَّفْرِيقِ، مَعَ إِمْكَانِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى جَانِبِ الرَّاجِعِ، وَكَوْنِ مِلْكِ الْمُفْلِسِ مُزَالًا.

قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا، وَحَكَى صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَالْمُسْتَظْهِرِيُّ، وَغَيْرُهُمَا وَجْهًا غَرِيبًا ضَعِيفًا: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا لِلضَّرُورَةِ، كَمَسْأَلَةِ الرَّهْنِ. وَقَالُوا: لَيْسَ هُوَ بِصَحِيحٍ، إِذْ لَا ضَرُورَةَ، وَفَرَّقُوا بِمَا سَبَقَ، فَحَصَلَ أَنَّ دَعْوَى الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ لَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ بِذْرًا، فَزَرَعَهُ فَنَبَتَ، أَوْ بَيْضَةً فَتَفَرَّخَتْ فِي يَدِهِ، ثُمَّ فَلَّسَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَصَاحِبِ التَّهْذِيبِ: يَرْجِعُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ حَدَثَ مِنْ عَيْنِ مَالِهِ، أَوْ هُوَ عَيْنُ مَالِهِ اكْتَسَبَ صِفَةً أُخْرَى، فَأَشْبَهَ الْوَدِيَّ إِذَا صَارَ نَخْلًا. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ ; لِأَنَّ الْمَبِيعَ هَلَكَ، وَهَذَا شَيْءٌ جَدِيدٌ اسْتَجَدَّ اسْمًا، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي الْعَصِيرِ إِذَا تَخَمَّرَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ تَخَلَّلَ، ثُمَّ فَلَسَ. وَلَوِ اشْتَرَى زَرْعًا أَخْضَرَ مَعَ الْأَرْضِ، فَفَلَسَ وَقَدِ اشْتَدَّ الْحَبُّ، فَقِيلَ بِطَرَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَقِيلَ: الْقَطْعُ بِالرُّجُوعِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: الزِّيَادَاتُ الْمُتَّصِلَةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، كَالْحَمْلِ. فَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَانْفَصَلَ قَبْلَ الرُّجُوعِ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ الشِّرَاءِ وَالرُّجُوعِ جَمِيعًا، فَهُوَ كَالسِّمَنِ فَيَرْجِعُ فِيهَا حَامِلًا. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا قَبْلَ الشِّرَاءِ وَوَلَدَتْ قَبْلَ الرُّجُوعِ، فَفِي تَعَدِّي الرُّجُوعِ إِلَى الْوَلَدِ، قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ يُعْرَفُ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، رَجَعَ كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا عِنْدَ الشِّرَاءِ، حَامِلًا عِنْدَ الرُّجُوعِ، فَقَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَرْجِعُ فِيهَا حَامِلًا ; لِأَنَّ الْحَمْلَ تَابِعٌ فِي الْبَيْعِ، فَكَذَا هُنَا. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ فِي الْحَمْلِ، فَعَلَى هَذَا: يَرْجِعُ فِي الْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا

بَلْ يُضَارِبُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ فِي الْأُمِّ فَقَطْ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَرْجِعُ فِيهَا قَبْلَ الْوَضْعِ. فَإِذَا وَلَدَتْ، فَالْوَلَدُ لِلْمُفْلِسِ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يَرْجِعُ فِي الْحَالِ، بَلْ يَصِيرُ إِلَى انْفِصَالِ الْوَلَدِ، ثُمَّ الِاحْتِرَازُ عَنِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ طَرِيقُهُ مَا سَبَقَ. قُلْتُ: قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ، وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي وَغَيْرُهُ. قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: وَلَا يَلْزَمُ تَسْلِيمُهَا إِلَى الْبَائِعِ، لِحَقِّ الْمُفْلِسِ، وَلَا إِقْرَارُهَا فِي يَدِ الْمُفْلِسِ أَوْ غُرَمَائِهِ، لِحَقِّ الْبَائِعِ فِي الْأُمِّ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ قِيمَةِ الْوَلَدِ، فَتُوضَعُ الْأُمُّ عِنْدَ عَدْلٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَخْتَارُ الْحَاكِمُ عَدْلًا. قَالَ: وَنَفَقَتُهَا عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُفْلِسِ ; لِأَنَّهُ مَالِكُ الْأُمِّ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: تَجِبُ نَفَقَةُ الْحَامِلِ لِحَمْلِهَا، أَمْ لَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَحُكْمُ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْحَائِلَةِ وَالْحَامِلَةِ حُكْمُ الْجَارِيَةِ، إِلَّا أَنَّ فِي بَاقِي الْحَيَوَانَاتِ، يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ، بِخِلَافِ الْجَارِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ اسْتِتَارُ الثِّمَارِ بِالْأَكَمَةِ وَظُهُورُهَا بِالتَّأْبِيرِ، قَرِيبَانِ مِنَ اسْتِتَارِ الْجَنِينِ وَظُهُورِهِ بِالِانْفِصَالِ. وَفِيهَا الْأَحْوَالُ الْأَرْبَعُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْجَنِينِ. أَوَّلُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ نَخْلًا عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ غَيْرُ مُؤَبَّرَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الرُّجُوعِ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ أَيْضًا. وَثَانِيهَا: أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَلَا ثَمَرَةَ عَلَيْهَا، ثُمَّ حَدَثَ بِهَا ثَمَرَةٌ عِنْدَ الرُّجُوعِ مُؤَبَّرَةً، أَوْ مُدْرَكَةً، أَوْ مَجْذُوذَةً، فَحُكْمُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَمْلِ. وَثَالِثُهَا: إِذَا كَانَتْ ثَمَرَتُهَا عِنْدَ الشِّرَاءِ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، وَعِنْدَ الرُّجُوعِ مُؤَبَّرَةً، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَخْذَ الْبَائِعِ الثَّمَرَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَخْذِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ الْبَيْعِ وَوَضَعَتْ عِنْدَ الرُّجُوعِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَخْذِهَا ; لِأَنَّهَا

وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَتِرَةً، فَهِيَ شَاهِدَةٌ مَوْثُوقٌ بِهَا، قَابِلَةٌ لِلْإِفْرَادِ بِالْبَيْعِ، وَكَانَتْ أَحَدَ مَقْصُودَيِ الْبَيْعِ، فَرَجَعَ فِيهَا رُجُوعَهُ فِي النَّخِيلِ. وَرَابِعُهَا: إِذَا كَانَتِ النَّخْلَةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ غَيْرَ مُطْلِعَةٍ، وَأَطْلَعَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَكَانَتْ يَوْمَ الرُّجُوعِ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ: يَأْخُذُ الطَّلْعَ مَعَ النَّخْلِ ; لِأَنَّهُ تَبَعٌ فِي الْبَيْعِ، فَكَذَا هُنَا. وَالثَّانِي: لَا يَأْخُذُهُ وَهُوَ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ ; لِأَنَّهُ يَصِحُّ إِفْرَادُهُ فَأَشْبَهَ الْمُؤَبَّرَةَ. وَقِيلَ: لَا يَأْخُذُهُ قَطْعًا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُؤَبَّرْ. فَحَيْثُ أَزَالَ الْمِلْكَ بِاخْتِيَارِهِ بَعِوَضٍ، بِيعَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ. وَإِنْ زَالَ قَهْرًا بَعِوَضٍ، كَالشُّفْعَةِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَالتَّبَعِيَّةُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْ زَالَ بِلَا عِوَضٍ، بِاخْتِيَارٍ أَوْ قَهْرٍ، كَالرُّجُوعِ بِهِبَةِ الْوَلَدِ، فَفِيهِ أَيْضًا الْقَوْلَانِ. وَحُكْمُ بَاقِي الثَّمَرَةِ وَمَا يَلْتَحِقُ مِنْهَا بِالْمُؤَبَّرَةِ، وَمَا لَا أَوْضَحْنَاهُ فِي الْبَيْعِ. فَإِذَا قُلْنَا بِرِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ، فَجَرَى التَّأْبِيرُ وَالرُّجُوعُ، فَقَالَ الْبَائِعُ: رَجَعْتُ قَبْلَ التَّأْبِيرِ، فَالثِّمَارُ لِي، وَقَالَ الْمُفْلِسُ: بَعْدَهُ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُفْلِسِ مَعَ يَمِينِهِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرُّجُوعِ حِينَئِذٍ، وَبَقَاءُ الثِّمَارِ لَهُ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: وَيُخَرَّجُ قَوْلُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ بِلَا يَمِينٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّكُولَ وَرَدَّ الْيَمِينِ كَالْإِقْرَارِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ. وَفِي قَوْلٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ; لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِتَصَرُّفِهِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ قَوْلُ: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ السَّابِقِ بِالدَّعْوَى. وَقَوْلُ: إِنَّهُمَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ التَّأْبِيرِ، وَاخْتَلَفَا فِي الْفَسْخِ، فَقَوْلُ الْمُفْلِسِ. وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ الْفَسْخِ، وَاخْتَلَفَا فِي التَّأْبِيرِ، فَقَوْلُ الْبَائِعِ، كَالْقَوْلَيْنِ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْإِسْلَامِ. قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ: وَكَذَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ، فَالثَّمَرَةُ لِي. وَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَبْلَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَإِذَا حَلَفَ الْمُفْلِسُ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِسَبْقِ الرُّجُوعِ عَلَى التَّأْبِيرِ، لَا عَلَى نَفْيِ السَّبْقِ. قُلْتُ: فَلَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّ الْمُفْلِسَ لَا يَعْلَمُ تَارِيخَ الرُّجُوعِ، سُلِّمَتِ الثَّمَرَةُ لِلْمُفْلِسِ بِلَا يَمِينِ؛ لِأَنَّهُ يُوَافِقُهُ عَلَى نَفْيِ عِلْمِهِ، قَالَهُ الْإِمَامُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِنْ حَلَفَ، بَقِيَتِ الثِّمَارُ لَهُ وَإِنْ نَكَلَ، فَهَلْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، فِيمَا إِذَا ادَّعَى الْمُفْلِسُ شَيْئًا وَلَمْ يَحْلِفْ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْلِفُونَ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، أَوْ يَحْلِفُونَ، فَنَكَلُوا، عُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ نَكَلَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ الْمُفْلِسُ. وَإِنْ حَلَفَ، فَإِنْ جَعَلْنَا الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ بَعْدَ النُّكُولِ كَالْبَيِّنَةِ، فَالثَّمَرَةُ لَهُ. وَإِنْ جَعَلْنَاهَا كَالْإِقْرَارِ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي قَبُولِ إِقْرَارِ الْمُفْلِسِ فِي مُزَاحَمَةِ الْمُقِرِّ لَهُ الْغُرَمَاءُ. فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ، صُرِفَتِ الثِّمَارُ إِلَى الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، أَخَذَهُ الْبَائِعُ بِحَلِفِهِ السَّابِقِ. هَذَا إِذَا كَذَّبَ الْغُرَمَاءُ الْبَائِعَ، كَمَا كَذَّبَهُ الْمُفْلِسُ. فَإِنْ صَدَّقُوهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ عَلَى الْمُفْلِسِ، بَلْ إِذَا حَلَفَ، بَقِيَتِ الثِّمَارُ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ طَلَبُ قِسْمَتِهَا، لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا لِلْبَائِعِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهَا، لِلْحَجْرِ، وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ غَرِيمٌ آخَرُ، لَكِنْ لَهُ إِجْبَارُهُمْ عَلَى أَخْذِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ، أَوْ إِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، كَمَا لَوْ جَاءَ الْمُكَاتَبُ بِالنَّجْمِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: غَصَبْتَهُ، فَيُقَالُ: خُذْهُ، أَوْ أَبْرِئْهُ عَنْهُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُجْبَرُونَ، بِخِلَافِ الْمَكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْعَوْدَ إِلَى الرِّقِّ إِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُفْلِسِ كَبِيرُ ضَرَرٍ. وَإِذَا أُجْبِرُوا عَلَى أَخْذِهَا، فَلِلْبَائِعِ أَخْذُهَا مِنْهُمْ لِإِقْرَارِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يُجْبَرُوا وَقُسِّمَتْ أَمْوَالُهُ، فَلَهُ طَلَبُ فَكِّ الْحَجْرِ إِذَا قُلْنَا: لَا يَرْتَفِعُ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حُقُوقِهِمْ، فَبِيعَتْ وَصُرِفَ ثَمَنُهَا إِلَيْهِمْ تَفْرِيعًا عَلَى الْإِجْبَارِ، لَمْ يَتَمَكَّنِ

الْبَائِعُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُمْ، بَلْ عَلَيْهِمْ رَدُّهُ إِلَى الْمُشْتَرِي. فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ، فَهُوَ مَالٌ ضَائِعٌ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَفِي «الْحَاوِي» وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الثَّمَرَةِ فَأُعْطِي حُكْمَهَا، وَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ كَانَ فِي الْمُصَدِّقِينَ عَدْلَانِ شَهِدَا لِلْبَائِعِ بِصِيغَةِ الشَّهَادَةِ وَشَرْطِهَا، أَوْ عَدْلٌ وَحَلَفَ مَعَهُ الْبَائِعُ، قُضِيَ لَهُ. كَذَا أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَأَحْسَنَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ لِلْمُخْتَصَرِ، فَحَمَلَهُ عَلَى مَا إِذَا شَهِدَا قَبْلَ تَصْدِيقِ الْبَائِعِ. وَلَوْ صَدَّقَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ الْبَائِعَ، وَكَذَّبَهُ بَعْضُهُمْ، فَلِلْمُفْلِسِ تَخْصِيصُ الْمُكَذِّبِينَ بِالثَّمَرَةِ. فَلَوْ أَرَادَ قِسْمَتَهَا عَلَى الْجَمِيعِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ صَدَّقَهُ الْجَمِيعُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا؛ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ يَتَضَرَّرُ، لِكَوْنِ الْبَائِعِ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا أَخَذَ، وَالْمُفْلِسُ لَا يَتَضَرَّرُ بِعَدَمِ الصَّرْفِ إِلَيْهِ، لِإِمْكَانِ الصَّرْفِ إِلَى مَنْ كَذَبَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا صَدَّقَهُ الْجَمِيعُ. وَإِذَا صُرِفَ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ، وَلَمْ يَفِ بِحُقُوقِهِمْ، ضَارَبُوا الْمُصَدِّقِينَ فِي بَاقِي الْأَمْوَالِ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِمْ مُؤَاخَذَةً لَهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ - وَفِي وَجْهٍ: بِجَمِيعِ دُيُونِهِمْ - لِأَنَّ زَعْمَ الْمُصَدِّقِينَ، أَنَّ شَيْئًا مِنْ دُيُونِ الْمُكَذِّبِينَ لَمْ يَتَأَدَّ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَذَّبَ الْمُفْلِسُ الْبَائِعَ، فَلَوْ صَدَّقَهُ، نُظِرَ، إِنْ صَدَّقَهُ الْغُرَمَاءُ أَيْضًا، قُضِيَ لَهُ. وَإِنْ كَذَّبُوهُ وَزَعَمُوا أَنَّهُ أَقَرَّ بِمُوَاطَأَةٍ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ بِإِقْرَارِهِ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ. إِنْ قُلْنَا: لَا يَقْبَلُ، فَلِلْبَائِعِ تَحْلِيفُ الْغُرَمَاءِ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ رُجُوعَهُ قَبْلَ التَّأْبِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي تَحْلِيفِهِمُ الْقَوْلَانِ فِي حَلِفِ الْغُرَمَاءِ عَلَى الدَّيْنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ هُنَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً، وَهُنَاكَ يَنُوبُونَ عَنِ الْمُفْلِسِ. وَالْيَمِينُ لَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ. قُلْتُ: وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ تَحْلِيفُ الْمُفْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، قَالَهُ فِي «الْحَاوِي» وَغَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَرْعٌ الِاعْتِبَارُ فِي انْفِصَالِ الْجَنِينِ وَتَأْبِيرِ الثِّمَارِ بِحَالِ الرُّجُوعِ دُونَ الْحَجْرِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُفْلِسِ بَاقٍ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ الْبَائِعُ. فَصْلٌ مَتَى رَجَعَ الْبَائِعُ فِي الشَّجَرِ وَبَقِيَتِ الثِّمَارُ لِلْمُفْلِسِ، فَلَيْسَ لَهُ قَطْعُهَا، بَلْ عَلَيْهِ إِبْقَاؤُهَا إِلَى الْجِدَادِ، وَكَذَا لَوْ رَجَعَ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ مَزْرُوعَةٌ بِزَرْعِ الْمُفْلِسِ، يُتْرَكُ إِلَى الْحَصَادِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى أَرْضًا مَزْرُوعَةً، لَمْ يَكُنْ لَهُ تَكْلِيفُ الْبَائِعِ قَلْعَهُ. ثُمَّ إِذَا أُبْقِيَ الزَّرْعُ، فَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ مِمَّا لَوْ بَنَى أَوْ غَرَسَ، فَإِنَّ لِلْبَائِعِ الْإِبْقَاءَ بِأُجْرَةٍ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي طَلَبِ الْغُرَمَاءِ وَالْمُفْلِسِ الْقَطْعَ أَوِ الْجِدَادَ وَالْحَصَادَ عَلَى مَا سَبَقَ. فَرْعٌ مَتَى ثَبَتَ الرُّجُوعُ فِي الثِّمَارِ بِالتَّصْرِيحِ بِبَيْعِهَا مَعَ الشَّجَرِ، أَوْ قُلْنَا بِهِ فِي الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، فَتَلِفَتِ الثِّمَارُ بِجَائِحَةٍ، أَوْ أَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، ثُمَّ فُلِّسَ، أَخَذَ الْبَائِعُ الشَّجَرَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ، وَضَارَبَ بِحِصَّةِ الثَّمَرِ، فَتُقَوَّمُ الشَّجَرُ وَعَلَيْهَا الثَّمَرُ، فَيُقَالُ مَثَلًا: قِيمَتُهَا مِائَةٌ، وَتُقَوَّمُ وَحْدَهَا فَيُقَالُ: تِسْعُونَ، فَيُضَارَبُ بِعُشْرِ الثَّمَنِ. فَإِنْ حَصَلَ فِي قِيمَتِهَا انْخِفَاضٌ أَوِ ارْتِفَاعٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الثِّمَارِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتَيْ يَوْمَيِ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ يَوْمَ الْقَبْضِ أَكْثَرَ، فَالنَّقْصُ قَبْلَهُ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَلَا يُحْسَبُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَإِنْ كَانَتْ يَوْمَ الْعَقْدِ أَقَلَّ، فَالزِّيَادَةُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَتَلِفَتْ،

فَلَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِيهَا. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: يُعْتَبَرُ يَوْمُ الْقَبْضِ. وَأَمَّا الشَّجَرُ، فَفِيهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَنَقْصُهُ عَلَيْهِ، وَزِيَادَتُهُ لِلْمُشْتَرِي، فَيَأْخُذُ بِالْأَكْثَرِ، لِيَكُونَ النَّقْصُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ. كَمَا أَنَّ فِي الثَّمَرَةِ الْبَاقِيَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، يُعْتَبَرُ الْأَقَلُّ، لِيَكُونَ النَّقْصُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ يَوْمَ الْعَقْدِ قَلَّ أَمْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ بَعْدَهُ فَهُوَ مِنَ الزِّيَادَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، وَعَيْنُ الْأَشْجَارِ بَاقِيَةٌ، فَيَفُوزُ بِهَا الْبَائِعُ، وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ. وَهَذَا الثَّانِي، هُوَ الْمَنْقُولُ فِي «التَّهْذِيبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْغَزَّالِيُّ. مِثْلُ ذَلِكَ، قِيمَةُ الشَّجَرِ يَوْمَ الْبَيْعِ عَشَرَةٌ، وَقِيمَةُ الثَّمَرِ خَمْسَةٌ. فَلَوْ لَمْ تَخْتَلِفِ الْقِيمَةُ، لِأَخْذِ الشَّجَرَةِ بِثُلُثَيِ الثَّمَنِ، وَضَارَبَ لِلثَّمَرَةِ بِالثُّلُثِ. وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الثَّمَرَةِ وَكَانَتْ يَوْمَ الْقَبْضِ عَشَرَةً، فَعَلَى الصَّحِيحِ، هُوَ كَمَا لَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا اعْتِبَارًا لِأَقَلِّ قِيمَتِهَا. وَعَلَى الشَّاذِّ: يُضَارِبُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ. وَلَوْ نَقَصَتْ وَكَانَتْ يَوْمَ الْقَبْضِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا، ضَارَبَ بِخُمُسِ الثَّمَنِ. فَلَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الشَّجَرِ أَوْ نَقَصَتْ، فَالْحُكْمُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، كَمَا لَوْ بَقِيَتْ بِحَالِهَا. وَعَلَى الْأَوَّلِ كَذَلِكَ إِنْ نَقَصَتْ. وَإِنْ زَادَتْ، فَكَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ، ضَارَبَ بِرُبُعِ الثَّمَنِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا اعْتَبَرْنَا فِي الثِّمَارِ أَقَلَّ الْقِيمَتَيْنِ فَتَسَاوَتَا، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا نَقْصٌ. فَإِنْ كَانَ لِمُجَرَّدِ انْخِفَاضِ السُّوقِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ لِعَيْبٍ طَرَأَ وَزَالَ، فَكَذَلِكَ عَلَى الظَّاهِرِ. كَمَا أَنَّهُ يَسْقُطُ بِزَوَالِهِ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَإِنْ لَمْ يُزَلِ الْعَيْبُ، لَكِنْ عَادَتْ قِيمَتُهُ إِلَى مَا كَانَ بِارْتِفَاعِ السُّوقِ، فَالَّذِي أَرَاهُ، اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَالِارْتِفَاعَ بَعْدَهُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَلَا يُجْبِرُهُ. قَالَ: وَإِذَا اعْتَبَرْنَا فِي الشَّجَرِ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ، فَكَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ مِائَةً، وَيَوْمَ الْقَبْضِ مِائَةً وَخَمْسِينَ، وَيَوْمَ رُجُوعِ الْبَائِعِ مِائَتَيْنِ، فَالْوَجْهُ: الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ الْمِائَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَيِ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَوْمَ الرُّجُوعِ مِائَةً، اعْتُبِرَ يَوْمُ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ مَا طَرَأَ مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَزَالَ،

لَيْسَ ثَابِتًا يَوْمَ الْعَقْدِ حَتَّى يَقُولَ: إِنَّهُ وَقْتُ الْمُقَابَلَةِ، وَلَا يَوْمَ أَخْذِ الْبَائِعِ لِيُحْسَبَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ سَبِيلُ التَّوْزِيعِ فِي كُلِّ صُورَةٍ تَلِفَ فِيهَا أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ الْمَبِيعَيْنِ، وَاخْتَلَفَتِ الْقِيمَةُ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى الْبَاقِي، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ بِلَا فَرْقٍ. النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الزِّيَادَاتِ: مَا الْتَحَقَ بِالْمَبِيعِ مِنْ خَارِجٍ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى عَيْنٍ مَحْضَةٍ، وَصِفَةٍ مَحْضَةٍ، وَمُرَكَّبٍ مِنْهُمَا. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الْعَيْنُ الْمَحْضَةُ، وَلَهَا حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ قَابِلَةً لِلتَّمْيِيزِ عَنِ الْمَبِيعِ، كَمَنِ اشْتَرَى أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا، أَوْ بَنَى، ثُمَّ فُلِّسَ قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ فِي الْأَرْضِ، نُظِرَ، إِنِ اتَّفَقَ الْغُرَمَاءُ وَالْمُفْلِسُ عَلَى الْقَلْعِ وَتَسْلِيمِ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ، رَجَعَ فِيهَا وَقَلَعُوا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ أَخْذَ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ لِيَتَمَلَّكَهَا مَعَ الْأَرْضِ. وَإِذَا قَلَعُوا، وَجَبَ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ، وَإِنْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ نَقْصٌ بِالْقَلْعِ، وَجَبَ أَرْشُهُ فِي مَالِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يُضَارِبُ بِهِ. وَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ يُقَدِّمُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ مَالِهِ. وَإِنْ قَالَ الْمُفْلِسُ: يُقْلَعُ. وَقَالَ الْغُرَمَاءُ: نَأْخُذُ الْقِيمَةَ مِنَ الْبَائِعِ لِيَتَمَلَّكَهُ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ وَقَعَ هَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، أُجِيبَ مَنْ فِي قَوْلِهِ الْمَصْلَحَةُ. فَإِنِ امْتَنَعُوا جَمِيعًا مِنَ الْقَلْعِ، لَمْ يُجْبَرُوا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. ثُمَّ يُنْظَرُ، إِنْ رَجَعَ عَلَى أَنْ يَتَمَلَّكَ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ بِقِيمَتِهِمَا، أَوْ يَقْلَعَ وَيَغْرَمَ أَرْشَ النَّقْصِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالِاخْتِيَارُ فِيهِمَا إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ وَالْمُفْلِسِ الِامْتِنَاعُ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَمَدًا قَرِيبًا. وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي الْأَرْضِ وَحْدَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ، وَيَضُرُّهُمْ، وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ. وَفِي قَوْلٍ: لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ صَبَغَ الْمُشْتَرِي الثَّوْبَ

ثُمَّ فُلِّسَ، يَرْجِعُ الْبَائِعُ فِي الثَّوْبِ فَقَطْ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ كَثِيرَةَ الْقِيمَةِ، وَالْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ مُسْتَحْقَرَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا، كَانَ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ عَكْسُهُ، فَلَا، إِتْبَاعًا لِلْأَقَلِّ الْأَكْثَرَ. وَقِيلَ: إِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي الْبَيَاضِ الْمُتَخَلَّلِ بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ، وَيُضَارِبُ لِلْبَاقِي بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، كَانَ لَهُ. وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي الْجَمِيعِ، فَلَا، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ، فَالْبَائِعُ يُضَارِبُ بِالثَّمَنِ، أَوْ يَعُودُ إِلَى بَذْلِ قِيمَتِهِمَا أَوْ قَلْعِهِمَا مَعَ غَرَامَةِ أَرْشِ النَّقْصِ. وَإِنْ مَكَّنَّاهُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهَا، فَوَافَقَ الْغُرَمَاءُ وَالْمُفْلِسُ، وَبَاعَ الْأَرْضَ مَعَهُمْ حِينَ بَاعُوا الْبِنَاءَ فَذَاكَ. وَطَرِيقُ التَّوْزِيعِ، مَا سَبَقَ فِي الرَّهْنِ. وَإِنِ امْتَنَعَ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِذَا لَمْ يُوَافِقْهُمْ، فَبَاعُوا الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ، بَقِيَ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ التَّمَلُّكِ بِالْقِيمَةِ، وَالْقَلْعُ مَعَ الْأَرْشِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ إِنْ كَانَ جَاهِلًا بِحَالِ مَا اشْتَرَاهُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الضَّرْبِ، هُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ فِي الطُّرُقِ كُلِّهَا، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمُعْتَمَدُ. وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: لَا رُجُوعَ بِحَالٍ. وَالثَّانِي: تُبَاعُ الْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ رِفْقًا بِالْمُفْلِسِ. وَالثَّالِثُ: يَرْجِعُ فِي الْأَرْضِ وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ: تَمَلُّكُ الْبَنَّاءِ وَالْغِرَاسِ بِالْقِيمَةِ، وَقَلْعُهُمَا مَعَ الْتِزَامِ أَرْشِ النَّقْصِ، وَإِبْقَاؤُهُمَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، يَأْخُذُهَا مِنْ مِلْكِهِمَا. وَإِذَا عَيَّنَ خَصْلَةً، فَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ وَالْمُفْلِسُ غَيْرَهَا، أَوِ امْتَنَعُوا مِنَ الْكُلِّ، فَوَجْهَانِ فِي أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْأَرْضِ، وَيَقْلَعُ مَجَّانًا، أَوْ يُجْبَرُونَ عَلَى مَا عَيَّنَهُ. وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ أَكْثَرَ، فَالْبَائِعُ فَاقِدٌ عَيْنَ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ أَكْثَرَ، فَوَاجِدٌ. هَذَا نَقْلُ الْإِمَامِ، وَتَابَعَهُ الْغَزَّالِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَهَذَا النَّقْلُ شَاذٌّ مُنْكَرٌ لَا يُعْرَفُ، وَلَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ أُخِذَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ؟ ! فَرْعٌ اشْتَرَى الْأَرْضَ مِنْ رَجُلٍ، وَالْغِرَاسَ مِنْ آخَرَ، وَغَرَسَهُ فِيهَا، ثُمَّ فُلِّسَ، فَلِكُلٍّ

الرُّجُوعُ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ. فَإِنْ رَجَعَا وَأَرَادَ صَاحِبُ الْغِرَاسِ الْقَلْعَ، مُكِّنَ وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ وَأَرْشِ نَقْصِ الْأَرْضِ إِنْ نَقَصَتْ. وَإِنْ أَرَادَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ، فَكَذَلِكَ إِنْ ضَمِنَ أَرْشَ النَّقْصِ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ غَرْسٌ مُحْتَرَمٌ، كَغَرْسِ الْمُفْلِسِ. وَالثَّانِي: لَهُ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ الْغَرْسَ مُفْرَدًا، فَيَأْخُذُهُ كَذَلِكَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ الزِّيَادَةُ قَابِلَةً لِلتَّمْيِيزِ، كَخَلْطِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فَإِذَا اشْتَرَى صَاعَ حِنْطَةٍ أَوْ رَطْلَ زَيْتٍ، فَخَلَطَهُ بِحِنْطَةٍ، أَوْ زَيْتٍ، ثُمَّ فُلِّسَ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ، فَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ، وَتَمَلُّكُ صَاعٍ مِنَ الْمَخْلُوطِ، وَطَلَبُ الْقِسْمَةِ. وَإِنْ طَلَبَ الْبَيْعَ، فَهَلْ يُجَابُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا لَا يُجَابُ الشَّرِيكُ. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ بِالْقِسْمَةِ إِلَى عَيْنِ حَقِّهِ، وَيَصِلُ بِالْبَيْعِ إِلَى بَدَلِ حَقِّهِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ. وَإِنْ كَانَ الْمَخْلُوطُ أَرْدَأَ مِنَ الْمَبِيعِ، فَلَهُ الْفَسْخُ وَالرُّجُوعُ فِي قَدْرِ حَقِّهِ مِنَ الْمَخْلُوطِ. وَفِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُبَاعُ الْجَمِيعُ، وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ صَاعًا، نَقَصَ حَقُّهُ. وَلَوْ أَخَذَ أَكْثَرَ، حَصَلَ الرِّبَا. فَعَلَى هَذَا، إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ، وَالْمَخْلُوطُ بِهِ دِرْهَمًا، قُسِّمَ الثَّمَنُ أَثْلَاثًا. وَأَصَحُّهُمَا: لَيْسَ لَهُ إِلَّا أَخْذُ صَاعٍ، أَوِ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ فِي الْمَبِيعِ، كَتَعَيُّبِ الْعَبْدِ. وَخَرَجَ قَوْلٌ أَنَّ الْخَلْطَ بِالْمِثْلِ وَالْأَرْدَأِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَإِنْ كَانَ الْمَخْلُوطُ بِهِ أَجْوَدَ، فَأَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ، بَلْ يُضَارِبُ بِالثَّمَنِ. وَالثَّانِي: يُرْجَعُ وَيُبَاعَانِ، ثُمَّ يُوَزَّعُ الثَّمَنُ عَلَى نِسْبَةِ الْقِيمَةِ. وَالثَّالِثُ: يُوَزَّعُ نَفْسُ الْمَخْلُوطِ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ يُسَاوِي دِرْهَمًا، وَالْمَخْلُوطُ بِهِ دِرْهَمَيْنِ، أَخَذَ ثُلُثَيْ صَاعٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَضْعَفُهَا، وَهُوَ رِوَايَةُ الْبُوَيْطِيِّ وَالرَّبِيعِ. فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا قُلْنَا: الْخَلْطُ يُلْحِقُ الْمَبِيعَ بِالْمَفْقُودِ، فَكَانَ أَحَدُ الْخَلِيطَيْنِ كَثِيرًا،

وَالْآخَرُ قَلِيلًا، لَا تَظْهَرُ بِهِ زِيَادَةٌ فِي الْحِسِّ، وَيَقَعُ مِثْلُهُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْكَثِيرُ لِلْبَائِعِ، فَالْوَجْهُ: الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ وَاجِدًا عَيْنَ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْكَثِيرُ لِلْمُشْتَرِي، فَالظَّاهِرُ كَوْنُهُ فَاقِدًا. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْمَخْلُوطُ بِهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ، كَالزَّيْتِ بِالشَّيْرَجِ، فَلَا فَسْخَ، بَلْ هُوَ كَالتَّالِفِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الصِّفَةُ الْمَحْضَةُ. فَإِذَا اشْتَرَى حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ ثَوْبًا فَقَصَّرَهُ، أَوْ خَاطَهُ بِخُيُوطٍ مِنْ نَفْسِ الثَّوْبِ، ثُمَّ فُلِّسَ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُ، فَلَا شَرِكَةَ لِلْمُفْلِسِ، وَإِنْ نَقَصَتْ، فَلَا شَيْءَ لِلْبَائِعِ غَيْرُهُ، وَإِنْ زَادَتْ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ أَثَرٌ، وَلَا شَرِكَةَ لِلْمُفْلِسِ؛ لِأَنَّهَا صِفَاتٌ تَابِعَةٌ، كَسِمَنِ الدَّابَّةِ بِالْعَلَفِ، وَكِبَرِ الْوَدِيِّ بِالسَّقْيِ. وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا عَيْنٌ، وَالْمُفْلِسُ شَرِيكٌ بِهَا؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ بِفِعْلٍ مُحْتَرَمٍ مُتَقَوَّمٍ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ، فِيمَا لَوِ اشْتَرَى دَقِيقًا فَخَبَزَهُ، أَوْ لَحْمًا فَشَوَاهُ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا، أَوْ أَرْضًا فَضَرَبَ مِنْ تُرَابِهَا لَبِنًا أَوْ عَرْصَةً، وَآلَاتِ الْبِنَاءِ فَبَنَى بِهَا دَارًا. أَمَّا تَعْلِيمُ الْعَبْدِ الْقُرْآنَ، وَالْحِرْفَةَ، وَالْكِتَابَةَ، وَالشِّعْرَ الْمُبَاحَ، وَرِيَاضَةَ الدَّابَّةِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: هِيَ أَثَرٌ قَطْعًا، كَالسِّمَنِ. وَضَبْطُ صُوَرِ الْقَوْلَيْنِ، أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، فَيَظْهَرُ بِهِ أَثَرٌ فِيهِ. وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْأَثَرَ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الدَّابَّةِ وَسِيَاسَتَهَا، يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، وَلَا تَثْبُتُ بِهِ مُشَارَكَةٌ لِلْمُفْلِسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ بِسَبَبِهِ أَثَرٌ عَلَى الدَّابَّةِ. فَإِنْ قُلْنَا: أَثَرٌ، أَخَذَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بِزِيَادَتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، بِيعَ وَلِلْمُفْلِسِ بِنِسْبَةِ مَا زَادَ فِي قِيمَتِهِ. مِثَالُهُ، قِيمَةُ الثَّوْبِ خَمْسَةٌ، وَبَلَغَ بِالْقِصَارَةِ سِتَّةً، فَلِلْمُفْلِسِ سُدُسُ الثَّمَنِ. فَلَوِ ارْتَفَعَتِ الْقِيمَةُ،

أَوِ انْخَفَضَتْ بِالسُّوقِ، فَالزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ. فَلَوِ ارْتَفَعَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْقِصَارَةِ، بِأَنْ صَارَ مِثْلَ ذَلِكَ الثَّوْبِ يُسَاوِي غَيْرَ مَقْصُورٍ سِتَّةً، وَمَقْصُورًا سَبْعَةً، فَلِلْمُفْلِسِ سُبُعُ الثَّمَنِ فَقَطْ. فَلَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْقِصَارَةِ دُونَ الثَّوْبِ، بِأَنْ كَانَ مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ يُسَاوِي مَقْصُورًا سَبْعَةً، وَغَيْرَ مَقْصُورٍ خَمْسَةً، فَلِلْمُفْلِسِ سُبُعَانِ مِنَ الثَّمَنِ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يُمْسِكَ الْمَبِيعَ، وَيَمْنَعَ مِنْ بَيْعِهِ، وَيَبْذُلَ لِلْمُفْلِسِ حِصَّةَ الزِّيَادَةِ، كَذَا نُقِلَ فِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ، كَمَا تُبْذَلُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ. وَمَنَعَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تُقَابَلُ بِعِوَضٍ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: نَقَلَ صَاحِبَا «التَّهْذِيبِ» ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَ «الْبَيَانِ» . وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : وَلَا يُسَلَّمُ هَذَا الثَّوْبُ إِلَى الْبَائِعِ، وَلَا الْمُفْلِسِ، وَلَا الْغُرَمَاءِ، بَلْ يُوضَعُ عِنْدَ عَدْلٍ حَتَّى يُبَاعَ كَالْجَارِيَةِ الْحَامِلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا اسْتَأْجَرَ الْمُفْلِسُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى الْقِصَارَةِ، أَوِ الطَّحْنِ، فَعَمِلَ الْأَجِيرُ عَمَلَهُ، فَهَلْ لَهُ حَبْسُ الثَّوْبِ الْمَقْصُورِ وَالدَّقِيقِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: الْقِصَارَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا أَثَرٌ، فَلَا. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، فَنَعَمْ. كَمَا لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ، لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ. قُلْتُ: هَكَذَا أَطْلَقَ الْمَسْأَلَةَ كَثِيرُونَ، أَوِ الْأَكْثَرُونَ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي «الْأُمِّ» وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَجِيرِ حَبْسُهُ، وَلَا لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَخْذُهُ، بَلْ يُوضَعُ عِنْدَ عَدْلٍ حَتَّى يُوَفِّيَهُ الْأُجْرَةَ، أَوْ يُبَاعُ لَهُمَا. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ. فَإِنْ جَعَلَهُ عِنْدَ الْعَدْلِ، حُبِسَ. لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْأَجِيرَ يَحْبِسُهُ فِي يَدِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا هُوَ عَيْنٌ مِنْ وَجْهٍ، وَصِفَةٌ مِنْ وَجْهٍ، كَصَبْغِ الثَّوْبِ، وَلَتِّ السَّوِيقِ وَشِبْهِهِمَا. فَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا وَصَبَغَهُ، فَإِنْ نَقَصَتِ الْقِيمَةُ، أَوْ لَمْ تَزِدْ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي. وَإِنْ زَادَتْ، فَقَدْ تَزِيدُ بِقَدْرِ قِيمَةِ الصِّبْغِ أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ. الْحَالُ الْأَوَّلُ: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ يُسَاوِي أَرْبَعَةً، وَالصِّبْغُ دِرْهَمَيْنِ، وَصَارَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا سِتَّةً، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فِي الثَّوْبِ، وَيَكُونُ الْمُفْلِسُ شَرِيكًا لَهُ فِي الصَّبْغِ، فَيُبَاعُ وَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَهَلْ يَقُولُ: كُلُّ الثَّوْبِ لِلْبَائِعِ، وَكُلُّ الصَّبْغِ لِلْمُفْلِسِ، كَمَا لَوْ غَرَسَ؟ أَوْ يَقُولُ: يَشْتَرِكَانِ فِيهِمَا جَمِيعًا بِالْأَثْلَاثِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ كَخَلْطِ الزَّيْتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الْحَالُ الثَّانِي: مِثْلَ أَنْ تَصِيرَ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا خَمْسَةً، فَالنَّقْصُ مُحَالٌ عَلَى الصِّبْغِ؛ لِأَنَّهُ هَالِكٌ فِي الثَّوْبِ، وَالثَّوْبُ بِحَالِهِ، فَيُبَاعُ، وَلِلْبَائِعِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الثَّوْبِ، وَلِلْمُفْلِسِ خُمُسٌ. الْحَالُ الثَّالِثُ: مِثْلَ أَنْ تَصِيرَ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا ثَمَانِيَةً، فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ بِصَنْعَةِ الصَّبْغِ. فَإِنْ قُلْنَا: الصَّنْعَةُ عَيْنٌ، فَالزِّيَادَةُ مَعَ الصَّبْغِ لِلْمُفْلِسِ، فَيُجْعَلُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: أَثَرٌ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَفُوزُ الْبَائِعُ بِالزِّيَادَةِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ، وَلِلْمُفْلِسِ رُبُعٌ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَكُونُ لِلْبَائِعِ ثُلُثَا الثَّمَنِ، وَلِلْمُفْلِسِ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ اتَّصَلَتْ بِهِمَا، فَوُزِّعَتْ عَلَيْهِمَا. وَلَوْ صَارَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا سِتَّةَ عَشَرَ مَثَلًا، أَوْ رَغِبَ فِيهِ رَجُلٌ فَاشْتَرَاهُ، فَفِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ، هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ. ثُمَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُفْلِسُ مِنَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، دَفْعُهُ لِيَخْلُصَ لَهُ الثَّوْبُ مَصْبُوغًا. وَمَنَعَ ذَلِكَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» كَمَا سَبَقَ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا صَبَغَهُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ. أَمَّا إِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا وَصِبْغًا مِنْ رَجُلٍ، فَصَبَغَهُ بِهِ، ثُمَّ فُلِّسَ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِمَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ كَقِيمَةِ الثَّوْبِ قَبْلَ الصَّبْغِ أَوْ دُونَهَا، فَيَكُونُ فَاقِدٌ لِلصِّبْغِ. فَإِنْ زَادَتِ الْقِيمَةُ، بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ أَرْبَعَةً، وَالصِّبْغِ دِرْهَمَيْنِ

فَصَارَتْ مَصْبُوغًا ثَمَانِيَةً، وَقُلْنَا: الصَّنْعَةُ أَثَرٌ، أَخَذَهُ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُفْلِسِ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، فَالْمُفْلِسُ شَرِيكٌ بِالرُّبُعِ. وَلَوِ اشْتَرَى الثَّوْبَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَرْبَعَةٍ وَهِيَ قِيمَتُهُ، وَالصِّبْغَ مِنْ آخَرَ بِدِرْهَمَيْنِ وَهُمَا قِيمَتُهُ، وَصَبَغَهُ، وَأَرَادَ الْبَائِعَانِ الرُّجُوعَ، فَإِنْ كَانَ مَصْبُوغًا لَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَصَاحِبُ الصِّبْغِ فَاقِدٌ مَالَهُ، وَصَاحِبُ الثَّوْبِ وَاجِدٌ مَالَهُ، بِكَمَالِهِ إِنْ لَمْ يَنْقُصْ عَنْ أَرْبَعَةٍ، وَنَاقِصًا إِنْ نَقَصَ. فَإِنْ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَصَاحِبُ الصِّبْغِ أَيْضًا وَاجِدٌ مَالَهُ، بِكَمَالِهِ إِنْ بَلَغَتِ الزِّيَادَةُ دِرْهَمَيْنِ، وَنَاقِصًا إِنْ لَمْ تَبْلُغْهُمَا. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا ثَمَانِيَةً، فَإِنْ قُلْنَا: الصَّنْعَةُ أَثَرٌ، فَالشَّرِكَةُ بَيْنَ الْبَائِعَيْنِ، كَهِيَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُفْلِسِ إِذَا صَبَغَهُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، فَنِصْفُ الثَّمَنِ لِبَائِعِ الثَّوْبِ، وَرُبُعُهُ لِبَائِعِ الصَّبْغِ، وَالرُّبُعُ لِلْمُفْلِسِ. وَلَوِ اشْتَرَى صِبْغًا وَصَبَغَ بِهِ ثَوْبًا لَهُ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ إِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ الصَّبْغِ، وَإِلَّا، فَهُوَ فَاقِدٌ. وَإِذَا رَجَعَ، فَالْقَوْلُ فِي الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا سَبَقَ. قُلْتُ: وَإِذَا شَارَكَ وَنَقَصَتْ حِصَّتُهُ عَنْ ثَمَنِ الصِّبْغِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ عَلَى مَا حَكَاهُ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : أَنَّهُ إِنْ شَاءَ قَنِعَ بِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَارَبَ بِالْجَمِيعِ. وَالثَّانِي: لَهُ أَخْذُهُ وَالْمُضَارَبَةُ بِالْبَاقِي. وَبِهَذَا قَطَعَ فِي «الْمُهَذَّبِ» وَ «الشَّامِلِ» وَالْعُدَّةِ وَغَيْرِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ حُكْمُ صَبْغِ الثَّوْبِ، كَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ. فَلَوْ قَالَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ: نَقْلَعُهُ وَنَغْرَمُ نَقْصَ الثَّوْبِ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَهُمْ ذَلِكَ. فَرْعٌ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَطْعِ بِالشَّرِكَةِ بِالصَّبْغِ، إِذَا لَمْ يَحْصُلْ، هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، سَوَاءٌ

أَمْكَنَ تَمْيِيزُ الصَّبْغِ مِنَ الثَّوْبِ، أَوْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا. وَفِي وَجْهٍ: إِذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا، صَارَ كَالْقِصَارَةِ فِي أَنَّهُ عَيْنٌ أَمْ أَثَرٌ. فَرْعٌ إِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا، وَاسْتَأْجَرَ قَصَّارًا فَقَصَّرَهُ، وَلَمْ يُوفِهِ أُجْرَتَهُ حَتَّى فُلِّسَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقِصَارَةُ أَثَرٌ، فَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ إِلَّا الْمُضَارَبَةُ بِالْأُجْرَةِ، وَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي الثَّوْبِ مَقْصُورًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا زَادَ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ، فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ. وَغَلَّطَهُ الْأَصْحَابُ فِيهِ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَا قَبْلَ الْقِصَارَةِ، فَالْأَجِيرُ فَاقِدٌ عَيْنَ مَالِهِ. وَإِنْ زَادَتْ، فَلِكُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْأَجِيرِ، الرُّجُوعُ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ. فَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً، وَالْأُجْرَةُ دِرْهَمٌ، وَالثَّوْبُ الْمَقْصُورُ يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ، بِيعَ. وَلِلْبَائِعِ عَشَرَةٌ، وَلِلْأَجِيرِ دِرْهَمٌ، وَالْبَاقِي لِلْمُفْلِسِ. وَلَوْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَالثَّوْبُ بَعْدَ الْقِصَارَةِ يُسَاوِي أَحَدَ عَشَرَ، فَإِنْ فَسَخَ الْأَجِيرُ الْإِجَارَةَ، فَعُشْرُهُ لِلْبَائِعِ، وَدِرْهَمٌ لِلْأَجِيرِ، وَيُضَارِبُ بِأَرْبَعَةٍ. وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ، فَعَشَرَةٌ لِلْبَائِعِ، وَدِرْهَمٌ لِلْمُفْلِسِ، وَيُضَارِبُ الْأَجِيرُ بِالْخَمْسَةِ. وَحَكَى فِي «الْوَسِيطِ» وَجْهًا: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَجِيرِ إِلَّا الْقِصَارَةُ النَّاقِصَةُ، أَوِ الْمُضَارَبَةُ، كَمَا هُوَ قِيَاسُ الْأَعْيَانِ. وَلَمْ أَرَ هَذَا النَّقْلَ لِغَيْرِهِ، فَالْمُعْتَمَدُ مَا سَبَقَ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةٌ، وَاسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا صَبَغَهُ بِصِبْغٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ، فَصَارَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَالْأَرْبَعَةُ الزَّائِدَةُ حَصَلَتْ بِالصَّنْعَةِ، فَيَجْرِي فِيهَا الْقَوْلَانِ فِي أَنَّهَا عَيْنٌ أَوْ أَثَرٌ. فَإِنْ رَجَعَ الْبَائِعُ وَالصَّبَّاغُ، بِيعَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَقُسِّمَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ إِنْ قُلْنَا: أَثَرٌ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، فَلَهُمَا أَحَدَ عَشَرَ، وَالْأَرْبَعَةُ لِلْمُفْلِسِ. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا، وَبِيعَ بِثَلَاثِينَ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لِلْبَائِعِ عِشْرُونَ، وَلِلصَّبَّاغِ دِرْهَمَانِ وَلِلْمُفْلِسِ ثَمَانِيَةٌ.

فصل

وَقَالَ غَيْرُهُ يُقَسَّمُ الْجَمِيعُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ، عَشَرَةٌ لِلْبَائِعِ، وَدِرْهَمٌ لِلصَّبَّاغِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُفْلِسِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْأَوَّلُ جَوَابٌ عَلَى قَوْلِنَا: عَيْنٌ. وَالثَّانِي: عَلَى أَنَّهَا أَثَرٌ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً، وَاسْتَأْجَرَهُ عَلَى قِصَارَتِهِ بِدِرْهَمٍ، وَصَارَتْ قِيمَتُهُ مَقْصُورًا خَمْسَةَ عَشَرَ، فَبِيعَ بِثَلَاثِينَ، قَالَ الشَّيْخَانِ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا تَفْرِيعًا عَلَى الْعَيْنِ: إِنَّهُ يَتَضَاعَفُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ فِي الصَّبْغِ. قَالَ الْإِمَامُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ عِشْرُونَ، وَلِلْمُفْلِسِ تِسْعَةٌ، وَلِلْقَصَّارِ دِرْهَمٌ كَمَا كَانَ، وَلَا يَزِيدُ حَقُّهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَارَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ لِلْقَصَّارِ. وَإِنَّمَا هِيَ مَرْهُونَةٌ بِحَقِّهِ، وَهَذَا اسْتِدْرَاكٌ حَسَنٌ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ الْغُرَمَاءُ لِلْقَصَّارِ: خُذْ أُجْرَتَكَ وَدَعْنَا نُكُونُ شُرَكَاءَ صَاحِبِ الثَّوْبِ، أُجْبِرَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَالْبَائِعِ إِذَا قَدَّمَهُ الْغُرَمَاءُ بِالثَّمَنِ، فَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يُعْطِي الْقِصَارَةَ حُكْمَ الْعَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَصْلٌ لَوْ أَخْفَى الْمَدْيُونُ بَعْضَ مَالِهِ، وَنَقَصَ الْمَوْجُودُ عَنْ دَيْنِهِ فَحَجْرٌ عَلَيْهِ، وَرَجَعَ أَصْحَابُ الْأَمْتِعَةِ فِيهَا، وَقُسِّمَ بَاقِي مَالِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ عَلِمْنَا إِخْفَاءَهُ، لَمْ يَنْقُصْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي بَيْعَ مَالِ الْمُمْتَنِعِ وَصَرْفَهُ فِي دَيْنِهِ. وَالرُّجُوعُ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ بِامْتِنَاعِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَإِذَا حَكَمَ بِهِ، نَفَذَ، كَذَا قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» ، وَفِيهِ تَوَقُّفٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ رُبَّمَا لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَ ذَلِكَ.

فصل

فَصْلٌ مَنْ لَهُ الْفَسْخُ بِالْإِفْلَاسِ، لَوْ تُرِكَ الْفَسْخُ عَلَى مَالٍ، لَمْ يَثْبُتِ الْمَالُ. فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِجَوَازِهِ، فَفِي بُطْلَانِ حَقِّهِ مِنَ الْفَسْخِ، وَجْهَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ.

كتاب الحجر

كِتَابُ الْحَجْرِ هُوَ نَوْعَانِ. حَجْرٌ شُرِعَ لِغَيْرِهِ، وَحَجْرٌ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ. الْأَوَّلُ: خَمْسَةُ أَضْرُبٍ. حَجْرُ الرَّاهِنِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَحَجْرُ الْمُفْلِسِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَحَجْرُ الْمَرِيضِ لِلْوَرَثَةِ، وَحَجْرُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لِسَيِّدِهِ وَلِلَّهِ تَعَالَى. وَخَامِسُهَا: حَجْرُ الْمُرْتَدِّ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْأَضْرُبُ خَاصَّةٌ لَا تَعُمُّ التَّصَرُّفَاتِ، بَلْ يَصِحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُورِينَ، الْإِقْرَارُ بِالْعُقُوبَاتِ، وَكَثِيرٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي أَبْوَابِهَا. النَّوْعُ الثَّانِي: ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. أَحُدُهَا: حَجْرُ الْمَجْنُونِ، وَيَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْجُنُونِ، وَيَرْتَفِعُ بِالْإِفَاقَةِ، وَتَنْسَلِبُ بِهِ الْوِلَايَاتُ وَاعْتِبَارُ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا. وَمَنْ عَامَلَهُ، أَوْ أَقْرَضَهُ، فَتَلِفَ الْمَالُ عِنْدَهُ، أَوْ أَتْلَفَهُ، فَمَالِكُهُ هُوَ الْمُضَيِّعُ. وَمَا دَامَ بَاقِيًا يَجُوزُ اسْتِرْدَادُهُ. وَالثَّانِي: حَجْرُ الصَّبِيِّ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَمَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ، وَلَمْ يَكْمُلْ عَقْلُهُ، فَهُوَ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ. وَتَدْبِيرُهُ وَوَصِيَّتُهُ، يَأْتِي بَيَانُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ سَبَقَ إِذْنُهُ فِي الدُّخُولِ وَحَمْلُهُ الْهَدِيَّةَ. وَالثَّالِثُ: حَجْرُ السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ، وَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ أَعَمُّ مِنَ الثَّانِي. وَالثَّانِي أَعَمُّ مِنَ الثَّالِثِ. وَمَقْصُودُ الْكِتَابِ هَذِهِ الْأَضْرُبُ، وَالثَّالِثُ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ. فَصْلٌ فِيمَا يَزُولُ بِهِ حَجْرُ الصَّبِيِّ قَالَ جَمَاعَةٌ: يَنْقَطِعُ حَجْرُ الصَّبِيِّ بِالْبُلُوغِ رَشِيدًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حَجْرُ الصَّبِيِّ

يَنْقَطِعُ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ، وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا مُحَقَّقًا، بَلْ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ، أَرَادَ الْإِطْلَاقَ الْكُلِّيَّ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي، بِالْحَجَرِ أَرَادَ الْحَجْرَ الْمَخْصُوصَ بِالصَّبِيِّ، وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِالْحَجْرِ، وَكَذَلِكَ التَّبْذِيرُ. وَأَحْكَامُهُمَا مُتَغَايِرَةٌ. وَمَنْ بَلَغَ مُبَذِّرًا، فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ حُكْمُ تَصَرُّفِ السَّفِيهِ، لَا حُكْمُ تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ. فَرْعٌ لِلْبُلُوغِ أَسَبَابٌ. مِنْهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ. أَمَّا الْمُشْتَرَكُ، فَمِنْهُ السِّنُّ. فَإِذَا اسْتَكْمَلَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَمَرِيَّةً، فَقَدْ بَلَغَ. وَفِي وَجْهٍ: يَبْلُغُ بِالطَّعْنِ فِي الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. السَّبَبُ الثَّانِي: خُرُوجُ الْمَنِيِّ وَيَدْخُلُ وَقْتُ إِمْكَانِهِ بِاسْتِكْمَالِ تِسْعِ سِنِينَ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يَنْفَصِلُ قَبْلَهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ. وَفِي وَجْهٍ: إِنَّمَا يَدْخُلُ بِمُضِيِّ نِصْفِ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ. وَفِي وَجْهٍ: بِاسْتِكْمَالِ الْعَاشِرَةِ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الْمَنِيَّ لَا يَكُونُ بُلُوغًا فِي النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فِيهِنَّ. وَعَلَى هَذَا، قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي يَتَّجِهُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الْغُسْلُ. وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ، وَفِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ نَظَرٌ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: إِنْبَاتُ الْعَانَةِ يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِالْبُلُوغِ فِي الْكُفَّارِ. وَهَلْ هُوَ حَقِيقَةُ الْبُلُوغِ، أَمْ دَلِيلُهُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَهُوَ بُلُوغٌ فِي الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِبُلُوغٍ. قُلْتُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُفْتَى بِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» أَنَّهُ لَا يَكُونُ بُلُوغًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ شَعْرٌ خَشِنٌ يُحْتَاجُ فِي إِزَالَتِهِ إِلَى حَلْقٍ، فَأَمَّا الزَّغَبُ وَالشَّعْرُ الضَّعِيفُ الَّذِي قَدْ يُوجَدُ فِي الصِّغَرِ، فَلَا أَثَرَ لَهُ. وَأَمَّا شَعْرُ الْإِبِطِ، وَاللِّحْيَةِ، وَالشَّارِبِ، فَقِيلَ: كَالْعَانَةِ. وَقِيلَ: لَا أَثَرَ لَهَا قَطْعًا. وَأَلْحَقَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» الْإِبِطَ بِالْعَانَةِ دُونَ اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ. قُلْتُ: وَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى مَنْبَتِ عَانَةِ مَنِ احْتَجْنَا إِلَى مَعْرِفَةِ بُلُوغِهِ بِهَا لِلضَّرُورَةِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: تُمَسُّ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ. يُلْصَقُ بِهَا شَمْعٌ وَنَحْوُهُ لِيُعْتَبَرَ بِلُصُوقِهِ بِهِ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَلَقَهُ، أَوْ نَبَتَ شَيْءٌ يَسِيرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَأَمَّا ثِقَلُ الصَّوْتِ، وَنُهُودُ الثَّدْيِ، وَنُتُوءُ طَرَفِ الْحُلْقُومِ، وَانْفِرَاقُ الْأَرْنَبَةِ، فَلَا أَثَرَ لَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَطَرَدَ فِي «التَّتِمَّةِ» فِيهَا الْخِلَافَ. وَأَمَّا مَا يُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، فَاثْنَانِ. أَحَدُهُمَا: الْحَيْضُ فَهُوَ لِوَقْتِ الْإِمْكَانِ، بُلُوغٌ. وَالثَّانِي: الْحَبَلُ، فَإِنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالْإِنْزَالِ، لَكِنْ لَا نَسْتَيْقِنُ الْوَلَدَ إِلَّا بِالْوَضْعِ. فَإِذَا وَضَعَتْ، حَكَمْنَا بِحُصُولِ الْبُلُوغِ قَبْلَ الْوَضْعِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَشَيْءٍ. فَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ يَلْحَقُ الزَّوْجَ، حَكَمْنَا بِبُلُوغِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ. فَرْعٌ الْخُنْثَى الْمُشْكَلُ، إِذَا خَرَجَ مِنْ ذَكَرِهِ مَا هُوَ بِصِفَةِ الْمَنِيِّ، وَمِنْ فَرْجِهِ مَا هُوَ بِصِفَةِ الْحَيْضِ، حُكِمَ بِبُلُوغِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. لِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَمْنَى، أَوْ أُنْثَى حَاضَتْ. وَالثَّانِي: لَا لِلتَّعَارُضِ. وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَقَطْ، أَوْ أَمْنَى وَحَاضَ بِالْفَرْجِ، فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِبُلُوغٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْفَرْجِ الْآخَرِ مَا يُعَارِضُهُ. وَالْحَقُّ، مَا قَالَهُ

الْإِمَامُ، أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِبُلُوغِهِ بِأَحَدِهِمَا، كَمَا يُحْكَمُ بِذُكُورَتِهِ وَأُنُوثَتِهِ. إِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ، غَيَّرْنَا الْحُكْمَ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» إِذَا أَنْزَلَ الْخُنْثَى مِنْ ذَكَرِهِ أَوْ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ فَرْجِهِ مَرَّةً، لَمْ يُحْكَمْ بِبُلُوغِهِ. فَإِنْ تَكَرَّرَ، حُكِمَ بِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ وَأَمَّا الرُّشْدُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُوَ إِصْلَاحُ الدِّينِ وَالْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاحِ فِي الدِّينِ: أَنْ لَا يَرْتَكِبَ مُحَرَّمًا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ، وَفِي الْمَالِ: أَنْ لَا يُبَذِّرَ. فَمِنَ التَّبْذِيرِ تَضْيِيعُ الْمَالِ بِإِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ، أَوِ احْتِمَالِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا الْإِنْفَاقُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ. وَأَمَّا الصَّرْفُ فِي الْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِحَالِهِ، فَقَالَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَّالِيُّ: هُوَ تَبْذِيرٌ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ يُتَّخَذُ لِيُنْتَفَعَ فِيهِ وَيُلْتَذَّ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي التَّجَمُّلِ بِالثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْ شِرَاءِ الْجَوَارِي، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الصَّرْفُ إِلَى وُجُوهِ الْخَيْرِ، كَالصَّدَقَاتِ، وَفَكِّ الرِّقَابِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِتَبْذِيرٍ، فَلَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ، كَمَا لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: إِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَهُوَ مُفْرِطٌ بِالْإِنْفَاقِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَهُوَ مُبَذِّرٌ. وَإِنْ عَرَضَ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُقْتَصِدًا، لَمْ يَصِرْ مُبَذِّرًا، وَالْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ مَا سَبَقَ. وَبِالْجُمْلَةِ التَّبْذِيرُ عَلَى مَا نَقَلَهُ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ مَحْصُورٌ فِي التَّضْيِيعَاتِ وَصَرْفِهِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.

فصل

فَرْعٌ لَا بُدَّ مِنَ اخْتِبَارِ الصَّبِيِّ لِيُعْرَفَ حَالُهُ فِي الرُّشْدِ وَعَدَمِهِ. وَيَخْتَلِفُ بِطَبَقَاتِ النَّاسِ، فَوَلَدُ التَّاجِرِ يُخْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُمَاكَسَةِ فِيهِمَا، وَوَلَدُ الزَّارِعِ فِي أَمْرِ الزِّرَاعَةِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْقِوَامِ بِهَا، وَالْمُحْتَرِفِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحِرْفَتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي أَمْرِ الْقُطْنِ وَالْغَزْلِ وَحِفْظِ الْأَقْمِشَةِ وَصَوْنِ الْأَطْعِمَةِ عَنِ الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَشِبْهِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْبَيْتِ. وَلَا تَكْفِي الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ فِي الِاخْتِبَارِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَرَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ بِحَيْثُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِرُشْدِهِ. وَفِي وَقْتِ الِاخْتِبَارِ. وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَأَصَحُّهُمَا: قَبْلَهُ. وَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُدْفَعُ إِلَيْهِ قَدْرٌ مِنَ الْمَالِ، وَيُمْتَحَنُ فِي الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُسَاوَمَةِ. فَإِذَا آنَ الْأَمْرُ إِلَى الْعَقْدِ، عَقَدَ الْوَلِيُّ. وَالثَّانِي: يَعْقِدُ الصَّبِيُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ هَذَا الْعَقْدُ لِلْحَاجَةِ. وَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ الْمَالُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ لِلِاخْتِبَارِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَلِيِّ. قُلْتُ: وَالصَّبِيُّ الْكَافِرُ كَالْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَيُعْتَبَرُ فِي صَلَاحِ دِينِهِ وَمَالِهِ مَا هُوَ صَلَاحٌ عِنْدَهُمْ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ إِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ غَيْرَ رَشِيدٍ لِاخْتِلَالِ صَلَاحِ الدِّينِ، أَوِ الْمَالِ، بَقِيَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ الْمَالُ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ، أَنَّهُ إِنْ بَلَغَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ، دُفِعَ إِلَيْهِ وَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا. وَإِنْ بَلَغَ مُفْسِدًا لِمَالِهِ، مُنِعَ مِنْهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ، فَيُسْتَدَامُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ مَنْ كَانَ يَتَصَرَّفُ قَبْلَ بُلُوغِهِ. وَإِنْ بَلَغَ

رَشِيدًا، دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ. وَهَلْ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ بِنَفْسِ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ؟ أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى فَكٍّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالْحَاكِمِ، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ، كَحَجْرِ الْمَجْنُونِ، يَزُولُ بِنَفْسِ الْإِفَاقَةِ. وَالثَّانِي، يَحْتَاجُ، فَعَلَى هَذَا يَنْفَكُّ بِالْقَاضِي أَوِ الْأَبِ، أَوِ الْجَدِّ. وَفِي الْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ وَجْهَانِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَصَرَّفَ قَبْلَ الْفَكِّ، فَهُوَ كَتَصَرُّفِ مَنْ أُنْشِئَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ بِالسَّفَهِ الطَّارِئِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي الِاحْتِيَاجِ فِيمَا لَوْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ، ثُمَّ رَشَدَ. وَإِذَا حَصَلَ الرُّشْدُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُزَوَّجَةً أَوْ غَيْرَهَا. فَرْعٌ لَوْ عَادَ التَّبْذِيرُ بَعْدَمَا بَلَغَ رَشِيدًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَعُودُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ التَّبْذِيرِ، كَمَا لَوْ جُنَّ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَعُودُ، لَكِنْ يُعِيدُهُ الْقَاضِي، وَلَا يُعِيدُهُ غَيْرُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ: يُعِيدُهُ الْأَبُ وَالْجَدُّ كَمَا يُعِيدُهُ الْقَاضِي. وَلَوْ عَادَ الْفِسْقُ دُونَ التَّبْذِيرِ، لَمْ يَعُدِ الْحَجْرُ قَطْعًا، وَلَا يُعَادُ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَحْجُرُوا عَلَى الْفَسَقَةِ، بِخِلَافِ الِاسْتِدَامَةِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ كَانَ ثَابِتًا، فَبَقِيَ. وَإِذَا حُجِرَ عَلَى مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ السَّفَهُ، ثُمَّ عَادَ رَشِيدًا، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَجْرُ عَلَيْهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحَجْرِ الْقَاضِي، لَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِرَفْعِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، فَفِي زَوَالِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنْ بَلَغَ رَشِيدًا. وَأَمَّا الَّذِي يَلِي أَمْرَ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ الطَّارِئِ، فَهُوَ الْقَاضِي إِنْ قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ حَجْرِ الْقَاضِي. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِيرُ مَحْجُورًا بِنَفْسِ السَّفَهِ، فَوَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، أَحَدُهُمَا الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ كَحَالِ الصِّغَرِ، وَكَمَا لَوْ بَلَغَ مَجْنُونًا. وَالثَّانِي: الْقَاضِي لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ زَالَتْ، فَلَا تَعُودُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي صُورَةِ الْجُنُونِ، وَالثَّانِي أَصَحُّ

فصل

فِي صُورَةِ السَّفَهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَزَّالِيَّ صَرَّحَ فِي «الْوَسِيطِ» وَالْوَجِيزِ بِأَنَّ عَوْدَ التَّبْذِيرِ وَحْدَهُ لَا أَثَرَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ فِي عَوْدِ الْحَجْرِ أَوْ إِعَادَتِهِ عَوْدُ الْفِسْقِ وَالتَّبْذِيرِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلِ الْأَصْحَابُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَوْدَ التَّبْذِيرِ كَافٍ فِي ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ. قُلْتُ: أَمَّا «الْوَجِيزُ» فَهُوَ فِيهِ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ، وَكَذَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ «الْوَسِيطِ» . وَفِي بَعْضِهَا حَذْفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِصْلَاحُهَا عَلَى الصَّوَابِ. وَكَذَا وُجِدَ فِي أَصْلِ الْغَزَّالِيِّ، وَقَدْ ضَرَبَ عَلَى الْأَوَّلِ وَأَصْلَحَهُ عَلَى الصَّوَابِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوْ كَانَ يُغْبَنُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ خَاصَّةً، فَهَلْ يُحْجَرُ عَلَيْهِ حَجْرٌ خَاصٌّ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ؟ وَجْهَانِ، لِبُعْدِ اجْتِمَاعِ الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ وَعَدَمِهِ فِي شَخْصٍ. فَرْعٌ الشَّحِيحُ عَلَى نَفْسِهِ جِدًّا مَعَ الْيَسَارِ، فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِيُنْفِقَ بِالْمَعْرُوفِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. فَصْلٌ فِيمَا يَصِحُّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ، وَمَا لَا يَصِحُّ وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْعُقُودُ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الضَّرَرِ الْمَالِيِّ، كَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالْإِعْتَاقِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالنِّكَاحِ، وَسَوَاءٌ اشْتَرَى بِعَيْنٍ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَفِي.

الشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ وَجْهٌ، أَنَّهُ يَصِحُّ تَخْرِيجًا مِنَ الْعَبْدِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَإِذَا بَاعَ وَأَقْبَضَ، اسْتَرَدَّ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، ضَمِنَ. وَلَوِ اشْتَرَى وَقَبَضَ، أَوِ اسْتَقْرَضَ فَتَلِفَ الْمَأْخُوذُ فِي يَدِهِ، أَوْ أَتْلَفَهُ، فَلَا ضَمَانَ لِأَنَّ الَّذِي أَقْبَضَهُ هُوَ الْمُضَيِّعُ، وَيَسْتَرِدُّ وَلِيُّهُ الثَّمَنَ إِنْ كَانَ أَقْبَضَهُ. وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ عَامَلَهُ عَالِمًا بِحَالِهِ، أَمْ جَاهِلًا لِتَقْصِيرِهِ بِالْبَحْثِ عَنْ حَالِهِ. وَلَا يَجِبُ عَلَى السَّفِيهِ أَيْضًا الضَّمَانُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ؛ لِأَنَّهُ حَجْرٌ ضُرِبَ لِمَصْلَحَتِهِ فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ لَا يَأْثَمُ، وَالسَّفِيهُ يَأْثَمُ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ. وَفِي وَجْهٍ، يَضْمَنُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ إِنْ كَانَ أَتْلَفَهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ شَاذٌّ. قُلْتُ: هَذَا إِذَا أَقْبَضَهُ الْبَائِعُ الرَّشِيدُ. فَأَمَّا إِذَا أَقْبَضَهُ السَّفِيهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ، أَوْ أَقْبَضَهُ الْبَائِعُ، وَهُوَ صَبِيٌّ أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالْقَبْضِ قَطْعًا، صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا وَفِقْهُهُ ظَاهِرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. هَذَا كُلُّهُ إِذَا اسْتَقَلَّ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَأَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْإِذْنَ، فَهُوَ لَغْوٌ وَإِنْ عَيَّنَ تَصَرُّفًا وَقَدَّرَ الْعِوَضِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَّالِيِّ: الصِّحَّةُ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ أَشَارَ إِلَى طَرْدِ الْخِلَافِ فِيهِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغْوِيِّ: لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أُذِنَ لِلصَّبِيِّ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمُ الْجُرْجَانِيُّ، وَالرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرِّرِ» وَجَزَمَ بِهِ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ وَكَّلَهُ رَجُلٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، هَلْ يَصِحُّ عَقْدُهُ لِلْمُوكَّلِ، وَفِيمَا لَوِ اتُّهِبَ أَوْ قَبِلَ الْوَصِيَّةِ لِنَفْسِهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: صِحَّةُ إِتِّهَابِهِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُرْجَانِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَلَوْ أَوْدَعَهُ إِنْسَانٌ شَيْئًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ، فَقَوْلَانِ كَمَا لَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُعَامَلَةً لَمْ يُقْبَلْ، سَوَاءٌ أَسْنَدَهُ إِلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ، كَالصَّبِيِّ. وَفِيمَا إِذَا أَسْنَدَهُ إِلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ، وَجْهٌ أَنَّهُ يَصِحُّ تَخْرِيجًا مِنَ الْمُفْلِسِ عَلَى قَوْلٍ، وَلَيْسَ شَيْءٌ. وَلَوْ أَقَرَّ بِإِتْلَافٍ أَوْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْمَالَ، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الْأَظْهَرِ كَدَيْنِ الْمُعَامَلَةِ. ثُمَّ مَا رَدَدْنَاهُ مِنْ إِقْرَارِهِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا، قَبْلُ. وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ تُوجِبُ الْقَطْعَ قُبِلَ فِي الْقَطْعِ. وَفِي الْمَالِ قَوْلَانِ كَالْعَبْدِ إِذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ. هَذَا إِنْ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ بِالْإِتْلَافِ. فَإِنْ قَبِلْنَاهُ فَهُنَا أَوْلَى. وَلَوْ أَقَرَّ بِقِصَاصٍ وَعَفَا الْمُسْتَحِقُّ عَلَى مَالٍ ثَبَتَ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ غَيْرِهِ، لَا بِإِقْرَارِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ، ثَبَتَ وَيُنْفِقُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُسْتَلْحَقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قُلْتُ: كَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ فِي كُلِّ طُرُقِهِمْ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ، وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَطْعًا. وَشَذَّ الرُّويَانِيُّ فَقَالَ فِي «الْحِلْيَةِ» : يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا شَاذٌّ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِالِاسْتِيلَادِ، لَمْ يُقْبَلْ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَيْنَ مُعَامَلَةٍ قَبْلَ الْحَجْرِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً سُمِعَتْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً، وَقُلْنَا: النُّكُولُ وَرَدُّ الْيَمِينِ كَالْبَيِّنَةِ، سُمِعَتْ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ فَلَا. الثَّالِثَةُ: يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَخُلْعُهُ، وَظِهَارُهُ، وَرُجْعَتُهُ، وَنَفْيُهُ النَّسَبَ بِاللِّعَانِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، إِذْ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَالِ. وَلَوْ كَانَ السَّفِيهُ مُطْلَقًا مَعَ حَاجَتِهِ إِلَى النِّكَاحِ، سُرِّيَ بِجَارِيَةٍ فَإِنْ تَضَجَّرَ مِنْهَا، أُبْدِلَتْ. الرَّابِعَةُ: حُكْمُهُ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالرَّشِيدِ، لَكِنْ لَا يُفَرِّقُ الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ أَحْرَمَ.

بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ، انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ. فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ، وَزَادَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ عَلَى نَفَقَتِهِ الْمَعْهُودَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي طَرِيقِهِ كَسْبٌ يَفِي بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَلِلْوَلِيِّ مَنْعُهُ. ثُمَّ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، أَنَّهُ كَالْمُحْصَرِ يَتَحَلَّلُ بِالصَّوْمِ، إِذَا قُلْنَا: لِدَمِ الْإِحْصَارِ بَدَلٌ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمَالِ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: هَذَا، وَالثَّانِي أَنَّ عَجْزَهُ عَنِ النَّفَقَةِ لَا يُلْحِقُهُ بِالْمُحْصَرِ، بَلْ هُوَ كَالْمُفْلِسِ الْفَاقِدِ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا بِلِقَاءِ الْبَيْتِ. وَإِنْ لَمْ يَزِدْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى النَّفَقَةِ الْمَعْهُودَةِ، أَوْ كَانَ يَكْتَسِبُ فِي الطَّرِيقِ مَا يَفِي بِالزِّيَادَةِ، لَمْ يَمْنَعْهُ الْوَلِيُّ، بَلْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَيْهِ، بَلْ إِلَى ثِقَةٍ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ. وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ مَفْرُوضَةٍ، كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالنَّذْرِ قَبْلَ الْحَجْرِ، لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ الْوَلِيُّ كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَالْمَنْذُورَةُ بَعْدَ الْحَجْرِ، كَالْمَنْذُورَةِ قَبْلَهُ إِنْ سَلَكْنَا بِالنَّذْرِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ، وَإِلَّا فَهِيَ كَحَجَّةِ التَّطَوُّعِ. قُلْتُ: وَلَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ الْمَفْرُوضَ بِالْجِمَاعِ، لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ وَالْقَضَاءُ. وَهَلْ يُعْطِيهِ الْوَلِيُّ نَفَقَةَ الْقَضَاءِ؟ وَجْهَانِ. حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِعَيْنِ مَالٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَفِي الذِّمَّةِ يَنْعَقِدُ. وَلَوْ حَلَفَ، انْعَقَدَتْ بِيَمِينِهِ وَيُكَفِّرُ عِنْدَ الْحِنْثِ بِالصَّوْمِ كَالْعَبْدِ. قُلْتُ: وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْمُتَوَلِّي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، فَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ إِخْرَاجُ الْكَفَّارَةِ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ كَثُرَ حِنْثُهُ، لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يُخْرِجُهَا الْوَلِيُّ، وَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ، بَلْ تَبْقَى عَلَيْهِ حَتَّى يُعْسِرَ، فَيَصُومُ إِذَا قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ فِي الْكَفَّارَةِ بِحَالِ الْأَدَاءِ. وَإِذَا قُلْنَا: بِالصَّحِيحِ أَنَّ وَاجِبَهُ الصَّوْمُ، فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى فُكَّ حَجْرُهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ قُلْنَا يُعْتَبَرُ فِي الْكَفَّارَةِ حَالُ الْأَدَاءِ، لَمْ يُجْزِئْهُ الصَّوْمُ مَعَ الْيَسَارِ. وَإِنِ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْوُجُوبِ،

فصل

فَفِي إِجْزَاءِ الصَّوْمِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُوسِرًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فِيمَنْ يَلِي أَمْرَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَكَيْفَ يَتَصَرَّفُ أَمَّا الَّذِي يَلِي، فَهُوَ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ وَصِيُّهُمَا، ثُمَّ الْقَاضِي، أَوْ مَنْ يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي. قُلْتُ: وَهَلْ يَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إِلَى ثُبُوتِ عَدَالَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِثُبُوتِ وِلَايَتِهِمَا؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّاشِيُّ، وَآخَرُونَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ، الِاكْتِفَاءُ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَهَا وِلَايَةُ الْمَالِ بَعْدَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَتُقَدَّمُ عَلَى وَصِيِّهِمَا. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّصَرُّفِ، فَالْقَوْلُ الْجُمْلِيُّ فِيهِ: كَوْنُ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ الْعَقَارَ، بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنَ التِّجَارَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِثِقَلِ الْخَرَاجِ، أَوْ جَوْرِ السُّلْطَانِ، أَوْ إِشْرَافِ الْمَوْضِعِ عَلَى الْخَرَابِ، لَمْ يَجُزْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ الدُّورَ وَالْمَسَاكِنَ، وَيَبْنِيَ بِالْآجُرِّ وَالطِّينِ دُونَ اللَّبِنِ وَالْجَصِّ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: جَوَّزَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ الْبِنَاءَ عَلَى عَادَةِ الْبَلَدِ كَيْفَ كَانَ. قَالَ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ. وَلَا يَبِيعُ عَقَارَهُ إِلَّا لِحَاجَتِهِ، مِثْلَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَا يَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ، وَقَصَّرَتْ غَلَّتُهُ عَنِ الْوَفَاءِ بِهِمَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُقْرِضْهُ، أَوْ لَمْ يَرَ الْمَصْلَحَةَ فِي الِاقْتِرَاضِ، أَوْ لِغِبْطَةٍ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلَ الْخَرَاجِ، أَوْ رَغِبَ فِيهِ شَرِيكٌ أَوْ جَارٌ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ وَهُوَ يَجِدُ مِثْلَهُ بِبَعْضِ ذَلِكَ الثَّمَنِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ نَسِيئَةً وَبِالْعَرْضِ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ. وَإِذَا بَاعَ نَسِيئَةً، زَادَ عَلَى ثَمَنِهِ نَقْدًا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ وَارْتَهَنَ بِهِ رَهْنًا وَافِيًا. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، ضَمِنَ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ إِذَا لَمْ يَرْتَهِنْ، وَكَانَ الْمُشْتَرِي مَلِيئًا، وَقَالَ: الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَذْهَبَ الْقَائِلُ بِالصِّحَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَيُجَوِّزُهُ اعْتِمَادًا عَلَى ذِمَّةِ الْمَلِيءِ. وَإِذَا بَاعَ الْأَبُ مَالَ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ نَسِيئَةً، لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَهْنٍ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي حَقِّ وَلَدِهِ. فَرْعٌ إِذَا بَاعَ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ عَقَارَ الطِّفْلِ وَرُفِعَ إِلَى الْقَاضِي، سَجَّلَ عَلَى بَيْعِهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ إِثْبَاتَ الْحَاجَةِ أَوِ الْغِبْطَةِ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ. وَفِي بَيْعِ الْوَصِيِّ وَالْأَمِينِ لَا يُسَجَّلُ إِلَّا إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْحَاجَةِ أَوِ الْغِبْطَةِ. قُلْتُ: وَفِي احْتِيَاجِ الْحَاكِمِ إِلَى ثُبُوتِ عَدَالَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِيُسَجِّلَ لَهُمَا، وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْبَيَانِ» - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَادَّعَى عَلَى الْأَبِ أَوِ الْجَدِّ بَيْعَ مَالِهِ بِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ الْيَمِينِ. وَإِنِ ادَّعَاهُ عَلَى الْوَصِيِّ أَوِ الْأَمِينِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي فِي الْعَقَارِ، وَعَلَيْهِمَا الْبَيِّنَةُ. وَفِي غَيْرِ الْعَقَارِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: كَالْعَقَارِ. وَالْفَرْقُ عُسْرُ الْإِشْهَادِ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ يَبِيعُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ وَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ وَلِيٍّ وَوَلِيٍّ، وَلَا بَيْنَ الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ. وَدَعْوَاهُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنَ الْوَلِيِّ، كَهِيَ عَلَى الْوَلَدِ. فَرْعٌ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ مَالِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَا بَيْعُ مَالِ نَفْسِهِ لَهُ، وَلِلْأَبِ وَالْجَدِّ ذَلِكَ، وَلَهُمَا

بَيْعُ مَالِ أَحَدِ الصَّغِيرَيْنِ لِلْآخَرِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، كَمَا لَوْ بَاعَ لِغَيْرِهِ. أَمْ يَكْفِي أَحَدُهُمَا؟ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي الْبَيْعِ. فَرْعٌ إِذَا اشْتَرَى الْوَلِيُّ لِلطِّفْلِ، فَلْيَشْتَرِ مِنْ ثِقَةٍ. وَحَيْثُ أُمِرَ بِالِارْتِهَانِ، لَا يَقُومُ الْكَفِيلُ مَقَامَهُ. فَرْعٌ لَا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ الْمُسْتَحَقَّ لَهُ، وَلَا يَعْفُو، وَلَا يُعْتِقُ عَبِيدَهُ، وَلَوْ كَانَ بِعِوَضٍ، وَلَا يُكَاتِبُهُمْ، وَلَا يَهِبُ أَمْوَالَهُ وَلَوْ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَلَا يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ وَلَوْ بِعِوَضٍ. وَلَوْ بَاعَ شَرِيكُهُ شِقْصًا مَشْفُوعًا، أَخَذَ أَوْ تَرَكَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ. فَإِنْ تَرَكَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَرَادَ أَخْذَهُ، لَمْ يُمَكَّنْ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ أَخَذَ لِلْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَرَادَ رَدَّهُ. وَالثَّانِي: يُمَكَّنُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَالِغًا، كَانَ لَهُ الْأَخْذُ. وَإِنْ خَالَفَ الْمَصْلَحَةَ وَالْأَخْذَ الْمُخَالِفَ لِلْمَصْلَحَةِ، لَمْ يَدْخُلْ فِي وِلَايَتِهِ، فَلَا يَفُوتُ بِتَصَرُّفِ الْوَلِيِّ. قُلْتُ: فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، فَبَلَغَ وَادَّعَى أَنَّهُ تَرَكَ الشُّفْعَةَ مِنْ غَيْرِ غِبْطَةٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرُهُ: حُكْمُهُ حُكْمُ بَيْعِ الْعَقَارِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَخْذُ أُجْرَةٍ وَلَا نَفَقَةٍ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ إِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا

وَانْقَطَعَ بِسَبَبِهِ عَنِ الْكَسْبِ، فَلَهُ أَخْذُ قَدْرِ النَّفَقَةِ. وَفِي التَّعْلِيقِ: أَنَّهُ يَأْخُذُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قَدْرِ النَّفَقَةِ، وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ. قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنِ التَّعْلِيقِ، هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» عَنْ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا، وَحَكَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا لِلْغَنِيِّ أَنْ يَأْكُلَ بِقَدْرِ أُجْرَتِهِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ، الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ مُطْلَقًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَالْقَوْلُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَسْتَبِدُّ بِالْأَخْذِ، يَأْتِي فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَلْ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَخَذَهُ كَالْمُضْطَرِّ إِذَا أَكَلَ طَعَامَ الْغَيْرِ أَمْ لَا؟ كَالْإِمَامِ إِذَا أَخَذَ الرِّزْقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا: لَا ضَمَانَ، لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ عَمَلِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَخْلِطَ مَالَهُ بِمَالِ الصَّبِيِّ وَيُؤَاكِلَهُ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: وَلِلْمُسَافِرِينَ خَلْطُ أَزْوَادِهِمْ وَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي الْأَكْلِ، قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمُسَامَحَةِ. قُلْتُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ خَلْطِ الْمُسَافِرِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» مِنْ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، ذَكَرَهُ فِي بَابِ الشَّرِكَةِ، وَدَلَائِلُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَثِيرَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَيَكْسُوَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُخْرِجَ مِنْ أَمْوَالِهِ الزَّكَاةَ وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ وَإِنْ لَمْ تُطْلَبْ، وَنَفَقَةَ الْقَرِيبِ بَعْدَ الطَّلَبِ.

فَرْعٌ إِنْ دَعَتْ ضَرُورَةُ حَرِيقٍ أَوْ نَهْبٍ إِلَى الْمُسَافَرَةِ بِمَالِهِ، سَافَرَ، وَإِلَّا، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا، لَمْ يُسَافِرْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ آمِنًا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَالْوَلِيُّ مَأْمُورٌ بِالْمَصْلَحَةِ بِخِلَافِ الْمُودَعِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ كَالْوَدِيعَةِ. قُلْتُ: لَوْ سَافَرَ بِهِ فِي الْبَحْرِ، لَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَ مَخُوفًا، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ سَلَامَتُهُ غَالِبَةً عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ إِنْ أَوْجَبْنَا رُكُوبَهُ لِلْحَجِّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ إِذَا أَجَازَ لَهُ الْمُسَافَرَةَ بِهِ، جَازَ أَنْ يَبْعَثَهُ مَعَ أَمِينٍ. فَرْعٌ لَيْسَ لِغَيْرِ الْقَاضِي إِقْرَاضُ مَالِ الصَّبِيِّ، إِلَّا عِنْدَ ضَرُورَةِ نَهْبٍ أَوْ حَرِيقٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا. وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي الْإِقْرَاضُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ. وَفِي وَجْهٍ: الْقَاضِي كَغَيْرِهِ. وَلَا يَجُوزُ إِيدَاعُهُ مَعَ إِمْكَانِ الْإِقْرَاضِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ، فَلَهُ الْإِيدَاعُ. وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُودِعُهُ الْأَمَانَةَ، وَفِي مَنْ يُقْرِضُهُ الْأَمَانَةَ وَالْيَسَارَ. وَإِذَا أَقْرَضَ وَرَأَى أَنْ يَأْخُذَ بِهِ رَهْنًا، أَخَذَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ. قُلْتُ: يُسْتَحَبُّ لِلْحَاكِمِ إِذَا حَجَرَ عَلَى السَّفِيهِ، أَنْ يُشْهِدَ عَلَى حَجْرِهِ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يُنَادِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ، نَادَى مُنَادِيهِ لِيَتَجَنَّبَ النَّاسُ مُعَامَلَتَهُ. وَحَكَى فِي «الْحَاوِي» وَ «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» عَنْ أَبِي عَلِيِّ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهًا، أَنَّهُ يَجِبُ الْإِشْهَادُ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَإِذَا كَانَ لِلصَّبِيِّ أَوِ السَّفِيهِ كَسْبٌ، أَجْبَرَهُ الْوَلِيُّ عَلَى الِاكْتِسَابِ لِيَرْتَفِقَ

بِهِ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا، حَكَاهُ فِي «الْبَيَانِ» . وَلَوْ وَجَبَ لِلسَّفِيهِ قِصَاصٌ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَيَعْفُوَ. فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ صَحَّ، وَوَجَبَ دَفْعُ الْمَالِ إِلَى وَلِيِّهِ. وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقَتْلُ يُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ لِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْهَا لَا يَصِحُّ، وَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْقِصَاصَ فَقَطْ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَلَا مَالَ. وَإِذَا مَرِضَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ مَرَضًا مَخُوفًا، لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُهُ، وَتَصَرُّفَاتُهُ فِيهِ كَتَصَرُّفِهِ فِي صِحَّتِهِ. وَحَكَى فِي «الْحَاوِي» وَجْهًا، أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ حَجْرُ الْمَرَضِ، فَيَصِحُّ عِتْقُهُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

كتاب الصلح

كِتَابُ الصُّلْحِ فَسَّرَهُ الْأَئِمَّةُ بِالْعَقْدِ الَّذِي تَنْقَطِعُ بِهِ خُصُومَةُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ، بَلْ أَرَادُوا ضَرْبًا مِنَ التَّعْرِيفِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ سَبْقِ الْمُخَاصَمَةِ غَالِبًا، ثُمَّ أَدْخَلَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْبَابِ، التَّزَاحُمَ فِي الْمُشْتَرَكِ كَالشَّوَارِعِ وَنَحْوِهَا. وَفِي الْكِتَابِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِي أَحْكَامِ الصُّلْحِ. وَقَدْ يَجْرِي بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَبَيْنَ الْمُدَّعِي وَأَجْنَبِيٍّ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَجْرِي عَلَى الْإِقْرَارِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الصُّلْحُ عَنِ الْعَيْنِ. وَهُوَ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى غَيْرِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، بِأَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا، وَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ، فَهَذَا الصِّنْفُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ، وَإِنْ عُقِدَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ. وَتَتَعَلَّقُ بِهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالشُّفْعَةِ، وَالْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ إِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ مُتَّفِقَيْنِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، وَاشْتِرَاطِ التَّسَاوِي فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ إِنْ كَانَ جِنْسًا رِبَوِيًّا، وَجَرَيَانِ التَّحَالُفِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، وَيَفْسُدُ بِالْغَرَرِ وَالْجَهْلِ، وَالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَفَسَادِ الْبَيْعِ. وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مَنْفَعَةِ دَارٍ، أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ، وَيَكُونُ هَذَا الصُّلْحُ إِجَارَةً، فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْإِجَارَةِ. الصِّنْفُ الثَّانِي: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، كَمَنْ صَالَحَ مِنَ الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى نِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا، أَوْ مِنَ الْعَبْدَيْنِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَهَذَا هِبَةُ بَعْضِ الْمُدَّعَى لِمَنْ فِي يَدِهِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْقَبُولُ وَمُضِيُّ مُدَّةِ إِمْكَانِ الْقَبْضِ. وَفِي اشْتِرَاطِ إِذْنٍ جَدِيدٍ فِي قَبْضِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ. وَيَصِحُّ بِلَفْظِ

الْهِبَةِ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا. وَفِي صِحَّتِهِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ يَتَضَمَّنُ الْمُعَاوَضَةَ. وَمُحَالٌ أَنْ يُقَابِلَ مِلْكَهُ بِبَعْضِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا لَفْظُ الصُّلْحِ، هِيَ سَبْقُ الْخُصُومَةِ، وَقَدْ حَصَلَتْ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الصِّنْفُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ. فَرْعٌ الصُّلْحُ يُخَالِفُ الْبَيْعَ فِي صُوَرٍ: إِحْدَاهَا: الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ، وَهِيَ إِذَا صَالَحَ صُلْحَ الْحَطِيطَةِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا. الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ خُصُومَةٍ: بِعْنِي دَارَكَ بِكَذَا فَبَاعَ صَحَّ. وَلَوْ قَالَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ: صَالِحْنِي عَنْ دَارِكَ هَذِهِ بِأَلْفٍ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا إِذَا سَبَقَتْ خُصُومَةٌ، وَكَأَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا لَوِ اسْتَعْمَلَا لَفْظَ الصُّلْحِ بِلَا نِيَّةٍ. فَلَوِ اسْتَعْمَلَاهُ وَنَوَيَا الْبَيْعَ، كَانَ كِنَايَةً بِلَا شَكٍّ، وَجَرَى فِيهِ الْخِلَافُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِالْكِنَايَةِ. الثَّالِثَةُ: لَوْ صَالَحَ عَنِ الْقِصَاصِ، صَحَّ وَلَا مَدْخَلَ لِلَفْظِ الْبَيْعِ فِيهِ. الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» لَوْ صَالَحْنَا أَهْلَ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى شَيْءٍ نَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، جَازَ وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ الْبَيْعُ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَفَّالُ، بِأَنَّ تِلْكَ الْمُصَالَحَةَ لَيْسَتْ مُصَالَحَةً عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّمَا نُصَالِحُهُمْ وَنَأْخُذُ مِنْهُمْ لِلْكَفِّ عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ مُخَالَفَةَ اللَّفْظَيْنِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ لَا يَجْرِي فِي أَمْثَالِ تِلْكَ الْمُصَالَحَاتِ. الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» لَوْ صَالَحَ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ عَلَى شَيْءٍ

مَعْلُومٍ، جَازَ إِذَا عَلِمَا قَدْرَ أَرْشِهَا. وَلَوْ بَاعَ لَمْ يَجُزْ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فِي افْتِرَاقِ اللَّفْظَيْنِ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْأَرْشُ مَجْهُولًا كَالْحُكُومَةِ الَّتِي لَمْ تُقَدَّرْ وَلَمْ تُضْبَطْ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ عَنْهُ وَلَا بَيْعُهُ. وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ كَالدَّرَاهِمِ إِذَا ضُبِطَتْ، صَحَّ الصُّلْحُ عَنْهَا، وَصَحَّ بَيْعُهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ دُونَ الصِّفَةِ، عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ فِي السَّلَمِ، كَالْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ فِي الدِّيَةِ، فَفِي جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهَا بِلَفْظِ الصُّلْحِ وَبِلَفْظِ الْبَيْعِ جَمِيعًا وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ كَمَنِ اشْتَرَى عَيْنًا لَمْ يَعْرِفْ صِفَتَهَا. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَصِفْهُ، هَذَا فِي الْجِرَاحَةِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِنْ أَوْجَبَتْهُ فِي النَّفْسِ، أَوْ فِيمَا دُونَهَا، فَالصُّلْحُ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ مَاذَا؟ وَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الضَّرْبُ الثَّانِي: الصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ، وَهُوَ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى عَيْنِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى. فَيَنْظُرُ، إِنْ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ أَمْوَالِ الرِّبَا عَلَى مَا يُوَافِقُهُ فِي الْعِلَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ فِي نَفْسِ الصُّلْحِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعِوَضَانِ رِبَوِيَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ عَيْنًا صَحَّ الصُّلْحُ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ دَيْنًا صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ بَعْدَ التَّعْيِينِ عَلَى الْأَصَحِّ. الصِّنْفُ الثَّانِي: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، فَهُوَ إِبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْإِبْرَاءِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، بِأَنْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْأَلْفِ الَّذِي عَلَيْكَ، أَوْ صَالَحْتُكَ عَلَى الْبَاقِي، بَرِئَ مِمَّا أَبْرَأَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ بَعِيدٍ: يُشْتَرَطُ فِيهِ، وَفِي كُلِّ إِبْرَاءٍ

وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْبَاقِي فِي الْمَجْلِسِ. وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظِ الصُّلْحِ فَقَالَ: صَالَحْتُكَ عَلَى الْأَلْفِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، فَوَجْهَانِ كَنَظِيرِهِ فِي صُلْحِ الْحَطِيطَةِ فِي الْعَيْنِ، وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: وَهَبْتُهُ لَكَ. وَالْأَصَحُّ، الِاشْتِرَاطُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِيهِ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَيَّنَةٍ جَرَى الْوَجْهَانِ. وَرَأْيُ الْإِمَامِ الْفَسَادَ هُنَا أَظْهَرُ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الصِّنْفُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، كَنَظِيرِهِ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْعَيْنِ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى أَلْفٍ حَالٍّ أَوْ عَكْسُهُ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَسْقُطُ وَلَا يُلْحَقُ. فَلَوْ عَجَّلَ مَنْ عَلَيْهِ الْمُؤَجَّلُ وَقَبِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ، سَقَطَ الْأَجَلُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الصَّحِيحِ وَالْمُكَسَّرِ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ فَبَاطِلٌ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ حَالٍّ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، فَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْمُعَاوَضَةِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مُسَامَحَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَطُّ خَمْسِمِائَةٍ. وَالثَّانِي: إِلْحَاقُ أَجَلٍ بِالْبَاقِي. وَالْأَوَّلُ شَائِعٌ، فَيَبْرَأُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ. وَالثَّانِي: وَعْدٌ لَا يَلْزَمُ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَاقِي فِي الْحَالِ. فَرْعٌ قَالَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ لِصَاحِبِهِ: تَرَكْتُ حَقِّي مِنَ التَّرِكَةِ لَكَ، فَقَالَ قَبِلْتُ، لَمْ يَصِحَّ وَيَبْقَى حَقُّهُ كَمَا كَانَ. وَلَوْ قَالَ صَالَحْتُكَ مِنْ نَصِيبِي عَلَى هَذَا الثَّوْبِ، فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ أَعْيَانًا، فَهُوَ صُلْحٌ عَنِ الْعَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ دُيُونًا عَلَيْهِ، فَهُوَ صُلْحٌ عَنِ الدَّيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا عَيْنٌ وَدَيْنٌ عَلَى الْغَيْرِ، وَلَمْ نُجَوِّزْ بَيْعَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ بَطَلَ الصُّلْحُ فِي الدَّيْنِ. وَفِي الْعَيْنِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.

فَرْعٌ لَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَخَمْسُونَ دِينَارًا، فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، لَا يَجُوزُ. وَكَذَا لَوْ مَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ وَالتَّرِكَةُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ، وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَصَالَحَهُ الْآخَرُ مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ كَانَ الْمَبْلَغُ الْمَذْكُورُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ، فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ جَازَ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُعَاوَضَةِ فِيهِ، فَيُجْعَلُ مُسْتَوْفِيًا لِأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ، وَمُعْتَاضًا عَنِ الدَّنَانِيرِ الْأَلْفَ الْآخَرَ. وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا، كَانَ الصُّلْحُ عَنْهُ اعْتِيَاضًا، فَكَأَنَّهُ بَاعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِينَارًا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ. وَهُوَ مِنْ صُوَرِ مُدِّ عَجْوَةٍ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَجْهًا فِي صُورَةِ الدَّيْنِ بِالْمَنْعِ، تَنْزِيلًا عَلَى الْمُعَاوَضَةِ. فَرْعٌ صَالَحَهُ عَنِ الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا سَنَةً، فَهُوَ إِعَادَةٌ لِلدَّارِ يَرْجِعُ فِيهَا مَتَى شَاءَ. وَإِذَا رَجَعَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً لِلْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهَا عَارِيَةٌ. وَفِي وَجْهٍ: يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ بِهِ رَفْعَ الْيَدِ عَنْهَا، وَهُوَ عِوَضٌ فَاسِدٌ، فَيَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا بِمَنْفَعَةِ عَبْدِهِ سَنَةً، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَجَّرَ دَارًا بِمَنْفَعَةِ عَبْدٍ سَنَةً. فَرْعٌ صَالَحَهُ عَنِ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، جَازَ. وَدُونَ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ كَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَنِ الزَّرْعِ مَعَ الْأَرْضِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَلَوْ كَانَ النِّزَاعُ فِي نِصْفِ الزَّرْعِ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَتَصَالَحَا عَنْهُ عَلَى شَيْءٍ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ شَرَطَا الْقَطْعَ، كَمَا لَوْ بَاعَ نِصْفَ الزَّرْعِ مَشَاعًا لَا يَصِحُّ، سَوَاءٌ شَرَطَ أَمْ لَا. النَّوْعُ الثَّانِي: الصُّلْحُ عَنِ الْإِنْكَارِ، فَيَنْظُرُ، إِنْ جَرَى عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعَى، فَهُوَ بَاطِلٌ. وَصُورَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ دَارًا مَثَلًا، فَيُنْكِرُ، ثُمَّ يَتَصَالَحَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَيْنٍ، وَلَا يَكُونُ طَلَبُ الصُّلْحِ مِنْهُ إِقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُرِيدُ قَطْعَ الْخُصُومَةِ، هَذَا إِذَا قَالَ: صَالِحْنِي مُطْلَقًا، أَوْ صَالِحْنِي عَنْ دَعْوَاكَ. بَلِ الصُّلْحُ عَنِ الدَّعْوَى لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِقْرَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْإِنْكَارِ: صَالِحْنِي عَنِ الدَّارِ الَّتِي ادَّعَيْتُهَا، فَهَلْ يَكُونُ إِقْرَارًا، كَمَا لَوْ قَالَ: مَلِّكْنِي، أَمْ لَا، لِاحْتِمَالِ قَطْعِ الْخُصُومَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَعَلَى هَذَا، يَكُونُ الصُّلْحُ بَعْدَ هَذَا الِالْتِمَاسِ صُلْحَ إِنْكَارٍ. وَلَوْ قَالَ: بِعْنِيهَا، أَوْ هَبْهَا لِي، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِقْرَارٌ. لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْتِمَاسِ التَّمْلِيكِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ كَقَوْلِهِ: صَالِحْنِي. وَمِثْلُهُ: لَوْ كَانَ النِّزَاعُ فِي جَارِيَةٍ، فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا. وَلَوْ قَالَ: أَعِرْنِي أَوْ أَجِرْنِي فَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَكُونَ إِقْرَارًا. وَلَوْ كَانَ النِّزَاعُ فِي دَيْنٍ، فَقَالَ: أَبْرِئْنِي، فَهُوَ إِقْرَارٌ. وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ، وَقُلْنَا: لَا يَفْتَقِرُ الْإِبْرَاءُ إِلَى الْقَبُولِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَصْدِيقِ الْغَرِيمِ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ. وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ بَعْدَ التَّحْلِيفِ صَحَّ، وَلَوْ تَصَالَحَا بَعْدَ التَّحْلِيفِ لَمْ يَصِحَّ. فَرْعٌ لَوْ جَرَى الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ وَهُوَ صُلْحُ الْحَطِيطَةِ فِي الْعَيْنِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْقَفَّالُ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ،

لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَزْعُمُ اسْتِحْقَاقَ الْجَمِيعِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُسَلِّمُ النِّصْفَ لَهُ بِحُكْمِ هِبَتِهِ لَهُ، وَتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ، فَبَقِيَ الْخِلَافُ فِي جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَاطِلٌ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعِي. قَالُوا: وَمَتَى اخْتَلَفَ الْقَابِضُ وَالدَّافِعُ فِي الْجِهَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ كَمَا سَبَقَ فِي الرَّهْنِ. وَالدَّافِعُ هُنَا يَقُولُ: إِنَّمَا بَذَلْتُ النِّصْفَ لِدَفْعِ الْأَذَى، حَتَّى لَا يَرْفَعَنِي إِلَى الْقَاضِي، وَلَا يُقِيمَ عَلَيَّ بَيِّنَةَ زُورٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، وَتَصَالَحَا عَلَى بَعْضِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ نُظِرَ، إِنْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مَثَلًا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ أَحْضَرَ خَمْسَمِائَةٍ وَتَصَالَحَا مِنَ الْأَلْفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهَا، فَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى صُلْحِ الْحَطِيطَةِ فِي الْعَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ، فَهُنَا أَوْلَى. وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَالْأَصَحُّ: الْبُطْلَانُ بِاتِّفَاقِهِمْ. وَالْفَرْقُ أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ، لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْمُحْضَرَ، وَفِي الصُّلْحِ عَلَيْهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ مُعَاوَضَةً مَعَ الْإِنْكَارِ. وَلَوْ تَصَالَحَا، ثُمَّ اخْتَلَفَا هَلْ تَصَالَحَا عَلَى الْإِنْكَارِ، أَمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ؟ قَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا عَقْدَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ تَنَازَعَ الْمُتَبَايِعَانِ، هَلْ عَقَدَا صَحِيحًا أَمْ فَاسِدًا. قُلْتُ: الصَّوَابُ، مَا قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَيْضًا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَصَاحِبُ «الْبَيَانِ» وَغَيْرُهُمَا. وَالْفَرْقُ أَنَّ الظَّاهِرَ وَالْغَالِبَ جَرَيَانُ الْبَيْعِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَالْغَالِبُ وُقُوعُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ: فِي الصُّلْحِ الْجَارِي بَيْنَ الْمُدِّعِي وَأَجْنَبِيٍّ، وَلَهُ حَالَانِ: الْأَوَّلُ: مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، وَقَالَ الْأَجْنَبِيُّ: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ عَلَى نِصْفِ الْمُدَّعَى، أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ مِنْ مَالِهِ، فَتَصَالَحَا عَلَيْهِ، صَحَّ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ عَنْهُ عَلَى عَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْوَكَالَةِ، صَارَ الْمُدَّعَى مِلْكًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ شِرَاءُ

الْفُضُولِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَتَفْرِيعُهُ. وَإِنْ قَالَ: أَمَرَنِي بِالْمُصَالَحَةِ عَنْهُ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ مِنْ مَالِي، فَصَالَحَهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَمَا لَوِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ بِإِذْنِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَقَدْ سَبَقَ خِلَافٌ فِي صِحَّتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا صَحَّ، هَلْ هُوَ هِبَةٌ، أَوْ قَرْضٌ؟ وَلَوْ صَالَحَ الْأَجْنَبِيُّ لِنَفْسِهِ بِعَيْنِ مَالِهِ، أَوْ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ لَهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ دَعْوَى: صَالِحْنِي مِنْ دَارِكَ عَلَى أَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْرِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ خُصُومَةً. وَالْمَذْهَبُ: الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ تَرَتَّبَ عَلَى دَعْوَى وَجَوَابٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، وَقَالَ: وَكَّلَنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُصَالَحَتِكَ عَلَى نِصْفِهِ، أَوْ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ مِنْ مَالِهِ، فَصَالَحَهُ، صَحَّ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى هَذَا الثَّوْبِ، وَهُوَ مِلْكِي، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ شَيْءٍ بَدَيْنِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ كَمَنْ ضَمِنَ دَيْنًا وَأَدَّاهُ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ: أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ صَالَحَ لِنَفْسِهِ عَلَى عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَهُوَ ابْتِيَاعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. قُلْتُ: لَوْ قَالَ: صَالِحْنِي عَنِ الْأَلْفِ الَّذِي لَكَ عَلَى فُلَانٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَائِزٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا ظَاهِرًا، فَجَاءَ أَجْنَبِيٌّ فَقَالَ: أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدِي، وَوَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُظْهِرُ إِقْرَارَهُ لِئَلَّا تَنْزِعَهُ مِنْهُ، فَصَالَحَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْإِنْسَانَ الْوَكَالَةَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةٌ. فَإِنْ قَالَ: هُوَ مُنْكِرٌ، وَلَكِنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ عَلَى عَبْدِي هَذَا، لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ صُلْحُ إِنْكَارٍ. وَالثَّانِي:

يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي شُرُوطِ الْعَقْدِ بِمَنْ يُبَاشِرُهُ وَهُمَا مُتَّفِقَانِ. هَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا، فَقِيلَ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُ الْغَيْرِ عَيْنَ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَيُمْكِنُ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَإِنْ قَالَ: هُوَ مُنْكِرٌ، وَأَنَا أَيْضًا لَا أَعْلَمُ صِدْقَكَ، وَصَالَحَهُ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ لَهُ، أَوْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ صَالَحَهُ الْمُدَّعِي وَهُوَ مُنْكِرٌ. وَإِنْ قَالَ: هُوَ مُنْكِرٌ وَمُبْطِلٌ فِي إِنْكَارِهِ، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِعَبْدِي هَذَا، أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي لِآخُذَهُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، فَهُوَ ابْتِيَاعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ عَيْنًا، فَهُوَ شِرَاءُ مَغْصُوبٍ، فَيَنْظُرُ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى انْتِزَاعِهِ وَعَجْزِهِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْحَالَيْنِ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ. وَلَوْ صَالَحَ وَقَالَ: أَنَا قَادِرٌ عَلَى انْتِزَاعِهِ، صَحَّ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ، اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الظَّاهِرِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ انْتِزَاعِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ كَاذِبًا، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ بَاطِنًا، وَفِي مُؤَاخَذَتِهِ فِي الظَّاهِرِ لِالْتِزَامِهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، حَكَمَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ بَاطِنًا، وَقَطَعْنَا بِمُؤَاخَذَتِهِ، لَكِنْ لَا تُزَالُ يَدُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ. فَرْعٌ كَالْمِثَالِ لِمَا ذَكَرْنَا، ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى وَرَثَةِ مَيِّتٍ دَارًا مِنْ تَرِكَتِهِ، وَقَالَ: غَصَبَنِيهَا، فَأَقَرُّوا لَهُ، جَازَ لَهُمْ مُصَالَحَتُهُ. فَإِنْ دَفَعُوا إِلَى بَعْضِهِمْ ثَوْبًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ لِيُصَالِحَ عَلَيْهِ جَازَ، وَكَانَ عَاقِدًا عَنْ نَفْسِهِ وَوَكِيلًا عَنِ الْبَاقِينَ. وَلَوْ قَالُوا لِوَاحِدٍ: صَالِحْهُ عَنَّا عَلَى ثَوْبِكَ، فَصَالَحَهُ عَنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ فِي الصُّلْحِ، وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ. وَإِنْ سَمَّاهُمْ، فَهَلْ تُلْغَى التَّسْمِيَةُ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ لَمْ نُلْغِهَا، وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُمْ. وَهَلِ الثَّوْبُ هِبَةٌ لَهُمْ، أَوْ قَرْضٌ عَلَيْهِمْ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ أَلْغَيْنَاهَا، فَهَلْ يَصِحُّ الصُّلْحُ كُلُّهُ لِلْعَاقِدِ، أَمْ

يَبْطُلُ فِي نَصِيبِ الشُّرَكَاءِ وَيَخْرُجُ نَصِيبُهُ عَلَى قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ صَالَحَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَالٍ لَهُ دُونَ إِذْنِ الْبَاقِينَ لِيَتَمَلَّكَ جَمِيعَ الدَّارِ، جَازَ. وَإِنْ صَالَحَ لِتَكُونَ الدَّارُ لَهُ وَلَهُمْ جَمِيعًا، لَغَا ذِكْرَهُمْ، وَعَادَ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّ الْجَمِيعَ يَقَعُ لَهُ، أَمْ يَبْطُلُ فِي نَصِيبِهِمْ. وَيَخْرُجُ نَصِيبُهُ عَلَى قَوْلَيِ الصَّفْقَةِ. فَرْعٌ أَسْلَمَ كَافِرٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَمَاتَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَالتَّعْيِينِ، وَقَفَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ. فَإِنِ اصْطَلَحْنَ عَلَى الْقِسْمَةِ عَلَى تَفَاوُتٍ أَوْ تَسَاوٍ جَازَ لِلضَّرُورَةِ. وَلَوِ اصْطَلَحْنَ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ ثَلَاثٌ مِنْهُمْ أَوْ أَرْبَعٌ الْمَالَ الْمَوْقُوفَ، وَيَبْذُلْنَ لِلْبَاقِيَاتِ عِوَضًا مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ، لَمْ يَصِحَّ. وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ، مَا لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، وَوَقَفَ لَهُمَا نَصِيبَ زَوْجَةٍ فَاصْطَلَحَتَا، وَمَا إِذَا ادَّعَى اثْنَانِ وَدِيعَةً فِي يَدِ رَجُلٍ، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لِأَيِّكُمَا هِيَ، وَمَا إِذَا تَدَاعَيَا دَارًا فِي يَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً. ثُمَّ اصْطَلَحَا. وَكَذَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَقُلْنَا بِاسْتِعْمَالِ الْبَيِّنَتَيْنِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ. إِحْدَاهَا: ادَّعَى دَارًا، فَأَقَرَّ، فَصَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ، فَخَرَجَ مُسْتَحِقًّا، أَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ، أَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، رَجَعَتِ الدَّارُ إِلَى الْأَوَّلِ. وَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا بَعْدَمَا هَلَكَ، أَوْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ، أَخَذَ مِنَ الدَّارَ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِعَبْدٍ. الثَّانِيَةُ: ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا، فَأَنْكَرَهُ، فَقَالَ الْمُدَّعِي: أُعْطِيكَ أَلْفًا وَتُقِرُّ لِي بِهَا، فَفَعَلَ، فَلَيْسَ بِصُلْحٍ، وَلَا يَلْزَمُ الْأَلْفُ، بَلْ بَذْلُهُ وَأَخْذُهُ حَرَامٌ. وَهَلْ يَكُونُ هَذَا إِقْرَارًا؟ وَجْهَانِ فِي «الْعُدَّةِ» وَ «الْبَيَانِ» . الثَّالِثَةُ: صَالَحَ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِعِوَضٍ مُعَيَّنٍ، فَوَجَدَهُ الْمُدَّعِي مَعِيبًا، فَلَهُ

رَدُّهُ، وَلَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ بَلْ يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ وَيَرْجِعُ إِلَى خُصُومَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ خَرَجَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، فَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ، فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً وَرَدَّهَا، أَوْ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهَا. الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ أَرْضًا وَبَنَاهَا مَسْجِدًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَاهَا، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي، لَزِمَهُ قِيمَتُهَا. وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَصَالَحَهُ رَجُلٌ آخَرُ، صَحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ بَذْلُ مَالٍ عَلَى جِهَةِ الْقُرْبَةِ، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وَقْفُهُ. وَالصُّلْحُ عَمَّا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، جَائِزٌ. الْخَامِسَةُ: لَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا قِيمَتُهُ دِينَارٌ، فَأَقَرَّ بِهِ، وَصَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ، فَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، كَمَنْ غَصَبَ دِينَارًا، فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْهُ بِعِوَضٍ مُؤَجَّلٍ، لَمْ يَصِحَّ. السَّادِسَةُ: سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ الصُّلْحَ عَنِ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا مُجْمَلًا، فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ وَصَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى عِوَضٍ، صَحَّ الصُّلْحُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا إِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا لَهُمَا، فَيَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَاهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ الشَّيْءَ الَّذِي نَعْرِفُهُ أَنَا وَأَنْتَ بِكَذَا، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، صَحَّ. السَّابِعَةُ: إِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَوَكَّلَ أَجْنَبِيًّا لِيُصَالِحَ كَمَا سَبَقَ، فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ التَّوْكِيلُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ. وَلَوْ فَعَلَهُ فَلَهُ التَّوْكِيلُ فِي الْمُصَالَحَةِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَيْضًا التَّوْكِيلُ. وَلَوْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ وَخَلَّفَ عَيْنًا فَادَّعَاهَا رَجُلٌ فَأَنْكَرَهُ وَلَا يَعْلَمُ صِدْقَهُ، وَخَافَ مِنَ الْيَمِينِ، جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ أَجْنَبِيًّا فِي الصُّلْحِ، لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ، حَكَاهُ فِي «الْبَيَانِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْبَابُ الثَّانِي فِي التَّزَاحُمِ عَلَى الْحُقُوقِ وَفِيهِ فُصُولٌ. الْأَوَّلُ: فِي الطَّرِيقِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: نَافِذٌ، وَغَيْرُهُ. أَمَّا النَّافِذُ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْمُرُورَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِمَا يُبْطِلُ الْمُرُورَ، وَلَا أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ جَنَاحًا، أَوْ يَتَّخِذَ عَلَى جُدْرَانِهِ سَابَاطًا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، فَلَا مَنْعَ مِنْهُمَا. وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ الضَّرَرِ وَعَدَمِهِ إِلَى حَالِ الطَّرِيقِ. فَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا لَا تَمُرُّ فِيهِ الْقَوَافِلُ وَالْفَوَارِسُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ بِحَيْثُ يَمُرُّ الْمَارُّ تَحْتَهُ مُنْتَصِبًا. وَإِنْ كَانُوا يَمُرُّونَ فِيهِ، فَلْيَكُنِ ارْتِفَاعُهُ إِلَى حَدٍّ يَمُرُّ فِيهِ الْمَحْمَلُ مَعَ الْكَنِيسَةِ فَوْقَهُ عَلَى الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ. وَلَا تُشْتَرَطُ زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا، عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَمُرُّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ مَنْصُوبَ الرُّمْحِ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى تَضْعِيفِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الرُّمْحِ عَلَى الْكَتِفِ، لَيْسَ بِعَسِيرٍ. وَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْتَحَ الْأَبْوَابَ مِنْ مِلْكِهِ إِلَى الشَّارِعِ كَيْفَ شَاءَ. وَأَمَّا نَصْبُ الدِّكَّةِ وَغَرْسُ الشَّجَرَةِ، فَإِنْ كَانَ يُضَيِّقُ الطَّرِيقَ وَيَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، مُنِعَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، كَالْجَنَاحِ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِهِمْ. وَأَصَحُّهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ: الْمَنْعُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ إِشْرَاعِ الْجَنَاحِ عَلَى شَيْءٍ، سَوَاءٌ صَالَحَ الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ ضَرَّ بِالْمَارَّةِ أَمْ لَا. وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا لَا ضَرَرَ فِيهِ، فَانْهَدَمَ، أَوْ هَدَمَهُ، فَأَشْرَعَ رَجُلٌ آخَرُ جَنَاحًا فِي مُحَاذَاتِهِ لَا تُمْكِنُ مَعَهُ إِعَادَةُ الْأَوَّلِ، جَازَ، كَمَا لَوْ قَعَدَ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهُ، يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الِارْتِفَاقُ بِهِ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْمُرْتَفَقُ بِالْقُعُودِ لِلْمُعَامَلَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِمُجَرَّدِ الزَّوَالِ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِالسَّفَرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحِرْفَةِ.

فَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يَبْطُلَ هُنَا بِمُجَرَّدِ الْهَدْمِ وَالِانْهِدَامِ، بَلْ يُعْتَبَرُ إِعْرَاضُهُ عَنْ إِعَادَتِهِ. قُلْتُ: إِنَّ مَا قَاسَهُ كَثِيرُونَ عَلَى مَا إِذَا وَقَفَ فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ فَارَقَ مُوْقِفَهُ، أَوْ قَعَدَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَرِدُ اعْتِرَاضُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَخْرَجَ جَنَاحًا تَحْتَ جَنَاحِ مَنْ يُحَاذِيهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْأَوَّلِ مَنْعُهُ، إِذْ لَا ضَرَرَ. وَلَوْ أَخْرَجَ فَوْقَ جَنَاحِ الْأَوَّلِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنْ كَانَ الثَّانِي عَالِيًا لَا يَضُرُّ بِالْمَارِّ فَوْقَ الْجَنَاحِ الْأَوَّلِ، لَمْ يُمْنَعْ، وَإِلَّا فَلَهُ مَنْعُهُ. وَلَوْ أَخْرَجَ مُقَابِلًا لَهُ، لَمْ يُمْنَعْ، إِلَّا أَنْ يُعَطِّلَ انْتِفَاعَ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ أَخَذَ أَكْثَرَ هَوَاءِ الطَّرِيقِ، لَمْ يَكُنْ لِجَارِهِ مُطَالَبَتُهُ بِتَقْصِيرِ جَنَاحِهِ وَرَدِّهِ إِلَى نِصْفِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَ إِلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ، لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي الْإِضْرَارِ الْمَمْنُوعِ إِلَّا لِلِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ. وَأَمَّا إِظْلَامُ الْمَوْضِعِ، فَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَطَائِفَةٌ: لَا يُؤَثِّرُ، وَمُقْتَضَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَلَفْظِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ تَأْثِيرُهُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ مَنْصُورٌ التَّمِيمِيُّ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» : إِنِ انْقَطَعَ الضَّوْءُ كُلُّهُ، أَثَّرَ، وَإِنْ نَقَصَ فَلَا. فَرْعٌ الشَّوَارِعُ الَّتِي فِي الْبِلَادِ، وَالْجَوَادُّ الْمُمْتَدَّةُ فِي الصَّحَارِي سَوَاءٌ، فِي أَنَّهَا مُنْفَكَّةٌ عَنِ الْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا، الْإِبَاحَةُ وَجَوَازُ الِانْتِفَاعِ، إِلَّا فِيمَا يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِهَا وَهُوَ الِاسْتِطْرَاقُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمَصِيرُ الْمَوْضِعِ شَارِعًا، لَهُ صُورَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ مِلْكَهُ شَارِعًا وَسَبِيلًا مُسَبَّلًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَجِيءَ جَمَاعَةُ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَيَتْرُكُوا مَسْلَكًا نَافِذًا بَيْنَ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ، وَيَفْتَحُوا إِلَيْهِ الْأَبْوَابَ.

ثُمَّ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ، مَا يَقْتَضِي صُورَةً ثَالِثَةً، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ مَوْضِعٌ مِنَ الْمَوَاتِ جَادَّةً يَسْتَطْرِقُهَا الرِّفَاقُ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ. وَإِنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ فِي بِنْيَاتِ الطُّرُقِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْخَوَاصُّ وَيَسْلُكُونَهَا. وَكُلُّ مَوَاتٍ يَجُوزُ اسْتِطْرَاقُهُ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ إِحْيَائِهِ وَصَرْفِ الْمَمَرِّ عَنْهُ، بِخِلَافِ الشَّوَارِعِ. قُلْتُ: قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى لَفْظٍ فِي مَصِيرِ مَا يُجْعَلُ شَارِعًا. قَالَ: وَإِذَا وَجَدْنَا جَادَّةً مُسْتَطْرَقَةً، وَمَسْلَكًا مَشْرُوعًا نَافِذًا، حَكَمْنَا بِاسْتِحْقَاقِ الِاسْتِطْرَاقِ فِيهِ بِظَاهِرِ الْحَالِ، وَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى مَبْدَإِ مَصِيرِهِ شَارِعًا. وَأَمَّا قَدْرُ الطَّرِيقِ، فَقَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِضَبْطِهِ، وَهُوَ مُهِمٌّ جِدًّا، وَحُكْمُهُ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مِنْ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يُسَبِّلُهَا صَاحِبُهَا، فَهُوَ إِلَى خَيْرَتِهِ، وَالْأَفْضَلُ تَوْسِيعُهَا. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَرَاضٍ يُرِيدُ أَصْحَابُهَا إِحْيَاءَهَا، فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ، فَذَاكَ. وَإِنِ اخْتَلَفُوا، فَقَدْرُهُ سَبْعُ أَذْرُعٍ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحَيِ» الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الطَّرِيقِ، أَنْ يُجْعَلَ عَرْضُهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ. وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ قَلَّ، يَجُوزُ عِمَارَةُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَوَاتِ، وَيَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ. وَمِنَ الْمُهِمَّاتِ الْمُسْتَفَادَةِ، أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُمْنَعُونَ مِنْ إِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ إِلَى شَوَارِعِ الْمُسْلِمِينَ النَّافِذَةِ. وَإِنْ جَازَ لَهُمُ اسْتِطْرَاقُهَا؛ لِأَنَّهُ كَإِعْلَائِهِمُ الْبِنَاءَ عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَبْلَغُ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَذَكَرَ الشَّاشِيُّ فِي جَوَازِهِ وَجْهَيْنِ. وَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ، هُدِمَ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْقِسْمُ الثَّانِي: الطَّرِيقُ الَّذِي لَا يُنْفِذُ، كَالسِّكَّةِ الْمَسْدُودَةِ الْأَسْفَلِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: إِشْرَاعُ الْجَنَاحِ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِ السِّكَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا لَهُمْ

عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ إِلَّا بِرِضَاهُمْ، سَوَاءٌ تَضَرَّرُوا، أَمْ لَا. وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَضُرَّ الْبَاقِينَ، فَإِنْ أَضَرَّ وَرَضِيَ أَهْلُ السِّكَّةِ جَازَ. وَلَوْ صَالَحُوهُ عَلَى شَيْءٍ، لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ، فَلَا يُفْرَدُ بِالْمَالِ صُلْحًا، كَمَا لَا يُفْرَدُ بِهِ بَيْعًا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي صُلْحِ صَاحِبِ الدَّارِ عَنِ الْجَنَاحِ الْمُشْرَعِ إِلَيْهَا، وَنَعْنِي بِأَهْلِ السِّكَّةِ كُلُّ مَنْ لَهُ بَابٌ نَافِذٌ إِلَيْهَا دُونَ مَنْ يُلَاصِقُ جِدَارَ دَارِ السِّكَّةِ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ بَابٍ. ثُمَّ هَلِ الِاشْتِرَاكُ فِي جَمِيعِهَا لِجَمِيعِهِمْ، أَمْ شَرِكَةُ كُلِّ وَاحِدٍ تَخْتَصُّ بِمَا بَيْنَ رَأْسِ السِّكَّةِ وَبَابِ دَارِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاخْتِصَاصُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ تَرَدُّدِهِ، وَمَا عَدَاهُ، فَهُوَ فِيهِ كَغَيْرِ أَهْلِ السِّكَّةِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ فِي مَنْعِ إِشْرَاعِ الْجَنَاحِ إِلَّا بِرِضَاهُمْ. فَإِنْ شَرَّكْنَا الْكُلَّ فِي الْكُلِّ، جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّكَّةِ الْمَنْعُ. وَإِنْ خَصَّصْنَا، فَإِنَّمَا يَجُوزُ الْمَنْعُ لِمَنْ مَوْضِعُ الْجَنَاحِ بَيْنَ بَابِهِ وَرَأْسِ الدَّرْبِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، فِي أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْمَنْعِ إِذَا أَضَرَّ الْجَنَاحُ: مَنْ هُوَ؟ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوهُ. قَوْلُ الرَّافِعِيِّ: لَمْ يَذْكُرُوهُ، مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» ، مَعَ أَنَّ مُعْظَمَ نَقْلِ الرَّافِعِيِّ مِنْهُ وَمِنَ النِّهَايَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوِ اجْتَمَعَ الْمُسْتَحِقُّونَ فَسَدُّوا رَأْسَ السِّكَّةِ، لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُمْنَعُوا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّارِعِ يَفْزَعُونَ إِلَيْهِ إِذَا عَرَضَتْ زَحْمَةٌ. وَلَوِ امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَاقِينَ السَّدُّ قَطْعًا. وَلَوْ سَدُّوا بِاتِّفَاقِهِمْ، لَمْ يَسْتَقِلَّ بَعْضُهُمْ بِالْفَتْحِ. وَلَوِ اتَّفَقُوا عَلَى قِسْمَةِ صَحْنِ السِّكَّةِ بَيْنَهُمْ، جَازَ. وَلَوْ أَرَادَ أَهْلُ رَأْسِ السِّكَّةِ قِسْمَةَ رَأْسِهَا بَيْنَهُمْ، مُنِعُوا لِحَقِّ مَنْ يَلِيهِمْ. وَلَوْ أَرَادَ الْأَسْفَلُ قِسْمَتَهُ فَوَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِيهِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَدِّ الْبَابِ وَقِسْمَةِ الصَّحْنِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي السِّكَّةِ مَسْجِدٌ. فَإِنْ كَانَ فِيهَا مَسْجِدٌ عَتِيقٌ، أَوْ جَدِيدٌ،

مُنِعُوا مِنَ السَّدِّ وَالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الِاسْتِطْرَاقَ إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ. وَعَلَى قِيَاسِهِ، لَا يَجُوزُ الْإِشْرَاعُ عِنْدَ الْإِضْرَارِ وَإِنْ رَضِيَ أَهْلُ السِّكَّةِ، لَحِقَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ. الْأَمْرُ الثَّانِي: فَتْحُ الْبَابِ، فَلَيْسَ لِمَنْ لَا بَابَ لَهُ فِي السِّكَّةِ إِحْدَاثُ بَابٍ إِلَّا بِرِضَى أَهْلِهَا كُلِّهِمْ. فَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ إِلَيْهَا بَابًا لِلِاسْتِضَاءَةِ دُونَ الِاسْتِطْرَاقِ، أَوْ أَفْتَحُهُ وَأُسَمِّرُهُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ الْكَرْخِيِّ: يُمْنَعُ. قُلْتُ: قَلَّ مَنْ بَيَّنَ الْأَصَحَّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَلِهَذَا، اقْتَصَرَ الرَّافِعِيُّ عَلَى نِسْبَةِ التَّصْحِيحِ إِلَى الْكَرْخِيِّ. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» وَالرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» وَخَالَفَهُمُ الْجُرْجَانِيُّ، وَالشَّاشِيُّ، فَصَحَّحَا الْمَنْعَ، وَهُوَ أَفْقَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ كَانَ لَهُ بَابٌ فِي السِّكَّةِ، وَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ مَا يَفْتَحُهُ أَبْعَدَ مِنْ رَأْسِ السِّكَّةِ، فَلِمَنِ الْبَابُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَ دَارِهِ وَرَأْسِ السِّكَّةِ مَنْعُهُ، وَفِيمَنْ دَارُهُ بَيْنَ الْبَابِ وَرَأْسِ السِّكَّةِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى كَيْفِيَّةِ الشَّرِكَةِ كَمَا سَبَقَ فِي الْجَنَاحِ. وَإِنْ كَانَ مَا يَفْتَحُهُ أَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ السِّكَّةِ، فَإِنْ سَدَّ الْأَوَّلَ جَازَ، وَإِلَّا فَكَمَا إِذَا كَانَ أَبْعَدَ؛ لِأَنَّ الْبَابَ الثَّانِيَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْرَثَ زِيَادَةَ زَحْمَةِ النَّاسِ وَوُقُوفِ الدَّوَابِّ، فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ. وَحَكَى فِي النِّهَايَةِ طَرِيقَةً جَازِمَةً، بِأَنْ لَا مَنْعَ لِمَنْ يَقَعُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَ دَارِهِ وَرَأْسِ السِّكَّةِ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَ لَا يَمُرُّ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَطَّرِدَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَفْتُوحُ أَبْعَدَ مِنْ رَأْسِ السِّكَّةِ. قُلْتُ: جَزَمَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» بِأَنَّهُ إِذَا فَتَحَ بَابًا آخَرَ أَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ السِّكَّةِ، وَلَمْ يَسُدَّ الْأَوَّلَ جَازَ، وَلَا مَنْعَ لِأَحَدٍ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، فَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَقْوَى. وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّافِعِيُّ - فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَفْتُوحُ أَبْعَدَ - حُكِمَ مِنْ بَابِهِ مُقَابِلَ الْمَفْتُوحِ،

لَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ، أَنَّهُ كَمَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى رَأْسِ السِّكَّةِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَتَحْوِيلُ الْمِيزَابِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، كَفَتْحِ بَابٍ وَسَدِّ بَابٍ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ لَهُ دَارَانِ، يَنْفُذُ بَابُ إِحْدَاهُمَا إِلَى الشَّارِعِ، وَالْأُخْرَى إِلَى سِكَّةٍ مُنْسَدَّةٍ، فَأَرَادَ فَتْحَ بَابٍ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ السِّكَّةِ مَنْعُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ كَانَ بَابُ كُلِّ وَاحِدَةٍ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، فَفَتَحَ مِنْ إِحْدَاهَا إِلَى الْأُخْرَى، فَفِي ثُبُوتِ الْمَنْعِ لِأَهْلِ السِّكَّتَيْنِ، الْوَجْهَانِ، قَالَهُ الْإِمَامُ. وَمَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ، مَا إِذَا سَدَّ بَابَ إِحْدَاهُمَا، وَفَتَحَ الْبَابَ لِغَرَضِ الِاسْتِطْرَاقِ. أَمَّا إِذَا قَصَدَ اتِّسَاعَ مِلْكِهِ وَنَحْوَهُ، فَلَا مَنْعَ قَطْعًا. قُلْتُ: هَذِهِ الْعِبَارَةُ فَاسِدَةٌ، فَإِنَّهَا تُوهِمُ اخْتِصَاصَ الْخِلَافِ، بِمَا إِذَا سَدَّ بَابَ إِحْدَاهُمَا، وَذَلِكَ خَطَأٌ، بَلِ الصَّوَابُ، جَرَيَانُ الْوَجْهَيْنِ إِذَا بَقِيَ الْبَابَانِ نَافِذَيْنِ، وَكُلُّ الْأَصْحَابِ مُصَرِّحُونَ بِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَرَادَ رَفْعَ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا وَجَعْلَهُمَا دَارًا وَاحِدَةً، وَيَتْرُكُ بَابَيْهِمَا عَلَى حَالِهِمَا، جَازَ قَطْعًا. وَمِمَّنْ نَقَلَ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا، الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ. فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ، إِذَا لَمْ يَقْصِدِ اتِّسَاعَ مِلْكِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ، فَإِنَّ الْوَجْهَيْنِ مَشْهُورَانِ جِدًّا. وَقَوْلُهُ الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ، تَابَعَ فِيهِ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، فَنَقَلُوا عَنِ الْجُمْهُورِ، الْمَنْعَ. بَلْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى الْمَنْعِ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ حَيْثُ مَنَعْنَا فَتْحَ الْبَابِ إِلَى السِّكَّةِ الْمُنْسَدَّةِ، فَصَالَحَهُ أَهْلُ السِّكَّةِ بِمَالٍ جَازَ، بِخِلَافِ الْجَنَاحِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ بَذْلُ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ الْهَوَاءِ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : ثُمَّ إِنْ قَدَّرُوا مُدَّةً، فَهُوَ إِجَارَةٌ. وَإِنْ أَطْلَقُوا، أَوْ شَرَطُوا التَّأْبِيدَ، فَهُوَ بَيْعُ جُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ السِّكَّةِ، وَتَنْزِيلٌ لَهُ مَنْزِلَةَ أَحَدِهِمْ. كَمَا لَوْ صَالَحَ رَجُلًا عَلَى مَالٍ لِيُجْرِيَ فِي أَرْضِهِ نَهْرًا، كَانَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لِلنَّهْرِ. وَلَوْ صَالَحَهُ بِمَالٍ عَلَى فَتْحِ بَابٍ مِنْ دَارِهِ إِلَى دَارِهِ، صَحَّ، وَيَكُونُ كَالصُّلْحِ عَنْ إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى سَطْحِهِ، وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الدَّارِ وَالسَّطْحِ؛ لِأَنَّ السِّكَّةَ لَا تُرَادُ إِلَّا لِلِاسْتِطْرَاقِ، فَإِثْبَاتُ الِاسْتِطْرَاقِ فِيهَا يَكُونُ نَقْلًا لِلْمِلْكِ. وَأَمَّا الدَّارُ وَالسَّطْحُ، فَلَا يُقْصَدُ بِهِمَا الِاسْتِطْرَاقُ وَإِجْرَاءُ الْمَاءِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ كَانَتْ دَارُهُ فِي آخِرِ السِّكَّةِ الْمُنْسَدَّةِ، فَأَرَادَ نَقْلَ بَابِهَا إِلَى الْوَسَطِ، وَيَجْعَلُ مَا بَيْنَ الْبَابِ وَأَسْفَلِ السِّكَّةِ دِهْلِيزًا، فَإِنْ شَرَّكْنَا الْجَمِيعَ فِي جَمِيعِ السِّكَّةِ، كَانَ لِلْبَاقِينَ مَنْعُهُ، وَإِلَّا فَلَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: فَتْحُ الْمَنَافِذِ وَالْكُوَّاتِ لِلِاسْتِضَاءَةِ، وَلَا مَنْعَ مِنْهُ بِحَالٍ، لِمُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ، بَلْ لَهُ إِزَالَةُ رَفْعِ الْجِدَارِ، وَجَعْلِ شُبَّاكٍ مَكَانَهُ. فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ فَتَحَ مَنْ لَا بَابَ لَهُ فِي السِّكَّةِ الْمُنْسَدَّةِ بَابًا بِرِضَى أَهْلِهَا، كَانَ لِأَهْلِهَا الرُّجُوعُ مَتَى شَاءُوا، وَلَا يَلْزَمُهُمْ بِالرُّجُوعِ شَيْءٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعَارَ الْأَرْضَ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ ثُمَّ رَجَعَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْلَعُهُ مَجَّانًا. وَهَذَا لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا فَرْقَ.

فَرْعٌ قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِذَا كَانَ بَيْنَ دَارَيْهِ طَرِيقٌ نَافِذٌ، فَحَفَرَ تَحْتَهُ سِرْدَابًا مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، وَأَحْكَمَهُ بِالْأَزَجِ لَمْ يُمْنَعْ. قَالَ: وَبِمِثْلِهَا أَجَابَ الْأَصْحَابُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ نَافِذًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ دُخُولُ هَذَا الزُّقَاقِ، كَاسْتِطْرَاقِ الدَّرْبِ النَّافِذِ. قَالَ: وَغَلِطَ مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى الشَّارِعِ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ. وَاعْتَذَرَ الْإِمَامُ عَنْ جَوَازِ دُخُولِهَا بِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِبَاحَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ - فِيمَا كَانَ الطَّرِيقُ نَافِذًا - صَحِيحٌ. وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا تَجْوِيزُهُ ذَلِكَ - فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّرِيقُ نَافِذًا - وَنَقْلُهُ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْحَابِ، فَضَعِيفٌ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ، وَلَعَلَّهُ وَجَدَهُ فِي كِتَابٍ أَوْ كِتَابَيْنِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ مِثْلَ هَذَا كَثِيرًا. وَكَيْفَ كَانَ، فَهَذَا الْحُكْمُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْأَصْحَابَ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الطَّرِيقَ فِي السِّكَّةِ الْمَسْدُودَةِ مِلْكٌ لِأَصْحَابِ السِّكَّةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا سَدَّهَا وَجَعْلَهَا مَسَاكِنَ، جَازَ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مِلْكُهُمْ، فَالْقَرَارُ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ كَمَا يَتْبَعُهَا الْهَوَاءُ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْجَنَاحِ فَوْقَ أَرْضِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، كَذَا السِّرْدَابُ تَحْتَهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْجِدَارِ الْجِدَارُ بَيْنَ الْمَالِكَيْنِ قِسْمَانِ.

الْأَوَّلُ: الْمُخْتَصُّ. فَهَلْ لِلْجَارِ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ؟ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: نَعَمْ. وَيُجْبَرُ الْمَالِكُ إِنِ امْتَنَعَ، وَالْجَدِيدُ: لَا، وَلَا يُجْبَرُ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: هُوَ الْجَدِيدُ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَصْحِيحِهِ، صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» ، وَالْجُرْجَانِيُّ، وَالشَّاشِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَعَلَى الْقَدِيمِ: إِنَّمَا يُجْبَرُ بِشُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَحْتَاجَ مَالِكُ الْجِدَارِ إِلَى وَضْعِ جُذُوعٍ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَزِيدَ الْجَارُ فِي ارْتِفَاعِ الْجِدَارِ، وَلَا يَبْنِي عَلَيْهِ أَزَجًا، وَلَا يَضَعُ عَلَيْهِ مَا يَضُرُّ الْجِدَارَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَمْلِكَ شَيْئًا مِنْ جُدْرَانِ الْبُقْعَةِ الَّتِي يُرِيدُ تَسْقِيفَهَا، أَوْ لَا يَمْلِكُ إِلَّا جِدَارًا، فَإِنْ مَلَكَ جِدَارَيْنِ، فَلْيَسْقُفْ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُ صَاحِبِ الْجِدَارِ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْإِمَامُ هَذَا الشَّرْطَ هَكَذَا. بَلْ قَالَ: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْجَوَانِبِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْبَيْتِ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ، وَيَحْتَاجُ رَابِعًا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكُلُّ لِلْغَيْرِ، فَلَا يَضَعُ قَوْلًا وَاحِدًا. قَالَ: وَلَمْ يَعْتَبِرْ بَعْضُ الْأَصْحَابِ هَذَا الشَّرْطَ، وَاعْتُبِرَ فِي «التَّتِمَّةِ» مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَحَكَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا جَانِبًا أَوْ جَانِبَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ: مَا قَدَّمْنَاهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَى الْمَالِكِ. فَإِنْ رَضِيَ بِلَا عِوَضٍ، فَهُوَ عَارِيَةٌ، يَرْجِعُ فِيهَا قَبْلَ وَضْعِ الْجُذُوعِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا قَطْعًا، وَبَعْدَهُ، عَلَى الْأَصَحِّ كَسَائِرِ الْعَوَارِي. وَإِذَا رَجَعَ، لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَلْعِهِ مَجَّانًا. وَفِي فَائِدَةِ رُجُوعِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَبْقَى بِأَجْرِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُقْلَعَ، وَيَضْمَنُ أَرْشَ النَّقْصِ، كَمَا لَوْ أَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ. لَكِنْ فِي إِعَارَةِ الْأَرْضِ خَصْلَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ تَمَلُّكُ الْبِنَاءِ بِقِيمَتِهِ، وَلَيْسَ لِمَالِكِ الْجِدَارِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَتْبِعَ الْبِنَاءَ، وَالْجِدَارُ تَابِعٌ فَيُسْتَتْبَعُ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْأُجْرَةُ، وَلَا يَمْلِكُ الْقَلْعَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْقَلْعِ يَصِلُ إِلَى مَا هُوَ خَالِصُ مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ،

لِأَنَّ الْجُذُوعَ إِذَا رُفِعَتْ أَطْرَافُهَا، لَمْ تَسْتَمْسِكْ عَلَى الْجِدَارِ الْبَاقِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ أَصْلًا، وَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْقَلْعُ، وَلَا طَلَبُ الْأُجْرَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِعَارَةِ، يُرَادُ بِهَا التَّأْبِيدُ، فَأَشْبَهَ الْإِعَارَةَ لِدَفْنِ مَيِّتٍ، فَإِنَّهُ لَا يُنْبَشُ وَلَا أُجْرَةَ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ رَفَعَ الْجُذُوعَ صَاحِبُهَا، أَوْ سَقَطَتْ بِنَفْسِهَا، لَمْ يَمْلِكْ إِعَادَتَهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ جَدِيدٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَكَذَا لَوْ سَقَطَ الْجِدَارُ فَبَنَاهُ مَالِكُهُ بِتِلْكَ الْآلَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ تَنَاوَلُ مَرَّةٍ. فَإِنْ بَنَاهُ بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ إِلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ جِدَارٌ آخَرُ. قُلْتُ: الْخِلَافُ فِي جَوَازِ الْإِعَادَةِ بِلَا إِذْنٍ. فَلَوْ مَنَعَهُ الْمَالِكُ، لَمْ يُعِدْ بِلَا خِلَافٍ، إِذْ لَا ضَرَرَ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» . وَأَشَارَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَوْ صَرَّحَ بِجَرَيَانِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ مَنْعِهِ، فَقَالَ فِي وَجْهٍ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ لِأَنَّهُ صَارَ لَهُ حَقٌّ لَازِمٌ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا وُضِعَ أَوَّلًا بِإِذْنٍ. فَلَوْ مُلِّكَا دَارَيْنِ، وَرَأَيَا خَشَبًا عَلَى الْجِدَارِ، وَلَا يُعْلَمُ كَيْفَ وُضِعَ، فَإِذَا سَقَطَ الْحَائِطُ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ، مِنْ إِعَادَةِ الْجُذُوعِ بِلَا خِلَافٍ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَ «الشَّامِلِ» وَآخَرُونَ، لِأَنَّا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ وُضِعَ بِحَقٍّ، وَشَكَكْنَا فِي الْمُجَوِّزِ لِلرُّجُوعِ. وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ نَقْضَهُ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَهْدَمًا، جَازَ، وَحُكْمُ إِعَادَةِ الْجُذُوعِ مَا سَبَقَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَهْدَمًا، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ نَقْضِهِ قَطْعًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. أَمَّا إِذَا رَضِيَ بِعِوَضٍ، فَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ أَوِ الْإِجَارَةِ، وَسَنَتَكَلَّمُ فِيهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى الْمَالِ، لَمْ يَجُزْ عَلَى قَوْلِ الْإِجْبَارِ؛ لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ، لَا يَجُوزُ أَخْذُ عِوَضٍ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا لَا، جَازَ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنِ الْجَنَاحِ؛ لِأَنَّهُ هَوَاءٌ مُجَرَّدٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُشْتَرَكُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتِدًا، أَوْ يَفْتَحَ

فِيهِ كُوَّةً، أَوْ يُتَرِّبَ الْكِتَابَ بِتُرَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ، لَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالِانْتِفَاعِ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ الِانْتِفَاعِ، ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا وَضْعَ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ، فَفِي إِجْبَارِ شَرِيكِهِ، الْقَوْلَانِ، كَالْجَارِ وَأَوْلَى. وَالثَّانِي: مَا لَا تَقَعُ فِيهِ الْمُضَايَقَةُ مِنَ الِانْتِفَاعَاتِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِقْلَالُ بِهِ، كَالِاسْتِنَادِ وَإِسْنَادِ الْمَتَاعِ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ فِي الْجِدَارِ الْخَالِصِ لِلْجَارِ مِثْلُهُ، وَهُوَ كَالِاسْتِضَاءَةِ بِسِرَاجِ الْغَيْرِ، وَالِاسْتِظْلَالِ بِجِدَارِهِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ. وَلَوْ مَنَعَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِنَ الِاسْتِنَادِ، فَهَلْ يَمْتَنِعُ؟ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ عِنَادٌ مَحْضٌ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَمْتَنِعُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي، مَا إِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ جِدَارًا مُتَّصِلًا بِالْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ، بِحَيْثُ لَا يَقَعُ ثِقَلُهُ عَلَيْهِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: قِسْمَتُهُ، إِمَّا فِي كُلِّ الطُّولِ وَنِصْفِ الْعَرْضِ، وَإِمَّا فِي نِصْفِ الطُّولِ وَكُلِّ الْعَرْضِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالطُّولِ: ارْتِفَاعُهُ عَنِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سُمْكٌ، وَإِنَّمَا طُولُ الْجِدَارِ: امْتِدَادُهُ مِنْ زَاوِيَةِ الْبَيْتِ إِلَى زَاوِيَتِهِ الْأُخْرَى مَثَلًا، وَالْعَرْضُ: هُوَ الْبُعْدُ الثَّالِثُ، فَإِذَا كَانَ طُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعًا، فَقِسْمَتُهُ فِي كُلِّ الطُّولِ وَنِصْفِ الْعَرْضِ: أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفَ ذِرَاعٍ مِنَ الْعَرْضِ فِي طُولِ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ. وَقِسْمَتُهُ بِالْعَكْسِ: أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ طُولًا فِي عَرْضِ ذِرَاعٍ، أَوْ أَيِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ جَازَ. لَكِنْ كَيْفَ يُقَسَّمُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُعَلَّمُ بِعَلَامَةٍ وَخَطٍّ يُرْسَمُ. وَالثَّانِي: يُشَقُّ وَيُنْشَرُ بِالْمِنْشَارِ. وَيَنْطَبِقُ عَلَى هَذَا الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ: أَنَّهُمَا لَوْ طَلَبَا مِنَ الْحَاكِمِ الْقِسْمَةَ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، لَمْ يُجِبْهُمَا، لَأَنَّ شَقَّ الْجِدَارِ فِي الطُّولِ إِتْلَافٌ لَهُ، وَتَضْيِيعٌ،

وَلَكِنَّهُمَا يُبَاشِرَانِهَا بِأَنْفُسِهِمَا إِنْ شَاءَا، وَهُوَ كَمَا لَوْ هَدَمَاهُ، وَاقْتَسَمَا النَّقْضَ. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ، نُظِرَ إِنْ طَلَبَ النَّوْعَ الْأَوَّلَ، لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ. وَقِيلَ: يُجَابُ وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ، لَكِنْ لَا يُقْسَمُ بِالْقُرْعَةِ، بَلْ يُخَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِيهِ. وَإِنْ طَلَبَ النَّوْعَ الثَّانِيَ، لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. أَمَّا إِذَا انْهَدَمَ الْجِدَارُ وَظَهَرَتِ الْعَرْصَةُ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَرْصَةُ جِدَارٍ لَمْ يُبْنَ عَلَيْهَا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهَا بِالنَّوْعِ الثَّانِي، يُجَابُ قَطْعًا. وَإِنْ طَلَبَهَا بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ قُلْنَا فِي الْجِدَارِ: إِنَّ طَالِبَ مِثْلِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ يُجَابُ، وَيُخَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِالشِّقِّ الَّذِي يَلِيهِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، فَكَذَا هُنَا. وَإِنْ قُلْنَا هُنَاكَ: لَا يُجَابُ، فَهُنَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: الْإِجَابَةُ. وَإِذَا بَنَى الْجِدَارَ وَأَرَادَ تَعْرِيضَهُ، زَادَ فِيهِ مِنْ عَرْضِ بَيْتِهِ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الْعِمَارَةُ، فَإِذَا هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ لِاسْتِهْدَامِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّصَّ إِجْبَارُ الْهَادِمِ عَلَى إِعَادَتِهِ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ: أَنَّهُ يُغَرَّمُ نَقْضَهُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ لَيْسَ مِثْلِيًّا. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَطَائِفَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، فِيمَا إِذَا اسْتَهْدَمَ، فَهَدَمَهُ أَحَدُهُمَا بِلَا إِذْنٍ، طَرِيقَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِإِجْبَارِهِ عَلَى إِعَادَةِ مِثْلِهِ. وَالثَّانِي: فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي الِإِجْبَارِ ابْتِدَاءً، أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ إِعَادَةُ مِثْلِهِ، وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ. وَقَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ (ثَمَرَةِ الْحَائِطِ يُبَاعُ أَصْلُهُ) بِأَنَّ مَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ عُدْوَانًا، يَلْزَمُهُ أَرْشُ مَا نَقَصَ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِنَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ، وَالْمَذْهَبُ مَا نُصَّ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوِ انْهَدَمَ الْجِدَارُ بِنَفْسِهِ، أَوْ هَدَمَاهُ مَعًا لِاسْتِهْدَامِهِ أَوْ غَيَّرَهُ، وَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا

مِنَ الْعِمَارَةِ، فَقَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: إِجْبَارُهُ عَلَيْهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَصِيَانَةً لِلْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ عَنِ التَّعْطِيلِ. وَالْجَدِيدُ: لَا إِجْبَارَ، كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى زَرْعِ الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ أَيْضًا بِتَكْلِيفِهِ الْعِمَارَةَ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي النَّهْرِ، وَالْقَنَاةِ، وَالْبِئْرِ الْمُشْتَرَكَةِ، إِذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنَ التَّنْقِيَةِ وَالْعِمَارَةِ. قُلْتُ: لَمْ يُبَيِّنِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ الْأَظْهَرَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، هُوَ جَدِيدٌ. مِمَّنْ صَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ: الْمَحَامِلِيُّ، وَالْجُرْجَانِيُّ، وَصَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» وَغَيْرُهُمْ. وَصَحَّحَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» الْقَدِيمَ، وَأَفْتَى بِهِ الشَّاشِيُّ. وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : الْأَقْيَسُ، أَنْ يُجْبَرَ. وَقَالَ: وَالِاخْتِيَارُ إِنْ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّ امْتِنَاعَهُ مُضَارَّةً أَجْبَرَهُ، وَإِنْ كَانَ لِإِعْسَارٍ أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ يُجْبَرْ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي قَالَهُ، وَإِنْ كَانَ أَرْجَحَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْإِجْبَارِ، فَالْمُخْتَارُ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ: أَنْ لَا إِجْبَارَ مُطْلَقًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ كَانَ عُلُوُّ الدَّارِ لِوَاحِدٍ، وَسُفْلُهَا لِآخَرَ، فَانْهَدَمَتْ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ إِجْبَارُ صَاحِبِ الْعُلُوِّ عَلَى مُعَاوَنَتِهِ فِي إِعَادَةِ السُّفْلِ وَهَلْ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ إِجْبَارُ صَاحِبِ السُّفْلِ عَلَى إِعَادَتِهِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا انْهَدَمَ، أَوْ هُدِمَا، فَلَا شَرْطَ. أَمَّا لَوِ اسْتَهْدَمَ، فَهَدَمَهُ صَاحِبُ السُّفْلِ بِشَرْطِ الْإِعَادَةِ، فَيُجْبَرُ قَطْعًا. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ، فِيمَا إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا اتِّخَاذَ سُتْرَةٍ بَيْنَ سَطْحَيْهِمَا، هَلْ يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ؟ قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا دُولَابٌ وَتَشَعَّثَ وَاحْتَاجَ إِلَى إِصْلَاحِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَأَصَرَّ الْمُمْتَنِعُ، أَنْفَقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، اقْتَرَضَ عَلَيْهِ، أَوْ أَذِنَ الشَّرِيكُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ. فَلَوِ اسْتَقَلَّ بِهِ لِلشَّرِيكِ، فَلَا رُجُوعَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: نَعَمْ. وَالْجَدِيدُ: لَا. وَقِيلَ: يَرْجِعُ فِي الْقَدِيمِ. وَفِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ عِنْدَ الْبِنَاءِ مُرَاجَعَةُ الْحَاكِمِ رَجَعَ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ إِذَا بَنَاهُ، إِنْ كَانَ بِالْآلَةِ الْقَدِيمَةِ، فَالْجِدَارُ بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَ. وَالسُّفْلُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى لِصَاحِبِهِ كَمَا كَانَ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ نَقْضُهُ وَلَا مَنْعُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ. وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَالْمُعَادُ مِلْكُهُ، وَلَهُ نَقْضُهُ. فَلَوْ قَالَ الشَّرِيكُ: لَا تَنْقُضْ وَأَغْرَمُ لَكَ نِصْفَ الْقِيمَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّقْضُ، لِأَنَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نُجْبِرُ الْمُمْتَنِعَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْعِمَارَةِ، فَالِاسْتِدَامَةُ أَوْلَى. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَأَرَادَ الطَّالِبُ الِانْفِرَادَ بِالْعِمَارَةِ، نُظِرَ، إِنْ أَرَادَهَا بِالنَّقْضِ الْمُشْتَرَكِ، أَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ إِعَادَةَ السُّفْلِ بِنَقْضِ صَاحِبِ الْأَسْفَلِ، أَوْ بِآلَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَلِلْآخَرِ مَنْعُهُ. وَإِنْ أَرَادَ بِنَاءَهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ لِيَصِلَ إِلَى حَقِّهِ. ثُمَّ الْمَعَادُ مِلْكُهُ، يَضَعُ عَلَيْهِ مَا شَاءَ، وَيَنْقُضُهُ إِذَا شَاءَ. فَلَوْ قَالَ شَرِيكُ الْجِدَارِ: لَا تَنْقُضْ لِأَغْرَمَ لَكَ نِصْفَ الْقِيمَةِ، أَوْ قَالَ صَاحِبُ السُّفْلِ: لَا تَنْقُضْ لِأَغْرَمَ لَكَ الْقِيمَةَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِجَابَتُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَابْتِدَاءِ الْعِمَارَةِ. وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ السُّفْلِ: انْقُضْ مَا أَعَدْتَهُ لِابْنِيَهُ بِآلَةِ نَفْسِي. فَإِنْ كَانَ طَالَبَهُ بِالْبِنَاءِ، فَامْتَنَعَ، لَمْ يُجْبِرْهُ، وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ وَقَدْ بَنَى عُلُوَّهُ، لَمْ يُجَبْ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ السُّفْلَ بِالْقِيمَةِ، ذَكَرَهُ فِي

«التَّهْذِيبِ» ، وَإِنْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهِ الْعُلُوَّ، أُجِيبَ صَاحِبُ السُّفْلِ، وَمَتَى بَنَى بِآلَةِ نَفْسِهِ، فَلَهُ مَنْعُ صَاحِبِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمُعَادِ، بِفَتْحِ كُوَّةٍ وَغَرْزِ وَتِدٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ صَاحِبِ السُّفْلِ مِنَ السُّكُونِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْعَرْصَةَ مِلْكُهُ. وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَى الْبِئْرِ وَالنَّهْرِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الشَّرِيكِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ مَنْعُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالدُّولَابِ وَالْبَكَرَةِ الْمُحْدَثَيْنِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمُمْتَنِعِ عَلَى الْجِدَارِ الْمُنْهَدِمِ جُذُوعٌ، فَأَرَادَ إِعَادَتَهَا بَعْدَ أَنْ بَنَاهُ الطَّالِبُ بِآلَةِ نَفْسِهِ، لَزِمَهُ تَمْكِينُهُ، أَوْ نَقَضَ مَا أَعَادَ لِيَبْنِيَ مَعَهُ الْمُمْتَنِعُ، وَيُعِيدُ جُذُوعَهُ. فَرْعٌ لَوْ تَعَاوَنَا عَلَى إِعَادَةِ الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ بِنَقْضِهِ، بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ. فَلَوْ شَرَطَا زِيَادَةً لِأَحَدِهِمَا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يَصِحُّ، لِتَرَاضِيهِمَا. فَلَوِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْبِنَاءِ بِالنَّقْضِ الْمُشْتَرَكِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهُ الثُّلُثَانِ، جَازَ، وَيَكُونُ السُّدُسُ الزَّائِدُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَاسْتَدْرَكَ الْإِمَامُ فَقَالَ: هَذَا مُصَوَّرٌ فِيمَا إِذَا شَرَطَ لَهُ سُدُسَ النَّقْضِ فِي الْحَالِ، لِتَكُونَ الْأُجْرَةُ عَتِيدَةً. فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ السُّدُسَ الزَّائِدَ لَهُ بَعْدَ الْبِنَاءِ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُؤَجَّلُ. وَلَوْ بَنَاهُ أَحَدُهُمَا بِآلَةِ نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْآخَرِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ثُلُثَا الْجِدَارِ لَهُ، فَقَدْ قَابَلَ ثُلُثَ الْآلَةِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، وَعَمَلُهُ فِيهِ بِسُدُسِ الْعَرْصَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا. وَفِي صِحَّةِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ قَوْلَانِ، لِجَمْعِهَا بَيْعًا وَإِجَارَةً. وَشَرْطُ صِحَّتِهَا: مَعْرِفَةُ الْآلَاتِ وَصِفَةِ الْجِدَارِ، وَيَعُودُ النَّظَرُ فِي شَرْطِ ثُلُثِ النَّقْضِ فِي الْحَالِ، أَوْ بَعْدَ الْبِنَاءِ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ لَهُ حَقُّ إِجْرَاءِ مَاءٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَانْهَدَمَ، لَمْ يَجِبْ عَلَى مُسْتَحِقِّ الْإِجْرَاءِ

مُشَارَكَتُهُ فِي الْعِمَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْآلَاتِ وَهِيَ لِمَالِكِهَا. وَإِنْ كَانَ الِانْهِدَامُ بِسَبَبِ الْمَاءِ، فَلَا عِمَارَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ، أَنْ لَا عِمَارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِانْهِدَامَ تَوَلَّدَ مِنْ مُسْتَحِقٍّ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي السَّقْفِ فَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ، وَالْعُلُوُّ لِرَجُلٍ، فَقَدْ يَكُونُ السَّقْفُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا مُشْتَرَكًا، وَقَدْ يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا. وَحُكْمُ الْقِسْمَيْنِ فِي الِانْتِفَاعِ، يُخَالِفُ حُكْمَهُمَا فِي الْجِدَارِ، فَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ، الْجُلُوسُ وَوَضْعُ الْأَثْقَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَلِصَاحِبِ السُّفْلِ الِاسْتِكْنَانُ بِهِ، وَتَعْلِيقُ مَا لَيْسَ لَهُ ثِقَلٌ يَتَأَثَّرُ بِهِ السَّقْفُ، كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ قَطْعًا. وَفِي غَيْرِهِ، أَوْجُهٌ. أَحُدُهَا: لَا يَجُوزُ أَصْلًا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ وَتِدٍ فِي السَّقْفِ. وَأَصَحُّهَا: يَجُوزُ مُطْلَقًا عَلَى الْعَادَةِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى وَتِدٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ إِثْبَاتُ الْوَتِدِ وَالتَّعْلِيقُ فِيهِ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ غَرْزُ الْوَتِدِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيهِ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ لَهُ، فَفِي جَوَازِهِ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ وَجْهَانِ، لِنُدُورِ حَاجَتِهِ، بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ. فَرْعٌ إِذْنُ الْمَالِكِ لِغَيْرِهِ فِي الْبِنَاءِ عَلَى مِلْكِهِ، قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهُوَ الْإِعَارَةُ، وَقَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ. فَمِنْ صُوَرِهِ، أَنْ يُكْرِيَ أَرْضَهُ، أَوْ رَأْسَ جِدَارِهِ، أَوْ سَقْفَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَيَجُوزُ، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ سَائِرِ الْإِجَارَاتِ. وَمِنْهَا أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ، وَيُبَيِّنُ الثَّمَنَ، وَهُوَ صَحِيحٌ، خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ثُمَّ يُتَصَوَّرُ

ذَلِكَ بِعِبَارَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَبِيعَ سَطْحَ الْبَيْتِ أَوْ عُلُوَّهُ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَ حَقَّ الْبِنَاءِ عَلَى مِلْكِهِ. وَالْأُولَى هِيَ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ. وَالثَّانِيَةُ: عِبَارَةُ الْإِمَامِ، وَالْغَزَّالِيِّ، - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تَعَالَى. وَالْأَشْبَهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ. ثُمَّ فِي حَقِيقَةِ هَذَا الْعَقْدِ، أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا أَنَّهُ بَيْعٌ وَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي بِهِ مَوَاضِعَ رُءُوسِ الْجُذُوعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِجَارَةٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يُشْرَطْ تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ تُتْبَعُ فِيهِ الْحَاجَةُ. فَإِذَا اقْتَضَتِ التَّأْبِيدَ أُبِّدَ كَالنِّكَاحِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا وَلَا إِجَارَةً مَحْضَيْنِ، بَلْ فِيهِ شِبْهُهُمَا، لِكَوْنِهِ عَلَى مَنْفَعَةٍ، لَكِنَّهَا مُؤَبَّدَةٌ. فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ بَيْعًا، فَعَقَدَهُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُدَّةٍ، انْعَقَدَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُوَافِقُ الْبَيْعَ فِي التَّأْبِيدِ، يُوَافِقُهَا فِي الْمَنْفَعَةِ. وَإِذَا جَرَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ، وَبَنَى الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُكَلِّفَهُ النَّقْصَ لِيَغْرَمَ لَهُ أَرْشَ النَّقْضِ. وَلَوِ انْهَدَمَ الْجِدَارُ أَوِ السَّقْفُ بَعْدَ بِنَاءِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ وَإِعَادَةِ مَالِكِهِ، فَلِلْمُشْتَرِي إِعَادَةُ الْبِنَاءِ بِتِلْكَ الْآلَاتِ أَوْ بِمِثْلِهَا. وَلَوِ انْهَدَمَ قَبْلَ الْبِنَاءِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْبِنَاءُ عَلَيْهِ إِذَا أَعَادَهُ. وَهَلْ يُجْبِرُهُ عَلَى إِعَادَتِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَلَوْ هَدَمَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَوْ غَيْرُهُ السُّفْلَ قَبْلَ بِنَاءِ الْمُشْتَرِي، فَعَلَى الْهَادِمِ قِيمَةُ حَقِّ الْبِنَاءِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّهِ. فَلَوْ أُعِيدَ السُّفْلُ، اسْتَرَدَّ الْهَادِمُ الْقِيمَةَ لِزَوَالِ الْحَيْلُولَةِ. وَلَوْ كَانَ الْهَدْمُ بَعْدَ الْبِنَاءِ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَنْ هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ، يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ، لَزِمَهُ إِعَادَةُ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ. وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ أَرْشُ النَّقْصِ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِ الْآلَاتِ، وَقِيمَةُ حَقِّ الْبِنَاءِ لِلْحَيْلُولَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَنْفَسِخُ هَذَا الْعَقْدُ بِعَارِضِ هَدْمٍ وَانْهِدَامٍ، لِالْتِحَاقِهِ بِالْبُيُوعِ. فَرْعٌ سَوَاءٌ جَرَى الْإِذْنُ فِي الْبِنَاءِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، يَجِبُ بَيَانُ قَدْرِ الْمَوْضِعِ الْمَبْنِيِّ

فصل

عَلَيْهِ طُولًا وَعَرْضًا، وَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى الْجِدَارِ أَوِ السَّطْحِ، بَيَانُ سُمْكِ الْبِنَاءِ وَطُولِهِ وَعَرْضِهِ، وَكَوْنُ الْجُدْرَانِ مِنْضَدَةٌ أَوْ خَالِيَةُ الْأَجْوَافِ، وَكَيْفِيَّةُ السَّقْفِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ. وَفِي وَجْهٍ: يَكْفِي إِطْلَاقُ ذِكْرِ الْبِنَاءِ، وَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِوَزْنِ مَا يَبْنِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْآلَاتُ حَاضِرَةً، أَغْنَتْ مُشَاهَدَتُهَا عَنْ كُلِّ وَصْفٍ. وَإِذَا أَذِنَ فِي الْبِنَاءِ عَلَى أَرْضِهِ، لَمْ يَجِبْ ذِكْرُ سُمْكِ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ. فَرْعٌ ادَّعَى بَيْتًا فِي يَدِ رَجُلٍ، فَأَقَرَّ، وَتَصَالَحَا عَلَى أَنْ يَبْنِيَ الْمُقِرُّ عَلَى سَطْحِهِ، جَازَ وَقَدْ أَعَارَهُ الْمُقِرُّ لَهُ سَطْحَ بَيْتِهِ لِلْبِنَاءِ. وَلَوْ تَنَازَعَا فِي سُفْلِهِ، وَاتَّفَقَا عَلَى كَوْنِ الْعُلُوِّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَقَرَّ لَهُ بِمَا ادَّعَى، وَتَصَالَحَا عَلَى أَنْ يَبْنِيَ الْمُدَّعِي عَلَى السَّطْحِ، وَيَكُونُ السُّفْلُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، جَازَ، وَذَلِكَ بَيْعُ السُّفْلِ بِحَقِّ الْبِنَاءِ عَلَى الْعُلُوِّ. فَصْلٌ مَنِ احْتَاجَ إِلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ مِنْ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ، أَوْ إِجْرَاءِ مَاءٍ فِي أَرْضِ رَجُلٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِجْبَارُ صَاحِبِ السَّطْحِ وَالْأَرْضِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ: أَنَّهُ يُجْبَرُ، وَهُوَ شَاذٌّ. فَإِنْ أُذِنَ فِيهِ بِإِجَارَةٍ، أَوْ إِعَارَةٍ، أَوْ بَيْعٍ جَازَ. ثُمَّ فِي السَّطْحِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمَاءُ، وَالسُّطُوحُ الَّتِي يَنْحَدِرُ الْمَاءُ إِلَيْهِ مِنْهَا. وَلَا بَأْسَ بِالْجَهْلِ بِقَدْرِ مَاءِ الْمَطَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ، وَهَذَا عَقْدُ جَوْزٍ لِلْحَاجَةِ. وَإِذَا أَذِنَ وَبَيَّنَ، ثُمَّ بَنَى عَلَى سَطْحِهِ مَا يَمْنَعُ الْمَاءَ، فَإِنْ كَانَ عَارِيَةً، فَهُوَ

رُجُوعٌ، وَإِنْ كَانَ بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً، فَلِلْمُشْتَرِي أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ نَقْبُ الْبِنَاءِ وَإِجْرَاءُ الْمَاءِ فِيهِ. وَأَمَّا فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَا حَاجَةَ فِي الْعَارِيَةِ إِلَى بَيَانٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا شَاءَ رَجَعَ، وَالْأَرْضُ تَحْتَمِلُ مَا تَحْتَمِلُ. وَإِنْ أًجِرَ وَجَبَ بَيَانُ مَوْضِعِ السَّاقِيَةِ وَطُولِهَا وَعَرْضِهَا وَعُمْقِهَا، وَقَدَّرَ الْمُدَّةَ. قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ السَّاقِيَةِ مَحْفُورَةً. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ، لَا يَمْلِكُ الْحَفْرَ. وَإِنْ بَاعَ، وَجَبَ بَيَانُ الطُّولِ وَالْعَرْضِ. وَفِي الْعُمْقِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ، يَمْلِكُ مَوْضِعَ الْمَجْرَى، أَمْ لَا يَمْلِكُ إِلَّا حَقَّ الْإِجْرَاءِ؟ وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ. هَذَا إِذَا كَانَ لَفْظُ الْبَيْعِ: بِعْتُكَ مَسِيلَ الْمَاءِ. فَإِنْ قَالَ: حَقُّ مَسِيلِ الْمَاءِ، فَهُوَ كَبَيْعِ حَقِّ الْبِنَاءِ، وَيَجِئُ فِي حَقِيقَةِ الْعَقْدِ مَا سَبَقَ فِي بَيْعِ حَقِّ الْبِنَاءِ. وَفِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، لَيْسَ لَهُ دُخُولُ الْأَرْضِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ تَنْقِيَةَ النَّهْرِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَرْضِهِ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ النَّهْرِ. فَرْعٌ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ، لَيْسَ لَهُ إِلْقَاءُ الثَّلْجِ، وَلَا أَنْ يَتْرُكَ الثَّلْجَ حَتَّى يَذُوبَ وَيَسِيلَ إِلَيْهِ، وَلَا أَنْ يُجْرِيَ فِيهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ ثِيَابَهُ وَأَوَانِيَهُ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى تَرْكِ الثُّلُوجِ عَلَى سَطْحِهِ وَلَا إِجْرَاءِ الْغَسَّالَاتِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ. وَفِي الْأَوَّلِ، ضَرَرٌ ظَاهِرٌ. وَفِي الثَّانِي، جَهَالَةٌ. وَالْمَأْذُونُ لَهُ فِي إِلْقَاءِ الثَّلْجِ، لَيْسَ لَهُ إِجْرَاءُ الْمَاءِ. فَرْعٌ تَجُوزُ الْمُصَالَحَةُ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي حُشِّ غَيْرِهِ عَلَى مَالٍ، وَكَذَا عَلَى جَمْعِ الزِّبْلِ

وَالْقُمَامَةِ فِي مِلْكِهِ، وَهِيَ إِجَارَةٌ يُرَاعَى فِيهَا شَرَائِطُهَا، وَكَذَا الْمُصَالَحَةُ عَلَى الْبَيْتُوتَةِ عَلَى سَطْحٍ. فَلَوْ بَاعَ مُسْتَحِقُّ الْبَيْتُوتَةِ مَنْزِلَهُ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيتَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا بَاعَ مُسْتَحِقُّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى غَيْرِهِ مُدَّةَ [بَقَاءِ] دَارِهِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَحِقُّ الْإِجْرَاءَ بَقِيَّةَ الْمَدَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِجْرَاءَ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ، بِخِلَافِ الْبَيْتُوتَةِ. فَرْعٌ لَوْ خَرَجَتْ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ إِلَى هَوَاءِ مِلْكِ جَارِهِ، فَلِلْجَارِ مُطَالَبَتُهُ بِإِزَالَتِهَا. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلَهُ تَحْوِيلُهَا عَنْ مِلْكِهِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، فَلَهُ قَطْعُهَا، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنِ الْقَاضِي، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى إِبْقَائِهَا بِعِوَضٍ، لَمْ يَصِحَّ إِنْ لَمْ يَسْتَنِدِ الْغُصْنُ إِلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْهَوَاءِ. وَإِنِ اسْتَنَدَ إِلَى جِدَارٍ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْجَفَافِ، جَازَ، وَإِنْ كَانَ رَطِبًا، فَلَا؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُ ثِقَلِهِ وَضَرَرِهِ. فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: يَجُوزُ، وَمَا يُنَمَّى يَكُونُ تَابِعًا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَانْتِشَارُ الْعُرُوقِ، كَانْتِشَارِ الْأَغْصَانِ. وَكَذَلِكَ مَيْلُ الْجِدَارِ إِلَى هَوَاءِ الْجَارِ، قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي التَّنَازُعِ فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلَيْنِ دَارًا فِي يَدِهِمَا، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، ثَبَتَ لَهُ النِّصْفُ بِإِقْرَارِ الْمُصَدِّقِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَذِّبِ. فَلَوْ صَالَحَ الْمُدَّعِي الْمُقِرَّ عَلَى مَالٍ، وَأَرَادَ الْمُكَذِّبُ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ.

أَحَدُهُمَا، قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَجَمَاعَةٍ: إِنْ مَلَكَاهَا فِي الظَّاهِرِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ. وَإِنْ مَلِكَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، مِنْ إِرْثٍ، أَوْ شِرَاءٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الدَّارَ لَيْسَتْ لِلْمُدَّعِي، وَأَنَّ الصُّلْحَ بَاطِلٌ. وَأَصَحُّهُمَا: يَأْخُذُ، لِأَنَّا حَكَمْنَا فِي الظَّاهِرِ بِصِحَّةِ الصُّلْحِ. وَلَا يَبْعُدُ انْتِقَالُ مِلْكِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ وَإِنْ مُلِّكَا بِسَبَبٍ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي، قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنِ اقْتَصَرَ الْمُكَذِّبُ عَلَى قَوْلِهِ: لَا شَيْءَ لَكَ فِي يَدِي، أَوْ لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ، أَخَذَ. وَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: وَهَذِهِ الدَّارُ وَرِثْنَاهَا، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَهَذَا الطَّرِيقُ أَقْرَبُ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَرِثْنَاهَا، لَا يَقْتَضِي بَقَاءَ نَصِيبِ الشَّرِيكِ فِي مِلْكِهِ، بَلْ يَجُوزُ انْتِقَالُهُ إِلَى الْمُدَّعِي. فَالِاخْتِيَارُ: أَنْ يَقْطَعَ بِجَوَازِ الْأَخْذِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الشَّرِيكَ مَالِكٌ فِي الْحَالِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ، هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ قَطَعَ بِهِ هَكَذَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ادَّعَى رَجُلَانِ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ، فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِهَا، نُظِرَ، إِنِ ادَّعَيَاهَا إِرْثًا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِقَبْضٍ، شَارَكَ صَاحِبَهُ فِيمَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ مُشْتَرَكَةٌ، فَالْحَاصِلُ مِنْهَا مُشْتَرَكٌ. وَإِنْ قَالَا: وَرِثْنَاهَا وَقَبَضْنَاهَا، ثُمَّ غَصَبْنَاهَا، لَمْ يُشَارِكْهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. فَإِنِ ادَّعَيَا مِلْكًا بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا: اشْتَرَيْنَا مَعًا، فَلَا مُشَارَكَةَ. وَإِنْ قَالَا: اشْتَرَيْنَا مَعًا، أَوِ اتَّهَبْنَا مَعًا، وَقَبَضْنَا مَعًا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَالْإِرْثِ. وَالثَّانِي: لَا مُشَارَكَةَ. فَلَوْ لَمْ يَتَعَرَّضَا لِسَبَبِ الْمِلْكِ، فَلَا مُشَارَكَةَ قَطْعًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَحَيْثُ شَرَّكْنَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَصَالَحَ الْمُصَدِّقُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ صَحَّ، وَإِلَّا فَبَاطِلٌ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ. وَفِي نَصِيبِهِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْمُقَرِّ بِهِ

لِتَوَافُقَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوِ ادَّعَيَا دَارًا فِي يَدِهِ، فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِجَمِيعِهَا، فَإِنْ وُجِدَ مِنَ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الدَّعْوَى مَا يَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا لِصَاحِبِهِ، بِأَنْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ بَيْنَنَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، شَارَكَهُ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى دَعْوَى النِّصْفِ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ بَعْدَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْكُلِّ: الْجَمِيعُ لِي، سُلِّمَ الْجَمِيعُ لَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ ادِّعَائِهِ النِّصْفَ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَاقِي لَهُ، وَلَعَلَّهُ ادَّعَى النِّصْفَ، لِكَوْنِ الْبَيِّنَةِ مَا تُسَاعِدُهُ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ يَخَافُ الْجُحُودَ الْكُلِّيَّ. وَإِنْ قَالَ: النِّصْفُ الْآخَرُ لِصَاحِبِي، سُلِّمَ لِصَاحِبِهِ. وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا لِرَفِيقِهِ، فَهَلْ يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَمْ يَحْفَظُهُ الْقَاضِي، أَمْ يُسَلَّمُ إِلَى رَفِيقِهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: أَوَّلُهَا. الثَّالِثَةُ: تَدَاعَيَا جِدَارًا حَائِلًا بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَائِهِ، فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ لَبِنَاتِ الْجِدَارِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فِي جِدَارِهِ الْخَاصِّ، وَنِصْفُ جِدَارِهِ الْخَاصِّ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الزَّوَايَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ أَزَجٌ لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْجِدَارِ بِتَمَامِهِ، بِأَنْ أُمِيلَ مِنْ مَبْدَأِ ارْتِفَاعِهِ عَنِ الْأَرْضِ قَلِيلًا. وَإِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُهُ، حَلَفَ وَحُكِمَ لَهُ بِالْجِدَارِ، إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى خِلَافِهِ. وَلَا يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ بِوُجُودِ التَّرْصِيفِ الْمَذْكُورِ فِي مَوَاضِعَ مَعْدُودَةٍ مِنْ طَرَفِ الْجِدَارِ، لِإِمْكَانِ إِحْدَاثِهِ بَعْدَ بِنَاءِ الْجِدَارِ بِنَزْعِ لَبِنَةٍ وَنَحْوِهَا، وَإِدْرَاجِ أُخْرَى. وَلَوْ كَانَ الْجِدَارُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مَبْنِيًّا عَلَى خَشَبَةٍ طَرَفُهَا فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي مِلْكِ الْآخَرِ، فَالْخَشَبَةُ لِمَنْ طَرَفُهَا فِي مِلْكِهِ، وَالْجِدَارُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهَا تَحْتَ يَدِهِ ظَاهِرًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَخْلُو مِنَ احْتِمَالٍ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُمَا، فَهُوَ فِي أَيْدِيهِمَا، فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً، قُضِيَ لَهُ، وَإِلَّا فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ. فَإِذَا حَلَفَا، أَوْ نَكَلَا، جُعِلَ الْجِدَارُ بَيْنَهُمَا بِظَاهِرِ الْيَدِ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ،

قُضِيَ لِلْحَالِفِ بِالْجَمِيعِ. وَهَلْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى النِّصْفِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ، أَمْ عَلَى الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ ادَّعَاهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَا أَنْظُرُ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ الدَّوَاخِلُ وَالْخَوَارِجُ، وَلَا أَنْصَافُ اللَّبِنِ، وَلَا مَعَاقِدُ الْقُمَطِ، مَعْنَاهُ: لَا أُرَجِّحُ بِشَيْءٍ مِنْهَا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لِكَلَامِهِ: الْمُرَادُ بِالْخَوَارِجِ: الصُّوَرُ، وَالْكِتَابَةُ الْمُتَّخَذَةُ فِي ظَاهِرِ الْجِدَارِ. وَبِالدَّوَاخِلِ: الطَّاقَاتُ، وَالْمَحَارِيبُ فِي بَاطِنِ الْجِدَارِ. وَبِأَنْصَافِ اللَّبِنِ: أَنْ يَكُونَ الْجِدَارُ مِنْ لَبِنَاتٍ مُقَطَّعَةٍ، فَتُجْعَلُ الْأَطْرَافُ الصِّحَاحُ إِلَى جَانِبٍ، وَمَوَاضِعُ الْكَسْرِ إِلَى جَانِبٍ. وَمَعَاقِدُ الْقُمَطِ، تَكُونُ فِي الْجِدَارِ الْمُتَّخَذِ مِنْ قَصَبٍ أَوْ حَصِيرٍ وَنَحْوِهِمَا. وَأَغْلَبُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ، فِي السَّتْرِ بَيْنَ السُّطُوحِ، فَيُشَدُّ بِحِبَالٍ، أَوْ خُيُوطٍ. وَرُبَّمَا جُعِلَ عَلَيْهَا خَشَبَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْوَجْهُ الْمُسْتَوِي مِنْ جَانِبٍ. وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ، لَمْ يُرَجَّحْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَا دَارًا فِي يَدِهِمَا وَلِأَحَدِهِمَا فِيهَا مَتَاعٌ، فَإِذَا حَلَفَا، بَقِيَتِ الْجُذُوعُ بِحَالِهَا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا وُضِعَتْ بِحَقٍّ. الرَّابِعَةُ: السَّقْفُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ سُفْلِ أَحَدِهِمَا وَعُلُوٍّ الْآخَرِ، كَالْجِدَارِ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَإِذَا تَدَاعَيَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْعُلُوِّ كَالْأَزَجِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ عَقْدُهُ عَلَى وَسَطِ الْجِدَارِ بَعْدَ امْتِدَادِهِ فِي الْعُلُوِّ، جُعِلَ فِي يَدِ صَاحِبِ السُّفْلِ، لِاتِّصَالِهِ بِبِنَائِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْصِيفِ. وَإِنْ أَمْكَنَ بِأَنْ يَكُونَ السَّقْفُ عَالِيًا، فَيُثْقَبُ وَسَطُ الْجِدَارِ، وَتُوضَعُ رُءُوسُ الْجُذُوعِ فِي الثُّقْبِ، فَيَصِيرُ الْبَيْتُ بَيْتَيْنِ، فَهُوَ فِي أَيْدِيهِمَا، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ. الْخَامِسَةُ: عُلُوُّ الْخَانِ أَوِ الدَّارِ لِأَحَدِهِمَا، وَالسُّفْلُ لِلْآخَرِ، وَتَنَازَعَا فِي الْعَرْصَةِ أَوِ الدِّهْلِيزِ. فَإِنْ كَانَ الْمَرْقَى فِي الصَّدْرِ، جُعِلَتْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَدًا، وَتَصَرُّفًا

بِالِاسْتِطْرَاقِ وَوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَكَانَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لِلْعُلُوِّ إِلَّا الْمَمَرُّ، وَتُجْعَلُ الرَّقَبَةُ لِلسُّفْلِ. لَكِنْ لَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَصْحَابِ. وَإِنْ كَانَ الْمَرْقَى فِي الدِّهْلِيزِ أَوِ الْوَسَطِ، فَمِنْ أَوَّلِ الْبَابِ إِلَى الْمَرْقَى، بَيْنَهُمَا، وَفِيمَا وَرَاءَهُ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لِصَاحِبِ السُّفْلِ، لِانْقِطَاعِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ عَنْهُ، وَاخْتِصَاصِ صَاحِبِ السُّفْلِ يَدًا وَتَصَرُّفًا. وَالثَّانِي: بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعُلُوِّ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ بِوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ، وَطَرْحِ الْقُمَامَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمَرْقَى خَارِجًا، فَلَا تَعَلُّقَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ بِالْعَرْصَةِ بِحَالٍ. وَلَوْ تَنَازَعَا الْمَرْقَى وَهُوَ دَاخِلٌ، فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا كَالسُّلَّمِ الَّذِي يُوضَعُ وَيُرْفَعُ، فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، فَهُوَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي غُرْفَةٍ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ، فَفِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا فِي مَوْضِعِ الْمَرْقَى، فَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ، لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهِ إِلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ خَيْرَانَ: أَنَّهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ كَسَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَقَّى مُثْبَتًا فِي مَوْضِعِهِ، كَالسُّلَّمِ الْمُسَمَّرِ، وَالْأَخْشَابِ الْمَعْقُودَةِ، فَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ، لِعَوْدِ نَفْعِهِ إِلَيْهِ. وَكَذَا إِنْ كَانَ مَبْنِيًّا مِنْ لَبِنٍ أَوْ آجُرٍّ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ شَيْءٌ. فَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ بَيْتٌ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ السُّقُوفِ. وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ مَوْضِعَ حَبٍّ أَوْ جَرَّةٍ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَمَا لَوْ كَانَ تَحْتَهُ بَيْتٌ.

كتاب الحوالة

كِتَابُ الْحَوَالَةِ أَصْلُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ اسْتُحِبَّ أَنْ يُحْتَالَ. وَلَا بُدَّ فِي وُجُودِهَا مِنْ سِتَّةِ أُمُورٍ: مُحِيلٌ، وَمُحْتَالٌ، وَمُحَالٌ عَلَيْهِ، وَدَيْنٌ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ، وَدَيْنٌ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَمُرَاضَاةٌ بِالْحَوَالَةِ بَيْنَ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ. وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا أُمُورٌ. مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الدَّيْنَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَشْخَاصِ الثَّلَاثَةِ. وَفِي حَقِيقَةِ الْحَوَالَةِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا اسْتِيفَاءُ حَقٍّ، كَأَنَّ الْمُحْتَالَ اسْتَوْفَى مَا كَانَ لَهُ عَلَى الْمُحِيلِ وَأَقْرَضَهُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ. إِذْ لَوْ كَانَتْ مُعَاوَضَةً، لَمَا جَازَ فِيهَا التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا كَانَا رِبَوِيَّيْنِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا بَيْعٌ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ؛ لِأَنَّهَا تَبْدِيلُ مَالٍ بِمَالٍ. وَعَلَى هَذَا، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَيْعُ عَيْنٍ بِعَيْنٍ، وَإِلَّا، فَيَبْطُلُ، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَاسْتُثْنِيَ هَذَا لِلْحَاجَةِ. قَالَ الْإِمَامُ وَشَيْخُهُ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: لَا خِلَافَ فِي اشْتِمَالِ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ: الِاسْتِيفَاءُ وَالِاعْتِيَاضُ، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّ أَيَّهُمَا أَغْلَبُ؟ أَمَّا شُرُوطُهَا فَثَلَاثَةٌ. الْأَوَّلُ: الرِّضَى، فَلَا تَصِحٌّ إِلَّا بِرِضَى الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ. وَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلْمُحِيلِ، لَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، لَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ رِضَاهُ قَطْعًا. وَبِإِذْنِهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا اعْتِيَاضٌ أَمِ اسْتِيفَاءٌ، إِنْ قُلْنَا: اسْتِيفَاءٌ، صَحَّ، وَإِلَّا، فَلَا. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْرَأُ الْمُحِيلُ بِنَفْسِ الْحَوَالَةِ كَسَائِرِ الْحَوَالَاتِ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَبْرَأُ، بَلْ قَبُولُهُ ضَمَانٌ مُجَرَّدٌ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْحَوَالَةُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَطَوَّعَ وَأَدَّاهُ، كَانَ قَضَاءٌ لِدَيْنِ غَيْرِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ، فَهُوَ كَمَا لَوْ ضَمِنَ، فَيَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ إِنْ أَدَّى بِإِذْنِهِ، وَكَذَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِجَرَيَانِ الْحَوَالَةِ بِإِذْنِهِ، وَفِي رُجُوعِهِ قَبْلَ

الْأَدَاءِ، وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى بَرَاءَةِ الْمُحِيلِ. إِنْ قُلْنَا: يَبْرَأُ، فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ بِالْأَدَاءِ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ بِتَخْلِيصِهِ. وَهَلْ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ مُطَالَبَةِ الْمُحْتَالِ؟ وَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِي مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ. وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْمُحْتَالُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُحِيلِ بِشَيْءٍ. وَلَوْ قَبَضَهُ الْمُحْتَالُ ثُمَّ وَهَبَهُ لَهُ، فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهَانِ. قُلْتُ أَصَحُّهُمَا: الرُّجُوعُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ ضَمِنَ عَنْهُ ضَامِنٌ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُحِيلِ حَتَّى يَأْخُذَ الْمُحْتَالُ مِنْهُ، أَوْ مِنْ ضَامِنِهِ. وَلَوْ أَحَالَ الْمُحْتَالُ عَلَى غَيْرِهِ، نُظِرَ، إِنْ أَحَالَهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، رَجَعَ عَلَى مُحِيلِهِ بِنَفْسِ الْحَوَالَةِ، لِحُصُولِ الْأَدَاءِ بِهَا. وَإِنْ أَحَالَ عَلَى مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، لَمْ يَرْجِعْ (مَا لَمْ يَرْجِعْ) عَلَيْهِ الَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّضَى شَرْطٌ. وَالْمُرَادُ بِهِ: الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ. وَلَوْ قَالَ الْمُحْتَالُ: أَحِلْنِي. فَقَالَ: أَحَلْتُكَ، فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي مِثْلِهِ فِي الْبَيْعِ. وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ هُنَا قَطْعًا؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الرِّفْقِ وَالْمُسَامَحَةِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دَيْنًا لَازِمًا، أَوْ مَصِيرُهُ إِلَى اللُّزُومِ. وَالدَّيْنُ، ضَرْبَانِ. لَازِمٌ، وَغَيْرُهُ. أَمَّا غَيْرُهُ، فَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: الثَّمَنُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ وَعَلَيْهِ، عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ مَنَعْنَا، فَفِي انْقِطَاعِ الْخِيَارِ بِهِ، وَجْهَانِ. وَإِنْ جَوَّزْنَا، فَقَطَعَ الْإِمَامُ وَالْغَزَّالِيُّ: بِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ. فَلَوِ اتَّفَقَ فَسْخُ الْبَيْعِ، بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا صَحَّتْ لِإِفْضَاءِ الْبَيْعِ إِلَى اللُّزُومِ. فَإِذَا لَمْ يَفْضِ، لَمْ تَصِحَّ. وَمَنْقُولُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَاخْتِيَارِهِ، بُطْلَانُ

الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْحَوَالَةِ اللُّزُومُ. فَلَوْ بَقِيَ الْخِيَارُ، فَاتَ مُقْتَضَاهَا، فَإِنْ أَبْطَلْنَا، فَأَحَالَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى ثَالِثٍ، بَطَلَ خِيَارُهُمَا، لِتَرَاضِيهِمَا. وَإِذَا أَحَالَ الْبَائِعُ رَجُلًا عَلَى الْمُشْتَرِي، لَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي إِلَّا إِذَا فُرِضَ مِنْهُ قَوْلٌ وَرِضًى. وَأَمَّا الْحَوَالَةُ بِالثَّمَنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، وَقَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، فَالْمَذْهَبُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: الْقَطْعُ بِجَوَازِهَا. وَلِلْمَسْعُودِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْعِهَا، لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ. وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ اشْتِرَاطُ اسْتِقْرَارِ مَا يُحَالُ بِهِ وَعَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا أَحَالَ السَّيِّدُ عَلَى مُكَاتِبِهِ بِالنُّجُومِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: يَصِحُّ. وَلَوْ أَحَالَ الْمُكَاتِبُ سَيِّدَهُ بِالنُّجُومِ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَلَوْ كَانَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ دَيْنُ مُعَامَلَةٍ، فَأَحَالَ عَلَيْهِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَجَّزَ نَفْسَهُ، هَلْ يَسْقُطُ ذَلِكَ الدَّيْنُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، صَحَّتْ، وَإِلَّا فَلَا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثَةُ: مَالُ الْجَعَالَةِ. الْقِيَاسُ أَنْ يَجِيءَ فِي الْحَوَالَةِ بِهِ وَعَلَيْهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الرَّهْنِ بِهِ وَفِي ضَمَانِهِ. وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِجَوَازِهَا بِهِ وَعَلَيْهِ بَعْدَ الْعَمَلِ، وَمَنْعِهَا قَبْلَهُ. قُلْتُ: قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ أَحَالَ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ السَّاعِيَ، جَازَ إِنْ قُلْنَا: هِيَ اسْتِيفَاءٌ. وَإِنْ قُلْنَا: اعْتِيَاضٌ فَلَا، لِامْتِنَاعِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنِ الزَّكَاةِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الدَّيْنُ اللَّازِمُ، فَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِهِ وَعَلَيْهِ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ الدَّيْنَانِ فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ، أَوِ اخْتَلَفَا، بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ثَمَنًا، وَالْآخَرُ أُجْرَةً، أَوْ قَرْضًا، أَوْ بَدَلَ مُتْلِفٍ.

فصل

قُلْتُ: أَطْلَقَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ، أَنَّ الدَّيْنَ اللَّازِمَ، تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ وَعَلَيْهِ، وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِالْغَزَّالِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ دَيْنَ السَّلَمِ لَازِمٌ، وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ وَلَا عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَحُكِيَ وَجْهٌ فِي «الْحَاوِي» وَ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا اسْتِيفَاءٌ، وَسَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ حُكْمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: الدَّيْنُ الْمُسْتَقِرُّ، لِيَخْرُجَ هَذَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ كُلُّ دَيْنٍ تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِهِ وَعَلَيْهِ، فَسَوَاءٌ كَانَ مِثْلِيًّا كَالْأَثْمَانِ وَالْحُبُوبِ، أَوْ مُتَقَوَّمًا كَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ. وَفِي وَجْهٍ: يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مِثْلِيًّا. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِقَدْرِ مَا يُحَالُ بِهِ وَعَلَيْهِ، وَبِصِفَتِهِمَا، إِلَّا إِذَا أَحَالَ بِإِبِلِ الدِّيَةِ أَوْ عَلَيْهَا، وَصَحَّحْنَا الْحَوَالَةَ فِي الْمَنْقُولَاتِ، فَوَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْمُصَالَحَةِ وَالِاعْتِيَاضِ عَنْهَا. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، لِلْجَهْلِ بِصِفَتِهَا. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: اتِّفَاقُ الدَّيْنَيْنِ، فَيُشْتَرَطُ اتِّفَاقُهُمَا جِنْسًا، وَقَدْرًا، وَحُلُولًا، وَتَأْجِيلًا، وَصِحَّةً، وَتَكَسُّرًا، وَجَوْدَةً، وَرَدَاءَةً وَفِي وَجْهٍ: تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ، وَبِالصَّحِيحِ عَلَى الْمُكَسَّرِ، وَبِالْجَدِيدِ عَلَى الرَّدِئِ، وَبِالْمُؤَجَّلِ عَلَى الْحَالِّ، وَبِالْأَبْعَدِ أَجَلًا عَلَى الْأَقْرَبِ، وَكَأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالزِّيَادَةِ. وَالصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَمَعْنَى قَوْلِنَا: هَذِهِ الْحَوَالَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَحَوَّلُ مِنَ الدَّرَاهِمِ إِلَى الدَّنَانِيرِ مَثَلًا، لَكِنَّهَا لَوْ جَرَتْ فَهِيَ حَوَالَةٌ عَلَى مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَسَبَقَ حُكْمُهَا. فَصْلٌ الْحَوَالَةُ إِذَا جَرَتْ بِشُرُوطِهَا، بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ دَيْنِ الْمُحْتَالِ، وَتَحَوَّلَ الْحَقُّ إِلَى

ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَبَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْمُحِيلِ. حَتَّى لَوْ أَفْلَسَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَمَاتَ، أَوْ لَمْ يَمُتْ، أَوْ جَحَدَ وَحَلَفَ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُحِيلِ، كَمَا لَوْ أَخَذَ عِوَضًا عَنِ الدَّيْنِ ثُمَّ تَلِفَ فِي يَدِهِ. فَلَوْ شَرَطَ فِي الْحَوَالَةِ الرُّجُوعَ بِتَقْدِيرِ الْإِفْلَاسِ، أَوِ الْجُحُودِ، فَهَلْ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ وَالشَّرْطُ، أَمِ الْحَوَالَةُ فَقَطْ؟ أَمْ لَا يَصِحَّانِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، هَذَا إِذَا طَرَأَ الْإِفْلَاسُ. فَلَوْ كَانَ مُفْلِسًا حَالَ الْحَوَالَةِ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُحْتَالِ، سَوَاءٌ شُرِطَ يَسَارُهَ، أَمْ أُطْلِقَ. وَفِي وَجْهٍ: يَثْبُتُ خِيَارُهُ فِي الْحَالَيْنِ، وَفِي وَجْهٍ: يَثْبُتُ إِنْ شَرَطَ فَقَطْ. وَاخْتَارَ الْغَزَّالِيُّ، الثُّبُوتَ مُطْلَقًا، وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ. فَرْعٌ صَالَحَ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَنْ دَيْنٍ عَلَى عَيْنٍ، ثُمَّ جَحَدَهُ الْأَجْنَبِيُّ وَحَلَفَ، فَفِي عَوْدِهِ إِلَى مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَجْهَانِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: نَعَمْ. وَأَبُو عَاصِمٍ: لَا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: قَوْلُ الْقَاضِي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ خَرَجَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَبْدًا. فَإِنْ كَانَ لِأَجْنَبِيٍّ وَلِلْمُحِيلِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّتِ الْحَوَالَةُ، كَمَا لَوْ أَحَالَ عَلَى مُعْسِرٍ، وَيَتْبَعُهُ الْمُحْتَالُ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا إِذَا بَانَ مُعْسِرًا، وَأَوْلَى بِالرُّجُوعِ. وَإِنْ كَانَ عَبْدًا لِلْمُحِيلِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ، بِأَنْ ثَبَتَ قَبْلَ مِلْكِهِ، وَقُلْنَا: لَا يَسْقُطُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِأَجْنَبِيٍّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ، فَهِيَ حَوَالَةٌ عَلَى مَنْ لَا دَيْنَ

فصل

عَلَيْهِ. فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا وَجَعَلْنَاهَا ضَمَانًا، فَهُوَ ضَمَانُ الْعَبْدِ عَنْ سَيِّدِهِ بِإِذْنِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يَخْفَى حُكْمُهُ لَوْ كَانَ لِأَجْنَبِيٍّ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ. فَصْلٌ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا، وَأَحَالَ الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى رَجُلٍ، ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا قَدِيمًا، فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ أَوْ بِالْإِقَالَةِ، أَوِ التَّحَالُفِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَفِي بُطْلَانِ الْحَوَالَةِ، ثَلَاثَةُ طُرُقٍ. أَحُدُهَا: الْبُطْلَانُ. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: الْبُطْلَانُ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّهَا اسْتِيفَاءٌ، أَمْ بَيْعٌ؟ إِنْ قُلْنَا: اسْتِيفَاءٌ بَطَلَتْ، وَإِلَّا فَلَا. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: الْبُطْلَانُ، وَصَحَّحَهُ فِي «الْمُحَرَّرِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، أَوْ قَبْلَهُ، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا الْخِلَافُ إِذَا كَانَ بَعْدَهُ. فَإِنْ رَدَّ قَبْلَهُ، بَطَلَتْ قَطْعًا، لِعَدَمِ تَأَكُّدِهَا. وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ بَعْدَ قَبْضِ الْمُحْتَالِ مَالَ الْحَوَالَةِ أَمْ قَبْلَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: إِنْ كَانَ بَعْدَهُ، لَمْ تَبْطُلْ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ قَبْلَهُ. وَلَوْ أَحَالَ الْبَائِعُ رَجُلًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، فَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ قَطْعًا، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُحْتَالُ مَالَ الْحَوَالَةِ، مِنَ الْمُشْتَرِي، أَمْ لَا. وَالْفَرْقُ، أَنَّ هُنَا تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِثَالِثٍ، فَإِذَا الْقَوْلَانِ مَخْصُوصَانِ بِالصُّورَةِ الْأُولَى، فَنُفَرِّعُ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ لَمْ نُبْطِلْهَا، لَمْ يُطَالِبِ الْمُشْتَرِي الْمُحَالَ عَلَيْهِ بِحَالٍ، بَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ فَيُطَالِبُهُ إِنْ كَانَ قَبَضَ مَالَ الْحَوَالَةِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي مَا أَخَذَ، بَلْ لَهُ إِبْدَالُهُ. وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ، فَلَهُ قَبْضُهُ. وَهَلْ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ

عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِكَوْنِ الْحَوَالَةِ كَالْمَقْبُوضِ، أَمْ لَا، لِعَدَمِ حَقِيقَةِ الْقَبْضِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَعَلَى هَذَا لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِتَحْصِيلِ الْقَبْضِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ بِالتَّحْصِيلِ أَيْضًا، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا إِذَا أَبْطَلْنَا الْحَوَالَةَ، فَإِنْ كَانَ قَبَضَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي. فَلَوْ رَدَّ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ مُطَالَبَةُ الْمُشْتَرِي، بَلْ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِيمَا قَبَضَهُ. فَإِنْ كَانَ تَالِفًا، لَزِمَهُ بَدَلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ، فَلَيْسَ لَهُ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إِلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ فَلَوْ خَالَفَ وَقَبَضَ، لَمْ يَقَعْ عَنْهُ وَفِي وُقُوعِهِ عَنِ الْمُشْتَرِي، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَقَعُ، لِبَقَاءِ الْإِذْنِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِعَدَمِ الْحَوَالَةِ وَالْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ، بِخِلَافِ مَا إِذَا فَسَدَتِ الشَّرِكَةُ وَالْوَكَالَةُ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ يَصِحُّ، لِبَقَاءِ الْإِذْنِ، لَكِنَّ التَّصَرُّفَ يَقَعُ لِلْمُوَكَّلِ. أَمَّا فِي صُورَةِ إِحَالَةِ الْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، إِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّهَا لَا تَبْطُلُ، فَإِنْ كَانَ الْمُحْتَالُ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي، رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ، فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ فِي الْحَالِ، أَمْ لَا يَرْجِعُ إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. فَرْعٌ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: إِذَا أَحَالَهَا بِصَدَاقِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ تَبْطُلِ الْحَوَالَةُ، وَلِلزَّوْجِ مُطَالَبَتُهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ. قَالَ مِنْ شَرْحِ كِتَابِهِ: الْمَسْأَلَةُ تَتَرَتَّبُ عَلَى مَا إِذَا أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ. فَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ هُنَاكَ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَفِي بُطْلَانِهَا فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَجْهَانِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ حَادِثٌ، لَا يَسْتَنِدُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ الْفَسْخِ، وَلِأَنَّ الصَّدَاقَ أَثْبَتُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَوْ أَحَالَهَا ثُمَّ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِرِدَّتِهَا، أَوْ بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا بِعَيْبٍ، لَمْ تَبْطُلِ الْحَوَالَةُ عَلَى الْأَصَحِّ أَيْضًا، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا فِي صُورَةِ

الطَّلَاقِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ، وَبِجَمِيعِهِ فِي الرِّدَّةِ وَالْفَسْخِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْبُطْلَانِ، فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَيُطَالِبُ الزَّوْجَ بِالنِّصْفِ فِي الطَّلَاقِ. فَرْعٌ بَاعَ عَبْدًا وَأَحَالَ بِثَمَنِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ تَصَادَقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ. فَإِنْ وَافَقَهُمَا الْمُحْتَالُ، أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِحُرِّيَّتِهِ، بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، فَيَرُدُّ الْمُحْتَالُ مَا أَخَذَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَبْقَى حَقُّهُ كَمَا كَانَ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ يُقِيمُهَا الْعَبْدُ، أَوْ يَشْهَدُونَ حِسْبَةً. وَلَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يُقِيمَهَا الْمُتَبَايِعَانِ؛ لِأَنَّهُمَا كَذَّبَاهَا بِدُخُولِهِمَا فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْمُحْتَالُ، وَلَا بَيِّنَةَ، فَلَهُمَا تَحْلِيفُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِذَا حَلَفَ، بَقِيَتِ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّهِ، وَلَهُ أَخْذُ الْمَالِ مِنَ الْمُشْتَرِي. وَهَلْ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِإِذْنِهِ؟ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: ظَلَمَنِي الْمُحْتَالُ بِمَا أَخَذَ، وَالْمَظْلُومُ لَا يُطَالِبُ غَيْرَ ظَالِمِهِ؟ قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» بِالثَّانِي. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ كَجٍّ، وَأَبُو عَلِيٍّ بِالْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا، يَرْجِعُ إِذَا دَفَعَ الْمَالَ إِلَى الْمُحْتَالِ. وَفِي رُجُوعِهِ قَبْلَهُ، الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. وَإِنْ نَكَلَ الْمُحْتَالُ، حَلَفَ الْمُشْتَرِي. ثُمَّ إِنْ جَعَلْنَا الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْإِقْرَارِ، بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ. وَإِنْ جَعَلْنَاهَا كَالْبَيِّنَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي إِقْرَارِ الْمُحْتَالِ وَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، مِنْ بُطْلَانِ الْحَوَالَةِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا وَقَعَ التَّعَرُّضُ، لِكَوْنِ الْحَوَالَةِ بِالثَّمَنِ. فَإِنْ لَمْ تَقَعْ، وَزَعَمَ الْبَائِعُ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ آخَرَ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي. فَإِنْ أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي أَصْلَ الدَّيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ وَأَنْكَرَ الْحَوَالَةَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْ رِضَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَلَا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِهِ. وَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُ، فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي صِحَّةَ الْحَوَالَةِ، أَوْ فَسَادَهَا؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِي نَظَائِرِهَا.

فصل

فَصْلٌ إِذَا كَانَ لِزَيْدٍ عَلَيْكَ مِائَةٌ، وَلَكَ عَلَى عَمْرٍو مِائَةٌ، فَوَجَدَ زَيْدٌ مِنْكَ مَا يُجَوِّزُ لَهُ قَبْضَ مَالِكَ عَلَى عَمْرٍو، فَلَهُ صُورَتَانِ. إِحْدَاهَا: أَنْ تَقُولَ لِزَيْدٍ: وَكَلْتُكَ لِتَقْبِضَهُ لِي، وَقَالَ: بَلْ أَحَلْتَنِي عَلَيْهِ، فَيُنْظَرُ، إِنِ اخْتَلَفْتُمَا فِي أَصْلِ اللَّفْظِ، فَزَعَمْتَ الْوَكَالَةَ بِلَفْظِهَا، وَزَعَمَ زَيْدٌ الْحَوَالَةُ بِلَفْظِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُكَ مَعَ يَمِينِكَ عَمَلًا بِالْأَصْلِ. وَإِنِ اتَّفَقْتُمَا عَلَى جَرَيَانِ لَفْظِ الْحَوَالَةِ، وَزَعَمْتَ أَنَّكَ أَرَدْتَ بِهِ تَسْلِيطَهُ بِالْوَكَالَةِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُكَ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ زَيْدٍ مَعَ يَمِينِهِ. وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَمَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْجَارِي بَيْنَكُمَا: أَحَلْتُكَ بِمِائَةٍ عَلَى عَمْرٍو. فَأَمَّا إِذَا قُلْتَ بِالْمِائَةِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ عَلَى عَمْرٍو، فَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا حَقِيقَةَ الْحَوَالَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ زَيْدٍ قَطْعًا. فَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ زَيْدٍ، فَحَلَفَ، ثَبَتَتِ الْحَوَالَةُ وَبَرِئَتْ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُكَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَحَلَفْتَ، نُظِرَ، هَلْ قَبَضَ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو، أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَبَضَ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ عَمْرٍو، لِدَفْعِهِ إِلَى وَكِيلٍ أَوْ مُحْتَالٍ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَبْرَأُ فِي صُورَةِ اتِّفَاقِكُمَا عَلَى لَفْظِ الْحَوَالَةِ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بَاقِيًا، لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ إِلَيْكَ. وَهَلْ لَهُ مُطَالَبَتُكَ بِحَقِّهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِاعْتِرَافِهِ بِبَرَاءَتِكَ بِدَعْوَى الْحَوَالَةٍ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَكِيلًا، فَظَاهِرٌ. وَإِنْ كَانَ مُحْتَالًا، فَقَدِ اسْتَرْجَعَتْ مِنْهُ ظُلْمًا، فَلَا يَضِيعُ حَقُّهُ وَالْوَجْهَانِ، فِي الرُّجُوعِ ظَاهِرًا. فَأَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى حَقِّهِ عِنْدَكَ، فَلَهُ إِمْسَاكُ الْمَأْخُوذِ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِكَ وَأَنْتَ ظَالِمُهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ تَالِفًا، فَقَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، بِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إِذَا لَمْ

يَكُنِ التَّلَفُ بِتَفْرِيطٍ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ فِي زَعْمِكَ، وَالْوَكِيلُ أَمِينٌ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بِزَعْمِهِ. وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ وِكَالَتُهُ، وَالْوَكِيلُ إِذَا أَخَذَ الْمَالَ لِنَفْسِهِ، ضَمِنَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْبِضْ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو، فَلَيْسَ لَهُ الْقَبْضُ بَعْدَ حَلِفِكَ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ انْدَفَعَتْ وَصَارَ مَعْزُولًا عَنِ الْوَكَالَةِ بِإِنْكَارِهِ، وَلَكَ مُطَالَبَةُ عَمْرٍو بِحَقِّكَ. وَهَلْ لِزَيْدٍ مُطَالَبَتُكَ بِحَقِّهِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا قَبَضَ وَسَلَّمَ إِلَيْكَ، قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : يَنْبَغِي أَنْ لَا يُطَالِبَكَ هُنَا قَطْعًا، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ حَقَّهُ عَلَى عَمْرٍو، وَأَنَّ مَا قَبَضْتَهُ أَنْتَ مِنْ عَمْرٍو، لَيْسَ حَقًّا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قُبِضَ، فَإِنَّ حَقَّهُ تَعَيَّنَ فِي الْمَقْبُوضِ، فَإِذَا أَخَذْتَهُ، أَخَذْتَ مَالَهُ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَقُولَ لِزَيْدٍ: أَحَلْتُكَ عَلَى عَمْرٍو، فَيَقُولُ: بَلْ وَكَّلْتَنِي بِقَبْضِ مَا عَلَيْهِ، وَحَقِّي بَاقٍ. وَيَظْهَرُ تَصْوِيرُ هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَ إِفْلَاسِ عَمْرٍو. فَيُنْظَرُ، إِنِ اخْتَلَفْتُمَا فِي أَصْلِ اللَّفْظِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ زَيْدٍ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنِ اتَّفَقْتُمَا عَلَى لَفْظِ الْحَوَالَةِ، جَرَى الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى عَلَى عَكْسِ مَا سَبَقَ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ، الْقَوْلُ قَوْلُكَ، مَعَ الْيَمِينِ، وَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، الْقَوْلُ قَوْلُ زَيْدٍ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: قَوْلُكَ، فَحَلَفْتَ، بَرِئْتَ مِنْ دَيْنِ زَيْدٍ، وَلِزَيْدٍ مُطَالَبَةُ عَمْرٍو، إِمَّا بِالْوَكَالَةِ، وَإِمَّا بِالْحَوَالَةِ، وَمَا يَأْخُذُهُ يَكُونُ لَهُ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّهُ حَقُّهُ، وَعَلَى زَعْمِهِ هُوَ لَكَ، وَحَقُّهُ عَلَيْكَ، فَيَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ زَيْدٍ، فَحَلَفَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبْضُ الْمَالِ مِنْ عَمْرٍو، فَلَيْسَ لَهُ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَكَ: مَا وَكَّلْتُكَ، يَتَضَمَّنُ عَزْلَهُ إِنْ كَانَ وَكِيلًا، وَلَهُ مُطَالَبَتُكَ بِحَقِّهِ. وَهَلْ لَكَ الرُّجُوعُ إِلَى عَمْرٍو؟ وَجْهَانِ. لِأَنَّكَ اعْتَرَفْتَ بِتَحَوُّلِ مَا عَلَيْهِ إِلَى زَيْدٍ. وَوَجْهُ الرُّجُوعِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ كَجٍّ، أَنَّ زَيْدًا إِنْ كَانَ وَكِيلًا فَلَمْ يَقْبِضْ، فَبَقِيَ حَقُّكَ. وَإِنْ كَانَ مُحْتَالًا، فَقَدْ ظَلَمَكَ بِأَخْذِهِ

فصل

مِنْكَ، وَمَا عَلَى عَمْرٍو حَقُّهُ، فَلَكَ أَخْذُهُ عِوَضًا عَمَّا ظَلَمَكَ بِهِ. وَإِنْ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ عَمْرٍو، فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ عَمْرٍو. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بَاقِيًا، فَقَدْ حَكَى الْغَزَّالِيُّ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يُطَالِبُكَ بِحَقِّهِ، وَيَرُدُّ الْمَقْبُوضَ عَلَيْكَ. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَمْلِكُهُ الْآنَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَصَاحِبُهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِلْكُهُ. وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونُ فِيهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ، بَلْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيُطَالِبُ بِبَدَلِ حَقِّهِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِحَقِّهِ. وَإِنْ تَلَفَ بِتَفْرِيطٍ، فَلَكَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلَهُ عَلَيْكَ حَقُّهُ. وَرُبَّمَا يَقَعُ التَّقَاصُّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ أَمِينٌ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَتْلَفُ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، الضَّمَانُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَصْدِيقِهِ فِي نَفْيِ الْحَوَالَةِ لِيَبْقَى حَقُّهُ، تَصْدِيقُهُ فِي إِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ، لِيَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ الْأُولَى: لَوْ أَحَلْتَ زَيْدًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ أَحَالَ عَمْرٌو زَيْدًا عَلَى بَكْرٍ، ثُمَّ أَحَالَهُ بَكْرٌ عَلَى آخَرَ جَازَ، وَقَدْ تَعَدَّدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِمْ دُونَ الْمُحْتَالِ. هُنَا وَلَوْ أَحَلْتَ زَيْدًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ أَحَالَ زَيْدٌ بَكْرًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ أَحَالَ بَكْرٌ آخَرَ عَلَى عَمْرٍو، جَازَ التَّعَدُّدُ هُنَا فِي الْمُحْتَالِينَ دُونَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَحَلْتَ زَيْدًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ ثَبَتَ لِعَمْرٍو عَلَيْكَ مِثْلُ ذَلِكَ الدَّيْنِ، فَأَحَالَ زَيْدًا عَلَيْكَ، جَازَ. الثَّانِيَةُ: لَكَ عَلَى رَجُلَيْنِ مِائَةٌ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسُونَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ، فَأَحَالَكَ أَحَدُهُمَا بِالْمِائَةِ عَلَى إِنْسَانٍ، بَرِئَا جَمِيعًا. وَإِنْ أَحَلْتَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْمِائَةِ، بَرِئَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالْقَبْضِ. وَإِنْ أَحَلْتَ عَلَيْهِمَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُحْتَالُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ، جَازَ، وَيَبْرَأُ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَّا ضَمِنَ. وَإِنْ أَحَلْتَ عَلَيْهِمَا

عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمِائَةَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، فَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: فِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ. وَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا مُطَالَبَةُ وَاحِدٍ، فَلَا يَسْتَفِيدُ بِالْحَوَالَةِ زِيَادَةَ صِفَةٍ. الثَّالِثَةُ: لَكَ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ، فَطَالَبْتَهُ، فَقَالَ: أَحَلْتَ فُلَانًا عَلَيَّ وَفُلَانٌ غَائِبٌ، فَأَنْكَرْتَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُكَ مَعَ يَمِينِكَ. فَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً، سُمِعَتْ وَسَقَطَتْ مُطَالَبَتُكَ لَهُ. وَهَلْ تَثْبُتُ بِهِ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ حَتَّى لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ بَيِّنَةٍ إِذَا قَدِمَ؟ وَجْهَانِ. [قُلْتُ] :

كتاب الضمان

كِتَابُ الضَّمَانِ هُوَ صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِ بَابَانِ. الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ. الْأَوَّلُ: الْمَضْمُونُ عَنْهُ. وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ بِالْإِتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَائِزٌ، فَضَمَانُهُ أَوْلَى، وَكَمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ عَنِ الْمَيِّتِ اتِّفَاقًا سَوَاءٌ خَلَّفَ وَفَاءً أَمْ لَا، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ حُرًّا، أَمْ عَبْدًا، أَمْ مُعْسِرًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَضْمُونُ لَهُ، وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى هَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ عَلَى الْأَصَحِّ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، فَإِنْ شَرَطْنَاهُ، لَمْ يُشْتَرَطْ قَبُولُهُ لَفْظًا عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ شَرَطْنَاهُ، فَلْيَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّمَانِ مَا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ. وَإِنْ لَمْ نَشْتَرِطْهُ، جَازَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الرِّضَى عَلَى الضَّمَانِ. فَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ، فَهُوَ إِجَارَةٌ إِنْ جَوَّزْنَا وَقْفَ الْعُقُودِ، قَالَهُ الْإِمَامُ، وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِنَا: لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ، فَقَالَ: إِذَا ضَمِنَ بِغَيْرِ رِضَاهُ، نُظِرَ إِنْ ضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَالْمَضْمُونُ لَهُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ طَالَبَ الضَّامِنَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ. وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ، فَحَيْثُ قُلْنَا: يَرْجِعُ الضَّامِنُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، يُجْبَرُ الْمَضْمُونُ لَهُ عَلَى قَبُولِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُؤَدِّيهِ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَدِّ دَيْنِي وَلَمْ يَشْتَرِطِ الرُّجُوعَ، وَقُلْنَا: لَا يَرْجِعُ. وَهَلْ لِمُسْتَحِقِّ الدَّيْنِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْقَبُولِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُؤَدَّى يَقَعُ فِدَاءً، أَمْ مَوْهُوبًا لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؟ إِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ الِامْتِنَاعُ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ، فَحَصَلَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ،

وَلَهُ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ فَقَطْ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُمَا. وَالثَّالِثُ: لَا. وَرَابِعٌ حَكَاهُ الْإِمَامُ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَقَطْ، وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. قُلْتُ: وَإِذَا شَرَطْنَا قَبُولَ الْمَضْمُونِ لَهُ، فَلِلضَّامِنِ الرُّجُوعُ عَنِ الضَّمَانِ قَبْلَ قَبُولِهِ، قَالَهُ فِي «الْحَاوِي» لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الضَّمَانُ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الضَّامِنُ. وَشَرْطُهُ: صِحَّةُ الْعِبَارَةِ، وَأَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ. أَمَّا صِحَّةُ الْعِبَارَةِ، فَيَخْرُجُ عَنْهُ الصَّغِيرُ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمُبَرْسَمُ الَّذِي يَهْذِي، فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُمْ. وَلَوْ ضَمِنَ إِنْسَانٌ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ صَبِيًّا يَوْمَ الضَّمَانِ، وَكَانَ مُحْتَمَلًا، قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: كُنْتُ مَجْنُونًا وَقَدْ عُرِفَ لَهُ جُنُونٌ سَابِقٌ، أَوْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَفِي ضَمَانِ السَّكْرَانِ، الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ. قُلْتُ: هَذَا فِي السَّكْرَانِ بِمَعْصِيَةٍ. فَأَمَّا السَّكْرَانُ بِمُبَاحٍ، فَكَالْمَجْنُونِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الْأَخْرَسُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، وَلَا كِتَابَةٌ، لَمْ نَعْرِفْ أَنَّهُ ضَمِنَ حَتَّى نُصَحِّحَ أَوْ نُبْطِلَ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، صَحَّ ضَمَانُهُ بِهَا كَبَيْعِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ، إِذْ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَوْ ضَمِنَ بِالْكِتَابَةِ، فَوَجْهَانِ، سَوَاءٌ أَحْسَنَ الْإِشَارَةَ، أَمْ لَا. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْقَرِينَةِ الْمُشْعِرَةِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي النَّاطِقِ وَفِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ، فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ وَإِنْ أَذِنَ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَتَبَرُّعُهُ لَا يَصِحُّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ. كَذَا قَالَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَّالِيُّ: إِنَّ الضَّمَانَ تَبَرُّعٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ هَذَا حَيْثُ لَا رُجُوعَ. وَأَمَّا حَيْثُ ثَبَتَ الرُّجُوعُ، فَهُوَ قَرْضٌ مَحْضٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، حُسِبَ مِنْ ثُلُثِهِ. وَإِنَ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ، فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ لِلْوَرَثَةِ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَصِيلِ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَبَرُّعًا فَلَا يَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ كَالْبَيْعِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ. فَإِنْ أَذِنَ فِيهِ الْوَلِيُّ، فَلْيَكُنْ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْبَيْعِ. قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ، هُوَ الصَّوَابُ. وَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ. وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ: إِنَّهُ لَيْسَ تَبَرُّعًا، فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّهُ كَالْقَرْضِ، كَانَ الْقَرْضُ تَبَرُّعًا. وَقَوْلُهُ: إِذَا أَذِنَ الْوَلِيُّ، كَانَ كَالْبَيْعِ، يَعْنِي فَيَجْرِي فِيهِ الْوَجْهَانِ، فَاسِدٌ أَيْضًا، فَإِنَّ الْبَيْعَ، إِنَّمَا صَحَّ عَلَى وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْذَنُ إِلَّا فِيمَا فِيهِ رِبْحٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ، وَالضَّمَانُ غَرَرٌ كُلُّهُ بِلَا مَصْلَحَةٍ. وَأَمَّا ضَمَانُ الْمَرِيضِ، فَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : هُوَ مُعْتَبَرٌ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ. فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ. وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ مِنَ الثُّلُثِ، صَحَّ فِيهِ. فَلَوْ ضَمِنَ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرَقٍ، قُدِّمَ الدَّيْنُ وَلَا يُؤَثِّرُ تَأَخُّرُ الْإِقْرَارِ بِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، فَضَمَانُهُ كَشِرَائِهِ. فَرْعٌ ضَمَانُ الْمَرْأَةِ صَحِيحٌ، مُزَوَّجَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِذْنِ الزَّوْجِ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهَا. فَرْعٌ فِي ضَمَانِ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: صَحِيحٌ

يُتْبَعُ بِهِ إِذَا عُتِقَ، إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَى سَيِّدِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِإِتْلَافِ مَالٍ وَكَذَّبَهُ السَّيِّدُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ. وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ صَحَّ. ثُمَّ إِنْ قَالَ: اقْضِهِ مِمَّا تَكْسِبُهُ، أَوْ قَالَ لِلْمَأْذُونِ: اقْضِهِ مِمَّا فِي يَدِكَ، قَضَى مِنْهُ. وَإِنْ عَيَّنَ مَالًا وَأَمَرَ بِالْقَضَاءِ مِنْهُ، فَكَمِثْلٍ. وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِذْنِ فِي الضَّمَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا، فَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: يَتَعَلَّقُ بِمَا يَكْسِبُهُ بَعْدَ الْإِذْنِ كَالْمَهْرِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يُعْتَقَ لِأَنَّهُ أُذِنَ فِي الِالْتِزَامِ دُونَ الْأَدَاءِ. وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ. وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ أَمْ بِمَا يَكْسِبُهُ بَعْدُ؟ أَمْ بِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ مِنَ الرِّبْحِ الْحَاصِلِ؟ أَمْ بِهِمَا وَبِرَأْسِ الْمَالِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: آخِرُهَا. وَحَيْثُ قُلْنَا: يُؤَدِّي مِمَّا فِي يَدِهِ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، أَحَدُهَا: يُشَارِكُ الْمَضْمُونُ لَهُ الْغُرَمَاءَ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ. وَالثَّانِي: لَا يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِمَا فِي يَدِهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ كَالْمَرْهُونِ بِحُقُوقِ الْغُرَمَاءِ. وَالثَّالِثُ: يَتَعَلَّقُ بِمَا فَضَلَ عَنْ حُقُوقِهِمْ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ. قُلْتُ: أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَحْجُرِ الْقَاضِي عَلَيْهِ. فَإِنْ حَجَرَ بِاسْتِدْعَاءِ الْغُرَمَاءِ، لَمْ يَتَعَلَّقِ الضَّمَانُ بِمَا فِي يَدِهِ قَطْعًا. وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ كَالْقِنِّ فِي الضَّمَانِ، وَكَذَا مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، أَوْ كَانَتْ وَضَمِنَ فِي نَوْبَةِ السَّيِّدِ. فَإِنْ ضَمِنَ فِي نَوْبَتِهِ، صَحَّ قَطْعًا. وَيَجُوزُ إِنْ ضَمِنَ فِي نَوْبَتِهِ، أَنْ يَخْرُجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُؤَنِ وَالْأَكْسَابِ النَّادِرَةِ، هَلْ تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ؟ وَالْمُكَاتَبُ بِلَا إِذْنٍ، كَالْقِنِّ، وَبِالْإِذْنِ، قَالُوا: هُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَبَرُّعَاتِهِ.

فَرْعٌ ضَمِنَ عَبْدٌ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَأَدَّى فِي حَالِ رِقِّهِ، فَحَقَّ الرُّجُوعُ لِسَيِّدِهِ. وَإِنْ أَدَّى بَعْدَ عِتْقِهِ، فَالرُّجُوعُ لِلْعَبْدِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ ضَمِنَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ عَنْ أَجْنَبِيٍّ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مِنْ كَسْبِهِ وَهُوَ لِسَيِّدِهِ، وَلَوْ ضَمِنَ لِأَجْنَبِيٍّ عَنْ سَيِّدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ السَّيِّدُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ ضَمِنَ عَنْ أَجْنَبِيٍّ. وَإِنْ أَذِنَ، صَحَّ. ثُمَّ إِنْ أَدَّى قَبْلَ عِتْقِهِ، فَلَا رُجُوعَ، وَبَعْدَهُ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ أَجَّرَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي الْمُدَّةِ، هَلْ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِمَا بَقِيَ؟ قُلْتُ: لَوْ ثَبَتَ عَلَى عَبْدٍ دَيْنٌ بِالْمُعَامَلَةِ فَضَمِنَهُ سَيِّدُهُ، صَحَّ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ ضَمِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ دَيْنًا عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مِنَ التِّجَارَةِ، فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ. وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، قَالَهُ فِي «الْحَاوِي» - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْحَقُّ الْمَضْمُونُ، وَشَرْطُهُ ثَلَاثُ صِفَاتٍ: كَوْنُهُ ثَابِتًا، لَازِمًا، مَعْلُومًا. الصِّفَةُ الْأُولَى: الثُّبُوتُ، وَفِيهَا مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: إِذَا ضَمِنَ مَا لَمْ يَجِبْ، وَسَيَجِبُ بِقَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ، وَشِبْهِهِمَا، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ، فَلَا تَسْبِقُ وُجُوبَ الْحَقِّ كَالشَّهَادَةِ. وَأَشْهَرُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ. الْجَدِيدُ: الْبُطْلَانُ، وَالْقَدِيمُ: الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ، فُرُوعًا عَلَى الْقَدِيمِ. أَحَدُهَا: إِذَا قَالَ ضَمِنْتُ لَكَ ثَمَنَ مَا تَبِيعُ فُلَانًا، فَبَاعَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، كَانَ ضَامِنًا لِلْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ (مَا) مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، فَتَقْتَضِي التَّعْمِيمَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: إِذَا بِعْتَ فُلَانًا، فَأَنَا ضَامِنٌ، لَا يَكُونُ ضَامِنًا إِلَّا ثَمَنَ مَا بَاعَهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ (إِذَا) لَيْسَتْ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ. وَالثَّانِي: إِنْ شَرَطْنَا مَعْرِفَةَ الْمَضْمُونِ لَهُ عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ، فَهُنَا أَوْلَى. وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. وَكَذَا مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ

عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: لَا يُطَالَبُ الضَّامِنُ مَا لَمْ يَجِبِ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ لُزُومِهِ. وَأَمَّا قَبْلَهُ، فَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ عَلَى اللُّزُومِ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَقَالَ: أَقْرِضْ فُلَانًا كَذَا وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ، فَأَقْرَضَهُ، فَالصَّحِيحُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ضَمَانُ نَفَقَةِ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ لِلزَّوْجَةِ، صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَتْ نَفَقَةَ الْمُوسِرِينَ أَوِ الْمُعْسِرِينَ. وَكَذَا ضَمَانُ الْأُدُمِ، وَنَفَقَةُ الْخَادِمِ، وَسَائِرُ الْمُؤَنِ. وَلَوْ ضَمِنَ نَفَقَةَ الْيَوْمِ، فَكَمِثْلٍ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. وَفِي ضَمَانِ نَفَقَةِ الْغَدِ وَالشَّهْرِ الْمُسْتَقْبَلِ، قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ أَمْ بِالتَّمْكِينِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَهُوَ الْقَدِيمُ، صَحَّ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، وَهُوَ الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ، فَلَا، هَكَذَا نَقَلَهُ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ. وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعَ قَوْلِنَا: ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ نَاجِزٌ وَهُوَ النِّكَاحُ. فَإِنْ جَوَّزْنَا ضَمَانَ نَفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَهُ شَرْطَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدِّرَ مُدَّةً. فَإِنْ أَطْلَقَ، لَمْ يَصِحَّ فِيمَا بَعْدَ الْغَدِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ كَمَا لَوْ قَالَ أَجَّرْتُكَ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، هَلْ يَصِحُّ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ؟ الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ مُوسِرًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَعْسَرَ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ، أَنَّهُ يَجُوزُ ضَمَانُ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ وَالْمُتَوَسِّطِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ حَالِهِ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ ضَمَانُ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ لِمُدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَفِي نَفَقَةِ يَوْمِهِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ سَبِيلَهَا سَبِيلُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ. وَلِهَذَا، تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَبِضِيَافَةِ الْغَيْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: بَاعَ شَيْئًا فَخَرَجَ مُسْتَحِقًّا، لَزِمَهُ رَدُّ الثَّمَنِ، وَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى

شَرْطٍ وَالْتِزَامٍ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَمِنَ الْحَمَاقَةِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِي الْقَبَالَاتِ. وَإِنْ ضَمِنَ عَنْهُ ضَامِنٌ لِيَرْجِعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ لَوْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحِقًّا، فَهَذَا ضَمَانُ الْعُهْدَةِ، وَيُسَمَّى ضَمَانُ الدَّرْكِ. أَمَّا ضَمَانُ الْعُهْدَةِ، فَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» إِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِالْتِزَامِهِ مَا فِي عُهْدَةِ الْبَائِعِ رَدَّهُ، وَالدَّرْكُ لِالْتِزَامِهِ الْغُرْمَ عِنْدَ إِدْرَاكِ الْمُسْتَحِقِّ عَيْنَ مَالِهِ. وَفِي صِحَّةِ هَذَا الضَّمَانِ، طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ قَطْعًا. وَأَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: الصِّحَّةُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: الْبُطْلَانُ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَذَلِكَ إِذَا ضَمِنَ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ. فَأَمَّا قَبْلَهُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا. الْمَنْعُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالثَّانِي: الصِّحَّةُ لِأَنَّهُ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ بِأَنْ لَا يُسَلِّمَ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَهُ. فَرْعٌ كَمَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْعُهْدَةِ لِلْمُشْتَرِي، يَصِحُّ ضَمَانُ نَقْصِ الصَّنْجَةِ لِلْبَائِعِ بِأَنْ جَاءَ الْمُشْتَرِي بِصَنْجَةٍ وَوَزَنَ بِهَا الثَّمَنَ، فَاتَّهَمَهُ الْبَائِعُ فِيهَا، فَضَمِنَ ضَامِنٌ نَقْصَهَا إِنْ نَقَصَتْ. وَكَذَا ضَمَانُ رَدَاءَةِ الثَّمَنِ إِذَا شَكَّ الْبَائِعُ، هَلِ الْمَقْبُوضُ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ؟ فَإِذَا خَرَجَ نَاقِصًا، أَوْ رَدِيئًا، طَالَبَ الْبَائِعُ الضَّامِنَ بِالنَّقْصِ وَبِالنَّوْعِ الْمُسْتَحَقِّ إِذَا رَدَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَلَوِ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي نَقْصِ الصَّنْجَةِ، صُدِّقَ الْبَائِعُ بِيَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ، طَالَبَ الْمُشْتَرِي بِالنَّقْصِ وَلَا يُطَالَبُ الضَّامِنُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتَهُ. وَلَوِ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالضَّامِنُ فِي نَقْصِهَا، فَالْمُصَدَّقُ الضَّامِنُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ ذِمَّتَهُ كَانَتْ مَشْغُولَةً. فَرْعٌ لَوْ ضَمِنَ عُهْدَةَ الثَّمَنِ، إِنْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا وَرَدَّهُ، أَوْ بَانَ فَسَادُ الْبَيْعِ بِغَيْرِ

الِاسْتِحْقَاقِ كَفَوَاتِ شَرْطٍ مُعْتَبَرٍ فِي الْبَيْعِ، أَوِ اقْتِرَانِ شَرْطٍ مُفْسِدٍ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ لِلْحَاجَةِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ لِنُدُورِ الْحَاجَةِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْمَعِيبِ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ. فَإِنْ قُلْنَا يَصِحُّ إِذَا ضَمِنَ صَرِيحًا، فَحَكَى الْإِمَامُ وَالْغَزَّالِيُّ وَجْهَيْنِ فِي انْدِرَاجِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ. فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِضَمَانِ الدَّرْكِ إِحْدَاهَا: مِنْ أَلْفَاظِ هَذَا الضَّمَانِ، أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْتَرِي: ضَمِنْتُ لَكَ عُهْدَتَهُ، أَوْ دَرْكَهُ، أَوْ خَلَاصَكَ مِنْهُ. وَلَوْ قَالَ: ضَمِنْتُ لَكَ خَلَاصَ الْمَبِيعِ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَخْلِيصِهِ إِذَا اسْتَحَقَّ. وَلَوْ ضَمِنَ عُهْدَةَ الثَّمَنِ وَخَلَاصَ الْمَبِيعِ مَعًا، لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُ الْخَلَاصِ. وَفِي الْعُهْدَةِ قَوْلَا الصَّفْقَةِ. وَلَوْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ كَفِيلًا بِخَلَاصِ الْمَبِيعِ، بَطَلَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ كَفِيلًا بِالثَّمَنِ. الثَّانِيَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الثَّمَنِ مَعْلُومًا لِلضَّامِنِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْرُ الثَّمَنِ فِي الْمُرَابَحَةِ مَعْلُومًا. الثَّالِثَةُ يَجُوزُ ضَمَانُ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ لَوْ خَرَجَ رَأْسُ الْمَالِ مُسْتَحَقًّا بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَجُوزُ ضَمَانُ رَأْسِ الْمَالِ لِلْمُسْلَمِ لَوْ خَرَجَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُسْتَحَقًّا، لَأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ فِي الذِّمَّةِ وَالِاسْتِحْقَاقُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَقْبُوضِ، وَحِينَئِذٍ يُطَالِبُهُ الْمُسْلَمُ بِمِثْلِهِ لَا بِرَأْسِ الْمَالِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ، فَالْمُشْتَرِي يُطَالِبُ مَنْ شَاءَ مِنَ الْبَائِعِ وَالضَّامِنِ. وَلَا فَرْقَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجَ مُسْتَحِقًّا أَوْ كَانَ شِقْصًا ثَبَتَ فِيهِ شُفْعَةٌ بِبَيْعٍ سَابِقٍ، فَأَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِذَلِكَ الْبَيْعِ، وَلَوْ بَانَ فَسَادُ الْبَيْعِ بِشَرْطٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَفِي

مُطَالَبَتِهِ الضَّامِنَ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَالِاسْتِحْقَاقِ. وَالثَّانِي: لَا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِإِمْكَانِ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ. وَلَوْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا فَرَدَّهُ الْمُشْتَرِي، فَفِي مُطَالَبَتِهِ الضَّامِنَ بِالثَّمَنِ، وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يُطَالِبَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ هُنَا بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْفَسْخَ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ مَجْلِسٍ أَوْ تَقَايُلٍ، هَذَا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ مَقْرُونًا بِالْعَقْدِ. أَمَّا إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّهُ لَا يُطَالِبُ الضَّامِنَ بِالثَّمَنِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبُ رَدِّ الثَّمَنِ مَقْرُونًا بِالْعَقْدِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْبَائِعِ تَفْرِيطٌ فِيهِ. وَفِي الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، سَبَبُ الرَّدِّ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْبَائِعُ مُفَرِّطٌ بِالْإِخْفَاءِ، فَالْتَحَقَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عَلَى رَأْيِ. قُلْتُ: أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَا يُطَالِبُ. وَلَوْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا وَقَدْ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ، فَفِي رُجُوعِهِ بِالْأَرْشِ عَلَى الضَّامِنِ، الْوَجْهَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ تَلَفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ، وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، هَلْ يُطَالِبُ الضَّامِنَ بِالثَّمَنِ؟ إِنْ قُلْنَا يَنْفَسِخُ مِنْ أَصْلِهِ، فَهُوَ كَظُهُورِ الْفَسَادِ بِغَيْرِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَإِنْ قُلْنَا: مِنْ حِينِهِ، فَكَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُ الْمَبِيعِ مُسْتَحِقًّا، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي قَوْلَا الصَّفْقَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ وَأَجَازَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قُلْنَا: يُجِيزُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، لَمْ يُطَالِبِ الضَّامِنَ بِشَيْءٍ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالْقِسْطِ، طَالَبَهُ بِقِسْطِ الْمُسْتَحَقِّ مِنَ الثَّمَنِ. وَإِنْ فَسَخَ، طَالَبَهُ بِالْقِسْطِ، وَمُطَالَبَتُهُ بِحِصَّةِ الْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ، كَمُطَالَبَتِهِ عِنْدَ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ فَفِي مُطَالَبَتِهِ بِالثَّمَنِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَمَا لَوْ بَانَ فَسَادُ الْعَقْدِ بِشَرْطٍ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ لِاسْتِنَادِ الْفَسَادِ إِلَى الِاسْتِحْقَاقِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الضَّمَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. أَمَّا إِذَا عَيَّنَ جِهَةَ الِاسْتِحْقَاقِ، فَقَالَ: ضَمِنْتُ لَكَ الثَّمَنَ مَتَى خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، فَلَا

يُطَالِبُ بِجِهَةٍ أُخْرَى. وَكَذَا لَوْ عَيَّنَ جِهَةً غَيْرَ الِاسْتِحْقَاقِ، لَمْ يُطَالِبْ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ. الْخَامِسَةُ: اشْتَرَى أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا، أَوْ غَرَسَ ثُمَّ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، فَقَلَعَ الْمُسْتَحِقُّ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ، فَهَلْ يَجِبُ أَرْشُ النَّقْصِ عَلَى الْبَائِعِ وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ قَائِمًا وَمَقْلُوعًا؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ، وُجُوبُهُ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ ضَمِنَهُ ضَامِنٌ، نُظِرَ إِنْ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْقَلْعِ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُمَا، إِنْ كَانَ قَدْرُهُ مَعْلُومًا. وَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ عُهْدَةَ الْأَرْضِ وَأَرْشَ نَقْصِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَرْشِ، وَفِي الْعُهْدَةِ قَوْلَا الصَّفْقَةِ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ كَفِيلًا بِهِمَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا فَاسِدًا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ: ضَمَانُ نَقْصِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ، كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ، لَا يَصِحُّ مِنَ الْبَائِعِ، وَهَذَا إِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ لَغْوٌ. كَمَا لَوْ ضَمِنَ الْعُهْدَةَ لِوُجُوبِ الْأَرْشِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ، فَهُوَ جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَإِلَّا، فَهُوَ ذَهَابٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا أَرْشَ عَلَيْهِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: اللُّزُومُ. وَالدُّيُونُ الثَّابِتَةُ، ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَصِيرُ إِلَى اللُّزُومِ بِحَالٍ، وَهُوَ نُجُومُ الْكِتَابَةِ، فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ عَنِ الْمُكَاتَبِ غَيْرَ النُّجُومِ، فَإِنْ ضَمِنَ لِأَجْنَبِيٍّ، صَحَّ. وَإِذَا غُرِّمَ، رَجَعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ إِنْ ضَمِنَهُ بِإِذْنِهِ. وَإِنْ ضَمِنَهُ لِسَيِّدِهِ، نَبْنِي عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الدَّيْنَ، هَلْ يَسْقُطُ بِعَجْزِهِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لَمْ يَصِحَّ كَضَمَانِ النُّجُومِ الضَّرْبُ الثَّانِي: مَالَهُ مَصِيرٌ إِلَى اللُّزُومِ. فَإِنْ كَانَ لَازِمًا فِي حَالِ الضَّمَانِ، صَحَّ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَقِرًّا أَمْ لَا كَالْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ،

وَلَا نَظَرَ إِلَى احْتِمَالِ سُقُوطِهِ، كَمَا لَا نَظَرَ إِلَى احْتِمَالِ سُقُوطِ الْمُسْتَقِرِّ بِالْإِبْرَاءِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَشِبْهِهِمَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا حَالَ الضَّمَانِ، فَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: الْأَصْلُ فِي وَضْعِهِ اللُّزُومُ، كَالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» هَذَا الْخِلَافُ، إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا. أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ، فَقَطْ، فَيَصِحُّ قَطْعًا لِأَنَّ الدَّيْنَ لَازِمٌ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ. وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ تَصْحِيحَ الضَّمَانِ، مُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ فِي الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ. أَمَّا إِذَا مَنَعَهُ، فَهُوَ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا الْأَصْلُ فِي وَضْعِهِ الْجَوَازَ، كَالْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الرَّهْنِ بِهِ، وَمَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ وَقَبْلَ تَمَامِهِ، كَمَا سَبَقَ هُنَاكَ. وَضَمَانُ مَالِ الْمُسَابَقَةِ، إِنْ جَعَلْنَاهَا إِجَارَةً صَحَّ، وَإِلَّا فَكَالْجَعْلِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: الْعِلْمُ، وَفِيهِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: ضَمَانُ الْمَجْهُولِ، فِيهِ طَرِيقَانِ، كَضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ. فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، فَشَرْطُهُ أَنْ يُمْكِنَ الْإِحَاطَةُ بِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا ضَامِنٌ ثَمَنَ مَا بِعْتَهُ فُلَانًا، وَهُوَ جَاهِلٌ بِهِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ مُتَيَسِّرَةٌ. أَمَّا إِذَا قَالَ: ضَمِنْتُ لَكَ شَيْئًا مِمَّا لَكَ عَلَى فُلَانٍ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا. وَالْقَوْلَانِ فِي صِحَّةِ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ يَجْرِيَانِ فِي صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ عَنْهُ. وَذَكَرُوا لِلْخِلَافِ فِي الْإِبْرَاءِ مَأْخَذَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنِ الْعُيُوبِ، فَإِنَّ الْعُيُوبَ مَجْهُولَةُ الْأَنْوَاعِ وَالْأَقْدَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِبْرَاءَ هَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ كَالْإِعْتَاقِ؟ أَمْ تَمْلِيكُ الْمَدْيُونِ مَا فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ إِذَا مَلَكَهُ سَقَطَ؟ وَفِيهِ رَأْيَانِ. إِنْ قُلْنَا: إِسْقَاطٌ، صَحَّ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمَجْهُولِ. وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ. مِنْهَا: لَوْ عَرَفَ الْمُبَرِّئُ قَدْرَ الدَّيْنِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْمُبَرَّأُ. إِنْ قُلْنَا: إِسْقَاطٌ، صَحَّ، وَإِلَّا فَيُشْتَرَطُ عِلْمُهُ كَالْمُتَّهِبِ. وَمِنْهَا: لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى هَذَا، وَدَيْنٌ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: أَبْرَأْتُ أَحَدَكُمَا. إِنْ قُلْنَا إِسْقَاطٌ، صَحَّ، وَأَخَذَ بِالْبَيَانِ. وَإِلَّا فَلَا، كَمَا لَوْ كَانَ

لَهُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ عَبْدٌ، فَقَالَ: مَلَّكْتُ أَحَدَكُمَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدِهِ. وَمِنْهَا: لَوْ كَانَ لِأَبِيهِ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ، فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْتَ الْأَبِ، إِنْ قُلْنَا: إِسْقَاطٌ صَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِ أَبِيهِ: أُعْتِقُكَ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْتَ الْأَبِ. إِنْ قُلْنَا: تَمْلِيكٌ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَيٌّ، فَبَانَ مَيِّتًا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ إِنْ جَعَلْنَاهُ إِسْقَاطًا، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ تَمْلِيكًا، لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْقَبُولَ، ارْتَدَّ بِالرَّدِّ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَرْتَدُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ، ذَكَرَهَا فِي «التَّتِمَّةِ» مَعَ أَخَوَاتٍ لَهَا. وَاحْتَجَّ لِلتَّمْلِيكِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلْمَدْيُونِ: مَلَّكْتُكَ مَا فِي ذِمَّتِكَ، صَحَّ وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَقَرِينَةٍ، وَلَوْلَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ، لَافْتَقَرَ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ، كَمَا إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: مَلَّكْتُكَ رَقَبَتَكَ، أَوْ لِزَوْجَتِهِ: مَلَّكْتُكِ نَفْسَكِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ. فَرْعٌ لَوِ اغْتَابَهُ فَقَالَ اغْتَبْتُكَ، فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ فَفَعَلَ، وَهُوَ لَا يَدْرِي مَا اغْتَابَهُ بِهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْرَأُ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ، كَمَنْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْ عَبْدٍ ثُمَّ عَفَا سَيِّدُهُ عَنِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ عَيْنَ الْمَقْطُوعِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رِضَاهُ، وَلَا يُمْكِنُ الرِّضَى بِالْمَجْهُولِ، وَيُخَالِفُ الْقِصَاصَ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ بِخِلَافِ إِسْقَاطِ الْمَظَالِمِ. [قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا] الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: ضَمَانُ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، صَحِيحٌ إِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ. وَفِي ضَمَانِ إِبِلِ الدِّيَةِ، إِذَا لَمْ نُجَوِّزْ ضَمَانَ الْمَجْهُولِ، وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا:

الصِّحَّةُ. وَقِيلَ: يَصِحُّ قَطْعًا كَمَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهَا. وَإِذَا دَفَعَ الْحَيَوَانَ وَكَانَ الضَّمَانُ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِالْحَيَوَانِ؟ أَمْ بِالْقِيمَةِ؟ قَالَ الْإِمَامُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْرَى فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي إِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ. وَلَا يَجُوزُ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَنِ الْعَاقِلَةِ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ بَعْدُ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا مَنَعْنَا ضَمَانَ الْمَجْهُولِ، فَقَالَ: ضَمِنْتُ مِمَّا لَكَ عَلَى فُلَانٍ مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ لِانْتِفَاءِ الْغَرَرِ، فَعَلَى هَذَا، يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ. وَقِيلَ: تِسْعَةٌ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: تِسْعَةٌ، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي الْإِقْرَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِنْ قَالَ ضَمِنْتُ لَكَ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ، فَإِنْ عَرَفَ أَنَّ دَيْنَهُ لَا يَنْقُصُ عَنْ عَشَرَةٍ، صَحَّ وَكَانَ ضَامِنًا لِثَمَانِيَةٍ. وَإِلَّا، فَفِي صِحَّتِهِ فِي الثَّمَانِيَةِ الْقَوْلَانِ، أَوِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ ضَمِنْتُ لَكَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي لَكَ عَلَى فُلَانٍ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَبْلَغَهَا، فَهَلْ يَصِحُّ الضَّمَانُ فِي ثَلَاثَةٍ لِدُخُولِهَا فِي اللَّفْظِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؟ كَمَا لَوْ أَجَّرَ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، فَهَلْ يَصِحُّ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ بِعَيْنِهَا جَارِيَةٌ فِي الْإِبْرَاءِ. فَرْعٌ يَصِحُّ ضَمَانُ الزَّكَاةِ عَمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا لِأَنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَكَفَالَةِ بُدْنِ الشَّاهِدِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ. فَعَلَى الصَّحِيحِ، يُعْتَبَرُ الْإِذْنُ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ يَجُوزُ ضَمَانُ الْمَنَافِعِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ كَالْأَمْوَالِ.

فصل

فَصْلٌ فِي كَفَالَةِ الْبَدَنِ وَيُسَمَّى أَيْضًا، كَفَالَةُ الْوَجْهِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: تَصِحُّ قَطْعًا، فَتَجُوزُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ مَالٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِقَدْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ، غُرِّمَ الْكَفِيلُ الْمَالَ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مِمَّا يَصِحُّ ضَمَانُهُ. فَلَوْ تَكَفَّلَ بِبَدَنِ مُكَاتِبٍ لِلنُّجُومِ الَّتِي عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ. فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ لِآدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، صَحَّتِ الْكَفَالَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: لَا تَصِحُّ قَطْعًا. وَإِنْ كَانَتْ حَدًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ تَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَضَبَطَ الْإِمَامُ وَالْغَزَّالِيُّ مَنْ تَكَفَّلَ بِبَدَنِهِ فَقَالَا: حَاصِلُ كَفَالَةِ الْبَدَنِ الْتِزَامُ إِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِبَدَنِهِ، فَكُلُّ مَنْ يَلْزَمُهُ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ عِنْدَ الِاسْتِعْدَاءِ أَوْ يَسْتَحِقُّ إِحْضَارُهُ، تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِهِ، فَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الضَّابِطِ صُوَرٌ، مِنْهَا: الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ امْرَأَةٍ يَدَّعِي رَجُلٌ زَوْجِيَّتَهَا، صَحِيحَةٌ. وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِهَا، لِمَنْ تَثْبُتُ زَوْجِيَّتُهُ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» وَالظَّاهِرُ، أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ حُكْمُ الْكَفَالَةِ بِبَدَنِ مَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا لَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ. وَمِنْهَا: لَوْ تَكَفَّلَ بِبَدَنِ عَبْدٍ آبِقٍ لِمَالِكِهِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ فِي رَدِّهِ. وَيَجِئُ فِيهِ مِثْلَمَا حَكَيْنَا فِي الزَّوْجَةِ. وَمِنْهَا: الْمَيِّتُ قَدْ يُسْتَحَقُّ إِحْضَارُهُ لِيُقِيمَ الشُّهُودُ الشَّهَادَةَ عَلَى صُورَتِهِ إِذَا تَحَمَّلُوهَا كَذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفُوا اسْمَهُ وَنَسَبَهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، صَحَّتِ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِهِ. وَمِنْهَا: الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ، قَدْ يَسْتَحِقُّ إِحْضَارَهُمَا لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى صُورَتِهَا فِي الْإِتْلَافِ، وَغَيْرِهِ، فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ فِيهِمَا. ثُمَّ إِنْ كَفَلَ بِإِذْنِ وَلِيِّهَا، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْوَلِيِّ بِإِحْضَارِهِمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَهُوَ كَالْكَفَالَةِ بِبَدَنِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَمِنْهَا: قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ تَكَفَّلَ رَجُلٌ بِبَغْدَادَ بِبَدَنِ رَجُلٍ بِالْبَصْرَةِ،

فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ بِالْبَصْرَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحُضُورُ بِبَغْدَادَ لِلْخُصُومَاتِ، وَالْكَفِيلُ فَرْعُ الْمَكْفُولِ بِهِ. وَإِذَا لَمْ يَجِبْ حُضُورُهُ، لَا يُمْكِنُ إِيجَابُ الْإِحْضَارِ عَلَى الْكَفِيلِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ إِحْضَارُ مَنْ هُوَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ الْحَقُّ الَّذِي تَجُوزُ بِسَبَبِهِ الْكَفَالَةُ، إِنْ ثَبَتَ عَلَى الْمَكْفُولِ بِبَدَنِهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، فَذَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، لَكِنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ وَسَكَتَ، صَحَّتِ الْكَفَالَةُ أَيْضًا. وَإِنْ أَنْكَرَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ. لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ، وَالْكَفَالَةُ بِمَنْ لَا حَقَّ عَلَيْهِ بَاطِلَةٌ. وَأَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ لِأَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ. وَمُعْظَمُ الْكَفَالَاتِ إِنَّمَا تَقَعُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ. فَرْعٌ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ الْغَائِبِ، وَالْمَحْبُوسِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ فِي الْحَالِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُعْسِرِ ضَمَانُ الْمَالِ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمَكْفُولِ بِبَدَنِهِ مُعَيَّنًا. فَلَوْ قَالَ: كَفَلْتُ بَدَنَ أَحَدِ هَذَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ ضَمِنَ أَحَدَ الدَّيْنَيْنِ.

فصل

فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْأَعْيَانِ فَإِذَا ضَمِنَ عَيْنًا لِمَالِكِهَا وَهِيَ فِي يَدِ غَيْرِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمُسْتَعَارِ، وَالْمُسْتَامِ، وَالْأَمَانَاتِ إِذَا خَانَ فِيهَا، فَلَهُ صُورَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: يَضْمَنُ رَدَّ أَعْيَانِهَا. فَالْمَذْهَبُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْ كَفَالَةِ الْبَدَنِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ قَطْعًا. وَالْفَرْقُ أَنَّ حُضُورَ الْخَصْمِ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَالِ، فَالْتِزَامُ الْمَقْصُودِ، أَوْلَى. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَرَدَّهَا، بَرِئَ مِنَ الضَّمَانِ. وَإِنْ تَلِفَتْ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ، فَهَلْ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا؟ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِبَدَنِهِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا، فَهَلْ يَجِبُ فِي الْمَغْصُوبِ أَكْثَرُ الْقِيَمِ؟ أَمْ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الثَّانِي أَقْوَى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ ضَمِنَ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَهُوَ بَعْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، جَرَى الْخِلَافُ فِي الضَّمَانِ. فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ وَتَلِفَ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ. فَإِنْ لَمْ يَدْفَعِ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، لَمْ يُطَالَبِ الضَّامِنُ بِشَيْءٍ. وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ، عَادَ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّ الضَّامِنَ، هَلْ يُغَرَّمُ؟ فَإِنْ غَرَّمْنَاهُ، فَهَلْ يُغَرَّمُ الثَّمَنَ؟ أَمْ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْمَبِيعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَوَّلُهُمَا. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهَا لَوْ تَلِفَتْ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْمَكْفُولَ بِبَدَنِهِ لَوْ مَاتَ، هَلْ يُغَرَّمُ الْكَفِيلُ الدَّيْنَ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، صَحَّ ضَمَانُ الْقِيمَةِ لَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ. وَإِلَّا، فَلَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِهَذَا، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ قَبْلَ تَلَفِ الْعَيْنِ، غَيْرُ وَاجِبَةٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَالِ فِي يَدِ الشَّرِيكِ، وَالْوَكِيلِ، وَالْوَصِيِّ، فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهَا قَطْعًا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةِ

الرَّدِّ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْأَمِينِ التَّخْلِيَةُ فَقَطْ. وَلَوْ تَكَفَّلَ بِبَدَنِ الْعَبْدِ الْجَانِي جِنَايَةً تُوجِبُ الْمَالَ، فَهُوَ كَضَمَانِ الْعَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْمَنْعِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَضْمُونَةَ مُسْتَحَقَّةٌ، وَنَفْسُ الْعَبْدِ لَيْسَتْ مُسْتَحَقَّةً، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الْأَرْشِ مِنْ بَدَلِهِ، وَبَدَلُهُ مَجْهُولٌ. فَرْعٌ بَاعَ شَيْئًا بِثَوْبٍ أَوْ بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ، فَضَمِنَ قِيمَتَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ وَضَمِنَ الْعُهْدَةَ. فَرْعٌ رَهَنَ ثَوْبًا وَلَمْ يُسَلِّمْهُ، فَضَمِنَ رَجُلٌ تَسْلِيمَهُ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ. فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْكَفَالَةِ إِحْدَاهَا: إِذَا عَيَّنَ فِي الْكَفَالَةِ مَكَانًا لِلتَّسْلِيمِ، تَعَيَّنَ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تَصِحُّ وَيَجِبُ التَّسْلِيمُ فِي مَكَانِ الْكَفَالَةِ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ السَّلَمَ. وَإِذَا أَتَى الْكَفِيلُ بِالْمَكْفُولِ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمُسْتَحَقِّ، جَازَ قَبُولُهُ، وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ إِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ، بِأَنْ كَانَ قَدْ عَيَّنَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، أَوْ مَوْضِعًا يَجِدُ فِيهِ مَنْ يُعِينُهُ عَلَى خَصْمِهِ. فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْغَرَضُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ. فَإِنِ امْتَنَعَ، رَفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَقْبِضَ عَنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ، أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ. الثَّانِيَةُ: يَخْرُجُ الْكَفِيلُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِتَسْلِيمِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ التَّسْلِيمُ،

سَوَاءٌ طَلَبَهُ الْمُسْتَحِقُّ أَمْ أَبَاهُ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ حَائِلٌ كَيَدِ سُلْطَانٍ، وَمُتَغَلِّبٍ، وَحَبْسٌ بِغَيْرِ حَقٍّ يُنْتَفَعُ بِتَسْلِيمِهِ. وَحَبْسُ الْحَاكِمِ بِالْحَقِّ، لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ، لِإِمْكَانِ إِحْضَارِهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالْحَقِّ. وَلَوْ حَضَرَ الْمَكْفُولُ بِهِ وَقَالَ: سَلَّمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ عَنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ، بَرِئَ الْكَفِيلُ كَمَا يَبْرَأُ الضَّامِنُ بِأَدَاءِ الْأَصِيلِ الدَّيْنَ. وَلَوْ لَمْ يُسَلِّمْ نَفْسَهُ عَنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ، لَمْ يَبْرَأِ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَيْهِ هُوَ، وَلَا أَحَدٌ عَنْ جِهَتِهِ، حَتَّى قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَوْ ظَفِرَ بِهِ الْمَكْفُولُ لَهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَادَّعَى عَلَيْهِ، لَمْ يَبْرَأِ الْكَفِيلُ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّمَهُ أَجْنَبِيٌّ، لَا عَنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ. وَإِنْ سَلَّمَهُ عَنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ سَلَّمَهُ الْكَفِيلُ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَيْسَ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ قَبُولُهُ، لَكِنْ لَوْ قَبِلَ: بَرِئَ الْكَفِيلُ. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ، فَسَلَّمَ إِلَى أَحَدِهِمَا، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ حَقِّ الْآخَرِ. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ، فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : إِنْ كَفَلَاهُ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَقَعَ تَسْلِيمُهُ عَنِ الْمُسَلَّمِ دُونَ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ قَالَ: سَلَّمْتُ عَنْ صَاحِبِي أَمْ لَمْ يَقُلْ. وَإِنْ كَفَلَاهُ مَعًا، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: يَبْرَأُ أَيْضًا صَاحِبُهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَ أَحَدُ الضَّامِنَيْنِ الدَّيْنَ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْأَكْثَرُونَ: لَا يَبْرَأُ، كَمَا لَوْ كَانَ بِالدَّيْنِ رَهْنَانِ، فَانْفَكَّ أَحَدُهُمَا، لَا يَنْفَكُّ الْآخَرُ، وَيُخَالِفُ قَضَاءَ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَبْرَئُ الْأَصِيلُ، وَإِذَا بَرِئَ، بَرِئَ كُلُّ ضَامِنٍ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَكَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَفِيلَيْنِ بَدَنَ صَاحِبِهِ، ثُمَّ أَحْضَرَ أَحَدُهُمَا الْمَكْفُولَ بِهِ وَسَلَّمَهُ، فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ: يَبْرَأُ كُلُّ وَاحِدٍ عَنِ الْكَفَالَةِ الْأُولَى وَعَنْ كَفَالَةِ صَاحِبِهِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ: يَبْرَأُ الْمُسَلِّمُ عَنِ الْكَفَالَتَيْنِ، وَيَبْرَأُ صَاحِبُهُ عَنْ كَفَالَتِهِ دُونَ الْكَفَالَةِ الْأُولَى. الثَّالِثَةُ: كَمَا يَخْرُجُ الْكَفِيلُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالتَّسْلِيمِ، يَبْرَأُ أَيْضًا إِذَا أَبْرَأَهُ الْمَكْفُولُ لَهُ. وَلَوْ قَالَ الْمَكْفُولُ لَهُ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ الْمَكْفُولِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ، فَوَجْهَانِ.

أَحَدُهُمَا: يَبْرَأُ الْأَصِيلُ وَالْكَفِيلُ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ. فَإِنْ فَسَّرَ بِنَفْيِ الدَّيْنِ، فَذَاكَ. وَإِنْ فَسَّرَ بِنَفْيِ الْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهِمَا، قَبْلَ قَوْلِهِ، فَإِنْ كَذَّبَاهُ، حَلَفَ. الرَّابِعَةُ: إِذَا غَابَ الْمَكْفُولُ بِبَدَنِهِ، نُظِرَ، إِنْ غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ لَا يَعْرِفَ مَوْضِعَهُ وَيَنْقَطِعَ خَبَرُهُ، فَلَا يُكَلَّفُ الْكَفِيلُ إِحْضَارُهُ. وَإِنْ عَرَفَ مَوْضِعَهُ، فَإِنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ لَكِنْ يُمْهِلُ مُدَّةَ الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ لِيَحْضُرَهُ. فَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَحْضُرْهُ، حُبِسَ. وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ إِحْضَارُهُ. وَالثَّانِي: لَا يُطَالَبُ بِهِ. وَلَوْ كَانَ غَائِبًا حَالَ الْكَفَالَةِ، فَالْحُكْمُ فِي إِحْضَارِهِ كَمَا لَوْ غَابَ بَعْدَ الْكَفَالَةِ. الْخَامِسَةُ: إِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ، فَفِي انْقِطَاعِ طَلَبِ الْإِحْضَارِ عَنِ الْكَفِيلِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْقَطِعُ، بَلْ عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ مَا لَمْ يُدْفَنْ إِذَا أَرَادَ الْمَكْفُولُ لَهُ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صُورَتِهِ، كَمَا لَوْ تَكَفَّلَ ابْتِدَاءً بِبَدَنِ الْمَيِّتِ. وَالثَّانِي: يَنْقَطِعُ. وَهَلْ يُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِمَالٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ. كَمَا لَوْ ضَمِنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَانْقَطَعَ، فَإِنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ. وَالثَّانِي: يُطَالَبُ، بِهِ وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ كَالرَّهْنِ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يُطَالَبُ بِالدَّيْنِ، أَمْ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الدَّيْنِ وَدِيَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فِي أَنَّ السَّيِّدَ يَفْدِي الْجَانِي بِالْأَرْشِ، أَمْ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأَرْشِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ؟ قُلْتُ: الْمُخْتَارُ، الْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الدِّيَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ، بِخِلَافِ قِيمَةِ الْعَبْدِ. قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : وَلَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ وَلَا شَيْءَ فِي تَرِكَتِهِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَبْطُلَ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ قَدْ تُفْضِي إِلَى مَالٍ بِتَعَلُّقٍ بِالتَّرِكَةِ، لَكِنْ لَمْ أَرَ لَهُ فِيهِ نَصًّا. وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ، بَقِيَ الْحَقُّ لِوَارِثِهِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ غُرَمَاءُ وَوَرَثَةٌ، وَأَوْصَى إِلَى زَيْدٍ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ، لَمْ يَبْرَأِ الْكَفِيلُ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ إِلَى الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَالْوَصِيِّ. فَلَوْ سَلَّمَ

إِلَى الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَالْمُوصَى لَهُمْ، دُونَ الْوَصِيِّ، فَفِي بَرَاءَتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. السَّادِسَةُ: لَوْ هَرَبَ الْمَكْفُولُ بِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، أَوْ تَوَارَى، فَفِي مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ، خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يُطَالِبَ، إِذْ لَمْ نَأْيَسْ مِنْ إِحْضَارِهِ. السَّابِعَةُ: إِذَا تَكَفَّلَ وَشَرَطَ أَنَّهُ [إِنْ] عَجِزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ، غُرِّمَ الدَّيْنَ. فَإِنْ قُلْنَا: يُغَرَّمُ عِنْدَ الِاطِّلَاقِ صَحَّ، وَإِلَّا فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ. الثَّامِنَةُ: يُشْتَرَطُ رِضَى الْمَكْفُولِ بِبَدَنِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَى الْمَكْفُولِ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. فَإِذَا كَفَلَ بِغَيْرِ رِضَى الْمَكْفُولِ بِهِ، فَأَرَادَ إِحْضَارَهُ لِطَلَبِ الْمَكْفُولِ لَهُ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: أَحْضِرْ خِصْمِي، فَلِلْكَفِيلِ مُطَالَبَتُهُ بِالْحُضُورِ، وَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ لَا بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ، بَلْ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي إِحْضَارِهِ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: أُخْرُجْ عَنْ حَقِّي، فَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا كَمَا لَوْ ضَمِنَ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مَالًا، وَطَالَبَ الْمَضْمُونُ لَهُ الضَّامِنَ، فَإِنَّهُ لَا يُطَالِبُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ. وَذَكَرُوا عَلَى هَذَا أَنَّهُ يُحْبَسُ، وَاسْتَبْعَدَهُ الْأَئِمَّةُ لِأَنَّهُ حَبْسٌ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، تَتَضَمَّنُ التَّوْكِيلَ فِي الْإِحْضَارِ. التَّاسِعَةُ: لَوْ تَكَفَّلَ بِبَدَنِ الْكَفِيلِ كَفِيلٌ، ثُمَّ كَفِيلٌ، ثُمَّ كَذَلِكَ آخَرُونَ بِلَا حَصْرٍ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِمَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لَازِمٌ، وَقِيَاسًا عَلَى ضَمَانِ الْمَالِ. ثُمَّ إِذَا بَرِئَ وَاحِدٌ بَرِئَ مَنْ بَعْدَهُ دُونَ مَنْ قَبْلَهُ. الْعَاشِرَةُ: فِي مَوْتِ الْمَكْفُولِ لَهُ، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: بَقَاءُ الْكَفَالَةِ وَقِيَامُ

وَارِثِهِ مَقَامَهُ، كَمَا لَوْ ضَمِنَ لَهُ الْمَالَ، وَالثَّانِي: تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَهُ وَصِيٌّ، بَقِيَتْ، وَإِلَّا، فَلَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ نَائِبُهُ وَالدَّيْنَ لَا بُدَّ مِنْهُ. الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الصِّيغَةُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: لَا بُدَّ مِنْ صِيغَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْتِزَامِ، كَقَوْلِهِ: ضَمِنْتُ لَكَ مَالَكَ عَلَى فُلَانٍ، أَوْ تَكَفَّلْتُ بِبَدَنِ فُلَانٍ، أَوْ أَنَا بِإِحْضَارِ هَذَا الْمَالِ أَوْ هَذَا الشَّخْصِ كَفِيلٌ، أَوْ ضَامِنٌ، أَوْ زَعِيمٌ، أَوْ حَمِيلٌ، أَوْ قَبِيلٌ. وَفِي «الْبَيَانِ» وَجْهٌ: أَنَّ لَفْظَ الْقَبِيلِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَيُطْرَدُ هَذَا الْوَجْهُ فِي الْحَمِيلِ وَمَا لَيْسَ بِمَشْهُورٍ فِي الْعَقْدِ. وَلَوْ قَالَ: خَلِّ عَنْ فُلَانٍ وَالدَّيْنُ الَّذِي لَكَ عَلَيْهِ عِنْدِي، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الضَّمَانِ. وَلَوْ قَالَ: دَيْنُ فُلَانٍ إِلَيَّ، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: أَقْوَاهُمَا: لَيْسَ بِصَرِيحٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ قَالَ: أُؤَدِّي الْمَالَ، أَوْ أُحْضِرُ الشَّخْصَ، فَهَذَا لَيْسَ بِالْتِزَامٍ، وَإِنَّمَا هُوَ وَعْدٌ. وَلَوْ تَكَفَّلَ فَأَبْرَأَهُ الْمُسْتَحِقُّ، ثُمَّ وَجَدَهُ مُلَازِمًا لِلْخَصْمِ فَقَالَ: خَلِّهِ وَأَنَا عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَالَةِ، صَارَ كَفِيلًا. الثَّانِيَةُ: لَوْ شَرَطَ الضَّامِنُ، أَوِ الْكَفِيلُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ. فَلَوْ شَرَطَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ، لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي الْمُطَالَبَةِ وَالْإِبْرَاءِ لَهُ أَبَدًا. الثَّالِثَةُ: لَوْ عَلَّقَ الضَّمَانَ بِوَقْتٍ أَوْ غَيَّرَهُ فَقَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَقَدْ ضَمِنْتُ، أَوْ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ مَالَكَ غَدًا، فَأَنَا ضَامِنٌ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا لَا يَصِحُّ مُؤَقَّتًا، كَقَوْلِهِ: أَنَا ضَامِنٌ إِلَى شَهْرٍ، فَإِذَا مَضَى وَلَمْ أَغْرَمْ فَأَنَا بَرِيءٌ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ إِذَا جَازَ عَلَى الْقَدِيمِ ضَمَانُ الْمَجْهُولِ وَمَا لَمْ يَجِبْ، جَازَ التَّعْلِيقُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجِيءُ

فِي تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ الْقَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَقَالَ: إِذَا بِعْتَ عَبْدَكَ بِأَلْفٍ، فَأَنَا ضَامِنٌ لِلثَّمَنِ، فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِشَيْءٍ. وَفِي وَجْهٍ: يَصِيرُ ضَامِنًا لِأَلْفٍ. وَلَوْ بَاعَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَفِي كَوْنِهِ ضَامِنًا لَهَا، الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا أَقْرَضْتُهُ عَشَرَةً، فَأَنَا ضَامِنٌ لَهَا، فَأَقْرَضَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْعَشَرَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقْرَضَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَقَدْ أَقْرَضَ عَشَرَةً، وَالْبَيْعُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ لَيْسَ بَيْعًا بِعَشَرَةٍ. وَإِنْ أَقْرَضَهُ خَمْسَةً، فَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: تَسْلِيمُ كَوْنِهِ ضَامِنًا لَهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ خِلَافُ قِيَاسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَتَحَقَّقْ. وَلَوْ عَلَّقَ كَفَالَةَ الْبَدَنِ بِمَجِيءِ الشَّهْرِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا تَعْلِيقَ الْمَالِ، فَهِيَ أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ، كَالْخِلَافِ فِي تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْكَفَالَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ. وَلَوْ عَلَّقَهَا بِحَصَادِ الزَّرْعِ، فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ، لِانْضِمَامِ الْجَهَالَةِ. وَإِنْ عَلَّقَهَا بِقُدُومِ زَيْدٍ، فَأَوْلَى بِالْمَنْعِ، لِلْجَهْلِ بِأَصْلِ حُصُولِ الْقُدُومِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا، فَوَجَدَ الشَّرْطَ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ، صَارَ كَفِيلًا. الرَّابِعَةُ: لَوْ وَقَّتَ كَفَالَةَ الْبَدَنِ فَقَالَ: أَنَا كَفِيلٌ بِهِ إِلَى شَهْرٍ، فَإِذَا مَضَى بَرِئْتُ، فَوَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانُ، كَضَمَانِ الْمَالِ. وَلَوْ نَجَّزَ الْكَفَالَةَ وَشَرَطَ التَّأْخِيرَ فِي الْإِحْضَارِ شَهْرًا، جَازَ لِلْحَاجَةِ كَمِثْلِهِ فِي الْوَكَالَةِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْإِمَامُ، وَجَعَلَ الْغَزَّالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» هَذَا التَّوَقُّفَ وَجْهًا. فَإِذَا صَحَّحْنَا فَأَحْضَرَهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَسَلَّمَهُ، وَامْتَنَعَ الْمَكْفُولُ لَهُ مِنْ قَبُولِهِ، نُظِرَ، هَلْ لَهُ غَرَضٌ فِي الِامْتِنَاعِ بِأَنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ غَائِبَةً أَوْ دَيْنُهُ مُؤَجَّلًا، أَمْ لَا؟ وَحُكْمُ الْقِسْمَيْنِ، عَلَى مَا سَبَقَ فِيمَنْ سَلَّمَهُ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ. وَلَوْ شَرَطَ لِإِحْضَارِهِ أَجَلًا مَجْهُولًا، كَالْحَصَادِ، فَفِي صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. الْخَامِسَةُ: لَوْ ضَمِنَ الدَّيْنَ الْحَالَّ حَالًّا، أَوْ أَطْلَقَ، لَزِمَهُ حَالًّا، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُؤَجَّلَ

مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ، أَوْ أَطْلَقَ لَزِمَهُ لِأَجَلِهِ. وَإِنْ ضَمِنَ الْحَالَّ مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ الضَّمَانُ، لِلِاخْتِلَافِ. وَأَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، لِلْحَاجَةِ، وَعَلَى هَذَا، فَالْمَذْهَبُ ثُبُوتُ الْأَجَلِ، فَلَا يُطَالَبُ إِلَّا كَمَا الْتَزَمَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَشَذَّ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَادَّعَى إِجْمَاعَ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَثْبُتُ، وَأَنَّ فِي فَسَادِ الضَّمَانِ لِفَسَادِهِ، وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: الْفَسَادُ. أَمَّا لَوْ ضَمِنَ الْمُؤَجَّلَ حَالًّا، وَالْتَزَمَ التَّبَرُّعَ بِالتَّعْجِيلِ مَضْمُومًا إِلَى التَّبَرُّعِ بِأَصْلِ الضَّمَانِ، فَوَجْهَانِ كَعَكْسِهِ، أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِالتَّعْجِيلِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا لَوِ الْتَزَمَ الْأَصِيلُ التَّعْجِيلَ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّهِ مَقْصُودًا، أَمْ تَبَعًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَفَائِدَتُهُمَا فِيمَا لَوْ مَاتَ الْأَصِيلُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَلَوْ ضَمِنَ الْمُؤَجَّلَ إِلَى شَهْرَيْنِ مُؤَجَّلًا إِلَى شَهْرٍ، فَهُوَ كَضَمَانِ الْمُؤَجَّلِ حَالًّا. السَّادِسَةُ: لَوْ تَكَفَّلَ بِبَدَنِ رَجُلٍ، أَوْ نَفْسِهِ، أَوْ جِسْمِهِ، أَوْ رُوحِهِ، صَحَّ. وَإِنْ تَكَفَّلَ بِعُضْوٍ مِنْهُ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ لَهُمَا قُوَّةً وَسِرَايَةً، وَبِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. الثَّانِي: يَصِحُّ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ عُضْوًا لَا يَبْقَى الْبَدَنُ دُونَهُ، كَالرَّأْسِ، وَالْقَلْبِ، وَالْكَبِدِ، وَالدِّمَاغِ، صَحَّ. وَإِنْ بَقِيَ دُونَهُ، كَالرِّجْلِ، وَالْيَدِ، لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : هَذَا أَصَحُّ. وَالرَّابِعُ: مَا عُبِّرَ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، كَالرَّأْسِ، وَالرَّقَبَةِ، يَصِحُّ. وَمَا لَا، كَالْيَدِ، وَالرِّجْلِ، فَلَا. قَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا أَصَحُّ. وَلِلْوَجْهِ حُكْمُ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: يَصِحُّ قَطْعًا لِشُهْرَةِ هَذَا الْعَقْدِ بِكَفَالَةِ الْوَجْهِ. وَأَمَّا الْجُزْءُ الشَّائِعُ، كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ، فَكَالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَبْقَى الْبَدَنُ دُونَهُ، فَيَكُونُ فِيهِ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: قَطَعَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» بِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ فِيمَا لَوْ كَفَلَ بِرَأْسِهِ، أَوْ وَجْهِهِ، أَوْ عَيْنِهِ، أَوْ قَلْبِهِ وَفُؤَادِهِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَحْيَى دُونَهُ، أَوْ جُزْءٍ شَائِعٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ إِحْدَاهَا: ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ أَلْفًا، وَشَرَطَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ كُلَّ شَهْرٍ دِرْهَمًا وَلَا يَحْسِبَهُ مِنَ الضَّمَانِ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَفِي بُطْلَانِ الضَّمَانِ، وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّانِيَةُ: ضَمِنَ أَوْ كَفَلَ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَالْمَكْفُولِ حَقٌّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ. وَهَلْ يَحْلِفُ، أَمْ يُقْبَلُ بِلَا يَمِينٍ؟ وَجْهَانِ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَنَكَلَ، حَلَفَ الضَّامِنُ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ ضَمِنَ، أَوْ كَفَلَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَأَنْكَرَ الْمَضْمُونُ لَهُ الشَّرْطَ، بُنِيَ ذَلِكَ عَلَى تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ. إِنْ قُلْنَا: لَا يُبَعَّضُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّامِنِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ بَعَّضْنَاهُ، فَقَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ. الثَّالِثَةُ: قَالَ الْكَفِيلُ: بَرِئَ الْمَكْفُولُ، وَأَنْكَرَ الْمَكْفُولُ لَهُ، قَبْلَ إِنْكَارِهِ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ نَكَلَ فَحَلَفَ الْكَفِيلُ بَرِئَ، وَلَا يَبْرَأُ الْمَكْفُولُ. الرَّابِعَةُ: قَالَ تَكَفَّلْتُ بِبَدَنِ زَيْدٍ، فَإِنْ أَحْضَرْتُهُ، وَإِلَّا فَأَنَا كَفِيلٌ بِبَدَنِ عَمْرٍو، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ قَالَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ: أُبَرِّئُ الْكَفِيلَ، وَأَنَا كَفِيلُ الْمَكْفُولِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَصِحُّ.

الْخَامِسَةُ: الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ الْأَجِيرِ الْمُعَيَّنِ، صَحِيحَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمَنْ قَالَ بِتَغْرِيمِ الْكَفِيلِ عِنْدَ مَوْتِ الْأَصِيلِ، لَمْ يُصَحِّحْهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَسَقَطَ الْحَقُّ. [قُلْتُ] الْبَابُ الثَّانِي فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الضَّمَانِ الصَّحِيحِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ تَتَجَدَّدَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ، وَلَا تَنْقَطِعَ مُطَالَبَتُهُ عَنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، بَلْ لَهُ مُطَالَبَتُهُمَا جَمِيعًا، وَمُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ. قُلْتُ: وَلَهُ مُطَالَبَةُ أَحَدِهِمَا بِبَعْضِهِ، وَالْآخَرُ بِبَاقِيهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَلَوْ ضَمِنَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَاهُ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ الضَّمَانُ وَالشَّرْطُ. وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ الضَّمَانُ فَقَطْ. فَإِنْ صَحَّحْنَاهُمَا، بَرِئَ الْأَصِيلُ، وَرَجَعَ الضَّامِنُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ إِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بَرَاءَتَهُ كَمَا لَوْ أَدَّى. وَمَهْمَا أَبْرَأَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ الْأَصِيلِ، بَرِئَ (الضَّامِنُ) لِسُقُوطِ الْحَقِّ، كَمَا لَوْ أَدَّى الْأَصِيلُ الدَّيْنَ، أَوْ أَحَالَ مُسْتَحِقَّهُ عَلَى إِنْسَانٍ، أَوْ أَحَالَ الْمُسْتَحِقُّ غَرِيمَهُ عَلَيْهِ. وَكَذَا يَبْرَأُ بِبَرَاءَتِهِ ضَامِنُ الضَّامِنِ. وَلَوْ أَبْرَأَ الضَّامِنَ، وَلَمْ يَبْرَأِ الْأَصِيلُ، لَكِنْ يَبْرَأُ ضَامِنُ الضَّامِنِ. وَلَوْ أَبْرَأَ ضَامِنَ الضَّامِنِ، لَمْ يَبْرَأِ الضَّامِنُ.

فَرْعٌ ضَمِنَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا، فَمَاتَ الْأَصِيلُ، حَلَّ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَمْ يَحِلَّ عَلَى الضَّامِنِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُهُ، فَعَلَى الصَّحِيحِ، لَوْ أَخَّرَ الْمُسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ، كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِنْ تَرِكَةِ الْأَصِيلِ، أَوْ إِبْرَائِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَهْلَكُ التَّرِكَةُ، فَلَا يَجِدُ مَرْجِعًا إِذَا غُرِّمَ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ. وَلَوْ مَاتَ الضَّامِنُ، حَلَّ عَلَيْهِ الدَّيْنُ. فَإِنْ أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ الْمَالَ مِنْ تَرِكَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يَحِلُّ بِمَوْتِ الضَّامِنِ. الْحُكْمُ الثَّانِي: فِي مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بِالْأَدَاءِ، وَمَدَارُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ خَرَّجَهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي أَنَّ مُجَرَّدَ الضَّمَانِ يُوجِبُ حَقًّا لِلضَّامِنِ عَلَى الْأَصِيلِ وَيُثْبِتُ عَلَقَةً بَيْنَهُمَا، أَمْ لَا؟ فَإِذَا طَالَبَ الْمَضْمُونُ لَهُ الضَّامِنَ بِالْمَالِ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ بِتَخْلِيصِهِ إِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَيْسَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ قَبْلَ أَنْ يُطَالِبَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَهَلْ لِلضَّامِنِ تَغْرِيمُ الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُغَرَّمَ حَيْثُ يَثْبُتُ لَهُ الرُّجُوعُ؟ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى التَّخْرِيجِ الْمَذْكُورِ. وَلْيَكُنِ الْوَجْهَانِ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَمَّا يَقْضِي بِهِ دَيْنُ الْأَصِيلِ، يَمْلِكُهُ. وَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى التَّخْرِيجِ. وَلَوْ دَفَعَهُ الْأَصِيلُ ابْتِدَاءً بِلَا مُطَالَبَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُهُ، فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، كَالْفَقِيرِ إِذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ الْمُعَجَّلَةَ، لَكِنْ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَيْهِ رَدُّهُ. وَلَوْ هَلَكَ عِنْدَهُ، ضَمِنَهُ كَالْمَقْبُوضِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ. وَلَوْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: اقْضِ بِهِ مَا ضَمِنْتَ عَنِّي، فَهُوَ وَكِيلُ الْأَصِيلِ، وَالْمَالُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ. وَلَوْ حَبَسَ الْمَضْمُونُ لَهُ الضَّامِنَ، فَهَلْ لَهُ حَبْسُ الْأَصِيلِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى التَّخْرِيجِ. إِنْ أَثْبَتْنَا الْعَلَقَةَ بَيْنَهُمَا. فَنَعَمْ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَلَوْ أَبْرَأَ الضَّامِنُ الْأَصِيلَ عَمَّا سَيُغَرَّمُ، إِنْ أَثْبَتْنَا الْعَلَقَةَ، صَحَّ الْإِبْرَاءُ، وَإِلَّا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي الْإِبْرَاءِ عَمَّا لَمْ يَجِبْ وَوُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ. وَلَوْ صَالَحَ الضَّامِنُ الْأَصِيلَ عَنِ

الْعَشَرَةِ الَّتِي سَيَغْرَمُهَا عَلَى خَمْسَةٍ، إِنْ أَثْبَتْنَاهَا فِي الْحَالِ، صَحَّ الصُّلْحُ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ عِوَضَ بَعْضِ الْحَقِّ وَأَبْرَأَ عَنِ الْبَاقِي، وَإِلَّا، فَلَا يَصِحُّ. وَلَوْ ضَمِنَ عَنِ الْأَصِيلِ ضَامِنٌ لِلضَّامِنِ، فَفِي صِحَّتِهِ، الْوَجْهَانِ. وَكَذَا لَوْ رَهَنَ الْأَصِيلُ عِنْدَ الضَّامِنِ شَيْئًا بِمَا ضَمِنَ. وَالْأَصَحُّ فِي الْجَمِيعِ: الْمَنْعُ. وَلَوْ شَرَطَ فِي ابْتِدَاءِ الضَّمَانِ أَنْ يُعْطِيَهُ الْأَصِيلُ ضَامِنًا بِمَا ضَمِنَ، فَفِي صِحَّةِ الشَّرْطِ الْوَجْهَانِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا فَوَفَّى، وَإِلَّا فَلِلضَّامِنِ فَسْخُ الضَّمَانِ. وَإِنْ أَفْسَدْنَاهُ، فَسَدَ بِهِ الضَّمَانُ عَلَى الْأَصَحِّ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: الرُّجُوعُ. أَمَّا غَيْرُ الضَّامِنِ إِذَا أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَا رُجُوعَ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ. وَإِنْ أَدَّى بِإِذْنِهِ، رَجَعَ إِنْ شَرَطَ الرُّجُوعَ قَطْعًا. وَكَذَا إِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: إِنْ كَانَ حَالُهُمَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ، رَجَعَ، وَإِلَّا، فَلَا، كَنَظِيرِهِ مِنَ الْهِبَةِ. وَأَمَّا الضَّامِنُ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. الْأَوَّلُ: يَضْمَنُ بِإِذْنٍ وَيُؤَدِّي بِإِذْنٍ، فَيَرْجِعُ سَوَاءٌ شَرَطَ الرُّجُوعَ أَمْ لَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَةَ الْإِذْنِ فِي الْأَدَاءِ بِلَا ضَمَانٍ، حَتَّى يُقَالَ: إِنْ شَرَطَ الرُّجُوعَ رَجَعَ، وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ. وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» رَمْزٌ إِلَيْهِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَضْمَنَ وَيُؤَدِّيَ بِلَا إِذْنٍ، فَلَا رُجُوعَ. الثَّالِثُ: يَضْمَنُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَيُؤَدِّي بِالْإِذْنِ، فَلَا رُجُوعَ عَلَى الْأَصَحِّ. فَلَوْ أَذِنَ فِي الْأَدَاءِ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي الْأَدَاءِ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ مُسْتَحَقٌّ بِالضَّمَانِ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِلَا عِوَضٍ لَا يَجُوزُ مُقَابَلَتُهُ بِعِوَضٍ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ. قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرَّابِعُ: يَضْمَنُ بِالْإِذْنِ، وَيُؤَدِّي بِلَا إِذْنٍ، فَأَوْجُهٌ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: يَرْجِعُ. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ أَوْ بِمُطَالَبَةٍ، وَلَكِنْ أَمْكَنَهُ اسْتِئْذَانُ الْأَصِيلِ، لَمْ يَرْجِعْ، وَإِلَّا فَيَرْجِعُ.

فصل

فَرْعٌ حَوَالَةُ الضَّامِنِ الْمَضْمُونَ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ، وَقَبُولُهُ حَوَالَةَ الْمَضْمُونِ لَهُ عَلَيْهِ، وَمُصَالَحَتُهُمَا عَنِ الدَّيْنِ عَلَى عِوَضٍ، وَصَيْرُورَةُ الدَّيْنِ مِيرَاثًا لِلضَّامِنِ، كَالْأَدَاءِ فِي ثُبُوتِ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ. فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الرُّجُوعِ فَإِنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ إِلَى رَبِّ الدَّيْنِ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ وَعَلَى صِفَتِهِ، رَجَعَ بِهِ. وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، فَالْكَلَامُ فِي الْمَأْذُونِ فِي الْأَدَاءِ بِلَا ضَمَانٍ، ثُمَّ فِي الضَّامِنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ، فَالْمَأْذُونُ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ أَوْ دُونَهُ، إِنْ أَثْبَتْنَاهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى غَيْرِ الْجِنْسِ، فَفِي رُجُوعِهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَرْجِعُ. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ قَالَ: أَدِّ دَيْنِي أَوْ مَا عَلَيَّ، رَجَعَ، وَإِنْ قَالَ: أَدِّ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّنَانِيرِ مَثَلًا، فَلَا رُجُوعَ. وَإِذَا قُلْنَا: يَرْجِعُ، رَجَعَ بِمَا سَنَذْكُرُ فِي الضَّامِنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الضَّامِنُ، إِذَا صَالَحَ عَلَى غَيْرِ الْجِنْسِ، فَيَرْجِعُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ بِالضَّمَانِ ثَبَتَ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ كَثُبُوتِهِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ، وَالْمُصَالَحَةُ مُعَامَلَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَصَالِحِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدَّيْنِ، لَمْ يَرْجِعْ بِالزِّيَادَةِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ، كَمَنْ صَالَحَ عَنْ أَلْفٍ بِعَبْدٍ يُسَاوِي تِسْعَمِائَةٍ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَرْجِعُ بِتِسْعِمِائَةٍ. وَالثَّانِي: بِالْأَلْفٍ. وَلَوْ بَاعَهُ الْعَبْدُ بِأَلْفٍ، ثُمَّ تَقَاصَّا، رَجَعَ (بِالْأَلْفِ) بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ الْعَبْدَ بِمَا ضَمِنْتُهُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَهُ؟ أَمْ بِالْأَقَلِّ مِمَّا ضَمِنَهُ، وَمِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ الصِّحَّةُ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الصِّفَةُ، فَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى خَيْرًا، بِأَنْ أَدَّى الصِّحَاحُ عَنِ الْمُكَسَّرَةِ، لَمْ يَرْجِعْ بِالصِّحَاحِ. وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، الْقَطْعُ بِالرُّجُوعِ. فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالرُّجُوعِ إِحْدَاهَا: ضَمِنَ عَشَرَةً، وَأَدَّى خَمْسَةً، وَأَبْرَأَهُ رَبُّ الْمَالِ عَنِ الْبَاقِي، لَمْ يَرْجِعْ إِلَّا بِالْخَمْسَةِ الْمَغْرُومَةِ، وَتَبْقَى الْخَمْسَةُ الْأُخْرَى عَلَى الْأَصِيلِ. وَلَوْ صَالَحَهُ مِنَ الْعَشَرَةِ عَلَى خَمْسَةٍ، لَمْ يَرْجِعْ إِلَّا بِالْخَمْسَةِ أَيْضًا، لَكِنْ يَبْرَأُ الضَّامِنُ وَالْأَصِيلُ عَنِ الْبَاقِي. الثَّانِيَةُ: ضَمِنَ ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ دَيْنًا عَلَى مُسْلِمٍ، ثُمَّ تَصَالَحَا عَلَى خَمْرٍ، فَهَلْ يَبْرَأُ الْمُسْلِمُ لِأَنَّ الْمُصَالَحَةَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ، أَمْ لَا، كَمَا لَوْ دَفَعَ الْخَمْرَ بِنَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَفِي رُجُوعِ الضَّامِنِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ مَا أُدِّيَ لَيْسَ بِمَالٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَسْقَطَ الدَّيْنَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يَبْرَأُ، وَلَا يَرْجِعُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثَةُ: ضَمِنَ عَنِ الضَّامِنِ آخَرُ، وَأَدَّى الثَّانِي، فَرُجُوعُهُ عَلَى الْأَوَّلِ، كَرُجُوعِ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَصِيلِ، فَيُرَاعَى الْإِذْنُ وَعَدَمُهُ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَثْبُتْ بِأَدَائِهِ لِلْأَوَّلِ الرُّجُوعُ عَلَى الْأَصِيلِ إِذَا وَجَدَ شَرْطَهُ فَلَوْ أَرَادَ الثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ، وَيَتْرُكَ الْأَوَّلَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْأَصِيلُ قَالَ لَهُ: اضْمَنْ عَنْ ضَامِنِي، فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ، وَجْهَانِ. كَمَا لَوْ قَالَ لِإِنْسَانٍ: أَدِّ دَيْنِي وَلَيْسَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَدِّ دَيْنَ فُلَانٍ، حَيْثُ لَا يَرْجِعُ قَطْعًا عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ: اضْمَنْ عَنْ ضَامِنِي، فَإِنْ كَانَ الْحَالُ لَا يَقْتَضِي رُجُوعَ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَصِيلِ، لَمْ يَرْجِعْ

الثَّانِي عَلَيْهِ. وَإِنِ اقْتَضَاهُ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ عَنِ الْأَصِيلِ. وَلَوْ أَنَّ الثَّانِيَ ضَمِنَ عَنِ الْأَصِيلِ أَيْضًا، فَلَا رُجُوعَ لِأَحَدِ الضَّامِنَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ لِلْمُؤَدِّي عَلَى الْأَصِيلِ. وَلَوْ ضَمِنَ عَنِ الْأَوَّلِ وَالْأَصِيلِ مَعًا، فَأَدَّى، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، وَأَنْ يَرْجِعَ عَلَى هَذَا بِالْبَعْضِ، وَعَلَى ذَاكَ بِالْبَعْضِ، ثُمَّ لِلْأَوَّلِ الرُّجُوعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا غَرِمَ بِشَرْطِهِ. الرَّابِعَةُ: عَلَى زَيْدٍ عَشَرَةً، ضَمِنَهَا اثْنَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَةٌ، وَضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ عَنِ الْآخَرِ، فَلِرَبِّ الْمَالِ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَشَرَةِ، نِصْفُهَا عَنِ الْأَصِيلِ، وَنِصْفُهَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا الْعَشَرَةَ، رَجَعَ بِالنِّصْفِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَبِالنِّصْفِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْجَمِيعِ عَلَى الْأَصِيلِ إِذَا كَانَ لِصَاحِبِهِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ لَوْ غُرِّمَ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ إِلَّا خَمْسَةً، نُظِرَ، هَلْ أَدَّاهَا عَنِ الْأَصِيلِ، أَوْ عَنْ صَاحِبِهِ، أَوْ عَنْهُمَا؟ وَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ بِحَسْبِهِ. الْخَامِسَةُ: ضَمِنَ الثَّمَنَ، فَهَلَكَ الْمَبِيعُ لَهُ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ، أَوْ ضَمِنَ الصَّدَاقَ، فَارْتَدَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ فُسِخَتْ بِعَيْبٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الضَّامِنُ، بَرِئَ الضَّامِنُ وَالْأَصِيلُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَثْبُتُ الرُّجُوعُ، رَجَعَ بِالْمَغْرُومِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَضَمِنَ رَبُّ الدَّيْنِ لِلْأَصِيلِ مَا أَخَذَ إِنْ كَانَ هَالِكًا. وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا، رَدَّهُ بِعَيْنِهِ. وَهَلْ لَهُ إِمْسَاكُهُ وَرَدُّ بَدَلِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا إِذَا رَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ وَعَيَّنَ دَرَاهِمَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَأَرَادَ إِمْسَاكَهَا وَرَدَّ مِثْلِهَا، وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. وَإِنَّمَا يَغْرَمُ لِلْأَصِيلِ دُونَ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ فِي ضِمْنِ الْأَدَاءِ عَنْهُ إِقْرَاضُهُ وَتَمْلِيكُهُ إِيَّاهُ. وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَثْبُتُ لِلضَّامِنِ الرُّجُوعُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَيَلْزَمُ الْمَضْمُونَ لَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ. وَعَلَى مَنْ يَرُدُّ؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَنْ تَبَرَّعَ بِالصَّدَاقِ وَطَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَةُ: أَدَّى الضَّامِنُ الدَّيْنَ، ثُمَّ وَهَبَهُ رَبُّ الدَّيْنِ لَهُ، فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ وَهَبَتِ الصَّدَاقَ لِلزَّوْجِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الرُّجُوعُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. السَّابِعَةُ: لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ عَشَرَةٌ، وَضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا عَلَى الْآخَرِ، فَلِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يُطَالِبَهُمَا، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا بِالْعَشَرَةِ، فَإِنْ أَدَّاهَا أَحَدُهُمَا، بَرِئَا جَمِيعًا، وَلِلْمُؤَدِّي الرُّجُوعُ بِخَمْسَةٍ عَلَى صَاحِبِهِ إِنْ وُجِدَ شَرْطُ الرُّجُوعِ. وَإِنْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَةً عَمَّا عَلَيْهِ، فَلَا رُجُوعَ. وَإِنْ أَدَّى عَنِ الْآخَرِ، جَاءَ خِلَافَ التَّقَاصِّ. وَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا خَمْسَةً، وَلَمْ يُؤَدِّ الْآخَرُ شَيْئًا، فَإِنْ أَدَّاهَا عَنْ نَفْسِهِ، بَرِئَ مِمَّا عَلَيْهِ، وَبَقِيَ عَلَى صَاحِبِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَالْمُؤَدِّي ضَامِنٌ لَهُ. وَإِنْ أَدَّاهَا عَنْ صَاحِبِهِ، رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ، مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَصَاحِبُهُ ضَامِنٌ لَهُ. وَإِنْ أَدَّاهَا عَنْهُمَا، فَلِكُلِّ نِصْفٍ حُكْمُهُ. وَإِنْ أَدَّى وَلَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا، فَهَلْ يُقَسَّطُ عَلَيْهِمَا؟ أَوْ يُقَالُ: اصْرِفْ إِلَى مَا شِئْتَ؟ وَجْهَانِ سَبَقَ نَظِيرُهُمَا فِي آخِرِ الرَّهْنِ. وَمِنْ فَوَائِدِهِمَا، أَنْ يَكُونَ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا رَهْنٌ. فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ صَرْفُهُ، فَصَرَفَهُ إِلَى مَا بِهِ الرَّهْنُ، انْفَكَّ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ قَالَ الْمُؤَدِّي: أَدَّيْتُ عَمَّا عَلَيَّ، فَقَالَ الْقَابِضُ: بَلْ عَنْ صَاحِبِكَ، صُدِّقَ الْمُؤَدِّي بِيَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ، بَرِئَ مِمَّا عَلَيْهِ، لَكِنْ لِرَبِّ الدَّيْنِ مُطَالَبَتُهُ بِخَمْسَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ خَمْسَةً أُخْرَى، إِمَّا بِالْأَصَالَةِ، وَإِمَّا بِالضَّمَانِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا مُطَالَبَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ طَالَبَهُ عَنِ الْأَصَالَةِ، فَالشَّرْعُ يُصَدِّقُ الْمُؤَدِّيَ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْهَا. وَإِنْ طَالَبَهُ بِالضَّمَانِ، فَرَبُّ الدَّيْنِ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ. وَإِنْ أَبْرَأَ رَبُّ الدَّيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ جَمِيعِ الْعَشَرَةِ، بَرِئَ أَصْلًا وَضَمَانًا، وَبَرِئَ الْآخَرُ مِنَ الضَّمَانِ دُونَ الْأَصْلِ. وَإِنْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا عَنْ خَمْسَةٍ، نُظِرَ، إِنْ أَبْرَأَ عَنِ الْأَصْلِ، بَرِئَ عَنْهُ، وَبَرِئَ صَاحِبُهُ عَنْ ضَمَانِهِ وَهِيَ عَلَيْهِ ضَمَانَةُ مَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ عَنِ الضَّمَانِ وَبَرِئَ عَنْهُ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ الْأَصِيلُ، وَبَقِيَ عَلَى صَاحِبِهِ الْأَصْلُ وَالضَّمَانُ وَإِنْ أَبْرَأَهُ عَنِ الْخَمْسَةِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا، سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الْأَصْلِ وَنِصْفُ الضَّمَانِ، وَعَنْ صَاحِبِهِ نِصْفُ الضَّمَانِ (وَبَقِيَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ،

وَنِصْفُ الضَّمَانِ) ، فَيُطَالِبُهُ بِسَبْعَةٍ وَنِصْفٍ، وَيُطَالِبُ الْمُبَرَّأَ بِخَمْسَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ الْإِبْرَاءِ شَيْئًا، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى النِّصْفِ، أَمْ يُخَيَّرُ لِيَصْرِفَ إِلَى مَا شَاءَ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُ عَنِ الضَّمَانِ، فَقَالَ الْمُبَرَّأُ: بَلْ عَنِ الْأَصْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُبَرِّئِ. الثَّامِنَةُ: ادَّعَى أَنَّ لَهُ عَلَى زَيْدٍ وَعَلَى غَائِبٍ أَلْفًا بَاعَهُمَا بِهِ عَبْدًا قَبَضَاهُ، أَوْ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمِنَ مَا عَلَى الْآخَرِ وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، فَأَخَذَ الْأَلْفَ مِنْ زَيْدٍ، نَصَّ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَائِبِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ. قَالَ الْجُمْهُورُ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ وُجِدَ مِنْ زَيْدٍ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ. فَإِنْ كَانَ، لَمْ يَرْجِعْ؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِزَعْمِهِ، فَلَا يُطَالِبُ غَيْرَ ظَالِمِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: يَرْجِعُ وَإِنْ صَرَّحَ بِالتَّكْذِيبِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَبْطَلَتْ حُكْمَ إِنْكَارِهِ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا سَبَقَ مِنْ رُجُوعِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْأَدَاءِ، وَالضَّامِنِ عَلَى الْأَصِيلِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا أَشْهَدَ عَلَى الْأَدَاءِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ. فَلَوْ أَشْهَدَ وَاحِدًا اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ يَحْلِفُ مَعَهُ، أَوْ أَشْهَدَ مَسْتُورَيْنِ، فَبَانَا فَاسِقَيْنِ، كَفَى ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَكْفِي إِشْهَادُ مَنْ يُعْلَمُ سَفَرُهُ عَنْ قُرْبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى الْمَقْصُودِ. أَمَّا إِذَا أَدَّى بِلَا إِشْهَادٍ، وَأَنْكَرَ رَبُّ الْمَالِ، فَإِنْ أَدَّى فِي غَيْبَةِ الْأَصِيلِ، فَمُقَصِّرٌ، فَلَا يَرْجِعُ إِنْ كَذَّبَهُ الْأَصِيلُ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَهَلْ يَحْلِفُ الْأَصِيلُ إِذَا كَذَّبَهُ؟ قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ، هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، حَلَّفَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْأَدَاءِ، وَإِلَّا بُنِيَ عَلَى أَنَّ النُّكُولَ وَرَدَّ الْيَمِينِ، كَالْإِقْرَارِ، أَمْ كَالْبَيِّنَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، لَمْ يُحَلِّفْهُ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يُنَكَّلَ فَيَحْلِفُ الضَّامِنُ، فَيَكُونُ كَتَصْدِيقِهِ،

فصل

وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ الرُّجُوعَ. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، حَلَّفَهُ طَمَعًا فِي أَنْ يَنْكُلَ، وَيَحْلِفُ، فَيَكُونُ كَالْبَيِّنَةِ. وَلَوْ كَذَّبَهُ الْأَصِيلُ وَصَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ، رَجَعَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِسُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ. وَأَمَّا إِذَا أَدَّى بِحُضُورِ الْأَصِيلِ، فَيَرْجِعُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَلَوْ تَوَافَقَ الْأَصِيلُ وَالضَّامِنُ عَلَى أَنَّهُ أَشْهَدَ، وَلَكِنْ مَاتَ الشُّهُودُ أَوْ غَابُوا، ثَبَتَ الرُّجُوعُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَلَوْ قَالَ الضَّامِنُ: أَشْهَدْتُ وَمَاتُوا، وَأَنْكَرَ الْأَصِيلُ الْإِشْهَادَ، فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِشْهَادِ، أَوْ قَوْلُ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّقْصِيرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: أَشْهَدْتُ فُلَانًا وَفُلَانًا، فَكَذَّبَاهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَشْهَدْ. وَلَوْ قَالَا: لَا نَدْرِي وَرُبَّمَا نَسِينَا، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ. وَمَتَى لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِالْأَدَاءِ، وَحَلَفَ رَبُّ الْمَالِ، بَقِيَتْ مُطَالَبَتُهُ بِحَالِهَا. فَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ مِنَ الْأَصِيلِ، فَذَاكَ. وَإِنْ أَخَذَ مِنَ الْكَفِيلِ مَرَّةً أُخْرَى، فَقِيلَ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَرْجِعُ. وَهَلْ يَرْجِعُ بِالْمَغْرُومِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالثَّانِي، أَمْ بِالثَّانِي لِأَنَّهُ الْمُسْقِطُ لِلْمُطَالَبَةِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ بِأَقَلِّهِمَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالثَّانِي. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ الْمُبَرَّئُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مِنَ الزَّائِدِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ الضَّمَانُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَثْبُتُ الرُّجُوعُ، وَوَجَدَ الضَّامِنُ مَرْجِعًا، فَهُوَ مَحْسُوبٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الرُّجُوعُ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مَرْجِعًا لِمَوْتِ الْأَصِيلِ مُعْسِرًا، فَمِنَ الثُّلُثِ. وَمَتَى وَفَّتْ تَرِكَةُ الْأَصِيلِ بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ، فَلَا دَوْرَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إِنْ أَخَذَهُ مِنْ وَرَثَةِ الضَّامِنِ، رَجَعُوا بِثُلُثَيْهِ فِي تَرِكَةِ الْأَصِيلِ. وَإِنْ أَخَذَ تَرِكَةَ

الْأَصِيلِ وَبَقِيَ شَيْءٌ، أَخَذَهُ مِنْ تَرِكَةِ الضَّامِنِ وَيَقَعُ تَبَرُّعًا؛ لِأَنَّ وَرَثَةَ الضَّامِنِ لَا يَجِدُونَ مَرْجِعًا. وَإِنْ لَمْ تَفِ التَّرِكَةُ بِالثُّلُثَيْنِ، فَقَدْ يَقَعُ الدَّوْرُ، كَمَرِيضٍ ضَمِنَ تِسْعِينَ، وَمَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا تِسْعُونَ، وَمَاتَ الْأَصِيلُ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ تَرِكَةَ الْأَصِيلِ كُلَّهَا وَلَا دَوْرَ حِينَئِذٍ، وَيُطَالِبُ وَرَثَةَ الضَّامِنِ بِثَلَاثِينَ، وَيَقَعُ تَبَرُّعًا إِذْ لَمْ يَبْقَ لِلْأَصِيلِ تَرِكَةٌ يُرْجَعُ فِيهَا، وَإِنْ أَرَادَ الْأَخْذَ مِنْ تَرِكَةِ الضَّامِنِ، لَزِمَ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ مَا يَغْرَمُهُ وَرَثَةُ الضَّامِنِ، يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّ الْمَغْرُومَ صَارَ دَيْنًا لَهُمْ عَلَى الْأَصِيلِ، فَيَتَضَارَبُونَ بِهِ مَعَ رَبِّ الْمَالِ فِي تَرِكَةِ الْأَصِيلِ، وَيَلْزَمُ مِنْ رُجُوعِ بَعْضِهِ زِيَادَةُ التَّرِكَةِ وَمِنْ زِيَادَةِ التَّرِكَةِ زِيَادَةُ الْمَغْرُومِ، وَمِنْ زِيَادَةِ الْمَغْرُومِ زِيَادَةُ الرَّاجِعِ. وَطَرِيقُ اسْتِخْرَاجِهِ أَنْ يُقَالَ: يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ وَرَثَةِ الضَّامِنِ شَيْئًا، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِمْ مِثْلُ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّ تَرِكَةَ الْأَصِيلِ نِصْفُ تَرِكَةِ الضَّامِنِ، فَيَبْقَى عِنْدَهُمْ تِسْعُونَ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، وَهُوَ يَعْدِلُ مِثْلَيْ مَا تَلِفَ بِالضَّمَانِ، وَالتَّالِفُ نِصْفُ شَيْءٍ، وَمِثْلَا شَيْءٍ، فَإِذًا تِسْعُونَ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئًا. وَإِذَا جَبَرْنَا وَقَابَلْنَا، عَدَلَتْ تِسْعُونَ شَيْئًا وَنِصْفًا فَيَكُونُ الشَّيْءُ سِتِّينَ، فَبَانَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ سِتُّونَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ السِّتُّونَ دَيْنًا لَهُمْ عَلَى الْأَصِيلِ، وَقَدْ بَقِيَ لِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثُونَ، فَيَتَضَارَبُونَ فِي تَرِكَتِهِ بِسَهْمَيْنِ وَسَهْمٍ، وَتَرِكَتُهُ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، يَأْخُذُ مِنْهَا الْوَرَثَةُ ثَلَاثِينَ، وَرَبُّ الدَّيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَيَتَعَطَّلُ بَاقِي دَيْنِهِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَيَكُونُ الْحَاصِلُ لِلْوَرَثَةِ سِتِّينَ، ثَلَاثِينَ بَقِيَتْ عِنْدَهُمْ، وَثَلَاثِينَ أَخَذُوهَا مِنْ تَرِكَةِ الْأَصِيلِ، وَذَلِكَ مَثَلًا مَا تَلِفَ وَوَقَعَ تَبَرُّعًا، وَهُوَ ثَلَاثُونَ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَكِنَّ تَرِكَةَ الْأَصِيلِ ثَلَاثُونَ، فَيَأْخُذُ رَبُّ الدَّيْنِ شَيْئًا، وَيَرْجِعُ إِلَى وَرَثَةِ الضَّامِنِ مِثْلُ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ تَرِكَةَ الْأَصِيلِ ثُلُثُ تَرِكَةِ الضَّامِنِ، فَيَبْقَى عِنْدَهُمْ تِسْعُونَ نَاقِصَةً ثُلُثَيْ شَيْءٍ تَعْدِلُ

مِثْلَيِ التَّالِفِ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ ثُلُثَا شَيْءٍ، فَمِثْلَاهُ شَيْءٌ وَثُلُثٌ. فَإِذَنْ تِسْعُونَ إِلَّا ثُلُثُ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئًا وَثُلُثًا، فَإِذَا جَبَرْنَا وَقَابَلْنَا، عَدَلَتْ تِسْعُونَ شَيْئَيْنِ فَيَكُونُ الشَّيْءُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ مَا أَخَذَهُ رَبُّ الدَّيْنِ، وَصَارَ دَيْنًا لِوَرَثَةِ الضَّامِنِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَبَقِيَ لِرَبِّ الدَّيْنِ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَيْضًا، فَيَتَضَارَبُونَ فِي تَرِكَتِهِ بِسَهْمٍ وَسَهْمٍ، فَتُجْعَلُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً. وَلَوْ كَانَتْ تَرِكَةُ الْأَصِيلِ سِتِّينَ، فَلَا دَوْرَ، بَلْ لِرَبِّ الدَّيْنِ أَخْذُ تَرِكَةِ الضَّامِنِ كُلِّهَا، ثُمَّ هُمْ يَأْخُذُونَ تَرِكَةَ الْأَصِيلِ كُلَّهَا بِحَقِّ الرُّجُوعِ، وَيَقَعُ الْبَاقِي تَبَرُّعًا. قُلْتُ: وَهَذِهِ مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ، تَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ. وَتَرَكَ بَيَاضًا فِي الْأَصْلِ.

كتاب الشركة

كِتَابُ الشَّرِكَةِ كُلُّ حَقٍّ ثَابِتٍ بَيْنَ شَخْصَيْنِ فَصَاعِدًا عَلَى الشُّيُوعِ، يُقَالُ: هُوَ مُشْتَرَكٌ وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالٍ، كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَمَنْفَعَةِ كَلْبِ الصَّيْدِ، وَنَحْوِهِ، وَإِلَى مُتَعَلِّقٍ بِمَالٍ، وَذَلِكَ إِمَّا عَيْنُ مَالٍ وَمَنْفَعَتِهِ، كَمَا لَوْ غَنِمُوا مَالًا أَوْ وَرِثُوهُ أَوِ اشْتَرَوْهُ. وَإِمَّا مُجَرَّدُ مَنْفَعَةٍ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرُوا عَبْدًا، أَوْ وُصَّى لَهُمْ بِمَنْفَعَتِهِ. وَإِمَّا مُجَرَّدُ الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ وَرِثُوا عَبْدًا مُوصَى بِمَنَافِعِهِ. وَإِمَّا حَقٌّ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَالٍ، كَالشُّفْعَةِ الثَّابِتَةِ لِجَمَاعَةٍ. وَالشَّرِكَةُ قَدْ تَحْدُثُ بِلَا اخْتِيَارٍ كَالْإِرْثِ، وَبِاخْتِيَارٍ كَالشِّرَاءِ، وَهَذَا مَقْصُودُ الْكِتَابِ. وَالشَّرِكَةُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ. الْأَوَّلُ: شَرِكَةُ الْعِنَانِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ. الْأَوَّلُ: الْعَاقِدَانِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ وَالتَّوَكُّلِ. وَتُكْرَهُ مُشَارَكَةُ الذِّمِّيِّ، وَمَنْ لَا يَحْتَرِزُ مِنَ الرِّبَا وَنَحْوِهِ. الثَّانِي: الصِّيغَةُ، وَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ. فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ صَرِيحًا، فَذَاكَ. فَلَوْ قَالَا: اشْتَرَكْنَا، وَاقْتَصَرَا عَلَيْهِ، لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ، لِتَسَلُّطِهِمَا عَلَى التَّصَرُّفِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَلَوْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْجَمِيعِ، وَلَمْ يَأْذَنِ الْآخَرُ، تَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَمْ يَتَصَرَّفِ الْآخَرُ إِلَّا فِي نَصِيبِهِ، وَكَذَا لَوْ أَذِنَ لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْجَمِيعِ وَقَالَ، أَنَا لَا أَتَصَرَّفُ إِلَّا فِي نَصِيبِي. وَلَوْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ

فِي نَصِيبِهِ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَجْرِ عَلَى الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنْ عَيَّنَ جِنْسًا، لَمْ يَتَصَرَّفِ الْمَأْذُونُ فِي نَصِيبِ الْإِذْنِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْجِنْسِ. وَإِنْ قَالَ: تَصَرَّفْ وَاتَّجِرْ فِيمَا شِئْتَ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَالِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ. قُلْتُ: وَلَوْ أَطْلَقَ الْإِذْنَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ كَالْقِرَاضِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثُ: الْمَالُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي النَّقْدَيْنِ قَطْعًا، وَلَا تَجُوزُ فِي الْمُتَقَوَّمَاتِ قَطْعًا. وَفِي الْمِثْلِيَّاتِ، قَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ. وَالْمُرَادُ بِالنَّقْدَيْنِ، الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَضْرُوبَةُ. أَمَّا التِّبْرُ وَالْحُلِيُّ وَالسَّبَائِكُ، فَأَطْلَقُوا مَنْعَ الشَّرِكَةِ فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُبْنَى عَلَى أَنَّ التِّبْرَ مِثْلِيٌّ أَمْ لَا، وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُتَقَوَّمًا، لَمْ تَجُزِ الشَّرِكَةُ، وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ فِي الْمِثْلِيِّ. وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ الْمَغْشُوشَةُ، فَقَالَ الرُّويَانِيُّ: لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهَا. وَحُكِيَ فِي «التَّتِمَّةِ» فِي صِحَّةِ الْقِرَاضِ عَلَيْهَا، خِلَافًا مَبْنِيًّا عَلَى جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا، إِنْ جَوَّزْنَاهَا، فَقَدْ أَلْحَقْنَا الْمَغْشُوشَ بِالْخَالِصِ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِذَا جَاءَ فِي الْقِرَاضِ خِلَافٌ، فَفِي الشَّرِكَةِ أَوْلَى. وَقَالَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : الْفَتْوَى جَوَازُ الشَّرِكَةِ فِيهَا إِنِ اسْتَمَرَّ فِي الْبَلَدِ رَوَاجُهَا. قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ «الْعُدَّةِ» هُوَ الْأَصَحُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَطْلَقُوا مَنْعَ الشَّرِكَةِ فِي التِّبْرِ إِلَى آخِرِهِ، فَعَجَبٌ، فَإِنَّ صَاحِبَ «التَّتِمَّةِ» حَكَى فِي انْعِقَادِ الشَّرِكَةِ عَلَى التِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ وَجْهَيْنِ كَالْمِثْلِيِّ. وَالْمُرَادُ بِصَاحِبِ «الْعُدَّةِ» هُنَا، أَبُو الْمَكَارِمِ الرُّويَانِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ مَنْعِ الشَّرِكَةِ وَجَوَازِهَا، الْمُرَادُ بِهِ: إِذَا أَخْرَجَ هَذَا قَدْرًا مِنْ مَالِهِ، وَذَاكَ قَدْرًا، وَجَعَلَاهُمَا رَأْسَ مَالٍ. وَتُتَصَوَّرُ الشَّرِكَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ الَّذِي تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِيهِ، وَأَرَادَ الشَّرِكَةَ، اشْتُرِطَ خَلْطُ الْمَالَيْنِ خَلْطًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَا، فَتَلِفَ مَالُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ التَّصَرُّفِ، تَلِفَ عَلَى صَاحِبِهِ فَقَطْ، وَتَعَذَّرَ إِثْبَاتُ الشَّرِكَةِ فِي الْبَاقِي، فَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ إِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، أَوِ الصِّفَةُ كَاخْتِلَافِ السَّكَّةِ، وَكَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ، أَوِ الْمَثْقُوبَةِ، وَكَالْعَتِيقَةِ وَالْجَدِيدَةِ، وَالْبَيْضَاءِ وَالسَّوْدَاءِ. وَفِي الْبِيضِ وَالسُّودِ، وَجْهٌ عَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَإِذَا جَوَّزْنَا الشَّرِكَةَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَجَبَ تَسَاوِيهِمَا جِنْسًا وَوَصْفًا، فَلَا يَكْفِي خَلْطُ حِنْطَةٍ حَمْرَاءَ بِبَيْضَاءَ لِإِمْكَانِ التَّمْيِيزِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ عُسْرٌ. وَفِي وَجْهٍ: يَكْفِي؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ خَلْطًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ الْخَلْطُ عَلَى الْعَقْدِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ، حَكَى فِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، إِذْ لَا اشْتِرَاكَ حَالَ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ إِنْ وَقَعَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ كَالْعَقْدِ. فَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَمَالَ الْإِمَامُ إِلَى جَوَازِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَوْكِيلٌ، وَتَوَكُّلٌ. لَكِنْ لَوْ قَيَّدَ الْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الْمُفْرَدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ الْإِذْنِ. وَلَوْ وَرِثُوا عُرُوضًا أَوِ اشْتَرَوْهَا، فَقَدْ مَلَكُوهَا شَائِعَةً، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنَ الْخَلْطِ. فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ الْإِذْنُ فِي التَّصَرُّفِ، تَمَّ الْعَقْدُ. وَلِهَذَا قَالَ الْمُزَنِيُّ وَالْأَصْحَابُ: الْحِيلَةُ فِي الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ الْمُتَقَوَّمَةِ، أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ تَجَانَسَ الْعَرْضَانِ أَوِ اخْتَلَفَا، لِيَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَيَتَقَابَضَانِ، وَيَأْذَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : يَصِيرُ الْعَرْضَانِ مُشْتَرِكَيْنِ، وَيَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِمَا بِالْإِذْنِ، لَكِنْ لَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ الشَّرِكَةِ فِي الثَّمَنِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَا عَقْدًا، وَهُوَ نَاضٌّ، وَمُقْتَضَى إِطْلَاقِ

الْجُمْهُورِ، ثُبُوتُ الشَّرِكَةِ وَأَحْكَامِهَا مُطْلَقًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَوْ لَمْ يَتَبَايَعَا الْعَرْضَيْنِ، لَكِنْ بَاعَاهُمَا بِعَرْضٍ أَوْ نَقْدٍ، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، قَوْلَانِ سَبَقَا. فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، كَانَ الثَّمَنُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى التَّسَاوِي أَوِ التَّفَاضُلِ بِحَسَبِ قِيمَةِ الْعَرْضَيْنِ، فَيَأْذَنُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ. قُلْتُ: وَإِذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْضَ عَرْضِهِ بِبَعْضِ عَرْضِ صَاحِبِهِ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُمَا بِقِيمَةِ الْعَرْضَيْنِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْحَاوِي» . وَالصَّحِيحُ: لَا يُشْتَرَطُ. وَمِنَ الْحِيَلِ فِي هَذَا أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْضَ عَرْضِهِ لِصَاحِبِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَتَقَاصَّا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثَةُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَسَاوِي الْمَالَيْنِ فِي الْقَدْرِ، بَلْ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ مَعَ التَّفَاوُتِ عَلَى نِسْبَةِ الْمَالَيْنِ، وَقَالَ الْأَنْمَاطِيُّ: يُشْتَرَطُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ حَالَةَ الْعَقْدِ بِقَدْرِ النَّصِيبَيْنِ بِأَنْ يَعْرِفَا أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، أَوْ عَلَى نِسْبَةٍ أُخْرَى؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ إِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ مِنْ بُعْدٍ. وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مَالٌ مُشْتَرَكٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَجْهَلُ حِصَّتَهُ، فَأَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي كُلِّ الْمَالِ أَوْ فِي نَصِيبِهِ، هَلْ يَصِحُّ الْإِذْنُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِجَهْلِهِمَا. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَثْمَانُ بَيْنَهُمَا مُبْهَمَةً كَالْمُثَمَّنَاتِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ لَهُمَا ثَوْبَانِ اشْتَبَهَا، لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ لَعَقْدِ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّ الْمَالَيْنِ مُتَمَيِّزَانِ، لَكِنِ اشْتَبَهَا.

فَرْعٌ قَالَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: إِذَا جَوَّزْنَا الشَّرِكَةَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، فَإِنِ اسْتَوَتِ الْقِيمَتَانِ، كَانَا شَرِيكَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ. وَإِنِ اخْتَلَفَتَا، بِأَنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا قَفِيزٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَلِلْآخَرِ قَفِيزٌ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ، فَهُمَا شَرِيكَانِ مُثَالَثَةً، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَطْعِ النَّظَرِ فِي الْمِثْلِيِّ عَنْ تَسَاوِي الْأَجْزَاءِ فِي الْقِيمَةِ. فَرْعٌ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ، وَلِلْآخَرِ دَنَانِيرُ، وَاشْتَرَيَا شَيْئًا بِهِمَا، فَطَرِيقُهُ أَنْ يُقَوَّمَ مَا لَيْسَ بِنَقْدِ الْبَلَدِ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ نَقْدُهُ، فَإِنِ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمَا، فَالشَّرِكَةُ عَلَى التَّسَاوِي، وَإِلَّا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ. النَّوْعُ الثَّانِي: شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ الدَّلَّالَانِ أَوِ الْحَمَّالَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحِرَفِ عَلَى مَا يَكْسِبَانِ، لِيَكُونَ بَيْنَهُمَا مُتَسَاوِيًا أَوْ مُتَفَاضِلًا، وَهِيَ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي الصَّنْعَةِ، أَوِ اخْتَلَفَا، كَالْخَيَّاطِ وَالنَّجَّارِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُتَمَيِّزٌ بِبَدَنِهِ وَمَنَافِعِهِ فَاخْتُصَّ بِفَوَائِدِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي مَاشِيَتِهِمَا وَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ، لِيَكُونَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَصِحُّ سَوَاءٌ اتَّفَقَتِ الصَّنْعَةُ أَمْ لَا. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ، حَكَاهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ قَوْلًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِذَا أَبْطَلْنَا فَاكْتَسَبَا، نُظِرَ، إِنِ انْفَرَدَا، فَلِكُلٍّ كَسْبُهُ، وَإِلَّا فَيُقَسَّمُ الْحَاصِلُ عَلَى قَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، لَا بِحَسَبِ الشَّرْطِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَا لِيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَا يَكْسِبَانِ

وَيَرْبَحَانِ وَيَلْزَمَانِ مِنْ غُرْمٍ وَيَحْصُلُ مِنْ غُنْمٍ. وَهِيَ بَاطِلَةٌ. فَلَوِ اسْتَعْمَلَا لَفْظَ الْمُفَاوَضَةِ، وَأَرَادَا شَرِكَةَ الْعِنَانِ جَازَ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَهَذَا يُقَوِّي تَصْحِيحَ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: شَرِكَةُ الْوُجُوهِ، وَقَدْ فُسِّرَتْ بِصُوَرٍ. أَشْهَرُهَا: أَنْ يَشْتَرِكَ وَجِيهَانِ عِنْدَ النَّاسِ، لِيَبْتَاعَا فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلٍ، عَلَى أَنَّ مَا يَبْتَاعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا، فَيَبِيعَانِهِ وَيُؤَدِّيَانِ الْأَثْمَانَ، فَمَا فَضُلَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْتَاعَ وَجِيهٌ فِي الذِّمَّةِ، وَيُفَوِّضَ بَيْعَهُ إِلَى خَامِلٍ، وَيَشْتَرِطَا أَنْ يَكُونَ رِبْحُهُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ وَجِيهٌ لَا مَالَ لَهُ، وَخَامِلٌ ذُو مَالٍ، لِيَكُونَ الْعَمَلُ مِنَ الْوَجِيهِ، وَالْمَالُ مِنَ الْخَامِلِ، وَيَكُونُ الْمَالُ فِي يَدِهِ لَا يُسَلِّمُهُ إِلَى الْوَجِيهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا الثَّالِثِ فَسَّرَهَا ابْنُ كَجٍّ وَالْإِمَامُ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَّالِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الْوَجِيهُ مَالَ الْخَامِلِ بِزِيَادَةِ رِبْحٍ، لِيَكُونَ لَهُ بَعْضُ الرِّبْحِ، وَهِيَ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا بَاطِلَةٌ، إِذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَالٌ مُشْتَرَكٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ. ثُمَّ مَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمَا فِي الصُّورَةِ الْأُوْلَى وَالثَّانِيَةِ، فَهُوَ لَهُ، يَخْتَصُّ بِرِبْحِهِ وَخُسْرَانِهِ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْآخَرُ إِلَّا إِذَا صَرَّحَ بِالْإِذْنِ فِي الشِّرَاءِ بِشَرْطِ التَّوْكِيلِ فِي الشِّرَاءِ، وَقَصَدَ الْمُشْتَرِي مُوَكِّلَهُ. وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ، فَلَيْسَتْ بِشَرِكَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ قِرَاضٌ فَاسِدٌ لِاسْتِبْدَادِ الْمَالِكِ بِالْيَدِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ نَقْدًا، زَادَ لِلْفَسَادِ وَجْهٌ آخَرُ. فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِمَا سَبَقَ وَهِيَ مَنْصُوصَةٌ فِي الْبُوَيْطِيِّ. إِحْدَاهَا: لَوْ أَخَذَ جَمَلًا لِرَجُلٍ، وَرَاوِيَةً لِآخَرَ، وَتَشَارَكُوا عَلَى أَنْ يَسْتَقِيَ الْآخِذُ

الْمَاءَ، وَالْحَاصِلُ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ بَاطِلٌ. فَلَوِ اسْتَقَى، فَلِمَنْ يَكُونُ الْمَاءُ؟ نَقَلَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» وَآخَرُونَ فِيهِ اخْتِلَافُ قَوْلٍ، وَضَعَّفَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَصَوَّبُوا تَفْصِيلًا ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَاءُ مَمْلُوكًا لِلْمُسْتَقِي، أَوْ مُبَاحًا، لَكِنْ قَصَدَ بِهِ نَفْسَهُ، فَهُوَ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَإِنْ قَصَدَ الشَّرِكَةَ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهَا، فَهُوَ لِلْمُسْتَقِي، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لَهُمَا. وَإِنْ جَوَّزْنَاهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَالْمَاءُ بَيْنَهُمْ. وَفِي كَيْفِيَّةِ الشَّرِكَةِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ أُجُورِ أَمْثَالِهِمْ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَحَكَى عَنْ نَصِّهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَبِهِ قَطَعَ الْقَفَّالُ: أَنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ إِتْبَاعًا لِقَصْدِهِ، فَعَلَى هَذَا، يَرْجِعُ الْمُسْتَقِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ بِثُلُثِ أُجْرَةِ مَنْفَعَتِهِ، إِذْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنْهَا إِلَّا الثُّلُثَ، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ بِثُلُثَيْ أُجْرَةِ مَالِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَعَلَى الْمُسْتَقِي. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمْ أَصْلًا. الثَّانِيَةُ: اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ الرَّاوِيَةَ مِنْ صَاحِبِهَا، وَالْجَمَلَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَاسْتَأْجَرَ أَيْضًا الْمُسْتَقِي لِاسْتِقَاءِ الْمَاءِ وَهُوَ مُبَاحٌ، نُظِرَ، إِنْ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَقْدٍ، صَحَّ وَالْمَاءُ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ جَمَعَ الْجَمِيعَ فِي عَقْدٍ، فَفِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ، قَوْلَانِ. كَمَنِ اشْتَرَى عَيْنَيْنِ لِرَجُلَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ صَحَّحْنَا، وُزِّعَتِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى أُجُورِ الْأَمْثَالِ، وَإِلَّا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَيَكُونُ الْمَاءُ لِلْمُسْتَأْجِرِ صَحَّحْنَا الْإِجَارَةَ أَمْ أَفْسَدْنَاهَا، لِأَنَّا وَإِنْ أَفْسَدْنَاهَا، فَمَنَافِعُهُمْ مَضْمُونَةٌ بِالْأُجْرَةِ، قَالَهُ الْإِمَامُ. وَإِنْ نَوَى الْمُسْتَقِي نَفْسَهُ، وَفَرَّعْنَا عَلَى فَسَادِ الْإِجَارَةِ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ: أَنَّهُ أَيْضًا لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَقَدْ قَصَدَ نَفْسَهُ، فَلْيَكُنِ الْحَاصِلُ لَهُ. وَمَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ، إِذَا وَرَدَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِ الْمُسْتَقِي وَالْجَمَلِ وَالرَّاوِيَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَلْزَمَ ذِمَمَهُمْ، فَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ قَطْعًا.

فصل

الثَّالِثَةُ: اشْتَرَكَ أَرْبَعَةٌ، لِأَحَدِهِمْ بَيْتُ رَحَى، وَلِآخَرَ حَجَرُ الرَّحَى، وَلِآخَرَ بَغْلٌ يُدِيرُهُ، وَالرَّابِعُ يَعْمَلُ فِي الرَّحَى، عَلَى أَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ أُجْرَةِ الطَّحْنِ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ فَاسِدٌ. ثُمَّ إِنِ اسْتَأْجَرَ مَالِكُ الْحِنْطَةِ الْعَامِلَ وَالْآلَاتِ مِنْ مَالِكِيهَا، وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَقْدٍ، لَزِمَهُ مَا سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ، وَإِنْ جَمَعَهُمْ فِي عَقْدٍ، فَإِنْ لَزِمَ ذِمَمَهُمُ الطَّحْنُ، صَحَّ الْعَقْدُ، وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا، وَيَتَرَاجَعُونَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَمْلُوكَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدِ اسْتَوْفَى رُبُعَهَا، حَيْثُ أَخَذَ رُبُعَ الْمُسَمَّى، وَانْصَرَفَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا إِلَى أَصْحَابِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَإِنِ اسْتَأْجَرَ عَيْنَ الْعَامِلِ وَأَعْيَانَ الْآلَاتِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. فَإِنْ أَفْسَدْنَا الْإِجَارَةَ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، وُزِّعَ الْمُسَمَّى عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ التَّرَاجُعُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ. وَإِنْ أَلْزَمَ مَالِكُ الْحِنْطَةِ ذِمَّةَ الْعَامِلِ الطَّحْنَ، لَزِمَهُ، وَعَلَيْهِ إِذَا اسْتَعْمَلَ مَا لِأَصْحَابِهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُمْ إِجَارَةً صَحِيحَةً، فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى. الرَّابِعَةُ: لِوَاحِدٍ بَذْرٌ، وَلِآخَرَ أَرْضٌ، وَلِآخَرَ آلَةُ الْحَرْثِ، اشْتَرَكُوا مَعَ رَابِعٍ لِيَعْمَلَ، وَتَكُونُ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ، فَالزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَعَلَيْهِ لِأَصْحَابِهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : فَلَوْ أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَصِّلُوا لَهُ شَيْئًا. وَلَا يَخْفَى عُدُولُ هَذَا عَنِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ. قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» هُوَ الصَّوَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فِي حُكْمِ الشَّرِكَةِ الصَّحِيحَةِ لَهَا أَحْكَامٌ. أَحُدُهَا: إِذَا وَجَدَ الْإِذْنَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، تَسَلَّطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ.

وَتَصَرُّفُ الشَّرِيكِ كَتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ، لَا بِبَيْعِ نَسِيئَةٍ، وَلَا بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي بِغَبْنٍ فَاحِشٍ إِلَّا بِإِذْنِ الشَّرِيكِ. فَإِنْ بَاعَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ، لَمْ يَصِحَّ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ. وَفِي نَصِيبِهِ، قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ لَمْ نُفَرِّقْهَا، بَقِيَ الْمَبِيعُ عَلَى مِلْكِهِمَا وَالشَّرِكَةُ بِحَالِهَا. وَإِنْ فَرَّقْنَاهَا، انْفَسَخَتِ الشَّرِكَةُ فِي الْمَبِيعِ، وَصَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالشَّرِيكِ. وَإِنِ اشْتَرَى بِالْغَبْنِ، نُظِرَ، إِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ. وَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَقَعْ لِلشَّرِيكِ، وَعَلَيْهِ وَزْنُ الثَّمَنِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ. فَرْعٌ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُسَافِرَ بِمَالِ الشَّرِكَةِ، وَلَا أَنْ يُبَعِّضَهُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ. فَإِنْ فَعَلَ، ضَمِنَ. الْحُكْمُ الثَّانِي: لِكُلِّ وَاحِدٍ فَسْخُ الشَّرِكَةِ مَتَى شَاءَ، كَالْوَكَالَةِ. فَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرَ: عَزَلْتُكَ عَنِ التَّصَرُّفِ، أَوْ لَا تَتَصَرَّفْ فِي نَصِيبِي، انْعَزَلَ الْمُخَاطَبُ، وَلَا يَنْعَزِلُ الْعَازِلُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِ الْمَعْزُولِ. وَلَوْ قَالَ: فَسَخْتُ الشَّرِكَةَ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ قَطْعًا. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُمَا يَنْعَزِلَانِ عَنِ التَّصَرُّفِ. وَقَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : فِي بَقَاءِ تَصَرُّفِهِمَا، وَجْهَانِ إِنْ كَانَا صَرَّحَا فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ بِالْإِذْنِ. وَوَجْهُ الْبَقَاءِ: اسْتِمْرَارُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِصَرِيحِ الْعَزْلِ. فَرْعٌ تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ جُنُونِهِ أَوْ إِغْمَائِهِ، كَالْوَكَالَةِ. ثُمَّ فِي صُورَةِ الْمَوْتِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ وَلَا وَصِيَّةٌ، فَلِلْوَارِثِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَتَقْرِيرِ الشَّرِكَةِ

إِنْ كَانَ رَشِيدًا، فَإِنْ كَانَ مُوَلَّيًا عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ أَوْ جُنُونِهِ، فَعَلَ وَلِيُّهُ مَا فِيهِ حَظُّهُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ. وَإِنَّمَا تَتَقَرَّرُ الشَّرِكَةُ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، فَلَيْسَ لِلْوَارِثِ تَقْرِيرُ الشَّرِكَةِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ لِمُعَيَّنٍ فَهُوَ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ. فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، كَالْفُقَرَاءِ، لَمْ يَصِحَّ تَقْرِيرُ الشَّرِكَةِ حَتَّى تَخْرُجَ الْوَصِيَّةُ. ثُمَّ هُوَ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةٌ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، شَرْطُ ذَلِكَ أَمْ لَا، تَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ أَمْ تَفَاوَتَا. فَإِنْ شَرَطَا التَّسَاوِيَ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِ، أَوِ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ، فَسَدَتِ الشَّرِكَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا آخَرَ: أَنَّهَا لَا تَفْسُدُ، وَيُوَزَّعُ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ. وَلَعَلَّ الْخِلَافَ رَاجِعٌ إِلَى الِاصْطِلَاحِ، فَأَطْلَقَ الْجُمْهُورُ لَفْظَ الْفَسَادِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ لِبَقَاءِ أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ. فَلَوِ اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ عَمَلٍ، وَشَرَطَ لَهُ زِيَادَةَ رِبْحٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ الشَّرْطِ، وَيَكُونُ الزَّائِدُ عَلَى حِصَّةِ مِلْكِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ، وَيَتَرَكَّبُ الْعَقْدُ مِنْ شَرِكَةٍ وَقِرَاضٍ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ التَّفَاوُتَ فِي الْخُسْرَانِ، فَإِنَّهُ يَلْغُو وَيُوَزَّعُ الْخُسْرَانُ عَلَى الْمَالِ، وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ قِرَاضًا، فَإِنَّ هُنَاكَ يَقَعُ الْعَمَلُ مُخْتَصًّا بِمَالِ الْمَالِكِ، وَهُنَا بِمِلْكَيْهِمَا. وَمَتَى فَسَدَ الشَّرْطُ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي فَسَادِ التَّصَرُّفِ، لِوُجُودِ الْإِذْنِ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ عَلَى نِسْبَةِ الْمَالَيْنِ، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى صَاحِبِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ فِي مَالِهِ. فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَالْعَمَلِ، فَنِصْفُ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ مَالِهِ، فَلَا أُجْرَةَ فِيهِ، وَنِصْفُهُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ، وَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ مِثْلَ بَدَلِهِ عَلَيْهِ، فَيَقَعُ فِي التَّقَاصِّ. وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْعَمَلِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْمَالِ، فَسَاوَى عَمَلُ أَحَدِهِمَا مِائَتَيْنِ، وَالْآخَرُ مِائَةً. فَإِنْ كَانَ عَمَلُ مَنْ شُرِطَ لَهُ الزِّيَادَةُ أَكْثَرَ، فَنِصْفُ عَمَلِهِ مِائَةٌ، وَنِصْفُ عَمَلِ صَاحِبِهِ خَمْسُونَ، فَيَبْقَى لَهُ بَعْدَ التَّقَاصِّ خَمْسُونَ. وَإِنْ كَانَ عَمَلُ صَاحِبِهِ أَكْثَرَ، فَفِي رُجُوعِهِ بِخَمْسِينَ عَلَى مَنْ شُرِطَ لَهُ الزِّيَادَةُ وَجْهَانِ.

أَحَدُهُمَا: الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ فَسَدَ الْقِرَاضُ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ، فِيمَا لَوْ فَسَدَتِ الشَّرِكَةُ، وَاخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِأَصْلِ التَّصَرُّفِ وَالْعَمَلِ، هَلْ يَرْجِعُ بِنِصْفِ أُجْرَةِ عَمَلِهِ عَلَى الْآخَرِ؟ أَمَّا إِذَا تَفَاوَتَا فِي الْمَالِ، فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَلِلْآخَرِ أَلْفَانِ، وَتَفَاوَتَا فِي الْعَمَلِ، فَعَمِلُ صَاحِبُ الْأَكْثَرِ أَكْثَرَ، بِأَنْ سَاوَى عَمَلُهُ مِائَتَيْنِ، وَعَمَلُ الْآخَرِ مِائَةً، فَثُلُثَا عَمَلِهِ فِي مَالِهِ، وَثُلُثُهُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ، وَعَمَلُ صَاحِبِهِ بِالْعَكْسِ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَكْثَرِ ثُلُثُ الْمِائَتَيْنِ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلِصَاحِبِ الْأَقَلِّ ثُلُثَا الْمِائَةِ عَلَى صَاحِبِ الْأَكْثَرِ، وَقَدْرُهُمَا مُتَّفَقٌ، فَيَقَعُ فِي التَّقَاصِّ. وَإِنْ كَانَ عَمَلُ صَاحِبِ الْأَقَلِّ أَكْثَرَ، وَالتَّفَاوُتُ كَمَا صَوَّرْنَا، فَثُلُثُ عَمَلِ صَاحِبِ الْأَقَلِّ فِي مَالِهِ وَثُلُثَاهُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ، وَثُلُثَا عَمَلِ صَاحِبِ الْأَكْثَرِ فِي مَالِهِ، وَثُلُثُهُ فِي مَالِ شَرِيكِهِ، فَيَبْقَى لِصَاحِبِ الْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ مِائَةٌ بَعْدَ التَّقَاصِّ. وَلَوْ تَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ، فَلِصَاحِبِ الْأَقَلِّ ثُلُثَا الْمِائَةِ عَلَى صَاحِبِ الْأَكْثَرِ، وَلِصَاحِبِ الْأَكْثَرِ ثُلُثُ الْمِائَةِ عَلَيْهِ، فَثُلُثٌ تَقَاصٌّ، وَيَبْقَى لِصَاحِبِ الْأَقَلِّ ثُلُثُ الْمِائَةِ. فَرْعٌ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الْفَسَادِ عِنْدَ تَغْيِيرِ نِسْبَةِ الرِّبْحِ، يَجْرِي فِي سَائِرِ أَسْبَابِ فَسَادِ الشَّرِكَةِ. لَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَالَيْنِ شُيُوعٌ، وَخَلْطٌ، فَلَا شَرِكَةَ هُنَا عَلَى التَّحْقِيقِ، بَلْ ثَمَنُ كُلِّ مَالٍ يَخْتَصُّ بِمَالِكِهِ، وَلَا يَقَعُ مُشْتَرَكًا. وَالْكَلَامُ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ حُصُولِ نَفْسِ الشَّرِكَةِ. وَإِنْ جَرَى تَوْكِيلٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، لَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ. فَرْعٌ إِذَا جَوَّزْنَا شَرْطَ زِيَادَةِ رِبْحٍ لِمَنِ اخْتُصَّ بِزِيَادَةِ عَمَلٍ، فَلَمْ يَشْتَرِطَاهُ، وَلَا اشْتَرَطَا

تَوْزِيعَ الرِّبْحِ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، بَلْ أَطْلَقَا، فَذَكَرَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، خِلَافًا فِي أَنَّ الرِّبْحَ يُوَزَّعُ عَلَى الْمَالَيْنِ، وَتَكُونُ زِيَادُ الْعَمَلِ تَبَرُّعًا، أَمْ تَثْبُتُ لِلزِّيَادَةِ أُجْرَةٌ تَخْرِيجًا مِمَّا إِذَا اسْتَعْمَلَ صَانِعًا وَلَمْ يَذْكُرْ أُجْرَةً. ثُمَّ إِذَا شَرَطَا زِيَادَةَ رِبْحٍ لِمَنْ زَادَ عَمَلُهُ، هَلْ يُشْتَرَطُ اسْتِقْلَالُهُ بِالْيَدِ كَالْقِرَاضِ؟ أَمْ كَسَائِرِ الشِّرْكِ؟ وَجْهَانِ. وَكَذَا لَوِ اشْتَرَطَا انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا بِالْعَمَلِ. وَالْخِلَافُ فِي جَوَازِ اشْتِرَاطِ زِيَادَةِ الرِّبْحِ لِمَنْ زَادَ عَمَلُهُ، جَارٍ فِيمَا إِذَا شَرَطَ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا بِالتَّصَرُّفِ وَجَعَلَ لَهُ زِيَادَةَ رِبْحٍ. وَقِيلَ: يَجُوزُ هُنَا، وَلَا يَجُوزُ إِذَا اشْتَرَكَا فِي أَصْلِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ الرِّبْحَ بِأَيِّ عَمَلٍ حَصَلَ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: أَنَّ يَدَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَدُ أَمَانَةٍ كَالْمُودَعِ. فَإِذَا ادَّعَى رَدَّ الْمَالِ إِلَى شَرِيكِهِ، أَوْ تَلَفًا، أَوْ خُسْرَانًا، صُدِّقَ. فَإِنْ أَسْنَدَ التَّلَفَ إِلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ، طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى السَّبَبِ. فَإِذَا أَقَامَهَا، صُدِّقَ فِي الْهَلَاكِ بِهِ. وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا خِيَانَةَ صَاحِبِهِ، لَمْ يُسْمَعْ حَتَّى يُبَيِّنَ قَدْرَ مَا خَانَ بِهِ. فَإِذَا بَيَّنَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مَالٌ، فَقَالَ: هُوَ لِي، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا وَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ لِلشَّرِكَةِ، أَوْ عَكْسِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِقَصْدِهِ. وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الْيَدِ: اقْتَسَمْنَا، وَهَذَا نَصِيبِي، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مُشْتَرَكٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مَالٌ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: هَذَا نَصِيبِي مِنَ الْمُشْتَرَكِ، وَأَنْتَ أَخَذْتَ نَصِيبَكَ، حَلَفَا، وَجُعِلَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا، قُضِيَ لِلْحَالِفِ. فَرْعٌ بَيْنَهُمَا عَبْدٌ، بَاعَهُ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ قُلْنَا:

لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ قَبْضُ الثَّمَنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّرِيكَانِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ الشَّرِيكُ لِلْبَائِعِ: قَبَضْتَ كُلَّ الثَّمَنِ، فَسَلِّمْ إِلَيَّ نَصِيبِي، وَيُوَافِقُهُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ قَبَضَ، وَيُنْكِرُ الْبَائِعُ، فَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي عَنْ نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ، لِاعْتِرَافِهِ بِبَرَاءَتِهِ. ثُمَّ هُنَا خُصُومَةٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَخُصُومَةٌ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، وَرُبَّمَا تَقَدَّمَتِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ، وَرُبَّمَا تَأَخَّرَتْ. فَإِنْ تَقَدَّمَتْ، نُظِرَ، إِنْ قَامَتْ لِلْمُشْتَرِي بَيِّنَةٌ عَلَى الْأَدَاءِ، انْدَفَعَتْ عَنْهُ مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ. فَإِنْ شَهِدَ لَهُ الشَّرِيكُ، لَمْ يُقْبَلْ فِي نَصِيبِهِ. وَفِي نَصِيبِ الْبَائِعِ الْقَوْلَانِ فِي تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ. فَإِنْ حَلَفَ أَخَذَ نَصِيبَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَلَا يُشَارِكُهُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْآنَ ظُلْمٌ. وَإِنْ نَكَلَ، وَحَلَفَ الْمُشْتَرِي، انْقَطَعَتْ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ. وَإِنْ نَكَلَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا، فَوَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يَلْزَمُهُ نَصِيبُ الْبَائِعِ، لِأَنَّا لَا نَقْضِي بِالنُّكُولِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَضَاءً بِالنُّكُولِ، بَلْ مُؤَاخَذَةً بِاعْتِرَافِهِ بِلُزُومِ الْمَالِ بِالشِّرَاءِ. فَإِذَا انْقَضَتْ خُصُومَةُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَطَلَبَ الشَّرِيكُ حِصَّتَهُ مِنَ الْبَائِعِ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ إِلَّا نَصِيبَهُ بَعْدَ الْخُصُومَةِ. فَإِنْ نَكَلَ الْبَائِعُ، حَلَفَ الشَّرِيكُ وَأَخَذَ مِنْهُ نَصِيبَهُ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ شَرِيكَهُ ظَلَمَهُ، وَلَا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنَ الْحَلِفِ نُكُولُهُ عَلَى الْيَمِينِ فِي الْخُصُومَةِ مَعَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا خُصُومَةٌ أُخْرَى مَعَ آخَرَ. أَمَّا إِذَا تَقَدَّمَتْ خُصُومَةُ الشَّرِيكَيْنِ، فَادَّعَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ عَلَى الْبَائِعِ قَبْضَ الثَّمَنِ، وَطَلَبَ حَقَّهُ، فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُشْتَرِي لَهُ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، حَلَفَ الْبَائِعُ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَأَخَذَ نَصِيبَهُ مِنَ الْبَائِعِ. فَإِذَا انْقَضَتْ خُصُومَةُ الشَّرِيكَيْنِ، فَطَالَبَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي بِحَقِّهِ أَخَذَهُ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَبَرِئَ. وَلَا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنَ الْحَلِفِ وَطَلَبِ حَقِّهِ مِنَ الْمُشْتَرِي نُكُولُهُ فِي الْخُصُومَةِ الْأُولَى مَعَ شَرِيكِهِ. وَفِي وَجْهٍ:

يَمْنَعُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ. وَعَلَى ضَعْفِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: الْقِيَاسُ طَرْدُهُ فِيمَا إِذَا تَقَدَّمَتْ خُصُومَةُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَنَكَلَ الْبَائِعُ، وَحَلَفَ الْمُشْتَرِي. حَتَّى يُقَالَ: تَثْبُتُ لِلشَّرِيكِ مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِنَصِيبِهِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ خُصُومَةٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلشَّرِيكِ: قَبَضْتُ الثَّمَنَ كُلَّهُ، وَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي، وَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْ نَصِيبِ الْبَائِعِ، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ وَكِيلَهُ قَبَضَهُ. ثُمَّ تُتَصَوَّرُ خُصُومَتَانِ كَمَا سَبَقَ، فَإِنْ تَخَاصَمَ الشَّرِيكُ وَالْمُشْتَرِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ، فَيَحْلِفُ وَيَأْخُذُ نَصِيبَهُ، وَيُسَلِّمُ لَهُ الْمَأْخُوذَ. وَإِنْ تَخَاصَمَ الْبَائِعُ وَالشَّرِيكُ، حَلَفَ الشَّرِيكُ. فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْبَائِعُ وَأَخَذَ حَقَّهُ مِنْهُ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَكُلُّ هَذَا، كَمَا سَبَقَ فِي النِّزَاعِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ شَهِدَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَأْذُونٍ، فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُشْتَرِي عَنْ شَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ. ثُمَّ يَكُونُ الْبَائِعُ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيكِ فِي الْقَبْضِ، وَتَارَةً لَا. فَإِنْ كَانَ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُشْتَرِي بِنَصِيبِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةٌ بِنَصِيبِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِقَبْضِ الشَّرِيكِ نَصِيبَ نَفْسِهِ، صَارَ مَعْزُولًا. ثُمَّ إِذَا تَخَاصَمَ الشَّرِيكُ وَالْمُشْتَرِي، فَعَلَى الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةُ بِالْقَبْضِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ. فَإِذَا حَلَفَ، فَفِيمَنْ يَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْهُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: قَالَ الْمُزَنِيُّ وَابْنُ الْقَاصِّ وَآخَرُونَ: إِنْ شَاءَ أَخَذَ تَمَامَ حَقِّهِ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ شَارَكَ الْبَائِعَ فِي الْمَأْخُوذِ وَأَخَذَ الْبَاقِيَ مِنَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ شَائِعٌ بَيْنَهُمَا. فَإِذَا شَارَكَ، لَمْ يَبْقَ لِلْبَائِعِ إِلَّا رُبُعُ الثَّمَنِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْأَخْذُ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَلَا يُشَارِكُ الْبَائِعَ فِيمَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ انْعَزَلَ عَنِ الْوَكَالَةِ بِإِقْرَارِ أَنَّ

الشَّرِيكَ أَخَذَ حَقَّهُ، فَمَا يَأْخُذُهُ بَعْدَ الِانْعِزَالِ، يَأْخُذُهُ لِنَفْسِهِ فَقَطْ. وَهَذَا الْوَجْهُ اسْتَحْسَنَهُ الشَّيْخَانِ: أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو عَلِيٍّ. وَلَوْ شَهِدَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الشَّرِيكِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا شَرِكَةَ صَاحِبِهِ فِيمَا أَخَذَهُ. وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: تُقْبَلُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْبَائِعُ مَأْذُونًا فِي الْقَبْضِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: لِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ الْمُشْتَرِي بِحَقِّهِ، وَمَا يَأْخُذُهُ يُسَلَّمُ لَهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الشَّرِيكِ. وَيَجِيءُ وَجْهٌ: فِي مُشَارَكَةِ صَاحِبِهِ، وَفِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّ أَحَدَ الْوَارِثِينَ، لَوْ قَبَضَ مِنَ الدَّيْنِ قَدْرَ حِصَّتِهِ، لَمْ يُشَارِكْهُ الْآخَرُ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمَدْيُونُ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، أَوْ لَا يَجِدُ مَالًا سِوَاهُ. وَالصَّحِيحُ: الْمُشَارَكَةُ مُطْلَقًا. وَلَوْ مَلَكَا عَبْدًا، فَبَاعَاهُ صَفْقَةً، فَهَلْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِقَبْضِ حِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا. فَلَوْ قَبَضَ شَيْئًا، شَارَكَهُ الْآخَرُ كَالْمِيرَاثِ. وَأَرْجَحُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوِ انْفَرَدَ بِالْبَيْعِ. فَرْعٌ بَيْنَهُمَا عَبْدٌ، فَغَصَبَ غَاصِبٌ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا، بِأَنْ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَتَهُ، فَأَزَالَ يَدَهُ، وَلَمْ يُزِلْ يَدَ صَاحِبِهِ، يَصِحُّ مِنَ الَّذِي لَمْ يُغْصَبْ نَصِيبُهُ بَيْعُهُ، وَلَا يَصِحُّ مِنَ الْآخَرِ بَيْعُ نَصِيبِهِ إِلَّا لِلْغَاصِبِ، أَوْ لِقَادِرٍ عَلَى أَخْذِهِ مِنَ الْغَاصِبِ. فَلَوْ بَاعَ الْغَاصِبُ وَالَّذِي لَمْ يُغْصَبْ نَصِيبُهُ جَمِيعَ الْعَبْدِ صَفْقَةً وَاحِدَةً بَطَلَ فِي نَصِيبِ الْغَاصِبِ، وَصَحَّ فِي نَصِيبِ الْمَالِكِ، وَلَا يَخْرُجُ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ. وَقِيلَ: يُبْنَى نَصِيبُ الْمَالِكِ، عَلَى أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا بَاعَ نِصْفَ الْعَبْدِ مُطْلَقًا، يَنْصَرِفُ إِلَى نَصِيبِهِ. أَمْ يَشِيعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ. فَإِنْ قُلْنَا:

يَنْصَرِفُ إِلَى نَصِيبِهِ، صَحَّ، وَإِلَّا فَيَبْطُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ. وَفِي رُبُعِهِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَا يُنْظَرُ إِلَى هَذَا الْبِنَاءِ إِذَا بَاعَ الْمَالِكَانِ مَعًا، وَأَطْلَقَا. وَلَا يُجْعَلُ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْعَ نِصْفِ الْعَبْدِ، لَأَنَّ هُنَاكَ تَنَاوَلَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ جَمِيعَ الْعَبْدِ. وَهَذَانَ الْفَرْعَانِ غَيْرُ مُخْتَصَّيْنِ بِبَابِ الشَّرِكَةِ، لَكِنْ ذَكَرَهُمَا الْأَصْحَابُ هُنَا. قُلْتُ: هَذِهِ مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ. إِحْدَاهَا: يُسْتَحَبُّ اشْتِرَاكُ الْمُسَافِرِينَ فِي الزَّادِ مَجْلِسًا مَجْلِسًا، نَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا، وَصَحَّتْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَتَرَكَ بَيَاضًا فِي الْأَصْلِ.

كتاب الوكالة

كِتَابُ الْوَكَالَةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ. [الْبَابُ] الْأَوَّلُ فِي أَرْكَانِهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: مَا فِيهِ التَّوْكِيلُ. وَلَهُ شُرُوطٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ. فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِ مَنْ سَيَنْكِحُهَا، أَوْ بَيْعِ عَبْدٍ سَيَمْلِكُهُ، أَوْ إِعْتَاقِ مَنْ سَيَمْلِكُهُ، أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ سَيَلْزَمُهُ، أَوْ تَزْوِيجِ بِنْتِهِ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَوْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلنِّيَابَةِ. وَالَّذِي يُفْرَضُ فِيهِ النِّيَابَةُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْعِبَادَاتُ، وَالْأَصْلُ امْتِنَاعُ النِّيَابَةِ فِيهَا وَيُسْتَثْنَى الْحَجُّ، وَالزَّكَاةُ، وَالْكَفَّارَاتُ، وَالصَّدَقَاتُ، وَذَبْحُ الْهَدْيِ، وَالْأُضْحِيَةُ، وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ مِنَ الْأَجِيرِ. وَفِيهِمَا كَلَامٌ يَأْتِي فِي الْوَصَايَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي صَوْمِ الْوَلِيِّ عَنِ الْمَيِّتِ، خِلَافٌ سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ. وَأُلْحِقَ بِالْعِبَادَاتِ، الشَّهَادَاتُ، وَالْأَيْمَانُ. وَمِنَ الْأَيْمَانِ: الْإِيلَاءُ، وَاللِّعَانُ وَالْقَسَامَةُ، فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا قَطْعًا، وَلَا فِي الظِّهَارِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي مَعْنَى الْأَيْمَانِ، النُّذُورُ، وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ، وَالْعِتْقُ، وَكَذَا التَّدْبِيرُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ وَصِيَّةٌ جَازَ. وَمِنْهَا: الْمُعَامَلَاتُ، فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي طَرَفَيِ الْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ، كَالسَّلَمِ، وَالصَّرْفِ، وَالتَّوْلِيَةِ، وَغَيْرِهَا، وَفِي الرَّهْنِ، وَالْهِبَةِ، وَالصُّلْحِ، وَالْإِبْرَاءِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْجَعَالَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْإِيدَاعِ، وَالْإِعَارَةِ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَقَبُولِهَا. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي طَرَفَيِ

النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَفِي تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا. وَيَجُوزُ فِي الرَّجْعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَوَكَّلَ بِالِاخْتِيَارِ، أَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ، أَوْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ، وَوَكَّلَ بِالتَّعْيِينِ، لَمْ يَصِحَّ. قُلْتُ: لَوْ أَشَارَ إِلَى وَاحِدَةٍ وَقَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ لِلطَّلَاقِ، أَوِ النِّكَاحِ، أَوْ أَشَارَ إِلَى أَرْبَعٍ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ، فَقَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي تَعْيِينِ النِّكَاحِ فِيهِنَّ، فَهُوَ كَالتَّوْكِيلِ فِي الرَّجْعَةِ، فَيَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ، قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْإِقَالَةِ وَسَائِرِ الْفُسُوخِ، لَكِنْ مَا هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، قَدْ يَكُونُ التَّأْخِيرُ بِالتَّوْكِيلِ فِيهِ تَقْصِيرًا. وَفِي التَّوْكِيلِ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، خِلَافٌ سَبَقَ. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي قَبْضِ الْأَمْوَالِ، مَضْمُونَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، وَفِي قَبْضِ الدُّيُونِ وَإِقْبَاضِهَا، وَمِنْهَا: الْجِزْيَةُ، يَجُوزُ فِي قَبْضِهَا وَإِقْبَاضِهَا. وَفِي وَجْهٍ: يَمْتَنِعُ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا فِيهَا. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجُوزُ تَوْكِيلُ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ فِي قَبْضِهَا لَهُمْ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهَا: الْمَعَاصِي، كَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالْقَذْفِ، فَلَا مَدْخَلَ لِلتَّوْكِيلِ فِيهَا، بَلْ أَحْكَامُهَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ مُرْتَكِبِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ مَقْصُودٌ بِالِامْتِنَاعِ مِنْهَا. فَرْعٌ فِي التَّوْكِيلِ فِي تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ، كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَالِاحْتِطَابِ، وَالِاصْطِيَادِ، وَالِاسْتِقَاءِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. فَيَحْصُلُ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ إِذَا قَصَدَهُ الْوَكِيلُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَسْبِابِ الْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ الشِّرَاءَ.

قُلْتُ: هَكَذَا حَكَاهُمَا وَجْهَيْنِ تَقْلِيدًا لِبَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَهُمَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْتَطِبَ لَهُ، أَوْ لِيَسْتَقِيَ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَبِالْمَنْعِ أَجَابَ ابْنُ كَجٍّ. وَقَطَعَ الْإِمَامُ بِالْجَوَازِ، وَقَاسَ عَلَيْهِ وَجْهَ جَوَازِ التَّوْكِيلِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: قَوْلُهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَسَلَكَ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِهِ (التَّحْرِيرُ) طَرِيقَةً أُخْرَى فَقَالَ: يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الِاحْتِطَابِ وَنَحْوِهِ بِأُجْرَةٍ، وَفِي جَوَازِهِ بِغَيْرِهَا وَجْهَانِ. وَلَا يَجُوزُ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ بِلَا أُجْرَةٍ، وَيَجُوزُ بِأُجْرَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ التَّوْكِيلُ بِالْإِقْرَارِ، صُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: وَكَّلْتُكَ لِتُقِرَّ عَنِّي لِفُلَانٍ بِكَذَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يُجْعَلُ مُقِرًّا بِنَفْسِ التَّوْكِيلِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: لَا، كَمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِبْرَاءِ لَا يَكُونُ إِبْرَاءً. قُلْتُ: قَوْلُ ابْنِ الْقَاصِّ أَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَإِذَا صَحَّحْنَا التَّوْكِيلَ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ قَبْلَ إِقْرَارِ التَّوْكِيلِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَفِي «الْحَاوِي» وَالْمُسْتَظْهِرِيِّ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِنَفْسِ التَّوْكِيلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِذَا صَحَّحْنَا التَّوْكِيلَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ الْوَكِيلُ جِنْسَ الْمُقَرِّ بِهِ وَقَدْرَهُ. فَلَوْ قَالَ: أَقِرَّ عَنِّي لِفُلَانٍ بِشَيْءٍ، فَأَقَرَّ، أَخَذَ الْوَكِيلُ بِتَفْسِيرِهِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ:

أَقِرَّ عَنِّي لِفُلَانٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: هُوَ كَقَوْلِهِ: أَقِرَّ عَنِّي بِشَيْءٍ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِحَالٍ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِقْرَارَ بِعِلْمٍ أَوْ شَجَاعَةٍ، لَا بِمَالٍ. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ: أَقِرَّ عَنِّي لِفُلَانٍ بِأَلْفٍ لَهُ عَلَيَّ، فَهُوَ إِقْرَارٌ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لِلْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ التَّوْكِيلُ فِي الْخُصُومَةِ، رَضِيَ الْخَصْمُ أَمْ لَمْ يَرْضَ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ مُخَاصَمَةِ الْوَكِيلِ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْمُوَكَّلِ عُذْرٌ، أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ بِالتَّوْكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ مَالًا، أَوْ عُقُوبَةً لِآدَمِيٍّ، كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ. وَأَمَّا حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي إِثْبَاتِهَا؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الدَّرْءِ. فَرْعٌ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَاءِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْإِمَامِ، وَلِلسَّيِّدِ فِي حَدِّ مَمْلُوكِهِ، وَيَجُوزُ لِلْوَكِيلِ اسْتِيفَاءُ عُقُوبَاتِ الْآدَمِيِّينَ بِحَضْرَةِ الْمُسْتَحِقِّ، وَفِي غَيْبَتِهِ طُرُقٌ. أَشْهَرُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْجَوَازُ قَطْعًا. وَالثَّالِثُ: الْمَنْعُ قَطْعًا. قُلْتُ: قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الِالْتِقَاطِ قَطْعًا، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الِاغْتِنَامِ. فَإِنِ الْتَقَطَ أَوْ غَنِمَ، كَانَ لَهُ دُونَ الْمُوَكِّلِ. قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِالْتِقَاطُ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ. وَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، أَقْوَى. وَلَوِ اصْطَرَفَ رَجُلَانِ، فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُفَارِقَ الْمَجْلِسَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَوَكَّلَ وَكِيلًا

فِي مُلَازَمَةِ الْمَجْلِسِ، لَمْ يَصِحَّ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِمُفَارَقَةِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ التَّنْفِيذَ مَنُوطٌ بِمُلَازَمَةِ الْعَاقِدِ. فَلَوْ مَاتَ الْعَاقِدُ، فَهَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ لِيَبْقَى الْعَقْدُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ وَالْغَزَّالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَا وُكِّلَ فِيهِ مَعْلُومًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، بِحَيْثُ لَا يَعْظُمُ الْغَرَرُ. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوَكَالَةُ عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً. أَمَّا الْعَامَّةُ فَفِيهَا طَرِيقَةٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَّالِيِّ، وَطَرِيقَةٌ لِلْأَصْحَابِ. فَأَمَّا طَرِيقَتُهُمَا، فَقَالَا: لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، فَبَاطِلَةٌ. وَإِنْ ذَكَرَ الْأُمُورَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ مُفَصَّلَةً، فَقَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ أَمْلَاكِي، وَتَطْلِيقِ زَوْجَاتِي، وَإِعْتَاقِ عَبِيدِي، صَحَّ تَوْكِيلُهُ. وَلَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي كُلِّ أَمْرٍ هُوَ إِلَيَّ مِمَّا يَقْبَلُ التَّوْكِيلَ، وَلَمْ يُفَصِّلْ أَجْنَاسَ التَّصَرُّفَاتِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانُ. وَأَمَّا طَرِيقَةُ سَائِرِ الْأَصْحَابِ، فَقَالُوا: لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، أَوْ فِي كُلِّ أُمُورِي، أَوْ فِي جَمِيعِ حُقُوقِي، أَوْ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أُمُورِي، أَوْ فَوَّضْتُ إِلَيْكَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ أَنْتَ وَكِيلِي فَتَصَرَّفْ فِي مَالِي كَيْفَ شِئْتَ، لَمْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ. قَالُوا: وَلَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ أَمْوَالِي، أَوِ اسْتِيفَاءِ دُيُونِي، أَوِ اسْتِرْدَادِ وَدَائِعِي، أَوْ إِعْتَاقِ عَبِيدِي، صَحَّتْ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ نَقْلًا وَمَعْنَى، وَقَدْ نَصَّ (عَلَيْهَا) الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَأَمَّا الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ، فَفِيهَا صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ، أَوْ قَضَاءِ دُيُونِهِ وَاسْتِيفَائِهَا، صَحَّ قَطْعًا. وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ أَمْوَالِهِ مَعْلُومَةً عَلَى الصَّحِيحِ. وَكَلَامُ الْبَغَوِيِّ، يَقْتَضِي اشْتِرَاطُهُ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي اسْتِيفَاءِ دُيُونِي عَلَى النَّاسِ، جَازَ

وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَأَيُّ جِنْسٍ ذَلِكَ الدَّيْنُ. أَمَّا إِذَا قَالَ: بِعْ بَعْضَ مَالِي، أَوْ طَائِفَةً مِنْهُ، أَوْ سَهْمًا، فَلَا يَصِحُّ، لِجَهَالَتِهِ مِنَ الْجُمْلَةِ. وَكَأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ فِيهِ مَعْلُومًا أَوْ يَسْهُلُ عِلْمُهُ. وَلَوْ قَالَ: بِعْ مَا شِئْتَ مِنْ مَالِي، أَوِ اقْبِضْ مَا شِئْتَ مِنْ دُيُونِي، جَازَ، ذَكَرَاهُ فِي «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» . وَفِي «الْحِلْيَةِ» مَا يُخَالِفُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ قَالَ: بِعْ مَنْ رَأَيْتَ مِنْ عَبِيدِي، لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يُمَيِّزَ. قُلْتُ: هَذَا الْمَذْكُورُ عَنْ «الْمُهَذَّبِ» هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الْكُلَّ إِلَّا أَنْ يَقْبِضَ الْكُلَّ. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْحِلْيَةِ، فَفِي «الْبَيَانِ» أَيْضًا عَنِ ابْنِ الصَّبَّاغِ نَحْوُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ قَالَ: بِعْ مَا تَرَاهُ مِنْ مَالِي، لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ قَالَ: مَا تَرَاهُ مِنْ عَبِيدِي، جَازَ، وَكِلَاهُمَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَهَذَا النَّقْلُ عَنِ «الْحِلْيَةِ» ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ «الْحِلْيَةُ» لِلرُّويَانِيِّ فَغَلَطٌ، فَإِنَّ الَّذِي فِي حِلْيَةِ الرُّويَانِيِّ: لَوْ قَالَ: بِعْ مِنْ عَبِيدِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مَنْ رَأَيْتَ، جَازَ، وَلَا يَبِيعُ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ مَنْ شَاءَ، جَازَ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ، وَهَذَا لَفْظُ الرُّويَانِيِّ فِي «الْحِلْيَةِ» بِحُرُوفِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» بِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: بِعْ مَنْ شِئْتَ مِنْ عَبِيدِي، يَبِيعُ جَمِيعَهُمْ؛ لِأَنَّ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ. فَلَوْ بَاعَهُمْ إِلَّا وَاحِدًا، جَازَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ: بِعْ هَذَا الْعَبْدَ، أَوْ هَذَا، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ وَكَّلَهُ لِيَهِبَ مِنْ مَالِهِ مَا يَرَى، قَالَ فِي «الْحَاوِي» : لَا يَصِحُّ. وَقِيَاسُ مَا سَبَقَ، أَنَّهُ يَصِحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّانِيَةُ: التَّوْكِيلُ فِي الشِّرَاءِ. وَلَا يَكْفِي [فِيهِ] أَنْ يَقُولَ: اشْتَرِ لِي شَيْئًا، أَوْ حَيَوَانًا، أَوْ رَقِيقًا، بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ. وَالنَّوْعُ، كَالتُّرْكِيِّ وَالْهِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَلَا يُشْتَرَطُ

اسْتِقْصَاءُ أَوْصَافِ السَّلَمِ، وَلَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ. فَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَصْنَافُ نَوْعٍ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا بُدَّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلصِّنْفِ. وَأَمَّا الثَّمَنُ، فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: يُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِهِ أَوْ غَايَتِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: مِنْ مِائَةٍ إِلَى أَلْفٍ. وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَجْهًا: أَنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ مُطْلَقًا، وَهَذَا لِوَجْهٍ، ضَعِيفٍ جِدًّا. وَإِذَا طَرَدَ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرِ شَيْئًا، كَانَ أَبْعَدَ. قُلْتُ: ذَكَرَ فِي «الْبَسِيطِ» تَرَدُّدًا فِي قَوْلِهِ: اشْتَرِ شَيْئًا تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا كَمَا تَشَاءُ، فَقِيلَ: يَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي الْقِرَاضِ: اشْتَرِ مَنْ شِئْتَ مِنَ الْعَبِيدِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَصِحُّ. وَالْفَرْقُ، أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الرِّبْحُ، وَالْعَامِلُ أَعْرَفُ بِهِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ دَارٍ، يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْمَحَلَّةِ وَالسِّكَّةِ. وَفِي الْحَانُوتِ يُذْكَرُ السُّوقُ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. قُلْتُ: وَفِي ذِكْرِ الثَّمَنِ، الْوَجْهَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثَةُ: التَّوْكِيلُ فِي الْإِبْرَاءِ، يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُوَكِّلِ إِذَا قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمَجْهُولِ كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ (الضَّمَانِ) . وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيلِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي وَالْغَزَّالِيُّ. وَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» : اشْتِرَاطُ عِلْمِهِ بِجِنْسِهِ وَقَدْرِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: (بِعْ) بِمَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ فَرَسَهُ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْبَيْعَ عِلْمُ الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِبْرَاءِ عِلْمُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ. فَإِنْ قُلْنَا: تَمْلِيكٌ، اشْتُرِطَ عِلْمُهُ كَالْمُتَّهِبِ، وَإِلَّا، فَلَا. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ: أَبْرِئْ فَلَانًا عَنْ دَيْنِي، أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيعِهِ. وَإِنْ قَالَ: عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، أَبْرَأَهُ عَنْ قَلِيلٍ مِنْهُ. وَإِنْ قَالَ: عَمَّا شِئْتَ، أَبْرَأَهُ عَمَّا شَاءَ، وَأَبْقَى شَيْئًا.

قُلْتُ: قَوْلُهُ: أَبْرِئْهُ عَنْ قَلِيلٍ مِنْهُ، يَعْنِي أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ فِي «التَّتِمَّةِ» ، وَهُوَ وَاضِحٌ. وَلَوْ قَالَ: أَبْرِئْهُ عَنْ جَمِيعِهِ، فَأَبْرَأَ عَنْ بَعْضِهِ، جَازَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ بَعْضَ مَا أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرَّابِعَةُ: قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي مُخَاصَمَةِ خَصْمَايَ، وَأَطْلَقَ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ وَصَارَ وَكِيلًا فِي جَمِيعِ الْخُصُومَاتِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَنْ يُخَاصِمُهُ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِهِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُوَكَّلُ. تُشْتَرَطُ فِيهِ صِحَّةُ مُبَاشَرَتِهِ بِمِلْكٍ أَوْ وِلَايَةٍ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمُ، وَالْمَرْأَةُ فِي التَّزْوِيجِ، وَالْفَاسِقُ فِي تَزْوِيجِ بِنْتِهِ إِذَا لَمْ نَجْعَلْهُ وَلِيًّا. وَأَمَّا السَّكْرَانُ، فَتَوْكِيلُهُ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَوْكِيلُ الْأَبِ وَالْجَدِّ فِي التَّزْوِيجِ وَالْمَالِ. وَأَمَّا الْأَخُ وَالْعَمُّ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا لَا يُجْبَرُ، فَفِي تَوْكِيلِهِمْ فِي التَّزْوِيجِ وَجْهَانِ يُذْكَرَانِ فِي النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ إِلَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ، أَوْ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي مَعْنَاهُ، تَوْكِيلُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ. وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، أَوْ فَلَسٍ، أَوْ رِقٍّ، فَيَجُوزُ تَوْكِيلُهُ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ الْوَلِيِّ، وَالْمَوْلَى، وَالْغَرِيمِ. وَمَنْ جَوَّزَ التَّوْكِيلَ فِي بَيْعِ عَبْدٍ سَيَمْلِكُهُ، فَقِيَاسُهُ جَوَازُ تَوْكِيلِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِيمَا سَيَأْذَنُ فِيهِ الْوَلِيُّ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ. قُلْتُ: (قَدْ) يُمْكِنُ الْفَرْقُ، بِأَنَّ الْخَلَلَ هُنَاكَ فِي عِبَارَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُسْتَثْنَى مِمَّا سَبَقَ، بَيْعُ الْأَعْمَى، وَشِرَاؤُهُ. فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْأَعْمَى لِلضَّرُورَةِ.

قُلْتُ: قَالَ فِي «الْحَاوِي» : لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ أَنْ يُوَكِّلَ فِي بَيْعِ مَالِ الطِّفْلِ، إِنْ شَاءَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَنِ الطِّفْلِ. وَفِي جَوَازِهِ عَنِ الطِّفْلِ، نَظَرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْوَكِيلُ. وَشَرْطُهُ صِحَّةُ مُبَاشَرَتِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ، بِأَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الْعِبَارَةِ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي التَّصَرُّفَاتِ. وَفِي جَوَازِ اعْتِمَادِ قَوْلِ الصَّبِيِّ فِي الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَالْمِلْكِ عِنْدَ إِيصَالِهِ الْهَدِيَّةَ وَجْهَانِ، وَسَبَقَا فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَهُوَ وَكَالَةٌ مِنَ الْإِذْنِ وَالْمَهْدِيِّ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ وَكَّلَ الصَّبِيُّ فِيهِ غَيْرَهُ، فَالْقِيَاسُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْخِلَافِ. وَالتَّفْصِيلُ فِي أَنَّ الْوَكِيلَ، هَلْ يُوَكِّلُ؟ فَإِنْ جَازَ، صَارَ الصَّبِيُّ أَهْلًا لِلتَّوْكِيلِ، وَلَا يَصِحُّ كَوْنُ الْمَرْأَةِ وَالْمُحْرِمِ وَكِيلَيْنِ فِي النِّكَاحِ. وَفِي تَوْكِيلِ الْعَبْدِ فِي الشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ، وَجْهَانِ سَبَقَا فِي بَابِ مُدَايَنَةِ الْعَبِيدِ. وَفِي تَوْكِيلِهِ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. قُلْتُ: وَفِي تَوْكِيلِهِ فِيهِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَيْضًا، وَجْهَانِ فِي «الشَّامِلِ» وَ «الْبَيَانِ» ، وَقَطَعَا بِالْمَنْعِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَالْمُخْتَارُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَفِي تَوْكِيلِهِ فِي الْإِيجَابِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ بِنْتَهُ، فَبِنْتُ غَيْرِهِ أَوْلَى، كَذَا صَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ. وَتَوْكِيلُ الْمَحْجُوزِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فِي طَرَفَيِ النِّكَاحِ كَتَوْكِيلِ الْعَبْدِ، وَالْفَاسِقُ فِي الْإِيجَابِ إِذَا سَلَبْنَاهُ الْوِلَايَةَ كَالْعَبْدِ، وَفِي الْقَبُولِ يَصِحُّ قَطْعًا. وَالْمَحْجُوزُ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، يُوَكَّلُ فِيمَا لَا يُلْزِمُ ذِمَّتَهُ عُهْدَةً قَطْعًا، وَفِيمَا يُلْزِمُهَا أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ عَلَى الصَّحِيحِ.

فَرْعٌ يَصِحُّ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُفَوِّضَ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهَا فِي رَجْعَةِ نَفْسِهَا، وَلَا رَجْعَةِ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْفَرْجَ لَا يُسْتَبَاحُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ. وَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهَا فِي الِاخْتِيَارِ فِي النِّكَاحِ إِذَا أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. وَفِي الِاخْتِيَارِ لِلْفِرَاقِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارَ الْأَرْبَعِ لِلنِّكَاحِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يَصِحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ تَوْكِيلُ الْمُرْتَدِّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، يُبْنَى عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِ وَزَوَالِهِ. إِنْ أَبْقَيْنَاهُ، صَحَّ، وَإِنْ قَطَعْنَاهُ، فَلَا، وَإِنْ وَقَفْنَاهُ، فَكَذَا التَّوْكِيلُ. وَلَوْ وُكِّلَ، ثُمَّ ارْتَدَّ، فَفِي انْقِطَاعِ التَّوْكِيلِ، الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ مُرْتَدًّا، أَوِ ارْتَدَّ الْوَكِيلُ، لَمْ يَقْدَحْ فِي الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي تَصَرُّفِهِ لِنَفْسِهِ، لَا لِغَيْرِهِ، كَذَا نَقَلَ الْأَصْحَابُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، انْعَزَلَ، وَإِلَّا، فَلَا. قُلْتُ: وَلَوْ وَكَّلَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا لِيَقْبَلَ لَهُ نِكَاحَ مُسْلِمَةٍ، لَا يَصِحُّ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي قَبُولِ كِتَابِيَّةٍ، صَحَّ. وَإِنْ وَكَلَّهُ فِي طَلَاقِ مُسْلِمَةٍ، فَوَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ طَلَاقَ مُسْلِمَةٍ، لَكِنْ يَمْلِكُ طَلَاقًا فِي الْجُمْلَةِ. وَلِلْمَكَاتَبِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مِنْهُ، وَلَا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ فِي التَّبَرُّعِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدَهُ. وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى صِحَّتِهِ بِإِذْنِهِ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ مُكَاتِبًا بِجَعْلٍ يَفِي بِأُجْرَتِهِ، جَازَ. وَبِغَيْرِ جَعْلٍ، لَهُ حُكْمُ تَبَرُّعِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ. فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: لَا بُدَّ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ مِنْ لَفْظٍ دَالٍّ عَلَى الرِّضَى، كَقَوْلِهِ: وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، أَوْ فَوَّضْتُهُ إِلَيْكَ، أَوْ أَنَبْتُكَ فِيهِ، وَمَا أَشْبَهَهُ. وَمِثْلُهُ: بِعْ أَوْ أَعْتِقْ وَنَحْوُهُمَا. وَأَمَّا الْقَبُولُ، فَيُطْلَقُ بِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الرِّضَى وَالرَّغْبَةُ فِيمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ، وَنَقِيضُهُ الرَّدُّ. وَالثَّانِي: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ عَلَى النَّحْوِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ. وَيُعْتَبَرُ فِي الْوَكَالَةِ الْقَبُولُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ. حَتَّى لَوْ رَدَّ فَقَالَ: لَا أَقْبَلُ، أَوْ لَا أَفْعَلُ، بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ. فَلَوْ رَدَّ ثُمَّ نَدِمَ، وَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ، لَمْ يَجُزْ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ، تَرْتَفِعُ فِي الدَّوَامِ بِالْفَسْخِ، فَارْتِدَادُهَا بِالرَّدِّ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ الْقَبُولُ لَفْظًا، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يُشْتَرَطُ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ عَقْدٍ، كَـ: وَكَّلْتُكَ، وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ، اشْتُرِطَ. وَإِنْ أَتَى بِصِيغَةِ أَمْرٍ، نَحْوَ: بِعْ، وَاشْتَرِ، لَمْ يُشْتَرَطْ. فَإِنْ شَرَطْنَا الْقَبُولَ لَفْظًا، فَهَلْ يُشْتَرَطُ عَلَى الْفَوْرِ كَالْبَيْعِ، أَمْ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ طَالَ؟ أَمْ يَجُوزُ أَبَدًا وَإِنْ فَارَقَ الْمَجْلِسَ، كَالْوَصِيَّةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ: الثَّالِثُ. وَأَمَّا الْقَبُولُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْجِيلُ بِحَالٍ بِلَا خِلَافٍ. وَإِذَا لَمْ نَشْرُطِ الْقَبُولَ، فَوَكَّلَهُ، وَالْوَكِيلُ لَا يَعْلَمُ، ثَبَتَتْ وَكَالَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَعَلَى هَذَا لَوْ تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ، ثُمَّ بَانَ وَكِيلًا، فَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ يَظُنُّهُ حَيًّا، فَبَانَ مَيِّتًا. وَإِنْ لَمْ نُثْبِتِ الْوَكَالَةَ، فَهَلْ نَحْكُمُ بِنُفُوذِهَا حَالَةَ بُلُوغِ الْخَبَرِ؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ حَيْثُ لَا نَشْتَرِطُ الْقَبُولَ، تَكْفِي الْكِتَابَةُ وَالرِّسَالَةُ، وَنَجْعَلُهُ مَأْذُونًا فِي التَّصَرُّفِ. وَحَيْثُ شَرَطْنَا، فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ كَتَبَ بِالْبَيْعِ، وَقَطَعَ الرُّويَانِيُّ فِي الْوَكَالَةِ بِالْجَوَازِ.

قُلْتُ: قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا، وَكَثِيرُونَ بِالْجَوَازِ وَهُوَ الصَّوَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا شَرَطْنَا الْقَبُولَ، فَقَالَ: وَكِّلْنِي فِي كَذَا، فَقَالَ: وَكَّلْتُكَ، فَهَلْ يَكْفِي، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولٍ بَعْدَهُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. ثُمَّ قِيلَ: الْوَكَالَةُ أَحْوَجُ إِلَى الِاشْتِرَاطِ؛ لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَلَوْ قِيلَ: عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ يُحْتَمَلُ فِيهَا مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي الْبَيْعِ، لَكَانَ أَقْرَبَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا عَلَّقَ الْوَكَالَةَ بِشَرْطٍ، فَقَالَ: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ، أَوْ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، أَوْ أَنْتَ وَكِيلِي، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. فَلَوْ نَجَّزَ الْوَكَالَةَ وَشَرَطَ لِلتَّصَرُّفِ شَرْطًا، بِأَنْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ الْآنَ فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ، وَلَكِنْ لَا تَبِعْهُ حَتَّى يَجِيءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، صَحَّ التَّوْكِيلُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَبِيعُهُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الشَّرْطُ. وَإِذَا أَفْسَدْنَا الْوَكَالَةَ بِالتَّعْلِيقِ، فَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بَعْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِحُصُولِ الْإِذْنِ. وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَمَا لَوْ شَرَطَ لِلْوَكِيلِ جَعْلًا مَجْهُولًا، بِأَنْ قَالَ: بِعْ كَذَا وَلَكَ عُشْرُ ثَمَنِهِ، تَفْسُدُ الْوَكَالَةُ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ. فَعَلَى هَذَا، فَائِدَةُ فَسَادِ الْوَكَالَةِ سُقُوطُ الْجَعْلِ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ، وَالرُّجُوعُ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي النِّكَاحِ يُفْسِدُ الصَّدَاقَ، وَيُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ، وَمَتَى عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي، فَفِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِي الْحَالِ

، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، أَوْ كَانَ قَوْلُهُ: مَتَى عَزَلْتُكَ، مَفْصُولًا عَنِ الْوَكَالَةِ، فَعَزَلَهُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ، وَاعْتَبَرْنَا عِلْمَهُ فِي نُفُوذِ الْعَزْلِ، فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ. وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهُ، أَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، فَفِي عَوْدِهِ وَكِيلًا بَعْدَ الْعَزْلِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوَكَالَةَ ثَانِيًا عَلَى الْعَزْلِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَعُودُ، نُظِرَ فِي اللَّفْظِ الْمَوْصُولِ بِالْعَزْلِ. فَإِنْ كَانَ قَالَ: إِذَا عَزَلْتُكَ، أَوْ مَهْمَا، أَوْ مَتَى، لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ عَوْدُ الْوَكَالَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا عَزَلْتُكَ، اقْتَضَى الْعَوْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّ كُلَّمَا لِلتَّكْرَارِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يَعُودَ وَكِيلًا، فَطَرِيقُهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي عَزْلِهِ، فَيَنْعَزِلُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ عَزْلُ نَفْسِهِ. فَإِنْ كَانَ قَالَ: كُلَّمَا عَزَلْتُكَ، أَوْ عَزْلَكَ أَحَدٌ عَنِّي، فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: كُلَّمَا عُدْتَ وَكِيلًا، فَأَنْتَ مَعْزُولٌ. فَإِذَا عَزَلَهُ، يَنْعَزِلُ لِتَقَاوُمِ التَّوْكِيلِ وَالْعَزْلِ، وَاعْتِضَادِ الْعَزْلِ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. وَالْخِلَافُ فِي قَبُولِ الْوَكَالَةِ التَّعْلِيقَ، جَارٍ فِي أَنَّ الْعَزْلَ هَلْ يَقْبَلُهُ، وَلَكِنْ بِالتَّرْتِيبِ؟ وَالْعَزْلُ أَوْلَى بِقَبُولِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبُولٌ قَطْعًا. وَتَصْحِيحُ إِدَارَةِ الْوَكَالَةِ وَالْعَزْلِ جَمِيعًا، مَبْنِيٌّ عَلَى قَبُولِهِمَا التَّعْلِيقَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا نَفَّذْنَا الْعَزْلَ، وَقُلْنَا: تَعُودُ الْوَكَالَةُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَزْلَ يَنْفُذُ فِي وَقْتٍ وَإِنَ لَطُفَ، ثُمَّ تُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْوَكَالَةُ. فَلَوْ صَادَفَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ ذَلِكَ الْوَقْتَ اللَّطِيفَ، فَفِي نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ وَجْهَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَصِحُّ الْوَكَالَةُ الْمُوَقَّتَةُ، كَقَوْلِكَ: وَكَّلْتُكَ إِلَى شَهْرِ رَمَضَانَ. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ الصَّحِيحَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: صِحَّةُ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ إِذَا وَافَقَ، وَالْمُوَافَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ تُعْرَفَانِ بِالنَّظَرِ

إِلَى اللَّفْظِ تَارَةً، وَبِالْقَرَائِنِ أُخْرَى. فَإِنَّ الْقَرِينَةَ قَدْ تَقْوَى، فَيُتْرَكُ لَهَا إِطْلَاقُ اللَّفْظِ. وَلِهَذَا لَوْ أَمَرَهُ فِي الصَّيْفِ بِشِرَاءِ الْجَمَدِ، لَا يَشْتَرِيهِ فِي الشِّتَاءِ. وَقَدْ يَتَعَادَلُ اللَّفْظُ وَالْقَرِينَةُ، وَيَحْصُلُ مِنْ تَعَادُلِهِمَا خِلَافٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْجُمْلِيُّ نُوَضِّحُهُ بِصُوَرٍ تُعْرَفُ بِهَا أَخَوَاتُهَا. إِحْدَاهَا: وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ وَأَطْلَقَ، لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَلَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَلَا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ: يَصِحُّ كُلُّ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَنْقُولُ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ. فَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ، لَزِمَهُ الْبَيْعُ بِأَغْلَبِهِمَا. فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْمُعَامَلَةِ، بَاعَ بِأَنْفَعِهِمَا لِلْمُوَكِّلِ. فَإِنِ اسْتَوَيَا، تَخَيَّرَ فِيهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ حَتَّى يُبَيِّنَ. ثُمَّ إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ عَلَى أَحَدِ الْأَوْصَافِ الْمَمْنُوعَةِ، لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا لِلْمَبِيعِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَى الْمُشْتَرِي. فَإِذَا سَلَّمَ، ضَمِنَ. ثُمَّ الْقَوْلُ فِيهِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا، أَوْ تَالِفًا. وَفِي كَيْفِيَّةِ تَغْرِيمِ الْمُوَكِّلِ الْوَكِيلَ وَالْمُشْتَرِي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا إِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ بِنَسِيئَةٍ. فَأَمَّا بَيْعُ الْوَكِيلِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، فَجَائِزٌ. وَالْيَسِيرُ هُوَ الَّذِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ وَيَحْتَمِلُونَهُ غَالِبًا. وَبَيْعُ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِتِسْعَةٍ، مُتَحَمَّلٌ. وَبِثَمَانِيَةٍ غَيْرُ مُتَحَمَّلٍ قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَيَخْتَلِفُ الْقَدْرُ الْمُتَحَمَّلُ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الثِّيَابِ مِنَ الثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ وَالْعَقَارِ وَغَيْرِهَا. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْتَصَّ عَلَى الْبَيْعِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَهُنَاكَ طَالِبٌ بِزِيَادَةٍ. فَلَوْ بَاعَ

بِثَمَنِ الْمِثْلِ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَجْلِسَ طَالَبَ بِزِيَادَةٍ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي عَدْلِ الرَّهْنِ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: بِعْهُ بِكَمْ شِئْتَ، فَلَهُ الْبَيْعُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَلَا يَجُوزُ بِالنَّسِيئَةِ، وَلَا بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَلَوْ قَالَ: بِمَا شِئْتَ، فَلَهُ الْبَيْعُ بِغَيْرِ النَّقْدِ، وَلَا يَجُوزُ بِالْغَبْنِ، وَلَا بِالنَّسِيئَةِ. وَلَوْ قَالَ: كَيْفَ شِئْتَ، فَلَهُ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ. وَلَا يَجُوزُ بِالْغَبْنِ، وَلَا بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، جَوَازُ الْجَمِيعِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ بِمَا عَزَّ وَهَانَ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : هُوَ كَقَوْلِهِ: بِكَمْ شِئْتَ. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ: لَهُ الْبَيْعُ بِالْعَرْضِ وَالْغَبْنِ، وَلَا يَجُوزُ بِالنَّسِيئَةِ، وَهُوَ الْأَوْلَى. فَرْعٌ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، هَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَبِيهِ وَابْنِهِ وَسَائِرِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، كَمَا لَوْ بَاعَ صَدِيقَهُ، وَكَالْعَمِّ يُزَوِّجُ مُوَلِّيَتَهُ لِابْنِهِ الْبَالِغِ إِذَا أَطْلَقَتِ الْإِذْنَ، وَقُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ قَطْعًا. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي الْبَيْعِ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ إِذَا قُلْنَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، أَوْ فِيمَا لَوْ بَاعَ لِمُكَاتِبِهِ، وَالْوَجْهَانِ فِي الْفُرُوعِ الْمُسْتَقِلَّيْنِ. أَمَّا ابْنُهُ الصَّغِيرُ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ لَهُ مُطْلَقًا. وَكَذَا لَا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَعَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ، جَوَازُهُ. فَعَلَى الصَّحِيحِ: لَوْ صَرَّحَ فِي الْإِذْنِ فِي بَيْعِهِ لِنَفْسِهِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَصِحُّ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَصِحُّ. وَلَوْ أَذِنَ فِي بَيْعِهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : هُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي الْهِبَةِ لِنَفْسِهِ، أَوْ تَزْوِيجِ بِنْتِهِ لِنَفْسِهِ. وَفِي تَوَلِّي ابْنِ الْعَمِّ طَرَفَيِ النِّكَاحِ، أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ بِإِذْنِهَا وَهُوَ وَلِيُّهَا، وَالنِّكَاحُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ. وَفِيمَا لَوْ وَكَّلَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ الْمَدِينَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ وَكَّلَ مُسْتَحِقُّ الْقَصَاصِ الْجَانِي بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ نَفْسِهِ فِي النَّفْسِ أَوِ الطَّرَفِ، أَوْ وَكَّلَ الْإِمَامُ السَّارِقَ فِي قَطْعِ يَدِهِ، أَوْ وَكَّلَ الزَّانِي لِيَجْلِدَ نَفْسَهُ. وَالصَّحِيحُ: الْمَنْعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَطَرَدُوهُمَا فِي الْوَكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. فَعَلَى هَذَا يَتَخَيَّرُ وَيُخَاصِمُ لِأَيِّهِمَا شَاءَ. وَلَوْ تُوُكِّلَ فِي طَرَفَيِ النِّكَاحِ أَوِ الْبَيْعِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَقِيلَ بِالْمَنْعِ قَطْعًا. وَلَوْ وَكَّلَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي إِبْرَاءِ نَفْسِهِ، فَقِيلَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ قَطْعًا، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي الْإِبْرَاءِ. فَإِنِ اشْتَرَطْنَاهُ، جَرَى الْوَجْهَانِ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ قَطْعًا، كَمَا لَوْ وَكَّلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَفْوِ، وَالْعَبْدَ فِي إِعْتَاقِ نَفْسِهِ. وَالْوَكِيلُ فِي الشِّرَاءِ كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ فِي أَنَّهُ لَا يَشْتَرِي مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا مَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ. وَفِي ابْنِهِ الْكَبِيرِ، الْوَجْهَانِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ. قُلْتُ: وَإِذَا وَكَّلَ الِابْنُ الْكَبِيرُ أَبَاهُ فِي بَيْعٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَحَكَى فِي «الْحَاوِي» وَجْهًا: أَنَّهُ يَجُوزُ تَغْلِيبًا لِلْأُبُوَّةِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي حِجْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا أَذِنَ فِي الْبَيْعِ مُؤَجَّلًا، نُظِرَ. إِنْ قَدَّرَ الْأَجَلَ، صَحَّ التَّوْكِيلُ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ. وَفِيمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ فِي مِثْلِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُرْفٌ، رَاعَى الْأَنْفَعَ. وَالثَّانِي. لَهُ التَّأْجِيلُ إِلَى مَا شَاءَ. وَالثَّالِثُ: إِلَى سَنَةٍ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، وَإِقْبَاضِ الْمَبِيعِ. فَإِذَا وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، فَهَلْ يَمْلِكُ الْوَكِيلُ قَبْضَ الثَّمَنِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَقَدْ يَرْضَاهُ لِلْبَيْعِ، وَلَا يَرْضَاهُ لِقَبْضِ الثَّمَنِ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْبَيْعِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ. وَهَلْ يَمْلِكُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَعَهُ؟ أَشَارَ كَثِيرُونَ إِلَى الْجَزْمِ بِجَوَازِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِهِمَا، لَمْ يَمْلِكِ التَّسْلِيمَ مَا لَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ، وَعَلَى هَذَا جَرَى صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ جَوَازُ تَسْلِيمِهِ، وَلَكِنْ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ. فَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي الدَّلِيلِ، وَفِي النَّقْلِ أَيْضًا، وَقَدْ صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَكِيلُ فِي الصَّرْفِ، يَمْلِكُ الْقَبْضَ وَالْإِقْبَاضَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ فِي السَّلَمِ يَدْفَعُ وَكِيلُ الْمُسْلِمِ رَأْسَ الْمَالِ، وَيَقْبِضُهُ وَكِيلُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ قَطْعًا. فَرْعٌ إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ بِمُؤَجَّلٍ حَيْثُ يَجُوزُ، سَلَّمَ الْمَبِيعَ عَلَى الْمَذْهَبِ، إِذْ لَا حَبْسَ بِالْمُؤَجَّلِ، وَيَجِيءُ وَجْهٌ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ: أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ، إِذْ لَمْ يُفَوَّضْ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ، لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ قَبْضَ الثَّمَنِ إِلَّا بِإِذْنٍ مُسْتَأْنَفٍ. وَإِذَا بَاعَ بِحَالٍ، وَجَوَّزْنَا قَبْضَ الثَّمَنِ، لَمْ يُسَلِّمِ الْمَبِيعَ حَتَّى يَقْبِضَهُ كَمَا لَوْ أَذِنَ فِيهِمَا صَرِيحًا، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ. وَإِذَا لَمْ نُجَوِّزْ لَهُ الْقَبْضَ، فَلَا تَجُوزُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ، وَلِلْمُوَكِّلِ الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَلَوْ مَنَعَهُ مِنْ قَبْضِ الثَّمَنِ، لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ قَطْعًا. وَلَوْ مَنَعَهُ

مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ. وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا الشَّرْطُ فَاسِدٌ، فَإِنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ. وَفِي فَسَادِ الْوَكَالَةِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَفْسَدُ، وَيَسْقُطُ الْجَعْلُ الْمُسَمَّى، فَيَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ فِي صُورَةِ الْإِطْلَاقِ، هَلْ لِلْوَكِيلِ التَّسْلِيمُ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَعِنْدَ الْمَنْعِ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ الْعَقْدِ وَتَتِمَاتِهِ، لَا لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْلِيمُ، لَا تَسْلِيمُهُ بِعَيْنِهِ، وَالْمَمْنُوعَ مِنْهُ تَسْلِيمُهُ. فَلَوْ قَالَ: امْنَعِ الْمَبِيعَ مِنْهُ، فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْحَقِّ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ، وَإِثْبَاتَ يَدِهِ عَلَيْهِ حَرَامٌ. وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَا تُسَلِّمْهُ إِلَيْهِ، وَقَوْلِهِ: أَمْسِكْهُ أَوِ امْنَعْهُ. فَرْعٌ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ، إِنْ لَمْ يُسَلِّمِ الْمُوَكَّلُ إِلَيْهِ الثَّمَنَ، وَاشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ - فِي أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ، عَلَى مَنْ تَتَوَجَّهُ؟ - فِي الْحُكْمِ [مِنَ الْبَابِ] الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ وَاشْتَرَى بِعَيْنِهِ، أَوْ فِي الذِّمَّةِ، فَهَلْ يَمْلِكُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ وَقَبْضَ الْمَبِيعِ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ فِي الشِّرَاءِ؟ قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» وَ «التَّهْذِيبِ» : فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي وَكِيلِ الْبَائِعِ، وَجَزَمَ الْغَزَالِيُّ بِالْجَوَازِ، فَإِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِيهِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَالْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» : يُسَلِّمُ الثَّمَنَ قَطْعًا، وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ عَلَى الْأَصَحِّ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا سَلَّمَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِلَى الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ حَيْثُ يَجُوزُ قَبْضُهُ، لَزِمَ الْوَكِيلَ

تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الْمُوَكِّلُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ إِذَا قُبِضَ صَارَ دَفْعُ الْمَبِيعِ مُسْتَحَقًّا، وَلِلْمُشْتَرِي الِانْفِرَادُ بِأَخْذِهِ. فَإِنْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي، فَذَاكَ، وَإِنْ سَلَّمَهُ الْوَكِيلُ، فَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَخْذِ الْمُشْتَرِي، فَلَا حُكْمَ لِلتَّسْلِيمِ. فَرْعٌ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ. فَلَوْ فَعَلَ، غَرِمَ لِلْمُوَكِّلِ قِيمَتَهُ إِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ وَالثَّمَنُ سَوَاءً، أَوْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ. فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ، بِأَنْ بَاعَهُ بِغَبْنٍ مُحْتَمَلٍ، فَهَلْ يَغْرَمُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، أَمْ يَحُطُّ قَدْرَ الْغَبْنِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَوَّلُهُمَا. فَإِنْ بَاعَهُ بِغَبْنٍ فَاحْشٍ بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ، فَقِيَاسُ الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنْ لَا يَغْرَمَ إِلَّا قَدْرَ الثَّمَنِ، ثُمَّ إِذَا قَبَضَ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ بَعْدَ مَا غَرِمَ، دَفَعَهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَاسْتَرَدَّ الْمَغْرُومَ. فَرْعٌ الْوَكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، هَلْ يُثْبِتُهُ، أَوْ بِإِثْبَاتِهِ هَلْ يَسْتَوْفِيهِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: يَثْبُتُ وَلَا يَسْتَوْفِي. فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا، لَمْ يَسْتَوْفِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: فِي شِرَائِهِ الْمَعِيبَ. فَلِلْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوَكَّلَ فِي شِرَاءِ مَوْصُوفٍ، فَلَا يَشْتَرِي إِلَّا سَلِيمًا، فَإِنِ اشْتَرَى مَعِيبًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مَعَ الْعَيْبِ يُسَاوِي مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَإِنْ جَهِلَ الْعَيْبَ، وَقَعَ عَنِ الْمُوَكَّلِ، وَإِنْ عَلِمَهُ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يَقَعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي سَلِيمًا. وَالثَّانِي: يَقَعُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ عَبْدًا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَقَعَ عَنْهُ، وَإِلَّا فَلَا، إِلَّا أَنْ

يَكُونَ كَافِرًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ شِرَاؤُهُ. وَإِنْ لَمْ يُسَاوِ مَا اشْتَرَاهُ] بِهِ [، فَإِنْ عَلِمَ، لَمْ يَقَعْ عَنِ الْمُوَكَّلِ، وَإِنْ جَهِلَ، وَقَعَ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ جَاهِلًا. وَحَيْثُ قُلْنَا بِوُقُوعِهِ عَنِ الْمُوَكَّلِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَلِلْمُوَكِّلِ الرَّدُّ قَطْعًا، وَكَذَا لِلْوَكِيلِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ. وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ عَالِمًا، فَلَا رَدَّ لَهُ، وَلِلْمُوَكِّلِ الرَّدُّ عَلَى الْأَصَحِّ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْوَكِيلِ، أَمْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ؟ وَجْهَانِ. فَمَنْ قَالَ بِالِانْتِقَالِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَالُ، وَإِلَّا فَيَسْتَحِيلُ ارْتِدَادُ الْمِلْكِ مِنَ الْمُوكِّلِ إِلَى الْوَكِيلِ، قَالَهُ الْإِمَامُ. وَهَذَا الْخِلَافُ تَفْرِيعٌ عَلَى وُقُوعِهِ لِلْمُوَكِّلِ مَعَ عِلْمِ الْوَكِيلِ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي شِرَاءٍ مُعَيَّنٍ. فَإِنْ لَمْ يَنْفَرِدِ الْوَكِيلُ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ بِالرَّدِّ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُرِيدُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي هَذَا الْحَالِ، مَتَى يَقَعُ عَنِ الْمُوَكَّلِ، وَمَتَى لَا يَقَعُ؟ وَالْقِيَاسُ: أَنَّهُ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ. لَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا يُسَاوِي مَا اشْتَرَاهُ بِهِ وَهُوَ عَالِمٌ، فَإِيقَاعُهُ عَنِ الْمُوَكَّلِ هُنَا أَوْلَى، لِجَوَازِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِعَيْنِهِ. وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَالَيْنِ، فِيمَا إِذَا اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ. أَمَّا إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ الْمُوَكِّلِ، فَحَيْثُ قُلْنَا هُنَاكَ: لَا يَقَعُ عَنِ الْمُوَكَّلِ، لَا يَصِحُّ هُنَا أَصْلًا. وَحَيْثُ قُلْنَا: يَقَعُ، فَكَذَا هُنَا، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ الرَّدُّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمَتَى ثَبَتَ الرَّدُّ لِلْوَكِيلِ فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ، فَاطَّلَعَ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْعَيْبِ قَبْلَ اطِّلَاعِ الْوَكِيلِ أَوْ بَعْدَهُ، وَرَضِيَهُ، سَقَطَ خِيَارُ الْوَكِيلِ، وَلَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُوَكِّلِ بِتَأْخِيرِ الْوَكِيلِ وَتَقْصِيرِهِ. وَإِذَا أَخَّرَ الْوَكِيلُ الرَّدَّ، أَوْ صَرَّحَ بِإِلْزَامِ الْعَقْدِ، فَهَلْ لَهُ الْعَوْدُ إِلَى الرَّدِّ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ بَاقٍ وَهُوَ نَائِبٌ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ كَالْعَازِلِ نَفْسَهُ عَنِ الرَّدِّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَإِذَا قُلْنَا بِهِ، وَأَثْبَتْنَا لَهُ الْعَوْدَ وَلَمْ يَعُدْ، فَاطَّلَعَ الْمُوَكِّلُ عَلَيْهِ، وَأَرَادَ الرَّدَّ، فَلَهُ ذَلِكَ إِنْ سَمَّاهُ الْوَكِيلُ فِي الشِّرَاءِ، أَوْ نَوَاهُ وَصَدَّقَهُ

الْبَائِعُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرُدُّهُ عَلَى الْوَكِيلِ، وَيَلْزَمُهُ الْمَبِيعُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْمُوَكِّلُ. فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ. وَبِهَذَا قَطْعًا فِي «التَّهْذِيبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» . وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَصْحَابُهُ: أَنَّ الْمَبِيعَ لِلْمُوَكِّلِ، وَقَدْ فَاتَ الرَّدُّ لِتَفْرِيطِ الْوَكِيلِ. وَيَضْمَنُ الْوَكِيلُ، وَفِيمَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ: يَضْمَنُ قَدْرَ نَقْصِ قِيمَتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. فَلَوْ كَانَتِ الْقِيمَةُ تِسْعِينَ، وَالثَّمَنُ مِائَةً، رَجَعَ بِعَشَرَةٍ. فَإِنْ تَسَاوَيَا، فَلَا رُجُوعَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ مِنَ الثَّمَنِ. قُلْتُ: الْمَذْكُورُ عَنِ «التَّهْذِيبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» أَصَحُّ، وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ أَرَادَ الْوَكِيلُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: أَخِّرْ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِجَابَتُهُ. وَإِذَا رَدَّ، فَحَضَرَ الْمُوكِّلُ وَرَضِيَهُ، احْتَاجَ إِلَى اسْتِئْنَافِ الشِّرَاءِ. وَلَوْ أَخَّرَ كَمَا الْتَمَسَ الْبَائِعُ، فَحَضَرَ الْمُوَكِّلُ وَلَمْ يَرْضَهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْمَبِيعُ لِلْوَكِيلِ، وَلَا رَدَّ، لِتَأْخِيرِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ. وَقِيلَ: لَهُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالْعَيْبِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِلْبَغَوِيِّ: أَنْتَ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ، ثُمَّ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ وَأَرَادَ الرَّدَّ، فَلَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الْوَكِيلُ سَمَّاهُ أَوْ نَوَاهُ، وَهُنَا الْوَكِيلُ وَالْمُوَكَّلُ وَالْبَائِعُ مُتَصَادِقُونَ عَلَى أَنَّ الشِّرَاءَ وَقَعَ لِلْمُوَكِّلِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ أَوْ نَوَاهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الْمَبِيعُ لِلْمُوَكِّلِ، وَلَهُ الرَّدُّ. فَرْعٌ إِذَا أَرَادَ الْوَكِيلُ الرَّدَّ، فَقَالَ الْبَائِعُ: قَدْ عَرَفَهُ الْمُوَكِّلُ وَرَضِيَهُ، وَلَا رَدَّ لَكَ،

نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ بُلُوغَ الْخَبَرِ إِلَيْهِ، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَإِنِ احْتَمَلَ، وَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِرِضَا الْمُوَكِّلِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَا يَحْلِفُ. فَإِنْ عَرَضْنَا الْيَمِينَ عَلَى الْوَكِيلِ، فَحَلَفَ، رَدَّهُ. فَإِنْ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ، فَصَدَّقَ الْبَائِعُ، فَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ لَهُ اسْتِرْدَادَ الْمَبِيعِ مِنَ الْبَائِعِ، لِمُوَافَقَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى الرِّضَا قَبْلَ الرَّدِّ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: لَا يَسْتَرِدُّ، وَيُنَفِّذُ فَسْخَ الْوَكِيلِ. قُلْتُ: الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وَ «الْبَيَانِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ نَكَلَ الْوَكِيلُ، حَلَفَ الْبَائِعُ، وَسَقَطَ رَدُّ الْوَكِيلِ. ثُمَّ إِذَا حَضَرَ الْمُوَكِّلُ، وَصَدَّقَ الْبَائِعُ، فَذَاكَ. وَإِنْ كَذَّبَهُ، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : يَلْزَمُ الْعَقْدُ الْوَكِيلَ، وَلَا رَدَّ لَهُ، لِإِبْطَالِ الْحَقِّ بِالنُّكُولِ. وَفِيهِ الْإِشْكَالُ السَّابِقُ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ. فَرْعٌ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إِذَا بَاعَ، فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، رَدَّهُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ وَكِيلًا، وَإِنْ عَلِمَهُ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ هُوَ يَرُدُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَهَلْ لِلْوَكِيلِ حَطُّ بَعْضِ الثَّمَنِ لِلْعَيْبِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصَحُّهُمَا عَدَمَ الْحَطِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ زَعَمَ الْمُوَكِّلُ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَصَدَّقَ الْوَكِيلُ الْمُشْتَرِيَ، رَدَّ عَلَى الْوَكِيلِ، وَلَمْ يَرُدَّ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ.

فَرْعٌ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْقِرَاضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ، هَلْ يَشْتَرِي مَنْ يَعْتِقُ عَلَى الْمُوَكِّلِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَشْتَرِيهِ، فَكَانَ مَعِيبًا، فَلِلْوَكِيلِ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَبْلَ رِضَاهُ بِالْعَيْبِ، ذَكَرَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ، فَإِنْ سَكَتَ الْمُوَكِّلُ عَنْهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ أَمْرًا يَتَأَتَّى لَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، لَمْ يُجِزْ أَنْ يُوَكَّلَ فِيهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ، لِكَوْنِهِ لَا يُحْسِنُهُ، أَوْ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ، فَلَهُ التَّوْكِيلُ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مِثْلِهِ الِاسْتِنَابَةُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُوَكَّلُ، لِقُصُورِ اللَّفْظِ. وَلَوْ كَثُرَتِ التَّصَرُّفَاتُ الْمُوَكَّلُ فِيهَا، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِهَا، لِكَثْرَتِهَا، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُوَكَّلُ فِيمَا يَزِيدُ عَلَى الْمُمْكِنِ، وَلَا يُوَكَّلُ فِي الْمُمْكِنِ. وَفِي وَجْهٍ: يُوَكَّلُ فِي الْجَمِيعِ. وَقِيلَ: لَا يُوَكَّلُ فِي الْمُمْكِنِ. وَفِي الْبَاقِي وَجْهَانِ. وَقِيلَ: فِي الْجَمِيعِ وَجْهَانِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ، فَلَهُ أَحْوَالٌ. الْأَوَّلُ: إِذَا قَالَ: وَكِّلْ عَنْ نَفْسِكَ، فَفَعَلَ، انْعَزَلَ الثَّانِي بِعَزْلِ الْأَوَّلِ إِيَّاهُ، وَبِمَوْتِهِ وَجُنُونِهِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ. وَلَوْ عَزَلَ الْمُوَكِّلُ الْأَوَّلَ، انْعَزَلَ. وَفِي انْعِزَالِ الثَّانِي بِانْعِزَالِهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَلَوْ فِي انْعِزَالِ الثَّانِي، انْعَزَلَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَجُنُونِهِ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَكِيلًا مِنْ جِهَتِهِ. وَالَّذِي يَجْمَعُ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ، أَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ، هَلْ هُوَ وَكِيلُ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، أَمْ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: أَقِمْ غَيْرَكَ مَقَامَ نَفْسِكَ؟ وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ وَكِيلُ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: وَكِّلْ عَنِّي، فَالثَّانِي وَكِيلُ الْمُوكَّلِ، وَلَهُ عَزْلُ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَزْلُ الْآخَرِ، وَلَا يَنْعَزِلُ أَحَدُهُمَا بِانْعِزَالِ الْآخَرِ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: إِذَا قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، وَأَذِنْتُ لَكَ أَنْ تُوَكِّلَ فِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْكَ، وَلَا عَنِّي، فَهَذَا كَالصُّورَةُ الْأُولَى، أَمْ كَالثَّانِيَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُ أَنْ يُوكِّلَ فِي صُورَةِ سُكُوتِ الْمُوَكِّلِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوكِّلَ عَنْ مُوَكِّلِهِ. فَلَوْ وَكَّلَ عَنْ نَفْسِهِ، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ حَيْثُ مَلَكَ الْوَكِيلُ أَنْ يُوكِّلَ، فَشَرَطَهُ أَنْ يُوكِّلَ أَمِينًا، إِلَّا أَنْ يُعَيَّنَ لَهُ غَيْرُهُ. وَلَوْ وَكَّلَ أَمِينًا، ثُمَّ فَسَقَ، هَلْ لَهُ عَزْلُهُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَقْيَسُهُمَا: الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ وَكَّلَهُ فِي تَصَرُّفٍ، وَقَالَ: افْعَلْ فِيهِ مَا شِئْتَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِذْنًا فِي التَّوْكِيلِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: لَوْ قَالَ: كُلُّ مَا تَصْنَعُهُ، فَهُوَ جَائِزٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: افْعَلْ مَا شِئْتَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: فِي امْتِثَالِ تَقْيِيدِ الْمُوَكِّلِ. وَالصُّوَرُ الْمَذْكُورَةُ مَنْ أَوَّلِ الْبَابِ إِلَى هُنَا مَفْرُوضَةٌ فِي التَّوْكِيلِ الْمُطْلَقِ، وَمِنْ هُنَا إِلَى آخِرِهِ فِي التَّوْكِيلِ الْمَقْرُونِ بِتَقْيِيدٍ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ يَجِبُ مُرَاعَاةُ تَقْيِيدِ الْمُوَكِّلِ، وَرِعَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ.

إِحْدَاهَا: إِذَا عَيَّنَ الْمُوَكِّلُ شَخْصًا، بِأَنْ قَالَ: بِعْ لِزَيْدٍ. أَوْ عَيَّنَ وَقْتًا، بِأَنْ قَالَ: بِعْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ لِغَيْرِ زَيْدٍ، وَلَا قَبْلَ الْجُمُعَةِ، وَلَا بَعْدَهُ. قُلْتُ: هَكَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهُ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ. قَالُوا: وَكَذَا حُكْمُ الْعِتْقِ، لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَلَا بَعْدَهُ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ، فَنَقَلَ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وَ «الْبَيَانِ» عَنِ الدَّارِكِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْجُمُعَةِ، لَا يَقَعُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَهُ يَقَعُ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً يَوْمَ الْجُمُعَةِ، كَانَتْ مُطَلَّقَةً يَوْمَ السَّبْتِ، بِخِلَافِ الْخَمِيسِ. وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لَوْ عَيَّنَ مَكَانًا مِنْ سُوقٍ وَنَحْوِهَا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ غَرَضٌ ظَاهِرٌ، بِأَنْ كَانَ الرَّاغِبُونَ فِيهِ أَكْثَرَ، أَوِ النَّقْدُ فِيهِ أَجْوَدَ، لَمْ يَجُزِ الْبَيْعُ فِي غَيْرِهِ. وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ، وَقَطَعَ بِهِ الْغَزَالِيُّ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ ابْنِ الْقَطَّانِ وَالْبَغَوِيِّ: الْمَنْعُ. قُلْتُ: قَطَعَ بِالْجَوَازِ أَيْضًا صَاحِبَا التَّنْبِيهِ وَ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرُهُمَا، لَكِنَّ الْأَصَحَّ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَنْعُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» . قُلْتُ: هَذَا إِذَا لَمْ يُقَدِّرِ الثَّمَنَ. فَإِنْ قَالَ: بِعْ فِي سُوقِ كَذَا بِمِائَةٍ، فَبَاعَ بِمِائَةٍ فِي غَيْرِهَا، جَازَ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ نَهَاهُ صَرِيحًا عَنِ الْبَيْعِ فِي غَيْرِهِ، امْتَنَعَ قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ: بِعْ فِي بَلَدِ كَذَا، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: هُوَ كَقَوْلِهِ: بِعْ فِي سُوقِ كَذَا، حَتَّى لَوْ بَاعَ فِي بَلَدٍ آخَرَ، جَاءَ فِيهِ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ، وَهَذَا صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا بِالنَّقْلِ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ مَضْمُونًا فِي يَدِهِ. بَلْ لَوْ أَطْلَقَ التَّوْكِيلَ فِي الْبَيْعِ فِي بَلَدٍ، فَلْيَبِعْ فِيهِ فَإِنْ نَقَلَ، ضَمِنَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: بِعْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، لَمْ يَبِعْ بِدُونِهَا، وَلَهُ الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ. وَالْمَقْصُودُ بِالتَّقْدِيرِ: أَنْ لَا يَنْقُصَ فِيهِمَا مِنَ الْعُرْفِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ نَهَاهُ عَنِ الزِّيَادَةِ صَرِيحًا، لَمْ يَزِدْ قَطْعًا. قُلْتُ: حُكِيَ فِي «النِّهَايَةِ» وَ «الْبَسِيطِ» عَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْ بِمِائَةٍ وَلَا تَزِدْ، فَزَادَ، أَوِ اشْتَرِ هَذَا الْعَبْدَ بِمِائَةٍ وَلَا تَنْقُصْ، فَنَقَصَ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ. قَالَا: وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أَتَى بِمَا هُوَ نَصٌّ فِي الْمَنْعِ، لَمْ يُنَفَّذْ لِمُخَالَفَتِهِ، وَإِنِ احْتَمَلَ أَنَّهُ يُرِيدُ: لَا تُتْعِبْ نَفْسَكَ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، اتَّجَهَ التَّنْفِيذُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَلْ لَهُ الْبَيْعُ بِمِائَةٍ وَهُنَاكَ رَاغِبٌ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمِائَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْغِبْطَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُعَيَّنًا، فَإِنْ قَالَ: بِعْهُ لِزَيْدٍ بِمِائَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا قَصَدَ إِرْفَاقَهُ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ: بِعْ ثَوْبِي، وَلَا تَبِعْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، لَمْ يَبِعْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، وَيَبِيعُ بِهَا وَبِمَا دُونَهَا مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ بِمِائَةٍ، وَلَا تَبِعْهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، فَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَيَجُوزُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنْ مِائَةٍ، وَلَا يَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الْأَصَحِّ.

فَرْعٌ الشِّرَاءُ كَالْبَيْعِ فِيمَا سَبَقَ. فَإِذَا قَالَ: اشْتَرِ بِمِائَةٍ، فَلَهُ الشِّرَاءُ بِأَقَلَّ، إِلَّا أَنْ يَنْهَاهُ، وَلَا يَشْتَرِي بِمَا فَوْقَهَا. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ بِمِائَةٍ، وَلَا تَشْتَرِ بِخَمْسِينَ، فَلَهُ الشِّرَاءُ بِالْمِائَةِ وَبِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَمْسِينَ، وَلَا يَجُوزُ بِخَمْسِينَ. وَفِيمَا دُونَهَا الْوَجْهَانِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ: اشْتَرِ عَبْدَ فُلَانٍ بِمِائَةٍ، فَاشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا، صَحَّ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: بِعْهُ لِزَيْدٍ بِمِائَةٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : وَالْفَرْقُ أَنَّهُ فِي الْبَيْعِ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ، فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَفِي الشِّرَاءِ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ مِائَةٍ، وَدَفْعُ الْوَكِيلِ بَعْضَ الْمَأْمُورِ بِهِ جَائِزٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ: بِعْهُ إِلَى أَجَلٍ، وَبَيَّنَ قَدْرَهُ، أَوْ قُلْنَا: لَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِهِ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُعْتَادِ، فَخَالَفَ وَبَاعَ حَالًا، نُظِرَ، إِنْ بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ حَالًا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِمَّا أَمَرَهُ بِهِ. وَإِنْ بَاعَهُ حَالًا بِقِيمَتِهِ إِلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لَا يُؤْمَنُ النَّهْبُ وَالسَّرِقَةُ، أَوْ كَانَ لِحِفْظِهِ مُؤْنَةً فِي الْحَالِ، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ ثَمَنِ الْمِثْلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَبَيْنَ مَا قَدَّرَهُ مِنَ الثَّمَنِ، بِأَنْ قَالَ: بِعْ بِمِائَةٍ نَسِيئَةً، فَبَاعَ بِمِائَةٍ نَقْدًا. وَلَوْ قَالَ: بِعْ بِكَذَا إِلَى شَهْرَيْنِ، فَبَاعَ بِهِ إِلَى شَهْرٍ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ حَالًا، فَاشْتَرَاهُ مُؤَجَّلًا بِقِيمَتِهِ مُؤَجَّلًا، لَمْ يَصِحَّ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِقِيمَتِهِ حَالًا، فَوَجْهَانِ كَمَا فِي طَرَفِ الْبَيْعِ. قَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ مُسْتَحِقَّ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إِذَا عَجَّلَ حَقَّهُ، يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ، فَلَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ هُنَا لِلْمُوَكِّلِ بِحَالٍ. وَذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ تَخْرِيجًا

عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا: أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا، لَوِ اشْتَرَى نَسِيئَةً بِثَمَنِ مِثْلِهِ نَقْدًا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا، وَلِلْمُوَكِّلِ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ بِالتَّعْجِيلِ. قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ أَوَّلًا عَنِ «التَّتِمَّةِ» قَدْ عَكَسَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» فَقَالَ: هَذَا الْخِلَافُ حَيْثُ لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى قَبُولِ تَعْجِيلِهِ، وَحَيْثُ يُجْبَرُ، يَصِحُّ الشِّرَاءُ قَطْعًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، أَصَحُّ وَأَفْقَهُ وَأَقْرَبُ إِلَى تَعْلِيلِ الْأَصْحَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ دِينَارًا، وَقَالَ: اشْتَرِ بِهِ شَاةً، وَوَصَفَهَا، فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ تُسَاوِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا دِينَارًا، لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُمَا جَمِيعًا عَلَى الدِّينَارِ، لِفَوَاتِ مَا وَكَّلَ فِيهِ. وَإِنْ سَاوَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ دِينَارًا، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: صِحَّةُ الشِّرَاءِ، وَحُصُولُ الْمِلْكِ فِيهِمَا لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ غَرَضُهُ وَزَادَ خَيْرًا. وَالثَّانِي: لَا تَقَعُ الشَّاتَانِ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِمَا، بَلْ يُنْظَرُ، إِنِ اشْتَرَاهُمَا فِي الذِّمَّةِ، فَلِلْمُوَكِّلِ وَاحِدَةٌ بِنِصْفِ دِينَارٍ، وَالْأُخْرَى لِلْوَكِيلِ، وَيَرُدُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ نِصْفَ دِينَارٍ. وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَنْتَزِعَ الثَّانِيَةَ مِنْهُ، وَيُقَرِّرَ الْعَقْدَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْعَقْدَ لَهُ. وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ: لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، بَلْ يَقَعَانِ لِلْوَكِيلِ. وَإِنِ اشْتَرَاهُمَا بِعَيْنِ الدِّينَارِ، فَقَدِ اشْتَرَى شَاةً بِإِذْنِهِ، وَشَاةً بِلَا إِذْنِهِ، فَيُبْنَى عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تُوقَفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي شَاةٍ. وَفِي الْأُخْرَى قَوْلًا (تَفْرِيقُ) الصَّفْقَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: تُوقَفُ، فَإِنْ شَاءَ الْمُوَكِّلُ أَخَذَهُمَا بِالدِّينَارِ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَرَدَّ الْأُخْرَى عَلَى الْبَائِعِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الشَّاةِ لِلْمُوَكِّلِ أَوْ لِإِبْطَالِ الْعَقْدِ فِيهَا، لَيْسَ بِأَوْلَى مَنْ تَعْيِينِ الْأُخْرَى، وَالتَّخْيِيرُ

يُشْبِهُ بَيْعَ شَاةٍ مِنْ شَاتَيْنِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. فَإِذَا صَحَّحْنَا الشِّرَاءَ فِيهِمَا لِلْمُوَكِّلِ، فَبَاعَ الْوَكِيلُ إِحْدَاهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ، فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهِ، قَوْلَانِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إِذَا اشْتَرَى شَاةً بِدِينَارٍ، وَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ. وَقِيلَ: هَذَا الْخِلَافُ، هُوَ الْقَوْلَانِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، فَعَلَى الْجَدِيدِ: يَلْغُو، وَعَلَى الْقَدِيمِ: يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوِ اشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ، تُسَاوِي إِحْدَاهُمَا دِينَارًا، وَالْأُخْرَى بَعْضَ دِينَارٍ، فَطَرِيقَانِ. الْأَصَحُّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابِ: صِحَّةُ الْبَيْعِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ سَاوَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ دِينَارًا عَلَى مَا سَبَقَ. فَعَلَى الْأَظْهَرِ: يَلْزَمُ الْبَيْعُ فِيهِمَا جَمِيعًا لِلْمُوَكِّلِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا. فَعَلَى الْأَظْهَرِ: لَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ الَّتِي تُسَاوِي دِينَارًا، لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا، وَإِنْ بَاعَ الْأُخْرَى، فَعَلَى الْخِلَافِ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْوَكِيلِ إِحْدَاهُمَا، كَانَ لَهُ الَّتِي لَا تُسَاوِي دِينَارًا بِحِصَّتِهَا، وَلِلْمُوَكِّلِ انْتِزَاعُهَا كَمَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ: بِعْ عَبْدِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ بِمِائَةٍ وَعَبْدٍ أَوْ وَثَوْبٍ يُسَاوِي مِائَةً، فَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ بِالتَّرْتِيبِ عَلَى مَسْأَلَةِ الشَّاتَيْنِ، وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ عَدْلٌ عَنِ الْجِنْسِ. فَإِنْ أَبْطَلْنَا، فَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْقَدْرِ الْمُقَابِلِ لِغَيْرِ الْجِنْسِ وَهُوَ النِّصْفُ، أَمْ فِي الْجَمِيعِ؟ قَوْلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِبَيْعِ الْجَمِيعِ بِمِائَةٍ، فَالْبَعْضُ أَوْلَى. وَأَمَّا الْمُشْتَرِي، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ بِدَرَاهِمَ، فَلَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ عَلِمَ، فَوَجْهَانِ، لِشُرُوعِهِ فِي الْعَقْدِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يُسَلَّمُ لَهُ.

قُلْتُ: وَلَوْ بَاعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ، فَفِي «التَّتِمَّةِ» وَ «التَّهْذِيبِ» : أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي مِائَةٍ وَثَوْبٍ. وَقَطَعَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ فِي الْجَمِيعِ الصِّحَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ: بِعْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ: الْبَيْعُ بِعَرْضٍ يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ، يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِينَارٍ. الصُّورَةُ السَّادِسَةُ: فِي الْوَكَالَةِ فِي الْخُصُومَةِ، وَفِيهَا مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعِي، يَدَّعِي وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ وَيَسْعَى فِي تَعْدِيلِهَا، وَيَحْلِفُ وَيَطْلُبُ الْحُكْمَ وَالْقَضَاءَ، وَيَفْعَلُ مَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْإِثْبَاتِ. وَالْوَكِيلُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، يُنْكِرُ وَيَطْعَنُ فِي الشُّهُودِ، وَيَسْعَى فِي الدَّفْعِ بِمَا أَمْكَنَهُ. الثَّانِيَةُ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي التَّوْكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ بَيَانُ مَا فِيهِ الْخُصُومَةُ، مِنْ دَمٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ عَيْنٍ، أَوْ دَيْنٍ، أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ، أَوْ بَدَلِ مَالٍ؟ حَكَى الْعَبَّادِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي بَيَانِ مَنْ يُخَاصِمُهُ. الثَّالِثَةُ: لَوْ أَقَرَّ وَكِيلُ الْمُدَّعِي بِالْقَبْضِ، أَوِ الْإِبْرَاءِ، أَوْ قَبُولِ الْحَوَالَةِ، أَوِ الْمُصَالَحَةِ عَلَى مَالٍ، أَوْ بِأَنَّ الْحَقَّ مُؤَجَّلٌ، أَوْ أَقَرَّ وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي، لَمْ يُقْبَلْ، سَوَاءٌ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، أَمْ فِي غَيْرِهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ إِبْرَاؤُهُ وَمُصَالَحَتُهُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخُصُومَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُمَا، فَكَذَا الْإِقْرَارُ. ثُمَّ وَكِيلُ الْمُدَّعِي، إِذَا أَقَرَّ بِالْقَبْضِ، أَوِ الْإِبْرَاءِ، انْعَزَلَ، وَكَذَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِذَا أَقَرَّ بِالْحَقِّ، انْعَزَلَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ

الْإِقْرَارِ ظَالِمٌ فِي الْخُصُومَةِ. وَأَطْلَقَ ابْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ فِي بُطْلَانِ وَكَالَتِهِ بِالْإِقْرَارِ. قُلْتُ: وَلَوْ أَبْرَأَ وَكِيلُ الْمُدَّعِي خَصْمَهُ، لَمْ يَنْعَزِلْ؛ لِأَنَّ إِبْرَاءَهُ بَاطِلٌ، وَلَا يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافًا بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ ظَالِمٌ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، وَكَذَا فَرَّقَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ نَقَلَ فِي «النِّهَايَةِ» أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَا يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ فِي كَوْنِهِ قَاطِعًا لِلْخُصُومَةِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِالِاخْتِيَارِ. الرَّابِعَةُ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، وَتُقْبَلُ لِمُوَكِّلِهِ فِي غَيْرِ مَا تُوُكِّلَ فِيهِ. وَإِنْ شَهِدَ بِمَا تُوُكِّلَ فِيهِ، نُظِرَ، إِنْ شَهِدَ قَبْلَ الْعَزْلِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَدْ خَاصَمَ فِيهِ، لَمْ يُقْبَلْ لِلتُّهْمَةِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَلَمْ يُخَاصِمْ، قُبِلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: قِيَاسُ الْمَرَاوِزَةِ أَنْ يَعْكِسَ، فَيُقَالُ: إِنْ لَمْ يُخَاصِمْ، قُبِلَتْ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. قَالَ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ، إِذَا جَرَى الْأَمْرُ عَلَى تَوَاصُلٍ. فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ، فَالْوَجْهُ: الْقَطْعُ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ مَعَ احْتِمَالٍ فِيهِ. الْخَامِسَةُ: لَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِاسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يَسْتَقِلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، بَلْ يَتَشَاوَرَانِ وَيَتَبَاصَرَانِ. كَمَا لَوْ وَكَّلَهُمَا فِي بَيْعٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ وَصَّى إِلَيْهِمَا. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ فِي حِفْظِ مَتَاعٍ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِحِفْظِهِ، بَلْ يَحْفَظَانِهِ فِي حِرْزٍ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: يَنْفَرِدُ. فَإِنْ قَبِلَ الْقِسْمَةَ، قُسِّمَ لِيَحْفَظَ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْضَهُ.

السَّادِسَةُ: ادَّعَى عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَكِيلُ زَيْدٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْخُصُومَةِ حَاضِرًا، وَصَدَّقَهُ، ثَبَتَتِ الْوَكَالَةُ، وَلَهُ مُخَاصَمَتُهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكَالَةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَقَدُّمُ دَعْوَى حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَلَى الْخَصْمِ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، وَأَقَامَ الْوَكِيلُ بَيِّنَةً بِالْوَكَالَةِ، سَمِعَهَا الْقَاضِي وَأَثْبَتَهَا. وَلَا يَعْتَبِرُ حُضُورَ الْخَصْمِ فِي إِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ إِلَّا فِي وَجْهِ الْخَصْمِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِهِ، فِي امْتِنَاعِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ. ثُمَّ حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُنَصِّبَ الْقَاضِي مُسَخَّرًا يَنُوبُ عَنِ الْغَائِبِ، لِيُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فِي وَجْهِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا بَعِيدٌ لَا أَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَصْحَابِ. وَحَكَى عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْقُضَاةَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ، اخْتَصَّ التَّوْكِيلُ بِالْمُخَاصَمَةِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالَّذِي نَعْرِفُهُ لِلْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُخَاصِمُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ، وَلَا نَعْرِفُ لِلْقُضَاةِ الْعُرْفَ الَّذِي ادَّعَاهُ. السَّابِعَةُ: وَكَّلَ رَجُلًا عِنْدَ الْقَاضِي بِالْخُصُومَةِ عَنْهُ، وَطَلَبَ حُقُوقَهُ، فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْهُ مَا دَامَ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ، اعْتِمَادًا عَلَى الْعِيَانِ. فَإِنْ غَابَ وَأَرَادَ الْوَكِيلُ الْخُصُومَةَ عَنْهُ اعْتِمَادًا عَلَى اسْمٍ وَنَسَبٍ يَذْكُرُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ بَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَكَّلَهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَكَّلَهُ هُوَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، وَالشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ. وَعِبَارَةُ الْعَبَّادِيِّ: إِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْرِفَ الْمُوَكِّلَ شَاهِدَانِ يَعْرِفُهُمَا الْقَاضِي وَيَثِقُ بِهِمَا. ثُمَّ إِنَّ الْإِمَامَ حَكَى عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ عَادَةَ الْحُكَّامِ التَّسَاهُلُ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ تَرْكُ الْبَحْثِ وَالِاسْتِزْكَاءِ تَسْهِيلًا عَلَى الْغُرَبَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي يُوسُفَ

فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْعَبَّادِيِّ: يُمْكِنُ أَنْ يُكْتَفَى بِمُعَرِّفٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ مَوْثُوقًا بِهِ، كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: إِنَّ تَعْرِيفَ الْمَرْأَةِ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، يَحْصُلُ بِمُعَرِّفٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ لَا شَهَادَةٌ. قُلْتُ: وَإِذَا ادَّعَى عَلَى وَكِيلٍ مَالًا، وَأَقَامَ بَيِّنَةً وَقَضَى بِهَا الْحَاكِمُ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ، أَوِ ادَّعَى عَزْلَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزٌ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَإِذَا اعْتَرَفَ الْخَصْمُ عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ وَكِيلٌ، جَازَ لَهُ الْمُحَاكَمَةُ قَطْعًا. وَفِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ وَكِيلٌ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ، هَلْ يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ، أَمْ لَا يَجِبُ حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الصُّورَةُ السَّابِعَةُ: وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ عَلَى خَمْرٍ، فَفَعَلَ، حَصَلَ الْعَفْوُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ. فَلَوْ صَالَحَ عَلَى خِنْزِيرٍ، فَهُوَ لَغْوٌ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَبْقَى الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْعَفْوِ عَلَى خَمْرٍ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ، أَوْ عَلَى مَا يَصْلُحُ عِوَضًا، جَازَ. وَلَوْ جَرَتْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْمُوجِبِ وَالْقَابِلِ فِي الصُّلْحِ، لَغَا قَطْعًا، لِعَدَمِ انْتِظَامِ الْخِطَابِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي خَلْعِ زَوْجَتِهِ عَلَى خَمْرٍ، فَخَالَعَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ. فَرْعٌ وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ فَاسِدٍ، لَمْ يَمْلِكْ فَاسِدًا وَلَا صَحِيحًا، لِعَدَمِ الْإِذْنِ. الصُّورَةُ الثَّامِنَةُ: فِي مُخَالَفَتِهِ، فَإِذَا سَلَّمَ إِلَيْهِ أَلْفًا، وَقَالَ: اشْتَرِ بِعَيْنِهِ ثُوبًا، فَاشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ لِيُنْقِذَ الْأَلْفَ، لَمْ يَصِحَّ لِلْمُوَكِّلِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ فِي الذِّمَّةِ وَسَلِّمِ

فصل

الْأَلْفَ فِي ثَمَنِهِ، فَاشْتَرَى بِعَيْنِهِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: اشْتَرِ ثَوْبًا، وَلَمْ يَقُلْ: بِعَيْنِهِ، وَلَا فِي الذِّمَّةِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: اشْتَرِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ التَّسْلِيمِ تُشْعِرُ بِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْوَكِيلَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمَا. قُلْتُ: وَإِذَا قَالَ: اشْتَرِ فِي الذِّمَّةِ وَسَلَّمَهُ فِيهِ، فَاشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ فِي الذِّمَّةِ، وَنَقَدَ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ، بَرِئَ الْمُوَكِّلُ مِنَ الثَّمَنِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْوَكِيلُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْأَلْفِ الْمُعَيَّنَةِ إِلَى الْمُوَكِّلِ، صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الْمُخَالِفَيْنِ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ أَمَّا الْبَيْعُ، فَإِذَا قَالَ: بِعْ هَذَا الْعَبْدَ، فَبَاعَ آخَرَ، فَبَاطِلٌ. وَأَمَّا الشِّرَاءُ، فَإِنْ وَقَعَ بِعَيْنِ مَالِ الْمُوَكِّلِ، فَبَاطِلٌ. وَإِنْ وَقَعَ فِي الذِّمَّةِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمُوَكِّلُ، وَقَعَ عَنِ الْوَكِيلِ، وَكَذَا إِنْ سَمَّاهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَتَلْغُو التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْمُوَكِّلِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشِّرَاءِ، فَإِذَا سَمَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ صَرَفَهُ إِلَيْهِ، صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ. وَالثَّانِي: الْعَقْدُ بَاطِلٌ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، فَذَلِكَ إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ لِمُوَكِّلِي فُلَانٍ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ فَلَانًا، فَقَالَ الْوَكِيلُ: اشْتَرَيْتُهُ لَهُ، فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ بَيْنَهُمَا مُخَاطَبَةٌ. وَيُخَالِفُ النِّكَاحَ حَيْثُ يَصِحُّ مِنَ الْوَلِيِّ وَوَكِيلِ الزَّوْجِ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ، بَلْ لَا يَصِحُّ إِلَّا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْبَيْعِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالْمَجْلِسِ كَالْخِيَارِ وَغَيْرِهِ، وَتِلْكَ الْأَحْكَامُ إِنَّمَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَاعْتُبِرَ جَرَيَانُ

الْمُخَاطَبَةِ بَيْنَهُمَا، وَالنِّكَاحُ سِفَارَةٌ مَحْضَةٌ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَنْعُ وَقْفِ الْعُقُودِ، وَإِلْغَاءُ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ. وَأَمَّا عَلَى الْقَدِيمِ، فَالْوَكِيلُ كَأَجْنَبِيٍّ، فَيَقِفُ الشِّرَاءُ فِي الذِّمَّةِ عَلَى إِجَازَتِهِ. فَإِنْ أَجَازَ، وَقَعَ عَنْهُ، وَإِلَّا فَعَنِ الْوَكِيلِ، وَكَذَا الشِّرَاءُ بِعَيْنِ مَالِهِ، وَبَيْعُ الْعَبْدِ الْآخَرِ، يَنْعَقِدَانِ مَوْقُوفَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِهِ. فَرْعٌ وَكِيلُ الْمُتَّهِبِ فِي الْقَبُولِ، يَجِبُ أَنْ يُسَمِّيَ مُوَكِّلَهُ، وَإِلَّا فَيَقَعُ عَنْهُ، لِجَرَيَانِ الْخِطَابِ مَعَهُ، وَلَا يَنْصَرِفُ بِالنِّيَّةِ إِلَى الْمُوَكَّلِ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ قَدْ يَقْصِدُ بِتَبَرُّعِهِ الْمُخَاطَبَ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَسْمَحُ بِالتَّبَرُّعِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ حُصُولُ الْعِوَضِ. قُلْتُ: قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ زَيْدًا، فَزَوَّجَهَا وَكِيلُ زَيْدٍ لِزَيْدٍ، صَحَّ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ لِزَيْدٍ، فَبَاعَهُ لِوَكِيلِ زَيْدٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَالْفَرْقُ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَقْبَلُ نَقْلَ الْمِلْكِ، وَالْبَيْعُ يَقْبَلُهُ. وَلِهَذَا يَقُولُ وَكِيلُ النِّكَاحِ: زَوِّجْ مُوَكِّلِي، وَلَا يَقُولُ: زَوِّجْنِي لِمُوَكِّلِي. وَفِي الْبَيْعِ يَقُولُ: بِعْنِي لِمُوَكِّلِي وَلَا يَقُولُ: بِعْ مُوَكِّلِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحُكْمُ الثَّانِي: لِلْوَكَالَةِ حُكْمُ الْأَمَانَةِ. فَيَدُ الْوَكِيلِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِلَا تَفْرِيطٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِجَعْلٍ، أَوْ مُتَبَرِّعًا، فَإِنْ تَعَدَّى، بِأَنْ رَكِبَ الدَّابَّةَ، أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ، ضَمِنَ قَطْعًا، وَلَا يَنْعَزِلُ عَنِ الْمَذْهَبِ، بَلْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ،

وَإِذَا بَاعَ وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ، زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ. وَفِي زَوَالِ الضَّمَانِ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَأَمَّا الثَّمَنُ الَّذِي يَقْبِضُهُ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ. وَلَوْ رَدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ، عَادَ الضَّمَانُ. فَرْعٌ لَوْ دَفَعَ إِلَى وَكِيلِهِ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا، فَتَصَرَّفَ فِيهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ قَرْضًا عَلَيْهِ، صَارَ ضَامِنًا. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْمُوَكِّلِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ، وَلَا فِي الذِّمَّةِ، فَلَوْ حَصَلَ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ دُونَ مُوَكِّلِهِ. وَلَوْ عَادَتِ الدَّرَاهِمُ الَّتِي تَصَرَّفَ فِيهَا إِلَيْهِ، فَاشْتَرَى بِهَا لِلْمُوَكِّلِ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي انْعِزَالِهِ بِالتَّعَدِّي. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَا يَنْعَزِلُ، فَيَصِحُّ شِرَاؤُهُ، وَلَا يَكُونُ مَا اشْتَرَاهُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ. فَلَوْ رَدَّ مَا اشْتَرَاهُ بِعَيْبٍ، وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ، عَادَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. فَرْعٌ مَتَّى طَالَبَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ بِرَدِّ مَالِهِ، لَزِمَهُ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ، صَارَ ضَامِنًا كَالْمُودِعِ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: فِي الْعُهْدَةِ، فِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إِذَا اشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ مَا وَكَّلَهُ فِي شِرَائِهِ فَلِمَنْ يَقَعُ الْمِلْكُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لِلْوَكِيلِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَرَى مَعَهُ. وَأَحْكَامُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِهِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَقَعُ أَوَّلًا لِلْمُوَكِّلِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى الْأَبُ لِلطِّفْلِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ لِلطِّفْلِ ابْتِدَاءً، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لِلْوَكِيلِ، لَعَتَقَ عَلَيْهِ أَبُوهُ إِذَا اشْتَرَاهُ لِمُوَكِّلِهِ، فَلَا يَعْتِقُ قَطْعًا.

الثَّانِيَةُ: أَحْكَامُ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ، حَتَّى تُعْتَبَرَ رُؤْيَةُ الْوَكِيلِ لِلْمَبِيعِ دُونَ الْمُوَكِّلِ، وَتَلْزَمُ بِمُفَارَقَةِ الْوَكِيلِ الْمَجْلِسَ دُونَ الْمُوَكِّلِ، وَكَذَا تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِي السَّلَمِ وَالتَّقَابُضِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ، يُعْتَبَرَانِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْوَكِيلِ. وَالْفَسْخُ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، إِنْ أَثْبَتْنَاهُ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْمُوَكِّلُ الْإِجَازَةَ، كَانَ لِلْوَكِيلِ الْفَسْخُ، ذَكَرَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . الثَّالِثَةُ: إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، طَالَبَهُ بِهِ الْبَائِعُ، إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ قَدْ سَلَّمَ إِلَيْهِ مَا يَصْرِفُهُ فِي الثَّمَنِ، طَالَبَهُ الْبَائِعُ، وَإِلَّا فَإِنْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ كَوْنَهُ وَكِيلًا، أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي، هَلْ هُوَ وَكِيلٌ، أَمْ لَا؟ طَالَبَهُ بِهِ. وَإِنِ اعْتَرَفَ بِوَكَالَتِهِ، فَهَلْ يُطَالِبُ بِهِ الْمُوَكِّلُ فَقَطْ؟ أَمِ الْوَكِيلُ فَقَطْ؟ أَمْ يُطَالِبُ أَيُّهُمَا شَاءَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَهَلْ لِلْوَكِيلِ مُطَالَبَةُ الْمُوَكِّلِ قَبْلَ أَنْ يَغْرَمَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. وَإِذَا غَرِمَ الْوَكِيلُ لِلْبَائِعِ، رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ الرُّجُوعِ اشْتِرَاطُ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالثَّالِثِ، فَالْوَكِيلُ كَالضَّامِنِ، وَالْمُوَكِّلِ كَالْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ إِذَا غَرِمَ. وَالْقَوْلُ فِي اعْتِبَارِ شَرْطِ الرُّجُوعِ، وَفِي أَنَّهُ هَلْ يُطَالِبُهُ بِتَخْلِيصِهِ قَبْلَ الْغُرْمِ، كَمَا سَبَقَ فِي الضَّمَانِ. وَفَرَّعَ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى الْأَوْجُهِ فَقَالَ: لَوْ سَلَّمَ دَرَاهِمَ إِلَى الْوَكِيلِ لِيَصْرِفَهَا إِلَى الثَّمَنِ الْمُلْتَزَمِ فِي الذِّمَّةِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ رَدَّهَا الْبَائِعُ بِعَيْبٍ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّالِثِ، لَزِمَ الْوَكِيلَ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ بِأَعْيَانِهَا إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَيْسَ لَهُ إِمْسَاكُهَا وَدَفْعُ بَدَلِهَا. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا دَفَعَهُ الْمُوَكِّلُ إِلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَقْرَضَهُ إِيَّاهُ لِيُبَرِّئَ ذِمَّتَهُ. فَإِنَّ عَادَ، فَهُوَ مِلْكُهُ. وَلِلْمُسْتَقْرِضِ إِمْسَاكُ مَا اسْتَقْرَضَهُ وَرَدُّ مِثْلِهِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لَا خِلَافَ أَنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ مَتَى يَرْجِعُ؟ وَبِأَيِّ

شَيْءٍ يَرْجِعُ؟ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، اتَّجَهَ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُ الدَّرَاهِمِ دَفْعًا لِمُؤْنَةِ التَّرَاجُعِ، لَا إِقْرَاضًا. الرَّابِعَةُ: الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ، إِمَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ، وَإِمَّا بِمُقْتَضَى الْبَيْعِ. إِذَا قُلْنَا بِهِ، فَتَلِفَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، وَالْمُشْتَرِي مُعْتَرِفٌ بِالْوَكَالَةِ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ لِحُصُولِ التَّلَفِ عِنْدَهُ؟ أَمْ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ سَفِيرُهُ وَيَدُهُ يَدُهُ؟ أَمْ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؟ فِيهِ الْأَوْجُهُ السَّابِقَةُ. فَإِنْ قُلْنَا: عَلَى الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ، فَغَرِمَ، لَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَغْرَمُ أَيُّهُمَا شَاءَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا: أَنَّهُ إِنْ غَرِمَ الْمُوَكِّلُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَكِيلِ، وَإِنْ غَرِمَ الْوَكِيلُ، رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ، لِحُصُولِ التَّلَفِ فِي يَدِهِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَالَّذِي يُفْتَى بِهِ مِنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُغَرِّمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَلِذَلِكَ اقْتَصَرْنَا عَلَى هَذَا الْجَوَابِ فِي بَدَلِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ يُطْرَدُ فِيهِ الْخِلَافُ. الْخَامِسَةُ: الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إِذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ وَتَلِفَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ بَانَ مُسْتَحِقًّا، فَلِلْمُسْتَحِقِّ مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ أَوْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ. وَفِي مُطَالَبَتِهِ الْوَكِيلَ أَوِ الْمُوَكِّلَ، الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْأَقْيَسُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ: أَنَّهُ لَا رُجُوعَ إِلَّا عَلَى الْوَكِيلِ، لِحُصُولِ التَّلَفِ فِي يَدِهِ، وَبِظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ بَانَ أَنْ لَا عَقْدَ، وَصَارَ الْوَكِيلُ قَابِضًا مِلْكَ غَيْرِهِ بِلَا حَقٍّ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْقَرَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. السَّادِسَةُ: الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ، إِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ، وَاسْتَوْفَاهُ وَدَفَعَهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَخَرَجَ مُسْتَحِقًّا أَوْ مَعِيبًا، فَرَدَّهُ، فَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَلَهُ أَنْ يُغَرِّمَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ قَبْلَ أَخْذِ عِوَضِهِ. وَفِيمَا يَغْرَمُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:

قِيمَةُ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا. وَالثَّانِي: الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ انْتَقَلَ إِلَيْهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَأَخَذَ مِنْهُ الْقِيمَةَ، طَالَبَ الْوَكِيلُ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ. فَإِذَا أَخَذَهُ، دَفَعَهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ وَاسْتَرَدَّ الْقِيمَةَ. السَّابِعَةُ: دَفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ عَبْدًا بِعَيْنِهَا، فَفَعَلَ، فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَكِيلِ. وَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ، ارْتَفَعَتِ الْوَكَالَةُ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ فِي الذِّمَّةِ، وَاصْرِفْهَا إِلَى الثَّمَنِ، فَتَلِفَتْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ، لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ. وَلَكِنْ هَلْ يَنْقَلِبُ إِلَى الْوَكِيلِ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ؟ أَمْ يَبْقَى لِلْمُوَكِّلِ. وَعَلَيْهِ مِثْلُ الدَّرَاهِمِ؟ أَمْ يُقَالُ لِلْمُوَكِّلِ: إِنْ أَرَدْتَهُ فَادْفَعْ مِثْلَ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ، وَإِلَّا فَيَقَعُ عَنِ الْوَكِيلِ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. وَلَوْ تَلِفَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ، لَمْ يَنْعَزِلْ. فَإِنِ اشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ، فَهَلْ يَقَعُ لَهُ، أَمْ لِلْوَكِيلِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. قُلْتُ: هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : وَقَطَعَ فِي «الْحَاوِي» بِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: اشْتَرِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ بِعَيْنِهَا، فَتَلِفَتِ، انْفَسَخَتِ الْوَكَالَةُ، وَانْعَزَلَ، فَإِذَا اشْتَرَى بَعْدَهُ، وَقَعَ لِلْوَكِيلِ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ شِرَاءً فَاسِدًا، وَقَبَضَ، وَتَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، أَوْ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ، فَلِلْمَالِكِ مُطَالَبَتُهُ بِالضَّمَانِ، ثُمَّ هُوَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. فَرْعٌ لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَسْتَقْرِضَ لَهُ، فَاقْتَرَضَ، فَهُوَ كَوَكِيلِ الْمُشْتَرِي. وَفِي مُطَالَبَتِهِ

مَا فِي مُطَالَبَةِ وَكِيلِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُطَالِبُ، وَأَنَّهُ إِذَا غَرِمَ، رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: الْجَوَازُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَزْلُ. وَلِارْتِفَاعِهَا أَسْبَابٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْزِلَهُ الْمُوَكِّلُ بِقَوْلِهِ: عَزَلْتُهُ، أَوْ رَفَعْتُ الْوَكَالَةَ، أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ أَخْرَجْتُهُ عَنْهَا، فَيَنْعَزِلُ سَوَاءٌ ابْتَدَأَ تَوْكِيلَهُ، أَوْ وَكَّلَهُ بِسُؤَالِ الْخَصْمِ، بِأَنْ سَأَلَتْ زَوْجَهَا أَنْ يُوَكِّلَ فِي الطَّلَاقِ، أَوِ الْخُلْعِ، أَوِ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ أَنْ يُوَكِّلَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ، أَوْ سَأَلَهُ خَصْمُهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْخُصُومَةِ. وَهَلْ يَنْعَزِلُ قَبْلَ بُلُوغِ الْعَزْلِ إِلَيْهِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَنْعَزِلُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَبْلُغَهُ الْخَبَرُ، فَالْمُعْتَبَرُ خَبَرُ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، دُونَ الصَّبِيِّ وَالْفَاسِقِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَنْعَزِلُ، فَيَنْبَغِي لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْعَزْلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ: كُنْتَ عَزَلْتَهُ، لَا يُقْبَلُ. الثَّانِي: إِذَا قَالَ الْوَكِيلُ: عَزَلْتُ نَفْسِي، أَوْ أَخْرَجْتُهَا عَنِ الْوَكَالَةِ، أَوْ رَدَدْتُهَا، انْعَزَلَ قَطْعًا، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنْ كَانَتْ صِيغَةُ الْمُوَكِّلِ: بِعْ وَأَعْتِقْ وَنَحْوَهُمَا مِنْ صِيَغِ الْأَمْرِ، لَمْ يَنْعَزِلْ بِرَدِّ الْوَكَالَةِ، وَعَزْلِهِ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِذْنٌ وَإِبَاحَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَبَاحَهُ الطَّعَامَ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُبَاحِ لَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِزَالِهِ بِعَزْلِ نَفْسِهِ حُصُولُ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ. الثَّالِثُ: يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِخُرُوجِهِ، أَوْ خُرُوجِ الْمُوَكِّلِ عَنْ أَهْلِيَّةِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْجُنُونِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَنْعَزِلُ بِجُنُونٍ لَا يَمْتَدُّ، بِحَيْثُ تَتَعَطَّلُ الْمُهِمَّاتُ. وَيَخْرُجُ إِلَى نَصْبِ قَوَّامٍ. وَالْإِغْمَاءِ، كَالْجُنُونِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: لَا يَنْعَزِلُ بِهِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» ؛ لِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَلْتَحِقُ بِمَنْ تُوُلِّيَ عَلَيْهِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الِانْعِزَالِ الْتِحَاقُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ بِمَنْ تُوُلِّيَ عَلَيْهِ. وَفِي مَعْنَى الْجُنُونِ، الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، أَوْ فَلْسٍ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ لَا يَنْفُذُ مِنْهُمَا. وَكَذَا لَوْ طَرَأَ الرِّقُّ،

بِأَنْ وَكَّلَ حَرْبِيًّا، ثُمَّ اسْتَرَقَّ. وَإِذَا جُنَّ الْمُوَكِّلُ، انْعَزَلَ الْوَكِيلُ فِي الْحَالِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ قَطْعًا، بِخِلَافِ الْعَزْلِ. الرَّابِعُ: خُرُوجُ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ عَنْ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، بِأَنْ بَاعَ الْمُوَكِّلُ مَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ أَوْ أَعْتَقَهُ. فَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ. ثُمَّ آجَرَهُ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : يَنْعَزِلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إِنْ مَنَعَتِ الْبَيْعَ، لَمْ يُبْقِ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ، وَإِلَّا فَهِيَ عَلَامَةُ النَّدَمِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ الْبَيْعَ لَا يُؤَاجِرُ لِقِلَّةِ الرَّغَبَاتِ. وَتَزْوِيجُ الْجَارِيَةِ عَزْلٌ. وَفِي طَحْنِ الْحِنْطَةِ وَجْهَانِ. وَجْهُ الِانْعِزَالِ، بُطْلَانُ اسْمِ الْحِنْطَةِ. وَأَمَّا الْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ وَتَوْكِيلُ وَكِيلٍ آخَرَ، فَلَيْسَ بِعَزْلٍ قَطْعًا. الْخَامِسُ: لَوْ وَكَّلَ عَبْدَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ تَصَرُّفٍ آخَرَ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ، فَفِي انْعِزَالِهِ أَوْجُهٌ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ: وَكَّلْتُكَ، بَقِيَ الْإِذْنُ. وَإِنْ كَانَتْ: بِعْ، أَوْ نَحْوَهُ، ارْتَفَعَ. وَالْكِتَابَةُ كَالْبَيْعِ. وَعَبْدُ غَيْرِهِ كَعَبْدِهِ. وَإِذَا حَكَمْنَا بِبَقَاءِ الْإِذْنِ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ، لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ صَارَتْ لَهُ. فَلَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ، نَفَذَ تَصَرُّفُهُ لِبَقَاءِ الْإِذْنِ وَإِنْ عَصَى، قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ. قُلْتُ: لَمْ يُصَحِّحِ الرَّافِعِيُّ شَيْئًا مِنَ الْخِلَافُ فِي انْعِزَالِهِ، وَلَمْ يُصَحِّحْهُ الْجُمْهُورُ. وَقَدْ صَحَّحَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَالْجُرْجَانِيُّ فِي الْمُعَايَاةِ انْعِزَالَهُ. وَقَطَعَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّحْرِيرِ. وَأَمَّا عَبْدُ غَيْرِهِ، فَطَرَدَ الرَّافِعِيُّ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ مُتَابَعَةً لِصَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» . وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ، وَالَّذِي جَزَمَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ: الْقَطْعُ بِبَقَائِهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : وَالْخِلَافُ فِي عَبْدِ غَيْرِهِ، هُوَ فِيمَا إِذَا أَمَرَهُ السَّيِّدُ لِيَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ. فَأَمَّا إِنْ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَكَّلْ لِفُلَانٍ، وَإِلَّا فَلَا تَتَوَكَّلْ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ، فَلَا يَنْعَزِلُ قَطْعًا كَالْأَجْنَبِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسُ: لَوْ جَحَدَ الْوَكِيلُ الْوَكَالَةَ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَزْلًا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ لِنِسْيَانٍ أَوْ غَرَضٍ فِي الْإِخْفَاءِ، لَمْ يَكُنْ عَزْلًا، وَإِنْ تَعَمَّدَ

فصل

وَلَا عَرْضَ فِي الْإِخْفَاءِ، انْعَزَلَ. وَلَوْ أَنْكَرَ الْمُوَكَّلُ التَّوْكِيلَ، فَفِي انْعِزَالِهِ الْأَوْجُهُ. قُلْتُ: وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ، لَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ، فَعَزَلَ أَحَدَهُمَا لَا بِعَيْنَهِ، فَوَجْهَانِ فِي «الْحَاوِي» «وَالْمُسْتَظْهِرِيِّ» ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُمَيِّزَ، لِلشَّكِّ فِي أَهْلِيَّتِهِ. وَالثَّانِي: لِكُلٍّ التَّصَرُّفُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ تَصَرُّفِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مَتَى قُلْنَا: الْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ، أَرَدْنَا الْخَالِيَةَ عَنِ الْجَعْلِ. فَأَمَّا إِذَا شُرِطَ فِيهَا جَعْلٌ مَعْلُومٌ، وَاجْتَمَعَتْ شَرَائِطُ الْإِجَارَةِ، وَعُقِدَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، فَهِيَ لَازِمَةٌ. وَإِنَّ عُقِدَ بِلَفْظِ الْوَكَالَةِ، أَمْكَنَ تَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِصِيَغِ الْعُقُودِ، أَمْ بِمَعَانِيهَا؟ فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ إِحْدَاهَا: وَكَّلَهُ بِبَيْعٍ، فَبَاعَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ، أَوْ أَمَرَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَشَرَطَهُ، فَفَسَخَ الْبَيْعَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْعُهُ ثَانِيًا. الثَّانِيَةُ: قَالَ: بِعْ نَصِيبِي مِنْ كَذَا، أَوْ قَاسِمْ شُرَكَائِي، أَوْ خُذْ بِالشُّفْعَةِ، فَأَنْكَرَ الْخَصْمُ مِلْكَهُ، هَلْ لَهُ الْإِثْبَاتُ؟ يَخْرُجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الْوَكِيلَ بِالِاسْتِيفَاءِ، هَلْ يَثْبُتُ؟ الثَّالِثَةُ: قَالَ: بِعْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَبَاعَ مُطْلَقًا، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ وَأَطْلَقَ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ. وَفِي شَرْطِهِمَا الْخِيَارَ لِأَنْفُسِهِمَا أَوْ لِلْمُوَكِّلِ، وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، وَبِهِ قَطَعَ فِي «التَّتِمَّةِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الرَّابِعَةُ: أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ، أَوْ بَيْعِ عَبْدٍ، لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى بَعْضِهِ، لِضَرَرِ التَّبْعِيضِ وَلَوْ فُرِضَتْ فِيهِ غِبْطَةٌ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِهِ بِهَذَا الثَّوْبِ، فَاشْتَرَاهُ بِنِصْفِ الثَّوْبِ، صَحَّ. الْخَامِسَةُ: قَالَ: بِعْ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ، أَوِ اشْتَرِ لِي خَمْسَةَ أَعْبُدٍ، وَوَصَفَهُمْ، فَلَهُ الْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ، إِذْ لَا ضَرَرَ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِهِمْ صَفْقَةً، فَفَرْقٌ، لَمْ يَصِحَّ لِلْمُوَكِّلِ. فَلَوِ اشْتَرَى خَمْسَةً مِنْ مَالِكَيْنِ، لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةٌ، وَلِلْآخَرِ اثْنَانِ دُفْعَةً، وَصَحَّحْنَا مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ، فَفِي وُقُوعِ شِرَائِهِمْ عَنِ الْمُوَكِّلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُمْ دُفْعَةً. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ الْبَائِعُ، لَمْ تَكُنِ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً. السَّادِسَةُ: قَالَ: بِعْ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ الثَّلَاثَةَ بِأَلْفٍ، لَمْ يَبِعْ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِدُونِ أَلْفٍ. وَلَوْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ، صَحَّ. ثُمَّ هَلْ يَبِيعُ الْآخَرِينَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَلَوْ قَالَ: بِعْ مِنْ عَبِيدِي مَنْ شِئْتَ، أَبْقَى بَعْضَهُمْ وَلَوْ وَاحِدًا. السَّابِعَةُ: وَكَّلَهُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ عَلَى زَيْدٍ، فَمَاتَ زَيْدٌ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ بِطَلَبِ حَقِّي مِنْ زَيْدٍ، لَمْ يُطَالِبِ الْوَرَثَةَ. وَإِنْ قَالَ: بِطَلَبِ حَقِّي الَّذِي عَلَى زَيْدٍ، طَالَبَهُمْ. قُلْتُ: وَلَوْ لَمْ يَمُتْ، جَازَ لَهُ الْقَبْضُ مِنْ وَكِيلِهِ قَطْعًا كَيْفَ كَانَ، قَالَهُ فِي «الشَّامِلِ» وَغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ: أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ مُؤَجَّلًا، لَا يَلْزَمُهُ الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ الْأَجَلِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَيَانُ الْغَرِيمِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: ادْفَعْ هَذَا الذَّهَبَ إِلَى صَائِغٍ، فَقَالَ: دَفَعْتُهُ، فَطَالَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِبَيَانِهِ، فَقَالَ الْقَفَّالُ: يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ. فَلَوِ امْتَنَعَ، صَارَ مُتَعَدِّيًا، حَتَّى لَوْ بَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ تَلِفَ فِي يَدِ الصَّائِغِ، يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَالْأَصْحَابُ يَقُولُونَ: لَا يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ.

قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنِ الْأَصْحَابِ، ضَعِيفٌ أَوْ خَطَأٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ: قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْ عَبْدَكَ لِفُلَانٍ بِأَلْفٍ، وَأَنَا أَدْفَعُهُ إِلَيْكَ، فَبَاعَهُ لَهُ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ الْأَلْفَ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْمُشْتَرِي. فَإِذَا غَرِمَ الْآمِرُ، رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي. قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ مُشْكِلٌ مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَهُمَا لُزُومُ الْأَلْفِ لِلْآمِرِ، وَرُجُوعُهُ بِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُشْتَرِي. وَمَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ، لَا يَرْجِعُ قَطْعًا كَمَا سَبَقَ فِي الضَّمَانِ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدَكَ لِفُلَانٍ بِأَلْفٍ عَلَيَّ، لَمْ يَصِحَّ الْتِزَامُهُ. فَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا يُلْزِمُ الْآمِرَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ مَا لَمْ يَجِبْ، وَلَا جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ. ثُمَّ رَأَيْتُ صَاحِبَ «الْحَاوِي» رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْضَحَ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ: لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْ عَبْدَكَ هَذَا عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ عَلَيَّ دُونَهُ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْآمِرُ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلْعَقْدِ، فَيَصِحُّ وَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِغَيْرِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَيُعْتَبَرُ حَالُ زَيْدٍ الْمُشْتَرِي لَهُ. فَإِنْ كَانَ مُوَلِّيًا عَلَيْهِ، أَوْ أُذِنَ فِيهِ، كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَالثَّمَنُ عَلَى الْعَاقِدِ الضَّامِنِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَلًّى عَلَيْهِ، وَلَا أُذِنَ، كَانَ الْمُشْتَرَى لِلْعَاقِدِ، يَعْنِي عَلَى الْأَصَحِّ فِيمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرِهِ لِزَيْدٍ، وَلَيْسَ وَكِيلًا لَهُ، وَعَلَى وَجْهٍ: بَيْعُهُ بَاطِلٌ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ هُوَ الْعَاقِدَ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ وَيَكُونُ الْعَبْدُ لِزَيْدٍ بِلَا ثَمَنٍ، وَالثَّمَنُ عَلَى الضَّامِنَ الْآمِرِ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ. وَالثَّانِي - قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ -: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مَا أَوْجَبَ تَمْلِيكَ الْمَبِيعِ عِوَضًا عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذَا مَفْقُودٌ هُنَا، فَيَبْطُلُ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدَكَ عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَخَمْسِمِائَةٍ عَلَيَّ، فَفَعَلَ، فَعِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ: الْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي

أَلْفٌ، وَعَلَى الْآمِرِ خَمْسُمِائَةٍ، وَعَلَى الصَّحِيحِ: الْعَقْدُ بَاطِلٌ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ «الْحَاوِي» وَهُوَ وَاضِحٌ حَسَنٌ. وَعَجِبَ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ، اقْتِصَارُهُ عَلَى مَا حَكَاهُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَإِهْمَالُهُ بَيَانَ الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ. ثُمَّ حِكَايَتُهُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ مُخَالِفَةٌ فِي الرُّجُوعِ مَا ذَكَرْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ: قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدَ فُلَانٍ بِثَوْبِكَ هَذَا، أَوْ بِدَرَاهِمِكَ، فَفَعَلَ، حَصَلَ الْمِلْكُ لِلْآمِرِ وَرَجَعَ عَلَيْهِ الْمَأْمُورُ بِالْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْلِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَا يَرْجِعُ إِلَّا أَنْ يَشْرُطَا الرُّجُوعَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مَتَى قَبَضَ وَكِيلُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَغَرِمَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ الْمَبِيعِ لِيَغْرَمَ الْمُوَكِّلَ لَهُ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَهُ ذَلِكَ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: وَكَّلَهُ عَمْرٌو بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ زَيْدٍ، فَقَالَ زَيْدٌ: خُذْ هَذِهِ الْعَشَرَةَ، وَاقْضِ بِهَا دَيْنَ عَمْرٍو، فَأَخَذَهَا، صَارَ وَكِيلًا لِزَيْدٍ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، حَتَّى يَجُوزَ لِزَيْدٍ اسْتِرْدَادُهَا مَا دَامَتْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ. وَلَوْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْوَكِيلِ، بَقِيَ الدَّيْنُ عَلَى زَيْدٍ. وَلَوْ قَالَ زَيْدٌ: خُذْهَا عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي تُطَالِبُنِي بِهِ لِعَمْرٍو، فَأَخَذَهَا، كَانَ قَبْضًا لِعَمْرٍو، وَبَرِئَ زَيْدٌ، وَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ. وَلَوْ قَالَ: خُذْهَا قَضَاءً لِدَيْنِ فُلَانٍ، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ لِلْحَالَيْنِ. فَلَوْ تَنَازَعَ عَمْرٌو وَزَيْدٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ زَيْدٍ بِيَمِينِهِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِقْبَاضٌ بِوَكَالَةِ عَمْرٍو. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: دَفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ وَنَوَى نَفْسَهُ، لَغَتْ نِيَّتُهُ وَوَقَعَتِ الصَّدَقَةُ لِلْآمِرِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَكَّلَ عَبْدًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ نَفْسَهُ، أَوْ مَوْلًى آخَرَ مِنْ مَوْلَاهُ،

صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. فَعَلَى هَذَا، قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : يَجِبُ أَنْ يُصَرِّحَ بِذِكْرِ الْمُوَكِّلِ فَيَقُولَ: اشْتُرِيَتُ نَفْسِي مِنْكَ لِمُوَكِّلِي فُلَانٍ، وَإِلَّا فَقَوْلُهُ: اشْتَرَيْتُ نَفْسِي، صَرِيحٌ فِي اقْتِضَاءِ الْعِتْقِ، فَلَا يَنْدَفِعُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ. وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ: اشْتَرِ لِي نَفْسِي مِنْ سَيِّدِي، فَفَعَلَ، صَحَّ. قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : وَيُشْتَرَطُ التَّصْرِيحُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعَبْدِ، فَلَوْ أَطْلَقَ، وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَرْضَى بِعَقْدٍ يَتَضَمَّنُ الْإِعْتَاقَ قَبْلَ تَوْفِيَةِ الثَّمَنِ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ لِرَجُلٍ: أَسْلِمْ لِي فِي كَذَا، وَأَدِّ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ مَالِكَ، ثُمَّ ارْجِعْ عَلَيَّ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَصِحُّ وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ قَرْضًا عَلَى الْآمِرِ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْإِقْبَاضِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُسْتَقْرِضِ قَبْضٌ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَصَاحِبِ الْعُدَّةِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، سَهْوٌ مِنْهُ. قَالَ: وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَبْرَأَ وَكِيلُ الْمُسَلِّمِ الْمُسَلَّمَ إِلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْ إِبْرَاؤُهُ الْمُوَكِّلَ. لَكِنَّ الْمُسْلَّمَ إِلَيْهِ لَوْ قَالَ: لَا أَعْلَمُكَ وَكِيلًا، وَإِنَّمَا الْتَزَمْتُ لَكَ شَيْئًا وَأَبْرَأْتَنِي مِنْهُ، نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ، وَيَتَعَطَّلُ بِفِعْلِهِ حَقُّ الْمُسَلِّمِ. وَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ قَوْلًا الْغُرْمُ بِالْحَيْلُولَةِ. وَالْأَظْهَرُ: وُجُوبُهُ، لَكِنْ لَا يَغْرَمُ مِثْلَ الْمُسَلَّمِ (فِيهِ) وَلَا قِيمَتَهُ، كَيْ لَا يَكُونَ اعْتِيَاضًا عَنِ السَّلَمِ، وَإِنَّمَا يَغْرَمُ رَأْسَ الْمَالِ، كَذَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَاسْتَحْسَنَهُ. وَرَأَيْتُ فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّهُ يَغْرَمُ لِلْمُوَكِّلِ مِثْلَ الْمُسَلَّمِ فِيهِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ: اشْتَرِ لِي طَعَامًا، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى

أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحِنْطَةِ اعْتِبَارًا بِعُرْفِهِمْ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ بِطَبَرِسْتَانَ، لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِيهِ لِهَذَا اللَّفْظِ عِنْدَهُمْ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَالَ: وَكَّلْتُكَ بِإِبْرَاءِ غُرَمَائِي، لَمْ يَمْلِكِ الْوَكِيلُ إِبْرَاءَ نَفْسِهِ. فَإِنْ قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ فَأَبْرِئْ نَفْسَكَ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي تَوْكِيلِ الْمَدْيُونِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ: فَرِّقْ ثُلُثَيَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَضَعَهُ فِي نَفْسِكَ فَافْعَلْ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ لِنَفْسِهِ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ: بِعْ هَذَا ثُمَّ هَذَا، لَزِمَهُ رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ، قَالَهُ الْقَفَّالُ. الْعِشْرُونَ: جُعِلَ لِلْوَكِيلِ جَعْلًا، فَبَاعَ، اسْتَحَقَّهُ وَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْعَمَلِ وَقَدْ عَمِلَ. قُلْتُ: وَمِنْ مَسَائِلِ الْبَابِ فُرُوعٌ. أَحَدُهَا: قَالَ فِي «الْحَاوِي» : لَوْ شَهِدَ لِزَيْدٍ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّ عَمْرًا وَكَّلَهُ، فَإِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِ زَيْدٍ صَدَّقَهُمَا، جَازَ الْعَمَلُ بِالْوَكَالَةِ. وَلَوْ رَدَّ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُمَا، لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ بِهَا؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا عِنْدَ زَيْدٍ خَبَرٌ، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ شَهَادَةٌ. وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَلَا يُغْنِي قَبُولُ الْحَاكِمِ شَهَادَتَهُمَا عَنْ تَصْدِيقِهِ. الثَّانِي: قَالَ فِي «الْحَاوِي» : إِذَا سَأَلَ الْوَكِيلُ مُوَكِّلَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِتَوْكِيلِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِيمَا لَوْ جَحَدَهُ الْمُوَكِّلُ ضَمِنَهُ الْوَكِيلُ، كَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَقَبْضِ الْمَالِ، وَقَضَاءِ الدَّيْنِ، لَزِمَهُ. وَإِنْ كَانَتْ فِيمَا لَا يَضْمَنُهُ الْوَكِيلُ، كَإِثْبَاتِ الْحَقِّ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَمُقَاسَمَةِ الشَّرِيكِ، لَمْ يَلْزَمْهُ. الثَّالِثُ: قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : لَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي جَارِيَةً أَطَؤُهَا، وَوَصَفَهَا، وَبَيَّنَ ثَمَنَهَا، فَاشْتَرَى مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ، أَوْ أُخْتَ مَنْ يَطَؤُهَا، لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَأْذُونِ فِيهِ.

الرَّابِعُ: وَكَّلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَفِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِهَا وَجْهَانِ فِي الْبَيَانِ وَغَيْرِهِ، الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ: الِاشْتِرَاطُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الِاخْتِلَافِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. الْأَوَّلُ: فِي أَصْلِ الْعَقْدِ. فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْوَكَالَةِ، أَوْ كَيْفِيَّتِهَا، أَوْ قَدْرِ مَا يُشْتَرَى بِهِ، فَقَالَ: وَكَّلْتَنِي فِي بَيْعِ كُلِّهِ، أَوْ بَيْعِ نَسِيئَةٍ، أَوْ بِعَشَرَةٍ، فَقَالَ: بَلْ فِي بَيْعِ بَعْضِهِ، أَوْ بِحَالٍ، أَوْ بِخَمْسَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ. فَرْعٌ أُذِنَ فِي شِرَاءِ جَارِيَةٍ، فَاشْتَرَاهَا الْوَكِيلُ بِعِشْرِينَ، وَقَالَ: أَذِنْتَ لِي فِي الْعِشْرِينَ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: بَلْ فِي عَشْرَةٍ، وَحَلَّفْنَاهُ، فَحَلَفَ، فَيُنْظَرُ فِي الشِّرَاءِ، أَكَانَ بِعَيْنِ مَالِ الْمُوَكِّلِ، أَمْ فِي الذِّمَّةِ؟ فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ ذِكْرَ فِي الْعَقْدِ أَنَّ الْمَالَ لِفُلَانٍ، وَأَنَّ الشِّرَاءَ لَهُ، فَهُوَ بَاطِلٌ. وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْعَقْدِ، وَقَالَ بَعْدَ الشِّرَاءِ: إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ لَهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، فَإِذَا بَطَلَ، فَالْجَارِيَةُ لِلْبَائِعِ وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ. وَإِنْ كَذَّبَهُ الْبَائِعُ، وَقَالَ: إِنَّمَا اشْتَرَيْتَ لِنَفْسِكَ وَالْمَالُ لَكَ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ، وَحُكِمَ بِصِحَّةِ الشِّرَاءِ لِلْوَكِيلِ فِي الظَّاهِرِ، وَسُلِّمَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ إِلَى الْبَائِعِ، وَغَرِمَ الْوَكِيلُ مِثْلَهُ لِلْمُوَكِّلِ. وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ فِي الذِّمَّةِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمُوَكِّلُ بَلْ نَوَاهُ، كَانَتِ الْجَارِيَةُ لِلْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَهُ ظَاهِرًا، وَإِنْ سَمَّاهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ

بَطَلَ الشِّرَاءُ، لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لِلْغَيْرِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ، وَقَالَ: أَنْتَ مُبْطِلٌ فِي تَسْمِيَتِهِ، لَزِمَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ. وَهَلْ يَكُونُ كَمَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى النِّيَّةِ، أَمْ يَبْطُلُ الشِّرَاءُ؟ وَجْهَانِ سَبَقَ نَظَائِرُهُمَا. أَصَحُّهُمَا: صِحَّتُهُ وَوُقُوعُهُ لِلْوَكِيلِ. وَحَيْثُ صَحَّحْنَا الشِّرَاءَ، وَجَعَلْنَا الْجَارِيَةَ لِلْوَكِيلِ ظَاهِرًا، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهَا لِلْمُوَكِّلِ، قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَسْتَحِبُّ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَرْفُقَ الْحَاكِمُ بِالْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ، فَيَقُولَ: إِنْ كُنْتَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِعِشْرِينَ، فَقَدْ بِعْتَهُ إِيَّاهَا بِعِشْرِينَ. فَيَقُولُ الْآخَرُ: قَبِلْتُ لِيَحِلَّ لَهُ الْفَرَجُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ أَطْلَقَ الْمُوَكِّلُ وَقَالَ: بِعْتُكَهَا بِعِشْرِينَ. فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، صَارَتِ الْجَارِيَةُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَإِنْ عَلَّقَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، لِلتَّعْلِيقِ. قَالُوا: وَالتَّعْلِيقُ فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ كَلَامِ الْحَاكِمِ، لَا مِنْ كَلَامِ الْمُوَكِّلِ. وَأَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْبَيْعِ إِلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ، فَلَا يَضُرُّ التَّعَرُّضُ لَهُ. وَسَوَاءٌ أَطْلَقَ الْبَيْعَ، أَوْ عَلَّقَهُ، لَا نَجْعَلُ ذَلِكَ إِقْرَارًا بِمَا قَالَهُ الْوَكِيلُ. وَإِنِ امْتَنَعَ الْمُوَكِّلُ مِنَ الْإِجَابَةِ، أَوْ لَمْ يَرْفُقْ بِهِ الْحَاكِمُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْوَكِيلُ كَاذِبًا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهَا بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ إِنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِ مَالِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لِلْبَائِعِ. وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، ثَبَتَ الْحِلُّ، لِوُقُوعِ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ، لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْمُوَكِّلِ. وَذَكَرَ فِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَاذِبًا وَالشِّرَاءُ بِعَيْنِ مَالِ الْمُوَكِّلِ، فَلِلْوَكِيلِ بَيْعُهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَكُونُ أَخَذَ مَالَ الْمُوَكِّلِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَقَدْ غَرِمَ الْوَكِيلُ لِلْمُوَكِّلِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْبَائِعِ: رُدَّ مَالَ الْمُوَكِّلِ، لَكِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ، فَلَهُ أَخْذُ حَقِّهِ مِنَ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ مِلْكُهُ.

وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ صَادِقًا، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يَحِلُّ لِلْوَكِيلِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَيَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ وَكُلُّ تَصَرُّفٍ، حُكِيَ عَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْوَكِيلِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوَكِّلِ. فَإِذَا تَعَذَّرَ نَقْلُهُ، بَقِيَ لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ هَذَا الْوَجْهَ بِمَا إِذَا اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْإِمَامُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنْ تَرَكَ الْوَكِيلُ مُخَاصَمَةَ الْمُوَكِّلِ، فَالْجَارِيَةُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَكَأَنَّهُ كَذَّبَ نَفْسَهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا بَاطِنًا، بَلْ هِيَ لِلْمُوَكِّلِ، وَلِلْوَكِيلِ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، فَهُوَ كَمَنْ لَهُ عَلَى رَجُلِ دَيْنٍ لَا يُؤَدِّيهِ، فَظَفِرَ بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهُ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَأَخْذِ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ، خِلَافٌ. الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ. ثُمَّ هَلْ يُبَاشِرُ الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ، أَمْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيَبِيعَ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَالْأَصَحُّ هُنَا: لَهُ الْبَيْعُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجِيبُهُ إِلَى الْبَيْعِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ أَخْذُ حَقِّهِ مِنْ ثَمَنِهَا، فَهَلْ يُوقِفُ فِي يَدِهِ حَتَّى يَظْهَرَ مَالِكُهَا، وَيَأْخُذَهَا الْحَاكِمُ وَيَحْفَظَهَا؟ وَجْهَانِ. يَأْتِي نَظَائِرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَقَالَ الْمُوَكِّلُ: إِنَّمَا وَكَّلْتُكَ بِشِرَاءِ غَيْرِهَا، وَحَلَفَ عَلَيْهِ، بَقِيَتِ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ وَالْحَكَمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصُّورَةُ السَّابِقَةِ، فَيَتَلَطَّفُ الْحَاكِمُ وَيَرْفُقُ.

فَرْعٌ بَاعَ الْوَكِيلُ مُؤَجَّلًا، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ، فَقَالَ الْمُوَكِّلُ مَا أَذِنْتُ لَكَ إِلَّا فِي حَالٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يُنْكِرَ الْمُشْتَرِي الْوَكَالَةَ، أَوْ يَعْتَرِفَ بِهَا. الْحَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُنْكِرَ، فَالْمُوَكِّلُ يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيِّنَةِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ، فَإِنْ حَلَفَ، قَرَّرَ الْمَبِيعَ فِي يَدِهِ، وَإِلَّا فَتُرَدُّ الْعَيْنُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. فَإِنْ حَلَفَ، حُكِمَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي. وَنُكُولُ الْمُوَكِّلِ عَنْ يَمِينِ الرَّدِّ فِي خُصُومَةِ الْمُشْتَرِي، لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى الْوَكِيلِ. وَإِذَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يُغَرِّمَ الْوَكِيلَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ، أَوْ مِثْلَهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَلَا يُطَالِبُ الْوَكِيلُ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ، مُؤَاخَذَةً لَهُ بِمُقْتَضَى تَصَرُّفِهِ، فَإِذَا حَلَّ، نُظِرَ، إِنْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَصَدَّقَ الْمُوَكِّلُ، لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْمُشْتَرِي إِلَّا أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ. وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ، بَلْ أَصَرَّ عَلَى قَوْلِهِ، طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ بِتَمَامِهِ. فَإِنْ كَانَ مِثْلَ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ، فَذَاكَ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، فَالزِّيَادَةُ فِي يَدِهِ لِلْمُوَكِّلِ بِزَعْمِهِ، وَالْمُوَكِّلُ يُنْكِرُهَا، فَهَلْ يَحْفَظُهَا أَمْ يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إِلَى الْقَاضِي؟ فِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ، ثُمَّ إِنْ كَانَ مَا أَخَذَهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ: يَقْطَعُ هُنَا بِأَخْذِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ فِي غَيْرِ الْجِنْسِ يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ، وَالْمُوَكِّلُ هُنَا لَا يَدَّعِي الثَّمَنَ، فَأَوْلَى مَصَارِفِهِ التَّسْلِيمُ إِلَى الْوَكِيلِ الْغَارِمِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُشْتَرِي بِالْوَكَالَةِ، فَيَنْظُرَ، إِنْ صَدَّقَ الْمُوَكِّلُ، فَالْبَيْعُ

بَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَبِيعِ. فَإِنْ تَلِفَ، فَالْمُوَكِّلُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ غَرَّمَ الْوَكِيلَ، لِتَعَدِّيهِ، وَإِنْ شَاءَ غَرَّمَ الْمُشْتَرِي. وَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِحُصُولِ الْهَلَاكِ فِي يَدِهِ، وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ عَلَى الْوَكِيلِ. وَإِنْ صَدَّقَ الْوَكِيلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ، أَخَذَ الْعَيْنَ. وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَبَقِيَتْ لَهُ. الْمَوْضِعُ الثَّانِي: فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ، إِذَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صُلْحٍ، أَوْ طَلَاقٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ، أَوْ إِبْرَاءٍ، فَقَالَ: تَصَرَّفْتُ كَمَا أَذِنْتَ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَمْ تَتَصَرَّفْ بَعْدُ، نُظِرَ، إِنْ جَرَى هَذَا الِاخْتِلَافُ بَعْدَ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلتَّصَرُّفِ حِينَئِذٍ. وَإِنْ جَرَى قَبْلَ الِانْعِزَالِ، فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، أَمِ الْوَكِيلِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الْأَوَّلُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي مَوَاضِعَ. وَقِيلَ: مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْوَكِيلُ، كَالطَّلَاقِ، وَالْإِعْتَاقِ، وَالْإِبْرَاءِ، يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ بِيَمِينِهِ، وَمَا لَا، كَالْبَيْعِ، فَلَا. وَلَوْ صَدَّقَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، لَكِنْ قَالَ: عَزَلْتُكَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ، وَقَالَ الْوَكِيلُ: بَلْ بَعْدَ التَّصَرُّفِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَقَالَتِ: انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ الرَّجْعَةِ. وَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: بَاعَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ: لَمْ أَبِعْ. فَإِنْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِي الْمُوَّكِلَ، حُكِمَ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. فَرْعٌ دَعْوَى الْوَكِيلِ تَلَفَ الْمَالِ، مَقْبُولَةٌ بِيَمِينِهِ قَطْعًا، وَكَذَا دَعْوَاهُ الرَّدَّ إِنْ كَانَ بِلَا جَعْلٍ، وَكَذَا إِنْ كَانَ بِجَعْلٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ. وَكُلُّ مَا ذَكَّرْنَاهُ هُنَا وَهُنَاكَ، إِذَا ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ. فَإِنِ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى غَيْرِهِ، لَمْ يُقْبَلْ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ ذَلِكَ، أَنْ يَدَّعِيَ الْوَكِيلُ الرَّدَّ عَلَى رَسُولِ الْمَالِكِ، لِاسْتِرْدَادِ مَا عِنْدَهُ، وَيُنْكِرَ الرَّسُولُ، فَالْقَوْلُ

قَوْلُ الرَّسُولِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ تَصْدِيقُ الْوَكِيلِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الرَّدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَأْتَمِنْهُ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالرِّسَالَةِ، وَيَدُ رَسُولِهِ يَدُهُ، فَكَأَنَّهُ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَيْهِ. الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: فِي الْقَبْضِ، فَإِذَا وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ، فَقَالَ: قَبَضْتُهُ، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: قَبَضْتُهُ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِي، فَخُذْهُ، لَزِمَهُ أَخْذُهُ، وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الِاخْتِلَافِ. وَإِنْ قَالَ: قَبَضْتُهُ وَتَلِفَ فِي يَدِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِّهِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ، إِذَا حَلَفَ الْمُوَكِّلُ، أَخَذَ حَقَّهُ مِمَّنْ كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَجَوَّزْنَا لَهُ قَبْضَ الثَّمَنِ، فَاتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: قَبَضْتُهُ وَتَلِفَ فِي يَدِي، أَوْ دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ، فَفِي الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُمَا إِنِ اخْتَلَفَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْمُوَكِّلِ. وَأَصَحُّهُمَا: قَوْلُ الْوَكِيلِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ يَدَّعِي تَقْصِيرَهُ وَخِيَانَتَهُ بِالتَّسْلِيمِ بِلَا قَبْضٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِيمَا إِذَا أَذِنَ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا. فَإِذَا أَذِنَ فِي التَّسْلِيمِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ فِي الْبَيْعِ بِمُؤَجَّلٍ وَفِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْأَجَلِ، لَمْ يَكُنْ خَائِنًا بِالتَّسْلِيمِ بِلَا قَبْضٍ، كَالِاخْتِلَافِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَإِذَا صَدَّقْنَا الْوَكِيلَ فَحَلَفَ، فَفِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: يَبْرَأُ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: لَا. فَعَلَى الْأَوَّلِ، إِذَا حَلَفَ وَبَرِئَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، فَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَغَرَّمَهُ الثَّمَنَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْوَكِيلِ، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا. وَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ وَغَرَّمَهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ

فصل

تَصْدِيقِنَا لِلْوَكِيلِ فِي الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ بِيَمِينِهِ أَنْ نُثْبِتَ بِهَا حَقًّا عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمُوكِّلِ لِمَا سَبَقَ. وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى قَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ، وَقَالَ الْوَكِيلُ: دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: بَلْ هُوَ بَاقٍ عِنْدَكَ، فَهُوَ كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي رَدِّ الْمَالِ الْمُسْلَّمِ إِلَيْهِ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ. وَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: قَبَضْتَ الثَّمَنَ فَادْفَعْهُ إِلَيَّ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: لَمْ أَقْبِضْهُ بَعْدُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ طَلَبُهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، لِاعْتِرَافِهِ بِقَبْضِ وَكِيلِهِ، لَكِنْ لَوْ سَلَّمَ الْوَكِيلُ الْمَبِيعَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ التَّسْلِيمُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَهُوَ مُتَعَدٍّ، فَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُغَرِّمَهُ قِيمَةَ الْمَبِيعِ. فَصْلٌ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالًا، وَوَكَّلَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ بِهِ، ثُمَّ قَالَ الْوَكِيلُ: قَضَيْتُ بِهِ، وَأَنْكَرَ رَبُّ الدَّيْنِ، صُدِّقَ رَبُّ الدَّيْنِ بِيَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ، طَالَبَ الْمُوَكِّلُ بِحَقِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ. وَهَلْ يَقْبَلُ قَوْلَ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ بِيَمِينِهِ. فَعَلَى الْأَظْهَرِ: يَنْظُرُ، إِنْ تَرَكَ الْإِشْهَادَ عَلَى الدَّفْعِ، فَإِنْ دَفَعَ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ، فَلَا رُجُوعَ لِلْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ دَفَعَ فِي غَيْبَتِهِ، رَجَعَ، وَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الدَّفْعِ، أَمْ لَا، عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَرْجِعُ إِذَا صَدَّقَهُ. فَلَوْ قَالَ: دَفَعْتُ بِحَضْرَتِكَ، صُدِّقَ الْمُوَكِّلُ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْهَدُ، لَكِنْ مَاتَ الشُّهُودُ، أَوْ جُنُّوا، أَوْ غَابُوا، فَلَا رُجُوعَ. وَإِنْ أَشْهَدْ وَاحِدًا أَوْ مَسْتُورَيْنِ، فَبَانَا فَاسِقَيْنِ، فَوَجْهَانِ. وَكُلُّ ذَلِكَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي رُجُوعِ الضَّامِنِ عَلَى الْأَصِيلِ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْإِيدَاعِ، فَفِي لُزُومِ الْإِشْهَادِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي الْوَدِيعَةِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا ادَّعَى قَيِّمُ الْيَتِيمِ أَوِ الْوَصِيِّ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ. فَصْلٌ إِذَا طَالَبَ الْمَالِكُ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ بِالرَّدِّ، فَقَالَ: لَا أَرُدُّ حَتَّى تَشْهَدَ عَلَيْكَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ كَالْمُوَدِّعِ وَالْوَكِيلِ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: بَلَى. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ التَّوَقُّفُ إِلَى الْإِشْهَادِ يُؤَخِّرُ التَّسْلِيمَ، فَلَيْسَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَهُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ كَالْغَاصِبِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْأَخْذِ، فَلَهُ الِامْتِنَاعُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. صَحَّحَ الْبَغَوِيُّ الِامْتِنَاعَ، وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِعَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لَهُ عِنْدِي شَيْءٌ، وَيَحْلِفُ، وَالْمَدْيُونُ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَمَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي رَدِّ الْأَعْيَانِ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِزَيْدٍ، أَوْ عَيْنٌ فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا وَكِيلُهُ بِالْقَبْضِ مِنْكَ فَأَقْبِضْنِيهِ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُصَدِّقَهُ فِي دَعْوَى الْوَكَالَةِ، فَلَهُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ دَفَعَ فَحَضَرَ زَيْدٌ، وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا، أَخَذَهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ، فَلَهُ تَغْرِيمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَلَا رُجُوعَ لِلْغَارِمِ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِزَعْمِهِ، فَلَا يُؤَاخِذُ غَيْرَ ظَالِمِهِ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : هَذَا إِذَا تَلِفَتَ بِلَا تَفْرِيطٍ وَإِنْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِ الْقَابِضِ، نُظِرَ، إِنْ غَرِمَ الْقَابِضُ، فَلَا رُجُوعَ. وَإِنْ غَرِمَ الدَّافِعُ، رَجَعَ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ وَكِيلٌ عِنْدَهُ، وَالْوَكِيلُ يَضْمَنُ بِالتَّفْرِيطِ، وَزَيْدٌ ظَالِمُهُ بِأَخْذِ الْقِيمَةِ

مِنْهُ، وَمَالُهُ فِي ذِمَّةِ الْقَابِضِ، فَيَسْتَوْفِيهِ بِحَقِّهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ دَيْنًا، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الدَّافِعِ بِحَقِّهِ. وَإِذَا غَرِمَهُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ بَاقِيًا، فَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِزَيْدٍ فِي زَعْمِهِ؛ لِأَنَّهُ ظَالِمُهُ بِتَغْرِيمِهِ، وَقَدْ ظَفِرَ بِمَالِهِ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَإِنْ فَرَّطَ فِيهِ، غَرِمَهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَلْ لِزَيْدٍ مُطَالَبَةُ الْقَابِضِ؟ نُظِرَ، إِنْ تَلِفَ الْمَدْفُوعُ عِنْدَهُ، فَلَا، وَكَذَا إِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ فُضُولِيٌّ بِزَعْمِهِ، وَالْمَأْخُوذَ لَيْسَ حَقَّهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْمَدْيُونِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَهُ مُطَالَبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى وَكِيلِهِ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، إِذَا أَخَذَهُ، بَرِئَ الدَّافِعُ، هَذَا كُلُّهُ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِذَا صَدَّقَهُ فِي الْوَكَالَةِ، وَهَلْ يَلْزَمُ الدَّفْعُ، أَمْ لَهُ الِامْتِنَاعُ إِلَى قِيَامِ الْبَيِّنَةِ؟ نَصَّ هُنَا أَنَّ لَهُ الِامْتِنَاعَ. وَنَصَّ فِيمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ لِزَيْدٍ، وَأَنَّهُ مَاتَ وَهَذَا وَارِثُهُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ بِلَا بَيِّنَةٍ؟ فَقِيلَ قَوْلَانِ فِيهِمَا. وَالْمَذْهَبُ: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ، فَلَا يُكَلَّفُ الدَّفْعَ إِلَيْهِ. فَإِنْ دَفَعَ ثُمَّ حَضَرَ زَيْدٌ وَحَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْوَكَالَةِ، غَرِمَ الدَّافِعُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِصِدْقِهِ. وَلَوْ أَنْكَرَ الْوَكَالَةَ أَوِ الْحَقَّ، وَكَانَ الْوَكِيلُ مَأْذُونًا لَهُ فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ قُلْنَا: الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ مُطْلَقًا لَهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، أَقَامَهَا وَأَخَذَ الْحَقَّ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَهَلْ لَهُ التَّحْلِيفُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ، هَلْ يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، حَلَّفَهُ، وَإِلَّا فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ النُّكُولَ مَعَ يَمِينِ الرَّدِّ كَالْبَيِّنَةِ، أَمْ كَالْإِقْرَارِ؟ وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، حَلَّفَهُ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ جَاءَ رَجُلٌ وَقَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: أَحَالَنِي بِهِ مَالِكُهُ، فَصَدَّقَهُ. وَقُلْنَا: إِذَا صَدَّقَ

فصل

مُدَّعِي الْوَكَالَةِ، لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ، فَهُنَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ كَالْوَارِثِ. وَلَوْ كَذَّبَهُ وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، هَلْ لَهُ تَحْلِيفُهُ؟ إِنْ أَلْزَمْنَاهُ الدَّفْعَ، فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَكَمَا سَبَقَ. وَلَوْ قَالَ: مَاتَ فُلَانٌ وَلَهُ عِنْدِي كَذَا، وَهَذَا وَصِيُّهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَارِثُهُ. فَلَوْ قَالَ: مَاتَ، وَقَدْ أَوْصَى بِهِ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَكَإِقْرَارِهِ بِالْحَوَالَةِ. فَرْعٌ إِذَا أَوْجَبْنَا الدَّفْعَ إِلَى الْوَارِثِ وَالْوَصِيِّ، أَوْ لَمْ نُوجِبْ، فَدَفَعَ، ثُمَّ بَانَ حَيَاةُ الْمُسْتَحِقِّ وَغَرِمَ الدَّافِعُ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ. وَلَوْ جَحَدَ الْحَوَالَةَ، فَكَجَحْدِ الْوَكَالَةِ. فَصْلٌ إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ مَتَاعًا لِيَبِيعَهُ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ، وَطَالَبَهُ بِرَدِّهِ، أَوْ قَالَ: بِعْتَهُ وَقَبَضْتَ ثَمَنَهُ فَسَلِّمْهُ إِلَيَّ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَى، فَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ تَلِفَ، أَوْ رَدَّ، نُظِرَ فِي صِيغَةِ جُحُودِهِ، فَإِنْ قَالَ: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ، أَوْ لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ وَالتَّلَفِ. وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً، سَمِعْتُ، إِذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ. وَإِذَا كَانَتْ صِيغَتُهُ: مَا وَكَّلْتَنِي، أَوْ مَا دَفَعْتَ إِلَيَّ شَيْئًا، أَوْ مَا قَبَضْتُ، فَإِنِ ادَّعَى التَّلَفَ أَوِ الرَّدَّ قَبْلَ الْجُحُودِ، لَمْ يُقْبَلْ، لِمُنَاقَضَتِهِ، وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ. وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَبَيِّنَتُهُ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ: لَا تُسْمَعُ. وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ رَدَّ بَعْدَ الْجُحُودِ، لَمْ يُصَدَّقْ، لِمَصِيرِهِ خَائِنًا. فَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً، سُمِعَتْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ كَالْغَاصِبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِالرَّدِّ. وَقَالَ الْإِمَامُ: فِيهِ الْوَجْهَانِ، لِلتَّنَاقُضِ،

فصل

وَهُوَ حَسَنٌ. وَلَوِ ادَّعَى التَّلَفَ بَعْدَ الْجُحُودِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ لِتَنْقَطِعَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِرَدِّ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، لِخِيَانَتِهِ، كَمَا إِذَا ادَّعَى الْغَاصِبُ التَّلَفَ. فَصْلٌ إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ خِيَانَةً، لَمْ تُسْمَعْ حَتَّى يُبَيِّنَ مَا خَانَ بِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: بِعْتُ بِعَشَرَةٍ، وَمَا دَفَعْتَ إِلَيَّ إِلَّا خَمْسَةً. فَصْلٌ وَكَّلَ بِقَبْضِ دَيْنٍ أَوِ اسْتِرْدَادِ وَدِيعَةٍ، فَقَالَ الْمَدْيُونُ وَالْمُودَعُ: دَفَعْتُ، وَصَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ، وَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ، هَلْ يَغْرَمُ الدَّافِعُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ؟ وَجْهَانِ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْوَكِيلُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ الْإِشْهَادَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ مَنْ قَالَ: أَنَا وَكِيلٌ فِي النِّكَاحِ أَوِ الْبَيْعِ، وَصَدَّقَهُ مَنْ يُعَامِلُهُ، صَحَّ الْعَقْدُ. فَلَوْ قَالَ الْوَكِيلُ بَعْدَ الْعَقْدِ: لَمْ أَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، وَكَذَا لَوْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي؛ لَأَنَّ فِيهِ حَقًّا لِلْمُوَكِّلِ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ.

كتاب الإقرار

كِتَابُ الْإِقْرَارِ هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ. الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: الْمُقِرُّ، وَهُوَ مُطْلَقٌ، وَمَحْجُورٌ عَلَيْهِ. فَالْمُطْلَقُ، يَصِحُّ إِقْرَارُهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْشَائِهِ، وَهَذَا الضَّبْطُ تُسْتَثْنَى مِنْهُ صُوَرًا. مِنْهَا: لَوْ قَالَ الْوَكِيلُ: تَصَرَّفْتُ كَمَا أَذِنْتَ، فَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَمْ تَتَصَرَّفْ، لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُ الْوَكِيلِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْشَاءِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: اسْتَوْفَيْتُ مَا أَمَرْتَنِي بِاسْتِيفَائِهِ، وَنَازَعَهُ كَمَا سَبَقَ. وَمِنْهَا: إِنْشَاءُ نِكَاحِ الثَّيِّبِ إِلَى وَلِيِّهَا، فَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ فِي الضَّبْطِ فَيُقَالَ: يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ الَّتِي يَسْتَقِلُّ بِإِنْشَائِهَا. أَوْ يُقَالُ: مَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْشَائِهِ، يُؤَاخَذُ الْمُقِرُّ بِمُوجَبِ إِقْرَارِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ نُفُوذُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، فَتَخْرُجُ عَنْهُ الْمَسَائِلُ. وَأَمَّا الْمَحْجُورُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَقْسَامَهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ. فَمِنْهُ الصَّبِيُّ، وَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ، لَكِنْ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ إِذَا صَحَّحْنَاهُمَا مِنْهُ. وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ بَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ، أَوِ ادَّعَتْ أَنَّهَا بَلَغَتْ بِالْحَيْضِ فِي وَقْتِ إِمْكَانِهِمَا صُدِّقَا. فَإِنْ فُرِضَ ذَلِكَ فِي خُصُومَةٍ، لَمْ يَحْلِفَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمَا، فَأَشْبَهَ إِذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ فَقَالَ: شِئْتَ، صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ، هَكَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ، وَالْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ. قَالَ الْإِمَامُ: فَلَوْ بَلَغَ مَبْلَغًا يَتَيَقَّنُ بُلُوغَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا، لِأَنَّا إِذَا حَكَمْنَا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ، فَقَدْ أَنْهَيْنَا الْخُصُومَةَ مُنْتَهَاهَا، فَلَا عَوْدَ إِلَى التَّحْلِيفِ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْغُزَاةِ يَطْلُبُ سَهْمَ الْمُقَاتِلَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ احْتَلَمَ، حَلَفَ وَأَخَذَ

فصل

السَّهْمَ. فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ، فَفِي إِعْطَائِهِ، وَجْهَانِ. وَلَوِ ادَّعَى الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ، طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ، لِإِمْكَانِهَا. فَلَوْ كَانَ غَرِيبًا خَامِلَ الذِّكْرِ، فَهَلْ يُطَالِبُ بِالْبَيِّنَةِ لِإِمْكَانِهَا مِنْ جِنْسِ الْمُدَّعِي؟ أَمْ يَلْحَقُ بِالِاحْتِلَامِ؟ أَمْ يَنْظُرُ إِلَى الْإِنْبَاتِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ كَمَا فِي صِبْيَانِ الْكُفَّارِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ لِلْإِمَامِ. أَصَحُّهَا: أَوَّلُهَا. قُلْتُ: وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ أَنَّهُ أَتْلَفَ فِي صِبَاهُ مَالًا، لَزِمَهُ الْآنَ قَطْعًا، كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهُ الْمَجْنُونُ، وَهُوَ مَسْلُوبُ الْعِبَارَةِ إِنْشَاءً وَإِقْرَارًا فِي كُلِّ شَيْءٍ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ. وَفِي السَّكْرَانِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ مَشْهُورٌ، نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ: وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ، كَشُرْبِ الدَّوَاءِ وَنَحْوِهِ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهُ: حَجْرُ الْمُبَذِّرِ وَالْمُفْلِسِ، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُمَا فِي بَابَيْهِمَا. وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ بِالنِّكَاحِ، دُونَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، اعْتِبَارًا لِلْإِقْرَارِ بِالْإِنْشَاءِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِقْرَارُ السَّفِيهَةِ بِأَنَّهَا مَنْكُوحَةُ فُلَانٍ، كَإِقْرَارِ الرَّشِيدَةِ، إِذْ لَا أَثَرَ لِلسَّفَهِ فِي النِّكَاحِ مِنْ جَانِبِهَا، وَفِيهِ احْتِمَالٌ بِسَبَبِ ضَعْفِ قَوْلِهَا وَعَقْلِهَا. فَصْلٌ وَمِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ: الرَّقِيقُ. وَالَّذِي يُقِرُّ بِهِ، ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ كَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ، وَمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ، أَوِ الطَّرَفِ، فَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِهِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ عُقُوبَتُهُ

خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ. وَإِذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ تُوجِبُ الْقَطْعَ، قُبِلَ فِي الْقَطْعِ. وَأَمَّا الْمَالُ، فَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ وَيَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِرَقَبَتِهِ. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يُقْبَلُ وَيَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِذِمَّتِهِ، إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ السَّيِّدُ فَيُقْبَلُ. وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ فِي يَدِ السَّيِّدِ، لَمْ يُنْتَزَعْ مِنْهُ إِلَّا بِتَصْدِيقِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْعَبْدِ فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي انْتِزَاعِهِ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّالِفِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُنْتَزَعُ، ثَبَتَ بَدَلُهُ فِي ذِمَّتِهِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا يُنْتَزَعُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ سَيِّدِهِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْعَبْدِ، قُبِلَ إِقْرَارُهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا اخْتَصَرْتُ قُلْتُ: فِي قَوْلِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: لَا يُقْبَلُ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ. وَالثَّالِثُ: يُقْبَلُ إِنْ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا. وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ. وَإِذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ تُوجِبُ الْقَطْعَ، ثُمَّ رَجَعَ، كَانَ كَإِقْرَارِهِ بِسَرِقَةٍ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ، وَسَنَذْكُرُ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقِصَاصِ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَفَا الْمُسْتَحِقُّ عَلَى مَالٍ، أَوْ عَفَا مُطْلَقًا، وَقُلْنَا: إِنَّهُ يُوجِبُ الْمَالَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَقَرَّ بِالْعُقُوبَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَالُ بِالْعَفْوِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: مُوجِبُ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ قُلْنَا: مُوجِبُهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، فَفِي ثُبُوتِ الْمَالِ قَوْلَانِ، كَالْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يُوجِبُ عُقُوبَةً، فَإِذَا أَقَرَّ بِدَيْنِ جِنَايَةٍ، كَغَصْبٍ، أَوْ سَرِقَةٍ لَا تُوجِبُ قَطْعًا، أَوْ إِتْلَافٍ، وَصَدَّقَهُ السَّيِّدُ، تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ، فَيُبَاعُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ، وَإِذَا بِيعَ فَبَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ، فَهَلْ يُتْبَعُ بِهِ إِذَا عَتَقَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَذْكُورَانِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ. قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: لَا يُتْبَعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ، لَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، يُتْبَعُ بِهِ إِذَا عَتَقَ، وَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا بِيعَ فِي الدَّيْنِ وَبَقِيَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ التَّعَلُّقُ بِالرَّقَبَةِ فَكَانَ الْحَقَّ انْحَصَرَ فِيهَا. وَقِيلَ بِطَرَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْقِيمَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ هُنَا غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِهَا. وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنِ مُعَامَلَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ عَلَى السَّيِّدِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ الْمُقَرُّ بِهِ بِذِمَّتِهِ، يُطَالَبُ بِهِ إِذَا عَتَقَ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ، أَمْ لَا. وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا فِيهَا، قُبِلَ وَأَدَّى مِنْ كَسْبِهِ وَمَا فِي يَدِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالتِّجَارَةِ كَالْقَرْضِ. وَلَوْ أَطْلَقَ الْمَأْذُونُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ جِهَتَهُ، لَمْ يَنْزِلْ عَلَى دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ بِإِتْلَافٍ، وَلَا فَرْقَ فِي دَيْنِ الْإِتْلَافِ بَيْنَ الْمَأْذُونِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ بِدَيْنِ مُعَامَلَةٍ، إِضَافَةً إِلَى حَالِ الْإِذْنِ، لَمْ تُقْبَلْ إِضَافَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنِ جِنَايَةٍ، لَمْ يُقْبَلْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسَيِّدِهِ، إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ، وَيُقْبَلُ فِي نِصْفِهِ. وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ مِمَّا فِي يَدِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنِ مُعَامَلَةٍ، فَمَتَى صَحَّحْنَا تَصَرُّفَهُ، قَبِلْنَا إِقْرَارَهُ عَلَيْهِ، وَقَضَيْنَاهُ مِمَّا فِي يَدِهِ. وَمَتَى لَمْ نُصَحِّحْهُ، فَإِقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ. فَرْعٌ إِقْرَارُ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ بِمَا يُوجِبُ عُقُوبَةً مَرْدُودٌ، وَبِدَيْنِ الْجِنَايَةِ مَقْبُولٌ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا بِيعَ فِيهِ وَبَقِيَ شَيْءٌ، لَمْ يُطَالَبْ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ. وَكَذَا إِقْرَارُهُ بِدَيْنِ الْمُعَامَلَةِ، لَا يُقْبَلُ عَلَى الْعَبْدِ.

فصل

قُلْتُ: قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَوْ عَتَقَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا لِرَجُلٍ قَبْلَ الْعِتْقِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ، وَيُطَالَبُ بِهِ الْعَبْدُ. وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ جَنَى، لَزِمَ السَّيِّدَ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ وَقِيمَتِهِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: كُلُّ مَا قُبِلَ إِقْرَارُ الْعَبْدِ فِيهِ كَالْعُقُوبَاتِ، فَالدَّعْوَى فِيهِ تَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ. وَمَا لَا يَقْبَلُ الْمَالَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَقَبَتِهِ، إِذَا صَدَّقَهُ السَّيِّدُ، فَالدَّعْوَى عَلَى السَّيِّدِ. فَإِنِ ادَّعَى فِي هَذَا عَلَى الْعَبْدِ، إِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ، وَإِلَّا فَإِنْ قُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْبَيِّنَةِ، سُمِعَتْ رَجَاءَ نُكُولِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ فَلَا. وَلَوِ ادَّعَى عَلَى الْعَبْدِ دَيْنَ مُعَامَلَةٍ مُتَعَلِّقٍ بِالذِّمَّةِ، وَلَهُ بَيِّنَةٌ، فَفِي سَمَاعِهَا وَجْهَانِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَمِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمُ، الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالنِّكَاحِ بِمُوجِبَاتِ الْعُقُوبَاتِ، وَبِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَفِي إِقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ بِالْمَالِ، طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَطْعًا. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: الْقَبُولُ. وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَّهَمًا، لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ، وَإِلَّا فَيُقْبَلُ، وَيَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقْبَلُ، فَهَلِ الِاعْتِبَارُ فِي كَوْنِهِ وَارِثًا بِحَالِ الْمَوْتِ، أَمْ بِحَالِ الْإِقْرَارِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: بِحَالِ الْمَوْتِ، كَالْوَصِيَّةِ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ كَانَ وَهَبَ وَارِثَهُ، وَأَقْبَضَهُ فِي الصِّحَّةِ، أَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إِنْشَائِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ، وَرَجَّحَ الْغَزَالِيُّ: الْمَنْعَ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: الْقَبُولَ.

قُلْتُ: الْقَبُولُ أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ وَأَجْنَبِيٍّ مَعًا، وَقُلْنَا: لَا يُقْبَلُ لِلْوَارِثِ، قُبِلَ فِي نِصْفِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَظْهَرِ. الثَّانِيَةُ: لَوْ أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ، وَفِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِآخَرَ، فَهُمَا سَوَاءٌ، كَمَا لَوْ ثَبَتَا بِالْبَيِّنَةِ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا فِي الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ. قُلْتُ: وَحَكَى فِي «الْبَيَانِ» قَوْلًا شَاذًّا: أَنَّ دَيْنَ الصِّحَّةِ يُقَدَّمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ بِدَيْنٍ، ثُمَّ مَاتَ فَأَقَرَّ وَرَثَتُهُ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ لِآخَرَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَتَسَاوَيَانِ فَيَتَضَارَبَانِ فِي التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَصَارَ كَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنَيْنِ. وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُورَثُ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ تَعَلَّقَ بِالتَّرِكَةِ وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ ثَبَتَ الْأَوَّلُ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ وَارِثُهُ، وَفِيمَا لَوْ أَقَرَّ الْوَارِثُ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ أَقَرَّ لِآخَرَ بِدَيْنٍ آخَرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الْأَوَّلُ مُسْتَغْرِقًا لِلتَّرِكَةِ، أَمْ لَا. وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي حَيَاتِهِ أَوْ مَوْتِهِ، ثُمَّ تَرَدَّتْ بَهِيمَةٌ فِي بِئْرٍ كَانَ حَفَرَهَا بِمَحَلِّ عُدْوَانٍ، فَفِي مُزَاحَمَةِ صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ رَبَّ الدَّيْنِ الْقَدِيمِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَا إِذَا جَنَى الْمُفْلِسُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» . الثَّالِثَةُ: مَاتَ وَخَلَّفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ دَيْنًا، فَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ، قِيلَ: يَصْرِفُ الثُّلُثَ إِلَى الْوَصِيَّةِ، لِتَقَدُّمِهَا. وَقِيلَ: يُقَدَّمُ الدَّيْنُ عَلَى الْوَصِيَّةِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِيهِمَا. وَلَوْ صَدَّقَ مُدَّعِيَ دَيْنٍ أَوَّلًا، قُدِّمَ قَطْعًا. وَلَوْ صَدَّقَ الْمُدَّعِيَيْنِ مَعًا، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُقَسَّمُ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا، لِأَنَّا نَحْتَاجُ إِلَى الْأَلْفِ لِلدَّيْنِ، وَإِلَى ثُلُثِ الْمَالِ لِلْوَصِيَّةِ، فَيَخُصُّ الْوَصِيَّةَ ثُلُثُ عَائِلٍ، وَهُوَ الرُّبُعُ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: تَسْقُطُ الْوَصِيَّةُ، وَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ

كَمَا لَوْ ثَبَتَا بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، سَوَاءٌ قَدَّمْنَا عِنْدَ تَرَتُّبِ الْإِقْرَارَيْنِ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا، أَوْ سَوَّيْنَا. الرَّابِعَةُ: أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِعَيْنِ مَالٍ لِإِنْسَانٍ، ثُمَّ أَقَرَّ لِآخَرَ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ، سُلِّمَتِ الْعَيْنُ لِلْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ مَاتَ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مَالٌ. وَلَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَقَرَّ بِالْعَيْنِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْعَيْنِ أَوَّلًا؛ لَأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الدَّيْنِ، لَا يَتَضَمَّنُ حَجْرًا فِي الْعَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا. وَالثَّانِي: يَتَزَاحَمَانِ، لِتَعَارُضِ الْقُوَّةِ فِيهِمَا. قُلْتُ: لَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي صِحَّتِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ تَرِكَتَهُ، نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ تَبَرُّعًا، بَلْ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ. وَلَوْ مَلِكَ أَخَاهُ، فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ، وَهُوَ أَقْرَبُ عُصْبَتِهِ، نَفَذَ عِتْقُهُ. وَهَلْ يَرِثُ؟ يُبْنَى عَلَى الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ. إِنْ صَحَّحْنَاهُ وَرِثَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يَقْتَضِي إِبْطَالَ حُرِّيَّتِهِ، فَيَذْهَبُ الْإِرْثُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ الِاخْتِيَارُ، فَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ كَسَائِرِ تَصَرُّفِهِ. قُلْتُ: وَلَوْ ضُرِبَ لِيُقِرَّ، فَأَقَرَّ فِي حَالِ الضَّرْبِ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ ضُرِبَ لِيَصْدُقَ فِي الْقَضِيَّةِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: إِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ الضَّرْبِ، تُرِكَ ضَرْبُهُ وَاسْتُعِيدَ إِقْرَارُهُ، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ الضَّرْبِ، عُمِلَ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَعِدْهُ وَعُمِلَ

بِالْإِقْرَارِ حَالَ الضَّرْبِ، جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ، هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيِّ. وَقَبُولُ إِقْرَارِهِ حَالَ الضَّرْبِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُكْرَهِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مُكْرَهًا، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ هُوَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُنَا إِنَّمَا ضُرِبَ لِيَصْدُقَ، وَلَا يَنْحَصِرُ الصِّدْقُ فِي الْإِقْرَارِ. وَقَبُولُ إِقْرَارِهِ بَعْدَ الضَّرْبِ فِيهِ نَظَرٌ إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِعَادَةُ الضَّرْبِ إِنْ لَمْ يُقِرَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُقَرُّ لَهُ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَهْلِيَّةُ اسْتِحْقَاقِ الْحَقِّ الْمُقَرِّ بِهِ. فَلَوْ قَالَ: لِهَذَا الْحِمَارِ أَوْ لِدَابَّةِ فُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ، فَهُوَ لَغْوٌ، وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ بِسَبَبِهَا، صَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَزِمَهُ حِمْلًا عَلَى أَنَّهُ جَنَى عَلَيْهَا أَوِ اكْتَرَاهَا. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ لُزُومُ الْمَالِ بِالْمُعَامَلَةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: لِعَبْدِ فُلَانٍ عَلَيَّ أَوْ عِنْدِي أَلْفٌ، صَحَّ وَكَانَ إِقْرَارًا لِسَيِّدِهِ، وَالْإِضَافَةُ فِيهِ كَالْإِضَافَةِ فِي الْهِبَةِ وَسَائِرِ الْإِنْشَاءَاتِ. فَرْعٌ قَالَ: لِحَمْلِ فُلَانَةٍ عَلَيَّ أَوْ عِنْدِي أَلْفٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحُدُهَا: أَنْ يُسْنَدَ إِلَى جِهَةٍ صَحِيحَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ، أَوْ وَصَّى بِهِ لَهُ فُلَانٌ، فَيُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُ. ثُمَّ إِنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا، فَلَا حَقَّ لَهُ، وَيَكُونُ لِوَرَثَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ وَرِثَهُ مِنْهُ، أَوْ لِلْمُوصِي، أَوْ وَرَثَتِهِ فِي صُورَةِ الْوَصِيَّةِ. وَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْإِقْرَارِ ; اسْتَحَقَّهُ. وَإِنِ انْفَصَلَ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلَا، لِتَيَقُّنِ عَدَمِهِ، وَإِنِ انْفَصَلَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ، وَلِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَفْرَشَةً، لَمْ يَسْتَحِقَّ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا: الِاسْتِحْقَاقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ، فَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا، فَهُوَ لَهُ. أَوْ ذَكَرَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَلَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى، فَهُوَ لَهَا إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى وَصِيَّةٍ. وَإِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى إِرْثٍ مِنْ أَبِيهَا، فَلَهَا نِصْفُهُ. وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَهُوَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى وَصِيَّةٍ، وَأَثْلَاثًا إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى الْإِرْثِ. هَذَا إِذَا اقْتَضَتْ جِهَةُ الْوِرَاثَةِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنِ اقْتَضَتِ التَّسْوِيَةَ، كَوَلَدَيْ أُمٍّ، سُوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي الثُّلُثِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ أَطْلَقَ الْإِرْثَ، سَأَلْنَاهُ عَنِ الْجِهَةِ وَحَكَمْنَا بِمُقْتَضَاهَا. قُلْتُ: وَهَذَا الْمَحْكِيُّ عَنِ الْإِمَامِ قَالَهُ أَيْضًا ابْنُ الصَّبَّاغِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يَكُونُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَإِنْ تَعَذَّرَتْ مُرَاجَعَةُ الْمُقِرِّ، فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُطْلَقَ الْإِقْرَارُ، فَيَصِحُّ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْجِهَةِ الْمُمْكِنَةِ فِي حَقِّهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُسْنَدَ إِلَى جِهَةٍ بَاطِلَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَقْرَضَنِيهِ أَوْ بَاعَنِي بِهِ شَيْئًا، فَإِنْ أَبْطَلْنَا الْمُطْلَقَ، فَذَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَعْقِيبِ الْإِقْرَارِ بِمَا يَرْفَعُهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ فِي هَذَا الْحَالِ: الْبُطْلَانُ، وَبِهِ قَطَعَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا صَحَّحْنَا الْإِقْرَارَ فِي الْحَالَيْنِ الْآخَرَيْنِ، فَانْفَصَلَ مَيِّتًا، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَيُسْأَلُ الْمُقِرُّ عَنْ جِهَةِ إِقْرَارِهِ مِنَ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ، وَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ لِهَذَا السُّؤَالِ وَالْبَحْثِ طَالِبٌ مُعَيَّنٌ، وَكَانَ الْقَاضِي يَسْأَلُ حِسْبَةً لِيَصِلَ الْحَقُّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَكَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ فَرَدَّهُ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّهُ يُطَالِبُ وَرَثَتَهُ كَنَفْسِهِ. وَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا لِلْمُدَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، فَالْكُلُّ لَهُ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ

أُنْثَى. وَإِنِ انْفَصَلَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، فَهُوَ لَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَمَتَى انْفَصَلَ حَيٌّ وَمَيِّتٌ، فَالْمَيِّتُ كَالْمَعْدُومِ، وَيُنْظَرُ فِي الْحَيِّ كَمَا ذَكَرْنَا. فَرْعٌ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ، أَوْ بَهِيمَةٍ، فَفِيهِ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْحَمْلِ. فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِهِ صَحَّ، وَيُنْظَرُ، كَمْ بَيْنَ انْفِصَالِهِ وَبَيْنَ يَوْمِ الْإِقْرَارِ مِنَ الْمُدَّةِ، عَلَى مَا سَبَقَ. وَفِي حَمْلِ الْبَهِيمَةِ، يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ. وَإِنْ أُطْلِقَ أَوْ أُسْنِدَ إِلَى جِهَةٍ بَاطِلَةٍ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَلَوْ أَقَرَّ بِالْحَمْلِ لِرَجُلٍ، وَبِالْأُمِّ لِآخَرَ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ، صَحَّ الْإِقْرَارَانِ، وَإِلَّا فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: هُمَا جَمِيعًا لِلْآخَرِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَامِلِ إِقْرَارٌ بِالْحَمْلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ أَقَرَّ لِمَسْجِدٍ أَوْ مَقْبَرَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا بِمَالٍ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى جِهَةٍ صَحِيحَةٍ، كَغَلَّةِ وَقْفٍ عَلَيْهِ صَحَّ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَوَجْهَانِ، تَخْرِيجًا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَمْلِ، وَعَلَى قِيَاسِهِ مَا إِذَا أُسْنِدَ إِلَى جِهَةٍ بَاطِلَةٍ. الشَّرْطُ الثَّانِي: عَدَمُ تَكْذِيبِهِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ عَدَمُ تَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَشْتَرِطُ قَبُولَهُ لَفْظًا. فَإِنْ كَذَّبَهُ نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مَالًا، فَفِيمَا يُفْعَلُ بِهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يُتْرَكَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ. وَالثَّانِي: يَنْتَزِعُهُ الْحَاكِمُ وَيَتَوَلَّى حِفْظَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهُ. فَإِنْ رَأَى اسْتِحْفَاظَ صَاحِبِ الْيَدِ، فَهُوَ كَمَا لَوِ اسْتَحْفَظَ

عَدْلًا آخَرَ. وَالثَّالِثُ: يُجْبَرُ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ الْمُقِرُّ: هَذَا الْمَالُ لِفُلَانٍ فَكَذَّبَهُ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ لِلْقَاضِي: إِنَّ فِي يَدِي مَالًا لَا أَعْرِفُ مَالِكَهُ، فَالْوَجْهُ: الْقَطْعُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَتَوَلَّى حِفْظَهُ. وَأَبْعَدَ بَعْضُهُمْ، فَلَمْ يَجُوِّزِ انْتِزَاعَهُ هُنَا أَيْضًا. وَلَوْ رَجَعَ الْمُقَرُّ لَهُ عَنِ الْإِنْكَارِ، وَصَدَّقَ الْمُقِرَّ، فَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ الْقَطْعَ بِقَبُولِهِ وَتَسْلِيمِ الْمَالِ إِلَيْهِ. وَالْأَصَحُّ، مَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْخِلَافِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ، فَقَدْ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ، فَلَا يُصْرَفُ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِإِقْرَارٍ جَدِيدٍ. وَإِنْ قُلْنَا: يَنْتَزِعُهُ الْحَاكِمُ وَيَحْفَظُهُ، لَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ أَيْضًا. بَلْ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ مَلَكَهُ، لَمْ تُسْمَعْ، وَإِنَّمَا يُسَلَّمُ إِلَيْهِ إِذَا قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ الْبَعِيدِ، فَحَصَلَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ. وَلَوْ رَجَعَ الْمُقِرُّ فِي حَالِ إِنْكَارِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَقَالَ: غَلِطْتُ، أَوْ تَعَمَّدْتُ الْكَذِبَ، فَإِنْ قُلْنَا: يَنْتَزِعُهُ الْحَاكِمُ لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنْ قُلْنَا: يُتْرَكُ فِي يَدِهِ فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يُقْبَلُ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: لَا يُقْبَلُ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِقْرَارِ بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ. فَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِعَبْدِهِ، فَأَنْكَرَهُ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْكُمُ بِعِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَدَّعِيَانِهِ، كَاللَّقِيطِ إِذَا قَالَ بَعْدَ بُلُوغِهِ: أَنَا عَبْدٌ لِزَيْدٍ، فَأَنْكَرَ زَيْدٌ، يُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِرِقِّهِ، فَلَا يُرْفَعُ إِلَّا بِيَقِينٍ، بِخِلَافِ اللَّقِيطِ، فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ بِالدَّارِ، فَعَلَى هَذَا، حُكْمُهُ كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا مَضَى. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ قِصَاصًا، أَوْ حَدَّ قَذْفٍ، فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَيَسْقُطُ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ تُوجِبُ الْقَطْعَ، وَأَنْكَرَ رَبُّ الْمَالِ السَّرِقَةَ فَلَا قَطْعَ. وَفِي الْمَالِ مَا سَبَقَ. وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالنِّكَاحِ، وَأَنْكَرَ، سَقَطَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّهِ. فَرْعٌ فِي يَدِهِ عَبْدَانِ، فَقَالَ: أَحَدُهُمَا لِزَيْدٍ، ثُمَّ عُيِّنَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ زَيْدٌ: إِنَّمَا عَبْدِي الْآخَرُ، فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلْمُقِرِّ فِي الْمَعَيَّنِ، وَمُدَّعٍ فِي الْآخَرِ.

فَرْعٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، فَقَالَ: قَدْ أَقْبَضْتُكَ الْأَلْفَ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ يَوْمَ كَذَا، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى إِقْرَارِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ بَيِّنَتِهِ بِأَنَّهُ مَا أَقْبَضَهُ الثَّمَنَ سُمِعَتْ، وَأُلْزِمَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى إِقْرَارِ الْبَائِعِ بِالْقَبْضِ، فَقَدْ قَامَتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ كَذَّبَهُ، فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْإِقْرَارِ، وَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُعَيِّنًا نَوْعَ تَعْيِينٍ، بِحَيْثُ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الدَّعْوَى وَالطَّلَبُ. فَلَوْ قَالَ: لِإِنْسَانٍ أَوْ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ عَلَيَّ أَلْفٌ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ أَقَرَّ بِمُعَيَّنٍ فَكَذَّبَهُ، هَلْ يَنْتَزِعُ مِنْ يَدِهِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ، فَكَذَا هُنَا، فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، لَمْ يَصِحَّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَلَوْ جَاءَ وَاحِدٌ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَرَدْتَنِي وَلِي عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ بِيَمِينِهِ فِي نَفْيِ الْإِرَادَةِ وَنَفْيِ الْأَلْفِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُقَرُّ بِهِ. وَيَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ، فَإِنْ كَانَ مَا يُقِرُّ بِهِ عَيْنًا، فَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُقِرِّ حِينَ يُقِرُّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ إِزَالَةَ مِلْكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ. فَلَوْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ، أَوْ ثَوْبِي الَّذِي أَمْلِكُهُ لِزَيْدٍ، فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَعْدِ بِالْهِبَةِ، وَلَوْ قَالَ: مَسْكَنِي هَذَا لِزَيْدٍ، كَانَ إِقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْكُنُ مِلْكَ غَيْرِهِ. وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّ الدَّارَ الْفُلَانِيَّةَ أَقَرَّ زَيْدٌ بِأَنَّهَا مِلْكُ عَمْرٍو، وَكَانَتْ مِلْكَ زَيْدٍ إِلَى أَنْ أَقَرَّ، كَانَتِ الشَّهَادَةُ بَاطِلَةً، نَصَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: هِيَ لِزَيْدٍ وَكَانَتْ مِلْكِي إِلَى وَقْتِ الْإِقْرَارِ، فَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَهُ مُنَاقِضٌ لِأَوَّلِهِ، فَيَلْغُو كَمَا لَوْ قَالَ: هِيَ لَهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ، وَهَذَا فِي الْأَعْيَانِ، وَكَذَا فِي الدُّيُونِ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي الظَّاهِرِ دَيْنٌ، مِنْ قَرْضٍ، أَوْ أُجْرَةٍ، أَوْ

ثَمَنٍ، فَقَالَ: دَيْنِي الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِعَمْرٍو، فَهُوَ بَاطِلٌ. وَلَوْ قَالَ: الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى زَيْدٍ هُوَ لِعَمْرٍو، وَاسْمِي فِي الْكِتَابِ عَارِيَّةٌ، فَهُوَ إِقْرَارٌ صَحِيحٌ، فَلَعَلَّهُ كَانَ وَكِيلًا عَنْهُ فِي الْإِقْرَاضِ وَالْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ. ثُمَّ عَمْرٌو يَدَّعِي الْمَالَ عَلَى زَيْدٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَيْنِ الْمُقِرِّ عَلَى زَيْدٍ، ثُمَّ عَلَى إِقْرَارِهِ لَهُ بِمَا عَلَى زَيْدٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَوَّلًا عَلَى الْإِقْرَارِ، ثُمَّ عَلَى الدَّيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ. فَرْعٌ اسْتَثْنَى صَاحِبُ التَّلْخِيصِ ثَلَاثَةَ دُيُونٍ، وَمَنَعَ الْإِقْرَارَ بِهَا، أَحَدُهَا: الصَّدَاقُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، لَا تُقِرُّ بِهِ الْمَرْأَةُ. وَالثَّانِي: بَدَلُ الْخُلْعِ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ، لَا يُقِرُّ بِهِ الزَّوْجُ. وَالثَّالِثُ: أَرْشُ الْجِنَايَةِ، لَا يُقِرُّ بِهِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عَبْدٍ أَوْ مَالِ آخَرَ، جَازَ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِهِ لِلْغَيْرِ؛ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ لَهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: هَذِهِ الدُّيُونُ، وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهَا الثُّبُوتُ لِلْغَيْرِ ابْتِدَاءً وَتَقْدِيرًا لِلْوَكَالَةِ، فَيَجُوزُ انْتِقَالُهَا بِالْحَوَالَةِ، وَكَذَلِكَ بِالْبَيْعِ عَلَى قَوْلٍ، فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِهَا عِنْدَ احْتِمَالِ جَرَيَانِ نَاقِلٍ. وَحَمَلُوا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ عَلَى مَا إِذَا أَقَرَّ بِهَا عَقِيبَ ثُبُوتِهَا، بِحَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ جَرَيَانُ نَاقِلٍ، لَكِنَّ سَائِرَ الدُّيُونِ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، بَلِ الْأَعْيَانُ أَيْضًا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ السَّيِّدُ أَوْ غَيْرُهُ عَقِيبَ الْإِعْتَاقِ بِدَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ إِلَّا فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا مَا يُوجِبُ الْمَالَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ فِي الدُّيُونِ الثَّلَاثَةِ: إِنْ أَسْنَدَ الْإِقْرَارَ بِهَا إِلَى جِهَةِ حَوَالَةٍ أَوْ بَيْعٍ، إِنْ جَوَّزْنَاهُ صَحَّ، وَإِلَّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِلْحَمْلِ وَأَطْلَقَ.

فصل

فَصْلٌ يُشْتَرَطُ فِي الْحُكْمُ بِثُبُوتِ مِلْكِ الْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ تَحْتَ يَدِ الْمُقِرِّ وَتَصَرُّفِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، لَمْ يُحْكَمْ بِهِ فِي الْحَالِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَعْوَى أَوْ شَهَادَةً، وَلَا تَلْغِيَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ لَوْ حَصَلَ الْمُقَرُّ بِهِ يَوْمًا فِي يَدِ الْمُقِرِّ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: الْعَبْدُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ مَرْهُونٌ عِنْدَ عَمْرٍو بِكَذَا، ثُمَّ حَصَلَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ، يُؤْمَرُ بِبَيْعِهِ فِي دَيْنِ عَمْرٍو. وَلَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، أَوْ شَهِدَ بِحُرِّيَّتِهِ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ صَحَّ، تَنْزِيلًا لِلْعَقْدِ عَلَى قَوْلِ مَنْ صَدَّقَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ الْبَائِعُ، وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ، وَتُرْفَعُ يَدُهُ عَنْهُ ثُمَّ لِإِقْرَارِهِ صِيغَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقُولَ: إِنَّكَ أَعْتَقْتَهُ وَتَسْتَرِقُّهُ ظُلْمًا، قَالَ الْأَصْحَابُ: فَيَكُونُ هَذَا الْعَقْدُ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ بَيْعًا قَطْعًا، وَفِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: شِرَاءٌ. وَأَصَحُّهُمَا: افْتِدَاءٌ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِحُرِّيَّتِهِ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: بَيْعٌ مِنَ الْبَائِعِ، وَافْتِدَاءٌ مِنَ الْمُقِرِّ. وَالثَّانِي: بَيْعٌ مِنْهُمَا. وَالثَّالِثُ: فِدَاءٌ مِنْهُمَا. وَهَذَا الثَّالِثُ فَاسِدٌ فِي جِهَةِ الْبَائِعِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ أَخْذُهُ الْمَالَ لِيَفْدِيَ مَنْ يَسْتَرِقُّهُ؟ ! وَلَوْ قِيلَ: فِيهِ الْمَعْنَيَانِ، وَأَيُّهُمَا أَغْلَبُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ، لَكَانَ قَرِيبًا، وَالْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرْنَا عَنِ الْأَصْحَابِ. وَيَثْبُتُ لِلْبَائِعِ فِي هَذَا الْعَقْدِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ، بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ بَيْعٌ مِنْ جَانِبِهِ. وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَخَرَجَ مَعِيبًا وَرَدَّهُ كَانَ لَهُ اسْتِرْدَادُ الْعَبْدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ خَرَجَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَعِيبًا وَرَدَّهُ، حَيْثُ لَا يَسْتَرِدُّ الْعَبْدَ، بَلْ يَعْدِلُ إِلَى الْقِيمَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْعِتْقِ هُنَاكَ. وَأَمَّا الْمُقِرُّ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ شِرَاءً فِي حَقِّهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ. وَإِنْ قُلْنَا: فِدَاءٌ فَلَا. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ: لَا رَدَّ لَهُ لَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ مَعِيبًا، لَكِنْ لَهُ أَخْذُ الْأَرْشِ عَلَى قَوْلِنَا: شِرَاءٌ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الِافْتِدَاءِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، فَفِي ثُبُوتِهِ لِلْبَائِعِ

وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخِيَارَ لَا يَكَادُ يَتَبَعَّضُ. وَالْمَذْهَبُ عَلَى الْجُمْلَةِ: ثُبُوتُهُ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي. وَأَمَّا وَلَاؤُهُ، فَمَوْقُوفٌ. فَإِنْ مَاتَ وَخَلَفَ مَالًا، وَلَا وَارِثَ لَهُ بِغَيْرِ الْوَلَاءِ، نُظِرَ، إِنْ صَدَّقَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ أَخَذَهُ وَرَدَّ الثَّمَنَ. وَإِنْ كَذَّبَهُ وَأَصَرَّ عَلَى كَلَامِهِ الْأَوَّلِ، فَظَاهِرُ النَّصِّ: أَنَّ الْمِيرَاثَ يُوقَفُ كَمَا وُقِفَ الْوَلَاءُ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فَقَالَ: لِلْمُشْتَرِي أَخْذُ قَدْرِ الثَّمَنِ مِمَّا تَرَكَهُ. فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، كَانَ الْفَاضِلُ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِمَّا كَاذِبٌ فَالْمَيِّتُ رَقِيقٌ لَهُ وَجَمِيعُ أَكْسَابِهِ لَهُ، وَإِمَّا صَادِقٌ، فَالْإِكْسَابُ لِلْبَائِعِ إِرْثًا بِالْوَلَاءِ، وَقَدْ ظَلَمَهُ بِأَخْذِ الثَّمَنِ، وَتَعَذُّرِ اسْتِرْدَادِهِ، فَإِذَا ظَفِرَ بِمَالِهِ، كَانَ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ الثَّمَنِ. وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ، وَتَخْطِئَةِ الْمُزَنِيِّ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ لِأَنَّهُ كَسْبُ مَمْلُوكِهِ، فَقَدْ نَفَاهُ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِجِهَةِ الظَّفَرِ بِمَالِ ظَالِمِهِ، فَقَدْ بَذَلَهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاسْتِنْقَاذِ حُرٍّ، فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ كَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِأَيِّ جِهَةٍ يَأْخُذُهُ، فَيُوقِفُ إِلَى ظُهُورِ جِهَتِهِ. وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَالْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَحَمَلُوا مَا ذَكَرَهُ هُنَا عَلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ بِجِهَةِ الْوَلَاءِ يَكُونُ مَوْقُوفًا وَقْفَ الْوَلَاءِ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الثَّمَنِ. فَأَمَّا الْمُسْتَحَقُّ بِكُلِّ حَالٍ، فَلَا مَعْنَى لِلْوَقْفِ فِيهِ. قَالُوا: وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْمَبْذُولِ فِدْيَةً وَقُرْبَةً، كَمَنْ فَدَى أَسِيرًا ثُمَّ اسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْكُفَّارِ وَوَجَدَ الْفَادِي عَيْنَ مَالِهِ أَخَذَهُ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْجِهَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْأَخْذَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ. الصِّيغَةُ الثَّانِيَةُ: يَقُولُ هُوَ حُرُّ الْأَصْلِ، أَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ تَشْتَرِيَهُ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ، فَهُوَ افْتِدَاءٌ مِنْ جِهَتِهِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا إِذَا مَاتَ وَخَلَّفَ مَالًا، وَلَا وَارِثَ لَهُ بِغَيْرِ الْوَلَاءِ، فَمَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِزَعْمِهِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَأْخُذَهُ عِوَضًا عَنِ الثَّمَنِ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي

لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرِّيَّةَ فِي زَعْمِهِ، وَقَدْ تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ. فَرْعٌ لَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ، وَلِلْمُكْرِي مُطَالَبَتُهُ بِالْأُجْرَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ جَارِيَةٍ لِزَيْدٍ، ثُمَّ قَبِلَ نِكَاحَهَا مِنْهُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلِزَيْدٍ مُطَالَبَتُهُ بِمَهْرِهَا. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ أَقَرَّ أَنَّ زَيْدًا أَعْتَقَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عُصْبَةٌ، صَحَّ تَزْوِيجُهُ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا مَالِكٌ، وَإِمَّا مَوْلَى حُرَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي فِي يَدِكَ غَصَبْتُهُ مِنْ زَيْدٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ التَّصْحِيحَ هُنَاكَ لِلِافْتِدَاءِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ الرِّقِّ، وَلَا يَتَّجِهُ مِثْلُهُ فِي تَخْلِيصِ عَبْدِ الْغَيْرِ. فَرْعٌ أَقَرَّ بِعَبْدٍ فِي يَدِهِ لِزَيْدٍ، فَقَالَ الْعَبْدُ: بَلْ أَنَا مِلْكُ عَمْرٍو، يُسَلَّمُ إِلَى زَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ مَنْ يَسْتَرِقُّهُ، لَا فِي نَفْسِهِ. فَلَوْ أَعْتَقَهُ زَيْدٌ، لَمْ يَكُنْ لِعَمْرٍو تَسَلُّمُ رَقَبَتِهِ، وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ وَلَاءِ زَيْدٍ. وَهَلْ لَهُ أَخْذُ أَكْسَابِهِ؟ وَجْهَانِ. وَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّ الْإِكْسَابَ فَرْعُ الرِّقِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: قَوْلُ الْقَائِلِ: لِفُلَانٍ كَذَا، صِيغَةُ إِقْرَارٍ. وَقَوْلُهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ، أَوْ فِي ذِمَّتِي، إِقْرَارٌ بِالدَّيْنِ ظَاهِرًا. وَقَوْلُهُ: عِنْدِي أَوْ مَعِي، إِقْرَارٌ بِالْعَيْنِ. وَقَوْلُهُ: لَهُ قِبَلِي كَذَا، قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : هُوَ دَيْنٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلدَّيْنِ وَالْعَيْنِ جَمِيعًا. قُلْتُ: قَوْلُهُ: إِقْرَارٌ بِالْعَيْنِ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَحْمِلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَيْنٌ مُودَعَةٌ لَهُ عِنْدَهُ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. قَالَ: حَتَّى لَوِ ادَّعَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَنَّهَا كَانَتْ وَدِيعَةً تَلِفَتْ، أَوْ رَدَدْتُهَا، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ دَيْنٌ، فَإِنَّهُ لَوْ فَسَّرَهُ بِالْوَدِيعَةِ، لَمْ يُقْبَلْ. وَإِذَا ادَّعَى التَّلَفَ، لَمْ يَنْفَعْهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: إِذَا قَالَ رَجُلٌ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، فَقَالَ فِي جَوَابِهِ: زِنْ، أَوْ خُذْ، أَوِ اسْتَوْفِ، أَوِ اتَّزِنْ، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْتِزَامٍ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ لِلِاسْتِهْزَاءِ. وَفِي وَجْهٍ: اتَّزِنْ، إِقْرَارٌ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَلَوْ قَالَ: خُذْهُ، أَوْ زِنْهُ، أَوِ اخْتِمْ عَلَيْهِ، أَوْ شُدَّهُ فِي هَمَيَانِكَ، أَوِ اجْعَلْهُ فِي كِيسِكَ، أَوِ اخْتِمْ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ: إِقْرَارٌ. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ: وَهِيَ صِحَاحٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: زِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ فِي الْجَوَابِ: بَلَى، أَوْ نَعَمْ، أَوْ أَجَلْ، أَوْ صَدَقْتَ، فَهُوَ إِقْرَارٌ. قَالُوا: وَلَوْ قَالَ: لَعَمْرِي فَإِقْرَارٌ. وَلَعَلَّ الْعُرْفَ يَخْتَلِفُ فِيهِ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا مُقِرٌّ بِهِ، أَوْ

بِمَا تَدَّعِيهِ، أَوْ لَسْتُ مُنْكِرًا لَهُ فَهُوَ إِقْرَارٌ لَهُ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا مُقِرٌّ، وَلَمْ يَقُلْ: بِهِ، أَوْ لَسْتُ مُنْكِرًا، أَوْ أَنَا أُقِرُّ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا أُقِرُّ لَكَ بِهِ، فَوَجْهَانِ. نَسَبَ الْإِمَامُ كَوْنَهُ إِقْرَارًا إِلَى الْأَكْثَرِينَ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالْقَاضِيَ حُسَيْنًا وَالرُّويَانِيَّ قَطَعُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ، وَلَا يُحْكَى الْوَجْهُ الْآخَرُ إِلَّا نَادِرًا. وَيَتَأَيَّدُ كَوْنُهُ إِقْرَارًا بِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا أُنْكِرُ مَا تَدَّعِيهِ، كَانَ إِقْرَارًا، وَلَمْ يَحْمِلُوهُ عَلَى الْوَعْدِ بِالْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ، لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ فِي شَيْءٍ آخَرَ. فَلَوْ قَالَ: فِيمَا يَدَّعِيهِ، فَهُوَ إِقْرَارٌ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُقِرُّ بِهِ وَلَا أُنْكِرُهُ، فَهُوَ كَسُكُوتِهِ، فَيُجْعَلُ مُنْكِرًا، وَتُعْرَضُ عَلَيهِ الْيَمِينُ. وَلَوْ قَالَ: أَبْرَأْتَنِي مِنْهُ، أَوْ قَضَيْتُهُ، فَإِقْرَارٌ، وَعَلَيهِ بَيِّنَةُ الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ. وَفِي وَجْهٍ: أَبْرَأْتَنِي مِنْهُ، لَيْسَ بِإِقْرَارٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلَوْ قَالَ: أَقْرَرْتُ بِأَنَّكَ أَبْرَأْتَنِي وَاسْتَوْفَيْتَ مِنِّي فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ. وَلَوْ قَالَ فِي الْجَوَابِ: لَعَلَّ، أَوْ عَسَى، أَوْ أَظُنُّ، أَوْ أَحْسَبُ، أَوْ أُقَدِّرُ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ. فَرْعٌ اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي التَّصْدِيقِ، فَقَدْ تَنْضَمُّ إِلَيهِ قَرَائِنُ تَصْرِفُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ. وَمِنْ جُمْلَتِهَا: الْأَدَاءُ، وَالْإِبْرَاءُ، وَتَحْرِيكُ الرَّأْسِ الدَّالُّ عَلَى شِدَّةِ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْأَصْحَابِ: إِنْ صَدَقْتَ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ. فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَتِ الْقَرَائِنُ، فَلَا تُجْعَلُ إِقْرَارًا. وَيُقَالُ: فِيهِ خِلَافٌ، لِتَعَارُضِ اللَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ،

فَقَالَ فَالْجَوَابُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، فَإِنَّ الْمُتَوَلِّيَ حَكَى فِيهِ وَجْهَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قَالَ: أَلَيْسَ لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ؟ فَقَالَ: بَلَى، كَانَ إِقْرَارًا. وَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، فَوَجْهَانِ. وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، بِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ كَمَا هُوَ مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ. وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ إِقْرَارٌ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُحْمَلُ عَلَى مَفْهُومِ أَهْلِ الْعُرْفِ، لَا عَلَى دَقَائِقِ الْعَرَبِيَّةِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: هَلْ لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَإِقْرَارٌ. الرَّابِعَةُ: إِذَا قَالَ: اشْتَرِ مِنِّي عَبْدِي هَذَا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَهُوَ إِقْرَارٌ مِنْهُ لِلْقَائِلِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدِي هَذَا، فَقَالَ: نَعَمْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ خِلَافٌ مِمَّا سَبَقَ فِي الصُّلْحِ، كَقَوْلِهِ: بِعْنِيهِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ، وَلَمْ يَقُلْ: عَبْدِي، فَالتَّصْدِيقُ بِـ «نَعَمْ» يَقْتَضِي الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَهُ، لَا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَبْدَ. وَلَوِ ادَّعَى عَلَيهِ عَبْدًا، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْ وَكِيلِكَ فُلَانٍ، فَهُوَ إِقْرَارٌ لَهُ، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مَا وَكَّلَ فُلَانًا فِي بَيْعٍ. الْخَامِسَةُ: لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ فِي عِلْمِي، أَوْ فِيمَا أَعْلَمُ، أَوْ أَشْهَدُ، فَهِيَ إِقْرَارٌ. السَّادِسَةُ: قَالَ: كَانَ عَلَيَّ أَلْفٌ، أَوْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ لَهُ، فَهَلْ هُوَ إِقْرَارٌ فِي الْحَالِ عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَرِفٍ فِي الْحَالِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصَحُّهُمَا الثَّانِيَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى تَصْحِيحِهِ الْجُرْجَانِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْخِلَافُ، فِيمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ دَارِي أَسْكَنْتُ فِيهَا فُلَانًا، ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ

مِنْهَا، فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالْيَدِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِثُبُوتِهَا وَادَّعَى زَوَالَهَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الزَّجَّاجِيُّ: لَيْسَ بِإِقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِيَدِ فُلَانٍ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ. وَلَوْ قَالَ: مَلَكْتُهَا مِنْ زِيدٍ، فَهُوَ إِقْرَارٌ، بِمِلْكِهَا لِزَيْدٍ، وَدَعْوَى انْتِقَالِهَا مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ زَيْدٌ، لَزِمَهُ رَدُّهَا إِلَيهِ. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ: مَلَكْتُهَا عَلَى يَدِ زَيْدٍ، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: كَانَ زَيْدٌ وَكِيلًا، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ: قَالَ: اقْضِ الْأَلْفَ الَّذِي لِي عَلَيْكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَإِقْرَارٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَتَرَدَّدَ فِيهِ بَعْضُهُمْ. وَإِنْ قَالَ: أَعْطِي غَدًا، أَوِ ابْعَثْ مَنْ يَأْخُذُهُ، أَوْ أَمْهِلْنِي يَوْمًا، أَوْ أَمْهِلْنِي حَتَّى أَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ أَوْ أَفْتَحَ الصُّنْدُوقَ، أَوِ اقْعُدْ حَتَّى تَأْخُذَ، أَوْ لَا أَجِدُ الْيَوْمَ، أَوْ لَا تُدِمِ الْمُطَالَبَةَ، أَوْ مَا أَكْثَرَ مَا تَتَقَاضَى، أَوْ وَاللَّهِ لَأَقْضِيَنَّكَ، فَجَمِيعُ هَذِهِ الصُّوَرِ إِقْرَارٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَمُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَالْمَيْلُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ أَكْثَرُ. وَمِثْلُهُ: أَسْرِجْ دَابَّةَ فُلَانٍ هَذِهِ، فَقَالَ: نَعَمْ. أَوْ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ أَنَّ لِي عَلَيْكَ أَلْفًا فَقَالَ: نَعَمْ، أَوْ مَتَى تَقْضِي حَقِّي؟ فَقَالَ: غَدًا. الثَّامِنَةُ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: غَصَبْتَ ثَوْبِي. فَقَالَ: مَا غَصَبْتُ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَكَ وَلَا بَعْدَكَ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ. وَلَوْ قَالَ: مَا لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: تَلْزَمُ الْمِائَةُ. وَلَوْ قَالَ مُعْسِرٌ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ تَعَالَى مَالًا، فَقِيلَ: لَيْسَ بِإِقْرَارٍ لِلتَّعْلِيقِ، وَقِيلَ: إِقْرَارٌ، وَذَلِكَ بَيَانٌ لِوَقْتِ الْأَدَاءِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُسْتَفْسَرُ، فَإِنْ فَسَّرَ بِالتَّأْجِيلِ، صَحَّ، وَإِنْ فَسَّرَ بِالتَّعْلِيقِ لَغَا.

قُلْتُ: وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِفْسَارُهُ قَالَ فِي «الْعُدَّةِ» : الْأَصَحُّ أَنَّهُ إِقْرَارٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ: شَهِدَ عَلَيهِ شَاهِدٌ، فَقَالَ: هُوَ صَادِقٌ، أَوْ عَدْلٌ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ. وَإِنْ قَالَ: صَادِقٌ فِيمَا شَهِدَ بِهِ، أَوْ عَدْلٌ فِيهِ، كَانَ إِقْرَارًا، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . قُلْتُ: فِي لُزُومِهِ بِقَوْلِهِ: عَدْلٌ، نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ قَالَ: إِنْ شَهِدَ عَلَيَّ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، أَوْ شَاهِدَانِ بِكَذَا، فَهُمَا صَادِقَانِ، فَهُوَ إِقْرَارٌ عَلَى الْأَظْهَرِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا. وَإِنْ قَالَ: إِنْ شَهِدَا صَدَّقْتُهُمَا، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ قَطْعًا. قُلْتُ: فِي «الْبَيَانِ» : أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لَكَ، لَا شَيْءَ عَلَيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ قَالَ: لِي مَخْرَجٌ مِنْ دَعْوَاكَ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ أَقْرَضْتُكَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا اقْتَرَضْتُ مِنْكَ غَيْرَهُ، أَوْ كَمْ تَمُنُّ بِهِ، قَالَ الصُّمَيْرِيُّ: هُوَ إِقْرَارٌ. وَإِنْ قَالَ: مَا أَعْجَبَ هَذَا، أَوْ نَتَحَاسَبُ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ. وَإِنْ كُتِبَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ لِلشُّهُودِ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ، كَمَا لَوْ كَتَبَ عَلَيهِ غَيْرُهُ، فَقَالَ: اشْهَدُوا بِمَا كَتَبَ. وَقَدْ وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى. وَوَافَقَ أَيْضًا عَلَى مَا لَوْ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ مُتُّ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ. وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْعُدَّةِ» وَ «الْبَيَانِ» ، وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ: أَنَّهُ إِقْرَارٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْعَاشِرَةُ: إِقْرَارُ أَهْلِ كُلِّ لُغَةٍ بِلُغَتِهِمْ وَغَيْرِ لُغَتِهِمْ إِذَا عَرَفُوهَا صَحِيحٌ. وَلَوْ أَقَرَّ عَجَمِيٌّ بِالْعَرَبِيَّةِ وَقَالَ: لَمْ أَفْهَمْ مَعْنَاهُ، بَلْ لُقِّنْتُ فَتَلَقَّنْتُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْرِفَهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَقَرَّ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ يَوْمَ الْإِقْرَارِ صَغِيرًا، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: كُنْتُ مَجْنُونًا وَقَدْ عُهِدَ لَهُ جُنُونٌ. وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا، وَهُنَاكَ أَمَارَةُ الْإِكْرَاهِ مِنْ حَبْسٍ، أَوْ مُوَكَّلٍ عَلَيهِ فَكَذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمَارَةٌ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. وَالْأَمَارَةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِاعْتِرَافِ الْمُقَرِّ لَهُ، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ إِذَا كَانَ الْإِقْرَارُ لِمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الْحَبْسُ وَالتَّوْكِيلُ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي حَبْسِ زَيْدٍ، فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ لِعَمْرٍو. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ، وَتَعَرَّضُوا لِبُلُوغِهِ، وَصِحَّةِ عَقْلِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، فَادَّعَى الْمُقِرُّ خِلَافَهُ لَمْ يُقْبَلْ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ الشُّهُودِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ التَّعَرُّضُ لِلْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ، وَالطَّوَاعِيَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالرُّشْدِ. وَيُكْتَفَى بِأَنَّ الظَّاهِرَ وُقُوعُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ الصَّحِيحِ. وَفِي قَوْلٍ: يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِحُرِّيَّةِ مَجْهُولِ الْحُرِّيَّةِ. وَخَرَجَ مِنْهُ اشْتِرَاطُ التَّعَرُّضِ لِسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَمَا يُكْتَبُ فِي الْوَثَائِقِ أَنَّهُ أَقَرَّ طَائِعًا فِي صِحَّةِ عَقْلِهِ وَبُلُوغِهِ احْتِيَاطٌ. وَلَوْ تَقَيَّدَتْ شَهَادَةُ الْإِقْرَارِ بِكَوْنِهِ طَائِعًا، وَأَقَامَ الشُّهُودُ عَلَيهِ بَيِّنَةً بِكَوْنِهِ كَانَ مُكْرَهًا، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْإِكْرَاهِ، وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِكْرَاهِ مُطْلَقًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّفْصِيلِ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي الْإِقْرَارِ بِالْمُجْمَلِ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِالْمُجْمَلِ، وَهُوَ الْمَجْهُولُ لِلْحَاجَةِ. وَسَوَاءٌ أَقَرَّ بِهِ ابْتِدَاءً، أَوْ جَوَابًا عَنْ دَعْوَى مَعْلُومَةٍ، بِأَنْ قَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَقَالَ: لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ. وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الْجَهَالَةُ لَا تَنْحَصِرُ. وَبَيَّنَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ، لِيُعْرَفَ وَيُقَاسَ عَلَيهِ غَيْرُهُ، وَأَلْفَاظُ الْبَابِ سَبْعَةُ أَضْرُبٍ. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: شَيْءٌ. فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ، طَلَبْنَا تَفْسِيرَهُ. فَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا يُتَمَوَّلُ، قُبِلَ، كَثُرَ أَمْ قَلَّ، كَرَغِيفٍ، وَفِلْسٍ، وَتَمْرَةٍ حَيْثُ يَكُونُ لَهَا قِيمَةٌ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَا يُتَمَوَّلُ، لَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّلُ، كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ، أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ قُمْعِ بَاذِنْجَانَةٍ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ، كَمَا لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى بِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ، وَيَجِبُ عَلَى آخِذِهِ رَدُّهُ، وَقَوْلُهُمْ: لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى بِهِ، مَمْنُوعٌ. وَالتَّمْرَةُ أَوِ الزَّبِيبَةُ حَيْثُ لَا قِيمَةَ لَهَا، عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَقِيلَ: يُقْبَلُ قَطْعًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّلُ، فَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ اقْتِنَاؤُهُ لِمَنْفَعَتِهِ، وَإِمَّا لَا. فَالْأَوَّلُ: كَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، وَالسَّرْجَيْنِ، وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ الْقَابِلِ لِلدِّبَاغِ، وَالْكَلْبِ الْقَابِلِ لِلتَّعْلِيمِ، وَالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمَةِ، فَيُقْبَلُ التَّفْسِيرُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَالْخِنْزِيرِ، وَجِلْدِ الْكَلْبِ، وَالْكَلْبِ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ، وَالْخَمْرِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمَةِ، فَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ فَسَّرَهُ بِوَدِيعَةٍ، قُبِلَ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ عَلَيهِ رَدَّهَا عِنْدَ الطَّلَبِ، وَقَدْ يَتَعَدَّى فَتَصِيرُ مَضْمُونَةً، وَقِيلَ: لَا، لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ،

فصل

لَا عَلَيهِ. وَلَوْ فَسَّرَ بِحَقِّ الشُّفْعَةِ، قُبِلَ. وَلَوْ فَسَّرَهُ بِرَدِّ السَّلَامِ وَالْعِيَادَةِ، لَمْ يُقْبَلْ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لَهُ حَقٌّ، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِهِمَا، وَفِيهِ نَظَرٌ. قُلْتُ: وَلَوْ فَسَّرَ الشَّيْءَ بِحَدِّ قَذْفٍ، قُبِلَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ: غَصَبْتُ مِنْهُ شَيْئًا، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ مَا يُقْبَلُ فِي الصُّوَرِ السَّابِقَةِ إِذَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ، احْتِرَازًا مِنَ الْوَدِيعَةِ وَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَيُقْبَلُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، نَصَّ عَلَيهِ فِي «الْأُمِّ» ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يُشْعِرُ بِالْتِزَامٍ وَثُبُوتِ مَالٍ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْأَخْذَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: عَلَيَّ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي شَيْءٌ، وَفَسَّرَ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، قُبِلَ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ: غَصَبْتُكَ، أَوْ غَصَبْتُكَ مَا تَعْلَمُ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْصِبُهُ نَفْسَهُ، فَيَحْبِسُهُ. وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُكَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ نَفْسَكَ، لَمْ يُقْبَلْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا أَقَرَّ بِمُجْمَلٍ، إِمَّا شَيْءٌ، وَإِمَّا غَيْرُهُ، مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَطَالَبْنَاهُ بِالتَّفْسِيرِ، فَامْتَنَعَ، فَأَرْبَعَةُ أوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: نَحْبِسُهُ كَحَبْسِنَا مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ وَاجِبٌ عَلَيهِ. وَالثَّانِي: لَا يُحْبَسُ، بَلْ يُنْظَرُ، إِنْ وَقَعَ الْإِقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى، وَامْتَنَعَ مِنَ التَّفْسِيرِ، جُعِلَ مُنْكِرًا، وَتُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَيهِ. فَإِنْ أَصَرَّ، جُعِلَ نَاكِلًا، وَحَلَفَ الْمُدَّعِي. وَإِنْ أَقَرَّ ابْتِدَاءً، قُلْنَا لِلْمُقَرِّ لَهُ: ادَّعِ عَلَيهِ حَقَّكَ، فَإِذَا ادَّعَى، وَأَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ، أَوْ أَنْكَرَ، أَجْرَيْنَا عَلَيهِ حُكْمَهُ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَدْرِي،

جَعَلْنَاهُ مُنْكِرًا، فَإِنْ أَصَرَّ، جَعَلْنَاهُ نَاكِلًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ حُصُولُ الْغَرَضِ بِلَا حَبْسٍ، لَا يُحْبَسُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَقَرَّ بِغَصْبٍ، وَامْتَنَعَ مِنْ بَيَانِ الْمَغْصُوبِ، حُبِسَ. وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُبْهَمٍ، فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي. وَالرَّابِعُ: إِنْ قَالَ: عَلَيَّ شَيْءٌ، وَامْتَنَعَ مِنَ التَّفْسِيرِ، لَمْ يُحْبَسْ. وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ ثَوْبٌ، أَوْ فِضَّةٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ، حُبِسَ، قَالَهُ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ، وَأَشَارَ فِي شَرْحِ كَلَامِهِ إِلَى أَنَّ الْفَرْقَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَبُولِ تَفْسِيرِ الشَّيْءِ بِالْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَوَجَّهُ بِذَلِكَ مُطَالَبَةٌ وَحَبْسٌ. فَرْعٌ إِذَا فُسِّرَ الْمُبْهَمُ بِتَفْسِيرٍ صَحِيحٍ، وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيُبَيِّنْ جِنْسَ الْحَقِّ وَقَدْرَهُ، وَلْيَدْعُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ فِي نَفْيهِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، بِأَنْ فَسَّرَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لِي عَلَيْكَ مِائَتَانِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى إِرَادَةِ الْمِائَةِ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَيَحْلِفُ لِيُقِرَّ عَلَى نَفْيِ الزِّيَادَةِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَادَ بِهِ الْمِائَتَيْنِ، حَلَفَ الْمُقِرُّ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْمِائَتَيْنِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيهِ إِلَّا مِائَةٌ، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ: لَا بُدَّ مِنْ يَمِينَيْنِ. فَلَوْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِائَتَيْنِ، وَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْإِرَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا مَاتَ الْمُقِرُّ، وَفَسَّرَ الْوَارِثُ، فَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ زِيَادَةً، فَيَحْلِفُ الْوَارِثُ عَلَى نَفْيِ إِرَادَةِ الْمُورَثِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَطَّلِعُ مِنْ حَالِ مُورِثِهِ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيهِ غَيْرُهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَمِثْلُهُ: لَوْ أَوْصَى بِمُجْمَلٍ وَمَاتَ، فَفَسَّرَهُ الْوَارِثُ، وَزَعَمَ الْمُوصَى لَهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ، يَحْلِفُ الْوَارِثُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِاسْتِحْقَاقِ الزِّيَادَةِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْإِرَادَةِ. وَالْفَرْقُ، أَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ، وَقَدْ يَطَّلِعُ عَلَيهِ، وَالْوَصِيَّةُ إِنْشَاءُ أَمْرٍ عَلَى الْجَهَالَةِ، وَبَيَانُهُ: إِذَا مَاتَ (الْمُوصِي) إِلَى الْوَارِثِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُقِرُّ، فَيُنْظَرُ، إِنْ صَدَّقَهُ فِي الْإِرَادَةِ، فَقَالَ: هُوَ ثَابِتٌ لِي عَلَيهِ، وَلِي عَلَيهِ مَعَ ذَلِكَ كَذَا، ثَبَتَ الْمُتَّفَقُ

عَلَيهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ فِي نَفْيِ غَيْرِهِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْإِرَادَةِ، وَقَالَ: لَيْسَ لِي عَلَيهِ مَا فَسَّرَ بِهِ، إِنَّمَا لِي عَلَيهِ كَذَا، بَطَلَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ بِرَدِّهِ، وَكَانَ مُدَّعِيًا عَلَيهِ فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي دَعْوَى الْإِرَادَةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَادَ مَا ادَّعَيْتُهُ، حَلَفَ الْمُقِرُّ عَلَى نَفْيِ الْإِرَادَةِ، وَبَقِيَ مَا يَدَّعِيهِ. ثُمَّ إِنْ كَذَّبَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ بِهِ، بَطَلَ الْإِقْرَارُ فِيهِ، وَإِلَّا فَيَثْبُتُ. وَلَوِ اقْتَصَرَ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى دَعْوَى الْإِرَادَةِ، وَقَالَ: مَا أَرَدْتُ بِكَلَامِكَ مَا فَسَّرْتُهُ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ كَذَا، إِمَّا مِنْ جِنْسِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَالْإِرَادَةَ لَا يَثْبُتَانِ حَقًّا لَهُ، بَلِ الْإِقْرَارُ إِخْبَارٌ عَنْ سَابِقٍ، فَعَلَيهِ أَنْ يَدَّعِيَ الْحَقَّ نَفْسَهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ تُقْبَلُ دَعْوَى الْإِرَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهُوَ كَالْخِلَافِ فِي أَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَى خَصْمِهِ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، هَلْ تُسْمَعُ؟ أَمْ عَلَيهِ أَنْ يَدَّعِيَ نَفْسَ الْأَلْفِ؟ أَمَّا إِذَا ضُمَّ إِلَى الْإِرَادَةِ دَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ، فَيَحْلِفُ الْمُقِرُّ عَلَى نَفْيِهِمَا عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. وَاتَّفَقَتِ الطُّرُقُ عَلَيهِ. فَرْعٌ مَاتَ الْمُبْهِمُ قَبْلَ التَّفْسِيرِ، طُولِبَ بِهِ الْوَارِثُ. فَإِنِ امْتَنَعَ، فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُوقَفُ مِمَّا تُرِكَ أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ. وَأَظْهَرُهُمَا: يُوقَفُ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَهِنٌ بِالدَّيْنِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَالٌ. فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِأَقَلِّ مَا يُتَمَوَّلُ، وَلَا يُقْبَلُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالْكَلْبِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ: الْقَبُولُ بِالتَّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ حَيْثُ يَكْثُرُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يُتَمَوَّلْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَقَالُوا: كُلُّ مُتَمَوَّلٍ مَالٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ. وَتَلْتَحِقُ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ بِالتَّمْرَةِ. وَفِي قَبُولِ التَّفْسِيرِ بِالْمُسْتَوْلَدَةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَبُولُ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِوَقْفٍ عَلَيهِ،

فَيُشْبِهُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمِلْكِ فِي رَقَبَةِ الْوَقْفِ، هَلْ هُوَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيهِ؟ فَرْعٌ إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ، أَوْ كَثِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ، أَوْ جَلِيلٌ، أَوْ نَفِيسٌ، أَوْ خَطِيرٌ، أَوْ غَيْرُ تَافِهٍ، أَوْ مَالٌ، وَأَيُّ مَالٍ، قُبِلَ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَقَلِّ مَا يُتَمَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ عَظِيمَ خَطَرِهِ بِكُفْرِ مُسْتَحِلِّهِ، وَإِثْمِ غَاصِبِهِ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَصْلُ مَا أَبْنِي عَلَيهِ الْإِقْرَارَ، أَنْ لَا أَلْزَمَ إِلَّا الْيَقِينَ، وَأَطْرَحَ الشَّكَ، وَلَا أَسْتَعْمِلَ الْغَلَبَةَ. وَحُكِيَ وَجْهٌ غَرِيبٌ: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَزِيدَ تَفْسِيرُ مَالٍ عَظِيمٍ عَلَى تَفْسِيرِ مُطْلَقِ الْمَالِ، لِيُكُونَ لِوَصْفِهِ بِالْعِظَمِ فَائِدَةٌ. وَلَوْ قَالَ: مَالٌ حَقِيرٌ، أَوْ قَلِيلٌ، أَوْ خَسِيسٌ، أَوْ طَفِيفٌ، أَوْ تَافِهٌ، أَوْ نَزْرٌ، أَوْ يَسِيرٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَالٌ. وَتُحْمَلُ هَذِهِ الصِّفَاتُ عَلَى احْتِقَارِ النَّاسِ إِيَّاهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَانٍ. فَرْعٌ قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ مَالٌ أَكْثَرُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ، يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِأَقَلِّ مُتَمَوِّلٍ وَإِنْ كَثُرَ مَالُ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَكْثَرُ لِكَوْنِهِ حَلَالًا، وَذَلِكَ حَرَامٌ أَوْ نَحْوُهُ. قُلْتُ: وَسَوَاءٌ عُلِمَ مَالُ فُلَانٍ، أَمْ لَمْ يُعْلَمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَمَا أَنَّ الْقَدْرَ مُبْهَمٌ، فَكَذَلِكَ الْجِنْسُ وَالنَّوْعُ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَبِ أَكْثَرُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ عَدَدًا، فَالْإِبْهَامُ فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَبِ أَكْثَرُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ، فَالْإِبْهَامُ فِي الْقَدْرِ وَالنَّوْعِ. وَلَوْ قَالَ: مِنْ صِحَاحِ الذَّهَبِ، فَالْإِبْهَامُ فِي الْقَدْرِ وَحْدَهُ. وَلَوْ قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ مَالٌ أَكْثَرُ مِمَّا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ عَلَى فُلَانٍ،

قُبِلَ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَقَلِّ مُتَمَوِّلٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْتَقِدَهُمْ شُهُودَ زُورٍ، وَيَقْصِدُ أَنَّ الْقَلِيلَ الْحَلَالَ أَكْثَرُ بَرَكَةً مِنْ كَثِيرٍ يُؤْخَذُ بِالْبَاطِلِ. وَلَوْ قَالَ: أَكْثَرُ مِمَّا قَضَى بِهِ الْقَاضِي عَلَى فُلَانٍ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ الْقَدْرُ الْمَقْضِيُّ بِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِّ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَالشَّهَادَةِ، فَيُقْبَلُ أَقَلُّ مُتَمَوِّلٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْضِي بِشَهَادَةِ كَاذِبَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا فِي يَدِ فُلَانٍ، قُبِلَ أَقَلُّ مُتَمَوِّلٍ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا فِي يَدِ فُلَانٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ، لَمْ يَلْزَمْهُ التَّفْسِيرُ بِجِنْسِ الدَّرَاهِمِ، لَكِنْ يَلْزَمُ بِذَلِكَ الْعَدَدُ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ فُسِّرَ، وَزِيَادَةُ أَقَلِّ مُتَمَوِّلٍ، كَذَا قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» ، وَهُوَ مُخَالِفٌ مَا سَبَقَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِلْزَامُ ذَلِكَ الْعَدَدِ. وَالثَّانِي: إِلْزَامُ زِيَادَةٍ؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِلْأَكْثَرِيَّةِ، بِنَفْيِهِمَا جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي يَدِ فُلَانٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَكَانَ فِي يَدِ فُلَانٍ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَزِيَادَةُ أَقَلِّ مَا يُتَمَوَّلُ. وَالْأَصَحُّ: مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ، حَمْلًا لِلْأَكْثَرِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ: أَنَّهُ لَوْ فَسَّرَهُ بِمَا دَونَ الثَّلَاثَةِ، قُبِلَ أَيْضًا. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَقَالَ الْمُقِرُّ: لَمْ أَعْلَمْ، وَظَنَنْتُهَا ثَلَاثَةً، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: كَذَا. فَإِذَا قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ كَذَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَهُ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا كَذَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: كَذَا، وَالتَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، لَزِمَهُ التَّفْسِيرُ بِشَيْئَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ، بِحَيْثُ يُقْبَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ كَذَا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ شَيْءٌ شَيْءٌ، أَوْ شَيْءٌ وَشَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا دِرْهَمٍ، يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ فَقَطْ، وَكَانَ الدِّرْهَمُ تَفْسِيرُ مَا أَبْهَمَهُ. وَفِي وَجْهٍ لِأَبِي إِسْحَاقَ: يَلْزَمُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا إِنْ كَانَ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ اسْمٍ مُفْرَدٍ يَنْتَصِبُ الدِّرْهَمُ الْمُفَسِّرُ بَعْدَهُ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: هُوَ الْأَوَّلُ. وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ، بِأَنَّ فِي تَفْسِيرِ الْمُبْهَمِ لَا يُنْظَرُ إِلَى الْإِعْرَابِ. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمٍ

فصل

صَحِيحٍ، لَا يَلْزَمُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ صِفَةِ الصِّحَّةِ، لَزِمَهُ أَيْضًا دِرْهَمٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: بَعْضُ دِرْهَمٍ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا دِرْهَمٌ، بِالرَّفْعِ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا دِرْهَمٍ، وَوَقَفَ عَلَيهِ سَاكِنًا، فَكَالْمَخْفُوضِ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا كَذَا دِرْهَمًا، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ فَقَطْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا إِنْ عَرَفَ الْعَرَبِيَّةَ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا كَذَا دِرْهَمٍ، أَوْ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ فَقَطْ. وَيَجِيءُ فِي الْمَخْفُوضِ الْوَجْهُ السَّابِقُ بِبَعْضِ دِرْهَمٍ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي قَوْلٍ: دِرْهَمٌ. وَفِي قَوْلٍ: دِرْهَمٌ وَشَيْءٌ. وَفِي وَجْهٍ لِأَبِي إِسْحَاقَ: وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا إِنْ عَرَفَ الْعَرَبِيَّةَ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمٌ، بِالرَّفْعِ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ فَقَطْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. ثَانِيهُمَا: دِرْهَمَانِ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمٍ، بِالْخَفْضِ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ فَقَطْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَبَعْضُ دِرْهَمٍ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بَعْضُ دِرْهَمٍ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا كَرَّرَ مَرَّتَيْنِ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ، لَزِمَهُ هُنَا ثَلَاثَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: دِرْهَمٌ، فَكَذَا هُنَا. فَصْلٌ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ، أَوْ وَدَرَاهِمُ، أَوْ أَلْفٌ وَثَوْبٌ، أَوْ أَلْفٌ وَعَبْدٌ، فَلَهُ تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ جِنْسِ مَا عُطِفَ عَلَيهِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَكُلُّهَا دَرَاهِمُ. وَلَوْ قَالَ: خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، فَكُلُّهَا دَرَاهِمُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ، وَالْإِصْطَخْرِيُّ: الْعِشْرُونَ دَرَاهِمَ وَالْخَمْسَةُ مُجْمَلَةٌ تُفَسِّرُهَا. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ قَوْلُهُ: مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَقَوْلُهُ: أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ، وَقَوْلُهُ: مِائَةٌ وَأَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَقَوْلُهُ: مِائَةٌ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ، أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ

وَنِصْفٌ، فَالْكُلُّ دَرَاهِمُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ: النِّصْفُ مُجْمَلَةٌ. وَلَوْ قَالَ: نَصِفٌ وَدِرْهَمٌ، فَالنِّصْفُ مُجْمَلٌ. وَلَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ، فَالْمِائَةُ مُجْمَلَةٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْكُلِّ، وَالْحِنْطَةُ لَا تَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مِائَةُ حِنْطَةٍ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، بِرَفْعِهِمَا وَتَنْوِينِهِمَا، فَسَّرَ الْأَلْفَ بِمَا لَا يَنْقُصُ قِيمَتُهُ عَنْ دِرْهَمٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: الْأَلْفُ مِمَّا قِيمَةُ الْأَلْفِ مِنْهُ دِرْهَمٌ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: دِرْهَمٌ. قَدْ ذَكَرْنَا فِي الزَّكَاةِ أَنَّ دَرَاهِمَ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَبَرَ بِهَا نُصُبُ الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ وَغَيْرِهَا، كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَكُلُّ دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ. وَنَزِيدُ الْآنَ، أَنَّ الدَّانِقَ: ثَمَانِي حَبَّاتٍ وَخُمُسَا حَبَّةٍ، فَيَكُونُ الدِّرْهَمُ خَمْسِينَ حَبَّةً وَخُمُسَيْ حَبَّةٍ، وَالْمُرَادُ: حَبَّةُ الشَّعِيرِ الْمُتَوَسِّطَةُ الَّتِي لَمْ تُقَشَّرْ، لَكِنْ قُطِعَ مِنْ طَرَفَيْهَا مَا دَقَّ وَطَالَ، وَالدِّينَارُ: اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّةً مِنْهَا، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَفِي الْحِلْيَةِ لِلْرُّويَانِيِّ، أَنَّ الدَّانِقَ ثَمَانِي حَبَّاتٍ، فَيَكُونُ الدِّرْهَمُ ثَمَانِيَ وَأَرْبَعِينَ حَبَّةً. فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، أَوْ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ: هِيَ نَاقِصَةٌ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ دَرَاهِمُهُ تَامَّةٌ، وَذَكَرَهُ مُتَّصِلًا، قُبِلَ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا لَوِ اسْتَثْنَى. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: فِي قَبُولِهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ. وَإِنْ كَانَ ذَكَرَهُ مُنْفَصِلًا، لَمْ يُقْبَلْ، وَلَزِمَهُ دَرَاهِمُ الْإِسْلَامِ، إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الدِّرْهَمِ صَرِيحٌ فِيهِ وَضْعًا وَعُرْفًا. وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ دَرَاهِمُهُ نَاقِصَةٌ، قُبِلَ إِنْ ذَكَرَهُ مُتَّصِلًا قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ ذَكَرَهُ مُنْفَصِلًا عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ، فِيمَنْ أَقَرَّ

فِي بَلَدٍ وَزْنَ دَرَاهِمِهِ أَكْثَرَ مِنْ دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ، مِثْلَ غَزْنَةَ، هَلْ يُحْمَلُ عَلَى دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، أَوِ الْإِسْلَامِ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَقَالَ: عَنَيْتُ دَرَاهِمَ الْإِسْلَامِ، مُنْفَصِلًا، لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا، فَعَلَى الطَّرِيقَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ: الْقَبُولُ. فَرْعٌ الدِّرْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّقْرَةِ. فَلَوْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ، وَفَسَّرَهَا بِفُلُوسٍ، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ فَسَّرَهَا بِمَغْشُوشَةٍ، فَكَالتَّفْسِيرِ بِالنَّاقِصَةِ؛ لِأَنَّ نَقْرَتَهَا تَنْقُصُ عَنِ التَّامَّةِ، فَيَعُودُ فِيهِ التَّفْصِيلُ فِي النَّاقِصَةِ. وَلَوْ فَسَّرَ بِجِنْسٍ رَدِيءٍ مِنَ الْفِضَّةِ، أَوْ قَالَ: أَرَدْتُ مِنْ سَكَّةِ كَذَا، وَهِيَ جَارِيَةٌ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، قُبِلَ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِرَدِيءٍ، أَوْ بِمَا لَا يَعْتَادُ أَهْلُ الْبَلَدِ لَبْسَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ فَسَّرَ بِنَاقِصَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ شَيْئًا مِمَّا أَقَرَّ بِهِ، وَيُخَالِفُ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى سَكَّةِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّهُ إِنْشَاءُ مُعَامَلَةٍ. وَالْغَالِبُ أَنَّ الْمُعَامَلَةَ فِي كُلِّ بَلَدٍ بِمَا يَرُوجُ فِيهِ. وَالْإِقْرَارُ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ، وَرُبَّمَا ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ بِبَلَدٍ آخَرَ، فَوَجَبَ قَبُولُ تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ سَكَّةِ الْبَلَدِ، وَوَافَقَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا. فَرْعٌ إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ أَوْ دُرَيْهِمَاتٌ، أَوْ دِرْهَمٌ صَغِيرٌ، أَوْ دَرَاهِمُ صِغَارٌ، فَفِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: دِرْهَمٌ أَوْ دَرَاهِمُ، فَيَعُودُ فِي تَفْسِيرِهِ بِالنَّقْصِ التَّفْصِيلُ السَّابِقُ، وَلَيْسَ التَّقْيِيدُ بِالصَّغِيرِ كَالتَّقْيِيدِ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الدَّرَاهِمِ صَرِيحٌ

فصل

فِي الْوَزْنِ، وَالْوَصْفِ بِالصَّغِيرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّكْلِ، وَيَجُوزُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: يَلْزَمُهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ الطَّبَرِيَّةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ. وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ بَلَدٍ وَبَلَدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُتَيَقَّنُ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ كَبِيرٌ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: دِرْهَمٌ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ أَوْزَانُهُمْ نَاقِصَةٌ أَوْ تَامَّةٌ، لَزِمَهُ دِرْهَمُ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَتْ أَوْزَانُهُمْ زَائِدَةً، لَزِمَهُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَفِي إِلْزَامِهِ نَقْدَ الْبَلَدِ إِشْكَالٌ. فَرْعٌ إِذَا قَالَ: عَلَيَّ دَرَاهِمُ، لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ، وَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا. وَلَوْ قَالَ: دَرَاهِمُ عَظِيمَةٌ، أَوْ كَثِيرَةٌ، فَثَلَاثَةٌ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ فِي «مَالٍ عَظِيمٍ» . وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَقَلُّ أَعْدَادِ الدَّرَاهِمِ، لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ. وَلَوْ قَالَ: مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدٌ، لَزِمَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ الْإِسْلَامِ صِحَاحٌ. قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ سِتَّةَ دَوَانِيقَ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ. وَلَا يُقْبَلُ مِائَةٌ بِالْعَدَدِ نَاقِصَةُ الْوَزْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَقْدُ الْبَلَدِ عَدَدِيَّةً نَاقِصَةً، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْقَبُولُ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ مِائَةٌ عَدَدٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ، اعْتُبِرَ الْعَدَدُ دُونَ الْوَزْنِ. فَصْلٌ قَالَ: عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، لَزِمَهُ تِسْعَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالْغَزَالِيِّ. وَقِيلَ: عَشَرَةٌ، وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذَا الْجِدَارِ إِلَى هَذَا الْجِدَارِ، لَا يَدْخُلُ الْجِدَارَانِ فِي الْبَيْعِ. وَاحْتَجَّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ لِلْأَوَّلِ، بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ إِلَى هَذِهِ النَّخْلَةِ، تَدْخُلُ الْأُولَى فِي الْإِقْرَارِ دُونَ

فصل

الْأَخِيرَةِ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَدْخُلَ الْأُولَى أَيْضًا، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ مِنْ هَذَا الْجِدَارِ إِلَى هَذَا الْجِدَارِ. وَلَوْ قَالَ: مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ثَمَانِيَةٌ، وَهُوَ نَصُّهُ. وَقِيلَ: تِسْعَةٌ، وَنَقَلَهُ فِي الْمِفْتَاحِ عَنْ نَصِّهِ. وَقِيلَ: عَشَرَةٌ، حَكَاهُ أَبُو خَلَفٍ السُّلَمِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ. وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَوْلِهِ: مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، وَقَوْلُهُ: مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ. وَرُبَّمَا سَوَّوْا بَيْنَهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ، فَيَقْطَعَ بِالثَّمَانِيَةِ فِي الصِّيغَةِ الْأَخِيرَةِ. قُلْتُ: الْقَطْعُ بِالثَّمَانِيَةِ، هُوَ الصَّوَابُ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يُفَرِّقُوا - غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَقَدْ فَرَّقَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ، فَقَطَعَ بِالثَّمَانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ. وَذَكَرَ الْأَوْجُهَ فِيمَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي عَشَرَةٍ، إِنْ أَرَادَ الظَّرْفَ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ فَقَطْ. وَإِنْ أَرَادَ الْحِسَابَ، فَعَشَرَةٌ. وَإِنْ أَرَادَ بِـ «فِي» : «مَعَ» ; لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَدِرْهَمٌ. وَحُكِيَ قَوْلٌ فِي مِثْلِهِ فِي الطَّلَاقِ: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحِسَابِ، وَهُوَ جَارٍ هُنَا. الضَّرْبُ الْخَامِسُ: الظَّرْفُ. الْأَصْلُ فِي هَذَا، أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالظُّرُوفِ لَيْسَ إِقْرَارًا بِالْمَظْرُوفِ. وَكَذَا عَكْسُهُ، وَدَلِيلُهُ، الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ. أَمَّا إِذَا قَالَ: لَهُ عِنْدِي زَيْتٌ فِي جَرَّةٍ، أَوْ سَيْفٌ فِي غِمْدٍ، أَوْ ثَوْبٌ فِي مَنْدِيلٍ، أَوْ تَمْرٌ فِي جِرَابٍ، أَوْ لَبَنٌ فِي كُوزٍ، أَوْ طَعَامٌ فِي سَفِينَةٍ، أَوْ غَصَبْتُهُ زَيْتًا فِي جَرَّةٍ، فَهُوَ مُقِرٌّ بِالْمَظْرُوفِ فَقَطْ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي غِمْدٌ فِيهِ سَيْفٌ، وَجَرَّةٌ فِيهَا زَيْتٌ، وَجِرَابٌ فِيهِ تَمْرٌ، وَسَفِينَةٌ فِيهَا طَعَامٌ، فَإِقْرَارٌ بِالظَّرْفِ فَقَطْ. وَلَوْ قَالَ: فَرَسٌ فِي إِصْطَبْلٍ، أَوْ حِمَارٌ

عَلَى ظَهْرِهِ إِكَافٌ، أَوْ دَابَّةٌ عَلَيْهَا سَرْجٌ أَوْ زِمَامٌ، وَعَبْدٌ عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ، أَوْ فِي وَسَطِهِ مِنْطَقَةٌ، أَوْ فِي رِجْلِهِ خُفٌّ، أَوْ عَلَيْهِ قَمِيصٌ، فَإِقْرَارٌ بِالدَّابَّةِ وَالْعَبْدِ فَقَطْ. وَلَوْ قَالَ: عِمَامَةٌ عَلَى رَأْسِ عَبْدٍ، أَوْ سَرْجٌ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ، فَإِقْرَارٌ بِالْعِمَامَةِ وَالسَّرْجِ فَقَطْ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: إِذَا قَالَ: عَبْدٌ عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ، أَوْ فِي رِجْلِهِ خُفٌّ، فَإِقْرَارٌ بِهِمَا مَعَ الْعَبْدِ. وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَلَوْ قَالَ: دَابَّةٌ مَسْرُوجَةٌ، أَوْ دَارٌ مَفْرُوشَةٌ، لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالسَّرْجِ وَالْفَرْشِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: بِسَرْجِهَا وَبِفَرْشِهَا، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: ثَوْبٌ مُطَرَّزٌ؛ لِأَنَّ الطِّرَازَ جُزْءٌ مِنَ الثَّوْبِ. وَقِيلَ: إِنْ رُكِّبَ فِيهِ بَعْدَ النَّسْجِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَذْكُورَيْنِ فِي أَخَوَاتِ الْمَسْأَلَةِ. وَلَوْ قَالَ: فَصٌّ فِي خَاتَمٍ، فَإِقْرَارٌ بِالْفَصِّ فَقَطْ، وَلَوْ قَالَ: خَاتَمٌ فِيهِ فَصٌّ فَفِي كَوْنِهِ مُقِرًّا أَيْضًا بِالْفَصِّ وَجْهَانِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: عِنْدِي لَهُ خَاتَمٌ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا أَرَدْتُ الْفَصَّ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْخَاتَمُ بِفَصِّهِ؛ لِأَنَّ الْخَاتَمَ تَنَاوُلَهُمَا، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْإِقْرَارُ، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: حَمْلٌ فِي بَطْنِ جَارِيَةٍ، لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالْجَارِيَةِ. وَكَذَا: نَعْلٌ فِي حَافِرِ دَابَّةٍ، وَعُرْوَةٌ عَلَى قُمْقُمَةٍ. وَلَوْ قَالَ: جَارِيَةٌ فِي بَطْنِهَا حَمْلٌ، وَدَابَّةٌ فِي حَافِرِهَا نَعْلٌ، وَقُمْقُمَةٌ عَلَيْهَا عُرْوَةٌ، فَوَجْهَانِ، كَقَوْلِهِ: خَاتَمٌ فِي فَصٍّ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الْجَارِيَةُ لِفُلَانٍ، وَكَانَتْ حَامِلًا، لَمْ يُدْخُلِ الْحَمْلُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ، فَكَانَ عَلَى حَسَبِ إِرَادَةِ الْمُخْبِرِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْحَمْلَ يَدْخُلُ فِيهِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ هَذِهِ الْجَارِيَةُ إِلَّا حِمْلَهَا، لَمْ يَدْخُلِ الْحِمْلُ قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ: ثَمَرَةٌ عَلَى شَجَرٍ، لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالشَّجَرَةِ. وَلَوْ قَالَ: شَجَرَةٌ عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ هَلْ تَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْإِقْرَارِ بِالشَّجَرَةِ؟ وَهِيَ لَا تَدْخُلُ بَعْدَ التَّأْبِيرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا قَبْلَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُهَا لُغَةً، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى الْمُعْتَادِ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ فِي ضَبْطِ الْبَابِ: أَنَّ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، دَخَلَ تَحْتَ الْإِقْرَارِ،

فصل

وَمَا لَا، فَلَا، وَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ فِي الضَّبْطِ: مَا لَا يَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، لَمْ يَدْخُلْ، وَمَا يُتْبَعُ وَيَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، دَخَلَ، وَمَا يُتْبَعُ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الِاسْمُ، فَوَجْهَانِ. فَصْلٌ إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ فِي هَذَا الْكَيْسِ، لَزِمَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ أَلْفٌ، أَمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ، يَقْتَضِي اللُّزُومَ، وَلَا يَكُونُ مُقِرًّا بِالْكَيْسِ كَمَا سَبَقَ. فَإِنْ كَانَ فِيهِ دُونَ الْأَلْفِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْأَلْفُ الَّذِي فِي هَذَا الْكَيْسِ، وَكَانَ فِيهِ دُونَ الْأَلْفِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ، فَوَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ حَلَفَ: لَيَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، وَلَا مَاءَ فِيهِ، هَلْ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَيَحْنَثُ، أَمْ لَا؟ قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِشَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَهَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ، فَيَسْأَلُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ جُنِيَ عَلَيهِ، أَوْ عَلَى مَالِهِ جِنَايَةً أَرْشُهَا أَلْفٌ، قُبِلَ وَيُعَلَّقُ الْأَرْشُ بِرَقَبَتِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ رُهِنَ عِنْدَهُ بِأَلْفٍ عَلَيَّ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَبْدِ مَحِلًّا لِلْأَلْفِ، وَمَحِلُّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ، لَا الْمَرْهُونُ. فَعَلَى هَذَا، إِذَا نَازَعَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، أَخَذْنَاهُ بِالْأَلْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَطَالَبْنَاهُ لِلْإِقْرَارِ الْمُجْمَلِ

بِتَفْسِيرٍ صَالِحٍ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَهُ تَعَلُّقٌ ظَاهِرٌ بِالْمَرْهُونِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ وَزَنَ فِي ثَمَنِهِ أَلْفًا، قِيلَ لَهُ: هَلْ وَزَنْتَ فِي ثَمَنِهِ شَيْئًا؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، فَالْعَبْدُ كُلُّهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ. وَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، سُئِلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الشِّرَاءِ، أَكَانَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: دُفْعَةً، سُئِلَ مَا قَدْرُ مَا وَزْنُ؟ فَإِنْ قَالَ: وَزَنْتُ أَلْفًا أَيْضًا، فَالْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَإِنْ قَالَ: أَلْفَيْنِ، فَلَهُ ثُلُثَا الْعَبْدِ، وَلِلْمُقَرِّ لَهُ ثَلَاثَةٌ. وَعَلَى هَذَا، الْقِيَاسِ، وَلَا نَظَرَ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْنَاهُ دُفْعَتَيْنِ وَوَزَنَ هُوَ فِي ثَمَنِ عُشْرِهِ مِثْلًا أَلْفًا، وَاشْتَرَيْتُ أَنَا تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ بِأَلْفٍ، قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ أُوصِيَ لَهُ مِنْ ثَمَنِهِ بِأَلْفٍ، قُبِلَ وَبِيعَ وَدُفِعَ إِلَيهِ مِنْ ثَمَنِهِ أَلْفٌ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ الْأَلْفِ مِنْ مَالِهِ. وَلَوْ قَالَ: دَفَعَ إِلَيَّ الْأَلْفَ لِأَشْتَرِيَ لَهُ الْعَبْدَ، فَفَعَلْتُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَالْعَبْدُ لَهُ. وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَقَدْ رَدَّ إِقْرَارَهُ بِالْعَبْدِ، وَعَلَيهِ رَدُّ الْأَلْفِ الَّذِي أَخَذَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ أَقْرَضَنِي أَلْفًا، فَصَرَفْتُهُ إِلَى ثَمَنِهِ، قُبِلَ وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ. وَتَوْجِيهُ الْخِلَافِ إِذَا أَقَرَّ بِرَهْنِهِ يَقْتَضِي عَوْدَهُ هُنَا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: فِي هَذَا الْعَبْدِ. وَلَوْ قَالَ: مِنْ ثَمَنِ هَذَا الْعَبْدِ، فَكَذَلِكَ، قَالَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، هُوَ فِيمَا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ، وَلَمْ يَقُلْ: عَلَيَّ، فَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ، كَانَ الْتِزَامًا بِكُلِّ حَالٍ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا. فَرْعٌ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي دِينَارٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَهُ أَلْفٌ فِي هَذَا الْعَبْدِ. فَإِنْ نَوَى نَفْيَ «مَعَ» لَزِمَاهُ.

فصل

قُلْتُ: وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ فَقَطْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : لَوْ قَالَ: لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، كَانَ مُقِرًّا عَلَى أَبِيهِ بِدَيْنٍ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، كَانَ هِبَةً، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ إِقْرَارًا. قَالَ الْأَصْحَابُ: النَّصَّانِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» إِشَارَةٌ إِلَى التَّسْوِيَةِ، كَأَنَّهُ نَقَلَ وَخَرَجَ. وَالْمَذْهَبُ: الْفَرْقُ. وَمِثْلُهُ، لَوْ قَالَ: لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ نَصِفُهَا، فَهُوَ إِقْرَارٌ. وَلَوْ قَالَ: فِي دَارِي نَصِفُهَا، فَهُوَ وَعْدُ هِبَةٍ، نَصَّ عَلَيْهِمَا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، كَانَ إِقْرَارًا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، كَانَ وَعْدَ هِبَةٍ، نَصَّ عَلَيْهِمَا. وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي قَوْلِهِ: لَهُ فِي مَالِي أَلْفٌ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ وَعْدُ هِبَةٍ. وَالثَّانِي: إِقْرَارٌ. وَقِيلَ: هِبَةٌ قَطْعًا. وَحَمَلُوا النَّصَّ عَلَى خَطَأِ النَّاسِخِ، وَرُبَّمَا أَوَّلُوهُ عَلَى مَا لَوْ أَتَى بِصِيغَةِ الْتِزَامٍ فَقَالَ: عَلَيَّ فِي مَالِي، فَإِنَّهُ إِقْرَارٌ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْخِلَافَ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ، طَرْدُهُ فِيمَا إِذَا قَالَ: فِي دَارِي نَصِفُهَا. وَامْتَنَعَ مِنْ طَرْدِهِ فِيمَا إِذَا قَالَ: فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» وَغَيْرِهِ، طَرْدُهُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي، أَوْلَى بِأَنْ يَجْعَلَ إِقْرَارًا مِنْ قَوْلِهِ: فِي مَالِي أَوْ فِي دَارِي؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ مَمْلُوكَةٌ لِلْوَرَثَةِ مَعَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَا، فَيَحْسُنُ إِضَافَةُ الْمِيرَاثِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، بِخِلَافِ الْمَالِ وَالدَّارِ. وَأَمَّا فَرْقُهُ فِي النَّصِّ الْأَخِيرِ، بَيْنَ «فِي» وَ «مِنْ» ، فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ، وَلَمْ يُثْبِتْ هَذَا النَّصَّ، أَوْ أَوَّلُوهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ، بِأَنَّ «فِي» يَقْتَضِي كَوْنَ مَالِ الْمُقِرِّ ظَرْفًا لِمَالِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ مَالِي، يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْوَعْدِ بِأَنَّهُ

يَقْطَعُ لَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ. وَإِذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا، لَزِمَهُ مِثْلُهُ فِي الْمِيرَاثِ قَطْعًا. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الْحُكْمَ فِي قَوْلِهِ: فِي مَالِي كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا فِي مِيرَاثِي. وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ تَخْرِيجَ الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ فِي دَارِي نَصِفُهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَضَافَ الْكُلَّ إِلَى نَفْسِهِ، لَمْ يَنْتَظِمْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِبَعْضِهِ، كَمَا لَا يَنْتَظِمُ الْإِقْرَارُ بِكُلِّهُ فِي قَوْلِهِ: دَارِي لِفُلَانٍ، وَخَصَّصَ طَرِيقَةَ الْخِلَافِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُقَرُّ بِهِ جُزْءًا مِنْ مُسَمَّى مَا أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ: فِي مَالِي أَلْفٌ، أَوْ فِي دَارِي أَلْفٌ. وَحَيْثُ قُلْنَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ: إِنَّهُ وَعْدُ هِبَةٍ، لَا إِقْرَارَ، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ كَلِمَةَ الِالْتِزَامِ فَأَمَّا إِذَا ذَكَرَهَا بِأَنْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي هَذَا الْمَالِ، أَوْ فِي مَالِي، أَوْ فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي، أَوْ فِي مِيرَاثِ أَبِي، أَوْ فِي دَارِي، أَوْ فِي عَبْدِي، أَوْ هَذَا الْعَبْدِ، فَهُوَ إِقْرَارٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي، أَوْ فِي مَالِي بِحَقٍّ لَزِمَنِي. أَوْ بِحَقٍّ ثَابِتٍ، وَمَا أَشْبَهَهُ، فَهُوَ إِقْرَارٌ بِكُلِّ حَالٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاصِّ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَغَيْرُهُمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِنَا فِي قَوْلِهِ: عَلَيَّ فِي هَذَا الْمَالِ، أَوْ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، هُوَ إِقْرَارٌ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْمَالُ أَلْفًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ فِي هَذَا الْكَيْسِ، وَكَانَ فِيهِ دُونَ الْأَلْفِ، فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا سَبَقَ، فَإِنَّ ظَرْفِيَّةَ الْعَبْدِ لِلدَرَاهِمَ، لَيْسَتْ كَظَرْفِيَّةِ الْكَيْسِ لَهَا، لَكِنْ لَوْ قَالَ: لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ، مِنْ غَيْرِ كَلِمَةِ عَلَيَّ، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ثَمَنُهُ أَلْفًا، لَمْ يَجِبْ عَلَيهِ تَتْمِيمُ الْأَلْفِ بِحَالٍ. قُلْتُ: الضَّرْبُ السَّادِسُ: التَّأْكِيدُ وَالْعَطْفُ وَنَحْوُهُمَا. وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ فَقَطْ، وَكَذَا لَوْ كَرَّرَهُ هَكَذَا أَلْفَ مَرَّةٍ فَأَكْثَرَ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ، أَوْ دِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ، لَزِمَهُ

دِرْهَمَانِ لِلْمُغَايَرَةِ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ، لَزِمَهُ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي دِرْهَمَانِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ دِرْهَمًا آخَرَ، لَزِمَهُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ تَأْكِيدَ الثَّانِي، قُبِلَ، وَلَزِمَهُ دِرْهَمَانِ فَقَطْ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ تَأْكِيدَ الْأَوَّلَ، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ. وَإِنْ أَطْلَقَ، لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: فِيهِ قَوْلَانِ كَالطَّلَاقِ، ثَانِيهُمَا دِرْهَمَانِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ، لَوْ كَرَّرَهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ فَأَكْثَرَ، لَزِمَهُ بِعَدَدِ مَا كَرَّرَ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ، ثُمَّ دِرْهَمٌ، ثُمَّ دِرْهَمٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ، ثُمَّ دِرْهَمٌ، لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ بِكُلِّ حَالٍ. الثَّانِيَةُ: قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ مَعَ دِرْهَمٍ، أَوْ مَعَهُ دِرْهَمٌ، أَوْ فَوْقَ دِرْهَمٍ، أَوْ فَوْقَهُ دِرْهَمٌ، أَوْ تَحْتَ دِرْهَمٍ، أَوْ تَحْتَهُ دِرْهَمٌ، أَوْ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، أَوْ عَلَيهِ دِرْهَمٌ، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. ثَانِيهُمَا: دِرْهَمٌ. وَقَالَ الدَّارِكِيُّ: مَعَ الْهَاءِ، دِرْهَمَانِ، وَبِحَذْفِهَا، دِرْهَمٌ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَ دِرْهَمٍ، أَوْ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ، أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ، لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. ثَانِيهُمَا: دِرْهَمٌ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ وَغَيْرُهُ: مَعَ الْهَاءِ دِرْهَمَانِ. وَبِحَذْفِهَا دِرْهَمٌ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَوْ عِنْدِي دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ، إِنْ أَرَادَ الْعَطْفَ، لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ، وَإِلَّا فَالنَّصُّ لُزُومُ دِرْهَمٍ فَقَطْ. وَنَصَّ فِي: أَنْتِ طَالِقٌ، فَطَالِقٌ، أَنَّهُ طَلْقَتَانِ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: دِرْهَمَانِ وَطَلْقَتَانِ. وَالثَّانِي: دِرْهَمٌ وَطَلْقَةٌ. وَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ فَقَفِيزُ حِنْطَةٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ فَقَطْ، أَمْ يَلْزَمَانِهِ جَمِيعًا؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ

أَنَّ قِيَاسَ مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ بِدِرْهَمٍ فَدِرْهَمٍ، يَكُونُ بَائِعًا بِدِرْهَمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إِنْشَاءٌ، لَا إِخْبَارٌ. الرَّابِعَةُ: إِذَا قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ، بَلْ دِرْهَمٌ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ فَقَطْ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ، لَا بَلْ دِرْهَمٌ، وَلَكِنْ دِرْهَمٌ، فَكَذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ، لَا بَلْ دِرْهَمَانِ، أَوْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ، لَا بَلْ قَفِيزَانِ، لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ، أَوْ قَفِيزَانِ فَقَطْ. هَذَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ. فَأَمَّا إِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي هَذَا الْقَفِيزُ، بَلْ هَذَانِ الْقَفِيزَانِ، فَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يَدْخُلُ فِي الْمُعَيَّنِ. وَكَذَا لَوِ اخْتَلَفَ جِنْسُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَعَ عَدَمَ التَّعْيِينِ، بِأَنْ قَالَ: دِرْهَمٌ بَلْ دِينَارَانِ، أَوْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ، بَلْ قَفِيزَا شَعِيرٍ، لَزِمَهُ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارَانِ، وَقَفِيزُ الْحِنْطَةِ وَقَفِيزَا الشَّعِيرِ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمَانِ بَلْ دِرْهَمٌ، أَوْ عَشَرَةٌ، بَلْ تِسْعَةٌ، لَزِمَهُ الدِّرْهَمَانِ وَالْعَشَرَةُ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْأَكْثَرِ لَا يُقْبَلُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَقَلُّ. وَلَوْ قَالَ: دِينَارٌ، بَلْ دِينَارَانِ، بَلْ ثَلَاثَةٌ، لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ. وَلَوْ قَالَ: دِينَارٌ، بَلْ دِينَارَانِ، بَلْ قَفِيزٌ، بَلْ قَفِيزَانِ، لَزِمَهُ دِينَارَانِ وَقَفِيزَانِ. وَلَوْ قَالَ: دِينَارٌ وَدِينَارَانِ، بَلْ قَفِيزٌ وَقَفِيزَانِ، لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثَلَاثَةُ أَقْفِزَةٍ، وَقِسْ عَلَيهِ مَا شِئْتَ. الضَّرْبُ السَّابِعُ: التَّكْرَارُ. الْقَوْلُ الْجُمَلِيُّ فِيهِ أَنَّ تَكَرُّرَ الْإِقْرَارِ لَا يَقْتَضِي تَكَرُّرَ الْمُقَرِّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ، وَتَعَدُّدُ الْخَبَرِ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَيَنْزِلُ عَلَى وَاحِدٍ، إِلَّا إِذَا عَرَضَ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَحْكُمُ بِالْمُغَايَرَةِ. فَإِذَا أَقَرَّ لِزَيْدٍ يَوْمَ السَّبْتَ بِأَلْفٍ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ بِأَلْفٍ، لَزِمَهُ أَلْفٌ فَقَطْ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْإِقْرَارَانِ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجْلِسَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَتَبَ بِهِ صَكًّا وَأَشْهَدَ عَلَيهِ شُهُودًا عَلَى التَّعَاقُبِ، أَوْ كَتَبَ صَكًّا بِأَلْفٍ وَأَشْهَدَ عَلَيهِ، ثُمَّ كَتَبَ صَكًّا بِأَلْفٍ وَأَشْهَدَ عَلَيهِ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي يَوْمٍ بِأَلْفٍ، وَفِي آخَرَ بِخَمْسِمِائَةٍ، دَخَلَ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ. وَلَوْ أَقَرَّ يَوْمَ السَّبْتَ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ، أَوْ قَالَ مَرَّةً: صِحَاحٍ، وَمُرَّةً: مُكَسَّرَةٍ، لَزِمَهُ أَلْفَانِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: قَبَضْتُ مِنْهُ يَوْمَ السَّبْتِ عَشَرَةً، ثُمَّ قَالَ:

قَبَضْتُ مِنْهُ يَوْمَ الْأَحَدِ عَشَرَةً، أَوْ طَلَّقَهَا يَوْمَ السَّبْتِ طَلْقَةً، ثُمَّ قَالَ: طَلَّقْتُهَا يَوْمَ الْأَحَدِ طَلْقَتَيْنِ، تَعَدَّدَ. وَلَوْ قَالَ يَوْمَ السَّبْتِ: طَلَّقْتُهَا طَلْقَةً، ثُمَّ أَقَرَّ يَوْمَ الْأَحَدِ بِطَلْقَتَيْنِ، لَمْ يَلْزَمْ إِلَّا طَلْقَتَانِ. وَلَوْ أَضَافَ أَحَدَ الْإِقْرَارَيْنِ إِلَى سَبَبٍ، أَوْ وَصَفَ الدَّرَاهِمَ بِصِفَةٍ، وَأَطْلَقَ الْإِقْرَارَ الْآخَرَ، نَزَلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُضَافِ، لِإِمْكَانِهِ. فَرْعٌ لَوْ شَهِدَ عَدْلٌ أَنَّهُ أَقَرَّ يَوْمَ السَّبْتِ بِأَلْفٍ، أَوْ بِغَصْبِ دَارٍ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ يَوْمَ الْأَحَدِ بِأَلْفٍ، أَوْ بِغَصْبِ تِلْكَ الدَّارِ، لَفَّقْنَا الشَّهَادَتَيْنِ وَاعْتَبَرْنَا الْأَلْفَ وَالْغَصْبَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُوجِبُ حَقًّا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ ثَابِتٍ، فَيُنْظَرُ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَإِلَى اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ. وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفٍ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَالْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفٍ بِالْعَجَمِيَّةِ. وَلَوْ شَهِدَ عَدْلٌ أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِمَا شَيْءٌ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَّفِقَانِ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسَ هُوَ إِخْبَارًا حَتَّى يُنْظَرَ إِلَى الْمَقْصُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَقِيلَ: فِي الْإِقْرَارَيْنِ وَالطَّلَاقَيْنِ، قَوْلَانِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ. قَالَ الْإِمَامُ: أَمَّا التَّخْرِيجُ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَى الْإِقْرَارِ، فَقَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ بَعُدَ فِي النَّقْلِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، بَلْ شَهِدَ هَذَا عَلَى إِقْرَارٍ، وَذَاكَ عَلَى إِقْرَارٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ، زِيَادَةُ التَّوَثُّقِ، وَأَمَّا التَّخْرِيجُ مِنَ الْإِقْرَارِ إِلَى الطَّلَاقِ، فَبَعِيدٌ نَقْلًا وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ مَنْ طَلَّقَ الْيَوْمَ، ثُمَّ طَلَّقَ غَدًا، وَالْمَرْأَةُ رَجْعِيَّةٌ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ طَلْقَةً وَاحِدَةً، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَجْمَعُ بَيْنَ شَهَادَةِ شَاهِدٍ عَلَى طَلَاقِ الْيَوْمِ، وَشَاهِدٍ عَلَى طَلَاقِ الْغَدِ؟ ! وَيَجْرِي التَّخْرِيجُ عَلَى ضَعْفِهِ فِي سَائِرِ الْإِنْشَاءَاتِ وَفِي الْأَفْعَالِ، كَالْقَتْلِ، وَالْقَبْضِ، وَغَيْرِهِمَا. وَالْمَذْهَبُ

الْأَوَّلُ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَ يَوْمَ السَّبْتِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَ يَوْمَ الْأَحَدِ بِالْعَجَمِيَّةِ، لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِمَا شَيْءٌ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ أَنَّهُ يَوْمَ السَّبْتِ قَذَفَهُ، أَوْ قَذَفَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَالْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ أَنَّهُ يَوْمَ الْأَحَدِ قَذَفَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ، لَمْ يُلَفِّقْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَلَوْ شَهِدَ عَدْلٌ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنٍ مَبِيعٍ، وَآخَرُ بِأَلْفٍ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ اقْتَرَضَهُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَآخَرُ بِأَلْفٍ اقْتَرَضَهُ يَوْمَ الْأَحَدِ، لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِمَا شَيْءٌ، لَكِنْ لِلْمَشْهُودِ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدَهُمَا وَيَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى بِهِ، وَيَحْلِفَ مَعَ الَّذِي يَشْهَدُ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُمَا، وَيَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ. وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنٍ مَبِيعٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مِنْ قَرْضٍ، لَمْ يَثْبُتِ الْأَلْفُ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوِ ادَّعَى أَلْفًا، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ضَمِنَ الْأَلْفَ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ ضَمِنَ خَمْسَمِائَةٍ، فَفِي ثُبُوتِ خَمْسِمِائَةٍ قَوْلَانِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ التَّخْرِيجِ فِي الْإِنْشَاءَاتِ، أَوْ هُوَ هُوَ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ شَاهِدَيِ الْمُدَّعَى عَلَيهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ، لَمْ يُلَفَّقْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ شَهِدَ الثَّانِي أَنَّهُ بَرِئَ إِلَيهِ مِنْهُ، قَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ: يُلَفَّقُ. وَقِيلَ: بِخِلَافِهِ. فَرْعٌ ادَّعَى أَلْفَيْنِ، وَشَهِدَ لَهُ عَدْلٌ بِأَلْفَيْنِ، وَآخَرُ بِأَلْفٍ، ثَبَتَ الْأَلْفُ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ بِأَلْفَيْنِ، وَيَأْخُذَ أَلْفَيْنِ. وَكَذَا الْحُكْمُ، لَوْ كَانَتِ الشَّهَادَتَانِ عَلَى الْإِقْرَارِ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِثَلَاثِينَ، وَالْآخَرُ بِعِشْرِينَ، ثَبَتَتِ الْعِشْرُونَ كَالْأَلْفِ مَعَ الْأَلْفَيْنِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَا تَثْبُتُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الثَّلَاثِينَ لَا يَشْمَلُ الْعِشْرِينَ،

فصل

وَلَفْظُ الْأَلْفَيْنِ، يَشْمَلُ الْأَلْفَ، فَرُبَّمَا سَمِعَ أَحَدُهُمَا الْأَلْفَ، وَغَفَلَ عَنْ آخِرِهِ. وَلَوِ ادَّعَى أَلْفًا، فَشَهِدَ لَهُ عَدْلٌ بِأَلْفٍ، وَآخَرُ بِأَلْفَيْنِ، فَالثَّانِي شَهِدَ بِالزِّيَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ. وَفِي مَصِيرِهِ بِذَلِكَ مَجْرُوحًا، وَجْهَانِ. إِنْ لَمْ يَصِرْ مَجْرُوحًا، فَشَهَادَتُهُ بِالزِّيَادَةِ مَرْدُودَةٌ. وَفِي الْبَاقِي قَوْلَا تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِثُبُوتِ الْأَلْفِ، وَخَصَّ الْخِلَافَ فِي التَّبْعِيضِ بِمَا إِذَا اشْتَمَلَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا يَقْتَضِي الرَّدَّ، كَمَا إِذَا شَهِدَ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ. فَأَمَّا إِذَا زَادَ عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ، فَقَوْلُهُ فِي الزِّيَادَةِ لَيْسَ شَهَادَةً، بَلْ هُوَ كَمَا لَوْ أَتَى بِالشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِيرُ مَجْرُوحًا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِ الْأَلْفِ وَيَأْخُذُهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِنَّمَا يَصِيرُ مَجْرُوحًا فِي الزِّيَادَةِ، فَأَمَّا الْأَلْفُ الْمُدَّعَى بِهِ، فَلَا حَرَجَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيهِ، لَكِنْ إِذَا رُدَّتِ الشَّهَادَةُ فِي الزَّائِدِ، كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْمُدَّعَى بِهِ عَلَى قَوْلَيِ التَّبْعِيضِ. فَإِنْ لَمْ نُبَعِّضْهَا، فَأَعَادَ الشَّهَادَةَ بِالْأَلْفِ، قُبِلَتْ، لِمُوَافَقَتِهَا الدَّعْوَى، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَةِ الدَّعْوَى عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ إِحْدَاهَا: أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ وَيُنْسَبُ إِلَيهِ، صَحَّ. فَلَوْ تَنَازَعَا فِي شَيْءٍ، هَلْ كَانَ فِي يَدِهِ حِينَئِذٍ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ، وَعَلَى الْآخَرِ الْبَيِّنَةُ. وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ لِي مِمَّا فِي يَدِي إِلَّا أَلْفٌ، صَحَّ وَعُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ. وَلَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي فِي شَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى شَيْئًا وَقَالَ: لَمْ أَعْلَمْ كَوْنَهُ فِي يَدِهِ يَوْمَ الْإِقْرَارِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ.

الثَّانِيَةُ: قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ، لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا، وَطُولِبَ بِتَعْيِينِهِ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. الثَّالِثَةُ: قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ، أَوْ عَلَى زَيْدٍ أَوْ عَلَى عَمْرٍو، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِقْرَارِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لَا، وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْشَاءِ، طُلِّقَتْ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا لَا يَقَعُ عَلَيْكَ. الرَّابِعَةُ: قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَإِلَّا فَلِعَمْرٍو عَلَيَّ أَلْفُ دِينَارٍ، لَزِمَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِزَيْدٍ، وَكَلَامُهُ الْآخَرُ لِلتَّأْكِيدِ. الْخَامِسَةُ: الْإِقْرَارُ الْمُطْلَقُ، مُلْزِمٌ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ الْمُقِرُّ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَخَرَجَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ حَتَّى يُسْأَلَ الْمُقِرُّ عَنْ سَبَبِ اللُّزُومِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَالْإِقْرَارُ لَيْسَ مُوجِبًا فِي نَفْسِهِ، وَأَسْبَابُ الْوُجُوبِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. وَرُبَّمَا ظَنَّ مَا لَيْسَ بِمُوجَبٍ مُوجَبًا، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْجَرْحَ الْمُطْلَقَ لَا يُقْبَلُ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ فَلَانًا وَارِثُهُ، لَا يُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنَ جِهَةَ الْإِرْثِ. السَّادِسَةُ: قَالَ: وَهَبْتُ لَكَ كَذَا وَخَرَجْتُ مِنْهُ إِلَيْكَ، فَالْأَصَحُّ أَنْ لَا يَكُونَ مُقِرًّا بِالْإِقْبَاضِ، لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِالْهِبَةِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَالشَّاشِيُّ: هُوَ إِقْرَارٌ بِالْإِقْبَاضِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَى نَفْسِهِ مَا يُشْعِرُ بِالْإِقْبَاضِ بَعْدَ الْعَقْدِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ. السَّابِعَةُ: أَقَرَّ الْأَبُ بِعَيْنِ مَالٍ لِابْنِهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُ إِقْرَارِهِ مَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ مَا لَا يَمْنَعُ وَهُوَ الْهِبَةُ، فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ أَفْتَى الْقَاضِيَانِ: أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، تَنْزِيلًا لِلْإِقْرَارِ عَلَى أَضْعَفِ الْمِلْكَيْنِ، وَأَدْنَى السَّبَبَيْنِ، كَمَا يَنْزِلُ عَلَى أَقَلِّ الْمِقْدَارَيْنِ. وَالثَّانِي: لَا، قَالَهُ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْمِلْكِ لِلْمُقَرِّ لَهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَوَسَّطَ فَيُقَالَ: إِنْ أَقَرَّ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ مِنْهُ إِلَى الِابْنِ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ الْقَاضِيَانِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْعَبَّادِيُّ.

فصل

الثَّامِنَةُ: أَقَرَّ فِي صَكٍّ بِأَنَّهُ لَا دَعْوَى لَهُ عَلَى زَيْدٍ، وَلَا طَلِبَةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ بِهِ: فِي عِمَامَتِهِ وَقَمِيصِهِ، لَا فِي دَارِهِ وَبُسْتَانِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي يُوسُفَ: هَذَا مَوْضِعُ تَرَدُّدٍ، وَالْقِيَاسُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ تَخْصِيصُ عُمُومٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ. قُلْتُ: هَذَا ضَعِيفٌ وَفَاسِدٌ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، لَكِنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ لَهُ تَحْلِيفَ الْمُقَرِّ لَهُ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ الْقَاضِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الْمُقَرُّ بِهِ الْمَجْهُولُ، قَدْ يُعْرَفُ بِغَيْرِ تَفْسِيرِ الْمُقِرِّ، بِأَنْ يُحِيلَهُ عَلَى مُعَرَّفٍ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِوَزْنِ هَذِهِ الصَّنْجَةِ، أَوْ بِعَدَدِ الْمَكْتُوبِ فِي كِتَابِ كَذَا، أَوْ بِقَدْرِ مَا بَاعَ بِهِ زَيْدٌ عَبْدَهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيُرْجَعُ إِلَى مَا أَحَالَ عَلَيهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ مَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ بِالْحِسَابِ، فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا نِصْفَ مَا لِابْنَيْهِ عَلَيَّ، وَلِابْنَيهِ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا ثُلُثَ مَا لِزَيْدٍ عَلَيَّ. وَلِمَعْرِفَتِهِ طُرُقٌ. أَحُدُهَا: أَنْ تَجْعَلَ لِزَيْدٍ شَيْئًا، وَتَقُولَ: لِلِابْنَيْنِ أَلْفٌ إِلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ، فَيَأْخُذُ نِصْفَهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ إِلَّا سُدُسَ شَيْءٍ، وَتُسْقِطُهُ مِنَ الْأَلْفِ، يَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ، وَسُدُسُ

شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ الشَّيْءَ الْمَفْرُوضَ لِزَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ أَلْفًا إِلَّا نِصْفَ مَا لِابْنَيْهِ، فَيَسْقُطُ سُدُسُ شَيْءٍ بِسُدُسِ شَيْءٍ، تَبَقَّى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ شَيْءٍ فِي مُقَابَلَةِ خَمْسِمِائَةٍ، فَيَكُونُ الشَّيْءُ التَّامُّ سِتَّمِائَةٍ، وَهِيَ مَا لِزَيْدٍ. فَإِذَا أَخَذْتَ ثُلُثَهَا وَهُوَ مِائَتَانِ، وَأَسْقَطْتَهُ مِنَ الْأَلْفِ، بَقِيَ ثَمَانِمِائَةٍ، وَهِيَ مَا أَقَرَّ بِهِ لِلِابْنَيْنِ. الثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَ لِزَيْدٍ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ لِاسْتِثْنَاءِ الثُّلُثِ مِنْهُ، وَتُسْقِطَ ثُلُثَهَا مِنَ الْأَلْفِ الْمُضَافِ إِلَى الِابْنَيْنِ، فَيَكُونُ لَهُمَا أَلْفٌ يَنْقُصُ شَيْئًا، ثُمَّ يَأْخُذُ نِصْفَهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ تَنْقُصُ نِصْفَ شَيْءٍ، وَتَزِيدُهُ عَلَى مَا فَرَضْنَاهُ لِزَيْدٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، يَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ وَشَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، يُسْقِطُ خَمْسَمِائَةٍ بِخَمْسِمِائَةٍ، تَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ فِي مُقَابَلَةِ شَيْئَيْنِ وَنِصْفِ شَيْءٍ، فَيَكُونُ الشَّيْءُ مِائَتَيْنِ، وَقَدْ كَانَ لِزَيْدٍ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، فَهُوَ إِذًا سِتُّمِائَةٍ. الثَّالِثُ: أَنْ تَقُولَ: أَسْتَثْنِي مِنْ أَحَدِ الْإِقْرَارَيْنِ النِّصْفَ، وَمِنَ الْآخَرِ الثُّلُثَ، فَتَضْرِبُ مُخْرَجَ أَحَدِهِمَا فِي مُخْرَجِ الْآخَرِ فَيَكُونُ سِتَّةً، ثُمَّ تَضْرِبُ فِي الْجُزْءِ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْإِقْرَارَيْنِ، وَكِلَاهُمَا وَاحِدٌ، فَتَضْرِبُ وَاحِدًا فِي وَاحِدٍ، يَكُونُ وَاحِدًا، يَنْقُصُهُ مِنَ السِّتَّةِ، تَبْقَى خَمْسَةٌ تَحْفَظُهَا وَتُسَمِّيهَا الْمَقْسُومَ عَلَيهِ، ثُمَّ تَضْرِبُ مَا تَبَقَّى مِنْ مُخْرَجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُزْأَيْنِ بَعْدَ إِسْقَاطِهِ فِي مُخْرَجِ الثَّانِي، وَذَلِكَ بِأَنْ تَضْرِبَ مَا بَقِيَ مِنْ مُخْرَجِ النِّصْفِ بَعْدَ النِّصْفِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، فِي مُخْرَجِ الثُّلُثِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، تَحْصُلُ ثَلَاثَةٌ، تَضْرِبُهَا فِي الْأَلْفِ الْمَذْكُورِ فِي الْإِقْرَارِ، يَكُونُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ تُقَسِّمُهَا عَلَى الْعَدَدِ الْمَقْسُومِ عَلَيهِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ يَخْرُجُ نَصِيبُ الْوَاحِدِ سِتَّمِائَةٍ، فَهِيَ مَا لِزَيْدٍ، وَتَضْرِبُ مَا تَبَقَّى مِنْ مُخْرَجِ الثُّلُثِ بَعْدَ الثُّلُثِ وَهُوَ اثْنَانِ، فِي مُخْرَجِ النِّصْفِ، وَهُوَ اثْنَانِ، يَكُونُ أَرْبَعَةً، تَضْرِبُهَا فِي الْأَلْفِ، يَكُونُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ تُقَسِّمُهَا عَلَى الْخَمْسَةِ، تَخْرُجُ ثَمَانِمِائَةٍ فَهِيَ مَا لِلِابْنَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثُلُثَيْ مَا لِعَمْرٍو، وَلِعَمْرٍو عَشَرَةٌ إِلَّا

ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مَا لِزَيْدٍ، تَضْرِبُ الْمُخْرَجَ فِي الْمُخْرَجِ، تَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَضْرِبُ أَحَدَ الْجُزْأَيْنِ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ اثْنَانِ، فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُونُ سِتَّةً، تُسْقِطُهَا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، تَبَقَّى سِتَّةٌ، ثُمَّ تَضْرِبُ الْبَاقِيَ مِنْ مُخْرَجِ الثُّلُثِ بَعْدَ إِخْرَاجِ الثُّلُثَيْنِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، فِي أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي الْعَشَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْإِقْرَارِ، تَكُونُ أَرْبَعِينَ تُقَسِّمُهَا عَلَى السِّتَّةِ، فَتَكُونُ سِتَّةً وَثُلُثَيْنِ، وَذَلِكَ مَا أَقَرَّ بِهِ لِزَيْدٍ، ثُمَّ تَضْرِبُ وَاحِدًا وَهُوَ الْبَاقِي مِنْ مُخْرَجِ الرُّبُعِ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْأَرْبَاعِ الثَّلَاثَةِ فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُونُ ثَلَاثَةً تَضْرِبُهَا فِي الْعَشَرَةِ يَكُونُ ثُلُثَيْنِ تُقَسِّمُهَا عَلَى السِّتَّةِ، تَكُونُ خَمْسَةً، وَهُوَ مَا أَقَرَّ بِهِ لِعَمْرٍو. وَلِعِلْمِ أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، ضَرْبَانِ مُجَرَّبَانِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الصُّوَرِ بِأَسْرِهَا. وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّالِثُ، فَإِنَّهُ لَا يَطَّرِدُ فِيمَا إِذَا اخْتَلَفَ الْمَبْلَغُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِقْرَارَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: لِزَيْدٍ عَشَرَةٌ إِلَّا نِصْفَ مَا لِعَمْرٍو، وَلِعَمْرٍو سِتَّةٌ إِلَّا رُبْعَ مَا لِزَيْدٍ، كَانَ مُقِرًّا لِزَيْدٍ بِثَمَانِيَةٍ، وَلِعَمْرٍو بِأَرْبَعَةٍ. وَلَوْ قَالَ: لِزَيْدٍ عَشَرَةٌ إِلَّا نِصْفَ مَا لِعَمْرٍو، وَلِعَمْرٍو عَشَرَةٌ إِلَّا رُبْعَ مَا لِزَيْدٍ، كَانَ مُقِرًّا لِزَيْدٍ بِخَمْسَةٍ وَخَمْسَةِ أَسْبَاعٍ، وَلِعَمْرٍو بِثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعَةِ أَسْبَاعٍ. وَيَتَصَوَّرُ صُدُورَ كُلِّ إِقْرَارٍ مِنْ شَخْصٍ، بِأَنْ يَدَّعِيَ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو مَالًا، فَيَقُولُ زَيْدٌ: لَكَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا نِصْفَ مَا لَكَ عَلَى عَمْرٍو، وَيَقُولُ عَمْرٌو: لَكَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّاثُلُثَ مَا لَكَ عَلَى زَيْدٍ، وَطَرِيقُ الْحِسَابِ لَا يَخْتَلِفُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي تَعْقِيبِ الْإِقْرَارِ بِمَا يُغَيِّرُهُ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ وَغَيْرُهُ. فَالثَّانِي يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَرْفَعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِلَى غَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا لَا يَنْتَظِمُ لَفْظًا، فَيَلْغُو، وَإِلَى مَا يَنْتَظِمُ، فَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا، فَفِيهِ خِلَافٌ. وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مَفْصُولًا، لَا يُقْبَلُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا، فَفِيهِ خِلَافٌ بِالتَّرْتِيبِ، هَذَا حَاصِلُ الْبَابِ. وَإِذَا مَرَّتْ بِكَ مَسَائِلُهُ عَرَفْتَ مِنْ أَيِّ قَبِيلٍ هِيَ. وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ، فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ مَسَائِلُ.

إِحْدَاهَا: قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَإِنْ وَقَعَ قَوْلُهُ: مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ، مَفْصُولًا عَنْ قَوْلِهِ: لَهُ أَلْفٌ، لَمْ يُقْبَلْ، وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ. وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا، فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ كَلَامٌ وَاحِدٌ، فَيَعْتَبِرُ جُمْلَةً وَلَا يُبَعَّضُ، فَعَلَى هَذَا لِلْمُقَرِّ لَهُ تَحْلِيفُهُ إِنْ كَانَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ. وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: لَا يُقْبَلُ، وَيَلْزَمُهُ الْأَلْفُ، وَيُبَعَّضُ إِقْرَارُهُ فَيُعْتَبَرُ أَوَّلُهُ وَيُلْغَى آخِرُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ بِهِ مَا يَرْفَعُهُ، فَأَشْبَهَ قَوْلُهُ: أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: كَانَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ، وَظَنَنْتُهُ يَلْزَمُنِي، فَلَهُ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى نَفْيِهِ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يَنْتَظِمُ لَفْظُهُ فِي الْعَادَةِ، وَلَكِنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُهُ شَرْعًا، بِأَنْ أَضَافَ الْمُقَرُّ بِهِ إِلَى بَيْعٍ فَاسِدٍ، كَالْبَيْعِ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَخِيَارٍ مَجْهُولٍ. أَوْ قَالَ: تَكَفَّلْتُ بِبَدَنِ فُلَانٍ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، أَوْ ضَمِنْتُ لِفُلَانٍ كَذَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَكُنْتُ أَوَدُّ لَوْ فَصَلَ فَاصِلٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ جَاهِلًا بِأَنَّ ثَمَنَ الْخَمْرِ لَا يَلْزَمُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا، فَيُعْذَرَ الْجَاهِلُ دُونَ الْعَالِمِ، لَكِنْ لَمْ يَصِرْ إِلَيهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَصْحَابِ. أَمَّا إِذَا قَدَّمَ الْخَمْرَ فَقَالَ: لَهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ عَلَيَّ الْأَلْفُ، لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قَطْعًا بِكُلِّ حَالٍ. الثَّانِيَةُ: قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ، إِذَا سَلَّمَهُ سَلَّمْتُ الْأَلْفَ، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. فَفِي قَوْلٍ: يُقْبَلُ وَلَا يُطَالَبُ بِالْأَلْفِ إِلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ. وَفِي قَوْلٍ: يُؤَاخَذُ بِأَوَّلِ الْإِقْرَارِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ: الْقَطْعُ بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ آخِرًا هُنَا لَا يَرْفَعُ الْأَوَّلَ، بِخِلَافِ ثَمَنِ الْخَمْرِ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ مَفْصُولًا عَنْهُ: لَمْ أَقْبِضْ ذَلِكَ الْعَبْدَ، قُبِلَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِقْرَارَ بِالْعَبْدِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ قَبْضِهِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ، ثُمَّ قَالَ مَفْصُولًا: هُوَ ثَمَنُ عَبْدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ، لَمْ يُقْبَلْ. وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا، بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ هَذَا الْعَبْدِ، أَوْ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ.

الثَّالِثَةُ: قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهُ، فَفِي قَبُولِهِ الْقَوْلَانِ. وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ: كَانَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهُ، قُبِلَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: عَلَى الطَّرِيقَيْنِ. الرَّابِعَةُ: قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي، أَوْ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ، لَا، لَزِمَهُ الْأَلْفُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ. قُلْتُ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي نُسَخٍ مِنْ كِتَابِ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ «عَلَيَّ الْأَلْفُ أَوْ لَا» وَهُوَ غَلَطٌ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبَا «التَّهْذِيبِ» وَ «الْبَيَانِ» : بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالِالْتِزَامِ، وَمَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي فِي كِتَابِ الرَّافِعِيِّ تَصْحِيفًا مِنَ النُّسَّاخِ، أَوْ تَغْيِيرًا مِمَّا فِي «التَّهْذِيبِ» ، فَقَدْ قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : لَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ، لَا، فَهُوَ إِقْرَارٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَرَنَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» بِقَوْلِهِ: بِأَلْفٍ لَا يَلْزَمُنِي، وَهُوَ نَظِيرُهُ. وَمُعْظَمُ نَقْلِ الرَّافِعِيِّ مِنَ «التَّهْذِيبِ» وَ «النِّهَايَةِ» ، وَكَيْفَ كَانَ، فَالصَّوَابُ الَّذِي يَقْطَعُ بِهِ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَلْفٌ أَوْ، لَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ شِئْتَ، أَوْ إِنْ شَاءَ فُلَانٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، أَوْ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ، أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إِيجَابِ الْمَالِ، وَالْوَاقِعُ لَا يُعَلَّقُ بِشَرْطٍ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَكَيْفَ كَانَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيهِ وَهَذَا إِذَا أَطْلَقَ، أَوْ قَالَ: قَصَدْتُ التَّعْلِيقَ. فَإِنْ قَصَدَ التَّأْجِيلَ، فَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَدَّمَ التَّعْلِيقَ فَقَالَ: إِنْ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَعَلَيَّ أَلْفٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صِيغَةُ الْتِزَامٍ جَازِمَةً. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ التَّأْجِيلَ بِرَأْسِ الشَّهْرِ، قُبِلَ. وَفِي «التَّتِمَّةِ»

وَجْهٌ: أَنَّ مُطْلَقَهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْجِيلِ بِرَأْسِ الشَّهْرِ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَبِهِ قَطَعَ فِيمَا إِذَا قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ. السَّادِسَةُ: قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مُؤَجَّلٌ إِلَى وَقْتِ كَذَا، فَإِنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ مَفْصُولًا، لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنْ وَصَلَهُ، قُبِلَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ بِيَمِينِهِ فِي نَفْيِ الْأَجَلِ. ثُمَّ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، أَنْ يُقِرَّ مُطْلِقًا أَوْ مَسْنِدًا إِلَى سَبَبٍ يَقْبَلُ التَّعْجِيلَ وَالتَّأْجِيلَ. أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ إِلَى مَا لَا يَقْبَلُ الْأَجَلَ، فَقَالَ: أَقْرَضَنِيهِ مُؤَجَّلًا، فَيَلْغُو ذِكْرُ الْأَجَلِ قَطْعًا. وَإِنْ أَسْنَدَ إِلَى مَا يُلَازِمُهُ الْأَجَلُ، كَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فِي صَدْرِ إِقْرَارِهِ بِأَنْ قَالَ: قَتَلَ أَخِي زَيْدًا خَطَأً، وَلَزِمَنِي مِنْ دِيَتِهِ كَذَا مُؤَجَّلًا إِلَى سَنَةٍ، انْتِهَاؤُهَا كَذَا، قُبِلَ قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ كَذَا مِنْ جِهَةِ تَحَمُّلِ الْعَقْلِ مُؤَجَّلًا إِلَى كَذَا، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: يُقْبَلُ قَطْعًا. فَرْعٌ قَالَ: بِعْتُكَ أَمْسِ كَذَا، فَلَمْ تُقْبَلْ، فَقَالَ: بَلْ قَبِلْتُ، فَعَلَى قَوْلِي تَبْعِيضُ الْإِقْرَارِ، إِنْ بَعَّضْنَاهُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ فِي قَوْلِهِ: قَبِلْتُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُكَ عَلَى أَلْفٍ، فَلَمْ تَقْبَلْ، أَوْ لِامْرَأَتِهِ: خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفٍ، فَلَمْ تَقْبَلِي، فَقَالَا: قَبِلْنَا. فَرْعٌ إِذَا قَالَ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ أُقِرَّ الْآنَ بِمَا لَيْسَ عَلَيَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ. أَوْ قَالَ: مَا طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَأُرِيدُ أَنْ أُقِرَّ بِطَلَاقِهَا: قَدْ طَلَّقْتُ امْرَأَتِي ثَلَاثًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ: لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : الصَّحِيحُ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي.

السَّابِعَةُ: قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَزَعَمَ أَنَّهُ وَدِيعَةٌ، فَلَهُ حَالَانِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَذْكُرَهُ مُنْفَصِلًا، بِأَنْ أَتَى بِأَلْفٍ بَعْدَ إِقْرَارِهِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ هَذَا وَهُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدِي، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: هُوَ وَدِيعَةٌ وَلِي عَلَيْكَ أَلْفٌ آخَرُ دَيْنًا، وَهُوَ الَّذِي أَرَدْتُهُ بِإِقْرَارِكَ، فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ، أَوِ الْمُقِرِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي وَقِيلَ بِهِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: عِنْدِي، وَيُحْتَمَلُ: إِنِّي تَعَدَّيْتُ فِيهَا فَصَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيَّ، أَوْ عَلَيَّ حِفْظُهَا. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ فِي ذِمَّتِي، أَوْ دَيْنًا، ثُمَّ جَاءَ بِأَلْفٍ وَفُسِّرَ كَمَا ذَكَرْنَا، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. وَقِيلَ: فِي قَبُولِهِ وَجْهَانِ. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا قَبِلْنَا التَّفْسِيرَ بِالْوَدِيعَةِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: الْأَلْفُ مَضْمُونَةٌ، وَلَيْسَ بِأَمَانَةٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ، تَتَضَمَّنُ الِالْتِزَامَ. فَإِنِ ادَّعَى تَلَفَ الْأَلْفِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ وَدِيعَةٌ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ، وَإِنِ ادَّعَى رَدَّهُ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ، وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ الْأَمِينُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ، مُشْكِلٌ دَلِيلًا وَنَقْلًا. أَمَّا الدَّلِيلُ، فَلِأَنَّ لَفْظَةَ «عَلَيَّ» ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَصِيرُهَا مَضْمُونَةً لِتَعَدِّيهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: وُجُوبُ حِفْظِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: عِنْدِي، كَمَا سَبَقَ، وَهَذَانِ لَا يُنَافِيَانِ الْأَمَانَةَ. وَأَمَّا النَّقْلُ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ غَيْرِهِ، أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى تَلَفَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، صُدِّقَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْبَابِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَهُ مُتَّصِلًا، فَيَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِيعَةً، فَيُقْبَلُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: عَلَى قَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ: أَلْفٌ قَضَيْتُهُ. وَإِذَا قَبِلْنَا فَأَتَى بِأَلْفٍ، وَقَالَ: هُوَ هَذَا، قَنِعَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ، وَادَّعَى التَّلَفَ أَوِ الرَّدَّ، قُبِلَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَهُ مَعِي أَوْ عِنْدِي أَلْفٌ، فَهُوَ مُشْعِرٌ بِالْأَمَانَةِ، فَيُصَدَّقُ

فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ وَدِيعَةً، وَفِي دَعْوَى التَّلَفِ وَالرَّدِّ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ مُضَارِبَةً دَيْنًا أَوْ وَدِيعَةً دَيْنًا، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيهِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الرَّدِّ وَالتَّلَفِ، نَصَّ عَلَيهِ. وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ كَوْنَهُ دَيْنًا عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مَضْمُونًا. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيَّ مُضَارَبَةً أَوْ وَدِيعَةً بِشَرْطِ الضَّمَانِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْأَمَانَةِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، هَذَا إِذَا فُسِّرَ مُنْفَصِلًا. فَإِنْ فَسَّرَهُ مُتَّصِلًا، فَفِيهِ قَوْلَا تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي أَلْفٌ عَارِيَّةً، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيهِ، صَحَّحْنَا إِعَارَةَ الدَّرَاهِمِ أَوْ أَفْسَدْنَاهَا؛ لِأَنَّ الْفَاسِدِ كَالصَّحِيحِ فِي الضَّمَانِ. وَلَوْ قَالَ: دَفَعَ إِلَيَّ أَلْفًا، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِوَدِيعَةٍ، وَادَّعَى تَلَفَهَا فِي يَدِهِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَخَذْتُ مِنْهُ أَلْفًا. وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي «أَخَذْتُ» : لَوِ ادَّعَى الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَنَّهُ غَصَبَهُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ فِي الْغَصْبِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: دُفِعَ إِلَيَّ. الثَّامِنَةُ: قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لَكَ عَارِيَّةً، فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالْإِعَارَةِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : قَوْلُهُ «لَكَ» إِقْرَارٌ بِالْمِلْكِ، فَذِكْرُ الْعَارِيَّةِ بَعْدَهُ يُنَافِيهِ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْ تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لَكَ هِبَةَ عَارِيَّةٍ بِإِضَافَةِ الْهِبَةِ إِلَى الْعَارِيَّةِ، أَوْ هِبَةَ سُكْنَى، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: لَكَ عَارِيَّةٌ، بِلَا فَرْقٍ. التَّاسِعَةُ: الْإِقْرَارُ بِالْهِبَةِ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَفِي «الشَّامِلِ» : فِيهِ خِلَافٌ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَقَالَ: أَقَبَضْتَنِي. وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُهُ وَخَرَجْتُ إِلَيهِ مِنْهُ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِالْقَبْضِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَهَبْتُ لَهُ وَمَلَكَهَا، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ ذَكَرَ لِإِقْرَارِهِ تَأْوِيلًا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ، فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الرَّهْنِ إِذَا قَالَ: رَهَنْتُ وَأَقْبَضْتُ ثُمَّ عَادَ فَأَنْكَرَ.

الْعَاشِرَةُ: لَوْ أَقَرَّ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَقَبَضَ، ثُمَّ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا، أَوْ أَقْرَرْتُ لِظَنِّي الصِّحَّةَ، لَمْ يُصَدَّقْ، لَكِنْ لَهُ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُقِرُّ وَحُكِمَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِإِتْلَافِ مَالٍ [عَلَى إِنْسَانٍ] وَأَشْهَدَ عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ عَازِمًا عَلَى الْإِتْلَافِ فَقَدَّمْتُ الْإِشْهَادَ عَلَى الْإِتْلَافِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أُشْهِدُ عَلَيهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ عَازِمًا عَلَى أَنْ أَسَتَقْرِضَ مِنْهُ، فَقَدَّمْتُ الشَّهَادَةَ عَلَى الِاسْتِقْرَاضِ، قُبِلَ لِلتَّحْلِيفِ؛ لِأَنَّ هَذَا مُعْتَادٌ، بِخِلَافِ ذَاكَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَقَرَّ عَجَمِيٌّ بِالْعَرَبِيَّةِ وَقَالَ: لَمْ أَفْهَمْ مَعْنَاهُ، لَكِنْ لُقِّنْتُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْرِفَهُ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ. وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَقَرَّ وَهُوَ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ مُكْرَهٌ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ الْأَوَّلِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ: غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ، بَلْ مِنْ عَمْرٍو، أَوْ قَالَ: غَصَبْتُهَا مِنْ زَيْدٍ، وَغَصَبَهَا زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو، أَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ، بَلْ لِعَمْرٍو، سُلِّمَتِ الدَّارُ إِلَى زَيْدٍ. وَفِي غُرْمِهِ لِعَمْرٍو قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يَغْرَمُ. وَفِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ طَرِيقَةٌ جَازِمَةٌ بِأَنْ لَا غُرْمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِجِنَايَةٍ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الْأُولَيَيْنِ. ثُمَّ قِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا انْتَزَعَهَا الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ وَسَلَّمَهَا إِلَى زَيْدٍ. فَأَمَّا إِذَا سَلَّمَهَا بِنَفْسِهِ، فَيُغَرَّمُ قَطْعًا. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِي الْحَالَيْنِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ طَرْدُهُمَا فِي الْحَالَيْنِ، قَالَهُ أَصْحَابُنَا. وَيَجْرِي الْخِلَافُ، سَوَاءٌ وَالَى بَيْنَ الْإِقْرَارِ لَهُمَا، أَمْ فَصَلَ بِفَصْلٍ قَصِيرٍ أَوْ طَوِيلٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ بَاعَ عَيْنًا وَأَقْبَضَهَا وَاسْتَوْفَى الثَّمَنَ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ بِعْتُهَا لِفُلَانٍ، أَوْ غَصَبْتُهَا مِنْهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَفِي غُرْمِهِ لِلْمُقَرِّ إِلَيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالْغُرْمِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ بِتَصَرُّفِهِ وَتَسْلِيمِهِ. وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، أَنَّ مُدَّعِيَ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ، هَلْ لَهُ دَعْوَى الْقِيمَةِ عَلَى الْبَائِعِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؟ إِنْ قُلْنَا: لَوْ أَقَرَّ، غَرِمَ الْقِيمَةَ، فَلَهُ دَعْوَاهَا، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ إِنْسَانٍ عَيْنٌ، فَانْتَزَعَهَا مُدَّعٍ بِيَمِينِهِ بَعْدَ نُكُولِ صَاحِبِ الْيَدِ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ يَدَّعِيهَا، هَلْ لَهُ طَلَبُ الْقِيمَةِ مِنَ الْأَوَّلِ؟ إِنْ قُلْنَا: النُّكُولُ وَرَدُّ الْيَمِينِ كَالْبَيِّنَةِ، فَلَا، كَمَا لَوِ انْتَزَعَ بِالْبَيِّنَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، فَفِي سَمَاعِ دَعْوَى الثَّانِي عَلَيهِ بِالْقِيمَةِ - الْخِلَافُ. فَرْعٌ قَالَ: غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ، وَمَلَّكَهَا لِعَمْرٍو، سُلِّمَتْ إِلَى زَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ لَهُ بِالْيَدِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ مُحِقٌّ فِيهَا، ثُمَّ تَكُونُ الْخُصُومَةُ فِي الدَّارِ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُقِرِّ لِعَمْرٍو؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ. وَفِي غَرَامَةِ الْمُقِرِّ لِعَمْرٍو، طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنْ لَا غُرْمَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ هُنَا بَيْنَ الْإِقْرَارَيْنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ لِعَمْرٍو، وَيَكُونَ فِي يَدِ زَيْدٍ بِإِجَارَةٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ بِالْمَنَافِعِ، فَيَكُونُ الْآخِذُ غَاصِبًا مِنْهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْإِقْرَارَانِ مُتَنَافِيَانِ. وَلَوْ أَخَّرَ ذِكْرَ الْغَصْبِ فَقَالَ: هَذِهِ الدَّارُ مَلَكَهَا عَمْرٌو، وَغَصَبْتُهَا مِنْ زَيْدٍ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: كَالصُّورَةِ الْأُولَى، لِعَدَمَ التَّنَافِي، فَتُسَلَّمُ إِلَى زَيْدٍ، وَلَا يُغْرَمُ لِعَمْرٍو. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِالْيَدِ بَعْدَ الْمِلْكِ، فَتُسَلَّمُ إِلَى عَمْرٍو. وَفِي غُرْمِهِ لِزَيْدٍ الْقَوْلَانِ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ

وَفِيهِ مُبَاحَثَةٌ، لِأَنَّا إِذَا غَرَّمْنَا الْمُقِرَّ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ لِلثَّانِي، فَإِنَّمَا نُغَرِّمُهُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَهُنَا جَعَلْنَاهُ مُقِرًّا بِالْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ، فَلَا وَجْهَ لِتَغْرِيمِهِ، بَلِ الْقِيَاسُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ يَدِهِ: أَكَانَتْ بِإِجَارَةٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا؟ فَإِنْ كَانَتْ بِإِجَارَةٍ، غَرِمَ قِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ رَهْنًا، غَرِمَ قِيمَةَ الْمَرْهُونِ لِيَتَوَثَّقَ بِهِ زَيْدٌ، وَكَأَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَرْهُونَ. ثُمَّ إِنِ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، رُدَّتِ الْقِيمَةُ عَلَيهِ. فَرْعٌ قَالَ: غَصَبْتُ هَذِهِ الْعَيْنَ مِنْ أَحَدِكُمَا، طُولِبَ بِالتَّعْيِينِ، فَإِذَا عَيَّنَ أَحَدَهُمَا، سُلِّمَتْ إِلَيهِ. وَهَلْ لِلثَّانِي تَحْلِيفُهُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِلثَّانِي هَلْ يَغْرَمُ [لَهُ] ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَلَا، وَإِلَّا فَنَعَمْ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُقِرُّ لَهُ إِذَا عُرِضَتِ الْيَمِينُ فَيَغْرَمُهُ، فَعَلَى هَذَا، إِذَا نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الثَّانِي، فَإِذَا حَلَفَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْقِيمَةُ. وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: النُّكُولُ وَرَدُّ الْيَمِينِ كَالْإِقْرَارِ، فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، نُزِعَتِ الدَّارُ مِنَ الْأَوَّلِ وَسُلِّمَتْ إِلَى الثَّانِي، وَلَا غُرْمَ عَلَيهِ لِلْأَوَّلِ. وَعَلَى هَذَا، فَلَهُ التَّحْلِيفُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَغْرَمُ الْقِيمَةَ لَوْ أَقَرَّ لِلثَّانِي طَمَعًا فِي أَنْ يَنْكُلَ، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي وَيَأْخُذُ الْعَيْنَ. أَمَّا إِذَا قَالَ الْمُقِرُّ: لَا أَدْرِي مِنْ أَيِّكُمَا غَصَبْتُ، وَأَصَرَّ عَلَيهِ، فَإِنْ صَدَّقَاهُ، فَالْعَيْنُ مَوْقُوفَةٌ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَبَيُّنِ الْمَالِكِ أَوْ يَصْطَلِحَا. وَكَذَا إِنْ كَذَّبَاهُ وَحَلَفَ لَهُمَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. قُلْتُ: وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي فِي تَرِكَةِ مُورَثِهِ لِزَيْدٍ، بَلْ لِعَمْرٍو، سُلِّمَتْ إِلَى زَيْدٍ، وَفَى غُرْمِهِ لِعَمْرٍو طَرِيقَانِ فِي «الشَّامِلِ» وَ «الْبَيَانِ» وَغَيْرِهِمَا: أَحَدُهُمَا:

فصل

الْقَوْلَانِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنْ لَا غُرْمَ. وَالْفَرْقُ، أَنَّهُ هُنَا مَعْذُورٌ لِعَدَمَ كَمَالِ اطِّلَاعِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْإِقْرَارِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا. فَإِنْ سَكَتَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ عَمَّا هُوَ فِيهِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى، لَمْ يَنْفَعْهُ. قُلْتُ: هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا، إِنْ تَخَلَّلَ الْكَلَامَ الْأَجْنَبِيَّ، يَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ. وَقَالَ صَاحِبَا «الْعُدَّةِ» وَ «الْبَيَانِ» : إِذَا قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ - أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ - الْأَمَانَةُ، صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّهُ فَصْلٌ يَسِيرٌ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَلْفٌ - يَا فُلَانُ - الْأَمَانَةَ، وَهَذَا الَّذِي نَقَلَاهُ، فِيهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اسْتَغْرَقَ فَقَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا عَشَرَةً، لَمْ يَصِحَّ، وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ، وَيَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ، فَإِذَا قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا تِسْعَةً، أَوْ سِوَى تِسْعَةٍ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ. فَرْعٌ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَمِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ. فَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا تِسْعَةً، إِلَّا ثَمَانِيَةً، لَزِمَهُ تِسْعَةٌ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ، إِلَّا تِسْعَةً، إِلَّا ثَمَانِيَةً، إِلَّا سَبْعَةً،

إِلَّا سِتَّةً، إِلَّا خَمْسَةً، إِلَّا أَرْبَعَةً، إِلَّا ثَلَاثَةً، إِلَّا دِرْهَمَيْنِ، إِلَّا دِرْهَمًا، لَزِمَهُ خَمْسَةٌ. وَطَرِيقُ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ أَنْ يَجْمَعَ الْإِثْبَاتَ وَيَجْمَعَ النَّفْيَ، وَيَسْقُطَ النَّفْيُ مِنَ الْإِثْبَاتِ، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ الْوَاجِبُ. فَالْأَعْدَادُ الْمُثْبَتَةُ هُنَا ثَلَاثُونَ، وَالْمَنْفِيَّةُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. ثُمَّ مَعْرِفَةُ الْمُثْبَتِ أَنَّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا، إِنْ كَانَ شَفْعًا، فَالْأَشْفَاعُ مُثْبَتَةٌ، وَالْأَوْتَارُ مَنْفِيَّةٌ. وَإِنْ كَانَ وَتْرًا، فَبِالْعَكْسِ، وَشَرْطُهُ أَنْ تَكُونَ الْأَعْدَادُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى التَّوَالِي الْمُعْتَادِ، إِذْ يَتْلُو كُلُّ شَفْعٍ وَتْرًا، وَبِالْعَكْسِ. فَرْعٌ قَالَ: لَيْسَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ إِلَّا خَمْسَةً، لَزِمَهُ خَمْسَةٌ. وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا خَمْسَةً، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ إِلَّا خَمْسَةً، خَمْسَةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَيَّ خَمْسَةٌ. وَفِي وَجْهٍ: يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ، حَكَاهُ فِي «النِّهَايَةِ» بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ. فَرْعٌ إِذَا أَتَى بِاسْتِثْنَاءٍ بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ، وَالثَّانِي مُسْتَغْرِقٌ، صَحَّ الْأَوَّلُ، وَبَطَلَ الثَّانِي. مِثَالُهُ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ، إِلَّا خَمْسَةً، إِلَّا عَشَرَةً، أَوْ [عَشَرَةٌ] إِلَّا خَمْسَةً، إِلَّا خَمْسَةً، لَزِمَهُ خَمْسَةٌ. وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مُسْتَغْرِقًا دُونَ الثَّانِي، كَقَوْلِهِ: عَشَرَةٌ، إِلَّا عَشَرَةً، إِلَّا أَرْبَعَةً، فَأَوْجُهٌ. أَحُدُهَا: يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ، لِاسْتِغْرَاقِهِ، وَيَبْطُلُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَاطِلٍ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَرْبَعَةٌ وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءَانِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ. قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : وَهَذَا أَقْيَسُ. وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ سِتَّةٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ. وَلَوْ قَالَ: عَشَرَةٌ، إِلَّا عَشَرَةً، إِلَّا خَمْسَةً، لَزِمَهُ عَلَى

الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَشَرَةٌ، وَعَلَى الْآخَرِينَ خَمْسَةٌ. هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الِاسْتِثْنَاءَيْنِ عَطْفٌ، فَإِنْ كَانَ، بِأَنْ قَالَ: عَشَرَةٌ إِلَّا خَمْسَةً، وَإِلَّا ثَلَاثَةً، أَوْ عَشَرَةٌ إِلَّا خَمْسَةً وَثَلَاثَةً، فَهُمَا جَمِيعًا مُسْتَثْنَيَانِ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ قَطْعًا، فَإِنْ كَانَ الْعَدَدَانِ لَوْ جُمِعَا اسْتَغْرَقَا، بِأَنْ قَالَ: عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً وَثَلَاثَةً، فَهَلْ يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ لِكَوْنِ الْوَاوِ تَجْمَعُهُمَا فَيَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ؟ أَمْ يَخْتَصُّ الثَّانِي بِالْبُطْلَانِ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: يُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً وَثَلَاثَةً، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً وَإِلَّا ثَلَاثَةً، وَيَقْطَعُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ بِالْبُطْلَانِ. وَمَهْمَا [كَانَ] فِي الْمُسْتَثْنَى أَوِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَدَانِ مَعْطُوفٌ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ، كَمَا فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ. أَصَحُّهُمَا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الطَّلَاقِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يُجْمَعُ. مِثَالُهُ: عَلَيَّ دِرْهَمَانِ وَدِرْهَمٌ إِلَّا دِرْهَمًا، إِنْ لَمْ نَجْمَعْ، لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ، وَإِلَّا دِرْهَمَانِ. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ إِلَّا دِرْهَمَيْنِ وَدِرْهَمٌا، فَإِنْ لَمْ نَجْمَعْ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ، وَصَحَّ اسْتِثْنَاءُ الدِّرْهَمَيْنِ. وَإِنْ جَمَعْنَا، فَثَلَاثَةٌ وَيَصِيرُ مُسْتَغْرِقًا. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا وَدِرْهَمَيْنِ، فَإِنْ لَمْ نَجْمَعْ، لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ وَصَحَّ اسْتِثْنَاءُ الدِّرْهَمَيْنِ. وَإِنْ جَمَعْنَا، فَثَلَاثَةٌ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ إِلَّا دِرْهَمًا وَدِرْهَمًا وَدِرْهَمًا، لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَحُكْمُ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي الطَّلَاقِ، حُكْمُهَا فِي الْإِقْرَارِ. فَرْعٌ قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا خَمْسَةً، أَوْ سِتَّةً، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَلْزَمُهُ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ عَشَرَةً، وَاسْتَثْنَى خَمْسَةً، وَشَكَكْنَا فِي اسْتِثْنَاءِ الدِّرْهَمِ السَّادِسِ.

قُلْتُ: الصَّوَابُ قَوْلُ الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ مَا لَمْ يَرِدْ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ إِبْطَالُ مَا أَثْبَتَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ غَيْرَ دَانِقٍ، فَمُقْتَضَى النَّحْوِ وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: أَنَّهُ إِنْ نَصَبَ «غَيْرَ» ، فَعَلَيهِ خَمْسَةُ دَوَانِقَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ، وَإِلَّا فَعَلَيهِ دِرْهَمٌ تَامٌّ، إِذِ الْمَعْنَى: دِرْهَمٌ، لَا دَانِقٌ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: السَّابِقُ إِلَى فَهْمِ أَهْلِ الْعُرْفِ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءُ، فَيُحْمَلُ عَلَيهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي الْإِعْرَابِ. فَرْعٌ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، صَحِيحٌ، كَقَوْلِهِ: أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا، ثُمَّ عَلَيهِ أَنْ يُبَيِّنَ ثَوْبًا لَا يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ الْأَلْفُ. فَإِنِ اسْتَغْرَقَ، فَالتَّفْسِيرُ لَغْوٌ. وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَبْطُلُ وَيَلْزَمُهُ الْأَلْفُ لِأَنَّهُ بَيْنَ مَا أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَكَأَنَّهُ يَلْفِظُ بِهِ وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ. وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَإِنَّمَا الْخَلَلُ فِي تَفْسِيرِهِ، فَيُقَالُ: فَسَّرَهُ بِتَفْسِيرٍ صَحِيحٍ. فَرْعٌ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْمُجْمَلِ مِنَ الْمُجْمَلِ، وَالْمُجْمَلِ مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَبِالْعَكْسِ. فَالْأَوَّلُ

كَقَوْلِهِ: أَلْفٌ إِلَّا شَيْئًا، فَيُبِيِّنُ جِنْسَ الْأَلْفِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِمَا لَا يَسْتَغْرِقُ الْأَلْفَ الَّذِي بَيَّنَهُ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا شَيْئًا، يُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِمَا لَا يَسْتَغْرِقُ الْعَشَرَةَ. وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِهِ: شَيْءٌ إِلَّا دِرْهَمًا، يُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِمَا يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ وَإِنْ قَلَّ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَلْفٌ إِلَّا دِرْهَمًا، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ دَرَاهِمَ. وَمَهْمَا بَطَلَ التَّفْسِيرُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَفِي بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَجْهَانِ. وَإِنِ اتَّفَقَ لَفْظُ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. كَقَوْلِهِ: شَيْءٌ إِلَّا شَيْئًا، أَوْ: قَالَ: مَالٌ إِلَّا مَالًا، حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْقَاضِي فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ، كَقَوْلِهِ: عَشَرَةٌ إِلَّا عَشَرَةً. وَالثَّانِي: لَا، لِوُقُوعِهِ [عَلَى] الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَلَا يَمْتَنِعُ حَمْلُ الثَّانِي عَلَى أَقَلِّ مُتَمَوِّلٍ، وَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى الزَّائِدِ عَلَى أَقَلِّ مُتَمَوِّلٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِي هَذَا التَّرَدُّدِ غَفْلَةٌ، لِأَنَّا إِنْ أَلْغَيْنَا الِاسْتِثْنَاءَ، اكْتَفَيْنَا بِأَقَلِّ مُتَمَوِّلٍ. وَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، أَلْزَمْنَاهُ أَيْضًا أَقَلَّ مُتَمَوِّلٍ، فَيَتَّفِقُ الْوَجْهَانِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: حَاصِلُ الْجَوَابِ، لَا يَخْتَلِفُ، لَكِنْ فِيهِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّا إِنْ أَبْطَلْنَا، طَالَبْنَاهُ بِتَفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَقَطْ. وَإِنْ صَحَّحْنَا، طَالَبْنَاهُ بِتَفْسِيرِهِمَا، وَلَهُ آثَارُ الِامْتِنَاعِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكَوْنُ التَّفْسِيرِ الثَّانِي غَيْرَ صَالِحٍ لِلِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَرْعٌ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمُعَيَّنِ صَحِيحٌ، كَقَوْلِهِ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ إِلَّا هَذَا الْبَيْتَ، أَوْ هَذَا الْقَمِيصُ إِلَّا كُمَّهُ، أَوْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ إِلَّا هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، أَوْ هَذَا الْقَطِيعُ إِلَّا هَذِهِ الشَّاةَ، أَوْ هَذَا الْخَاتَمُ إِلَّا هَذَا الْفَصَّ، وَنَظَائِرُهُ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُعْتَادَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمُطْلَقِ لَا مِنَ الْمُعَيَّنِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، وَعَلَيهِ التَّفْرِيعُ. وَلَوْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْعَبِيدُ لِفُلَانٍ إِلَّا وَاحِدًا، صَحَّ وَرُجِعَ

فصل

إِلَيهِ فِي التَّعْيِينِ. فَإِنْ مَاتُوا إِلَّا وَاحِدًا فَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَرَدْتُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ. وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ، لِلتُّهْمَةِ، وَهُوَ شَاذٌّ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ. وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُهُمْ إِلَّا وَاحِدًا، فَمَاتُوا إِلَّا وَاحِدًا. فَقَالَ: هُوَ الْمُسْتَثْنَى، قُبِلَ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا لَوْ قُتِلُوا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى إِلَّا وَاحِدًا؛ لَأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي الْقِيمَةِ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي، وَهَذَا الْخَاتَمُ لَهُ، وَفَصُّهُ لِي، قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، فَكَانَ كَالِاسْتِثْنَاءِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَجْنَبِيًّا إِحْدَاهَا: فِي يَدِهِ جَارِيَةٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: بِعْتُكَهَا بِكَذَا وَسَلَّمْتُهَا، فَأَدِّ الثَّمَنَ. فَقَالَ: بَلْ زَوَّجْتَنِيهَا بِصَدَاقِ كَذَا وَهُوَ عَلَيَّ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْرِيَ التَّنَازُعُ قَبْلَ أَنْ يُوَلِّدَهَا صَاحِبُ الْيَدِ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْيِ مَا يُدْعَى عَلَيهِ، فَإِنْ حَلَفَا، سَقَطَتْ دَعْوَى الثَّمَنِ وَالنِّكَاحِ، وَلَا مَهْرَ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا صَاحِبُ الْيَدِ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ وَإِنَّ أَقَرَّ بِالْمَهْرِ لِمَنْ كَانَ مَالِكًا، فَهُوَ مُنْكِرٌ لَهُ، وَتَعُودُ الْجَارِيَةُ إِلَى الْمَالِكَ. ثُمَّ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، أَنَّهَا تَعُودُ إِلَيهِ كَعَوْدِ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ، لِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ. وَالثَّانِي: تَعُودُ بِجِهَةٍ أَنَّهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ بِزَعْمِهِ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَيهِ الثَّمَنَ، وَقَدْ ظَفِرَ بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ. فَعَلَى هَذَا، يَبِيعُهَا وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهَا. فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا. وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَحِلُّ وَطْؤُهَا وَالتَّصَرُّفُ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالْفَسْخِ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، نُظِرَ، إِنْ حَلَفَ مُدَّعِي الثَّمَنِ عَلَى نَفْيِ التَّزْوِيجِ، وَنَكَلَ صَاحِبُ الْيَدِ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى نَفْيِ الشِّرَاءِ، حَلَفَ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ عَلَى الشِّرَاءِ، وَوَجَبَ الثَّمَنُ. وَإِنْ حَلَفَ صَاحِبُ الْيَدِ عَلَى نَفْيِ

الشِّرَاءِ وَنَكَلَ الْآخَرُ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى نَفْيِ التَّزْوِيجِ، حَلَفَ صَاحِبُ الْيَدِ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ عَلَى النِّكَاحِ، وَحُكِمَ لَهُ بِالنِّكَاحِ، وَبِأَنَّ رَقَبَتَهَا لِلْآخَرِ. ثُمَّ لَوِ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَلَّتْ لِلسَّيِّدِ فِي الظَّاهِرِ. وَكَذَا فِي الْبَاطِنِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ إِذَا نَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْيَمِينِ الْمَعْرُوضَةِ عَلَيهِ، اكْتَفَى مِنَ الثَّانِي بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ يَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُوَلِّدَهَا صَاحِبُ الْيَدِ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَالْجَارِيَةُ أَمُّ وَلَدٍ لَهُ بِاعْتِرَافِ الْمَالِكَ الْقَدِيمِ، وَهُوَ يَدَّعِي الثَّمَنَ، فَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ عَلَى نَفْيِهِ. فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الشِّرَاءِ، سَقَطَ عَنْهُ الثَّمَنُ الْمُدَّعَى. وَهَلْ يَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَيهِ بِشَيْءٍ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الثَّمَنِ وَالْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الثَّمَنَ، وَصَاحِبُ الْيَدِ مُقِرٌّ لَهُ بِالْمَهْرِ، فَالْأَقَلُّ مِنْهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ أَسْقَطَ الثَّمَنَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَمِينِهِ، وَالْمَهْرُ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ لَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ، فَلَا يُمْكِنُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ. وَهَلْ لِصَاحِبِ الْيَدِ تَحْلِيفُ الْمَالِكِ عَلَى نَفْيِ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ مَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الشِّرَاءِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى مِلْكَهَا وَتَزْوِيجَهَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِلْآخَرِ، لَمْ يُقْبَلْ، فَكَيْفَ يَحْلِفُ عَلَى مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ؟ ! وَالثَّانِي: نَعَمْ، طَمَعًا فِي أَنْ يَنْكُلَ فَيَحْلِفُ وَيَثْبُتُ لَهُ النِّكَاحُ. وَلَوْ نَكَلَ صَاحِبُ الْيَدِ [عَنِ الْيَمِينِ] عَلَى نَفْيِ الشِّرَاءِ، حَلَفَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالْجَارِيَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ، فَإِنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتُهُ، وَلَهُ وَطْؤُهَا فِي الْبَاطِنِ. وَفِي الْحِلِّ ظَاهِرًا، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تَحِلُّ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ لَا يَدْرِي، أَيَطَأُ زَوْجَتَهُ أَمْ مَمْلُوكَتَهُ؟ وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ، وَجَبَ الِاحْتِيَاطُ لِلْبِضْعِ، وَنَفَقَتُهَا عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ إِنْ جَوَّزْنَا لَهُ الْوَطْءَ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمَالِكِ الْقَدِيمِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَيهِ. وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا فِي كَسْبِ الْجَارِيَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَسْبٌ، فَفِي بَيْتِ الْمَالِ. وَلَوْ مَاتَتِ الْجَارِيَةُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُسْتَوْلِدِ، مَاتَتْ قَنَّةً، وَلِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَخْذُ الْقِيمَةِ

مِمَّا تَرَكَتْهُ مِنْ أَكْسَابِهَا، وَمَا فَضَلَ فَمَوْقُوفٌ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ. وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْتَوْلِدِ، مَاتَتْ حُرَّةً، وَمَالُهُا لِوَارِثِهَا بِالنَّسَبِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَدَّعِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَخْذُ الثَّمَنِ مِنْ تَرِكَتِهَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِزَعْمِهِ عَلَى الْمُسْتَوْلِدِ وَهِيَ قَدْ عُتِقَتْ بِمَوْتِهِ، فَلَا يُؤَدِّي دَيْنَهُ مِمَّا جَمَعَتْهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ. هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا أَصَرَّ عَلَى كَلَامَيْهِمَا. أَمَّا إِذَا رَجَعَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ، وَصَدَّقَ صَاحِبُ الْيَدِ، فَلَا يُقْبَلُ فِي رَدِّ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ، وَتَكُونُ أَكْسَابُهَا لَهُ مَا دَامَ الْمُسْتَوْلِدُ حَيًّا. فَإِذَا مَاتَ، عُتِقَتْ وَكَانَتْ أَكْسَابُهَا لَهَا. وَلَوْ رَجَعَ الْمُسْتَوْلِدُ، وَصَدَّقَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ، لَزِمَهُ الثَّمَنُ وَكَانَ وَلَاؤُهَا لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِقْرَارُ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمَيِّتِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ مَقْبُولٌ. فَلَوْ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِدَيْنٍ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ، فَقَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: أَنَّ عَلَى الْمُقِرِّ قَضَاءَ جَمِيعِ الدَّيْنِ مِنْ حِصَّتِهِ مِنَ التَّرِكَةِ إِنْ وَفَى بِهِ، وَإِلَّا فَيَصْرِفُ جَمِيعَ حِصَّتِهِ إِلَيهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ. وَالْجَدِيدُ: أَنَّهُ لَا يُلْزِمُهُ إِلَّا بِقِسْطِ حِصَّتِهِ مِنَ التَّرِكَةِ. فَعَلَى الْجَدِيدِ: لَوْ مَاتَ الْمُنْكِرُ وَوَرِثَهُ الْمُقِرُّ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْآنَ جَمِيعُ الدَّيْنِ الْمُقَرِّ بِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِحُصُولِ جَمِيعِ التَّرِكَةِ فِي يَدِهِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا: لَوْ شَهِدَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِدَيْنٍ عَلَى الْمُورَثِ. إِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ بِالْإِقْرَارِ إِلَّا حِصَّتُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَوْ قَبْلَهُ. الثَّانِي: كَيْسٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ فِيهِ أَلْفٌ. قَالَ أَحَدُهُمَا لِثَالِثٍ: لَكَ نِصْفُ مَا فِي هَذَا الْكِيسِ، فَهَلْ يُحْمَلُ إِقْرَارُهُ عَلَى النِّصْفِ الْمُضَافِ إِلَيهِ، أَمْ عَلَى نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ الرُّبُعُ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ. قُلْتُ: أَفْقَهُهُمَا الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَنَّ أَبَاهُ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِعَشَرَةٍ، فَهُوَ كَمَا [لَوْ] أَقَرَّ عَلَيهِ بِدَيْنٍ، فَعَلَى الْقَدِيمِ: تَتَعَلَّقُ كُلُّ الْعَشَرَةِ بِثُلُثِ نَصِيبِهِ. وَعَلَى الْجَدِيدِ: يَتَعَلَّقُ نِصْفُ الْعَشَرَةِ بِثُلُثِ نَصِيبِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَوْصَى بِرُبُعِ مَالِهِ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَعَلَى الْمُقِرِّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ رُبُعَ مَا فِي يَدِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَوْصَى بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ أَمْوَالِهِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُقَسِّمَا التَّرِكَةَ، فَنَصِيبُ الْمُقِرِّ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ يُصْرَفُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، وَالْبَاقِي لِلْمُنْكِرِ. وَإِنِ اقْتَسَمَاهُمَا، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ، لَزِمَهُ دَفْعُهَا إِلَى الْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُنْكِرِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ أَخْذُ نِصْفِ الْقِيمَةِ مِنَ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهُ عَلَيهِ بِالْقِسْمَةِ. وَلَوْ شَهِدَ الْمُقِرُّ لِلْمُوصَى لَهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَيَغْرَمُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيهِ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ خَرَجَ بَعْضُ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ مُسْتَحَقًّا. الرَّابِعَةُ: قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُكَ عَلَى أَلْفٍ، فَطَالَبَهُ بِالْأَلْفِ، فَأَنْكَرَ الْعَبْدُ وَحَلَفَ، سَقَطَتْ دَعْوَى الْمَالِ، وَحُكِمَ بِعِتْقِ الْعَبْدِ، لِإِقْرَارِهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ نَفْسَكَ إِذَا صَحَّحْنَا هَذَا التَّصَرُّفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَوْ قَالَ لِوَلَدِ عَبْدِهِ: بِعْتُكَ وَالِدَكَ بِكَذَا، فَأَنْكَرَ، فَكَذَلِكَ، لِاعْتِرَافِهِ بِمَصِيرِهِ حُرًّا بِالْمِلْكِ. الْخَامِسَةُ: قَالَ: لِفُلَانٍ عِنْدِي خَاتَمٌ، ثُمَّ جَاءَ بِخَاتَمٍ، فَقَالَ: هُوَ هَذَا الَّذِي أَقْرَرْتُ بِهِ، فَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَعَلَيهِ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَلْزَمُ التَّسْلِيمُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: الْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ. وَالثَّانِي: عَلَى مَا إِذَا قَالَ: الَّذِي أَقْرَرْتُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَيْسَ هَذَا لِي، فَلَا يُسَلَّمُ مَا جَاءَ بِهِ إِلَيهِ. وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ فِي نَفْيِ غَيْرِهِ. السَّادِسَةُ: قَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ ضَمِنْتَهُ، فَقَالَ: مَا ضَمِنْتُ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ قِيمَةِ مُتْلَفٌ، لَزِمَ الْأَلْفُ الْأَصَحُّ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَابُ، مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْغَصْبِ:

وَلَوْ أَقَرَّ بِدَارٍ مُبْهَمَةٍ وَلَمْ يُعَيِّنْهَا حَتَّى مَاتَ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي التَّعْيِينِ. فَإِنْ عَيَّنَهَا فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، طُولِبَ بِالتَّعْيِينِ، فَإِنِ امْتَنَعَ، كَانَ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يُعِيَّنَ. فَإِنْ عَيَّنَ وَصَدَّقَهُ الَوْارِثُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا لَيْسَتِ الْمُقِرَّ بِهَا، فَإِنْ حَلَفَ، طُولِبَ بِالتَّعْيِينِ، فَإِنِ امْتَنَعَ، حُبِسَ حَتَّى يُعَيِّنَ. قَالَ الْقَاضِي أَيْضًا فِي آخِرِ الْغَصْبِ: لَوْ بَاعَ دَارًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ لِغَيْرِهِ بَاعَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهِيَ مِلْكُهُ إِلَى الْآنِ، وَكَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي، وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ مِلْكِي أَوْ دَارِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهَا مِلْكُهُ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَإِلَّا سُمِعَتْ. قَالَ الشَّاشِيُّ: لَوْ قَالَ: غَصَبْتُ دَارَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ دَارَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ رَجُلٌ، فَأَقَرَّ الْبَائِعُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَنَّهُ مِلْكُ الْمُدَّعِي، صَحَّ إِقْرَارُهُ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ لَهُ الْفَسْخَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ، لِعَجْزِهِ عَنِ الْفَسْخِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِثِيَابِ بَدَنِهِ لِزَيْدٍ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي «الْفَتَاوَى» : يَدْخُلُ فِيهِ الطَّيْلَسَانُ وَالدَّوَاجُّ وَكُلُّ مَا يَلْبِسُهُ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخُفُّ، وَالْمُرَادُ بِالدَّوَاجِّ: اللِّحَافُ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْقَاضِي هَذَا، أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْفَرْوَةُ فَإِنَّهَا مِمَّا يَلْبِسُهُ، وَلَا شَكَّ فِي دُخُولِهَا. وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَيهِ، لِئَلَّا يُتَشَكَّكَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ أَوْصَى بِثِيَابِ بَدَنِهِ. وَلَوْ كُتِبَ عَلَى قِرْطَاسٍ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا، وَكَذَا الْإِشْهَادُ عَلَيهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّلَفُّظِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ بِالنَّسَبِ، أَنْ يَكُونَ بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي سَائِرِ الْمُقِرِّينَ كَمَا سَبَقَ. ثُمَّ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يُلْحِقَ النَّسَبِ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِغَيْرِهِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُلْحِقَهُ بِنَفْسِهِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أُمُورٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُكَذِّبَهُ الْحِسُّ، فَيَكُونُ مَا يَدَّعِيهِ مُمْكِنًا. فَلَوْ كَانَ فِي سِنٍّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا لِلْمُسْتَلْحِقِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِإِقْرَارِهِ. فَلَوْ قَدِمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ وَمَعَهَا صَبِيٌّ، وَادَّعَاهُ مُسْلِمٌ، لَحِقَهُ إِنِ احْتَمَلَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهَا، أَوْ أَنَّهَا قَدِمَتْ إِلَيهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَلْحَقْهُ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَشْهُورَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ بِهِ أَمْ كَذَّبَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُقَرُّ بِهِ إِنْ كَانَ مُعْتَبَرَ التَّصْدِيقِ. فَإِنِ اسْتَلْحَقَ بَالِغًا فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، حَلَفَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُدَّعِي وَثَبَتَ نَسَبُهُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَبِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ بِيَمِينِهِ. أَمَّا إِذَا اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ حَتَّى يَرِثَ مِنْهُ الصَّغِيرُ لَوْ مَاتَ، وَيَرِثُ هُوَ الصَّغِيرَ إِنْ مَاتَ. وَإِنِ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا، فَلَمَّا بَلَغَ كَذَّبَهُ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْدَفِعُ النَّسَبُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْدَفِعُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَحْتَاطُ لَهُ فَلَا يَنْدَفِعُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الْمُقَرُّ لَهُ تَحْلِيفَهُ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ، لَمْ يُقْبَلْ، فَلَا مَعْنَى لِتَحْلِيفِهِ. وَلَوِ اسْتَلْحَقَ مَجْنُونًا، فَأَفَاقَ وَأَنْكَرَ، فَعَلَى الَوَجْهَيْنِ.

وَلَوِ اسْتَلْحَقَ صَبِيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ، لَحِقَهُ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَالٌ، أَمْ لَا، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى التُّهْمَةِ بِطَلَبِ الْمَالِ، بَلْ يَرِثُهُ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ، حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، قُبِلَ مِنْهُ وَحُكِمَ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ. وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ بَالِغًا، فَوَجْهَانِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ لُحُوقِ الْبَالِغِ تَصْدِيقُهُ، وَلَا تَصْدِيقَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ رُبَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ إِنْكَارِهِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَلْحَقُهُ كَالصَّغِيرِ. وَمَنَعُوا كَوْنَ التَّصْدِيقِ شَرْطًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ إِذَا كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ أَهْلًا لِلتَّصْدِيقِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالتُّهْمَةِ كَمَا سَبَقَ. وَيَجْرِي الَوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا اسْتَلْحَقَ مَجْنُونًا طَرَأَ جُنُونُهُ بَعْدَ مَا بَلَغَ عَاقِلًا. فَرْعٌ إِذَا ازْدَحَمَ جَمَاعَةٌ عَلَى الِاسْتِلْحَاقِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ بَالِغًا، ثَبَتَ نَسَبُهُ مِمَّنْ صَدَّقَهُ، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا، لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَلْ حُكْمُهُ مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِ اللَّقِيطِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِذَا عُدِمَ زَحْمَةُ الْغَيْرِ، شُرِطَ رَابِعٌ فِي الصَّغِيرِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ ذَكَرًا حُرًّا. فَأَمَّا اسْتِلْحَاقُ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، فَسَيَأْتِيَانِ فِي بَابِ اللَّقِيطِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ إِذَا اسْتَلْحَقَ عَبْدَ الْغَيْرِ، أَوْ مُعْتَقَهُ، لَمْ يُلْحَقْ إِنْ كَانَ صَغِيرًا، مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّ الَوْلَاءِ لِلسَّيِّدِ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيِّنَةِ. وَإِنْ كَانَ بَالِغًا وَصَدَّقَهُ، فَوَجْهَانِ. وَلَوِ اسْتَلْحَقَ عَبْدًا فِي يَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْإِمْكَانُ، بِأَنْ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ، لَغَا قَوْلُهُ. وَإِنْ وَجَدَ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ النَّسَبِ، لَحِقَهُ إِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَحُكِمَ بِعِتْقِهِ. وَكَذَا

فصل

إِنْ كَانَ بَالِغًا وَصَدَّقَهُ. وَإِنْ كَذَّبَهُ، لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ. وَفِي الْعِتْقِ، وَجْهَانِ. وَكَذَا إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ. فَرْعٌ اسْتَلْحَقَ بَالِغًا عَاقِلًا، فَوَافَقَهُ، ثُمَّ رَجَعَا، قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَسْقُطُ النَّسَبُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ وَرَجَعَ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ الْمَحْكُومَ بِثُبُوتِهِ لَا يَرْتَفِعُ بِالِاتِّفَاقِ، كَالثَّابِتِ بِالْفِرَاشِ. فَصْلٌ لَهُ جَارِيَةٌ ذَاتُ وَلَدٍ، فَقَالَ: هَذَا وَلَدِي مِنْ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. وَفِي كَوْنِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ، قَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَجَمَاعَةٍ: نَعَمْ. وَأَشْبَهُهُمَا بِالْقَاعِدَةِ، وَأَقْرَبُهُمَا إِلَى الْقِيَاسِ: لَا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكَهَا. وَلَوْ قَالَ: وَلَدِي اسْتَوْلَدْتُهَا بِهِ فِي مِلْكِي، أَوْ عَلِقْتُ بِهِ فِي مِلْكِي، إِنْ قَطَعَ الِاحْتِمَالَ، وَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ قَطْعًا. وَكَذَا لَوْ قَالَ: هَذَا وَلَدِي مِنْهَا، وَهِيَ فِي مِلْكِي مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ الَوْلَدُ ابْنَ سَنَةٍ. وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْأَمَةُ مُزَوَّجَةً، وَلَا فِرَاشًا لَهُ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُزَوَّجَةً، فَلَا يُنْسَبُ الَوْلَدُ إِلَى السَّيِّدِ، وَلَا أَثَرَ لِاسْتِلْحَاقِهِ، لِلُحُوقِهِ بِالزَّوْجِ. وَإِنْ كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا، لَحِقَهُ الَوْلَدُ بِالْفِرَاشِ، لَا بِالْإِقْرَارِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إِلَّا الْإِمْكَانُ. وَلَا فَرْقَ فِي الِاسْتِلْحَاقِ بِالِاسْتِيلَادِ، بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الصِّحَّةِ، أَوْ فِي الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ إِنْشَاءَهُ نَافِذٌ فِي الْحَالَيْنِ.

فَرْعٌ لَهُ أَمَتَانِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَلَدٌ، فَقَالَ: أَحَدُهُمَا وَلَدِي، فَلِلْأَمَتَيْنِ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا تَكُونَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا مُزَوَّجَةً وَلَا فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ، فَيُؤْمَرُ بِالتَّعْيِينِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِطَلَاقِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ، فَإِذَا عَيَّنَ أَحَدَهُمَا، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَكَانَ حُرًّا وَوَرِثَهُ. وَهَلْ تَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ؟ يُنْظَرُ، إِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى اسْتِلْحَاقِهِ، فَقَوْلَانِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا بِهِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا فِي النِّكَاحِ، لَمْ تَصِرْ، وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَقَوْلَانِ. وَإِنْ قَالَ: اسْتَوْلَدْتُهَا بِالزِّنَا مَفْصُولًا عَلَى الِاسْتِلْحَاقِ، لَمْ يُقْبَلْ، وَكَانَتْ أُمَيَّةَ الَوْلَدِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ الِاسْتِلْحَاقَ، وَإِنْ وَصَلَهُ بِاللَّفْظِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا أُمَيَّةُ الَوْلَدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَلَى قَوْلَيْ تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ. وَلَوِ ادَّعَتِ الْأَمَةُ الْأُخْرَى أَنَّ وَلَدَهَا هُوَ الَّذِي اسْتَلْحَقَهُ، وَأَنَّهَا الْمُسْتَوْلَدَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ. وَكَذَا لَوْ بَلَغَ الَوْلَدُ وَادَّعَى، فَإِنْ نَكَلَ السَّيِّدُ، حَلَفَ الْمُدَّعِي وَقُضِيَ بِمُقْتَضَى يَمِينِهِ. وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ قُبِلَ التَّعْيِينُ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي التَّعْيِينِ، وَحُكْمُ تَعْيِينِهِمْ حُكْمُ تَعْيِينِهِ فِي النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَالْإِرْثِ، وَتَكُونُ أُمُّ الْمَعَيَّنِ مُسْتَوْلَدَةً إِنْ ذَكَرَ السَّيِّدُ مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الِاسْتِيلَادِ، وَإِلَّا سُئِلُوا، وَحُكْمُ بَيَانِهِمْ حُكْمُ بَيَانِ الْمُورَثِ. فَإِنْ قَالَوْا: لَا نَعْلَمُ كَيْفَ اسْتَوْلَدَ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ الِاسْتِلْحَاقَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ الِاسْتِلْحَاقَ. وَيَجُوزُ ظُهُورُ الْحَالِ لِلْقَائِفِ مَعَ مَوْتِ الْمُسْتَلْحِقِ، بِأَنْ كَانَ رَآهُ، أَوْ يَرَى قَبْلَ الدَّفْنِ، أَوْ يَرَى عُصْبَتَهُ فَيَجِدُ الشَّبَهَ. فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الِاسْتِفَادَةِ بِالْقَائِفِ لِعَدَمِهِ، أَوْ لِإِلْحَاقِهِ الَوْلَدَيْنِ بِهِ، أَوْ نَفْيِهِمَا، أَوْ أُشْكِلَ الْأَمْرُ عَلَيهِ، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا لِيُعْرَفَ الْحُرُّ مِنْهُمَا، وَلَا يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُمَا لِيَنْتَسِبَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي وَلَدٍ، وَلَا قَائِفَ؛ لَأَنَّ الِاشْتِبَاهَ هُنَا فِي أَنَّ الَوْلَدَ أَيُّهُمَا؟ فَلَوِ اعْتَبَرْنَا الِانْتِسَابَ، رُبَّمَا

انْتَسَبَ جَمِيعًا إِلَيهِ، فَدَامَ الْإِشْكَالُ، وَلَا يُحْكَمُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ بِالنَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تَعْمَلُ فِيهِمَا. وَهَلْ يُوقَفُ نَصِيبُ ابْنٍ، بَيْنَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَبَيْنَ الْآخَرِ؟ وَجْهَانِ يَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُهُمَا. وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ، فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنَ السَّيِّدِ مَا يَقْتَضِيهِ، لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنْ وُجِدَ، فَهَلْ تَحْصُلُ أُمَيَّةُ الَوْلَدِ فِي أُمِّ ذَلِكَ الَوْلَدِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: لَا تَحْصُلُ. وَالثَّانِي: تَحْصُلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. فَرْعٌ حَيْثُ ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ، فَالَوْلَدُ حُرُّ الْأَصْلِ. لَا وَلَاءَ عَلَيهِ، وَحَيْثُ لَا يَثْبُتُ، فَعَلَيهِ الْوَلَاءُ إِلَّا إِذَا نَسَبَهُ إِلَى وَطْءِ شُبْهَةٍ وَقُلْنَا: لَا تَصِيرُ أَمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ الِاسْتِيلَادُ وَمَاتَ السَّيِّدُ، وَرِثَ الَوْلَدُ أَمَّهُ وَعُتِقَتْ عَلَيهِ. هَذَا إِذَا تَعَيَّنَ، لَا بِالْقُرْعَةِ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ، عُتِقَ نُصِيبُهُ وَلَمْ يَشْتَرِ. الْحَالُ الثَّانِي: إِذَا كَانَتِ الْأَمَتَانِ مُزَوَّجَتَيْنِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ السَّيِّدِ، وَوَلَدُ كُلِّ أَمَةٍ مُلْحَقٌ بِزَوْجِهَا. وَإِنْ كَانَتَا فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ، بِأَنْ كَانَ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا، لَحِقَهُ الَوْلَدَانِ بِالْفِرَاشِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُزَوَّجَةً، لَمْ يَتَعَيَّنْ إِقْرَارُهُ فِي الْأُخْرَى، بَلْ يُطَالَبُ بِالتَّعْيِينِ. فَإِنْ عَيَّنَ فِي وَلَدِ الْأُخْرَى، قُبِلَ وَثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا فِرَاشًا لَهُ، لَمْ يَتَعَيَّنْ إِقْرَارُهُ فِي وَلَدِهَا، بَلْ يُؤْمَرُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِنْ عَيَّنَ فِي وَلَدِ الْأُخْرَى، لَحِقَهُ بِالْإِقْرَارِ، وَالَوْلَدُ الْآخَرُ يُلْحَقُ بِهِ بِالْفِرَاشِ. فَرْعٌ لَهُ أَمَةٌ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ. قَالَ: أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي، وَلَمْ تَكُنْ مُزَوَّجَةً وَلَا فِرَاشًا

لِلسَّيِّدِ قَبْلَ وِلَادَتِهِمْ، طُولِبَ بِالتَّعْيِينِ، فَمَنْ عَيَّنَهُ مِنْهُمْ، فَهُوَ نَسِيبٌ حُرٌّ وَارِثٌ، وَالْقَوْلُ فِي الِاسْتِيلَادِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي مَرَّ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ الْأَوْسَطَ، فَالْأَكْبَرُ رَقِيقٌ، وَأَمْرُ الْأَصْغَرِ مَبْنِيٌّ عَلَى اسْتِيلَادِ الْأَمَةِ، فَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهَا مُسْتَوْلَدَةً، فَهُوَ رَقِيقٌ. وَإِنْ جَعَلْنَاهَا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَدَّعِ الِاسْتِبْرَاءَ بَعْدَ الْأَوْسَطِ، فَقَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ بِالْأَوْسَطِ، فَيَلْحَقُهُ الْأَصْغَرُ وَيَرِثُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا يَلْحَقُهُ، بَلْ لَهُ حُكْمِ الْأُمِّ، يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ. وَإِنِ ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ نَسَبَ مِلْكِ الْيَمِينِ، هَلْ يَنْتَفِي بِهِ؟ إِنْ قُلْنَا: يَنْتَفِي، لَمْ يَلْحَقْهُ الْأَصْغَرُ، وَفِي حُكْمِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَالْأُمِّ يُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَمِّ وَلَدٍ. وَالثَّانِي: يَكُونُ قِنًّا؛ لِأَنَّ وَلَدَ أَمِّ الَوْلَدِ قَدْ تَكُونُ كَذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَحْبَلَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَةَ وَقُلْنَا: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، فَبِيعَتْ فِي الْحَقِّ وَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ مَلَكَهَا وَأَوْلَادَهَا، فَإِنَّهَا تَحْكُمُ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْأَوْلَادُ أَرِقَّاءٌ لَا يَأْخُذُونَ حُكْمَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يَأْخُذُونَ. وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ التَّعْيِينِ، عَيَّنَ وَارِثُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ، أَوْ قَالَ: لَا أَعَرِفُ، عُرِضُوا عَلَى الْقَافَّةِ لِيُعِيِّنَ، وَالْحُكْمُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، كَمَا لَوْ عَيَّنَ السَّيِّدُ. فَإِنْ تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ الْقَائِفِ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ لِيَعْرِفَ الْحُرِّيَّةَ. وَثُبُوتُ الِاسْتِيلَادِ، عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ. وَاعْتَرَضَ الْمُزَنِيُّ بِأَنَّ الْأَصْغَرَ حُرٌّ بِكُلِّ حَالٍ عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ الْمُقَرُّ بِهِ، أَوْ وَلَدُ أُمِّ وَلَدٍ. وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ، يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، إِذَا كَانَ حُرًّا بِكُلِّ حَالٍ، لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقُرْعَةِ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا خَرَجَتْ عَلَى غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ إِرْقَاقُهُ. وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي الْجَوَابِ، فَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ حُرِّيَّتَهُ وَقَالَوْا: دُخُولُهُ فِي الْقُرْعَةِ إِنَّمَا هُوَ لِرِقِّ غَيْرِهِ، وَيُعْتَقُ هُوَ إِنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَمَنَعَهَا آخَرُونَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الَوْلَدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا، وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ الصَّغِيرَ يَخْرُجُ عَنِ

الْقُرْعَةِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. فَإِذَا أَقْرَعْنَا فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِوَاحِدٍ، فَهُوَ حُرٌّ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ لَا يَثْبُتَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: الْأَصْغَرُ نَسِيبٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَأَبْطَلَ الْأَصْحَابُ قَوْلَهُ، لَكِنَّ الْحَقَّ الْمُطَابِقَ لِمَا سَبَقَ، أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ السَّيِّدُ قَدِ ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ قَبْلَ وِلَادَةِ الْأَصْغَرِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَدَّعِ. وَيُوَافِقُ الْمُزَنِيُّ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ، ثَبَتَتِ الْحُرِّيَّةُ قَطْعًا. وَحَيْثُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، فَهَلْ يُوقَفُ الْمِيرَاثُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا؛ لِأَنَّهُ إِشْكَالٌ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ زَوَالِهِ، فَأَشْبَهَ غَرَقَ الْمُتَوَارِثِينَ. وَالثَّانِي: بَلَى كَمَا لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُلْحِقَ النَّسَبَ بِغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: هَذَا أَخِي ابْنُ أَبِي وَابْنُ أُمِّي، أَوْ يُقِرُّ بِعُمُومَةِ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ مُلْحِقًا لِلنَّسَبِ بِالْجَدِّ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِهَذَا الْإِلْحَاقِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيمَا إِذَا أَلْحَقَ بِنَفْسِهِ، وَبِشُرُوطٍ أُخَرَ. إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُلْحَقُ بِهِ مَيِّتًا، فَمَا دَامَ حَيًّا، لَيْسَ لِغَيْرِهِ الْإِلْحَاقُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا. الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُلْحَقُ بِهِ قَدْ نَفَى الْمُقَرَّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ نَفَاهُ ثُمَّ اسْتَلْحَقْهُ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ مُعْظَمُ الْعِرَاقِيِّينَ: يُلْحِقُهُ كَمَا لَوِ اسْتَلْحَقَهُ الْمُورِثُ بَعْدَ مَا نَفَاهُ بِلِعَانٍ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ. وَالثَّالِثُ: صُدُورُ الْإِقْرَارِ مِنَ الَوْرَثَةِ الْحَائِزِينَ لِلتَّرِكَةِ. فَرْعٌ إِقْرَارُ الْأَجْنَبِيِّ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنٍ كَافِرٍ، أَوْ قَاتِلٍ، أَوْ رَقِيقٍ، لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ عَلَيهِ بِالنَّسَبِ، كَمَا لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ عَلَيهِ بِمَالٍ.

وَلَوْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ. كَافِرٌ وَمُسْلِمٌ، لَمْ تُعْتَبَرْ مُوَافَقَةُ الْكَافِرِ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ كَافِرًا كَفَى اسْتِلْحَاقُ الْكَافِرِ. وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ، بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مُسْلِمًا، أَوْ كَافِرًا. فَرْعٌ مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِابْنٍ آخَرَ، ثَبَتَ نَسَبُهُ. وَلَوْ مَاتَ وَخَلَفَ بَنِينَ، أَوْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ اتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا. وَتُعْتَبَرُ مُوَافَقَةُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا تُعْتَبَرُ، لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْمَوْتِ، وَيَجْرِي الَوَجْهَانِ فِي الْمُعْتَقِ. وَلَوْ خَلَفَ بِنْتًا وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَتْ حَائِزَةً بِأَنْ كَانَتْ مُعْتَقَةً، ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهُا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَائِزَةً وَوَافَقَهَا الْإِمَامُ، فَوَجْهَانِ يَجْرِيَانِ فِيمَا إِذَا مَاتَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَأَلْحَقَ الْإِمَامُ بِهِ مَجْهُولًا، أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ: الثُّبُوتُ بِمُوَافَقَةِ الْإِمَامِ. هَذَا إِذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ لَا عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ، أَمَّا إِذَا ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَقْضِي بِعِلْمِ نَفْسِهِ، ثَبَتَ النَّسَبُ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حِيَازَةُ الْمُلْحَقِ تَرِكَةَ الْمُلْحَقِ بِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، أَمْ بِوَاسِطَةٍ، كَمَنْ أَقَرَّ بِعُمُومَةِ مَجْهُولٍ وَهُوَ حَائِزٌ لِتَرِكَةِ أَبِيهِ الْحَائِزِ تَرِكَةَ جَدِّهِ الْمُلْحَقِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ جَدِّهِ، وَالَوْارِثُ ابْنُ الِابْنِ، فَلَا وَاسِطَةَ. فَرْعٌ وَارِثَانِ، بَالِغٌ وَصَغِيرٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَالِغَ لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِقْرَارِ، وَفِي وَجْهٍ: يَنْفَرِدُ وَيُحْكَمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فِي الْحَالِ. وَعَلَى الصَّحِيحِ: يُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ. فَإِنْ بَلَغَ وَوَافَقَ الْبَالِغُ، ثَبَتَ النَّسَبُ حِينَئِذٍ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُخْلِفْ

سِوَى الْمُقِرِّ، ثَبَتَ النَّسَبُ حِينَئِذٍ. فَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ إِقْرَارًا - وَإِنْ خَلَفَ وَرَثَةً سِوَاهُمْ - اعْتَبَرَ مُوَافَقَتَهُمْ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْنُونًا، فَكَالصَّبِيِّ. وَلَوْ خَلَفَ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُخْلِفْ إِلَّا أَخَاهُ الْمُقِرَّ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَثْبُتُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ صَارَ لَهُ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْفَرْعِ مَسْبُوقٌ بِإِنْكَارِ الْأَصْلِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا خَلَفَ الْمُنْكِرُ وَارِثًا فَأَقَرَّ ذَلِكَ الَوْارِثُ. وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ ثُمَّ مَاتَ السَّاكِتُ وَابْنُهُ مُقِرٌّ، ثَبَتَ النَّسَبُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِتَكْذِيبِ الْأَصْلِ. فَرْعٌ أَقَرَّ الِابْنُ الْمُسْتَغْرِقُ بِأَخٍ مَجْهُولٍ، فَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ نَسَبَ الْمَعْرُوفِ، لَمْ يَتَأَثَّرْ بِإِنْكَارِهِ نَسَبُ الْمَشْهُورِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ: يَحْتَاجُ الْمُقِرُّ إِلَى بَيِّنَةٍ عَلَى نَسَبِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْمَجْهُولِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ أَقَرَّا بِثَالِثٍ، فَأَنْكَرَ الثَّالِثُ نَسَبَ الثَّانِي، فَفِي سُقُوطِ نَسَبِ الثَّانِي وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: السُّقُوطُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُ الثَّالِثِ فَاعْتُبِرَتْ مُوَافَقَتُهُ فِي ثُبُوتِ نَسَبِ الثَّانِي. وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخَوَيْنِ مَجْهُولَيْنِ، فَصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، ثَبَتَ نَسَبُهُمَا، وَإِنْ كَذَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، ثَبَتَ النَّسَبَانِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْ حَائِزِ التَّرِكَةِ. وَإِنْ صَدَّقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، ثَبَتَ نَسَبُ الْمُصَدِّقِ فَقَطْ، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَجْهُولَانِ تَوْأَمَيْنِ، فَإِنْ كَانَا، فَلَا أَثَرَ لِتَكْذِيبِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ، فَإِذَا أَقَرَّ الَوْارِثُ بِنَسَبِ أَحَدِهِمَا، ثَبَتَ نَسَبُهُمَا.

فَرْعٌ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَنْ يَحْجُبُ الْمُقِرَّ، بِأَنْ مَاتَ عَنْ أَخٍ فَأَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ فِي الْمِيرَاثِ الْمُقَرُّ بِهِ حَالَانِ. الْأُولَى: أَنْ لَا يَحْجُبَ الْمُقِرِّينَ، فَيَشْتَرِكُونَ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ. وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ الْمُعْتَرِفَيْنِ بِأَخٍ، فَأَنْكَرَهُ الْأَخُ الْآخَرُ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَا يَرِثُ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ فَرْعُ النَّسَبِ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَمَا سَبَقَ. وَفِي وَجْهٍ: يَرِثُ، وَيُشَارِكُ الْمُقِرُّ فِيمَا فِي يَدِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: فُلَانَةُ بِنْتُ أَبِينَا، فَأَنْكَرَ الْآخَرُ، حَرُمَ عَلَى الْمُقِرِّ نِكَاحُهَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ لَعَبْدٍ فِي التَّرِكَةِ: إِنَّهُ ابْنُ أَبِينَا، هَلْ يَحْكُمُ بِعِتْقِهِ؟ وَجْهَانِ. وَكَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَقَارِ لِثَالِثٍ: بِعْتُكَ نَصِيبِي، فَأَنْكَرَ، لَا يَثْبُتُ الشِّرَاءُ. وَفِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ خِلَافٌ. وَكَمَا لَوْ قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو كَذَا وَأَنَا ضَامِنُهُ، فَأَنْكَرَ عَمْرٌو، فَفِي مُطَالَبَةِ الْمُقِرِّ بِالضَّمَانِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمُطَالَبَةُ، كَمَا لَوِ اعْتَرَفَ الزَّوْجُ بِالْخُلْعِ، وَأَنْكَرَتِ الْمَرْأَةُ، ثَبَتَتِ الْبَيْنَونَةُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْمَالُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ، وَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، قُبِلَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ، فَهَلْ عَلَى الْمُقِرِّ إِذَا كَانَ صَادِقًا أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا يَرِثُهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِعِلْمِهِ بِاسْتِحْقَاقِهِ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يُشْرِكُهُ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، أَمْ بِثُلُثِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَحْجُبَهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ، بِأَنْ كَانَ الَوْارِثُ صَغِيرًا فِي الظَّاهِرِ أَخًا أَوْ مُعْتَقًا، فَأَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، فَذَاكَ. وَإِنْ أَثْبَتْنَاهُ، لَمْ يَرْثِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِلدَّوْرِ، وَالثَّانِي: يَرِثُ وَيَحْجُبُ الْمُقِرَّ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالُوا: الْمُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا، لَوْلَا إِقْرَارُهُ. وَلَوْ خَلَفَ بِنْتًا مُعْتَقَةً، فَأَقَرَّتْ بِأَخٍ لَهَا، فَهَلْ يَرِثُ وَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لَكَوْنِ تَوْرِيثِهِ لَا يَحْجُبُهَا، أَمْ لَا لِأَنَّهُ يَمْنَعُهَا عُصُوبَةَ الَوْلَاءِ؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ ادَّعَى مَجْهُولٌ عَلَى أَخِي الْمَيِّتِ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ، فَأَنْكَرَ الْأَخُ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ، ثَبَتَ نَسَبُهُمْ، ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: النُّكُولُ مَعَ يَمِينِ الرَّدِّ كَالْبَيِّنَةِ، وَرِثَ وَحُجِبَ الْأَخُ. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي إِقْرَارِ الْأَخِ. وَلَوْ مَاتَ عَنِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، فَأَقَرَّا بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ، فَعَلَى الْأَصَحِّ: تُسَلَّمُ الْأُخْتُ نَصِيبَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَهَا الِابْنُ يَحْجُبُهَا، وَعَلَى الثَّانِي: يَأْخُذُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهَا. وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا لَوْ خَلَفَ زَوْجَةً وَأَخًا، فَأَقَرَّا بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ، يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَذَا الِابْنُ لَا يُنْقِصُ حَقَّهَا، كَمَا لَا يَسْقُطُ الْأَخُ. فَرْعٌ إِقْرَارُ الَوْرَثَةِ بِزَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ لِلْمَيِّتِ، مَقْبُولٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ عَنِ الْقَدِيمِ قَوْلُ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ. فَإِنْ قَبِلْنَا فَأَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ الْمُسْتَغْرِقَيْنِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَالتَّوْرِيثُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ.

فَرْعٌ قَالَ: زَيْدٌ أَخِي، ثُمَّ فَسَّرَ بِأُخُوَّةِ الرَّضَاعِ، حَكَى الرُّويَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ الْأَشْبَهَ بِالْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا لَوْ فَسَّرَ بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُقْبَلْ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ، أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى أَبِيهِ بِالْوَلَاءِ، فَقَالَ: هُوَ مُعَتَقُ فُلَانٍ، ثَبَتَ الَوْلَاءُ عَلَيهِ إِنْ كَانَ الْمُقِرُّ مُسْتَغْرِقًا، كَمَا فِي النَّسَبِ. قُلْتُ: لَوْ خَلَفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ فَأَقَرَّ ابْنَانِ بِرَابِعٍ، وَأَنْكَرَهُ الثَّالِثُ، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِهِمَا، لَكِنْ إِذَا شَهِدَا بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِشُرُوطِ الشَّهَادَةِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ. لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ شَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا فِيهِ ضَرَرًا، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب العارية

كِتَابُ الْعَارِيَّةِ هِيَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْغَرِيبِ: وَقَدْ تُخَفَّفُ، وَفِيهِ بَابَانِ. الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: الْمُعِيرُ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَمْلِكَ لِلْمَنْفَعَةِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيهِ فِي التَّبَرُّعَاتِ، فَيَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُعِيرَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدٍ أَوْ سَكَنِ دَارٍ وَنَحْوِهِمَا أَنْ يُعِيرَهُمَا، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ لِنَفْسِهِ بِوَكِيلِهِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُعِيرَ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ لِمَنْ يَخْدِمُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هِبَةٌ لِمَنَافِعِهِ، فَأَشْبَهَ إِعَارَةَ مَالِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى خِدْمَةٍ تُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ، أَمَّا مَا كَانَ مُحَقَّرًا بِحَيْثُ لَا يُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ، فَالظَّاهِرُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أَفْعَالُ السَّلَفِ: أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالصَّبِيِّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ «الْحَجْرِ» نَحْوُ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُسْتَعِيرُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ كَوْنُهُ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ عَلَيهِ بِعَقْدٍ يَشْتَمِلُ عَلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَلَا تَصِحُّ الْإِعَارَةُ لِلصَّبِيِّ، كَمَا لَا يُوهَبُ لَهُ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُسْتَعَارُ، وَلَهُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مُنْتَفِعًا بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَالْعَبْدِ، وَالثَّوْبِ، وَالدَّابَّةِ، وَالدَّارِ، فَلَا يَجُوزُ إِعَارَةُ الطَّعَامِ قَطْعًا، وَلَا الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي إِعَارَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا. ثُمَّ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ كَلَامِ

الْأَصْحَابِ، أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ إِعَارَةَ الدَّرَاهِمِ، فَأَمَّا إِذَا صَرَّحَ بِالْإِعَارَةِ لِلتَّزْيِينِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ بِالصِّحَّةِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّهُ اتَّخَذَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مَقْصُودًا وَإِنْ ضَعُفَتْ، وَإِذَا لَمْ نُصَحِّحْهَا، فَجَرَتْ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ الصَّحِيحَةَ مَضْمُونَةٌ، وَلِلْفَاسِدِ حُكْمُ الصَّحِيحِ فِي الضَّمَانِ، وَقِيلَ: لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِعَارِيَّةٍ صَحِيحَةٍ وَلَا فَاسِدَةٍ. وَمَنْ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ لَا لِمَنْفَعَتِهِ، كَانَ أَمَانَةً. الشَّرْطُ الثَّانِي: كَوْنُ الْمَنْفَعَةِ مُبَاحَةً، فَيَحْرُمُ اسْتِعَارَةُ الْجَارِيَةِ لِلِاسْتِمْتَاعِ. وَأَمَّا لِلْخِدْمَةِ، فَيَجُوزُ إِنْ أَعَارَهَا لِمُحْرِمٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ، لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا تُشْتَهَى، أَوْ قَبِيحَةً، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِذَا أَعَارَهَا، صَحَّتِ الْإِعَارَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً. وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ بِالْفَسَادِ، كَالْإِجَارَةِ لِلْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَيُشْعِرُ بِهِ إِطْلَاقُ الْجُمْهُورِ نَفْيَ الْجَوَازِ. فَرْعٌ يُكْرَهُ اسْتِعَارَةُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِلْخِدْمَةِ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَهُمَا مَكْرُوهٌ، وَلَفْظُ الْإِمَامِ بِنَفْيِ الْحِلِّ. قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ الْأَصْحَابُ، أَنَّهُ يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: وَيُكْرَهُ أَيْضًا اسْتِئْجَارُهُمَا. وَقَدْ يَجُوزُ إِعَارَةُ مَا لَا يَجُوزُ إِجَارَتُهُ، وَهُوَ الْفَحْلُ لِلضِّرَابِ، وَالْكَلْبُ لِلصَّيْدِ، فَإِنَّ إِعَارَتَهُمَا صَحِيحَةٌ، وَإِجَارَتَهُمَا بَاطِلَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَتُكْرَهُ إِعَارَةُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. قُلْتُ: صَرَّحَ الْجُرْجَانِيُّ وَآخَرُونَ، بِأَنَّهَا حَرَامٌ، وَصَرَّحَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَآخَرُونَ، بِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ الْجَوَازُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ يَحْرُمُ عَلَى الْحَلَالِ إِعَارَةُ الصَّيْدِ مِنَ الْمُحْرِمِ، فَإِنْ فَعَلَ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ، ضَمِنَ الْجَزَاءَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقِيمَةُ لِلْحَلَالِ. وَلَوْ أَعَارَ الْمُحْرِمُ حَلَالًا، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِحْرَمُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الصَّيْدِ فَلَا قِيمَةَ لَهُ عَلَى الْحَلَالِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ، وَعَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْإِعَارَةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إِرْسَالُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ، صَحَّتِ الْإِعَارَةُ، وَعَلَى الْحَلَالِ الْقِيمَةُ إِنْ تَلِفَ عِنْدَهُ. فَرْعٌ دَفَعَ شَاةً إِلَى رَجُلٍ وَقَالَ: مَلَّكْتُكَ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا، فَهِيَ هِبَةٌ فَاسِدَةٌ، وَمَا حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، كَالْمَقْبُوضِ بِالْهِبَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالشَّاةُ مَضْمُونَةٌ بِالْعَارِيَّةِ الْفَاسِدَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَبَحْتُ لَكَ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: مَلَّكْتُكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا إِبَاحَةٌ صَحِيحَةٌ، وَالشَّاةُ عَارِيَةٌ صَحِيحَةٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. قُلْتُ: هَذَا أَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَاحِبُ «الشَّامِلِ» ، وَحَكَمَ

هَذَانِ وَالْمُتَوَلِّي بِالصِّحَّةِ فِيمَا إِذَا أَعَارَهُ الشَّاةَ لِيَأْخُذَ لَبَنَهَا، أَوْ أَعَارَهُ شَجَرَةً لِيَأْخُذَ ثَمَرَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلَى هَذَا، قَدْ تَكُونُ الْعَارِيَّةُ لِاسْتِفَادَةِ عَيْنٍ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ الْمَنْفَعَةِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ. وَلَوْ قَالَ: مَلَّكْتُكَ دَرَّهَا، أَوْ أَبَحْتُكَهُ عَلَى أَنْ تَعْلِفَهَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْعَلَفُ أُجْرَةُ الشَّاةِ وَثَمَنُ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، فَالشَّاةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ، وَالدَّرُّ وَالنَّسْلُ مَضْمُونَانِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ. وَكَذَا لَوْ دَفَعَ قُرَاضَةً إِلَى سَقَّاءٍ، وَأَخَذَ الْكُوزَ لِيَشْرَبَ، فَسَقَطَ الْكُوزُ مِنْ يَدِهِ وَانْكَسَرَ، ضَمِنَ الْمَاءَ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ، وَلَمْ يَضْمَنِ الْكُوزَ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ، وَإِنْ أَخَذَهُ مَجَّانًا، فَالْكُوزُ عَارِيَةٌ، وَالْمَاءُ كَالْمَقْبُوضِ بِالْهِبَةِ الْفَاسِدَةِ. فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: تَعْيِينُ الْمُسْتَعَارِ عِنْدَ الْإِعَارَةِ، لَيْسَ بِشَرْطٍ. حَتَّى لَوْ قَالَ: أَعِرْنِي دَابَّةً، فَقَالَ: ادْخُلِ الْإِصْطَبْلَ فَخُذْ مَا أَرَدْتَ، صَحَّتِ الْعَارِيَّةُ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا تُصَانُ عَنْ مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ لَا يُحْتَمَلُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ، وَاللَّفْظُ الْمُعْتَدُّ بِهِ فِي الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي الِانْتِفَاعِ، كَقَوْلِهِ: أَعَرْتُكَ، أَوْ خُذْهُ لِتَنْتَفِعَ بِهِ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا. وَاخْتَلَفَوا فِي الَوْاجِبِ مِنَ اللَّفْظِ، فَالْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ مَا قَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَالْفِعْلُ مِنَ الْآخَرِ. حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُسْتَعِيرُ: أَعِرْنِي، فَسَلَّمَهَ الْمَالِكُ إِلَيهِ، صَحَّتِ الْإِعَارَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: خُذْهُ لِتَنْتَفِعَ بِهِ، فَأَخَذَهُ، قِيَاسًا عَلَى إِبَاحَةِ الطَّعَامِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ مِنْ جِهَةِ الْمُعِيرِ، وَلَا يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَعِيرِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ

مِنْهُ الْقَبُولُ، إِمَّا بِالْفِعْلِ وَإِمَّا بِالْقَوْلِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، حَتَّى لَوْ رَآهُ عَارِيًّا فَأَعْطَاهُ قَمِيصًا فَلَبِسَهُ، تَمَّتِ الْعَارِيَّةُ. وَكَذَا لَوْ فَرَشَ لِضَيْفِهِ فِرَاشًا أَوْ بِسَاطًا أَوْ مُصَلًّى، أَوْ أَلْقَى لَهُ وَسَادَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَا، كَانَ ذَلِكَ إِعَارَةً، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلَ فَجَلَسَ عَلَى الْفُرُشِ الْمَبْسُوطَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا انْتِفَاعَ شَخْصٍ بِعَيَّنَهِ، وَلَا بُدَّ فِي الْعَارِيَّةِ مِنْ تَعْيِينِ الْمُسْتَعِيرِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُتَوَلِّي فِيهِ تَمَامُ التَّشْبِيهِ بِإِبَاحَةِ الطَّعَامِ، وَيُوَافِقُهُ مَا حُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَاصِمٍ، أَنَّهُ إِذَا انْتَفَعَ بِظَرْفِ الْهَدِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ إِلَيهِ حَيْثُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ، كَأَكْلِ الطَّعَامِ مِنَ الْقَصْعَةِ الْمَبْعُوثِ فِيهَا، كَانَ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ. قُلْتُ: هَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْهَدِيَّةُ لَا تُقَابَلُ. فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عِوَضًا، فَالظَّرْفُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ كَالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، كَذَا حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي عَنْ أَبِي عَاصِمٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ: أَعَرْتُكَ حِمَارِي لِتُعِيرَنِي فَرَسَكَ، فَهِيَ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُجْرَةُ مِثْلِ دَابَّةِ صَاحِبِهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ، لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ، كَمَا لَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً لِيَعْلِفَهَا، أَوْ دَارَهُ لِيُطَيِّنَ سَطْحَهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا، وَلَكِنْ مُدَّةُ الْإِعَارَةِ مَجْهُولَةٌ، كَقَوْلِهِ: أَعَرْتُكَ دَارِي بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ لَتُعِيرُنِي ثَوْبَكَ شَهْرًا. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: أَنَّهَا عَارِيَّةٌ فَاسِدَةٌ، نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا ضَمَانَ، وَلَوْ بَيَّنَ مُدَّةَ الْإِعَارَةِ وَذَكَرَ عِوَضًا مَعْلَوْمًا، فَقَالَ: أَعَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا مِنَ الْيَوْمِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ لَتُعِيرُنِي ثَوْبَكَ شَهْرًا مِنَ الْيَوْمَ، فَهَلْ هِيَ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ، أَوْ إِعَارَةٌ فَاسِدَةٌ؟ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ، أَوِ الْمَعْنَى؟

فَرْعٌ دَفَعَ دَرَاهِمَ إِلَى رَجُلٍ وَقَالَ: اجْلِسْ فِي هَذَا الْحَانُوتِ وَاتَّجِرْ فِيهَا لِنَفْسِكَ، أَوْ دَفَعَ إِلَيهِ بَذَرًا وَقَالَ: ازْرَعْهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، فَهُوَ مُعِيرٌ لِلْحَانُوتِ وَالْأَرْضِ، وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالْبَذْرُ، فَهَلْ يَكُونُ هِبَةً، أَمْ قَرْضًا؟ وَجْهَانِ. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِهَا وَهِيَ ثَلَاثَةٌ. الْأَوَّلُ: الضَّمَانُ. فَإِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ، ضَمِنَهَا، سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِفِعْلِهِ، بِتَقْصِيرٍ أَمْ بِلَا تَقْصِيرٍ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي فِيهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ أَعَارَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَمَانَةً، لَغَا الشَّرْطُ وَكَانَتْ مَضْمُونَةً، وَإِذَا ضَمِنَ، فَفِي الْقِيمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ. وَالثَّانِي: يَوْمَ الْقَبْضِ. وَالثَّالِثُ: أَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ. وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، أَنَّ الْعَارِيَّةَ إِذَا وَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ، هَلْ يَكُونُ الَوْلَدُ مَضْمُونًا فِي يَدِهِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالثَّالِثِ، كَانَ مَضْمُونًا، وَإِلَّا فَلَا. وَلَيْسَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ بِلَا خِلَافٍ. قُلْتُ: وَلَوِ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَسَاقَهَا، فَتَبِعَهَا وَلَدُهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْمَالِكُ فِيهِ بِإِذْنٍ وَلَا نَهْيٍ، فَالْوَلَدُ أَمَانَةٌ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي «الْفَتَاوَى» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَقْبُوضُ عَلَى جِهَةِ السَّوْمِ، إِذَا تَلِفَ، فِي الْمُعْتَبَرِ مِنْ قِيمَتِهِ هَذِهِ الْأَوْجُهُ، لَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ: الْأَصَحُّ فِيهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأَصَحُّ يَوْمَ التَّلَفِ

هَذَا إِذَا تَلِفَتِ الْعَارِيَّةُ لَا بِالِاسْتِعْمَالِ، أَمَّا إِذَا تَلِفَتْ بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، بِأَنِ انْمَحَقَ الثَّوْبُ بِاللِّبْسِ، فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَالْأَجْزَاءِ. وَقِيلَ: يَضْمَنُ، فَعَلَى هَذَا، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ الْعَيْنَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَضْمَنُهُ فِي آخِرِ حَالَاتِ التَّقْوِيمِ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ، فَمَا تَلِفَ مِنْهَا بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، كَانْمِحَاقِ الثَّوْبِ بِاللِّبْسِ، لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَا تَلِفَ مِنْهَا بِغَيْرِ الِاسْتِعْمَالِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، كَالتَّالِفِ بِالِاسْتِعْمَالِ. وَأَصَحُّهُمَا: الضَّمَانُ، كَتَلَفَ الْعَيْنِ كُلِّهَا. وَأَمَّا إِذَا تَلِفَتِ الدَّابَّةُ بِسَبَبِ الرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ الْمُعْتَادِ، فَهُوَ كَانْمِحَاقِ الثَّوْبِ، وَتَعْيِيبِهَا بِهِ كَالِانْمِحَاقِ. وَعَنِ الْقَفَّالِ: لَوْ قَرَحَ ظَهْرُهَا بِالْحَمْلِ وَتَلِفَتْ مِنْهُ، يَضْمَنُ، سَوَاءٌ تَعَدَّى بِمَا حَمَلَ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ فِي الْحَمْلِ، لَا فِي الْجِرَاحَةِ، وَرَدَّهَا إِلَى الْمَالِكِ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ السَّرَايَةَ تَوَلَّدَتْ مِنْ مَضْمُونٍ، وَهَذَا فِي الْحَمْلِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِهِ، تَفْرِيعٌ عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي صُورَةِ الِانْمِحَاقِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ. فَرْعٌ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا اسْتَعَارَ مِنَ الْمَالِكِ. فَلَوِ اسْتَعَارَ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، فَتَلِفَتِ الْعَيْنُ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ كَمَا لَوِ اسْتَعَارَ مِنَ الْمَالِكِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَضْمَنُ وَهَذَا نَائِبُهُ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ إِنْ رَدَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَعَلَى الْمَالِكِ إِنْ رَدَّ عَلَيهِ كَمَا لَوْ رَدَّ عَلَيهِ الْمُسْتَأْجِرُ. فَرْعٌ إِذَا اسْتَعَارَ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ مِنَ الْغَاصِبِ، وَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ، غَرَّمَ الْمَالِكُ مَنْ شَاءَ

مِنْهُمَا قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّلَفِ، وَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ يَوْمِ التَّلَفِ أَكْثَرَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي يَدِ الْمُعِيرِ الْغَاصِبِ، لَمْ يُطَالِبْ بِهَا غَيْرُهُ. وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْعَارِيَّةُ تُضْمَنُ بِأَقْصَى الْقِيَمِ، فَهِيَ كَقِيمَتِهِ يَوْمَ التَّلَفِ، وَإِلَّا فَالزِّيَادَةُ كَبَدَلِ الْمَنَافِعِ. وَحُكْمُ بَدَلِ الْمَنَافِعِ أَنَّ مَا تَلِفَ مِنْهَا تَحْتَ يَدِهِ، فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ فِي الْمَنَافِعِ لَيْسَتْ يَدَ الضَّمَانِ. وَالَّتِي اسْتَوْفَاهَا بِنَفْسِهِ فِيهَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِمُبَاشَرَتِهِ الْإِتْلَافَ، وَالْمُسْتَعِيرُ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنَ الْغَاصِبِ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْتَعِيرِ مِنَ الْغَاصِبِ إِنْ ضَمِنَا الْمُسْتَعِيرَ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِلَّا فَيَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ الَّتِي غَرِمَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْغَاصِبِ. فَرْعٌ إِذَا أَرْكَبَ وَكِيلَهُ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ فِي شُغْلِهِ دَابَّةَ الْمُوَكِّلِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى مَوْضِعٍ، فَتَلِفَتِ الدَّابَّةُ فِي يَدِهِ بِلَا تَفْرِيطٍ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا لِغَرَضِ نَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ سَلَّمَهَا إِلَى رَائِضٍ لِيُرَوِّضَهَا، أَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعٌ نَفِيسٌ فَأَرْكَبَ إِنْسَانًا فَوْقَهُ إِحْرَازًا لِلْمَالِ، فَلَا ضَمَانَ. فَرْعٌ لَوْ وَجَدَ مَنْ أَعْيَا فِي الطَّرِيقِ فَأَرْكَبَهُ فَتَلِفَتِ الدَّابَّةُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَضْمَنُ، سَوَاءٌ الْتَمَسَ الرَّاكِبُ أَوِ ابْتَدَأَهُ الْمُرْكِبُ، وَمَالَ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ هَذَا وَجْهًا، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْأَصَحُّ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَلَوْ أَرْكَبَهُ مَعَ نَفْسِهِ، فَعَلَى الرَّدِيفِ نِصْفُ الضَّمَانِ، وَرَأَى الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيهِ، تَشْبِيهًا بِالضَّيْفِ. وَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ عَلَى دَابَّةِ رَجُلٍ، وَقَالَ الَوْاضِعُ: سَيِّرْهَا،

فَفَعَلَ، كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ مُسْتَعِيرًا مِنَ الدَّابَّةِ بِقِسْطِ مَتَاعِهِ مِمَّا عَلَيْهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَيْهَا مِثْلُ مَتَاعِهِ فَتَلِفَتْ ; ضَمِنَ نِصْفَ الدَّابَّةِ. وَلَوْ لَمْ يَقُلِ الَوَاضِعُ: سَيِّرْهَا لَكِنْ سَيَّرَهَا الْمَالِكُ، لَمْ يَكُنِ الَوْاضِعُ مُسْتَعِيرًا، بَلْ يَدْخُلُ الْمَتَاعُ فِي ضَمَانِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَطْرَحَهُ. وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِ الرَّفِيقَيْنِ فِي السَّفَرِ دَابَّةٌ، وَلِلْآخَرِ مَتَاعٌ، فَقَالَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ لِلْآخَرِ: احْمِلْ مَتَاعِي عَلَى دَابَّتِكَ، فَأَجَابَهُ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ مُسْتَعِيرٌ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ: أَعْطِنِي مَتَاعَكَ لِأَضَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ، فَهُوَ مُسْتَوْدَعُ مَتَاعِهِ، وَلَا تَدْخُلِ الدَّابَّةُ فِي ضَمَانِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إِلَى مَوْضِعٍ، فَجَاوَزَهُ، فَهُوَ مُتَعَدٍّ مِنْ حِينِ الْمُجَاوَزَةِ، وَعَلَيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ذَهَابًا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَرُجُوعًا إِلَيهِ. وَفِي لُزُومِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي اسْتَعَارَ مِنْهُ، وَجْهَانِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا، فَلَيْسَ لَهُ الرُّكُوبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، بَلْ يُسَلِّمُهُ إِلَى قَاضِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعَارَ إِلَيهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ. فَرْعٌ أَوْدَعَهُ ثَوْبًا وَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَلْبِسَهُ فَالْبَسْهُ، فَهُوَ بَعْدَ اللِّبْسِ عَارِيَّةٌ، وَقَبْلَهُ وَدِيعَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: عَارِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ لِتَوَقُّعِ نَفْعٍ كَالْمَقْبُوضِ بِالسَّوْمِ. قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : وَلَوْ قِيلَ: لَا ضَمَانَ فِي السَّوْمِ تَخْرِيجًا مِنْ هَذَا، لَمْ يَبْعُدْ.

فَرْعٌ اسْتَعَارَ صُنْدُوقًا، فَوَجَدَ فِيهِ دَرَاهِمَ، فَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، كَمَا لَوْ طَيَّرَتِ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي دَارِهِ. الْحُكْمُ الثَّانِي: تَسَلُّطُ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِحَسَبِ إِذْنِ الْمُعِيرِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: إِذَا أَعَارَهُ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ، فَإِنَّ بَيْنَ مَا يَزْرَعُهُ، كَقَوْلِهِ: أَعَرْتُكَ لِزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ غَيْرِهَا، فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْحِنْطَةَ وَمَا ضَرَرُهُ كَضَرَرِهَا أَوْ دُونَهُ كَالشَّعِيرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ مَا فَوْقَهَا كَالذُّرَةِ وَالْقُطْنِ. وَإِنْ نَهَاهُ عَنْ غَيْرِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ زَرْعُ غَيْرِهَا. وَحَيْثُ زَرَعَ مَا لَيْسَ لَهُ، فَلِلْمُعِيرِ قَلْعُهُ مَجَّانًا. وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الزِّرَاعَةِ وَلَمْ يُبَيِّنِ الزُّرُوعَ، صَحَّتِ الْإِعَارَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَزْرَعُ مَا شَاءَ، لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ، لِتَفَاوُتِ الضَّرَرِ. وَلَوْ قِيلَ: يَصِحُّ وَلَا يَزْرَعُ إِلَّا أَقَلَّ الْأَنْوَاعِ ضَرَرًا، لَكَانَ مَذْهَبًا. الثَّانِيَةُ: إِذَا أَعَارَ لِلزِّرَاعَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ وَلَا الْغِرَاسُ. وَإِنْ أَعَارَ لِأَحَدِهِمَا، فَلَهُ الزِّرَاعَةُ، وَلَيْسَ لَهُ الْآخَرُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: حَكَى صَاحِبُ الْمُهَذِّبِ وَغَيْرُهُ وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزَّرْعُ إِذَا اسْتَعَارَ لِلْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ يُرْخِي الْأَرْضَ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ. وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ الْمُسْتَعَارُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إِلَّا بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالْبِسَاطِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِأَنْ يُفْرَشَ، فَلَا حَاجَةَ فِي إِعَارَتِهِ إِلَى بَيَانِ الِانْتِفَاعِ، وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ بِجِهَتَيْنِ فَصَاعِدًا، كَالْأَرْضِ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ، وَالْبِنَاءِ، وَالْغِرَاسِ، وَكَالدَّابَّةِ لِلرُّكُوبِ، وَالْحَمْلِ، فَهَلْ

تَصِحُّ الْإِعَارَةُ مُطْلَقًا، أَمْ يُشْتَرَطُ بَيَانُ جِهَةِ الِانْتِفَاعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ: الثَّانِي، وَقَطَعَ الرُّويَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ بِالْأَوَّلِ. قُلْتُ: صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ كَيْفَ شَاءَ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: يَنْتَفِعُ بِمَا هُوَ الْعَادَةُ فِيهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ. وَعَلَى الثَّانِي: لَوْ قَالَ: أَعَرْتُكَ لِتَنْتَفِعَ بِهِ كَيْفَ شِئْتَ، أَوْ لِتَفْعَلَ بِهِ مَا بَدَا لَكَ، فَوَجْهَانِ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: الْجَوَازُ. فَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ، وَلِلْمُسْتَعِيرِ الرَّدُّ مَتَى شَاءَ، سَوَاءٌ الْعَارِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمُؤَقَّتَةُ، إِلَّا فِي صُورَتَيْنِ. الْأُولَى: إِذَا أَعَارَ أَرْضًا لِدَفْنِ مَيِّتٍ، فَدَفَنَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ وَنَبْشُ الْقَبْرِ إِلَى أَنْ يَنْدَرِسَ أَثَرُ الْمَدْفُونِ، وَلَهُ سَقْيُ الْأَشْجَارِ الَّتِي فِيهَا إِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَى ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَيِّتِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ مَا لَمْ يُوضَعْ فِيهِ الْمَيِّتُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَكَذَا بَعْدَ الَوَضْعِ مَا لَمْ يُوَارِهِ التُّرَابُ. قَالَ: وَمُؤْنَةُ الْحَفْرِ إِذَا رَجَعَ بَعْدَ الْحَفْرِ وَقَبْلَ الدَّفْنِ، عَلَى وَلِيِّ الْمَيِّتِ، وَلَا يَلْزَمُهُ طَمُّهَا. قُلْتُ: كَذَا هُوَ فِي نَسْخِ كِتَابِ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ غَلَطٌ فِي النَّقْلِ عَنِ الْمُتَوَلِّي، فَإِنَّ الْمُتَوَلِّيَ قَالَ: إِذَا رَجَعَ فِي الْعَارِيَّةِ بَعْدَ الْحَفْرِ وَقَبْلَ الدَّفْنِ، غَرِمَ لِوَلِيِّ الْمَيِّتِ مُؤْنَةَ الْحَفْرِ؛ لِأَنَّهُ بِإِذْنِهِ فِي الْحَفْرِ أَوْقَعَهُ فِي الْتِزَامِ مَا الْتُزِمَ، وَفَوَّتَ عَلَيهِ مَقْصُودَهُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، فَهَذَا لَفْظُ الْمُتَوَلِّي بِحُرُوفِهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِطْلَاقُ الْإِعَارَةِ، لَا يُسَلَّطُ عَلَى الدَّفْنِ قَطْعًا وَإِنْ كَانَ يُسَلَّطُ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى الَوَجْهَيْنِ كَمَا سَبَقَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ.

فصل

قُلْتُ: فِي «الْبَيَانِ» وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ أَرْضًا لِيَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا، صَحَّتِ الْعَارِيَّةُ. فَإِذَا نَبَعَ الْمَاءُ، جَازَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا أَعَارَهُ جِدَارًا لِوَضْعِ الْجُذُوعِ، فَفِي جَوَازِ الرُّجُوعِ وَجْهَانِ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَهَلْ فَائِدَتُهُ طَلَبُ الْأُجْرَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، أَمِ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَلْعِ وَضَمَانِ أَرْشِ النَّقْصِ؟ وَجْهَانِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا كُلِّهُ وَاضِحًا مَعَ بَيَانِ الْأَصَحِّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. قُلْتُ: وَمِنْ أَحْكَامِهَا، أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُعِيرُ، أَوْ جُنَّ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيهِ، أَوْ حُجِرَ عَلَيهِ لِسَفَهٍ، انْفَسَخَتِ الْإِعَارَةُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ. وَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ، انْفَسَخَتْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالِانْتِفَاعِ إِنَّمَا كَانَ لِلْمُسْتَعِيرِ دُونَ وَارِثِهِ، وَإِذَا انْفَسَخَتْ، وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ رَدُّهَا، ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُتَوَلِّي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِعَارَةُ الْأَرْضِ لِلْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ، ضَرْبَانِ: مُطْلَقَةٌ لَمْ يُبَيِّنْ لَهَا مُدَّةً، وَمُقَيَّدَةٌ بِمُدَّةٍ. الْأَوَّلُ: الْمُطْلَقَةُ، وَلِلْمُسْتَعِيرِ فِيهَا أَنْ يَبْنِيَ وَيَغْرِسَ مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُعِيرُ، فَإِذَا رَجَعَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ. وَلَوْ فَعَلَ وَهُوَ عَالِمٌ بِالرُّجُوعِ، قَلَعَ مَجَّانًا، وَكَلَّفَ تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ كَالْغَاصِبِ. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا حَمَلَ السَّيْلُ نَوَاةً إِلَى أَرْضِهِ فَنَبَتَتْ. وَأَمَّا مَا بُنِيَ وَغُرِسَ قَبْلَ الرُّجُوعِ، فَإِنْ أَمْكَنَ رَفْعُهُ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ يَدْخُلُهُ، رُفِعَ، وَإِلَّا فَيُنْظَرُ، إِنْ شَرَطَ عَلَيهِ الْقَلْعَ مَجَّانًا عِنْدَ رُجُوعِهِ، وَتَسْوِيَةَ الْحَفْرِ، لَزِمَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ، قَلَعَهُ الْمُعِيرُ مَجَّانًا، وَإِنْ شَرَطَ الْقَلْعَ دُونَ التَّسْوِيَةِ،

لَمْ تَلْزَمْهُ التَّسْوِيَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقَلْعِ رِضًى بِالْحَفْرِ. وَإِنْ لَمْ يَشْرُطِ الْقَلْعَ، نُظِرَ، إِنْ أَرَادَهُ الْمُسْتَعِيرُ، مُكِّنَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَيَلْزَمُهُ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: كَذَا صَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ هُنَا، مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ الِانْتِصَارِ وَغَيْرُهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ الْمُحَامِلِيُّ فِي الْمُقْنِعِ وَالرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَلَا يَغْتَرُّ بِتَصْحِيحِ الرَّافِعِيِّ فِي «الْمُحَرَّرِ» : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ، نَبَّهْتُ عَلَيهِ فِي مُخْتَصَرِ «الْمُحَرَّرِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُعِيرِ قَلْعُهُ مَجَّانًا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ، وَلَكِنْ يَتَخَيَّرُ الْمُعِيرُ. وَفِيمَا يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ. إِحْدَاهَا: أَنْ يُبْقِيَهِ بِأُجْرَةٍ يَأْخُذُهَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْلَعَ وَيَضْمَنَ أَرْشَ النَّقْصِ، وَهُوَ قَدْرُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ قِيمَتِهِ نَابِتًا وَمَقْلُوعًا. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَمَلَّكَهُ بِقِيمَتِهِ، فَإِنِ اخْتَارَ خَصْلَةً، أَجْبَرَ عَلَيْهَا الْمُسْتَعِيرَ. وَالثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ: لَا بُدَّ فِي الْخَصْلَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ مِنْ رِضَا الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى إِجَارَةٌ وَالثَّالِثَةَ بَيْعٌ. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ خَصْلَتَيْنِ: الْقَلْعِ وَضَمَانِ الْأَرْشِ، وَالتَّمَلُّكِ بِالْقِيمَةِ، وَبِهَذَا قَطَعَ أَبُو عَلِيٍّ الزَّجَّاجِيُّ وَأَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا أَصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ. فَعَلَى هَذَا، لَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ، وَبَذَلَ الْمُسْتَعِيرُ الْأُجْرَةَ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُعِيرِ الْقَلْعُ مَجَّانًا. وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْهَا، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُخَيَّرُونَ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ إِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا جَمِيعًا. وَمَا الَّذِي يَفْعَلُ فِيهِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الزَّجَّاجِيُّ: يَبِيعُ الْحَاكِمُ الْأَرْضَ مَعَ الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمُ الْمُزَنِيُّ: يُعْرِضُ الْحَاكِمُ عَنْهُمَا إِلَى أَنْ يَخْتَارَا شَيْئًا، وَيَجُوزُ لِلْمُعِيرِ دُخُولُ الْأَرْضِ، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا، وَالِاسْتِظْلَالُ بِالْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ؛ لِأَنَّهُ جَالِسٌ فِي مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ دُخُولُهَا لِلتَّفَرُّجِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُعِيرِ، وَيَجُوزُ لِسَقْيِ الْأَشْجَارِ وَإِصْلَاحِ الْجِدَارِ عَلَى الْأَصَحِّ، صِيَانَةً لِمِلْكِهِ عَنِ

الضَّيَاعِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ يَشْغَلُ مِلْكَ غَيْرِهِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مِلْكِهِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ تَعَطَّلَتِ الْمَنْفَعَةُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ بِدُخُولِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْأُجْرَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ بَيْعُ مِلْكِهِ لِلْآخَرِ، وَلِلْمُعِيرِ بَيْعُ مِلْكِهِ لِثَالِثٍ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي تَخَيُّرَ الْمُعِيرِ، وَهَلْ لِلْمُسْتَعِيرِ بَيْعُ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ لِثَالِثٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. فَعَلَى هَذَا، يَتَنَزَّلُ الْمُشْتَرِي مَنْزِلَةَ الْمُسْتَعِيرِ، وَلِلْمُعِيرِ الْخِيَارُ كَمَا سَبَقَ، وَلِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ إِنْ جَهِلَ الْحَالَ. وَلَوِ اتَّفَقَ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ عَلَى بَيْعِ الْأَرْضِ بِمَا فِيهَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ قِيلَ: هُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِهَذَا عَبْدٌ، وَلِهَذَا عَبْدٌ، فَبَاعَاهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ لِلْحَاجَةِ. ثُمَّ كَيْفَ يُوَزِّعُ الثَّمَنَ هُنَا، وَفِيمَا إِذَا بَاعَهُمَا الْحَاكِمُ عَلَى أَحَدِ الَوَجْهَيْنِ؟ قَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا غَرَسَ الرَّاهِنُ الْأَرْضَ الْمَرْهُونَةَ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يُوَزِّعُ عَلَى الْأَرْضِ مَشْغُولَةً بِالْغِرَاسِ أَوِ الْبِنَاءِ، وَعَلَى مَا فِيهَا وَحْدَهُ، فَحِصَّةُ الْأَرْضِ لِلْمُعِيرِ، وَحِصَّةُ مَا فِيهَا لِلْمُسْتَعِيرِ، وَحُكْمُ الدُّخُولِ وَالِانْتِفَاعِ وَالْبَيْعِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي ابْتِدَاءِ الرُّجُوعِ إِلَى الِاخْتِيَارِ، وَفِيمَا إِذَا امْتَنَعَا مِنَ الِاخْتِيَارِ وَأَعْرَضَ الْقَاضِي عَنْهُمَا - سَوَاءٌ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْمُقَيَّدَةُ بِمُدَّةٍ. وَلِلْمُسْتَعِيرِ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِي الْمُدَّةِ، إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ الْمُعِيرُ، وَلَهُ أَنْ يُجَدِّدَ كُلَّ يَوْمٍ غَرْسًا، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَيْسَ لَهُ إِحْدَاثُ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ. وَإِذَا رَجَعَ الْمُعِيرُ قَبْلَ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَهُ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ رَجَعَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ هُنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الرُّجُوعِ قَبْلَ الْمُدَّةِ، وَقَوْلٌ: أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَلَهُ الْقَلْعُ مَجَّانًا، نَقَلَهُ السَّاجِيُّ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ. وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ.

فصل

فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِذَا بَنَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ غَرَسَ فِي الْأَرْضِ الْمُشْتَرِكَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَجَعَ صَاحِبُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْقَلْعُ بِأَرْشِ النَّقْصِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قَلْعَ بِنَاءِ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ لِلْبَانِي فِي الْأَرْضِ مِثْلَ حَقِّهِ، لَكِنْ لَهُ الْإِبْقَاءُ بِأُجْرَةٍ. فَإِنْ لَمْ يَبْذُلْهَا الْبَانِي، فَهَلْ يُبَاعُ أَوْ يُعْرِضُ عَنْهُمَا؟ فِيهِ مَا سَبَقَ. قُلْتُ: كَذَا قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ لَمْ يَبْذُلْهَا الْبَانِي، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا الشَّرِيكُ، فَإِنْ بَذَلَ الْبَانِي لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى الْمُخْتَارِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ بَنَى أَوْ غَرَسَ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، قَلَعَهُ مَجَّانًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بِنَاءِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَشْفُوعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ أَعَارَ لِلزَّرْعِ، فَزَرَعَهَا، فَرَجَعَ قَبْلَ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعْتَادُ قَطْعَهُ، كُلِّفَ قَطْعَهُ، وَإِلَّا فَأَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: لِلْمُعِيرِ أَنْ يَقْلَعَ وَيَغْرَمَ أَرْشَ النَّقْصِ. وَالثَّانِي: لَهُ تَمْلِكُهُ بِالْقِيمَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ: لَا تَثْبُتُ وَاحِدَةٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ لِلزَّرْعِ أَمَدًا، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ، فَعَلَى هَذَا، يَلْزَمُ الْمُعِيرَ إِبْقَاؤُهُ إِلَى أَوَانِ حَصَادِهِ، وَهَلْ لَهُ الْأُجْرَةُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْمُزَنِيُّ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ إِلَى الْحَصَادِ كَالْمُسْتَوْفَاةِ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ الْمَنْفَعَةَ إِلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ، فَأَشْبَهَ مَنْ أَعَارَ دَابَّةً إِلَى بَلَدٍ ثُمَّ رَجَعَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّ عَلَيهِ نَقْلَ مَتَاعِهِ إِلَى مَأْمَنٍ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَلَوْ أَعَارَ

فصل

لِزَرْعٍ مُدَّةً، فَانْقَضَتْ وَالزَّرْعُ غَيْرُ مُدْرَكٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَقْصِيرِهِ فِي الزِّرَاعَةِ بِالتَّأْخِيرِ، قَلَعَ مَجَّانًا، وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا لَوْ أَعَارَ مُطْلَقًا. فَرْعٌ لَوْ أَعَارَ لِلْفَسِيلِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَادُ نَقْلَهُ، فَهُوَ كَالزَّرْعِ، وَإِلَّا فَكَالْبِنَاءِ. فَرْعٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِذَا أَعَارَ لِلزَّرْعِ مُطْلَقًا، لَمْ يَزْرَعْ إِلَّا زَرْعًا وَاحِدًا، وَكَذَا لَوْ أَعَارَ لِلْغِرَاسِ، فَغَرَسَ وَقَلَعَهُ، لَا يَغْرِسُ بَعْدَهُ إِلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ، وَهَذَا بَيَّنَ أَنَّ قَوْلَنَا: الْمُسْتَعِيرُ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ مُطْلَقًا يَبْنِي وَيَغْرِسُ مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُعِيرُ، مَعْنَاهُ: الْبِنَاءُ الْمَأْذُونُ فِيهِ، وَهُوَ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ صُرِّحَ لَهُ بِالتَّجْدِيدِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. فَصْلٌ إِذَا حَمَلَ السَّيْلُ حَبَّاتٍ أَوْ نَوًى لِغَيْرِهِ إِلَى أَرْضِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهَا إِلَى مَالِكِهَا إِنْ عَرَفَهُ، وَإِلَّا فَيَدْفَعُهَا إِلَى الْقَاضِي، وَلَوْ نَبَتَتْ فِي أَرْضِهِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ مَالِكُهَا عَلَى قَلْعِهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. فَعَلَى هَذَا، هُوَ مُسْتَعِيرٌ، فَيُنْظَرُ فِي النَّابِتِ أَهُوَ شَجَرٌ، أَمْ زَرْعٌ؟ وَيَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى مَا سَبَقَ. وَأَصَحُّهُمَا: يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ، فَهُوَ كَمَا لَوِ انْتَشَرَتْ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ فِي هَوَاءِ دَارِ غَيْرِهِ، فَلَهُ قَطْعُهَا. وَلَوْ حَمَلَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ، كَنَوَاةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ حَبَّةٍ، فَهَلْ هِيَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ حَصَلَ

فصل

فِي مِلْكِهِ؟ أَمْ لِمَالِكِ الْحَبَّةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الْأَخْذِ؟ وَجْهَانِ. فَعَلَى الثَّانِي: فِي قَلْعِ النَّابِتِ، الْوَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: كَوْنُهَا لِمَالِكِ الْحَبَّةِ، وَهَذَا فِي حَبَّةٍ وَنَوَاةٍ لَمْ يُعْرِضْ عَنْهَا مَالِكُهَا، أَمَّا إِذَا أَعْرَضَ عَنْهَا أَوْ أَلْقَاهَا، فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِكَوْنِهَا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَلَعَ صَاحِبُ الشَّجَرَةِ شَجَرَتَهُ، لَزِمَهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ مِلْكِهِ. فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: قَالَ رَاكِبُ الدَّابَّةِ لِمَالِكِهَا: أَعَرْتَنِيهَا. فَقَالَ: بَلْ أَجَّرْتُكَهَا مُدَّةَ كَذَا بِكَذَا، فَتَارَةً يَخْتَلِفَانِ وَالدَّابَّةُ بَاقِيَةٌ، وَتَارَةً يَخْتَلِفَانِ وَهِيَ تَالِفَةٌ. الْحَالُ الْأَوَّلُ: الْبَاقِيَةُ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: يَخْتَلِفَانِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ. وَالثَّانِي: قَبْلَهَا. فَالْأَوَّلُ نَصَّ فِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ بِيَمِينِهِ. وَنَصَّ فِيمَا إِذَا زَرَعَ أَرْضَ غَيْرِهِ وَاخْتَلَفَا هَكَذَا - أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْأَرْضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ؛ لِأَنَّ الدَّوَابَّ تَكْثُرُ فِيهَا الْإِعَارَةُ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ سُرَيْجٍ: فِيهِمَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ، فَعَلَى هَذَا كَيْفَ يَحْلِفُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَطَائِفَةٌ: يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْإِعَارَةِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِإِثْبَاتِ

الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فِيهَا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقَاضِي وَالْأَكْثَرُونَ: يَتَعَرَّضُ لِإِثْبَاتِ الْأُجْرَةِ مَعَ نَفْيِ الْإِعَارَةِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: إِذَا حَلَفَ، اسْتَحَقَّ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى. وَعَلَى الثَّانِي: أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى. وَالثَّانِي: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ. وَأَصَحُّهَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» : أُجْرَةُ الْمِثْلِ. فَلَوْ نَكَلَ الْمَالِكُ عَنِ الْيَمِينِ، لَمْ يَحْلِفِ الرَّاكِبُ وَالزَّارِعُ، لِأَنَّهُمَا لَا يَدَّعِيَانِ حَقًّا عَلَى الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا يَدَّعِيَانِ الْإِعَارَةَ وَلَيْسَتْ لَازِمَةً. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ رَمَزَ إِلَى أَنَّهُمَا يَحْلِفَانِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الْغُرْمِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ وَالزَّارِعِ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْإِجَارَةِ، كَفَاهُ وَبَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَالِكِ، وَاسْتَحَقَّ بِيَمِينِهِ الْمُسَمَّى عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى الشَّاذِّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ بِيَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْإِجَارَةِ، سَقَطَتْ دَعْوَى الْأُجْرَةِ، وَرُدَّتِ الْعَيْنُ إِلَى الْمَالِكِ. وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمَالِكُ يَمِينَ الرَّدِّ، وَاسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجْرِ الْقَوْلَانِ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقًّا، وَلَمْ تُتْلِفِ الْمَنَافِعُ عَلَى الْمَالِكِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ تَالِفَةً، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ، فَالرَّاكِبُ مُقِرٌّ بِالْقِيمَةِ، وَالْمَالِكُ يُنْكِرُهَا وَيَدَّعِي الْأُجْرَةَ، فَيَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ: أَنَّ اخْتِلَافَ الْجِهَةِ، هَلْ يَمْنَعُ الْأَخْذَ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، سَقَطَتِ الْقِيمَةُ بِرَدِّهِ. وَفِيمَنِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْأُجْرَةِ، الطَّرِيقَانِ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مِثْلَ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ، أَخَذَهَا بِلَا يَمِينٍ. وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ، أَخَذَ قَدْرَ الْقِيمَةَ. وَفِي الْمُصَدَّقِ فِي الزَّائِدِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُتَصَرِّفُ: أَعَرْتَنِي هَذِهِ الدَّابَّةَ أَوِ الْأَرْضَ، فَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ غَصَبْتَنِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ لَهَا أُجْرَةٌ، فَلَا مَعْنَى لِلْمُنَازَعَةِ، فَيُرَدَّ الْمَالُ إِلَى مَالِكِهِ. وَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ لَهَا أُجْرَةٌ، فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ. وَلِلْأَصْحَابِ

طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّهَا عَلَى الطَّرِيقَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَفِي طَرِيقٍ: يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالدَّابَّةِ. وَفِي طَرِيقٍ: هَمَا عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُتَصَرِّفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ بِحَقٍّ. وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَالِكِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إِذْنِهِ. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا، خَطَّأَ الْمُزَنِيَّ فِي النَّقْلِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّ فِي «الْأُمِّ» عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً. فَلَوْ تَلِفَتْ، نُظِرَ، إِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ، فَالْمَالِكُ يَدَّعِي أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةَ بِالْغَصْبِ، وَالْمُتَصَرِّفُ يُنْكِرُ الْأُجْرَةَ وَيُقِرُّ بِالْقِيمَةِ بِجِهَةِ الْعَارِيَّةِ، فَالْحُكْمُ فِي الْأُجْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ بَقَاءِ الْعَيْنِ. وَأَمَّا الْقِيمَةُ، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ قُلْنَا: اخْتِلَافُ الْجِهَةِ يَمْنَعُ الْأَخْذَ، لَمْ يَأْخُذْهَا إِلَّا بِالْيَمِينِ، وَإِلَّا فَإِنْ قُلْنَا: الْعَارِيَّةُ تَضْمَنُ ضَمَانَ الْغَصْبِ، أَوْ لَمْ نَقُلْ بِهِ، وَكَانَتِ الْقِيمَةُ يَوْمَ التَّلَفِ أَكْثَرَ، أَخَذَهَا بِلَا يَمِينٍ، وَإِنْ كَانَتْ يَوْمَ التَّلَفِ أَقَلَّ، أَخَذَهَا بِلَا يَمِينٍ، وَفِي الزِّيَادَةِ يَحْتَاجُ إِلَى الْيَمِينِ. وَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ مُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ، لَزِمَهُ الْقِيمَةُ. ثُمَّ قِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ: أَنَّا إِنْ جَعَلْنَا اخْتِلَافَ الْجِهَةِ مَانِعًا مِنَ الْأَخْذِ، حَلَفَ، وَإِلَّا فَيَأْخُذُ بِلَا يَمِينٍ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ: أَنْ لَا يَخْرُجَ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ، لَا هَذِهِ الصُّورَةُ، وَلَا مَا إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ، قَالَ: لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَّحِدَةٌ وَلَا أَثَرَ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْجِهَةِ مَعَ اتِّحَادِ الْعَيْنَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمَالِكُ: غَصَبْتَنِيهَا، وَقَالَ الْمُتَصَرِّفُ: بَلْ أَجَرْتَنِي، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً، وَلَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ لَهَا أُجْرَةٌ، فَالْمُصَدِّقُ الْمَالِكُ. فَإِذَا حَلَفَ، اسْتَرَدَّ الْمَالَ. وَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ لَهَا أُجْرَةٌ، فَالْمَالِكُ يَدَّعِي أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَالْمُتَصَرِّفُ يُقِرُّ بِالْمُسَمَّى. فَإِنِ اسْتَوَيَا، أَوْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَقَلَّ، أَخَذَ بِلَا يَمِينٍ. وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ، أَخَذَ قَدْرَ الْمُسَمَّى بِلَا يَمِينٍ، وَالزِّيَادَةُ بِالْيَمِينِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَا يَجِيءُ هُنَا خِلَافُ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى الْمَالِكُ فَسَادَ الْإِجَارَةِ، وَالْمُتَصَرِّفُ صِحَّتَهَا،

يَحْلِفُ الْمَالِكُ، وَيَأْخُذُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ بَقَاءِ الْعَيْنِ فِي يَدِ الْمُتَصَرِّفِ مُدَّةً، وَتَلِفَهَا، فَالْمَالِكُ يَدَّعِي أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةَ، وَالْمُتَصَرِّفُ يُقِرُّ بِالْمُسَمَّى وَيُنْكِرُ الْقِيمَةَ، فَلِلْمَالِكِ أَخْذُ مَا يُقِرُّ بِهِ بِلَا يَمِينٍ. وَأَخَذَ مَا يُنْكِرُهُ بِالْيَمِينِ. الرَّابِعَةُ: قَالَ الْمَالِكُ: غَصَبْتَنِي، وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ: بَلْ أَوْدَعْتَنِي، حَلَفَ الْمَالِكُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَخَذَ الْقِيمَةَ إِنْ تَلِفَ الْمَالُ، وَأُجْرَةَ الْمِثْلِ إِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ لَهَا أُجْرَةٌ. الْخَامِسَةُ: قَالَ الرَّاكِبُ: أَكْرَيْتَنِيهَا، وَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ أَعَرْتُكَهَا، وَالدَّابَّةُ بَاقِيَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي نَفْيِ الْإِجَارَةِ. فَإِذَا حَلَفَ، اسْتَرَدَّهَا. فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الرَّاكِبُ وَاسْتَحَقَّ الْإِمْسَاكَ. ثُمَّ إِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ لَهَا أُجْرَةٌ، فَالرَّاكِبُ يُقِرُّ بِالْأُجْرَةِ، وَالْمَالِكُ يُنْكِرُهَا، وَلَا يَخْفَى حُكْمُهُ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاخْتِلَافُ بَعْدَ هَلَاكِ الدَّابَّةِ، فَإِنْ هَلَكَتْ عَقِبَ الْقَبْضِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْمَالِكَ يَحْلِفُ، وَيَأْخُذُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ أَتْلَفَهَا، وَيَدَّعِي مَسْقَطًا. وَخَرَجَ قَوْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ، وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ، فَالْمَالِكُ يَدَّعِي الْقِيمَةَ وَيُنْكِرُ الْأُجْرَةَ، وَالرَّاكِبُ يُقِرُّ بِالْأُجْرَةِ وَيُنْكِرُ الْقِيمَةَ. فَإِنْ قُلْنَا: اخْتِلَافُ الْجِهَةِ يَمْنَعُ الْأَخْذَ، حَلَفَ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِقْرَارِ الرَّاكِبِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ وَالْأُجْرَةُ سَوَاءً، أَوْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ، أَخَذَهَا بِلَا يَمِينٍ. وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ، أَخَذَ الزِّيَادَةَ بِالْيَمِينِ. فَرْعٌ اسْتَعْمَلَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَّةَ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُعِيرِ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالرُّجُوعِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْأُجْرَةُ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ.

فَرْعٌ مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ، يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ الرَّدُّ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبِ الْمُعِيرُ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الرَّدُّ الَوْاجِبُ وَالْمُبَرِّئُ هُوَ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إِلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ فِي ذَلِكَ. فَلَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى الْإِصْطَبْلِ، أَوِ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ، لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الضَّمَانِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْغَصْبِ بَيَانُ هَذَا وَاضِحًا. وَلَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى دَارِ الْمُعِيرِ، فَلَمْ يَجِدْهُ، فَسَلَّمَهَا إِلَى زَوْجَتِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، فَإِنْ سَلَّمَهَا الْمُتَسَلِّمُ إِلَى الْمُدَّعِي، فَضَاعَتْ، فَالْمُعِيرُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ، وَإِنْ شَاءَ غَرَّمَ الزَّوْجَةَ أَوِ الَوْلَدَ. فَإِنْ غَرَّمَ الْمُسْتَعِيرَ، رَجَعَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ غَرَّمَهُمَا. لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الغصب

كِتَابُ الْغَصْبِ لِلْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عِبَارَاتٌ فِي مَعْنَى الْغَصْبِ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى جِهَةِ التَّعَدِّي، وَرُبَّمَا قِيلَ: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ. الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْأُولَى: أَنَّهُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَقَالَ: لَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْيِيدِ بِالْعُدْوَانِ، بَلْ يَثْبُتُ الْغَصْبُ وَحُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَ ثَوْبًا عِنْدَ رَجُلٍ، ثُمَّ جَاءَ الْمَالِكُ فَأَخَذَ ثَوْبًا لِلْمُودَعِ وَهُوَ يَظُنُّهُ ثَوْبَهُ، أَوْ لَبِسَهُ الْمُودَعُ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ ثَوْبُهُ. الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْأُولَيَيْنِ: أَنَّ كُلَّ مَضْمُونٍ عَلَى مُمْسِكِهِ فَهُوَ مَغْصُوبٌ، كَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْوَدِيعَةِ إِذَا تَعَدَّى فِيهَا الْمُودَعُ وَالرَّهْنِ إِذَا تَعَدَّى فِيهِ الْمُرْتَهَنُ. وَأَشْبَهُ الْعِبَارَاتِ وَأَشْهَرُهَا هِيَ الْأُولَى. وَفِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ الثَّابِتُ حُكْمُ الْغَصْبِ، لَا حَقِيقَتُهُ. قُلْتُ: كُلُّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ نَاقِصَةٌ، فَإِنَّ الْكَلْبَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَعَ أَنَّهُ يُغْصَبُ، وَكَذَلِكَ الِاخْتِصَاصَاتُ بِالْحُقُوقِ، فَالِاخْتِيَارُ: أَنَّهُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْغَصْبِ، وَفِيهِ بَابَانِ. الْأَوَّلُ: فِي الضَّمَانِ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَطْرَافٍ.

الْأَوَّلُ: فِي الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ، وَالْغَصْبُ وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، فَلَا يَنْحَصِرُ الْمُوجِبُ فِيهِ، بَلِ الْإِتْلَافُ أَيْضًا مُضَمِّنٌ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِعَارَةُ وَالِاسْتِيَامُ وَغَيْرُهُمَا، وَالْإِتْلَافُ يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالتَّسَبُّبِ. وَمَا لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْهَلَاكِ، فَقَدْ يُضَافُ إِلَيْهِ الْهَلَاكُ حَقِيقَةً، وَقَدْ لَا. وَمَا لَا فَقَدْ يُقْصَدُ بِتَحْصِيلِهِ حُصُولُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ الْهَلَاكُ حَقِيقَةً، وَقَدْ لَا لِأَنَّ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهِ الْهَلَاكُ يُسَمَّى عِلَّةً وَالْإِتْيَانُ بِهِ مُبَاشَرَةً، وَمَا لَا يُضَافُ إِلَيْهِ الْهَلَاكُ وَيُقْصَدُ بِتَحْصِيلِهِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ، يُسَمَّى سَبَبًا، وَالْإِتْيَانُ بِهِ تَسَبُّبًا. وَهَذَا الْقَصْدُ وَالتَّوَقُّعُ قَدْ يَكُونُ لِتَأْثِيرِهِ بِمُجَرَّدِهِ فِيهِ، وَهُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِانْضِمَامِ أُمُورٍ إِلَيْهِ وَهِيَ غَيْرُ بَعِيدَةِ الْحُصُولِ. فَمِنَ الْمُبَاشَرَةِ: الْقَتْلُ، وَالْأَكْلُ، وَالْإِحْرَاقُ. وَمِنَ التَّسَبُّبِ: الْإِكْرَاهُ عَلَى إِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ. وَمِنْهُ مَا إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ، فَتَرَدَّتْ فِيهَا بَهِيمَةٌ، أَوْ عَبْدٌ، أَوْ حُرٌّ، فَإِنْ رَدَّاهُ غَيْرُهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ الْمُرَدِّي، لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى السَّبَبِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ هَذَا وَبَيَانُ مَحَلِّ الْعُدْوَانِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ لَوْ فَتَحَ رَأْسَ زِقٍّ فَضَاعَ مَا فِيهِ نُظِرَ إِنْ كَانَ [مَطْرُوحًا] عَلَى الْأَرْضِ فَانْدَفَقَ مَا فِيهِ بِالْفَتْحِ، ضَمِنَ. وَإِنْ كَانَ مُنْتَصِبًا لَا يَضِيعُ مَا فِيهِ لَوْ بَقِيَ كَذَلِكَ، لَكِنَّهُ سَقَطَ، نُظِرَ إِنْ سَقَطَ بِفِعْلِهِ بِأَنْ كَانَ يُحَرِّكُ الْوِكَاءَ وَيَجْذِبُهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى السُّقُوطِ ضَمِنَ، وَكَذَا لَوْ سَقَطَ بِمَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَهُ بِفِعْلِهِ بِأَنْ فَتَحَ رَأْسَهُ، فَأَخَذَ مَا فِيهِ فِي التَّقَاطُرِ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى ابْتَلَّ أَسْفَلُهُ وَسَقَطَ، ضَمِنَ. وَإِنْ سَقَطَ بِعَارِضٍ كَزَلْزَلَةٍ، أَوْ هُبُوبِ رِيحٍ، أَوْ وُقُوعِ طَائِرٍ، فَلَا ضَمَانَ، وَلَوْ فَتَحَ رَأْسَهُ فَأَخَذَ مَا فِيهِ فِي الْخُرُوجِ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَنَكَّسَهُ مُسْتَعْجِلًا، فَضَمَانُ الْخَارِجِ بَعْدَ النَّكْسِ، هَلْ هُوَ

عَلَيْهِمَا كَالْجَارِحَيْنِ، أَمْ عَلَى الثَّانِي فَقَطْ كَالْحَازِّ مَعَ الْجَارِحِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. هَذَا إِذَا كَانَ مَا فِي الزِّقِّ مَائِعًا. فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَذَابَتْهُ وَضَاعَ، أَوْ ذَابَ بِمُرُورِ الزَّمَانِ وَتَأْثِيرِ حَرَارَةِ الرِّيحِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ، فِيمَا لَوْ أَزَالَ أَوْرَاقَ الْعِنَبِ وَجَرَّدَ عَنَاقِيدَهُ لِلشَّمْسِ فَأَفْسَدَتْهَا، وَفِيمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةَ رَجُلٍ فَهَلَكَتْ سَخْلَتُهَا أَوْ حَمَامَةً فَهَلَكَ فَرْخُهَا، لِفَقْدِ مَا يَصْلُحُ لَهُمَا. وَلَوْ جَاءَ آخَرُ وَقَرَّبَ نَارًا مِنَ الْجَامِدِ فَذَابَ وَضَاعَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَصَحُّهُمَا: يَضْمَنُ الثَّانِي. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ قَرَّبَ الْفَاتِحُ أَيْضًا النَّارَ، وَفِيمَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الزِّقِّ مَفْتُوحًا فَجَاءَ رَجُلٌ وَقَرَّبَ مِنْهُ النَّارَ. فَرْعٌ لَوْ حَلَّ رِبَاطَ سَفِينَةٍ فَغَرِقَتْ بِالْحَلِّ، ضَمِنَ، وَلَوْ غَرِقَتْ بِحَادِثٍ كَهُبُوبِ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَضْمَنْ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَادِثٌ، فَوَجْهَانِ. وَلْيَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الزِّقِّ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ حَادِثٌ لِسُقُوطِهِ. فَرْعٌ فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ وَهَيَّجَهُ حَتَّى طَارَ ضَمِنَهُ. فَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْفَتْحِ فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: إِنْ طَارَ فِي الْحَالِ ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: لَا يَضْمَنُ مُطْلَقًا. وَفِي مَا جُمِعَ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ - تَفْرِيعًا عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ إِذَا طَارَ فِي الْحَالِ -: أَنَّهُ لَوْ وَثَبَتْ هِرَّةٌ بِمُجَرَّدِ فَتْحِ الْقَفَصِ وَدَخَلَتْهُ وَقَتَلَتِ الطَّائِرَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى إِغْرَاءِ الْهِرَّةِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَفَصُ مُغْلَقًا فَاضْطَرَبَ بِخُرُوجِ الطَّائِرِ وَسَقَطَ فَانْكَسَرَ، لَزِمَ الْفَاتِحَ ضَمَانُهُ. وَأَنَّهُ لَوْ كَسَرَ الطَّائِرُ فِي خُرُوجِهِ

قَارُورَةَ رَجُلٍ، لَزِمَهُ ضَمَانُهَا، لِأَنَّ فِعْلَ الطَّائِرِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَعِيرٌ فِي جِرَابٍ مَشْدُودِ الرَّأْسِ، بِجَنْبِهِ حِمَارٌ، فَفَتَحَ رَأْسَهُ فَأَكَلَهُ الْحِمَارُ فِي الْحَالِ، لَزِمَ الْفَاتِحَ ضَمَانُهُ، وَلَوْ حَلَّ رِبَاطَ بَهِيمَةٍ أَوْ فَتَحَ بَابَ الْإِصْطَبْلِ فَخَرَجَتْ وَضَاعَتْ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْقَفَصِ. وَلَوْ خَرَجَتْ فِي الْحَالِ وَأَتْلَفَتْ زَرْعَ رَجُلٍ، قَالَ الْقَفَّالُ: إِنْ كَانَ نَهَارًا لَمْ يَضْمَنِ الْفَاتِحُ، وَإِنْ كَانَ لَيْلًا ضَمِنَ، كَدَابَّةِ نَفْسِهِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: لَا يَضْمَنُ، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ حِفْظُ بَهِيمَةِ الْغَيْرِ عَنِ الزُّرُوعِ. قُلْتُ: قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ بِمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ حَلَّ قَيْدَ الْعَبْدِ الْمَجْنُونِ، أَوْ فَتَحَ بَابَ السِّجْنِ، فَذَهَبَ فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَّ رِبَاطَ الْبَهِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَاقِلًا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ آبِقًا فَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا صَحِيحًا، فَذَهَابُهُ مُحَالٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ آبِقًا فَلَا ضَمَانَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: هُوَ كَحَلِّ رِبَاطِ الْبَهِيمَةِ، فَفِيهِ التَّفْصِيلُ. فَرْعٌ لَوْ وَقَعَ طَائِرٌ عَلَى جِدَارِهِ فَنَفَرَهُ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ كَانَ مُمْتَنِعًا قَبْلَهُ، التَّفْصِيلُ وَلَوْ رَمَاهُ فِي الْهَوَاءِ فَقَتَلَهُ ضَمِنَهُ، سَوَاءٌ هَوَاءُ دَارِهِ وَغَيْرُهُ، إِذْ لَيْسَ لَهُ مَنْعُ الطَّائِرِ مِنْ هَوَاءِ مِلْكِهِ. فَرْعٌ لَوْ فَتَحَ بَابَ الْحِرْزِ فَسَرَقَ غَيْرُهُ، أَوْ دَلَّ سَارِقًا فَسَرَقَ، أَوْ أَمَرَ غَاصِبًا فَغَصَبَ، أَوْ بَنَى دَارًا فَأَلْقَتِ الرِّيحُ فِيهَا ثَوْبًا وَضَاعَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ: وَلَوْ حَبَسَ الْمَالِكَ عَنْ مَاشِيَتِهِ حَتَّى تَلِفَتْ فَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَالِ، كَذَا قَالُوهُ،

فصل

وَلَعَلَّ صُورَتَهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ مَنْعَهُ عَنِ الْمَاشِيَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ حَبْسَهُ فَأَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى هَلَاكِهَا، لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ قَالَ: لَوْ كَانَ لَهُ زَرْعٌ وَنَخِيلٌ، وَأَرَادَ سَوْقَ الْمَاءِ إِلَيْهَا فَمَنَعَهُ ظَالِمٌ مِنَ السَّقْيِ حَتَّى فَسَدَتْ، فَفِي الضَّمَانِ الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ فَتَحَ الزِّقَّ عَنْ جَامِدٍ فَذَابَ بِالشَّمْسِ وَضَاعَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ فِي صُورَتَيِ الْحَبْسِ عَنِ الْمَاشِيَةِ وَالسَّقْيِ: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ، بِخِلَافِ فَتْحِ الزِّقِّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ غَصَبَ هَادِي الْقَطِيعِ فَتَبِعَهُ الْقَطِيعُ، أَوْ غَصَبَ الْبَقَرَةَ فَتَبِعَهَا الْعِجْلُ، لَمْ يَضْمَنِ الْقَطِيعَ وَالْعِجْلَ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ لَوْ نَقَلَ صَبِيًّا حُرًّا إِلَى مَضْبَعَةٍ، فَاتَّفَقَ سَبُعٌ فَافْتَرَسَهُ، فَلَا ضَمَانَ لِإِحَالَةِ الْهَلَاكِ عَلَى اخْتِيَارِ الْحَيَوَانِ وَمُبَاشَرَتِهِ. وَلَوْ نَقَلَهُ إِلَى مَسْبَعَةٍ فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ، فَلَا ضَمَانَ أَيْضًا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ. فَصْلٌ إِثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى مُبَاشَرَةٍ بِأَنْ يَغْصِبَ الشَّيْءَ فَيَأْخُذَهُ مِنْ يَدِ مَالِكِهِ، وَإِلَى التَّسَبُّبِ، وَهُوَ فِي الْأَوْلَادِ وَسَائِرِ الزَّوَائِدِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الْأُصُولِ سَبَبٌ لِإِثْبَاتِهَا عَلَى الْفُرُوعِ، فَيَكُونُ وَلَدُ الْمَغْصُوبِ وَزَوَائِدُهُ مَغْصُوبَةً.

ثُمَّ إِثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ يَكُونُ فِي الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ. أَمَّا الْمَنْقُولُ: فَالْأَصْلُ فِيهِ النَّقْلُ، لَكِنْ لَوْ رَكِبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ، أَوْ جَلَسَ عَلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَنْقُلْهُ، فِي كَوْنِهِ غَاصِبًا ضَامِنًا، وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، سَوَاءٌ قَصَدَ الِاسْتِيلَاءَ أَمْ لَا. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَالِكُ غَائِبًا، أَمَّا إِذَا كَانَ حَاضِرًا، فَإِنْ أَزْعَجَهُ وَجَلَسَ عَلَى الْفِرَاشِ، أَوْ لَمْ يُزْعِجْهُ وَكَانَ بِحَيْثُ يَمْنَعُهُ مِنْ رَفْعِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، فَيَضْمَنُهُ قَطْعًا، وَقِيَاسُ مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ مِنَ الْعَقَارِ: أَنْ لَا يَكُونَ غَاصِبًا إِلَّا لِنِصْفِهِ. وَأَمَّا الْعَقَارُ، فَإِنْ كَانَ مَالِكُهُ فِيهِ، فَأَزْعَجَهُ ظَالِمٌ وَدَخَلَ الدَّارَ بِأَهْلِهِ عَلَى هَيْئَةِ مَنْ يَقْصِدُ السُّكْنَى، فَهُوَ غَاصِبٌ، سَوَاءٌ قَصَدَ الِاسْتِيلَاءَ أَمْ لَا، لِأَنَّ وُجُودَ الِاسْتِيلَاءِ يُغْنِي عَنْ قَصْدِهِ، وَلَوْ سَكَنَ بَيْتًا مِنَ الدَّارِ وَمَنَعَ الْمَالِكَ مِنْهُ دُونَ بَاقِي الدَّارِ فَهُوَ غَاصِبٌ لِذَلِكَ الْبَيْتِ دُونَ بَاقِي الدَّارِ. وَإِنْ أَزْعَجَ الْمَالِكَ وَلَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ غَاصِبٌ، فَلَمْ يَعْتَبِرُوا فِي الْغَصْبِ إِلَّا الِاسْتِيلَاءَ وَمَنْعَ الْمَالِكِ عَنْهُ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا يَكُونُ غَصْبًا، وَاعْتَبَرَ دُخُولَ الدَّارِ فِي غَصْبِهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ يُزْعِجِ الْمَالِكَ، وَلَكِنْ دَخَلَ وَاسْتَوْلَى مَعَهُ فَهُوَ غَاصِبٌ لِنِصْفِ الدَّارِ، لِاجْتِمَاعِ يَدِهِمَا وَاسْتِيلَائِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ ضَعِيفًا، وَالْمَالِكُ قَوِيٌّ، لَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ غَاصِبًا لِشَيْءٍ مِنَ الدَّارِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقَصْدِ مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْقِيقِهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَالِكٌ، فَدَخَلَ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِيلَاءِ، فَهُوَ غَاصِبٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا وَصَاحِبُ الدَّارِ قَوِيًّا، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ، وَأَثَرُ قُوَّةِ الْمَالِكِ إِنَّمَا هُوَ سُهُولَةُ إِزَالَتِهِ وَالِانْتِزَاعِ مِنْ يَدِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ سَلَبَ قَلَنْسُوَةَ مَلِكٍ، فَإِنَّهُ غَاصِبٌ وَإِنْ سَهُلَ عَلَى الْمَالِكِ انْتِزَاعُهَا. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَكُونُ غَصْبًا، لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي الْعُرْفِ يُعَدُّ هَزْءًا، وَلَا يُعَدُّ اسْتِيلَاءً، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَإِنْ دَخَلَ لَا عَلَى قَصْدِ الِاسْتِيلَاءِ، بَلْ لِيَنْظُرَ، هَلْ يَصْلُحُ لَهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ لَمْ يَكُنْ غَاصِبًا. قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَكِنْ لَوِ انْهَدَمَتْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، هَلْ يَضْمَنُهَا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَنْقُولًا مِنْ

فصل

بَيْنَ يَدَيْ مَالِكِهِ لِيَنْظُرَ هَلْ يَصْلُحُ لَهُ لِيَشْتَرِيَهُ، فَتَلِفَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْمَنْقُولِ حَقِيقَةٌ. وَلَوِ اقْتَطَعَ قِطْعَةَ أَرْضٍ مُلَاصِقَةٍ لِأَرْضِهِ، وَبَنَى عَلَيْهَا حَائِطًا وَأَضَافَهَا إِلَى مِلْكِهِ، ضَمِنَهَا، لِوُجُودِ الِاسْتِيلَاءِ. فَصْلٌ فِيمَا إِذَا انْبَنَتْ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ يَدٌ أُخْرَى قَدْ سَبَقَ مُعْظَمُ مَسَائِلِهِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ كُلَّ يَدٍ تَرَتَّبَتْ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ، فَهِيَ يَدُ ضَمَانٍ، فَيَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ عِنْدَ التَّلَفِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ وَمَنْ تَرَتَّبَتْ يَدُهُ عَلَى يَدِهِ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْمَغْصُوبَ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَالْجَهْلُ لَيْسَ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ. ثُمَّ الثَّانِي، إِنْ عَلِمَ الْغَصْبَ، فَهُوَ غَاصِبٌ مِنَ الْغَاصِبِ، فَيُطَالَبُ بِكُلِّ مَا يُطَالَبُ بِهِ الْغَاصِبُ، وَإِنْ تَلِفَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِهِ، فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. فَإِذَا غَرِمَ، لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِذَا غَرِمَ الْأَوَّلُ رَجَعَ عَلَيْهِ، هَذَا إِذَا لَمْ تَخْتَلِفْ قِيمَتُهُ فِي يَدِهِمَا، أَوْ كَانَتْ فِي يَدِ الثَّانِي أَكْثَرَ، فَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ، لَمْ يُطَالَبْ بِالزِّيَادَةِ إِلَّا الْأَوَّلُ، وَتَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ. أَمَّا إِذَا جَهِلَ الثَّانِي الْغَصْبَ، فَإِنْ كَانَتِ الْيَدُ فِي وَضْعِهَا يَدَ ضَمَانٍ كَالْعَارِيَةِ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي. وَإِنْ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ كَالْوَدِيعَةِ اسْتَقَرَّ عَلَى الْغَاصِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي وَجْهٍ: يَسْتَقِرُّ عَلَى الْمُودَعِ وَفِي وَجْهٍ: لَا يُطَالَبُ الْمُودَعُ أَصْلًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الرَّهْنِ بِزِيَادَةٍ عَلَى هَذَا، وَالْقَرْضُ مَعْدُودٌ مِنْ أَيْدِي الضَّمَانِ. وَلَوْ وَهَبَ الْمَغْصُوبُ، فَهَلِ الْقَرَارُ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ يَدَ ضَمَانٍ، أَمْ عَلَى الْمُتَّهَبِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِلتَّمَلُّكِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي.

وَلَوْ زَوَّجَ الْمَغْصُوبَةَ فَتَلِفَتْ عِنْدَ الزَّوْجِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ الزَّوْجُ بِقِيمَتِهَا قَطْعًا. وَقِيلَ: كَالْمُودَعِ. فَرْعٌ إِذَا أَتْلَفَ الْقَابِضُ مِنَ الْغَاصِبِ، نُظِرَ، إِنِ اسْتَقَلَّ بِالْإِتْلَافِ فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَإِنْ حَمَلَهُ الْغَاصِبُ عَلَيْهِ بِأَنْ غَصَبَ طَعَامًا فَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ ضِيَافَةً فَأَكَلَهُ فَالْقَرَارُ عَلَى الْأَكْلِ إِنْ كَانَ عَالِمًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ جَاهِلًا عَلَى الْأَظْهَرِ الْمَشْهُورِ فِي الْجَدِيدِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ ضَمِنَهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ رَجَعَ عَلَيْهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِالْعَكْسِ، هَذَا إِذَا قَدَّمَهُ إِلَيْهِ وَسَكَتَ. فَإِنْ قَالَ: هُوَ مِلْكِي، فَإِنْ ضَمِنَ الْأَكْلَ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى الْغَاصِبِ الْقَوْلَانِ. وَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَغَلَّطَهُ الْأَصْحَابُ. وَلَوْ وَهَبَ الْمَغْصُوبَ فَأَتْلَفَهُ الْمُتَّهَبُ، فَالْقَوْلَانِ، وَأَوْلَى بِالِاسْتِقْرَارِ عَلَى الْمُتَّهَبِ. فَرْعٌ لَوْ قَدَّمَ الطَّعَامَ الْمَغْصُوبَ إِلَى عَبْدِ إِنْسَانٍ فَأَكَلَهُ، فَإِنْ جَعَلْنَا الْقَرَارَ عَلَى الْحُرِّ الْآكِلِ، فَهَذِهِ جِنَايَةٌ مِنَ الْعَبْدِ يُبَاعُ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَا يُبَاعُ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْغَاصِبُ كَمَا لَوْ قَدَّمَ شَعِيرًا مَغْصُوبًا إِلَى بَهِيمَةٍ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا. فَرْعٌ غَصَبَ شَاةً وَأَمَرَ قَصَّابًا بِذَبْحِهَا جَاهِلًا بِالْحَالِ، فَقَرَارُ ضَمَانِ النَّقْصِ عَلَى الْغَاصِبِ،

وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي آكِلِ الطَّعَامِ، لِأَنَّهُ ذَبْحُ الْغَاصِبِ، وَهُنَاكَ انْتَفَعَ بِأَكْلِهِ. فَرْعٌ لَوْ أَمَرَ الْغَاصِبُ رَجُلًا بِإِتْلَافِ الْمَغْصُوبِ بِالْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ وَنَحْوِهِمَا، فَفَعَلَهُ جَاهِلًا بِالْغَصْبِ، فَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالِاسْتِقْرَارِ عَلَى الْمُتْلِفِ، لِأَنَّهُ حَرَامٌ، بِخِلَافِ الْآكِلِ، وَلَا أَثَرَ لِلتَّغْرِيرِ مَعَ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَرْعٌ قَدَّمَ الْمَغْصُوبَ إِلَى مَالِكِهِ، فَأَكَلَهُ جَاهِلًا بِالْحَالِ، فَإِنْ قُلْنَا فِي التَّقْدِيمِ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ: الْقَرَارُ عَلَى الْغَاصِبِ، لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الضَّمَانِ. وَإِلَّا فَيَبْرَأُ، وَرُبَّمَا نَصَرَ الْعِرَاقِيُّونَ الْأَوَّلَ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْبَرَاءَةَ هُنَا أَوْلَى مِنَ الِاسْتِقْرَارِ عَلَى الْآكِلِ. وَلَوْ أَوْدَعَهُ لِلْمَالِكِ، أَوْ رَهَنَهُ عِنْدَهُ، أَوْ أَجَّرَهُ إِيَّاهُ جَاهِلًا بِالْحَالِ، فَتَلِفَ عِنْدَهُ، لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الضَّمَانِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ بِالْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ بَاعَهُ لِلْمَالِكِ، أَوْ أَقْرَضَهُ، أَوْ أَعَارَهُ فَتَلِفَتْ عِنْدَهُ، بَرِئَ الْغَاصِبُ. وَلَوْ دَخَلَ الْمَالِكُ دَارَ الْغَاصِبِ، فَأَكَلَ طَعَامًا يَظُنُّهُ لِلْغَاصِبِ فَكَانَ هُوَ الْمَغْصُوبَ، بَرِئَ الْغَاصِبُ، وَلَوْ صَالَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ عَلَى مَالِكِهِ فَقَتَلَهُ الْمَالِكُ لِلدَّفْعِ، لَمْ يَبْرَأِ الْغَاصِبُ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِهَذِهِ الْجِهَةِ كَإِتْلَافِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ. وَفِي وَجْهٍ: يَبْرَأُ عِنْدَ الْعِلْمِ، لِإِتْلَافِهِ مَالَ نَفْسِهِ لِمَصْلَحَتِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ زَوَّجَ الْمَغْصُوبَةَ بِمَالِكِهَا جَاهِلًا، فَتَلِفَتْ عِنْدَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ فَتَلِفَتْ،

فَلَوِ اسْتَوْلَدَهَا، نَفَذَ الِاسْتِيلَادُ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ قَالَ الْغَاصِبُ لِلْمَالِكِ: أَعْتِقْ هَذَا، فَأَعْتَقَهُ جَاهِلًا، نَفَذَ الْعِتْقُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالْجَهْلِ، فَعَلَى هَذَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِعَوْدِ مَصْلَحَةِ الْعِتْقِ إِلَيْهِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَبْرَأُ، فَيُطَالِبُهُ بِقِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي، فَفَعَلَ جَاهِلًا، فَفِي نُفُوذِ الْعِتْقِ وَجْهَانِ، إِنْ نَفَذَ فَفِي وُقُوعِهِ عَنِ الْغَاصِبِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ لِلْغَاصِبِ: أَعْتِقْهُ عَنِّي، أَوْ مُطْلَقًا فَأَعْتَقَهُ، عَتَقَ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي الْمَضْمُونِ، قَالَ الْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: الْمَضْمُونُ هُوَ الْمَعْصُومُ، وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَهُوَ الْأَحْرَارُ، فَيُضْمَنُونَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، بِالْمُبَاشَرَةِ تَارَةً، وَبِالتَّسَبُّبِ أُخْرَى، وَتَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ. الثَّانِي: مَا هُوَ مَالٌ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَعْيَانٌ، وَمَنَافِعُ. وَالْأَعْيَانُ ضَرْبَانِ: حَيَوَانٌ وَغَيْرُهُ. وَالْحَيَوَانُ صِنْفَانِ: آدَمِيٌّ وَغَيْرُهُ. أَمَّا الْآدَمِيُّ: فَيُضْمَنُ النَّفْسُ وَالطَّرَفُ مِنَ الرَّقِيقِ بِالْجِنَايَةِ كَمَا يُضْمَنُ الْحُرُّ، وَيُضْمَنُ أَيْضًا بِالْيَدِ الْعَادِيَةِ. وَبَدَلُ نَفْسِهِ: قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، سَوَاءٌ قُتِلَ أَوْ تَلِفَ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَةِ. وَأَمَّا الْأَطْرَافُ وَالْجِرَاحَاتُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا لَا يَتَقَدَّرُ وَاجِبُهُ فِي الْحُرِّ فَوَاجِبُهُ فِي الرَّقِيقِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، سَوَاءٌ حَصَلَ بِالْجِنَايَةِ أَوْ فَاتَ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَةِ، وَمَا كَانَ مُقَدَّرًا فِي الْحُرِّ، يُنْظَرُ، إِنْ حَصَلَ بِجِنَايَةٍ، فَقَوْلَانِ: الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ مِنَ الرَّقِيقِ أَيْضًا، وَالْقِيمَةُ فِي حَقِّهِ كَالدِّيَةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ، فَيَجِبُ فِي يَدِ الْعَبْدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، كَمَا يَجِبُ فِي يَدِ الْحُرِّ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَالْقَدِيمُ: الْوَاجِبُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَأَمَّا مَا يَتْلَفُ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَةِ، كَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَسَقَطَتْ يَدُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ مَا يَنْقُصُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: إِنْ كَانَ النَّقْصُ أَقَلَّ مِنَ الْمُقَدَّرِ وَجَبَ مَا يَجِبُ عَلَى الْجَانِي، فَعَلَى

الْجَدِيدِ: لَوْ قَطَعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ، لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَالْأَرْشِ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ، فَعَلَيْهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ. وَكَذَا لَوْ قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ فَزَادَتْ قِيمَتُهُ. وَلَوْ كَانَ النَّاقِصُ بِقَطْعِ الْغَاصِبِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَجَبَ ثُلُثَا قِيمَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. أَمَّا عَلَى الْقَدِيمِ فَلِأَنَّهُ قُدِّرَ النَّقْصُ. وَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ، فَالنِّصْفُ بِالْجِنَايَةِ، وَالسُّدُسُ بِالْيَدِ الْعَادِيَةِ. وَلَوْ كَانَ النَّقْصُ بِسُقُوطِ الْيَدِ بِآفَةٍ ثُلُثَ الْقِيمَةِ فَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْقَدِيمِ، وَكَذَا عَلَى الْجَدِيدِ تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ: الْوَاجِبُ نِصْفُ قِيمَتِهِ. وَالْمَكَاتَبُ، وَالْمُسْتَوْلَدَةِ، وَالْمُدَبَّرِ، حُكْمُهُمْ فِي الضَّمَانِ حُكْمُ الْقِنِّ. الصِّنْفُ الثَّانِي: غَيْرُ الْآدَمِيِّ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَيَجِبُ فِيهِ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ قِيمَتُهُ، وَفِي مَا تَلِفَ مِنْ أَجْزَائِهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْخَيْلُ، وَالْإِبِلُ، وَالْحَمِيرُ، وَغَيْرُهَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: غَيْرُ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مِثْلِيٍّ وَمُتَقَوِّمٍ، وَسَيَأْتِي ضَبْطُهُمَا وَحُكْمُهُمَا فِي الطَّرَفِ الثَّالِثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. النَّوْعُ الثَّانِي: الْمَنَافِعُ، وَهِيَ أَصْنَافٌ. مِنْهَا: مَنَافِعُ الْأَمْوَالِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالثِّيَابِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا، وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالتَّفْوِيتِ. وَالْفَوَاتُ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَةِ، فَكُلُّ عَيْنٍ لَهَا مَنْفَعَةٌ تُسْتَأْجَرُ لَهَا، يُضْمَنُ مَنْفَعَتُهَا إِذَا بَقِيَتْ فِي يَدِهِ مُدَّةً لَهَا أُجْرَةٌ حَتَّى لَوْ غَصَبَ كِتَابًا وَأَمْسَكَهُ مُدَّةً وَطَالَعَهُ، أَوْ مِسْكًا فَشَمَّهُ، أَوْ لَمْ يَشُمُّهُ لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ يَعْرِفُ صَنَائِعَ، لَزِمَهُ أُجْرَةٌ أَعْلَاهَا أُجْرَةً، وَلَا يَلْزَمُهُ أَجْرُ الْجَمِيعِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ عَيْنًا لِمَنْفَعَةٍ، فَاسْتَعْمَلَهَا فِي غَيْرِهَا، ضَمِنَهَا. قُلْتُ: ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ، أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ أَرْضًا وَلَمْ يَزْرَعْهَا، وَهِيَ مِمَّا تَنْقُصُ بِتَرْكِ الزَّرْعِ كَأَرْضِ الْبَصْرَةِ وَشِبْهِهَا فَإِنَّهَا إِذَا لَمْ تُزْرَعْ نَبَتَ فِيهَا

الدَّغَلُ وَالْحَشِيشُ، كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ الْحَشِيشِ وَأُجْرَةُ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي أَرْشَ النَّقْصِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ يَجِبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ، فَلَا تُضْمَنُ بِالْفَوَاتِ تَحْتَ الْيَدِ، لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا يُزَوِّجُ السَّيِّدُ الْمَغْصُوبَةَ، وَلَا يُؤَجِّرُهَا، كَمَا لَا يَبِيعُهَا، وَكَذَا لَوْ تَدَاعَى رَجُلَانِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ، ادَّعَيَا عَلَيْهَا، وَلَا يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ. وَإِذَا أَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا حُكِمَ بِأَنَّهَا زَوْجُهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَدَ لَهَا، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ تُسْتَحَقُّ اسْتِحْقَاقَ ارْتِفَاقٍ لِلْحَاجَةِ وَسَائِرَ الْمَنَافِعِ تُسْتَحَقُّ اسْتِحْقَاقَ مِلْكٍ تَامٍّ. وَلِهَذَا مَنْ مَلَكَ مَنْفَعَةً بِالِاسْتِئْجَارِ، مَلَكَ نَقْلَهَا إِلَى غَيْرِهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَالزَّوْجُ لَا يَمْلِكُ نَقْلَ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ. فَأَمَّا إِذَا فَوَّتَ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ بِالْوَطْءِ فَيَضْمَنُ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَسَيَأْتِي تَفْرِيعُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْحُرِّ، وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالتَّفْوِيتِ. فَإِذَا قَهَرَ حُرًّا وَسَخَّرَهُ فِي عَمَلٍ، ضَمِنَ أُجْرَتَهُ. وَإِنْ حَبَسَهُ وَعَطَّلَ مَنَافِعَهُ، لَمْ يَضْمَنْهَا عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَدِ، فَمَنَافِعُهُ تَفُوتُ تَحْتَ يَدِهِ، بِخِلَافِ الْمَالِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَضْمَنُهَا، وَيَقْرُبُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْخِلَافُ فِي صُورَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: لَوِ اسْتَأْجَرَ حُرًّا وَأَرَادَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَالثَّانِيَةُ: إِذَا أَسْلَمَ الْحُرُّ الْمُسْتَأْجَرُ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهُ فِيهَا، هَلْ تَتَقَرَّرُ أُجْرَتُهُ؟ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، وَتَتَقَرَّرُ أُجْرَتُهُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يُؤَجِّرُهُ وَلَا تَتَقَرَّرُ أُجْرَتُهُ، لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَدِ، وَلَا تَحْصُلُ مَنَافِعُهُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِهَا، هَكَذَا ذَكَرَ الْأَصْحَابُ [تَوْجِيهُ] الْخِلَافِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا دُخُولَ الْحُرِّ تَحْتَ الْيَدِ مُخْتَلَفًا فِيهِ، بَلِ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِهِ، وَلَكِنْ مَنْ جَوَّزَ إِجَارَةَ

الْمُسْتَأْجَرِ، وَقَرَّرَ الْأُجْرَةَ، بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ الْخِلَافَ فِي الْمَسَائِلِ مَبْنِيًّا عَلَى التَّرَدُّدِ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ الْيَدِ وَلَمْ نَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. فَرْعٌ فِي دُخُولِ ثِيَابِ الْحُرِّ فِي ضَمَانِ مَنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، تَفْصِيلٌ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ. فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ نَقَلَ حُرًّا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بِالْقَهْرِ إِلَى مَوْضِعٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ وَاحْتَاجَ إِلَى مُؤْنَةً، فَهِيَ عَلَى النَّاقِلِ، لِتَعَدِّيهِ. وَمِنْهَا: مَنْفَعَةُ الْكَلْبِ، فَمَنْ غَصَبَ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ حِرَاسَةٍ، لَزِمَهُ رَدُّهُ مَعَ مُؤْنَةِ الرَّدِّ إِنْ كَانَ لَهُ مُؤْنَةٌ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ أُجْرَةُ مَنْفَعَتِهِ؟ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهِ. وَفِيمَا اصْطَادَهُ الْغَاصِبُ بِالْكَلْبِ الْمَغْصُوبِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لِلْمَالِكِ، كَصَيْدِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لِلْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ شَبَكَةً أَوْ قَوْسًا وَاصْطَادَ بِهِمَا، فَإِنَّهُ لِلْغَاصِبِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ، فِيمَا لَوِ اصْطَادَ بِالْبَازِي وَالْفَهْدِ الْمَغْصُوبَيْنِ، وَحَيْثُ كَانَ الصَّيْدُ لِلْغَاصِبِ، لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ الْمَغْصُوبِ، وَحَيْثُ كَانَ لِلْمَالِكِ كَصَيْدِ الْعَبْدِ، فَفِي وُجُوبِ الْأُجْرَةِ لِزَمَنِ الِاصْطِيَادِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ فِي شُغْلٍ آخَرَ. قُلْتُ: وَالْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ تَنْقُصْ قِيمَةُ الصَّيْدِ عَنِ الْأُجْرَةِ، فَإِنْ نَقَصَتْ وَجَبَ النَّاقِصُ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ الْمَغْصُوبُ، إِذَا دَخَلَهُ نَقْصٌ، هَلْ يَجِبُ أَرْشُهُ مَعَ الْأُجْرَةِ؟ نُظِرَ، إِنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبٍ غَيْرِ الِاسْتِعْمَالِ، بِأَنْ غَصَبَ ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا، فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَسُقُوطِ عُضْوِ الْعَبْدِ بِمَرَضٍ، وَجَبَ الْأَرْشُ مَعَ الْأُجْرَةِ، ثُمَّ الْأُجْرَةُ الْوَاجِبَةُ لِمَا قَبْلَ حُدُوثِ النَّقْصِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ سَلِيمًا، وَلِمَا بَعْدَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مَعِيبًا. وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ الِاسْتِعْمَالِ، بِأَنْ لَبِسَ الثَّوْبَ فَأَبْلَاهُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبَانِ، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ إِلَّا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَأَرْشِ النَّقْصِ. فَرْعٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِآفَةٍ، غَرِمَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ لِلْحَيْلُولَةِ، وَتَلْزَمُهُ مَعَ ذَلِكَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ بَذْلِ الْقِيمَةِ، وَفِيمَا بَعْدَهَا، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ، لِبَقَاءِ حُكْمِ الْغَصْبِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي أَنَّ الزَّوَائِدَ الْحَاصِلَةَ بَعْدَ دَفْعِ الْقِيمَةِ، هَلْ تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ؟ وَفِي أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ رَدِّهَا؟ وَفِي أَنَّ جِنَايَةَ الْآبِقِ فِي إِبَاقِهِ، هَلْ يَتَعَلَّقُ ضَمَانُهَا بِالْغَاصِبِ؟ وَلَوْ غَيَّبَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَعَسُرَ رَدُّهُ، وَغَرِمَ الْقِيمَةَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَطَرَّدَ شَيْخِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخِلَافَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ وَثُبُوتِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إِذَا غَيَّبَهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ، فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ الضَّمَانُ.

فَرْعٌ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ، لَا يُضْمَنَانِ [لَا] لِمُسْلِمٍ وَلَا لِذِمِّيٍّ، سَوَاءٌ أَرَاقَ حَيْثُ تَجُوزُ الْإِرَاقَةُ أَمْ حَيْثُ لَا تَجُوزُ، ثُمَّ خُمُورُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تُرَاقُ إِلَّا إِذَا تَظَاهَرُوا بِشُرْبِهَا أَوْ بَيْعِهَا، وَلَوْ غُصِبَ مِنْهُمْ وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ وَجَبَ رَدُّهَا، وَإِنْ غُصِبَتْ مِنْ مُسْلِمٍ وَجَبَ رَدُّهَا إِنْ كَانَتْ مُحْتَرَمَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْتَرَمَةً لَمْ يَجِبْ، بَلْ تُرَاقُ. فَرْعٌ آلَاتُ الْمَلَاهِي كَالْبَرْبَطِ وَالطُّنْبُورِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَا الصَّنَمُ وَالصَّلِيبُ، لَا يَجِبُ فِي إِبْطَالِهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الِاسْتِعْمَالِ، وَلَا حُرْمَةَ لِتِلْكَ الصَّنْعَةِ. وَفِي الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِي إِبْطَالِهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تُكْسَرُ وَتُرَضَّضُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ اتِّخَاذُ آلَةٍ مُحَرَّمَةٍ مِنْهَا لَا الْأُولَى وَلَا غَيْرُهَا. وَأَصَحُّهُمَا: لَا تُكْسَرُ الْكَسْرَ الْفَاحِشَ لَكِنْ تُفَصَّلُ. وَفِي حَدِّ التَّفْصِيلِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: قَدْرٌ لَا يَصْلُحُ مَعَهُ لِلِاسْتِعْمَالِ الْمُحَرَّمِ، حَتَّى إِذَا رُفِعَ وَجْهُ الْبَرْبَطِ وَبَقِيَ عَلَى صُورَةِ قَصْعَةٍ كَفَى، وَالثَّانِي: أَنْ يُفَصَّلَ إِلَى حَدٍّ [حَتَّى] لَوْ فُرِضَ اتِّخَاذُ آلَةٍ مُحَرَّمَةٍ مِنْ مَفْصِلِهَا لَنَالَ الصَّانِعُ التَّعَبَ الَّذِي يَنَالُهُ فِي ابْتِدَاءِ الِاتِّخَاذِ، وَهَذَا بِأَنْ يَبْطُلَ تَأْلِيفُ الْأَجْزَاءِ كُلِّهَا حَتَّى تَعُودَ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ التَّأْلِيفِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى تَفْصِيلِ الْأَجْزَاءِ، هُوَ فِيمَا إِذَا تَمَكَّنَ الْمُحْتَسِبُ مِنْهُ، أَمَّا

إِذَا مَنَعَهُ مَنْ فِي يَدِهِ وَدَافَعَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَهُ إِبْطَالُهُ بِالْكَسْرِ قَطْعًا. وَحَكَى الْإِمَامُ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الْأَوْتَارِ لَا يَكْفِي لِأَنَّهَا مُجَاوِرَةٌ لَهَا مُنْفَصِلَةٌ. وَمَنِ اقْتَصَرَ فِي إِبْطَالِهَا عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَمَنْ جَاوَزَهُ، فَعَلَيْهِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ قِيمَتِهَا مَكْسُورَةً بِالْحَدِّ الْمَشْرُوعِ وَبَيْنَ قِيمَتِهَا مُنْتَهِيَةً إِلَى الْحَدِّ الَّذِي أَتَى بِهِ. وَإِنْ أَحْرَقَهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا مَكْسُورَةَ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ. قُلْتُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْرَاقُهَا، لِأَنَّ رُضَاضَهَا مُتَمَوَّلٌ. وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَصْلِ، أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ وَالْفَاسِقَ وَالصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يَشْتَرِكُونَ فِي جَوَازِ الْإِقْدَامِ عَلَى إِزَالَةِ هَذَا الْمُنْكَرِ وَسَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ، وَيُثَابُ الصَّبِيُّ عَلَيْهَا كَمَا يُثَابُ الْبَالِغُ، وَلَكِنْ إِنَّمَا تَجِبُ إِزَالَتُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْقَادِرِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَنْعُ الصَّبِيِّ مِنْ كَسْرِ الْمَلَاهِي وَإِرَاقَةِ الْخُمُورِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْبَالِغِ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْوِلَايَاتِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَآحَادِ الرَّعِيَّةِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ «السِّيَرِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: وَفِي قَدْرِ الْوَاجِبِ، فَمَا كَانَ مِثْلِيًّا ضُمِنَ بِمِثْلِهِ. وَمَا كَانَ مُتَقَوَّمًا، فَبِالْقِيمَةِ. وَفِي ضَبْطِ الْمِثْلِيِّ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: كُلُّ مُقَدَّرٍ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَهُوَ مِثْلِيٌّ، وَيُنْسَبُ هَذَا إِلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَمَا لَهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ، فَعَلَيْهِ مِثْلُ كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ. وَالثَّانِي: يُزَادُ مَعَ هَذَا جَوَازُ السَّلَمِ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: زَادَ الْقَفَّالُ وَآخَرُونَ اشْتِرَاكَ جَوَازِ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. وَالرَّابِعُ: مَا يُقَسَّمُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْوِيمٍ. وَالْخَامِسُ، قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ: الْمِثْلِيُّ مَا [لَا] تَخْتَلِفُ أَجْزَاءُ النَّوْعِ مِنْهُ فِي الْقِيمَةِ، وَرُبَّمَا قِيلَ فِي الْجِرْمِ وَالْقِيمَةِ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ: مَنْ

قَالَ: الْمِثْلِيُّ: الْمُتَشَاكِلُ فِي الْقِيمَةِ وَمُعْظَمِ الْمَنَافِعِ. وَمَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ، هُوَ تَسَاوِي الْأَجْزَاءِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْقِيمَةِ، فَزَادَ الْمَنْفَعَةَ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَزَادَ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ لَا مِنْ حَيْثُ الصَّنْعَةُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ مَنْقُوضٌ بِالْمَعْجُونَاتِ. وَالثَّالِثُ: بَعِيدٌ عَنِ اخْتِيَارِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ هَذَا الشَّرْطِ، وَقَالُوا: امْتِنَاعُ بَيْعِ بَعْضِهِ [بِبَعْضٍ] لِرِعَايَةِ الْكَمَالِ فِي حَالِ التَّمَاثُلِ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَالرَّابِعُ: لَا حَاصِلَ لَهُ، فَإِنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْأَرْضِ الْمُتَسَاوِيَةِ، فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ كَذَلِكَ، وَلَيْسَتْ مِثْلِيَّةً: وَالْخَامِسُ: ضَعِيفٌ أَيْضًا مُنْتَقَضٌ بِأَشْيَاءَ، فَالْأَصَحُّ الْوَجْهُ الثَّانِي، لَكِنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يُقَالَ: الْمِثْلِيُّ: مَا يَحْصُرُهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَلَا يُقَالُ: مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ مَا يُعْتَادُ كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَهُوَ مِثْلِيٌّ، وَكَذَا التُّرَابُ وَهُوَ مِثْلِيٌّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَحْصُلُ مِنَ الْخِلَافِ اخْتِلَافٌ مِنَ الصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْحَدِيدِ، لِأَنَّ أَجْزَاءَهَا مُخْتَلِفَةُ الْجَوَاهِرِ، وَكَذَا فِي التِّبْرِ، وَالسَّبِيكَةِ، وَالْمِسْكِ، وَالْعَنْبَرِ، وَالْكَافُورِ، وَالثَّلْجِ، وَالْجَمْدِ، وَالْقُطْنِ، لِمِثْلِ ذَلِكَ. وَفِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَسَائِرِ الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ لِامْتِنَاعِ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَكَذَا الدَّقِيقُ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهَا كُلَّهَا مِثْلِيَّةٌ. وَفِي السُّكَّرِ وَالْفَانِيذِ وَالْعَسَلِ الْمُصَفَّى بِالنَّارِ، وَاللَّحْمِ الطَّرِيِّ، لِلْخِلَافِ فِي جَوَازِ بَيْعِ كُلٍّ مِنْهَا بِجِنْسِهِ، وَفِي الْخُبْزِ، لِامْتِنَاعِ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَأَيْضًا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ السَّلَمِ فِيهِ. وَأَمَّا

فصل

الْحُبُوبُ، وَالْأَدْهَانُ، وَالْأَلْبَانُ وَالسَّمْنُ، وَالْمَخِيضُ، وَالْخَلُّ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ، وَالزَّبِيبُ، وَالتَّمْرُ، وَنَحْوُهَا، فَمِثْلِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْخَالِصَةُ مِثْلِيَّةٌ. وَمُقْتَضَى الْعِبَارَةِ الثَّانِيَةِ جَرَيَانُ خِلَافٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِي السَّلَمِ فِيهَا خِلَافًا سَبَقَ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ: أَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْمُكَسَّرَةِ الْخِلَافُ فِي التِّبْرِ وَالسَّبِيكَةِ، وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَغْشُوشَةُ، فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ جَوَّزْنَا الْمُعَامَلَةَ بِهَا فَمِثْلِيَّةٌ، وَإِلَّا فَمُتَقَوَّمَةٌ. فَصْلٌ إِذَا غَصَبَ مِثْلِيًّا وَتَلِفَ فِي يَدِهِ، وَالْمِثْلُ مَوْجُودٌ، فَلَمْ يُسَلِّمْهُ حَتَّى فُقِدَ أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْفِقْدَانِ: [أَنْ] لَا يُوجَدَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَحَوَالَيْهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَفِي الْقِيمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا. أَصَحُّهَا: يَجِبُ أَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ يَوْمِ الْغَصْبِ إِلَى الْإِعْوَازِ. وَالثَّانِي: أَقْصَاهَا مِنَ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ. وَالثَّالِثُ: أَقْصَاهَا مِنَ التَّلَفِ إِلَى الْإِعْوَازِ، وَرُبَّمَا بُنِيَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ إِعْوَازِ الْمِثْلِ هَلْ هُوَ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّهُ الَّذِي أُتْلِفَ عَلَى الْمَالِكِ أَمْ قِيمَةُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ عِنْدَ التَّلَفِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَبِي الطَّيِّبِ ابْنِ سَلَمَةَ. وَالرَّابِعُ: أَقْصَاهَا مِنَ الْغَصْبِ إِلَى تَغْرِيمِ الْقِيمَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا. وَالْخَامِسُ: أَقْصَاهَا مِنَ الْإِعْوَازِ إِلَى الْمُطَالَبَةِ. وَالسَّادِسُ: أَقْصَاهَا مِنْ تَلَفِ الْمَغْصُوبِ إِلَى الْمُطَالَبَةِ. وَالسَّابِعُ: قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ. وَالثَّامِنُ: يَوْمَ الْإِعْوَازِ، اخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ الزُّجَاجِيُّ، بِضَمِّ الزَّايِ، وَالْحَنَّاطِيُّ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَأَبُو خَلَفٍ السُّلَمِيُّ. وَالتَّاسِعُ: يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ. وَالْعَاشِرُ: إِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ فَقِيمَةُ يَوْمِ الْإِعْوَازِ. وَإِنْ فُقِدَ هُنَاكَ فَقَطْ، فَقِيمَةُ يَوْمِ الْحُكْمِ بِالْقِيمَةِ. وَالْحَادِيَ عَشَرَ: حُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ إِنْ ثَبَتَ عَنْهُ: قِيمَةُ يَوْمِ

أَخْذِ الْقِيمَةِ، لَا يَوْمِ الْمُطَالَبَةِ، وَلَوْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فَتَلِفَ وَالْمِثْلُ مَفْقُودٌ، فَالْقِيَاسُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: أَقْصَى الْقِيَمِ مِنَ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ. وَعَلَى الثَّالِثِ وَالسَّابِعِ وَالثَّامِنِ: [قِيمَةُ] يَوْمِ التَّلَفِ وَأَنْ يَعُودَ. وَالرَّابِعُ وَالسَّادِسُ وَالتَّاسِعُ بِحَالِهَا. وَعَلَى الْخَامِسِ أَقْصَى الْقِيَمِ مِنَ التَّلَفِ إِلَى يَوْمِ التَّقْوِيمِ. وَالْعَاشِرُ بِحَالِهِ. قُلْتُ: وَالْحَادِيَ عَشَرَ بِحَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَتْلَفَ لِرَجُلٍ مِثْلِيًّا بِلَا غَصْبٍ، وَكَانَ الْمِثْلُ مَوْجُودًا فَلَمْ يُسَلِّمْهُ حَتَّى فُقِدَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: قِيمَةُ يَوْمِ الْإِتْلَافِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ: أَقْصَى الْقِيَمِ مِنَ الْإِتْلَافِ إِلَى الْإِعْوَازِ. وَعَلَى الرَّابِعِ: مِنَ الْإِتْلَافِ إِلَى التَّقْوِيمِ. وَالْقِيَاسُ عَوْدُ الْأَوْجُهِ الْبَاقِيَةِ. وَلَوْ أَتْلَفَهُ وَالْمِثْلُ مَفْقُودٌ فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الْأَوَائِلِ وَالسَّابِعِ وَالثَّامِنِ: تَجِبُ قِيمَةُ يَوْمِ الْإِتْلَافِ. وَعَلَى الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ وَالسَّادِسِ: أَقْصَى الْقِيَمِ مِنَ الْإِتْلَافِ إِلَى التَّقْوِيمِ. وَعَلَى التَّاسِعِ: قِيمَةُ يَوْمِ التَّقْوِيمِ. وَعَلَى الْعَاشِرِ: إِنْ كَانَ مَفْقُودًا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، فَيَوْمُ الْإِتْلَافِ، وَإِلَّا فَيَوْمُ التَّغْرِيمِ. فَرْعٌ مَتَى غَرِمَ الْغَاصِبُ أَوِ الْمُتْلِفُ الْقِيمَةَ لِإِعْوَازِ الْمِثْلِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمِثْلَ، هَلْ لِلْمَالِكِ رَدُّ الْقِيمَةِ وَطَلَبُ الْمِثْلِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. قُلْتُ: وَيَجْرِيَانِ، فِي أَنَّ الْغَاصِبَ وَالْمُتْلِفَ، هَلْ لَهُمَا رَدُّ الْمِثْلِ وَطَلَبُ الْقِيمَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ فِي أَنَّ الْمِثْلِيَّ هَلْ يُؤْخَذُ مِثْلُهُ مَعَ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أَمَّا الْمَكَانُ، فَإِذَا غَصَبَ مِثْلِيًّا وَنَقَلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُكَلِّفَهُ رَدَّهُ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْقِيمَةِ فِي الْحَالِ لِلْحَيْلُولَةِ. ثُمَّ إِذَا رَدَّهُ الْغَاصِبُ رَدَّ الْقِيمَةَ وَاسْتَرَدَّهُ. فَلَوْ تَلِفَ فِي الْبَلَدِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ، طَالَبَهُ بِمِثْلِهِ حَيْثُ ظَفِرَ بِهِ مِنَ الْبَلَدَيْنِ لِتَوَجُّهِ الطَّلَبِ عَلَيْهِ بِرَدِّ الْعَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. فَإِنْ فُقِدَ الْمِثْلُ غَرَّمَهُ [قِيمَةَ] أَكْثَرِ الْبَلَدَيْنِ قِيمَةً. وَلَوْ أَتْلَفَ مِثْلِيًّا أَوْ غَصَبَهُ وَتَلِفَ عِنْدَهُ فِي بَلَدٍ، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ فِي آخَرَ، هَلْ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْمِثْلِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ: إِنْ كَانَ مِمَّا لَا مُؤْنَةَ لِنَقْلِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمِثْلِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَلَبُ الْمِثْلِ، وَلَا لِلْغَارِمِ تَكْلِيفُهُ قَبُولَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يُغَرِّمَهُ قِيمَةَ بَلَدِ التَّلَفِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْمِثْلِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ تَكْلِيفُهُ مُؤْنَةَ النَّقْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُطَالِبُهُ بِالْمِثْلِ. وَإِنْ لَزِمَتْ مُؤْنَةٌ وَزَادَتِ الْقِيمَةُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مِثْلِيًّا فِي وَقْتِ الرُّخْصِ، لَهُ طَلَبُ الْمِثْلِ فِي الْغَلَاءِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ ذَلِكَ الْبَلَدِ لَا تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ بَلَدِ التَّلَفِ طَالَبَهُ بِالْمِثْلِ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَأَخَذَ الْقِيمَةَ، ثُمَّ اجْتَمَعَا فِي بَلَدِ التَّلَفِ هَلْ لِلْمَالِكِ رَدُّ الْقِيمَةِ وَطَلَبُ الْمِثْلِ؟ وَهَلْ لِصَاحِبِهِ اسْتِرْدَادُ الْقِيمَةِ وَبَذْلُ الْمِثْلِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ غَرِمَ الْقِيمَةَ لِإِعْوَازِ الْمِثْلِ. وَلَوْ نَقَلَ الْمَغْصُوبَ الْمِثْلِيَّ إِلَى بَلَدٍ، وَتَلِفَ هُنَاكَ، أَوْ أَتْلَفَهُ ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ الْمَالِكُ فِي بَلَدٍ ثَالِثٍ وَقُلْنَا: إِنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِالْمِثْلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّلَفِ، فَلَهُ أَخْذُ قِيمَةِ أَكْثَرِ الْبَلَدَيْنِ قِيمَةً. وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ الزَّمَانُ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمِثْلِ وَإِنْ زَادَتِ الْقِيمَةُ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ وَإِنْ نَقَصَتِ الْقِيمَةُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَخْرُجِ الْمِثْلُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ قِيمَةٌ وَمَالِيَّةٌ. فَأَمَّا إِنْ خَرَجَ بِأَنْ أَتْلَفَ مَاءَهُ فِي مَفَازَةٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَا عَلَى شَطِّ نَهْرٍ أَوْ فِي بَلَدٍ، أَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ الْجَمْدَ فِي الصَّيْفِ وَاجْتَمَعَا فِي الشِّتَاءِ، فَلَيْسَ لِلْمُتْلِفِ بَذْلُ الْمِثْلِ، بَلْ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْمِثْلِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَفَازَةِ [وَفِي الصَّيْفِ، وَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ ثُمَّ اجْتَمَعَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَفَازَةِ] أَوْ فِي الصَّيْفِ،

فصل

فَهَلْ يَثْبُتُ التَّرَادُّ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَأَمَّا الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ وَالْمُقْتَرَضُ إِذَا ظَفِرَ بِهِ الْمَالِكُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَفِي مُطَالَبَتِهِ كَلَامٌ سَبَقَ فِي كِتَابِ السَّلَمَ. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ الْمُسْتَحِقُّ: لَا آخُذُ الْقِيمَةَ بَلْ أَنْتَظِرُ وُجُودَ الْمِثْلِ، فَلَهُ ذَلِكَ، نَقَلَهُ فِي الْبَيَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهِ، هَلْ يُجْبَرُ، وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ. وَلَوْ لَمْ يَأْخُذِ الْقِيمَةَ حَتَّى وُجِدَ الْمِثْلُ تَعَيَّنَ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، إِنْ كَانَا مَضْرُوبَيْنِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُمَا مِثْلِيَّانِ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا صَنْعَةٌ بِأَنْ أَتْلَفَ حُلِيًّا وَزْنُهُ عَشْرَةٌ وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: يَضْمَنُ الْعَيْنَ بِوَزْنِهَا مِنْ جِنْسِهَا وَالصَّنْعَةَ بِقِيمَتِهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ نَقْدَ الْبَلَدِ أَمْ لَا، لِأَنَّا لَوْ ضَمَّنَّاهُ الْجَمِيعَ بِالْجِنْسِ لَقَابَلْنَا عَشَرَةً بِعِشْرِينَ وَذَلِكَ رِبًا. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ الْعَيْنَ بِوَزْنِهَا مِنْ جِنْسِهَا وَالصَّنْعَةَ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الصَّنْعَةَ وَحْدَهَا بِكَسْرٍ يَضْمَنُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَكْسُورِ أَمْ لَا. وَالثَّالِثُ: يَضْمَنُ الْكُلَّ بِغَيْرِ جِنْسِهِ تَحَرُّزًا عَنِ الْفَاضِلِ، وَعَنِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. وَالرَّابِعُ وَهُوَ أَصَحُّهَا: يَضْمَنُ الْجَمِيعَ بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الرِّبَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَجْرِي فِي الْعُقُودِ لَا فِي هَذِهِ الْغَرَامَاتِ، هَكَذَا نَقَلَ الْجُمْهُورُ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ تَرْتِيبُ الْبَغَوِيِّ، وَهُوَ أَنَّ صَنْعَةَ الْحُلِيِّ مُتَقَوَّمَةٌ، وَفِي ذَاتِهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي التِّبْرِ. فَإِنْ قُلْنَا: مُتَقَوَّمٌ، ضَمِنَ الْكُلَّ بِنَقْدِ الْبَلَدِ كَيْفَ كَانَ، وَإِنْ قُلْنَا: مِثْلِيٌّ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ الْجَمِيعَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَضْمَنُ الْوَزْنَ بِالْمِثْلِ وَالصَّنْعَةَ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَوْ أَتْلَفَ

فصل

إِنَاءً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَإِنْ جَوَّزْنَا اتِّخَاذَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ حُلِيًّا، وَإِنْ مَنَعْنَاهُ، فَهُوَ كَإِتْلَافِ مَا لَا صَنْعَةَ لَهُ. وَلَوْ أَتْلَفَ مَا لَا صَنْعَةَ فِيهِ كَالتِّبْرِ وَالسَّبِيكَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مِثْلِيٌّ، ضَمِنَ مِثْلَهُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ لَا كَسَائِرِ الْمُتَقَوَّمَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ كَذَلِكَ، إِلَّا إِذَا كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَانَتِ الْقِيمَةُ تَزِيدُ عَلَى الْوَزْنِ، فَحِينَئِذٍ يُقَوَّمُ بِغَيْرِ الْجِنْسِ وَيَضْمَنُ بِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْعِرَاقِيِّينَ. فَصْلٌ إِذَا تَغَيَّرَ الْمَغْصُوبُ، فَقَدْ يَكُونُ مُتَقَوَّمًا ثُمَّ يَصِيرُ مِثْلِيًّا، وَعَكْسُهُ، وَمِثْلِيًّا فِيهِمَا، وَمُتَقَوَّمًا فِيهِمَا. الْحَالُ الْأَوَّلُ: كَمَنْ غَصَبَ رَطْبًا وَقُلْنَا: إِنَّهُ مُتَقَوَّمٌ فَصَارَ تَمْرًا، ثُمَّ تَلِفَ عِنْدَهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ: يَضْمَنُ مِثْلَ التَّمْرِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ، وَأَشْبَهُهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ الرَّطْبُ أَكْثَرَ قِيمَةً لَزِمَهُ قِيمَتُهُ لِئَلَّا تَضِيعَ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ كَانَ التَّمْرُ أَكْثَرَ أَوِ اسْتَوَيَا لَزِمَهُ الْمِثْلُ، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ مِثْلِ التَّمْرِ وَقِيمَةِ الرُّطَبِ. الْحَالُ الثَّانِي: كَمَنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، وَتَلِفَ الدَّقِيقُ عِنْدَهُ أَوْ جَعَلَهُ خُبْزًا وَأَتْلَفَهُ، وَقُلْنَا: لَا مِثْلَ لِلدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ، أَوْ تَمْرًا وَاتَّخَذَ مِنْهُ خَلًّا بِالْمَاءِ، فَعَلَى قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ: يَضْمَنُ الْمِثْلَ وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالتَّمْرُ، وَعَلَى مَا قَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُتَقَوَّمُ أَكْثَرَ قِيمَةً غَرِمَهَا، وَإِلَّا فَالْمِثْلُ، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: يَغْرَمُ أَكْثَرَ الْقِيَمِ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَتُهُ بِالْمِثْلِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ: مَنْ غَصَبَ حِنْطَةً فِي الْغَلَاءِ فَتَلِفَ الْمَغْصُوبُ عِنْدَهُ، ثُمَّ طَالَبَهُ الْمَالِكُ فِي الرُّخْصِ، فَهَلْ يُغَرِّمُهُ الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ، لَمْ يَصِحَّ

فصل

إِطْلَاقُ الْجَوَابِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَلِ الصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَلِفَتْ وَهِيَ حِنْطَةٌ غَرِمَ الْمِثْلَ. وَإِنْ صَارَ إِلَى حَالَةِ التَّقْوِيمِ ثُمَّ تَلِفَ فَالْقِيمَةُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: كَمَنْ غَصَبَ سِمْسِمًا فَاتَّخَذَ مِنْهُ شَيْرَجًا ثُمَّ تَلِفَ عِنْدَهُ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْغَزَّالِيُّ: يُغَرِّمُهُ الْمَالِكُ مَا شَاءَ مِنْهُمَا. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ غَرِمَ مِثْلَهُ، وَإِلَّا فَيَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ مَا شَاءَ مِنْهُمَا. الْحَالُ الرَّابِعُ: يَجِبُ فِيهِ أَقْصَى الْقِيَمِ. فَرْعٌ إِذَا لَزِمَهُ الْمِثْلُ لَزِمَهُ تَحْصِيلُهُ إِنْ وَجَدَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَالرُّويَانِيِّ: يَلْزَمُهُ الْمِثْلُ، لِأَنَّ الْمِثْلَ كَالْعَيْنِ، وَيَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ وَإِنْ لَزِمَ فِي مُؤْنَتِهِ أَضْعَافُ قِيمَتِهِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ آخَرِينَ، مِنْهُمُ الْغَزَالِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ تَحْصِيلُهُ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ كَالْمَعْدُومِ كَالرَّقَبَةِ، وَمَاءِ الطَّهَارَةِ، وَيُخَالِفُ الْعَيْنَ، فَإِنَّهُ تَعَدَّى فِيهَا دُونَ الْمِثْلِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ، وَقَدْ صَحَّحَهُ أَيْضًا الشَّاشِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ غَصَبَ مُتَقَوَّمًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ، لَزِمَهُ أَقْصَى قِيمَتِهِ مِنْ يَوْمِ غَصْبِهِ إِلَى تَلَفِهِ، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ الَّذِي تَلِفَ فِيهِ، فَلَوْ كَانَتْ مِائَةً فَصَارَتْ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ عَادَتْ بِالرُّخْصِ إِلَى خَمْسِينَ، ثُمَّ تَلِفَ، لَزِمَهُ مِائَتَانِ. وَلَوْ تَكَرَّرَ ارْتِفَاعُ السِّعْرِ وَانْخِفَاضُهُ لَمْ يَضْمَنْ كُلَّ زِيَادَةٍ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْأَكْثَرَ، وَلَا أَثَرَ لِارْتِفَاعِ السِّعْرِ بَعْدَ التَّلَفِ

قَطْعًا. وَلَوْ أَتْلَفَ مُتَقَوَّمًا بِلَا غَصْبٍ، لَزِمَهُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ. فَإِنْ حَصَلَ التَّلَفُ بِتَدَرُّجٍ وَسِرَايَةٍ، وَاخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ بِأَنْ جَنَى عَلَى بَهِيمَةٍ قِيمَتُهَا مِائَةٌ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ هَلَكَتْ وَقِيمَةُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ، فَقَالَ الْقَفَّالُ: يَلْزَمُهُ الْمِائَةُ، لِأَنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا الْأَقْصَى فِي الْيَدِ الْعَادِيَةِ، فَفِي نَفْسِ الْإِتْلَافِ أَوْلَى. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يَهْلِكِ الْمَغْصُوبُ لَكِنْ أَبَقَ، أَوْ غَيَّبَهُ الْغَاصِبُ، أَوْ ضَلَّتِ الدَّابَّةُ، أَوْ ضَاعَ الثَّوْبُ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ فِي الْحَالِ لِلْحَيْلُولَةِ. وَالِاعْتِبَارُ بِأَقْصَى الْقِيَمِ مِنَ الْغَصْبِ إِلَى الْمُطَالَبَةِ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يُلْزِمَهُ قَبُولَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ قِيمَةَ الْحَيْلُولَةِ لَيْسَتْ حَقًّا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ حَتَّى يُجْبَرَ عَلَى قَبُولِهِ، أَوِ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ، بَلْ لَوْ أَبْرَأَهُ الْمَالِكُ عَنْهَا لَمْ يَنْفُذْ. وَفِي وَجْهٍ: هِيَ كَالْحُقُوقِ الْمُسْتَقِرَّةِ، وَهُوَ شَاذٌّ. ثُمَّ الْقِيمَةُ الْمَأْخُوذَةُ، يَمْلِكُهَا الْمَالِكُ كَمَا يَمْلِكُ عِنْدَ التَّلَفِ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا، وَلَا يَمْلِكُ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ، فَإِذَا ظَفِرَ بِالْمَغْصُوبِ، فَلِلْمَالِكِ اسْتِرْدَادُهُ وَرَدُّ الْقِيمَةِ، وَلِلْغَاصِبِ رَدُّهُ وَاسْتِرْدَادُ الْقِيمَةِ. وَهَلْ لَهُ حَبْسُ الْمَغْصُوبِ إِلَى أَنْ يَسْتَرِدَّهَا؟ حَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا حَكَى ثُبُوتَ الْحَبْسِ لِلْمُشْتَرِي فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ لِاسْتِرْدَادِ الثَّمَنِ، لَكِنْ سَبَقَ فِي الْبَيْعِ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْحَبْسِ لِلْمُشْتَرِي، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ: الْمَنْعُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَبْسُ الْغَاصِبِ فِي مَعْنَاهُ، وَالْمَنْعُ هُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَإِذَا كَانَتِ الدَّرَاهِمُ الْمَبْذُولَةُ بِعَيْنِهَا بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَلِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ تَرَدُّدٌ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ إِمْسَاكُهَا وَغَرَامَةُ مِثْلِهَا أَمْ لَا. قُلْتُ: الْأَقْوَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِ التَّرَادِّ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيْعٍ لِيَصِيرَ الْمَغْصُوبُ لِلْغَاصِبِ، ثُمَّ التَّضْمِينُ

فصل

لِلْحَيْلُولَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُتَقَوَّمَاتِ، بَلْ يَثْبُتُ فِي كُلِّ مَغْصُوبٍ خَرَجَ مِنَ الْيَدِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ. قُلْتُ: قَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمَلَّكُ الْقِيمَةَ الْمَأْخُوذَةَ لِلْحَيْلُولَةِ، بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ، لِئَلَّا يَجْتَمِعَ فِي مِلْكِهِ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ، قَالَ فِي الْبَيَانِ: وَلَوْ ظَهَرَ عَلَى الْمَالِكِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، فَالْغَاصِبُ أَحَقُّ بِالْقِيمَةِ الَّتِي دَفَعَهَا، لِأَنَّهَا عَيْنُ مَالِهِ. وَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ، رَجَعَ الْغَاصِبُ بِمِثْلِهَا. وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً زَائِدَةً، رَجَعَ فِي زِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ دُونَ الْمُنْفَصِلَةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْجُرْجَانِيُّ: هَذَا إِذَا تَصَوَّرَ كَوْنَ الْقِيمَةِ مِمَّا يَزِيدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ سَبَقَ أَنَّ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونَةٌ. فَلَوْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ مُتَفَاوِتَةً، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْقَاضِي أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي يُوسُفَ. أَصَحُّهَا: يَضْمَنُ فِي كُلِّ بَعْضٍ مِنْ أَبْعَاضِ الْمُدَّةِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا فِيهِ. وَالثَّانِي: كَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ أَقَلَّ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْأُولَى أَكْثَرَ، ضَمِنَهَا بِالْأَكْثَرِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ، فَرُبَّمَا يُكْرِيهَا بِهَا فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ. وَالثَّالِثُ: بِالْأَكْثَرِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَصْلٌ زَوَائِدُ الْمَغْصُوبِ مُنْفَصِلَةً كَانَتْ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَالْبَيْضِ أَوْ مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَتَعَلُّمِ الصَّنْعَةِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ كَالْأَصْلِ، سَوَاءٌ طَلَبَهُ الْمَالِكُ بِالرَّدِّ أَمْ لَا.

الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي الِاخْتِلَافِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: ادَّعَى الْغَاصِبُ تَلَفَ الْمَغْصُوبِ، وَأَنْكَرَ الْمَالِكُ. فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ، وَقِيلَ: قَوْلُ الْمَالِكِ بِيَمِينِهِ، فَعَلَى الصَّحِيحِ إِذَا حَلَفَ الْغَاصِبُ، هَلْ لِلْمَالِكِ تَغْرِيمُهُ الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَا عَلَى الْهَلَاكِ وَاخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ، صُدِّقَ الْغَاصِبُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ، وَعَلَى الْمَالِكِ الْبَيِّنَةُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّ قِيمَتَهُ كَذَا، أَمَّا إِذَا أَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِفَاتِ الْعَبْدِ لِيُقَوِّمَهُ الْمُقَوِّمُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَفِي قَوْلٍ: يُقْبَلُ وَيُقَوَّمُ بِالْأَوْصَافِ، وَيُنَزَّلُ عَلَى أَقَلِّ الدَّرَجَاتِ كَالسَّلَمِ، وَالْمَشْهُورُ: الْمَنْعُ، لِلتَّفَاوُتِ. قَالَ الْإِمَامُ: لَكِنْ يَسْتَفِيدُ الْمَالِكُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْأَوْصَافِ إِبْطَالَ دَعْوَى الْغَاصِبِ مِقْدَارًا حَقِيرًا لَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِصِفَاتٍ فِي الْعَبْدِ تَقْتَضِي النَّفَاسَةَ، ثُمَّ قَوَّمَهُ بِحَقِيرٍ لَا يَلِيقُ بِهَا، لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِالزِّيَادَةِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ حَدًّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيمَةً لِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ. وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: قِيمَتُهُ أَلْفٌ، وَقَالَ الْغَاصِبُ: بَلْ خَمْسُمِائَةٍ، وَجَاءَ الْمَالِكُ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، فَقِيلَ: لَا تُسْمَعُ هَكَذَا، وَالْأَكْثَرُونَ سَمِعُوهَا، قَالُوا: وَفَائِدَةُ السَّمَاعِ أَنْ يُكَلَّفَ الْغَاصِبُ زِيَادَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ إِلَى حَدٍّ لَا تَقْطَعُ الْبَيِّنَةُ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: لَا أَدْرِي كَمْ قِيمَتُهُ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ حَتَّى يُبَيِّنَ. وَكَذَا لَوْ قَالَ الْغَاصِبُ: أَعْلَمُ أَنَّهُ دُونَ مَا ذَكَرَهُ، وَلَا أَعْرِفُ قَدْرَهُ، لَمْ تُسْمَعْ حَتَّى يُبَيِّنَ، فَإِذَا بَيَّنَ حَلَفَ عَلَيْهِ. الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمَالِكُ: كَانَ الْعَبْدُ كَاتِبًا أَوْ مُحْتَرِفًا، فَأَنْكَرَ الْغَاصِبُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ، وَقِيلَ: قَوْلُ الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمِلْكِهِ. وَلَوِ ادَّعَى الْغَاصِبُ بِهِ عَيْبًا وَأَنْكَرَ الْمَالِكُ، نُظِرَ، إِنِ ادَّعَى عَيْبًا حَادِثًا فَقَالَ: كَانَ أَقْطَعَ أَوْ سَارِقًا، فَفِي الْمُصَدَّقِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْمَالِكُ. وَإِنِ ادَّعَى عَيْبًا خِلْقِيًّا، فَقَالَ: كَانَ أَكْمَهَ أَوْ وُلِدَ أَعْرَجَ أَوْ عَدِيمَ الْيَدِ، فَالْمُصَدَّقُ الْغَاصِبُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ

الْأَصْلَ الْعَدَمُ، وَيُمَكِّنُ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ. وَالثَّانِي: يُصَدَّقُ الْمَالِكُ نَظَرًا إِلَى غَلَبَةِ السَّلَامَةِ. وَالثَّالِثُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَنْدُرُ مِنَ الْعُيُوبِ وَغَيْرِهِ. الرَّابِعَةُ: رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَبِهِ عَيْبٌ، وَقَالَ: غَصَبْتُهُ هَكَذَا، وَقَالَ الْمَالِكُ: حَدَثَ الْعَيْبُ عِنْدَكَ، صُدِّقَ الْغَاصِبُ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. قُلْتُ: وَقَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَيْضًا، وَنَقَلَهُ فِي الْبَيَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: تَنَازَعَا فِي الثِّيَابِ الَّتِي عَلَى الْعَبْدِ، صُدِّقَ الْغَاصِبُ، لِثُبُوتِ يَدِهِ. السَّادِسَةُ: قَالَ: غَصَبْتَ دَارِي بِالْكُوفَةِ، فَقَالَ: غَصَبْتُهَا بِالْمَدِينَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْ بِالْكُوفَةِ. وَأَمَّا دَارُ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ وَافَقَهُ الْمُدَّعِي عَلَيْهَا ثَبَتَتْ، وَإِلَّا فَيَبْطُلُ إِقْرَارُهُ بِهَا، لِتَكْذِيبِهِ. قُلْتُ: وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ: غَصَبْتَ مِنِّي عَبْدًا فَقَالَ: بَلْ جَارِيَةً، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ: غَصَبَ خَمْرًا مُحْتَرَمَةً فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ، فَقَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ: هَلَكَتْ بَعْدَ التَّخَلُّلِ، فَقَالَ الْغَاصِبُ: قَبْلَهُ، صُدِّقَ الْغَاصِبُ. الثَّامِنَةُ: قَالَ: طَعَامِي الَّذِي غَصَبْتَهُ كَانَ جَدِيدًا، فَقَالَ الْغَاصِبُ: بَلْ عَتِيقًا، صُدِّقَ الْغَاصِبُ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمَالِكُ، ثُمَّ لَهُ أَخْذُ الْعَتِيقِ لِأَنَّهُ دُونَ حَقِّهِ. التَّاسِعَةُ: بَاعَ عَبْدًا فَجَاءَ زَيْدٌ وَادَّعَى أَنَّهُ مِلْكُهُ وَأَنَّ الْبَائِعَ كَانَ غَصَبَهُ مِنْهُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ لَهُ دَعْوَى عَيْنِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَفِي دَعْوَاهُ الْقِيمَةُ عَلَى الْبَائِعِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِقْرَارِ. فَإِنِ ادَّعَى الْعَيْنَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَصَدَّقَهُ أَخَذَ الْعَبْدَ مِنْهُ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي، فَأَقَامَ زَيْدٌ بَيِّنَةً، أَخَذَهُ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ. وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً وَنَكَلَ الْمُشْتَرِي، حَلَفَ زَيْدٌ وَأَخَذَهُ، وَلَا رُجُوعَ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، لِتَقْصِيرِهِ بِالنُّكُولِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي، لَمْ يُقْبَلْ

إِقْرَارُ الْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَبْقَى الْبَيْعُ بِحَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ بِالْغَصْبِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ. ثُمَّ لَوْ عَادَ الْعَبْدُ إِلَى الْبَائِعِ بِإِرْثٍ أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ إِلَى زَيْدٍ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا، سُلِّمَ الْعَبْدُ إِلَى زَيْدٍ، وَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ أَوْ بَدَلُهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا. وَلَوْ جَاءَ الْمُدَّعِي بَعْدَمَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ وَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ، سَوَاءٌ وَافَقَهُمَا الْعَبْدُ أَوْ خَالَفَهُمَا، لِأَنَّ فِي عِتْقِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَاتَبَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ تَوَافَقُوا عَلَى تَصْدِيقِ الْمُدَّعِي، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَابِلَةٌ لِلْفَسْخِ. وَلِلْمُدَّعِي فِي مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْبَائِعِ إِنِ اخْتَصَّ بِتَصْدِيقِهِ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْغُرْمَ لِلْحَيْلُولَةِ فِيمَا إِذَا أَقَرَّ بِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ لِعَمْرٍو، وَعَلَى الْمُشْتَرِي إِنِ اخْتَصَّ بِتَصْدِيقِهِ، وَعَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا إِنْ صَدَّقَاهُ جَمِيعًا. وَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُشْتَرِي، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَكْثَرَ، فَلَا يُطَالَبُ الْمُشْتَرِي بِالزِّيَادَةِ. وَلَوْ مَاتَ الْمُعْتَقُ وَقَدْ كَسَبَ مَالًا، فَهُوَ لِلْمُدَّعِي، لِأَنَّ الْمَالَ خَالِصُ حَقٍّ آدَمِيٍّ، وَقَدْ تَوَافَقُوا أَنَّهُ مُسْتَحِقُّهُ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ، كَذَا أَطْلَقُوهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى كَسْبٍ يَسْتَقِلُّ بِهِ الْعَبْدُ، فَأَمَّا كَسْبٌ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُدَّعِي، لِاعْتِرَافِهِ بِخُلُوِّهِ عَنِ الْإِذْنِ. قُلْتُ: وَلَوِ ادَّعَى الْغَاصِبُ رَدَّ الْمَغْصُوبِ حَيًّا وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، فَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ مَاتَ عِنْدَكَ وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَسَقَطَتَا، وَضَمِنَ الْغَاصِبُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْغَصْبِ. وَلَوْ قَالَ: غَصَبْنَا مِنْ زَيْدٍ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ: كُنَّا عَشَرَةَ أَنْفُسٍ، وَخَالَفَهُ زَيْدٌ، قَالَ فِي الْبَيَانِ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ مِمَّا زَادَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي الطَّوَارِئِ عَلَى الْمَغْصُوبِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ. الْأَوَّلُ: فِي النَّقْصِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: نَقْصُ الْقِيمَةِ فَقَطْ، كَمَنْ غَصَبَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً، فَرَدَّهُ بِحَالِهِ وَهُوَ يُسَاوِي دِرْهَمًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَلْزَمُهُ نَقْصُ الْقِيمَةِ، وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَهَذَا شَاذٌّ. الْقِسْمُ الثَّانِي: نَقْصُ الْقِيمَةِ وَالْأَجْزَاءِ، فَالْجُزْءُ الْفَائِتُ، مَضْمُونٌ بِقِسْطِهِ مِنْ أَقْصَى الْقِيَمِ مِنَ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ، وَالنَّقْصُ الْحَاصِلُ بِتَفَاوُتِ السِّعْرِ فِي الْبَاقِي الْمَرْدُودِ غَيْرُ مَضْمُونٍ. مِثَالُهُ: غَصَبَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، فَعَادَتْ بِالرُّخْصِ إِلَى دِرْهَمٍ، ثُمَّ لَبِسَهُ فَأَبْلَاهُ حَتَّى عَادَتْ إِلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ، يَرُدُّهُ مَعَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، لِأَنَّ بِالِاسْتِعْمَالِ انْسَحَقَتْ أَجْزَاءٌ مِنَ الثَّوْبِ، وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ نِصْفُ الثَّوْبِ، فَيَغْرَمُ النِّصْفَ بِمِثْلِ نِسْبَتِهِ مِنْ أَقْصَى الْقِيَمِ كَمَا يَغْرَمُ الْكُلَّ عِنْدَ تَلَفِهِ بِالْأَقْصَى. وَلَوْ كَانَتِ الْقِيمَةُ عِشْرِينَ وَعَادَتْ بِانْخِفَاضِ السِّعْرِ إِلَى عَشَرَةٍ، ثُمَّ لَبِسَهُ وَأَبْلَاهُ فَعَادَتْ إِلَى خَمْسَةٍ، لَزِمَهُ مَعَ رَدِّهِ عَشَرَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ عَشَرَةً فَعَادَتْ بِالِانْخِفَاضِ إِلَى خَمْسَةٍ، ثُمَّ لَبِسَهُ فَأَبْلَاهُ حَتَّى عَادَتْ إِلَى دِرْهَمٍ، لَزِمَهُ مَعَ رَدِّهِ سِتَّةٌ، لِأَنَّهُ تَلِفَ بِالِاسْتِعْمَالِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الثَّوْبِ، فَيَغْرَمُهَا بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسٍ أَقْصَى الْقِيَمِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَخْطَأَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهَا النَّاقِصَةُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَقِيَاسُ قَوْلِ هَذَا: أَنْ يَلْزَمَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسَةٌ. وَلَوْ غَصَبَهُ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَعَادَ بِالِاسْتِعْمَالِ إِلَى خَمْسَةٍ، ثُمَّ انْخَفَضَ السِّعْرُ فَعَادَتْ إِلَى دِرْهَمَيْنِ فَرَدَّهُ، لَزِمَهُ مَعَ الرَّدِّ الْخَمْسَةُ النَّاقِصَةُ بِالِاسْتِعْمَالِ،

فصل

وَلَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ فِي الْبَالِي الْمَرْدُودِ. وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، فَلَبِسَهُ وَأَبْلَاهُ حَتَّى عَادَتْ إِلَى خَمْسَةٍ، ثُمَّ ارْتَفَعَ السِّعْرُ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ وَهُوَ بَالٍ عَشَرَةٌ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَبَعْضُ الْأَصْحَابِ: يَغْرَمُ مَعَ رَدِّ الثَّوْبِ عَشَرَةً، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الثَّوْبِ نِصْفُهُ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةً. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَغْرَمُ مَعَ رَدِّهِ إِلَّا الْخَمْسَةَ النَّاقِصَةَ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَ التَّلَفِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالصِّفَاتُ كَالْأَجْزَاءِ فِي هَذَا كُلِّهِ، حَتَّى لَوْ غَصَبَ عَبْدًا صَانِعًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَنَسِيَ الصَّنْعَةَ وَعَادَتْ قِيمَتُهُ إِلَى خَمْسِينَ، ثُمَّ ارْتَفَعَ السِّعْرُ فَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ نَاسِيًا مِائَةً وَقِيمَةُ مِثْلِهِ يُحْسِنُ الصَّنْعَةَ مِائَتَيْنِ، لَا يَغْرَمُ مَعَ رَدِّهِ إِلَّا خَمْسِينَ. ثُمَّ الْجَوَابُ فِي صُوَرِ إِبْلَاءِ الثَّوْبِ [كُلِّهَا] مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ مِثْلِ الْمَغْصُوبِ لَازِمَةٌ مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَسَبَقَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا. فَعَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ: الْوَاجِبُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمَقَادِيرِ الْمَذْكُورَةِ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَلَوِ اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالْغَاصِبُ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ الَّذِي أَبْلَاهُ، فَقَالَ الْمَالِكُ: زَادَتْ قَبْلَ الْإِبْلَاءِ فَاغْرَمِ التَّالِفَ بِقِسْطِهِ [مِنْهَا] ، وَقَالَ الْغَاصِبُ: [بَلْ] زَادَتْ بَعْدَهُ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الْمُصَدَّقُ الْغَاصِبُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: نَقْصُ الْأَجْزَاءِ وَالصِّفَاتِ وَحْدَهَا، وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهُ فِي الصُّوَرِ الْآتِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ النَّقْصُ الْحَادِثُ فِي الْمَغْصُوبِ، ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا سِرَايَةَ لَهُ، فَعَلَى الْغَاصِبِ أَرْشُهُ وَرَدُّ الْبَاقِي، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ قَدْرَ الْقِيمَةِ كَقَطْعِ يَدَيِ الْعَبْدِ أَوْ دُونَهَا وَلَا بَيْنَ أَنْ تَفُوتَ مُعْظَمُ مَنَافِعِهِ أَوْ لَا تَفُوتَ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْأَوَّلُ كَذَبْحِ الشَّاةِ

وَطَحْنِ الْحِنْطَةِ، وَتَمْزِيقِ الثَّوْبِ، أَوْ لَا يَبْطُلَ. فَلَوْ أَرَادَ الْمَالِكُ تَرْكَ النَّاقِصِ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَتَغْرِيمَهُ بَدَلَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ. وَفِي وَجْهٍ: إِذَا طَحَنَ الطَّعَامَ، فَلَهُ تَرْكُهُ وَطَلَبُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الدَّقِيقِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَهُ سِرَايَةٌ، لَا يَزَالُ يَسْرِي إِلَى الْهَلَاكِ الْكُلِّيِّ، كَمَا لَوْ بَلَّ الْحِنْطَةَ وَتَمَكَّنَ فِيهَا الْعَفَنُ السَّارِي، أَوِ اتَّخَذَ مِنْهَا هَرِيسَةً، أَوْ غَصَبَ سَمْنًا وَتَمْرًا وَدَقِيقًا وَعَمِلَهُ عَصِيدَةً، وَفِيهِ نُصُوصٌ وَطُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ تَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ مَنْصُوصَةٍ. أَظْهَرُهَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: يُجْعَلُ كَالْهَالِكِ وَيَغْرَمُ بَدَلَ كُلِّ مَغْصُوبٍ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ. وَالثَّانِي: يَرُدُّهُ مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ إِلَّا ذَلِكَ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ مُوجَبِ الْقَوْلَيْنِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَالْمَسْعُودِيُّ. وَالرَّابِعُ: يَتَخَيَّرُ الْغَاصِبُ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَغْرَمَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ. قُلْتُ: رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ الْأَوَّلَ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: لِمَنْ تَكُونُ الْحِنْطَةُ الْمَبْلُولَةُ؟ وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا الْمُتَوَلِّي. أَحَدُهُمَا: تَبْقَى لِلْمَالِكِ كَمَا لَوْ نَجَّسَ زَيْتَهُ وَقُلْنَا: لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، فَإِنَّ الْمَالِكَ أَوْلَى بِهِ. وَالثَّانِي: يَصِيرُ لِلْغَاصِبِ. وَإِذَا حَكَمْنَا بِالْأَرْشِ مَعَ الرَّدِّ، غَرِمَ أَرْشَ عَيْبٍ سَارٍ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يُسَلِّمَ الْجَمِيعَ إِلَيْهِ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى يُسَلِّمُ أَرْشَ النَّقْصِ الْمُتَحَقَّقِ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ وَوَقْفَ الزِّيَادَةِ إِلَى أَنْ تَتَيَقَّنَ نِهَايَتُهُ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ أَرْشِ الْعَيْبِ السَّارِي أَرْشُ عَيْبٍ شَأْنُهُ السِّرَايَةُ، وَهُوَ حَاصِلٌ

فصل

فِي الْحَالِ. أَمَّا الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ، فَيَجِبُ قَطْعُ النَّظَرِ عَنْهُ، إِذِ الْكَلَامُ فِي نَقْصٍ لَا تَقِفُ سِرَايَتُهُ إِلَى الْهَلَاكِ. فَلَوْ نَظَرْنَا إِلَى الْمُتَوَلَّدِ مِنْهُ، لَانْجَرَّ إِلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ أَبُو خَلَفٍ السُّلَمِيُّ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ فَقَالَ فِي قَوْلِ التَّخْيِيرِ: إِنْ شَاءَ الْمَالِكُ غَرَّمَهُ مَا نَقَصَ إِلَى الْآنَ، ثُمَّ لَا شَيْءَ لَهُ فِي زِيَادَةِ فَسَادٍ حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ لَهُ وَطَالَبَهُ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ. فَرْعٌ مِنْ صُوَرِ هَذَا الضَّرْبِ مَا إِذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي الزَّيْتِ وَتَعَذَّرَ تَخْلِيصُهُ مِنْهُ، فَأَشْرَفَ عَلَى الْفَسَادِ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ تَرَدُّدٌ فِي مَرَضِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ إِذَا كَانَ سَارِيًا عَسِرَ الْعِلَاجُ، كَالسُّلِّ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَلَمْ يَرْضَهُ الْإِمَامُ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ الْمَأْيُوسَ مِنْهُ قَدْ يَبْرَأُ، وَالْعَفَنُ الْمَفْرُوضُ فِي الْحِنْطَةِ يُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ قَطْعًا. قُلْتُ: وَلَوْ عَفِنَ الطَّعَامُ فِي يَدِهِ لِطُولِ الْمُكْثِ، فَطَرِيقَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ كَبَلِّ الْحِنْطَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يَتَعَيَّنُ أَخْذُهُ مَعَ الْأَرْشِ قَطْعًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَمَّا جِنَايَتُهُ، فَيُنْظَرُ إِنْ جَنَى جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَاقْتُصَّ مِنْهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، غَرِمَ الْغَاصِبُ أَقْصَى قِيمَةٍ مِنَ الْغَصْبِ إِلَى الْقِصَاصِ. وَإِنْ جَنَى بِمَا يُوجِبُ قِصَاصًا فِي الطَّرَفِ، وَاقْتُصَّ مِنْهُ فِي يَدِهِ، غَرِمَ بَدَلَهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ. وَلَوِ اقْتُصَّ مِنْهُ

بَعْدَ الْوَفَاءِ إِلَى السَّيِّدِ، يُلْزَمُ الْغَاصِبُ أَيْضًا، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوِ ارْتَدَّ أَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، ثُمَّ قُتِلَ أَوْ قُطِعَ بَعْدَ الرَّدِّ إِلَى الْمَالِكِ. وَلَوْ غَصَبَ مُرْتَدًّا أَوْ سَارِقًا فَقُتِلَ أَوْ قُطِعَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَهَلْ يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ؟ وَجْهَانِ، كَمَنِ اشْتَرَى مُرْتَدًّا أَوْ سَارِقًا فَقُتِلَ أَوْ قُطِعَ فِي يَدِهِ، فَمِنْ ضَمَانِ مَنْ يَكُونُ الْقَتْلُ أَوِ الْقَطْعُ؟ أَمَّا إِذَا جَنَى الْمَغْصُوبُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ جِنَايَةً تُوجِبُ الْمَالَ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ، فَعَلَى الْغَاصِبِ تَخْلِيصُهُ بِالْفِدَاءِ. وَبِمَاذَا يَفْدِيهِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَفْدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأَرْشِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: بِالْأَرْشِ وَإِنْ زَادَ كَالْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ فِدَاءَ الْجَانِي. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَانِيَ وَالْجِنَايَةَ مَضْمُونَانِ عَلَى الْغَاصِبِ، لَمْ يَخْلُ، إِمَّا أَنْ يَتْلَفَ الْجَانِي فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ. فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَلِلْمَالِكِ تَغْرِيمُهُ أَقْصَى الْقِيَمِ. فَإِذَا أَخَذَهَا، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يُغَرِّمَ الْغَاصِبَ إِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَّمَهُ، وَلَهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ الَّتِي أَخَذَهَا الْمَالِكُ، لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالرَّقَبَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِبَدَلِهَا كَمَا إِذَا تَلِفَ الْمَرْهُونُ كَانَتْ قِيمَتُهُ رَهْنًا. وَفِي وَجْهٍ: لَا مُطَالَبَةَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِمَا أَخَذَهُ الْمَالِكُ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. فَإِذَا أَخَذَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَقَّهُ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ، رَجَعَ الْمَالِكُ بِمَا أَخَذَهُ عَلَى الْغَاصِبِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا، فَرَجَعَ بِانْخِفَاضِ السِّعْرِ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ جَنَى وَمَاتَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَغَرَّمَهُ الْمَالِكُ الْأَلْفَ، لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَّا خَمْسُمِائَةٍ وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَلْفًا فَأَكْثَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا قَدْرُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْجِنَايَةِ وَإِنْ رَدَّ الْعَبْدَ إِلَى الْمَالِكِ، نُظِرَ، إِنْ رَدَّهُ بَعْدَمَا غَرِمَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَذَاكَ، وَإِنْ رَدَّ قَبْلَهُ فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ رَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا أُخِذَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ حِينَ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا جَنَى فِي يَدِ الْمَالِكِ ثُمَّ غَصَبَهُ رَجُلٌ وَرَدَّهُ ثُمَّ بِيعَ فِي تِلْكَ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمَالِكُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ.

وَفَرَّعَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَغَيْرُهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: إِذَا جَنَى فِي يَدِ الْمَالِكِ جِنَايَةً تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ، ثُمَّ غُصِبَ وَجَنَى فِي يَدِ الْغَاصِبِ جِنَايَةً مُسْتَغْرِقَةً. ثُمَّ رَدَّهُ الْمَالِكُ، ثُمَّ بِيعَ فِي الْجِنَايَتَيْنِ وَقُسِمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، يَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ. وَلَوْ كَانَ الْفَرْعُ بِحَالِهِ، وَتَلِفَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْجِنَايَتَيْنِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَلَهُ طَلَبُ الْقِيمَةِ مِنَ الْغَاصِبِ، وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِمَا أَخْذُهَا، فَإِذَا أَخَذَاهَا، فَلِلْمَالِكِ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهَا عَلَى الْغَاصِبِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَهَا بِجِنَايَةٍ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ أَخْذُهُ، لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ. وَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْغَاصِبِ مَرَّةً أُخْرَى، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِجِنَايَةٍ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْغَاصِبِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَقِيلَ: إِذَا رُدَّ الْعَبْدُ وَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ، فَالنِّصْفُ الْأَوَّلُ يَرْجِعُ بِهِ الْمَالِكُ وَيُسَلَّمُ لَهُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُطَالِبُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ الْغَاصِبَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ. وَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بَعْدَ الْجِنَايَتَيْنِ، لَا يَأْخُذُ الْمَالِكُ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلَ يُطَالِبُ الْغَاصِبَ بِتَمَامِ الْقِيمَةِ وَالْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ الثَّانِي يُطَالِبُهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ. وَلَوْ جَنَى الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوَّلًا، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى الْمَالِكِ فَجَنَى فِي يَدِهِ أُخْرَى، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَغْرِقُ الْقِيمَةَ، فَبِيعَ فِيهِمَا وَقُسِمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا، فَلِلْمَالِكِ الرُّجُوعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لِلْجِنَايَةِ الَّتِي هِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: سَمِعْتُ الْقَفَّالَ مَرَّةً يَقُولُ: لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِمَا أَخْذُ هَذَا النِّصْفِ مِنَ الْمَالِ. أَمَّا الثَّانِي، فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ مَسْبُوقَةٌ بِجِنَايَةٍ مُسْتَغْرِقَةٍ، وَحَقُّهُ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ وَقَدْ أَخَذَهُ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ، فِلِأَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ يَثْبُتُ فِي الْقِيمَةِ بِنَفْسِ الْغَصْبِ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَمَا لَمْ يَصِرْ حَقُّهُ إِلَيْهِ لَا يَرْجِعُ إِلَى غَيْرِهِ شَيْءٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، بَلْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ أَخْذُهُ كَمَا فِي الْجِنَايَةِ السَّابِقَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِثُبُوتِ حَقِّ السَّيِّدِ فِي الْقِيمَةِ، فَإِنَّ حَقَّهُ وَإِنْ تَقَدَّمَ، فَحَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُقَدَّمٌ كَمَا فِي الرَّقَبَةِ. قَالَ: وَنَاظَرْتُ الْقَفَّالَ فِيهِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِي. وَعَلَى هَذَا إِذَا

أَخَذَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، رَجَعَ بِهِ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ مَرَّةً أُخْرَى، وَيُسَلِّمُ لَهُ الْمَأْخُوذَ ثَانِيًا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخَذَ تَمَامَ الْقِيمَةِ وَالثَّانِيَ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ إِلَّا بِالنِّصْفِ وَقَدْ أَخَذَهُ. وَلَوْ جَنَى فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ فِي يَدِ الْمَالِكِ كَمَا صَوَّرْنَاهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ الْغَاصِبُ أَوْ غَصَبَهُ ثَانِيًا فَمَاتَ عِنْدَهُ، أُخِذَتِ الْقِيمَةُ مِنْهُ وَقُسِمَتْ بَيْنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْهُ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ. فَإِذَا أَخَذَهُ كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ مَرَّةً أُخْرَى وَيُسَلِّمَ لَهُ الْمَأْخُوذَ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَقَدْ غَرِمَ الْغَاصِبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ الْقِيمَةَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ، وَمَرَّةً بِالْقَتْلِ. أَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُتِلَ، نُظِرَ، إِنْ وَجَبَ الْقِصَاصُ بِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا وَالْقَتْلُ عَمْدًا، فَلِلْمَالِكِ الْقِصَاصُ. فَإِذَا اقْتَصَّ، بَرِئَ الْغَاصِبُ، لِأَنَّهُ أَخَذَ بَدَلَ حَقِّهِ، وَلَا نَظَرَ مَعَ الْقِصَاصِ إِلَى تَفَاوُتِ الْقِيمَةِ، كَمَا لَا نَظَرَ فِي الْأَحْرَارِ إِلَى تَفَاوُتِ الدِّيَةِ. وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ. فَإِنْ كَانَ الْجَانِي حُرًّا لَزِمَهُ لِلْجِنَايَةِ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَتْلِ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ الْغَاصِبُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، وَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِهَا الْغَاصِبَ أَوِ الْجَانِيَ، لَكِنَّ الْقَرَارَ عَلَى الْجَانِي. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقَتْلِ أَكْثَرَ، وَنَقَصَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، لَزِمَهُ مَا نَقَصَ بِحُكْمِ الْيَدِ. وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَبْدًا، فَإِنْ سَلَّمَهُ سَيِّدُهُ فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِثْلَ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ أَخَذَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَاصِبِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْ نَقَصَتْ عِنْدَهُ قَبْلَ الْقَتْلِ. وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ، أَخَذَ الْبَاقِيَ مِنَ الْغَاصِبِ. وَإِنِ اخْتَارَ سَيِّدُهُ فِدَاهُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَفْدِيهِ بِالْأَرْشِ، أَخَذَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَاصِبِ إِلَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَفْدِي بِالْأَقَلِّ مِنَ الْأَرْشِ وَالْقِيمَةِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي، فَالْبَاقِي عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ مِثْلَهَا أَخَذَهَا الْمَالِكُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَاصِبِ إِلَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ. وَلَوِ اخْتَارَ الْمَالِكُ تَغْرِيمَ الْغَاصِبِ ابْتِدَاءً فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى سَيِّدِ الْجَانِي بِمَا غَرِمَ إِلَّا مَا لَا يُطَالَبُ بِهِ إِلَّا الْغَاصِبُ. هَذَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَتْلًا،

فَأَمَّا الْجِرَاحَاتُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي الْحُرِّ، وَإِمَّا لَا، وَالْوَاجِبُ فِي الْحَالَيْنِ، مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْجِنَايَةِ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ حَالَ الِانْدِمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ نَقْصٌ لَمْ يُطَالَبْ بِشَيْءٍ. وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ مُقَدَّرًا مِنَ الْقِيمَةِ كَالْمُقَدَّرِ مِنَ الدِّيَةِ، فَهَلْ يُؤْخَذُ فِي الْحَالِ، أَمْ يُؤْخَذُ فِي الِانْدِمَالِ؟ قَوْلَانِ، كَمَا لَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى حُرٍّ، وَسَيَأْتِي [ذَلِكَ] فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا كَانَ الْجَانِي غَيْرَ الْغَاصِبِ وَغَرَّمْنَاهُ الْمُقَدَّرَ مِنَ الْقِيمَةِ، وَكَانَ النَّاقِصُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَعَلَى الْغَاصِبِ مَا زَادَ. وَإِنْ كَانَ الْمُقَدَّرُ أَكْثَرَ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ، فَهَلْ يُطَالِبُ الْغَاصِبُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَا نَقَصَ؟ ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا سَقَطَتْ يَدُهُ بِآفَةٍ: أَنَّ الْأَصَحَّ: أَنَّهُ لَا يُطَالِبُ. وَهُنَا الْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُطَالِبُ، وَالْقَرَارُ عَلَى الْجَانِي. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السُّقُوطَ بِآفَةٍ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ تَلَفٌ لَا بَدَلَ لَهُ، وَيُشْبِهُ الْجِنَايَةَ مِنْ حَيْثُ حُصُولُهُ بِالِاخْتِيَارِ. فَرْعٌ لَوِ اجْتَمَعَتْ جِنَايَةُ الْمَغْصُوبِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ، بِأَنْ قَتَلَ إِنْسَانًا، ثُمَّ قَتَلَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عَبْدُ رَجُلٍ، فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَيَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ عَنِ الْغَاصِبِ، وَيَسْقُطُ حَقُّ وَرَثَةِ مَنْ قَتَلَهُ الْمَغْصُوبُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ الْجَانِيَ إِذَا هَلَكَ [وَ] لَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِوَضٌ، يَضِيعُ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ قَدْ نَقَصَ عِنْدَ الْغَاصِبِ بِحُدُوثِ عَيْبٍ بَعْدَمَا جَنَى، لَمْ يَبْرَأِ الْغَاصِبُ مِنْ أَرْشِ ذَلِكَ النَّقْصِ، وَلِوَلِيِّ مَنْ قَتَلَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَإِنْ حَدَثَ الْعَيْبُ قَبْلَ جِنَايَتِهِ، فَازَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْأَرْشِ. فَلَوْ لَمْ يَقْتَصَّ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بَلْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، فَحُكْمُ تَغْرِيمِهِ وَأَخْذِهِ الْمَالَ عَلَى مَا سَبَقَ

فصل

فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُ. ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الْمَالَ كَانَ لِوَرَثَةِ مَنْ جَنَى عَلَيْهِ هَذَا الْعَبْدُ التَّعَلُّقُ بِهِ، لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجَانِي عَلَى مُوَرِّثِهِمْ. فَإِذَا أَخَذُوهُ، رَجَعَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ مَرَّةً أُخْرَى، لِأَنَّهُ أُخِذَ [مِنْهُ] بِسَبَبِ جِنَايَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ، وَيُسَلَّمُ الْمَأْخُوذُ ثَانِيًا كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْفَصْلِ، لَوْ وَثَبَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ فَقَتَلَ الْغَاصِبَ، وَهَرَبَ إِلَى سَيِّدِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: إِنْ عَفَا وَرَثَةُ الْغَاصِبِ عَنِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، سَقَطَ الضَّمَانُ عَنِ الْغَاصِبِ فِي الْمَالِ. وَإِنْ قَتَلُوهُ، لَزِمَهُمْ قِيمَةُ الْعَبْدِ فِي التَّرِكَةِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُسَلِّمُوهُ، وَكَذَا لَوْ طَلَبُوا الدِّيَةَ مِنْ رَقَبَتِهِ. وَإِنْ قَتَلَ الْمَغْصُوبُ سَيِّدَهُ وَهُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَنَّ لِوَرَثَةِ الْمَالِكِ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ، وَإِذَا قَتَلُوهُ اسْتَحَقُّوا قِيمَتَهُ مِنَ الْغَاصِبِ. وَحَكَى فِي الْبَيَانِ وَجْهًا: أَنَّ جِنَايَتَهُ تَكُونُ هَدْرًا. وَلَوْ صَالَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ أَوِ الْجَمَلُ الْمَغْصُوبُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ لِلدَّفْعِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ نَقْلُ التُّرَابِ مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، تَارَةً يَكُونُ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ حَفْرٍ، كَكَشْطِ وَجْهِهَا، وَتَارَةً بِإِحْدَاثِهَا كَحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ نَهَرٍ. فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى، لِلْمَالِكِ إِجْبَارُهُ عَلَى رَدِّهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا. فَإِنْ تَلِفَ وَانْمَحَقَ بِهُبُوبِ الرِّيحِ أَوِ السُّيُولِ، أَجْبَرَهُ عَلَى رَدِّ مِثْلِهِ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ وَضْعِهِ وَهَيْئَتِهِ كَمَا كَانَ مِنِ انْبِسَاطٍ أَوِ ارْتِفَاعٍ. وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ الْمَالِكُ بِالرَّدِّ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ، بِأَنْ دَخَلَ الْأَرْضَ نَقْصٌ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ الْأَرْشُ، أَوْ نَقَلَهُ إِلَى مِلْكِهِ وَأَرَادَ تَفْرِيغَهُ، أَوْ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ شَارِعٍ

يُخَافُ مِنَ التَّعَثُّرِ بِهِ الضَّمَانُ، فَلَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالرَّدِّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بِأَنْ نَقَلَهُ إِلَى مَوَاتٍ، أَوْ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَإِنْ مَنَعَهُ الْمَالِكُ مِنَ الرَّدِّ، لَمْ يَرُدَّ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ، فَهَلْ يَفْتَقِرُ الرَّدُّ إِلَى إِذْنِهِ؟ وَجْهَانِ: بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُ فَخَالَفَ وَرَدَّ، هَلْ لِلْمَالِكِ تَكْلِيفُهُ النَّقْلَ ثَانِيًا؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَلَهُ الرَّدُّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَإِذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي الرَّدِّ فَرَدَّهُ، فَمَنَعَهُ الْمَالِكُ مِنْ بَسْطِهِ، لَمْ يَبْسُطْهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ مَبْسُوطًا. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فَأَمَرَهُ الْمَالِكُ بِطَمِّهَا لَزِمَهُ، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِهِ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ خَطَرَ الضَّمَانِ بِالسُّقُوطِ فِيهَا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَطِمُّ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ. فَإِنْ مَنَعَهُ وَقَالَ: رَضِيتُ بِاسْتِدَامَةِ الْبِئْرِ، فَإِنْ كَانَ لِلْغَاصِبِ غَرَضٌ [فِي الطَّمِّ] سِوَى دَفْعِ ضَمَانِ السُّقُوطِ فَلَهُ الطَّمُّ، وَإِلَّا فَلَا فِي الْأَصَحِّ، وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّمَانُ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً وَتَعَدِّيًا. فَلَوْ لَمْ يَقُلْ: رَضِيتُ بِاسْتِدَامَتِهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الطَّمِّ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالرِّضَا، لِتَضَمُّنِهِ إِيَّاهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا يَتَضَمَّنُهُ. وَلَوْ طَوَى الْغَاصِبُ الْبِئْرَ بِآلَةِ نَفْسِهِ فَلَهُ نَقْلُهَا، وَلِلْمَالِكِ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَرَكَهَا وَوَهَبَهَا لَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَبُولُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَحَيْثُ قُلْنَا فِي الْحَالَتَيْنِ: يَرُدُّ التُّرَابَ إِلَى مَوْضِعِهِ لِوُقُوعِهِ فِي مِلْكِهِ أَوْ شَارِعٍ فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ نَقْلُهُ إِلَى مَوَاتٍ وَنَحْوِهِ فِي طَرِيقِ الرَّدِّ. فَإِنْ تَيَسَّرَ لَمْ يَرُدَّ إِلَّا بِإِذْنٍ قَالَهُ الْإِمَامُ وَذَكَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَقِلُّ بِالطَّمِّ إِذَا بَقِيَ التُّرَابُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ. أَمَّا إِذَا تَلِفَ، فَفِي الطَّمِّ بِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ وَجْهَانِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، وَفِيمَا إِذَا طَلَبَ الْمَالِكُ الرَّدَّ وَالَطَّمَّ عِنْدَ تَلَفِ ذَلِكَ [التُّرَابِ] ، وَالْأَصَحُّ فِيهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ التُّرَابِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ إِذَا أَعَادَ هَيْئَةَ الْأَرْضِ فِي الْحَالَيْنِ كَمَا كَانَتْ، إِمَّا بِطَلَبِ

فصل

الْمَالِكِ، وَإِمَّا دُونَهُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ نَقْصٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمُدَّةِ الْحَفْرِ وَالرَّدِّ، وَإِنْ بَقِيَ لَزِمَهُ أَرْشُهُ مَعَ الْأُجْرَةِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ إِلَى هُنَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالَّذِي يُفْتَى بِهِ، وَوَرَاءَهُ تَصَرُّفٌ لِلْأَصْحَابِ قَالُوا: نَصَّ هُنَا: أَنَّهُ يَجِبُ أَرْشُ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِالْحَفْرِ، وَلَمْ يُوجِبِ التَّسْوِيَةَ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا إِذَا غَرَسَ الْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ ثُمَّ قَلَعَ بِطَلَبِ الْمَالِكِ. وَنَصَّ فِيمَا إِذَا بَاعَ أَرْضًا فِيهَا أَحْجَارٌ مَدْفُونَةٌ فَنَقَلَهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ. فَقِيلَ قَوْلَانِ فِيهِمَا، وَقِيلَ بِتَقْرِيرِ النَّصَّيْنِ، وَالْفَرْقُ ضَعِيفٌ. وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يُوهِمُ ظَاهِرُهُ خِلَافَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلْيُتَأَوَّلْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. فَصْلٌ إِذَا خُصِيَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ فَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي جِرَاحِ الْعَبْدِ. وَهَلْ يَتَقَدَّرُ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ: أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ، لَزِمَهُ كَمَالُ الْقِيمَةِ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْقُصْ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ سَقَطَ ذَلِكَ الْعُضْوُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ، وَرَدَّهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، لَكِنَّ قِيَاسَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالتَّلَفِ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَةِ كَمَا يَضْمَنُ الْجِنَايَةَ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَمَالُ الْقِيمَةِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ فِي الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ سِمَنٌ مُفْرِطٌ، فَزَالَ وَرَجَعَتْ إِلَى الِاعْتِدَالِ وَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ السِّمَنَ لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ مُقَدَّرٌ، بِخِلَافِ الْأُنْثَيَيْنِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا غَصَبَ زَيْتًا أَوْ دُهْنًا فَأَغْلَاهُ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَيْنُهُ فَقَطْ، كَمَنْ غَصَبَ صَاعَيْنِ قِيمَتُهُمَا دِرْهَمَانِ فَصَارَ بِالْإِغْلَاءِ صَاعًا قِيمَتُهُ دِرْهَمَانِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَرُدُّهُ وَيَغْرَمُ مِثْلَ الصَّاعِ الذَّاهِبِ. وَالثَّانِي: يَرُدُّهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَقَطْ رَدَّهُ مَعَ الْأَرْشِ. وَإِنْ نَقَصَا مَعًا وَجَبَ رَدُّ الْبَاقِي وَمِثْلُ مَا ذَهَبَ، إِلَّا إِذَا كَانَ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ أَكْثَرَ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الْعَيْنِ، فَيَجِبُ مَعَ مِثْلِ الذَّاهِبِ أَرْشُ نَقْصِ الْبَاقِي. وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، رَدَّهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ غَصَبَ عَصِيرًا فَأَغْلَاهُ، فَطَرِيقَتَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالزَّيْتِ فَيَضْمَنُ مِثْلَ الذَّاهِبِ وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَصَحُّهَا: لَا، فَلَا يَضْمَنُ مِثْلَ الْعَصِيرِ الذَّاهِبِ إِذَا لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ، لِأَنَّ الذَّاهِبَ مَائِيَّتُهُ وَالذَّاهِبَ مِنَ الزَّيْتِ زَيْتٌ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْعَصِيرِ إِذَا صَارَ خَلًّا وَنَقَصَتْ عَيْنُهُ دُونَ قِيمَتِهِ، وَفِي الرُّطَبِ إِذَا صَارَ تَمْرًا. فَصْلٌ نَقْصُ الْمَغْصُوبِ هَلْ يَنْجَبِرُ بِالْكَمَالِ بَعْدَهُ؟ يُنْظَرُ، إِنْ كَانَ الْكَمَالُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي نَقَصَ بِهِ، كَمَا لَوْ هَزَلَتِ الْجَارِيَةُ ثُمَّ سَمِنَتْ وَعَادَتِ الْقِيمَةُ كَمَا كَانَتْ، لَمْ يَنْجَبِرْ عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ: لَا يَنْجَبِرُ قَطْعًا، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ يُحْسِنُ صُنْعَةً فَنَسِيَهَا ثُمَّ ذَكَرَهَا أَوْ تَعَلَّمَهَا انْجَبَرَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَنْجَبِرُ قَطْعًا، لِأَنَّ تَذَكُّرَ الصَّنْعَةِ لَا يُعَدُّ شَيْئًا مُتَجَدِّدًا، بِخِلَافِ السِّمَنِ. وَالثَّانِي: وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ كَسَرَ الْحُلِيَّ وَالْإِنَاءَ، ثُمَّ أَعَادَ تِلْكَ الصَّنْعَةَ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ هُنَا إِلْحَاقُهُ بِالسِّمَنِ لَا بِتَذَكُّرِ الصَّنْعَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صَنْعَةٌ أُخْرَى وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِعِلْمِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَيْثُ قُلْنَا بِالِانْجِبَارِ، فَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ بِالْعَائِدِ الْقِيمَةَ الْأُولَى ضَمِنَ مَا بَقِيَ مِنَ النَّقْصِ وَانْجَبَرَ الْبَاقِي. أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَمَالُ بِوَجْهٍ آخَرَ بِأَنْ نَسِيَ صَنْعَةً وَتَعَلَّمَ أُخْرَى، أَوْ أَبْطَلَ صَنْعَةَ الْحُلِيِّ وَأَحْدَثَ أُخْرَى، فَلَا انْجِبَارَ بِحَالٍ. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَكَرَّرَ النَّقْصُ وَكَانَ النَّاقِصُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مُغَايِرًا لِلنَّاقِصِ فِي الْمَرَّةِ الْأُخْرَى ضَمِنَ الْجَمِيعَ. حَتَّى لَوْ غَصَبَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا مِائَةٌ، فَسَمِنَتْ وَبَلَغَتْ أَلْفًا، وَتَعَلَّمَتْ صَنْعَةً وَبَلَغَتْ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ هَزَلَتْ وَنَسِيَتِ الصَّنْعَةَ وَعَادَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً، يَرُدُّهَا وَيَغْرَمُ أَلْفًا وَتِسْعَمِائَةٍ، وَكَذَا لَوْ عَلَّمَهُ الْغَاصِبُ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ حِرْفَةً فَنَسِيَهَا، ثُمَّ عَلَّمَهُ أُخْرَى فَنَسِيَهَا أَيْضًا ضَمِنَهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُغَايِرًا، بِأَنْ عَلَّمَهُ سُورَةً وَاحِدَةً، أَوْ حِرْفَةً مِرَارًا، وَيَنْسَى فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْصُلُ الِانْجِبَارُ بِالْعَادَةِ ضَمِنَ نُقْصَانَ جَمِيعِ الْمَرَّاتِ، وَإِلَّا ضَمِنَ أَكْثَرَ الْمَرَّاتِ نَقْصًا. فَرْعٌ لَوْ زَادَتْ فِيهِ الْجَارِيَةُ بِتَعَلُّمِ الْغِنَاءِ، ثُمَّ نَسِيَتْهُ، نَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنِ النَّقْصَ: أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ النَّقْصَ، لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْمُبَاحَ. وَعَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ يَضْمَنُهُ. وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ عَبْدًا مُغَنِّيًا، يَغْرَمُ تَمَامَ قِيمَتِهِ. قَالَ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ: هُوَ النَّصُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ كَسْرِ الْمَلَاهِي: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِي صَنْعَتِهَا، لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدْ نَصَّ الْقَاضِي حُسَيْنٌ

فصل

وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ كَبْشًا نَطَّاحًا، أَوْ دِيكًا هِرَاشًا، لَزِمَهُ قِيمَتُهُ بِلَا نِطَاحٍ وَلَا هِرَاشٍ، لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مَرِضَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ، ثُمَّ بَرَأَ وَزَالَ أَثَرُ الْمَرَضِ وَرَدَّهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يَضْمَنُ نَقْصَ الْمَرَضِ وَلَا يَسْقُطُ بِالْبُرْءِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ رَدَّهُ مَرِيضًا فَبَرَأَ وَزَالَ الْأَثَرُ. فَرْعٌ غَصَبَ شَجَرَةً فَتَحَاتَّ وَرَقُهَا، ثُمَّ أَوْرَقَتْ، أَوْ شَاةً فَجَزَّ صُوفَهَا، ثُمَّ نَبَتَ، يَغْرَمُ الْأَوَّلَ قَطْعًا، وَلَا يَنْجَبِرُ بِالثَّانِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَقَطَ مِنَ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ ثُمَّ نَبَتَ، أَوْ تَمَعَّطَ شَعَرُهَا ثُمَّ نَبَتَ، فَإِنَّهُ يَنْجَبِرُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: لِأَنَّ الْوَرَقَ وَالصُّوفَ مُتَقَوَّمَانِ فَغَرِمَهُمَا، وَسِنُّ الْجَارِيَةِ وَشَعَرُهَا غَيْرُ مُتَقَوَّمَيْنِ، وَإِنَّمَا يَغْرَمُ أَرْشَ النَّقْصِ بِفَقْدِهِمَا وَقَدْ زَالَ. فَصْلٌ غَصَبَ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ عِنْدَهُ، كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ تَضْمِينُهُ مِثْلَ الْعَصِيرِ، لِفَوَاتِ الْمَالِيَّةِ. قَالُوا: وَعَلَى الْغَاصِبِ إِرَاقَةُ الْخَمْرِ. وَلَوْ جُعِلَتْ مُحْتَرَمَةً، كَمَا لَوْ تَخَمَّرَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِلَا قَصْدِ الْخَمْرِيَّةِ، لَكَانَ جَائِزًا. فَلَوْ تَخَلَّلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا:

أَنَّ الْخَلَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَعَلَى الْغَاصِبِ أَرْشُ النَّقْصِ إِنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْخَلِّ عَنِ الْعَصِيرِ. وَالثَّانِي: يَغْرَمُ مِثْلَ الْعَصِيرِ. وَعَلَى هَذَا فِي الْخَلِّ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لِلْغَاصِبِ، وَأَصَحُّهُمَا: لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ فَرْعُ مِلْكِهِ. وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ، فِيمَا لَوْ غَصَبَ بَيْضَةً فَفَرَّخَتْ عِنْدَهُ، أَوْ بَذْرًا فَزَرَعَهُ وَنَبَتَ، أَوْ بَذْرَ قَزٍّ فَصَارَ قَزًّا، فَعَلَى الْأَصَحِّ: الْحَاصِلُ لِلْمَالِكِ، وَلَا غُرْمَ عَلَى الْغَاصِبِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ أَنْقَصَ قِيمَةً مِمَّا غَصَبَهُ، لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ عَادَ زَائِدًا إِلَيْهِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَغْرَمُ الْمَغْصُوبَ لِهَلَاكِهِ، وَيَكُونُ الْحَاصِلُ لِلْمَالِكِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلِلْغَاصِبِ عَلَى الْآخَرِ. فَرْعٌ غَصَبَ خَمْرًا فَتَخَلَّلَتْ فِي يَدِهِ، أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: أَنَّ الْخَلَّ وَالْجِلْدَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا إِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَهُ. وَالثَّانِي: لِلْغَاصِبِ. وَالثَّالِثُ: الْخَلُّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَالْجِلْدُ لِلْغَاصِبِ، لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا بِفِعْلِهِ. وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، لِأَنَّ الْجِلْدَ كَانَ يَجُوزُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِمْسَاكُهُ، وَالْخَمْرُ الْمُحْتَرَمَةُ كَالْجِلْدِ. وَإِذَا قُلْنَا: هُمَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَالِكُ مُعْرِضًا عَنِ الْخَمْرِ وَالْجِلْدِ، فَإِنْ أَرَاقَ الْخَمْرَ، أَوْ أَلْقَى الشَّاةَ الْمَيِّتَةَ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ، فَهَلْ لِلْمُعْرِضِ اسْتِرْدَادُ الْحَاصِلِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَيْسَ لَهُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ فِي الْجِلْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الزِّيَادَةِ: وَهِيَ آثَارٌ مَحْضَةٌ وَأَعْيَانٌ. أَمَّا الْأَثَرُ، فَالْقَوْلُ الْجُمْلِيُّ فِيهِ: أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَسْتَحِقُّ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ شَيْئًا، لِتَعَدِّيهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى رَدَّهُ بِحَالِهِ وَأَرْشِ النَّقْصِ إِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ، وَإِلَّا

فَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمَالِكُ، لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ رَدُّهُ إِلَى مَا كَانَ وَعَلَيْهِ أَرْشُ النَّقْصِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ غَرَضٌ فِي الرَّدِّ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى فَلَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ أَلْزَمَهُ الْمَالِكُ الرَّدَّ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى لَزِمَهُ ذَلِكَ وَأَرْشُ النَّقْصِ إِنْ نَقَصَ عَمَّا كَانَ قَبْلَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَمِنْ صُوَرِهِ طَحْنُ الْحِنْطَةِ، وَقِصَارَةُ الثَّوْبِ وَخِيَاطَتُهُ، وَضَرْبُ الطِّينِ لَبِنًا، وَذَبْحُ الشَّاةِ وَشَيُّهَا. وَلَا يَمْلِكُ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، بَلْ يَرُدُّهَا مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ إِنْ نَقَصَتِ الْقِيمَةُ. وَإِنَّمَا تَكُونُ الْخِيَاطَةُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ إِذَا خَاطَ بِخَيْطِ الْمَالِكِ. فَإِنْ خَاطَ بِخَيْطِ الْغَاصِبِ فَسَتَأْتِي نَظَائِرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ فِي الطَّحْنِ وَالْقِصَارَةِ، وَالذَّبْحِ، وَالشَّيِّ، لَا يُمْكِنُ الرَّدُّ إِلَى مَا كَانَ. وَكَذَا فِي شَقِّ الثَّوْبِ وَكَسْرِ الْإِنَاءِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى رَفْءِ الثَّوْبِ وَإِصْلَاحِ الْإِنَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى مَا كَانَ، وَلَوْ غَزَلَ الْقُطْنَ، رَدَّ الْغَزْلَ وَأَرْشَ النَّقْصِ إِنْ نَقَصَ. وَلَوْ نَسَجَ الْغَزْلَ، فَالْكِرْبَاسُ لِلْمَالِكِ مَعَ الْأَرْشِ إِنْ نَقَصَ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ إِجْبَارُهُ عَلَى نَقْضِهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَنَسْجُهُ ثَانِيًا، فَإِنْ أَمْكَنَ كَالْخَزِّ، فَلَهُ إِجْبَارُهُ. فَإِنْ نَقَضَهُ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ قِيمَةِ الْغَزْلِ فِي الْأَصْلِ غَرِمَهُ، وَلَا يَغْرَمُ مَا زَادَ بِالنَّسْجِ، لِأَنَّ الْمَالِكَ أَمَرَهُ بِنَقْضِهِ. فَإِذَا نَقَضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ ضِمِنَهُ أَيْضًا. وَلَوْ غَصَبَ نُقْرَةً وَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ، أَوْ صَاغَهَا حُلِيًّا، أَوْ غَصَبَ نُحَاسًا أَوْ زُجَاجًا فَجَعَلَهُ إِنَاءً، فَإِنْ رَضِيَ الْمَالِكُ بِهِ رَدَّهُ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، إِلَّا أَنْ يَضْرِبَ الدَّرَاهِمَ بِغَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ عِيَارِهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَخَافُ التَّغْيِيرَ، وَحَيْثُ مُنِعَ مِنَ الرَّدِّ إِلَى مَا كَانَ فَخَالَفَ، فَهُوَ كَإِتْلَافِ الزَّوَائِدِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْغَصْبِ. وَلَوْ أَجْبَرَهُ الْمَالِكُ عَلَى رَدِّهِ إِلَى مَا كَانَ لَزِمَهُ. فَإِذَا امْتَثَلَ لَمْ يَغْرَمِ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ بِزَوَالِ الصَّنْعَةِ، لَكِنْ لَوْ نَقَصَ عَمَّا كَانَ بِمَا طَرَأَ وَزَالَ ضَمِنَهُ. وَأَمَّا الْأَعْيَانُ، فَمِنْ صُوَرِهَا صَبْغُ الثَّوْبِ. وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ صُورَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: إِذَا غَصَبَ أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا، أَوْ غَرَسَ، أَوْ زَرَعَ، كَانَ لِصَاحِبِ

الْأَرْضِ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْقَلْعَ مَجَّانًا. وَلَوْ أَرَادَ الْغَاصِبُ الْقَلْعَ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ مَنْعُهُ، فَإِنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ. وَإِذَا قَلَعَ، لَزِمَهُ الْأُجْرَةُ. وَفِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ وَالْأَرْشِ، مَا سَبَقَ فِي نَقْلِ التُّرَابِ. وَإِنْ نَقَصَتِ الْأَرْضُ لِطُولِ مُدَّةِ الْغِرَاسِ، فَهَلْ يَجْمَعُ بَيْنَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَأَرْشِ النَّقْصِ، أَوْ لَا يَجِبُ إِلَّا أَكْثَرُهُمَا؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَا إِذَا أَبْلَى الثَّوْبَ بِالِاسْتِعْمَالِ. وَلَوْ أَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ بِالْقِيمَةِ، أَوْ يُبْقِيَهُمَا أَوِ الزَّرْعَ بِالْأُجْرَةِ، فَهَلْ عَلَى الْغَاصِبِ إِجَابَتُهُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَالْمُسْتَعِيرِ، وَأَوْلَى، لِتَعَدِّيهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْقَلْعِ بِلَا غَرَامَةٍ. وَلَوْ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا وَبَذْرًا فَزَرَعَهَا بِهِ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُكَلِّفَهُ إِخْرَاجَ الْبَذْرِ مِنَ الْأَرْضِ وَيُغَرِّمَهُ أَرْشَ النَّقْصِ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ إِخْرَاجُهُ إِذَا رَضِيَ بِهِ الْمَالِكُ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا زَوَّقَ الْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ نَزَعَ لَحَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلِلْمَالِكِ إِجْبَارُهُ عَلَى النَّزْعِ. فَإِنْ تَرَكَهُ الْغَاصِبُ لِيَدْفَعَ عَنْهُ كُلْفَةَ النَّزْعِ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمَالِكُ عَلَى قَبُولِهِ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ أَرَادَ الْغَاصِبُ نَزْعَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِلْمَنْزُوعِ قِيمَةٌ أَمْ لَا، فَإِنْ نَزَعَ فَنَقَصَتْ عَمَّا كَانَتْ قَبْلَ التَّزْوِيقِ، لَزِمَهُ الْأَرْشُ. أَمَّا إِذَا كَانَ التَّزْوِيقُ تَمْوِيهًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ عَيْنٌ بِالنَّزْعِ، فَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ النَّزْعُ إِنْ رَضِيَ الْمَالِكُ. وَهَلْ لِلْمَالِكِ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ تَغْرِيمَهُ أَرْشَ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِإِزَالَتِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، كَالثَّوْبِ إِذَا قَصَّرَهُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا، عُدْنَا إِلَى الصَّبْغِ فَنَقُولُ: لِلصَّبْغِ الَّذِي يُصْبَغُ بِهِ الْمَغْصُوبُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لِلْغَاصِبِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ الْحَاصِلُ تَمْوِيهًا مَحْضًا فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّزْوِيقِ. وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ بِالِانْصِبَاغِ فَهُوَ ضَرْبَانِ. الْأَوَّلُ: إِذَا لَمْ يُمْكِنْ فَصْلُهُ، فَقَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: أَنَّهُ يَفُوزُ بِهِ صَاحِبُ الثَّوْبِ

تَشْبِيهًا لَهُ بِالسِّمَنِ. وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا مِثْلَ قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ الصَّبْغِ قَبْلَ الصَّبْغِ جَمِيعًا، بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً، وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةً، وَصَارَ يُسَاوِي مَصْبُوغًا عِشْرِينَ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. فَلَوْ رَغِبَ فِيهِ رَاغِبٌ بِثَلَاثِينَ، كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عَنْهُمَا، بِأَنْ صَارَتْ قِيمَتُهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ النَّقْصَ مَحْسُوبٌ مِنَ الصَّبْغِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالصَّبْغُ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا، فَهُوَ تَابِعٌ، فَيَكُونُ الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، الثُّلُثَانِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَفِي الشَّامِلِ وَالتَّتِمَّةِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّقْصُ لِانْخِفَاضِ سِعْرِ الثِّيَابِ، فَالنَّقْصُ مَحْسُوبٌ مِنَ الثَّوْبِ. وَإِنْ كَانَ لِانْخِفَاضِ سِعْرِ الْأَصْبَاغِ، فَمِنَ الصَّبْغِ وَكَذَا لَوْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ الْعَمَلِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّفْصِيلُ مُرَادَ مَنْ أَطْلَقَ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ عَشَرَةً، انْمَحَقَ الصَّبْغُ، وَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْغَاصِبِ. وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عَنْ قِيمَةِ الثَّوْبِ، فَصَارَ يُسَاوِي ثَمَانِيَةً، فَقَدْ ضَاعَ الصَّبْغُ وَنَقَصَ مِنَ الثَّوْبِ دِرْهَمَانِ، فَيَرُدُّهُ مَعَ دِرْهَمَيْنِ. وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عَلَيْهِمَا، بِأَنْ صَارَ ثَلَاثِينَ، فَمَنْ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي طَرَفِ النَّقْصِ، أَطْلَقَ هُنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى نِسْبَةِ مَالَيْهِمَا. وَمَنْ فَصَلَ قَالَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِارْتِفَاعِ سِعْرِ الثِّيَابِ، فَالزِّيَادَةُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَ لِارْتِفَاعِ سِعْرِ الْأَصْبَاغِ، فَهِيَ لِلْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَمَلِ وَالصَّنْعَةِ فَهِيَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ تُحْسَبُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: إِذَا أَمْكَنَ فَصْلُهُ عَنِ الثَّوْبِ، فَقَدْ حُكِيَ قَوْلٌ عَنِ الْقَدِيمِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَفْصُولُ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَهُوَ كَالسِّمَنِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ كَالسِّمَنِ، فَلَا يَفُوزُ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ. وَهَلْ يَمْلِكُ إِجْبَارَ الْغَاصِبِ عَلَى فَصْلِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: لَا. وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَطَائِفَةٍ: نَعَمْ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَنَقَلَ الْقَطْعَ

بِهِ عَنِ الْمَرَاوِزَةِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ، فِيمَا إِذَا كَانَ الْغَاصِبُ يَخْسَرُ بِالْفَصْلِ خُسْرَانًا بَيِّنًا، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِضَيَاعِ الْمُنْفَصِلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِحَقَارَتِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى قِيمَةِ الصَّبْغِ. وَمِنْ جُمْلَةِ الضَّيَاعِ، أَنْ يَحْدُثَ فِي الثَّوْبِ نَقْصٌ بِسَبَبِ الْفَصْلِ لَا تَفِي بِأَرْشِهِ قِيمَةُ الْمَفْصُولِ. وَلَوْ رَضِيَ الْمَغْصُوبُ [مِنْهُ] بِإِبْقَاءِ الصَّبْغِ وَأَرَادَ الْغَاصِبُ فَصْلَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَنْقُصِ الثَّوْبُ، وَكَذَا إِنْ نَقَصَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى تَرْكِ الصَّبْغِ بِحَالِهِ، فَهُمَا شَرِيكَانِ. وَكَيْفِيَّةُ الشَّرِكَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. فَرْعٌ لَوْ تَرَكَ الْغَاصِبُ الصَّبْغَ لِلْمَالِكِ، فَهَلْ يُجْبَرُ كَالنَّعْلِ فِي الدَّابَّةِ الْمَرْدُودَةِ بِالْعَيْبِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ أَمْ لَا، كَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ إِذَا تَرَكَهُ الْغَاصِبُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: بَلِ الثَّانِي أَقْيَسُ وَأَشْبَهُ. قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ غَصَبَ بَابًا وَسَمَّرَهُ بِمَسَامِيرَ لِلْغَاصِبِ وَتَرَكَهَا لِلْمَالِكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قِيلَ: الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا أَمْكَنَ فَصْلُ الصَّبْغِ، وَفِيمَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ. وَالْأَصَحُّ: تَخْصِيصُهُمَا بِمَا إِذَا أَمْكَنَ وَقُلْنَا: إِنَّ الْغَاصِبَ يُجْبَرُ عَلَى الْفَصْلِ، وَإِلَّا فَهُمَا شَرِيكَانِ لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى قَبُولِ هِبَةِ الْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِالْفَصْلِ، إِمَّا لِمَا يَنَالُهُ مِنَ التَّعَبِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمَفْصُولَ يَضِيعُ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَجِبِ الْقَبُولُ بِحَالٍ. وَالثَّانِي أَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا

كَانَ الثَّوْبُ يَنْقُصُ بِالْفَصْلِ نَقْصًا لَا تَفِي بِأَرْشِهِ قِيمَةُ الصَّبْغِ الْمَفْصُولِ، فَإِنْ وَفَتْ لَمْ يَجِبِ الْقَبُولُ بِحَالٍ وَإِنْ تَعِبَ أَوْ ضَاعَ مُعْظَمُ الْمَفْصُولِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا قُلْنَا: يَجِبُ الْقَبُولُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، لَمْ يُشْتَرَطْ تَلَفُّظُهُ بِالْقَبُولِ. وَأَمَّا الْغَاصِبُ، فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ مِنْ جِهَتِهِ يُشْعِرُ بِقَطْعِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: أَعْرَضْتُ عَنْهُ، أَوْ تَرَكْتُهُ، أَوْ أَبْرَأْتُهُ عَنْ حَقِّي، أَوْ أَسْقَطْتُهُ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ اللَّفْظُ الْمُشْعِرُ بِالتَّمْلِيكِ. فَرْعٌ لَوْ بَذَلَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ قِيمَةَ الصَّبْغِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ، فَهَلْ يُجَابُ إِلَيْهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ - سَوَاءٌ كَانَ الصَّبْغُ يُمْكِنُ فَصْلُهُ أَمْ لَا - أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَالْغِرَاسِ فِي الْعَارِيَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْمُعِيرَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْقَلْعِ مَجَّانًا فَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَى التَّمَلُّكِ بِالْقِيمَةِ، وَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الصَّبْغُ بِحَيْثُ لَوْ فُصِلَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ يُنْتَفَعُ بِهِ فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ مَتَّى اشْتَرَكَا فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ، فَهَلْ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِبَيْعِ مِلْكِهِ [مِنْهُ] ؟ وَجْهَانِ، كَبَيْعِ دَارٍ لَا مَمَرَّ لَهَا. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. وَلَوْ أَرَادَ مَالِكُ الثَّوْبِ الْبَيْعَ، فَفِي الْمُهَذَّبِ وَالتَّهْذِيبِ: أَنَّهُ يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى مُوَافَقَتِهِ وَيُبَاعُ، وَإِنْ أَرَادَ الْغَاصِبُ الْبَيْعَ لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ الثَّوْبِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِئَلَّا يَسْتَحِقَّ بِتَعَدِّيهِ إِزَالَةَ مِلْكِ غَيْرِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَطْعُ بِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يُجْبَرُ كَسَائِرِ الشُّرَكَاءِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الصَّبْغُ مَغْصُوبًا مِنْ غَيْرِ مَالِكِ الثَّوْبِ، فَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ بِفِعْلِهِ نَقْصٌ، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَالِكِ

وَالْغَاصِبِ. وَإِنْ حَدَثَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عَشَرَةً، وَالتَّصْوِيرُ كَمَا سَبَقَ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، وَيَغْرَمُ الْغَاصِبُ الصَّبْغَ لِلْآخَرِ. وَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: [يَكُونُ] الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْغَاصِبِ بِخَمْسَةٍ. وَأَصَحُّهُمَا: أَثْلَاثًا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ فَصْلُهُ، فَلَهُمَا تَكْلِيفُ الْغَاصِبِ الْفَصْلَ. فَإِنْ حَصَلَ بِالْفَصْلِ نَقْصٌ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا عَمَّا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُصْبَغَ غَرِمَهُ الْغَاصِبُ، وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ وَحْدَهُ طَلَبُ الْفَصْلِ أَيْضًا إِذَا قُلْنَا: الْمَالِكُ يَجْبِرُ الْغَاصِبَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ. هَذَا إِذَا حَصَلَ بِالِانْصِبَاغِ عَيْنُ مَالٍ فِي الثَّوْبِ. فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا تَمْوِيهٌ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي التَّزْوِيقِ. فَرْعٌ يُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَالَتَيْنِ ثُبُوتُ الشَّرِكَةِ فِيمَا إِذَا طَيَّرَ الرِّيحُ ثَوْبَ إِنْسَانٍ فِي إِجَّانَةِ صَبَّاغٍ فَانْصَبَغَ، لَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُكَلِّفَ الْآخَرَ الْفَصْلَ وَلَا التَّغْرِيمَ إِنْ حَصَلَ نَقْصٌ فِي أَحَدِهِمَا، إِذْ لَا تَعَدِّيَ. وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ تَمَلُّكَ الصَّبْغِ بِالْقِيمَةِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الصَّبْغُ مَغْصُوبًا مِنْ مَالِكِ الثَّوْبِ أَيْضًا. فَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ بِفِعْلِهِ نَقْصٌ، فَهُوَ لِلْمَالِكِ، وَلَا غُرْمَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ إِنْ زَادَتِ الْقِيمَةُ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهُ أَثَرٌ مَحْضٌ. وَإِنْ حَدَثَ بِفِعْلِهِ نَقْصٌ ضَمِنَ الْأَرْشَ، وَإِذَا أَمْكَنَ الْفَصْلُ، فَلِلْمَالِكِ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ الْفَصْلُ إِذَا رَضِيَ الْمَالِكُ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ الصَّبْغُ لِلْغَاصِبِ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، وَقِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةٌ، فَبَلَغَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا

فصل

ثَلَاثِينَ، فَفَصَلَ الْغَاصِبُ الصَّبْغَ، وَنَقَصَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَنْ عَشَرَةٍ لَزِمَهُ مَا نَقَصَ، وَكَذَا مَا نَقَصَ عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ إِنْ فَصَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ وَطَلَبِهِ، وَإِنْ فَصَلَ بِإِذْنِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نَقْصُ الْعَشَرَةِ. وَلَوْ عَادَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا إِلَى عَشَرَةٍ لِانْخِفَاضِ السِّعْرِ وَكَانَ النَّقْصُ فِي الثِّيَابِ وَالْأَصْبَاغِ عَلَى نِسْبَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالثَّوْبُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كَمَا كَانَ، وَالنَّقْصُ دَاخِلٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ غَرَامَةُ مَا نَقَصَ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ، لَكِنْ لَوْ فَصَلَ الصَّبْغَ بَعْدَ رُجُوعِ الْقِيمَةِ إِلَى عَشَرَةٍ، فَصَارَ الثَّوْبُ يُسَاوِي أَرْبَعَةً، غَرِمَ مَا نَقَصَ، وَهُوَ خُمُسُ الثَّوْبِ بِأَقْصَى الْقِيَمِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْأَقْصَى خَمْسَةَ عَشَرَ إِنْ فَصَلَ بِنَفْسِهِ، وَعَشَرَةً إِنْ فَصَلَ بِطَلَبِ الْمَالِكِ. فَصْلٌ إِذَا خَلَطَ الْمَغْصُوبُ بِغَيْرِهِ، فَقَدْ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ لَا. وَإِذَا تَعَذَّرَ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ لَا. فَإِنْ كَانَ كَالزَّيْتِ بِالزَّيْتِ. وَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، نُظِرَ، فَإِنْ خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنَ الْمَغْصُوبِ أَوْ مِثْلِهِ، أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ، فَالْمَذْهَبُ النَّصُّ أَنَّهُ كَالْهَالِكِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْغَاصِبُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ الْمَخْلُوطِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَخْلُوطِ، وَيَرْجِعُ فِي قَدْرِ حَقِّهِ مِنْ نَفْسِ الْمَخْلُوطِ. وَقِيلَ: إِنْ خَلَطَ بِالْمِثْلِ، اشْتَرَكَا، وَإِلَّا فَكَالْهَالِكِ. فَإِنْ قُلْنَا: كَالْهَالِكِ، فَلِلْغَاصِبِ دَفْعُ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ الْمَخْلُوطِ، وَلَهُ دَفْعُهُ مِنْهُ إِذَا خَلَطَهُ بِالْأَجْوَدِ أَوْ بِالْمِثْلِ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ قَدْرِ حَقِّهِ مِنَ الْمَخْلُوطِ بِالْأَرْدَأِ، إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْمَالِكُ. وَإِذَا رَضِيَ، فَلَا أَرْشَ لَهُ كَمَا إِذَا أَخَذَ الرَّدِيءَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ. وَإِنْ قُلْنَا بِالشَّرِكَةِ، فَإِنْ خَلَطَ بِالْمِثْلِ، فَقَدْرُ زَيْتِهِ مِنَ الْمَخْلُوطِ لَهُ. وَإِنْ خَلَطَ بِالْأَجْوَدِ، بِأَنْ خَلَطَ صَاعًا قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ، بِصَاعٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمَانِ، نُظِرَ، إِنْ أَعْطَاهُ صَاعًا مِنَ الْمَخْلُوطِ أُجْبِرَ الْمَالِكُ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِلَّا

فَيُبَاعُ الْمَخْلُوطُ وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، فَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ عَيْنِ الزَّيْتِ عَلَى نِسْبَةِ الْقِيمَةِ، فَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَفِي قَوْلٍ رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ: يَجُوزُ، وَفِي وَجْهٍ: يُكَلَّفُ الْغَاصِبُ تَسْلِيمَ صَاعٍ مِنَ الْمَخْلُوطِ، لِأَنَّ اكْتِسَابَ الْمَغْصُوبِ صِفَةَ الْجَوْدَةِ بِالْخَلْطِ، كَزِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ. وَإِنْ خَلَطَ بِالْأَرْدَأِ بِأَنْ خَلَطَ صَاعًا [قِيمَتُهُ دِرْهَمَانِ بِصَاعٍ] قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ، أَخَذَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ صَاعًا مِنَ الْمَخْلُوطِ مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ، لِأَنَّ الْغَاصِبَ مُتَعَدٍّ بِالْخَلْطِ، بِخِلَافِ الْمُفْلِسِ إِذَا خَلَطَ بِالْأَرْدَإِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إِذَا رَجَعَ بِصَاعٍ مِنَ الْمَخْلُوطِ لَا أَرْشَ لَهُ، لِعَدَمِ التَّعَدِّي، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى بَيْعِ الْمَخْلُوطِ وَقِسْمَةِ الثَّمَنِ أَثْلَاثًا جَازَ، وَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ الزَّيْتِ عَلَى نِسْبَةِ الْقِيمَتَيْنِ، فَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي طُرُقِ الْأَجْوَدِ، وَقِيلَ: بِالْمَنْعِ قَطْعًا. فَرْعٌ خَلْطُ الْخَلِّ بِالْخَلِّ وَاللَّبَنِ بِاللَّبَنِ، كَخَلْطِ الزَّيْتِ بِالزَّيْتِ. وَإِنْ خَلَطَ الدَّقِيقَ بِالدَّقِيقِ، فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مِثْلِيٌّ، فَكَالزَّيْتِ بِالزَّيْتِ. وَإِنْ قُلْنَا: مُتَقَوَّمٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمُخْتَلِطُ هَالِكٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالشَّرِكَةِ، بِيعَ وَقُسِّمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ. فَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ عَيْنِ الدَّقِيقِ عَلَى نِسْبَةِ الْقِيمَتَيْنِ، وَكَانَ الْخَلْطُ بِالْأَجْوَدِ أَوِ الْأَرْدَأِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي خَلْطِ الزَّيْتِ بِالزَّيْتِ. وَإِنْ كَانَ الْخَلْطُ بِالْمِثْلِ، جَازَتِ الْقِسْمَةُ إِنْ جَعَلْنَاهَا إِفْرَازًا. وَإِنْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ لَا يَجُوزُ. فَرْعٌ خَلْطُ [الْمَغْصُوبِ] بِغَيْرِ الْجِنْسِ كَزَيْتٍ بِشَيْرَجٍ أَوْ دُهْنِ جَوْزٍ، أَوْ دَقِيقِ حِنْطَةٍ بِدَقِيقِ شَعِيرٍ، فَالْمَغْصُوبُ هَالِكٌ لِبُطْلَانِ فَائِدَةِ خَاصِّيَّتِهِ، بِخِلَافِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ

فصل

السَّابِقِ، وَاخْتَارَ الْمُتَوَلِّي الشَّرِكَةَ هُنَاكَ وَهُنَا، وَقَالَ: إِنْ تَرَاضَيَا عَلَى بَيْعِ الْمَخْلُوطِ وَقِسْمَةِ الثَّمَنِ جَازَ، وَإِنْ أَرَادَ قِسْمَتَهُ جَازَ، وَكَأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ بَاعَ مَا يَصِيرُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنَ الزَّيْتِ بِمَا يَصِيرُ فِي يَدِهِ مِنَ الشَّيْرَجِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَأَلْحَقَ الْأَصْحَابُ بِخَلْطِ الزَّيْتِ بِالشَّيْرَجِ لَتَّ السَّوِيقِ بِالزَّيْتِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ كَصَبْغِ الثَّوْبِ. فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَتَعَذَّرِ التَّمْيِيزُ، لَزِمَ الْغَاصِبَ التَّمْيِيزُ وَفَصْلُهُ بِالِالْتِقَاطِ وَإِنْ شَقَّ، سَوَاءٌ خَلَطَ الْجِنْسَ كَالْحِنْطَةِ الْبَيْضَاءِ بِالْحَمْرَاءِ، أَوْ بِغَيْرِهِ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ. فَرْعٌ إِذَا خَلَطَ الزَّيْتَ بِالْمَاءِ، وَأَمْكَنَ التَّمْيِيزُ، لَزِمَهُ التَّمْيِيزُ وَأَرْشُ النَّقْصِ إِنْ نَقَصَ، وَإِلَّا فَهُوَ كَخَلْطِهِ بِالشَّيْرَجِ، إِلَّا أَنْ لَا تَبْقَى لَهُ قِيمَةٌ، فَيَكُونُ هَالِكًا قَطْعًا. فَإِنْ حَصَلَ فِيهِ مُمَيَّزًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ نَقْصٌ سَارَ، فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. فَصْلٌ إِذَا غَصَبَ خَشَبَةً وَأَدْخَلَهَا فِي بِنَاءٍ، أَوْ بَنَى عَلَيْهَا، أَوْ عَلَى آجُرٍّ مَغْصُوبٍ لَمْ يَمْلِكْهَا، بَلْ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا وَرَدُّهَا إِلَى الْمَالِكِ مَا لَمْ تَعْفَنْ. فَإِنْ عَفِنَتْ بِحَيْثُ لَوْ أُخْرِجَتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ، فَهِيَ هَالِكَةٌ. فَإِذَا أَخْرَجَهَا قَبْلَ الْعَفَنِ وَرَدَّهَا لَزِمَهُ أَرْشُ النَّقْصِ وَإِنْ نَقَصَتْ. وَفِي الْأُجْرَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي إِبْلَاءِ الثَّوْبِ بِالِاسْتِعْمَالِ. وَلَوْ أَدْخَلَ لَوْحًا مَغْصُوبًا فِي سَفِينَةٍ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُخَفْ مِنَ النَّزْعِ هَلَاكُ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، بِأَنْ كَانَتْ

عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ مُرْسَاةً عَلَى الشَّطِّ، أَوْ أَدْخَلَهُ فِي أَعْلَاهَا وَلَمْ يُخَفْ مِنْ نَزْعِهِ غَرَقًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَفْسٌ وَلَا مَالٌ، وَلَا خِيفَ هَلَاكُ السَّفِينَةِ نَفْسِهَا لَزِمَهُ نَزْعُهُ وَرَدُّهُ، فَإِنْ كَانَ فِي لُجَّةِ [الْبَحْرِ] وَخِيفَ مِنَ النَّزْعِ هَلَاكُ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، سَوَاءٌ كَانَ آدَمِيًّا - الْغَاصِبُ أَوْ غَيْرُهُ - أَوْ غَيْرَ آدَمِيٍّ، لَمْ يَنْزِعْ حَتَّى تَصِلَ الشَّطَّ. وَإِنْ خِيفَ مِنَ النَّزْعِ هَلَاكُ مَالٍ، إِمَّا فِي السَّفِينَةِ، وَإِمَّا [فِي] غَيْرِهَا [فَهُوَ، إِمَّا] لِلْغَاصِبِ، أَوْ لِمَنْ وَضَعَ مَالَهُ فِيهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهَا لَوْحًا مَغْصُوبًا، [فَإِنْ كَانَ لَهُمَا] فَفِي نَزْعِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: النَّزْعُ، كَمَا يُهْدَمُ الْبِنَاءُ لِرَدِّ الْخَشَبَةِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ: لَا يُنْزَعُ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ لَا تَدُومُ فِي الْبَحْرِ، فَيَسْهُلُ الصَّبْرُ إِلَى الشَّطِّ. وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِمَا، لَمْ يُنْزَعْ قَطْعًا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَيْثُ لَا يُنْزَعُ إِلَى الشَّطِّ، فَتُؤْخَذُ الْقِيمَةُ لِلْحَيْلُولَةِ إِلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ النَّزْعُ، فَحِينَئِذٍ يَرُدُّ اللَّوْحَ مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ وَيَسْتَرِدُّ الْقِيمَةَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُبَالَى فِي النَّزْعِ بِهَلَاكِ مَالِ الْغَاصِبِ فَاخْتَلَطَتِ الَّتِي فِيهَا اللَّوْحُ بِسُفُنٍ لِلْغَاصِبِ، وَلَا يُوقَفُ عَلَى اللَّوْحِ إِلَّا بِنَزْعِ الْجَمِيعِ، فَهَلْ يُنْزَعُ الْجَمِيعُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: كَذَا أَطْلَقُوا الْوَجْهَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَرْجَحُهُمَا عَدَمُ النَّزْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْخَيْطُ الْمَغْصُوبُ إِنْ خِيطَ بِهِ ثَوْبٌ وَنَحْوُهُ، فَالْحُكْمُ كَمَا فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْخَشَبَةِ. وَإِنْ خِيطَ بِهِ جُرْحُ حَيَوَانٍ، فَهُوَ قِسْمَانِ. مُحْتَرَمٌ، وَغَيْرُهُ. وَالْمُحْتَرَمُ نَوْعَانِ. آدَمِيٌّ وَغَيْرُهُ.

أَمَّا الْآدَمِيُّ: فَإِنْ خِيفَ مِنْ نَزْعِهِ هَلَاكُهُ لَمْ يُنْزَعْ، وَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ. ثُمَّ إِنْ خَاطَ جُرْحَ نَفْسِهِ، فَالضَّمَانُ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ. وَإِنْ خَاطَ جُرْحَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْغَصْبِ، فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمَجْرُوحِ. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا أَطْعَمَ الْمَغْصُوبَ رَجُلًا. وَفِي مَعْنَى خَوْفِ الْهَلَاكِ خَوْفُ كُلِّ مَحْذُورٍ يُجَوِّزُ الْعُدُولَ إِلَى التَّيَمُّمِ مِنَ الْوُضُوءِ وِفَاقًا وَخِلَافًا. وَأَمَّا غَيْرُ الْآدَمِيِّ، فَضَرْبَانِ. مَأْكُولٌ، وَغَيْرُهُ فَغَيْرُهُ، لَهُ حُكْمُ الْآدَمِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِبَقَاءِ الشَّيْن [فِيهِ] . وَأَمَّا الْمَأْكُولُ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ لَمْ يُنْزَعْ، وَإِنْ كَانَ لِلْغَاصِبِ فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يُذْبَحُ كَغَيْرِ الْمَأْكُولِ. وَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ وَفِيهِ الْخَيْطُ. فَإِنْ كَانَ غَيْرَ آدَمِيٍّ نُزِعَ، وَكَذَا إِنْ كَانَ آدَمِيًّا عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُحْتَرَمِ فَلَا يُبَالَى بِهَلَاكِهِ، فَيُنْزَعُ مِنْهُ الْخَيْطُ. وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ: الْخِنْزِيرُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَكَذَا الْكَلْبُ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، قَالَهُ الْإِمَامُ. وَكَذَا الْمُرْتَدُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَادَّعَى أَنَّ الْأَوْجَهَ: مَنْعُ النَّزْعِ، لِأَنَّ الْمُثْلَةَ بِالْمُرْتَدِّ مُحَرَّمَةٌ، بِخِلَافِ الْمُثْلَةِ بِالْمَيِّتِ، لِأَنَّا نَتَوَقَّعُ عَوْدَ الْمُرْتَدِّ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْحَرْبِيُّ. وَأَمَّا الزَّانِي الْمُحْصَنُ، وَالْمُحَارِبُ، فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: هُمَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا مَاتَ وَفِيهِ الْخَيْطُ، لِأَنَّ تَفْوِيتَ رُوحِهِ مُسْتَحَقٌّ، وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يُنْزَعُ، يَجُوزُ غَصْبُ الْخَيْطِ ابْتِدَاءً لِيُخَاطَ بِهِ الْجُرْحُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ خَيْطٌ حَلَالٌ. وَحَيْثُ قُلْنَا: يُنْزَعُ، لَا يَجُوزُ. قُلْتُ: وَحَيْثُ بَلِيَ الْخَيْطُ، فَلَا نَزْعَ مُطْلَقًا، بَلْ تَجِبُ الْقِيمَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ حَصَلَ فَصِيلُ رَجُلٍ فِي بَيْتِ رَجُلٍ، وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُهُ إِلَّا بِنَقْضِ الْبِنَاءِ، فَإِنْ كَانَ بِتَفْرِيطِ صَاحِبِ الْبَيْتِ، بِأَنْ غَصَبَهُ وَأَدْخَلَهُ، نُقِضَ وَلَمْ يَغْرَمْ صَاحِبُ الْفَصِيلِ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ بِتَفْرِيطِ صَاحِبِ الْفَصِيلِ، نُقِضَ الْبِنَاءُ، وَلَزِمَهُ أَرْشُ النَّقْضِ. وَإِنْ دَخَلَ بِنَفْسِهِ نُقِضَ أَيْضًا، وَلَزِمَ صَاحِبَ الْفَصِيلِ أَرْشُ النَّقْصِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. ثَانِيهِمَا: لَا أَرْشَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ وَقَعَ دِينَارٌ فِي مَحْبَرَةٍ، وَلَا يَخْرُجُ إِلَّا بِكَسْرِهَا، فَإِنْ وَقَعَ بِفِعْلِ صَاحِبِ الْمَحْبَرَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا كُسِرَتْ، وَلَا غُرْمَ عَلَى صَاحِبِ الدِّينَارِ، وَإِنْ وَقَعَ بِفِعْلِ صَاحِبِهِ، أَوْ بِلَا تَفْرِيطٍ مِنْ أَحَدٍ كُسِرَتْ، وَعَلَى صَاحِبِهِ الْأَرْشُ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِذَا لَمْ يُفَرِّطُ أَحَدٌ، وَالْتَزَمَ صَاحِبُ الْمَحْبَرَةِ ضَمَانَ الدِّينَارِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُكْسَرَ، لِزَوَالِ الضَّرَرِ بِذَلِكَ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ عَائِدٌ فِي صُورَةِ الْبَيْتِ وَالْفَصِيلِ. فَرْعٌ أَدْخَلَتْ بَهِيمَةٌ رَأْسَهَا فِي قِدْرٍ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا بِكَسْرِهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا صَاحِبُهَا، فَهُوَ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ الْحِفْظِ. فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كُسِرَتِ الْقِدْرُ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ النَّقْصِ. وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، فَفِي ذَبْحِهَا وَجْهَانِ، كَمَسْأَلَةِ الْخَيْطِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَحَدٌ، فَإِنْ فَرَّطَ صَاحِبُ الْقِدْرِ، بِأَنْ وَضَعَ الْقِدْرَ فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ كُسِرَتْ، وَلَا أَرْشَ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ كُسِرَتْ، وَغَرِمَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ الْأَرْشَ، وَلَمْ

فصل

يَذْكُرُوا هَذَا التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْفَصِيلِ، وَالْوَجْهُ: التَّسْوِيَةُ. فَرْعٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَوْلُ فِي أَنَّ مَا تُتْلِفُهُ الْبَهِيمَةُ، مَتَى يَضْمَنُهُ مَالِكُهَا فِي بَابِهِ. فَإِذَا ابْتَلَعَتْ شَيْئًا وَاقْتَضَى الْحَالُ الضَّمَانَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مِمَّا يَفْسَدُ بِالِابْتِلَاعِ، ضَمِنَهُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَفْسَدُ كَاللُّؤْلُؤِ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ، لَمْ تُذْبَحْ، وَغَرِمَ قِيمَةَ الْمُبْتَلَعِ لِلْحَيْلُولَةِ. وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، فَفِي ذَبْحِهَا الْوَجْهَانِ. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ بَهِيمَةً بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ فَابْتَلَعَتْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مَقْبُوضًا انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَهَذِهِ بَهِيمَةٌ لِبَائِعِهَا ابْتَلَعَتْ مَالَ الْمُشْتَرِي، إِلَّا أَنْ يَقْتَضِيَ الْحَالُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ، فَيَسْتَقِرُّ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ مَا جَرَى قَبْضًا لِلثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِتْلَافَ الْمُشْتَرِي قَبْضٌ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَقْبُوضًا، لَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ، وَهَذِهِ بَهِيمَةٌ لِلْمُشْتَرِي ابْتَلَعَتْ مَالَ الْبَائِعِ. فَصْلٌ غَصَبَ زَوْجَيْ خُفٍّ قِيمَتُهُمَا عَشَرَةٌ، فَرَدَّ أَحَدَهُمَا وَقِيمَتُهُ ثَلَاثَةٌ، وَتَلِفَ الْآخَرُ، لَزِمَهُ سَبْعَةٌ قَطْعًا، لِأَنَّ بَعْضَ الْمَغْصُوبِ تَلِفَ، وَبَعْضُهُ نَقَصَ. وَلَوْ أَتْلَفَ أَحَدَهُمَا، أَوْ غَصَبَهُ وَحْدَهُ وَتَلِفَ، وَعَادَتْ قِيمَةُ الْبَاقِي إِلَى ثَلَاثَةٍ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: يَلْزَمُهُ سَبْعَةٌ. وَأَصَحُّهَا عِنْدَ الْإِمَامِ، وَالْبَغَوِيِّ: خَمْسَةٌ، كَمَا

لَوْ أَتْلَفَ رَجُلٌ أَحَدَهُمَا وَآخَرُ الْآخَرَ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَضْمَنُ خَمْسَةً. وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ، لِأَنَّهَا قِيمَةُ مَا أَتْلَفَهُ. وَلَوْ أَخَذَ أَحَدَهُمَا بِالسَّرِقَةِ، وَقِيمَتُهُ مَعَ نَقْصِ الْبَاقِي نِصَابٌ لَمْ يُقْطَعْ بِلَا خِلَافٍ. قُلْتُ: الْأَقْوَى، مَا صَحَّحَهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ. وَيُخَالِفُ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَالِكِ هُنَاكَ. وَصُورَتُهُ: أَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُمَا دُفْعَةً وَاحِدَةً. فَإِنْ تَعَاقَبَا، لَزِمَ الثَّانِيَ ثَلَاثَةٌ. وَفِي الْأَوَّلِ الْخِلَافُ. وَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى إِذَا غَصَبَهُمَا مَعًا وَجْهٌ فِي التَّنْبِيهِ وَالتَّتِمَّةِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِ الْغَاصِبِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: إِذَا اتَّجَرَ الْغَاصِبُ فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: أَنَّهُ إِنْ بَاعَهُ أَوِ اشْتَرَى بِعَيْنِهِ، فَالتَّصَرُّفُ بَاطِلٌ. وَإِنْ بَاعَ سَلَمًا أَوِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ وَسَلَّمَ الْمَغْصُوبَ فِيهِ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالتَّسْلِيمُ فَاسِدٌ، فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِمَّا الْتَزَمَ، وَيَمْلِكُ الْغَاصِبُ مَا أَخَذَ، وَأَرْبَاحُهُ لَهُ. وَالْقَدِيمُ: أَنَّ بَيْعَهُ وَالشِّرَاءَ بِعَيْنِهِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ. فَإِنْ أَجَازَ، فَالرِّبْحُ لَهُ. وَكَذَا إِذَا الْتَزَمَ فِي الذِّمَّةِ وَسَلَّمَ الْمَغْصُوبَ، تَكُونُ الْأَرْبَاحُ لِلْمَالِكِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي الْبَيْعِ، وَيَتِمُّ شَرْحُهَا فِي الْقِرَاضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ هُنَا، أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ بَعْدَهَا مُفَرَّعٌ عَلَى الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. الثَّانِيَةُ: وَطِئَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَةَ، فَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ، وَكَذَا أَرْشُ الْبَكَارَةِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا. ثُمَّ هَلْ يُفْرَدُ الْأَرْشُ فَنَقُولُ: عَلَيْهِ مَهْرُ ثَيِّبٍ وَالْأَرْشُ؟ أَمْ لَا يُفْرَدُ، فَنَقُولُ: مَهْرُ بِكْرٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنِ اخْتَلَفَ الْمِقْدَارُ بِالِاعْتِبَارَيْنِ وَجَبَ الزَّائِدُ، وَقَدْ أَشَارَ الْإِمَامُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ،

نُظِرَ، إِنْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ مُكْرَهَةً، فَعَلَى الْغَاصِبِ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ، وَيَجِبُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا. وَإِنْ كَانَتْ طَائِعَةً، فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ، وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَشْهُورِ. وَيَجِبُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا إِذَا قُلْنَا: يُفْرَدُ عَنِ الْمَهْرِ، وَإِلَّا فَفِي وُجُوبِ الزَّائِدِ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ كَمَا لَوْ زَنَتِ الْحُرَّةُ وَهِيَ طَائِعَةٌ وَهِيَ بِكْرٌ. وَالثَّانِي: يَجِبُ، كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ طَرَفٍ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ عَالِمًا دُونَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا وَالْمَهْرُ. وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً دُونَهُ، فَعَلَيْهَا الْحَدُّ دُونَهُ إِنْ طَاوَعَتْهُ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ. ثُمَّ الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ، قَدْ يَكُونُ لِلْجَهْلِ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا مُطْلَقًا، وَقَدْ يَكُونُ لِتَوَهُّمِ حَلِّهَا خَاصَّةً لِدُخُولِهَا بِالْغَصْبِ فِي ضَمَانِهِ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمَا إِلَّا مِنْ قَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ مِمَّنْ نَشَأَ فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ يَكُونُ لِاشْتِبَاهِهِمَا عَلَيْهِ وَظَنِّهِ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ فَلَا يُشْتَرَطُ لِقَبُولِ دَعْوَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. الثَّالِثَةُ: إِذَا وَطِئَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْغَاصِبِ، فَالْقَوْلُ فِي وَطْئِهِ فِي حَالَتَيِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْغَاصِبِ، إِلَّا أَنَّ جَهْلَ الْمُشْتَرِي قَدْ يَنْشَأُ مِنَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهَا مَغْصُوبَةً أَيْضًا، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي دَعْوَاهُ الشَّرْطُ السَّابِقُ، وَإِذَا غَرِمَ الْمُشْتَرِي الْمَهْرَ، فَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي رُجُوعِهِ [بِهِ] عَلَى الْغَاصِبِ. وَهَلْ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ الْغَاصِبِ بِهِ ابْتِدَاءً؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ. وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى جَرَيَانِ الْوَجْهَيْنِ سَوَاءٌ قُلْنَا: يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالْمَهْرِ عَلَى الْغَاصِبِ أَمْ لَا. وَقَالَ: إِذَا قُلْنَا: لَا رُجُوعَ، فَظَاهِرُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالرُّجُوعِ، فَالظَّاهِرُ الْمُطَالَبَةُ، لِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَطَرْدُ الْخِلَافِ فِي مُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِالْمَهْرِ إِذَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ.

فَرْعٌ إِذَا تَكَرَّرَ وَطْءُ الْغَاصِبِ أَوِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْجَهْلِ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا مَهْرٌ، لِأَنَّ الْجَهْلَ شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ مِرَارًا. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا وَجَبَ الْمَهْرُ، لِكَوْنِهَا مُكْرَهَةً. أَوْ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ مَعَ طَاعَتِهَا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الِاكْتِفَاءُ بِمَهْرٍ. وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ لِكُلِّ مَرَّةٍ مَهْرٌ. وَإِنْ وَطِئَهَا مَرَّةً عَالِمًا، وَمَرَّةً جَاهِلًا وَجَبَ مَهْرَانِ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْوَطْءُ مُحْبِلًا. [أَمَّا] إِذَا أَحْبَلَ الْغَاصِبُ أَوِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِلْمَالِكِ غَيْرُ نَسِيبٍ، لِكَوْنِهِ زَانِيًا. فَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ، أَوْ مَيِّتًا بِجِنَايَةٍ، فَبَدَلُهُ لِسَيِّدِهِ، أَوْ بِلَا جِنَايَةٍ فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: الْوُجُوبُ، لِثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ الْأَنْمَاطِيُّ وَابْنُ سَلَمَةَ وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ. وَبِالْمَنْعِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْإِمَامُ، وَالْبَغَوِيُّ، لِأَنَّ جِنَايَتَهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنَةٍ، وَسَبَبُ الضَّمَانِ هَلَاكُ رَقِيقٍ تَحْتَ يَدِهِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي حَمْلِ الْبَهِيمَةِ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا انْفَصَلَ مَيِّتًا، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ، فَهُوَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْفِصَالِ لَوْ كَانَ حَيًّا فِي وَلَدِ الْجَارِيَةِ وَالْبَهِيمَةِ جَمِيعًا، وَخَرَّجَ الْإِمَامُ وَجْهًا فِي وَلَدِ الْجَارِيَةِ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِعُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ، تَنْزِيلًا لِلْغَاصِبِ مَنْزِلَةَ الْجَانِي. أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَاطِئُ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، فَالْوَلَدُ نَسِيبٌ حُرٌّ لِلشُّبْهَةِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِ الْجَارِيَةِ يَوْمَ الِانْفِصَالِ إِنِ انْفَصَلَ حَيًّا.

فَإِنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا بِنَفْسِهِ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا قِيمَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِجِنَايَةٍ، فَعَلَى الْجَانِي ضَمَانُهُ، وَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ الْغَاصِبِ، لِأَنَّ لَهُ بَدَلَهُ فَقُوِّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَى الْجَانِي الْغُرَّةُ، وَلِلْمَالِكِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ. فَإِنِ اسْتَوَيَا، ضَمِنَ الْغَاصِبُ لِلْمَالِكِ عُشْرَ قِيمَةِ الْأُمِّ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْغُرَّةِ أَكْثَرَ، فَكَذَلِكَ، وَالزِّيَادَةُ تَسْتَقِرُّ لَهُ بِحَقِّ الْإِرْثِ. وَإِنْ نَقَصَتِ الْغُرَّةُ عَنِ الْعُشْرِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُ لِلْمَالِكِ تَمَامَ الْعُشْرِ. وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُ إِلَّا قَدْرَ الْغُرَّةِ. وَلَوِ انْفَصَلَ مَيِّتًا بِجِنَايَةِ الْغَاصِبِ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ. وَلَوْ أَحْبَلَ الْغَاصِبُ وَمَاتَ وَتَرَكَ أَبَاهُ، ثُمَّ انْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا بِجِنَايَةٍ، فَالْغُرَّةُ لِجَدِّ الطِّفْلِ. ثُمَّ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ يَضْمَنُ لِلْمَالِكِ مَا كَانَ يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ. وَعَنْهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الْغَاصِبِ أُمُّ أُمِّ الْجَنِينِ، فَوَرِثَتْ سُدُسَ الْغُرَّةِ، قُطِعَ النَّظَرُ عَنْهُ، وَنُظِرَ إِلَى عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ وَخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْغُرَّةِ، وَكَأَنَّهَا كُلُّ الْغُرَّةِ، وَالْجَوَابَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَرَأَى الْإِمَامُ إِثْبَاتَ احْتِمَالَيْنِ فِي الصُّورَتَيْنِ يُنْظَرُ فِي أَحَدِهِمَا، إِلَى أَنَّ مَنْ يَمْلِكُ الْغُرَّةَ، يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ لِلْمَالِكِ. وَيُسْتَبْعَدُ فِي الْآخَرِ تَضْمِينُ مَنْ لَمْ يَغْصِبْ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: الْغُرَّةُ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً، وَإِنَّمَا يَغْرَمُ الْغَاصِبُ عُشْرَ قِيمَةِ الْأُمِّ إِذَا أَخَذَ الْغُرَّةَ. وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ فِيهِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ فِي الْوَلَدِ الْمَحْكُومِ بِحُرِّيَّتِهِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُنْظَرُ إِلَى عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ، بَلْ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ لَوِ انْفَصَلَ حَيًّا. وَفِي وَجْهٍ: يَغْرَمُ الْغَاصِبُ لِلْمَالِكِ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَالْغُرَّةِ. وَدَعْوَى الْجَهْلِ فِي هَذَا كَدَعْوَاهُ إِذَا لَمْ تَحْبَلْ عَلَى مَا سَبَقَ. وَحَكَى الْمَسْعُودِيُّ خِلَافًا فِي قَبُولِهَا لِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ قَبِلَتْ لِدَفْعِ الْحَدِّ. وَيَجِبُ فِي حَالَتَيِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ أَرْشُ نَقْصِ الْجَارِيَةِ إِنْ نَقَصَتْ بِالْوِلَادَةِ، فَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ وَجَبَ أَقْصَى الْقِيَمِ، وَدَخَلَ فِيهِ نَقْصُ الْوِلَادَةِ وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ. وَلَوْ رَدَّهَا وَهِيَ حُبْلَى، فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِالْوِلَادَةِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقَطَّانُ فِي «الْمُطَارَحَاتِ» : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ حَتَّى يُقَالَ: مَاتَتْ بِوِلَادَةِ وَلَدِهِ. وَنَقَلَ فِي صُورَةِ الْجَهْلِ قَوْلَيْنِ، وَأَطْلَقَ الْمُتَوَلِّي الْقَوْلَيْنِ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ.

فصل

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: قَوْلُ الْمُتَوَلِّي: وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ وَطِئَ الْغَاصِبُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، فَحَيْثُ قُلْنَا: لَا مَهْرَ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ مُحَافَظَةً عَلَى حُرْمَةِ الْبُضْعِ. وَفِي قِيمَةِ الْوَلَدِ طَرِيقَانِ. قِيلَ: كَالْمَهْرِ، وَقِيلَ: تَجِبُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ فِي الْإِحْبَالِ. فَصْلٌ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغَاصِبِ إِذَا غَرَّمَهُ الْمَالِكُ وَفِيهِ فُرُوعٌ: الْأَوَّلُ: إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ضَمِنَ قِيمَتَهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ يَوْمِ قَبْضِهَا إِلَى التَّلَفِ، وَلَا يَضْمَنُ زِيَادَةً كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَلَا يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَهُ عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» : أَنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الْمَغْرُومِ بِمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ رَخِيصًا أَمْ زَادَتْ قِيمَتُهُ، وَهُوَ شَاذٌّ. الثَّانِي: إِذَا تَعَيَّبَ الْمَغْصُوبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِعَمًى أَوْ شَلَلٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، اسْتَقَرَّ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَ الْجَمِيعَ. وَإِنْ كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْأَكْثَرُونَ. الثَّالِثُ: مَنَافِعُ الْمَغْصُوبِ، يَضْمَنُهَا الْمُشْتَرِي لِلْمَالِكِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا، سَوَاءٌ اسْتَوْفَاهَا بِالسُّكُونِ وَالرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ وَنَحْوِهَا، أَمْ فَاتَتْ تَحْتَ يَدِهِ، وَلَا يَرْجِعُ بِمَا اسْتَوْفَاهُ،

وَلَا بِالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ، وَيَرْجِعُ بِمَا تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. الرَّابِعُ: لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ الْمُنْعَقِدِ حُرًّا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَيَرْجِعُ بِأَرْشِ نَقْصِ الْوِلَادَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَلَوْ وَهَبَ الْجَارِيَةَ الْمَغْصُوبَةَ، فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُتَّهَبُ جَاهِلًا بِالْحَالِ، وَغَرِمَ قِيمَةَ الْوَلَدِ، فَفِي رُجُوعِهِ بِهَا وَجْهَانِ. الْخَامِسُ: إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ فِي الْمَغْصُوبَةِ، فَجَاءَ الْمَالِكُ وَنَقَضَ، رَجَعَ بِأَرْشِ النُّقْصَانِ عَلَى الْغَاصِبِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى الْعَبْدِ وَمَا أَدَّى مِنْ خَرَاجِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الشِّرَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَضْمَنُهُمَا. السَّادِسُ: لَوْ زَوَّجَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَةَ، فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ جَاهِلًا، غَرِمَ مَهْرَ الْمِثْلِ لِلْمَالِكِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ، لِأَنَّهُ شَرَعَ فِيهِ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ الْمَهْرَ. فَلَوِ اسْتَخْدَمَهَا الزَّوْجُ، وَغَرِمَ الْأُجْرَةَ، لَمْ يَرْجِعْ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّطْهُ بِالتَّزْوِيجِ عَلَى الِاسْتِخْدَامِ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ، وَيَرْجِعُ بِغُرْمِ الْمَنَافِعِ التَّالِفَةِ تَحْتَ يَدِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِهَا، وَلَمْ يَشْرَعْ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ. وَالْقَوْلُ فِي قِيمَتِهَا لَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ سَبَقَ، فَإِنْ غَرِمَهَا رَجَعَ بِهَا. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَضَابِطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ يُنْظَرَ فِيمَا غَرِمَهُ مَنْ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى [يَدِ] الْغَاصِبِ جَاهِلًا. فَإِنْ دَخَلَ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ، لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ شَرَعَ عَلَى أَنْ لَا يَضْمَنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ مَا يُقَابِلُهُ رَجَعَ بِهِ. وَإِنِ اسْتَوْفَاهُ، فَقَوْلَانِ: فَلَوْ غَصَبَ شَاةً فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، أَوْ شَجَرَةً فَأَثْمَرَتْ، فَأَكَلَ فَائِدَتَهُمَا، وَغَرِمَهُمَا لِلْمَالِكِ فَفِي رُجُوعِهِ بِمَا غَرِمَ عَلَى الْغَاصِبِ قَوْلَانِ: كَالْمَهْرِ. وَإِنْ هَلَكَتْ تَحْتَ يَدِهِ، فَهِيَ كَالْمَنَافِعِ الَّتِي لَمْ

يَسْتَوْفِهَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَكْسَابِ. وَلَوِ انْفَصَلَ الْوَلَدُ مَيِّتًا، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ، وَكَذَا إِذَا انْفَصَلَ مَيِّتًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ. وَلَوِ اسْتَرْضَعَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ فِي وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ غَيْرِهِ، وَغَرِمَ أُجْرَةَ مِثْلِهَا، فَفِي رُجُوعِهِ بِهَا قَوْلَانِ، كَالْمَهْرِ، وَيَغْرَمُ الْمُشْتَرِي اللَّبَنَ وَإِنِ انْصَرَفَ إِلَى سَخْلَتِهَا وَعَادَ نَفْعُهُ إِلَى الْمَالِكِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ عَلَفًا وَعَلَفَ بِهِ بَهِيمَةَ مَالِكِهِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ، وَلَا عَادَ نَفْعُهُ إِلَيْهِ. وَلَوْ أَجَّرَ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ، غَرِمَ الْمُسْتَأْجِرُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِلْمَالِكِ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ، وَيَسْتَرِدُّ الْمُسَمَّى. وَلَوْ أَعَارَهَا، رَجَعَ الْمُسْتَعِيرُ بِمَا غَرِمَ لِلْمَنَافِعِ الْفَائِتَةِ تَحْتَ يَدِهِ. وَفِي الرُّجُوعِ بِمَا غَرِمَهُ لِلْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ الْقَوْلَانِ. وَكَذَا مَا غَرِمَ لِلْأَجْزَاءِ التَّالِفَةِ بِالِاسْتِعْمَالِ. فَرْعٌ كُلُّ مَا لَوْ غَرِمَهُ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ. فَإِذَا طُولِبَ بِهِ الْغَاصِبُ وَغَرِمَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكُلُّ مَا [لَوْ] غَرِمَهُ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ، فَإِذَا غَرِمَهُ الْغَاصِبُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَرِي مِمَّنْ أُثْبِتَتْ يَدُهُ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ. فَرْعٌ لَوْ نَقَصَتِ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ، وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ تَفِي قِيمَتُهُ بِنَقْصِهَا، لَمْ يَنْجَبِرْ بِهِ النَّقْصُ، بَلْ يَأْخُذُ الْوَلَدَ وَالْأَرْشَ.

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ إِحْدَاهَا: حَمَّالٌ تَعِبَ بِخَشَبَةٍ، فَأَسْنَدَهَا إِلَى جِدَارِ رَجُلٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ مَالِكُهُ ضَمِنَ الْجِدَارَ إِنْ وَقَعَ بِإِسْنَادِهِ، وَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَقَعَتِ الْخَشَبَةُ وَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، ضَمِنَ إِنْ وَقَعَتْ فِي الْحَالِ. وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ، لَمْ يَضْمَنْ. وَإِنْ كَانَ الْجِدَارُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ أَذِنَ فِي إِسْنَادِهَا إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ تَقَعَ الْخَشَبَةُ فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ سَاعَةٍ، كَفَتْحِ رَأْسِ الزِّقِّ. الثَّانِيَةُ: غَصَبَ دَارًا فَنَقَضَهَا وَأَتْلَفَ النَّقْضَ، ضَمِنَ النَّقْضَ وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَرْصَةِ. وَهَلْ يَغْرَمُ أُجْرَةَ مِثْلِهَا دَارًا إِلَى وَقْتِ النَّقْضِ، أَمْ إِلَى وَقْتِ الرَّدِّ؟ وَجْهَانِ. الثَّالِثَةُ: غَصَبَ شَاةً وَأَنْزَى عَلَيْهَا فَحْلًا، فَالْوَلَدُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَلَوْ غَصَبَ فَحْلًا وَأَنْزَاهُ عَلَى شَاتِهِ، فَالْوَلَدُ لِلْغَاصِبِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْإِنْزَاءِ. فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ، غَرِمَ الْأَرْشَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ وُجُوبُ شَيْءٍ لِلْإِنْزَاءِ عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ لَهُ. قُلْتُ: هَذَا التَّفْرِيعُ، لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا فَرَّعُوهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: غَصَبَ جَارِيَةً نَاهِدًا فَتَدَلَّى ثَدْيُهَا، أَوْ عَبْدًا شَابًّا فَشَاخَ، أَوْ أَمْرَدَ فَالْتَحَى، ضَمِنَ النُّقْصَانَ. الْخَامِسُ: غَصَبَ خَشَبَةً فَاتَّخَذَ مِنْهَا أَبْوَابًا وَسَمَّرَهَا بِمَسَامِيرِهِ. نَزَعَ الْمَسَامِيرَ، فَإِنْ

نَقَصَتِ الْأَبْوَابُ بِهِ ضَمِنَ الْأَرْشَ. وَلَوْ بَدَّلَهَا فَفِي إِجْبَارِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى قَبُولِهَا وَجْهَانِ سَبَقَ نَظَائِرُهُمَا. السَّادِسَةُ: غَصَبَ ثَوْبًا وَنَجَّسَهُ، أَوْ تَنَجَّسَ عِنْدَهُ، لَا يَجُوزُ لَهُ تَطْهِيرُهُ، وَلَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُكَلِّفَهُ تَطْهِيرَهُ. فَإِنْ غَسَلَهُ فَنَقَصَ ضَمِنَ النَّقْصَ. وَلَوْ رَدَّهُ نَجِسًا، فَمُؤْنَةُ التَّطْهِيرِ عَلَى الْغَاصِبِ. وَكَذَا أَرْشُ النَّقْصِ اللَّازِمِ مِنْهُ، وَتَنْجِيسُ الْمَائِعِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ إِهْلَاكٌ. وَتَنْجِيسُ الدُّهْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى إِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ. إِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَهُوَ كَالثَّوْبِ. السَّابِعَةُ: غَصَبَ مِنَ الْغَاصِبِ، فَأَبْرَأَ الْمَالِكُ الْأَوَّلَ عَنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ، لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِقِيمَتِهِ فَهُوَ كَدَيْنٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ مَلَّكَهُ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ بَرِئَ، وَانْقَلَبَ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي حَقًّا لَهُ. وَإِنْ بَاعَهُ لِغَاصِبِ الْغَاصِبِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ وَأَذِنَ فِي الْقَبْضِ بَرِئَ الْأَوَّلُ. وَإِنْ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الثَّانِي وَقُلْنَا: يَصِيرُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ بَرِئَ الْأَوَّلُ أَيْضًا. وَإِنْ رَهَنَهُ عِنْدَ الثَّانِي، لَمْ يَبْرَأْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. الثَّامِنَةُ: إِذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ إِلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ، أَوْ وَلِيِّهِ، بَرِئَ. وَلَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى إِصْطَبْلِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: بَرِئَ أَيْضًا إِذَا عَلِمَ الْمَالِكُ بِهِ أَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ يَعْتَمِدُ خَبَرَهُ، وَلَا يَبْرَأُ قَبْلَ الْعِلْمِ وَالْإِخْبَارِ. وَلَوِ امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنَ الِاسْتِرْدَادِ رَفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ. التَّاسِعَةُ: لَوْ أَبْرَأَ الْمَالِكُ غَاصِبَ الْغَاصِبِ عَنِ الضَّمَانِ، بَرِئَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْقَرَارَ عَلَى الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ كَالضَّامِنِ، كَذَا قَالَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ بَعْدَ تَلَفِ الْمَالِ فَبَيِّنٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَيَخْرُجُ عَلَى صِحَّةِ إِبْرَاءِ الْغَاصِبِ مَعَ بَقَاءِ الْمَالِ فِي يَدِهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قُلْتُ: لَوْ غَصَبَ مِسْكًا أَوْ عَنْبَرًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّا يُقْصَدُ شَمُّهُ، وَمَكَثَ عِنْدَهُ، لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِهِمَا. [وَلَوْ طَرَحَ فِي الْمَسْجِدِ غَلَّةً أَوْ غَيْرَهَا وَأَغْلَقَهُ لَزِمَهُ أُجْرَةُ جَمِيعِهِ. وَإِنْ لَمْ يُغْلِقْهُ، لَكِنْ شَغَلَ زَاوِيَةً مِنْهُ، لَزِمَهُ أُجْرَةُ مَا شَغَلَهُ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى، قَالَ: وَكَمَا يَضْمَنُ أَجْزَاءَ الْمَسْجِدِ بِالْإِتْلَافِ، يَضْمَنُ مَنْفَعَتَهُ بِإِتْلَافِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الشفعة

كِتَابُ الشُّفْعَةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ. الْأَوَّلُ: فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الشُّفْعَةُ. وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ. الْأَوَّلُ: الْمَأْخُوذُ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَقَارًا قَالَ الْأَصْحَابُ: الْأَعْيَانُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: الْمَنْقُولَاتُ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا سَوَاءٌ بِيعَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ الْأَرْضِ. الثَّانِي: الْأَرْضُ، ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِيهَا سَوَاءٌ بِيعَ الشِّقْصُ مِنْهَا وَحْدَهُ أَمْ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ. الثَّالِثُ: مَا كَانَ مَنْقُولًا ثُمَّ أُثْبِتَ فِي الْأَرْضِ لِلدَّوَامِ كَالْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ، فَإِنْ بِيعَتْ مُنْفَرِدَةً فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ بِيعَتِ الْأَرْضُ وَحْدَهَا، ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِيهَا وَصَارَ الشَّفِيعُ مَعَهُ كَالْمُشْتَرِي. وَإِنْ بِيعَتِ الْأَبْنِيَةُ وَالْأَشْجَارُ مَعَ الْأَرْضِ، إِمَّا صَرِيحًا وَإِمَّا عَلَى قَوْلِنَا: تَسْتَتْبِعُهَا. ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِيهَا تَبَعًا لِلْأَرْضِ. فَلَوْ كَانَ عَلَى الشَّجَرَةِ ثَمَرَةٌ مُؤَبَّرَةٌ، وَأُدْخِلَتْ فِي الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، لَمْ تَثْبُتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ، لِأَنَّهَا لَا تَدُومُ فِي الْأَرْضِ، فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ وَالنَّخِيلَ بِحِصَّتِهَا. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ شَرْعًا، وَهَلْ لِلشَّفِيعِ أَخْذُهَا؟ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ لَمْ يَتَّفِقِ الْأَخْذُ حَتَّى تَأَبَّرَتْ أَخَذَهَا أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: لَا يَأْخُذُهَا. فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ كَالْمُؤَبَّرَةِ. وَالثَّانِي: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ عَيْبٍ يَحْدَثُ. وَإِنْ كَانَتِ النَّخْلُ حَائِلَةً عِنْدَ الْبَيْعِ، ثُمَّ حَدَثَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ، فَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً، لَمْ يَأْخُذْهَا، وَإِلَّا أَخَذَهَا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِذَا بَقِيَتِ الثِّمَارُ لِلْمُشْتَرِي لَزِمَ الشَّفِيعَ إِبْقَاؤُهَا إِلَى الْإِدْرَاكِ. وَهَذَا إِذَا بِيعَتِ الْأَشْجَارُ مَعَ الْبَيَاضِ الْمُتَخَلِّلِ لَهَا،

أَوْ بِيعَ الْبُسْتَانُ كُلُّهُ. أَمَّا إِذَا بِيعَتِ الْأَشْجَارُ وَمَغَارِسُهَا فَقَطْ، أَوْ بِيعَ الْجِدَارُ مَعَ الْأُسِّ فَلَا شُفْعَةَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْأَرْضَ تَابِعَةٌ هُنَا، وَالْمَتْبُوعُ مَنْقُولٌ. فَرْعٌ إِذَا بَاعَ شِقْصًا فِيهِ زَرْعٌ لَا يُجَزُّ مِرَارًا [وَأَدْخَلَهُ فِي الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَلَا يَأْخُذُ الزَّرْعَ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُجَزُّ مِرَارًا] ، فَالْجَزَّةُ الظَّاهِرَةُ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ كَالثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ، وَالْأُصُولُ كَالْأَشْجَارِ. فَرْعٌ [مَا] دَخَلَ فِي مُطْلَقِ بَيْعِ الدَّارِ مِنَ الْأَبْوَابِ وَالرُّفُوفِ، وَالْمَسَامِيرِ، تُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ تَبَعًا، كَالْأَبْنِيَةِ، وَكَذَا الدُّولَابُ الثَّابِتُ فِي الْأَرْضِ، سَوَاءٌ أَدَارَهُ الْمَاءُ أَمْ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ الدَّلْوِ وَالْمَنْقُولَاتِ. وَلَوْ بَاعَ شِقْصًا مِنْ طَاحُونَةٍ، وَقُلْنَا: يَدْخُلُ الْحَجَرُ الْأَسْفَلُ وَالْأَعْلَى فِي الْبَيْعِ، أَخَذَ الْأَسْفَلَ بِالشُّفْعَةِ، وَفِي الْأَعْلَى وَجْهَانِ كَالثِّمَارِ الَّتِي لَمْ تُؤَبَّرْ. الشَّرْطُ الثَّانِي: كَوْنُ الْعَقَارِ ثَابِتًا. فَلَوْ بَاعَ شِقْصًا مِنْ غُرْفَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى سَقْفٍ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، فَلَا شُفْعَةَ، إِذْ لَا قَرَارَ لَهَا. فَلَوْ كَانَ السَّقْفُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ مُشْتَرَكًا أَيْضًا، فَلَا شُفْعَةَ عَلَى الْأَصَحِّ لَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ كَانَ السُّفْلُ مُشْتَرَكًا وَالْعُلُوُّ لِأَحَدِهِمَا، فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ نَصِيبَهُ مِنَ السُّفْلِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرِيكَ يَأْخُذُ السُّفْلَ وَنِصْفَ الْعُلُوِّ بِالشُّفْعَةِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ مُشْتَرَكَةٌ وَعُلُوَّهَا تَابِعُهَا. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَأْخُذُ إِلَّا السُّفْلَ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْضٌ مُشْتَرَكَةٌ فِيهَا شَجَرٌ لِأَحَدِهِمَا، فَبَاعَ صَاحِبُ الشَّجَرِ الشَّجَرَ وَنَصِيبَهُ مِنَ الْأَرْضِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: كَوْنُهُ مُنْقَسِمًا، فَالْعَقَارُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، لَا شُفْعَةَ فِيهِ

عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ الْجَدِيدُ. وَقِيلَ: تَثْبُتُ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَاهُ، قَوْلًا قَدِيمًا. وَالْمُرَادُ بِالْمُنْقَسِمِ: مَا يُجْبَرُ الشَّرِيكُ عَلَى قِسْمَتِهِ إِذَا طَلَبَ شَرِيكُهُ الْقِسْمَةَ. وَفِي ضَبْطِهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ الَّذِي لَا تُنْقِصُ الْقِسْمَةُ قِيمَتَهُ نَقْصًا فَاحِشًا، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الدَّارِ مِائَةً، وَلَوْ قُسِمَتْ عَادَتْ قِيمَةُ كُلِّ نِصْفٍ ثَلَاثِينَ، لَمْ تُقْسَمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِوَجْهٍ مَا. أَمَّا مَا لَا يَبْقَى فِيهِ نَفْعٌ بِحَالٍ، فَلَا يُقْسَمُ. وَأَصَحُّهُمَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ الَّذِي إِذَا قُسِمَ أَمْكَنَ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِمْكَانِ نَفْعٍ آخَرَ. إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَاحُونَةٌ أَوْ حَمَّامٌ، أَوْ بِئْرٌ أَوْ نَهَرٌ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ كَبِيرًا بِحَيْثُ يُمْكِنُ جَعْلُ الطَّاحُونَةِ ثِنْتَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حَجَرَانِ، وَالْحَمَّامِ حَمَّامَيْنِ، أَوْ كُلِّ بَيْتٍ مِنْهُ بَيْتَيْنِ، وَالْبِئْرُ وَاسِعَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُبْنَى فِيهَا فَيُجْعَلَ بِئْرَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بَيَاضٌ يَقِفُ فِيهِ الْمُسْتَقِي وَيُلْقِي فِيهِ مَا يُخْرِجُ مِنْهَا، ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِيهَا. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، فَلَا شُفْعَةَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ، لَا يَخْفَى الْحُكْمُ. وَلَوِ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي دَارٍ صَغِيرَةٍ، لِأَحَدِهِمَا عُشْرُهَا وَلِلْآخَرِ بَاقِيهَا، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الشُّفْعَةَ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ، فَأَيُّهُمَا بَاعَ فَلِصَاحِبِهِ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ مَنَعْنَاهَا فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُشْرِ فَلَا شُفْعَةَ لِصَاحِبِهِ. وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ الْكَبِيرِ فَلِصَاحِبِهِ الشُّفْعَةُ عَلَى الْأَصَحِّ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصَحِّ: أَنَّ صَاحِبَ الْأَكْثَرِ يُجَابُ إِلَى الْقِسْمَةِ. وَلَوْ كَانَ حَوْلَ الْبِئْرِ بَيَاضٌ وَأَمْكَنَتِ الْقِسْمَةُ بِجَعْلِ الْبِئْرِ لِوَاحِدٍ وَالْبَيَاضِ لِآخَرَ لِيَزْرَعَهُ أَوْ يَسْكُنَ فِيهِ، أَوْ كَانَ مَوْضِعُ الْحَجَرِ فِي الرَّحَى وَاحِدًا، وَلَكِنْ فِيهَا بَيْتٌ يَصْلُحُ لِغَرَضٍ، وَأَمْكَنَتِ الْقِسْمَةُ بِجَعْلِ مَوْضِعِ الرَّحَى لِوَاحِدٍ وَذَلِكَ الْبَيْتِ لِآخَرَ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ وَأَنَّ هَذِهِ الْبِئْرَ مِنَ الْمُنْقَسِمَاتِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِجْبَارِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِسْمَةِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ إِمْكَانُ الِانْتِفَاعِ [بِهِ] مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ.

فَرْعٌ شَرِيكَانِ فِي مَزَارِعَ وَبِئْرٍ يُسْتَقَى مِنْهَا، بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْهُمَا، ثَبَتَ لِلْآخَرِ الشُّفْعَةُ فِيهِمَا إِنِ انْقَسَمَتِ الْبِئْرُ أَوْ أَثْبَتْنَا الشُّفْعَةَ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ، وَإِلَّا فَتَثْبُتُ فِي الْمَزْرَعَةِ قَطْعًا، وَلَا تَثْبُتُ فِي الْبِئْرِ عَلَى الْأَصَحِّ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْآخِذُ، وَهُوَ كُلُّ شَرِيكٍ فِي رَقَبَةِ الْعَقَارِ، سَوَاءٌ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، وَالْحُرُّ، وَالْمُكَاتَبُ. حَتَّى لَوْ كَانَ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ شَرِيكَيْنِ فِي دَارٍ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا الشُّفْعَةُ عَلَى الْآخَرِ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ، مُلَاصِقًا كَانَ أَوْ مُقَابِلًا. وَفِي وَجْهٍ: لِلْمُلَاصِقِ الشُّفْعَةُ، وَكَذَا لِلْمُقَابِلِ إِذَا لَمْ يَنْفُذْ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: الْأَوَّلُ. وَإِذَا قَضَى الْحَنَفِيُّ لِشَافِعِيٍّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الْحِلِّ بَاطِنًا خِلَافٌ، مَوْضِعُهُ كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ. قُلْتُ: وَلَا يَقْتَضِي قَضَاءُ الْحَنَفِيِّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الدَّارُ إِنْ كَانَ بَابُهَا مَفْتُوحًا إِلَى دَرْبٍ نَافِذٍ، وَلَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ فِيهَا، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا وَلَا فِي مَمَرِّهَا، لِأَنَّ هَذَا الدَّرْبَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ. وَإِنْ كَانَ بَابُهَا إِلَى دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ، فَالدَّرْبُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ سُكَّانِهِ. فَإِنْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنَ الْمَمَرِّ فَقَطْ، فَلِلشُّرَكَاءِ الشُّفْعَةُ فِيهِ إِنْ كَانَ مُنْقَسِمًا كَمَا سَبَقَ، وَإِلَّا فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَإِنْ بَاعَ الدَّارَ بِمَمَرِّهَا، فَلَا شُفْعَةَ لِشُرَكَاءِ الْمَمَرِّ فِي الدَّارِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَإِنْ أَرَادُوا أَخْذَ الْمَمَرِّ بِالشُّفْعَةِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي طَرِيقٌ آخَرُ إِلَى الدَّارِ، أَوْ أَمْكَنَهُ فَتْحُ بَابٍ آخَرَ إِلَى شَارِعٍ، فَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ إِنْ كَانَ مُنْقَسِمًا، وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ فِي غَيْرِ

الْمُنْقَسِمِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: إِنْ كَانَ فِي اتِّخَاذِ الْمَمَرِّ الْآخَرِ عُسْرٌ، أَوْ مُؤْنَةٌ لَهَا وَقْعٌ، وَكَانَتِ الشُّفْعَةُ عَلَى الْخِلَافِ، وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ آخَرُ، وَلَا أَمْكَنَ اتِّخَاذُهُ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا شُفْعَةَ لَهُمْ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: لَهُمْ [الْأَخْذُ] وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْمُضِرُّ بِنَفْسِهِ بِشِرَائِهِ هَذِهِ الدَّارَ. وَالثَّالِثُ: إِنْ مَكَّنُوا الْمُشْتَرِيَ مِنَ الْمُرُورِ فَلَهُمُ الشُّفْعَةُ، وَإِلَّا فَلَا، جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ. وَشَرِكَةُ مَالِكِي سُورِ الْخَانِ فِي صَحْنِهِ، كَشَرِكَةِ مَالِكِي الدُّورِ فِي الدَّرْبِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ، وَكَذَا الشَّرِكَةُ فِي مَسِيلِ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ، وَفِي بِئْرِ الْمَزْرَعَةِ دُونَ الْمَزْرَعَةِ، كَالشَّرِكَةِ فِي الْمَمَرِّ. فَرْعٌ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَعَلَى الذِّمِّيِّ كَثُبُوتِهَا لِلْمُسْلِمِ، فَلَوْ بَاعَ ذَمِّيٌّ شِقْصًا لِذِمِّيٍّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَتَرَافَعُوا إِلَيْنَا بَعْدَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، لَمْ نَرُدُّهُ. وَلَوْ تَرَافَعُوا قَبْلَهُ، لَمْ نَحْكُمْ بِالشُّفْعَةِ. وَلَوْ بِيعَ الشِّقْصُ، فَارْتَدَّ الشَّرِيكُ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إِنْ قُلْنَا: الرِّدَّةُ لَا تُزِيلُ الْمَالِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: تُزِيلُهُ، فَلَا شُفْعَةَ. فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعَادَ مِلْكُهُ، لَمْ تَعُدِ الشُّفْعَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَقْفِ، فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ، فَلِلْإِمَامِ أَخْذُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ. كَمَا لَوِ اشْتَرَى مَعِيبًا، أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَارْتَدَّ وَمَاتَ، فَلِلْإِمَامِ رَدُّهُ. وَلَوِ ارْتَدَّ الْمُشْتَرِي فَالشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ. فَرْعٌ دَارٌ نِصْفُهَا لِرَجُلٍ، وَنِصْفُهَا لِمَسْجِدٍ، اشْتَرَاهُ قَيِّمُ الْمَسْجِدِ لَهُ، أَوْ وُهِبَ [لَهُ] لِيُصْرَفَ فِي عِمَارَتِهِ، فَبَاعَ الرَّجُلُ نَصِيبَهُ، كَانَ لِلْقَيِّمِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ إِنْ رَأَى فِيهِ

مَصْلَحَةً، كَمَا لَوْ كَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ شَرِكَةٌ فِي دَارٍ، فَبَاعَ الشَّرِيكُ نَصِيبَهُ، فَلِلْإِمَامِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الدَّارِ وَقْفًا، وَنِصْفُهَا طِلْقًا، فَبَاعَ الْمَالِكُ نَصِيبَهُ، فَلَا شُفْعَةَ لِمُسْتَحِقِّ الْوَقْفِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا شُفْعَةَ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ فَقَطْ بِوَصِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا. فَرْعٌ الْمَأْذُونُ لَهُ بِالتِّجَارَةِ، إِذَا اشْتَرَى شِقْصًا، ثُمَّ بَاعَ الشَّرِيكُ نَصِيبَهُ، فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، إِلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ السَّيِّدُ أَوْ يُسْقِطَ الشُّفْعَةَ. وَلَهُ الْإِسْقَاطُ وَإِنْ أَحَاطَتْ بِهِ الدُّيُونُ وَكَانَ فِي الْأَخْذِ غِبْطَةٌ، كَمَا لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الِاعْتِيَاضِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَخْذَهُ بِنَفْسِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ. فَرْعٌ لَا يَخْفَى أَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي مُبَاشَرَةِ الْأَخْذِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَنْ يَقَعُ الْأَخْذُ لَهُ، بِدَلِيلِ الْوَكِيلِ وَالْوَلِيِّ، وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، فَإِنَّ لَهُمُ الْأَخْذَ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَأْخُوذُ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ. وَفِي ضَبْطِهِ قُيُودٌ. الْأَوَّلُ: كَوْنُ مِلْكِهِ طَارِئًا عَلَى مِلْكِ الْأَخْذِ. فَإِذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ دَارًا مَعًا، أَوْ شِقْصًا مِنْ دَارٍ، فَلَا شُفْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي وَقْتِ حُصُولِ الْمِلْكِ. الثَّانِي: كَوْنُهُ لَازِمًا. فَإِنْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا، أَوْ لِلْبَائِعِ، فَلَا شُفْعَةَ مَا دَامَ الْخِيَارُ بَاقِيًا. وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ فِي الْحَالِ عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، أَوْ مَوْقُوفٌ، لَمْ يَأْخُذْ فِي الْحَالِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ قُلْنَا يَأْخُذُ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ قَبْلَ أَخْذِهِ، وَانْقَطَعَ الْخِيَارُ.

فصل

فَرْعٌ بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ بَاعَ الثَّانِي نَصِيبَهُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ بَيْعَ بَتَاتٍ، فَلَا شُفْعَةَ فِي الْمَبِيعِ أَوَّلًا لِلْبَائِعِ الثَّانِي إِذْ زَالَ مِلْكُهُ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ، وَإِنْ تَقَدَّمَ مِلْكُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ إِذَا قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، لِأَنَّ سَبَبَ الشُّفْعَةِ الْبَيْعُ، وَهُوَ سَابِقٌ عَلَى مِلْكِهِ. وَأَمَّا الشُّفْعَةُ فِي الْمَبِيعِ ثَانِيًا، فَمَوْقُوفَةٌ إِنْ تَوَقَّفْنَا فِي الْمِلْكِ، وَلِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ إِنْ أَبْقَيْنَا الْمِلْكَ لَهُ، وَلِلْمُشْتَرِي مِنْهُ إِنْ أَثْبَتْنَا الْمَلِكَ لَهُ. وَعَلَى هَذَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالشُّفْعَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، إِنْ قُلْنَا: الْفَسْخُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَرْفَعُهُ مِنْ حِينِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ مِلْكَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالشُّفْعَةِ. وَإِنْ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ، فَالْحُكْمُ فِي الشُّفْعَةِ كَالْحُكْمِ فِي الزَّوَائِدِ الْحَادِثَةِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ. فَصْلٌ إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالشِّقْصِ عَيْبًا قَدِيمًا، وَأَرَادَ رَدَّهُ، وَجَاءَ الشَّفِيعُ يُرِيدُ أَخْذَهُ، وَيَرْضَى بِكَوْنِهِ مَعِيبًا، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الشَّفِيعَ أَوْلَى بِالْإِجَابَةِ، لِأَنَّ حَقَّهُ سَابِقٌ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ غَرَضَ الْمُشْتَرِي اسْتِدْرَاكُ الظُّلَامَةِ وَتَحْصِيلُ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ. وَلِأَنَّا لَوْ قَدَّمْنَا الْمُشْتَرِيَ بَطَلَ حَقُّ الشَّفِيعِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَإِذَا قَدَّمْنَا الشَّفِيعَ، حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي مِثْلُ الثَّمَنِ أَوْ قِيمَتُهُ. وَالثَّانِي: الْمُشْتَرِي أَوْلَى، لِأَنَّ الشَّفِيعَ إِنَّمَا يَأْخُذُ إِذَا اسْتَقَرَّ الْعَقْدُ. وَلَوْ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ قَبْلَ مُطَالَبَةِ الشَّفِيعِ ثُمَّ طَلَبَ الشَّفِيعُ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمُشْتَرِي أَوْلَى عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، فَلَا يُجَابُ، وَإِلَّا فَيُجَابُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُفْسَخُ

فصل

الرَّدُّ. أَوْ نَقُولُ: تَبَيَّنَّا أَنَّ الرَّدَّ كَانَ بَاطِلًا، وَالْخِلَافُ - فِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْلَى أَوِ الشَّفِيعَ - جَارٍ فِيمَا لَوِ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَبْدٍ، ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّهُ وَاسْتِرْدَادَ الشِّقْصِ، وَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ. وَحَكَى الْبَغَوِيُّ جَرَيَانَهُ فِيمَا لَوِ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَبْدٍ وَقَبَضَ الشِّقْصَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ، فَتَلِفَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ، فَفِي وَجْهٍ: تَبْطُلُ شُفْعَةُ الشَّفِيعِ. وَفِي وَجْهٍ: يُتَمَكَّنُ مِنَ الْأَخْذِ. وَقَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا فَتَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَالشُّفْعَةُ. فَصْلٌ أَصْدَقَهَا شِقْصًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوِ ارْتَدَّ، وَجَاءَ الشَّفِيعُ يُرِيدُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَلَهُ أَخْذُ نِصْفِهِ، وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ، فَهَلِ الزَّوْجُ أَوْلَى بِهِ أَمِ الشَّفِيعُ؟ وَجْهَانِ. وَكَذَا إِذَا اشْتَرَى شِقْصًا وَأَفْلَسَ بِالثَّمَنِ، فَأَرَادَ الْبَائِعُ الْفَسْخَ وَالشَّفِيعُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ، فِيهِ الْوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: فِيهِمَا الشَّفِيعُ أَوْلَى، لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ. وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: الشَّفِيعُ فِي الْأُولَى أَوْلَى، وَالْبَائِعُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْلَى. فَإِذَا قَدَّمْنَا الشَّفِيعَ فِي صُورَةِ الْإِفْلَاسِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّ الثَّمَنَ الْمَأْخُوذَ مِنَ الشَّفِيعِ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ إِذَا انْتَقَلَ إِلَى الذِّمَّةِ صَارَ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْبَائِعُ سَلَّمَ الشِّقْصَ ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ أَوْلَى بِالثَّمَنِ، لِرِضَاهُ بِذِمَّتِهِ. وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ، فَهُوَ أَوْلَى بِالثَّمَنِ. وَالْخِلَافُ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ جَارٍ فِيمَا إِذَا أَعَادَ كُلَّهُ إِلَى الزَّوْجِ بِرِدَّتِهَا أَوْ فَسْخٍ قَبْلَ الدُّخُولِ. هَذَا إِذَا اجْتَمَعَ الشَّفِيعُ وَالزَّوْجُ أَوِ الْبَائِعُ، أَمَّا إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ مِنْ يَدِ الزَّوْجَةِ ثُمَّ طَلَّقَ الزَّوْجُ، أَوْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَفْلَسَ، فَلَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ وَالْبَائِعِ إِلَى الشِّقْصِ بِحَالٍ،

لَكِنْ يَنْتَقِلُ حَقُّ الْبَائِعِ إِلَى الثَّمَنِ وَحَقُّ الزَّوْجِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي مَالِهَا، كَمَا لَوْ زَالَ الْمِلْكُ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ عِلْمِ الشَّفِيعِ وَأَخَذَ النِّصْفَ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ، فَفِي اسْتِرْدَادِهِ مَا أَخَذَهُ الزَّوْجُ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ جَاءَ بَعْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَقِيلَ: لَا يَسْتَرِدُّ قَطْعًا، لِأَنَّ الْمَهْرَ يَتَشَطَّرُ بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَيَبْعُدُ نَقْضُهُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَسْتَرِدُّهُ أَخَذَهُ وَمَا بَقِيَ فِي يَدِهَا، وَإِلَّا فَيَأْخُذُ مَا فِي يَدِهَا وَيَدْفَعُ إِلَيْهَا نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَلَوْ كَانَ لِلشِّقْصِ الْمَمْهُورِ شَفِيعَانِ، فَطَلَبَا، وَأَخَذَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرُ، فَلَا يَأْخُذُ الزَّوْجُ النِّصْفَ الْحَاصِلَ فِي يَدِ الشَّفِيعِ. وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَهَلْ هُوَ أَوْلَى أَمِ الشَّفِيعُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَيَجْرِي فِيمَا إِذَا أَخَذَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَفْلَسَ. فَإِنْ قُلْنَا: الشَّفِيعُ أَوْلَى، ضَارَبَ الْبَائِعُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْبَائِعُ أَوْلَى، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ وَضَارَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِلَّا فَيَتْرُكُهُ وَيُضَارِبُ بِكُلِّ الثَّمَنِ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمْلِكَهُ بِمُعَاوَضَةٍ. فَإِنْ مَلَكَ بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَلَا شُفْعَةَ. فَإِنْ وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ أَوْ مُطْلَقًا، وَقُلْنَا: تَقْتَضِي الثَّوَابَ، تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ عَلَى الْأَصَحِّ لِلْمُعَاوَضَةِ. وَقِيلَ: لَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً. فَعَلَى الْأَصَحِّ، هَلْ يَأْخُذُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لِأَنَّهُ صَارَ بَيْعًا أَمْ لَا، لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. فَرْعٌ اشْتَرَى شِقْصًا ثُمَّ تَقَايَلَا، فَإِنْ عَفَا الشَّفِيعُ، وَقُلْنَا: الْإِقَالَةُ بَيْعٌ، تَجَدَّدَتِ الشُّفْعَةُ، وَأَخَذَهُ مِنَ الْبَائِعِ. وَإِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ، لَمْ تَتَجَدَّدْ كَمَا لَا تَتَجَدَّدُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَإِنْ قَالَهُ قَبْلَ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْإِقَالَةُ بَيْعٌ، فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ

يَأْخُذَ بِهَا وَبَيْنَ أَنْ يَنْقُضَهَا حَتَّى يَعُودَ الشِّقْصُ إِلَى الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَ مِنْهُ. وَإِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ، فَهُوَ كَطَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. فَرْعٌ إِذَا جَعَلَ الشِّقْصَ أُجْرَةً أَوْ جَعْلًا أَوْ رَأْسَ مَالٍ. [فِي] سَلَمٍ صَدَاقًا أَوْ مُتْعَةً، أَوْ عَوِضَ خُلْعٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ جَعَلَهُ الْمُكَاتَبُ عِوَضًا عَنِ النُّجُومِ ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَلَوْ أَقْرَضَهُ شِقْصًا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: الْقَرْضُ صَحِيحٌ، وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ إِذَا مَلَكَهُ الْمُسْتَقْرِضُ. وَإِنَّمَا ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِي الْجَعْلِ بَعْدَ الْعَمَلِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِذَا [كَانَ] مَا يُقَابِلُ الشِّقْصَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِالسَّلَمِ وَلَا بِالْقَرْضِ فَلَا شُفْعَةَ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ بَذَلَ شِقْصًا عَنْ بَعْضِ النُّجُومِ، ثُمَّ عَجَزَ وَرَقَّ، فَهَلْ تَبْقَى الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ كَانَ عِوَضًا أَمْ تَبْطُلُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعِوَضِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَرْعٌ قَالَ الْمَوْلَى لِمُسْتَوْلِدَتِهِ: إِنْ خَدَمْتِ أَوْلَادِي شَهْرًا، فَلَكِ هَذَا الشِّقْصُ، فَخَدَمَتْهُمْ، اسْتَحَقَّتْهُ. وَهَلْ تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ كَالْأُجْرَةِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ مِنَ الثُّلُثِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي.

فصل

فَصْلٌ إِذَا بَاعَ الْوَصِيُّ أَوِ الْقَيِّمُ شِقْصَ الصَّبِيِّ وَهُوَ شَرِيكُهُ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْهُ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يُسَامِحَ فِي الثَّمَنِ، وَلِهَذَا لَا يَبِيعُهُ مَالَ نَفْسِهِ. وَلَوِ اشْتَرَى شِقْصًا لِلطِّفْلِ وَهُوَ شَرِيكٌ فِي الْعَقَارِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، إِذْ لَا تُهْمَةَ. وَقِيلَ: لَا، لِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ وَالْأَخْذِ تَعْلِيقَ عُهْدَةِ الصَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ لَهُ، وَلِلْأَبِ وَالْجَدِّ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ إِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ، سَوَاءٌ بَاعَا أَوِ اشْتَرَيَا لِقُوَّةِ وِلَايَتِهِمَا وَشُفْعَتِهِمَا، كَمَا [لَهُ] بَيْعُ مَالِهِ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي حِجْرِ الْوَصِيِّ يَتِيمَانِ بَيْنَهُمَا دَارٌ، فَبَاعَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا لِرَجُلٍ، فَلَهُ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ لِلْآخَرِ. فَرْعٌ وَكَّلَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ صَاحِبَهُ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِ، فَبَاعَهُ، فَلِلْوَكِيلِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ وَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ نَاظِرٌ لِنَفْسِهِ يَعْتَرِضُ عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ قَصَّرَ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي شِرَاءِ الشِّقْصِ، فَلِلْوَكِيلِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ وَكَّلَ الشَّرِيكُ الشَّرِيكَ فِي بَيْعِ نِصْفِ نَصِيبِهِ [وَأَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِ، أَوْ بَعْضِ نَصِيبِهِ مَعَ نَصِيبِ الْمُوَكِّلِ إِنْ شَاءَ، فَبَاعَ نِصْفَ نَصِيبِ الْمُوَكِّلِ مَعَ نَصِيبِهِ] صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَلِلْمُوَكِّلِ أَخْذُ نَصِيبِ الْوَكِيلِ بِالشُّفْعَةِ. وَهَلْ لِلْوَكِيلِ أَخْذُ نَصِيبِ الْمُوَكِّلِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ شَرِكَةٌ قَدِيمَةٌ، بِأَنْ كَانَتْ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ أَثْلَاثًا، فَبَاعَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ لِأَحَدِ صَاحِبَيْهِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَالشَّرِيكَ الْآخَرَ يَشْتَرِكَانِ فِي أَخْذِ الشِّقْصِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الشَّرِكَةِ. وَقِيلَ: الشَّرِيكُ الثَّالِثُ يَخْتَصُّ بِالشُّفْعَةِ، فَعَلَى هَذَا

فصل

إِنْ شَاءَ أَخَذَ جَمِيعَ الشِّقْصِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ. وَعَلَى الْأَصَحِّ: إِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الشِّقْصِ أَوْ تَرَكَهُ. فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: خُذِ الْكُلَّ، أَوِ اتْرُكِ الْكُلَّ، وَقَدْ تَرَكْتُ أَنَا حَقِّي، لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ، وَلَمْ يَصِحَّ إِسْقَاطُ الْمُشْتَرِي حَقَّهُ مِنَ الشُّفْعَةِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ اسْتَقَرَّ عَلَى النِّصْفِ بِالشِّرَاءِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ لِلشِّقْصِ شَفِيعَانِ: حَاضِرٌ، وَغَائِبٌ، فَأَخَذَ الْحَاضِرُ الْجَمِيعَ، فَحَضَرَ الْغَائِبُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ، وَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَقُولَ: اتْرُكِ الْجَمِيعَ أَوْ خُذِ الْجَمِيعَ فَقَدْ تَرَكْتُ حَقِّي، وَلَا نَظَرَ إِلَى تَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَزِمَ مِنْ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمُشْتَرِي حَقَّهُ، لَزِمَ الْآخَرَ أَخْذُ الْكُلِّ أَوْ تَرْكُهُ، كَمَا لَوْ عَفَا أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَارٌ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ نَصِيبِهِ لِثَالِثٍ، ثُمَّ بَاعَ النِّصْفَ الثَّانِيَ لِذَلِكَ الثَّالِثِ، فَعَلَى الْأَصَحِّ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ بَاعَ النِّصْفَ الثَّانِيَ لِأَجْنَبِيٍّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ تَعَالَى. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ: لَا شُفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي، وَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَأْخُذَ أَحَدَ النِّصْفَيْنِ فَقَطْ. فَصْلٌ إِذَا بَاعَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ شِقْصًا، وَحَابَى، فَقَدْ يَكُونُ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي أَجْنَبِيَّيْنِ، أَوْ وَارِثَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي وَارِثًا فَقَطْ، أَوْ عَكْسُهُ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ. الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ، فَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ الْمُحَابَاةَ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَأَخَذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ. وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ، بِأَنْ بَاعَ شِقْصًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ بِأَلْفٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، نُظِرَ، إِنْ رَدَّهُ الْوَارِثُ، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ. وَفِي صِحَّتِهِ فِي الْبَاقِي طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: فِيهِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، فَفِيمَا يَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ؟ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يُوَازِي الثَّمَنَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَالثَّانِي: لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنَ الْمَبِيعِ إِلَّا وَيَسْقُطُ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ

الثَّمَنِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْأَظْهَرِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي بَابِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الشِّقْصِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، دَارَتِ الْمَسْأَلَةُ. وَحِسَابُهَا أَنْ يُقَالَ: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي شَيْءٍ مِنَ الشِّقْصِ بِنِصْفِ شَيْءٍ، يَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ أَلْفَانِ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ مِثْلَيِ الْمُحَابَاةِ، وَهِيَ نِصْفُ شَيْءٍ، فَمِثْلَاهَا شَيْءٌ، فَنَجْبِرُ وَنُقَابِلُ، فَيَكُونُ أَلْفَانِ مُعَادِلَيْنِ لِشَيْءٍ وَنِصْفٍ، وَالشَّيْءُ مِنْ شَيْءٍ وَنِصْفٍ ثُلُثَاهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبَيْعَ صَحَّ فِي ثُلُثَيِ الشِّقْصِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ بِثُلُثَيِ الثَّمَنِ، وَهُوَ نِصْفُ هَذَا الْمَبْلَغِ، فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثُلُثُ الشِّقْصِ وَثُلُثَا الثَّمَنِ، وَهُمَا أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَذَلِكَ ضِعْفٌ وَثَلَاثَةُ الْمُحَابَاةِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَبِيعِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ. فَإِنْ أَجَازَ أَخَذَ الشَّفِيعُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الشِّقْصِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَثُلُثَيْهِ بِثُلُثِ الثَّمَنِ عَلَى الثَّانِي. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ، وَطَلَبَ الشَّفِيعُ، فَأَيُّهُمَا يُجَابُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا لَوْ فَسَخَ قَبْلَ طَلَبِ الشَّفِيعِ، هَلْ تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ، أَمْ لِلشَّفِيعِ رَدُّ الْفَسْخِ؟ فِيهِ مَا سَبَقَ مِنَ الْخِلَافِ. وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ. ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ إِجَازَتَهُمْ تَنْفِيذٌ لِمَا فَعَلَ الْمَيِّتُ أَخَذَ الشَّفِيعُ الْكُلَّ بِكُلِّ الثَّمَنِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ، لَمْ يَأْخُذِ الْقَدْرَ الْمُنْفَذَ بِإِجَازَتِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُسْتَغْنِيَ عَنْ إِجَازَتِهِمْ، وَفِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَذْكُورَانِ عِنْدَ الرَّدِّ. الضَّرْبُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ:: أَنْ يَكُونَا وَارِثَيْنِ، أَوِ الْمُشْتَرِي وَارِثًا، فَيَكُونُ هَذَا الْبَيْعُ مُحَابَاةً مَعَ الْوَارِثِ، وَهِيَ مَرْدُودَةٌ. فَإِنْ لَمْ نُفَرِّقِ الصَّفْقَةَ، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ فَرَّقْنَاهَا، فَإِنْ قُلْنَا فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ - وَالتَّصْوِيرُ كَمَا سَبَقَ -: إِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِي

فصل

خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الشِّقْصِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَهُنَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الصُّورَةِ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نِصْفِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ قُلْنَا هُنَاكَ: يَصِحُّ فِي ثُلُثَيْهِ بِثُلُثَيِ الثَّمَنِ، فَهُنَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ، كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ وَارِثًا دُونَ الْمُشْتَرِي. فَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ الْمُحَابَاةَ، أَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ، وَصَحَّحْنَا الْبَيْعَ فِي بَعْضِ الْمُحَابَاةِ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَمَكَّنَّا الشَّفِيعَ مِنْ أَخْذِهِ، فَهُنَا أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَأْخُذُهُ الْوَارِثُ بِالشُّفْعَةِ، لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ مَعَ الْمُشْتَرِي لَا مَعَ الْوَارِثِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَلَا يَأْخُذُهُ الْوَارِثُ بِالشُّفْعَةِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ أَصْلًا لِتَنَاقُضِ الْأَحْكَامِ. وَالرَّابِعُ: يَصِحُّ فِي الْجَمِيعِ وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ مَا يُقَابِلُ الثَّمَنَ، وَيَبْقَى الْبَاقِي لِلْمُشْتَرِي مَجَّانًا. وَالْخَامِسُ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِلَّا فِي الْقَدْرِ الْمُقَابِلِ لِلثَّمَنِ. فَصْلٌ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ تَقَدُّمَ مِلْكِ الْآخِذِ عَلَى مِلْكِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ شَرْطٌ. فَلَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ دَارٌ اشْتَرَيَاهَا بِعَقْدَيْنِ، وَادَّعَى كُلٌّ أَنَّ شِرَاءَهُ سَبَقَ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَى صَاحِبِهِ الشُّفْعَةَ، نُظِرَ، إِنِ ابْتَدَأَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى، أَوْ جَاءَا مَعًا وَتَنَازَعَا فِي الْبَدَاءَةِ، فَقُدِّمَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ فَادَّعَى، فَعَلَى الْآخَرِ الْجَوَابُ، وَلَا يَكْفِيهِ قَوْلُهُ: شِرَائِي قَبْلُ، لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ دَعْوَى، بَلْ إِمَّا أَنْ يَنْفِيَ سَبْقَ شِرَاءِ الْمُدَّعِي، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ، وَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ، فَإِنْ حَلَفَ، اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ ثُمَّ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ حَلَفَ، اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ أَيْضًا. وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوَّلًا وَرُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ، أَخَذَ مَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ

النَّاكِلِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ مِلْكٌ يَأْخُذُ بِهِ. وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي عَنِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودِ، سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ. هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ. أَمَّا إِذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً بِالسَّبْقِ، فَيُقْضَى لَهُ. وَإِنْ أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى يَوْمَ السَّبْتِ وَصَاحِبُهُ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَمُتَعَارِضَتَانِ، وَفِي تَعَارُضِهِمَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: سُقُوطُهُمَا، فَكَأَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ. وَالثَّانِي: تُسْتَعْمَلَانِ. وَفِي كَيْفِيَّتِهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: بِالْقُرْعَةِ. فَمَنْ قَرَعَ، أَخَذَ نَصِيبَ الْآخَرِ بِالشُّفْعَةِ. وَالثَّانِي: بِالْقِسْمَةِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا هُنَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاوُتِ، فَيَكُونُ التَّصْنِيفُ مُقَيَّدًا. وَالثَّالِثُ الْوَقْفُ. وَعَلَى هَذَا يُوقَفُ حَقُّ التَّمَلُّكِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ الْحَالُ. وَقِيلَ: لَا مَعْنَى لِلْوَقْفِ هُنَا. وَلَوْ عَيَّنَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا وَاحِدًا فَلَا مُنَافَاةَ، لِاحْتِمَالِ وُقُوعِ الْعَقْدَيْنِ مَعًا، وَلَا شُفْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِوُقُوعِ الْعَقْدَيْنِ مَعًا. وَفِي وَجْهٍ: تَسْقُطَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فِيهِ أَطْرَافٌ. الْأَوَّلُ: فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ، لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَلَا إِحْضَارُ الثَّمَنِ، وَلَا حُضُورُ الْمُشْتَرِي، وَلَا رِضَاهُ. وَقَالَ الصُّعْلُوكِيُّ: حُضُورُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَوْ وَكِيلِهِ شَرْطٌ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ مِنْ لَفْظٍ، كَقَوْلِهِ: تَمَلَّكْتُ، أَوِ اخْتَرْتُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ أَخَذْتُهُ بِالشُّفْعَةِ، وَمَا أَشْبَهَهُ. وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَاطَاةِ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا مُطَالِبٌ بِالشُّفْعَةِ، لَمْ يَحْصُلْ بِهِ التَّمَلُّكُ

عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. وَلِذَلِكَ قَالُوا: يُعْتَبَرُ فِي التَّمَلُّكِ بِهَا، أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا لِلشَّفِيعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ فِي الطَّلَبِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي صِحَّةِ التَّمَلُّكِ مَعَ جَهَالَةِ الثَّمَنِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ. وَفِي " التَّتِمَّةِ " إِشَارَةٌ إِلَى نَحْوِهِ، ثُمَّ لَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، بَلْ يُعْتَبَرُ مَعَهُ أَحَدُ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ إِلَى الْمُشْتَرِي فَيَمْلِكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ وَإِلَّا فَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَوْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يُلْزِمَهُ التَّسْلِيمَ. قُلْتُ: أَوْ يَقْبِضَ عَنْهُ الْقَاضِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي: أَنْ يُسَلِّمَ الْمُشْتَرِيَ الشِّقْصَ وَيَرْضَى بِكَوْنِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ، إِلَّا أَنْ يَبِيعَ شِقْصًا مَنْ دَارٍ عَلَيْهَا صَفَائِحُ ذَهَبٍ بِالْفِضَّةِ، أَوْ عَكْسُهُ، فَيَجِبُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ. وَلَوْ رَضِيَ بِكَوْنِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمِ الشِّقْصَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُشْتَرِي وَعْدٌ. وَأَصَحُّهُمَا: الْحُصُولُ، لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، وَالْمِلْكُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَاضِي وَيُثْبِتَ حَقَّهُ بِالشُّفْعَةِ، وَيَخْتَارَ التَّمَلُّكَ فَيَقْضِيَ الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ حَتَّى يَقْبِضَ عِوَضَهُ، أَوْ يَرْضَى بِتَأَخُّرِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْحُصُولُ. الرَّابِعُ: أَنْ يُشْهِدَ عَدْلَيْنِ عَلَى الطَّلَبِ وَاخْتِيَارِ الشُّفْعَةِ. فَإِنْ لَمْ نُثْبِتِ الْمِلْكَ بِحُكْمِ الْقَاضِي، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ لِقُوَّةِ قَضَاءِ الْقَاضِي. وَإِذَا مَلَكَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَسَلَّمَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ، وَأَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَخِّرَ حَقَّهُ بِتَأْخِيرِ الْبَائِعِ حَقَّهُ. وَإِذَا لَمْ

يَكُنِ الثَّمَنُ حَاضِرًا وَقْتَ التَّمَلُّكِ، أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنِ انْقَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ، فَسَخَ الْحَاكِمُ تَمَلُّكَهُ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: إِذَا قَصَّرَ فِي الْأَدَاءِ، بَطَلَ حَقُّهُ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ وَفُسِخَ مِنْهُ. فَرْعٌ يَثْبُتُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِلشَّفِيعِ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَدُّ إِلَى مُفَارَقَتِهِ الْمَجْلِسَ. وَهَلْ يَنْقَطِعُ بِأَنْ يُفَارِقَهُ الْمُشْتَرِي؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الَّذِي صَحَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلشَّفِيعِ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ صَاحِبُ " التَّنْبِيهِ "، وَالْفَارِقِيُّ، وَالرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ، وَقَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيُّ فِي كِتَابَيْهِ " التَّهْذِيبِ " وَشَرْحِ " مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ الرَّاجِحُ أَيْضًا فِي الدَّلِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا مَلَكَ الشَّفِيعُ، امْتَنَعَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ طَلَبَهُ وَلَمْ يُثْبِتِ الْمِلْكَ بَعْدُ، لَمْ يَمْتَنِعْ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، لِتَأَكُّدِ حَقِّهِ بَالِطَّلَبِ. وَفِي نُفُوذِ تَصَرُّفِ الشَّفِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا كَانَ قَدْ سَلَّمَ الثَّمَنَ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ كَالْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ قَهْرِيٌّ كَالْإِرْثِ. وَلَوْ مَلَكَ بِالْإِشْهَادِ أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ قَطْعًا، وَكَذَا لَوْ مَلَكَ بِرِضَى الْمُشْتَرِي بِكَوْنِ الثَّمَنِ عِنْدَهُ. فَرْعٌ فِي تَمَلُّكِ الشَّفِيعِ الشِّقْصَ الَّذِي لَمْ يَرَهُ، طَرِيقَانِ.

أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْ بَيْعِ الْغَائِبِ، إِنْ مَنَعْنَاهُ، لَمْ يَتَمَلَّكْهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي مَنْعُهُ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَإِنْ صَحَّحْنَاهُ فَلَهُ التَّمَلُّكُ. ثُمَّ قِيلَ: خِيَارُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَقِيلَ: يَثْبُتُ قَطْعًا، لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ وَإِنْ صَحَّحْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ جَرَى بِالتَّرَاضِي، فَأَثْبَتْنَا الْخِيَارَ فِيهِ، وَهَاهُنَا الشَّفِيعُ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُشْتَرِي، فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ فِيهِ. فَلَوْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ الشَّفِيعُ وَيَكُونُ بِالْخِيَارِ، فَعَلَى قَوْلِ الْغَائِبِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُ التَّمَلُّكَ وَأَثْبَتْنَا الْخِيَارَ، فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبْضِ الثَّمَنِ وَإِقْبَاضِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَرَاهُ، لِيَكُونَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهُ. فَرْعٌ لِلشَّفِيعِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ. وَلَوْ أَفْلَسَ وَكَانَ الْمُشْتَرِي سَلَّمَ إِلَيْهِ الشِّقْصَ رَاضِيًا بِذِمَّتِهِ، فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ الشَّفِيعُ، الْمَأْخُوذُ أَنْوَاعٌ. أَحَدُهَا: الْمَبِيعُ. فَإِنْ بِيعَ بِمِثْلِيٍّ أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ. ثُمَّ إِنْ قُدِّرَ بِمِيعَادِ الشَّرْعِ أَخَذَهُ بِهِ، وَإِنْ قُدِّرَ بِغَيْرِهِ، بِأَنْ بَاعَ بِمِائَةِ رِطْلِ حِنْطَةٍ، فَهَلْ يَأْخُذُهُ بِمِثْلِهِ وَزْنًا أَوْ كَيْلًا؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْقَرْضِ. فَلَوْ كَانَ الْمِثْلُ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْأَخْذِ، عُدِلَ

فصل

إِلَى الْقِيمَةِ كَالْغَصْبِ. وَإِنْ بِيعَ بِمُتَقَوَّمٍ مِنْ عَبْدٍ وَثَوْبٍ وَنَحْوِهِمَا أَخَذَهُ بِقِيمَةِ ذَلِكَ الْمُتَقَوَّمِ. وَالِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ يَوْمِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ يَوْمُ إِثْبَاتِ الْعِوَضِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْبَغَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ: يُعْتَبَرُ يَوْمَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ وَانْقِطَاعِ الْخِيَارِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشِّقْصُ رَأْسَ مَالِ سَلَمٍ أَخَذَهُ بِمِثْلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ بِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مُتَقَوَّمًا. الثَّالِثُ: إِذَا صَالَحَ مِنْ دَيْنٍ عَلَى شِقْصٍ، أَخَذَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدَّيْنِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ بِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مُتَقَوَّمًا. وَسَوَاءٌ دَيْنُ الْمُعَامَلَةِ وَدَيْنُ الْإِتْلَافِ. الرَّابِعُ: الشِّقْصُ الْمَمْهُورُ، يُؤْخَذُ بِمَهْرِ مِثْلِ الْمَرْأَةِ. وَكَذَا إِذَا خَالَعَهَا عَلَى شِقْصٍ. وَالِاعْتِبَارُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا يَوْمَ النِّكَاحِ وَيَوْمَ الْخُلْعِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَفِي التَّتِمَّةِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ. وَلَوْ مَتَّعَ الْمُطَلَّقَةَ بِشِقْصٍ، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمُتْعَةِ مِثْلِهَا، لَا بِالْمَهْرِ. الْخَامِسُ: إِذَا أَخَذَ مِنَ الْمُكَاتَبِ شِقْصًا عِوَضًا عَنِ النُّجُومِ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمِثْلِ النُّجُومِ أَوْ بِقِيمَتِهَا. السَّادِسُ: الشِّقْصُ الَّذِي جُعِلَ أُجْرَةً يُؤْخَذُ بِأُجْرَةِ مِثْلِ الدَّارِ. السَّابِعُ: إِذَا صَالَحَ عَلَيْهِ عَنِ الدَّمِ، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الدِّيَةِ يَوْمَ الْجِنَايَةِ، وَيَعُودُ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْبَغَوِيِّ. الثَّامِنُ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِذَا اقْتَرَضَ شِقْصًا أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ وَإِنْ قُلْنَا: الْمُقْتَرِضُ يَرُدُّ الْمِثْلِيَّ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًا، بَذَلَهُ الشَّفِيعُ فِي الْحَالِ. فَإِنْ كَانَ بِأَلْفٍ إِلَى سَنَةٍ مَثَلًا،

فصل

فَفِيهِ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا: يَتَخَيَّرُ، إِنْ شَاءَ عَجَّلَ الثَّمَنَ وَأَخَذَ الشِّقْصَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ إِلَى أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ، فَحِينَئِذٍ يَبْذُلُ الْأَلْفَ، وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلٍ. وَالثَّانِي: لَهُ الْأَخْذُ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلٍ. وَالثَّالِثُ: يَأْخُذُ بِعَرَضٍ يُسَاوِي الْأَلْفَ إِلَى سَنَةٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِالتَّأْخِيرِ، لِأَنَّهُ بِعُذْرٍ. وَهَلْ يَجِبُ إِعْلَامُ الْمُشْتَرِي بِالطَّلَبِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي وَحَلَّ عَلَيْهِ، لَمْ يَتَعَجَّلِ الْأَخْذَ عَلَى الشَّفِيعِ، بَلْ هُوَ عَلَى خِيرَتِهِ، إِنْ شَاءَ عَجَّلَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ إِلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ. وَإِنْ مَاتَ الشَّفِيعُ، فَالْخِيرَةُ لِوَارِثِهِ. وَلَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الشِّقْصَ فِي الْمُدَّةِ صَحَّ، وَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَهُ فِي الْحَالِ أَوْ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَيَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ. هَذَا إِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّ الشَّفِيعَ يَنْقُضُ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي، وَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي، فَفِي مَوْضِعِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِذَا كَانَ مَلِيئًا مَوْثُوقًا بِهِ وَأَعْطَى كَفِيلًا مَلِيئًا، وَإِلَّا فَلَا يَأْخُذُ. وَالثَّانِي: لَهُ الْأَخْذُ مُطْلَقًا. وَإِذَا أَخَذَهُ ثُمَّ مَاتَ حَلَّ عَلَيْهِ الْأَجَلُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّالِثِ، فَتَعْيِينُ الْعَرَضِ إِلَى الشَّفِيعِ، وَتَعْدِيلُ الْقِيمَةِ إِلَى مَنْ يَعْرِفُهَا. قَالَ الْإِمَامُ: فَلَوْ لَمْ يَتَّفِقْ طَلَبُ الشُّفْعَةِ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ وَجَبَ أَنْ لَا يُطَالِبَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا بِالْعَرَضِ الْمُعَدَّلِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي قِيمَةِ عِوَضِ الْمَبِيعِ بِحَالِ الْبَيْعِ، ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ إِذَا أَخَّرَ الشَّفِيعُ بَطَلَ حَقُّهُ. فَصْلٌ إِذَا اشْتَرَى مَعَ الشِّقْصِ مَنْقُولًا، كَسَيْفٍ وَثَوْبٍ، صَفْقَةً وَاحِدَةً، وُزِّعَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا عَلَى اعْتِبَارِ قِيمَتِهِمَا، وَأَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا يَوْمَ الْبَيْعِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ تَفَرَّقَتْ صَفْقَتُهُ لِدُخُولِهِ فِيهَا عَالِمًا بِالْحَالِ.

فَرْعٌ إِذَا اشْتَرَى شِقْصًا مِنْ دَارٍ ثُمَّ نُقِضَتْ، فَلَهَا أَحْوَالٌ. إِحْدَاهَا: أَنْ تَتَعَيَّبَ مِنْ غَيْرِ تَلَفِ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا انْفِصَالِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ بِأَنْ يَنْشَقَّ جِدَارٌ، أَوْ مَالَتِ أُسْطُوَانَةٌ، أَوِ انْكَسَرَ جِذْعٌ، أَوِ اضْطَرَبَ سَقْفٌ، فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْأَخْذِ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَبَيْنَ التَّرْكِ، كَتَعَيُّبِهَا فِي يَدِ الْبَائِعِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتْلَفَ بَعْضُهَا، فَيُنْظَرُ إِنْ تَلِفَ شَيْءٌ مِنَ الْعَرْصَةِ بِأَنْ غَشِيَهَا سَيْلٌ فَغَرَّقَهَا، أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَإِنْ بَقِيَتِ الْعَرْصَةُ وَتَلِفَتِ السُّقُوفُ وَالْجُدْرَانُ بِاحْتِرَاقٍ وَغَيْرِهِ، فَيُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ [السَّابِقِ] فِي كِتَابِ الْبَيْعِ: أَنَّ سَقْفَ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ وَجِدَارَهَا كَأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ الْمَبِيعَيْنِ، أَمْ كَطَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْعَبْدِ وَصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّهُ كَأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، أَخَذَ الْعَرْصَةَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ. وَإِنْ قُلْنَا: كَطَرَفِ الْعَبْدِ، أَخَذَهَا بِكُلِّ الثَّمَنِ. وَقِيلَ: إِنْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَخَذَ بِكُلِّ الثَّمَنِ. وَإِنْ تَلِفَ بِإِتْلَافِ مُتْلِفٍ أَخَذَ بِالْحِصَّةِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْصُلُ لَهُ بَدَلُ التَّالِفِ، فَلَا يَتَضَرَّرُ. الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَتْلَفَ شَيْءٌ مِنْهَا، لَكِنْ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِالِانْهِدَامِ، فَهَلْ يَأْخُذُ الشَّفِيعُ النَّقْضَ. فِيهِ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُهُ مَعَ الْعَرْصَةِ بِكُلِّ الثَّمَنِ، أَوْ يَتْرُكُهُمَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَأْخُذُهُ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ السَّقْفَ وَالْجِدَارَ كَأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، أَوْ كَطَرَفِ الْعَبْدِ. إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ أَخَذَ الْعَرْصَةَ وَمَا بَقِيَ مِنَ الْبِنَاءِ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَأْخُذُ بِالْحِصَّةِ. وَالثَّانِي وَهُوَ قِيَاسُ الْأَصْلِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ: يَأْخُذُ بِتَمَامِ الثَّمَنِ كَالْحَالَةِ الْأُولَى. وَعَلَى هَذَا يُشَبَّهُ النَّقْضُ بِالثِّمَارِ وَالزَّوَائِدِ الَّتِي يَفُوزُ بِهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا اشْتَرَى الشِّقْصَ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى حَطٍّ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ زِيَادَةٍ فِيهِ، فَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ وَقَبْلَهُ، وَفِي زَمَنِ الْخِيَارِ وَمَكَانِهِ. وَسَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ الْحَطُّ وَلَا الزِّيَادَةُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ لُزُومِهِ، لَا حَطُّ الْكُلِّ، وَلَا حَطُّ الْبَعْضِ. وَفِيمَا قَبْلَ لُزُومِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: اللُّحُوقُ. فَإِنْ قُلْنَا بِهِ، وَحَطَّ الثَّمَنَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِلَا ثَمَنٍ، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّرِيكِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ هِبَةً عَلَى رَأْيٍ، وَيَبْطُلُ عَلَى رَأْيٍ. فَصْلٌ إِذَا اشْتَرَى الشِّقْصَ بِعَبْدٍ مَثَلًا وَتَقَابَضَا، ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا، وَأَرَادَ رَدَّهُ وَاسْتِرْدَادَ الشِّقْصِ، وَطَلَبَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ، فَفِي الْمُقَدَّمِ مِنْهُمَا خِلَافٌ سَبَقَ قَرِيبًا. وَحَكَى الْإِمَامُ طَرِيقًا جَازِمًا بِتَقْدِيمِ الْبَائِعِ. وَلَوْ عَلِمَ عَيْبَ الْعَبْدِ بَعْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ الشِّقْصَ لَمْ يُنْقَضْ مِلْكُ الشَّفِيعِ، كَمَا لَوْ بَاعَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ. وَفِي قَوْلٍ: يَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الشِّقْصَ مِنَ الشَّفِيعِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَهُ، وَيُسَلِّمُ الشِّقْصَ إِلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّ الشَّفِيعَ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْمُشْتَرِي، فَرَدُّ الْبَائِعِ يَتَضَمَّنُ نَقْضَ مِلْكِهِ كَمَا يَتَضَمَّنُ نَقْضَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ. فَإِذَا قُلْنَا بِهِ، أَخَذَ الْبَائِعُ قِيمَةَ الشِّقْصِ مِنَ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَفِي رُجُوعِ مَنْ بَذَلَ الزِّيَادَةَ عَلَى صَاحِبِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا رُجُوعَ، لِأَنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَهُ بِالْمَبْذُولِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ. وَلَوْ عَادَ الشِّقْصُ إِلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِابْتِيَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَتَمَكَّنِ الْبَائِعُ مِنْ إِجْبَارِهِ عَلَى رَدِّ الشِّقْصِ، وَلَا الْمُشْتَرِي مِنْ إِجْبَارِ الْبَائِعِ عَلَى الْقَبُولِ وَرَدِّ الْقِيمَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا

غَرِمَ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ لِإِبَاقِهِ، فَرَجَعَ، لِأَنَّ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لَمْ يَزَلْ وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي قَدْ زَالَ. وَحَكَى الْمُتَوَلِّي فِيهِ وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّائِلَ الْعَائِدَ كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ، أَمْ كَالَّذِي لَمْ يَعُدْ؟ وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ وَجَدَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ بِالْعَبْدِ، وَقَدْ حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ، فَأَخَذَ الْأَرْشَ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ، نُظِرَ، إِنْ أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ سَلِيمًا، فَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَخْذَهُ بِقِيمَتِهِ مَعِيبًا، فَفِي رُجُوعِ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي التَّرَاجُعِ. لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا: الرُّجُوعُ، وَمَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ إِلَى الْقَطْعِ بِهِ، لِأَنَّ الشِّقْصَ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بِالْعَبْدِ وَالْأَرْشِ، وَوُجُوبُ الْأَرْشِ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، لِاقْتِضَائِهِ السَّلَامَةَ. وَلَوْ رَضِيَ الْبَائِعُ وَلَمْ يَرُدُّهُ، فَفِيمَا يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: قِيمَةُ الْعَبْدِ سَلِيمًا. وَالثَّانِي: قِيمَتُهُ مَعِيبًا. حَتَّى لَوْ بَذَلَ قِيمَةَ السَّلِيمِ، اسْتَرَدَّ قِسْطَ السَّلَامَةِ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَغَلَّطَ الْإِمَامُ قَائِلَهُ. فَرْعٌ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الشِّقْصِ بِالْعَيْبِ عَلَى الْبَائِعِ، وَلِلشَّفِيعِ رَدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْعُيُوبِ السَّابِقَةِ عَلَى الْبَيْعِ وَعَلَى الْأَخْذِ. ثُمَّ لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ بَعْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ، فَلَا رَدَّ فِي الْحَالِ، وَلَا أَرْشَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَا إِذَا بَاعَهُ. فَلَوْ رَدَّ عَلَيْهِ الشَّفِيعُ بِالْعَيْبِ، رَدَّهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْبَائِعِ. وَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي عَيْبَ الشِّقْصِ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ، وَمَنَعَهُ عَيْبٌ حَادِثٌ مِنَ الرَّدِّ، فَأَخَذَ أَرْشَ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، حُطَّ ذَلِكَ عَنِ الشَّفِيعِ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الرَّدِّ، لَكِنْ تَوَافُقًا عَلَى الْأَرْشِ، فَفِي صِحَّةِ هَذِهِ الْمُصَالَحَةِ وَجْهَانِ سَبَقَا. فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، فَفِي حَطِّهِ عَنِ الشَّفِيعِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْحَطُّ. وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مِنَ الْبَائِعِ.

فصل

فَصْلٌ اشْتَرَى بِكَفٍّ مِنَ الدَّرَاهِمِ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهَا أَوْ صُبْرَةَ حِنْطَةٍ لَا يَعْلَمُ كَيْلَهَا، فَيُوزَنُ وَيُكَالُ لِيَأْخُذَ الشَّفِيعُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَائِبًا، فَتَبَرَّعَ الْبَائِعُ بِإِحْضَارِهِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْهُ، وَاعْتَمَدَ قَوْلَهُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْإِحْضَارَ، وَلَا الْإِخْبَارَ عَنْهُ. وَإِنْ هَلَكَ الثَّمَنُ وَتَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، تَعَذَّرَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ. فَإِنْ أَنْكَرَ الشَّفِيعُ كَوْنَ الشِّرَاءِ بِمَا لَا يَعْلَمُ قَدْرَهُ، نُظِرَ، إِنْ عَيَّنَ قَدْرًا وَقَالَ: اشْتَرَيْتُ بِكَذَا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَمْ يَكُنْ قَدْرُهُ مَعْلُومًا، فَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ يُقْنَعُ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ لَا يُقْنَعُ مِنْهُ وَلَا يَحْلِفُ، بَلْ إِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ، جُعِلَ نَاكِلًا وَرُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الشَّفِيعِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَ: نَسِيتُ، فَهُوَ كَالنُّكُولِ. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ قَدْرًا، لَكِنِ ادَّعَى عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَعْلَمُهُ، وَطَالَبَهُ بِالْبَيَانِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ حَتَّى يُعَيِّنَ قَدْرًا، فَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ [أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ. وَالثَّانِي: تُسْمَعُ، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي] عَلَى مَا يَقُولُهُ. فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الشَّفِيعُ عَلَى عِلْمِ الْمُشْتَرِي، وَحُبِسَ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُبَيِّنَ قَدْرَهُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ طَرِيقُ الشَّفِيعِ أَنْ يُعَيِّنَ قَدْرًا، فَإِنْ وَافَقَهُ الْمُشْتَرِي، فَذَاكَ، وَإِلَّا حَلَّفَهُ عَلَى نَفْيِهِ، فَإِنْ نَكَلَ، اسْتَدَلَّ الشَّفِيعُ بِنُكُولِهِ وَحَلَفَ عَلَى مَا عَيَّنَهُ، وَإِنْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي، زَادَ وَادَّعَى ثَانِيًا. وَهَكَذَا يَفْعَلُ إِلَى أَنْ يَنْكَلَ الْمُشْتَرِي، فَيَسْتَدِلُّ الشَّفِيعُ بِنُكُولِهِ وَيَحْلِفُ. وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ تَسْتَنِدُ إِلَى التَّخْمِينِ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى خَطِّ أَبِيهِ إِذَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي ثَمَنِ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ، فَإِنْ ظَهَرَ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، بَانَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ وَبَطَلَتِ الشُّفْعَةُ، وَعَلَى الشَّفِيعِ رَدُّ الشِّقْصِ إِنْ كَانَ قَبَضَهُ. وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ مُسْتَحَقًّا، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَفِي الْبَاقِي قَوْلَا [تَفْرِيقِ] الصَّفْقَةِ. فَإِنْ فَرَّقْنَاهَا وَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ، فَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ. وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ وَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ، فَفِيهِ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَصْدَقَهَا شِقْصًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ، وَخَرَجَ الْمَدْفُوعُ مُسْتَحَقًّا، لَزِمَهُ إِبْدَالُهُ، وَالْبَيْعُ وَالشُّفْعَةُ بِحَالِهِمَا، وَلِلْبَائِعِ اسْتِرْدَادُ الشِّقْصِ لِيَحْبِسَهُ إِلَى أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَإِنْ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي ثَمَنِ الشَّفِيعِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ وَعَلَيْهِ الْإِبْدَالُ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا، لَمْ يَبْطُلْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَاخْتَارَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِالْبُطْلَانِ. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَآخَرُونَ: الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا، بِأَنْ قَالَ: تَمَلَّكْتُ الشِّقْصَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ. أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، كَقَوْلِهِ: تَمَلَّكْتُهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، ثُمَّ نَقَدَ الْمُسْتَحَقَّةَ، فَلَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ قَطْعًا، وَقِيلَ: الْوَجْهَانِ فِي الْحَالَيْنِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: الْفَرْقُ بَيِّنٌ فِي الْحَالَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ فِي حَالَةِ الْجَهْلِ وَالْعِلْمِ، إِذَا قُلْنَا: لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ، هَلْ نَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بِأَدَاءِ الْمُسْتَحَقِّ، وَيَفْتَقِرُ إِلَى تَمَلُّكٍ جَدِيدٍ؟ أَمْ نَقُولُ: قَدْ مَلَكَهُ وَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي، وَهُوَ خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ، لَا سِيَّمَا فِي حَالَةِ الْعِلْمِ. وَخُرُوجُ الدَّنَانِيرِ نُحَاسًا كَخُرُوجِهَا مُسْتَحَقَّةً. وَلَوْ خَرَجَ ثَمَنُ

فصل

الْمَبِيعِ رَدِيئًا، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ الرِّضَا بِهِ وَالِاسْتِبْدَالِ. فَإِنْ رَضِيَ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ الرِّضَا بِمِثْلِهِ، بَلْ يَأْخُذُ مِنَ الشَّفِيعِ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا احْتِمَالٌ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ خَرَجَ مَا دَفَعَهُ الشَّفِيعُ رَدِيئًا، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا. وَقِيلَ: هُوَ كَخُرُوجِهِ مُسْتَحَقًّا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. فَصْلٌ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي، أَوْ غَرَسَ، أَوْ زَرَعَ، فِي الْمَشْفُوعِ، ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ، فَلَهُ الْأَخْذُ وَقَلْعُ بِنَائِهِ وَغِرَاسِهِ وَزَرْعِهِ مَجَّانًا، لَا بِحَقِّ الشُّفْعَةِ، بَلْ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ. وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا انْفَرَدَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْلَعَ مَجَّانًا. وَإِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ الْمُشْتَرِي فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالتَّمْيِيزِ، ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَلْعُهُ مَجَّانًا، كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالَانِ. أَحَدُهُمَا: قَالَ الْمُزَنِيُّ: الْمُقَاسَمَةُ تَتَضَمَّنُ الرِّضَا مِنَ الشَّفِيعِ، وَإِذَا رَضِيَ بِتَمَلُّكِ الْمُشْتَرِي بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؟ الثَّانِي أَنَّ الْقِسْمَةَ تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، فَيَصِيرَانِ جَارَيْنِ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ. وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنِ الْأَوَّلِ، فَصَوَّرُوا صِحَّةَ الْقِسْمَةِ مَعَ بَقَاءِ الشُّفْعَةِ فِي صُوَرٍ. مِنْهَا: أَنْ يُقَالَ لِلشَّفِيعِ: جَرَى الشِّرَاءُ بِأَلْفٍ، فَيَعْفُو وَيُقَاسِمُ، أَوْ أَنَّ الشِّقْصَ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ فَيُقَاسِمُ، ثُمَّ بِأَنَّ الشِّرَاءَ كَانَ بِدُونِ أَلْفٍ، وَأَنَّ الْمِلْكَ حَصَلَ بِالْبَيْعِ، فَتَصِحُّ الْقِسْمَةُ وَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ. وَمِنْهَا: أَنْ يُقَاسِمَ الشَّفِيعُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْبَائِعِ بِإِخْبَارِهِ، أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِلشَّفِيعِ وَكِيلٌ بِالْقِسْمَةِ مَعَ شُرَكَائِهِ وَمَعَ الْمُشْتَرِينَ مِنْهُمْ، فَيُقَاسِمُ الْوَكِيلُ الْمُشْتَرِيَ بِغَيْرِ عِلْمِ الشَّفِيعِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَكِيلٌ فِي الْقِسْمَةِ وَفِي أَخْذِ الْأَشْقَاصِ بِالشُّفْعَةِ، فَرَأَى فِي شِقْصٍ الْحَظَّ فِي تَرْكِهِ، فَيَتْرُكُهُ وَيُقَاسِمُ، ثُمَّ يَقْدُمُ الشَّفِيعَ، وَيَظْهَرُ لَهُ أَنَّ لَهُ الْحَظَّ فِي الْأَخْذِ، وَكَذَلِكَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ غَائِبًا، فَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِي الْحَاكِمَ بِالْقِسْمَةِ، فَيُجِيبُهُ وَإِنْ عَلِمَ بِثُبُوتِ الشُّفْعَةِ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ فِي إِجَابَتِهِ إِذَا عَلِمَ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْجَوَازَ إِنَّمَا لَا يَكْفِي فِي الِابْتِدَاءِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُكَلَّفُ تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ كَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِهِ. فَإِنْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ نَقْصٌ، فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ عَلَى صِفَتِهِ، أَوْ يَتْرُكُ. وَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ، فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِي الْأَرْضِ بِأُجْرَةٍ، وَبَيْنَ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْأَخْذِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقُضَهُ وَيَغْرَمَ أَرْشَ النَّقْصِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُعِيرِ إِذَا رَجَعَ وَقَدْ بَنَى الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَرَسَ بِلَا فَرْقٍ. وَإِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ، بَقِيَ زَرْعُهُ إِلَى أَنْ يُدْرَكَ فَيَحْصُدَ. وَقِيَاسُ الْبَابِ: أَنْ يَجِيءَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ فِي زَرْعِ الْأَرْضِ الْمُسْتَعَارَةِ. وَالْمَذْهَبُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، تَبْقِيَةُ الزَّرْعِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: فِي مُطَالَبَةِ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي بِالْأُجْرَةِ، الْخِلَافُ فِي الْمُعِيرِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا مُطَالَبَةَ هُنَا قَطْعًا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّهُ زَرَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ، فَأَشْبَهَ مَنْ بَاعَ أَرْضًا مَزْرُوعَةً، لَا مُطَالَبَةَ لِلْمُشْتَرِي بِأُجْرَةِ مُدَّةِ بَقَاءِ الزَّرْعِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْبَيْعَ.

فصل

فَرْعٌ إِذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي، فَلِلشَّفِيعِ تَأْخِيرُ الشُّفْعَةِ إِلَى الْإِدْرَاكِ وَالْحَصَادِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّأْخِيرُ وَإِنْ تَأَخَّرَتِ الْمَنْفَعَةُ، كَمَا لَوْ بِيعَتِ الْأَرْضُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الِانْتِفَاعِ، لَا يُؤَخَّرُ الْأَخْذُ إِلَى وَقْتِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي الشِّقْصِ شَجَرٌ عَلَيْهِ ثَمَرٌ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، فَفِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ إِلَى الْقِطَافِ وَجْهَانِ، لِأَنَّ الثَّمَرَ لَا يَمْنَعُ الِانْتِفَاعَ بِالْمَأْخُوذِ. فَصْلٌ تَصَرُّفَاتُ الْمُشْتَرِي فِي الشِّقْصِ مِنَ الْبَيْعِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِهِمَا صَحِيحَةٌ، لِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ. وَقِيلَ: بَاطِلَةٌ، وَهُوَ شَاذٌّ. فَعَلَى الصَّحِيحِ: يُنْظَرُ إِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ مِمَّا لَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ كَالْوَقْفِ، وَالْهِبَةِ، وَالْإِجَارَةِ، فَلِلشَّفِيعِ نَقْضُهُ وَأَخْذُ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ كَالْبَيْعِ وَالْأَصْدَاقِ، فَهُوَ كَالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْقُضَهُ وَيَأْخُذَ الشِّقْصَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَنْقُضَ وَيَأْخُذَ بِالْعَقْدِ الثَّانِي. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَنْقُضُ تَصَرُّفُهُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُنْقَضُ مَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، لَكِنْ يَتَجَدَّدُ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا يَتَجَدَّدُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ، فَلَا يُثْبِتُهَا. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُنْقَضُ الْوَقْفُ، وَيُنْقَضُ مَا سِوَاهُ. فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: قَالَ الْمُشْتَرِي: عَفَوْتَ عَنْ شُفْعَتِكَ، أَوْ قَصَرْتَ، فَسَقَطَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ.

الثَّانِيَةُ: قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفٍ، فَقَالَ الشَّفِيعُ: بَلْ بِخَمْسِمِائَةٍ. صُدِّقَ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِعَقْدِهِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَرَضًا، وَتَلِفَ، وَاخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ، فَإِنْ نَكَلَ الْمُشْتَرِي، حَلَفَ الشَّفِيعُ وَأَخَذَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، قُضِيَ بِهَا. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ يَشْهَدُ بِحَقِّ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: تُقْبَلُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ لِنَفْسِهِ نَفْعًا، وَالثَّمَنُ ثَابِتٌ لَهُ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي. وَلَوْ شَهِدَ لِلشَّفِيعِ، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ، لِأَنَّهُ يَنْقُضُ حَقَّهُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ شَهِدَ قَبْلَ قَبْضِهِ الثَّمَنَ، قُبِلَتْ، لِأَنَّهُ يَنْقُضُ حَقَّهُ، إِذْ لَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا شَهِدَ بِهِ، وَإِنْ شَهِدَ بَعْدَهُ، فَلَا، لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، فَإِنَّهُ إِذَا قَلَّ الثَّمَنُ، قَلَّ مَا يَغْرَمُهُ عِنْدَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي، كَمَا أَنَّ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُمَا تَتَعَارَضَانِ، لِأَنَّ النِّزَاعَ هُنَا فِيمَا وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْيَدِ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا: تَسْقُطَانِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا تُسْتَعْمَلَانِ، فَالِاسْتِعْمَالُ هُنَا بِالْقُرْعَةِ أَوِ الْوَقْفِ. الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَإِنْ ثَبَتَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، فَذَاكَ، وَإِنْ ثَبَتَ قَوْلُ الْبَائِعِ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ [مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَأَخَذَ الشَّفِيعُ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي] . وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّفِيعِ لِلْبَائِعِ، وَلَا تُقْبَلُ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي تَقْلِيلِ الثَّمَنِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَتَحَالَفَا، وَفُسِخَ عَقْدُهُمَا أَوِ انْفَسَخَ، فَإِنْ جَرَى ذَلِكَ بَعْدَمَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ، أُقِرَّ فِي يَدِهِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الشِّقْصِ لِلْبَائِعِ. وَإِنْ جَرَى قَبْلَ الْأَخْذِ، فَفِي سُقُوطِ حَقِّهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي

خُرُوجِهِ مَعِيبًا. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْقُطُ، أَخَذَهُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ، لِأَنَّ الْبَائِعَ اعْتَرَفَ بِاسْتِحْقَاقِ الشَّفِيعِ الْأَخْذَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ وَتَكُونُ عُهْدَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ. الرَّابِعَةُ: أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي كَوْنَ الطَّالِبِ شَرِيكًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي بِيَمِينِهِ، فَيَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِشَرِكَتِهِ، لَا عَلَى نَفْيِ شَرِكَتِهِ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الطَّالِبُ عَلَى الْبَتِّ وَأَخَذَ بِالشُّفْعَةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ أَنْكَرَ تَقَدُّمَ مِلْكِ الطَّالِبِ عَلَى مِلْكِهِ. الْخَامِسَةُ: إِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي عَقَارٍ، فَغَابَ أَحَدُهُمَا، وَرَأَيْنَا نَصِيبَهُ فِي يَدِ ثَالِثٍ، فَادَّعَى الْحَاضِرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، قُضِيَ بِهَا وَأَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ. ثُمَّ إِنِ اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، سُلِّمَ الثَّمَنُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهَلْ يُتْرَكُ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْمُدَّعِي إِلَى أَنْ يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَمْ يَأْخُذُهُ الْقَاضِي وَيَحْفَظُهُ، أَمْ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ أَوِ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَذْكُورَةٍ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً، وَجَاءَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ وَرِثَهُ أَوِ اتَّهَبَهُ، تَعَارَضَتَا. وَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّ الْغَائِبَ أَوْدَعَهُ إِيَّاهُ، أَوْ أَعَارَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَيِّنَتَيْنِ تَارِيخٌ، أَوْ سَبَقَ تَارِيخُ الْإِيدَاعِ، فَلَا مُنَافَاةَ فَيُقْضَى بِالشُّفْعَةِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْدَعَهُ ثُمَّ بَاعَهُ، وَإِنْ سَبَقَ تَارِيخُ الْبَيْعِ، فَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْبَائِعَ غَصَبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ ثُمَّ رَدَّهُ إِلَيْهِ بِلَفْظِ الْإِيدَاعِ، فَاعْتَمَدَهُ الشُّهُودُ. فَإِنِ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ بِأَنْ كَانَ تَارِيخُ الْإِيدَاعِ مُتَأَخِّرًا، وَقَالَ الشُّهُودُ: أَوْدَعَهُ وَهِيَ مِلْكُهُ، فَهَا هُنَا يُرَاجَعُ الشَّرِيكُ الْقَدِيمُ. فَإِنْ قَالَ: وَدِيعَةٌ، سَقَطَ حُكْمُ الشِّرَاءِ. وَإِنْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي فِيهِ، قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، فَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ كَانَ لِذَلِكَ الْغَائِبِ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَهَلْ لِلْمُدَّعِي أَخْذُهُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، إِذْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْغَائِبِ، فَيُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يُكَاتَبَ، هَلْ هُوَ مُقِرٌّ بِالْبَيْعِ؟ وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى الْبَيْعِ، وَيَكْتُبُ الْقَاضِي فِي

السِّجِلِّ أَنَّهُ أَثْبَتَ الشُّفْعَةَ بِتَصَادُقِهِمَا، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ. الثَّانِي: أَنْ يُنْكِرَ أَصْلَ الشِّرَاءِ، فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ. ثُمَّ إِنِ اقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ أَوْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إِلَيْهِ حَلَفَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّعَرُّضُ لِنَفْيِ الشِّرَاءِ. وَإِنْ قَالَ فِي الْجَوَابِ: لَمْ أَشْتَرِهِ، بَلْ وَرَثْتُهُ، أَوِ اتَّهَبْتُهُ، فَيَحْلِفُ لِذَلِكَ، أَمْ يَكْفِي الْحَلِفُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ؟ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي دَعْوَى عَيْبِ الْمَبِيعِ. وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، حَلَفَ الطَّالِبُ وَاسْتَحَقَّ الشِّقْصَ. وَفِي الثَّمَنِ الْأَوْجُهُ السَّابِقَةُ. هَذَا إِذَا أَنْكَرَ الشِّرَاءَ، وَالشَّرِيكُ الْقَدِيمُ غَيْرُ مُعْتَرِفٍ بِالْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا وَالشِّقْصُ فِي يَدِهِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِلَى مَنْ يُسَلِّمُ الثَّمَنَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: إِلَى الْبَائِعِ، وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: يُنَصِّبُ الْقَاضِي أَمِينًا يَقْبِضُ الثَّمَنَ مِنْهُ لِلْمُشْتَرِي وَيَدْفَعُهُ إِلَى الْبَائِعِ، وَيَقْبِضُ الشِّقْصَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي وَيَدْفَعُهُ إِلَى الشَّفِيعِ. وَإِذَا أَخَذَ الْبَائِعُ ثَمَنَ الشِّقْصِ، فَهَلْ لَهُ مُخَاصَمَةُ الْمُشْتَرِي وَمُطَالَبَتُهُ بِالثَّمَنِ؟ وَجْهَانِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَالُهُ أَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ وَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِالدَّرَكِ أَسْهَلَ. فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، وَحَلَفَ الْمُشْتَرِي، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْبَائِعُ، وَأَخَذَ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَكَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا أَخَذَهُ مِنَ الشَّفِيعِ، فَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُوقَفُ، أَمْ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ؟ وَجْهَانِ. كَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ، وَفِي «الشَّامِلِ» أَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُطَالِبُ الْمُشْتَرِيَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَرْضَ أَخْذَ الثَّمَنِ مِنَ الشَّفِيعِ؟ فَإِنْ رَضِيَ، فَلْيَقْنَعْ بِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ. فَإِنِ اعْتَرَفَ مَعَ الْبَيْعِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا شُفْعَةَ إِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْقَبْضِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. وَأَصَحُّهُمَا: ثُبُوتُهَا. ثُمَّ هَلْ يُتْرَكُ الثَّمَنُ فِي يَدِ الشَّفِيعِ، أَمْ يَأْخُذُهُ الْقَاضِي وَيَحْفَظُهُ، أَمْ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَبُولِهِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْهُ؟ فِيهِ الْأَوْجُهُ السَّابِقَةُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْتُهُ لِفُلَانٍ وَلَا خُصُومَةَ لَكَ مَعِي، فَيُنْظَرُ فِي

الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَحَاضِرٌ، أَمْ غَائِبٌ، أَمْ صَبِيٌّ؟ وَحُكْمُهُ مَا يَأْتِي فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي تَزَاحُمِ الشُّفَعَاءِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَ الشُّرَكَاءُ عَلَى الطَّلَبِ. وَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَنَّ تَعَدُّدَ الْمُسْتَحِقِّينَ قَدْ يَكُونُ ابْتِدَاءً، بِأَنْ كَانَتِ الدَّارُ] بَيْنَ [جَمَاعَةٍ، فَبَاعَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، وَثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ لِلْبَاقِينَ، وَقَدْ يَكُونُ دَوَامًا، بِأَنْ يَمُوتَ الْمُسْتَحِقُّ وَيَتْرُكَ وَرَثَةً، فَلَهُمُ الشُّفْعَةُ. فَإِنْ تَسَاوَتْ حِصَصُ الْمُسْتَحِقِّينَ، تَسَاوْوَا فِي الشِّقْصِ. وَإِنْ تَفَاوَتَتْ كَنِصْفٍ وَثُلُثٍ وَسُدُسٍ، فَبَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ، فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا:] أَنَّ [الشُّفْعَةَ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ، فَيُقَسَّمُ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَالثَّانِي: عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، فَيُقَسَّمُ نِصْفَيْنِ. فَرْعٌ مَاتَ مَالِكُ الدَّارِ عَنِ ابْنَيْنِ] ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَنِ ابْنَيْنِ [ثُمَّ بَاعَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ نَصِيبَهُ، فَهَلْ يَشْتَرِكُ الْأَخُ وَالْعَمُّ فِي الشُّفْعَةِ، أَمْ يَخْتَصُّ بِهَا الْأَخُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يُوَزَّعُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، أَمْ بِالْحِصَصِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ: الْقَطْعُ بِالْحِصَصِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَخْتَصُّ الْأَخُ فَعَفَا، فَفِي ثُبُوتِهَا لِلْعَمِّ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّهُ شَرِيكٌ، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ الْأَخُ، لِزِيَادَةِ قُرْبِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ يُقَدَّمُ فِي الْمَرْهُونِ عَلَى الْغُرَمَاءِ. فَلَوْ سَقَطَ حَقُّهُ، تَمَسَّكَ بِهِ الْبَاقُونَ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الثَّانِي أَصَحَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَخِ وَالْعَمِّ فِي كُلِّ صُورَةٍ. مَلَكَ شَرِيكَانِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ،

وَغَيْرُهُمَا مِنَ الشُّرَكَاءِ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَبَاعَ أَحَدُ الْمَالِكِينَ بِالسَّبَبِ الْوَاحِدِ، فَفِي قَوْلٍ: الشُّفْعَةُ لِصَاحِبِهِ خَاصَّةً، وَعَلَى الْأَظْهَرِ: لِلْجَمِيعِ. مِثَالُهُ: بَيْنَهُمَا دَارٌ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لِرَجُلَيْنِ، أَوْ وَهَبَهُ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ. وَلَوْ مَاتَ مَنْ لَهُ دَارٌ عَنْ بِنْتَيْنِ وَأُخْتَيْنِ، فَبَاعَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ نَصِيبَهَا، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَفِي قَوْلٍ: تَخْتَصُّ بِالشُّفْعَةِ الْبِنْتُ الْأُخْرَى، وَعَلَى الْأَظْهَرِ: يَشْتَرِكْنَ كُلُّهُنَّ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالِاشْتِرَاكِ. فَرْعٌ مَاتَ الشَّفِيعُ عَنِ ابْنٍ وَزَوْجَةٍ وَرِثَا حَقَّ الشُّفْعَةِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ إِرْثِهِمَا طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: يَأْخُذَانِ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ قَطْعًا. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. وَالثَّالِثُ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَرْعٌ دَارَ بَيْنَ اثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ، بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ نَصِيبِهِ لِزَيْدٍ، ثُمَّ بَاعَ النِّصْفَ الْآخَرَ لِعَمْرٍو، فَالشُّفْعَةُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ تَخْتَصُّ بِالشَّرِيكِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ قَدْ يَعْفُو عَنْهُ، وَقَدْ يَأْخُذُهُ. وَفِي النِّصْفِ الثَّانِي أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يَخْتَصُّ بِهِ الْأَوَّلُ. وَالثَّانِي: يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَوَّلُ وَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ. وَأَصَحُّهُمَا: إِنْ عَفَا الشَّرِيكُ الْأَوَّلُ عَنِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، اشْتَرَكَا، وَإِلَّا فَيَخْتَصُّ بِهِ الشَّرِيكُ الْأَوَّلُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَطْلُبَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ وَيَعْفُوَ بَعْضُهُمْ. وَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ مَا إِذَا كَانَتِ الشُّفْعَةُ لِوَاحِدٍ فَعَفَا عَنْ بَعْضِهَا، وَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَسْقُطُ جَمِيعُهَا كَالْقِصَاصِ. وَالثَّانِي: لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ كَعَفْوِهِ عَنْ بَعْضِ حَدِّ الْقَذْفِ. وَالثَّالِثُ: يَسْقُطُ مَا عَفَا عَنْهُ

وَيَبْقَى الْبَاقِي، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَمَوْضِعُ هَذَا الْوَجْهِ، مَا إِذَا رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ أَبَى وَقَالَ: خُذِ الْكُلَّ أَوْ دَعْهُ، فَلَهُ ذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ، إِذَا لَمْ نَحْكُمْ بِأَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ. فَإِنْ حَكَمْنَا بِهِ، فَطَرِيقَانِ. مِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْبَعْضِ تَأْخِيرٌ لِطَلَبِ الْبَاقِي، وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَمَلَ ذَلِكَ إِذَا بَادَرَ إِلَى طَلَبِ الْبَاقِي، وَطَرَدَ الْأَوْجُهَ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ صَاحِبَ «الشَّامِلِ» قَالَ: اسْتَحَقَّ شِقْصًا، فَجَاءَ وَقَالَ: آخُذُ نِصْفَهُ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ فِي الْكُلِّ، لِأَنَّهُ تَرَكَ طَلَبَ النِّصْفِ. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَاسْتَحَقَّ اثْنَانِ شُفْعَةً، فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ حَقِّهِ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَسْقُطُ حَقُّ الْعَافِي، وَيَثْبُتُ الْجَمِيعُ لِلْآخَرِ. فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَلَيْسَ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ، لِئَلَّا تَتَبَعَّضَ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: يَسْقُطُ حَقُّهُمَا جَمِيعًا، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، كَالْقِصَاصِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَسْقُطُ حَقُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، تَغْلِيبًا لِلثُّبُوتِ كَمَا سَبَقَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَالرَّابِعُ: يَسْقُطُ حَقُّ الْعَافِي، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا قِسْطَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُلْزِمَهُ أَخْذَ الْجَمِيعِ. هَذَا إِذَا ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ لِعَدَدٍ ابْتِدَاءً. فَلَوْ ثَبَتَتْ لِوَاحِدٍ فَمَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، فَعَفَا أَحَدُهُمَا، فَهَلْ هُوَ كَمَا لَوْ ثَبَتَتْ لِوَاحِدٍ فَعَفَا عَنْ بَعْضِهَا، أَمْ كَثُبُوتِهَا لِابْنَيْنِ عَفَا أَحَدُهُمَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ لِلشِّقْصِ شَفِيعَانِ، فَمَاتَ كُلٌّ عَنِ ابْنَيْنِ، فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ حَقِّهِ، فَحَاصِلُ الْمَنْقُولِ تَفْرِيعًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يَسْقُطُ الْكُلُّ. وَالثَّانِي: يَبْقَى الْكُلُّ لِلْأَرْبَعَةِ. وَالثَّالِثُ: يَسْقُطُ حَقُّ الْعَافِي وَأَخِيهِ، وَيَأْخُذُ الْآخَرَانِ. وَالرَّابِعُ: يَنْتَقِلُ حَقُّ الْعَافِي إِلَى الثَّلَاثَةِ، فَيَأْخُذُونَ الشِّقْصَ أَثْلَاثًا. وَالْخَامِسُ: يَسْتَقِرُّ حَقُّ الْعَافِي لِلْمُشْتَرِي، وَيَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الشِّقْصِ. وَالسَّادِسُ: يَنْتَقِلُ حَقُّ الْعَافِي إِلَى أَخِيهِ فَقَطْ. قُلْتُ: أَصَحُّهَا: الرَّابِعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ مَاتَ الشَّفِيعُ عَنِ ابْنَيْنِ، فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَفْوَهُمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ يَمِينِهِمَا عَلَى الْبَتِّ. فَلَوِ ادَّعَى عَفْوَ أَبِيهِمَا، حَلَفَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. فَإِنْ حَلَفَا أَخَذَا. وَإِنْ نَكَلَا حَلَفَ الْمُشْتَرِي، وَبَطَلَ حَقُّهُمَا. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّهُ إِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا أَخَذَ الْآخَرُ الْجَمِيعَ، فَلَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. وَإِنْ قُلْنَا: حَقُّ الْعَافِي يَسْتَقِرُّ لِلْمُشْتَرِي، حَلَفَ الْمُشْتَرِي لِيَسْتَقِرَّ لَهُ نَصِيبُ النَّاكِلِ. ثُمَّ الْوَارِثُ الْحَالِفُ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَمِيعَ بِنُكُولِ أَخِيهِ، وَلَكِنْ إِنْ صَدَّقَ أَخَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْفُ، فَالشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا. وَإِنِ ادَّعَى عَلَيْهِ الْعَفْوَ، وَأَنْكَرَ النَّاكِلُ، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِدَعْوَى أَخِيهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْحَلِفِ نُكُولُهُ فِي جَوَابِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ حَلَفَ، فَالشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ نَكَلَ أَيْضًا، حَلَفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ عَفَا، وَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ الْجَمِيعَ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْضُرَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ دُونَ بَعْضٍ. فَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ لِأَرْبَعَةٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، وَثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ لِلْبَاقِينَ، فَلَمْ يَحْضُرْ إِلَّا وَاحِدٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ حِصَّتِهِ فَقَطْ، وَلَا يُكَلَّفُ الصَّبْرَ إِلَى حُضُورِهِمَا، بَلْ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ أَوْ تَرَكَهُ. وَهَلْ لَهُ تَأْخِيرُ الْأَخْذِ إِلَى حُضُورِهِمَا؟ إِذَا قُلْنَا: الشُّفْعَةُ عَلَى الْفَوْرِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِلْعُذْرِ، وَإِذَا أَخَذَ الْجَمِيعَ، ثُمَّ حَضَرَ أَحَدُ الْغَائِبِينَ، أَخَذَ مِنْهُ النِّصْفَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا شَفِيعَانِ. فَإِذَا حَضَرَ الثَّالِثُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فُرُوعٌ: أَحَدُهَا: خَرَجَ الشِّقْصُ مُسْتَحَقًّا بَعْدَ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، فَفِي الْعُهْدَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عُهْدَةُ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الشُّفْعَةَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رُجُوعَ الْأَوَّلِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ كُلَّ الثَّمَنِ، وَرُجُوعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَيَسْتَرِدُّ

مِنْهُ النِّصْفَ، وَرُجُوعَ الثَّالِثِ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي يَسْتَرِدُّ مِنْ كُلٍّ مَا دَفَعَ إِلَيْهِ، وَهَذَا أَصَحُّ، وَرَجَّحَ الْعِرَاقِيُّونَ الْأَوَّلَ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا الْخِلَافُ فِي الرُّجُوعِ بِالْمَغْرُومِ مِنْ أُجْرَةٍ وَنَقْصِ قِيمَةِ الشِّقْصِ. فَأَمَّا الثَّمَنُ فَكُلٌّ، فَيَسْتَرِدُّ مَا سَلَّمَهُ مِمَّنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ. الثَّانِي: أَخَذَ الْحَاضِرُ جَمِيعَ الشِّقْصِ، فَوَجَدَهُ مَعِيبًا فَرَدَّهُ، فَحَضَرَ الثَّانِي وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَلَهُ أَخْذُ الْجَمِيعِ. الثَّالِثُ: مَا يَسْتَوْفِيهِ الْأَوَّلُ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ وَالثَّمَرَةِ، يُسَلَّمُ لَهُ، فَلَا يُزَاحِمُهُ فِيهِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَذَا الثَّالِثُ لَا يُزَاحِمُ الثَّانِيَ فِيمَا يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ الْمُنَاصَفَةِ، كَمَا أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يُزَاحِمُ الْمُشْتَرِيَ فِيهَا. الرَّابِعُ: أَخَذَ الْأَوَّلُ كُلَّ الشِّقْصِ وَأَفْرَزَهُ، بِأَنْ أَتَى الْحَاكِمُ فَنَصَّبَ قَيِّمًا فِي مَالِ الْغَائِبَيْنِ، فَاقْتَسَمَا، وَبَنَى فِيهِ، أَوْ غَرَسَ ثُمَّ رَجَعَ الْغَائِبَانِ، هَلْ لَهُمَا الْقَلْعُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَقْلَعُ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي وَغِرَاسِهُ مَجَّانًا. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ كَاسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ، فَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ حَتَّى يَظْهَرَ حَالُهُمَا، بِخِلَافِ الشَّفِيعِ مَعَ الْمُشْتَرِي. الْخَامِسُ: إِذَا حَضَرَ اثْنَانِ فَأَخَذَا الشِّقْصَ، وَاقْتَسَمَا مَعَ الْقَيِّمِ فِي مَالِ الْغَائِبِ، ثُمَّ قَدِمَ [الْغَائِبُ] ، فَلَهُ الْأَخْذُ وَإِبْطَالُ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ عَفَا اسْتَمَرَّتِ الْقِسْمَةُ. السَّادِسُ: أَخَذَ اثْنَانِ، فَحَضَرَ الثَّالِثُ، وَأَرَادَ أَخْذَ ثُلُثِ مَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَلَا يَأْخُذُ مِنَ الثَّانِي] شَيْئًا [فَلَهُ ذَلِكَ، كَمَا لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. السَّابِعُ: أَخَذَ الْأَوَّلُ الْجَمِيعَ، فَحَضَرَ الثَّانِي وَأَرَادَ أَخْذَ الثُّلُثِ فَقَطْ، فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ الْحَقُّ عَلَى الْأَوَّلِ. فَإِنْ أَخَذَ الثُّلُثَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَوْ بِالتَّرَاضِي، ثُمَّ حَضَرَ الثَّالِثُ، نُظِرَ، إِنْ أَخَذَ مِنَ الْأَوَّلِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ

لِلثَّانِي، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الثَّانِي ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْأَوَّلِ: ضُمَّ مَا مَعَكَ إِلَى [مَا] أَخَذْتُهُ لِنُقَسِّمَهُ نِصْفَيْنِ لِأَنَّا مُتَسَاوِيَانِ. وَإِنَّمَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الشِّقْصِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِأَنَّا نَحْتَاجُ إِلَى عَدَدٍ لِثُلُثِهِ ثُلُثٌ وَهُوَ تِسْعَةٌ، مَعَ الثَّانِي مِنْهَا ثَلَاثَةٌ، وَمَعَ الْأَوَّلِ سِتَّةٌ، فَيَنْتَزِعُ الثَّالِثُ مِنَ الثَّانِي وَاحِدًا يَضُمُّهُ إِلَى السِّتَّةِ [الَّتِي] مَعَ الْأَوَّلِ، فَلَا يَنْقَسِمُ بَيْنَهُمَا، فَتُضْرَبُ اثْنَيْنِ فِي تِسْعَةٍ تَبْلُغُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلثَّانِي مِنْهَا اثْنَانِ فِي اثْنَيْنِ بِأَرْبَعَةٍ، تَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ لِلْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ نِصْفَيْنِ، وَهَذَا الْمُنْقَسِمُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، رُبُعُ الدَّارِ، فَتُقَسَّمُ جُمْلَتُهَا مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ وَنَقَلُوهُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَمَّا تَرَكَ الثَّانِي سُدُسًا لِلْأَوَّلِ، صَارَ عَافِيًا عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ، فَيَبْطُلُ جَمِيعُ حَقِّهِ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْقَطَ حَقُّ الثَّانِي كُلُّهُ، وَيَكُونُ الشِّقْصُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَلَا يُسَلَّمُ أَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنُ: قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَوْ حَضَرَ اثْنَانِ وَأَخَذَا الشِّقْصَ، ثُمَّ حَضَرَ الثَّالِثُ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ، فَإِنْ قَضَى لَهُ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ، أَخَذَ مِنْ كُلٍّ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، وَإِلَّا فَهَلْ يَأْخُذُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِ الْحَاضِرِ، أَمْ نِصْفَهُ؟ وَجْهَانِ. ثُمَّ إِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ وَغَابَ الْحَاضِرُ، فَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ أَخَذَ مِنَ الْحَاضِرِ ثُلُثَ مَا مَعَهُ، أَخَذَ مِنَ الْقَادِمِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ أَخَذَ نِصْفَهُ، أَخَذَ مِنَ الْقَادِمِ سُدُسَ مَا فِي يَدِهِ وَيَتِمُّ بِذَلِكَ نَصِيبُهُ، وَيَنْقَسِمُ هَذَا الشِّقْصُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَجُمْلَةُ الدَّارِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ. التَّاسِعُ: ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ لِحَاضِرٍ وَغَائِبٍ، فَعَفَا الْحَاضِرُ، ثُمَّ مَاتَ الْغَائِبُ، فَوَرِثَهُ الْحَاضِرُ، فَلَهُ أَخْذُ الشِّقْصِ كُلِّهِ بِالشُّفْعَةِ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصَحِّ: أَنَّهُ إِذَا عَفَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، أَخَذَ الْآخَرُ الْجَمِيعَ. وَإِنْ قُلْنَا: عَفْوُ أَحَدِهِمَا يُسْقِطُ حَقَّ الْآخَرِ،

فصل

لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا. وَإِنْ قُلْنَا: يَسْتَقِرُّ نَصِيبُ الْعَافِي لِلْمُشْتَرِي، لَمْ يَأْخُذِ الْحَاضِرُ بِحَقِّ الْإِرْثِ إِلَّا النِّصْفَ. فَصْلٌ لَيْسَ لِلشَّفِيعِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَلَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شِقْصًا مِنْ رَجُلٍ، فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا فَقَطْ، إِذْ لَا تَفْرِيقَ عَلَيْهِ. وَلَوْ بَاعَ اثْنَانِ مِنْ مُلَّاكِ الدَّارِ شِقْصًا لِوَاحِدٍ، جَازَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ بَاعَ اثْنَانِ نَصِيبَهُمَا لِاثْنَيْنِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ كَأَرْبَعَةِ عُقُودٍ، تَفْرِيعًا عَلَى الْأَظْهَرِ أَنَّ تَعَدُّدَ الْبَائِعِ كَتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ وَهُوَ نَصِيبُ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ وَنِصْفُ نَصِيبِ الْآخَرِ، أَوْ يَأْخُذُ نِصْفَ الْجُمْلَةِ بِأَخْذِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَوْ نِصْفِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ يَأْخُذُ رُبُعَ الْجُمْلَةِ وَهُوَ نِصْفُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ وَكَّلَا وَكِيلًا فِي بَيْعِ شِقْصٍ أَوْ شِرَائِهِ، أَوْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فِي بَيْعِ شِقْصٍ أَوْ شِرَائِهِ، فَالِاعْتِبَارُ بِالْعَاقِدِ، أَمْ بِمَنْ لَهُ الْعَقْدُ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ لِثَلَاثَةٍ، فَوَكَّلَ أَحَدَهُمْ بِبَيْعِ نَصِيبِهِ، وَجَوَّزَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مَعَ نَصِيبِ نَفْسِهِ إِنْ شَاءَ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَبَاعَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ لِلثَّالِثِ إِذَا قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِالْعَاقِدِ إِلَّا أَخْذُ الْجَمِيعِ أَوْ تَرْكُ الْجَمِيعِ. وَإِنْ قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْقُودِ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا فَقَطْ. وَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ لِرَجُلَيْنِ، فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِبَيْعِ نِصْفِ نَصِيبِهِ، وَجَوَّزَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مَعَ نَصِيبِ نَفْسِهِ إِنْ شَاءَ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَبَاعَ كَذَلِكَ، وَأَرَادَ الْمُوَكِّلُ أَخْذَ نَصِيبِ الْوَكِيلِ بِالشُّفْعَةِ بِحَقِّ النِّصْفِ الْبَاقِي لَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الصَّفْقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا لَا شُفْعَةَ لِلْمُوَكِّلِ فِيهِ وَهُوَ مِلْكُهُ، وَعَلَى مَا فِيهِ شُفْعَةٌ وَهُوَ مَلِكُ الْوَكِيلِ، فَأَشْبَهَ مَنْ بَاعَ شِقْصًا وَثَوْبًا بِمِائَةٍ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: أَنَّهَا كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ. وَلَوْ بَاعَ شِقْصَيْنِ

مِنْ دَارَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ الشَّفِيعِ فِي الْأُخْرَى، فَلِكُلٍّ أَنْ يَأْخُذَ مَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَافَقَهُ الْآخَرُ فِي الْأَخْذِ، أَمْ لَا. وَإِنْ كَانَ شَفِيعَهُمَا وَاحِدًا، جَازَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ الْأَظْهَرُ الْمَنْصُوصُ فِي الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ: أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ. وَالثَّانِي: تَمْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَالثَّالِثُ: تَمْتَدُّ مُدَّةً تَتَّسِعُ لِتَأَمُّلِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَخْذِ. وَالرَّابِعُ: تَمْتَدُّ إِلَى التَّصْرِيحِ بِإِسْقَاطِهَا. وَالْخَامِسُ: إِلَى التَّصْرِيحِ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: بِعْ لِمَنْ شِئْتَ، أَوْ هَبْهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: بِعْنِيهِ، أَوْ هَبْهُ لِي، أَوْ قَاسِمْنِي. وَقِيلَ: لَا تَبْطُلُ بِهَذَا، وَلِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَأْخُذِ الشَّفِيعُ وَلَمْ يَعْفُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُلْزِمَهُ الْأَخْذَ أَوِ الْعَفْوَ. وَفِي قَوْلٍ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، تَنْزِيلًا لِلشَّفِيعِ مَنْزِلَةَ مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ الْفَوْرِ. [وَإِنَّمَا نَحْكُمُ بِالْفَوْرِ] بَعْدَ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ. فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى مَضَى سُنُونَ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ، ثُمَّ إِذَا عَلِمَ، لَا يُكَلَّفُ الْمُبَادَرَةَ، عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ بِالْعَدْوِ وَنَحْوِهِ، بَلْ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، فَمَا عُدَّ تَقْصِيرًا وَتَوَانِيًا فِي الطَّلَبِ، يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ، وَمَا لَا يُعَدُّ تَقْصِيرًا لِعُذْرٍ، لَا يُسْقِطُهَا. وَالْعُذْرُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُنْتَظَرُ زَوَالُهُ عَنْ قُرْبٍ كَالْمَرَضِ، فَيَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ أَنْ يُوَكِّلَ إِنْ قَدَرَ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِتَقْصِيرِهِ. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ فِي التَّوْكِيلِ مِنَّةٌ وَلَا مُؤْنَةٌ ثَقِيلَةٌ بَطَلَتْ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، فَلْيُشْهِدْ عَلَى الطَّلَبِ. فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ، بَطَلَتْ عَلَى الْأَظْهَرِ أَوِ الْأَصَحِّ. وَالْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ، كَالْمَرَضِ،

وَكَذَا الْحَبْسُ إِذَا كَانَ ظُلْمًا أَوْ بِدَيْنٍ هُوَ مُعْسِرٌ بِهِ عَاجِزٌ عَنْ بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ. وَإِنْ حَبَسَ بِحَقٍّ، بِأَنْ كَانَ مَلِيئًا، فَغَيْرُ مَعْذُورٍ، وَمِثْلُهُ الْغَيْبَةُ. فَإِذَا كَانَ الشَّفِيعُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ طَالِبًا عِنْدَ بُلُوغِ الْخَبَرِ، أَوْ يَبْعَثُ وَكِيلًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ مُخَوِّفًا، فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَى أَنْ يَجِدَ رُفْقَةً مُعْتَمَدِينَ يَصْحَبُهُمْ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ وَيَزُولَ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ الْمُفْرِطَانِ. وَإِذَا أَخَّرَ لِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ السَّيْرُ بِنَفْسِهِ، وَلَا [وَجَدَ] وَكِيلًا، فَلْيُشْهِدْ عَلَى الطَّلَبِ. فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ، فَفِي بُطْلَانِ حَقِّهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَأُجْرِيَ ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ إِذَا سَارَ طَالِبًا فِي الْحَالِ. وَالْأَظْهَرُ هُنَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَلَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِتَرْكِهِ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَ وَكِيلًا وَلَمْ يُشْهِدْ، فَإِنَّهُ يَكْفِي. وَلْيُطْرَدْ فِيمَا إِذَا كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ كَمَا سَبَقَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُنْتَظَرُ زَوَالُهُ عَنْ قُرْبٍ، بِأَنْ كَانَ مَشْغُولًا بِصَلَاةٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ، أَوْ فِي حَمَّامٍ، فَلَهُ الْإِتْمَامُ، وَلَا يُكَلَّفُ قَطْعَهَا، عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُكَلَّفُ قَطْعَهَا حَتَّى الصَّلَاةَ إِذَا كَانَتْ نَافِلَةً. وَعَلَى الصَّحِيحِ: لَوْ دَخَلَ وَقْتُ الْأَكْلِ أَوِ الصَّلَاةِ أَوْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، جَازَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَهَا، فَإِذَا فَرَغَ طَلَبَ الشُّفْعَةَ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَخْفِيفُ الصَّلَاةِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُجْزِئُ. فَرْعٌ لَوْ رَفَعَ الشَّفِيعُ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَتَرَكَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي مَعَ حُضُورِهِ، جَازَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَى الطَّلَبِ، وَلَمْ يُرَاجِعِ الْمُشْتَرِيَ وَلَا الْقَاضِيَ لَمْ يَكْفِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَائِبًا، فَالْقِيَاسُ: أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي وَيَأْخُذَ كَمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ. وَإِذَا أَلْزَمْنَاهُ الْإِشْهَادَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَهَلْ يُؤْمَرُ أَنْ يَقُولَ:

فصل

تَمَلَّكْتُ الشِّقْصَ؟ وَجْهَانِ سَبَقَ نَظِيرُهُمَا هُنَاكَ. وَلَوْ تَلَاقَيَا فِي غَيْرِ بَلَدِ الشِّقْصِ، فَأَخَّرَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ إِلَى الْعَوْدِ إِلَيْهِ بَطَلَ حَقُّهُ، لِاسْتِغْنَاءِ الْآخِذِ عَنِ الْحُضُورِ عِنْدَ الشِّقْصِ. فَصْلٌ إِذَا أَخَّرَ الطَّلَبَ ثُمَّ قَالَ: أَخَّرْتُ لِأَنِّي لَمْ أُصَدِّقِ الْمُخْبِرَ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ، أَوْ عَدْلٌ وَامْرَأَتَانِ بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ مَنْ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ، كَكَافِرٍ، وَفَاسِقٍ، وَصَبِيٍّ، لَمْ يَبْطُلْ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ، حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ، بَطَلَ حَقُّهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْمَرْأَةُ كَالْعَبْدِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: كَالْفَاسِقِ. وَعَلَى هَذَا، فِي النِّسْوَةِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ هَلْ يُقْضَى لَهُ بِيَمِينِهِ مَعَ امْرَأَتَيْنِ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَهُوَ كَالْمَرْأَةِ، وَإِلَّا فَكَالْعَدْلِ الْوَاحِدِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَبْلُغْ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ حَدًّا لَا يُمْكِنُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ. فَإِنْ بَلَغَهُ، بَطَلَ حَقُّهُ، [وَ] إِنْ كَانُوا فُسَّاقًا. فَرْعٌ لَوْ كَذَبَهُ الْمُخْبِرُ فَزَادَ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، بِأَنْ قَالَ: بَاعَ الشَّرِيكُ الشِّقْصَ بِأَلْفٍ، فَعَفَا أَوْ تَوَانَى، ثُمَّ بَانَ بِخَمْسِمِائَةٍ، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ. وَلَوْ كَذَبَ بِالنَّقْصِ، فَقَالَ: بَاعَ بِأَلْفٍ فَعَفَا، فَبَانَ بِأَلْفَيْنِ، بَطَلَ حَقُّهُ. وَلَوْ كَذَبَ فِي تَعْيِينِ الْمُشْتَرِي، فَقَالَ بَاعَ زَيْدًا، فَعَفَا، فَبَانَ عَمْرًا، أَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ لِنَفْسِي، فَبَانَ وَكِيلًا، أَوْ كَذَبَ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ، فَقَالَ: بَاعَ بِدَرَاهِمَ، فَبَانَ دَنَانِيرَ، وَفِي نَوْعِهِ، فَقَالَ: بَاعَ بِنَيْسَابُورِيَّةَ، فَبَانَ بِـ «هَرَوِيَّةَ» ، أَوْ فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ، فَقَالَ: بَاعَ كُلَّ نَصِيبِهِ، فَبَانَ بَعْضَهُ، أَوْ بِالْعَكْسِ،

أَوْ بَاعَ حَالًا، فَبَانَ مُؤَجَّلًا، أَوْ إِلَى شَهْرٍ، فَبَانَ إِلَى شَهْرَيْنِ، أَوْ بَاعَ رَجُلَيْنِ، فَبَانَ رَجُلًا، أَوْ عَكْسُهُ، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِذَلِكَ. وَشَذَّ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ فَقَالَ: إِذَا أَخْبَرَ بِالدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ، فَعَفَا، فَبَانَ عَكْسُهُ وَلَمْ يَتَفَاوَتِ الْقَدْرُ عِنْدَ التَّقْوِيمِ، بَطَلَ حَقُّهُ. وَلَوْ قِيلَ: بَاعَ بِكَذَا مُؤَجَّلًا فَعَفَا، فَبَاعَ حَالًا، أَوْ بَاعَ كُلَّهُ بِأَلْفٍ [فَبَانَ بَعْضَهُ بِأَلْفٍ] ، بَطَلَ حَقُّهُ قَطْعًا. فَرْعٌ لَقِيَ الْمُشْتَرِيَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ، لِأَنَّهُ سُنَّةٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمَنْ غَلَا فِي اشْتِرَاطِ قَطْعِ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، لَا يَبْعُدُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ تَرْكُ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ. وَلَوْ قَالَ عِنْدَ لِقَائِهِ: بِكَمِ اشْتَرَيْتَ؟ فَوَجْهَانِ، قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِالْبُطْلَانِ، وَقَالُوا: حَقُّهُ أَنْ يُظْهِرَ الطَّلَبَ ثُمَّ يَبْحَثُ. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، لِافْتِقَارِهِ إِلَى تَحْقِيقِ مَا يَأْخُذُهُ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَتِكَ، لَمْ تَبْطُلْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتَ رَخِيصًا وَمَا أَشْبَهَهُ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، لِأَنَّهُ فُضُولٌ. فَرْعٌ أَخَّرَ الطَّلَبَ ثُمَّ اعْتَذَرَ بِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ إِنْ عُلِمَ بِهِ الْعَارِضُ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَإِلَّا فَالْمُصَدَّقُ الْمُشْتَرِي. وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ، أَوْ كَوْنَهَا عَلَى الْفَوْرِ، فَهُوَ كَمَا سَبَقَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا بَاعَ الشَّفِيعُ نَصِيبَهُ، أَوْ وَهَبَهُ عَالِمًا بِثُبُوتِ شُفْعَتِهِ، بَطَلَتْ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الشُّفْعَةُ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي لِزَوَالِ ضَرَرِ الْمُشَارِكَةِ. وَلَوْ بَاعَ بَعْضَهُ، بَطَلَتْ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِنْ بَاعَ نَصِيبَهُ جَاهِلًا بِالشُّفْعَةِ، بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، لِزَوَالِ الضَّرَرِ. وَلَوْ بَاعَ بَعْضَهُ جَاهِلًا، أَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ: أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ. وَالْوَجْهُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ بَيْعَ الْجَمِيعِ جَاهِلًا يُبْطِلُهَا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ هُنَا عَلَى الْجُمْلَةِ: أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ لِعُذْرِهِ مَعَ بَقَاءِ الْحَاجَةِ لِلْمُشَارَكَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا صَالَحَ مِنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصُّلْحِ عَنِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَاخْتَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ صِحَّتَهُ. وَلَوْ تَصَالَحَا عَلَى أَخْذِ بَعْضِ الشِّقْصِ، فَهَلْ يَصِحُّ لِرِضَا الْمُشْتَرِي بِالتَّبْعِيضِ، أَمْ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ، أَمْ يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَيَبْقَى خِيَارُهُ بَيْنَ أَخْذِ الْجَمِيعِ وَتَرْكِهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ إِحْدَاهَا: لِلْمُفْلِسِ الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ وَالْأَخْذُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِلْغُرَمَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ فِي أَخْذِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي شِرَائِهِ فِي الذِّمَّةِ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ يُؤَدِّي الثَّمَنَ؟ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْلِيسِ.

الثَّانِيَةُ: وَهَبَ شِقْصًا لِعَبْدِهِ وَقُلْنَا: يَمْلِكُ، فَبَاعَ شَرِيكُهُ، ثَبَتَ لِلْعَبْدِ الشُّفْعَةُ، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَفِي افْتِقَارِهِ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ، وَجْهَانِ: الثَّالِثَةُ: لِعَامِلِ الْقِرَاضِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ فَلِلْمَالِكِ الْأَخْذُ وَلَوِ اشْتَرَى بِمَالِ الْقِرَاضِ شِقْصًا مِنْ شَرِيكِ رَبِّ الْمَالِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ شَرِيكًا فِيهِ، فَلَهُ الْأَخْذُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، أَوْ كَانَ وَقُلْنَا: لَا يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِهِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَالِكِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الشِّقْصُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَقَالَ الشَّفِيعُ: لَا أَقْبِضُهُ إِلَّا مِنَ الْمُشْتَرِي، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ، وَيُكَلِّفُ الْحَاكِمُ الْمُشْتَرِيَ أَنْ يَتَسَلَّمَهُ وَيُسَلَّمَ إِلَى الشَّفِيعِ. فَإِنْ كَانَ غَائِبًا نَصَّبَ الْحَاكِمُ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الطَّرَفَيْنِ. وَالثَّانِي: لَا يُكَلَّفُ ذَلِكَ، بَلْ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ مِنَ الْبَائِعِ. وَسَوَاءٌ أَخَذَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعِ فَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنْهُ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» وَآخَرُونَ، هَكَذَا ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَآخَرُونَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَآخَرُونَ فِي جَوَازِ أَخْذِ الشَّفِيعِ مِنَ الْبَائِعِ وَجْهَيْنِ، وَقَطَعَ صَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» بِالْمَنْعِ. وَصَحَّحَ الْمُتَوَلِّي الْجَوَازَ، ذَكَرَهُ فِي بَابِ حُكْمِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: اشْتَرَى شِقْصًا بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ، فَإِنْ أَبْطَلْنَا الْبَيْعَ، فَذَاكَ، وَإِنْ صَحَّحْنَاهُ وَأَبْطَلْنَا الشَّرْطَ، فَكَالشِّرَاءِ مُطْلَقًا. وَإِنْ صَحَّحْنَا الشَّرْطَ، فَلِلشَّفِيعِ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ. السَّادِسَةُ: لَوْ عَلِمَ الشَّفِيعُ الْعَيْبَ وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْمُشْتَرِي، فَلَا رَدَّ لِلشَّفِيعِ، وَلَيْسَ

لِلْمُشْتَرِي طَلَبُ الْأَرْشِ، لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ الظُّلَامَةَ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الرَّدِّ. فَلَوْ رَجَعَ إِلَيْهِ بِبَيْعٍ وَغَيْرِهِ، لَمْ يَرُدَّ عَلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى، وَيَرُدُّ عَلَى الثَّانِيَةِ. السَّابِعَةُ: قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ: بِعْ نَصِيبَكَ فَقَدْ عَفَوْتُ عَنِ الشُّفْعَةِ، فَبَاعَ، ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ، وَلَغَا الْعَفْوَ. قُلْتُ: وَكَذَا لَوْ قَالَ لِلْمُشْتَرِي: اشْتَرِ فَلَا أُطَالِبُكَ بِشُفْعَةٍ، لَغَا عَفْوَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ: بَاعَ شِقْصًا، فَضِمَنَ الشَّفِيعُ الْعُهْدَةَ لِلْمُشْتَرِي، لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ. وَكَذَا إِذَا شَرَطْنَا الْخِيَارَ لِلشَّفِيعِ، وَصَحَّحْنَا شَرْطَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ. التَّاسِعَةُ: أَرْبَعَةٌ بَيْنَهُمْ دَارٌ، فَبَاعَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ وَاسْتَحَقَّ الشُّرَكَاءُ الشُّفْعَةَ، فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الثَّالِثِ بِالْعَفْوِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا إِنْ شَهِدَا بَعْدَ عَفْوِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَا قَبْلَهُ، لَمْ تُقْبَلْ. فَلَوْ عَفَوَا ثُمَّ أَعَادَا تِلْكَ الشَّهَادَةَ، لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا لِلتُّهْمَةِ. وَإِنْ شَهِدَا بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا، قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْعَافِي دُونَ الْآخَرِ، فَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي مَعَ الْعَافِي، وَيَثْبُتُ الْعَفْوُ. وَلَوْ شَهِدَ الْبَائِعُ عَلَى عَفْوِ الشَّفِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، لَمْ تُقْبَلْ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الرُّجُوعَ بِتَقْدِيرِ الْإِفْلَاسِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَوَجْهَانِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَوَقَّعَ الْعَوْدَ بِسَبَبٍ مَا. الْعَاشِرَةُ: أَقَامَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً بِعَفْوِ الشَّفِيعِ، وَأَقَامَ الشَّفِيعُ بَيِّنَةً بِأَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ، وَالشِّقْصُ فِي يَدِهِ، فَهَلْ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ أَوْلَى لِقُوَّتِهَا بِالْيَدِ، أَمْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لِزِيَادَةِ عِلْمِهَا بِالْعَفْوِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: شَهِدَ السَّيِّدُ بِشِرَاءِ شِقْصٍ فِيهِ شُفْعَةٌ لِمُكَاتَبِهِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ:

تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ، ثُمَّ ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا. فَأَمَّا شَهَادَتُهُ لِلْمُكَاتَبِ، فَلَا تُقْبَلُ بِحَالٍ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الشَّفِيعُ صَبِيٌّ، فَعَلَى وَلِيِّهِ الْأَخْذُ إِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِلَّا فَيَحْرُمُ الْأَخْذُ. وَإِذَا تَرَكَ بِالْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ بَلَغَ، فَهَلْ لَهُ الْأَخْذُ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْحَجْرِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: بَيْنَهُمَا دَارٌ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ حَمْلٍ، فَبَاعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ، فَلَا شُفْعَةَ لِلْحَمْلِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ. فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْحَمْلِ، فَلَهُ الشُّفْعَةُ. وَإِذَا انْفَصَلَ حَيًّا، فَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنَ الْوَارِثِ. وَلَوْ وَرِثَ الْحَمْلُ شُفْعَةً عَنْ مُوَرِّثِهِ، فَهَلْ لِأَبِيهِ أَوْ لِجَدِّهِ الْأَخْذُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ؟ وَجْهَانِ، وَبِالْمَنْعِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، لِأَنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ، وَبَنَى فِيهِ، أَوْ غَرَسَ، فَخَرَجَ مُسْتَحَقًّا، وَقَلَعَ الْمُسْتَحِقُّ بِنَاءَهُ وَغِرَاسَهُ، فَالْقَوْلُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَالْقَوْلِ فِي رُجُوعِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مَاتَ وَلَهُ شِقْصٌ مِنْ دَارٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، فَبَاعَ الشَّرِيكُ حِصَّتَهُ قَبْلَ بَيْعِ الشِّقْصِ فِي الدَّيْنِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لِلْوَرَثَةِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الصَّحِيحِ: أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ فِي التَّرِكَةِ إِلَى الْوَرَثَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْنَعُ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُمْ. وَلَوْ خَلَّفَ دَارًا كَامِلَةً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَسْتَغْرِقُهَا، فَبِيعَ بَعْضُهَا فِي الدَّيْنِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا شُفْعَةَ لِلْوَرَثَةِ فِيمَا بِيعَ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنَ الْمِلْكِ، وَهَذَا مُسْتَمِرٌّ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا مَلَكُوا الدَّارَ، كَانَ الْمَبِيعُ جُزْءًا مِنْ مِلْكِهِمْ. وَمَنْ يَبِعْ مِنْ مِلْكِهِ جُزْءًا بِحَقٍّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ بِالْبَاقِي. وَإِنْ قُلْنَا: يُمْنَعُ، فَهَلْ يُمْنَعُ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ، أَمْ فِي الْجَمِيعِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ

فصل

قُلْنَا بِالثَّانِي، فَلَا شُفْعَةَ لَهُمْ أَيْضًا، وَإِلَّا فَلَهُمْ. وَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمَيِّتِ وَوَرَثَتِهِ، فَبِيعَ نَصِيبُهُ أَوْ بَعْضُهُ فِي دَيْنِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا شُفْعَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَهُمُ الشُّفْعَةُ، لِأَنَّ مَا بِيعَ فِي دَيْنِهِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا مَلَكُوا التَّرِكَةَ صَارَ جَمِيعُ الدَّارِ لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمَبِيعُ جُزْءًا مِنْ مِلْكِهِمْ. فَصْلٌ فِي الْحِيَلِ الدَّافِعَةِ لِلشُّفْعَةِ مِنْهَا: أَنْ يَبِيعَ الشِّقْصَ بِأَضْعَافِ ثَمَنِهِ دَرَاهِمَ، وَيَأْخُذَ عَرَضًا قِيمَتُهُ مِثْلُ الثَّمَنِ الَّذِي تَرَاضَيَا عَلَيْهِ عِوَضًا عَنِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ يَحُطَّ عَنِ الْمُشْتَرِي مَا يَزِيدُ عَلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ. وَمِنْهَا: مَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَشْتَرِي أَوَّلًا بَائِعُ الشِّقْصِ عَرَضًا يُسَاوِي ثَمَنَ الشِّقْصِ بِأَضْعَافِ ذَلِكَ الثَّمَنِ، ثُمَّ يُجْعَلُ الشِّقْصُ عِوَضًا عَمَّا لَزِمَهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنَ الشِّقْصِ بِثَمَنِ كُلِّهِ، وَيَهَبَ لَهُ الْبَاقِيَ، وَهَذِهِ الطُّرُقُ فِيهَا غَرَرٌ، فَقَدْ لَا يَفِي صَاحِبُهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يُجْعَلَ الثَّمَنُ حَاضِرًا مَجْهُولَ الْقَدْرِ، وَيَقْبِضَهُ الْبَائِعُ وَلَا يَزِنَهُ، بَلْ يُنْفِقُهُ أَوْ يَخْلِطُهُ فَتَنْدَفِعُ الشُّفْعَةُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِيهَا خِلَافُ ابْنِ سُرَيْجٍ السَّابِقُ. وَمِنْهَا: إِذَا وَقَفَ الشِّقْصُ، أَوْ وَهَبَهُ، بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ عَلَى رَأْيِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ بَعْضَ الشِّقْصِ، ثُمَّ بَاعَ الْبَاقِيَ، لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ ثَانِيًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَيَنْدَفِعُ أَخْذُ جَمِيعِ الْمَبِيعِ. وَمِنْهَا: لَوْ وَكَّلَ الْبَائِعُ شَرِيكَهُ بِالْبَيْعِ، فَبَاعَ، لَمْ تَكُنْ لَهُ الشُّفْعَةُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.

قُلْتُ: وَمِنْهَا: أَنْ يَهَبَ لَهُ الشِّقْصَ بِلَا ثَوَابٍ، ثُمَّ يَهَبَ لَهُ صَاحِبُهُ قَدْرَ قِيمَتِهِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هَذَا لَا غَرَرَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ أَنْ لَا يَفِيَ صَاحِبُهُ، بِأَنْ يَهَبَهُ وَيَجْعَلَهُ فِي يَدِ أَمِينٍ لِيُقْبِضَهُ إِيَّاهُ، وَيَهَبَهُ صَاحِبُهُ قَدْرَ قِيمَتِهِ، وَيَجْعَلَهُ فِي يَدِ أَمِينٍ لِيُقْبِضَهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ يَتَقَابَضَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ دَفْعُ الشُّفْعَةِ بِالْحِيلَةِ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا دَفْعُ حَقٍّ عَلَى الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْبَيْعِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: يُكْرَهُ دَفْعُ الشُّفْعَةِ بِالْحِيلَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِبْقَاءِ الضَّرَرِ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَذْهَبِنَا فِي الْحِيلَةِ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ. قُلْتُ: عَجَبٌ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَيْفَ قَالَ مَا قَالَ، مَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَسْطُورَةٌ، وَفِيهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: تُكْرَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ. وَالثَّانِي: لَا، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ. أَمَّا الْحِيَلُ فِي دَفْعِ شُفْعَةِ الْجَارِ، فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا قَطْعًا، وَفِيهَا مِنَ الْحِيَلِ غَيْرُ مَا سَبَقَ [مَا] ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ يَشْتَرِي عُشْرَ الدَّارِ مَثَلًا بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الثَّمَنِ، فَلَا يَرْغَبُ الشَّفِيعُ لِكَثْرَةِ الثَّمَنِ، ثُمَّ يَشْتَرِي تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْجَارُ مِنَ الشُّفْعَةِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ حَالَةَ الشِّرَاءِ شَرِيكٌ فِي الدَّارِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، أَوْ يَخُطُّ الْبَائِعُ عَلَى طَرَفِ مِلْكِهِ خَطًّا مِمَّا يَلِي دَارَ جَارِهِ، وَيَبِيعُ مَا وَرَاءَ الْخَطِّ فَتَمْتَنِعُ شُفْعَةُ الْجَارِ، لِأَنَّ بَيْنَ مِلْكِهِ وَبَيْنَ الْمَبِيعِ فَاصِلًا، ثُمَّ يَهَبُهُ الْفَاصِلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب القراض

كِتَابُ الْقِرَاضِ الْقِرَاضُ وَالْمُقَارَضَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِمَعْنًى، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ مَالًا إِلَى شَخْصٍ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا. وَدَلِيلُ صِحَّتِهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ. الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِ صِحَّتِهِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ. [الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ: رَأْسُ الْمَالِ، وَلَهُ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ نَقْدًا، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَضْرُوبَةُ، وَدَلِيلُهُ الْإِجْمَاعُ. وَلَا يَجُوزُ عَلَى الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا عَلَى الْفُلُوسِ عَلَى الْمَذْهَبِ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ الْفُورَانِيُّ فِي جَوَازِ الْقِرَاضِ عَلَى ذَوَاتِ الْمِثْلِ وَجْهَيْنِ، وَهَذَا شَاذٌّ مُنْكَرٌ، وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ: الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا. فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ ثَوْبًا وَقَالَ: بِعْهُ وَقَدْ قَارَضْتُكَ عَلَى ثَمَنِهِ، لَمْ يَجُزْ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا. فَلَوْ قَارَضَ عَلَى دَرَاهِمَ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ أُحْضِرَ فِي الْمَجْلِسِ وَعَيَّنَهَا، قَطَعَ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ بِجَوَازِهِ، كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِالْمَنْعِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ لِغَيْرِهِ: قَارَضْتُكَ عَلَى دَيْنِي عَلَى فُلَانٍ، فَاقْبِضْهُ وَاتَّجِرْ فِيهِ، أَوْ قَارَضْتُكَ عَلَيْهِ لِتَقْبِضَ وَتَتَصَرَّفَ، أَوِ اقْبِضْهُ فَإِذَا قَبَضْتَهُ فَقَدْ قَارَضْتُكَ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ، وَإِذَا قَبَضَ الْعَامِلُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الرِّبْحَ الْمَشْرُوطَ، بَلِ الْجَمِيعُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِ التَّصَرُّفِ إِنْ كَانَ قَالَ: إِذَا قَبَضْتَ فَقَدْ

قَارَضْتُكَ. وَإِنْ قَالَ: قَارَضْتُكَ عَلَيْهِ لِتَقْبِضَ وَتَتَصَرَّفَ، اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ مِثْلِ التَّقَاضِي وَالْقَبْضِ أَيْضًا. وَلَوْ قَالَ لِلْمَدْيُونِ: قَارَضْتُكَ عَلَى الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ، لَمْ يَصِحَّ الْقِرَاضُ، بَلْ لَوْ قَالَ: اعْزِلْ قَدْرَ حَقِّي مِنْ مَالِكَ، فَعَزَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَارَضْتُكَ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ. فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمَأْمُورُ فِيمَا عَزَلَهُ، نُظِرَ، إِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِهِ لِلْقِرَاضِ، فَهُوَ كَالْفُضُولِيِّ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ بِعَيْنِ مَالِهِ. وَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ لِلْمَالِكِ، لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ بِإِذْنِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: لِلْعَامِلِ، لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَمْلِكِ الْيَمِينَ. وَحَيْثُ كَانَ الْمَعْزُولُ لِلْمَالِكِ، فَالرِّبْحُ وَرَأْسُ الْمَالِ لَهُ لِفَسَادِ الْقِرَاضِ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِلْعَامِلِ. وَلَوْ دَفَعَ كِيسَيْنِ فِي كُلِّ أَلْفٍ، وَقَالَ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ، لِتَسَاوِيهِمَا. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِعَدَمِ التَّعْيِينِ. قُلْتُ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَصَرَّفُ الْعَامِلُ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ، فَيَتَعَيَّنُ لِلْقِرَاضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَتْ دَرَاهِمُهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَدِيعَةً، فَقَارَضَهُ عَلَيْهَا، صَحَّ، وَلَوْ كَانَتْ غَصْبًا، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ رَهَنَهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ. وَعَلَى هَذَا، لَا يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ كَمَا فِي الرَّهْنِ. قُلْتُ: مَعْنَاهُ: لَا يَبْرَأُ بِمُجَرَّدِ الْقِرَاضِ. أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِلُ فَبَاعَ وَاشْتَرَى، فَيَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ، لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَزَالَتْ عَنْهُ يَدُهُ، وَمَا يَقْبِضُهُ مِنَ الْأَعْوَاضِ، يَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِيهَا مُضَمِّنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مُسَلَّمًا إِلَى الْعَامِلِ، وَيَسْتَقِلُّ بِالْيَدِ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ. فَلَوْ شَرَطَ الْمَالِكُ أَنْ يَكُونَ الْكِيسُ فِي يَدِهِ وَيُوَفِّيَ مِنْهُ الثَّمَنَ إِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ شَيْئًا، أَوْ شَرَطَ أَنَّهُ يُرَاجِعُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، أَوْ مُشْرِفًا نَصَبَّهُ،

فَسَدَ الْقِرَاضُ. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ، فَسَدَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ: يَجُوزُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَنَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ غُلَامُ الْمَالِكِ، فَوَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: صِحَّتُهُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ، وَلِمَالِكِهِ إِعَارَتُهُ وَإِجَارَتُهُ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى إِذْنِ الْمَالِكِ فِي اسْتِخْدَامِهِ. هَذَا إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَامِلِ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَكَ غُلَامِي وَلَا تَتَصَرَّفَ دُونَهُ، أَوْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَالِ فِي يَدِهِ، فَيَفْسُدُ قَطْعًا. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُعْطِيَهُ بَهِيمَةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا، جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ لَمْ يَشْرُطْ عَمَلَ الْغُلَامِ مَعَهُ، وَلَكِنْ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لَهُ وَالثُّلُثَ لِغُلَامِهِ، وَالثُّلُثَ لِلْعَامِلِ، جَازَ. وَحَاصِلُهُ: اشْتِرَاطُ ثُلُثَيِ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ دَرَاهِمُ مُشْتَرَكَةٌ، فَقَالَ لِشَرِيكِهِ: قَارَضْتُكَ عَلَى نَصِيبِي مِنْهَا، صَحَّ، إِذْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْإِشَاعَةُ، وَهِيَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ. قَالَ: وَلَوْ خَلَطَ أَلْفَيْنِ بِأَلْفٍ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْأَلْفَيْنِ لِلْآخَرِ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَشَارَكْتُكَ فِي الْآخَرِ، فَقَبِلَ، جَازَ، وَانْفَرَدَ الْعَامِلُ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَلْفِ الْقِرَاضِ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي التَّصَرُّفِ فِي بَاقِي الْمَالِ، وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ تَجَمُّعُ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يَرْجِعَانِ إِلَى التَّوْكِيلِ بِالتَّصَرُّفِ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ جَعْلُ رَأْسِ الْمَالِ سُكْنَى دَارٍ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُجْعَلِ الْعَرَضُ رَأْسَ مَالٍ، فَالْمَنْفَعَةُ أَوْلَى.

الرُّكْنُ الثَّانِي: الْعَمَلُ، وَلَهُ شُرُوطٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ تِجَارَةً، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الشَّرْطِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: لَوْ قَارَضَهُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْحِنْطَةَ فَيَطْحَنَهَا وَيَخْبِزَهَا، وَالطَّعَامَ لِيَطْبُخَهُ وَيَبِيعَهُ، وَالْغَزْلَ لِيَنْسِجَهُ، وَالثَّوْبَ لِيُقَصِّرَهُ، أَوْ يَصْبِغَهُ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ فَاسِدٌ. وَلَوِ اشْتَرَى الْعَامِلُ الْحِنْطَةَ، وَطَحَنَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَآخَرِينَ: يَخْرُجُ الدَّقِيقُ عَنْ كَوْنِهِ رَأْسَ مَالِ قِرَاضٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ غَيْرُهُ، انْفَسَخَ الْقِرَاضُ، لِأَنَّ الرِّبْحَ حِينَئِذٍ لَا يُحَالُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَقَطْ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَمَرَ الْمَالِكُ الْعَامِلَ بِطَحْنِ حِنْطَةِ الْقِرَاضِ، كَانَ فَسْخًا لِلْقِرَاضِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْقِرَاضَ بِحَالِهِ، كَمَا لَوْ زَادَ عَبْدُ الْقِرَاضِ بِكِبَرٍ، أَوْ سِمَنٍ، أَوْ تَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَالَ قِرَاضٍ، لَكِنْ إِنِ اسْتَقَلَّ الْعَامِلُ بِالطَّحْنِ، صَارَ ضَامِنًا، وَلَزِمَهُ الْغُرْمُ إِنْ نَقَصَ الدَّقِيقُ. فَإِنْ بَاعَهُ، لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ بِهَذِهِ الصِّنَاعَاتِ أُجْرَةً وَلَوِ اسْتَأْجَرَ عَلَيْهَا، وَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَالِكِ كَمَا شَرَطَا. الثَّانِيَةُ: قَارَضَهُ عَلَى دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ نَخِيلًا، أَوْ دَوَابَّ، أَوْ مُسْتَغَلَّاتٍ وَيُمْسِكَ رِقَابَهَا لِثِمَارِهَا وَنِتَاجِهَا وَغَلَّاتِهَا، وَتَكُونُ الْفَوَائِدُ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ رِبْحًا بِالتِّجَارَةِ، بَلْ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ. الثَّالِثَةُ: شَرَطَ أَنْ يَشْتَرِيَ شَبَكَةً وَيَصْطَادَ بِهَا وَالصَّيْدُ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ فَاسِدٌ، وَيَكُونُ الصَّيْدُ لِلصَّائِدِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الشَّبَكَةِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُضَيِّقًا عَلَيْهِ بِالتَّعْيِينِ. فَلَوْ عَيَّنَ نَوْعًا يَنْدُرُ كَالْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ وَالْخَزِّ الْأَدْكَنِ وَالْخَيْلِ الْعُتْقِ، وَالصَّيْدُ حَيْثُ يَنْدُرُ، فَسَدَ الْقِرَاضُ، لِأَنَّهُ تَضْيِيقٌ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ. وَإِنْ لَمْ يَنْدُرْ، وَدَامَ شِتَاءً وَصَيْفًا كَالْحُبُوبِ، وَالْحَيَوَانِ، وَالْخَزِّ،

وَالْبَزِّ، صَحَّ الْقِرَاضُ. وَإِنْ لَمْ يَدُمْ، كَالثِّمَارِ الرَّطْبَةِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، إِلَّا إِذَا قَالَ: تَصَرَّفْ فِيهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ، فَتَصَرَّفْ فِي كَذَا، فَيَجُوزُ. وَلَوْ قَالَ: لَا تَشْتَرِ إِلَّا هَذِهِ السِّلْعَةَ، أَوْ إِلَّا هَذَا الْعَبْدَ، فَسَدَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا تَشْتَرِ هَذِهِ السِّلْعَةَ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ شِرَاءُ غَيْرِهَا. وَلَوْ قَالَ: لَا تَبِعْ إِلَّا لِزَيْدٍ، أَوْ لَا تَشْتَرِ إِلَّا مِنْهُ، لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ الْمَاسَرْجِسِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ بَيَّاعًا لَا يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ الَّذِي يَتَّجِرُ فِي نَوْعِهِ غَالِبًا، جَازَ تَعْيِينُهُ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: لَا تَبِعْ لِزَيْدٍ وَلَا تَشْتَرِ مِنْهُ. جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ نَوْعٍ يُتَصَرَّفُ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ. فَرْعٌ إِذَا جَرَى تَعْيِينٌ صَحِيحٌ، لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ مُجَاوَزَتُهُ كَمَا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالْإِذْنِ. ثُمَّ الْإِذْنُ فِي الْبَزِّ يَتَنَاوَلُ مَا يُلْبَسُ مِنَ الْمَنْسُوجِ، مِنَ الْإِبْرِيسِمِ وَالْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ، دُونَ الْبُسُطِ، وَالْفُرُشِ. وَفِي الْأَكْسِيَةِ وَجْهَانِ، لِأَنَّهَا مَلْبُوسَةٌ، لَكِنْ لَا يُسَمَّى بَائِعُهَا بَزَّازًا. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُضَيِّقَ بِالتَّوْقِيتِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْقِرَاضِ بَيَانُ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ الْمُسَاقَاةِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهَا وَهُوَ الثَّمَرَةُ، يَنْضَبِطُ بِالْمُدَّةِ. فَلَوْ وَقَّتَ فَقَالَ: قَارَضْتُكَ

سَنَةً، فَإِنْ مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ بَعْدَهَا مُطْلَقًا، أَوْ مِنَ الْبَيْعِ، فَسَدَ، لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ لَا تَشْتَرِيَ بَعْدَ السَّنَةِ، وَلَكَ الْبَيْعُ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْمَالِكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَنْعِهِ مِنَ الشِّرَاءِ مَتَى شَاءَ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: قَارَضْتُكَ سَنَةً، فَسَدَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: يَجُوزُ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الشِّرَاءِ، اسْتِدَامَةً لِلْعَقْدِ. وَلَوْ قَالَ: قَارَضْتُكَ سَنَةً عَلَى أَنْ لَا أَمْلِكَ الْفَسْخَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَسَدَ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّقَ الْقِرَاضَ، فَيَقُولُ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ قَارَضْتُكَ، كَمَا لَا يُعَلِّقُ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ. وَلَوْ قَالَ: قَارَضْتُكَ الْآنَ وَلَا تَتَصَرَّفْ حَتَّى يَنْقَضِيَ الشَّهْرُ، فَقِيلَ: يَجُوزُ كَالْوَكَالَةِ. وَالْأَصَحُّ: لَا يَجُوزُ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ وَلَا تَمْلِكُ إِلَّا بَعْدَ شَهْرٍ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الرِّبْحُ، وَلَهُ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ. فَلَوْ شَرَطَ بَعْضَهُ لِثَالِثٍ فَقَالَ: عَلَى أَنْ يَكُونَ ثُلُثُهُ لَكَ، وَثُلُثُهُ لِي، وَثُلُثُهُ لِزَوْجَتِي، أَوْ لِابْنِي، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ، لَمْ يَصِحَّ، إِلَّا أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ مَعَهُ، فَيَكُونُ قِرَاضًا مَعَ رَجُلَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ عَبْدًا لِمَالِكٍ، أَوْ عَبْدًا لِعَامِلٍ، كَانَ ذَلِكَ مَضْمُومًا إِلَى مَا [شُرِطَ] لِلْمَالِكِ أَوْ لِلْعَامِلِ. وَلَوْ قَالَ: نِصْفُ الرِّبْحِ لَكَ وَنِصْفُهُ لِي، وَمِنْ نَصِيبِي نِصْفُهُ لِزَوْجَتِي، صَحَّ الْقِرَاضُ، وَهَذَا وَعْدُ هِبَةٍ لِزَوْجَتِهِ. وَلَوْ قَالَ لِلْعَامِلِ: لَكَ كَذَا عَلَى أَنْ تُعْطِيَ ابْنَكَ أَوِ امْرَأَتَكَ نِصْفَهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: إِنْ ذَكَرَهُ شَرْطًا، فَسَدَ الْقِرَاضُ، وَإِلَّا فَلَا. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا. فَلَوْ قَالَ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الرِّبْحِ لَكَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ قِرَاضٌ فَاسِدٌ رِعَايَةً لِلَّفْظِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قِرَاضٌ صَحِيحٌ رِعَايَةً لِلْمَعْنَى. وَلَوْ قَالَ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِي، فَهَلْ هُوَ

قِرَاضٌ فَاسِدٌ، أَمْ إِبْضَاعٌ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَبْضَعْتُكَ عَلَى أَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لَكَ، فَهُوَ إِبْضَاعٌ، أَمْ قِرَاضٌ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ وَتَصَرَّفْ فِيهَا وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ، فَهُوَ قَرْضٌ صَحِيحٌ عِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْأَكْثَرِينَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: قَارَضْتُكَ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ، لِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي عَقْدٍ آخَرَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ لِلْمَالِكِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَلَا يَكُونُ قَرْضًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ. وَلَوْ قَالَ: تَصَرَّفْ فِيهَا وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي، فَهُوَ إِبْضَاعٌ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا. فَلَوْ قَالَ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ فِي الرِّبْحِ شِرْكًا، أَوْ شِرْكَةً، أَوْ نَصِيبًا، فَسَدَ. وَإِنْ قَالَ: لَكَ مِثْلُ مَا شَرَطَهُ فُلَانٌ لِفُلَانٍ، فَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِهِ، صَحَّ. وَإِنْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا، فَسَدَ. وَلَوْ قَالَ: الرِّبْحُ بَيْنَنَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْفَسَادُ. وَأَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، وَيُنَزَّلُ عَلَى النِّصْفِ، كَقَوْلِهِ: هَذِهِ الدَّارُ بَيْنِي وَبَيْنَ زَيْدٍ، يَكُونُ مُقِرًّا بِالنِّصْفِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ لَكَ، وَمَا بَقِيَ فَثُلُثُهُ لِي وَثُلُثَاهُ لَكَ، صَحَّ. وَحَاصِلُهُ اشْتِرَاطُ سَبْعَةِ أَتْسَاعِ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ، هَذَا إِذَا عَلِمَا عِنْدَ الْعَقْدِ أَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْعَامِلِ بِهَذَا اللَّفْظِ كَمْ هُوَ، فَإِنْ جَهِلَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا، صَحَّ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ فِي «الشَّامِلِ» ، لِسُهُولَةِ مَعْرِفَتِهِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ، فِيمَا إِذَا قَالَ: [لَكَ] مِنَ الرِّبْحِ سُدُسُ رُبُعِ الْعُشْرِ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ قَدْرَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ أَحَدُهُمَا. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُزْئِيَّةُ، لَا مِنْ حَيْثُ التَّقْدِيرُ. فَلَوْ قَالَ: لَكَ مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ لِي مِنْهُ دِرْهَمٌ أَوْ مِائَةٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ، فَسَدَ الْقِرَاضُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: نِصْفُ الرِّبْحِ إِلَّا دِرْهَمًا، وَكَذَا إِذَا اشْتَرَطَ أَنْ يُوَلِّيَهُ سِلْعَةَ كَذَا إِذَا اشْتَرَاهَا بِرَأْسِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْبَحُ إِلَّا فِيهَا، أَوْ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ

فصل

الْمُشْتَرَى، أَوْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ، أَوِ اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ صِنْفٍ مِنَ الْمَالِ، أَوْ قَالَ: رِبْحُ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ لِي، وَرِبْحُ الْآخَرِ لَكَ، وَشَرَطَ تَمْيِيزَ الْأَلْفَيْنِ. فَلَوْ دَفَعَهُمَا إِلَيْهِ وَلَا تَمْيِيزَ، وَقَالَ: رِبْحُ أَحَدِهِمَا لِي، وَرِبْحُ الْآخَرِ لَكَ، فَسَدَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَصِحُّ وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: نِصْفُ رِبْحِ الْأَلْفَيْنِ لَكَ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ. الْقِرَاضُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُعَامَلَةُ أَلْفَاظٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ. فَإِذَا قَالَ: قَارَضْتُكَ، أَوْ ضَارَبْتُكَ، أَوْ عَامَلْتُكَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ، كَانَ إِيجَابًا صَحِيحًا. وَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ مُتَّصِلًا الِاتِّصَالَ الْمُعْتَبَرَ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ. وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْأَلْفَ وَاتَّجِرْ فِيهِ، عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ، فَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ، بِأَنَّهُ قِرَاضٌ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: قَطَعَ شَيْخِي وَالطَّبَقَةُ الْعُظْمَى مِنْ نَقَلَةِ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقَبُولِ، بِخِلَافِ الْجَعَالَةِ وَالْوَكَالَةِ، لِأَنَّ الْقِرَاضَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ. وَلَوْ قَالَ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لِي، وَسَكَتَ عَنْ جَانِبِ الْعَامِلِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ: يَصِحُّ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لَكَ، وَسَكَتَ عَنْ جَانِبِ نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ لَكَ النِّصْفَ وَلِي السُّدُسَ، وَسَكَتَ عَنِ الْبَاقِي، صَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الْعَاقِدَانِ. فَالْقِرَاضُ تَوْكِيلٌ وَتَوَكُّلٌ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْوَكِيلِ وَالْمُوكِّلُ، وَيَجُوزُ لِوَلِيِّ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ أَنْ يُقَارِضَ بِمَالِهِمَا، سَوَاءٌ فِيهِ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْوَصِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَأَمِينُهُ. فَصْلٌ إِذَا قَارَضَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ صَحَّ، وَيُسَلِّمُ لِلْعَامِلِ الرِّبْحَ الْمَشْرُوطَ وَإِنْ زَادَ

فصل

عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَلَا يُحْسَبُ مِنَ الثُّلُثِ وَلَوْ سَاقَاهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَزَادَ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ، حُسِبَتِ الزِّيَادَةُ مِنَ الثُّلُثِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْفَرْقُ: أَنَّ النَّمَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ. فَصْلٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَارِضَ الْوَاحِدُ اثْنَيْنِ وَعَكْسُهُ. فَإِذَا قَارَضَ اثْنَيْنِ، وَشَرَطَ لَهُمَا نِصْفَ الرِّبْحِ بِالسَّوِيَّةِ، جَازَ، وَلَوْ شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَلِلْآخَرِ رُبُعَهُ، فَإِنْ أَبْهَمَ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ عَيَّنَ صَاحِبَ الثُّلُثِ وَصَاحِبَ الرُّبُعِ، جَازَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَارِضَ اثْنَيْنِ إِذَا أَثْبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ الِاسْتِقْلَالَ. فَإِنْ شَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مُرَاجَعَةَ الْآخَرِ، لَمْ يَجُزْ. هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ، وَمَا أَظُنُّ الْأَصْحَابَ يُسَاعِدُونَهُ عَلَيْهِ. وَإِذَا قَارَضَ اثْنَانِ وَاحِدًا، فَلْيُبَيِّنَا نَصِيبَ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَالَيْهِمَا. وَلَوْ قَالَا: لَكَ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِنَا مِنَ الرِّبْحِ الثُّلُثُ، وَمِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ الرُّبُعُ، فَإِنْ أَبْهَمَا لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ عَيَّنَا وَهُوَ عَالِمٌ بِقَدْرِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ جَازَ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا كَوْنَ الْبَاقِي بَيْنَ الْمَالِكَيْنِ عَلَى غَيْرِ مَا تَقْتَضِيهِ نِسْبَةُ الْمَالَيْنِ. فَصْلٌ إِذَا فَسَدَ الْقِرَاضُ بِتَخَلُّفِ بَعْضِ الشُّرُوطِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ. أَحَدُهَا: تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ كَنُفُوذِهَا فِي الْقِرَاضِ الصَّحِيحِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ كَالْوَكَالَةِ الْفَاسِدَةِ. الثَّانِي: سَلَامَةُ الرِّبْحِ بِكَمَالِهِ لِلْمَالِكِ. الثَّالِثُ: اسْتِحْقَاقُ الْعَامِلِ أُجْرَةَ مِثْلِ عَمَلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، أَمْ لَا، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مُطَّرِدَةٌ فِي صُوَرِ الْفَسَادِ، لَكِنْ لَوْ قَالَ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِي، وَقُلْنَا: هُوَ قِرَاضٌ فَاسِدٌ، لَا إِبْضَاعَ، فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ لِأَنَّهُ عَمِلَ مَجَّانًا.

فَرْعٌ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا وَقَالَ: اشْتَرِ بِهَا هَرَوِيًّا أَوْ مَرْوِيًّا بِالنِّصْفِ، فَهُوَ فَاسِدٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ فَسَادِهِ، فَالْأَصَحُّ، وَفِي سِيَاقِ الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِيهِ: أَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِلشِّرَاءِ دُونَ الْبَيْعِ، وَهَذَا تَقْرِيعٌ عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّ التَّعَرُّضَ لِلشِّرَاءِ لَا يُغْنِي عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْبَيْعِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا لِتَنَاوُلِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، أَوْ [مِنْ] لَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ جَمِيعًا. وَإِذَا اقْتَصَرَ عَلَى الشِّرَاءِ، فَلِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ الشِّرَاءُ دُونَ الْبَيْعِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمَالِكِ، وَالْخُسْرَانُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يَكْفِي التَّعَرُّضُ لِلشِّرَاءِ، وَيَتَضَمَّنُ الْإِذْنَ فِي الْبَيْعِ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: إِذَا أَتَى بِلَفْظِ الْمُضَارَبَةِ أَوِ الْقِرَاضِ كَانَ كَقَوْلِهِ: اشْتَرِ، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْبَيْعِ. وَالصَّحِيحُ: الصِّحَّةُ. وَقِيلَ: سَبَبُهُ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لِمَنِ النِّصْفُ. وَاعْتَرَضَ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى هَذَا، بِأَنَّ الشَّرْطَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْعَامِلِ، لِأَنَّ الْمَالِكَ يَسْتَحِقُّ بِالْمَالِ، لَا بِالشَّرْطِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَبَبُ الْفَسَادِ، أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ، وَلَا أَطْلَقَ التَّصَرُّفَ فِي أَنْوَاعِ الْأَمْتِعَةِ. وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ لَوْ عُيِّنَ أَحَدُهُمَا، حَكَمْنَا بِالصِّحَّةِ، فَإِذَا ذَكَرَهُمَا عَلَى التَّرْدِيدِ، زَادَ الْعَامِلُ بَسْطَةً وَتَخْيِيرًا، فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ. قُلْتُ: هَذَا الِاعْتِرَاضُ لَيْسَ بِمَقْبُولٍ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ حَمَلَ لَفْظَةَ «أَوْ» عَلَى التَّخْيِيرِ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي أَحَدِهِمَا وَشَكَّ فِي الْمُرَادِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: سَبَبُهُ أَنَّ الْقِرَاضَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أَطْلَقَ التَّصَرُّفَ فِي الْأَمْتِعَةِ، أَوْ عَيَّنَ جِنْسًا يَعُمُّ وُجُودُهُ، وَالْهَرَوِيُّ وَالْمَرْوِيُّ لَيْسَا كَذَلِكَ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يُقْرِضُهُ

فِي بَلَدٍ لَا يَعُمَّانِ فِيهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ أَنَّهُ أَرْسَلَ ذِكْرَ النِّصْفِ وَلَمْ يَقُلْ: نِصْفُ الرِّبْحِ. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْقِرَاضِ الصَّحِيحِ هِيَ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ. الْأَوَّلُ: تَقَيُّدُ تَصَرُّفِ الْعَامِلِ بِالْمَصْلَحَةِ كَتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ، ثُمَّ قَدْ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ تَقْتَضِي الْفَرْقَ، فَبَيْعُ الْعَامِلِ وَشِرَاؤُهُ بِالْغَبْنِ كَالْوَكِيلِ، وَلَا يَبِيعُ أَيْضًا نَسِيئَةً، وَلَا يَشْتَرِي بِهَا. فَإِنْ أَذِنَ الْمَالِكُ فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً، فَفَعَلَ، وَجَبَ الْإِشْهَادُ، فَإِنْ تَرْكَهُ ضَمِنَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الْبَيْعِ حَالًا لِأَنَّهُ يَحْبِسُ الْمَبِيعَ إِلَى اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَلَوْ سَلَّمَهُ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ ضَمِنَ، كَالْوَكِيلِ. فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّسْلِيمِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ سَلَّمَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِشْهَادُ، لِأَنَّ الْعَادَةَ تَرْكُ الْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ الْحَالِّ. وَيَجُوزُ لِلْعَامِلِ الْبَيْعُ بِالْعَرَضِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ الْقِرَاضِ، وَكَذَا لَهُ شِرَاءُ الْمَعِيبِ إِذَا رَأَى فِيهِ رِبْحًا، فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: فِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ، لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ تَقِلُّ فِي الْمَعِيبِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنِ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى ظَنِّ السَّلَامَةِ، فَبَانَ مَعِيبًا، فَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَدِّهِ إِنْ كَانَتْ فِيهِ غِبْطَةٌ، وَلَا يَمْنَعُهُ [مِنْهُ] رِضَا الْمَالِكِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ صَاحِبُ حَقٍّ فِي الْمَالِ. وَإِنْ كَانَتِ الْغِبْطَةُ فِي إِمْسَاكِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِإِخْلَالِهِ بِالْمَقْصُودِ. وَحَيْثُ ثَبَتَ الرَّدُّ لِلْعَامِلِ، فَلِلْمَالِكِ أَوْلَى. قَالَ الْإِمَامُ: ثُمَّ الْعَامِلُ

يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ وَيَنْقُضُ الْبَيْعَ. وَأَمَّا الْمَالِكُ، فَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِ مَالِ الْقِرَاضِ، فَكَمِثْلٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَيَصْرِفُهُ الْمَالِكُ عَنْ مَالِ الْقِرَاضِ. وَفِي انْصِرَافِهِ إِلَى الْعَامِلِ مَا سَبَقَ فِي انْصِرَافِ الْعَقْدِ إِلَى الْوَكِيلِ إِذَا لَمْ يَقَعْ لِلْمُوَكِّلِ. وَلَوْ تَنَازَعَ الْمَالِكُ وَالْعَامِلُ فِي الرَّدِّ وَتَرْكِهِ عُمِلَ بِالْمَصْلَحَةِ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ مُعَامَلَةُ الْعَامِلِ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ شَيْئًا، لِأَنَّهُ مِلْكَهُ كَالسَّيِّدِ مَعَ الْمَأْذُونِ لَهُ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْقِرَاضِ بِأَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَلَوْ فَعَلَ، لَمْ يَقَعْ مَا زَادَ عَنْ جِهَةِ الْقِرَاضِ. فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ مِائَةً قِرَاضًا، فَاشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةٍ، ثُمَّ آخَرَ بِمِائَةٍ لِلْقِرَاضِ أَيْضًا، لَمْ يَقَعِ الثَّانِي لِلْقِرَاضِ، بَلْ يُنْظَرُ إِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمِائَةِ فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ اشْتَرَى الْأَوَّلَ بِعَيْنِ الْمِائَةِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ. وَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ، انْصَرَفَ إِلَى الْعَامِلِ حَيْثُ يَنْصَرِفُ شِرَاءُ الْوَكِيلِ الْمُخَالِفِ إِلَيْهِ. وَإِذَا انْصَرَفَ إِلَيْهِ، فَصَرَفَ مِائَةَ الْقِرَاضِ فِي ثَمَنِهِ، فَقَدْ تَعَدَّى، وَدَخَلَتِ الْمِائَةُ فِي ضَمَانِهِ، لَكِنَّ الْعَبْدَ الْأَوَّلَ يَبْقَى أَمَانَةً فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ. فَإِنْ تَلِفَتِ الْمِائَةُ وَالشِّرَاءُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهَا انْفَسَخَ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَنْفَسِخْ، وَثَبَتَ لِلْمَالِكِ عَلَى الْعَامِلِ مِائَةٌ، وَالْعَبْدُ الْأَوَّلُ لِلْمَالِكِ، وَعَلَيْهِ لِبَائِعِهِ مِائَةٌ، فَإِنْ أَدَّاهَا الْعَامِلُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَشَرَطَ الرُّجُوعَ، ثَبَتَ لَهُ مِائَةٌ عَلَى الْمَالِكِ، وَوَقَعَ الْكَلَامُ فِي التَّقَاصِّ. وَإِنْ أَدَّاهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ بَرِئَ الْمَالِكُ عَنْ حَقِّ صَاحِبِ الْعَبْدِ، وَيَبْقَى حَقُّهُ عَلَى الْعَامِلِ.

فصل

فَصْلٌ اشْتَرَى الْعَامِلُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى الْمَالِكِ، فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِإِذْنِهِ، وَإِمَّا بِغَيْرِهِ. الْحَالُ الْأَوَّلُ: بِإِذْنِهِ، فَيَصِحُّ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، عَتَقَ عَلَى الْمَالِكِ وَارْتَفَعَ الْقِرَاضُ إِنِ اشْتَرَاهُ بِجَمِيعِ مَالِ الْقِرَاضِ، وَإِلَّا فَيَصِيرُ الْبَاقِي رَأْسَ مَالٍ. وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ مَتَى يَمْلِكُ نَصِيبَهُ مِنَ الرِّبْحِ؟ إِنْ قُلْنَا: بِالْقِسْمَةِ عَتَقَ أَيْضًا، وَغَرِمَ الْمَالِكُ نَصِيبَهُ مِنَ الرِّبْحِ، وَكَأَنَّهُ اسْتَرَدَّ طَائِفَةً مِنَ الْمَالِ بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ، عَتَقَ مِنْهُ حِصَّةَ رَأْسِ الْمَالِ وَنَصِيبَ الْمَالِكِ مِنَ الرِّبْحِ، وَسَرَى إِلَى الْبَاقِي إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَيُغَرِّمُهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بَقِيَ رَقِيقًا. وَفِي وَجْهٍ: إِذَا كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ وَقَدِ اشْتَرَاهُ بِبَعْضِ الْمَالِ، نُظِرَ، إِنِ اشْتَرَاهُ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، عَتَقَ وَكَأَنَّ الْمَالِكَ اسْتَرَدَّ الْمَالَ وَالْبَاقِيَ رِبْحٌ يَتَقَاسَمَانِهِ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ، حُسِبَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ بِأَكْثَرَ حُسِبَ قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ حِصَّةِ الْمَالِكِ مَا أَمْكَنَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَالِكُ عَبْدًا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ، فَهُوَ كَشِرَاءِ الْعَامِلِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِإِذْنِهِ. الْحَالُ الثَّانِي: يَشْتَرِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَا يَقَعُ [الشِّرَاءُ] عَنِ الْمَالِكِ بِحَالٍ، إِذْ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْقِرَاضِ، ثُمَّ إِنِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ مَالِ الْقِرَاضِ بَطَلَ مِنْ أَصْلِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَقَعَ عَنِ الْعَامِلِ، وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ مِنْ مَالِهِ. فَإِنْ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ ضَمِنَ. فَرْعٌ اشْتَرَى زَوْجَةَ الْمَالِكِ، أَوْ زَوَّجَهَا بِلَا إِذْنٍ، قِيلَ: يَصِحُّ. وَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ،

الْمَنْعُ كَمَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَانْفَسَخَ النِّكَاحُ وَتَضَرَّرَ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِالْإِذْنِ مَا فِيهِ حَظٌّ. فَعَلَى هَذَا، هُوَ كَمَا لَوِ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِلَا إِذْنٍ. فَرْعٌ لَوْ وَكَّلَ بِشِرَاءِ عَبْدٍ، فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، صَحَّ وَوَقَعَ عَنِ الْمُوَكِّلِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ شَامِلٌ، بِخِلَافِ الْقِرَاضِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الرِّبْحُ فَقَطْ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ بَلْ يَبْطُلُ الشِّرَاءُ إِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ، وَيَقَعُ عَنِ الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ. فَرْعٌ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ [فِي التِّجَارَةِ] ، إِذَا اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَى سَيِّدِهِ بِإِذْنِهِ صَحَّ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ تَرْكَبْهُ دُيُونٌ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ كَالْمَرْهُونِ بِالدُّيُونِ. وَإِنِ اشْتَرَى بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ. وَرَأَى الْإِمَامُ الْقَطْعَ بِالْبُطْلَانِ إِنْ كَانَ [أَذِنَ] فِي التِّجَارَةِ، وَجُعِلَ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا قَالَ: تَصَرَّفْ فِي هَذَا الْمَالِ وَاشْتَرِ عَبْدًا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . ثُمَّ هَذَا الْخِلَافُ، إِذَا لَمْ يَرْكَبْهُ دَيْنٌ، فَإِنْ رَكِبَهُ، تَرَتَّبَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَرْكَبْهُ، وَأَوْلَى بِالْبُطْلَانِ. فَإِنْ صَحَّ، فَفِي نُفُوذِ الْعِتْقِ الْقَوْلَانِ. فَرْعٌ اشْتَرَى الْعَامِلُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ صَحَّ وَلَمْ يَعْتِقْ

كَالْوَكِيلِ يَشْتَرِي أَبَاهُ لِمُوَكِّلِهِ، ثُمَّ إِنِ ارْتَفَعَتِ الْأَسْعَارُ وَظَهَرَ رِبْحٌ، بُنِيَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْعَامِلَ مَتَى يَمْلِكُ الرِّبْحَ؟ إِنْ قُلْنَا: بِالْقِسْمَةِ، لَمْ يَعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالظُّهُورِ، عَتَقَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا يَعْتِقُ، لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: بِالْأَصَحِّ، فَفِي السِّرَايَةِ وَتَقْوِيمِ الْبَاقِي عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: تَثْبُتُ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ وَفِيهِ رِبْحٌ وَقُلْنَا: يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، سَوَاءٌ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الشِّرَاءِ، أَوْ حَصَلَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ بِأَنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِائَةً، فَاشْتَرَى بِهَا أَبَاهُ وَهُوَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ الرِّبْحَ بِالْقِسْمَةِ صَحَّ الشِّرَاءُ وَلَمْ يُعْتِقْ، وَإِلَّا فَفِي صِحَّةِ الشِّرَاءِ فِي قَدْرِ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، لِأَنَّهُ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ غَرَضَ الِاسْتِرْبَاحِ. فَإِنْ مَنَعْنَا فَفِي الصِّحَّةِ فِي نَصِيبِ الْمَالِكِ قَوْلَا الصَّفْقَةِ، وَإِنْ صَحَّحْنَا فَفِي عِتْقِهِ عَنْهُ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُعْتِقُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، سَرَى الْعِتْقُ إِلَى الْبَاقِي وَلَزِمَهُ الْغُرْمُ، لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الشِّرَاءِ، وَإِلَّا فَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا. هَذَا كُلُّهُ إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ الْقِرَاضِ، فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ لِلْقِرَاضِ، فَحَيْثُ صَحَّحْنَا الشِّرَاءَ بِعَيْنِ مَالِ الْقِرَاضِ، أَوْقَعْنَاهُ هُنَا عَنِ الْقِرَاضِ، وَحَيْثُ لَمْ نُصَحِّحْ هُنَاكَ، أَوْقَفْنَاهُ هُنَا عَنِ الْعَامِلِ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهُ إِذَا أَطْلَقَ الشِّرَاءَ وَلَمْ يَصْرِفْهُ إِلَى الْقِرَاضِ لَفْظًا، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ نَوَيْتُهُ، وَقُلْنَا: إِنَّهُ إِذَا وَقَعَ عَنِ الْقِرَاضِ لَا يُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءٌ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الَّذِي جَرَى عَقْدُ عِتَاقِهِ، فَلَا يُقْبَلُ رَفْعُهُ. فَرْعٌ لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَ الْقِرَاضِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ. فَإِنْ كَاتَبَاهُ مَعًا، جَازَ،

وَعَتَقَ بِالْأَدَاءِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَوَلَاؤُهُ لِلْمَالِكِ وَلَا يَنْفَسِخُ الْقِرَاضُ بِمَا جَرَى مِنَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، بَلْ يَنْسَحِبُ عَلَى النُّجُومِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ، فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ، وَمَا يَزِيدُ مِنَ النُّجُومِ عَلَى الْقِيمَةِ رِبْحٌ. الْحُكْمُ الثَّانِي: مَنْعُ مُقَارَضَةِ الْعَامِلِ غَيْرَهُ. فَلَوْ قَارَضَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَخَرَجَ مِنَ الدَّيْنِ وَصَارَ وَكِيلًا فِي مُقَارَضَةِ الثَّانِي صَحَّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ. وَلَوْ فَعَلَ فَسَدَ الْقِرَاضُ الثَّانِي، وَلِعَامِلِهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ عَلَى الْمَالِكِ، لِمَا سَبَقَ أَنَّ شَرْطَ الرِّبْحِ لِغَيْرِ الْعَامِلِ وَالْمَالِكِ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ أَذِنَ [لَهُ] فِي أَنْ يُعَامِلَ غَيْرَهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْعَمَلِ وَالرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ لَهُ عَلَى مَا يَرَاهُ، فَقِيلَ: يَجُوزُ كَمُقَارَضَةِ شَخْصَيْنِ ابْتِدَاءً، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ. وَإِنْ قَارَضَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَيَجِيءُ فِيهِ قَوْلُ وَقْفِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ عَلَى الْإِجَازَةِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ، فَتَصَرَّفَ الثَّانِي فِي الْمَالِ وَرَبِحَ، فَهُوَ كَالْغَاصِبِ إِذَا اتَّجَرَ فِي الْمَغْصُوبِ. فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي عَيْنِهِ، فَتَصَرُّفُ فُضُولِيٍّ، وَإِنْ بَاعَ سَلَمًا، أَوِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ وَسَلَّمَ الْمَغْصُوبَ فِيمَا الْتَزَمَهُ وَرَبِحَ، فَالرِّبْحُ لِلْغَاصِبِ فِي الْجَدِيدِ، وَلِلْمَالِكِ فِي الْقَدِيمِ. وَفِي هَذَا الْقَدِيمِ، أَبْحَاثٌ. أَحَدُهَا: هَلِ الرِّبْحُ لِلْمَالِكِ جَزْمًا، أَمْ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهِ؟ قِيلَ: بِالْوَقْفِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ عَلَى الْقَدِيمِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ رَدَّهُ ارْتَدَّ، سَوَاءٌ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ أَمْ بِعَيْنِ الْمَغْصُوبِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ بِالْجَزْمِ، وَبَنَوْهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ وَقْفُ شِرَاءِ الْغَاصِبِ لِنَفْسِهِ عَلَى إِجَازَةِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قَوْلُ الْوَقْفِ إِذَا تَصَرَّفَ فِي عَيْنِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ لَهُ؟ ! . الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَارٍ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ وَكَثُرَتِ التَّصَرُّفَاتُ

وَعَسُرَ تَتَبُّعُهَا، فَإِنْ سَهُلَ وَقَلَّتْ وَلَا رِبْحَ، فَلَا مَجَالَ لَهُ. فَإِنْ سَهُلَ وَهُنَاكَ رِبْحٌ، أَوْ عُسْرٌ وَلَا رِبْحَ، فَوَجْهَانِ، وَسَوَاءٌ فِي الرِّبْحِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ. الثَّالِثُ: لَوِ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يَخْطُرْ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ مِنَ الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ، ثُمَّ خَطَرَ لَهُ، قَالَ الْإِمَامُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْرِيَ الْقَدِيمُ إِنْ صَدَّقَهُ الْمَالِكُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُلَقَّبُ بِمَسْأَلَةِ الْبِضَاعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا مُخْتَصَرَةً فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ وَفِي الْغَصْبِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَاشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ الْقِرَاضِ فَبَاطِلٌ، وَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، فَهَلْ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ الثَّانِي لِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ كَالْغَاصِبِ؟ أَمْ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الثَّانِيَ تَصَرَّفَ بِإِذْنِهِ كَالْوَكِيلِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ لِلثَّانِي أُجْرَةُ عَمَلِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: بِالْقَدِيمِ، فَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَالِكُ مِنَ الرِّبْحِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: جَمِيعُهُ كَالْغَصْبِ. فَعَلَى هَذَا لِلْعَامِلِ الثَّانِي أُجْرَةُ عَمَلِهِ قِيلَ: يَأْخُذُهَا مِنَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَالِكِ، لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ عَادَ إِلَيْهِ. وَ [الْوَجْهُ] الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ: لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِخِلَافٍ بِهِ، بِخِلَافِ صُورَةِ الْغَصْبِ. فَعَلَى هَذَا، فِي النِّصْفِ الثَّانِي أَوْجُهٌ. قِيلَ: كُلُّهُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَلِلثَّانِي عَلَيْهِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ غَرَّهُ. وَقِيلَ: لِلثَّانِي. وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَعَلَى هَذَا، فِي رُجُوعِ الثَّانِي بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ أَخَذَ نِصْفَ مَا حَصَلَ لَهُمَا، وَالْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَالَ: عَلَى أَنَّ رِبْحَ هَذَا الْمَالِ بَيْنَنَا، أَوْ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ نِصْفَهُ. فَإِنْ كَانَ قَالَ: مَا رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى [مِنَ الرِّبْحِ] فَهُوَ بَيْنَنَا، فَلَا رُجُوعَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، لِأَنَّ النِّصْفَ، هُوَ الَّذِي رُزِقَاهُ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، طَرَدَ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ، بِشَطْرِ جَمِيعِ الرِّبْحِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا كَانَ الْقِرَاضَانِ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ، فَإِنْ كَانَا هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَلَى نِسْبَةٍ أُخْرَى، فَعَلَى مَا تَشَارَطَا. هَذَا كُلُّهُ إِذَا تَصَرَّفَ الثَّانِي وَرَبِحَ. أَمَّا لَوْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ فَغَاصِبٌ. وَإِنْ ظَنَّ الْعَامِلَ

فصل

مَالِكًا، فَهُوَ كَالْمُسْتَوْدَعِ مِنَ الْغَاصِبِ، لِأَنَّ يَدَهُ أَمَانَةٌ. وَقِيلَ: كَالْمُتَّهَبِ مِنَ الْغَاصِبِ، لِعَوْدِ النَّفْعِ إِلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا ضَمَانًا وَقَرَارًا. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: مَنَعَهُ السَّفَرَ بِمَالِ الْقِرَاضِ، فَلَيْسَ لَهُ السَّفَرُ بِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، وَفِي قَوْلٍ: لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ، نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ. فَعَلَى الْمَشْهُورِ: لَوْ سَافَرَ، ضَمِنَ الْمَالَ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَتَاعُ بِالْبَلْدَةِ الَّتِي سَافَرَ إِلَيْهَا أَكْثَرَ قِيمَةً، أَوْ تَسَاوَتِ الْقِيمَتَانِ صَحَّ الْبَيْعُ، وَاسْتَحَقَّ الرِّبْحَ بِسَبَبِ الْإِذْنِ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ قِيمَةً، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ قَدْرًا يَتَغَابَنُ بِهِ. وَإِذَا صَحَّحْنَا الْبَيْعَ، فَالثَّمَنُ الَّذِي يَقْبِضُهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ إِذَا تَعَدَّى ثُمَّ بَاعَ، لَا يَضْمَنُ الثَّمَنَ الَّذِي يَقْبِضُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ، وَهُنَا الْعُدْوَانُ بِالسَّفَرِ، وَهُوَ شَامِلٌ، وَلَا تَعُودُ الْأَمَانَةُ بِالْعَوْدِ مِنَ السَّفَرِ. أَمَّا إِذَا سَافَرَ بِالْإِذْنِ، فَلَا عُدْوَانَ وَلَا ضَمَانَ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيَبِيعُ بِمَا كَانَ يَبِيعُهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي سَافَرَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُسَاوِ إِلَّا مَا دُونَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ غَرَضٌ، بِأَنْ كَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ النَّقْصِ، أَوْ أَمْكَنَ صَرْفُ الثَّمَنِ إِلَى مَتَاعٍ يَتَوَقَّعُ فِيهِ رِبْحًا، فَلَهُ الْبَيْعُ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ تَخْسِيرٌ مَحْضٌ. قُلْتُ: وَإِذَا سَافَرَ بِالْإِذْنِ، لَمْ يَجُزْ سَفَرُهُ فِي الْبَحْرِ إِلَّا بِنَصٍّ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَتَوَلَّى مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ مِنْ نَشْرِ الثِّيَابِ وَطَيِّهَا وَذَرْعِهَا وَإِدْرَاجِهَا فِي السَّفَطِ وَإِخْرَاجِهَا وَوَزْنِ مَا يَخِفُّ كَالذَّهَبِ وَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَحَمْلِهِ وَحِفْظِ الْمَتَاعِ عَلَى بَابِ الْحَانُوتِ، وَفِي السَّفَرِ بِالنَّوْمِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ وَزْنُ الْأَمْتِعَةِ الثَّقِيلَةِ وَحَمَلُهَا، وَلَا نَقْلُ الْمَتَاعِ مِنَ الْخَانِ إِلَى الْحَانُوتِ وَالنِّدَاءُ عَلَيْهِ، ثُمَّ

فصل

مَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّاهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ، فَالْأُجْرَةُ فِي مَالِهِ، وَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّاهُ، لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ. وَلَوْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا أُجْرَةَ لَهُ. فَصْلٌ أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَالْحَمَّالِ، فِي مَالِ الْقِرَاضِ، وَكَذَا أُجْرَةُ النَّقْلِ إِذَا سَافَرَ بِالْإِذْنِ، وَكَذَا أُجْرَةُ الْحَارِسِ وَالرَّصَدِيِّ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ بِشَيْءٍ أَصْلًا، وَلَا أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْحَضَرِ قَطْعًا. وَفِي السَّفَرِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا نَفَقَةَ لَهُ، كَالْحَضَرِ. وَالثَّانِي: لَهُ. وَقِيلَ: بِالْمَنْعِ قَطْعًا. وَقِيلَ: بِالْإِثْبَاتِ قَطْعًا. فَإِنْ أَثْبَتْنَا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَا يَزِيدُ بِسَبَبِ السَّفَرِ، كَالْخُفِّ وَالْإِدَاوَةِ وَشِبْهِهِمَا. وَقِيلَ: يَطَّرِدُ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ وَكُسْوَةٍ وَإِدَامٍ وَغَيْرِهَا. قُلْتُ: وَإِذَا قُلْنَا بِالِاخْتِصَاصِ، اسْتَحَقَّ أَيْضًا مَا يَتَجَدَّدُ بِسَبَبِ السَّفَرِ مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ، وَاللِّبَاسِ، وَالْكِرَاءِ، وَنَحْوِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْإِثْبَاتِ مَسَائِلُ. مِنْهَا: لَوِ اسْتَصْحَبَ مَالَ نَفْسِهِ مَعَ مَالِ الْقِرَاضِ، وُزِّعَتِ النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى قَدْرِ الْعَمَلِ عَلَى الْمَالَيْنِ وَيُوَزِّعَ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِمَا. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ: إِنَّمَا يُوَزِّعُ إِذَا كَانَ مَالُهُ قَدْرًا يُقْصَدُ السَّفَرُ لَهُ.

فصل

قُلْتُ: قَدْ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِ السَّرَخْسِيِّ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْإِفْصَاحِ، وَصَاحِبُ «الْبَيَانِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: لَوْ رَجَعَ الْعَامِلُ وَمَعَهُ فَضْلُ زَادٍ، أَوْ آلَاتٌ أَعَدَّهَا لِلسَّفَرِ، كَالْمِطْهَرَةِ وَنَحْوِهَا، لَزِمَهُ رَدُّهَا إِلَى مَالِ الْقِرَاضِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمِنْهَا: لَوِ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ مِنْهُ الْمَالَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي سَافَرَ إِلَيْهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ فِي السَّفَرِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُسْرِفَ، بَلْ يَأْخُذُ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا يَأْخُذُهُ يُحْسَبُ مِنَ الرِّبْحِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ، فَهُوَ خُسْرَانٌ لَحِقَ الْمَالَ، وَمَهْمَا أَقَامَ فِي طَرِيقِهِ فَوْقَ مُدَّةِ الْمُسَافِرِينَ فِي بَلَدٍ، لَمْ يَأْخُذْ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ. وَمِنْهَا: لَوْ شَرَطَ نَفَقَةَ السَّفَرِ فِي ابْتِدَاءِ الْقِرَاضِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ إِذَا أَثْبَتْنَاهَا، وَإِلَّا فَسَدَ الْقِرَاضُ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ نَفَقَةَ الْحَضَرِ. وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعَقْدِ. وَعَلَى هَذَا، فِي اشْتِرَاطِ تَقْدِيرِهَا وَجْهَانِ. وَعَنْ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ النَّفَقَةِ فِي الْعَقْدِ مُقَدَّرَةً، لَكِنْ لَمْ يُثْبِتْهَا الْأَصْحَابُ. فَصْلٌ هَلْ يَمْلِكُ الْعَامِلُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالظُّهُورِ كَالْمُسَاقَاةِ، أَمْ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الثَّانِي. فَإِنْ قُلْنَا: بِالظُّهُورِ، فَلَيْسَ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا، فَلَا يَتَسَلَّطُ الْعَامِلُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ، لِأَنَّ الرِّبْحَ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ. فَلَوِ اتَّفَقَ خُسْرَانٌ، كَانَ مِنَ الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ مَا أَمْكَنَ. وَلِذَلِكَ نَقُولُ: إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْلَ فَسْخِ الْقِرَاضِ لَا يُجْبَرُ الْآخَرُ. فَإِذَا ارْتَفَعَ الْقِرَاضُ

وَالْمَالُ نَاضٌّ وَاقْتَسَمَاهُ، حَصَلَ الِاسْتِقْرَارُ وَهُوَ نِهَايَةُ الْأَمْرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ نَاضًّا، فَأَخَذَهُ الْمَالِكُ وَاقْتَسَمَا الْبَاقِيَ. وَفِي حُصُولِ الِاسْتِقْرَارِ بِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ، وَنَضُوضِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِلْوُثُوقِ بِحُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ، وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ الْبَاقِيَةَ مِنْ تَتِمَّةِ عَمَلِ الْعَامِلِ. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَرَضًا، بُنِيَ عَلَى خِلَافٍ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي أَنَّ الْعَامِلَ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّنْضِيضِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا اسْتِقْرَارَ، إِذْ لَمْ يَتِمَّ الْعَمَلُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، كَمَا لَوْ كَانَ نَاضًّا. وَلَوِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ بِالتَّرَاضِي قَبْلَ فَسْخِ الْعَقْدِ لَمْ يَحْصُلِ الِاسْتِقْرَارُ، بَلْ لَوْ حَصَلَ خُسْرَانٌ بَعْدَهُ، كَانَ عَلَى الْعَامِلِ جَبْرُهُ بِمَا أَخَذَ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ، فَلَهُ فِيهِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ حَتَّى يُورَثَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ، فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْعَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْعَمَلِ بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ، وَيَسْعَى فِي التَّنْضِيضِ لِيَأْخُذَ مِنْهُ حَقَّهُ. وَلَوْ أَتْلَفَ الْمَالِكُ الْمَالَ، غَرِمَ حِصَّةَ الْعَامِلِ، وَكَانَ الْإِتْلَافُ كَالِاسْتِرْدَادِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ جَارِيَةٌ، لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ وَطْؤُهَا، كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ التَّحْرِيمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ. وَإِذَا حَرَّمْنَا، فَوَطِئَ، لَمْ يَكُنْ فَسْخًا لِلْقِرَاضِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ وَطِئَهَا الْعَامِلُ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ وَكَانَ عَالِمًا، وَإِلَّا فَلَا حَدَّ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَيُجْعَلُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ. وَلَوِ اسْتَوْلَدَ، لَمْ تَصِرْ

فصل

أُمَّ وَلَدٍ إِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ، وَإِلَّا ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِهِ، وَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْبَاقِي إِنْ كَانَ مُوسِرًا. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ تَزْوِيجُ جَارِيَةِ الْقِرَاضِ، لِأَنَّهُ يَنْقُصُهَا فَيَضُرُّ بِالْعَامِلِ. فَصْلٌ فِيمَا يَقَعُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَمَّا الزِّيَادَةُ، فَثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ الْمُشْتَرَاةِ لِلْقِرَاضِ، وَنِتَاجُ الدَّابَّةِ، وَكَسْبُ الرَّقِيقِ، وَوَلَدُ الْجَارِيَةِ، وَمَهْرُهَا إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، وَبَدَلُ مَنَافِعِ الدَّوَابِّ وَالْأَرْضِ، وَسَوَاءٌ وَجَبَ بِاسْتِعْمَالِهَا عُدْوَانًا أَوْ بِإِجَارَةٍ صَدَرَتْ مِنَ الْعَامِلِ، فَإِنَّ لَهُ الْإِجَارَةَ. فَإِذَا رَأَى فِيهَا الْمَصْلَحَةَ، أَطْلَقَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مَالُ قِرَاضٍ، لِأَنَّهَا مِنْ فَوَائِدِهِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، وَمَلَّكْنَا الْعَامِلَ حِصَّتَهُ بِالظُّهُورِ، فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ، أَوْ لَمْ نُمَلِّكْهُ، فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: مَالُ قِرَاضٍ. وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: يَفُوزُ بِهَا الْمَالِكُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَوَائِدِ التِّجَارَةِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوْلَى. فَإِنْ جَعَلْنَاهَا مَالَ قِرَاضٍ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مِنَ الرِّبْحِ. وَقِيلَ: هِيَ شَائِبَةٌ فِي الرِّبْحِ وَرَأْسِ الْمَالِ. وَلَوْ وَطِئَهَا الْمَالِكُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: يَكُونُ مُسْتَرِدًّا مِقْدَارَ الْمَهْرِ، فَيَسْتَقِرُّ نَصِيبُ الْعَامِلِ مِنْهُ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ وَمَلَّكْنَاهُ بِالظُّهُورِ، وَجَبَ نَصِيبُ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَاسْتِيلَادُ الْمَالِكِ جَارِيَةَ الْقِرَاضِ، كَإِعْتَاقِهَا. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْمَهْرَ بِوَطْئِهِ الْخَالِي عَنِ الْأَحْبَالِ، فَالْأَصَحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيمَةِ. وَأَمَّا النَّقْصُ، فَمَا حَصَلَ بِرُخْصٍ، فَهُوَ خُسْرَانٌ مَجْبُورٌ

بِالرِّبْحِ. وَكَذَا النَّقْصُ بِالتَّعَيُّبِ وَالْمَرَضِ الْحَادِثَيْنِ. وَأَمَّا النَّقْصُ الْعَيْنِيُّ، وَهُوَ تَلَفُ الْبَعْضِ، فَإِنْ حَصَلَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ بَيْعًا وَشِرَاءً، فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الِاحْتِرَاقَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْآفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ خُسْرَانٌ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ. وَفِي التَّلَفِ بِالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ وَجْهَانِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ مَا يَجْبُرُهُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْجَبْرِ بِمَالِ الْقِرَاضِ، وَطَرَدَ جَمَاعَةٌ الْوَجْهَيْنِ فِي الْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ فِي الْجَمِيعِ الْجَبْرُ. أَمَّا إِذَا نَقَصَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ بَيْعًا وَشِرَاءً، بِأَنْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفَيْنِ قِرَاضًا، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ التَّصَرُّفِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خُسْرَانٌ، فَيُجْبَرُ بِالرِّبْحِ الْحَاصِلِ بَعْدُ، وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْنِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَتْلَفُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا. وَلَوِ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ عَبْدَيْنِ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، تَلِفَ مِنَ الرِّبْحِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ بَعْدُ بِالْبَيْعِ. هَذَا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ. أَمَّا إِذَا تَلِفَ كُلُّهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ التَّصَرُّفِ أَوْ بَعْدَهُ، فَيَرْتَفِعُ الْقِرَاضُ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَهُ الْمَالِكُ كَمَا سَبَقَ. فَلَوْ أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ جَمِيعَهُ أَوْ بَعْضَهُ، أَخَذَ مِنْهُ بَدَلَهُ وَاسْتَمَرَّ فِيهِ الْقِرَاضُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْجَبْرِ مِنَ الرِّبْحِ فِي صُورَةِ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ، هُوَ فِيمَا إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الْبَدَلِ مِنَ الْمُتْلِفِ. وَلَوْ أَتْلَفَ الْعَامِلُ الْمَالَ، قَالَ الْإِمَامُ: يَرْتَفِعُ الْقِرَاضُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ إِلَّا بِقَبْضِهِ مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْقِرَاضِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ مَالَ الْقِرَاضِ إِذَا غُصِبَ أَوْ أُتْلِفَ، فَمَنِ الْخَصْمُ فِيهِ؟ أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ الْمَالِكُ فَقَطْ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، وَهُمَا جَمِيعًا إِنْ كَانَ رِبْحٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْعَامِلِ الْمُخَاصَمَةَ مُطْلَقًا حِفْظًا لِلْمَالِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فِي إِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ مُفَرَّعًا عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ خَصْمٌ، وَيَتَقَدَّرُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بِخَصْمٍ، بَلْ إِذَا خَاصَمَ الْمَالِكُ وَأَخَذَهُ، عَادَ الْعَامِلُ إِلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِحُكْمِ الْقِرَاضِ، [وَ] لَزِمَ مِثْلُهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْمُتْلِفَ.

فَرْعٌ لَوْ قَتَلَ رَجَلٌ عَبْدَ الْقِرَاضِ، وَفِي الْمَالِ رِبْحٌ، لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِالْقِصَاصِ، بَلِ الْحَقُّ لَهُمَا، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْعَفْوِ عَلَى مَالٍ، أَوْ عَلَى الْقِصَاصِ جَازَ. وَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا، سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتِ الْقِيمَةُ، هَكَذَا ذَكَرُوهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِنَا: يَمْلِكُ الْعَامِلُ الرِّبْحَ بِالظُّهُورِ، وَغَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَلِلْمَالِكِ الْقِصَاصُ وَالْعَفْوُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ. وَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً [لِلْمَالِ] ، فَلَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَيَرْتَفِعُ الْقِرَاضُ. فَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ، أَوْ صَالَحَ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ بَقِيَ الْقِرَاضُ فِيهِ. فَرْعٌ مَالُ الْقِرَاضِ أَلْفٌ، اشْتَرَى بِعَيْنِهِ ثَوْبًا. فَتَلِفَ الْأَلْفُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، بَطَلَ الشِّرَاءُ وَارْتَفَعَ الْقِرَاضُ. وَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، قَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ: يَرْتَفِعُ الْقِرَاضُ وَيَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْعَامِلِ، فَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: هَذَا إِذَا كَانَ التَّلَفُ قَبْلَ الشِّرَاءِ، فَإِنَّ الْقِرَاضَ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، غَيْرُ بَاقٍ عِنْدِ الشِّرَاءِ، فَيَنْصَرِفُ الشِّرَاءُ إِلَى الْعَامِلِ. أَمَّا لَوْ تَلِفَ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَالْمُشْتَرَى لِلْمَالِكِ. فَإِذَا تَلِفَ الْأَلْفُ الْمُعَدُّ لِلثَّمَنِ، لَزِمَهُ أَلْفٌ آخَرُ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَقَعُ الشِّرَاءُ عَنِ الْعَامِلِ، سَوَاءٌ تَلِفَ الْأَلْفُ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ وَيَرْتَفِعُ الْقِرَاضُ، لِأَنَّ إِذْنَهُ يَنْصَرِفُ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ الْأَلْفِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ، أَمْ أَلْفَانِ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: أَلْفٌ، فَهُوَ الْأَلْفُ الْأَوَّلُ، أَمِ الثَّانِي؟ وَجْهَانِ، فَائِدَتُهُمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَلْفَيْنِ فِي صِفَةِ الصِّحَّةِ وَغَيْرِهَا.

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي فَسْخِ الْقِرَاضِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهِ فِيهِ طَرَفَانِ. الْأَوَّلُ: فِي فَسْخِهِ. وَالْقِرَاضُ جَائِزٌ، فَإِنَّهُ فِي أَوَّلِهِ وَكَالَةٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ شَرِكَةٌ. إِذَا حَصَلَ رِبْحٌ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهُ مَتَى شَاءَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى حُضُورِ صَاحِبِهِ وَرِضَاهُ. وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ جُنَّ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، انْفَسَخَ. فَإِذَا فَسَخَا جَمِيعًا أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ بَعْدَهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ كَانَ الْمَالُ دَيْنًا، لَزِمَ الْعَامِلَ التَّقَاضِي وَالِاسْتِيفَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ رِبْحٌ أَمْ لَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَيْنًا، نُظِرَ إِنْ كَانَ نَقْدًا مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا رِبْحَ، أَخَذَهُ الْمَالِكُ. وَإِنْ كَانَ رِبْحٌ، اقْتَسَمَاهُ بِحَسَبَ الشَّرْطِ، فَإِنْ كَانَ الْحَاصِلُ مُكَسَّرَةً، وَرَأْسُ الْمَالِ صِحَاحٌ، نُظِرَ، فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُبَدِّلُهَا بِالصِّحَاحِ وَزْنًا يُوزَنُ، أَبْدَلَهَا وَإِلَّا بَاعَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا مِنَ النَّقْدِ ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ الصِّحَاحَ، يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَبِيعَهَا بِعَرَضٍ وَيَشْتَرِيَ بِهِ الصِّحَاحَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ نَقْدًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَالِ أَوْ عَرَضًا فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِ رِبْحٌ فَيَلْزَمُ الْعَامِلَ بَيْعُهُ إِنْ طَلَبَهُ الْمَالِكُ، وَلَهُ بَيْعُهُ وَإِنْ أَبَاهُ الْمَالِكُ، وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ تَأْخِيرُ الْبَيْعِ إِلَى مَوْسِمِ رَوَاجِ الْمَتَاعِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ مُعَجَّلٌ. وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: تَرَكْتُ حَقِّي لَكَ فَلَا تُكَلِّفْنِي الْبَيْعَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ فِي التَّنْضِيضِ مَشَقَّةٌ وَمُؤْنَةٌ، فَلَا يَسْقُطُ عَنِ الْعَامِلِ. وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: لَا تَبِعْ وَنَقْتَسِمُ الْعُرُوضُ بِتَقْوِيمِ عَدْلَيْنِ، أَوْ قَالَ: أُعْطِيكَ قَدْرَ نَصِيبِكَ نَاضًّا، فَفِي تَمَكُّنِ الْعَامِلِ مِنَ الْبَيْعِ، وَجْهَانِ. وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَتَمَلَّكَ غِرَاسَ الْمُسْتَعِيرِ بِقِيمَتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَالْمَالِكُ هُنَا أَوْلَى. وَحَيْثُ لَزِمَ الْبَيْعُ، قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ، أَنَّ مَا يَلْزَمُهُ بَيْعُهُ وَتَنْضِيضُهُ،

قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ. أَمَّا الزَّائِدُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ عَرَضٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ رَجُلَانِ، فَلَا يُكَلَّفُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَيْعُهُ. ثُمَّ مَا يَبِيعُهُ بِطَلَبِ الْمَالِكِ أَوْ دُونَهُ، يَبِيعُهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، بَاعَهُ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ وَرَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ بَاعَهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ حَصَلَ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ. الْحَالُ الثَّانِي: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَهَلْ لِلْمَالِكِ تَكْلِيفُهُ الْبَيْعَ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِيَرُدَّ كَمَا أَخَذَ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْمَالِكَ مَشَقَّةٌ وَمُؤْنَةٌ. وَهَلْ لِلْعَامِلِ الْبَيْعُ إِذَا رَضِيَ الْمَالِكُ بِإِمْسَاكِهِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ. أَحَدُهُمَا: لَا، إِذْ لَا فَائِدَةَ، وَالصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: لَهُ الْبَيْعُ إِذَا تَوَقَّعَ رِبْحًا، بِأَنْ ظَفِرَ بِسُوقٍ أَوْ رَاغِبٍ. وَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ لِلْعَامِلِ الْبَيْعُ إِذَا أَرَادَ الْمَالِكُ إِمْسَاكَ الْعَرَضِ، أَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَخْذِ الْمَالِكِ الْعَرَضَ، ثُمَّ ظَهَرَ رِبْحٌ بِارْتِفَاعِ السُّوقِ، فَهَلْ لِلْعَامِلِ فِيهِ نَصِيبٌ، لِحُصُولِهِ بِكَسْبِهِ؟ أَمْ لَا، لِظُهُورِهِ بَعْدَ الْفَسْخِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَرْعٌ كَمَا يَرْتَفِعُ الْقِرَاضُ بِقَوْلِ الْمَالِكِ: فَسَخْتُهُ، يَرْتَفِعُ بِقَوْلِهِ لِلْعَامِلِ: لَا تَتَصَرَّفْ بَعْدَ هَذَا، أَوْ بِاسْتِرْجَاعِ الْمَالِ مِنْهُ. فَلَوْ بَاعَ الْمَالِكُ مَا اشْتَرَاهُ الْعَامِلُ لِلْقِرَاضِ، فَهَلْ يَنْعَزِلُ كَمَا لَوْ بَاعَ الْمُوَكِّلُ مَا وَكَّلَ فِي بَيْعِهِ؟ أَمْ لَا وَيَكُونُ ذَلِكَ إِعَانَةً لَهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَلَوْ حَبَسَ الْعَامِلَ وَمَنَعَهُ التَّصَرُّفَ، أَوْ قَالَ: لَا قِرَاضَ بَيْنَنَا، فَفِي انْعِزَالِهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ فِي صُورَةِ الْحَبْسِ عَدَمَ الِانْعِزَالِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَا قِرَاضَ بَيْنَنَا الِانْعِزَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

فَرْعٌ إِذَا مَاتَ الْمَالِكُ وَالْمَالُ نَاضٌّ لَا رِبْحَ فِيهِ، أَخَذَهُ الْوَارِثُ. فَإِنْ كَانَ رِبْحٌ اقْتَسَمَاهُ. وَإِنْ كَانَ عَرَضًا، فَالْمُطَالَبَةُ بِالْبَيْعِ وَالتَّنْضِيضِ كَحَالَةِ حُصُولِ الْفَسْخِ فِي حَيَاتِهِمَا، وَلِلْعَامِلِ الْبَيْعُ هُنَا حَيْثُ كَانَ لَهُ الْبَيْعُ هُنَاكَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْوَارِثِ اكْتِفَاءً بِإِذْنِ الْمُوَرِّثِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ الْعَامِلُ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَارِثُهُ الْبَيْعَ دُونَ إِذْنِ الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِهِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَبِيعُ الْعَامِلُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَارِثِ الْمَالِكِ. وَالصَّحِيحُ: الْجَوَازُ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي اسْتِيفَائِهِ الدُّيُونَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَارِثِ. وَلَوْ أَرَادَ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ نَاضًّا، فَلَهُمَا ذَلِكَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَا عَقْدًا بِشَرْطِهِ، وَلَا بَأْسَ بِوُقُوعِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لِجَوَازِ الْقِرَاضِ عَلَى الْمَشَاعِ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الْقِرَاضُ مَعَ الشَّرِيكِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِي الْيَدِ، وَيَكُونُ لِلْعَامِلِ رِبْحُ نَصِيبِهِ، وَيَتَضَارَبَانِ فِي رِبْحِ نَصِيبِ الْآخَرِ. وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّرْكِ وَالتَّقْرِيرِ، بِأَنْ يَقُولَ الْوَارِثُ، أَوِ الْقَائِمُ بِأَمْرِهِ: تَرَكْتُكَ أَوْ قَرَرْتُكَ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَلْيَكُنِ الْوَجْهَانِ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْقِرَاضَ وَنَحْوَهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ. فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: يَنْعَقِدُ [بِهِ] ، فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِالِانْعِقَادِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَرَضًا، فَفِي جَوَازِ تَقْرِيرِهِ عَلَى الْقِرَاضِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْقِرَاضَ الْأَوَّلَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ عَلَى عَرَضٍ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَخْتَصَّ الْوَجْهَانِ بِلَفْظِ التَّرْكِ وَالتَّقْرِيرُ، وَلَا يُسَامَحُ بِاسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الِابْتِدَاءِ. وَحَكَى الْإِمَامُ فِيمَا إِذَا فَسَخَ الْقِرَاضَ فِي الْحَيَاةِ طَرِيقَةً طَارِدَةً لِلْوَجْهَيْنِ، وَطَرِيقَةً قَاطِعَةً بِالْمَنْعِ، وَهِيَ الْأَشْهَرُ. فَأَمَّا إِذَا مَاتَ الْعَامِلُ وَاحْتِيجَ إِلَى الْبَيْعِ وَالتَّنْضِيضِ، فَإِنْ أَذِنَ الْمَالِكُ لِوَارِثِ الْعَامِلِ فِيهِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا تَوَلَّاهُ أَمِينٌ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، وَلَا يَجُوزُ

فصل

تَقْرِيرُ وَارِثِهِ عَلَى الْقِرَاضِ إِنْ كَانَ الْمَالُ عَرَضًا قَطْعًا، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا، فَلَهُمَا ذَلِكَ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ. وَفِي لَفْظِ التَّقْرِيرِ، الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ، وَيَجْرِيَانِ أَيْضًا فِيمَا إِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ الْجَارِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَرَادَا إِعَادَتَهُ، فَقَالَ الْبَائِعُ: قَرَرَتُكَ عَلَى مُوجَبِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَقَبِلَ صَاحِبُهُ، وَفِي النِّكَاحِ، لَا يَصِحُّ مِثْلُهُ. فَرْعٌ كَانَ رَأْسُ مَالِ الْمَيِّتِ مِائَةً، وَالرِّبْحُ مِائَتَيْنِ، وَجَدَّدَ الْوَارِثُ الْعَقْدَ مَعَ الْعَامِلِ مُنَاصَفَةً كَمَا كَانَ بِلَا قِسْمَةٍ، فَرَأْسُ مَالِ الْوَارِثِ مِائَتَانِ مِنْ ثَلَاثِ الْمِائَةِ، وَالْمِائَةُ الْبَاقِيَةُ لِلْعَامِلِ، فَعِنْدَ الْمُقَاسَمَةِ، يَأْخُذُهَا وَقِسْطُهَا مِنَ الرِّبْحِ، وَيَأْخُذُ الْوَارِثُ رَأْسَ مَالِهِ مِائَتَيْنِ، وَيَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ. قُلْتُ: إِذَا جُنَّا أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ أَفَاقَا وَأَرَادَا عَقْدَ الْقِرَاضِ ثَانِيًا، قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ، أَنَّهُ كَمَا لَوِ انْفَسَخَ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ طَائِفَةً مِنَ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ، رَجَعَ رَأْسُ الْمَالِ إِلَى الْقَدْرِ الْبَاقِي. وَإِنْ ظَهَرَ رِبْحٌ، فَالْمُسْتَرَدُّ شَائِعٌ رِبْحًا وَخُسْرَانًا عَلَى النِّسْبَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ جُمْلَتَيِ الرِّبْحِ وَرَأْسِ الْمَالِ، وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْعَامِلِ عَلَى مَا يَخُصُّهُ بِحَسَبِ الشَّرْطِ مِمَّا هُوَ رَبِحَ مِنْهُ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْخُسْرَانِ الْوَاقِعِ بَعْدَهُ. وَإِنْ كَانَ الِاسْتِرْدَادُ بَعْدَ ظُهُورِ الْخُسْرَانِ، كَانَ مُوَزَّعًا عَلَى الْمُسْتَرَدِّ الْبَاقِي، فَلَا يَلْزَمُ جَبْرُ

حِصَّةِ الْمُسْتَرَدِّ مِنَ الْخُسْرَانِ، وَيَصِيرُ الْمَالُ هُوَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْمُسْتَرَدِّ وَحِصَّتُهُ مِنَ الْخُسْرَانِ. مِثَالُ الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ الرِّبْحِ: كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِائَةً، وَرَبِحَ عِشْرِينَ، وَاسْتَرَدَّ عِشْرِينَ، فَالرِّبْحُ سُدُسُ الْمَالِ، فَيَكُونُ الْمُسْتَرَدُّ سُدُسُهُ رِبْحًا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْعَامِلِ عَلَى نِصْفِهِ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مُنَاصَفَةً، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ. فَلَوْ عَادَ مَا فِي يَدِهِ إِلَى ثَمَانِينَ، لَمْ يَسْقُطْ نَصِيبُ الْعَامِلِ، بَلْ يَأْخُذُ مِنْهَا دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ. وَمِثَالُ الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ الْخُسْرَانِ: كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِائَةً، وَخَسِرَ عِشْرِينَ، وَاسْتَرَدَّ عِشْرِينَ، فَالْخُسْرَانُ مُوَزَّعٌ عَلَى الْمُسْتَرَدِّ وَالْبَاقِي، فَتَكُونُ حِصَّةُ الْمُسْتَرَدِّ خَمْسَةً لَا يَلْزَمُ جَبْرُهَا، بَلْ يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، فَمَا زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا قُسِمَ [بَيْنَهُمَا] . الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي الِاخْتِلَافِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: ادَّعَى الْعَامِلُ تَلَفَ الْمَالِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَلَوْ ذَكَرَ سَبَبَ التَّلَفِ، فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ: لَوِ ادَّعَى الرَّدَّ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: مَا رَبِحْتُ، أَوْ مَا رَبِحْتُ إِلَّا أَلْفًا، فَقَالَ الْمَالِكُ: أَلْفَيْنِ، صُدِّقَ الْعَامِلُ بِيَمِينِهِ. فَلَوْ قَالَ: رَبِحْتُ كَذَا، ثُمَّ قَالَ: غَلِطْتُ فِي الْحِسَابِ، إِنَّمَا الرِّبْحُ كَذَا، أَوْ تَبَيَّنْتُ أَنْ لَا رِبْحَ، أَوْ [قَالَ] : كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ خَوْفًا مِنِ انْتِزَاعِ الْمَالِ مِنْ يَدِي، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. وَلَوْ قَالَ: خَسِرْتُ بَعْدَ الرِّبْحِ الَّذِي أَخْبَرْتُ عَنْهُ، قُبِلَ مِنْهُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي وَذَلِكَ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ، بِأَنْ حَدَثَ كَسَادٌ فَإِنْ لَمْ يُحْتَمَلْ لَمْ يُقْبَلْ. وَلَوِ ادَّعَى الْخَسَارَةَ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ، أَوِ التَّلَفِ بَعْدَ قَوْلِهِ: كُنْتُ كَاذِبًا فِيمَا قُلْتُ، قُبِلَ أَيْضًا، وَلَا تَبْطُلُ أَمَانَتُهُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ السَّابِقِ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ الْأَصْحَابُ.

الرَّابِعَةُ: قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذَا لِلْقِرَاضِ، فَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ لِنَفْسِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ: قَوْلُ الْمَالِكِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُقُوعِهِ عَنِ الْقِرَاضِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي، فَقَالَ: بَلْ لِلْقِرَاضِ، صُدِّقَ الْعَامِلُ بِيَمِينِهِ قَطْعًا. فَلَوْ أَقَامَ الْمَالِكُ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَالِ الْقِرَاضِ، فَفِي الْحُكْمِ بِهَا وَجْهَانِ. وَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ بِمَالِ الْقِرَاضِ عُدْوَانًا، فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ. الْخَامِسَةُ: قَالَ الْمَالِكُ: كُنْتُ نَهَيْتُكَ عَنْ شِرَاءِ هَذَا، فَقَالَ: لَمْ تَنْهَنِي، صُدِّقَ الْعَامِلُ. السَّادِسَةُ: قَالَ: شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ، فَقَالَ: بَلْ ثُلُثَهُ، تَحَالَفَا كَالْمُتَبَايِعَيْنِ، فَإِذَا حَلَفَا، فُسِخَ الْعَقْدُ، وَاخْتَصَّ الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ بِالْمَالِكِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الرِّبْحِ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا قَدْرُ النِّصْفِ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ. قُلْتُ: وَإِذَا تَحَالَفَا، فَهَلْ يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ، أَمْ بِالْفَسْخِ؟ حُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ كَمَا مَضَى، قَالَهُ فِي الْبَيَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ: اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، [وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَتَحَالَفَانِ. وَلَوْ قَارَضَ رَجُلَيْنِ عَلَى أَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لَهُ، وَالْبَاقِيَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ، فَرَبِحَا، ثُمَّ قَالَ الْمَالِكُ: دَفَعْتُ إِلَيْكُمَا أَلْفَيْنِ، وَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ أَلْفًا، لَزِمَ الْمُقِرَّ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَحَلَفَ الْآخَرُ وَقُضِيَ لَهُ بِمُوجَبِ قَوْلِهِ. وَلَوْ كَانَ الْحَاصِلُ أَلْفَيْنِ، أَخَذَ الْمُنْكِرُ رُبُعَ الْأَلْفِ الزَّائِدِ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالْبَاقِي يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ. وَلَوْ كَانَ الْحَاصِلُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَالْمُنْكِرُ يَزْعُمُ أَنَّ الرِّبْحَ أَلْفَانِ لَهُ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةٍ، فَتُسَلَّمُ لَهُ، وَيَأْخُذُ الْمَالِكُ مِنَ الْبَاقِي أَلْفَيْنِ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ، يَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ يَتَقَاسَمَاهَا - الْمَالِكُ وَالْمُقِرُّ - أَثْلَاثًا، لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ

فصل

الْمَالِكُ مِثْلَا مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ عَامِلٍ، وَمَا أَخَذَهُ الْمُنْكِرُ، كَالتَّالِفِ. وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: رَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرُ، فَقَالَ الْعَامِلُ: بَلْ دَرَاهِمُ، صُدِّقَ الْعَامِلُ. الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْقِرَاضِ، فَقَالَ الْمَالِكُ: دَفَعْتُ إِلَيْكَ لِتَشْتَرِيَ لِي بِالْوَكَالَةِ، وَقَالَ الْقَابِضُ: بَلْ قَارَضْتَنِي، فَالْمُصَدَّقُ الْمَالِكُ. فَإِذَا حَلَفَ أَخَذَ الْمَالَ وَرِبْحَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ. قُلْتُ: لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا، فَتَلِفَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: دَفَعْتُهُ قَرْضًا، فَقَالَ الْعَامِلُ: بَلْ قِرَاضًا، قَالَ فِي «الْعُدَّةِ» وَ «الْبَيَانِ» : بَيِّنَةُ الْعَامِلِ أَوْلَى فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ إِحْدَاهَا: لَيْسَ لِعَامِلِ الْقِرَاضِ التَّصَرُّفُ فِي الْخَمْرِ بَيْعًا وَلَا شِرَاءً وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا، فَإِنْ خَالَفَ وَاشْتَرَى خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، وَدَفَعَ الْمَالَ فِي ثَمَنِهِ، ضَمِنَ، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَخْتَلِفُ بِهِمَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: لَا ضَمَانَ فِي الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: يَضْمَنُ فِي الْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ. وَقِيلَ: يَضْمَنُ فِي الْخَمْرِ مُطْلَقًا، وَلَا يَضْمَنُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ مَعَ الْجَهْلِ. قُلْتُ: قُلْتُ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي شِرَاءِ الْخَمْرِ عَالِمًا، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ، هُوَ فِي الذِّمِّيِّ دُونَ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ مَالًا، قَالَهُ فِي «الْبَيَانِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: قَارَضَهُ عَلَى أَنْ يَنْقُلَ الْمَالَ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، وَيَشْتَرِيَ مِنْ أَمْتِعَتِهِ ثُمَّ

يَبِيعَهَا هُنَاكَ، أَوْ يَرُدَّهَا إِلَى مَوْضِعِ الْقِرَاضِ، قَالَ الْإِمَامُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ بِفَسَادِ الْقِرَاضِ، لِأَنَّ نَقْلَ الْمَتَاعِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، عَمَلٌ زَائِدٌ عَلَى التِّجَارَةِ، فَأَشْبَهَ شَرْطَ الطَّحْنِ وَالْخَبْزِ، وَيُخَالِفُ مَا إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ نَفْيُ الْحَرَجِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: لَا يَضُرُّ شَرْطُ الْمُسَافَرَةِ، فَإِنَّهَا الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ فِي الْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: خُذْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ قِرَاضًا، وَصَارِفْ بِهَا مَعَ الصَّيَارِفَةِ، فَفِي صِحَّةِ مُصَارَفَتِهِ مَعَ غَيْرِهِمْ وَجْهَانِ. وَجْهُ الصِّحَّةِ: أَنَّ مَقْصُودَهُ التَّصَرُّفُ مُصَارَفَةً. الرَّابِعَةُ: خَلَطَ الْعَامِلُ مَالَ الْقِرَاضِ بِمَالِهِ، صَارَ ضَامِنًا، وَكَذَا لَوْ قَارَضَهُ رَجُلَانِ، فَخَلَطَ مَالَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَكَذَا لَوْ قَارَضَهُ وَاحِدٌ عَلَى مَالَيْنِ بِعَقْدَيْنِ، فَخَلَطَهُمَا، ضَمِنَ. فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا قِرَاضًا، ثُمَّ أَلْفًا، وَقَالَ: ضُمُّهُ إِلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَصَرَّفَ بَعْدُ فِي الْأَوَّلِ، جَازَ، وَكَأَنَّهُ دَفَعَهُمَا إِلَيْهِ مَعًا، وَإِنْ كَانَ تَصَرَّفَ فِي الْأَوَّلِ، لَمْ يَجُزِ الْقِرَاضُ فِي الثَّانِي، وَلَا الْخَلْطُ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ بِالتَّصَرُّفِ رِبْحًا وَخُسْرَانًا، وَرِبْحُ كُلِّ مَالٍ وَخُسْرَانُهُ يَخْتَصُّ بِهِ، وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا قِرَاضًا، وَقَالَ: ضُمَّ إِلَيْهِ أَلْفًا مِنْ عِنْدِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ رِبْحِهِمَا لَكَ وَثُلُثَاهُ لِي، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَسَدَ الْقِرَاضُ، لِمَا فِيهِ مِنْ شَرْطِ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ، وَلَا نَظَرَ إِلَى الْعَمَلِ بَعْدَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ. وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ زَيْدٌ أَلْفًا قِرَاضًا، وَعَمْرٌو كَذَلِكَ، فَاشْتَرَى لِكُلِّ وَاحِدٍ عَبْدًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ اشْتَبَهَا عَلَيْهِ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْقَلِبُ شِرَاءُ الْعَبْدَيْنِ لَهُ، وَيَغْرَمُ لَهُمَا، لِتَفْرِيطِهِ. ثُمَّ الْمَغْرَمُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ الْأَلْفَانِ. وَقِيلَ: يَغْرَمُ قِيمَةَ الْعَبْدَيْنِ وَإِنْ زَادَتْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُبَاعُ الْعَبْدَانِ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ حَصَلَ رِبْحٌ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ. وَإِنْ حَصَلَ خُسْرَانٌ، قَالَ الْأَصْحَابُ: يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، لِتَقْصِيرِهِ. وَاسْتَدْرَكَ الْمُتَأَخِّرُونَ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ لِانْخِفَاضِ السُّوقِ، لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يُجْعَلَ كَالْغَاصِبِ، وَالْغَاصِبُ لَا يَضْمَنُ انْخِفَاضَ السُّوقِ.

قَالَ الْإِمَامُ: وَالْقِيَاسُ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ غَيْرُ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى الْعَبْدَانِ لَهُمَا عَلَى الْإِشْكَالِ إِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا. قُلْتُ: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي «الْمُعَايَاةِ» : [وَ] لَا يُتَصَوَّرُ خُسْرَانٌ عَلَى الْعَامِلِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَبَقِيَ مِنَ الْبَابِ مَسَائِلُ. مِنْهَا: لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالًا وَقَالَ: إِذَا مُتُّ فَتَصَرَّفْ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَكَ نِصْفُ الرِّبْحِ، فَمَاتَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّصَرُّفُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِمَنْفَعَةِ عَيْنٍ، لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ، وَلِأَنَّ الْقِرَاضَ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ لَوْ صَحَّ. وَلَوْ قَارَضَهُ عَلَى نَقْدٍ، فَتَصَرَّفَ الْعَامِلُ ثُمَّ أَبْطَلَ السُّلْطَانُ النَّقْدَ، ثُمَّ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ، قَالَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» وَ «الْبَيَانِ» : رَدَّ مِثْلَ النَّقْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: مِنَ الْحَادِثِ وَلَوْ مَاتَ الْعَامِلُ وَلَمْ يُعْرَفْ مَالُ الْقِرَاضِ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ كَمَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَلَمْ يُعْرَفْ عَيْنُهَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ جَنَى عَبْدُ الْقِرَاضِ، قَالَ فِي «الْعُدَّةِ» : لِلْعَامِلِ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب المساقاة

كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ هِيَ أَنْ يُعَامِلَ إِنْسَانٌ [إِنْسَانًا] عَلَى شَجَرَةٍ لِيَتَعَهَّدَهَا بِالسَّقْيِ وَالتَّرْبِيَةِ، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الثَّمَرَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَفِيهِ بَابَانِ. [الْبَابُ] الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا، وَهِيَ خَمْسَةٌ. [الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ: الْعَاقِدَانِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي الْقِرَاضِ. وَ [الرُّكْنُ] الثَّانِي: مُتَعَلَّقُ الْعَمَلِ، وَهُوَ الشَّجَرُ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ. [الشَّرْطُ] الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ نَخْلًا أَوْ عِنَبًا، فَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ النَّبَاتِ، فَقِسْمَانِ. [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ] : مَا لَهُ سَاقٌ، وَمَا لَا. وَالْأَوَّلُ ضَرْبَانِ. [الضَّرْبُ] الْأَوَّلُ: مَا لَهُ ثَمَرَةٌ كَالتِّينِ وَالْجَوْزِ، وَالْمِشْمِشِ، وَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهَا، وَفِيهَا قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهَا. وَالْجَدِيدُ: الْمَنْعُ. وَعَلَى الْجَدِيدِ، فِي شَجَرِ الْمُقْلِ وَجْهَانِ، جَوَّزَهَا ابْنُ سُرَيْجٍ، وَمَنَعَهَا غَيْرُهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا ثَمَرَةَ لَهُ، كَالدُّلْبِ وَالْخِلَافِ وَغَيْرِهِ، فَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: فِي الْخِلَافِ وَجْهَانِ لِأَغْصَانِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا سَاقَ لَهُ، كَالْبِطِّيخِ، وَالْقِثَّاءِ، وَقَصَبِ السُّكَّرِ، وَالْبَاذِنْجَانِ، وَالْبُقُولِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ فِي الْأَرْضِ وَلَا تُجَزُّ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهَا، كَمَا لَا تَجُوزُ عَلَى الزَّرْعِ. فَإِنْ كَانَتْ تَثْبُتُ فِي الْأَرْضِ وَتُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَالْمَذْهَبُ الْمَنْعُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ.

فصل

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَشْجَارُ مَرْئِيَّةً، وَإِلَّا فَبَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، كَبَيْعِ الْغَائِبِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً. فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى أَحَدِ الْحَائِطَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الثِّمَارُ. فَيُشْتَرَطُ اخْتِصَاصُهُ بِالْعَاقِدَيْنِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا مَعْلُومَةً، وَأَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهَا مِنْ حَيْثُ الْجُزْئِيَّةُ دُونَ التَّقْدِيرِ. فَلَوْ شَرَطَا بَعْضَ الثِّمَارِ لِثَالِثٍ، أَوْ كُلَّهَا لِأَحَدِهِمَا، فَسَدَتِ الْمُسَاقَاةُ. وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ عِنْدَ شَرْطِ الْكُلِّ لِلْمَالِكِ وَجْهَانِ كَالْقِرَاضِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ عَمِلَ مَجَّانًا. وَلَوْ قَالَ: سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ جُزْءًا مِنَ الثَّمَرَةِ، فَسَدَتْ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهَا بَيْنَنَا، أَوْ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا لِي، أَوْ نِصْفَهَا لَكَ، وَسَكَتَ عَنِ الْبَاقِي، أَوْ عَلَى [أَنَّ] ثَمَرَةَ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَوِ النَّخَلَاتِ لِي، أَوْ لَكَ، وَالْبَاقِيَ بَيْنَنَا، أَوْ عَلَى أَنَّ صَاعًا مِنَ الثَّمَرَةِ لِي، أَوْ لَكَ، وَالْبَاقِيَ بَيْنَنَا، فَحُكْمُهُ كُلُّهُ كَمَا سَبَقَ فِي الْقِرَاضِ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ إِذَا شَرَطَ كُلَّ الثَّمَرَةِ لِلْعَامِلِ، لِغَرَضِ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ الشَّجَرِ. فَصْلٌ إِذَا سَاقَاهُ عَلَى وَدِيٍّ لِيَغْرِسَهُ وَيَكُونُ الشَّجَرُ بَيْنَهُمَا، أَوْ لِيَغْرِسَهُ وَيَتَعَهَّدَهُ مُدَّةَ كَذَا، وَالثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ فَاسِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ فِيهِمَا، لِلْحَاجَةِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي الثَّانِي. فَعَلَى الصَّحِيحِ: إِذَا عَمِلَ فِي هَذَا الْفَاسِدِ، اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ إِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُتَوَقَّعَةً فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي شَرْطِ الْكُلِّ لِلْمَالِكِ. وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى وَدِيٍّ مَغْرُوسٍ، فَإِنْ قَدَّرَا الْعَقْدَ بِمُدَّةٍ لَا يُثْمِرُ فِيهَا، لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ، لِخُلُوِّهَا عَنِ الْغَرَضِ. وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهَا لَا تُثْمِرُ فِيهَا، فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ، اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ قَطْعًا. وَإِنْ قُدِّرَ

فصل

بِمُدَّةٍ يُثْمِرُ فِيهَا غَالِبًا، صَحَّ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ أَكْثَرِ الْمُدَّةِ لَا ثَمَرَ فِيهَا، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنَّهَا لَمْ تُثْمِرْ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَامِلُ شَيْئًا، كَمَا لَوْ قَارَضَهُ فَلَمْ يَرْبَحْ، أَوْ سَاقَاهُ عَلَى النَّخِيلِ الْمُثْمِرَةِ فَلَمْ تُثْمِرْ، وَإِنْ قُدِّرَ بِمُدَّةٍ تَحْتَمِلُ الْإِثْمَارَ وَعَدَمَهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ أَسْلَمُ فِي مَعْدُومٍ إِلَى وَقْتٍ يَحْتَمِلُ وَجُودَهُ وَعَدَمَهُ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ. فَإِنْ أَثْمَرَتِ اسْتَحَقَّ، وَإِلَّا، فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إِنْ لَمْ تُثْمِرْ، لِأَنَّهُ عَمِلَ طَامِعًا. هَذِهِ طَرِيقَةُ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، وَجَعَلُوا تَوَقُّعَ الثَّمَرَةِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: إِنْ غَلَبَ وُجُودُهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ صَحَّ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: إِنْ غَلَبَ عَدَمُهَا لَمْ يَصِحَّ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. فَرْعٌ دَفَعَ إِلَيْهِ وَدِيًّا لِيَغْرِسَهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْغِرَاسُ لِلدَّافِعِ، وَالثَّمَرُ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلِلْعَامِلِ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ وَأَرْضِهِ. وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَرْضَهُ لِيَغْرِسَهَا بِوَدِيِّ نَفْسِهِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا، فَفَاسِدٌ أَيْضًا، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أُجْرَتُهَا عَلَى الْعَامِلِ. فَصْلٌ فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الثِّمَارِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ. وَفِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُمَا فِيمَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَأَمَّا بَعْدَهُ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعًا. وَالثَّانِي: الْقَوْلَانِ فِيمَا لَمْ يَتَنَاهَ نُضْجُهُ. فَإِنْ تَنَاهَى، لَمْ يَجُزْ قَطْعًا. وَالثَّالِثُ: طَرْدُهُمَا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ النَّخِيلِ بَيَاضٌ، بِحَيْثُ تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ،

فصل

فَكَانَ فِيهِ زَرْعٌ مَوْجُودٌ، فَفِي جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ تَبَعًا، وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ فِي الْحَدِيقَةِ نَوْعَانِ مِنَ التَّمْرِ فَصَاعِدًا، كَالصَّيْحَانِيِّ، وَالْعَجْوَةِ، وَالدَّقَلِ، فَسَاقَاهُ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ مِنَ الصَّيْحَانِيِّ، أَوْ مِنَ الْعَجْوَةِ الثُّلُثَ، فَإِنْ عَلِمَا قَدْرَ كُلِّ نَوْعٍ، جَازَ، وَإِنْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَجُزْ. وَمَعْرِفَةُ كُلِّ نَوْعٍ إِنَّمَا تَكُونُ بِالنَّظَرِ وَالتَّخْمِينِ دُونَ التَّحْقِيقِ. وَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْكُلِّ، جَازَ وَإِنْ جَهِلَا قَدْرَ النَّوْعَيْنِ. وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ سَقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ، فَلَهُ الثُّلُثُ، أَوْ بِالدَّالِيَةِ فَالنِّصْفُ، لَمْ يَصِحَّ، لِلْجَهْلِ. وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى حَدِيقَتِهِ بِالنِّصْفِ عَلَى أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى أُخْرَى بِالثُّلُثِ، أَوْ عَلَى أَنْ يُسَاقِيَهُ الْعَامِلُ عَلَى حَدِيقَتِهِ، فَفَاسِدٌ. وَهَلْ تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ الثَّانِيَةُ؟ يُنْظَرُ، إِنْ عَقَدَهَا وَفَاءً بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَصِحَّ، وَإِلَّا فَيَصِحُّ، وَسَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الرَّهْنِ. فَرْعٌ حَدِيقَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً، سَاقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَشَرَطَ لَهُ ثُلُثَيِ الثِّمَارِ، صَحَّ وَقَدْ شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ ثَمَرَتِهِ. وَإِنْ شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ الثِّمَارِ، أَوْ نِصْفَهَا، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ لَهُ عِوَضًا بِالْمُسَاقَاةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ بِالْمِلْكِ. وَإِذَا عَمِلَ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ الْأُجْرَةَ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ شَرَطَ لَهُ جَمِيعَ الثِّمَارِ فَسَدَ، وَفِي الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ انْصَرَفَ إِلَيْهِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَهُ الْأُجْرَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ شَرَطَ فِي الْمُسَاقَاةِ مَعَ الشَّرِيكِ أَنْ يَتَعَاوَنَا عَلَى الْعَمَلِ، فَسَدَتْ وَإِنْ أَثْبَتَ لَهُ زِيَادَةً عَلَى النِّصْفِ، كَمَا لَوْ سَاقَى أَجْنَبِيًّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. ثُمَّ إِنْ تَعَاوَنَا وَاسْتَوَيَا فِي الْعَمَلِ، فَلَا أُجْرَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ تَفَاوَتَا، فَإِنْ كَانَ عَمَلُ مَنْ شَرَطَ لَهُ الزِّيَادَةَ أَكْثَرَ، اسْتَحَقَّ عَلَى الْأُجْرَةِ بِالْحِصَّةِ مِنْ عَمَلِهِ. وَإِنْ كَانَ عَمَلُ الْآخَرِ أَكْثَرَ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ الْأُجْرَةَ الْوَجْهَانِ. أَمَّا لَوْ أَعَانَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَلَا يَضُرُّ. وَلَوْ سَاقَا الشَّرِيكَانِ أَجْنَبِيًّا، وَشَرَطَا لَهُ جُزْءًا مِنْ ثَمَرَةِ كُلِّ الْحَدِيقَةِ، وَلَمْ يَعْلَمْ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَازَ. فَإِنْ قَالَا: عَلَى أَنَّ لَكَ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِنَا النِّصْفَ، وَمِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ الثُّلُثَ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ عَيَّنَا، فَإِنْ عَلِمَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ كَانَتِ الْحَدِيقَةُ لِوَاحِدٍ، فَسَاقَى اثْنَيْنِ عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا نِصْفَ الثَّمَرَةِ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَهَا، فِي صَفْقَةٍ، أَوْ صَفْقَتَيْنِ، جَازَ إِنْ عَيَّنَ مَنْ لَهُ النِّصْفُ وَمَنْ لَهُ الثُّلُثُ. فَرْعٌ حَدِيقَةٌ بَيْنَ سِتَّةٍ أَسْدَاسًا، فَسَاقُوا رَجُلًا عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ نَصِيبِ وَاحِدٍ عَيَّنُوهُ النِّصْفَ، وَمِنْ نَصِيبِ الثَّانِي الرُّبُعَ، وَمِنَ الثَّالِثِ الثُّمُنَ، وَمِنَ الرَّابِعِ الثُّلُثَيْنِ، وَمِنَ الْخَامِسِ الثُّلُثَ، وَمِنَ السَّادِسِ السُّدُسَ، فَحِسَابُهُ أَنَّ مُخْرِجَ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ يَدْخُلَانِ فِي مُخْرِجِ الثُّمُنِ، وَمُخْرِجَ الثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثِ يَدْخُلُ فِي السُّدُسِ، تَبْقَى سِتَّةٌ وَثَمَانِيَةٌ، يُضْرَبُ وِفْقُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، تَضْرِبُهُ فِي عَدَدِ

الشُّرَكَاءِ وَهُوَ سِتَّةٌ، تَبْلُغُ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَيَأْخُذُ الْعَامِلُ مِمَّنْ شَرَطَ لَهُ النِّصْفَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَمِنَ الثَّانِي سِتَّةً، وَمِنَ الثَّالِثِ ثَلَاثَةً، وَمِنَ الرَّابِعِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَمِنَ الْخَامِسِ ثَمَانِيَةً، وَمِنَ السَّادِسِ أَرْبَعَةً، فَيَجْتَمِعُ لَهُ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْعَمَلُ. [وَشُرُوطُهُ] قَرِيبَةٌ مِنْ عَمَلِ الْقِرَاضِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ. فَمِنْهَا: أَنْ لَا يُشْرَطَ عَلَيْهِ عَمَلٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسَاقَاةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَبِدَّ الْعَامِلُ بِالْيَدِ فِي الْحَدِيقَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ مَتَى شَاءَ. فَلَوْ شَرَطَا كَوْنَهُ فِي يَدِ الْمَالِكِ، أَوْ مُشَارَكَتَهُ فِي الْيَدِ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ سَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إِلَيْهِ، وَشَرَطَ الْمَالِكُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ، كَانَتِ الْحَدِيقَةُ فِي يَدِهِ، وَيَتَعَوَّقُ بِحُضُورِهِ عَنِ الْعَمَلِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَنْفَرِدَ الْعَامِلُ بِالْعَمَلِ. فَلَوْ شَرَطَا مُشَارَكَةَ الْمَالِكِ فِي الْعَمَلِ فَسَدَ الْعَقْدُ، وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ غُلَامُ الْمَالِكِ، جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ كَالْقِرَاضِ. هَذَا إِذَا شَرَطَا مُعَاوَنَةَ الْغُلَامِ، وَيَكُونُ تَحْتَ تَدْبِيرِ الْعَامِلِ. فَلَوْ شَرَطَا اشْتِرَاكَهُمَا فِي التَّدْبِيرِ، وَيَعْمَلَانِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ. وَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فِي الْأَوَّلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغُلَامِ بِالرُّؤْيَةِ أَوِ الْوَصْفِ. وَأَمَّا نَفَقَتُهُ، فَإِنْ شَرَطَاهَا عَلَى الْمَالِكِ، جَازَ، وَإِنْ شَرَطَاهَا عَلَى الْعَامِلِ، جَازَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى هَذَا هَلْ يَجِبُ تَقْدِيرُهَا لِيُعْرَفَ مَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ، أَمْ لَا بَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْوَسَطِ الْمُعْتَادِ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ بِهِ؟ وَجْهَانِ، وَبِالثَّانِي قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَإِنْ شَرَطَاهَا فِي الثِّمَارِ، فَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّ مَا يَبْقَى مَجْهُولٌ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْإِفْصَاحِ» : يَجُوزُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ صَلَاحِ الْمَالِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُتَوَسَّطَ فَيُقَالُ: إِنْ شَرَطَاهَا مِنْ جُزْءٍ مَعْلُومٍ، بِأَنْ شَرَطَا لِلْمَالِكِ ثُلُثَ الثِّمَارِ، وَلِلْعَامِلِ ثُلُثَهَا، وَيُصْرَفُ الثُّلُثُ الثَّالِثُ إِلَى نَفَقَةِ الْغُلَامِ، جَازَ، وَكَأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْمَالِكِ ثُلُثَاهَا. وَإِنْ شَرَطَاهَا فِي الثِّمَارِ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ جُزْءٍ لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ لَمْ يَتَعَرَّضَا لِلنَّفَقَةِ أَصْلًا، فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ

فصل

الْجُمْهُورُ: أَنَّهَا عَلَى الْمَالِكِ. وَفِي وَجْهٍ: عَلَى الْعَامِلِ، حَكَاهُ فِي «الْمُهَذَّبِ» . وَلِصَاحِبِ «الْإِفْصَاحِ» احْتِمَالَانِ آخَرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنَ الثَّمَرَةِ، وَالْآخَرُ، يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ اسْتِعْمَالُ الْغُلَامِ فِي عَمَلِ نَفْسِهِ. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ، بَطَلَ الْعَقْدُ. وَلَوْ كَانَ بِرَسْمِ الْحَدِيقَةِ غِلْمَانٌ يَعْمَلُونَ فِيهَا، لَمْ يَدْخُلُوا فِي مُطْلَقِ الْمُسَاقَاةِ. وَلَوْ شَرَطَ اسْتِئْجَارَ الْعَامِلِ مَنْ يَعْمَلُ مَعَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، بَطَلَ الْعَقْدُ. وَلَوْ شَرَطَ كَوْنَ أُجْرَةِ مَنْ يَعْمَلُ مَعَهُ عَلَى الْمَالِكِ، بَطَلَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ، وَشَذَّ الْغَزَالِيُّ، فَذَكَرَ فِي جَوَازِهِ وَجْهَيْنِ. فَصْلٌ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ، أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً. فَإِنْ وَقَّتَ بِالشُّهُورِ أَوِ السِّنِينَ الْعَرَبِيَّةِ، فَذَاكَ، وَلَوْ وَقَّتَ بِالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهَا جَازَ إِذَا عَلِمَاهَا، فَإِنْ أَطْلَقَا لَفْظَ السَّنَةِ، انْصَرَفَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ. وَإِنْ وَقَّتَ بِإِدْرَاكِ الثَّمَرَةِ، فَهَلْ يَبْطُلُ كَالْإِجَارَةِ، أَمْ يَصِحُّ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَوَّلُهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَصَحَّحَ الْغَزَالِيُّ الثَّانِيَ. فَعَلَى الثَّانِي لَوْ قَالَ: سَاقَيْتُكَ سَنَةً، وَأَطْلَقَ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَمْ سَنَةِ الْإِدْرَاكِ؟ وَجْهَانِ، زَعَمَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ [أَنَّ] أَصَحَّهُمَا: الثَّانِي. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، أَوْ وَقَّتَ بِالزَّمَانِ، فَأُدْرِكَتِ الثِّمَارُ وَالْمُدَّةُ بَاقِيَةٌ، لَزِمَ الْعَامِلَ أَنْ يَعْمَلَ فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ. وَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَعَلَى الشَّجَرِ طَلْعٌ أَوْ بَلَحٌ، فَلِلْعَامِلِ نَصِيبُهُ مِنْهَا، وَعَلَى الْمَالِكِ التَّعَهُّدُ إِلَى الْإِدْرَاكِ. وَإِنْ حَدَثَ الطَّلْعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَلَا حَقَّ لِلْعَامِلِ فِيهِ. وَلَوْ سَاقَاهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فَفِي صِحَّتِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِجَارَةِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فَإِنْ جَوَّزْنَا، فَهَلْ يَجِبُ بَيَانُ حِصَّةِ كُلِّ سَنَةٍ، أَمْ يَكْفِي قَوْلُهُ: سَاقَيْتُكَ عَلَى النِّصْفِ لِاسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ كُلَّ سُنَّةٍ؟

قَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ كَالْإِجَارَةِ. وَقِيلَ: يَجِبُ هُنَا قَطْعًا، لِكَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَرِ، بِخِلَافِ الْمَنَافِعِ، فَلَوْ فَاوَتَ بَيْنَ الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ فِي السِّنِينَ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ كَالسَّلَمِ إِلَى آجَالٍ. وَلَوْ سَاقَاهُ سِنِينَ، وَشَرَطَ لَهُ ثَمَرَةَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا، وَالْأَشْجَارُ بِحَيْثُ تُثْمِرُ كُلَّ سَنَةٍ، لَمْ يَصِحَّ. قُلْتُ: وَلَوْ سَاقَاهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَشَرَطَ لَهُ ثَمَرَةَ الْعَاشِرَةِ، لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ شَرَطَ لَهُ ثَمَرَةَ التَّاسِعَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الصِّيغَةُ، وَلَا تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ بِدُونِهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِيهَا الْوَجْهُ الْمُكْتَفَى فِي الْعُقُودِ بِالتَّرَاضِي وَالْمُعَاطَاةِ، وَكَذَا فِي الْقِرَاضِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ أَشْهَرُ الصِّيَغِ: سَاقَيْتُكَ عَلَى هَذِهِ النَّخِيلِ بِكَذَا، أَوْ عَقَدْتُ مَعَكَ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِ: سَلَّمْتُ إِلَيْكَ نَخِيلِي لِتَتَعَهَّدَهَا عَلَى كَذَا، أَوِ اعْمَلْ عَلَى هَذَا النَّخِيلِ، أَوْ تَعَهَّدْ نَخِيلِي بِكَذَا، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ مِنَ الْعُقُودِ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَهَابًا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْمُسَاقَاةِ الْقَبُولُ قَطْعًا، وَلَا يَجِيءُ فِيهَا الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي الْقِرَاضِ وَالْوَكَالَةِ، لِلُزُومِهِمَا. فَرْعٌ لَوْ عَقَدَا بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، فَقَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَتَعَهَّدَ نَخِيلِي بِكَذَا مِنْ ثِمَارِهَا، أَوْ عَقَدَا الْإِجَارَةَ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، فَوَجْهَانِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ، لِمَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ مِنَ الْمُشَابَهَةِ وَاحْتِمَالِ كُلِّ لَفْظٍ مَعْنَى الْآخَرِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّ لَفْظَ الْإِجَارَةِ صَرِيحٌ فِي غَيْرِ الْمُسَاقَاةِ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ فِي مَوْضُوعِهِ نُفِّذَ فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ

إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ، وَالْخِلَافُ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى؟ وَلَوْ قَالَ: سَاقَيْتُكَ عَلَى هَذِهِ النَّخِيلِ بِكَذَا لِيَكُونَ أُجْرَةً لَكَ، فَلَا بَأْسَ، لَسَبْقِ لَفْظِ الْمُسَاقَاةِ. هَذَا إِذَا قَصَدَا بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ الْمُسَاقَاةَ، أَمَّا إِذَا قَصَدَا الْإِجَارَةَ نَفْسَهَا، فَيُنْظَرُ، إِنْ لَمْ تَكُنْ خَرَجَتِ الثَّمَرَةُ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ شَرْطَ الْأُجْرَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ مَوْجُودَةً مَعْلُومَةً. وَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ، وَبَدَا فِيهَا الصَّلَاحُ، جَازَ، سَوَاءٌ شَرَطَ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ جُزْءًا شَائِعًا، كَذَا أَطْلَقُوهُ، وَلَكِنْ يَجِيءُ فِيهِ مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ قَفِيزِ الطَّحَّانِ وَأَخَوَاتِهَا. وَإِنْ لَمْ يَبْدُ فِيهَا الصَّلَاحُ، فَإِنْ شَرَطَ لَهُ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا، جَازَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ كُلَّ الثِّمَارِ لِلْعَامِلِ. وَإِنْ شَرَطَ جُزْءًا شَائِعًا، لَمْ يَجُزْ وَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ، لِمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ. وَإِذَا عَقَدَا بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلِ الْأَعْمَالِ، بَلْ يُحْمَلُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ عَلَى عُرْفِهَا الْغَالِبِ. وَقِيلَ: يَجِبُ تَفْصِيلُهَا. وَهَذَا الْخِلَافُ إِذَا عَلِمَ الْمُتَعَاقِدَانِ الْعُرْفَ الْمَحْمُولَ عَلَيْهِ. فَإِنْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا وَجَبَ التَّفْصِيلُ قَطْعًا. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْمُسَاقَاةِ وَيَجْمَعُهَا حُكْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ وَالْمَالِكَ. وَالثَّانِي: فِي لُزُومِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكُلُّ عَمَلٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الثِّمَارُ لِزِيَادَتِهَا، أَوْ صَلَاحٍ، وَيَتَكَرَّرُ كُلَّ سَنَةٍ، فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ. وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا التَّكْرَارَ، لِأَنَّ مَا يَتَكَرَّرُ يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسَاقَاةِ، وَتَكْلِيفُ الْعَامِلِ مِثْلَ هَذَا، إِجْحَافٌ بِهِ. فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ السَّقْيُ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ إِصْلَاحِ طَرِيقِ الْمَاءِ وَالْأَجَاجِينِ الَّتِي يَقِفُ فِيهَا الْمَاءُ، وَتَنْقِيَةِ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ مِنَ الْحَمْأَةِ وَنَحْوِهَا. وَإِدَارَةِ الدُّولَابِ وَفَتْحِ رَأْسِ السَّاقِيَةِ، وَسَدِّهَا عِنْدَ السَّقْيِ، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ.

وَفِي تَنْقِيَةِ النَّهْرِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهَا عَلَى الْمَالِكِ. وَوَجْهٌ: أَنَّهَا عَلَى مَنْ شُرِطَتْ عَلَيْهِ مِنْهُمَا. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرَاهَا، فَسَدَ الْعَقْدُ. وَمِنْهُ: تَقْلِيبُ الْأَرْضِ بِالْمَسَاحِي وَكِرَابُهَا فِي الْمُزَارَعَةِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَكَذَا تَقْوِيَتُهَا بِالزِّبْلِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ. وَمِنْهُ: التَّلْقِيحُ، ثُمَّ الطَّلْعُ الَّذِي يُلَقَّحُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ، وَإِنَّمَا يُكَلَّفُ الْعَامِلُ الْعَمَلَ. وَمِنْهَا: تَنْحِيَةُ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ وَالْقُضْبَانِ الْمُضِرَّةِ بِالشَّجَرِ. وَمِنْهُ: تَصْرِيفُ الْجَرِيدِ. - وَالْجَرِيدُ: سَعَفُ النَّخْلِ -. وَحَاصِلُ مَا قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِهِ شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا: قَطْعُ مَا يَضُرُّ تَرْكُهُ يَابِسًا وَغَيْرَ يَابِسٍ. وَالثَّانِي: رَدُّهَا عَنْ وُجُوهِ الْعَنَاقِيدِ بَيْنَهَا لِتُصِيبَهَا الشَّمْسُ، وَلِيَتَيَسَّرَ قَطْعُهَا عِنْدَ الْإِدْرَاكِ. وَمِنْهُ: تَعْرِيشُ شَجَرِ الْعِنَبِ حَيْثُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَوَضْعُ الْحَشِيشِ فَوْقَ الْعَنَاقِيدِ صَوْنًا عَنِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَفِي حِفْظِ الثِّمَارِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْعَامِلِ كَحِفْظِ مَالِ الْقِرَاضِ. فَإِنْ لَمْ يُحْفَظْ بِنَفْسِهِ، فَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ مَنْ يَحْفَظُهُ. وَالثَّانِي: عَلَى الْعَامِلِ وَالْمَالِكِ جَمِيعًا بِحَسَبِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الثِّمَارِ، لِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِزِيَادَةِ الثَّمَرِ وَتَنْمِيَتِهِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي حِفْظِ الثَّمَرِ عَنِ الطُّيُورِ وَالزَّنَابِيرِ، بِأَنْ يُجْعَلَ كُلُّ عُنْقُودٍ فِي قَوْصَرَّةٍ، فَيَلْزَمُ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ جَرَيَانِ الْعَادَةِ [بِهِ] وَهَذِهِ الْقَوْصَرَّةُ عَلَى الْمَالِكِ، وَيَلْزَمُ الْعَامِلَ جِدَادُ الثَّمَرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، لِأَنَّهُ مِنَ الصَّلَاحِ. وَقِيلَ: لَا، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ. وَيَلْزَمُهُ تَجْفِيفُ الثِّمَارِ عَلَى الصَّحِيحِ إِذَا طُرِدَتِ الْعَادَةُ، أَوْ شَرْطَاهُ. وَإِذَا وَجَبَ التَّجْفِيفُ، وَجَبَ تَهْيِئَةُ مَوْضِعِهِ وَتَسْوِيَتُهُ، وَيُسَمَّى: الْبَيْدَرَ وَالْجَرِينَ، وَنَقْلُ الثِّمَارِ إِلَيْهِ، وَتَقْلِيبُهَا فِي الشَّمْسِ. وَأَمَّا مَا لَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ سَنَةٍ وَيُقْصَدُ بِهِ حِفْظُ الْأُصُولِ، فَهُوَ مِنْ وَظِيفَةِ الْمَالِكِ، وَذَلِكَ كَحَفْرِ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ الْجَدِيدَةِ، وَالَّتِي انْهَارَتْ، وَبِنَاءِ الْحِيطَانِ، وَنَصْبِ

الْأَبْوَابِ وَالدُّولَابِ وَنَحْوِهَا. وَفِي رَدْمِ الثُّلَمِ الْيَسِيرَةِ الَّتِي تَتَّفِقُ فِي الْجُدْرَانِ، وَوَضْعِ الشَّوْكِ عَلَى رَأْسِ الْجِدَارِ، وَجْهَانِ كَتَنْقِيَةِ الْأَنْهَارِ. وَالْأَصَحُّ: اتِّبَاعُ الْعُرْفِ. وَأَمَّا الْآلَاتُ الَّتِي يَتَوَفَّرُ بِهَا الْعَمَلُ، كَالْفَأْسِ، وَالْمِعْوَلِ، وَالْمِسْحَاةِ، وَالثِّيرَانِ، وَالْفَدَّانِ فِي الْمَزْرَعَةِ، وَالثَّوْرِ الَّذِي يُدِيرُ الدُّولَابَ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا عَلَى الْمَالِكِ. وَقِيلَ: هِيَ عَلَى مَنْ شُرِطَتْ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ السُّكُوتُ عَنْهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ. وَخَرَاجُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ عَلَى الْمَالِكِ قَطْعًا، وَكَذَا كُلُّ عَيْنٍ تَتْلَفُ فِي الْعَمَلِ، فَعَلَى الْمَالِكِ قَطْعًا. ثُمَّ كُلُّ مَا وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ، فَلَهُ اسْتِئْجَارُ الْمَالِكِ عَلَيْهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهٌ. وَلَوْ شَرَطَ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْعَقْدِ، بَطَلَ الْعَقْدُ، وَكَذَا مَا عَلَى الْمَالِكِ لَوْ شَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ، بَطَلَ الْعَقْدُ، وَلَوْ فَعَلَهُ الْعَامِلُ بِلَا إِذْنٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَإِنْ فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الصَّحِيحِ، فِي أَنَّ تَفْصِيلَ الْأَعْمَالِ لَا يَجِبُ فِي الْعَقْدِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَالْمُتَّبَعُ الشَّرْطُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ. الْحُكْمُ الثَّانِي: الْمُسَاقَاةُ عَقْدٌ لَازِمٌ كَالْإِجَارَةِ، وَيَمْلِكُ الْعَامِلُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ بِالظُّهُورِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ كَالْقِرَاضِ. وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَذْهَبِ: أَنَّ الرِّبْحَ فِي الْقِرَاضِ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الثَّمَرِ. فَرْعٌ إِذَا هَرَبَ الْعَامِلُ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ، نُظِرَ، إِنْ تَبَرَّعَ الْمَالِكُ بِالْعَمَلِ، أَوْ بِمُؤْنَةِ مَنْ يَعْمَلُ، بَقِيَ اسْتِحْقَاقُ الْعَامِلِ بِحَالِهِ، وَإِلَّا رَفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ، وَأَثْبَتَ عِنْدَهُ الْمُسَاقَاةَ لِيَطْلُبَهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ وَجَدَهُ، أَجْبَرَهُ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِلَّا اسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ مَنْ يَعْمَلُ. وَمِنْ أَيْنَ يَسْتَأْجِرُ؟ يُنْظَرُ، إِنْ كَانَ لِلْعَامِلِ مَالٌ، فَمِنْهُ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ،

بَاعَ نَصِيبَ الْعَامِلِ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ لِلْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ، وَاسْتَأْجَرَ بِثَمَنِهِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، إِمَّا قَبْلَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ أَوْ بَعْدَهُ، اسْتَقْرَضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَاسْتَأْجَرَ بِهِ، ثُمَّ يَقْضِيهِ الْعَامِلُ إِذَا رَجَعَ، أَوْ يُقْضَى مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، أَوِ الْإِدْرَاكِ. وَلَوْ وَجَدَ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، اسْتَغْنَى عَنِ الِاقْتِرَاضِ. وَإِنْ فَعَلَ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ لِيَرْجِعَ، يُنْظَرُ، إِنْ قَدَرَ عَلَى مُرَاجَعَةِ الْحَاكِمِ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ وَقَدَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ فَلَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يَرْجِعْ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِشْهَادُ، فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا يَرْجِعُ، لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَرْجِعُ وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْإِشْهَادِ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَإِنْ أَشْهَدْ، رَجَعَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِلضَّرُورَةِ. وَقِيلَ: لَا، لِئَلَّا يَصِيرَ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ. ثُمَّ الْإِشْهَادُ الْمُعْتَبَرُ، أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْعَمَلِ أَوِ الِاسْتِئْجَارِ، وَأَنَّهُ بَذَلَ ذَلِكَ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ. فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَى الْعَمَلِ أَوِ الِاسْتِئْجَارِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلرُّجُوعِ، فَهُوَ كَتَرْكِ الْإِشْهَادِ، قَالَهُ فِي «الشَّامِلِ» . وَإِذَا أَنْفَقَ الْمَالِكُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ لِيَرْجِعَ، فَوَجْهَانِ. وَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. فَطَرِيقُهُ: أَنْ يُسَلِّمَ الْمَالَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْإِنْفَاقِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِبَاقِي الْعَمَلِ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ أَجَّرَ دَارَهُ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهَا مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ. وَمَتَى تَعَذَّرَ إِتْمَامُ الْعَمَلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الثَّمَرَةُ خَرَجَتْ، فَلِلْمَالِكِ فَسْخُ الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِلتَّعَذُّرِ وَالضَّرُورَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَفْسَخُ، لَكِنْ يَطْلُبُ الْحَاكِمُ مَنْ يُسَاقِي عَنِ الْعَامِلِ، فَرُبَّمَا فَضَلَ لَهُ شَيْءٌ. وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ قَدْ خَرَجَتْ، فَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ بَدَا صَلَاحُهَا، بِيعَ نَصِيبُ الْعَامِلِ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِقَدْرِ مَا يُسْتَأْجَرُ بِهِ عَامِلٌ. وَإِنْ لَمْ يَبْدُ، تَعَذَّرَ [بِيعَ] نَصِيبُهُ وَحْدَهُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْقَطْعِ فِي الْمَشَاعِ لَا يَكْفِي. فَإِمَّا أَنْ يَبِيعَ الْمَالِكُ نَصِيبَهُ مَعَهُ لِيَشْرُطَ الْقَطْعَ فِي الْجَمِيعِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَالِكُ نَصِيبَهُ، فَيَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ

فصل

فِي أَنَّ بَيْعَ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ يَكْفِي عَنِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ. فَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي بَيْعٍ وَلَا شِرَاءٍ، وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحَا. وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْفَسْخُ بَعْدَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ فِي «الْمُهَذَّبِ» : يُفْسَخُ، وَتَكُونُ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَكَادُ يُفْرَضُ لِلْفَسْخِ بَعْدَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ فَائِدَةٌ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ثُبُوتِ الْفَسْخِ قَبْلَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ فَرْعَانِ. أَحَدُهُمَا: إِذَا فُسِخَ، غَرِمَ الْمَالِكُ لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ مِثْلِ مَا عَمِلَ، وَلَا يُقَالُ بِتَوْزِيعِ الثِّمَارِ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِ جَمِيعِ الْعَمَلِ، إِذِ الثِّمَارُ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ حَتَّى يَقْتَضِيَ الْعَقْدُ التَّوْزِيعَ فِيهَا. الثَّانِي: جَاءَ أَجْنَبِيٌّ وَقَالَ: لَا تَفْسَخْ لِأَعْمَلَ نِيَابَةً عَنِ الْعَامِلِ، لَمْ يَلْزَمِ الْإِجَابَةَ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَأْتَمِنُهُ وَلَا يَرْضَى بِدُخُولِهِ مِلْكَهُ. لَكِنْ لَوْ عَمِلَ نِيَابَةً بِغَيْرِ عِلْمِ الْمَالِكِ، وَحَصَلَتِ الثِّمَارُ، سَلَّمَ لِلْعَامِلِ نَصِيبَهُ مِنْهَا، وَكَانَ الْأَجْنَبِيُّ مُتَبَرِّعًا [عَلَيْهِ] ، هَكَذَا قَالُوهُ. وَلَوْ قِيلَ: وُجُودُ الْمُتَبَرِّعِ كَوُجُودِ مُقْرِضٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْفَسْخُ، لَكَانَ قَرِيبًا. وَالْعَجْزُ عَنِ الْعَمَلِ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ كَالْهَرَبِ. فَصْلٌ وَلَوْ مَاتَ مَالِكُ الشَّجَرِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، لَمْ تَنْفَسِخِ الْمُسَاقَاةُ، بَلْ يَسْتَمِرُّ الْعَامِلُ وَيَأْخُذُ نَصِيبَهُ. وَإِنْ مَاتَ الْعَامِلُ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ، انْفَسَخَتْ بِمَوْتِهِ كَالْأَجِيرِ [الْمُعَيَّنِ] . وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا تَنْفَسِخُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِيَدِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ: لَا تَنْفَسِخُ كَالْإِجَارَةِ، بَلْ يُنْظَرُ إِنْ خَلَّفَ تَرِكَةً، تَمَّمَ وَارِثُهُ الْعَمَلَ، بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ، وَإِلَّا، فَإِنْ أَتَمَّ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ، أَوِ اسْتَأْجَرَ مِنْ مَالِهِ مَنْ يُتِمُّ، فَعَلَى الْمَالِكِ تَمْكِينُهُ إِنْ كَانَ أَمِينًا مُهْتَدِيًا إِلَى أَعْمَالِ الْمُسَاقَاةِ، وَيُسَلِّمُ لَهُ الْمَشْرُوطَ. وَإِنْ أَبَى، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُجْبَرُ، لِأَنَّهُ خَلِيفَتُهُ، وَهُوَ شَاذٌّ، لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ مَا عَلَى الْمُورِثِ مِنْ تَرِكَتِهِ. لَكِنْ لَوْ خَلَّفَ تَرِكَةً، وَامْتَنَعَ الْوَارِثُ مِنَ الِاسْتِئْجَارِ مِنْهَا،

فصل

اسْتَأْجَرَ الْحَاكِمُ. وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً، لَمْ يَسْتَقْرِضْ عَلَى الْمَيِّتِ، بِخِلَافِ الْحَيِّ إِذَا هَرَبَ. وَمَهْمَا لَمْ يَتِمَّ الْعَمَلُ، فَالْقَوْلُ فِي ثُبُوتِ الْفَسْخِ وَفِي الشَّرِكَةِ وَفَصْلِ الْأَمْرِ إِذَا خَرَجَتِ الثِّمَارُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْهَرَبِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَكُونُ عَلَى الْعَيْنِ وَفِي الذِّمَّةِ، هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِهَا عَلَى الْعَيْنِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَتَرَدَّدَ فِيهَا بَعْضُهُمْ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّضْيِيقِ. فَرْعٌ نَقَلَ الْمُتَوَلِّي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ تُثْمِرِ الْأَشْجَارُ أَصْلًا، أَوْ تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِجَائِحَةٍ، أَوْ غَصْبٍ، فَعَلَى الْعَامِلِ إِتْمَامُ الْعَمَلِ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ. كَمَا أَنَّ عَامِلَ الْقِرَاضِ يُكَلَّفُ التَّنْضِيضَ وَإِنْ ظَهَرَ خُسْرَانٌ وَلَمْ يَنَلْ إِلَّا التَّعَبَ. وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ إِذَا تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِالْجَائِحَةِ، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ: بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ وَتَكَامُلِ الثِّمَارِ. قَالَ: وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهَا، فَلِلْعَامِلِ الْخِيَارُ، بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يُجِيزَ وَيُتِمَّ الْعَمَلَ وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ. فَصْلٌ دَعْوَى الْمَالِكِ عَلَى الْعَامِلِ السَّرِقَةَ وَالْخِيَانَةَ فِي الثَّمَرِ أَوِ السَّعَفِ، لَا تُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنَ قَدْرَ مَا خَانَ فِيهِ وَيُحَرِّرَ الدَّعْوَى. فَإِذَا حَرَّرَهَا، وَأَنْكَرَ الْعَامِلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ ثَبَتَتْ خِيَانَتُهُ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِيَمِينِ الْمَالِكِ بَعْدَ نُكُولِهِ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ مَنْ يَعْمَلُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: يُضَمُّ إِلَيْهِ أَمِينٌ يُشْرِفُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ عَلَى حَالَيْنِ: إِنْ أَمْكَنَ حِفْظُهُ بِضَمِّ مُشْرِفٍ، قَنِعَ بِهِ، وَإِلَّا، أُزِيلَتْ يَدُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَاسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مَنْ يَعْمَلُ. ثُمَّ إِذَا اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ، فَالْأُجْرَةُ

فصل

فِي مَالِهِ. وَأَمَّا أُجْرَةُ الْمُشْرِفِ، فَعَلَيْهِ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: تُبْنَى عَلَى مُؤْنَةِ الْحِفْظِ، إِنْ جَعَلْنَاهَا عَلَى الْعَامِلِ، فَكَذَا أُجْرَةُ الْمُشْرِفِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا عَلَيْهِمَا، فَكَذَا هُنَا. وَقَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : أُجْرَةُ الْمُشْرِفِ عَلَى الْعَامِلِ إِنْ ثَبَتَتْ خِيَانَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ، وَإِلَّا، فَعَلَى الْمَالِكِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُشْكِلٌ، وَيَنْبَغِي إِذَا لَمْ تَثْبُتْ خِيَانَتُهُ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ الْمَالِكُ مِنْ ضَمِّ مُشْرِفٍ إِلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ اسْتِقْلَالِهِ بِالْيَدِ. فَصْلٌ إِذَا خَرَجَتِ الْأَشْجَارُ الْمُسَاقَى عَلَيْهَا مُسْتَحَقَّةً، أَخَذَهَا الْمَالِكُ مَعَ الثِّمَارِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً. وَإِنْ جَفَّفَاهَا وَنَقُصَتْ قِيمَتُهَا بِالتَّجْفِيفِ، اسْتَحَقَّ الْأَرْشَ أَيْضًا، وَيَرْجِعُ [الْعَامِلُ عَلَى] الْغَاصِبِ الَّذِي سَاقَاهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ الْغَاصِبُ مَنْ عَمِلَ فِي الْمَغْصُوبِ عَمَلًا، وَقِيلَ: لَا أُجْرَةَ، تَخْرِيجًا عَلَى قَوْلَيِ الْغُرُورِ، [وَ] كَمَا لَوْ تَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَإِنْ أَتْلَفَهَا، فَلِلْمَالِكِ الْخِيَارُ فِي نَصِيبِ الْعَامِلِ، بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِضَمَانِهِ الْعَامِلَ أَوِ الْغَاصِبَ. وَالْقَرَارُ عَلَى الْعَامِلِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: عَلَى الْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ أَطْعَمَهُ الطَّعَامَ الْمَغْصُوبَ عَلَى قَوْلٍ. وَأَمَّا نَصِيبُ الْغَاصِبِ، فَلِلْمَالِكِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ. وَفِي مُطَالَبَتِهِ الْعَامِلَ بِهِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يُطَالِبُهُ، لِثُبُوتِ يَدِهِ، كَمَا يُطَالَبُ عَامِلُ الْقِرَاضِ وَالْمُودَعُ إِذَا خَرَجَ مُسْتَحَقًّا. وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّ يَدَهُ تَثْبُتُ عَلَيْهِ مَقْصُودَةً. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَخْرُجُ مَا إِذَا تَلِفَ جَمِيعُ الثِّمَارِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِجَائِحَةٍ أَوْ غَصْبٍ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا يَدَ الْعَامِلِ عَلَيْهَا، فَهُوَ مُطَالَبٌ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ تَلِفَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْجَارِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِذَا قُلْنَا: يُطَالَبُ الْعَامِلُ بِنَصِيبِ

فصل

الْغَاصِبِ، فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى الْغَاصِبِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي رُجُوعِ الْمُودَعِ. وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالرُّجُوعِ. فَصْلٌ إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِلِ، وَلَا بَيِّنَةَ، تَحَالَفَا كَمَا فِي الْقِرَاضِ. وَإِذَا تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا قَبْلَ الْعَمَلِ، فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، قُضِيَ بِهَا. وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: يَتَسَاقَطَانِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَيَتَحَالَفَانِ. وَإِنْ قُلْنَا: تُسْتَعْمَلَانِ، فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا. وَلَا يَجِيءُ قَوْلَا الْوَقْفِ وَالْقِسْمَةِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ لَا يُقَسَّمُ وَلَا يُوقَفُ. وَقِيلَ: تَجِيءُ الْقِسْمَةُ فِي الْقَدْرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ سَاقَاهُ شَرِيكَانِ فِي الْحَدِيقَةِ، فَقَالَ الْعَامِلُ: شَرَطْتُمَا لِي نِصْفَ الثَّمَرِ، وَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، قَالَ الْآخَرُ: بَلْ شَرَطْنَا الثُّلُثَ، فَنَصِيبُ الْمُصَدِّقِ مَقْسُومٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ. وَأَمَّا نَصِيبُ الْمُكَذِّبِ، فَيَتَحَالَفَانِ فِيهِ. وَلَوْ شَهِدَ الْمُصَدِّقُ لِلْعَامِلِ أَوِ الْمُكَذِّبُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لِعَدَمِ التُّهْمَةِ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْأَشْجَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، أَوْ فِي رَدِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ أَوْ هَلَاكِهِ، فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْقِرَاضِ. فَصْلٌ إِذَا بَدَا صَلَاحُ الثِّمَارِ، فَإِنْ وَثِقَ الْمَالِكُ بِالْعَامِلِ، تَرَكَهَا فِي يَدِهِ إِلَى الْإِدْرَاكِ، فَيَقْتَسِمَانِ حِينَئِذٍ إِنْ جَوَّزْنَاهَا، أَوْ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لِلثَّانِي، أَوْ يَبِيعَانِ لِثَالِثٍ. وَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِهِ وَأَرَادَ تَضْمِينَهُ التَّمْرَ أَوِ الزَّبِيبَ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْخَرْصَ عِبْرَةٌ أَوْ تَضْمِينٌ؟

فصل

فَإِنْ قُلْنَا: عِبْرَةٌ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ قُلْنَا: تَضْمِينٌ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي الزَّكَاةِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَضْمِينَ الْمَالِكِ بِالْخَرْصِ. فَصْلٌ إِذَا انْقَطَعَ مَاءُ الْبُسْتَانِ، وَأَمْكَنَ رَدُّهُ، فَفِي تَكْلِيفِ الْمَالِكِ السَّعْيَ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَمَا لَا يُكَلَّفُ الشَّرِيكُ الْعِمَارَةَ وَلَا الْمَكْرِيُ. وَالثَّانِي: يُكَلَّفُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِقِصَارَةِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ يُكَلَّفُ تَسْلِيمَهُ. فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَسْعَ فِي رَدِّهِ، لَزِمَهُ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ. وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ رَدُّ الْمَاءِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَلِفَتِ الثِّمَارُ بِجَائِحَةٍ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يُكَلَّفُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ السَّوَاقِطُ، وَهِيَ السَّعَفُ الَّتِي تَسْقُطُ مِنَ النَّخْلِ، يَخْتَصُّ بِهَا الْمَالِكُ، وَمَا يَتْبَعُ الثَّمَنَ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَمِنْهُ الشَّمَارِيخُ. فَصْلٌ دَفَعَ بَهِيمَةً إِلَيْهِ لِيَعْمَلَ عَلَيْهَا، وَمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ بَيْنَهُمَا، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ. وَلَوْ قَالَ: تَعَهَّدْ هَذِهِ الْغَنَمَ بِشَرْطِ أَنَّ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا بَيْنَنَا، فَبَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ النَّمَاءَ لَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ. وَلَوْ قَالَ: اعْلِفْ هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ وَلَكَ نِصْفُ دَرِّهَا، فَفَعَلَ، وَجَبَ بَدَلُ

فصل

النِّصْفِ عَلَى صَاحِبِ الشَّاةِ، وَالْقَدْرُ الْمَشْرُوطُ مِنَ الدَّرِّ لِصَاحِبِ الْعَلَفِ مَضْمُونٌ فِي يَدِهِ، لِحُصُولِهِ بِحُكْمِ بَيْعٍ فَاسِدٍ، وَالشَّاةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُقَابَلَةٍ بِالْعِوَضِ. وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ وَاعْلِفْهَا لِتَسْمَنَ وَلَكَ نِصْفُهَا، فَفَعَلَ، فَالْقَدْرُ الْمَشْرُوطُ مِنْهَا لِصَاحِبِ الْعَلَفِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، دُونَ الْبَاقِي. فَصْلٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِذَا كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ فِي الذِّمَّةِ، فَلِلْعَامِلِ أَنْ يُعَامِلَ غَيْرَهُ لِيَنُوبَ عَنْهُ. ثُمَّ إِنْ شَرَطَ لَهُ مِنَ الثِّمَارِ مِثْلَ مَا شَرَطَ الْمَالِكُ لَهُ أَوْ دُونَهُ، فَذَاكَ، وَإِنْ شَرَطَ لَهُ أَكْثَرَ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، وَجَبَ لِلزِّيَادَةِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَإِنْ مَنَعْنَاهُ، فَالْأُجْرَةُ لِلْجَمِيعِ. وَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ وَيُعَامِلَ غَيْرَهُ، فَلَوْ فَعَلَ، انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِتَرْكِهِ الْعَمَلَ، وَكَانَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا لِلْمَالِكِ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الثَّانِي، فَإِنْ عَلِمَ فَسَادَ الْعَقْدِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِلَّا، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ الْخِلَافُ فِي خُرُوجِ الثِّمَارِ مُسْتَحَقَّةً. فَصْلٌ بَيْعُ الْحَدِيقَةِ الَّتِي سَاقَى عَلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ، يُشْبِهُ بَيْعَ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَلَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا، لَكِنْ فِي «فَتَاوَى» الْبَغَوِيِّ: أَنَّ الْمَالِكَ إِنْ بَاعَهَا قَبْلَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ لِلْعَامِلِ حَقًّا فِي ثِمَارِهَا، فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى بَعْضَ الثَّمَرَةِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْأَشْجَارِ وَنَصِيبُ الْمَالِكِ مِنَ الثِّمَارِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ، لِأَنَّهَا مَبِيعَةٌ مَعَ الْأُصُولِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ مَعَ الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ مَعَ الْبَائِعِ. وَإِنْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَحْدَهَا، لَمْ يَصِحَّ، لِلْحَاجَةِ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ وَتَعَذُّرِهِ فِي الشَّائِعِ. قُلْتُ؟ : هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ، حَسَنٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، لَمْ يَذْكُرْهَا الرَّافِعِيُّ هُنَا، بَلْ فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

باب

بَابُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُخَابَرَةِ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: هُمَا بِمَعْنًى، وَالصَّحِيحُ وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُمَا عَقْدَانِ مُخْتَلِفَانِ. فَالْمُخَابَرَةُ: هِيَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَالْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ. وَالْمُزَارَعَةُ مِثْلُهَا، إِلَّا أَنَّ الْبَذْرَ مِنَ الْمَالِكِ. وَقَدْ يُقَالُ: الْمُخَابَرَةُ: اكْتِرَاءُ الْأَرْضِ [بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا] . وَالْمُزَارَعَةُ: اكْتِرَاءُ الْعَامِلِ لِزَرْعِ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَالْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ، هُوَ الصَّوَابُ. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْبَيَانِ: قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: هُمَا بِمَعْنًى، فَلَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ، فَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُخَابَرَةُ وَالْمُزَارَعَةُ بَاطِلَتَانِ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ. قُلْتُ: قَدْ قَالَ بِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُخَابَرَةِ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا أَيْضًا، ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطَّابِيُّ وَصَنَّفَ فِيهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ جُزْءًا، وَبَيَّنَ فِيهِ عِلَلَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالنَّهْيِ عَنْهَا، وَجَمَعَ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ، ثُمَّ تَابَعَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ: ضَعَّفَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثَ النَّهْيِ، وَقَالَ: هُوَ مُضْطَرِبٌ كَثِيرُ الْأَلْوَانِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَأَبْطَلَهَا مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى عِلَّتِهِ، قَالَ: فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ، وَهِيَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، لَا يُبْطِلُ الْعَمَلَ بِهَا أَحَدٌ. هَذَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُخَابَرَةِ، وَتَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَا إِذَا شَرَطَ

أَحَدُهُمَا زَرْعَ قِطْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَالْآخَرُ أُخْرَى، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ، إِبْطَالُهُمَا، وَعَلَيْهِ تَفْرِيعُ مَسَائِلِ الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَمَتَى أُفْرِدَتِ الْأَرْضُ لِمُخَابَرَةٍ أَوْ مُزَارَعَةٍ، بَطَلَ الْعَقْدُ. فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِلْمَالِكِ، فَالْغَلَّةُ لَهُ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَأُجْرَةُ الْبَقَرِ وَالْآلَاتِ إِنْ كَانَتْ لَهُ. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِلْعَامِلِ، فَالْغَلَّةُ لَهُ، وَلِمَالِكِ الْأَرْضِ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا. وَإِنْ كَانَ لَهُمَا، فَالْغَلَّةُ لَهُمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْآخَرِ أُجْرَةُ مِثْلِ مَا انْصَرَفَ مِنْ مَنَافِعِهِ إِلَى حِصَّةِ صَاحِبِهِ. وَإِذَا أَرَادَا أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ، بِحَيْثُ لَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْبَذْرُ بَيْنَهُمَا، وَالْأَرْضُ لِأَحَدِهِمَا، وَالْعَمَلُ وَالْآلَاتُ لِلْآخَرِ، فَلَهُمَا ثَلَاثُ طُرُقٍ. أَحَدُهَا: قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُعِيرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ نِصْفَهَا، وَيَتَبَرَّعُ الْعَامِلُ بِمَنْفَعَةِ بَدَنِهِ وَآلَاتِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْتَصُّ صَاحِبَ الْأَرْضِ. الثَّانِي: قَالَهُ الْمُزَنِيُّ: يَكْرِي صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ نِصْفَهَا بِدِينَارٍ مَثَلًا، وَيَكْتَرِي الْعَامِلَ لِيَعْمَلَ عَلَى نَصِيبِهِ بِنَفْسِهِ وَآلَاتِهِ بِدِينَارٍ، وَيَتَقَاصَّانِ. الثَّالِثُ: قَالَهُ الْأَصْحَابُ: يَكْرِيهِ نِصْفَ أَرْضِهِ بِنِصْفِ مَنَافِعِ الْعَامِلِ وَآلَاتِهِ، وَهَذَا أَحْوَطُهَا. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، أَقْرَضَ نِصْفَهُ لِلْعَامِلِ وَأَكَرَاهُ نِصْفَ الْأَرْضِ بِنِصْفِ عَمَلِهِ وَنِصْفِ مَنَافِعِ آلَاتِهِ، وَلَا شَيْءَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا رَدُّ الْعِوَضِ. وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِنِصْفِ الْبَذْرِ، لِيَزْرَعَ لَهُ

النِّصْفَ الْآخَرَ وَأَعَارَهُ نِصْفَ الْأَرْضِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْجَرَهُ بِنِصْفِ الْبَذْرِ وَنِصْفِ مَنْفَعَةِ تِلْكَ الْأَرْضِ لِيَزْرَعَ بَاقِيَ الْبَذْرِ فِي بَاقِي الْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِلْعَامِلِ، فَإِنْ شَاءَ أَقْرَضَ نِصْفَهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَاكْتَرَى مِنْهُ نِصْفَهَا بِنِصْفِ عَمَلِهِ وَعَمَلِ آلَاتِهِ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَرَى نِصْفَ الْأَرْضِ بِنِصْفِ الْبَذْرِ وَتَبَرَّعَ بِعَمَلِهِ وَمَنَافِعِ آلَاتِهِ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَرَى مِنْهُ نِصْفَ الْأَرْضِ بِنِصْفِ الْبَذْرِ وَنِصْفِ عَمَلِهِ وَمَنَافِعِ آلَاتِهِ. وَلَا بُدَّ فِي هَذِهِ الْإِجَارَاتِ مِنْ رِعَايَةِ الشَّرَائِطِ، كَرُؤْيَةِ الْأَرْضِ وَالْآلَاتِ، وَتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ وَغَيْرِهَا. هَذَا كُلُّهُ إِذَا أُفْرِدَتِ الْأَرْضُ بِالْعَقْدِ. أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ النَّخِيلِ بَيَاضٌ، فَتَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ مَعَ الْمُسَاقَاةِ عَلَى النَّخِيلِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّحَادُ الْعَامِلِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَاقِيَ وَاحِدًا، وَيُزَارِعَ آخَرَ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا تَعَذُّرُ إِفْرَادِ النَّخِيلِ بِالسَّقْيِ، وَالْأَرْضِ بِالْعِمَارَةِ، لِانْتِفَاعِ النَّخْلِ بِسَقْيِ الْأَرْضِ وَتَقْلِيبِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ الْإِفْرَادُ، لَمْ تَجُزِ الْمُزَارَعَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: اتِّحَادُ الصَّفْقَةِ، فَلَفْظُ الْمُعَامَلَةِ، يَشْمَلُ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ. فَلَوْ قَالَ: عَامَلْتُكَ عَلَى هَذَا النَّخِيلِ وَالْبَيَاضِ بِالنِّصْفِ، كَفَى. وَأَمَّا لَفْظُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، فَلَا يُغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، بَلْ يُسَاقِي عَلَى النَّخِيلِ، وَيُزَارِعُ عَلَى الْبَيَاضِ، وَحِينَئِذٍ إِنْ قَدَّمَ الْمُسَاقَاةَ، نُظِرَ، إِنْ أَتَى بِهِمَا عَلَى الِاتِّصَالِ، فَقَدِ اتَّحَدَتِ الصَّفْقَةُ وَوُجِدَ الشَّرْطُ، وَإِنْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا، فَقِيلَ: تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ، لِحُصُولِهِمَا لِشَخْصٍ. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، لِأَنَّهَا تَبَعٌ، فَلَا تُفْرَدُ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ، فَسَدَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ. وَقِيلَ: تَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً. فَإِنْ سَاقَاهُ بَعْدَهَا، بَانَتْ صِحَّتُهَا، وَإِلَّا، فَلَا. الثَّانِي: لَوْ شُرِطَ لِلْعَامِلِ نِصْفُ الثَّمَرِ، وَرُبْعُ الزَّرْعِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ يُزِيلُ التَّبَعِيَّةَ. الثَّالِثُ: لَوْ كَثُرَ الْبَيَاضُ الْمُتَخَلِّلُ مَعَ عُسْرِ الْإِفْرَادِ، فَقِيلَ: يَبْطُلُ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ

مَتْبُوعٌ لَا تَابِعٌ. وَالْأَصَحُّ: الْجَوَازُ، لِلْحَاجَةِ. ثُمَّ النَّظَرُ فِي الْكَثْرَةِ إِلَى زِيَادَةِ النَّمَاءِ، أَمْ إِلَى مِسَاحَةِ الْبَيَاضِ وَمَغَارِسِ الشَّجَرِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعُ: لَوْ شَرَطَا كَوْنَ الْبَذْرِ مِنَ الْعَامِلِ فَهِيَ مُخَابَرَةٌ، فَقِيلَ: تَجُوزُ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ كَالْمُزَارَعَةِ. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْمُزَارَعَةِ تَبَعًا فِي قِصَّةِ خَيْبَرَ، دُونَ الْمُخَابَرَةِ، وَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَشْبَهُ بِالْمُسَاقَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَوَظَّفُ عَلَى الْعَامِلِ فِيهِمَا إِلَّا الْعَمَلُ. فَلَوْ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْمَالِكِ وَالْبَقَرُ مِنَ الْعَامِلِ، أَوْ عَكْسَهُ، قَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ إِذَا شُرِطَ الْبَذْرُ عَلَى الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، فَكَأَنَّهُ اكْتَرَى الْعَامِلَ وَبَقَرَهُ، قَالَ: فَإِنْ جَوَّزْنَا فِيمَا إِذَا شُرِطَ الْبَقَرُ عَلَى [الْمَالِكِ وَالْبَذْرُ عَلَى] الْعَامِلِ، نُظِرَ، فَإِنْ شُرِطَ التِّبْنُ وَالْحَبُّ بَيْنَهُمَا، جَازَ، وَكَذَا لَوْ شُرِطَ الْحَبُّ بَيْنَهُمَا وَالتِّبْنُ لِأَحَدِهِمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَقْصُودِ. فَإِنْ شُرِطَ التِّبْنُ لِصَاحِبِ الثَّوْرِ وَهُوَ مَالِكُ الْأَرْضِ، وَشُرِطَ الْحَبُّ لِلْآخَرِ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْأَصْلُ، فَلَا يُمْنَعُ الْمَقْصُودَ. وَإِنْ شَرَطَا التِّبْنَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَهُوَ الْعَامِلُ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْحَبِّ لِأَحَدِهِمَا وَالتِّبْنِ لِلْآخَرِ أَصْلًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ فِي الْمُخَابَرَةِ بِوُجُوبِ أُجْرَةِ مِثْلِ الْأَرْضِ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى «الْقَفَّالِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ أَرْضًا إِلَى رَجُلٍ لِيَغْرِسَ أَوْ يَبْنِيَ أَوْ يَزْرَعَ فِيهَا مِنْ عِنْدِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً، فَالْحَاصِلُ لِلْعَامِلِ وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ أُجْرَةِ الْأَرْضِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نِصْفُهَا، لِأَنَّهُ غَرَسَ نِصْفَ الْغَرْسِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِإِذْنِهِ، فَقَدْ رَضِيَ بِبُطْلَانِ مَنْفَعَةِ النِّصْفِ. وَأَصَحُّهُمَا: جَمِيعُهَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا رَضِيَ لِيَحْصُلَ لَهُ نِصْفُ

الْغِرَاسِ، فَإِذًا إِطْلَاقُهُمْ فِي الْمُخَابَرَةِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ الْعَامِلُ يُكَلَّفُ نَقْلَ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ إِنْ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُمَا. وَإِنْ نَقَصَتْ، لَمْ يَقْلَعْ مَجَّانًا، لِلْإِذْنِ، بَلْ يَتَخَيَّرُ مَالِكُ الْأَرْضِ فِيهِمَا تَخَيُّرَ الْمُعِيرِ، وَالزَّرْعُ يَبْقَى إِلَى الْحَصَادِ. وَلَوْ زَرَعَ الْعَامِلُ الْبَيَاضَ بَيْنَ النَّخِيلِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، قَلَعَ زَرْعَهُ مَجَّانًا. وَإِذَا لَمْ نُجَوِّزِ الْمُسَاقَاةَ عَلَى مَا سِوَى النَّخِيلِ وَالْعِنَبِ مِنَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ مُنْفَرِدًا، فَفِي جَوَازِهَا تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ كَالْمُزَارَعَةِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الإجارة

كِتَابُ الْإِجَارَةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ. الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. [الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ: الْعَاقِدَانِ وَيُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الصِّيغَةُ، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: أَكْرَيْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ آجَرْتُكَهَا مُدَّةَ كَذَا بِكَذَا، فَيَقُولُ: عَلَى الِاتِّصَالِ: [قَبِلْتُ، أَوِ] اسْتَأْجَرْتُ، أَوِ اكْتَرَيْتُ. وَلَوْ أَضَافَ إِلَى الْمَنْفَعَةِ فَقَالَ: أَجَّرْتُكَ أَوْ أَكْرَيْتُكَ مَنَافِعَ هَذِهِ الدَّارِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، وَبِهِ قَطَعَ فِي «الشَّامِلِ» وَذِكْرُ الْمَنْفَعَةِ تَأْكِيدٌ كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ عَيْنَ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ رُقْبَتَهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ، لِأَنَّ لَفْظَ الْإِجَارَةِ وُضِعَ مُضَافًا إِلَى الْعَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي الذِّمَّةِ، فَقَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ كَذَا، فَقِيلَ: جَازَ، وَأَغْنَى عَنْ لَفْظِ الْإِجَارَةِ وَالْإِكْرَاءِ. وَإِنْ تَعَاقَدَ بِصِيغَةِ التَّمْلِيكِ، نُظِرَ، إِنْ أَضَافَ إِلَى الْمَنْفَعَةِ فَقَالَ: مَلَّكْتُكَ مَنْفَعَتَهَا شَهْرًا، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ [الْمَعْرُوفِ] ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ بِعِوَضٍ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ مَنْفَعَةَ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا، فَوَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ صِنْفٌ مِنَ الْبَيْعِ. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ مَوْضُوعٌ لِمِلْكِ الْأَعْيَانِ، فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَنَافِعِ، كَمَا لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ. وَقِيلَ وَبِالْمَنْعِ قَطْعًا. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْأُجْرَةُ. فَالْإِجَارَةُ قِسْمَانِ. وَارِدَةٌ عَلَى الْعَيْنِ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً [بِعَيْنِهَا لِيَرْكَبَهَا] أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ شَخْصًا بِعَيْنِهِ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ. وَوَارِدَةٌ عَلَى الذِّمَّةِ، كَمَنْ أَسْتَأْجَرَ دَابَّةً مَوْصُوفَةً لِلرُّكُوبِ أَوِ الْحَمْلِ، أَوْ قَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ

خِيَاطَةَ هَذَا الثَّوْبِ، أَوْ بِنَاءَ الْحَائِطِ، فَقَبِلَ. وَفِي قَوْلِهِ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِكَذَا، أَوْ لِتَفْعَلَ كَذَا، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْحَاصِلَ بِهِ إِجَارَةُ عَيْنٍ، لِلْإِضَافَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُ هَذِهِ الدَّابَّةَ. وَالثَّانِي: إِجَارَةُ ذِمَّةٍ، وَعَلَى هَذَا إِنَّمَا تَكُونُ إِجَارَةَ عَيْنٍ إِذَا زَادَ فَقَالَ: اسْتَأْجَرْتُ عَيْنَكَ أَوْ نَفْسَكَ لِكَذَا، أَوْ لِتَعْمَلَ بِنَفْسِكَ كَذَا. وَإِجَارَةُ الْعَقَارِ لَا تَكُونُ إِلَّا إِجَارَةَ عَيْنٍ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي أَرْضٍ وَلَا دَارٍ. فَرْعٌ إِذَا وَرَدَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ، لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ فِي الْمَجْلِسِ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ، فَهِيَ كَالثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ فِي جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ، وَفِي أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ فِيهَا التَّأْجِيلُ أَوِ التَّنْجِيمُ، كَانَتْ مُؤَجَّلَةً أَوْ مُنَجَّمَةً. وَإِنْ شُرِطَ التَّعْجِيلُ، كَانَتْ مُعَجَّلَةً، وَإِنْ أُطْلِقَ، فَمُعَجَّلَةٌ، وَمَلَكَهَا الْمُكْرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، اسْتَحَقَّ اسْتِيفَاءَهَا إِذَا سَلَّمَ الْعَيْنَ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَوْجُودَةٌ أَوْ مُلْحَقَةٌ بِالْمَوْجُودِ، وَلِهَذَا صَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ دَيْنًا، وَإِلَّا، لَكَانَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِقَدْرِ الْأُجْرَةِ وَوَصْفِهَا إِذَا كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ كَالثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ، فَلَوْ قَالَ: اعْمَلْ كَذَا لِأُرْضِيَكَ أَوْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا، وَمَا أَشْبَهَهُ، فَسَدَ الْعَقْدُ، وَإِذَا عَمِلَ، اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ بِنَفَقَتِهِ أَوْ كُسْوَتِهِ، فَسَدَ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ بِقَدْرٍ مِنَ الْحِنْطَةِ أَوِ الشَّعِيرِ، وَضَبْطُهُ ضَبْطُ السَّلَمِ، جَازَ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ بِأَرْطَالِ خُبْزٍ، بُنِيَ عَلَى جَوَازِ

السَّلَمِ فِي الْخُبْزِ. وَلَوْ آجَرَ الدَّارَ بِعِمَارَتِهَا، أَوِ الدَّابَّةَ بِعَلَفِهَا، أَوِ الْأَرْضَ بِخَرَاجِهَا وَمُؤْنَتِهَا أَوْ بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ عَلَى أَنْ يُعَمِّرَهَا، وَلَا يَحْسُبَ مَا أَنْفَقَ مِنَ الْأُجْرَةِ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ أَجَّرَهَا بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ عَلَى أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَى الْعِمَارَةِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ، الدَّرَاهِمُ مَعَ الصَّرْفِ إِلَى الْعِمَارَةِ، وَذَلِكَ عَمَلٌ مَجْهُولٌ. ثُمَّ إِذَا صَرَفَهَا فِي الْعِمَارَةِ، رَجَعَ بِهَا. وَلَوْ أُطْلِقَ الْعَقْدُ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي الصَّرْفِ إِلَى الْعِمَارَةِ، وَتَبَرَّعَ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ، جَازَ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا أُنْفِقَ، فَقَوْلَانِ فِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ؟ وَلَوْ أَعْطَاهُ ثَوْبًا وَقَالَ: إِنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، أَوْ غَدًا فَنِصْفٌ، فَسَدَ الْعَقْدُ وَوَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مَتَى خَاطَهُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ خِطَّتَهُ رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ، أَوْ فَارِسِيًّا فَنِصْفٌ، فَسَدَ، وَالرُّومِيُّ بِغُرْزَتَيْنِ، وَالْفَارِسِيُّ بِغُرْزَةٍ. فَرْعٌ إِذَا أَجَّلَا الْأُجْرَةَ فَحَلَّتْ وَقَدْ تَغَيَّرَ النَّقْدُ، اعْتُبِرَ نَقْدُ يَوْمِ الْعَقْدِ. وَفِي الْجَعَالَةِ الِاعْتِبَارُ بِيَوْمِ اللَّفْظِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: بِوَقْتِ تَمَامِ الْعَمَلِ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ يَثْبُتُ بِتَمَامِ الْعَمَلِ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي سَبَقَ، إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ فِي الذِّمَّةِ. فَلَوْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً، مُلِكَتْ فِي الْحَالِ كَالْمَبِيعِ، وَاعْتُبِرَتْ فِيهَا الشَّرَائِطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَبِيعِ، حَتَّى لَوْ جَعَلَ الْأُجْرَةَ جِلْدَ شَاةٍ مَذْبُوحَةٍ قَبْلَ السَّلْخِ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ صِفَتُهُ فِي الرِّقَّةِ وَالثَّخَانَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَلْ تُغْنِي رُؤْيَةُ الْأُجْرَةِ، عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِهَا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

فصل

فَصْلٌ أَمَّا الْإِجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ، وَلَا الِاسْتِبْدَالُ عَنْهَا، وَلَا الْحَوَالَةُ بِهَا وَلَا عَلَيْهَا، وَلَا الْإِبْرَاءُ، بَلْ يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِي الْمَجْلِسِ كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، لِأَنَّهُ سَلَمٌ فِي الْمَنَافِعِ، فَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مُشَاهَدَةً غَيْرَ مَعْلُومَةِ الْقَدْرِ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ. هَذَا إِذَا تَعَاقَدَا بِلَفْظِ السَّلَمِ، بِأَنْ قَالَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الدِّينَارَ فِي دَابَّةٍ تَحْمِلُنِي إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، فَإِنْ عَقَدَا بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، بِأَنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ دَابَّةً صِفَتُهَا كَذَا لِتَحْمِلَنِي إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، فَوَجْهَانِ بَنَوْهُمَا عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ، أَمْ بِالْمَعْنَى؟ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وَالْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ كَمَا لَوْ عَقَدَا بِلَفْظِ السَّلَمِ، وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْآخَرَ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَنْفَعَةً، سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْجِنْسُ، كَمَا إِذَا أَجَّرَ دَارًا بِمَنْفَعَةِ دَارٍ، أَوِ اخْتَلَفَ، بِأَنْ أَجَّرَهَا بِمَنْفَعَةِ عَبْدٍ. وَلَا رِبًا فِي الْمَنَافِعِ أَصْلًا، حَتَّى لَوْ أَجَّرَ دَارًا بِمَنْفَعَةِ دَارَيْنِ، أَوْ أَجَّرَ حُلِيَّ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ، جَازَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ. فَصْلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ شَيْئًا يَحْصُلُ بِعَمَلِ الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ السَّلَّاخَ لِيَسْلَخَ الشَّاةَ بِجِلْدِهَا، أَوِ الطَّحَّانَ لِيَطْحَنَ الْحِنْطَةَ بِثُلْثِ دَقِيقِهَا، أَوْ بِصَاعٍ مِنْهُ، أَوْ بِالنُّخَالَةِ، أَوِ الْمُرْضِعَةَ بِجُزْءٍ مِنَ الرَّقِيقِ الْمُرْتَضِعِ بَعْدَ الْفِطَامِ، أَوْ قَاطِفَ الثِّمَارِ بِجُزْءٍ

مِنْهَا بَعْدَ الْقِطَافِ، أَوْ لِيَنْسِجَ الثَّوْبَ بِنِصْفِهِ، فَكُلُّ هَذَا فَاسِدٌ، وَلِلْأَجِيرِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ الْمُرْضِعَ بِجُزْءٍ مِنَ الرَّقِيقِ فِي الْحَالِ، أَوْ قَاطِفَ الثِّمَارِ بِجُزْءٍ مِنْهَا عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ، أَوْ كَانَ الرَّقِيقُ لِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، فَاسْتَأْجَرَهَا لِتُرْضِعَهُ بِجُزْءٍ مِنْهُ، أَوْ بِغَيْرِهِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ سَاقَى شَرِيكَهُ وَشَرَطَ لَهُ زِيَادَةً مِنَ الثَّمَرِ، يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ عَمَلُهُ فِي مُشْتَرَكٍ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ، لِأَنَّ عَمَلَ الْأَجِيرِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِي خَاصِّ مُلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوِ اسْتَأْجَرَ شَرِيكَهُ فِي الْحِنْطَةِ لِيَطْحَنَهَا أَوِ الدَّابَّةَ لِيَتَعَهَّدَهَا بِدَرَاهِمَ، جَازَ. وَلَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ بِرُبْعِ هَذِهِ الْحِنْطَةِ أَوْ بِصَاعٍ مِنْهَا لِتَطْحَنَ الْبَاقِيَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ: يَجُوزُ، ثُمَّ يَتَقَاسَمَانِ قَبْلَ الطَّحْنِ، فَيَأْخُذُ الْأُجْرَةَ، وَيَطْحَنُ الْبَاقِي. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَإِنْ شَاءَ طَحَنَ الْكُلَّ وَالدَّقِيقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا. وَمِثَالُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، مَا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ الشَّاةِ الْمُذَكَّاةِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا بِجِلْدِهَا، فَفَاسِدٌ أَيْضًا. أَمَّا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ الْمَيِّتَةِ بِجِلْدِهَا، فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهُ نَجِسٌ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَنْفَعَةُ، وَلَهَا خَمْسَةُ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُتَقَوَّمَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ. أَحَدُهَا: اسْتِئْجَارُ تُفَّاحَةٍ لِلشَّمِّ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا لَا تُقْصَدُ لَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ كَشِرَاءِ حَبَّةِ حِنْطَةٍ. فَإِنْ كَثُرَ التُّفَّاحُ، فَالْوَجْهُ: الصِّحَّةُ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْمِسْكِ وَالرَّيَاحِينِ لِلشَّمِّ، وَمِنَ التُّفَّاحِ مَا هُوَ أَطْيَبُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الرَّيَاحِينِ. الثَّانِيَةُ: اسْتِئْجَارُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، إِنْ أَطْلَقَهُ، فَبَاطِلٌ، وَإِنْ صَرَّحَ بِالِاسْتِئْجَارِ لِلتَّزْيِينِ، فَبَاطِلٌ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَاسْتِئْجَارُ الْأَطْعِمَةِ لِتَزْيِينِ الْحَوَانِيتِ، بَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَفِي اسْتِئْجَارِ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ عَلَيْهَا،

وَالْوُقُوفِ فِي ظِلِّهَا، وَرَبْطِ الدَّوَابِّ فِيهَا، الْوَجْهَانِ. قَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَصَحُّ هُنَا: الصِّحَّةُ، لِأَنَّهَا مَنَافِعُ مُهِمَّةٌ، بِخِلَافِ التَّزْيِينِ. وَاسْتِئْجَارُ الْبَبَّغَاءِ لِلِاسْتِئْنَاسِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِالْجَوَازِ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَا يُسْتَأْنَسُ بِلَوْنِهِ، كَالطَّاوُوسِ، أَوْ صَوْتِهِ، كَالْعَنْدَلِيبِ. الثَّالِثَةُ: اسْتِئْجَارُ الْبَيَّاعِ عَلَى كَلِمَةِ الْبَيْعِ، أَوْ كَلِمَةٍ يُرَوِّجُ بِهَا السِّلْعَةَ وَلَا تَعَبَ فِيهَا، بَاطِلٌ، إِذْ لَا قِيمَةَ لَهَا. قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: هَذَا فِي مَبِيعٍ مُسْتَقِرِّ الْقِيمَةِ فِي الْبَلَدِ، كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ. أَمَّا الثِّيَابُ وَالْعَبِيدُ، وَمَا يَخْتَلِفُ قَدْرُ الثَّمَنِ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَيَخْتَصُّ بَيْعُهَا مِنَ الْبَيَّاعِ، لِمَزِيدِ مَنْفَعَةٍ وَفَائِدَةٍ، فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِذَا لَمْ يَجُزِ الِاسْتِئْجَارُ، وَلَمْ يَتْعَبِ الْبَيَّاعُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ تَعِبَ بِكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ، أَوْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ فِي أَمْرِ الْمُعَامَلَةِ، فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، لَا مَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْبَيَّاعُونَ. الرَّابِعَةُ: اسْتِئْجَارُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ لِلصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، بَاطِلٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يَجُوزُ كَالْفَهْدِ وَالْبَازِي وَالشَّبَكَةِ لِلِاصْطِيَادِ وَالْهِرَّةِ لِدَفْعِ الْفَأْرِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ اسْتِيفَاءَ عَيْنٍ قَصْدًا، وَمَقْصُودُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ تُرَادُ بِهِ الْمَنَافِعُ دُونَ الْأَعْيَانِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تُسْتَحَقُّ بِهَا الْأَعْيَانُ تَابِعَةً لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مَاسَّةٍ، فَتَلْحَقُ تِلْكَ الْأَعْيَانُ حِينَئِذٍ بِالْمَنَافِعِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: اسْتِئْجَارُ الْبُسْتَانِ لِثِمَارِهِ، وَالشَّاةِ لِنِتَاجِهَا أَوْ صُوفِهَا أَوْ لَبَنِهَا، بَاطِلٌ. الثَّانِيَةُ: الِاسْتِئْجَارُ لِإِرْضَاعِ الطِّفْلِ جَائِزٌ، وَيُسْتَحَقُّ بِهِ مَنْفَعَةُ عَيْنٍ. فَالْمَنْفَعَةُ: أَنْ تَضَعَ الصَّبِيَّ فِي حِجْرِهَا وَتُلْقِمَهُ الثَّدْيَ وَتَعْصِرَهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. وَالْعَيْنُ: اللَّبَنُ الَّذِي يَمُصُّهُ الصَّبِيُّ. وَإِنَّمَا جُوِّزَ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ أَوِ الضَّرُورَةِ. وَفِي الْأَصْلِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: اللَّبَنُ. وَأَمَّا فِعْلُهَا، فَتَابِعٌ، لِأَنَّ اللَّبَنَ مَقْصُودٌ لِعَيْنِهِ، وَفِعْلُهَا طَرِيقٌ إِلَيْهِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ فِعْلُهَا، وَاللَّبَنُ مُسْتَحَقٌّ تَبَعًا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) [الطَّلَاقِ: 6] ، عَلَّقَ الْأُجْرَةَ بِفِعْلِ الْإِرْضَاعِ،

لَا بِاللَّبَنِ، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمَنَافِعِ وَإِنَّمَا الْأَعْيَانُ تُتْبَعُ لِلضَّرُورَةِ، كَالْبِئْرِ تُسْتَأْجَرُ لِيُسْتَقَى مَاؤُهَا، وَالدَّارِ تُسْتَأْجَرُ وَفِيهَا بِئْرٌ، يَجُوزُ الِاسْتِقَاءُ مِنْهَا. ثُمَّ إِنِ اسْتَأْجَرَهَا لِلْحِضَانَةِ مَعَ الْإِرْضَاعِ، جَازَ، وَإِنِ اسْتَأْجَرَ لِلْإِرْضَاعِ، وَنَفَى الْحِضَانَةَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، كَاسْتِئْجَارِ الشَّاةِ لِإِرْضَاعِ سَخْلَةٍ. وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِمُجَرَّدِ الْحِضَانَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الْخِلَافُ إِذَا قَصَرَ الْإِجَارَةَ عَلَى صَرْفِ اللَّبَنِ إِلَى الصَّبِيِّ، وَقَطَعَ عَنْهُ وَضْعَهُ فِي حِجْرِهَا وَنَحْوَهُ، فَأَمَّا الْحِضَانَةُ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَجُوزُ قَطْعُهَا عَنِ الْإِرْضَاعِ بِلَا خِلَافٍ. الثَّالِثَةُ: اسْتِئْجَارُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ، حُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ فِي بَابِ الْمَنَاهِي. الرَّابِعَةُ: اسْتِئْجَارُ الْقَنَاةِ لِلزِّرَاعَةِ بِمَائِهَا، جَائِزٌ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا: الْمَاءُ لَا يُمْلَكُ، فَكَالشَّبَكَةِ لِلِاصْطِيَادِ - وَإِلَّا، فَالْمَنَافِعُ آبَارُ الْمَاءِ وَقَدْ جُوِّزَ وَاسْتِئْجَارُ بِئْرِ الْمَاءِ لِلِاسْتِقَاءِ وَالَّتِي بَعْدَهَا مُسْتَأْجَرَةٌ لِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهَا. وَقَالَ الرُّوْيَانِيُّ: إِذَا اكْتَرَى قَرَارَ الْقَنَاةِ لِيَكُونَ أَحَقَّ بِمَائِهَا، جَازَ فِي وَجْهٍ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ. وَالْمَعْرُوفُ: مَنْعُهُ. وَمُقْتَضَى لَفْظِهِ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفًا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهَا، فَاسْتِئْجَارُ الْآبِقِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَالْأَخْرَسِ لِلتَّعْلِيمِ، وَالْأَعْمَى لِحِفْظِ الْمَتَاعِ، إِجَارَةُ عَيْنٍ، وَمَنْ لَا يُحْسِنُ

الْقُرْآنَ لِتَعْلِيمِهِ، بَاطِلٌ. فَإِنْ وَسَّعَ عَلَيْهِ وَقْتًا يَقْدِرُ عَلَى التَّعَلُّمِ قَبْلَ التَّعْلِيمِ، فَبَاطِلٌ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ عَيْنِهِ، وَالْعَيْنُ لَا تَقْبَلُ التَّأْخِيرَ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ، اشْتَرَطَ كَوْنَ الزِّرَاعَةِ مُتَيَسِّرَةً. وَالْأَرْضُ أَنْوَاعٌ. مِنْهَا: أَرْضٌ لَهَا مَاءٌ دَائِمٌ مِنْ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ وَنَحْوِهَا. وَمِنْهَا: أَرْضٌ لَا مَاءَ لَهَا، لَكِنْ يَكْفِيهَا الْمَطَرُ الْمُعْتَادُ، وَالنَّدَاوَةُ الَّتِي تُصِيبُهَا مِنَ الثُّلُوجِ الْمُعْتَادَةِ، أَوْ لَا يَكْفِيهَا ذَلِكَ، لَكِنَّهَا تُسْقَى بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْمَطَرِ فِي الْجَبَلِ، وَالْغَالِبُ فِيهَا الْحُصُولُ. وَمِنْهَا: أَرْضٌ لَا مَاءَ لَهَا، وَلَا تَكْفِيهَا الْأَمْطَارُ الْمُعْتَادَةُ، وَلَا تُسْقَى بِمَاءٍ غَالِبِ الْحُصُولِ مِنَ الْجَبَلِ، وَلَكِنْ إِنْ أَصَابَهَا مَطَرٌ عَظِيمٌ أَوْ سَيْلٌ، نَادِرًا، أَمْكَنَ زَرْعُهَا، فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ يَصِحُّ اسْتِئْجَارُهُ قَطْعًا. وَالثَّالِثُ لَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَفِي الثَّانِي وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَابْنُ كَجٍّ وَصَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» ، بِالْمَنْعِ أَجَابَ الْقَفَّالُ. وَمِنْهَا: أَرْضٌ عَلَى شَطِّ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَغَيْرِهِمَا، يَعْلُو الْمَاءُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَنْحَسِرُ، وَيَكْفِي ذَلِكَ لِزِرَاعَتِهَا فِي السَّنَةِ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهَا لِلزِّرَاعَةِ بَعْدَمَا عَلَاهَا الْمَاءُ وَانْحَسَرَ، صَحَّ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلُوَهَا الْمَاءُ، فَإِنْ كَانَ لَا يُوثَقُ بِهِ، كَالنِّيلِ لَا يَنْضَبِطُ أَمْرُهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ حُصُولَهُ، فَلْيَكُنْ عَلَى الْخِلَافِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ مَوْثُوقًا [بِهِ] كَالْمَدِّ بِالْبَصْرَةِ، صَحَّ كَمَاءِ النَّهْرِ. فَإِنْ تَرَدَّدَ فِي وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى تِلْكَ الْأَرْضِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ كَالنَّوْعِ الثَّالِثِ. وَإِنْ [كَانَ] عَلَاهَا وَلَمْ يَنْحَسِرْ، فَإِنْ كَانَ لَا يُرْجَى انْحِسَارُهُ، أَوْ يُشَكُّ فِيهِ، لَمْ يَصِحَّ اسْتِئْجَارُهَا، لِأَنَّ الْعَجْزَ مَوْجُودٌ، وَالْقُدْرَةَ مَشْكُوكٌ فِيهَا. وَإِنْ رُجِيَ انْحِسَارُهُ وَقْتَ الزِّرَاعَةِ بِالْعَادَةِ، صَحَّتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لِمَا يُمْكِنُ زِرَاعَتُهُ فِي الْمَاءِ كَالْأُرْزِ، أَمْ لِغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَأَى الْأَرْضَ مَكْشُوفَةً أَمْ هِيَ مَرْئِيَّةٌ الْآنَ لِصَفَاءِ الْمَاءِ، أَمْ لَمْ يَكُنْ

شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تُرَ، لَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلٍ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ لِغَيْرِ الْأُرْزِ وَنَحْوِهِ. وَحُجَّةُ مَذْهَبِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوِ اسْتَأْجَرَ دَارًا مَشْحُونَةً بِأَمْتِعَةٍ يُمْكِنُ الِاشْتِغَالُ بِنَقْلِهَا فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُؤْنَةٌ، فَلِإِنَّ اسْتِتَارَهَا بِالْمَاءِ مِنْ مَصَالِحِهَا، فَإِنَّهُ يُقَوِّيهَا وَيَقْطَعُ الْعُرُوقَ الْمُنْتَشِرَةَ، فَأَشْبَهَ اسْتِتَارَ الْجَوْزِ بِقِشْرِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَغْرَقُ وَتَنْهَارُ فِي الْمَاءِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا. فَإِنِ احْتَمَلَ وَلَمْ يَظْهَرْ، جَازَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالْغَالِبَ السَّلَامَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ حَالَةُ الظُّهُورِ عَلَى تَقَابُلِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ. إِذَا عَرَفْتَ حُكْمَ الْأَنْوَاعِ، فَكُلُّ أَرْضٍ لَهَا مَاءٌ مَعْلُومٌ، وَاسْتَأْجَرَهَا لِلزِّرَاعَةِ مَعَ شُرْبِهَا مِنْهُ، فَذَاكَ، وَإِنِ اسْتَأْجَرَهَا لِلزِّرَاعَةِ دُونَ شُرْبِهَا، جَازَ إِنْ تَيَسَّرَ سَقْيُهَا مِنْ مَاءٍ آخَرَ، وَإِنْ أَطَلَقَ، دَخَلَ فِيهِ الشُّرْبُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا بَاعَهَا، لَا يَدْخُلُ الشُّرْبُ، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ هُنَا لَا تَحْصُلُ دُونَ الشُّرْبِ. هَذَا إِذَا طُرِدَتِ الْعَادَةُ بِالْإِجَارَةِ مَعَ الشُّرْبِ، فَإِنِ اضْطَرَبَتْ، فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكُلُّ أَرْضٍ مَنَعْنَا اسْتِئْجَارَهَا لِلزِّرَاعَةِ، فَلَوِ اكْتَرَاهَا لِيَنْزِلَ فِيهَا، أَوْ يَسْكُنَهَا، أَوْ يَجْمَعَ الْحَطَبَ فِيهَا، أَوْ يَرْبُطَ الدَّوَابَّ، جَازَ. وَإِنِ اكْتَرَاهَا مُطْلَقًا، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: أَكْرَيْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ وَلَا مَاءَ لَهَا، جَازَ، لِأَنَّهُ يَعْرِفُ بِنَفْيِ الْمَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لِغَيْرِ الزِّرَاعَةِ. ثُمَّ لَوْ حَمَلَ مَاءً مِنْ مَوْضِعٍ وَزَرَعَهَا، أَوْ زَرَعَهَا عَلَى تَوَقُّعِ حُصُولِ مَاءٍ، لَمْ يُمْنَعْ، وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِيهَا، نَصَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: لَا مَاءَ لَهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يُطْمَعُ فِي سَوْقِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي مِثْلِهَا الِاسْتِئْجَارُ لِلزِّرَاعَةِ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ لَا يُطْمَعُ فِي سَوْقِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، صُحِّحَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ اكْتِفَاءً بِالْقَرِينَةِ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا نَفْيَ الْمَاءِ، فَفِي قِيَامِ عِلْمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالنَّفْيِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِهَا الِاسْتِئْجَارُ لِلزِّرَاعَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الصَّرْفِ بِاللَّفْظِ.

فصل

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ تَصْرِيحًا بِجَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ قَدْ عَرَفْتَ انْقِسَامَ الْإِجَارَةِ إِلَى وَارِدَةٍ عَلَى الْعَيْنِ، وَعَلَى الذِّمَّةِ. أَمَّا إِجَارَةُ الْعَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ إِيرَادُهَا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، كَإِجَارَةِ الدَّارِ السَّنَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ، وَالشَّهْرَ الْآتِيَ. وَكَذَا إِذَا قَالَ: أَجَّرْتُكَ سَنَةً أَوَّلُهَا مِنْ غَدٍ، أَوْ أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّابَّةَ لِلرُّكُوبِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا عَلَى أَنْ تَخْرُجَ غَدًا. وَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَ سَنَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ، فَقَدْ أَجَّرْتُكَ سَنَةً أُخْرَى، فَالْعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلٌ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَقَدْ أَجَّرْتُكَ شَهْرًا. أَمَّا الْوَارِدَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَيُحْتَمَلُ فِيهَا التَّأْجِيلُ وَالتَّأْخِيرُ، كَمَا إِذَا قَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ حَمْلِي إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فِي دَابَّةٍ صِفَتُهَا كَذَا غَدًا أَوْ غُرَّةَ شَهْرِ كَذَا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ مُؤَجِّلًا، وَإِنْ أَطْلَقَ، كَانَتْ حَالَّةً. وَلَوْ أَجَّرَ دَارَهُ لِزَيْدٍ سَنَةً، ثُمَّ أَجَّرَهَا لِغَيْرِهِ السَّنَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأُولَى، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ أَجَّرَهَا لِزَيْدٍ نَفْسِهِ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، لِاتِّصَالِ الْمُدَّتَيْنِ. وَلَوْ أَجَّرَهَا أَوَّلًا لِزَيْدٍ سَنَةً، ثُمَّ أَجَّرَهَا زَيْدٌ لِعَمْرٍو، ثُمَّ أَجَّرَهَا الْمَالِكُ لِعَمْرٍو السَّنَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأُولَى، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، وَلَا يَجُوزُ إِجَارَتُهَا لِزَيْدٍ، كَذَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِزَيْدٍ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِعَمْرٍو، لِأَنَّ زَيْدًا هُوَ الَّذِي عَاقَدَهُ، فَيَضُمُّ إِلَى مَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ السَّنَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ. قَالَ: وَلَوْ أَجَّرَ دَارَهُ سَنَةً، ثُمَّ بَاعَهَا فِي الْمُدَّةِ، وَجَوَّزْنَاهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُؤَجِّرَهَا السَّنَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُعَاقَدَةٌ، وَتَرَدَّدَ فِي أَنَّ الْوَارِثَ، هَلْ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إِذَا مَاتَ الْمُكْرِي لِأَنَّ الْوَارِثَ نَائِبُهُ؟

فَرْعٌ إِيجَارُ الدَّارِ وَالْحَانُوتِ شَهْرًا عَلَى أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِمَا الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِي، بَاطِلٌ، لِأَنَّ زَمَانَ الِانْتِفَاعِ لَا يَتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَيَكُونُ إِجَارَةُ زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، بِخِلَافِ مِثْلِهِ فِي الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ، لِأَنَّهُمَا لَا يُطِيقَانِ الْعَمَلَ دَائِمًا، وَيُرَفَّهَانِ فِي اللَّيْلِ عَلَى الْعَادَةِ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْإِجَارَةِ. وَلَوْ أَجَّرَ دَابَّةً إِلَى مَوْضِعٍ لِيَرْكَبَهَا الْمُكْرِي زَمَانًا، ثُمَّ الْمُكْتَرِي زَمَانًا، لَمْ يَصِحَّ، لِتَأَخُّرِ حَقِّ الْمُكْتَرِي وَتَعَلُّقِ الْإِجَارَةِ بِمُسْتَقْبَلٍ. وَإِنْ أَجَّرَهُ لِيَرْكَبَ الْمُكْتَرِي بَعْضَ الطَّرِيقِ وَيَنْزِلَ فَيَمْشِيَ بَعْضَهَا، أَوْ أَجَّرَ اثْنَيْنِ لِيَرْكَبَ هَذَا زَمَانًا، وَهَذَا مِثْلَهُ، فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» : صَحَّتِ الْإِجَارَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ، سَوَاءٌ وَرَدَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، أَوِ الْعَيْنِ، وَيَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْحَالِ، ثُمَّ يَقْتَسِمُ الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي [أَوِ الْمُكْتَرِيَانِ] ، وَيَكُونُ التَّأَخُّرُ الْوَاقِعُ مِنْ ضَرُورَةِ الْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ، فَلَا يَضُرُّ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، لِاتِّصَالِ زَمَنِ الْإِجَارَةِ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى. وَالثَّالِثُ: تَبْطُلُ فِيهِمَا، لِأَنَّهَا إِجَارَةُ أَزْمَانٍ مُتَقَطِّعَةٍ. وَالرَّابِعُ: تَصِحُّ فِي الصُّورَتَيْنِ إِنْ كَانَتْ مَضْمُونَةً فِي الذِّمَّةِ، وَلَا تَصِحُّ عَلَى دَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِـ «كِرَاءِ الْعُقَبِ» وَهُوَ جَمْعُ عُقْبَةٍ وَهِيَ النَّوْبَةُ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ عَادَةٌ مَضْبُوطَةٌ، إِمَّا بِالزَّمَانِ، بِأَنْ يَرْكَبَ يَوْمًا وَيَنْزِلَ يَوْمًا، وَإِمَّا بِالْمَسَافَةِ، بِأَنْ يَرْكَبَ فَرْسَخًا وَيَمْشِيَ فَرْسَخًا، حُمِلَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَطْلُبَ الرُّكُوبَ [ثَلَاثًا] وَالنُّزُولَ ثَلَاثًا، [لِمَا] فِي دَوَامِ الْمَشْيِ مِنَ التَّعَبِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَادَةً مَضْبُوطَةً، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيمَنْ يَبْدَأُ بِالرُّكُوبِ، أُقْرِعَ. وَلَوْ أَكْرَى دَابَّةً لِاثْنَيْنِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّعَاقُبِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنِ احْتَمَلَتِ الدَّابَّةُ رُكُوبَ شَخْصَيْنِ، اجْتَمَعَا عَلَى الرُّكُوبِ،

فصل

وَإِلَّا، فَالرُّجُوعُ إِلَى الْمُهَايَأَةِ كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَ نِصْفَ الدَّابَّةِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ أَجَّرْتُكَ الدَّابَّةَ لِتَرْكَبَهَا نِصْفَ الطَّرِيقِ، صَحَّ، وَيَقْتَسِمَانِ بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَسَافَةِ، وَهَذِهِ إِجَارَةُ الْمَشَاعِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ كَبَيْعِ الْمَشَاعِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ إِجَارَةَ نِصْفِ الدَّابَّةِ لَا تَصِحُّ، لِلتَّقَطُّعِ، بِخِلَافِ إِجَارَةِ نِصْفِ الدَّارِ، وَبِخِلَافِ مَا إِذَا أَجَّرَهُمَا لِيَرْكَبَا فِي مَحْمَلٍ. فَرْعٌ لَا تَصِحُّ إِجَارَةُ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فِي الْحَالِ، وَيَصِيرُ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْمُدَّةِ، كَالْجَحْشِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى تَعْجِيلِ الِانْتِفَاعِ، بِخِلَافِ الْمُسَاقَاةِ. فَصْلٌ الْعَجْزُ الشَّرْعِيُّ كَالْحِسِّيِّ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ لِقَلْعِ سِنٍّ صَحِيحَةٍ، أَوْ [قَطْعِ] يَدٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا اسْتِئْجَارُ الْحَائِضِ لِكَنْسِ الْمَسْجِدِ وَخِدْمَتِهِ، وَلَا اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ لِتَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، أَوِ السِّحْرِ، أَوِ الْفُحْشِ، أَوْ خِتَانِ صَغِيرٍ لَا يَحْتَمِلُ أَلَمَهُ. فَرْعٌ قَلْعُ السِّنِّ الْوَجِعَةِ، إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا صَعُبَ الْأَلَمُ وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إِنَّهُ يُزِيلُ الْأَلَمَ. وَقَطْعُ الْيَدِ الْمُتَأَكِلَةِ، إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إِنَّهُ نَافِعٌ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ ضَمَانِ الْوُلَاةِ مِنْ كِتَابِ «الْجِنَايَاتِ» فَحَيْثُ لَا يَجُوزُ الْقَلْعُ أَوِ الْقَطْعُ، فَالِاسْتِئْجَارُ لَهُ بَاطِلٌ، وَحَيْثُ يَجُوزُ، يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ

عَلَى الْأَصَحِّ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ لَا يُوثَقُ بِبَقَاءِ الْعِلَّةِ، فَرُبَّمَا زَالَتْ بِتَعَذُّرِ الْوَفَاءِ. وَسَبِيلُ مِثْلِ هَذَا، أَنْ يَحْصُلَ بِالْجَعَالَةِ، فَيَقُولُ: اقْلَعْ سِنِّي هَذِهِ وَلَكَ كَذَا. وَرَأَى الْإِمَامُ تَخْصِيصَ الْوَجْهَيْنِ بِالْقَلْعِ، لِأَنَّ زَوَالَ الْوَجَعِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ غَيْرُ بَعِيدٍ، بِخِلَافِ الْأَكَلَةِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ فِي زَمَنِ الْقَطْعِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ، فِي الِاسْتِئْجَارِ لِلْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَبَزْغِ الدَّابَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْإِيلَامَاتِ إِنَّمَا تُبَاحُ بِالْحَاجَةِ، وَقَدْ تَزُولُ الْحَاجَةُ. فَرْعٌ اسْتَأْجَرَهَا لِكَنْسِ الْمَسْجِدِ، فَحَاضَتِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ إِنْ أَسْتَأْجَرَهَا عَيَّنَهَا وَعُيِّنَتِ الْمُدَّةُ. وَإِنِ اسْتَأْجَرَ [هَا] فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَنْفَسِخْ، لِإِمْكَانِ الْكَنْسِ بِغَيْرِهَا أَوْ بَعْدَ الْحَيْضِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا الِاسْتِئْجَارَ لِقَلْعِ السِّنِّ، فَسَكَنَ الْوَجَعُ وَبَرِأَ، انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، لِلتَّعَذُّرِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ كَلَامٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ. وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ، لَكِنِ امْتَنَعَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنَ الْقَلْعِ، قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْأَجِيرُ نَفْسَهُ، وَمَضَى مُدَّةُ إِمْكَانِ الْعَمَلِ، وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأُجْرَةُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: أَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ، حَتَّى لَوِ انْقَلَعَتْ تِلْكَ السِّنُّ، انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، وَوَجَبَ رَدُّ الْأُجْرَةِ، كَمَا لَوْ مَكَّنَتِ الزَّوْجَةُ فِي النِّكَاحِ، وَلَمْ يَطَأِ الزَّوْجُ. وَيُفَارِقُ مَا إِذَا حَبَسَ الدَّابَّةَ مُدَّةَ إِمْكَانِ السَّيْرِ، حَيْثُ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ، لِتَلَفِ الْمَنَافِعِ تَحْتَ يَدِهِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ صَاحِبِ «الشَّامِلِ» إِلَى آخِرِ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، هَكَذَا هُوَ فِي «الشَّامِلِ» وَالْبَيَانِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ الشَّيْخُ نَصْرُ الْمَقْدِسِيُّ فِي «تَهْذِيبِهِ» : إِذَا امْتَنَعَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ قَلْعِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ، لَكِنْ يَدْفَعُ

فصل

الْأُجْرَةَ، وَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ مُطَالَبَتِهِ بِقَلْعِهِ، وَبَيْنَ تَرْكِهِ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَخِيطَ [لَهُ] ثَوْبًا. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي قَالَهُ، لَا يُخَالِفُ قَوْلَ صَاحِبِ «الشَّامِلِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ يَجُوزُ لِغَيْرِ الزَّوْجِ اسْتِئْجَارُ الزَّوْجَةِ لِلْإِرْضَاعِ وَغَيْرِهِ بِإِذْنِ الزَّوْجِ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ أَوْقَاتَهَا مُسْتَغْرِقَةٌ بِحَقِّهِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَلِلزَّوْجِ فَسْخُهُ، حِفْظًا لِحَقِّهِ. وَلَوْ أَجَّرَتْ نَفْسَهَا وَلَا زَوْجَ لَهَا، ثُمَّ نُكِحَتْ فِي الْمُدَّةِ، فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ تَوْفِيَةِ مَا الْتَزَمَتْهُ، كَمَا لَوْ أَجَّرَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِهِ، لَكِنْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا فِي أَوْقَاتِ فَرَاغِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لِلْإِرْضَاعِ، فَهَلْ لِوَلِيِّ الطِّفْلِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا لِإِرْضَاعِهِ مَنْعُ الزَّوْجِ مِنْ وَطْئِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا حَبِلَتْ فَيَنْقَطِعُ اللَّبَنُ أَوْ يَقِلُّ، وَإِلَّا، فَيَضُرُّ بِالطِّفْلِ. وَالثَّانِي: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، لِأَنَّ الْحَبَلَ مُتَوَهَّمٌ، فَلَا يُمْنَعُ بِهِ الْوَطْءُ الْمُسْتَحَقُّ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَجَّرَ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ السَّيِّدِ فِي الِانْتِفَاعِ. أَمَّا الزَّوْجُ، فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ امْرَأَتَهُ، إِلَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِإِرْضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا. الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَكَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ وَنَحْوِهِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ، اسْتِئْجَارُ الْوَالِدِ وَلَدَهُ لِلْخِدْمَةِ. وَفِي عَكْسِهِ وَجْهَانِ إِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِهِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا أَجَّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِكَافِرٍ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: حُصُولُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَأَكْثَرُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِالْقُرَبِ، وَضَبَطَهَا الْإِمَامُ فَقَالَ: هِيَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: قُرَبٌ يَتَوَقَّفُ الِاعْتِدَادُ بِهَا عَلَى النِّيَّةِ. فَمَا لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ مِنْهَا، لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، وَمَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، جَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، كَالْحَجِّ، وَتَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمِنْ هَذَا، غُسْلُ الْمَيِّتِ إِذَا أَوْجَبْنَا فِيهِ النِّيَّةَ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى النِّيَّةِ، وَهُوَ نَوْعَانِ. فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَشِعَارُ غَيْرِ فَرْضٍ. وَالْأَوَّلُ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: يَخْتَصُّ افْتِرَاضُهُ فِي الْأَصْلِ بِشَخْصٍ وَمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ إِنْ عَجَزَ، كَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى بِالتَّكْفِينِ وَالْغُسْلِ وَالْحَفْرِ وَحَمْلِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمُؤَنَ تَخْتَصُّ بِالتَّرِكَةِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ، فَعَلَى النَّاسِ الْقِيَامُ بِهَا. فَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَجِيرَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِفِعْلِهِ حَتَّى يَقَعَ عَنْهُ. وَمِنْ هَذَا، تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِ التَّعْلِيمِ وَإِنْ كَانَ نَشْرُ الْقُرْآنِ وَإِشَاعَتُهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ وَاحِدٌ لِمُبَاشَرَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ وَاحِدٌ لِتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ، أَوْ تَعْلِيمِ الْفَاتِحَةِ، جَازَ اسْتِئْجَارُهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، كَالْمُضْطَرِّ، يَجِبُ إِطْعَامُهُ بِبَدَلِهِ. وَقِيلَ: لَا، كَفَرْضِ الْعَيْنِ ابْتِدَاءً. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَثْبُتُ فَرْضُهُ فِي الْأَصْلِ شَائِعًا غَيْرَ مُخْتَصٍّ، كَالْجِهَادِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ عَلَى الصَّحِيحِ. النَّوْعُ الثَّانِي: شِعَارٌ غَيْرُ فَرْضٍ، كَالْأَذَانِ، تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ذَكَرْنَاهَا فِي بَابِهِ. فَإِنْ جَوَّزْنَا، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: عَلَى جَمِيعِ الْأَذَانِ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَى قِرَاءَةِ الْمُعَلِّمِ. وَالثَّانِي:

عَلَى رِعَايَةِ الْمَوَاقِيتِ. وَالثَّالِثُ: عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ. وَالرَّابِعُ: عَلَى الْحَيْعَلَتَيْنِ، فَإِنَّهُمَا لَيْسَتَا ذِكْرًا. فَرْعٌ الِاسْتِئْجَارُ لِإِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، بَاطِلٌ، وَكَذَا لِلتَّرَاوِيحِ وَسَائِرِ النَّوَافِلِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ مُصَلٍّ لِنَفْسِهِ. وَمَتَى صَلَّى، اقْتَدَى بِهِ مَنْ أَرَادَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ. وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّتِهِ شَيْءٌ، فَهُوَ إِحْرَازُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ. وَمَنْ جَوَّزَهُ، شَبَّهَهُ بِالْأَذَانِ فِي الشِّعَارِ. فَرْعٌ الِاسْتِئْجَارُ لِلْقَضَاءِ بَاطِلٌ. فَرْعٌ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِبُطْلَانِ الِاسْتِئْجَارِ لِلتَّدْرِيسِ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الطُّوسِيِّ تَرْدِيدُ جَوَابٍ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِإِعَادَةِ الدَّرْسِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ عَيَّنَ شَخْصًا أَوْ جَمَاعَةً لِيُعَلِّمَهُمْ مَسْأَلَةً أَوْ مَسَائِلَ مَضْبُوطَةً، فَهُوَ جَائِزٌ، وَالَّذِي أَطْلَقُوهُ، مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِئْجَارِ مَنْ يَتَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَنْ يُعَلِّمُهُ وَمَا يُعَلِّمُهُ، لِأَنَّهُ كَالْجِهَادِ فِي أَنَّهُ إِقَامَةُ مَفْرُوضٍ عَلَى الْكِفَايَةِ ثَابِتٍ عَلَى الشُّيُوعِ. وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ اسْتِئْجَارُ مُقْرِئٍ يُقْرِئُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: كَوْنُ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومَةَ الْعَيْنِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ

يَقُولَ: أَجَّرْتُكَ أَحَدَهُمَا. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَيْنِ الْمُعَيَّنَةِ إِلَّا مَنْفَعَةٌ، فَالْإِجَارَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَنَافِعُ، وَجَبَ الْبَيَانُ. وَأَمَّا الصِّفَةُ، فَإِجَارَةُ الْغَائِبَةِ، فِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَأَمَّا الْقَدْرُ، فَيُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهِ، سَوَاءٌ فِيهِ إِجَارَةُ الْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ. ثُمَّ الْمَنَافِعُ تُقَدَّرُ بِطَرِيقَتَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الزَّمَانُ، كَاسْتَأْجَرْتُ الدَّارَ لِلسُّكْنَى سَنَةً. وَالثَّانِي: الْعَمَلُ، كَاسْتَأْجَرْتُكَ لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ. ثُمَّ قَدْ يَتَعَيَّنُ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ، كَاسْتِئْجَارِ الْعَقَارِ، فَإِنَّ مَنْفَعَتَهُ لَا تَنْضَبِطُ إِلَّا بِالزَّمَانِ، وَكَالْإِرْضَاعِ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ اللَّبَنِ لَا يُمْكِنُ، وَلَا سَبِيلَ فِيهِ إِلَّا الضَّبْطُ بِالزَّمَانِ. وَقَدْ يَسُوغُ الطَّرِيقَانِ، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ عَيْنَ شَخْصٍ أَوْ دَابَّةٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ فِي الشَّخْصِ: لِيَعْمَلَ لِي كَذَا شَهْرًا، وَأَنْ يَقُولَ: لِيَخِيطَ لِي هَذَا الثَّوْبَ. وَفِي الدَّابَّةِ يَقُولُ: لِأَتَرَدَّدَ عَلَيْهَا فِي حَوَائِجِي الْيَوْمَ، أَوْ يَقُولُ: لِأَرْكَبَهَا إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، فَأَيُّهُمَا كَانَ، كَفَى، لِتَعْرِيفِ الْمِقْدَارِ. فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَخِيطَ لِي هَذَا الْقَمِيصَ الْيَوْمَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: بُطْلَانُ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: صِحَّتُهُ، وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِأَسْرَعِهِمَا، فَإِنِ انْقَضَى الْيَوْمُ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ، اسْتَحَقَّهَا، فَإِنْ تَمَّ الْعَمَلُ قَبْلَ تَمَامِ الْيَوْمِ، اسْتَحَقَّهَا. وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ تَمَّ [الْعَمَلُ] أَوَّلًا، اسْتَحَقَّهَا. وَإِنْ تَمَّ الْيَوْمُ أَوَّلًا، وَجَبَ إِتْمَامُهُ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنَّكَ إِنْ فَرَغْتَ قَبْلَ تَمَامِ الْيَوْمِ، لَمْ تَخِطْ غَيْرَهُ، بَطُلَتِ الْإِجَارَةُ، لِأَنَّ زَمَنَ الْعَمَلِ يَصِيرُ مَجْهُولًا. فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْمَنَافِعُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَعْيَانِ، تَابِعَةٌ لَهَا، وَعَدَدُ الْأَعْيَانِ الَّتِي يُسْتَأْجَرُ لَهَا كَالْمُتَعَذِّرِ، فَعُنِيَ الْأَصْحَابُ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ تَكْثُرُ إِجَارَتُهَا لِيُعْرَفَ طَرِيقُ الضَّبْطِ بِهَا، ثُمَّ يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْآدَمِيُّ يُسْتَأْجَرُ لِعَمَلٍ أَوْ صَنْعَةٍ، كَخِيَاطَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، قَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ

عَمَلَ الْخِيَاطَةِ كَذَا يَوْمًا، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ خَيَّاطًا وَلَا ثَوْبًا. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ عَيْنَهُ، قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ. وَلَوْ قَالَ: لِتَخِيطَ لِي يَوْمًا أَوْ شَهْرًا، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَجُوزُ أَيْضًا. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُبَيِّنَ الثَّوْبَ وَمَا يُرِيدُ مِنْهُ مِنْ قَمِيصٍ، أَوْ قَبَاءٍ، أَوْ سَرَاوِيلَ، وَالطُّولِ، وَالْعَرْضِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ نَوْعَ الْخِيَاطَةِ، أَهِيَ رُومِيَّةٌ، أَوْ فَارِسِيَّةٌ؟ إِلَّا أَنْ تَطَّرِدَ الْعَادَةُ بِنَوْعٍ، فَيُحْمَلَ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ. فَرْعٌ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، الِاسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، فَلْيُعَيِّنِ السُّورَةَ وَالْآيَاتِ الَّتِي يُعَلِّمُهَا، فَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، بَلْ يَكْفِي ذِكْرُ عَشْرِ آيَاتٍ مَثَلًا. وَقِيلَ: تُشْتَرَطُ السُّورَةُ دُونَ الْآيَاتِ. وَهَلْ يَكْفِي التَّقْدِيرُ بِالْمُدَّةِ فَيَقُولُ: لِتُعَلِّمَنِي شَهْرًا؟ وَجْهَانِ، قَطَعَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ بِالِاكْتِفَاءِ، وَإِيرَادُ غَيْرِهِمَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ. قُلْتُ: الِاكْتِفَاءُ أَصَحُّ وَأَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي وُجُوبِ تَعْيِينِ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ أَوْ نَافِعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، إِذِ الْأَمْرُ فِيهَا قَرِيبٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَكُنْتُ أَوَدُّ أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِئْجَارُ لِلتَّعْلِيمِ حَتَّى يُخْتَبَرَ حِفْظُ الْمُتَعَلِّمِ، كَمَا لَا يَصِحُّ إِيجَارُ الدَّابَّةِ لِلرُّكُوبِ حَتَّى يُعْرَفَ حَالُ الرَّاكِبِ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الَّذِي تَزَوَّجَ عَلَى تَعْلِيمِ مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ الْمُتَعَلِّمُ مُسْلِمًا، أَوْ كَافِرًا يُرْجَى إِسْلَامُهُ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ، لَمْ يُعَلَّمْ، كَمَا لَا يُبَاعُ الْمُصْحَفُ لِكَافِرٍ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ.

فَرْعٌ إِذَا كَانَ يَتَعَلَّمُ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، ثُمَّ يَنْسَى، فَهَلْ عَلَى الْأَجِيرِ إِعَادَةُ تَعْلِيمِهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: إِنْ تَعَلَّمَ آيَةً ثُمَّ نَسِيَهَا، لَمْ يَجِبْ تَعْلِيمُهَا ثَانِيًا، وَإِنْ كَانَ دُونَ آيَةٍ، وَجَبَ وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ بِالسُّورَةِ وَالثَّالِثُ: إِنْ نَسِيَ فِي مَجْلِسِ التَّعْلِيمِ، وَجَبَ إِعَادَتُهُ. وَإِنْ نَسِيَ بَعْدَهُ، فَلَا. وَالرَّابِعُ: يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ الْغَالِبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. فَرْعٌ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ فِي «الْفَتَاوَى» : أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ مُدَّةً، جَائِزٌ، كَالِاسْتِئْجَارِ لِلْأَذَانِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَوْدَ الْمَنْفَعَةِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ شَرْطٌ، فَيَجِبُ عَوْدُهَا فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ مَيِّتِهِ، فَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَلْحَقُهُ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ الْمُجَرَّدَةِ، فَالْوَجْهُ: تَنْزِيلُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى صُورَةِ انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِالْقِرَاءَةِ. وَذَكَرُوا لَهُ طَرِيقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْقِبَ الْقِرَاءَةَ بِالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَلْحَقُهُ، وَالدُّعَاءُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ أَقْرَبُ إِجَابَةً وَأَكْثَرُ بَرَكَةً. وَالثَّانِي: ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْكَرِيمِ السَّالُوسِيُّ، أَنَّهُ إِنْ نَوَى الْقَارِئُ بِقِرَاءَتِهِ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهَا لِلْمَيِّتِ، لَمْ يَلْحَقْهُ. وَإِنْ قَرَأَ، ثُمَّ جَعَلَ مَا حَصَلَ مِنَ الْأَجْرِ لَهُ، فَهَذَا دُعَاءٌ بِحُصُولِ ذَلِكَ الْأَجْرِ لِلْمَيِّتِ، فَيَنْفَعُ الْمَيِّتَ. قُلْتُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: صِحَّةُ الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، فَإِنَّ مَوْضِعَ الْقِرَاءَةِ مَوْضِعُ بَرَكَةٍ، وَبِهِ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ، وَهَذَا مَقْصُودٌ يَنْفَعُ الْمَيِّتَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ وَمِنْهُ الِاسْتِئْجَارُ لِلْإِرْضَاعِ، وَيَجِبُ فِيهِ التَّقْدِيرُ بِالْمُدَّةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ضَبْطِ مَرَّاتِ الْإِرْضَاعِ، وَلَا قَدْرِ مَا يَسْتَوْفِيهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْبَابُ الْمُلْهِيَةُ، وَيَجِبُ تَعْيِينُ الصَّبِيِّ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِاخْتِلَافِهِ، وَتَعْيِينُ مَوْضِعِ الْإِرْضَاعِ، أَهْوَ بَيْتُهُ، أَمْ بَيْتُهَا. فَصْلٌ وَمِنْهُ الِاسْتِئْجَارُ لِلْحَجِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِهِ. فَصْلٌ وَمِنْهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ لِحَفْرِ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ قَنَاةٍ، قُدِّرَ، إِمَّا بِالزَّمَانِ، فَيَقُولُ: تَحْفِرُ لِي شَهْرًا، وَإِمَّا بِالْعَمَلِ، فَيُقَدِّرُ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالْعُمْقَ، وَيَجِبُ مَعْرِفَةُ الْأَرْضِ بِالْمُشَاهَدَةِ، لِتُعْرَفَ صَلَابَتُهَا وَرَخَاوَتُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ التُّرَابِ الْمَحْفُورِ. فَإِنِ انْهَارَ شَيْءٌ مِنْ جَوَانِبِ الْبِئْرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُهُ. وَإِذَا انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ صُلْبٍ أَوْ حِجَارَةٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ يَعْمَلُ فِيهِ الْمِعْوَلُ، وَجَبَ حَفْرُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا اقْتَضَتْهُ الْمُشَاهَدَةُ، فَعَلَى هَذَا لَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ. وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ الْمِعْوَلُ، أَوْ نَبَعَ الْمَاءُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى مَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ وَتَعَذَّرَ الْحَقُّ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي، وَلَا يَنْفَسِخُ فِيمَا مَضَى عَلَى الْمَذْهَبِ، فَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى مَا عَمِلَ وَمَا بَقِيَ.

فصل

فَرْعٌ إِذَا اسْتَأْجَرَ لِحَفْرِ قَبْرٍ، بَيَّنَ الْمَوْضِعَ وَالطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالْعُمْقَ، وَلَا يَكْفِي الْإِطْلَاقُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ التُّرَابِ بَعْدَ وَضْعِ الْمَيِّتِ فِيهِ. فَصْلٌ وَمِنْهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ لِضَرْبِ اللَّبِنِ، قُدِّرَ بِالزَّمَانِ أَوِ الْعَمَلِ. وَإِذَا قُدِّرَ بِالْعَمَلِ، بَيَّنَ الْعَدَدَ وَالْقَالَبَ. فَإِنْ كَانَ الْقَالَبُ مَعْرُوفًا، فَذَاكَ، وَإِلَّا بَيَّنَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَسُمْكَهُ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، الِاكْتِفَاءُ بِمُشَاهَدَةِ الْقَالَبِ. وَيَجِبُ بَيَانُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُضْرَبُ فِيهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِقَامَتُهَا لِلْجَفَافِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِطَبْخِ اللَّبَنِ فَطَبَخَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْأَتُّونِ. فَصْلٌ إِذَا اسْتَأْجَرَ لِلْبِنَاءِ، قُدِّرَ بِالزَّمَانِ أَوِ الْعَمَلِ، فَإِنْ قُدِّرَ بِالْعَمَلِ، بَيَّنَ مَوْضِعَهُ وَطُولَهُ وَعَرْضَهُ وَسُمْكَهُ وَمَا يُبْنَى بِهِ مِنَ اللَّبِنِ أَوِ الطِّينِ أَوِ الْآجُرِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ لِلتَّطْيِينِ أَوِ التَّجْصِيصِ، قُدِّرَ بِالزَّمَانِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّ سُمْكَهُ لَا يَنْضَبِطُ. فَصْلٌ وَمِنْهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ كَحَّالًا لِيُدَاوِيَ عَيْنَهُ، قَدَّرَهُ بِالْمُدَّةِ دُونَ الْبُرْءِ. فَإِنْ بَرِأَتْ

فصل

عَيْنُهُ قَبْلَ تَمَامِهَا، انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي، وَلَا يُقَدَّرُ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّ قَدْرَ الدَّوَاءِ لَا يَنْضَبِطُ وَيَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. فَصْلٌ وَمِنْهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ لِلرَّعْيِ، وَجَبَ بَيَانُ الْمُدَّةِ وَحَبْسُ الْحَيَوَانِ، ثُمَّ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى قَطِيعٍ مُعَيَّنٍ، وَيَجُوزُ فِي الذِّمَّةِ، وَحِينَئِذٍ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ «الْمُهَذَّبِ» : يَجِبُ بَيَانُ الْعَدَدِ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرُّوْيَانِيُّ: لَا يَجِبُ، وَيُحْمَلُ عَلَى مَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَرْعَاهُ الْوَاحِدُ. قَالَ الرُّوْيَانِيُّ: وَهُوَ مِائَةُ رَأْسٍ مِنَ الْغَنَمِ تَقْرِيبًا. فَإِنْ تَوَالَدَتْ، حَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَعْيُ أَوْلَادِهَا إِنْ وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى أَعْيَانِهَا. وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، لَزِمَهُ. فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ نَاسِخًا لِلْكِتَابَةِ، بَيَّنَ عَدَدَ الْأَوْرَاقِ وَالْأَسْطُرِ فِي كُلِّ صَفْحَةٍ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلتَّقْدِيرِ بِالْمُدَّةِ، وَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ، وَأَنْ يَجِبَ عِنْدَ تَقْدِيرِ الْعَمَلِ بَيَانُ قَدْرِ الْحَوَاشِي، وَالْقِطَعِ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ. فَصْلٌ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، وَلِنَقْلِ الْمَيْتَةِ إِلَى الْمَزْبَلَةِ، وَالْخَمْرِ لِتُرَاقَ، وَلَا يَجُوزُ لِنَقْلِ الْخَمْرِ مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ، وَلَا لِسَائِرِ الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ، كَالزَّمْرِ وَالنِّيَاحَةِ، وَكَمَا يَحْرُمُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ فِي هَذَا، يَحْرُمُ إِعْطَاؤُهَا. وَإِنَّمَا يُبَاحُ الْإِعْطَاءُ

دُونَ الْأَخْذِ فِي مَوْضِعِ ضَرُورَةٍ، كَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَإِعْطَاءِ الشَّاعِرِ لِئَلَّا يَهْجُوَ، وَالظَّالِمِ لِيَدْفَعَ ظُلْمَهُ، وَالْجَائِرِ لِيَحْكُمَ بِالْحَقِّ. وَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ، مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْعَقَارُ، وَيُسْتَأْجَرُ لِأَغْرَاضٍ. مِنْهَا: السُّكْنَى، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا، وَجَبَ مَعْرِفَةُ مَوْضِعِهَا، وَكَيْفِيَّةِ أَبْنِيَتِهَا، وَفِي الْحَمَّامِ، يَعْرِفُ الْبُيُوتَ وَالْبِئْرَ الَّتِي يَسْتَقِي مِنْهَا مَاءَهُ، وَالْقِدْرَ الَّتِي يُسَخَّنُ فِيهَا، وَمَبْسَطَ الْقُمَاشِ، وَالْأَتُّونَ وَهُوَ مَوْضِعُ الْوَقُودِ وَمَا يَجْمَعُ الْأَتُّونُ مِنَ السِّرْقِينِ وَنَحْوِهِ، وَالْمَوْضِعَ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الزِّبْلُ وَالْوَقُودُ، وَمَطْرَحَ الرَّمَادِ، وَالْمُسْتَنْقَعَ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنَ الْحَمَّامِ. وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ سَائِرِ الْمَسْكَنِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنِ اشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ فِي الْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ، تَفْرِيعٌ عَلَى مَنْعِ إِجَارَةِ الْغَائِبِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهَا، لَمْ تُعْتَبَرِ الرُّؤْيَةُ، بَلْ يَكْفِي الْوَصْفُ وَالْبَيَانُ، وَلَا يَدْخُلُ الْوَقُودُ فِي بَيْعِ الْحَمَّامِ وَإِجَارَتِهِ، كَمَا لَا تَدْخُلُ الْأُزُرُ وَالْأَسْطَالُ وَالْحَبْلُ وَالدَّلْوُ. قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : فِي رُؤْيَةِ قَدْرِ الْحَمَّامِ، يَكْفِي رُؤْيَةُ دَاخِلِهَا مِنَ الْحَمَّامِ، أَوْ ظَاهِرِهَا مِنَ الْأَتُّونِ. وَالْقِيَاسُ: عَلَى اعْتِبَارِ الرُّؤْيَةِ أَنْ يُشَاهِدَ الْوَجْهَيْنِ إِذَا أَمْكَنَ، كَمَا تُعْتَبَرُ مُشَاهَدَةُ وَجْهَيِ الثَّوْبِ. فَرْعٌ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي إِجَارَةِ الدَّارِ مِنْ ذِكْرِ عَدَدِ السُّكَّانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، ثُمَّ لَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِ زَائِرٍ وَضَيْفٍ، وَإِنْ بَاتَ فِيهَا لَيَالِيَ. قُلْتُ: هَذَا الِاشْتِرَاطُ لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ. وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَكِنْ يَسْكُنُ فِيهَا مَنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ فِي مِثْلِهَا، وَهَذَا مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْأَصْحَابِ، فَلَا عُدُولَ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِالْمُدَّةِ، وَفِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، الْمَشْهُورُ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ سِنِينَ كَثِيرَةً، بِحَيْثُ يَبْقَى إِلَيْهَا ذَلِكَ الشَّيْءُ غَالِبًا، فَلَا يُؤَجَّرُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَالدَّابَّةُ تُؤَجَّرُ عَشْرَ سِنِينَ، وَالثَّوْبُ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْأَرْضُ مِائَةَ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: يُؤَجَّرُ الْعَبْدُ إِلَى تَمَامِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا مُدَّةً لَا تَبْقَى فِيهَا الْعَيْنُ غَالِبًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ الدَّوَامُ، فَإِنْ هَلَكَتْ لِعَارِضٍ، فَكَانْهِدَامِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ. وَحُكْمُ الْوَقْفِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ حُكْمُ الطِّلْقِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِلَّا أَنَّ الْحُكَّامَ اصْطَلَحُوا عَلَى مَنْعِ إِجَارَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ لِئَلَّا يَنْدَرِسَ الْوَقْفُ، وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ، غَيْرُ مُطَّرِدٍ. وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ: أَنَّ الْمَذْهَبَ مَنْعُ إِجَارَةِ الْوَقْفِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ إِذَا لَمْ تَمَسَّ إِلَيْهِ حَاجَةٌ لِعِمَارَةٍ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَإِذَا جَوَّزْنَا إِجَارَةً أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فَهَلْ يَجِبُ تَقْدِيرُ حِصَّةِ كُلِّ سَنَةٍ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا، وَتُوَزَّعُ الْأُجْرَةُ عَلَى قِيمَةِ مَنَافِعِ السِّنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهَذَا. فَرْعٌ إِذَا قَالَ: أَجَّرْتُكَ شَهْرًا، أَوْ قَالَ: سَنَةً، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَحُمِلَ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِالْعَقْدِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: مِنَ الْآنَ. وَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ قَطْعًا لِلْإِبْهَامِ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ مِنَ الْآنَ، فَبَاطِلٌ أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ وَالصَّحِيحِ. وَقَالَ فِي «الْإِمْلَاءِ» : يَصِحُّ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِصْطَخْرِيُّ. وَلَوْ قَالَ

: كُلُّ شَهْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِدِرْهَمٍ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي شَهْرٍ فَقَطْ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ كُلَّ صَاعٍ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ بِدِرْهَمٍ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ إِلَى جَمِيعِ الصُّبْرَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، قَالَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ فَيُقَالُ: إِنْ قَالَ: بِعْتُكَ كُلَّ صَاعٍ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ بِدِرْهَمٍ، كَانَ كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، بَطَلَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ: يَصِحُّ فِي صَاعٍ، وَكَذَلِكَ يُفَرَّقُ فِي الْإِجَارَةِ. وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، فَسَوَّى بَيْنَ قَوْلِهِ: بِعْتُكَ كُلَّ صَاعٍ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ بِدِرْهَمٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، فَصَحَّحَ الْبَيْعَ فِي جَمِيعِ الصُّبْرَةِ بِاللَّفْظَيْنِ. فَرْعٌ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، كَأَجَلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فِي أَنَّ مُطْلَقَ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ يُحْمَلُ عَلَى الْعَرَبِيِّ، وَفِي أَنَّهُ إِذَا قُيِّدَ بِالْعَدَدِيَّةِ، أَوْ قَالَ: سَنَةٌ فَارِسِيَّةٌ أَوْ رُومِيَّةٌ أَوْ شَمْسِيَّةٌ، كَانَ الْأَجَلُ مَا ذَكَرَهُ، وَفِي أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا انْطَبَقَ عَلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ، كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ وَمَا بَعْدَهُ بِالْأَهِلَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَنْطَبِقْ، تُمِّمَ الْمُنْكَسِرُ بِالْعَدَدِ مِنَ الْأَخِيرِ، وَيُحْسَبُ الْبَاقِي بِالْأَهِلَّةِ. وَفِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي السَّلَمِ، وَفِي التَّأْجِيلِ بِالشَّمْسِيَّةِ، وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ شَاذٌّ. فَرْعٌ قَالَ: أَجَّرْتُكَ شَهْرًا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا شَهْرٌ، صَحَّ، وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ، لَمْ يَصِحَّ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ.

فصل

فَصْلٌ مِمَّا تُسْتَأْجَرُ لَهُ الْأَرْضُ، الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ وَالزِّرَاعَةُ. فَإِذَا قَالَ: أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبِنَاءَ وَلَا غَيْرَهُ، وَكَانَتْ صَالِحَةً لِلْجَمِيعِ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، لِأَنَّ مَنَافِعَ هَذِهِ الْجِهَاتِ مُخْتَلِفَةٌ، وَضَرَرَهَا مُخْتَلِفٌ، فَوَجَبَ التَّعْيِينُ، كَمَا لَوْ أَجَّرَ بَهِيمَةً، لَا يَجُوزُ الْإِطْلَاقُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ، وَجَعَلُوهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، حَتَّى احْتَجُّوا بِهِ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي إِعَارَةِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا، لَكِنْ قَدَّمْنَا فِي مَسْأَلَةِ إِجَارَةِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا، تَصْرِيحَهُمْ بِجَوَازِ الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ إِجَارَتُهَا مُطْلَقًا، عَلَى وَجْهَيْنِ،

كَإِعَارَتِهَا. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ فِيهِمَا. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا، مُفَرَّعٌ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ أَوْ مُئَوَّلٌ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ، مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، فَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ هُنَا مُطْلَقًا، وَتَصِحُّ الْعَارِيَةُ عَلَى وَجْهٍ، لِأَنَّ أَمْرَهَا عَلَى التَّوْسِعَةِ وَالْإِرْفَاقِ، فَاحْتُمِلَ فِيهَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجَهَالَةِ كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا عَقْدُ مُغَابَنَةٍ، فَهَذَا عُمْدَةُ الْأَصْحَابِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ إِجَارَةِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا، [فَمُئَوَّلَةٌ] . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ أَجَّرَ بَيْتًا أَوْ دَارًا، لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ السُّكْنَى، لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُسْتَأْجَرُ إِلَّا لِلسُّكْنَى وَوَضْعِ الْمَتَاعِ فِيهَا، وَلَيْسَ ضَرَرُهُمَا بِمُخْتَلِفٍ، كَذَا ذَكَرُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ فَيُقَالُ: قَدْ تُسْتَأْجَرُ أَيْضًا لِيَتَّخِذَهَا مَسْجِدًا، وَلِعَمَلِ الْحَدَّادِينَ وَالْقَصَّارِينَ، وَلِطَرْحِ الزِّبْلِ فِيهَا، وَهِيَ أَكْثَرُ ضَرَرًا، فَمَا جَعَلُوهُ مُبْطِلًا فِي الْأَرْضِ مَوْجُودٌ هُنَا. فَإِنْ قِيلَ: يَنْزِلُ فِي الدَّارِ عَلَى أَدْنَى وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ وَهُوَ السُّكْنَى وَوَضْعُ الْمَتَاعِ، لَزِمَ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَرْضِ مِثْلُهُ وَيَنْزِلُ عَلَى الزِّرَاعَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْأَشْكَالِ، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِئْجَارِ الدَّارِ بَيَانُ أَنَّهُ يُسْتَأْجَرُ لِلسُّكْنَى أَوْ غَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ شَارِحِي «الْمِفْتَاحِ» . فَرْعٌ قَالَ: أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ لِتَنْتَفِعَ بِهَا بِمَا شِئْتَ، صَحَّتِ الْإِجَارَةُ، وَلَهُ أَنْ

يَصْنَعَ مَا شَاءَ، لِرِضَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ. وَحَكَى الْبَغَوِيُّ وَجْهًا بِالْمَنْعِ، كَبَيْعِ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَهَا لِلزِّرَاعَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَزْرَعُ، أَوْ لِلْبِنَاءِ أَوْ لِلْغِرَاسِ وَأَطْلَقَ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَبِالْمَنْعِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنِ النَّصِّ فِي «الْجَامِعِ الْكَبِيرِ» . وَمَنْ جَوَّزَ قَالَ: يَزْرَعُ مَا شَاءَ، لِلْإِطْلَاقِ. وَكَانَ يَحْتَمِلُ التَّنْزِيلَ عَلَى الْأَقَلِّ. وَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَ مَا شِئْتَ، صَحَّتِ الْإِجَارَةُ، وَيَزْرَعُ مَا شَاءَ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ وَجْهٌ: أَنَّهَا فَاسِدَةٌ كَبَيْعِ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَ أَوْ تَغْرِسَ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَازْرَعْهَا، وَإِنْ شِئْتَ فَاغْرِسْهَا، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُخَيَّرُ الْمُسْتَأْجِرُ. وَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَهَا فَازْرَعْهَا وَاغْرِسْهَا، أَوْ لِتَزْرَعَهَا وَتَغْرِسَهَا، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْقَدْرَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: يَصِحُّ وَيَنْزِلُ عَلَى النِّصْفِ. وَعَلَى هَذَا، فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْجَمِيعَ، لِجَوَازِ الْعُدُولِ مِنَ الْغِرَاسِ إِلَى الزَّرْعِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَغْرِسَ الْجَمِيعَ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، لِعَدَمِ الْبَيَانِ، بَلْ قَالَ الْقَفَّالُ: لَوْ قَالَ: ازْرَعِ النِّصْفَ وَاغْرِسِ النِّصْفَ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنَ الْمَغْرُوسَ وَالْمَزْرُوعَ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرَ بِخَمْسِمِائَةٍ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ لِلْبِنَاءِ، بَيَانُ مَوْضِعِهِ وَطُولِهِ وَعَرْضِهِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ ارْتِفَاعِهِ، وَجْهَانِ سَبَقَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اسْتَأْجَرَ سَقْفًا لِلْبِنَاءِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الدَّوَابُّ، وَتُسْتَأْجَرُ لِأَغْرَاضٍ. مِنْهَا: الرُّكُوبُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: يُشْتَرَطُ أَنْ يُعَرِّفَ الْمُؤَجِّرُ الرَّاكِبَ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْمُشَاهَدَةُ، كَذَا

قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْوَصْفَ التَّامَّ يَكْفِي عَنْهَا. ثُمَّ قِيلَ: يَصِفُهُ بِالْوَزْنِ. وَقِيلَ: بِالضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ لِيَعْرِفَ وَزْنَهُ تَخْمِينًا. الثَّانِيَةُ: إِنْ كَانَ الرَّاكِبُ مُجَرَّدًا لَيْسَ مَعَهُ مَا يَرْكَبُ عَلَيْهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ مَا يَرْكَبُ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْمُؤَجِّرَ يُرْكِبُهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ سَرْجٍ وَإِكَافٍ وَزَامِلَةٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالدَّابَّةِ. وَإِنْ كَانَ يَرْكَبُ عَلَى رَحْلٍ لَهُ، أَوْ فَوْقَ زَامِلَةٍ، أَوْ فِي مَحْمَلٍ، أَوْ فِي عَمَّارِيَّةٍ، أَوْ أَرَادَ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ الرُّكُوبَ عَلَى سَرْجٍ أَوْ إِكَافٍ، وَجَبَ ذِكْرُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَ الْمُؤَجِّرُ هَذِهِ الْآلَاتِ. فَإِنْ شَاهَدَهَا، كَفَى، وَإِلَّا، فَإِنْ كَانَتْ سُرُوجُهُمْ وَمُحَامِلُهُمْ وَمَا فِي مَعْنَاهَا عَلَى قَدْرٍ وَتَقْطِيعٍ: لَا يَتَفَاحَشُ فِيهِ التَّفَاوُتُ، كَفَى الْإِطْلَاقُ، وَحُمِلَ عَلَى مَعْهُودِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا مُطَّرِدًا، اشْتُرِطَ ذِكْرُ وَزْنِ السَّرْجِ وَالْإِكَافِ وَالزَّامِلَةِ وَوَصْفِهَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنَ الْأَصْحَابِ لِاشْتِرَاطِ ذِكْرِ الْوَزْنِ فِي السَّرْجِ وَالْإِكَافِ، لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ فِيهِمَا التَّفَاوُتُ. وَأَمَّا الْمَحْمَلُ أَوِ الْعَمَّارِيَّةُ، فَفِيهِمَا أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِمَا الْمُشَاهَدَةُ، أَوِ الْوَصْفُ مَعَ الْوَزْنِ لِإِفَادَتِهِمَا التَّخْمِينَ. وَالثَّانِي: يَكْفِي الْوَزْنُ. أَوِ الصِّفَةُ وَالثَّالِثُ: لَا بُدَّ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ. وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَتْ مَحَامِلَ خِفَافًا كَالْبَغْدَادِيَّةِ، كَفَى الْوَصْفُ، لِتَقَارُبِهَا، وَإِنْ كَانَتْ ثِقَالًا كَالْخَرَسَانِيَّةِ، اشْتُرِطَتِ الْمُشَاهَدَةُ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: تُمْتَحَنُ الزَّامِلَةُ بِالْيَدِ لِتُعْرَفَ خِفَّتُهَا وَثِقَلُهَا، بِخِلَافِ الرَّاكِبِ لَا يُمْتَحَنُ بَعْدَ الْمُشَاهَدَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَحْمَلُ وَالْعُمَّارِيَّةُ فِي ذَلِكَ كَالزَّامِلَةِ. فَرْعٌ لَا بُدَّ فِي الْمَحْمَلِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْوِطَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُفْرَشُ فِيهِ لِيُجْلَسَ عَلَيْهِ، وَيَنْبَغِيَ أَنْ يُعَرَفَ بِالرُّؤْيَةِ أَوِ الْوَصْفِ، وَالْغِطَاءُ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ وَيُتَوَقَّى مِنَ الْمَطَرِ، قَدْ يَكُونُ

وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَيُحْتَاجُ إِلَى شَرْطِهِ. وَإِذَا شَرَطَهُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ: يَكْفِي إِطْلَاقُهُ، لِتَقَارُبِ تَفَاوُتِهِ، وَيُغَطِّيهِ بِجِلْدٍ أَوْ كِسَاءٍ أَوْ لِبْدٍ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ وَالْمُتَوَلِّي: يُشْتَرَطُ رُؤْيَتُهُ أَوْ وَصْفُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ كَالْوِطَاءِ. لَكِنْ إِنْ كَانَ فِيهِ عُرْفٌ مُطَّرِدٌ، كَفَى الْإِطْلَاقُ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَحْمَلِ ظَرْفٌ مِنْ لُبُودٍ، أَوْ أَدْمٍ، فَهُوَ كَالْغِطَاءِ. الثَّالِثَةُ: إِذَا اسْتَأْجَرَ لِلرُّكُوبِ، وَشَرَطَ حَمْلَ الْمَعَالِيقِ وَهِيَ السُّفْرَةُ، وَالْإِدَاوَةُ، وَالْقُدُورُ، وَالْقُمْقُمَةُ، فَإِنْ أَرَاهَا الْمُؤَجِّرُ، أَوْ وَضَعَهَا لَهُ وَذَكَرَ وَزْنَهَا، صَحَّ، وَإِلَّا، فَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ، وَمَنْ صَحَّحَ، حَمَلَهُ عَلَى الْوَسَطِ الْمُعْتَادِ. وَإِنْ لَمْ يَشْرُطِ الْمَعَالِيقَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ حَمْلُهَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: هُوَ كَشَرْطِهَا مُطْلَقًا. وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي السُّفْرَةِ وَالْإِدَاوَةِ الْخَالِيَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا طَعَامٌ وَمَاءٌ، فَسَيَأْتِي بَيَانُهُمَا فِي الْبَابِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ: إِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِ الدَّابَّةِ، اشْتَرَطَ تَعْيِينَهَا، وَفِي اشْتِرَاطِ رُؤْيَتِهَا الْخِلَافُ فِي شِرَاءِ الْغَائِبِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ، اشْتَرَطَ ذِكْرَ جِنْسِهَا، أَهِيَ مِنَ الْإِبِلِ، أَمِ الْخَيْلِ، أَمِ الْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ؟ وَنَوْعُهَا، كَالْبَخَاتِيِّ وَالْعِرَابِ. وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْأُنْثَى أَسْهَلُ سَيْرًا، وَالذَّكَرَ أَقْوَى. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: مُهَمْلِجٌ أَوْ بَحْرٌ أَوْ قَطُوفٌ، عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْغَرَضِ يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ السَّيْرِ. الْخَامِسَةُ: إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ، فَلْيُبَيِّنَا قَدْرَ السَّيْرِ كُلَّ يَوْمٍ، فَإِذَا بَيَّنَا، حُمِلَا عَلَى الْمَشْرُوطِ، فَإِنْ زَادَا فِي يَوْمٍ أَوْ نَقَصَا، فَلَا جُبْرَانَ، بَلْ يَسِيرَانِ بَعْدَهُ عَلَى الشَّرْطِ. وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا مُجَاوَزَةَ الْمَشْرُوطِ، أَوِ النُّزُولَ دُونَهُ لِخَوْفٍ أَوْ غَصْبٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُوَافِقَهُ صَاحِبُهُ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَكَانَ يُجَوِّزُ أَنْ يُجْعَلَ الْخَوْفُ عُذْرًا لِمَنْ يَحْتَاطُ، وَيُلْزِمُ الْآخَرَ مُوَافَقَتَهُ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ، ضَعِيفٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ حُصُولُ ضَرَرٍ بِسَبَبِ الْخَوْفِ، كَانَ عُذْرًا، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَا يَتَّجِهُ غَيْرُ هَذَا التَّفْصِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَا قَدْرَ السَّيْرِ، وَأَطْلَقَا الْعَقْدَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ مَنَازِلُ مَضْبُوطَةٌ، صَحَّ الْعَقْدُ وَحُمِلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنَازِلُ، أَوْ كَانَتْ وَالْعَادَةُ مُخْتَلِفَةٌ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ حَتَّى يُبَيَّنَا أَوْ يُقَدِّرَ بِالزَّمَانِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ طُرُقُ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إِذَا اكْتَرَى إِلَى مَكَّةَ فِي زَمَانِنَا، اشْتَرَطَ ذِكْرَ الْمَنَازِلِ، لِأَنَّ السَّيْرَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ شَدِيدٌ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مُخَوِّفًا، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيرُ السَّيْرِ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالِاخْتِيَارِ، وَتَابَعَهُ الرُّوْيَانِيُّ عَلَى هَذَا. وَمُقْتَضَاهُ، امْتِنَاعُ التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِئْجَارُ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَنَازِلُ مَضْبُوطَةٌ إِذَا كَانَ مُخَوِّفًا. فَرْعٌ الْقَوْلُ فِي وَقْتِ السَّيْرِ، أَهْوَ اللَّيْلُ، أَمِ النَّهَارُ؟ وَفِي مَوْضِعِ النُّزُولِ فِي الْمَرْحَلَةِ، أَهْوَ نَفْسُ الْقَرْيَةِ، أَمِ الصَّحْرَاءُ؟ وَفِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُهُ إِذَا كَانَ لِلْمَقْصِدِ طَرِيقَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَدْرِ السَّيْرِ فِي أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمَشْرُوطِ أَوِ الْمَعْهُودِ. وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمَعْهُودُ فِي فَصْلَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَحَالَتَيِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، فَكُلُّ عَادَةٍ تُرَاعَى فِي وَقْتِهَا، وَمَتَى شَرَطَا خِلَافَ الْمَعْهُودِ، فَهُوَ الْمُتَّبَعُ، لَا الْمَعْهُودُ.

فصل

فَصْلٌ مِمَّا تُسْتَأْجَرُ لَهُ الدَّوَابُّ الْحَمْلُ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَحْمُولُ مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا وَرَآهُ الْمُؤَجِّرُ، كَفَى، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ بِالْوَزْنِ، أَوْ بِالْكَيْلِ إِنْ كَانَ مُكَيَّلًا، وَالتَّقْدِيرُ بِالْوَزْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَوْلَى وَأَحْصَرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ جِنْسِهِ، لِاخْتِلَافِ تَأْثِيرِهِ. فَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَهَا لِتَحْمِلَ عَلَيْهَا مِائَةَ رِطْلٍ مِمَّا شِئْتَ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَكُونُ رِضًى مِنْهُ بِأَضَرِّ الْأَجْنَاسِ، فَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إِلَى بَيَانِ الْجِنْسِ. وَقَالَ صَاحِبُ الرَّقْمِ: قَالَ حُذَّاقُ الْمَرَاوِزَةِ: إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ مُطْلَقًا، جَازَ، وَجُعِلَ رَاضِيًا بِالْأَضَرِّ، وَحَاصِلُهُ الِاسْتِغْنَاءُ بِالتَّقْدِيرِ عَنْ ذِكْرِ الْجِنْسِ. هَذَا فِي التَّقْدِيرِ بِالْوَزْنِ، أَمَّا إِذَا قُدِّرَ بِالْكَيْلِ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْفَرَجِ السَّرَخْسِيِّ: أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَإِنْ قَالَ: عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ مِمَّا شِئْتَ، لِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فِي الثِّقَلِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْكَيْلِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ رِضًى بِأَثْقَلِ الْأَجْنَاسِ، كَمَا جُعِلَ فِي الْوَزْنِ رِضًى بِأَضَرِّ الْأَجْنَاسِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ قَوْلُ السَّرَخْسِيِّ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ التَّأْثِيرِ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْوَزْنِ، يَسِيرٌ، بِخِلَافِ الْكَيْلِ، وَأَيْنَ ثِقَلُ الْمِلْحِ مَنْ ثِقَلِ الذُّرَةِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَهَا لِتَحْمِلَ عَلَيْهَا مَا شِئْتَ، لَمْ يَصِحَّ، بِخِلَافِ إِجَارَةِ الْأَرْضِ لِيَزْرَعَهَا مَا شَاءَ، لِأَنَّ الدَّوَابَّ لَا تُطِيقُ كُلَّ مَا تُحَمَّلُ. فَرْعٌ ظُرُوفُ الْمَتَاعِ وَحِبَالِهِ، إِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْوَزْنِ، بِأَنْ قَالَ: مِائَةُ رِطْلِ حِنْطَةٍ

، أَوْ كَانَ التَّقْدِيرُ بِالْكَيْلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا بِالرُّؤْيَةِ أَوِ الْوَصْفِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ غَرَائِرُ مُتَمَاثِلَةٌ اطَّرَدَ الْعُرْفُ بِاسْتِعْمَالِهَا، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا. وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَدْرِ الْمَتَاعِ، بِأَنْ قَالَ: مِائَةُ رِطْلِ حِنْطَةٍ بِظُرُوفِهَا، صَحَّ الْعَقْدُ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مِائَةُ رِطْلٍ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ الظَّرْفَ مِنَ الْمِائَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَرَاءَهَا، لِأَنَّهُ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ. فَعَلَى هَذَا، يَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ قَالَ: مِائَةُ رِطْلٍ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُفَرَّعَةٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالتَّقْدِيرِ. وَإِهْمَالُ ذِكْرِ الْجِنْسِ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا بِأَنْ قَالَ: مِائَةُ رِطْلٍ مِمَّا شِئْتَ. فَرْعٌ الدَّابَّةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ لِلْحَمْلِ، إِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الرُّكُوبِ. وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، لَمْ يُشْتَرَطْ مَعْرِفَةُ جِنْسِ الدَّابَّةِ وَصَفَتِهَا، بِخِلَافِ الرُّكُوبِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَحْصِيلُ الْمَتَاعِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ. لَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَحْمُولُ زُجَاجًا أَوْ خَزَفًا وَشِبْهَهُمَا، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَالِ الدَّابَّةِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي سَائِرِ الْمَحْمُولَاتِ إِلَى تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِكَيْفِيَّةِ سَيْرِ الدَّابَّةِ بِسُرْعَةٍ أَوْ بُطْءٍ، وَقُوَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ، وَتَخَلُّفِهَا عَنِ الْقَافِلَةِ عَلَى بَعْضِ التَّقْدِيرَاتِ. وَلَوْ قِيلَ بِهِ، لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا. وَالْكَلَامُ فِي الْمَعَالِيقِ وَتَقْدِيرِ السَّيْرِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِلرُّكُوبِ. فَرْعٌ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ هَذِهِ الصُّبْرَةِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، كُلِّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ صَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ، صَحَّ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ بَاعَ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الصُّبْرَةِ مَعْلُومَةٌ مَحْصُورَةٌ، بِخِلَافِ الْأَشْهُرِ. وَلَوْ قَالَ:

فصل

لِتَحْمِلَ صَاعًا مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ تَحْمِلَ كُلَّ صَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ شَرْطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ، وَتَقْدِيرُهُ: كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ. وَلَوْ قَالَ: لِتَحْمِلَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَهِيَ عَشَرَةُ آصُعٍ، كُلَّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، فَإِنْ زَادَتْ، فَبِحِسَابِهِ، [صَحَّ] الْعَقْدُ فِي الْعَشَرَةِ، دُونَ الزِّيَادَةِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا. وَلَوْ قَالَ: لِتَحْمِلَ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ كُلَّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ. وَقَدْ سَبَقَ فِي مِثْلِهِ فِي الْبَيْعِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَصِحُّ فِي صَاعٍ، فَيَعُودُ هُنَا. فَصْلٌ وَمِنَ الْأَغْرَاضِ، سَقْيُ الْأَرْضِ بِإِدَارَةِ الدُّولَابِ، وَالِاسْتِقَاءُ مِنَ الْبِئْرِ بِالدَّلْوِ. فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِ الدَّابَّةِ، وَجَبَ تَعْيِينُهَا كَمَا فِي الرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَجِبْ بَيَانُ الدَّابَّةِ وَمَعْرِفَةِ جِنْسِهَا. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يُعَرِّفُ الْمُؤَجِّرُ الدُّولَابَ وَالدَّلْوَ وَمَوْضِعَ الْبِئْرِ وَعُمْقَهَا، بِالْمُشَاهَدَةِ، أَوِ الْوَصْفِ إِنْ كَانَ الْوَصْفُ يَضْبُطُهَا، وَيُقَدِّرُ الْمَنْفَعَةَ، إِمَّا بِالزَّمَانِ، بِأَنْ يَقُولَ: لِتَسْقِيَ بِهَذَا الدَّلْوِ مِنَ الْبِئْرِ الْيَوْمَ، وَإِمَّا بِالْعَمَلِ، بِأَنْ يَقُولَ: لِتَسْتَقِيَ خَمْسِينَ دَلْوًا مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ بِهَذَا الدَّلْوِ. وَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيرُ بِالْأَرْضِ، بِأَنْ يَقُولَ: لِتَسْقِيَ هَذَا الْبُسْتَانَ، أَوْ لِتَسْقِيَ جَرِيبًا مِنْهُ. فَصْلٌ وَمِنْهَا: الْحِرَاثَةُ، فَيَجِبُ أَنْ يُعَرِّفَ الْمُؤَجِّرُ الْأَرْضَ، لِاخْتِلَافِهَا. . وَتُقَدَّرُ الْمَنْفَعَةُ، إِمَّا بِالزَّمَانِ، بِأَنْ يَقُولَ: لِتَحْرُثَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الشَّهْرَ، وَإِمَّا بِالْعَمَلِ، بِأَنْ يَقُولَ: لِتَحْرُثَ هَذِهِ الْقِطْعَةَ، أَوْ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا مِنْهَا. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِالْمُدَّةِ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّابَّةِ إِنْ

فصل

كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ، فَكَذَلِكَ إِنْ قُدِّرَ بِالْمُدَّةِ وَجَوَّزْنَاهُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّابَّةِ. وَإِنْ قُدِّرَ بِالْأَرْضِ الْمَحْرُوثَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا. فَصْلٌ وَمِنْهَا: الدِّيَاسُ، فَيُعَرِّفُ الْمُؤَجِّرُ الْجِنْسَ الَّذِي يُرِيدُ دِيَاسَهُ، وَيُقَدِّرُ الْمَنْفَعَةَ بِالزَّمَانِ، أَوْ بِالزَّرْعِ الَّذِي يَدُوسُهُ. وَالْقَوْلُ فِي مَعْرِفَةِ الدَّابَّةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحِرَاثَةِ. فَصْلٌ الِاسْتِئْجَارُ لِلطَّحْنِ كَالِاسْتِئْجَارِ لِلدِّيَاسِ. فَصْلٌ جُمْلَةُ مَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ فِي الْإِجَارَاتِ، مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمَا لَمْ نَذْكُرْهُ، أَنَّ مَا يَتَفَاوَتُ بِهِ الْغَرَضُ، وَلَا يَتَسَامَحُ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ، يُشْتَرَطُ تَعْرِيفُهُ. فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ مَاذَا؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: هُوَ الْعَيْنُ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهَا الْمَنْفَعَةَ، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَعْدُومَةٌ، وَمَوْرِدَ الْعَقْدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ مُضَافٌ إِلَى الْعَيْنِ. وَلِهَذَا يَقُولُ: أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَتِ الْعَيْنُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ مَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ، وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَلَيْسَتِ الْعَيْنُ كَذَلِكَ. فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، هُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ

وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا خِلَافًا مُحَقَّقًا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَقُولُ: الْعَيْنُ مَمْلُوكَةٌ بِالْإِجَارَةِ كَالْمَبِيعِ. وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي، لَا يَقْطَعُ النَّظَرَ عَنِ الْعَيْنِ. الْبَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ طَرَفَانِ. [الطَّرَفُ] الْأَوَّلُ: فِيمَا يَقْتَضِي اللَّفْظُ دُخُولَهُ فِي الْعَقْدِ وَضْعًا أَوْ عُرْفًا، وَمَا يُلْزِمُ الْمُتَكَارِيَيْنِ إِتْمَامًا لَهُ، وَمَسَائِلُهُ مَقْسُومَةٌ عَلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي شَرْطِ الْعِلْمِ بِالْمَنْفَعَةِ. [النَّوْعُ] الْأَوَّلُ: اسْتِئْجَارُ الْآدَمِيِّ، وَفِيهِ فَصْلَانِ. [الْفَصْلُ] الْأَوَّلُ: الِاسْتِئْجَارُ لِلْحِضَانَةِ وَحْدَهَا، وَلِلْإِرْضَاعِ وَحْدَهُ جَائِزٌ، وَكَذَا لَهُمَا مَعًا كَمَا سَبَقَ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْإِجَارَةِ لِلْإِرْضَاعِ مَا هُوَ؟ وَأَمَّا الْحِضَانَةُ، فَهِيَ حِفْظُ الصَّبِيِّ وَتَعَهُّدُهُ، بِغَسْلِهِ، وَغَسْلِ رَأْسِهِ وَثِيَابِهِ وَخِرَقِهِ، وَتَطْهِيرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَدَهْنِهِ وَكَحْلِهِ، وَإِضْجَاعِهِ فِي مَهْدِهِ، وَرَبْطِهِ وَتَحْرِيكِهِ فِي الْمَهْدِ لِيَنَامَ. وَإِذَا أُطْلِقَ الِاسْتِئْجَارُ لِأَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَنْفِ الْآخَرُ، فَفِي اسْتِتْبَاعِهِ الْآخَرَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: مَنْعُ الِاسْتِتْبَاعِ. وَالثَّانِي: إِثْبَاتُهُ لِلْعَادَةِ بِتَلَازُمِهِمَا. وَالثَّالِثُ: يَسْتَتْبِعُ الْإِرْضَاعُ الْحِضَانَةَ وَلَا عَكْسٌ. فَإِنْ أَتْبَعْنَا فِيهِمَا، أَوْ شَرَطَهُمَا، فَانْقَطَعَ اللَّبَنُ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ مَاذَا؟ أَحَدُهَا: أَنَّهُ اللَّبَنُ، وَالْحِضَانَةُ تَابِعَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِانْقِطَاعِهِ، وَالثَّانِي: الْحِضَانَةُ، وَاللَّبَنُ تَابِعٌ، فَعَلَى هَذَا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لَكِنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ عَيْبٌ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ كِلَاهُمَا، لِأَنَّهُمَا مَقْصُودَانِ. فَعَلَى هَذَا، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْإِرْضَاعِ، وَيَسْقُطُ قِسْطُهُ مِنَ الْأُجْرَةِ. وَفِي الْحِضَانَةِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ،

وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي طَرْدِ الْأَوْجُهِ بَيْنَ أَنْ يُصَرِّحَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، أَوْ يَذْكُرَ أَحَدَهُمَا وَنَحْكُمُ بِاسْتِتْبَاعِهِ الْآخَرَ. وَحَسَنٌ أَنْ يُفَرَّقَ فَيُقَالُ: إِنْ صُرِّحَ، فَمَقْصُودَانِ قَطْعًا. وَإِنْ ذُكِرَ أَحَدُهُمَا، فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْآخَرُ تَابِعٌ. فَرْعٌ يَلْزَمُ الْمُرْضِعَةُ أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ مَا يُدَرُّ بِهِ اللَّبَنُ، وَلِلْمُكْتَرِي أَنْ يُكَلِّفَهَا ذَلِكَ. الثَّانِي: إِذَا اسْتَأْجَرَ وَرَّاقًا، فَعَلَى مَنِ الْحِبْرُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا: الرُّجُوعُ إِلَى الْعَادَةِ. فَإِنِ اضْطَرَبَتْ، وَجَبَ الْبَيَانُ، وَإِلَّا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ. وَأَشْهَرُهَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَّاقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ اللَّبَنَ هَلْ يَتْبَعُ الْحِضَانَةَ 0 وَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَى الْوَرَّاقِ، فَهُوَ كَاللَّبَنِ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَقْدِيرُهُ. وَإِنْ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْإِرْضَاعِ وَالْحِضَانَةِ. وَإِذَا لَمْ نُوجِبْهُ عَلَيْهِ، فَشُرِطَ فِي الْعَقْدِ، بَطَلَ الْعَقْدُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا، وَإِلَّا، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْكِتَابَةُ، وَالْحِبْرُ تَابِعٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شِرَاءٌ وَاسْتِئْجَارٌ، وَلَيْسَ الْحِبْرُ كَاللَّبَنِ، لِإِمْكَانِ إِفْرَادِهِ بِالشِّرَاءِ. وَعَلَى هَذَا، يُنْظَرُ، فَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا الْحِبْرَ عَلَى أَنْ تَكْتُبَ بِهِ كَذَا، فَهُوَ كَشِرَاءِ الزَّرْعِ بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُدَهُ الْبَائِعُ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ الْحِبْرَ وَاسْتَأْجَرْتُكَ لِتَكْتُبَ بِهِ كَذَا بِعَشَرَةٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ الزَّرْعَ وَاسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحْصُدَهُ بِعَشَرَةٍ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ الْحِبْرَ بِدِرْهَمٍ وَاسْتَأْجَرْتُكَ لِتَكْتُبَ بِهِ بِعَشَرَةٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ الزَّرْعَ بِعَشَرَةٍ وَاسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحْصُدَهُ بِدِرْهَمٍ، وَحُكْمُ الصُّوَرِ مَذْكُورٌ فِي الْبَيْعِ. فَرْعٌ إِذَا اسْتَأْجَرَ الْخَيَّاطَ وَالصَّبَّاغَ وَمُلَقِّحَ النَّخْلِ وَالْكَحَّالَ، فَالْقَوْلُ فِي الْخَيْطِ وَالصَّبْغِ

وَطَلْعِ النَّخْلِ وَالذَّرُورِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحِبْرِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَقَطَعَ الْإِمَامُ وَشَيْخُهُ وَالْغَزَالِيُّ، بِأَنَّ الْخَيْطَ لَا يَجِبُ عَلَى الْخَيَّاطِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ فِي الْخَيْطِ خِلَافُ الْحِبْرِ وَالصَّبْغِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْعَقَارُ، وَهُوَ صِنْفَانِ، مَبْنِيٌّ كَالدَّارِ وَالْحَمَّامِ، وَغَيْرُهُ. فَالْأَوَّلُ: فِيهِ مَسْأَلَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الدَّارُ الْمُكْرَاةُ مِنَ الْعِمَارَةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: مَرَمَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى عَيْنٍ جَدِيدَةٍ، كَإِقَامَةِ جِدَارٍ مَائِلٍ، وَإِصْلَاحِ مُنْكَسِرٍ، وَغَلْقٍ تَعَسَّرَ فَتْحُهُ. وَالثَّانِي: مَا يُحْوِجُ إِلَى عَيْنٍ جَدِيدَةٍ، كَبِنَاءٍ، وَجِذْعٍ جَدِيدٍ، وَتَطْيِينِ سَطْحٍ، وَالْحَاجَةُ فِي الضَّرْبَيْنِ لِخَلَلٍ عَرَضَ فِي دَوَامِ الْإِجَارَةِ. الثَّالِثُ: عِمَارَةٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِخَلَلٍ قَارَنَ الْعَقْدَ، بِأَنْ أَجَّرَ دَارًا لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا مِيزَابٌ. وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَضْرَابِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، بَلْ هِيَ مِنْ وَظِيفَةِ الْمُؤَجِّرِ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى الْإِصْلَاحِ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَإِلَّا، فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا نَقَصَتِ الْمَنْفَعَةُ. حَتَّى لَوْ وَكَفَ الْبَيْتَ لِتَرْكِ التَّطْيِينِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَهُ الْخِيَارُ. فَإِذَا انْقَطَعَ بَطَلَ الْخِيَارُ، إِلَّا إِذَا حَدَثَ بِسَبَبِهِ نَقْصٌ. وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الضَّرْبِ الثَّالِثِ، إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ. وَهَلْ يُجْبَرُ الْمُؤَجِّرُ عَلَى هَذِهِ الْعِمَارَاتِ؟ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ: لَا يُجْبَرُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ إِلْزَامُ عَيْنٍ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْعَقْدُ. وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ: يُجْبَرُ عَلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الثَّالِثِ قَطْعًا، وَلَا عَلَى الثَّانِي عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَأَبُو مُحَمَّدٍ: يُجْبَرُ تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا غُصِبَتِ الْمُسْتَأْجَرَةُ وَقَدَرَ الْمَالِكُ عَلَى الِانْتِزَاعِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ هُنَا، وُجُوبُ الِانْتِزَاعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، وَلَمْ يَنْتَزِعْ مَا سَلَّمَهُ، يُطَالَبُ

بِبَدَلِهِ. وَحَكَى الْإِمَامُ تَفْرِيعًا عَلَى طَرِيقَتِهِ وَجْهَيْنِ، فِي أَنَّ الدِّعَامَةَ الْمَانِعَةَ مِنَ الِانْهِدَامِ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهَا، مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، أَمْ مِنَ الثَّانِي؟ فَرْعٌ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِي تَسْلِيمُ مِفْتَاحِ الدَّارِ، لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ فِيهِ الْإِقْفَالَ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْقُفْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَنْقُولَاتُ فِي الْعَقْدِ الْوَاقِعِ عَلَى الْعَقَارِ، وَالْمِفْتَاحُ تَابِعٌ لِلْغَلْقِ. وَإِذَا سُلِّمَ، فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ. فَإِنْ ضَاعَ بِلَا تَفْرِيطٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِبْدَالُهُ مِنْ وَظِيفَةِ الْمُؤَجِّرِ، وَهَلْ يُطَالَبُ بِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْعِمَارَاتِ. فَإِنْ لَمْ يُبَدِّلْهُ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَطْهِيرُ الدَّارِ عَنِ الْكُنَاسَةِ وَالْأَتُّونِ عَنِ الرَّمَادِ فِي دَوَامِ الْإِجَارَةِ، عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّهُمَا حَصَلَا بِفِعْلِهِ، وَكَسْحُ الثَّلْجِ عَنِ السَّطْحِ، مِنْ وَظِيفَةِ الْمُؤَجِّرِ، لِأَنَّهُ كَعِمَارَةِ الدَّارِ. فَإِنْ تَرَكَهُ عَلَى السَّطْحِ وَحَدَثَ بِهِ عَيْبٌ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْعِمَارَةِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْكَسْحُ وَإِنْ وَجَبَتِ الْعِمَارَةُ، لِأَنَّهَا تَجِبُ لِتَعُودَ الدَّارُ إِلَى مَا كَانَتْ. وَأَمَّا الثَّلْجُ فِي عَرْصَةِ الدَّارِ، فَإِنْ خَفَّ وَلَمْ يَمْنَعِ الِانْتِفَاعَ، فَهُوَ مُلْحَقٌ بِكَنْسِ الدَّارِ. وَإِنْ كَثِفَ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: كَتَنْقِيَةِ الْبَالُوعَةِ، وَفِيهَا خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ التَّرَدُّدَ فِي الدَّارِ. فَرْعٌ يَلْزَمُ الْمُؤَجِّرَ تَسْلِيمُ الدَّارِ وَبَالُوعَتِهَا وَحَشِّهَا فَارِغَانِ. فَإِنْ كَانَ مَمْلُوءًا، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ، وَكَذَا مُسْتَنْقَعُ الْحَمَّامِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَنْصَبُّ إِلَيْهِ الْغُسَالَةُ. فَلَوِ امْتَلَأَتِ

الْبَالُوعَةُ وَالْحَشُّ وَالْمُسْتَنْقَعُ فِي دَوَامِ الْإِجَارَةِ، فَهَلْ تَفْرِيغُهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ تَمْكِينًا مِنَ الِانْتِفَاعِ بَقِيَّةَ الْمُدَّةِ؟ أَمْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِحُصُولِهِ بِفِعْلِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي، كَنَقْلِ الْكُنَاسَاتِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ الِانْتِفَاعُ، فَلْيُنَقِّ، وَلَا خِيَارَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ التَّنْقِيَةُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَلَا تَفْرِيغُ مُسْتَنْقَعِ الْحَمَّامِ، وَيَلْزَمُهُ التَّطْهِيرُ مِنَ الْكُنَاسَةِ، وَفَسَّرُوهَا بِالْقُشُورِ وَمَا سَقَطَ مِنَ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ، دُونَ التُّرَابِ الَّذِي يَجْتَمِعُ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ، لِأَنَّهُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَكِنْ قَدْ سَبَقَ مِنْ أَنَّ ثَلْجَ الْعَرْصَةِ لَا يَلْزَمُ الْمُؤَجِّرَ نَقْلُهُ، بَلْ هُمْ كَالْكُنَاسَةِ، مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ لَا بِفِعْلِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ أَيْضًا كَالْكُنَاسَةِ، مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ لَا بِفِعْلِهِ. قُلْتُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ ضَعِيفٌ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ نَقْلُ التُّرَابِ كَمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا سَبَقَ فِي ثَلْجِ الْعَرْصَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ نَقْلُهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُؤَجِّرَ، فَكَذَا هُنَا لَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: رَمَادُ الْأَتُّونِ كَالْكُنَاسَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ نَقْلُهُ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَا يَجِبُ، لِأَنَّهُ مِنْ صُورَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، بِخِلَافِ الْكُنَاسَةِ. فَرْعٌ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ لِلسُّكْنَى، لَا يَجُوزُ طَرْحُ الرَّمَادِ وَالتُّرَابِ فِي أَصْلِ حَائِطِهَا، وَلَا رَبْطُ دَابَّةٍ فِيهَا، بِخِلَافِ وَضْعِ الْأَمْتِعَةِ. وَفِي جَوَازِ طَرْحِ مَا يُسْرِعُ [إِلَيْهِ] الْفَسَادُ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ. الصِّنْفُ الثَّانِي: الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ. فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ وَلَهَا شِرْبٌ مَعْلُومٌ، فَإِنْ شَرَطَ دُخُولَهُ فِي الْعَقْدِ أَوْ خُرُوجَهُ، اتَّبَعَ الشَّرْطَ، وَإِلَّا، فَإِنِ اطَّرَدَتِ الْعَادَةُ

فصل

بِاتِّبَاعِهِ الْأَرْضَ، أَوِ انْفِرَادِهِ، اتَّبَعَتْ. وَإِنِ اضْطَرَبَتْ، فَكَانَتْ تُكْرَى وَحْدَهَا تَارَةً، وَمَعَ الشِّرْبِ تَارَةً، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يُجْعَلُ الشِّرْبُ تَابِعًا اقْتِصَارًا عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ، إِنَّمَا عَلَيْهِ بِعُرْفٍ مُطَّرِدٍ. وَالثَّانِي: يُجْعَلُ تَابِعًا. وَالثَّالِثُ: يَبْطُلُ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ، لِأَنَّ تَعَارُضَ الْمَقْصُودَيْنِ يُوجِبُ جَهَالَةً. فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزَرْعٍ مُعَيَّنٍ، فَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُدْرِكْ، فَلِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ فِيهَا أَسْبَابٌ. أَحَدُهَا: التَّقْصِيرُ فِي الزِّرَاعَةِ، بِأَنْ أَخَّرَهَا حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ، أَوْ أَبْدَلَ الزَّرْعَ الْمُعَيَّنَ بِمَا هُوَ أَبْطَأُ مِنْهُ، أَوْ أَكَلَهُ الْجَرَادُ وَنَحْوُهُ، فَزُرِعَ ثَانِيًا، فَلِلْمَالِكِ إِجْبَارُهُ عَلَى قَلْعِهِ، وَعَلَى الزَّارِعِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ كَالْغَاصِبِ، هَذَا لَفْظُ الْبَغَوِيِّ، وَمُقْتَضَى إِلْحَاقِهِ بِالْغَاصِبِ، أَنْ يَقْلَعَ زَرْعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَيْضًا، لَكِنَّ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرَهُ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يَقْلَعُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ فِي الْحَالِ لَهُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ مُرَادُ الْبَغَوِيِّ بِإِلْحَاقِهِ بِالْغَاصِبِ، الْقَلْعَ قَبْلَ الْمُدَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لِلْمَالِكِ مَنْعُهُ مِنْ زِرَاعَةِ مَا هُوَ أَبْطَأُ إِدْرَاكًا، وَهَلْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ زِرَاعَةِ الزَّرْعِ الْمُعَيَّنِ ابْتِدَاءً إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ؟ وَجْهَانِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَقَدْ يَقْصِدُ الْقَصِيلَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَأَخَّرَ الْإِدْرَاكُ لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ، أَوْ أَكْلِ

فصل

الْجَرَادِ رُءُوسَ الزَّرْعِ، فَنَبَتَ ثَانِيًا فَتَأَخَّرَ لِذَلِكَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ، بَلْ عَلَى الْمَالِكِ الصَّبْرُ إِلَى الْإِدْرَاكِ مَجَّانًا أَوْ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَقِيلَ: لَهُ قَلْعُهُ مَجَّانًا، لِخُرُوجِهِ عَنِ الْمُدَّةِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ الْمُعَيَّنُ بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُ فِي الْمُدَّةِ، بِأَنِ اسْتَأْجَرَ لِزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ شَهْرَيْنِ. فَإِنْ شَرَطَا الْقَلْعَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، جَازَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْقَصِيلَ. ثُمَّ لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى الْإِبْقَاءِ مَجَّانًا أَوْ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، جَازَ، فَإِنْ شَرَطَا الْإِبْقَاءَ، فَسَدَ الْعَقْدُ، لِلتَّنَاقُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْقِيتِ، وَلِجَهَالَةِ مُدَّةِ الْإِدْرَاكِ، وَيَجِيءُ فِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ، فَلِلْمَالِكِ مَنْعُهُ مِنَ الزِّرَاعَةِ، لَكِنْ لَوْ زَرَعَ، لَمْ يَقْلَعْ مَجَّانًا، لِلْإِذْنِ، بَلْ يَأْخُذُ مِنْهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِجَمِيعِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِقَلْعٍ وَلَا إِبْقَاءٍ، صَحَّ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ تَوَافَقَا بَعْدَ الْمُدَّةِ عَلَى إِبْقَائِهِ مَجَّانًا أَوْ بِأُجْرَةٍ، فَذَاكَ. وَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكُ إِجْبَارَهُ عَلَى الْقَلْعِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ الْإِبْقَاءُ. وَعَلَى هَذَا، فَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِلزِّيَادَةِ. وَقِيلَ: لَا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنًى مُعِيرٍ لِلزِّيَادَةِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ: إِذَا قُلْنَا: لَا يَقْلَعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، لَزِمَ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ إِذَا شُرِطَ الْإِبْقَاءُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا حَسَنٌ. أَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ لِلزِّرَاعَةِ مُطْلَقًا وَقُلْنَا بِالْأَصَحِّ وَهُوَ صِحَّتُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَزْرَعَ مَا يُدْرَكُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. فَإِنْ زَرَعَهُ وَتَأَخَّرَ إِدْرَاكُهُ لِتَقْصِيرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّرْعِ الْمُعَيَّنِ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ مَا لَا يُدْرَكُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَلِلْمَالِكِ مَنْعُهُ. فَلَوْ زَرَعَ، لَمْ يُقْلَعْ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ زَرْعِهِ، كَمَا لَا يُقْلَعَ إِذَا زُرِعَ. فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ لِلْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ، فَإِنْ شُرِطَ الْقَلْعُ، صَحَّ الْعَقْدُ، وَلَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ الْقَلْعُ

بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَالِكِ أَرْشُ النُّقْصَانِ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَلَا أَرْشُ نَقْصِهَا، لِتَرَاضِيهِمَا بِالْقَلْعِ. وَلَوْ شَرَطَا الْإِبْقَاءَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْعَقْدُ فَاسِدٌ، لِجَهَالَةِ الْمَدَّةِ. وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْبَغَوِيِّ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي الْإِبْقَاءَ، فَلَا يَضُرُّ شَرْطُهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ أَوْ جُمْهُورُهُمْ، وَيَتَأَيَّدُ بِهِ كَلَامُ السَّرَخْسِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الزَّرْعِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْفَسَادِ، لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْمُدَّةِ، وَمَا بَعْدَهَا حُكْمُهُ مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَا الْعَقْدَ. أَمَّا إِذَا أَطْلَقَا، فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْعَقْدِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْقَلْعُ وَالرَّفْعُ بِلَا نَقْصٍ، فَعَلَ، وَإِلَّا، فَإِنِ اخْتَارَ الْمُسْتَأْجِرُ الْقَلْعَ، فَلَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِلْكُهُ. وَهَلْ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ وَأَرْشُ نَقْصِ الْأَرْضِ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: يَلْزَمُهُ، لِتَصَرُّفِهِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ بِالْقَلْعِ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ يَدِهِ، وَتَصَرُّفِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَلَعَ قَبْلَ الْمُدَّةِ، لَزِمَهُ التَّسْوِيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِعَدَمِ الْإِذْنِ. وَقِيلَ: لَا، لِبَقَاءِ الْأَرْضِ فِي يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ. وَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْقَلْعَ، فَهَلْ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَقْلَعَهُ مَجَّانًا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ. وَالثَّانِي: عَلَى وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: هَذَا، لِأَنَّهُ بِنَاءٌ مُحْتَرَمٌ. وَالثَّانِي: نَعَمْ. فَإِنْ مَنَعْنَا، فَالْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمُؤَجِّرَ، يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَقْلَعَ وَيَغْرَمَ أَرْشَ النَّقْصِ مَعَ نَقْصِ الثِّمَارِ إِنْ كَانَ عَلَى الشَّجَرِ ثَمَرٌ، أَوْ يَتَمَلَّكَهُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ، أَوْ يُبْقِيَهُ بِأُجْرَةٍ يَأْخُذُهَا، أَوْ لَا يَتَخَيَّرُ إِلَّا بَيْنَ الْخُصْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا رَجَعَ الْمُعِيرُ عَنِ الْعَارِيَةِ. وَإِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى الْقَلْعِ، فَمُبَاشِرَةُ الْقَلْعِ أَوْ بَدَلُ مُؤْنَتِهِ، هَلْ هِيَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ لِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَارَهُ، أَمْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْأَرْضَ فَلْيُفْرِغْهَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَإِذَا عَيَّنَ

فصل

الْمُؤَجِّرُ خَصْلَةً، فَامْتَنَعَ مِنْهَا الْمُسْتَأْجِرُ، فَفِي إِجْبَارِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي إِجْبَارِ الْمُسْتَعِيرِ. فَإِنْ أَجْبَرْنَاهُ، كُلِّفَ تَفْرِيغَ الْأَرْضِ مَجَّانًا، وَإِلَّا، فَلَا، بَلْ هُوَ كَمَا لَوِ امْتَنَعَ الْمُؤَجِّرُ مِنَ الِاخْتِيَارِ، وَحِينَئِذٍ هَلْ يَبِيعُ الْحَاكِمُ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا، أَمْ يُعْرِضُ عَنْهُمَا؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. فَرْعٌ الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ لِلْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ كَالصَّحِيحَةِ فِي تَخْيِيرِ الْمَالِكِ وَمَنْعِ الْقَلْعِ مَجَّانًا. فَصْلٌ إِذَا اسْتَأْجَرَ لِزِرَاعَةِ جِنْسٍ مُعَيَّنٍ، جَازَ أَنْ يَزْرَعَهُ وَمَا ضَرَرُهُ مِثْلُ ضَرَرِهِ أَوْ دُونَهُ، لَا مَا فَوْقَهُ، وَالْحِنْطَةُ فَوْقَ ضَرَرِ الشَّعِيرِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الذُّرَةِ وَالْأُرْزِ فَوْقُ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ. وَعَنِ الْبُوَيْطِيِّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ زَرْعُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، فَقِيلَ: هُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقِيلَ: هُوَ مَذْهَبٌ لِلْبُوَيْطِيِّ. وَكَيْفَ كَانَ، فَالْمَذْهَبُ جَوَازُهُ. هَذَا إِذَا عَيَّنَ جِنْسًا أَوْ نَوْعًا. فَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَهَا لِزَرْعِ هَذِهِ الْحِنْطَةِ، فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّ تِلْكَ الْحِنْطَةَ قَدْ تَتْلَفُ. وَالثَّانِي: الصِّحَّةُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ كَجٍّ، وَلَا تَتَعَذَّرُ الزِّرَاعَةُ بِتَلَفِ تِلْكَ الْحِنْطَةِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ بِتَلَفِ الْحِنْطَةِ. وَلَوْ تَعَذَّرَ، لَمْ يَكُنِ احْتِمَالُ التَّلَفِ مَانِعًا، كَالِاسْتِئْجَارِ لِإِرْضَاعِ هَذَا الصَّبِيِّ، وَالْحَمْلِ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ قَالَ: لِتَزْرَعَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ وَلَا تَزْرَعَ غَيْرَهَا، فَأَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: يَفْسَدُ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَاهُ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ وَالرُّوْيَانِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَالثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ: صِحَّةُ الْعَقْدِ وَفَسَادُ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَجَّرْتُكَ عَلَى أَنْ لَا تَلْبَسَ إِلَّا الْحَرِيرَ. وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ مِنَ الْمُؤَجِّرِ، فَمَلَكَ بِحَسَبِ التَّمْلِيكِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الْمَنَافِعِ. فَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ فِي طَرِيقٍ، لَمْ يَرْكَبْهَا فِي طَرِيقٍ أَحْزَنَ مِنْهُ وَلَهُ رُكُوبُهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ لِحِمْلِ الْحَدِيدِ، لَمْ يَحْمِلِ الْقُطْنَ وَلَا الْعَكْسُ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا لِصَنْعَةٍ، مُنِعَ مِمَّا فَوْقَهَا فِي الضَّرَرِ. فَرْعٌ إِذَا تَعَدَّى الْمُسْتَأْجِرُ لِلْحِنْطَةِ، فَزَرَعَ الذُّرَةَ، وَلَمْ يَتَخَاصَمَا حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَحَصَدَ الذُّرَةَ، فَالْمَذْهَبُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: أَنَّ الْمُؤَجِّرَ بِالْخِيَارِ، بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَمَّى وَبَدَلَ النُّقْصَانِ الزَّائِدَ بِزِرَاعَةِ الذُّرَةِ عَلَى ضَرَرِ الْحِنْطَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِزَرْعِ الذُّرَةِ. وَقَالَ كَثِيرُونَ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: تَعْيِينُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِلذُّرَةِ. وَالثَّانِي: تَعْيِينُ الْمُسَمَّى

وَبَدَلِ النَّقْصِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمُسَمَّى وَبَدَلُ النَّقْصِ. وَالثَّانِي: التَّخْيِيرُ. قُلْتُ: وَهَلْ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْأَرْضِ غَاصِبًا؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّاشِيُّ فِي [الْمُسْتَظْهِرِيِّ] أَصَحُّهُمَا: لَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَخَاصَمَا عِنْدَ إِرَادَتِهِ زِرَاعَةَ الذُّرَةِ، مُنِعَ مِنْهَا، وَإِنْ تَخَاصَمَا بَعْدَ زِرَاعَتِهَا وَقَبْلَ حَصَادِهَا، فَلَهُ قَلْعُهَا. وَإِذَا قَلَعَ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ زِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ، زَرَعَهَا، وَإِلَّا، فَلَا يَزْرَعُ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِجَمِيعِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّهُ الَّذِي فَوَّتَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ تَمْضِ عَلَى بَقَاءِ الذُّرَةِ مُدَّةٌ تَتَأَثَّرُ الْأَرْضُ بِهَا، فَذَاكَ، وَإِنْ مَضَتْ، فَالْمُسْتَحَقُّ أُجْرَةُ الْمِثْلِ؟ أَمْ قِسْطُهَا مِنَ الْمُسَمَّى مَعَ بَدَلِ النُّقْصَانِ؟ أَمْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا؟ فِيهِ الطُّرُقُ السَّابِقَةُ. وَالطُّرُقُ جَارِيَةٌ فِيمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا، فَأَسْكَنَهَا الْحَدَّادِينَ أَوِ الْقَصَّارِينَ، أَوْ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قُطْنًا، فَحَمَلَ بِقَدْرِهِ حَدِيدًا، أَوْ غُرْفَةً لِيَضَعَ فِيهَا مِائَةَ رِطْلِ حِنْطَةٍ، فَأَبْدَلَهَا بِحَدِيدٍ، وَكَذَا كُلُّ صُورَةٍ لَا يَتَمَيَّزُ فِيهَا الْمُسْتَحَقُّ عَمَّا زَادَ. فَلَوْ تَمَيَّزَ، بِأَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِحَمْلِ خَمْسِينَ رِطْلًا، فَحَمَلَ مِائَةً، أَوْ إِلَى مَوْضِعٍ، فَجَاوَزَهُ، وَجَبَ الْمُسَمَّى وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا زَادَ قَطْعًا. وَلَوْ عَدَلَ عَنِ الْجِنْسِ الْمَشْرُوطِ إِلَى غَيْرِهِ، بِأَنِ اسْتَأْجَرَ لِلزَّرْعِ، فَغَرَسَ، أَوْ بَنَى، وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّهُ يَتَخَيَّرُ، فَاخْتَارَ الْمُسَمَّى وَبَدَلَ النُّقْصَانِ الزَّائِدِ، فَمِثْلُهُ أُجْرَةُ مِثْلِهَا لِلْحِنْطَةِ خَمْسُونَ، وَلِلذُّرَةِ سَبْعُونَ، وَكَانَ الْمُسَمَّى أَرْبَعِينَ، فَلَهُ الْأَرْبَعُونَ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْأُجْرَتَيْنِ وَهُوَ عِشْرُونَ. قُلْتُ: وَإِذَا حَصَدَ الْمُسْتَأْجِرُ مَا أَذِنَ فِيهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ، لَزِمَهُ قَلْعُ مَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْ قَصَبِ الزَّرْعِ وَعُرُوقِهِ، لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ، فَلَزِمَهُ إِزَالَتُهُ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ، صَاحِبُ الْبَيَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى: إِذَا اكْتَرَى لِلرُّكُوبِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: عَلَى الْمُؤَجِّرِ الْإِكَافُ وَالْبَرْذَعَةُ، وَالْحِزَامُ، وَالثَّفَرُ، وَالْخِطَامُ، وَالْبُرَةُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الرُّكُوبِ دُونَهَا. وَالْعُرْفُ مُطَّرِدٌ بِكَوْنِهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ. وَفِي السَّرْجِ إِذَا اكْتَرَى الْفَرَسَ أَوْجُهٌ. ثَالِثُهَا: اتِّبَاعُ الْعَادَةِ. قُلْتُ: صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ اتِّبَاعَ الْعَادَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْعُبَّادِيُّ فِي (الرَّقْمِ) : لَا يَلْزَمُ مُكْرِي الدَّابَّةِ إِلَّا تَسْلِيمُهَا عَارِيَةً، وَالْآلَاتُ كُلُّهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: مَا عَدَا السَّرْجَ وَالْإِكَافَ وَالْبَرْذَعَةَ، فَعَلَى الْمُؤَجِّرِ. وَأَمَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ عَيْنَ الدَّابَّةِ، فَهِيَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَضْمَنُ لَوْ رَكِبَ بِغَيْرِ إِكَافٍ وَسَرْجٍ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ، فَعَلَى الْمُؤَجِّرِ، لِأَنَّهَا لِلتَّمْكِينِ مِنَ الِانْتِفَاعِ. أَمَّا مَا هُوَ لِلتَّسْهِيلِ عَلَى الرَّاكِبِ، كَالْمَحْمَلِ، وَالْمِظَلَّةِ، وَالْوِطَاءِ، وَالْغِطَاءِ، وَالْحَبْلِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْمَحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَالَّذِي يُشَدُّ بِهِ أَحَدُ الْمَحْمَلَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، [فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْعُرْفُ مُضْطَرِدٌ بِهِ، وَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَجْهٌ فِي الْحَبْلِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ أَنَّهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ شَاذٌّ بَعِيدٌ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الْمَحْمَلَ وَسَائِرَ تَوَابِعِهِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَأَمَّا شَدُّ أَحَدِ الْمَحْمَلَيْنِ إِلَى الْآخَرِ] ، فَهَلْ هُوَ عَلَى الْمُكْرِي كَالشَّدِّ عَلَى الْحَمْلِ؟ أَمْ عَلَى الْمُكْتَرِي لِأَنَّهُ إِصْلَاحُ مِلْكِهِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا إِذَا أَطْلَقَا الْعَقْدَ، أَمَّا إِذَا قَالَ: أَكْرَيْتُكَ هَذِهِ الدَّابَّةَ الْعَارِيَةَ بِلَا حِزَامٍ وَلَا إِكَافٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنَ الْآلَاتِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اكْتَرَى لِلْحَمْلِ، فَالْوِعَاءُ الَّذِي يُنْقَلُ فِيهِ الْمَحْمُولُ، عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إِنْ وَرَدَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِ الدَّابَّةِ. وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ إِنْ وَرِثَ عَلَى الذِّمَّةِ. وَالدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِلِاسْتِقَاءِ كَالْوِعَاءِ فِي الْحَمْلِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالِاسْتِقَاءِ بِآلَاتِ نَفْسِهِ، لَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهَا، وَهَذَا يَجِبُ طَرْدُهُ فِي الْوِعَاءِ. وَرَأَى الْإِمَامُ فِي إِجَارَةِ الذِّمَّةِ، الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْغَرَضَ مُطْلَقًا وَلَا يَتَعَرَّضَ لِلدَّابَّةِ فَتَكُونُ الْآلَاتُ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهَا بِالْوَصْفِ وَحِينَئِذٍ يَتَّبِعُ الْعَادَةَ. فَإِنِ اضْطَرَبَتِ، احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ. وَإِذَا رَأَيْنَا اتِّبَاعَ الْعَادَةِ، فَاضْطَرَبَتْ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ التَّقْيِيدُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مُؤْنَةُ الدَّلِيلِ وَسَائِقِ الدَّابَّةِ وَقَائِدِهَا وَالْبَذْرَقَةِ وَحِفْظِ الْمَتَاعِ فِي الْمَنْزِلِ، كَالْوِعَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الطَّعَامُ الْمَحْمُولُ لِيُؤْكَلَ فِي الطَّرِيقِ، كَسَائِرِ الْمَحْمُولَاتِ فِي اشْتِرَاطِ رُؤْيَتِهِ أَوْ تَقْدِيرِهِ بِالْوَزْنِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ تَقْدِيرُهُ، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْعَادَةِ. فَعَلَى الصَّحِيحِ: لَا يُشْتَرَطُ تَقْدِيرُ مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ، لِصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا قَدَّرَهُ وَحَمَلَهُ، فَإِنَ شَرَطَ أَنَّهُ يُبَدِّلُهُ كُلَّمَا نَقَصَ، أَوْ لَا يُبَدِّلُهُ، اتَّبَعَ الشَّرْطَ، وَإِلَّا، فَإِنْ فَنِيَ بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ بِسَرِقَةٍ أَوْ تَلَفٍ، فَلَهُ الْإِبْدَالُ كَسَائِرِ الْمَحْمُولَاتِ. وَإِنْ فَنِيَ بِالْأَكْلِ، فَإِنْ فَنِيَ كُلُّهِ، أَبْدَلَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ فَنِيَ بَعْضُهُ، أَبْدَلَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيُقَالُ: الْأَصَحُّ. وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ، إِذَا كَانَ يَجِدُ الطَّعَامَ فِي الْمَنَازِلِ الْمُسْتَقْبِلَةِ بِسِعْرِ الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدْهُ، أَوْ وَجَدَهُ بِأَعْلَى، فَلَهُ

الْإِبْدَالُ قَطْعًا. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ تَقْدِيرُ الزَّادِ وَحَمْلِ مَا يُعْتَادُ لِمِثْلِهِ، لَمْ يُبَدِّلْهُ حَتَّى يَفْنَى كُلُّهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. الرَّابِعَةُ: إِذَا اكْتَرَى لِلرُّكُوبِ فِي الذِّمَّةِ، لَزِمَ الْمُؤَجِّرُ الْخُرُوجَ مَعَ الدَّابَّةِ لِسَوْقِهَا، وَتَعَهُّدِهَا، وَإِعَانَةِ الرَّاكِبِ فِي الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ. وَتُرَاعَى الْعَادَةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَانَةِ. فَيُنِيخُ الْبَعِيرَ لِلْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ يَصْعُبُ عَلَيْهَا النُّزُولُ وَالرُّكُوبُ مَعَ قِيَامِ الْبَعِيرِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ ضَعِيفًا لِمَرَضٍ أَوْ شَيْخُوخَةٍ، أَوْ كَانَ مُفْرِطَ السِّمَنِ، أَوْ نَضْوَ الْخَلْقِ، يُنِيخُ لَهُ الْبَعِيرَ، وَيُقَرِّبُ الْبَغْلَ وَالْحِمَارَ مِنْ نَشَزٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الرُّكُوبُ، وَالِاعْتِبَارُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ بِحَالِ الرُّكُوبِ، لَا بِحَالِ الْعَقْدِ. وَإِذَا اكْتَرَى لِلْحَمْلِ فِي الذِّمَّةِ، لَزِمَ الْمُؤَجِّرُ رَفْعَ الْحَمْلِ وَحَطَّهُ وَشَدَّ الْمَحْمَلِ وَحَلَّهُ. وَفِي شَدِّ أَحَدِ الْمَحْمَلَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَهُمَا بُعُدٌ عَلَى الْأَرْضِ، الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ قَرِيبًا. وَيُقِفُ الدَّابَّةَ لِيَنْزِلَ الرَّاكِبُ لِمَا لَا يَتَهَيَّأُ عَلَيْهَا، كَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَالْوُضُوءِ، وَصَلَاةِ الْفَرْضِ. وَإِذَا نَزَلَ انْتَظَرَهُ الْمُكْرِي لِيَفْرُغَ مِنْهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّخْفِيفِ، وَلَا الْقَصْرُ وَلَا الْجَمْعُ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِبْطَاءُ وَلَا التَّطْوِيلُ. قَالَ الرُّوْيَانِيُّ: وَلَهُ النُّزُولُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِيَنَالَ فَضْلَهُ، وَلَا يُقِفُهَا لِلنَّوَافِلِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، لِإِمْكَانِهَا عَلَى الدَّابَّةِ. وَإِنْ وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى دَابَّةٍ بِعَيْنِهَا، فَالَّذِي عَلَى الْمُؤَجِّرِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنِهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى الرُّكُوبِ وَلَا الْحَمْلِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي نَوْعَيِ الْإِجَارَةِ. وَحَكَى الْإِمَامُ مَعَ هَذَا، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِنْ قَالَ فِي إِجَارَةِ الذِّمَّةِ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ تَبْلِيغِي مَوْضِعَ كَذَا، لَزِمَهُ الْإِعَانَةُ. وَإِنْ قَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ مَنْفَعَةَ دَابَّةٍ صِفَتُهَا كَذَا، لَمْ تَلْزَمْهُ. وَالثَّانِي: تَجِبُ الْإِعَانَةُ عَلَى الرُّكُوبِ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ أَيْضًا. وَالثَّالِثُ: تَجِبُ لِلْحَمْلِ فِي نَوْعَيِ الْإِجَارَةِ، لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ بِالْإِعَانَةِ عَلَى الْحَطِّ وَالْحَمْلِ وَإِنِ اضْطَرَبَتْ فِي الرُّكُوبِ. وَرَفْعُ الْمَحْمَلِ وَحَطُّهُ كَالْحَمْلِ.

فَرْعٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِذَا اخْتَلَفَا فِي الرَّحْلَةِ، رحَلَ لَا مَكْبُوبًا وَلَا مُسْتَلْقِيًا. قِيلَ: الْمَكْبُوبُ أَنْ يَجْعَلَ مُقَدَّمَ الْمَحْمَلِ أَوِ الزَّامِلَةَ أَوْسَعَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ، وَالْمُسْتَلْقِي عَكْسُهُ. وَقِيلَ: الْمَكْبُوبُ بِأَنْ يُضَيِّقَ الْمُقَدَّمَ وَالْمُؤَخَّرَ جَمِيعًا، وَالْمُسْتَلْقِي أَنْ يُوَسِّعَهُمَا جَمِيعًا. وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ، الْمَكْبُوبُ أَسْهَلُ عَلَى الدَّابَّةِ، وَالْمُسْتَلْقِي أَسْهَلُ عَلَى الرَّاكِبِ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِمَا، حُمِلَا عَلَى الْوَسَطِ الْمُعْتَدِلِ، وَكَذَا إِذَا اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّةِ الْجُلُوسِ. فَرْعٌ لَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ مَنْعُ الرَّاكِبِ مِنَ النَّوْمِ فِي وَقْتِهِ. وَيَمْنَعُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ النَّائِمَ يَثْقُلُ، قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ. فَرْعٌ قَدْ يَعْتَادُ النُّزُولَ وَالْمَشْيَ لِلْإِرَاحَةِ، فَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَنْزِلَ أَوْ لَا يَنْزِلَ، اتُّبِعَ الشَّرْطُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَعْرِضُ فِي شَرْطِ النُّزُولِ إِشْكَالٌ، لِانْقِطَاعِ الْمَسَافَةِ، وَيَقَعُ فِي كِرَاءِ الْعُقَبِ. قَالَ: لَكِنَّ الْأَصْحَابَ احْتَمَلُوهُ لِلْحَاجَةِ. وَإِنْ أَطْلَقَا، لَمْ يَجِبِ النُّزُولُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالْمَرِيضِ. وَفِي الرَّجُلِ الْقَوِيِّ وَجْهَانِ، لِتَعَارُضِ اللَّفْظِ وَالْعَادَةِ. وَهَكَذَا حُكْمُ النُّزُولِ عِنْدَ الْعَقَبَاتِ الصِّعَابِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفِي مَعْنَى الْمَرْأَةِ وَالْمَرِيضِ، الشَّيْخُ الْعَاجِزُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ كَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَشُهْرَةٌ يُخِلُّ بِمُرُوءَتِهِ فِي الْعَادَةِ الْمَشْيُ. ثُمَّ الْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِي طَرِيقٍ يَعْتَادُ النُّزُولَ فِيهِ لِإِرَاحَةِ الدَّابَّةِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً، لَمْ يَجِبْ مُطْلَقًا، وَلَمْ نُصَحِّحْ شَيْئًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الرَّجُلِ الْقَوِيِّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ وُجُوبَ النُّزُولِ عِنْدَ الْعَقَبَاتِ، دُونَ الْإِرَاحَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ إِذَا اكْتَرَى دَابَّةً إِلَى بَلَدٍ، فَبَلَغَ عُمْرَانَهُ، فَلِلْمُؤَجِّرِ أَخْذُ دَابَّتِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَبْلِيغُهُ دَارَهُ. وَلَوِ اكْتَرَى إِلَى مَكَّةَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ تَتْمِيمُ الْحَجِّ عَلَيْهَا. وَإِنِ اكْتَرَاهَا لِلْحَجِّ، رَكِبَهَا إِلَى مِنًى ثُمَّ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ مِنًى، ثُمَّ مَكَّةَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ. وَهَلْ يَرْكَبُهَا إِلَى مَكَّةَ رَاجِعًا إِلَى مِنًى لِلرَّمْيِ وَالطَّوَافِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصَحُّهُمَا اسْتِحْقَاقَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَفْرُغْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَحَلَّلَ. وَمِنْ مَسَائِلِ هَذَا النَّوْعِ لَوْ طَلَبَ أَحَدُ الْمُتَكَارِيَيْنِ مُفَارَقَةَ الْقَافِلَةِ بِالتَّقَدُّمِ أَوِ التَّأَخُّرِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا بِرِضَى صَاحِبِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا اكْتَرَى دَابَّةً بِعَيْنِهَا، فَتَلِفَتِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَإِنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَهُ الْخِيَارُ. وَالْعَيْبُ، مِثْلُ أَنْ تَتَعَثَّرَ فِي الْمَشْيِ، أَوْ لَا تُبْصِرَ فِي اللَّيْلِ، أَوْ يَكُونَ بِهَا عَرَجٌ تَتَخَلَّفُ بِهِ عَنِ الْقَافِلَةِ. وَمُجَرَّدُ خُشُونَةِ الْمَشْيِ، لَيْسَ بِعَيْبٍ. وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، وَسَلَّمَ دَابَّةً وَتَلِفَتْ، لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ. وَإِنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ، وَلَكِنْ عَلَى الْمُؤَجِّرِ إِبْدَالُهَا. ثُمَّ الدَّابَّةُ الْمُسَلَّمَةُ عَنِ الْإِجَارَةِ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ بِتَلَفِهَا، فَإِنَّهُ ثَبَتَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا حَقُّ الِاخْتِصَاصِ، حَتَّى يَجُوزَ لَهُ إِجَارَتُهَا. وَلَوْ أَرَادَ الْمُؤَجِّرُ إِبْدَالَهَا، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ دُونَ إِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْمَنْعُ، لِمَا فِيهَا مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ. وَالثَّانِي قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ: إِنِ اعْتَمَدَ بِاللَّفْظِ الدَّابَّةَ، بِأَنْ قَالَ: أَجَّرْتُكَ دَابَّةً صِفَتُهَا كَذَا، لَمْ يَجُزِ الْإِبْدَالُ. وَإِنْ لَمْ يَعْتَمِدْهَا، بَلْ قَالَ: الْتَزَمْتُ إِرْكَابَكَ دَابَّةً صِفَتُهَا كَذَا، جَازَ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ

فصل

مَا إِذَا أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ بَعْدَ تَعْيِينٍ عَنْ إِجَارَةِ الذِّمَّةِ، هَلْ يَتَقَدَّمُ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَنْفَعَتِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْلِيسِ. وَالْأَصَحُّ: التَّقَدُّمُ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ حَقِّهِ فِي إِجَارَةِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَسَلَّمَ دَابَّةً، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، جَازَ، لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقٍّ فِي عَيْنٍ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ يُفِيدُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْعَيْنِ، فَيَمْتَنِعُ الْإِبْدَالُ دُونَ رِضَاهُ. فَصْلٌ نَذْكُرُ فِيهِ قَوْلًا جَمْلِيًّا فِي إِبْدَالِ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ الْمَطْلُوبَةُ فِي الْعَقْدِ، لَهَا مُسْتَوْفٍ، مُسْتَوْفًى مِنْهُ، وَمُسْتَوْفًى بِهِ، فَأَمَّا الْمُسْتَوْفِي وَهُوَ مُسْتَحِقُّ الِاسْتِيفَاءِ، فَلَهُ أَنْ يُبَدِّلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا اسْتَأْجَرَ، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ، فَلَهُ أَنْ يُرْكِبَهَا مِثْلَ نَفْسِهِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ وَمَنْ هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ يُلْبِسَ الثَّوْبَ مِثْلَهُ، وَيُسْكِنَ الدَّارَ، دُونَ الْقَصَّارِ وَالْحَدَّادِ، لِزِيَادَةِ الضَّرَرِ. وَكَذَا إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِحَمْلِ الْقُطْنِ، فَلَهُ حَمْلُ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ. أَوْ لِحَمْلِ الْحَدِيدِ، فَلَهُ حَمْلُ النُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ لِلْحَمْلِ، فَأَرَادَ إِرْكَابَ مَنْ لَا يَزِيدُ وَزْنُهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمَحْمُولِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ الصَّنْعَةِ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يَتَفَاوَتُ الضَّرَرُ، جَازَ، وَإِنْ قَالُوا: يَتَفَاوَتُ، لَمْ يَجُزْ. وَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ لِلرُّكُوبِ فَأَرَادَ الْحَمْلَ. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا فِي «التَّهْذِيبِ» . وَأَمَّا الْمُسْتَوْفَى مِنْهُ، فَهُوَ الدَّارُ وَالدَّابَّةُ الْمُعَيَّنَةُ، وَالْأَجِيرُ الْمُعَيَّنُ، وَلَا يَجُوزُ إِبْدَالُهُ كَمَا لَا يُبَدَّلُ الْمَبِيعُ. وَأَمَّا الْمُسْتَوْفَى بِهِ، فَهُوَ كَالثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ لِلْخِيَاطَةِ وَالصَّبِيِّ الْمُعَيَّنِ لِلْإِرْضَاعِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالْأَغْنَامِ الْمُعَيَّنَةِ لِلرَّعْيِ. وَفِي إِبْدَالِهِ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْمُتَوَلِّي

فصل

الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ كَالرَّاكِبِ. وَالْخِلَافُ جَارٍ فِي انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِتَلَفِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْمُدَّةِ، وَمَيْلُ الْعِرَاقِيِّينَ إِلَى تَرْجِيحِ الِانْفِسَاخِ، وَقَالُوا: هُوَ الْمَنْصُوصُ. وَالثَّانِي: مُخَرَّجٌ. وَسَنَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ إِيضَاحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَابِ الثَّالِثِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَلْتَقِمِ الصَّبِيُّ الْمُعَيَّنُ ثَدْيَهَا، فَعَلَى رَأْيٍ، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَعَلَى رَأْيٍ، يُبَدَّلُ. فَصْلٌ اسْتِئْجَارُ الثِّيَابِ لِلُّبْسِ، وَالْبُسُطِ وَالزَّلَالِيِّ لِلْفِرَاشِ، وَاللُّحُفِ لِلِالْتِحَافِ، جَائِزٌ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ مُدَّةً، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنَامَ فِيهِ بِاللَّيْلِ. وَهَلْ لَهُ النَّوْمُ فِيهِ [فِي] وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: جَوَازُهُ لِلْعَادَةِ. لَكِنْ لَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ الْقَمِيصَ الْفَوْقَانِيَّ، لَزِمَهُ نَزْعُهُ بَلْ يَلْزَمُهُ نَزْعُهُ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ الْخَلْوَةِ، وَإِنَّمَا تُلْبَسُ ثِيَابُ التَّجَمُّلِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ فِيهَا بِالتَّجَمُّلِ، كَحَالَةِ الْخُرُوجِ إِلَى السُّوقِ وَنَحْوِهِ، وَدُخُولِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ الِاتِّزَارُ بِمَا يَسْتَأْجِرُ لِلُّبْسِ، وَيَجُوزُ الِارْتِدَاءُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ لِلِارْتِدَاءِ، لَمْ يَجُزِ الِاتِّزَارُ، وَيَجُوزُ التَّعَمُّمُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي النَّوْمِ فِي الثَّوْبِ، هُوَ الَّذِي أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ، إِلَّا قَوْلَهُ: هَلْ يَجُوزُ النَّوْمُ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ؟ فَإِنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا: يَجُوزُ النَّوْمُ فِيهِ بِالنَّهَارِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْقَيْلُولَةِ، وَلَكِنْ ضَبَطَهُ الصَّيْمَرِيُّ فَقَالَ: إِنْ نَامَ سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ، جَازَ، لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ. وَإِنْ نَامَ أَكْثَرَ النَّهَارِ، لَمْ يَجُزْ. قَالُوا: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ لِلُّبْسِ مُطْلَقًا، فَلَهُ لُبْسُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا إِذَا كَانَ مُسْتَيْقِظًا قَطْعًا. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ لِلُّبْسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيَالِيَ، فَالصَّحِيحُ دُخُولُ اللَّيَالِي. وَقِيلَ: لَا تَدْخُلُ، حَكَيَاهُ فِي

«الْعُدَّةِ» وَ «الْبَيَانِ» . وَإِذَا اسْتَأْجَرَ يَوْمًا كَامِلًا، فَوَقْتُهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَإِنْ قَالَ: يَوْمًا، وَأَطْلَقَ، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: كَانَ مِنْ وَقْتِهِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْغَدِ. وَإِنِ اسْتَأْجَرَ نَهَارَ يَوْمٍ، قَالَ فِي الْبَيَانِ: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْمَرِيُّ. أَحَدُهُمَا: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَالثَّانِي: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ فِي الْأَمَانَةِ وَالضَّمَانِ. مَالُ الْإِجَارَةِ، تَارَةً يَكُونُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَتَارَةً فِي يَدِ الْأَجِيرِ عَلَى الْعَمَلِ. وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ، فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: يَدُهُ عَلَى الدَّابَّةِ وَالدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ مِنْهَا بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَتَقْصِيرٍ وَهَلْ يَضْمَنُ مَا يُتْلَفُ فِي يَدِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ هَلْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الرَّدُّ وَمُؤْنَتُهُ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: لَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمَالِكِ وَبَيْنَهَا إِذَا طَلَبَ، لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ. وَأَقْرَبُهُمَا إِلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَلْزَمُهُ الرَّدُّ وَمُؤْنَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْمَالِكُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَلِأَنَّهُ أَخَذَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُسْتَعِيرَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الرَّدَّ، لَزِمَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَقَالَ: مَنْ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ شَرْطُهُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الرَّدُّ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ بِعُذْرٍ. قُلْتُ: صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، ضَمَانُهُ أُجْرَةَ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَتْلَفُ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ. فَإِنْ أَلْزَمْنَاهُ الرَّدَّ، ضَمَّنَّاهُ، وَإِلَّا، فَلَا.

قُلْتُ: وَفِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ، الْقَطْعُ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ إِذَا انْفَسَخَتْ بِسَبَبٍ، لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرُ ضَمَانَ الْمَنَافِعِ التَّالِفَةِ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا عَلِمَ الْمَالِكُ بِأَنَّهَا انْفَسَخَتْ، وَإِلَّا، فَيَجِبُ أَنْ يُعْلِمَهُ. وَإِذَا لَمْ يُعْلِمْهُ، كَانَ مُقَصِّرًا ضَامِنًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ غُصِبَتِ الدَّابَّةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مَعَ دَوَابِّ الرُّفْقَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ فِي الطَّلَبِ، وَلَمْ يَذْهَبِ الْمُسْتَأْجِرُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَلْزَمْنَاهُ، فَإِنِ اسْتَرَدَّ مَنْ ذَهَبَ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَا غَرَامَةٍ، ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمُتَخَلِّفُ. وَإِنْ لَحِقَهُ غَرَامَةٌ وَمَشَقَّةٌ، لَمْ يَضْمَنْ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ الْعُبَّادِيُّ. فَرْعٌ لَوِ اسْتَأْجَرَ قِدْرًا مُدَّةً لِيَطْبُخَ فِيهَا، ثُمَّ حَمَلَهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ لِيَرُدَّهَا، فَسَقَطَ الْحِمَارُ فَانْكَسَرَتْ، قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: إِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِلُّ بِحَمْلِهَا، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ كَانَ يَسْتَقِلُّ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، سَوَاءٌ أَلْزَمْنَاهُ الرَّدَّ، أَمْ لَا، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقِدْرَ لَا تَرِدُ بِالْحِمَارِ مَعَ اسْتِقْلَالِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ حَمَّالٍ بِهَا. المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الدَّابَّةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ لِلْحَمْلِ أَوِ الرُّكُوبِ، إِذَا رَبَطَهَا الْمُسْتَأْجِرُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا فِي الْمُدَّةِ، فَالْقَوْلُ فِي اسْتِقْرَارِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَوْ مَاتَتْ فِي الْإِصْطَبْلِ. فَلَوِ انْهَدَمَ عَلَيْهَا فَهَلَكَتْ بِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَوْ خَرَجَ بِهَا أَنْ يَكُونَ فِي الطَّرِيقِ، وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا. وَإِنْ كَانَ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ السَّقْفِ، كَجُنْحِ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاءِ، فَلَا ضَمَانَ.

فصل

فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَالُ فِي يَدِ الْأَجِيرِ، كَالثَّوْبِ إِذَا اسْتُؤْجِرَ لِخِيَاطَتِهِ أَوْ صَبْغِهِ أَوْ قِصَارَتِهِ، وَالْعَبْدِ إِذَا اسْتُؤْجِرَ لِتَعْلِيمِهِ أَوْ لِرِضَاعِهِ، وَالدَّابَّةِ إِذَا اسْتُؤْجِرَ لِرِيَاضَتِهَا. فَإِذَا تَلِفَ وَالْأَجِيرُ مُنْفَرِدٌ بِالْيَدِ، فَهُوَ، إِمَّا أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَإِمَّا مُنْفَرِدٌ. وَالْمُشْتَرَكُ: هُوَ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ فِي ذِمَّتِهِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ الْخَيَّاطِينَ وَالصَّوَّاغِينَ. فَإِذَا الْتَزَمَ لِوَاحِدٍ، أَمْكَنَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ لِغَيْرِهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَكَأَنَّهُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ النَّاسِ. وَالْمُنْفَرِدُ: هُوَ الَّذِي أَجَّرَ نَفْسَهُ مُدَّةً مُقَدَّرَةً لِعَمَلٍ، فَلَا يُمْكِنُهُ تَقَبُّلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ لِغَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَقِيلَ: الْمُشْتَرِكُ: هُوَ الَّذِي شَارَكَهُ فِي الرَّأْيِ فَقَالَ: اعْمَلْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شِئْتَ. وَالْمُنْفَرِدُ: هُوَ الَّذِي عُيِّنَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَمَوْضِعُهُ. أَمَّا الْمُشْتَرِكُ، فَهَلْ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ كَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَلِمِ. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يَضْمَنُ كَعَامِلِ الْقِرَاضِ. وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُ قَطْعًا. وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ، فَلَا يَضْمَنُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَجِيرُ مُنْفَرِدًا بِالْيَدِ، كَمَا إِذَا قَعَدَ الْمُسْتَأْجِرُ عِنْدَهُ حَتَّى عَمِلَ، أَوْ حَمَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ لِيَعْمَلَ، فَالْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: لَا ضَمَانَ، لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا اسْتَعَانَ بِهِ الْمَالِكُ، كَالِاسْتِعَانَةِ بِالْوَكِيلِ. وَعَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ وَالطَّبَرِيِّ، طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. وَحَيْثُ ضَمَّنَّا الْأَجِيرَ، فَالْوَاجِبُ أَقْصَى قِيمَةٍ مِنَ الْقَبْضِ إِلَى التَّلَفِ، أَمْ قِيمَةُ يَوْمِ التَّلَفِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ الْأَجِيرُ، فَإِنْ تَعَدَّى، وَجَبَ الضَّمَانُ قَطْعًا، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ

فصل

يُسْرِفَ عَلَى الْخُبْزِ فِي الْإِيقَادِ وَيُلْصِقَ الْخُبْزَ قَبْلَ وَقْتِهِ، أَوْ يَتْرُكَهُ فِي التَّنُّورِ فَوْقَ الْعَادَةِ حَتَّى يَحْتَرِقَ، أَوْ ضَرَبَ عَلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ الصَّبِيَّ فَمَاتَ، لِأَنَّ تَأْدِيبَهُ بِغَيْرِ الضَّرْبِ مُمْكِنٌ. وَمَتَى اخْتَلَفَا فِي التَّعَدِّي وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ، عَمِلْنَا بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْهُمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ. وَمَتَى تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ بَعْدَ تَعَدِّيهِ، فَالْوَاجِبُ أَقْصَى قِيمَةٍ مِنْ وَقْتِ التَّعَدِّي إِلَى التَّلَفِ إِنْ لَمْ يَضْمَنِ الْأَجِيرُ. فَإِنْ ضَمَّنَّاهُ، فَأَقْصَى قِيمَةٍ مِنَ الْقَبْضِ إِلَى التَّلَفِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا جَوَابًا عَلَى قَوْلِنَا: يَضْمَنُ بِأَقْصَى قِيمَةٍ مِنَ الْقَبْضِ إِلَى التَّلَفِ. فَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: يَضْمَنُ قِيمَةَ يَوْمِ التَّلَفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ هُنَا أَقْصَى قِيمَةٍ مِنَ التَّعَدِّي إِلَى التَّلَفِ. قُلْتُ: هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ، مُتَعَيَّنٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ الْأَصْحَابُ: إِذَا حَجَمَهُ أَوْ خَتَنَهُ فَتَلِفَ، إِنْ كَانَ الْمَحْجُومُ وَالْمَخْتُونُ حُرًّا، فَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، نُظِرَ فِي انْفِرَادِ الْحَاجِمِ بِالْيَدِ وَعَدَمِ انْفِرَادِهِ، وَأَنَّهُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، أَمْ لَا؟ وَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ مُطْلَقًا إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ. وَكَذَا الْبَيْطَارُ إِذَا بَزَغَ الدَّابَّةَ فَتَلِفَتْ، وَالرَّاعِي الْمُنْفَرِدُ كَذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوِ اكْتَرَاهُ لِيَحْفَظَ مَتَاعَهُ فِي دُكَّانِهِ فَتَلِفَ، فَلَا ضَمَانَ [قَطْعًا] ، لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ الْمَالِكِ. فَصْلٌ إِذَا دَفَعَ ثَوْبًا إِلَى قَصَّارٍ لِيُقَصِّرَهُ، أَوْ خَيَّاطٍ لِيُخِيطَهُ، أَوْ جَلَسَ بَيْنَ يَدِي

حَلَّاقٍ لِيَحْلِقَ رَأْسَهُ، أَوْ دَلَّاكٍ لِيُدَلِّكَهُ، فَفَعَلَ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا ذِكْرُ أُجْرَةٍ وَلَا نَفْيُهَا، فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: لَا أُجْرَةَ لَهُ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَطْعِمْنِي خُبْزًا، فَأَطْعَمَهُ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ بَدَأَ الْمَعْمُولُ لَهُ فَقَالَ: افْعَلْ كَذَا، لَزِمَهُ الْأُجْرَةُ. وَإِنْ بَدَأَ الْعَامِلُ فَقَالَ: أَعْطِنِي ثَوْبًا لِأُقَصِّرَهُ، فَلَا أُجْرَةَ. وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ الْعَامِلُ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ الْعَمَلِ وَأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ لِلْعَادَةِ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ دَخَلَ سَفِينَةً بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا، وَسَارَ إِلَى السَّاحِلِ، لَزِمَهُ الْأُجْرَةُ. وَإِنْ كَانَ بِالْإِذْنِ وَلَمْ يَجْرِ ذِكْرُ الْأُجْرَةِ، فَعَلَى الْأَوْجُهِ. وَإِذَا لَمْ نُوجِبِ الْأُجْرَةَ، فَالثَّوْبُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْقَصَّارِ وَنَحْوِهِ. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا، فَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ. فَرْعٌ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْحَمَّامِيُّ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ ثَمَنُ الْمَاءِ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِحِفْظِ الثِّيَابِ وَإِعَارَةِ السَّطْلِ، فَعَلَى هَذَا، الثِّيَابُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْحَمَّامِيِّ، وَالسَّطْلُ مَضْمُونٌ عَلَى الدَّاخِلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَمَنُ الْمَاءِ وَأُجْرَةُ الْحَمَّامِ وَالسَّطْلِ. وَأَصَحُّهَا: أَنَّهُ أُجْرَةُ الْحَمَّامِ وَالسَّطْلِ وَالْإِزَارِ وَحِفْظِ الثِّيَابِ. وَأَمَّا الْمَاءُ، فَغَيْرُ مَضْبُوطٍ، وَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ. فَعَلَى هَذَا، السَّطْلُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الدَّاخِلِ، وَالْحَمَّامِيُّ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الثِّيَابِ، فَلَا يَضْمَنُ عَلَى الْمَذْهَبِ كَسَائِرِ الْأُجَرَاءِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الْأُجْرَةُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ وَلَمْ يَطَّرِدْ فِيهِ الْخِلَافُ، لِأَنَّ الدَّاخِلَ مُسْتَوْفٍ مَنْفَعَةَ الْحَمَّامِ بِسُكُونِهِ، وَهُنَاكَ صَاحِبُ الْمَنْفَعَةِ صَرَفَهَا.

فصل

فَصْلٌ إِذَا عَمِلَ الْأَجِيرُ، ثُمَّ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الَّتِي عَمِلَ عَلَيْهَا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْفَرِدًا بِالْيَدِ، بَلْ عَمِلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ، أَوْ فِي حَضْرَتِهِ، لَمْ تَسْقُطْ أُجْرَتُهُ. وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْيَدِ، بِأَنْ سَلَّمَ الثَّوْبَ إِلَى قَصَّارٍ فَقَصَّرَهُ، ثُمَّ تَلِفَ عِنْدَهُ، بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي بَابِ التَّفْلِيسِ، أَنَّ الْقِصَارَةَ عَيْنٌ، أَمْ أَثَرٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: أَثَرٌ، لَمْ تَسْقُطِ الْأُجْرَةُ، ثُمَّ إِنْ ضَمَّنَّا الْأَجِيرَ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ثَوْبٍ مَقْصُورٍ، وَإِلَّا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، سَقَطَتْ أُجْرَتُهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ إِنْ ضَمَّنَّا الْأَجِيرَ أَوْ وُجِدَ مِنْهُ تَعَدٍّ، وَإِلَّا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ الثَّوْبَ الْمَقْصُورَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقِصَارَةُ أَثَرٌ، فَلِلْأَجِيرِ الْأُجْرَةُ، وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ الْقِيمَةُ. ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى قَوْلِ تَضْمِينِ الْأَجِيرِ، يَتَخَيَّرُ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْأَجِيرِ وَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْقَرَارُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، جَاءَ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَلِفَ، وَإِلَّا، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَإِجَازَتِهَا. فَإِنْ أَجَازَ وَلَمْ يُضَمِّنِ الْأَجِيرَ، اسْتَقَرَّتْ [لَهُ] الْأُجْرَةُ، وَالْمُسْتَأْجِرُ يُغَرِّمُ الْأَجْنَبِيَّ قِيمَةَ ثَوْبٍ مَقْصُورٍ. وَإِنْ ضَمَّنَّاهُ، فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَجْنَبِيَّ قِيمَةَ ثَوْبٍ مَقْصُورٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَجْنَبِيَّ قِيمَةَ الْقِصَارَةِ، وَالْأَجِيرَ قِيمَةَ ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ، ثُمَّ الْأَجِيرُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ فَسَخَ الْإِجَارَةَ، فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ وَيُغَرِّمُ الْأَجْنَبِيَّ قِيمَةَ ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ. وَإِنْ ضَمَّنَّا الْأَجِيرَ، غَرَّمَ الْقِيمَةَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَالْقَرَارُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَيُغَرِّمُ الْأَجْنَبِيُّ الْأَجِيرَ قِيمَةَ الْقِصَارَةِ. وَلَوْ أَتْلَفَ الْأَجِيرُ الثَّوْبَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقِصَارَةُ أَثَرٌ، فَلَهُ الْأُجْرَةُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ ثَوْبٍ مَقْصُورٍ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، جَاءَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ إِتْلَافَ الْبَائِعِ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، أَمْ كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ؟ إِنْ قُلْنَا: كَالْآفَةِ، فَالْحُكْمُ مَا سَبَقَ. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْأَجْنَبِيِّ، وَأَثْبَتْنَا لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارَ، فَإِنْ فَسَخَ الْإِجَارَةَ، سَقَطَتِ الْأُجْرَةُ وَعَلَى الْأَجِيرِ قِيمَةُ ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ.

فصل

وَإِنْ أَجَازَهَا، اسْتَقَرَّتِ الْأُجْرَةُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ ثَوْبٍ مَقْصُورٍ. وَصَبْغُ الثَّوْبِ بِصَبْغِ صَاحِبِ الثَّوْبِ كَالْقَصَّارِ. وَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَصْبُغَ بِصَبْغٍ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ. وَسَوَاءٌ صَحَّ، أَمْ لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا هَلَكَ الثَّوْبُ عِنْدَهُ، سَقَطَتْ قِيمَةُ الصَّبْغِ. وَسُقُوطُ الْأُجْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْقِصَارَةِ. فَرْعٌ سَلَّمَ ثُوبًا إِلَى قَصَّارٍ لِيُقَصِّرَهُ، فَجَحَدَهُ ثُمَّ أَتَى بِهِ مَقْصُورًا، اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ إِنْ قَصَّرَهُ ثُمَّ جَحَدَ، [وَإِنْ جَحَدَ] ثُمَّ قَصَّرَهُ، فَوَجْهَانِ، لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصَحُّهُمَا: الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ لِنَفْسِهِ فَلَا أُجْرَةَ، أَوْ يَقْصِدَ عَمَلَهُ عَنِ الْإِجَارَةِ الْوَاجِبَةِ فَيَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الْمُسْتَأْجِرُ يَضْمَنُ بِالتَّعَدِّي، بِأَنْ ضَرَبَ الدَّابَّةَ أَوْ كَبَحَهَا فَوْقَ الْعَادَةِ، وَعَادَةُ الضَّرْبِ تَخْتَلِفُ فِي حَقِّ الرَّاكِبِ، وَالرَّائِضِ، وَالرَّاعِي، فَكَلٌّ يُرَاعَى فِيهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ فِي الْأَجِيرِ لِلرِّيَاضَةِ وَالرَّعِي مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي الْمُسْتَأْجِرِ لِلرُّكُوبِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الْمُعْتَادُ، إِذَا أَفْضَى إِلَى تَلَفٍ، فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا، وَيُخَالِفُ ضَرْبَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَأْدِيبُهَا بِغَيْرِ الضَّرْبِ. وَلَوْ نَامَ بِاللَّيْلِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، أَوْ نَقَلَ فِيهِ التُّرَابَ، أَوْ أَلْبَسَهُ عَصَّارًا، أَوْ دَبَّاغًا، أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّنْ هُوَ دُونَ حَالِهِ، أَوْ أَسْكَنَ الدَّارَ قَصَّارًا أَوْ حَدَّا دًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّنْ هُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْهُ، أَوْ أَرْكَبَ

الدَّابَّةَ أَثْقَلَ مِنْهُ، وَجَبَ الضَّمَانُ، وَقَرَارُهُ عَلَى الثَّانِي إِنْ كَانَ عَالِمًا، وَإِلَّا، فَعَلَى الْأَوَّلِ. وَإِنْ أَرْكَبَهَا مِثْلَهُ، فَجَاوَزَ الْعَادَةَ فِي الضَّرْبِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ. وَلَوِ اكْتَرَى لِمِائَةِ رِطْلِ حَدِيدٍ، فَحَمَلَ مِائَةً مِنَ الْقُطْنِ أَوِ التِّبْنِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ مِائَةَ رِطْلِ حِنْطَةٍ، فَحَمَلَ مِائَةَ رِطْلِ شَعِيرٍ أَوْ عَكْسُهُ، ضَمِنَ، لِأَنَّ الشَّعِيرَ أَخَفُّ، وَمَأْخَذُهُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرُ، وَالْحِنْطَةُ يَجْتَمِعُ ثِقَلُهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَكَذَا الْقُطْنُ وَالْحَدِيدُ. وَلَوِ اكْتَرَى لِعَشَرَةِ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ، فَحَمَلَ عَشَرَةً شَعِيرًا، لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ قَدْرَهُمَا فِي الْحَجْمِ سَوَاءٌ، وَالشَّعِيرَ أَخَفُّ، وَبِالْعَكْسِ يَضْمَنُ. وَلَوِ اكْتَرَى لِيَرْكَبَ بِسَرْجٍ، فَرَكِبَ بِلَا شَيْءٍ أَوْ عَكْسُهُ، ضَمِنَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَضَرُّ بِالدَّابَّةِ، وَالثَّانِي زِيَادَةٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ. وَلَوِ اكْتَرَى لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا بِالْإِكَافِ، فَحَمَلَ بِالسَّرْجِ، ضَمِنَ، لِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَيْهَا، وَبِالْعَكْسِ لَا يَضْمَنُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَثْقَلَ، وَلَوِ اكْتَرَى لِيَرْكَبَ بِالسَّرْجِ، فَرَكِبَ بِالْإِكَافِ، ضَمِنَ، وَبِالْعَكْسِ لَا يَضْمَنُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَثْقَلَ، وَقِسْ عَلَى [هَذَا] أَشْبَاهَهُ. فَرْعٌ لَوِ اكْتَرَى دَابَّةً لِحَمْلِ مِقْدَارٍ سَمَّيَاهُ، فَكَانَ الْمَحْمُولُ أَكْثَرَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الَكَيْلَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْمَبْلَغِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ، بِأَنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ عَشَرَةَ آصُعٍ، وَالْمَحْمُولُ أَحَدَ عَشَرَ، فَلِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: إِذَا كَالَ الْمُسْتَأْجِرُ الطَّعَامَ، وَحَمَلَهُ هُوَ عَلَيْهَا، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا زَادَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ: عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْجَمِيعِ. وَفِي قَوْلٍ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَمَا دَخَلَ الدَّابَّةَ مِنْ نَقْصٍ وَبَيْنَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَفِي قَوْلٍ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِلزِّيَادَةِ وَبَيْنَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِلْجَمِيعِ. فَلَوْ تَلِفَتِ الْبَهِيمَةُ بِالْحَمْلِ، فَإِنَّ انْفِرَادَ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْيَدِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا صَاحِبُهَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا صَاحِبُهَا، فَهَلْ

يَلْزَمُهُ كُلُّ الْقِيمَةِ، أَمْ نِصْفُهَا، أَمْ قِسْطُ الزِّيَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْقِيمَةِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا: الثَّالِثُ، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، أَنَّ الثَّانِي أَظْهَرُ. وَلَوْ تَلِفَتِ الدَّابَّةُ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْحَمْلِ، ضَمِنَ عِنْدِ انْفِرَادِهِ بِالْيَدِ، وَلَمْ يَضْمَنْ إِذَا لَمْ يَنْفَرِدْ. وَ [أَمَّا] إِذَا لَمْ يَحْمِلِ الْمُسْتَأْجِرُ الطَّعَامَ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ كَالَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُؤَجِّرِ، فَحَمَلَهُ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْبَهِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ جَاهِلًا بِالْحَالِ، بِأَنْ قَالَ لَهُ هُوَ عَشَرَةٌ كَاذِبًا، وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا لَوْ حَمَلَ بِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، لِاجْتِمَاعِ الْغُرُورِ وَالْمُبَاشَرَةِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالزِّيَادَةِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا، وَلَكِنْ حَمَلَهُ الْمُؤَجِّرُ، فَحُكْمُهُ مَا يَأْتِي فِي الْحَالِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ حَمَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَضَعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْأَرْضِ فَيَحْمِلَهُ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْبَهِيمَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَهَى وَاقِفَةٌ فَيُسَيِّرَهَا الْمُؤَجِّرُ. وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: احْمِلْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، فَأَجَابَهُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ مُسْتَعِيرٌ لِلْبَهِيمَةِ فِي الزِّيَادَةِ، فَلَا أُجْرَةَ لَهَا، وَإِذَا تَلِفَتِ الْبَهِيمَةُ بِالْحَمْلِ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَفِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مَا يُنَازِعُهُ فِي الْأُجْرَةِ وَالضَّمَانِ جَمِيعًا. الْحَالُ الثَّانِي: إِذَا كَالَ الْمُؤَجِّرُ وَحَمَلَهُ عَلَى الْبَهِيمَةِ، فَلَا أُجْرَةَ لِمَا زَادَ، سَوَاءٌ غَلِطَ أَوْ تَعَمَّدَ، وَسَوَاءٌ جَهِلَ الْمُسْتَأْجِرُ الزِّيَادَةَ أَوْ عَلِمَهَا وَسَكَتَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي نَقْلِ الزِّيَادَةِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْبَهِيمَةِ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُؤَجِّرِ بِرَدِّ الزِّيَادَةِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَرُدَّهَا دُونَ رِضَاهُ. فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَأْجِرُ حَتَّى عَادَ إِلَى الْبَلَدِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُؤَجِّرِ بِرَدِّهَا. وَالْأَظْهَرُ أَوِ الْأَصَحُّ: أَنَّ لَهُ مُطَالَبَتَهُ بِبَدَلِهَا فِي الْحَالِ، كَمَا لَوْ أَبِقَ الْمَغْصُوبُ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ. وَالثَّانِي: لَا يُطَالِبُهُ بِبَدَلِهَا، لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ بَاقِيَةٌ، وَرَدَّهَا مَقْدُورٌ عَلَيْهِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَغُرِّمَ الْبَدَلُ، فَإِذَا رَدَّهَا إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، اسْتَرَدَّ الْبَدَلَ وَرَدَّهَا إِلَيْهِ. أَمَّا لَوْ كَالَ الْمُؤَجِّرُ، وَحَمَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْبَهِيمَةِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ عَالِمًا بِالزِّيَادَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَالَ بِنَفْسِهِ وَحَمَلَ،

لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِالزِّيَادَةِ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَحْمِلَهَا. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَوَجْهَانِ مَأْخُوذَانِ مِمَّا لَوْ قُدِّمَ الطَّعَامُ الْمَغْصُوبُ إِلَى الْمَالِكِ فَأَكَلَهُ جَاهِلًا، هَلْ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ؟ الْحَالُ الثَّالِثُ: إِذَا كَالَ أَجْنَبِيٌّ وَحَمَلَ بِلَا إِذْنٍ، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الزِّيَادَةِ لِلْمُؤَجِّرِ، وَعَلَيْهِ الرَّدُّ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ إِنْ طَالَبَهُ الْمُسْتَأْجِرُ، وَضَمَانُ الْبَهِيمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ. وَإِنْ تَوَلَّى الْحَمْلَ بَعْدَ كَيْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَحَدُ الْمُتَكَارِيَيْنِ، نُظِرَ، أَعَالِمٌ هُوَ، أَمْ جَاهِلٌ؟ وَيُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الزِّيَادَةِ، وَعَلَى أَنَّهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الزِّيَادَةِ، أَوْ قَدْرِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَإِنِ ادَّعَى الْمُؤَجِّرُ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ، وَالدَّابَّةُ فِي يَدِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا، تُرِكَتْ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ حَتَّى يَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهَا، وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ أُجْرَتُهَا. فَرْعٌ لَوْ وُجِدَ الْمَحْمُولُ عَلَى الدَّابَّةِ دُونَ الْمَشْرُوطِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ النَّقْصُ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَالَ الْمُؤَجِّرُ، حَطَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ إِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَأْجِرُ. فَإِنْ عَلِمَ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفِ بِالْمَشْرُوطِ. وَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَالَ الْمُسْتَأْجِرُ بِنَفْسِهِ وَنَقَصَ، فَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ، لَأَنَّ التَّمْكِينَ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ قَدْ حَصَلَ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي تَقَرُّرِ الْأُجْرَةِ. فَرْعٌ اكْتَرَى اثْنَانِ دَابَّةً وَرَكِبَاهَا، فَارْتَدَفَهُمَا ثَالِثٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، فَتَلِفَتْ، فَفِيمَا يَلْزَمُ الْمُرْتَدِفُ

فصل

ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: نِصْفُ الْقِيمَةِ. وَالثَّانِي: ثُلْثُهَا. وَالثَّالِثُ: تُقَسَّطُ عَلَى أَوْزَانِهِمْ، فَيَلْزَمُهُ حِصَّةُ وَزْنِهِ. قُلْتُ: أَصَحُّهَا: الثَّانِي. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: لَوْ سَخَّرَ رَجُلًا مَعَ بَهِيمَتِهِ، فَتَلِفَتِ الْبَهِيمَةُ فِي يَدِ صَاحِبِهَا، لَمْ يَضْمَنْهَا الْمُسَخِّرُ، لِأَنَّهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا دَفَعَ ثَوْبًا إِلَى خَيَّاطٍ لِيَقْطَعَهُ وَيَخِيطَهُ، فَخَاطَهُ قَبَاءً، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْخَيَّاطُ: أَمَرْتَنِي بِقَبَاءٍ، وَقَالَ: بَلْ أَمَرْتُكَ بِقَمِيصٍ، أَوْ سَوَّدَ الثَّوْبَ بِصَبْغٍ وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرْتَنِي، فَقَالَ: بَلْ أَمَرْتُكَ بِصَبْغِهِ أَحْمَرَ، فَفِيهِ خَمْسَةُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. هَذَانِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: قَوْلَانِ. تَصْدِيقُ الْمَالِكِ، وَالتَّحَالُفُ. وَالرَّابِعُ: الْقَطْعُ بِالتَّحَالُفِ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَصَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَالْخَامِسُ: عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، إِنْ جَرَى بَيْنَهُمَا عَقْدٌ، تَعَيَّنَ التَّحَالُفُ، وَإِلَّا، فَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْخَيَّاطِ، فَإِذَا حَلَفَ، لَا أَرْشَ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: يَجِبُ لَهُ الْمُسَمَّى إِتْمَامًا لِتَصْدِيقِهِ. وَالثَّالِثُ: أُجْرَةُ الْمِثْلِ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا أُجْرَةَ لَهُ بِيَمِينِهِ، فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْأُجْرَةَ عَلَى الْمَالِكِ، وَيُحَلِّفَهُ، فَإِنْ نَكَلَ، فَفِي تَجْدِيدِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصَحُّهُمَا: التَّجْدِيدُ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ. فَإِذَا حَلَفَ، فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُ الْخَيَّاطُ أَرْشَ النَّقْصِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ كَمَا فِي وُجُوبِ الْأُجْرَةِ تَفْرِيعًا عَلَى تَصْدِيقِ الْخَيَّاطِ. وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَذْهَبِ: أَنَّ الْقَطْعَ يُوجِبُ الضَّمَانَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُوجِبٍ إِلَّا بِإِذْنٍ. ثُمَّ فِي الْأَرْشِ الْوَاجِبِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَمَقْطُوعًا. وَالثَّانِي: مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَقْطُوعًا قَمِيصًا وَمَقْطُوعًا قَبَاءً. وَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَنْقُصْ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعَلَى الثَّانِي: فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْأُجْرَةَ لِلْقَدْرِ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْقَمِيصِ مِنَ الْقَطْعِ، وَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَعَمْ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْهُ لِلْقَمِيصِ. قُلْتُ: الْمَنْعُ أَصَحُّ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا قُلْنَا: يَتَحَالَفَانِ، فَحَلَفَا، فَلَا أُجْرَةَ لِلْخَيَّاطِ قَطْعًا، وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِذَا أَرَادَ الْخَيَّاطُ نَزْعَ الْخَيْطِ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ حَيْثُ حَكَمْنَا [لَهُ] بِالْأُجْرَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخَيْطُ لِلْمَالِكِ أَوْ مِنْ عِنْدِهِ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْخِيَاطَةِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا أُجْرَةَ، فَلَهُ نَزْعُ خَيْطِهِ كَالصَّبْغِ. وَحِينَئِذٍ لَوْ أَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَشُدَّ بِخَيْطِهِ خَيْطًا لِيَدَّخِرَ فِي الدُّرُوزِ إِذَا خَرَجَ الْأَوَّلُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا بِرِضَى الْخَيَّاطِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْيَمِينِ، فَقَالَ فِي «الشَّامِلِ» : إِنْ صَدَّقْنَا الْخَيَّاطَ، حَلَفَ بِاللَّهِ: مَا أَذِنْتَ لِي فِي قَطْعِهِ قَمِيصًا، وَلَقَدْ أَذِنْتَ لِي فِي قَطْعِهِ قَبَاءً، قَالَ: وَإِنْ صَدَّقْنَا الْمَالِكَ، كَفَاهُ عِنْدِي أَنْ يَحْلِفَ: مَا أَذِنْتُ لَهُ فِي قَطْعِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّعَرُّضِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْغُرْمِ وَسُقُوطَ الْأُجْرَةِ يَقْتَضِيهِمَا نَفْيُ الْإِذْنِ فِي الْقَبَاءِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّحَالُفِ، جَمَعَ كَلُّ وَاحِدٍ فِي يَمِينِهِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ.

فصل

قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَالْكَلَامُ فِي الْبَدَاءَةِ بِمَنْ؟ هُوَ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ] ، وَالْمَالِكُ هُنَا فِي رُتْبَةِ الْبَائِعِ. قُلْتُ: وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إِذَا صَدَّقْنَا الْخَيَّاطَ، حَلَفَ: لَقَدْ أَذِنْتَ لِي فِي قَطْعِهِ قَبَاءً فَقَطْ. فَإِنْ لَمْ نُثْبِتْ لِلْخَيَّاطِ أُجْرَةً، فَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ «الشَّامِلِ» لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَافٍ فِي نَفْيِ الْغُرْمِ عَنْهُ وَإِنْ أَثْبَتْنَاهَا، فَقَوْلُ صَاحِبِ «الشَّامِلِ» هُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ لِلْخَيَّاطِ: إِنْ كَانَ هَذَا الثَّوْبُ يَكْفِينِي قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ، فَقَطَعَهُ فَلَمْ يَكْفِهِ، ضَمِنَ الْأَرْشَ، لِأَنَّ الْإِذْنَ مَشْرُوطٌ بِمَا لَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ قَالَ: هَلْ يَكْفِينِي قَمِيصًا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: اقْطَعْهُ، فَقَطَعَهُ فَلَمْ يَكْفِهِ، لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ الْإِذْنَ مُطْلَقٌ. فَصْلٌ اخْتِلَافُ الْمُتَكَارِيَيْنِ فِي الْأُجْرَةِ أَوِ الْمُدَّةِ أَوْ قَدْرِ الْمَنْفَعَةِ، هَلْ هِيَ عَشَرَةُ فَرَاسِخَ، أَمْ خَمْسَةٌ، أَمْ كُلُّ الدَّارِ، أَمْ بَيْتٌ مِنْهَا؟ يُوجِبُ التَّحَالُفَ، فَإِذَا تَحَالَفَا، فُسِخَ الْعَقْدُ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا اسْتَوْفَاهُ.

فصل

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الطَّوَارِئِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسْخِ فَالْفَسْخُ وَالِانْفِسَاخُ، يَثْبُتُ بِخَلَلٍ يَعْرِضُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. إِحْدَاهَا: مَا يُنْقِصُ الْمَنْفَعَةَ. وَمَتَى ظَهَرَ بِالْمُسْتَأْجَرَةِ نَقْصٌ تَتَفَاوَتُ بِهِ الْأُجْرَةُ، فَهُوَ عَيْبٌ مُثْبِتٌ لِلْفَسْخِ، وَذَلِكَ كَمَرَضِ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ، وَانْقِطَاعِ مَاءِ الْبِئْرِ وَتَغَيُّرِهِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ الشُّرْبَ، وَانْكِسَارِ دَعَائِمِ الدَّارِ وَاعْوِجَاجِهَا، وَانْهِدَامِ بَعْضِ جُدْرَانِهَا، لَكِنْ لَوْ بَادَرَ الْمُؤَجِّرُ إِلَى الْإِصْلَاحِ، وَكَانَ قَابِلًا لِلْإِصْلَاحِ فِي الْحَالِ، سَقَطَ خِيَارُ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا سَبَقَ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ سَابِقًا لِلْعَقْدِ أَوِ الْقَبْضِ، أَوْ حَادِثًا فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ. ثُمَّ إِنْ ظَهَرَ الْعَيْبُ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ، فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ. وَإِنْ ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ الْفَسْخَ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ، فَهُوَ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ وَجَدَ بِالْبَاقِي عَيْبًا وَأَرَادَ الْفَسْخَ فِيهِمَا. وَإِنْ أَرَادَ الْفَسْخَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَرَادَ الْفَسْخَ فِي الْعَبْدِ الْبَاقِي وَحْدَهُ، وَحُكْمُهُمَا مَذْكُورٌ فِي الْبَيْعِ. وَأَطْلَقَ الْجُمْهُورُ الْقَوْلَ بِأَنَّ لَهُ الْفَسْخَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا هَذَا التَّفْصِيلَ. وَمَتَى امْتَنَعَ الْفَسْخُ، فَلَهُ الْأَرْشُ، فَيُعْرَفُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ سَلِيمًا وَمَعِيبًا، وَيُعْرَفُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا. هَذَا كُلُّهُ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ. أَمَّا إِذَا وَجَدَ فِي إِجَارَةِ الذِّمَّةِ بِالدَّابَّةِ الْمُسَلَّمَةِ عَيْبًا، فَلَا فَسْخَ، بَلْ يَرُدُّهَا وَيَلْزَمُ الْمُؤَجِّرُ إِبْدَالَهَا. فَصْلٌ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِالْأَعْذَارِ، سَوَاءٌ كَانَتْ إِجَارَةُ عَيْنٍ أَوْ ذِمَّةٍ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا

اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلسَّفَرِ عَلَيْهَا فَمَرِضَ، أَوْ حَانُوتًا لِحِرْفَةٍ فَنَدِمَ أَوْ هَلَكَتْ آلَاتُ تِلْكَ الْحِرْفَةِ، أَوْ حَمَّامًا فَتَعَذَّرَ الْوَقُودُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعُذْرُ لِلْمُؤَجِّرِ، بِأَنْ مَرِضَ وَعَجَزَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ الدَّابَّةِ، أَوْ أَكْرَى دَارَهُ وَأَهْلُهُ مُسَافِرُونَ، فَعَادُوا وَاحْتَاجَ إِلَى الدَّارِ، أَوْ تَأَهَّلَ، فَلَا فَسْخَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، إِذْ لَا خَلَلَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَلَوِ اكْتَرَى أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ، فَزَرَعَهَا، فَهَلَكَ الزَّرْعُ بِجَائِحَةٍ مِنْ سَيْلٍ أَوْ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ كَثْرَةِ مَطَرٍ وَنَحْوِهَا، فَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ وَلَا حَطُّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ، لِأَنَّ الْجَائِحَةَ لَحِقَتْ زَرْعَ الْمُسْتَأْجِرِ، لَا مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ، فَصَارَ كَمَا لَوِ اكْتَرَى دُكَّانًا لِبَيْعِ الْبَزِّ فَاحْتَرَقَ بَزُّهُ، لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ. فَلَوْ فَسَدَتِ الْأَرْضُ بِجَائِحَةٍ أَبْطَلَتْ قُوَّةَ الْإِنْبَاتِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ فِي الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ فَسَادُ الْأَرْضِ بَعْدَ فَسَادِ الزَّرْعِ، فَهَلْ يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَتْ صَلَاحِيَةُ الْأَرْضِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا نَفْعٌ بَعْدَ فَوَاتِ الزَّرْعِ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ: يَسْتَرِدُّ، لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَرْضِ عَلَى صِفَتِهَا مَطْلُوبٌ. فَإِذَا زَالَ، ثَبَتَ الِانْفِسَاخُ. وَإِنْ كَانَ فَسَادُ الزَّرْعِ بَعْدَ فَسَادِ الْأَرْضِ، فَأَصَحُّ الِاحْتِمَالَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ: الِاسْتِرْدَادُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: فَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ حِسًّا، فَمِنْ صُوَرِهِ مَوْتُ الدَّابَّةِ وَالْأَجِيرِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ عَقِبِهِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ. وَإِنْ كَانَ فِي خِلَالِ الْمُدَّةِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي وَفِي الْمَاضِي الطَّرِيقَانِ فِيمَا إِذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا وَتَلِفَ الثَّانِي قَبْلَ الْقَبْضِ، هَلْ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي الْمَقْبُوضِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَنْفَسِخُ فِي الْمَاضِي، سَقَطَ الْمُسَمَّى وَوَجَبَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا مَضَى. وَإِنْ قُلْنَا:

لَا يَنْفَسِخُ فِيهِ، فَهَلْ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْبَغَوِيِّ: لَا، لِأَنَّ مَنَافِعَهُ اسْتُهْلِكَتْ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَمْ يُسَلَّمْ. فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ الْفَسْخُ، فَفَسَخَ، رَجَعَ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا فَسْخَ، أَوْ أَجَازَ، وَجَبَ قِسْطُ مَا مَضَى مِنَ الْمُسَمَّى، وَالتَّوْزِيعُ عَلَى قِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، لَا عَلَى نَفْسِ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ، فَرُبَّمَا تَزِيدُ أُجْرَةُ شَهْرٍ عَلَى أُجْرَةِ شَهْرَيْنِ، لِكَثْرَةِ الرَّغَبَاتِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ. وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ سَنَةً، وَمَضَى نِصْفُهَا، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيهِ مِثْلَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، وَجَبَ مِنَ الْمُسَمَّى ثُلْثَاهُ. وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ، فَثُلْثُهُ. وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ بِعَيْبٍ، فَفُسِخَ الْعَقْدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَفِي الِانْفِسَاخِ فِي الْمَاضِي الطَّرِيقَانِ. فَإِنْ لَمْ يَنْفَسِخْ، فَطَرِيقُ التَّوْزِيعِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَإِنْ أَجَازَهُ، فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ بِتَمَامِهَا، كَمَا لَوْ رَضِيَ بِعَيْبِ الْمَبِيعِ، لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ. وَسَوَاءٌ حَصَلَ التَّلَفُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَمْ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ، بَلْ لَوْ قَتَلَ الْعَبْدَ أَوِ الدَّابَّةَ الْمُعَيَّنَةَ، كَانَ حُكْمُ الِانْفِسَاخِ وَالْأُجْرَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ مَا أَتْلَفَ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْإِتْلَافِ كَمَا يَسْتَقِرُّ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِإِتْلَافِهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى الْعَيْنِ، فَإِذَا أَتْلَفَهَا صَارَ قَابِضًا، وَالْإِجَارَةُ وَارِدَةٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَمَنَافِعُ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَعْدُومَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الْإِتْلَافِ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ عَيَّبَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ، أَوْ جَرَحَ الْعَبْدَ، فَهُوَ كَالتَّعَيُّبِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ. فَرْعٌ نُصَّ أَنَّ انْهِدَامَ الدَّارِ يَقْتَضِي الِانْفِسَاخَ، وَنُصَّ فِيمَا إِذَا اكْتَرَى أَرْضًا

لِلزِّرَاعَةِ وَلَهَا مَاءٌ: مُعْتَادٌ فَانْقَطَعَ، أَنَّ لَهُ فَسْخَ الْعَقْدِ، وَفِيهِمَا ثَلَاثَةُ طُرُقٍ. أَحَدُهَا: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، لِأَنَّ الدَّارَ لَمْ تَبْقَ دَارًا، وَالْأَرْضَ بَقِيَتْ أَرْضًا، وَلِأَنَّ الْأَرْضَ يُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا بِالْأَمْطَارِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ. وَأَصَحُّهَا: قَوْلَانِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: فِي الِانْهِدَامِ الِانْفِسَاخُ، وَفِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ: ثُبُوتُ الْخِيَارِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إِذَا انْقَطَعَتِ الزِّرَاعَةُ. فَإِنْ قَالَ الْمُؤَجِّرُ: أَنَا أَسُوقُ إِلَيْهَا مَاءً مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، سَقَطَ الْخِيَارُ كَمَا لَوْ بَادَرَ إِلَى إِصْلَاحِ الدَّارِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالِانْفِسَاخِ، فَالْحُكْمُ كَمَوْتِ الْعَبْدِ، وَإِلَّا، فَلَهُ الْفَسْخُ فِي الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ. وَفِي الْمَاضِي الْوَجْهَانِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، فَعَلَيْهِ قِسْطُ مَا مَضَى مِنَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ أَجَازَ، لَزِمَهُ الْمُسَمَّى كُلُّهُ، وَقِيلَ يُحَطُّ لِلِانْهِدَامِ وَانْقِطَاعِ الْمَاءِ مَا يَخُصُّهُ. فَرْعٌ لَوْ غُصِبَ الْعَبْدُ الْمُسْتَأْجَرُ أَوْ أَبَقَ، أَوْ نَدَّتِ الدَّابَّةُ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، فَعَلَى الْمُؤَجِّرِ الْإِبْدَالُ. فَإِنِ امْتَنَعَ، اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ، أَوْ غُصِبَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ، فُسِخَ فِي الْبَاقِي. وَفِي الْمَاضِي الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ وَكَانَ قَدِ اسْتَأْجَرَ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَانْقَضَتْ، بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، هَلْ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: يَنْفَسِخُ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، وَيَسْتَرِدُّ الْأُجْرَةَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَيَسْتَرِدَّ الْأُجْرَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يُجِيزَ وَيُطَالِبَ الْغَاصِبَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ

الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصْحَابُ، انْفِسَاخُ الْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ الْمَذْكُورُ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ عَدَمِ الِانْفِسَاخِ، لَكِنَّ الْمَذْهَبَ الِانْفِسَاخُ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ عَادَ إِلَى يَدِهِ وَقَدْ بَقِيَ بَعْضُ الْمُدَّةِ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي الْبَاقِي، وَتَسْقُطَ حِصَّةُ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ، إِلَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الِانْفِسَاخَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ يُوجِبُ الِانْفِسَاخَ فِي الْبَاقِي، فَلَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيهِ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ. وَإِذَا بَادَرَ الْمُؤَجِّرُ إِلَى الِانْتِزَاعِ مِنَ الْغَاصِبِ، وَلَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، سَقَطَ خِيَارُهُ كَمَا سَبَقَ فِي إِصْلَاحِ الدَّارِ. فَرْعٌ إِذَا أَقَرَّ الْمُؤَجِّرُ بِالْمُسْتَأْجَرَةِ لِلْغَاصِبِ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَفِي قَبُولِ إِقْرَارِهِ فِي الرَّقَبَةِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْقَبُولُ. فَإِنْ قَبِلْنَاهُ، فَفِي بُطْلَانُ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يَبْطُلُ. وَالثَّانِي: يَبْطُلُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ تُرِكَتْ فِي يَدِهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُقِرِّ لَهُ، لَمْ تُنْزَعْ مِنْهُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْبُطْلَانِ، فَهَلْ يَحْلِفُ الْمُؤَجِّرُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي أَنَّ الْمُرْتَهِنَ، هَلْ يَحْلِفُ الرَّاهِنُ إِذَا أَقَرَّ بِالْمَرْهُونِ وَقَبِلْنَاهُ؟ فَرْعٌ لِلْمُؤَجِّرِ مُخَاصَمَةُ مَنْ غَصَبَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أَوْ سَرَقَهَا، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْمُخَاصَمَةُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ كَالْمُودِعِ وَالْمُسْتَعِيرِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي أَنَّ الْمُرْتَهِنَ هَلْ يُخَاصِمُ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا؟

فصل

فَصْلٌ الثَّوْبُ الْمُعَيَّنُ لِلْخِيَاطَةِ، إِذَا تَلِفَ، فَفِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ خِلَافٌ سَبَقَ. الْأَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةٍ: لَا يَنْفَسِخُ، وَعَنِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ: أَنَّهُ يَنْفَسِخُ لِتَعَلُّقِهِ بِذَلِكَ الثَّوْبِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَفِيمَا إِذَا اكْتَرَى دَوَابَّ فِي الذِّمَّةِ لِحَمْلِ خَمْسَةِ أَعْبُدٍ مُعَيَّنِينَ، فَمَاتَ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَحُمِلَ ثَلَاثَةٌ، فَقَالَ: لَهُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْكِرَاءِ وَسَقَطَ خُمُسَاهُ، وَالصُّورَةُ فِيمَا إِذَا تَسَاوَتْ أَوْزَانُهُمْ، وَيَشْهَدُ لَهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ: إِذَا نَكَحَهَا عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ فَتَلِفَ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ، لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَالْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَلْزَمَ ذِمَّتَهُ خِيَاطَةَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ حَمْلَ مَتَاعٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ عَبْدٍ، فَإِنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَمُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الثَّوْبِ وَالْمَتَاعِ. أَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَيْنِهَا مُدَّةً لِرُكُوبٍ أَوْ حَمْلِ مَتَاعٍ، فَهَلَكَا، فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، بَلْ يَجُوزُ إِبْدَالُ الرَّاكِبِ وَالْمَتَاعِ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، فَأَتَى بِثَوْبٍ مِثْلِهِ، فَذَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَأْتِ لِعَجْزِهِ، أَوِ امْتَنَعَ مَعَ الْقُدْرَةِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ إِمْكَانِ الْعَمَلِ، فَفِي اسْتِقْرَارِ الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا تَسْتَقِرُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا: تَسْتَقِرُّ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْعَقْدِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَجِدُ ثَوْبًا آخَرَ، أَوْ لَا يُرِيدُ قَطْعَهُ. فَرْعٌ مَوْتُ الصَّبِيِّ الْمُعَيَّنِ لِلتَّعْلِيمِ، كَتَلَفِ الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ لِلْخِيَاطَةِ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الْمُعَيَّنُ لِلْإِرْضَاعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدَ الْمُرْضِعَةِ. فَإِنْ كَانَ وَلَدَهَا، فَخِلَافٌ مُرَتَّبٌ، وَأَوْلَى بِالِانْفِسَاخِ،

فصل

لِأَنَّ دُرُورَ اللَّبَنِ عَلَى وَلَدِهَا أَكْثَرُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ. فَرْعٌ لَوْ بَدَأَ لَهُ فِي قَطْعِ الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ بَاقٍ، قَالَ الْإِمَامُ: الْمُتَّجِهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ، لَكِنْ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ إِذَا سَلَّمَ الْأَجِيرُ نَفْسَهُ وَمَضَى مُدَّةُ إِمْكَانِ الْعَمَلِ إِنْ قُلْنَا: تَسْتَقِرُّ الْأُجْرَةُ بِتَسْلِيمِ الْأَجِيرِ نَفْسَهُ وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَسْتَقِرُّ، فَلَهُ فَسْخُهَا، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ بِحَالٍ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِالْأَعْذَارِ. فَصْلٌ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، بَلْ إِنْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ، قَامَ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَقَامَهُ. وَإِنْ مَاتَ الْمُؤَجِّرُ، تَرَكَ الْمَالَ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَمَا الْتَزَمَهُ، دَيْنٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ، اسْتُؤْجِرَ مِنْهَا لَتَوْفِيَتِهِ، وَإِلَّا، فَالْوَارِثُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ وَفَّاهُ وَاسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ، وَإِنْ أَعْرَضَ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ. وَلَوْ أَوْصَى بِدَارِهِ لِزَيْدٍ مُدَّةَ عُمْرِ زَيْدٍ، فَقَبِلَ الْوَصِيَّةَ، وَأَجَّرَهَا زَيْدٌ مُدَّةً، ثُمَّ مَاتَ فِي خِلَالِهَا، انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، لِانْتِهَاءِ حَقِّهِ بِمَوْتِهِ. فَصْلٌ إِذَا أَكْرَى جِمَالًا فَهَرَبَ، فَتَارَةً يَهْرُبُ بِهَا، وَتَارَةً يَهْرُبُ وَيَتْرُكُهَا عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ هَرَبَ بِهَا، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، اكْتَرَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ

مَالًا، اقْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ غَيْرِهِ وَاكْتَرَى عَلَيْهِ. قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكِلَ أَمْرَ الِاكْتِرَاءِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَإِنْ تَعَذَّرَ الِاكْتِرَاءُ عَلَيْهِ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ كَمَا لَوِ انْقَطَعَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ عِنْدَ الْمَحِلِّ. فَإِنْ فَسَخَ، فَالْأُجْرَةُ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْجَمَّالِ وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْجَمَّالِ - إِذَا عَادَ - بِمَا الْتَزَمَهُ. وَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةُ عَيْنٍ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْعَقْدِ، كَمَا إِذَا نَدَّتِ الدَّابَّةُ. وَأَمَّا إِذَا تَرَكَهَا عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، فَذَاكَ، وَإِلَّا، رَاجَعَ الْحَاكِمَ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا وَعَلَى مَنْ يَقُومُ بِتَعَهُّدِهَا مِنْ مَالِ الْمُؤَجِّرِ إِنْ وَجَدَهُ، وَإِلَّا، اسْتَقْرَضَ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ إِنْ وَثِقَ بِالْمُسْتَأْجِرِ، سَلَّمَ إِلَيْهِ مَا اقْتَرَضَهُ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا، وَإِلَّا، دَفَعَهُ إِلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ. وَإِذَا لَمْ يَجِدْ مَالًا آخَرَ، بَاعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ ثَمَنِهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ، وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ. وَلَوْ لَمْ يَقْتَرِضِ الْحَاكِمُ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَكِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ لِيَرْجِعَ، جَازَ عَلَى الْأَظْهَرِ، كَمَا لَوِ اقْتَرَضَ مِنْهُ ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَيُجْعَلُ مُتَبَرِّعًا. وَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا أَنْفَقَ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْفِقِ. وَقِيلَ: قَوْلُ الْجَمَّالِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ إِذَا ادَّعَى نَفَقَةَ مِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَنْفَقَ الْمُسْتَأْجِرُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ مَعَ إِمْكَانِهِ، لَمْ يَرْجِعْ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي عَامِلِ الْمُسَاقَاةِ إِذَا هَرَبَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ حَاكِمٌ، وَعَسُرَ إِثْبَاتُ الْوَاقِعَةِ عِنْدَهُ، فَهُوَ كَمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ. وَإِذَا أَثْبَتْنَا الرُّجُوعَ فِيمَا إِذَا أَنْفَقَ بِغَيْرِ مُرَاجَعَةِ الْحَاكِمِ، فَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَمَّالِ، لِأَنَّ إِنْفَاقَهُ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى ائْتِمَانٍ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، لِأَنَّ الشَّرْعَ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ.

فصل

وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَلَمْ يَعُدِ الْجَمَّالُ، بَاعَ الْحَاكِمُ مِنْهَا مَا يَقْضِي بِثَمَنِهِ مَا اقْتَرَضَهُ وَحَفِظَ بَاقِيهَا. وَإِنْ رَأَى بَيْعَهَا لِئَلَّا تَأْكُلَ نَفْسَهَا، فَعَلَ. فَصْلٌ إِذَا اكْتَرَى دَابَّةً أَوْ دَارًا مُدَّةً، وَقَبَضَهَا وَأَمْسَكَهَا حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ، انْتَهَتِ الْإِجَارَةُ وَاسْتَقَرَّتِ الْأُجْرَةُ سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا فِي الْمُدَّةِ، أَمْ لَا، وَلَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ فَعَلَ، لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مَعَ الْمُسَمَّى. وَلَوْ ضُبِضَتِ الْمَنْفَعَةُ بِالْعَمَلِ دُونَ الْمُدَّةِ، بِأَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إِلَى بَلَدٍ، أَوْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا إِلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ، وَقَبَضَهَا وَأَمْسَكَهَا عِنْدَهُ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ فِيهَا السَّيْرُ إِلَيْهِ، اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ أَيْضًا، وَسَوَاءٌ تَخَلَّفَ الْمُسْتَأْجِرُ لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِهِ، حَتَّى لَوْ تَخَلَّفَ لَخَوْفِ الطَّرِيقِ أَوْ عَدَمِ الرِّفْقَةِ، اسْتَقَرَّتِ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِ، لَأَنَّ الْمَنَافِعَ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ السَّفَرُ عَلَيْهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْبَلَدِ تِلْكَ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْعَقْدِ بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَا أَنْ يُلْزِمَ الْمُؤَجِّرَ اسْتِرْدَادَ الدَّابَّةِ إِلَى تَيَسُّرِ الْخُرُوجِ، هَذَا فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ وَسَلَّمَ دَابَّةً بِالْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ، فَمَضَتِ الْمُدَّةُ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ، اسْتَقَرَّتِ الْأُجْرَةُ أَيْضًا، لِتَعَيُّنِ حَقِّهِ بِالتَّسْلِيمِ وَحُصُولِ التَّمَكُّنِ. وَلَوْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً، اسْتَقَرَّتْ فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ بِمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمُسَمَّى فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ، سَوَاءٌ انْتَفَعَ، أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِنَ الْمُسَمَّى أَوْ أَكَثُرَ. فَرْعٌ أَجَّرَ الْحُرُّ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ، وَسَلَّمَ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْمُسْتَأْجِرُ حَتَّى مَضَتِ

الْمُدَّةُ، أَوْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ فِيهَا ذَلِكَ الْعَمَلُ، اسْتَقَرَّتِ الْأُجْرَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَلْزَمَ ذِمَّةَ الْحُرِّ عَمَلًا، فَسَلَّمَ نَفْسَهُ مُدَّةَ إِمْكَانِ ذَلِكَ الْعَمَلِ [وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، وَطَرَدَ الْمُتَوَلِّي الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا الْتَزَمَ الْحُرُّ عَمَلًا فِي الذِّمَّةِ وَسَلَّمَ عَبْدَهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ] فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، وَوَجَّهَهُ بِمَا يَقْتَضِي إِثْبَاتُ خِلَافٍ فِي كُلِّ إِجَارَةٍ عَلَى الذِّمَّةِ. ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: لَا تَسْتَقِرُّ، فَلِلْأَجِيرِ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُجْبِرَهُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ. فَرْعٌ أَكْرَى عَيْنًا مُدَّةً، وَلَمْ يُسَلِّمْهَا حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ، انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَوِ اسْتَوْفَى [مَنْفَعَةَ] الْمُدَّةِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَإِتْلَافِ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالِانْفِسَاخِ. وَلَوْ أَمْسَكَهَا بَعْضَ الْمُدَّةِ، ثُمَّ سَلَّمَهَا، انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ فِي الْمَدَّةِ الَّتِي تَلِفَتْ مَنَافِعُهَا. وَفِي الْبَاقِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ، وَلَا يُبَدَّلُ زَمَانٌ بِزَمَانٍ. وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمُدَّةُ مُقَدَّرَةً، وَاسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ إِلَى بَلَدٍ فَلَمْ يُسَلِّمْهَا حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ فِيهَا الْمُضِيُّ إِلَيْهِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تَنْفَسِخُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ لَا بِالزَّمَانِ، وَلَمْ يَتَعَذَّرِ اسْتِيفَاؤُهَا. فَعَلَى هَذَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، كَمَا لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ مُدَّةً ثُمَّ سَلَّمَهُ. وَشَذَّ الْغَزَالِيُّ فَقَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَهُ الْخِيَارُ، لِتَأَخُّرِ حَقِّهِ. وَالْمَعْرُوفُ، مَا سَبَقَ. وَلَوْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ وَلَمْ يُسَلِّمْ مَا تُسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةُ مِنْهُ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ فِيهَا تَحْصِيلُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، فَلَا فَسْخَ وَلَا انْفِسَاخَ بِحَالٍ، لِأَنَّهُ دَيْنٌ تَأَخَّرَ إِيفَاؤُهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ شَرْعًا، كَفَوَاتِهَا حِسًّا فِي اقْتِضَاءِ الِانْفِسَاخِ، لِتَعَذُّرِ

فصل

الِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا اسْتُؤْجِرَ لِقَلْعِ سِنٍّ وَجِعَةٍ، أَوْ يَدٍ مُتَأَكِّلَةٍ، أَوْ لِاسْتِيفَاءِ قِصَاصٍ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ، فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ، فَإِذَا زَالَ الْوَجَعُ، أَوْ عُفِيَ عَنِ الْقِصَاصِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ، وَفِيهِ كَلَامَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ مَضْبُوطَةٌ بِالْعَمَلِ دُونَ الزَّمَانِ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْهُ، لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الْوَجَعِ، فَلْيَكُنْ زَوَالُ الْوَجَعِ كَغَصْبِ الْمُسْتَأْجَرَةِ حَتَّى يَثْبُتَ خِيَارُ الْفَسْخِ دُونَ الِانْفِسَاخِ. وَالثَّانِي: حَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَجْهًا أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ، بَلْ يَسْتَعْمِلُ الْأَجِيرُ فِي قَلْعِ مِسْمَارٍ أَوْ وَتَدٍ، وَيُرَاعَى تَدَانِي الْعَمَلَيْنِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْقَوِيُّ مَا قِيلَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالِانْفِسَاخِ جَوَابٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِهِ لَا يُبَدَّلُ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، أَمَرَهُ بِقَلْعِ سِنٍّ وَجِعَةٍ لِغَيْرِهِ. فَصْلٌ إِذَا أَجَّرَ الْوَقْفَ الْبَطْنَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَبْقَى الْإِجَارَةُ بِحَالِهَا كَمَا لَوْ أَجَّرَ مِلْكَهُ فَمَاتَ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ مَوْتِهِ لِغَيْرِهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا نِيَابَةَ، ثُمَّ عِبَارَةُ الْجُمْهُورِ بِالِانْفِسَاخِ وَعَدَمِهِ، فَفِي وَجْهٌ: يَنْفَسِخُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَنْفَسِخُ، وَاسْتَبْعَدَهَا الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ، لِأَنَّ الِانْفِسَاخَ يُشْعِرُ بِسَبْقِ الِانْعِقَادِ، وَجَعَلُوا الْخِلَافَ فِي أَنَّا هَلْ نَتَبَيَّنُ الْبُطْلَانَ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ؟ ثُمَّ إِنْ أَبْقَيْنَا الْإِجَارَةَ، فَحِصَّةُ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْأُجْرَةِ تَكُونُ لِلْبَطْنِ الثَّانِي، فَإِنْ أَتْلَفَهَا الْأَوَّلُ، فَهِيَ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ، وَلَيْسَ كَمَا لَوْ أَجَّرَ مِلْكَهُ وَمَاتَ فِي الْمُدَّةِ، حَيْثُ تَكُونُ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ تَرِكَةً تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ وَرَدَ عَلَى خَالِصِ مِلْكِهِ، وَالْبَاقِيَ لَهُ بَعْدَ الْإِجَارَةِ رَقَبَةٌ مَسْلُوبَةُ الْمَنْفَعَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَتَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ كَذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَبْقَى الْإِجَارَةُ، فَهَلْ

تَبْطُلُ فِيمَا مَضَى؟ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تُفَرَّقُ، كَانَ لِلْبَطْنِ الْأَوَّلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا مَضَى. أَمَّا إِذَا أَجَّرَ الْوَقْفَ مُتَوَلِّيهِ، فَمَوْتُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِلْجَمِيعِ. وَقِيلَ: تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ كَمَا سَيَأْتِي فِي وَلِيِّ الصَّبِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ لِلْوَلِيِّ إِجَارَةُ الطِّفْلِ وَمَالُهُ، أَبًا كَانَ أَوْ وَصِيًّا أَوْ قَيِّمًا، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهَا، لَكِنْ لَا يُجَاوِزُ مُدَّةَ بُلُوغِهِ بِالسِّنِّ. فَلَوْ أَجَّرَهُ مُدَّةً يَبْلُغُ فِي أَثْنَائِهَا، بِأَنْ كَانَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ، فَأَجَّرَهُ عَشْرَ سِنِينَ، فَطَرِيقَانِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: يَبْطُلُ فِيمَا يَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ الْبُلُوغِ، وَفِيمَا لَا يَزِيدُ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْبَغَوِيِّ. قُلْتُ: وَاخْتَارَهُ أَيْضًا ابْنُ الصَّبَّاغِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ مُدَّةً لَا يَبْلُغُ فِيهَا بِالسِّنِّ وَإِنِ احْتُمِلَ بُلُوغُهُ بِالِاحْتِلَامِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الصِّبَا فَلَوِ اتَّفَقَّ فِي الِاحْتِلَامِ فِي أَثْنَائِهَا، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ «الْمُهَذَّبِ» وَالرُّوْيَانِيِّ: بَقَاءُ الْإِجَارَةِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْمُتَوَلِّي: لَا تَبْقَى. قُلْتُ: صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ الثَّانِيَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا بِالِانْفِسَاخِ أَوْ تَبَيُّنِ الْبُطْلَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْوَقْفِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَبْقَى الْإِجَارَةُ، جَاءَ فِيمَا مَضَى خِلَافُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَإِذَا قُلْنَا: تَبْقَى، فَهَلْ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ إِذَا بَلَغَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ بَلَغَتْ.

فصل

فَرْعٌ أَجَّرَ الْوَلِيُّ مَالَ الْمَجْنُونِ، فَأَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، فَهُوَ كَبُلُوغِ الصَّبِيِّ بِالِاحْتِلَامِ. فَصْلٌ لَوْ أَجَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ، نَفَذَ، لَأَنَّ إِعْتَاقَ الْمَغْصُوبِ وَالْآبِقِ نَافِذٌ، فَهَذَا أَوْلَى، وَلَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا خِيَارَ لِلْعَبْدِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى السَّيِّدِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِلْمُدَّةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى الْأَظْهَرِ الْجَدِيدِ. وَقِيلَ: عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ، فَنَفَقَتُهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ، فَهَلْ هِيَ عَلَى سَيِّدِهِ لِإِدَامَةِ حَبْسِهِ؟ أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَاجِزٌ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. قُلْتُ: فَإِنْ قُلْنَا: النَّفَقَةُ عَلَى السَّيِّدِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَجِبُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ وَكِفَايَتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ ظَهَرَ بِالْعَبْدِ عَيْبٌ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَفَسَخَ الْمُسْتَأْجِرُ الْإِجَارَةَ، فَالْمَنَافِعُ لِلْعَتِيقِ إِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ بِمَنَافِعِهِ عَلَى السَّيِّدِ، وَإِلَّا، فَهَلْ هِيَ لَهُ، أَمْ لِلسَّيِّدِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: كَوْنُهَا لِلْعَتِيقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَجَّرَ عَبْدَهُ وَمَاتَ، وَأَعْتَقَهُ الْوَارِثُ فِي الْمُدَّةِ، فَفِي انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ مَا سَبَقَ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا انْفِسَاخَ، لَمْ يَرْجِعْ هُنَا عَلَى الْمُعْتِقِ بِشَيْءٍ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ أَجَّرَ أَمَّ وَلَدِهِ وَمَاتَ فِي الْمُدَّةِ، عَتَقَتْ. وَفِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ، الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ إِذَا أَجَّرَ

فصل

الْبَطْنَ الْأَوَّلَ الْوَقْفَ وَمَاتَ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي إِجَارَةِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَإِنَّمَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ مُدَّةً لَا تَتَحَقَّقُ الصِّفَةُ فِيهَا، فَإِنْ تَحَقَّقَتْ، فَهُوَ كَإِجَارَةِ الصَّبِيِّ مُدَّةً يَتَحَقَّقُ بُلُوغُهُ فِيهَا. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ ظَاهِرٌ إِنْ مَنَعْنَا بَيْعَ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ بِجَوَازِ إِجَارَتِهِ هُنَا، لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ بَيْعِهِ، وَإِبْقَاءِ الْإِجَارَةِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الصَّبِيِّ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: وَإِنْ تَمَكَّنَ فَقَدْ لَا يَفْعَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ كِتَابَةُ الْعَبْدِ الْمُكْرَى جَائِزَةٌ عِنْدَ ابْنِ الْقَطَّانِ، بَاطِلَةٌ عِنْدَ ابْنِ كَجٍّ. قُلْتُ: الثَّانِي: أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهَا، عَادَ الْخِلَافُ فِي الْخِيَارِ وَفِي الرُّجُوعِ عَلَى السَّيِّدِ. قُلْتُ: وَمِنْ مَسَائِلِ الْفَصْلِ، مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْقَوَاعِدِ السَّابِقَةِ: أَنَّهُ لَوْ أَكْرَى دَارًا لِعَبْدٍ ثُمَّ قَبَضَ الْعَبْدَ وَأَعْتَقَهُ، فَانْهَدَمَتِ الدَّارُ، رَجَعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ فِي الْمُدَّةِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ، فَلَهُ حَالَانِ. [الْحَالُ] الْأَوَّلُ: الْبَيْعُ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ صَحِيحٌ قَطْعًا. ثُمَّ فِي الْإِجَارَةِ وَجْهَانِ.

أَحَدُهُمَا: تَنْفَسِخُ، قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَالْمِلْكَ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا تَنْفَسِخُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ بَقِيَّةَ الْمُدَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يَرْجِعُ. وَلَوْ فَسَخَ الْمُسْتَأْجِرُ الْبَيْعَ بِعَيْبٍ، لَمْ يَكُنْ [لَهُ] الْإِمْسَاكُ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّهَا قَدِ انْفَسَخَتْ بِالشِّرَاءِ. وَلَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ غَيْرُ بَاقِيَةٍ عِنْدَ التَّلَفِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْأَصَحُّ، وَهُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِالشِّرَاءِ، فَفِي صُورَةِ فَسْخِ الْبَيْعِ بِالْعَيْبِ لَهُ الْإِمْسَاكُ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ، وَلَوْ فَسَخَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ، رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِأُجْرَةِ بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ. وَفِي صُورَةِ التَّلَفِ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِالتَّلَفِ، وَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ، وَتَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْإِجَارَةَ وَالْمِلْكَ هَلْ يَجْتَمِعَانِ؟ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: أَوْصَى لِزَيْدٍ بِرُقْبَةِ دَارٍ، وَلِعَمْرٍو بِمَنْفَعَتِهَا، وَأَجَّرَهَا لِعَمْرٍو، فَفِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ الْوَجْهَانِ. الثَّانِيَةُ: مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ وَوَارِثُهُ، الْمُؤَجِّرُ فَفِي انْفِسَاخِهَا الْوَجْهَانِ. الثَّالِثَةُ: أَجَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ لِلْمَالِكِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ، وَمَنَعَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، لِاجْتِمَاعِ الْمِلْكِ وَالْإِجَارَةِ. الرَّابِعَةُ: أَجَّرَ دَارَهُ لِابْنِهِ، وَمَاتَ الْأَبُ فِي الْمُدَّةِ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ الِابْنِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ مُسْتَغْرِقَةٌ، بُنِيَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّ الْوَارِثَ هَلْ يَمْلِكُ التَّرِكَةَ وَهُنَاكَ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ، بَقِيَتِ الْإِجَارَةُ بِحَالِهَا. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَعَلَى الْأَصَحِّ: لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: تَنْفَسِخُ، لِأَنَّ الْمِلْكَ طَرَأَ عَلَى الْإِجَارَةِ. وَادَّعَى الرُّوْيَانِيُّ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ. وَإِذَا انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: الِابْنُ غَرِيمٌ يُضَارِبُ بِأُجْرَةِ بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ لِلْغُرَمَاءِ، وَوَافَقَهُ بَعْضُهُمْ، وَخَالَفَهُ الْمُعْتَبِرُونَ، لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا سَبَقَ عَنْهُ فِي الشِّرَاءِ: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ،

وَضَعَّفُوا الْفَرْقَ. وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ الْمُؤَجِّرُ عَنِ ابْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا الْمُسْتَأْجِرُ، فَعَلَى الْأَصَحِّ: لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ فِي شَيْءٍ مِنَ الدَّارِ، وَيَسْكُنُهَا الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَرُقْبَتُهَا بَيْنَهُمَا بِالْإِرْثِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ فِي النِّصْفِ الَّذِي يَمْلِكُهُ الْمُسْتَأْجِرُ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ أُجْرَةِ مَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الِانْفِسَاخِ فِي النِّصْفِ الرُّجُوعِ بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ، لَكِنَّهُ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَالتَّرِكَةُ فِي يَدِهِمَا، وَالدَّيْنُ الَّذِي يَلْحَقُهَا يَتَوَزَّعُ، فَيَخُصُّ الرَّاجِعَ الرُّبْعُ، وَيَرْجِعُ بِالرُّبْعِ عَلَى أَخِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكِ الْمَيِّتُ سِوَى الدَّارِ، بِيعَ مِنْ نَصِيبِ الْأَخِ الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرُّجُوعُ، وَهَذَا بِعِيدٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، لِأَنَّ الِابْنَ الْمُسْتَأْجِرَ وَرِثَ نَصِيبَهُ بِمَنَافِعِهِ، وَأَخُوهُ وَرِثَ نَصِيبَهُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ قَدْ تَكُونُ أُجْرَةُ مِثْلِ الدَّارِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مِثْلَيْ ثَمَنِهَا، فَإِذَا رَجَعَ عَلَى الْأَخِ بِرُبْعِ الْأُجْرَةِ، احْتَاجَ إِلَى بَيْعِ نَصِيبِهِ، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا قَدْ فَازَ بِجَمِيعِ نَصِيبِهِ، وَبَيْعِ نَصِيبِ الْآخَرِ وَحْدَهُ فِي دَيْنِ الْمَيِّتِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَوْ لَمْ يُخْلِفْ إِلَّا الِابْنَ الْمُسْتَأْجِرَ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِانْفِسَاخِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ، لِأَنَّ الْكُلَّ لَهُ، سَوَاءٌ [أَخَذَ] بِالْإِرْثِ، أَوْ أَخَذَ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ بِالْإِجَارَةِ وَبَعْدَهَا بِالْإِرْثِ، وَسَوَاءٌ أَخَذَ بِالدَّيْنِ أَمْ بِالْإِرْثِ. فَرْعٌ أَجَّرَ الْبَطْنَ الْأَوَّلَ الْوَقْفَ لِلْبَطْنِ الثَّانِي، وَمَاتَ الْمُؤَجِّرُ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَوْ أَجَّرَ أَجْنَبِيًّا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ، لِأَنَّهُ طَرَأَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا أَوْلَى بِارْتِفَاعِ الْإِجَارَةِ. الْحَالُ الثَّانِي: الْبَيْعُ لِغَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ سَوَاءٌ أَذِنَ الْمُسْتَأْجِرُ، أَمْ لَا. وَإِذَا صَحَّحْنَا، لَمْ تَنْفَسِخِ الْإِجَارَةُ، كَمَا

لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِبَيْعِ الْمُزَوَّجَةِ، وَيُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَلِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ إِنْ كَانَ جَاهِلًا. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا، فَلَا فَسْخَ لَهُ، وَلَا أُجْرَةَ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ جَاهِلًا وَأَجَازَ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُدَّةِ بَقَاءِ الزَّرْعِ إِذَا بَاعَ أَرْضًا مَزْرُوعَةً. وَلَوْ وَجَدَ الْمُسْتَأْجِرُ بِهِ عَيْبًا، وَفَسَخَ الْإِجَارَةَ، أَوْ عَرَضَ مَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْإِجَارَةُ بِمَنْفَعَةٍ بَقِيَّةَ الْمُدَّةِ، لِمَنْ يَكُونُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لِلْمُشْتَرِي. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: لِلْبَائِعِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْ مَنَافِعَ تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَبَنَاهُمَا الْمُتَوَلِّي عَلَى أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، أَمْ مِنْ حِينِهِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي وَكَأَنَّ الْإِجَارَةَ لَمْ تَكُنْ. وَإِنْ قُلْنَا: مِنْ حِينِهِ، فَلِلْبَائِعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ الرَّدِّ مَا يُوجِبُ الْحَقُّ لِلْمُشْتَرِي. قَالَ: وَلَوْ تَقَايَلَا الْإِجَارَةَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِقَالَةُ بَيْعٌ، فَهِيَ لِلْبَائِعِ. وَإِنْ قُلْنَا: فَسَخٌ، فَكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهَا تَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهَا قَطْعًا. وَإِذَا حَصَلَ الِانْفِسَاخُ، رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِأُجْرَةِ بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ عَلَى الْبَائِعِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي. فَرْعٌ الْقَوْلَانِ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْمُسْتَأْجِرِ يَجْرِيَانِ فِي هِبَتِهِ، وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهِ قَطْعًا. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ عَيْنًا وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَتَهَا لِنَفْسِهِ سَنَةً أَوْ شَهْرًا، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا يُحْكَى عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْ بَيْعِ الْمُسْتَأْجَرِ. وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ.

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ الْأَوَّلِ إِحْدَاهَا: قَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ نَسْجَ ثَوْبٍ صِفَتُهُ كَذَا عَلَى أَنْ تَنْسِجَهُ بِنَفْسِكَ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ غَرَرٌ، فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ. الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِمَا يَسْتَأْجِرُ بِهِ الثَّوْبَ وَالْعَبْدَ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالطَّعَامِ وَمَا تَنْبِتُ الْأَرْضُ وَغَيْرُهَا، إِذَا عُيِّنَ أَوْ وُصِفَ. الثَّالِثَةُ: إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إِلَى بَلَدٍ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَجَبَ نَقْدُ بَلَدِ الْعَقْدِ. وَلَوْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً، فَالِاعْتِبَارُ فِي أُجْرَةِ الْمِثْلِ بِمَوْضِعِ إِتْلَافِ الْمَنْفَعَةِ نَقْدًا أَوْ وَزْنًا. الرَّابِعَةُ: تَجُوزُ إِجَارَةُ الْمُصْحَفِ وَالْكُتُبِ لِمُطَالَعَتِهَا وَالْقِرَاءَةِ مِنْهَا. الْخَامِسَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ بِرْكَةً لِيَأْخُذَ مِنْهَا السَّمَكَ. فَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْبِسَ فِيهَا الْمَاءَ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا السَّمَكُ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. السَّادِسَةُ: يَصِحُّ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ إِجَارَةُ مَا اسْتَأْجَرَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ، سَوَاءٌ أَجَّرَ بِمِثْلِ مَا اسْتَأْجَرَ، أَمْ بِأَقَلٍّ، أَمْ بِأَكْثَرَ. وَفِي إِجَارَتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَجُوزُ، وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. فَعَلَى هَذَا، فِي إِجَارَتِهِ الْمُؤَجِّرَ وَجْهَانِ، كَبَيْعِ الْمَبِيعِ لِلْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: صِحَّةُ إِجَارَتِهِ لِلْمُؤَجِّرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ: الْمُسْتَعِيرُ لَا يَكْرِي. فَلَوِ اسْتَعَارَ لِيَكْرِيَهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَجُوزُ كَمَا لَوِ اسْتَعَارَهُ لِيَرْهَنَهُ.

الثَّامِنَةُ: أَجَّرَ نَاظِرُ الْمَسْجِدِ حَانُوتَهُ الْخَرَابَ، بِشَرْطِ أَنْ يُعَمِّرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَالِهِ، وَيَكُونَ مَا أَنْفَقَهُ مَحْسُوبًا مِنْ أُجْرَتِهِ، لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ، لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِجَارَةِ غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِهِ. التَّاسِعَةُ: لَا تَجُوزُ إِجَارَةُ الْحَمَّامِ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ تَعَطُّلِهِ بِسَبَبِ الْعِمَارَةِ وَنَحْوِهَا مَحْسُوبَةً عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ، لَا بِمَعْنَى انْحِصَارِ الْإِجَارَةِ فِي الْمُدَّةِ فِي الْبَاقِي لِأَنَّ الْمُدَّةَ تَصِيرُ مَجْهُولَةً، وَلَا بِمَعْنَى اسْتِيفَاءِ مِثْلِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ لِأَنَّ آخِرَ الْمُدَّةِ يَصِيرُ مَجْهُولًا. الْعَاشِرَةُ: اسْتَأْجَرَهُ لِيَبِيعَ لَهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا، جَازَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِدُ رَاغِبًا، وَلِشِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ رَغْبَةَ مَالِكِهِ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مَظْنُونَةٍ، وَلِشِرَاءِ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ يَجُوزُ، وَلِبَيْعِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يَجُوزُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَرَادَ اسْتِئْجَارَهُ لِلْخُرُوجِ إِلَى بَلَدِ السُّلْطَانِ، وَالتَّظَلُّمِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَعَرْضِ حَالِهِ فِي الْمَظَالِمِ، قَالَ الْقَفَّالُ فِي «الْفَتَاوَى» : يَسْتَأْجِرُ مُدَّةَ كَذَا لِيَخْرُجَ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا وَيَذْكُرَ حَالَهُ فِي الْمَظَالِمِ وَيَسْعَى فِي أَمْرِهِ عِنْدَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَتَصِحَّ الْإِجَارَةُ، لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَمَلِ جَهَالَةٌ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِيُخَاصِمَ غُرَمَاءَهُ، قَالَ: وَلَوْ بَدَا لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا ضَرَرُهُ مِثْلُ ذَلِكَ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: حَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إِجَارَةُ الْأَرْضِ حَتَّى تُرَى لَا حَائِلَ دُونَهَا مِنْ زَرْعٍ وَغَيْرِهِ، وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ إِجَارَةَ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ لَا تَصِحُّ، تَوْجِيهًا بِأَنَّ الزَّرْعَ يَمْنَعُ رُؤْيَتَهَا، وَفِيهَا مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ تَأَخُّرُ التَّسْلِيمِ وَالِانْتِفَاعِ عَنِ الْعَقْدِ، وَمُشَابَهَتُهُ إِجَارَةَ الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا لَوْ أَجَّرَ دَارًا مَشْحُونَةً بِطَعَامٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَ التَّفْرِيغُ يَسْتَدْعِي مُدَّةً، وَرَأَيْتُ لِلْأَئِمَةِ فِيمَا جُمِعَ مِنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ جَوَابَيْنِ فِيهِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ التَّفْرِيغُ فِي مُدَّةٍ

لَيْسَ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ، صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِلَّا، فَلَا، لِأَنَّهُ إِجَارَةُ مُدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَذْهَبُ فِي التَّفْرِيغِ جَمِيعُ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ كَانَ يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ، صَحَّ وَلَزِمَ قِسْطُهُ مِنَ الْأُجْرَةِ إِذَا وُجِدَ فِيهِ التَّسْلِيمُ. وَخَرَّجُوا عَلَى الْجَوَابَيْنِ، مَا إِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا بِبَلَدٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى التَّسْلِيمُ إِلَّا بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ، وَمَا إِذَا [بَاعَ] جَمْدًا وَزْنًا وَكَانَ يَنْمَاعُ بَعْضُهُ إِلَى أَنْ يُوزَنَ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ مِنَ الْجَوَابَيْنِ هُوَ الْأَوَّلُ، بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الشَّرْطِ الثَّالِثِ مِنَ الرُّكْنِ الرَّابِعِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إِجَارَةُ الْمَشْحُونَةِ بِالْقُمَاشِ وَإِنْ أَمْكَنَ تَفْرِيغُهَا فِي الْحَالِ. وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ، أَنَّ الْمَذْهَبَ صِحَّةُ إِجَارَةِ الْأَرْضِ الْمَسْتُورَةِ بِالْمَاءِ لِلزِّرَاعَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مُخَالِفًا لِلْمَذْكُورِ هُنَا، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ هُنَاكَ بِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ مَصَالِحِهَا مَفْقُودٌ هُنَا. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي، فِيمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا بِبَلَدٍ آخَرَ، الصِّحَّةُ، وَفِي الْجَمْدِ الْمَنْعُ، لِإِمْكَانِ بَيْعِهِ جُزَافًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إِذَا اسْتَأْجَرَ لِلْخِدْمَةِ، وَذَكَرَ وَقْتَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفَصَّلَ أَنْوَاعَهَا، صَحَّ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَدْ حُكِيَ عَنِ النَّصِّ الْمَنْعُ، وَالْمَذْهَبُ الْجَوَازُ، وَيَلْزَمُ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ. وَفَصَّلَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي يُوسُفَ أَنْوَاعَهَا فَقَالَ: يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ، غُسْلُ الثَّوْبِ وَخِيَاطَتُهُ، وَالْخَبْزُ وَالْعَجْنُ وَإِيقَادُ النَّارِ وَالتَّنُّورِ، وَعَلْفُ الدَّابَّةِ وَحَلْبُهَا، وَخِدْمَةُ الزَّوْجَةِ، وَالْغَرْسُ فِي الدَّارِ، وَحَمْلُ الْمَاءِ إِلَى الدَّارِ لِلشُّرْبِ، وَإِلَى الْمُتَوَضَّئِ لِلطَّهَارَةِ. وَعَنْ سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيِّ: أَنَّ عَلْفَ الدَّابَّةِ وَحَلْبَهَا، وَخِدْمَةَ الزَّوْجَةِ، لَا تَدْخُلُ إِلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي خِيَاطَةِ الثَّوْبِ وَحَمْلِ الْمَاءِ إِلَى الدَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْعَادَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ شُرَّاحِ «الْمِفْتَاحِ» أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْبَلْدَةِ، إِلَّا أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ مَسَافَةً

مَعْلُومَةً مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَنَّ عَلَيْهِ الْمُكْثَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ فِي هَذَا كُلِّهِ، الرُّجُوعُ إِلَى عَادَةِ الْخَادِمِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ الْمُسْتَأْجِرِينَ، وَبِاخْتِلَافِ الْأُجَرَاءِ، وَفِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَدْخُلُ مَا اقْتَضَتْهُ الْعَادَةُ دُونَ غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اسْتَأْجَرَهُ عَلَى الْقِيَامِ عَلَى ضَيْعَةٍ، قَامَ عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا عَلَى الْمُعْتَادِ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اسْتَأْجَرَهُ لِلْخُبْزِ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَخْبِزُ أَقْرَاصًا، أَوْ أَرْغِفَةً غِلَاظًا أَوْ رُقَاقًا، وَأَنَّهُ يَخْبِزُ فِي تَنُّورٍ أَوْ فُرْنٍ، وَآلَاتُ الْخَبْزِ عَلَى الْأَجِيرِ إِنْ كَانَتْ إِجَارَةً عَلَى الذِّمَّةِ، وَإِلَّا، فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْأَجِيرِ إِلَّا تَسْلِيمُ نَفْسِهِ، وَالْقَوْلُ فَيَمَنْ عَلَيْهِ الْحَطَبُ كَالْحِبْرِ فِي حَقِّ الْوَرَّاقِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ «الْمِفْتَاحِ» : لَوِ اكْتَرَى دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَرْسَخَيْنِ، لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُبَيِّنَ شَرْقًا أَوْ غَرْبًا، فَإِذَا بَيَّنَ فَأَرَادَ الْعُدُولَ إِلَى غَيْرِهَا، فَلِلْمُكْرِي مَنْعُهُ، لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَكُونُ أَسْهَلَ، أَوْ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا سَبَقَ، فَلْيُجْعَلْ وَجْهًا.

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ الثَّانِي إِحْدَاهَا: اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلِ مُدَّةٍ، يَكُونُ زَمَنُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَوَاتِ - فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا الرَّوَاتِبِ - مُسْتَثْنًى، وَلَا يَنْقُصُ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَسَوَاءٌ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَغَيْرُهَا. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، جَوَازُ تَرْكِ الْجُمُعَةِ بِهَذَا السَّبَبِ، حَكَاهُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ، وَالسُّبُوتُ فِي اسْتِئْجَارِ الْيَهُودِيِّ مُسْتَثْنَاةٌ إِنِ اطَّرَدَ عُرْفُهُمْ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» . الثَّانِيَةُ: اسْتَأْجَرَ مُرْضِعَةً لِتَعَهُّدِ الصَّبِيِّ، فَالدُّهْنُ عَلَى أَبِيهِ، فَإِنْ جَرَى عُرْفُ الْبَلَدِ بِخِلَافِهِ، فَوَجْهَانِ. الثَّالِثَةُ: اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ حَطَبٍ إِلَى دَارِهِ وَهِيَ ضَيِّقَةُ الْبَابِ، هَلْ عَلَيْهِ إِدْخَالُهُ الدَّارَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُرْفِ، وَلَا يُكَلَّفُ صُعُودَ السَّطْحِ [بِهِ] . الرَّابِعَةُ: اسْتَأْجَرَهُ لِغَسْلِ ثِيَابٍ مَعْلُومَةٍ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ حَمَّالٌ، فَإِنْ شُرِطَتْ أُجْرَتُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَعَلَى الْغَسَّالِ، لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْغَسْلِ. الْخَامِسَةُ: اسْتَأْجَرَهُ لِقَطْعِ أَشْجَارٍ بِقَرْيَةٍ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْعَمَلِ، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْأَرْبَعَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ. السَّادِسَةُ: اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا وَيَحْمِلَ [عَلَيْهَا] كَذَا رِطْلًا، فَرَكِبَ وَحَمَلَ وَأَخَذَ فِي السَّيْرِ، فَأَرَادَ الْمُؤَجِّرُ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَيْهَا مِخْلَاةً أَوْ سُفْرَةً أَوْ نَحْوَهُمَا مِنْ قُدَّامِ الْقَتَبِ أَوْ مِنْ خَلْفِهِ، أَوْ أَنْ يُرْدِفَ مَعَهُ رَدِيفًا، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ مَنْعُهُ. السَّابِعَةُ: اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إِلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ، فَرَكِبَهَا [إِلَيْهِ] ، فَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» أَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَارَ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَنْهَاهُ صَاحِبُهَا. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَيْسَ لَهُ رَدُّهَا، بَلْ يُسَلِّمُهَا إِلَى وَكِيلِ الْمَالِكِ إِنْ كَانَ، وَإِلَّا، فَإِلَى

الْحَاكِمِ هُنَاكَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ، فَإِلَى أَمِينٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَمِينًا، رَدَّهَا أَوِ اسْتَصْحَبَهَا إِلَى حَيْثُ يَذْهَبُ، كَالْمُودَعِ يُسَافِرُ بِالْوَدِيعَةِ لِلضَّرُورَةِ. وَإِذَا جَازَ لَهُ الرَّدُّ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّكُوبُ، بَلْ يَسُوقُهَا أَوْ يَقُودُهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهَا جِمَاحٌ لَا تَنْقَادُ إِلَّا بِالرُّكُوبِ، وَبِمِثْلِهِ لَوِ اسْتَعَارَ لِلرُّكُوبِ إِلَيْهِ. قَالَ الْعَبَّادِيُّ: لَهُ الرُّكُوبُ فِي الرَّدِّ، لِأَنَّ الرَّدَّ لَازِمٌ لَهُ، فَالْإِذْنُ تَنَاوَلَهُ بِالْعُرْفِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا رَدَّ عَلَيْهِ. الثَّامِنَةُ: اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ إِلَى مَكَانٍ، فَجَاوَزَهُ، لَزِمَهُ الْمُسَمَّى لِلْمَكَانِ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلزِّيَادَةِ، وَيَصِيرُ ضَامِنًا مِنْ وَقْتِ الْمُجَاوَزَةِ. فَإِنْ مَاتَتْ، لَزِمَهُ أَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ حِينَئِذٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا صَاحِبُهَا، وَلَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ بِرَدِّهَا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَإِنْ كَانَ مَعَهَا صَاحِبُهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَمَا نَزَلَ وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَلِفَتْ وَهُوَ رَاكِبٌ، نُظِرَ، إِنْ تَلِفَتْ بِالْوُقُوعِ فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهِ، ضَمِنَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ. وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ سَبَبٌ ظَاهِرٌ، فَقِيلَ: تَلْزَمُ كُلُّ الْقِيمَةِ أَيْضًا، وَالْأَصَحُّ: لَا يَلْزَمُهُ الْكُلُّ بَلِ النِّصْفُ فِي قَوْلٍ. وَمُقْتَضَى التَّوْزِيعِ عَلَى الْمَسَافَتَيْنِ فِي قَوْلٍ كَمَا سَبَقَ، فِيمَا إِذَا حَمَلَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَشْرُوطِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُصُولُ التَّلَفِ بِكَثْرَةِ التَّعَبِ وَتَعَاقُبِ السَّيْرِ. حَتَّى لَوْ قَامَ فِي الْمَقْصِدِ قَدْرَ مَا يَزُولُ فِيهِ التَّعَبُ، ثُمَّ خَرَجَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، ضَمِنَ الْكُلَّ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ لِيَرْكَبَ وَيَعُودَ، فَلَا يَلْزَمُهُ لِمَا جَاوَزَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ قَطْعَ قَدْرِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ ذَهَابًا وَرُجُوعًا، بِنَاءً عَلَى أَنْ يَجُوزَ الْعُدُولُ إِلَى مِثْلِ الطَّرِيقِ الْمُعَيَّنِ. قُلْتُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْكَبَهَا بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ جَمِيعَ الطَّرِيقِ رَاجِعًا، بَلْ يَرْكَبَهَا بِقَدْرِ تَمَامِ مَسَافَةِ الرُّجُوعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنْ قَدَّرَ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ مُدَّةَ مَقَامِهِ فِي الْمَقْصِدِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى مُدَّةِ الْمُسَافِرِينَ، انْتَفَعَ بِهَا فِي الرُّجُوعِ. وَإِنْ زَادَ، حُسِبَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. التَّاسِعَةُ: اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ إِلَى عَشَرَةِ فَرَاسِخَ، فَقَطَعَ نِصْفَ الْمَسَافَةِ، ثُمَّ

رَجَعَ لِأَخْذِ شَيْءٍ نَسِيَهُ رَاكِبًا، انْتَهَتِ الْإِجَارَةُ وَاسْتَقَرَّ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ لَا تَتَعَيَّنُ، وَكَذَا لَوْ أَخَذَ الدَّابَّةَ وَأَمْسَكَهَا يَوْمًا فِي الْبَيْتِ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْصِدِ يَوْمٌ، اسْتَقَرَّتِ الْأُجْرَةُ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّكُوبُ بَعْدَهُ، وَكَذَا لَوْ ذَهَبَ فِي الطَّرِيقِ لِاسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوْ شِرَاءِ شَيْءٍ يَمِينًا وَشِمَالًا، كَانَ مَحْسُوبًا مِنَ الْمُدَّةِ، وَيَتْرُكُ الِانْتِفَاعَ إِذَا قَرُبَ مِنَ الْمَقْصِدِ بِقَدْرِهِ. الْعَاشِرَةُ: دَفَعَ إِلَيْهِ ثَوْبًا لِيُقَصِّرَهُ بِأُجْرَةٍ، ثُمَّ اسْتَرْجَعَهُ، فَقَالَ: لَمْ أُقَصِّرْهُ بَعْدُ، فَلَا أَرُدُّهُ، فَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ: لَا أُرِيدُ أَنْ تُقَصِّرَهُ فَارْدُدْهُ إِلَيَّ، فَلَمْ يَرُدَّ وَتَلِفَ الثَّوْبُ عِنْدَهُ، لَزِمَهُ ضَمَانُهُ. وَإِنْ قَصَّرَهُ وَرَدَّهُ، فَلَا أُجْرَةَ لَهُ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ الْغَزْلِ عِنْدَ النَّسَّاجِ وَنَظَائِرِهِ. قُلْتُ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ، إِذَا لَمْ يَقَعْ عَقْدٌ صَحِيحٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اسْتَأْجَرَهُ لِيَكْتُبَ صَكًّا فِي هَذَا الْبَيَاضِ، فَكَتَبَهُ خَطَأً، فَعَلَيْهِ نُقْصَانُ الْكَاغَدِ، وَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَكَتَبَ بِالْعَجَمِيَّةِ أَوْ بِالْعَكْسِ. قُلْتُ: وَلَا أُجْرَةَ لَهُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لَنَسْخِ كِتَابٍ، فَغَيَّرَ تَرْتِيبَ الْأَبْوَابِ، قَالَ: إِنْ أَمْكَنَ بِنَاءُ بَعْضِ الْمَكْتُوبِ بِأَنْ كَانَ عَشَرَةَ أَبْوَابٍ، فَكَتَبَ الْبَابَ الْأَوَّلَ آخِرًا مُنْفَصِلًا، بِحَيْثُ يُبْنَى عَلَيْهِ، اسْتَحَقَّ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِحَمْلِ الْحِنْطَةِ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا إِلَى دَارِهِ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ مُتَرَدِّدًا مَرَّاتٍ، فَرَكِبَهَا فِي عَوْدِهِ، فَعَطِبَتِ الدَّابَّةُ، ضَمِنَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا لِلْحَمْلِ لَا لِلرُّكُوبِ. وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ، لِلْعُرْفِ، ذَكَرَهُمَا الْعَبَّادِيُّ.

فصل

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْعَامِلُ فِي الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ، لَوْ تَرَكَ السَّقْيَ مُتَعَمِّدًا، فَفَسَدَ الزَّرْعُ، ضَمِنَ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ حِفْظُهُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَعَدَّى الْمُسْتَأْجِرُ بِالْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ، فَقَرَّحَ ظَهْرَهَا وَهَلَكَتْ مِنْهُ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَ الْهَلَاكُ بَعْدَ الرَّدِّ إِلَى الْمَالِكِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ الثَّالِثِ إِحْدَاهَا: فِي الْمَنْثُورِ لِلْمُزَنِيِّ، أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، فَخَاطَهُ بَعْضَهُ، وَاحْتَرَقَ الثَّوْبُ، اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ لِمَا عَمِلَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَإِلَّا فَقِسْطَ الْمُسَمَّى. وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ جَرَّةٍ إِلَى مَوْضِعٍ، فَزَلِقَ فِي الطَّرِيقِ فَانْكَسَرَتْ، لَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخِيَاطَةَ تَظْهَرُ عَلَى الثَّوْبِ، فَوَقَعَ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا بِظُهُورِ أَثَرِهِ، وَالْحَمْلَ لَا يَظْهَرُ عَلَى الْجَرَّةِ. الثَّانِيَةُ: أَجَّرَ أَرْضًا فَغَرِقَتْ بِسَيْلٍ أَوْ مَاءٍ نَبَعَ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّعِ الْخَسَارَةَ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَهُوَ كَانْهِدَامِ الدَّارِ. وَإِنْ تَوَقَّعَ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ كَمَا لَوْ غُصِبَتْ. فَإِنْ أَجَازَ، سَقَطَ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا كَانَ الْمَاءُ عَلَيْهَا. وَإِنْ غَرِقَ نِصْفُهَا وَقَدْ مَضَى نِصْفُ الْمُدَّةِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ فِي الْبَاقِي، بَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِيهِ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ. فَإِنْ فَسَخَ وَكَانَتْ أُجْرَةُ الْمُدَّةِ لَا تَتَفَاوَتُ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى لِلْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ. وَإِنْ أَجَازَ، فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُسَمَّى، فَالنِّصْفُ لِلْمَاضِي، وَالرُّبُعُ لِلْبَاقِي. الثَّالِثَةُ: تَعَطُّلُ الرَّحَى لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ، وَالْحَمَّامِ لِخَلَلٍ فِي الْأَبْنِيَةِ، أَوْ لِنَقْصِ الْمَاءِ فِي بِئْرِهِ وَنَحْوِهِ، كَانْهِدَامِ الدَّارِ، وَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ قَنَاةً فَانْقَطَعَ مَاؤُهَا. فَلَوْ نَقَصَ،

ثَبَتَ الْخِيَارُ وَلَمْ يَنْفَسِخْ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ طَاحُونَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ، فَنَقَصَ الْمَاءُ، وَبَقِيَ مَاءٌ تَدُورُ بِهِ إِحْدَاهُمَا وَلَمْ يَفْسَخْ، قَالَ الْعَبَّادِيُّ: تَلْزَمُهُ أُجْرَةُ أَكْثَرِهِمَا. الرَّابِعَةُ: قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَوْ دَفَعَ غَزْلًا إِلَى نَسَّاجٍ وَاسْتَأْجَرَهُ لِنَسْجِ ثَوْبٍ طُولُهُ عَشَرَةٌ فِي عَرْضٍ مَعْلُومٍ، فَجَاءَ بِالثَّوْبِ وَطُولُهُ أَحَدَ عَشَرَ، لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ جَاءَ بِهِ وَطُولُهُ تِسْعَةٌ، فَإِنْ كَانَ طُولُ السَّدَى عَشَرَةً، اسْتَحَقَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْسِجَ عَشَرَةً لَتَمَكَّنَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ طُولُهُ تِسْعَةً، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، لِمُخَالَفَتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْغَزْلُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مُسْدًى، اسْتَأْجَرَهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَدَفَعَ إِلَيْهِ مِنَ اللُّحْمَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَجَاءَ [بِهِ] أَطْوَلَ فِي الْعَرْضِ الْمَشْرُوطِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ لِلزِّيَادَةِ شَيْئًا. وَإِنْ جَاءَ بِهِ أَقْصَرَ فِي الْعَرْضِ الْمَشْرُوطِ، اسْتَحَقَّ بِقَدْرِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ. وَإِنْ وَافَقَ فِي الطُّولِ، وَخَالَفَ فِي الْعَرْضِ، فَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمُجَاوَزَتِهِ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ مِنَ الصَّفَاقَةِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ، لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ لِمُخَالَفَتِهِ. وَإِنْ رَاعَى الْمَشْرُوطَ فِي صِفَةِ الثَّوْبِ رِقَّةً وَصَفَاقَةً، فَلَهُ الْأُجْرَةُ، لِأَنَّ الْخَلَلَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مِنَ السَّدَى. وَإِنْ كَانَ زَائِدًا، فَإِنْ أَخَذَ بِالصَّفَاقَةِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَإِلَّا، اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ بِتَمَامِهَا، لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا. الْخَامِسَةُ: مَهْمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِنَقْصٍ، فَأَجَازَ، ثُمَّ أَرَادَ الْفَسْخَ، فَإِنْ كَانَ [ذَلِكَ] السَّبَبُ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، بِأَنِ انْقَطَعَ الْمَاءُ، وَلَمْ يَتَوَقَّعْ عَوْدَهُ، فَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ، لِأَنَّهُ عَيْبٌ وَاحِدٌ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُرْجَى زَوَالُهُ، فَلَهُ الْفَسْخُ مَا لَمْ يَزُلْ، لِأَنَّ الضَّرَرَ يَتَجَدَّدُ، كَمَا لَوْ تُرِكَتِ الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، أَوِ الْفَسْخُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْإِعْسَارِ، فَلَهَا الْعَوْدُ إِلَيْهِ. وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَجَازَ، ثُمَّ أَرَادَ الْفَسْخَ، فَلَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعُدِ الْعَبْدُ.

فصل

فَصْلٌ لَوْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ عَنِ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ كَمَا لَوْ أَجَّرَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ لِلْمُؤَجِّرِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ وَإِنْ جَرَى بَعْدَ الْقَبْضِ. فَصْلٌ لَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ الْعُهْدَةَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَفِي «الْفَتَاوَى» أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ الْإِجَارَةِ، مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِذَا تَوَجَّهَ الْحَبْسُ عَلَى الْأَجِيرِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : إِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ فِي الْحَبْسِ، جُمِعَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ تَعَذَّرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ، قُدِّمَ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا يُقَدَّمُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ، وَالْحَبْسُ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ الْقَاضِي يَسْتَوْثِقُ [عَلَيْهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ] إِنْ خَافَ هَرَبَهُ عَلَى مَا يَرَاهُ. وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، طُولِبَ بِتَحْصِيلِهِ بِغَيْرِهِ. فَإِنِ امْتَنَعَ، حُبِسَ بِالْحَقَّيْنِ. الثَّانِيَةُ: لَا يَلْزَمُ الْمُؤَجِّرُ أَنْ يَدْفَعَ عَنِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ الْحَرِيقَ وَالنَّهْبَ وَغَيْرَهُمَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ وَرَدُّ الْأُجْرَةِ إِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ. وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ، لَزِمَهُ كَالْمُودَعِ.

الثَّالِثَةُ: إِذَا وَقَعَتِ الدَّارُ عَلَى مَتَاعِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، وَلَا أُجْرَةَ تَخْلِيصِهِ. الرَّابِعَةُ: اسْتَأْجَرَهُ لِبِنَاءِ دَرَجَةٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا انْهَدَمَتْ فِي الْحَالِ، فَهَذَا قَدْ يَكُونُ لِفَسَادِ الْآلَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِفَسَادِ الْعَمَلِ، وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى أَهْلِ الْعُرْفِ. فَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ الْآلَةُ قَابِلَةٌ لِلْعَمَلِ الْمُحْكَمِ وَهُوَ الْمُقَصِّرُ، لَزِمَهُ غَرَامَةُ مَا تَلِفَ. الْخَامِسَةُ: إِذَا جَعَلَ [غَلَّةً] فِي الْمَسْجِدِ وَأَغْلَقَهُ، لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ، لِأَنَّهُ كَمَا يَضْمَنُ الْمَسْجِدَ بِالْإِتْلَافِ يَضْمَنُ مَنْفَعَتَهُ، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْخَمْسَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» ، وَتَقْيِيدُهُ فِي الْمَسْجِدِ بِمَا إِذَا أَغْلَقَهُ، لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، بَلْ لَوْ لَمْ يُغْلِقْهُ، يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْأُجْرَةُ، لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ. السَّادِسَةُ: اسْتَأْجَرَ بَهِيمَةً إِلَى بَلَدٍ لِحَمْلِ مَتَاعٍ، ثُمَّ أَرَادَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بَيْعَهُ وَالرُّجُوعَ، وَطَلَبَ رَدَّ بَعْضِ الْأُجْرَةِ، فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ، بَلْ إِنْ بَاعَهُ، فَلَهُ حَمْلُ مِثْلِهِ إِلَى الْمَقْصِدِ الْمُسَمَّى. السَّابِعَةُ: فِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَ الْإِمَامُ رَجُلًا عَلَى غُسْلِ مَيِّتٍ، فَلَا أُجْرَةَ لَهُ، لَأَنَّ غُسْلَهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِذَا فَعَلَهُ بِأَمْرِ الْإِمَامِ، وَقَعَ عَنِ الْفَرْضِ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ بَعْضُ الرَّعِيَّةِ، لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَنَّهُ مِمَّا يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ، وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ سَعَةٌ. فَإِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ، فَمُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِلَّا، فَفِي بَيْتِ الْمَالِ إِنِ اتَّسَعَ، فَيَسْتَحِقَّ الْمُكْرَهُ الْأُجْرَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ السِّيَرِ: هَذَا التَّفْصِيلُ حَسَنٌ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إِطْلَاقُهُمْ.

الثَّامِنَةُ: أَجَّرَتْ نَفْسَهَا لِلْإِرْضَاعِ، هَلْ عَلَيْهَا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ إِذَا احْتَاجَ الرَّضِيعُ إِلَيْهِ؟ فِيهِ كَلَامٌ سَبَقَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ. التَّاسِعَةُ: اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ الَّذِي بَلَغَ سِنًّا يَعْمَلُ مِثْلُهُ فِيهِ لِيُسْقِطَ نَفَقَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ عَلَيْهِ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ، جَازَ، كَمَا يَشْتَرِي مَالَهُ، ذَكَرَهُ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الجعالة

كِتَابُ الْجَعَالَةِ هِيَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ، أَوْ دَابَّتِي الضَّالَّةَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَهُ كَذَا، وَهِيَ عَقْدٌ صَحِيحٌ لِلْحَاجَةِ، وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ. أَحَدُهَا: الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْعَمَلِ بِعِوَضٍ يَلْتَزِمُهُ، فَلَوْ رَدَّ آبِقًا أَوْ ضَالَّةً بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّادُّ مَعْرُوفًا بِرَدِّ الضَّوَالِّ، أَمْ لَا. وَلَوْ قَالَ لِزَيْدٍ: رُدَّ آبِقِي وَلَكَ دِينَارٌ، فَرَدَّهُ عَمْرٌو، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرُطْ لَهُ. وَلَوْ رَدَّهُ عَبْدُ زَيْدٍ، اسْتَحَقَّ زَيْدٌ لِأَنَّ يَدَ عَبْدِهِ يَدُهُ. وَلَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّهُ فَلَهُ كَذَا، فَرَدَّهُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ نِدَاؤُهُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ. فَإِنَ قَصَدَ التَّعَوُّضَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ لَا يُحْبَطُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا أَثَرَ لِاعْتِقَادِهِ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، تَرَدَّدَ فِيهِ. وَلَوْ عَيَّنَ رَجُلًا فَقَالَ: إِنْ رَدَّهُ زَيْدٌ فَلَهُ كَذَا، فَرَدَّهُ زَيْدٌ غَيْرَ عَالِمٍ بِإِذْنِهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. وَلَوْ أَذِنَ فِي الرَّدِّ وَلَمْ يَشْرُطْ عِوَضًا، فَلَا شَيْءَ لِلرَّادِّ عَلَى الْمَذْهَبِ وَظَاهِرِ النَّصِّ، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنْ قَالَ: اغْسِلْ ثَوْبِي وَلَمْ يُسَمِّ عِوَضًا. فَصْلٌ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَزِمُ مَنْ يَقَعُ الْعَمَلُ فِي مِلْكِهِ. فَلَوْ قَالَ غَيْرُ الْمَالِكِ: مَنْ رَدَّ عَبْدَ فُلَانٍ فَلَهُ كَذَا، اسْتَحَقَّهُ الرَّادُّ عَلَى الْقَائِلِ. وَلَوْ قَالَ فُضُولِيٌّ: قَالَ فُلَانٌ مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّادُّ عَلَى الْفُضُولِيِّ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ. وَأَمَّا

الْمَالِكُ، فَإِنْ كَذَبَ الْفُضُولِيُّ عَلَيْهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ صَدَقَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ. وَكَأَنَّ هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُخْبِرُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ، وَإِلَّا، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَدَّ غَيْرَ عَالِمٍ بِإِذْنِهِ. قُلْتُ: لَوْ شَهِدَ الْفُضُولِيُّ عَلَى الْمَالِكِ بِإِذْنِهِ، قَالَ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي تَرْوِيجِ قَوْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْبَيَانِ: مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ قَبُولُهَا، فَلَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ سَوَاءٌ فِي صِيغَةِ الْمَالِكِ قَوْلُهُ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي، وَقَوْلُهُ: إِنْ رَدَّهُ إِنْسَانٌ، أَوْ إِنْ رَدَدْتَهُ، أَوْ رَدَّهُ وَلَكَ كَذَا. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُتَعَامِلَانِ. فَأَمَّا مُلْتَزِمُ الْجَعْلِ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ. وَأَمَّا الْعَامِلُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَخْصًا مُعَيَّنًا، وَجَمَاعَةً، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَيَّنًا وَلَا مُعَيَّنِينَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الرُّكْنِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَامِلُ مُعَيَّنًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ قَبُولُ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْتَرَطْ قَبُولُهُ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَالْوَكِيلِ فِي الْقَبُولِ، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ التَّعْيِينِ أَهْلِيَّةُ الْعَمَلِ فِي الْعَامِلِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْعَمَلُ، فَمَا لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ لِكَوْنِهِ مَجْهُولًا، تَجُوزُ الْجَعَالَةُ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ، وَمَا جَازَتِ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ، جَازَتِ الْجَعَالَةُ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا، لِلِاسْتِغْنَاءِ بِالْإِجَارَةِ. وَلَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ مَالِي فَلَهُ كَذَا، فَرَدَّهُ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ فِي رَدِّهِ كُلْفَةٌ كَالْآبِقِ، اسْتَحَقَّ الْجَعْلَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، كَالدَّرَاهِمِ

فصل

وَالدَّنَانِيرِ، فَلَا، لِأَنَّ مَا لَا كُلْفَةَ فِيهِ لَا يُقَابَلُ بِالْعِوَضِ. وَلَوْ قَالَ: مَنْ دَلَّنِي عَلَى مَالِي فَلَهُ كَذَا، فَدَلَّهُ مَنِ الْمَالُ فِي يَدِهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، فَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ عِوَضًا. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَدَلَّهُ عَلَيْهِ، اسْتَحَقَّ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ يَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ بِالْبَحْثِ عَنْهُ. وَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْعَمَلِ لِجَوَازِ الْإِجَارَةِ، يُعْتَبَرُ فِي الْجَعَالَةِ، سِوَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا. قُلْتُ: فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي بِكَذَا، فَأَخْبَرَهُ بِهِ إِنْسَانٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى عَمَلٍ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْجَعْلُ الْمَشْرُوطُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَالْأُجْرَةِ، لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَى جَهَالَتِهِ. فَإِنْ شَرَطَ مَجْهُولًا، بِأَنْ قَالَ: مَنْ رَدَّ آبِقِي فَلَهُ ثَوْبٌ أَوْ دَابَّةٌ، أَوْ إِنْ رَدَدْتَهُ فَعَلَيَّ أَنْ أُرْضِيَكَ أَوْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا، فَسَدَ الْعَقْدُ. وَإِذَا رَدَّ، اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَكَذَا لَوْ جُعِلَ الْجَعْلُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا. وَلَوْ جُعِلَ الْجَعْلُ ثَوْبًا مَغْصُوبًا، قَالَ الْإِمَامُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَوْلَانِ كَمَا لَوْ جُعِلَ الْمَغْصُوبُ صَدَاقًا، فَيَرْجِعَ فِي قَوْلٍ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلٍ بِقِيمَةِ الْمُسَمَّى. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ الْقَطْعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَلَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ سَلْبُهُ أَوْ ثِيَابُهُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً، أَوْ وَصَفَهَا بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، اسْتَحَقَّ الرَّادُّ الْمَشْرُوطَ، وَإِلَّا، فَأُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَلَوْ قَالَ: فَلَهُ نِصْفُهُ أَوْ رُبْعُهُ، فَقَدْ صَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي، وَمَنَعَهُ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ. فَصْلٌ لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ لِي عَبْدِي مِنْ بَلَدِ كَذَا فَلَهُ دِينَارٌ، بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْجَعَالَةِ فِي الْعَمَلِ الْمَعْلُومِ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، فَمَنْ رَدَّهُ مِنْ نِصْفِ الطَّرِيقِ، اسْتَحَقَّ نِصْفَ

فصل

الْجَعْلِ، وَمَنْ رَدَّهُ مِنْ ثُلْثِهِ، اسْتَحَقَّ الثُّلُثَ. وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ مَكَانٍ أَبْعَدَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ زِيَادَةً. وَلَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ لِي عَبْدَيْنِ فَلَهُ كَذَا، فَرَدَّ أَحَدَهُمَا، اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْجَعْلِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ رَدَدْتُمَا عَبْدَيَّ فَلَكُمَا كَذَا، فَرَدَّهُ أَحَدُهُمَا، اسْتَحَقَّ النِّصْفَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: إِنْ رَدَدْتُمَا لِي عَبْدَيْنِ، فَرَدَّ أَحَدُهُمَا أَحَدَهُمَا، اسْتَحَقَّ الرُّبْعَ. فَصْلٌ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ، فَاشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ، فَالدِّينَارُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ. وَلَوْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: إِنْ رَدَدْتُمُوهُ، فَرَدُّوهُ، فَكَذَلِكَ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى الرُّءُوسِ. وَلَوْ قَالَ لِزَيْدٍ: إِنْ رَدَدْتَهُ فَلَكَ دِينَارٌ، فَرَدَّهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، فَلَا شَيْءَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ. وَأَمَّا زَيْدٌ، فَإِنْ قَصَدَ الْغَيْرُ مُعَاوَنَتَهُ إِمَّا بِعِوَضٍ وَإِمَّا مَجَّانًا، فَلَهُ تَمَامُ الْجَعْلِ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَيْرِ عَلَى زَيْدٍ، إِلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ لَهُ أُجْرَةً وَيَسْتَعِينَ بِهِ. وَإِنْ قَالَ: عَمِلْتُ لِلْمَالِكِ، لَمْ يَكُنْ لِزَيْدٍ جَمِيعُ الدِّينَارِ، بَلْ لَهُ نِصْفُهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَرَأَى الْإِمَامُ التَّوْزِيعَ عَلَى الْعَمَلِ أَرْجَحَ. وَلَوْ شَارَكَهُ اثْنَانِ فِي الرَّدِّ، فَإِنْ قَصَدَا إِعَانَةَ زَيْدٍ، فَلَهُ تَمَامُ الْجَعْلِ، وَإِنْ قَصَدَا الْعَمَلَ لِلْمَالِكِ، فَلَهُ ثُلْثُهُ. وَإِنْ قَصَدَ أَحَدُهُمَا إِعَانَتَهُ، وَالْآخَرُ الْعَمَلَ لِلْمَالِكِ، فَلَهُ الثُّلْثَانِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ لِلْعَامِلِ الْمُعَيَّنِ أَنْ يُوَكِّلَ بِالرَّدِّ غَيْرَهُ كَمَا يَسْتَعِينُ بِهِ؟ وَهَلْ إِذَا كَانَ النِّدَاءُ عَامًّا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ سَمِعَهُ غَيْرَهُ فِي الرَّدِّ؟ قُلْنَا: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ كَتَوْكِيلِ الْوَكِيلِ، وَالثَّانِي كَالتَّوْكِيلِ بِالِاحْتِطَابِ وَالِاسْتِقَاءِ.

قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يَرُدُّ آبِقِي فَلَهُ دِينَارٌ، فَرَدَّهُ اثْنَانِ، اسْتَحَقَّا الدِّينَارَ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الطَّرَفِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ لِرَجُلٍ: إِنْ رَدَدْتَهُ فَلَكَ كَذَا، وَلِآخَرَ: إِنْ رَدَدْتَهُ فَلَكَ كَذَا، وَلِثَالِثٍ: إِنْ رَدَدْتَهُ فَلَكَ كَذَا، فَاشْتَرَكُوا فِي الرَّدِّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُلْثُ مَا جَعَلَ لَهُ، اتَّفَقَتِ الْأَجْعَالُ أَمِ اخْتَلَفَتْ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: هَذَا إِذَا عَمِلَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ. أَمَّا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَعَنْتُ صَاحِبَيَّ عَمِلْتُ لَهُمَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ مَا شَرَطَ لَهُ. وَلَوْ قَالَ اثْنَانِ: عَمِلْنَا لِصَاحِبِنَا، فَلَا شَيْءَ لَهُمَا، وَلَهُ جَمِيعُ الْمَشْرُوطِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِكُلِّ وَاحِدٍ الثُّلُثُ، تَصْرِيحٌ بِالتَّوْزِيعِ عَلَى الرُّءُوسِ، فَلَوْ رَدَّهُ اثْنَانِ مِنْهُمْ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ الْمَشْرُوطِ [لَهُ] ، وَإِنْ أَعَانَ الثَّلَاثَةَ رَابِعٌ فِي الرَّدِّ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. ثُمَّ إِنْ قَالَ: قَصَدْتُ الْعَمَلَ لِلْمَالِكِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ رُبْعُ الْمَشْرُوطِ لَهُ. وَإِنْ قَالَ: أَعَنْتُهُمْ جَمِيعًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْمَشْرُوطِ [لَهُ] كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ. وَإِنْ قَالَ: أَعَنْتُ فُلَانًا، فَلَهُ نِصْفُ الْمَشْرُوطِ لَهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِينَ رُبْعُ الْمَشْرُوطِ لَهُ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ لَوْ قَالَ: أَعَنْتُ فُلَانًا وَفُلَانًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ الْمَشْرُوطِ لَهُ وَثَمَنُهُ، وَلِلثَّالِثِ رُبْعُ الْمَشْرُوطِ لَهُ. وَلَوْ قَالَ لِوَاحِدٍ: إِنْ رَدَدْتَهُ فَلَكَ دِينَارٌ، وَقَالَ لِآخَرَ: إِنْ رَدَدْتَهُ فَلَكَ ثَوْبٌ، فَرَدَّاهُ، فَلِلْأَوَّلِ نِصْفُ دِينَارٍ، وَلِلثَّانِي نِصْفُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ.

فصل

قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ الْمُعِينُ لِلثَّلَاثَةِ مَثَلًا فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ: أَرَدْتُ أَنْ آخُذَ الْجَعْلَ مِنَ الْمَالِكِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَكَانَ لِكُلٍّ مِنَ الثَّلَاثَةِ رُبْعُ الْمَشْرُوطِ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْجَعَالَةِ فَمِنْهَا: الْجَوَازُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِلِ فَسْخُهَا قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ، فَأَمَّا بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ، فَلَا أَثَرَ لِلْفَسْخِ، لِأَنَّ الدِّينَ لَزِمَ. ثُمَّ إِنِ اتَّفَقَ الْفَسْخُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَإِنْ فَسَخَ الْعَامِلُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّهُ امْتَنَعَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَحْصُلْ غَرَضُ الْمَالِكِ. وَإِنْ فَسَخَ الْمَالِكُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ كَمَا لَوْ فَسَخَ بِنَفْسِهِ. وَالصَّحِيحُ، أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِمَا عَمِلَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ حَتَّى يَضْمَنَ لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ مِثْلِ مَا عَمِلَ. وَلَوْ عَمِلَ الْعَامِلُ شَيْئًا بَعْدَ الْفَسْخِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا إِنْ عَلِمَ بِالْفَسْخِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِي نُفُوذِ عَزْلِ الْوَكِيلِ فِي غَيْبَتِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ. فَرْعٌ تَنْفَسِخُ الْجَعَالَةُ بِالْمَوْتِ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ لِمَا عَمِلَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَالِكِ. فَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْمَسَافَةِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَالِكُ فَرَدَّهُ إِلَى وَارِثِهِ، اسْتَحَقَّ مِنَ الْمُسَمَّى بِقَدْرِ عَمَلِهِ فِي الْحَيَاةِ. فَرْعٌ وَمِنْ أَحْكَامِهَا: جَوَازُ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فِي الْجَعْلِ، وَتَغَيُّرِ جِنْسِهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي

الْعَمَلِ. فَلَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي، فَلَهُ عَشَرَةٌ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ رَدَّهُ فَلَهُ خَمْسَةٌ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَالِاعْتِبَارُ بِالنِّدَاءِ الْأَخِيرِ. وَالْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الرَّادُّ، لَكِنْ لَوْ لَمْ يَسْمَعِ الرَّادُّ النِّدَاءَ الْأَخِيرَ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَرْجِعُ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، فَفِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرِهِ تَقْيِيدُ جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ بِمَا قَبْلَ الْعَمَلِ، وَفِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ قَبْلَ الْفَرَاغِ. فَالظَّاهِرُ، أَنَّهُ فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ يُؤَثِّرُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ النِّدَاءَ الْأَخِيرَ فَسْخٌ لِلْأَوَّلِ، وَالْفَسْخُ فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ يَقْتَضِي أُجْرَةَ الْمِثْلِ. فَرْعٌ وَمِنْ أَحْكَامِهَا، تَوَقُّفُ اسْتِحْقَاقِ الْجَعْلِ عَلَى تَمَامِ الْجَعْلِ عَلَى تَمَامِ الْعَمَلِ. فَلَوْ سَعَى فِي طَلَبِ الْآبِقِ، فَرَدَّهُ فَمَاتَ فِي بَابِ دَارِ الْمَالِكِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ، أَوْ هَرَبَ، أَوْ غُصِبَ، أَوْ تَرَكَهُ الْعَامِلُ فَرَجَعَ، فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ. قُلْتُ: وَمِنْهُ لَوْ خَاطَ نِصْفَ الثَّوْبِ فَاحْتَرَقَ، أَوْ تَرَكَهُ، أَوْ بَنَى بَعْضَ الْحَائِطِ فَانْهَدَمَ، أَوْ تَرَكَهُ، فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ، قَالَهُ أَصْحَابُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا رَدَّ الْآبِقَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْجَعْلِ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالتَّسْلِيمِ، وَلَا حَبْسَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ عَلَّمْتَ هَذَا الصَّبِيَّ، أَوْ إِنْ عَلَّمْتَنِي الْقُرْآنَ، فَلَكَ كَذَا، فَعَلَّمَهُ الْبَعْضَ،

فصل

وَامْتَنَعَ مِنْ تَعْلِيمِ الْبَاقِي، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الصَّبِيُّ بَلِيدًا لَا يَتَعَلَّمُ، لِأَنَّهُ كَمَنْ طَلَبَ الْعَبْدَ فَلَمْ يَجِدْهُ. وَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيمِ، [اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ مَا عَلَّمَهُ، لِوُقُوعِهِ مُسَلَّمًا بِالتَّعْلِيمِ، بِخِلَافِ رَدِّ الْآبِقِ، وَإِنْ مَنَعَهُ أَبُوهُ مِنَ التَّعَلُّمِ] فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا عَلَّمَهُ. فَصْلٌ إِذَا جَاءَ بِآبِقٍ وَطَلَبَ الْجَعْلَ، فَقَالَ الْمَالِكُ: مَا شَرَطْتُ جَعْلًا، أَوْ شَرَطْتُهُ عَلَى عَبْدٍ آخَرَ، أَوْ مَا سَعَيْتَ فِي رَدِّهِ بَلْ هُوَ جَاءَ بِنَفْسِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الشَّرْطِ وَبَرَاءَتُهُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَشْرُوطِ، تَحَالَفَا، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ الْمَالِكُ: شَرَطْتُهُ عَلَى رَدِّ عَبْدَيْنِ، فَقَالَ الرَّادُّ: بَلِ الَّذِي رَدَدْتُهُ فَقَطْ. فَرْعٌ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي إِلَى شَهْرٍ، فَلَهُ كَذَا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمُدَّةِ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ، فَرُبَّمَا لَا يَجِدُهُ فِيهَا فَيَضِيعُ عَمَلُهُ وَلَا يَحْصُلُ غَرَضُ الْمَالِكِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ مُدَّةِ الْقِرَاضِ. فَرْعٌ قَالَ: بِعْ عَبْدِي هَذَا، أَوِ اعْمَلْ كَذَا، وَلَكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَفِي بَعْضِ التَّصَانِيفِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ مُضْبَطًا مُقَدَّرًا، فَهُوَ إِجَارَةٌ. وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى تَرَدُّدٍ، أَوْ كَانَ غَيْرَ مَضْبُوطٍ، فَهُوَ جَعَالَةٌ.

فَرْعٌ لَمْ أَجِدْهُ مَسْطُورًا يَدُ الْعَامِلِ عَلَى مَا يَقَعُ فِي يَدِهِ إِلَى أَنْ يَرُدَّهُ يَدُ أَمَانَةٍ. فَلَوْ رَفَعَ يَدَهُ عَنِ الدَّابَّةِ وَخَلَّاهَا فِي مَضْيَعَةٍ، فَهُوَ تَقْصِيرٌ مُضَمِّنٌ، وَنَفَقَةُ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ مُدَّةُ الرَّدِّ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي مُسْتَأْجِرِ الْجِمَالِ إِذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ وَخَلَّاهَا عِنْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ذَاكَ لِلضَّرُورَةِ، وَهُنَا أَثْبَتَ الْعَامِلُ يَدَهُ مُخْتَارًا، فَلْيَتَكَلَّفِ الْمُؤْنَةَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْعَادَةُ. قُلْتُ: عَجَبٌ قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ فِي نَفَقَةِ الْمَرْدُودِ: لَا أَعْلَمُهُ مَسْطُورًا، وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ «التَّجْرِيدِ» وَهُوَ كَثِيرُ النَّقْلِ عَنْهُ، فَقَالَ: إِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ الرَّادُّ، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ عِنْدَنَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، ظَاهِرٌ جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ. وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ: وَخَلَّاهَا فِي مَضْيَعَةٍ، لَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْيِيدِ بِالْمَضْيَعَةِ، فَحَيْثُ خَلَّاهَا، يَضْمَنُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِخُرُوجِ زِيدٍ مِنَ الْبَلَدِ، فَلَكَ كَذَا، فَأَخْبَرَهُ، فَفِي «فَتَاوَى الْقَفَّالِ» : أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي خُرُوجِهِ، اسْتَحَقَّ، وَإِلَّا، فَلَا، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ صَادِقًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ، هَلْ يَنَالُهُ تَعَبٌ، أَمْ لَا؟ قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ، وَتَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجُلَانِ فِي بَادِيَةٍ وَنَحْوِهَا، فَمَرِضَ أَحَدُهُمَا، وَعَجَزَ عَنِ السَّيْرِ، لَزِمَ

الْآخَرَ الْمُقَامُ مَعَهُ، إِلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَهُ تَرْكُهُ. وَإِذَا أَقَامَ، فَلَا أُجْرَةَ لَهُ. وَإِذَا مَاتَ، أَخَذَ هَذَا الرَّجُلُ مَالَهُ وَأَوْصَلَهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا، قَالَ الْقَاضِيَ: وَكَذَا لَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَأَمَّا وُجُوبُ أَخْذِ هَذَا الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ أَمِينًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ كَاللُّقَطَةِ. وَعِنْدِي، أَنَّ الْمَذْهَبَ هُنَا الْوُجُوبُ. وَمِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ، قَالَ: إِذَا وَجَدْنَا عَبِيدًا أَبَقُوا، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْحَاكِمَ يَحْبِسُهُمُ انْتِظَارًا لِصَاحِبِهِمْ. فَإِنْ لَمْ يَجِئْ لَهُمْ صَاحِبٌ، بَاعَهُمُ الْحَاكِمُ وَحَفَظَ ثَمَنَهُمْ. فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهُمْ، فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ الثَّمَنِ. وَإِذَا سَرَقَ الْآبِقُ، قُطِعَ كَغَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب إحياء الموات

كِتَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ مُسْتَحَبٌّ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ. [الْبَابُ] الْأَوَّلُ: فِي رِقَابِ الْأَرَضِينَ، وَهِيَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: أَرْضُ الْإِسْلَامِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا تَكُونَ مَعْمُورَةً فِي الْحَالِ، وَلَا مِنْ قَبْلُ، فَيَجُوزُ تَمَلُّكُهَا بِالْإِحْيَاءِ، سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ، أَمْ لَا، وَيَكْفِي فِيهِ إِذْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ، وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ. فَلَوْ أَحْيَاهَا الذِّمِّيُّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، لَمْ يُمَلَّكْ قَطْعًا، وَلَوْ أَحْيَا بِإِذْنِهِ، لَمْ يُمَلَّكْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ: يُمَلَّكُ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَكَانَ لَهُ فِيهَا عَيْنُ مَالٍ، نَقَلَهَا. فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ النَّقْلِ أَثَرُ عِمَارَةٍ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: إِنْ أَحْيَاهُ رَجُلٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، مَلَّكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: لَعَلَّ أَصَحَّهُمَا: الْمِلْكُ، إِذْ لَا أَثَرَ لِفِعْلِ الذِّمِّيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَرَكَ الْعِمَارَةَ مُتَبَرِّعًا، تَوَلَّى الْإِمَامُ أَخْذَ غَلَّتِهَا وَصَرْفِهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهَا. فَرْعٌ لِلذِّمِّيِّ الِاصْطِيَادُ وَالِاحْتِطَابُ وَالِاحْتِشَاشُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُخْلَفُ،

وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ، وَكَذَا لِلذِّمِّيِّ نَقْلُ التُّرَابِ مِنْ مَوَاتِ دَارِ الْإِسْلَامِ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. فَرْعٌ الْمُسْتَأْمَنُ كَالذِّمِّيِّ فِي الْإِحْيَاءِ وَفِي الِاحْتِطَابِ وَنَحْوِهِ، وَالْحَرْبِيُّ مَمْنُوعٌ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَعْمُورَةً فِي الْحَالِ، فَهِيَ لِمُلَّاكِهَا، وَلَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْإِحْيَاءِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَكُونَ مَعْمُورَةً فِي الْحَالِ وَكَانَتْ مَعْمُورَةً قَبْلُ، فَإِنْ عُرِفَ مَالِكُهَا، فَهِيَ لَهُ أَوْ لِوَارِثِهِ، وَلَا تُملَّك بِالْعِمَارَةِ. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ عِمَارَةً إِسْلَامِيَّةً، فَهِيَ لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْأَمْرُ فِيهِ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. فَإِنْ رَأَى حِفْظَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهُ، فُعِلَ، وَإِنْ رَأَى بَيْعَهُ وَحِفْظَ ثَمَنِهِ، فُعِلَ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا. وَإِنْ كَانَتْ عِمَارَةً جَاهِلِيَّةً، فَقَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تُملَّك بِالْإِحْيَاءِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوَاتٍ. وَأَظْهَرُهُمَا: تُملَّك كَالرِّكَازِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: إِنْ بَقِيَ أَثَرُ الْعِمَارَةِ أَوْ كَانَ مَعْمُورًا فِي جَاهِلِيَّةٍ قَرِيبَةٍ، لَمْ تُملَّك بِالْإِحْيَاءِ، وَإِنِ انْدَرَسَتْ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَقَادَمَ عَهْدُهَا، مُلِّكَتْ. ثُمَّ إِنَّ الْبَغَوِيَّ وَآخَرِينَ عَمَّمُوا هَذَا [الْخِلَافَ] ، وَفَرَّعُوا عَلَى الْمَنْعِ أَنَّهَا إِنْ أُخِذَتْ بِقِتَالٍ فَهِيَ لِلْغَانِمِينَ، وَإِلَّا، فَهِيَ أَرْضٌ لِلْفَيْئِ، قَالَ الْإِمَامُ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ كَيْفِيَّةُ اسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَدُخُولِهِ تَحْتَ يَدِهِمْ، فَأَمَّا إِنْ عُلِمَ، فَإِنْ حَصَلَتْ بِقِتَالٍ، فَلِلْغَانِمِينَ، وَإِلَّا، فَفَيْءٌ، وَحِصَّةُ الْغَانِمِينَ تَلْتَحِقُ بِمِلْكِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ. وَطَرَدَ جَمَاعَةٌ الْخِلَافَ، فِيمَا إِذَا

كَانَتِ الْعِمَارَةُ إِسْلَامِيَّةً وَلَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهَا، وَقَالُوا: هِيَ كَلُقَطَةٍ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهَا. وَالْجُمْهُورُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ كَمَا سَبَقَ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَرْضُ بِلَادِ الْكُفَّارِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَعْمُورَةً، فَلَا مَدْخَلَ لِلْإِحْيَاءِ فِيهَا، بَلْ هِيَ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ فَإِذَا اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهَا بِقِتَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ مَعْمُورَةً فِي الْحَالِ وَلَا مِنْ قَبْلُ، فَيَتَمَلَّكُهَا الْكُفَّارُ بِالْإِحْيَاءِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ مَوَاتًا لَا يَذُبُّونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ، فَلَهُمْ تَمَلُّكُهُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا يُمَلَّكُ بِالِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُمْ حَتَّى يُمَلَّكَ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ ذَبُّوا عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُمَلَّكْ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمَعْمُورِ مِنْ بِلَادِهِمْ. فَإِنِ اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ اخْتِصَاصًا كَاخْتِصَاصِ الْمُتَحَجِّرِ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ أَبْلَغُ مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافٌ فِي أَنَّ التَّحَجُّرَ [هَلْ] يُفِيدُ جَوَازَ الْبَيْعِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ كَالْمَعْمُورِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَالْغَانِمُونَ أَحَقُّ بِإِحْيَاءِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، وَأَهْلُ الْخُمُسِ أَحَقُّ بِإِحْيَاءِ خُمُسِهِ. فَإِنْ أَعْرَضَ الْغَانِمُونَ عَنْ إِحْيَائِهِ، فَأَهْلُ الْخُمُسِ أَحَقُّ بِهِ. وَلَوْ أَعْرَضَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ، فَالْبَاقُونَ أَحَقُّ. وَإِنْ تَرَكَهُ الْغَانِمُونَ وَأَهْلُ الْخُمُسِ جَمِيعًا، مُلِّكَهُ مَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْتُ: فِي تَصَوُّرِ إِعْرَاضِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِشْكَالٌ، فَيُصَوَّرُ فِي الْيَتَامَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ لَمْ يَرَوْا لَهُمْ حَظًّا فِي الْإِحْيَاءِ، وَنَحْوَهُ فِي الْبَاقِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُمَلَّكونَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ كَالْمَعْمُورِ. وَ [الْوَجْهُ] الثَّالِثُ: لَا يُفِيدُ مِلْكًا وَلَا اخْتِصَاصًا، بَلْ هُوَ كَمَوَاتِ دَارِ الْإِسْلَامِ، مَنْ أَحْيَاهُ مُلِّكَهُ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَكُونَ مَعْمُورَةً فِي الْحَالِ وَكَانَتْ مَعْمُورَةً، فَإِنْ عُرِفَ مَالِكُهَا، فَكَالْمَعْمُورَةِ، وَإِلَّا، فَفِيهِ طَرِيقَةُ الْخِلَافِ وَطَرِيقَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ السَّابِقَتَانِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. فَرْعٌ إِذَا فَتَحْنَا بَلْدَةً صُلْحًا عَلَى أَنْ تَكُونَ لَنَا وَيَسْكُنُوا بِجِزْيَةٍ، فَالْمَعْمُورُ مِنْهَا فَيْءٌ، وَمَوَاتُهَا الَّذِي كَانُوا يَذُبُّونَ عَنْهُ، هَلْ يَكُونُ مُتَحَجِّرًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. فَعَلَى هَذَا، هُوَ فَيْءٌ فِي الْحَالِ، أَمْ يَحْبِسُهُ الْإِمَامُ لَهُمْ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَإِنْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْبَلْدَةُ لَهُمْ، فَالْمَعْمُورُ لَهُمْ، وَالْمَوَاتُ يَخْتَصُّونَ بِإِحْيَائِهِ تَبَعًا لِلْمَعْمُورِ، وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَصَاحِبِ التَّقْرِيبِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا الِامْتِنَاعُ عَنْ مَوَاتِهَا إِذَا شَرَطْنَاهُ فِي الصُّلْحِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. فَرْعٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْبِيَعُ الَّتِي لِلنَّصَارَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَا تُملَّك عَلَيْهِمْ. فَإِنْ فَنُوا، فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ ذِمِّيٌّ وَلَا وَارِثَ لَهُ، فَتَكُونُ فَيْئًا. فَرْعٌ حَرِيمُ الْمَعْمُورِ لَا يُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ، لِأَنَّ مَالِكَ الْمَعْمُورِ يَسْتَحِقُّ مَرَافِقَهُ، وَهَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ يُمَلَّكُ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِحْيَاءِ وَلَمْ يُحْيِهَا،

وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَمَا يُمَلَّكُ عَرْصَةَ الدَّارِ بِبِنَاءِ الدَّارِ، وَلِأَنَّ الْإِحْيَاءَ تَارَةً يَكُونُ بِجَعْلِهِ مَعْمُورًا، وَتَارَةً بِجَعْلِهِ تَبَعًا لِلْمَعْمُورِ. وَلَوْ بَاعَ حَرِيمَ مُلْكِهِ دُونَ الْمِلْكِ، لَمْ يَصِحَّ، قَالَهُ أَبُو عَاصِمٍ، كَمَا لَوْ بَاعَ شِرْبَ الْأَرْضِ وَحْدَهُ. قَالَ: وَلَوْ حَفَرَ اثْنَانِ بِئْرًا عَلَى أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْبِئْرِ لِأَحَدِهِمَا وَحَرِيمُهَا لِلْآخَرِ، لَمْ يَصِحَّ وَكَانَ الْحَرِيمُ لِصَاحِبِ الْبِئْرِ، وَلِلْآخَرِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ. فَرْعٌ فِي بَيَانِ الْحَرِيمِ وَهُوَ الْمَوَاضِعُ الْقَرِيبَةُ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ، كَالطَّرِيقِ وَمَسِيلِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِيهِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: ذَكَرْنَا فِي الْحَالِ الثَّالِثِ: إِذَا صَالَحْنَا الْكُفَّارَ عَلَى بَلْدَةٍ، لَمْ يَجُزْ إِحْيَاءُ مَوَاتِهَا الَّذِي يَذُبُّونَ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَهُوَ مِنْ حَرِيمِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَمَرَافِقِهَا. الثَّانِيَةُ: حَرِيمُ الْقُرَى الْمُحْيَاةِ: مَا حَوْلَهَا مِنْ مُجْتَمَعِ أَهْلِ النَّادِي، وَمُرْتَكِضِ الْخَيْلِ، وَمُنَاخِ الْإِبِلِ، وَمَطْرَحِ الرَّمَادِ وَالسِّمَادِ، وَسَائِرِ مَا يُعَدُّ مِنْ مَرَافِقِهَا. وَأَمَّا مَرْعَى الْبَهَائِمِ، فَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ بَعُدَ عَنِ الْقَرْيَةِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ حَرِيمِهَا. وَإِنْ قَرُبَ وَلَمْ يَسْتَقِلَّ مَرْعًى، وَلَكِنْ كَانَتِ الْبَهَائِمُ تَرْعَى فِيهِ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الْإِبْعَادِ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ، خِلَافٌ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرِيمٍ. وَأَمَّا مَا يَسْتَقِلُّ مَرْعًى وَهُوَ قَرِيبٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّهُ حَرِيمٌ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: مَرْعَى الْبَهَائِمِ حَرِيمٌ لِلْقَرْيَةِ مُطْلَقًا.

فَرْعٌ الْمُحْتَطَبُ كَالْمَرْعَى. الثَّالِثَةُ: حَرِيمُ الدَّارِ فِي الْمَوَاتِ: مَطْرَحُ التُّرَابِ وَالرَّمَادِ وَالْكُنَاسَاتِ وَالثَّلْجِ، وَالْمَمَرُّ فِي الصَّوْبِ الَّذِي فُتِحَ إِلَيْهِ الْبَابُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِحْقَاقُ الْمَمَرِّ فِي قُبَالَةِ الْبَابِ عَلَى امْتِدَادِ الْمَوَاتِ، بَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ إِحْيَاءُ مَا فِي قُبَالَةِ الْبَابِ إِذَا أُبْقِيَ الْمَمَرُّ لَهُ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى انْعِطَافٍ وَازْوِرَارٍ، فَعَلَ. فَرْعٌ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ كَجٍّ فِنَاءَ الدَّارِ مِنْ حَرِيمِهَا. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: عِنْدِي أَنَّ حِيطَانَ الدَّارِ لَا فِنَاءَ لَهَا وَلَا حَرِيمَ. فَلَوْ أَرَادَ مُحْيٍ أَنْ يَبْنِيَ بِجَنْبِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ فَنَائِهَا، لَكِنْ يُمْنَعُ مِمَّا يَضُرُّ الْحِيطَانَ كَحَفْرِ بِئْرٍ بِقُرْبِهَا. الرَّابِعَةُ: الْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْمَوَاتِ، حَرِيمُهَا الْمَوْضِعُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّازِحُ، وَمَوْضِعُ الدُّولَابِ وَمُتَرَدِّدُ الْبَهِيمَةِ إِنْ كَانَ الِاسْتِقَاءُ بِهِمَا، وَمَصَبُّ الْمَاءِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ لِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ وَالزُّرُوعِ مِنْ حَوْضٍ وَنَحْوِهِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْرَحُ فِيهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، كَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَفِي وَجْهٍ: حَرِيمُ الْبِئْرِ: قَدْرَ عُمْقِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التَّحْدِيدَ، وَحَمَلَ اخْتِلَافَ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي التَّحْدِيدِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ. وَبِهَذَا يُقَاسُ حَرِيمُ النَّهْرِ الْمَحْفُورِ فِي الْمَوَاتِ. وَأَمَّا الْقَنَاةُ فَآبَارُهَا لَا يُسْتَقَى مِنْهَا حَتَّى يُعْتَبَرَ بِهِ الْحَرِيمُ، فَحَرِيمُهَا: الْقَدْرُ الَّذِي لَوْ حُفِرَ فِيهِ لَنَقَصَ مَاؤُهَا، أَوْ خِيفَ مِنْهُ انْهِيَارٌ وَانْكِبَاسٌ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِصَلَابَةِ الْأَرْضِ وَرَخَاوَتِهَا.

وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ حَرِيمَهَا حَرِيمُ الْبِئْرِ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْحَفْرِ إِذَا جَاوَزَهُ وَإِنْ نَقَصَ الْمَاءُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَالْقَائِلُونَ بِهِ، قَالُوا: لَوْ جَاءَ آخَرُ وَتَنَحَّى عَنِ الْمَوَاضِعِ الْمَعْدُودَةِ حَرِيمًا، وَحَفَرَ بِئْرًا يُنْقِصُ مَاءَ الْأَوَّلِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ حَرِيمِ الْبِئْرِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ الْحَفْرُ حَيْثُ يُنْقِصُ مَاءَهَا، كَمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ التَّصَرُّفُ قَرِيبًا مِنْ بِنَائِهِ بِمَا يَضُرُّ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ، فَحَفَرَ جَارُهُ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ فَنَقَصَ مَاءُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَفْرَ فِي الْمَوَاتِ ابْتِدَاءُ تَمَلُّكٍ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُ إِذَا تَضَرَّرَ الْغَيْرُ، وَهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ. وَعَلَى هَذَا، فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ دَاخِلٌ فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ أَيْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ حَرِيمًا، فَذَلِكَ إِذَا انْتَهَى الْمَوَاتُ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مِلْكٌ قَبْلَ تَمَامِ حَدِّ الْحَرِيمِ، فَالْحَرِيمُ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي الْمَوَاتُ. فَرْعٌ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَرِيمِ الْأَمْلَاكِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمِلْكُ مَحْفُوفًا بِالْمَوَاتِ، أَوْ مُتَاخِمًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْجَوَانِبِ. فَأَمَّا الدَّارُ الْمُلَاصِقَةُ لِلدَّارِ، فَلَا حَرِيمَ لَهَا، لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ مُتَعَارِضَةٌ، وَلَيْسَ جَعْلُ مَوْضِعٍ حَرِيمًا لِدَارٍ، أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ حَرِيمًا لِأُخْرَى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُلَّاكِ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفٍ. فَإِنْ تَعَدَّى، ضَمِنَ. وَالْقَوْلُ فِي تَصَرُّفِ الْمَالِكِينَ الْمُتَجَاوِزِينَ بِمَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَبِمَاذَا يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ، مِنْهُ مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، وَمِنْهُ مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي خِلَالِ الدِّيَاتِ.

فَرْعٌ لَوِ اتَّخَذَ دَارَهُ الْمَحْفُوفَةَ بِالْمَسَاكِنِ حَمَّامًا، أَوِ إِصْطَبْلًا، أَوْ طَاحُونَةً، أَوْ حَانُوتَهُ فِي صَفِّ الْعَطَّارِينَ حَانُوتَ حَدَّادٍ أَوْ قَصَّارٍ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُ، لِلْإِضْرَارِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَفِي مَنْعِهِ إِضْرَارٌ بِهِ. وَهَذَا إِذَا احْتَاطَ وَأَحْكَمَ الْجُدْرَانَ بِحَيْثُ يَلِيقُ بِمَا يَقْصِدُهُ، فَإِنْ فَعَلَ مَا الْغَالِبُ فِيهِ ظُهُورُ الْخَلَلِ فِي حِيطَانِ الْجَارِ، فَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَدُقَّ الشَّيْءَ فِي دَارِهِ دَقًّا عَنِيفًا تَتَزَعْزَعُ مِنْهُ الْحِيطَانُ، أَوْ حَبَسَ الْمَاءَ فِي مِلْكِهِ بِحَيْثُ تَنْتَشِرُ مِنْهُ النَّدَاوَةُ إِلَى حِيطَانِ الْجَارِ. وَلَوِ اتَّخَذَ دَارَهُ مَدْبَغَةً، أَوْ حَانُوتَهُ مَخْبَزَةً حَيْثُ لَا يُعْتَادُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُمْنَعُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. وَاخْتَارَ الرُّوْيَانِيُّ فِي كُلِّ هَذَا، أَنْ يَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ فِيهَا، وَيَمْنَعَ إِنْ ظَهَرَ لَهُ التَّعَنُّتُ وَقَصْدُ الْفَسَادِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إِطَالَةِ الْبَنَّاءِ وَمَنْعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. فَرْعٌ لَوْ حَفَرَ فِي مِلْكِهِ بِئْرَ بَالُوعَةٍ وَفَسَدَ بِهَا مَاءُ بِئْرِ جَارِهِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَخَالَفَ فِيهِ الْقَفَّالُ. فَرْعٌ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْيَاءِ مَا وَرَاءَ الْحَرِيمِ، قَرُبَ، أَمْ بَعُدَ، وَسَوَاءٌ أَحْيَاهُ أَهْلُ الْعُمْرَانِ، أَمْ غَيْرُهُمْ.

فصل

فَرْعٌ مَوَاتُ الْحَرَمِ يُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ، كَمَا أَنَّ مَعْمُورَهُ يُمَلَّكُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. وَهَلْ تُملَّك أَرْضُ عَرَفَاتٍ بِالْإِحْيَاءِ كَسَائِرِ الْبِقَاعِ، أَمْ لَا، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوُقُوفِ بِهَا؟ وَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا: تُملَّك، فَفِي بَقَاءِ حَقِّ الْوُقُوفِ فِيمَا مُلِّكَ وَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا: يَبْقَى، فَذَاكَ مَعَ اتِّسَاعِ الْبَاقِي، أَمْ بِشَرْطِ ضِيقِهِ عَلَى الْحَجِيجِ؟ وَجْهَانِ. وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ، الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَضِيقَ الْمَوْقِفُ فَيُمْنَعَ، أَوْ، لَا، فَلَا. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَشَبَّهَهَا بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا وَخُصُوصًا، كَالْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ وَالرِّبَاطَاتِ، وَمُصَلَّى الْعِيدِ خَارِجَ الْبَلَدِ. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي أَرْضِ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ، كَعَرَفَاتٍ، لِوُجُودِ الْمَعْنَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الشَّارِعُ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ مُتَحَجِّرٌ مَا لَمْ يُتِمَّهُ، وَكَذَا إِذَا أَعْلَمَ عَلَيْهِ عَلَامَةً لِلْعِمَارَةِ، مِنْ نَصْبِ أَحْجَارٍ، أَوْ غَرْزِ خَشَبَاتٍ، أَوْ قَصَبَاتٍ، أَوْ جَمْعِ تُرَابٍ، أَوْ خَطِّ خُطُوطٍ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، بَلْ يَجْعَلُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَجْهًا: أَنَّهُ يُمَلَّكُ بِهِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا مَاتَ الْمُتَحَجِّرُ، انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى وَرَثَتِهِ. وَلَوْ نَقَلَهُ إِلَى غَيْرِهِ، صَارَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيَنْبَغِي لِلْمُتَحَجِّرِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهِ، وَأَنْ لَا يَتَحَجَّرَ مَا لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِعِمَارَتِهِ. فَإِنْ خَالَفَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَلِغَيْرِهِ أَنْ يُحْيِيَ مَا زَادَ عَلَى كِفَايَتِهِ، وَمَا زَادَ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ بِعِمَارَتِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَصِحُّ تَحَجُّرُهُ أَصْلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ. قُلْتُ: قَوْلُ الْمُتَوَلِّي أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْعِمَارَةِ عَقِيبَ التَّحَجُّرِ. فَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُحْيِ، قَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: أَحْيِ أَوِ ارْفَعْ يَدَكَ عَنْهُ. فَإِنْ ذَكَرَ عُذْرًا وَاسْتَمْهَلَهُ، أَمْهَلَهُ مُدَّةً قَرِيبَةً يَسْتَعِدُّ فِيهَا لِلْعِمَارَةِ. وَالنَّظَرُ فِي تَقْدِيرِهَا إِلَى رَأْيِ السُّلْطَانِ، وَلَا تَتَقَدَّرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِذَا مَضَتْ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالْعِمَارَةِ، بَطَلَ حَقُّهُ. وَلَيْسَ لِطُولِ الْمُدَّةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ التَّحَجُّرِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعَادَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَحَقُّ الْمُتَحَجِّرِ يَبْطُلُ بِطُولِ الزَّمَانِ وَتَرْكِهِ الْعِمَارَةَ وَإِنْ لَمْ يَرْفَعِ الْأَمْرَ إِلَى السُّلْطَانِ وَلَمْ يُخَاطِبْهُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ التَّحَجُّرَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْعِمَارَةِ، وَهِيَ لَا تُؤَخَّرُ عَنِ التَّحَجُّرِ إِلَّا بِقَدْرِ تَهْيِئَةِ أَسْبَابِهَا، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَحَجُّرُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَهْيِئَةِ الْأَسْبَابِ، كَمَنْ يَتَحَجَّرُ لِيُعَمِّرَ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، وَكَفَقِيرٍ يَتَحَجَّرُ لِيُعَمِّرَ إِذَا قَدَرَ، فَوَجَبَ إِذَا أَخَّرَ وَطَالَ أَنْ يَعُودَ مَوَاتًا كَمَا كَانَ، هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مِثْلَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ إِلَّا بِالرَّفْعِ إِلَى السُّلْطَانِ وَمُخَاطَبَتِهِ. فَرْعٌ لَوْ بَادَرَ أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ أَنْ يَبْطُلَ حَقُّ الْمُتَحَجِّرِ، فَأَحْيَا مَا تَحَجَّرَهُ، مُلِّكَهُ الْمُحْيِي عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، لِأَنَّهُ حَقَّقَ سَبَبَ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا، كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي سَوْمِ أَخِيهِ

وَاشْتَرَى. وَالثَّانِي: لَا يُمَلَّكُ، لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنِ انْضَمَّ إِلَى التَّحَجُّرِ إِقْطَاعُ السُّلْطَانِ، لَمْ يُمَلَّكِ الْمُحْيِي، وَإِلَّا، فَيُمَلَّكُ. وَالرَّابِعُ: إِنْ أَخَذَ الْمُتَحَجِّرُ فِي الْعِمَارَةِ، لَمْ يَمَلَّكِ الْمُبَادِرُ، وَإِلَّا، فَيُمَلَّكُ. وَشَبَّهُوا الْمَسْأَلَةَ بِالْخِلَافِ فِيمَا إِذَا عَشَّشَ الطَّائِرُ فِي مِلْكِهِ وَأَخَذَ الْفَرْخَ غَيْرُهُ، هَلْ يُمَلَّكهُ؟ قُلْتُ: وَالْأَصَحُّ أَيْضًا أَنَّهُ يُمَلَّكهُ. وَكَذَا لَوْ تَوَحَّلَ ظَبْيٌ فِي أَرْضِهِ، أَوْ وَقَعَ الثَّلْجُ فِيهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَتْ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي كِتَابِ الصَّيْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ الْمُتَحَجِّرُ مَا تَحَجَّرَهُ، وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ: إِنَّهُ لَا يُمَلَّكُ، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: يَصِحُّ، وَكَأَنَّهُ يَبِيعُ حَقَّ الِاخْتِصَاصِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ فَأَحْيَاهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي رَجُلٌ، وَقُلْنَا: يُمَلَّكُ، فَهَلْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ، أَمْ لَا، لِحُصُولِ التَّلَفِ بَعْدَ الْقَبْضِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، فَأَحْيَاهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْحُكْمِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ، فَهَلْ يَكُونُ لَهُ، أَمْ لِلْبَائِعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّاشِيُّ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لِإِ قْطَاعِ الْإِمَامِ مَدْخَلٌ فِي الْمَوَاتِ، وَفَائِدَتُهُ مَصِيرُ الْمُقْطِعِ أَحَقُّ بِأَحْيَائِهِ كَالْمُتَحَجِّرِ.

فصل

وَإِذَا طَالَتِ الْمُدَّةُ، أَوْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي الْمُتَحَجِّرِ، وَلَا يُقْطَعُ إِلَّا لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَبِقَدْرِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْإِحْيَاءِ قَالَ الْأَصْحَابُ: الْمُعْتَبَرُ مَا يُعَدُّ إِحْيَاءً فِي الْعُرْفِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يُقْصَدُ بِهِ. وَتَفْصِيلُهُ بِمَسَائِلَ. إِحْدَاهَا: إِذَا أَرَادَ الْمَسْكَنَ، اشْتُرِطَ التَّحْوِيطُ بِالْآجُرِ أَوِ اللَّبِنِ أَوِ الطِّينِ أَوِ الْقَصَبِ أَوِ الْخَشَبِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا تَسْقِيفُ الْبَعْضِ وَنَصْبُ الْبَابِ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا. الثَّانِيَةُ: إِذَا أَرَادَ زَرِيبَةً لِلدَّوَابِّ، أَوْ حَضِيرَةً يُجَفِّفُ فِيهَا الثِّمَارَ أَوْ يَجْمَعُ فِيهَا الْحَطَبَ أَوِ الْحَشِيشَ، اشْتُرِطَ التَّحْوِيطُ، وَلَا يَكْفِي نَصْبُ سَعَفٍ وَأَحْجَارٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ، لِأَنَّ الْمُتَمَلِّكَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْمُجْتَازُ. وَلَوْ حَوَّطَ الْبِنَاءَ فِي طَرَفٍ، وَاقْتَصَرَ لِلْبَاقِي عَلَى نَصْبِ الْأَحْجَارِ وَالسَّعَفِ، حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْقَاضِي، أَنَّهُ [يَكْفِي] ، وَعَنْ شَيْخِهِ: الْمَنْعُ. وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسْقِيفُ هُنَا. وَفِي تَعْلِيقِ الْبَابِ، الْخِلَافُ السَّابِقُ. . الثَّالِثَةُ: إِذَا أَرَادَ مَزْرَعَةً، اشْتُرِطَ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: جَمْعُ التُّرَابِ حَوَالَيْهِ لِيَنْفَصِلَ الْمَحْيَا عَنْ غَيْرِهِ. وَفِي مَعْنَاهُ: نَصْبُ قَصَبٍ وَحَجَرٍ وَشَوْكٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّحْوِيطِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: عِنْدِي

إِذَا صَارَتِ الْأَرْضُ مَزْرَعَةً بِمَاءٍ سِيقَ إِلَيْهَا، فَقَدْ تَمَّ الْإِحْيَاءُ وَإِنْ لَمْ يُجْمَعِ التُّرَابُ حَوْلَهَا. الثَّانِي: تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ بِطَمِّ الْمُنْخَفِضِ وَكَسْحِ الْمُسْتَعْلِي وَحِرَاثَتِهَا وَتَلْيِينِ تُرَابِهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَاءٍ يُسَاقُ إِلَيْهَا، فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِتَتَهَيَّأَ لِلزِّرَاعَةِ. الثَّالِثُ: تَرْتِيبُ مَاءٍ لَهَا بِشَقِّ سَاقِيَةٍ مِنْ نَهْرٍ، أَوْ بِحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ قَنَاةٍ وَسَقْيُهَا، هَلْ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؟ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ اشْتِرَاطَهُ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْأَرْضَ إِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يَكْفِي لِزِرَاعَتِهَا مَاءُ السَّمَاءِ، لَمْ يُشْتَرَطِ السَّقْيُ وَتَرْتِيبُ مَاءٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَاجُ إِلَى مَاءٍ يُسَاقُ إِلَيْهَا، اشْتُرِطَ تَهْيِئَةُ مَاءٍ مِنْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَإِذَا هَيَّأَهُ، نُظِرَ، إِنْ حَفَرَ لَهُ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا إِجْرَاءُ الْمَاءِ، كَفَى، وَلَمْ يُشْتَرَطِ الْإِجْرَاءُ، وَلَا سَقْيُ الْأَرْضِ. وَإِنْ لَمْ يُحْفَرْ بَعْدُ، فَوَجْهَانِ. وَأَمَّا أَرْضُ الْجِبَالِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ سَوْقُ الْمَاءِ إِلَيْهَا وَلَا يُصِيبُهَا إِلَّا مَاءُ السَّمَاءِ، فَمَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» إِلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْإِحْيَاءِ فِيهَا، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ وَبَنَى عَلَيْهِ: أَمَّا إِذَا وَجَدْنَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ فِي يَدِ إِنْسَانٍ، لَمْ نَحْكُمْ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَا نُجَوِّزُ بَيْعَهُ وَإِجَارَتَهُ. وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: يُمَلَّكُ بِالْحِرَاثَةِ وَجَمْعِ التُّرَابِ عَلَى الْأَطْرَافِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَلَا تُشْتَرَطُ الزِّرَاعَةُ، لِحُصُولِ الْمِلْكِ فِي الْمَزْرَعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِحْيَاءِ، وَكَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّارِ أَنْ يَسْكُنَهَا. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: إِذَا أَرَادَ بُسْتَانًا أَوْ كَرْمًا، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْوِيطِ، وَالرُّجُوعِ فِيمَا يُحَوَّطُ بِهِ إِلَى الْعَادَةِ، قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ. وَقَالَ: فَإِنْ كَانَتْ عَادَةُ الْبَلَدِ بِنَاءَ جِدَارٍ، اشْتُرِطَ الْبِنَاءُ. وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُمُ التَّحْوِيطَ بِالْقَصَبِ وَالشَّوْكِ وَرُبَّمَا تَرَكُوهُ أَيْضًا كَمَا فِي الْبَصْرَةِ وَقَزْوِينَ، اعْتُبِرَتْ عَادَتُهُمْ، وَحِينَئِذٍ يَكْفِي جَمْعُ التُّرَابِ حَوَالَيْهِ كَالْمَزْرَعَةِ. وَالْقَوْلُ فِي سَوْقِ الْمَاءِ إِلَيْهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَزْرَعَةِ. وَيُعْتَبَرُ غَرْسُ الْأَشْجَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.

وَقِيلَ: لَا يُعْتَبَرُ إِذَا لَمْ يُعْتَبَرُ الزَّرْعُ فِي الْمَزْرَعَةِ. وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَذْهَبِ، أَنَّ اسْمَ الْمَزْرَعَةِ يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ الزَّرْعِ، بِخِلَافِ الْبُسْتَانِ قَبْلَ الْغَرْسِ، وَلِأَنَّ الْغَرْسَ يَدُومُ فَأُلْحِقَ بِأَبْنِيَةِ الدَّارِ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ. فَرْعٌ طُرُقُ الْأَصْحَابِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِحْيَاءَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَقْصِدُهُ الْمُحْيِي مِنْ مَسْكَنٍ وَحَظِيرَةٍ وَغَيْرِهِمَا. وَذَكَرَ الْإِمَامُ شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْإِحْيَاءِ هَلْ يُعْتَبَرُ لِحُصُولِ الْمِلْكِ؟ فَقَالَ: مَا لَا يَفْعَلُهُ فِي الْعَادَةِ إِلَّا الْمُتَمَلِّكُ كَبِنَاءِ الدَّارِ وَاتِّخَاذِ الْبُسْتَانِ، يُفِيدُ الْمِلْكَ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَصْدٌ. وَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَمَلِّكُ وَغَيْرُهُ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي الْمَوَاتِ، وَكَزِرَاعَةِ قِطْعَةٍ مِنَ الْمَوَاتِ اعْتِمَادًا عَلَى مَاءِ السَّمَاءِ، إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ قَصْدٌ، أَفَادَ الْمِلْكَ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. وَمَا لَا يَكْتَفِي بِهِ الْمُتَمَلِّكُ، كَتَسْوِيَةِ مَوْضِعِ النُّزُولِ، وَتَنْقِيَتِهِ عَنِ الْحِجَارَةِ، لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ. وَإِنْ قَصَدَهُ شُبِّهَ ذَلِكَ بِالِاصْطِيَادِ بِنَصْبِ الْأُحْبُولَةِ فِي مَدَارِجِ الصَّيُودِ يُفِيدُ مِلْكَ الصَّيْدِ. وَإِغْلَاقُ الْبَابِ إِذَا دَخَلَ الصَّيْدُ الدَّارَ عَلَى قَصْدِ التَّمَلُّكِ، يُفِيدُ الْمِلْكَ. وَدُونَهُ وَجْهَانِ. وَتَوَحَّلُ الصَّيْدِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي سَقَاهَا، لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ وَإِنْ قَصَدَهُ. الشَّيْءُ الثَّانِي: إِذَا قَصَدَ نَوْعًا وَأَتَى بِمَا يُقْصَدُ بِهِ نَوْعٌ آخَرُ، أَفَادَ الْمِلْكَ، حَتَّى إِذَا حَوَّطَ الْبُقْعَةَ يُمَلَّكهَا وَإِنْ قَصَدَ الْمَسْكَنَ، لِأَنَّهُ مِمَّا يُمَلَّك بِهِ الزَّرِيبَةَ لَوْ قَصَدَهَا. قَالَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا الْكَلَامُ الْأَوَّلُ، فَمَقْبُولٌ لَا يَلْزَمُ [مِنْهُ] مُخَالَفَةُ الْأَصْحَابِ، بَلْ إِنْ قَصَدَ شَيْئًا اعْتَبَرْنَا فِي كُلِّ مَقْصُودٍ مَا فَصَّلُوهُ، وَإِلَّا، نَظَرْنَا فِيمَا أَتَى بِهِ وَحَكَمْنَا بِمَا ذَكَرَهُ. وَأَمَّا الثَّانِي، فَمُخَالَفَتُهُ لِمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ صَرِيحَةٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِأَدْنَى الْعِمَارَاتِ أَبَدًا.

فصل

فَرْعٌ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَوَاتِ لِلتَّمَلُّكِ، لَمْ يَحْصُلِ الْإِحْيَاءُ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْمَاءِ. وَإِذَا وَصَلَ، كَفَى إِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ صُلْبَةً، وَإِلَّا، فَيُشْتَرَطُ أَنْ تُطْوَى. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَفِي حَفْرِ الْقَنَاةِ، يَتِمُّ الْإِحْيَاءُ بِخُرُوجِ الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ. وَلَوْ حَفَرَ نَهْرًا لِيَجْرِيَ الْمَاءُ فِيهِ عَلَى قَصْدِ التَّمَلُّكِ، فَإِذَا انْتَهَى رَأْسُ النَّهْرِ الَّذِي يَحْفِرُهُ إِلَى النَّهْرِ الْقَدِيمِ، وَجَرَى الْمَاءُ فِيهِ، مُلِّكَهُ، كَذَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ، لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ كَالسُّكُونِ فِي الدَّارِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي، أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي الحِمَى هُوَ أَنْ يَحْمِيَ بُقْعَةً مِنَ الْمَوَاتِ لِمَوَاشٍ بِعَيْنِهَا، وَيَمْنَعَ سَائِرَ النَّاسِ الرَّعْيَ فِيهَا، وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْمِيَ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا حَمَى النَّقِيعَ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ وَخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ. قُلْتُ: النَّقِيعُ بِالنُّونِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَقِيلَ: بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبَقِيعُ الْغَرْقَدِ بِالْبَاءِ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا غَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَيْسَ لِلْآحَادِ الْحِمَى قَطْعًا، وَلَا لِلَّائِمَةِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَفِي حِمَاهُمْ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ قَطْعًا. فَإِذَا

جَوَّزْنَاهُ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، أَمْ يَجُوزُ أَيْضًا لِوُلَاتِهِ فِي النَّوَاحِي؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ وَغَيْرُهُ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَسَوَاءٌ حَمَى لِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ، أَمْ لِنَعَمِ الْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالضَّوَالِّ، وَمَالِ الضُّعَفَاءِ عَنِ الْإِبْعَادِ فِي طَلَبِ النُّجْعَةِ، ثُمَّ لَا يَحْمِي إِلَّا الْأَقَلَّ الَّذِي لَا يَبِينُ ضَرَرُهُ عَلَى النَّاسِ وَلَا يُضَيِّقُ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَا حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نَصٌّ، فَلَا يُنْقَضُّ وَلَا يُغَيَّرُ بِحَالٍ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: إِنْ بَقِيَتِ الْحَاجَةُ الَّتِي حَمَى لَهَا، لَمْ يُغَيَّرْ. وَإِنْ زَالَتْ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ الْمَقْطُوعِ بِصِحَّتِهِ بِاجْتِهَادٍ. وَأَمَّا حِمَى غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تَغْيِيرِهِ، جَازَ نَقْضُهُ وَرَدُّهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَى الْأَظْهَرِ رِعَايَةً لِلْمَصْلَحَةِ. وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ كَالْمَقْبَرَةِ وَالْمَسْجِدِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلْحَامِي نَقْضُ حِمَاهُ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا جَوَّزْنَا نَقْضَهُ، فَأَحْيَاهُ رَجُلٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، مُلِّكَهُ وَكَانَ الْإِذْنُ فِي الْإِحْيَاءِ نَقْضًا. وَإِنِ اسْتَقَلَّ الْمُحْيِي، فَوَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى تَصَرُّفِ الْإِمَامِ وَحُكْمِهِ. قُلْتُ: بَقِيَتْ مِنَ الْحِمَى مَسَائِلُ مُهِمَّةٌ. مِنْهَا: لَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى أَوْ زَرَعَ فِي النَّقِيعِ، نُقِضَتْ عِمَارَتُهُ، وَقُلِعَ زَرْعُهُ وَغَرْسُهُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ. مِنْهَا: أَنَّ الْحِمَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حِفَاظٌ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَأَنْ يَمْنَعَ أَهْلَ الْقُوَّةِ مِنْ إِدْخَالِ مَوَاشِيهِمْ، وَلَا يَمْنَعَ الضُّعَفَاءَ، وَيَأْمُرُهُ الْإِمَامُ بِالتَّلَطُّفِ بِالضُّعَفَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَاشِيَةِ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: فَإِنْ كَانَ لِلْإِمَامِ مَاشِيَةٌ لِنَفْسِهِ، لَمْ يُدْخِلْهَا الْحِمَى، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ. فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ ظَلَمَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهَا: لَوْ دَخَلَ الْحِمَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، فَرَعَى مَاشِيَتَهُ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ:

فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا غُرْمَ وَلَا تَعْزِيرَ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنَ الرَّعْيِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ أَيْضًا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ النَّقِيعِ أَوْ حَشِيشِهِ ضَمِنَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ عَامِلَ الصَّدَقَاتِ إِذَا كَانَ يَجْمَعُهَا فِي بَلَدٍ، هَلْ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ مَوْضِعًا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ لِيَرْعَاهَا فِيهِ؟ قَالَ أَبُو حَامِدٍ: قِيلَ: لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَهُ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: إِنْ مَنَعْنَا حِمَى الْإِمَامِ، فَذَلِكَ أَوْلَى، وَإِلَّا، فَقَوْلَانِ. وَمِنْهَا: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ الْمَاءَ الْمُعَدَّ لِشُرْبِ خَيْلِ الْجِهَادِ وَإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَالْجِزْيَةِ وَغَيْرِهَا بِلَا خِلَافٍ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ فِي «تَهْذِيبِهِ» . قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا حَمَى الْإِمَامُ، وَقُلْنَا: لَا يَجُوزُ حِمَاهُ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، مَنْ أَحْيَاهُ، مُلِّكَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَوَاشِي عِوَضًا عَنِ الرَّعْيِ فِي الْحِمَى أَوِ الْمَوَاتِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ وَقَالَهُ آخَرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ وَغَيْرِهَا بِقَاعُ الْأَرْضِ إِمَّا مَمْلُوكَةٌ، وَإِمَّا مَحْبُوسَةٌ عَلَى الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ كَالشَّوَارِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْمَقَابِرِ وَالرِّبَاطَاتِ، وَإِمَّا مُنْفَكَّةٌ عَنِ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَهِيَ الْمَوَاتُ. أَمَّا الْمَمْلُوكَةُ، فَمَنْفَعَتُهَا تَتْبَعُ الرُّقْبَةَ. وَأَمَّا الشَّوَارِعُ، فَمَنْفَعَتُهَا الْأَصْلِيَّةُ: الطُّرُوقُ. وَيَجُوزُ الْوُقُوفُ وَالْجُلُوسُ فِيهَا لِغَرَضِ الِاسْتِرَاحَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَنَحْوِهِمَا، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ، سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ، أَمْ لَا، وَلَهُ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَى مَوْضِعِ جُلُوسِهِ بِمَا لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ مِنْ ثَوْبٍ وَبَارِيَةٍ وَنَحْوِهِمَا. وَفِي بِنَاءِ الدَّكَّةِ، مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. وَلَوْ سَبَقَ اثْنَانِ إِلَى مَوْضِعٍ، فَهَلْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، أَمْ يُقَدِّمُ الْإِمَامُ أَحَدَهُمَا؟ وَجْهَانِ.

أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَفِي ثُبُوتِ هَذَا الِارْتِفَاقِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ، وَهَلْ لِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ فِيهِ مَدْخَلٌ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: نَعَمْ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، لِأَنَّ لَهُ نَظَرًا فِيهِ، وَلِهَذَا يُزْعِجُ مَنْ أَضَرَّ جُلُوسُهُ. وَأَمَّا تَمَلُّكُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ بِحَالٍ. وَحُكِيَ وَجْهٌ فِي «الرَّقْمِ» لِلْعِبَادِيِّ، وَشَرْحِ مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ لِابْنِ طَاهِرٍ، أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنَ الشَّوَارِعِ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الطُّرُوقِ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وَلَا غَيْرِهِ مِنَ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ يَرْتَفِقُ بِالْجُلُوسِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فِي الشَّوَارِعِ عِوَضًا بِلَا خِلَافٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مَنْ جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الشَّارِعِ، ثُمَّ قَامَ عَنْهُ، إِنْ كَانَ جُلُوسُهُ لِاسْتِرَاحَةٍ وَشِبْهِهَا، بَطَلَ حَقُّهُ. وَإِنْ كَانَ لِحِرْفَةٍ وَمُعَامَلَةٍ، فَإِنْ فَارَقَهُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ لِتَرْكِهِ الْحِرْفَةَ، أَوْ لِقُعُودِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَطَلَ حَقُّهُ أَيْضًا. وَإِنْ فَارَقَهُ عَلَى أَنْ يَعُودَ فَالْمَذْهَبُ مَا ضَبَطَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّهُ إِنْ مَضَى زَمَنٌ يَنْقَطِعُ فِيهِ الَّذِينَ أَلِفُوا مُعَامَلَتَهُ، بَطَلَ. وَإِنْ كَانَ دُونَهُ، فَلَا. وَسَوَاءٌ فَارَقَ بِعُذْرِ سَفَرٍ وَمَرَضٍ، أَوْ بِلَا عُذْرٍ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِالرُّجُوعِ فِي اللَّيْلِ إِلَى بَيْتِهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مُزَاحَمَتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَكَذَا الْأَسْوَاقُ الَّتِي تُقَامُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، أَوْ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، إِذَا اتَّخَذَ فِيهَا مَقْعَدًا، كَانَ أَحَقَّ بِهِ فِي النَّوْبَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِذَا رَجَعَ لَيْلًا، فَمَنْ سَبَقَهُ أَحَقُّ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي وَابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنْ جَلَسَ بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ، لَمْ يَبْطُلْ بِقِيَامِهِ. وَإِنِ اسْتَقَلَّ وَتَرَكَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ، بَقِيَ حَقُّهُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَأَرَادَ غَيْرُهُ الْجُلُوسَ فِيهِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ الْقَصِيرَةِ إِلَى أَنْ يَعُودَ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مُعَامَلَةٍ، لَمْ يُمْنَعْ قَطْعًا، وَإِلَّا، لَمْ يُمْنَعْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ.

فصل

قُلْتُ: وَإِذَا وَضَعَ النَّاسُ الْأَمْتِعَةَ وَآلَاتِ الْبِنَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِي مَسَالِكِ الْأَسْوَاقِ وَالشَّوَارِعِ ارْتِفَاقًا لِيَنْقُلُوهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، مُنِعُوا مِنْهُ إِنْ أَضَرَّ بِالْمَارَّةِ إِضْرَارًا ظَاهِرًا، وَإِلَّا فَلَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي «الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ يَخْتَصُّ الْجَالِسُ أَيْضًا بِمَا حَوْلَهُ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِوَضْعِ مَتَاعِهِ وَوُقُوفِ مُعَامِلِيهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْعُدَ حَيْثُ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ مَتَاعِهِ أَوْ وَصُولَ الْمُعَامِلِينَ إِلَيْهِ، أَوْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ الْكَيْلَ أَوِ الْوَزْنَ وَالْأَخْذَ وَالْعَطَاءَ. قُلْتُ: وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَنْ قَعَدَ لِبَيْعِ مِثْلِ مَتَاعِهِ إِذَا لَمْ يُزَاحِمْهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْجَوَّالُ الَّذِي يَقْعُدُ كُلَّ يَوْمٍ فِي مَوْضِعٍ مِنَ السُّوقِ، يَبْطُلُ حَقُّهُ بِمُفَارَقَتِهِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَسْجِدُ، فَالْجُلُوسُ فِيهِ يَكُونُ لِأَغْرَاضٍ. مِنْهَا: أَنْ يَجْلِسَ لِيُقْرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوِ الْحَدِيثُ أَوِ الْفِقْهُ وَنَحْوُهَا، أَوْ لِيُسْتَفْتَى. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ وَالْغَزَالِيُّ: حُكْمُهُ كَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي مُلَازَمَتِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِيَأْلَفَهُ النَّاسُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مَتَى قَامَ بَطَلَ حَقُّهُ وَكَانَ السَّابِقُ أَحَقَّ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِمَأْخَذِ الْبَابِ.

قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ، حَكَاهُ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَعَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ أَحَقُّ، فَمُقْتَضَى كَلَامِهِ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَصْحَابَهُ، مِنَ الْجُمْهُورِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَجْلِسَ لِلصَّلَاةِ، فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى. وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْحَاضِرَةُ، فَهُوَ أَحَقُّ. فَإِنْ فَارَقَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، بَطَلَ حَقُّهُ فِيهَا أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ، فَإِنْ فَارَقَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، أَوْ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ، أَوْ رُعَافٍ، أَوْ إِجَابَةِ دَاعٍ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَبْطُلِ اخْتِصَاصُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ - فِي الْمَسْجِدِ - فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ إِزَارَهُ، أَمْ لَا، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَطْرَأَ الْعُذْرُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ قَبْلَهُ، وَإِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ. وَمِنْهَا: الْجُلُوسُ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْحِرْفَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. قُلْتُ: وَمِنْهَا: الْجُلُوسُ لِلِاعْتِكَافِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَهُ الِاخْتِصَاصُ بِمَوْضِعِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ اعْتِكَافًا مُطْلَقًا. وَإِنْ نَوَى اعْتِكَافَ أَيَّامٍ، فَخَرَجَ لِحَاجَةٍ جَائِزَةٍ، فَفِي بَقَاءِ اخْتِصَاصِهِ إِذَا رَجَعَ احْتِمَالٌ، وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا خَرَجَ الْمُصَلِّي لِعُذْرٍ. وَمِنْهَا: الْجَالِسُ لِاسْتِمَاعِ الْحَدِيثِ وَالْوَعْظِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَالصَّلَاةِ فَلَا يَخْتَصُّ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَلَا فِيهِ إِنْ فَارَقَهُ بِلَا عُذْرٍ، وَيَخْتَصُّ إِنْ فَارَقَ بِعُذْرٍ عَلَى الْمُخْتَارِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ بِالْجُلُوسِ بِقُرْبِ كَبِيرِ الْمَجْلِسِ، وَيَنْتَفِعُ الْحَاضِرُونَ بِقُرْبِهِ مِنْهُ لِعِلْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، دَامَ اخْتِصَاصُهُ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ بِكُلِّ حَالٍ.

وَأَمَّا مَجْلِسُ الْفَقِيهِ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ حَالَ تَدْرِيسِ الْمُدَرِّسِ فِي الْمَدْرَسَةِ أَوِ الْمَسْجِدِ، فَالظَّاهِرُ فِيهِ دَوَامُ الِاخْتِصَاصِ، لِاطِّرَادِ الْعُرْفِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ يُمْنَعُ النَّاسُ مِنِ اسْتِطْرَاقِ حِلَقِ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْجِدِ تَوْقِيرًا لَهَا. فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: لَا شَكَّ فِي انْقِطَاعِ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ وَإِقْطَاعِهِ عَنْ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَخْدِشُهُ شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا: ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ، أَنَّ التَّرَتُّبَ فِي الْمَسْجِدِ لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى كَالتَّرَتُّبِ لِلْإِمَامَةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ إِذْنُ الْإِمَامِ فِي مَسَاجِدِ الْمَحَالِّ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْجَوَامِعِ وَكِبَارِ الْمَسَاجِدِ إِذَا كَانَتْ عَادَةُ الْبَلَدِ فِيهِ الِاسْتِئْذَانَ، فَجُعِلَ لِإِذْنِ الْإِمَامِ أَثَرٌ. الثَّانِي: عَدَّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَطَائِفَةٌ رِحَابَ الْمَسْجِدِ مَعَ مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ فِيمَا يُقْطَعُ لِلِارْتِفَاقِ بِالْجُلُوسِ فِيهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهَذَا كَمَا يَقْدَحُ فِي نَفْيِ الْإِقْطَاعِ، يُخَالِفُ الْمَعْرُوفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالرِّحَابِ: الْأَفْنِيَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ حَدِّ الْمَسْجِدِ. قُلْتُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي «الْأَحْكَامِ» : إِنَّ حَرِيمَ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ، إِنْ كَانَ الِارْتِفَاقُ بِهِ مُضِرًّا بِأَهْلِ الْمَسَاجِدِ، مُنِعَ مِنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ الْإِذْنُ فِيهِ، وَإِلَّا، جَازَ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ إِذْنُ السُّلْطَانِ؟ وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ الرِّبَاطَاتُ الْمُسْبَلَةُ فِي الطُّرُقِ وَعَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ، مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا صَارَ أَحَقَّ بِهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ إِزْعَاجُهُ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَمْ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِالْخُرُوجِ لِشِرَاءِ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَخْلِيفُهُ نَائِبًا لَهُ فِي الْمَوْضِعِ، وَلَا أَنْ يَتْرُكَ مَتَاعَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ أَمِينًا. فَإِنِ ازْدَحَمَ اثْنَانِ وَلَا سَبْقَ، فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْمَدَارِسِ وَالْخَوَانِقِ إِذَا نَزَلَهَا مَنْ هُوَ [مِنْ] أَهْلِهَا. وَإِذَا سَكَنَ بَيْتًا مِنْهَا مُدَّةً، ثُمَّ غَابَ أَيَّامًا قَلِيلَةً، فَهُوَ أَحَقُّ إِذَا عَادَ. وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ، بَطَلَ حَقُّهُ. قُلْتُ: وَالرُّجُوعُ فِي الطُّولِ إِلَى الْعُرْفِ. وَلَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ النُّزُولَ فِيهِ فِي مُدَّةِ غَيْبَةِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنْ يُفَارِقَهُ إِذَا جَاءَ الْأَوَّلُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ قَطْعًا، أَوْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْمَوْضِعِ مِنَ الشَّارِعِ. وَيَجُوزُ لِغَيْرِ سُكَّانِ الْمَدْرَسَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْعَوَامِّ دُخُولُهَا، وَالْجُلُوسُ فِيهَا، وَالشُّرْبُ مِنْ مِيَاهِهَا، وَالِاتِّكَاءُ وَالنَّوْمُ فِيهَا، وَدُخُولُ سِقَايَتِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَى الْعُرْفُ بِهِ. وَأَمَّا سُكْنَى غَيْرِ الْفُقَهَاءِ فِي بُيُوتِهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نَصٌّ مِنَ الْوَاقِفِ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، اتُّبِعَ، وَإِلَّا، فَالظَّاهِرُ مَنْعُهُ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ فِي بَلَدٍ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ النَّازِلُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْبَادِيَةِ، أَحَقُّ بِهِ وَبِمَا حَوَالَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِمَرَافِقِهِمْ، وَلَا يُزَاحَمُونَ فِي الْوَادِي الَّذِي سَرَّحُوا إِلَيْهِ مَوَاشِيَهُمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ كِفَايَةٌ لِلْجَمِيعِ، وَإِذَا رَحَلُوا، بَطَلَ اخْتِصَاصُهُمْ وَإِنْ بَقِيَ أَثَرُ الْفَسَاطِيطِ وَنَحْوِهَا.

فصل

قُلْتُ: وَلَوْ أَرَادَتْ طَائِفَةٌ النُّزُولَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْبَادِيَةِ لِلِاسْتِيطَانِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ كَانَ نُزُولُهُمْ مُضِرًّا بِالسَّابِلَةِ، مَنَعَهُمُ السُّلْطَانُ قَبْلَ النُّزُولِ أَوْ بَعْدَهُ. وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، رَاعَى الْأَصْلَحَ فِي نُزُولِهِمْ وَمَنَعَهَمْ وَنَقَلَ غَيْرَهُمْ إِلَيْهَا. فَإِنْ نَزَلُوا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَمْ يَمْنَعْهُمْ، كَمَا لَا يُمْنَعُ مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَدَبَّرَهُمْ بِمَا يَرَاهُ صَلَاحًا لَهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ إِحْدَاثِ زِيَادَةٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الْمُرْتَفِقُ بِالشَّارِعِ وَالْمَسَاجِدِ، إِذَا طَالَ مُقَامُهُ هَلْ يُزْعَجُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُرْتَفِقِينَ وَقَدْ سَبَقَ. وَالثَّانِي: نَعَمْ. لِتَمَيُّزِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْمَمْلُوكِ. وَأَمَّا الرُّبُطُ الْمَوْقُوفَةُ، فَإِنَّ عَيَّنَ الْوَاقِفُ مُدَّةَ الْمَقَامِ، فَلَا مَزِيدَ عَلَيْهَا، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْمُسَافِرِينَ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْوَاقِفُ، نُظِرَ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي بُنِيَتْ لَهُ، وَعُمِلَ بِالْمُعْتَادِ فِيهِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي رِبَطِ الْمَارَّةِ إِلَّا لِمَصْلَحَتِهَا، أَوْ لِخَوْفٍ يَعْرِضُ، أَوْ أَمْطَارٍ تَتَوَاتَرُ، وَفِي الْمَدْرَسَةِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ، يُمَكَّنُ مِنَ الْإِقَامَةِ إِلَى إِتْمَامِ غَرَضِهِ. فَإِنْ تَرَكَ التَّعَلُّمَ وَالتَّحْصِيلَ، أُزْعِجَ. وَفِي الْخَانِقَاهُ، لَا يُمْكِنُ هَذَا الضَّبْطُ، فَفِي الْإِزْعَاجِ إِذَا طَالَ مَقَامُهُ مَا سَبَقَ فِي الشَّوَارِعِ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْأَعْيَانِ الْخَارِجَةِ مِنَ الْأَرْضِ فِيهِ طَرَفَانِ. [الطَّرَفُ] الْأَوَّلُ: فِي الْمَعَادِنِ، وَهِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمَطْلُوبَةِ، وَهِيَ قِسْمَانِ، ظَاهِرَةٌ، وَبَاطِنَةٌ.

فَالظَّاهِرَةُ: هِيَ الَّتِي يَبْدُو جَوْهَرُهَا بِلَا عَمَلٍ، وَإِنَّمَا السَّعْيُ وَالْعَمَلُ لِتَحْصِيلِهِ. ثُمَّ تَحْصِيلُهُ قَدْ يَسْهُلُ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ تَعَبٌ، وَذَلِكَ كَالنِّفْطِ وَأَحْجَارِ الرَّحَى، وَالْبِرَامِ، وَالْكِبْرِيتِ، وَالْقُطْرَانِ، وَالْقَارِ، وَالْمُومْيَاءِ، وَشِبْهِهَا، فَلَا يُمَلَّكهَا أَحَدٌ بِالْإِحْيَاءِ وَالْعِمَارَةِ، وَإِنْ زَادَ بِهَا النَّيْلُ. وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا أَيْضًا الْمُتَحَجِّرُ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إِقْطَاعُهَا، بَلْ هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّاسِ كَالْمِيَاهِ الْجَارِيَةِ، وَالْكَلَأِ، وَالْحَطَبِ. وَلَوْ حَوَّطَ رَجُلٌ عَلَى هَذِهِ الْمَعَادِنِ وَبَنَى عَلَيْهَا دَارًا أَوْ بُسْتَانًا، لَمْ يُمَلَّك الْبُقْعَةَ، لِفَسَادِ قَصْدِهِ. وَأَشَارَ فِي «الْوَسِيطِ» إِلَى خِلَافٍ فِيهِ. وَالْمَعْرُوفُ، الْأَوَّلُ. وَإِذَا ازْدَحَمَ اثْنَانِ عَلَى مَعْدِنٍ ظَاهِرٍ، وَضَاقَ الْمَكَانُ، فَالسَّابِقُ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: يُقَدَّمُ بِأَخْذِ قَدْرِ حَاجَتِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنُوا أَنَّهَا حَاجَةُ يَوْمٍ أَوْ سَنَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، فَيَأْخُذُ مَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ لِأَمْثَالِهِ. وَإِذَا أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ حَقُّ السَّبْقِ، فَهَلْ يُزْعَجُ أَمْ يَأْخُذُ مَا شَاءَ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ: يُزْعَجُ. فَأَمَّا إِذَا جَاءَا مَعًا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ وَيُقَدِّمُ مَنْ يَرَاهُ أَحْوَجَ وَأَحَقَّ. وَالثَّالِثُ: يُنَصِّبُ مَنْ يُقَسِّمُ الْحَاصِلَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: الْأَوْجُهُ فِيمَا إِذَا كَانَا يَأْخُذَانِ لِلْحَاجَةِ. فَإِنْ كَانَا يَأْخُذَانِ لِلتِّجَارَةِ، يُهَايَأُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ تَشَاحَّا فِي الِابْتِدَاءِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا. وَالْأَشْهُرُ: إِطْلَاقُ الْأَوْجُهِ. وَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ: إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا تَاجِرًا وَالْآخَرُ مُحْتَاجًا، يُشْبِهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْمُحْتَاجَ. فَرْعٌ [مِنَ] الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، الْمِلْحُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنَ الْمَاءِ، وَكَذَا الْجَبَلِيُّ إِنْ كَانَ ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَفْرٍ وَتَنْحِيَةِ تُرَابٍ، وَالْجِصُّ، وَالْمَدَرُ، وَأَحْجَارُ النَّوْرَةِ. وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ «الْمِفْتَاحِ» عُدَّ الْمِلْحُ الْجَبَلِيُّ مِنَ الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ. وَفِي «التَّهْذِيبِ»

عُدَّ الْكُحْلُ وَالْجِصُّ مِنْهُمَا، وَهُمَا مَحْمُولَانِ عَلَى مَا إِذَا أَحْوَجَ إِظْهَارَهُمَا إِلَى حَفْرٍ. وَلَوْ كَانَ بِقُرْبِ السَّاحِلِ بُقْعَةٌ، لَوْ حُفِرَتْ وَسِيقَ الْمَاءُ إِلَيْهَا ظَهَرَ فِيهَا الْمِلْحُ، فَلَيْسَتْ هِيَ مِنَ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا يَظْهَرُ بِالْعَمَلِ، فَلِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهَا، وَمَنْ حَفَرَهَا وَسَاقَ الْمَاءَ إِلَيْهَا، وَظَهَرَ الْمِلْحُ، مُلِّكَهَا كَمَا لَوْ أَحْيَا مَوَاتًا. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَظْهَرُ جَوْهَرُهَا إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْمُعَالَجَةِ، كَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْفَيْرُوزَجِ، وَالْيَاقُوتِ، وَالرَّصَاصِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْحَدِيدِ، وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ الْمَبْثُوثَةِ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ. وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، فِي أَنَّ حَجَرَ الْحَدِيدِ وَنَحْوَهُ، مِنَ الْبَاطِنَةِ، أَمِ الظَّاهِرَةِ، لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْجَوْهَرِ بَادٍ؟ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ بَاطِنٌ، لِأَنَّ الْحَدِيدَ لَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ إِلَّا بِعِلَاجٍ، وَلَيْسَ الْبَادِي عَلَى الْحَجَرِ عَيْنَ الْحَدِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مُخَيِّلَتِهِ. وَلَوْ أَظْهَرَ السَّيْلُ قِطْعَةَ ذَهَبٍ، أَوْ أَتَى بِهَا، الْتَحَقَتْ بِالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمَعْدِنُ الْبَاطِنُ هَلْ يُمَلَّكُ بِالْحَفْرِ وَالْعَمَلِ؟ قَوْلَانِ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْمَوَاتِ وَالْمَعْدِنِ الظَّاهِرِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا، رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَإِنْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ، فَذَاكَ إِذَا قَصَدَ التَّمَلُّكَ وَحَفَرَ حَتَّى ظَهَرَ النَّيْلُ. فَأَمَّا قَبْلَ الظُّهُورِ، فَهُوَ كَالْمُتَحَجِّرِ، وَهَذَا كَمَا إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَوَاتِ عَلَى قَصْدِ التَّمَلُّكِ، مُلِّكَهَا إِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَاءِ. وَإِذَا اتَّسَعَ الْحَفْرُ وَلَمْ يُوجَدِ النَّيْلُ إِلَّا فِي الْوَسَطِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَطْرَافِ، لَمْ يَقْصُرِ الْمِلْكُ عَلَى مَوْضِعِ النَّيْلِ، بَلْ يُمَلَّكُ أَيْضًا مِمَّا حَوَالَيْهِ مِمَّا يَلِيقُ بِحَرِيمِهِ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يَقِفُ فِيهِ الْأَعْوَانُ وَالدَّوَابُّ. وَمَنْ جَاوَزَ ذَلِكَ وَحَفَرَ، لَمْ يُمْنَعْ وَإِنْ وَصَلَ إِلَى الْعُرُوقِ. وَيَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ كَالْمَوَاتِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُمَلَّكُ، فَالسَّابِقُ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهُ أَحَقُّ بِهِ، لَكِنْ إِذَا طَالَ مَقَامُهُ، فَفِي إِزْعَاجِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ. وَقِيلَ: لَا يُزْعَجُ هُنَا قَطْعًا، لِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ الْأَخْذُ دَفْعَةً فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِطَالَةِ، وَهُنَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ فَقُدِّمَ السَّابِقُ. وَلَوِ ازْدَحَمَ اثْنَانِ، فَعَلَى الْأَوْجُهِ الَّتِي هُنَاكَ. وَفِي جَوَازِ إِقْطَاعِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ،

قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ. وَأَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ، وَلَا يُقْطِعُ إِلَّا قَدْرًا يَتَأَتَّى لِلْمُقْطَعِ الْعَمَلُ عَلَيْهِ وَالْأَخْذُ مِنْهُ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، يَجُوزُ الْعَمَلُ فِي الْمَعْدِنِ الْبَاطِنِ وَالْأَخْذُ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ إِمَّا كَالْمَعْدِنِ الظَّاهِرِ، وَإِمَّا كَالْمَوَاتِ. فَرْعٌ لَوْ أَحْيَا مَوَاتًا، ثُمَّ ظَهَرَ فِيهِ مَعْدِنٌ بَاطِنٌ، مُلِّكَهُ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ بِالْإِحْيَاءِ مُلِّكَ الْأَرْضَ بِأَجْزَائِهَا إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مَعْدِنًا. فَإِنْ عَلِمَ وَاتَّخَذَ عَلَيْهِ دَارًا، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمِلْكِ. وَأَمَّا الْبُقْعَةُ الْمُحْيَاةُ، فَقَالَ الْإِمَامُ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، أَنَّهَا لَا تُملَّكُ، لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَا يُتَّخَذُ دَارًا وَلَا مَزْرَعَةَ، فَالْقَصْدُ فَاسِدٌ. وَقِيلَ: يُمَلَّكُهَا. وَكَأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ عَنْ «الْوَسِيطِ» مَأْخُوذٌ مِنْ هَذَا. فَرْعٌ مِمَّا يَتَفَرْعٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَعْدِنِ الْبَاطِنِ، أَنَّهُ إِذَا عَمِلَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، هَلْ يُمَلَّكُ؟ وَهَلْ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ؟ إِنْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ بِالْحَفْرِ وَالْعَمَلِ، فَهُوَ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ، وَإِلَّا، فَفِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. فَرْعٌ مَالِكُ الْمَعْدِنِ الْبَاطِنِ، لَا يَصِحُّ مِنْهُ بَيْعُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ النَّيْلُ، وَهُوَ مُتَفَرِّقٌ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، مَجْهُولُ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، فَهُوَ كَبَيْعِ قَدْرٍ مَجْمُوعٍ مِنْ تُرَابِ

الْمَعْدِنِ وَفِيهِ النَّيْلُ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا فِي جَوَازِهِ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ رُقْبَةُ الْمَعْدِنِ وَالنَّيْلَ فَائِدَتُهُ. فَرْعٌ لَوْ تَمَلَّكُ مَعْدِنًا بَاطِنًا، فَجَاءَ غَيْرُهُ وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ نَيْلًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ. وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: اعْمَلْ فِيهِ وَاسْتَخْرِجِ النَّيْلَ لِي، فَفَعَلَ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ الْأُجْرَةَ الْخِلَافُ فِيمَنْ قَالَ: اغْسِلْ ثَوْبِي فَغَسَلَ. وَلَوْ قَالَ: اعْمَلْ فَمَا اسْتَخْرَجْتَهُ فَهُوَ لَكَ، أَوْ قَالَ: اسْتَخْرِجْ لِنَفْسِكَ، فَالْحَاصِلُ لِمَالِكِ الْمَعْدِنِ، لِأَنَّهُ هِبَةٌ مَجْهُولٌ. وَكَانَ يُمْكِنُ تَشْبِيهُهُ بِإِبَاحَةِ ثِمَارِ الْبُسْتَانِ، وَلَكِنَّ الْمَنْقُولَ الْأَوَّلُ. وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ الْأُجْرَةَ، وَجْهَانِ، لِكَوْنِهِ عَمَلَ لِنَفْسِهِ، لَكِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ، وَلَا هُوَ مُتَبَرِّعٌ، وَبِثُبُوتِهَا قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ. قُلْتُ: ثُبُوتُهَا أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ، وَلَوْ قَالَ: اعْمَلْ فَمَا اسْتَخْرَجْتَهُ فَهُوَ بَيْنَنَا مُنَاصَفَةً، أَوْ قَالَ: فَلَكَ مِنْهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ أُجْرَةٌ مَجْهُولَةٌ، وَالثَّانِي: قَدْ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْقَدْرُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي الْمِيَاهِ، وَهِيَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُبَاحَةُ النَّابِعَةُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ، وَلَا صُنْعَ لِلْآدَمِيِّينَ فِي إِنْبَاطِهِ وَإِجْرَائِهِ كَالْفُرَاتِ وَجَيْحُونَ وَسَائِرِ أَوْدِيَةِ الْعَالَمِ وَالْعُيُونِ فِي الْجِبَالِ وَسُيُولِ الْأَمْطَارِ، فَالنَّاسُ فِيهَا سَوَاءٌ، فَإِنْ حَضَرَ اثْنَانِ فَصَاعِدَا، أَخَذَ كُلٌّ مَا شَاءَ. فَإِنْ قَلَّ الْمَاءُ أَوْ ضَاقَ الْمُشَرِّعُ، قُدِّمَ السَّابِقُ. فَإِنْ جَاءَا مَعًا، أُقْرِعَ. وَإِنْ أَرَادَ وَاحِدٌ السَّقْيَ وَهُنَاكَ مُحْتَاجٌ لِلشُّرْبِ، فَالشَّارِبُ أَوْلَى. قَالَهُ الْمُتَوَلِّي، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا فِي إِنَاءٍ أَوْ جَعَلَهُ فِي حَوْضٍ، مُلِّكَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مُزَاحَمَتُهُ فِيهِ، كَمَا لَوِ احْتَطَبَ. وَفِي «النِّهَايَةِ»

وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يُمَلَّكُهُ، لَكِنَّهُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَإِنْ دَخَلَ شَيْءٌ مِنْهُ مِلْكَ إِنْسَانٍ بِسَيْلٍ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ مَا دَامَ فِيهِ، لِامْتِنَاعِ دُخُولِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَلَوْ فَعَلَ، فَهَلْ يُمَلَّكُهُ، أَمْ لِلْمَالِكِ اسْتِرْدَادُهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ. فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَرْضِهِ، أَخَذَهُ مَنْ شَاءَ. فَرْعٌ إِذَا أَرَادَ قَوْمٌ سَقْيَ أَرَضِيهِمْ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ عَظِيمًا يَفِي بِالْجَمِيعِ، سَقَى مَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ. وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، أَوْ كَانَ الْمَاءُ يَجْرِي مِنَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ فِي سَاقِيَةٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، بِأَنِ انْخَرَقَتْ بِنَفْسِهَا، سَقَى الْأَوَّلُ أَرْضَهُ، ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِلَى الثَّانِي، ثُمَّ الثَّانِي إِلَى الثَّالِثِ. وَكَمْ يَحْبِسُ الْمَاءَ فِي أَرْضِهِ؟ وَجْهَانِ، الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ. وَالثَّانِي: يُرْجَعُ فِي قَدْرِ السَّقْيِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْحَاجَةِ. وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ التَّقْدِيرُ بِالْكَعْبَيْنِ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ، لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَرْضِ، وَبِاخْتِلَافِ مَا فِيهَا [مِنْ] زَرْعٍ وَشَجَرٍ، وَبِوَقْتِ الزِّرَاعَةِ، وَوَقْتِ السَّقْيِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ عَنِ الدَّارَكِيِّ: أَنَّ الْأَعْلَى لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْأَسْفَلِ، لَكِنْ يَسْقُونَ بِالْحِصَصِ، وَهَذَا غَرِيبٌ بَاطِلٌ. وَلَوْ كَانَتْ أَرْضُ الْأَعْلَى بَعْضُهَا مُرْتَفِعًا، وَبَعْضُهَا مُنْخَفِضًا، وَلَوْ سُقِيَا مَعًا لَزَادَ الْمَاءُ فِي الْمُنْخَفِضَةِ عَلَى الْحَدِّ الْمُسْتَحَقِّ، أُفْرِدَ كُلُّ بَعْضٍ بِالسَّقْيِ بِمَا هُوَ طَرِيقُهُ. قُلْتُ: طَرِيقُهُ أَنْ يَسْقِيَ الْمُنْخَفِضَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يَسُدَّهُ، ثُمَّ يَسْقِيَ الْمُرْتَفِعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا سَقَى الْأَوَّلُ، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى السَّقْيِ مَرَّةً أُخْرَى، مُكِّنَ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ فَلَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ أَرْضَاهُمَا مُتَحَاذِيَتَانِ، أَوْ أَرَادَا شَقَّ النَّهْرِ مِنْ مَوْضِعَيْنِ مُتَحَاذِيَيْنِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَهَلْ يُقْرَعُ، أَوْ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُقَدِّمُ الْإِمَامُ مَنْ يَرَاهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْعَبَّادِيُّ. قُلْتُ: أَصَحُّهَا: يُقْرَعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ إِحْيَاءَ مَوَاتٍ وَسَقْيَهُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، نُظِرَ، إِنْ ضَيَّقَ عَلَى السَّابِقَيْنِ، مُنِعَ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا أَرْضَهُمْ بِمَرَافِقِهَا، وَالْمَاءُ مِنْ أَعْظَمِ مَرَافِقِهَا، وَإِلَّا، فَلَا مَنْعَ. فَرْعٌ عِمَارَةُ حَافَّاتِ هَذِهِ الْأَنْهَارِ، مِنْ وَظَائِفِ بَيْتِ الْمَالِ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا مَنْ شَاءَ قَنْطَرَةً لِعُبُورِ النَّاسِ إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مَوَاتًا. وَأَمَّا [مَا] بَيْنَ الْعُمْرَانِ، فَهُوَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي الشَّارِعِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَيَجُوزُ بِنَاءُ الرَّحَى عَلَيْهَا إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مِلْكًا لَهُ أَوْ مَوَاتًا مَحْضًا. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ، وَتَضَرَّرَ الْمُلَّاكُ، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ كَالتَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ مَرَافِقِ الْعِمَارَاتِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، كَإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ فِي السِّكَّةِ النَّافِذَةِ.

فصل

فصل هَذَا الَّذِي سَبَقَ، إِذَا لَمْ تَكُنِ الْأَنْهَارُ وَالسَّوَاقِي مَمْلُوكَةً. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً، بِأَنْ حَفَرَ نَهْرًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ مِنَ الْوَادِي الْعَظِيمِ، أَوْ مِنَ النَّهْرِ الْمُنْخَرِقِ مِنْهُ، فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى إِبَاحَتِهِ، لَكِنَّ مَالِكَ النَّهْرِ أَحَقُّ بِهِ كَالسَّيْلِ يَدْخُلُ مِلْكَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ لِسَقْيِ الْأَرَضِينَ. وَأَمَّا لِلشُّرْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ وَالْمُتَوَلِّي: لَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ لَا يُدْلِي أَحَدٌ فِيهِ دَلْوًا، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَحْفِرَ فَوْقَ نَهْرِهِ نَهْرًا إِنْ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِ. وَإِنْ ضَيَّقَ، فَلَا، فَإِنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الْحَفْرِ، اشْتَرَكُوا فِي الْمِلْكِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ، فَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ النَّهْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَلْيَكُنْ عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ أَرْضِهِ. فَإِنْ زَادَ وَاحِدٌ مُتَطَوِّعًا، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْبَاقِينَ. وَإِنْ زَادَ مُكْرَهًا، أَوْ شَرَطُوا لَهُ عِوَضًا، رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِأُجْرَةِ مَا زَادَ، وَلَيْسَ لِلْأَعْلَى حَبْسُ الْمَاءِ عَلَى الْأَسْفَلِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّهْرُ مَمْلُوكًا. وَإِذَا اقْتَسَمُوا الْمَاءَ بِالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، جَازَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ الرُّجُوعُ [مَتَى شَاءَ] ، لَكِنْ لَوْ رَجَعَ بَعْدَمَا اسْتَوْفَى نَوْبَتَهُ وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الشَّرِيكُ، ضَمِنَ لَهُ أُجْرَةَ مِثْلِ نَصِيبِهِ مِنَ النَّهْرِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي أَجْرَى فِيهَا الْمَاءَ. وَإِنِ اقْتَسَمُوا الْمَاءَ نَفْسَهُ، فَعَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْقَنَاةِ الْمُشْتَرَكَةِ. وَلَوْ أَرَادُوا قِسْمَةَ النَّهْرِ وَكَانَ عَرِيضًا، جَازَ، وَلَا يَجْرِي فِيهَا الْإِجْبَارُ كَمَا فِي الْجِدَارِ الْحَائِلِ. وَلَوْ أَرَادَ الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ أَرْضُهُمْ أَسْفَلُ تَوْسِيعَ فَمِ النَّهْرِ، لِئَلَّا يَقْصُرَ الْمَاءُ عَنْهُمْ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِرِضَى الْأَوَّلِينَ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ فِي الْمُشْتَرَكِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِرِضَى الشَّرِيكِ، وَلِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَضَرَّرُونَ بِكَثْرَةِ الْمَاءِ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْأَوَّلِينَ تَضْيِيقُ فَمِ النَّهْرِ إِلَّا بِرِضَى الْآخَرِينَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ بِنَاءُ قَنْطَرَةٍ أَوْ رَحَى عَلَيْهِ، وَلَا غَرْسَ شَجَرَةٍ عَلَى حَافَّتِهِ إِلَّا بِرِضَى

الشُّرَكَاءِ. وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ تَقْدِيمَ رَأْسِ السَّاقِيَةِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ إِلَى أَرْضِهِ، أَوْ تَأْخِيرَهُ، لَمْ يَجُزْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَدَّمَ بَابَ دَارِهِ إِلَى رَأْسِ السِّكَّةِ الْمُنْسَدَّةِ، لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ هُنَاكَ فِي الْجِدَارِ الْمَمْلُوكِ، وَهُنَا فِي الْحَافَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ. وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مَاءٌ فِي أَعْلَى النَّهْرِ، فَأَجْرَاهُ فِي النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بِرِضَى الشُّرَكَاءِ لِيَأْخُذَهُ مِنَ الْأَسْفَلِ وَيَسْقِيَ بِهِ أَرْضَهُ، فَلَهُمُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءُوا، لِأَنَّهُ عَارِيَةٌ، وَتَنْقِيَةُ هَذَا النَّهْرِ وَعِمَارَتُهُ يَقُومُ بِهَا الشُّرَكَاءُ بِحَسَبِ الْمِلْكِ. وَهَلْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عِمَارَةُ الْمَوْضِعِ الْمُتَسَفِّلِ عَنْ أَرْضِهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْبَاقِينَ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْعَبَّادِيِّ، لِاشْتِرَاكِهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهِ. فَرْعٌ كُلُّ أَرْضٍ أَمْكَنَ سَقْيُهَا مِنْ هَذَا النَّهْرِ، إِذَا رَأَيْنَا لَهَا سَاقِيَةً مِنْهُ وَلَمْ نَجِدْ لَهَا شِرْبًا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، حَكَمْنَا عِنْدَ التَّنَازُعِ بِأَنَّ لَهَا شِرْبًا مِنْهُ. وَلَوْ تَنَازَعَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ فِي قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ، فَهَلْ يُجْعَلُ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِينَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّرِكَةَ بِحَسَبِ الْمِلْكِ، أَمْ بِالسَّوِيَّةِ لِأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ؟ وَجْهَانِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ: هُوَ أَصَحُّهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ صَادَفْنَا نَهْرًا تُسْقَى مِنْهُ أَرْضُونَ، وَلَمْ نَدْرِ أَنَّهُ حُفِرَ أَمِ انْخَرَقَ، حَكَمْنَا بِأَنَّهُ

مَمْلُوكٌ، لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ يَدٍ وَانْتِفَاعٍ، فَلَا يُقَدَّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كِتَابُ «الْمِيَاهِ» لِلْعَبَّادِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمِيَاهُ الْمُخْتَصَّةُ بِبَعْضِ النَّاسِ، وَهِيَ مِيَاهُ الْآبَارِ وَالْقَنَوَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْبِئْرَ يُتَصَوَّرُ حَفْرُهَا عَلَى أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: الْحَفْرُ فِي الْمَنَازِلِ لِلْمَارَّةِ. وَالثَّانِي: الْحَفْرُ فِي الْمَوَاتِ عَلَى قَصْدِ الِارْتِفَاقِ لَا لِلتَّمَلُّكِ، كَمَنْ يَنْزِلُ فِي الْمَوَاتِ فَيَحْفِرُ لِلشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ. وَالثَّالِثُ: الْحَفْرُ بِنِيَّةِ التَّمَلُّكِ. وَالرَّابِعُ: الْحَفْرُ الْخَالِي عَنْ هَذِهِ القُصُودِ. فَأَمَّا الْمَحْفُورَةُ لِلْمَارَّةِ، فَمَاؤُهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ، وَالْحَافِرُ كَأَحَدِهِمْ، وَيَجُوزُ الِاسْتِقَاءُ مِنْهَا لِلشُّرْبِ، وَسَقْيِ الزُّرُوعِ، فَإِنْ ضَاقَ عَنْهُمَا، فَالشُّرْبُ أَوْلَى. وَأَمَّا الْمَحْفُورَةُ لِلِارْتِفَاقِ دُونَ التَّمَلُّكِ، فَالْحَافِرُ أَوْلَى بِمَائِهَا إِلَى أَنْ يَرْتَحِلَ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا فَضُلَ عَنْهُ عَنْ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ لِلشُّرْبِ إِذَا اسْتَقَى بِدَلْوِ نَفْسِهِ، وَلَا مَنْعُ مَوَاشِيهِ، وَلَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنْ سَقْيِ الزَّرْعِ بِهِ. وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلَّكْهُ، وَالِاخْتِصَاصُ يَكُونُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، فَحَصَلَ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُعْتَبَرُ فِي الْفَاضِلِ الَّذِي يَجِبُ بَذْلُهُ، أَنْ يَفْضُلَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِي الْمَزَارِعِ احْتِمَالٌ عَلَى بُعْدٍ. قُلْتُ: الْمُرَادُ: الْفَاضِلُ الَّذِي يَجِبُ بَذْلُهُ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ. أَمَّا الْوَاجِبُ بَذْلُهُ لِعَطَشِ آدَمِيٍّ مُحْتَرَمٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَفْضُلَ عَنِ الْمَزَارِعِ وَالْمَاشِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا ارْتَحَلَ الْمُرْتَفِقُ، صَارَتِ الْبِئْرُ كَالْمَحْفُورَةِ لِلْمَارَّةِ، فَإِنْ عَادَ، فَهُوَ كَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمَحْفُورَةُ لِلتَّمَلُّكِ وَفِي مِلْكٍ، فَهَلْ يَكُونُ مَاؤُهَا مِلْكًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْقَدِيمِ، وَحَرْمَلَةُ، لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ

، كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا انْفَجَرَتْ عَيْنٌ فِي مِلْكِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُمَلَّكُ، فَنَبَعَ وَخَرَجَ مِنْهُ، مُلِّكَهُ مَنْ أَخَذَهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: لَا يُمَلَّكُهُ الْآخِذُ، وَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ مِلْكَهُ وَأَخَذَهُ، فَفِي مِلْكِهِ الْوَجْهَانِ. وَسَوَاءٌ قُلْنَا: يُمَلَّكُ، أَمْ لَا، فَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْبِئْرِ بَذْلُ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ لِزَرْعِ غَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَجِبُ بَذْلُهُ لِلْمَاشِيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلِلْوُجُوبِ شُرُوطٌ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَجِدَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ مَاءً مُبَاحًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كَلَأٌ يُرْعَى، وَإِلَّا، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: فِيهِ وَجْهَانِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فِي مُسْتَقَرِّهِ، فَأَمَّا الْمَاءُ الْمَوْجُودُ فِي إِنَاءٍ، فَلَا يَجِبُ بَذْلُ فَضْلِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. ثُمَّ عَابِرُو السَّبِيلِ، يُبْذَلُ لَهُمْ وَلِمَوَاشِيهِمْ. وَفِيمَنْ أَرَادَ الْإِقَامَةَ فِي الْمَوْضِعِ وَجْهَانِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ [بِهِ] إِلَى الْإِقَامَةِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْوُجُوبُ كَغَيْرِهِ. وَإِذَا وَجَبَ الْبَذْلُ، مَكَّنَ الْمَاشِيَةَ مِنْ حُضُورِ الْبِئْرِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى صَاحِبِ الْمَاءِ ضَرَرٌ فِي زَرْعٍ وَلَا مَاشِيَةٍ. فَإِنْ لَحِقَهُ ضَرَرٌ بِوُرُودِهَا، مُنِعَتْ، لَكِنْ يَجُوزُ لِلرُّعَاةِ اسْتِقَاءُ فَضْلِ الْمَاءِ لَهَا، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَلْ يَجِبُ الْبَذْلُ لِلرُّعَاةِ كَمَا يَجِبُ لِلْمَاشِيَةِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ، لِأَنَّ الْبَذْلَ لِسُقَاةِ النَّاسِ رُعَاةً كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ، أَوْلَى مِنَ الْبَذْلِ لِلْمَاشِيَةِ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ نَقَلَ فِي الْمَنْعِ مِنَ الشُّرْبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَجْهَيْنِ إِذَا قُلْنَا: مَمْلُوكٌ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْبَذْلَ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ عِوَضًا كَإِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: لَا، لِلْحَدِيثِ [الصَّحِيحِ] أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ. قُلْتُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَوْ كَانَ هُنَاكَ مَاءَانِ مَمْلُوكَانِ لِرَجُلَيْنِ، لَزِمَهُمَا الْبَذْلُ. فَإِنِ اكْتَفَتِ الْمَاشِيَةُ بِبَذْلِ أَحَدِهِمَا، سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْآخَرِ، قَالَ: وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ شُرُوطُ

فصل

وُجُوبِ الْبَذْلِ، جَازَ لِمَالِكِهِ أَخْذُ ثَمَنِهِ إِذَا بَاعَهُ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، وَلَا يَجُوزُ، بَيْعُهُ مُقَدَّرًا بِرَيِّ الْمَاشِيَةِ وَلَا الزَّرْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمَحْفُورَةُ بِلَا قَصْدٍ، فَفِيهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِمَائِهَا، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: يَخْتَصُّ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، كَمَا أَنَّ الْإِحْيَاءَ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ. فَصْلٌ حُكْمُ الْقَنَوَاتِ حُكْمُ الْآبَارِ فِي مِلْكِ مِيَاهِهَا وَفِي وُجُوبِ الْبَذْلِ وَغَيْرِهِمَا، إِلَّا أَنَّ حَفْرَهَا لِمُجَرَّدِ الِارْتِفَاقِ لَا يَكَادُ يَقَعُ، وَمَتَى اشْتَرَكَ الْمُتَمَلِّكُونَ فِي الْحَفْرِ، اشْتَرَكُوا فِي الْمِلْكِ بِحَسَبِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعَمَلِ أَوِ الِارْتِفَاقِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي النَّهْرِ الْمَمْلُوكِ، ثُمَّ لَهُمْ قِسْمَةُ الْمَاءِ بِأَنْ تُنْصَبَ خَشَبَةٌ مُسْتَوِيَةُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ فِي عَرْضِ النَّهْرِ، وَيُفْتَحَ فِيهَا ثُقَبٌ مُتَسَاوِيَةٌ، أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثُّقَبُ مُتَسَاوِيَةً مَعَ تَفَاوُتِ الْحُقُوقِ، إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ الثُّلُثِ يَأْخُذُ ثُقْبَةً، وَالْآخَرَ ثُقْبَتَيْنِ، وَيَسُوقُ كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ فِي سَاقِيَةٍ إِلَى أَرْضِهِ، وَلَهُ أَنْ يُدِيرَ رَحًى بِمَا صَارَ لَهُ، وَلَا يَشُقَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَاقِيَةً قَبْلَ الْمَقْسِمِ، وَلَا يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى، وَإِنِ اقْتَسَمُوا بِالْمُهَايَأَةِ، جَازَ أَيْضًا. وَقَدْ يَكُونُ الْمَاءُ قَلِيلًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلَّا كَذَلِكَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ الرُّجُوعُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْبِئْرِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَقِيلَ: تُلْزَمُ الْمُهَايَأَةُ لِيَثِقَ كُلُّ وَاحِدٍ بِالِانْتِفَاعِ. وَقِيلَ: لَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ بِالْمُهَايَأَةِ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، وَتَخْتَلِفُ فَائِدَةُ السَّقْيِ بِالْأَيَّامِ. قُلْتُ: لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنَ الْمَاءِ وَيَسْقِيَ بِهِ أَرْضًا لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شِرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، مُنِعَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ شِرْبًا لَمْ يَكُنْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ الَّذِينَ يَسْقُونَ أَرْضَهُمْ مِنَ الْأَوْدِيَةِ الْمُبَاحَةِ، لَوْ تَرَاضَوْا بِمُهَايَأَةٍ، وَجَعَلُوا لِلْأَوَّلِينَ أَيَّامًا، وَلِلْآخَرِينَ أَيَّامًا، فَهَذِهِ مُسَامَحَةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ بِتَقَدُّمِ الْآخَرِينَ، وَلَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ وَالظَّاهِرُ: أَنَّ مَنْ رَجَعَ مِنَ الْأَوَّلِينَ، مُكِّنَ مِنْ سَقْيِ أَرْضِهِ. فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمَاءِ أَمَّا الْمُحْرِزُ فِي إِنَاءٍ أَوْ حَوْضٍ، فَبَيْعُهُ صَحِيحٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ الْوَجْهُ، وَلْيَكُنْ عُمْقُ الْحَوْضِ مَعْلُومًا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْقَنَاةِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَيَزِيدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَخْتَلِطُ فَيَتَعَذَّرُ التَّسْلِيمُ. وَإِنْ بَاعَ مِنْهُ آصُعًا، فَإِنْ كَانَ جَارِيًا، لَمْ يَصِحَّ، إِذْ لَا يُمْكِنُ رَبْطُ الْعَقْدِ بِمِقْدَارٍ. وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا وَقُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ قُلْنَا: مَمْلُوكٌ، فَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَزِيدُ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ. وَالْأَصَحُّ: الْجَوَازُ كَبَيْعِ صَاعٍ مِنْ صُبْرَةٍ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ، فَقَلِيلَةٌ، فَلَا تَضُرُّ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْقَتَّ فِي الْأَرْضِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَكَمَا لَوْ بَاعَ صَاعًا مِنْ صُبْرَةٍ وَصَبَّ عَلَيْهَا صُبْرَةً أُخْرَى، فَإِنَّ الْبَيْعَ بِحَالِهِ، وَيَبْقَى الْبَيْعُ مَا بَقِيَ صَاعٌ مِنَ الصُّبْرَةِ. وَلَوْ بَاعَ الْمَاءَ مَعَ قَرَارِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ جَارِيًا فَقَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْقَنَاةَ مَعَ مَائِهَا، أَوْ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا وَقُلْنَا: إِنَّ الْمَاءَ لَا يُمَلَّكُ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِي الْمَاءِ، وَفِي الْقَرَارِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَإِلَّا، فَيَصِحُّ. وَلَوْ بَاعَ بِئْرَ الْمَاءِ وَأَطْلَقَ، أَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا بِئْرُ مَاءٍ، جَازَ. ثُمَّ إِنَّ قُلْنَا: يُمَلَّكُ، فَالْمَوْجُودُ حَالَ الْبَيْعِ يَبْقَى لِلْبَائِعِ، وَمَا يَحْدُثُ، لِلْمُشْتَرِي. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ حَتَّى يُشْتَرَطَ أَنَّ الْمَاءَ الظَّاهِرَ لِلْمُشْتَرِي، لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْمَاءَانِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُمَلَّكُ،

فَقَدْ أَطْلَقُوا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَحَقُّ بِذَلِكَ الْمَاءِ. وَلْيُحْمَلَ عَلَى مَا نَبَعَ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَأَمَّا مَا نَبَعَ قَبْلَهُ، فَلَا مَعْنَى لِصَرْفِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي. قُلْتُ: هَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فَاسِدٌ، فَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ الظَّاهِرِ، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى الدَّارِ، وَتَكُونُ يَدُهُ كَيَدِ الْبَائِعِ فِي ثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ [بِهِ] . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَاعَ جُزْءًا شَائِعًا مِنَ الْبِئْرِ أَوِ الْقَنَاةِ، جَازَ، وَمَا يَنْبُعُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، إِمَّا اخْتِصَاصًا مُجَرَّدًا، وَإِمَّا مِلْكًا. فَرْعٌ سَقَى أَرْضَهُ بِمَاءٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ، فَالْغَلَّةُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْمَاءِ. وَلَوِ اسْتَحَلَّ صَاحِبَ الْمَاءِ، كَانَ الطَّعَامُ أَطْيَبَ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ، مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : أَنَّهُ لَوْ أَضْرَمَ نَارًا فِي حَطَبٍ مُبَاحٍ بِالصَّحْرَاءِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِتِلْكَ النَّارِ، فَلَوْ جَمَعَ الْحَطَبَ، مُلِّكَهُ، فَإِذَا أَضْرَمَ فِيهِ النَّارَ، فَلَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الوقف

كِتَابُ الْوَقْفِ فِيهِ بَابَانِ. [البابُ] الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ، وَفِيهِ طَرَفَانِ: [الطَّرَفُ] الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: [الركنُ] الْأَوَّلُ: الْوَاقِفُ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ صَحِيحَ الْعِبَارَةِ، أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَوْقُوفُ، وَهُوَ كُلُّ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ مَمْلُوكَةٍ مِلْكًا يَقْبَلُ النَّقْلَ يَحْصُلُ مِنْهَا فَائِدَةٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ تُسْتَأْجَرُ لَهَا. احْتَرَزْنَا بِالْعَيْنِ حَقَّ الْمَنْفَعَةِ، وَعَنِ الْوَقْفِ الْمُلْتَزَمِ فِي الذِّمَّةِ، وَبِالْمُعَيَّنَةِ، عَنْ وَقْفِ أَحَدِ عَبْدَيْهِ، وَبِالْمَمْلُوكَةِ، عَمَّا لَا يُمَلَّكُ، وَبِقَبُولِ النَّقْلِ، عَنْ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمَلَاهِي. وَأَرَدْنَا بِالْفَائِدَةِ: الثَّمَرَةَ وَاللَّبَنَ وَنَحْوَهُمَا، وَبِالْمَنْفَعَةِ: السُّكْنَى وَاللُّبْسَ وَنَحْوَهُمَا. وَقَوْلُنَا: تُسْتَأْجَرُ لَهَا، احْتِرَازٌ مِنَ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ. وَنُوَضِّحُهُ بِمَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: يَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ، كَالْعَبِيدِ، وَالثِّيَابِ، وَالدَّوَابِّ، وَالسِّلَاحِ، وَالْمَصَاحِفِ، وَالْكُتُبِ، سَوَاءٌ الْمَقْسُومُ وَالْمُشَاعِ، كَنِصْفِ دَارٍ وَنِصْفِ عَبْدٍ، وَلَا يَسْرِي الْوَقْفُ مِنْ نِصْفٍ إِلَى نِصْفٍ. فَرْعٌ وَقَفَ نِصْفَ عَبْدٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْآخَرَ، لَمْ يَعْتِقِ الْمَوْقُوفُ. الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ [وَقْفُ] مَا يُرَادُ لِعَيْنٍ تُسْتَفَادُ مِنْهُ، كَالْأَشْجَارِ لِلثِّمَارِ، وَالْحَيَوَانِ لِلَّبَنِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالْبَيْضِ، وَمَا يُرَادُ لِمَنْفَعَةٍ تُسْتَوْفَى مِنْهُ، كَالدَّارِ، وَالْأَرْضِ

وَلَا يُشْتَرَطُ حُصُولُ الْمَنْفَعَةِ وَالْفَائِدَةِ فِي الْحَالِ، بَلْ يَجُوزُ وَقْفُ الْعَبْدِ وَالْجَحْشِ الصَّغِيرَيْنِ، وَالزَّمِنِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ زَمَانَتِهِ، كَمَا يَجُوزُ نِكَاحُ الرَّضِيعَةِ. الثَّالِثَةُ: لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْحُرِّ نَفْسَهُ، لِأَنَّ رَقَبَتَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، وَكَذَلِكَ مَالِكُ مَنَافِعِ الْأَمْوَالِ دُونَ رِقَابِهَا، لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ إِيَّاهَا، سَوَاءٌ مُلِّكَ مُؤَقَّتًا، كَالْمُسْتَأْجِرِ، أَمْ مُؤَبَّدًا، كَالْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ. الرَّابِعَةُ: لَا يَصِحُّ وَقْفُ أَمِّ الْوَلَدِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ صَحَّحْنَا فَمَاتَ السَّيِّدُ، عَتِقَتْ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ، بَلْ تَبْقَى مَنَافِعُهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَجَّرَهَا وَمَاتَ. وَقَالَ الْإِمَامُ: تَبْطُلُ، لِأَنَّ الْحَرِيَّةَ تُنَافِي الْوَقْفَ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ كَجٍّ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْمُكَاتَبِ، وَيَصِحُّ وَقْفُ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ. فَإِذَا وُجِدَتِ الصِّفَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي الْوَقْفِ لِلْوَاقِفِ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى، عَتِقَ وَبَطَلَ الْوَقْفُ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، لَمْ يَعْتِقْ وَيَبْقَى الْوَقْفُ بِحَالِهِ. وَيَجُوزُ وَقْفُ الْمُدَبَّرِ، ثُمَّ هُوَ رُجُوعٌ إِنْ قُلْنَا: التَّدْبِيرُ وَصِيَّةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: تَعْلِيقٌ بِصِفَةٍ، فَهُوَ كَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ. الْخَامِسَةُ: لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ. السَّادِسَةُ: فِي وَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَجْهَانِ، كَإِجَارَتِهِمَا، إِنْ جَوَّزْنَاهَا، صَحَّ الْوَقْفُ لِتُكْرَى، وَيَصِحُّ وَقْفُ الْحُلِيِّ لِغَرَضِ اللُّبْسِ. وَحَكَى الْإِمَامُ أَنَّهُمْ أَلْحَقُوا الدَّرَاهِمَ لِيُصَاغَ مِنْهَا الْحُلِيُّ بِوَقْفِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ، وَتَرَدَّدَ هُوَ فِيهِ. السَّابِعَةُ: لَا يَصِحُّ وَقْفُ مَا لَا يَدُومُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَالْمَطْعُومِ وَالرَّيَاحِينِ الْمَشْمُومَةِ، لِسُرْعَةِ فَسَادِهَا. الثَّامِنَةُ: وَقَفَ ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي الذِّمَّةِ. وَلَوْ وَقَفَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ كَالْبَيْعِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ كَالْعِتْقِ. التَّاسِعَةُ: يَجُوزُ وَقْفُ عُلُوِّ الدَّارِ دُونَ سُفْلِهَا.

الْعَاشِرَةُ: يَصِحُّ وَقْفُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ، بِخِلَافِ إِجَارَتِهِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ قُرْبَةٌ يُحْتَمَلُ فِيهَا مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمَلَاهِي. فَرْعٌ أَجَّرَ أَرْضَهُ ثُمَّ وَقَفَهَا، صَحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِشَرَائِطِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْعَجْزُ عَنْ صَرْفِ مَنْفَعَتِهِ إِلَى جِهَةِ الْوَقْفِ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كَمَا لَوْ وَقَفَ مَالَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: إِنْ وَقَفَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ صَحَّ، لِمُشَابَهَتِهِ الْإِعْتَاقَ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى إِنْسَانٍ، فَخِلَافٌ. فَرْعٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا، أَوْ يَغْرِسَ، فَفَعَلَ، ثُمَّ وَقَفَ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ وَقَفَ هَذَا أَرْضَهُ، وَهَذَا بِنَاءَهُ، صَحَّ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوْ بَاعَاهُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، وَمَضَتِ الْمُدَّةُ، وَقَلَعَ مَالِكُ الْأَرْضِ الْبِنَاءَ، فَإِنْ بَقِيَ مُنْتَفَعًا بِهِ بَعْدَ الْقَلْعِ، فَهُوَ وَقْفٌ كَمَا كَانَ. وَإِنْ لَمْ يَبْقَ، فَهَلْ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؟ أَمْ يَرْجِعُ إِلَى الْوَاقِفِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَأَرْشُ النَّقْصِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ الْقَالِعِ، يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْوَقْفِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: صِحَّةُ وَقْفِ مَا لَمْ يَرَهُ، وَلَا خِيَارَ لَهُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قِسْمَانِ. [الْقِسْمُ] الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ شَخْصًا مُعَيَّنًا، أَوْ جَمَاعَةً مُعَيَّنِينَ، فَشَرْطُهُ أَنْ يُمْكِنَ تَمْلِيكُهُ، فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى ذِمِّيٍّ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ، كَمَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُمَا لَا دَوَامَ لَهُمَا. فَرْعٌ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يُمَلَّكُ، كَالْجَنِينِ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى الْعَبْدِ نَفْسِهِ، قَالَ جَمَاعَةٌ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِنَا: لَا يُمَلَّكُ. فَإِنْ مَلَّكْنَاهُ، صَحَّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ. وَإِذَا عَتِقَ، كَانَ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ وَقَفَ عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ وَمَلَّكْنَاهُ، صَحَّ وَكَانَ الِاسْتِحْقَاقُ مُتَعَلِّقًا بِكَوْنِهِ عَبْدَ فُلَانٍ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ، زَالَ الِاسْتِحْقَاقُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُمَلَّكُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا مَلَّكَهُ السَّيِّدُ؟ فَأَمَّا إِذَا مَلَّكَهُ غَيْرُهُ، فَلَا يُمَلَّكُ بِلَا خِلَافٍ، وَحِينَئِذٍ إِذَا كَانَ الْوَاقِفُ غَيْرَ السَّيِّدِ، كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يُمَلَّكُ. أَمَّا إِذَا أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَيْهِ، فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى سَيِّدِهِ. كَمَا لَوْ وَهَبَ لَهُ، أَوْ أَوْصَى لَهُ، وَإِذَا شَرَطْنَا الْقَبُولَ، جَاءَ خِلَافٌ فِي اسْتِقْلَالِهِ بِهِ، كَالْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَسْتَقِلُّ بِقَبُولِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ مُعَامَلَاتِ الْعَبِيدِ. فَرْعٌ لَوْ وَقَفَ عَلَى مُكَاتَبٍ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا يَصِحُّ كَالْوَقْفِ عَلَى الْقِنِّ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يَصِحُّ فِي الْحَالِ وَتُصْرَفُ الْفَوَائِدُ إِلَيْهِ، وَنُدِيمُ حُكْمَهُ إِذَا عَتِقَ إِنْ

أَطْلَقَ الْوَقْفَ. وَإِنْ قَالَ: تُصْرَفُ الْفَوَائِدُ إِلَيْهِ مَا دَامَ مُكَاتَبًا، بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُ. وَإِنْ عَجَزَ، بَانَ لَنَا أَنَّ الْوَقْفَ مُنْقَطِعُ الِابْتِدَاءِ. فَرْعٌ وَقَفَ عَلَى بَهِيمَةٍ وَأَطْلَقَ، هَلْ هُوَ كَالْوَقْفِ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ وَقْفًا عَلَى مَالِكِهَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَهْلًا بِحَالٍ. وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لَهَا وَالْوَصِيَّةُ. وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْهُ مَا بَقِيَتْ، وَعَلَى هَذَا، فَالْقَبُولُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَالِكِ. وَحَكَى الْمُتَوَلِّي فِي قَوْلِهِ: وَقَفْتُ عَلَى عَلَفِ بَهِيمَةِ فُلَانٍ، أَوْ بَهَائِمِ الْقَرْيَةِ، وَجْهَيْنِ كَصُورَةِ الْإِطْلَاقِ، قَالَ: وَالْخِلَافُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْبَهِيمَةُ مَمْلُوكَةً. فَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْوُحُوشِ، أَوْ عَلَفِ الطُّيُورِ الْمُبَاحَةِ، فَلَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ فِي وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: بُطْلَانُهُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، قَالَهُ الزُّبَيْرِيُّ. وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ أَيْضًا، وَحَكَى عَنْهُ ابْنُ كَجٍّ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ، وَيَلْغُو شَرْطُهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَفْتُ، صَحَّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَطَّرِدَ فِي الْوَقْفِ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَشَرَطَ أَنْ تُقْضَى مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ زَكَاتُهُ وَدُيُونُهُ، فَهَذَا وَقْفٌ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَفِيهِ الْخِلَافُ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثِمَارِهِ، أَوْ يَنْتَفِعَ بِهِ وَلَوِ اسْتَبْقَى [الْوَاقِفُ] لِنَفْسِهِ التَّوْلِيَةَ، وَشَرَطَ أُجْرَةً، وَقُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ عَلَى نَفْسِهِ، فَفِي صِحَّةِ هَذَا الشَّرْطِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْهَاشِمِيِّ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ سَهْمَ الْعَامِلِينَ إِذَا عَمِلَ عَلَى الزَّكَاةِ.

قُلْتُ: الْأَرْجَحُ هُنَا جَوَازُهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: وَيَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَلَا يُجَوِّزُ الزِّيَادَةَ إِلَّا مَنْ أَجَازَ الْوَقْفَ عَلَى نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ، ثُمَّ صَارَ فَقِيرًا، فَفِي جَوَازِ أَخْذِهِ وَجْهَانِ إِذَا قُلْنَا: لَا يَقِفُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ نَفْسَهُ وَقَدْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ الْجَوَازَ، وَرَجَّحَ الْغَزَالِيُّ الْمَنْعَ، لِأَنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِأَوْقَافِهِ الْعَامَّةِ كَآحَادِ النَّاسِ، كَالصَّلَاةِ فِي بُقْعَةٍ جَعَلَهَا مَسْجِدًا، وَالشُّرْبِ مِنْ بِئْرٍ وَقَفَهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ، لَوْ وَقَفَ كِتَابًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ وَنَحْوِهَا، أَوْ قِدْرًا لِلطَّبْخِ فِيهَا، أَوْ كِيزَانًا لِلشُّرْبِ بِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَهُ الِانْتِفَاعُ مَعَهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: وَقَفْتُ عَلَى أَحَدِكُمَا، لَمْ يَصِحَّ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهَذَا يُسَمَّى وَقْفًا عَلَى الْجِهَةِ، لِأَنَّ الْوَاقِفَ يَقْصِدُ جِهَةَ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ، لَا شَخْصًا بِعَيْنِهِ، فَيُنْظَرُ فِي الْجِهَةِ، إِنْ كَانَتْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، كَعِمَارَةِ الْكَنِيسَةِ وَقَنَادِيلِهَا وَحُصْرِهَا، وَكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لَمْ يَصِحَّ، سَوَاءٌ وَقَفَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ، فَنُبْطِلُهُ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْنَا. أَمَّا مَا وَقَفُوهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ عَلَى كَنَائِسِهِمُ الْقَدِيمَةِ، فَنُقِرُّهُ حَيْثُ نُقِرُّ الْكَنَائِسَ. وَلَوْ وَقَفَ لِسِلَاحِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ لِآلَاتِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَبَاطِلٌ قَطْعًا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جِهَةَ مَعْصِيَةٍ، نُظِرَ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ،

فصل

وَالْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَالْقَنَاطِرِ، صَحَّ الْوَقْفُ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرِ الْقُرْبَةُ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَوَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْعِيَّ بِالْوَقْفِ عَلَى الْمَوْصُوفِينَ جِهَةُ الْقُرْبَةِ، أَمِ التَّمْلِيكُ؟ فَحَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْمُعَظَّمِ: أَنَّهُ الْقُرْبَةُ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْمَسَاكِينَ، بَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ. وَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ قَالَ: التَّمْلِيكُ كَالْوَصِيَّةِ وَكَالْوَقْفِ عَلَى الْمُعَيَّنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَشَيْخِهِ، وَطُرُقُ الْعِرَاقِيِّينَ تُوَافِقُهُ، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالرُّبُطِ، تَمْلِيكُ الْمُسْلِمِينَ مَنْفَعَةَ الْوَقْفِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْفُسَّاقِ، وَالْأَصَحُّ: الْجَمِيعُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى قَبِيلَةٍ كَالْعَلَوِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَنْحَصِرُ فِيهِمْ. فِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ كَالْوَصِيَّةِ لَهُمْ فَإِنْ رَاعَيْنَا الْقُرْبَةَ، صَحَّ، وَإِلَّا، فَلَا، لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيعَابِ، وَالْأَشْبَهُ بِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ تَرْجِيحُ كَوْنِهِ تَمْلِيكًا، وَتَصْحِيحُ الْوَقْفِ عَلَى هَؤُلَاءِ. وَلِهَذَا صَحَّحَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» الْوَقْفَ عَلَى النَّازِلِينَ فِي الْكَنَائِسِ مِنْ مَارَّةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَقَالَ: هُوَ وَقْفٌ عَلَيْهِمْ، لَا عَلَى الْكَنِيسَةِ، لَكِنَّ الْأَحْسَنَ تَوَسُّطٌ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ تَصْحِيحُ الْوَقْفِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَإِبْطَالُهُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَسَائِرِ الْفُسَّاقِ، لِتَضَمُّنِهِ الْإِعَانَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الرُّكْنِ إِحْدَاهَا: يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ سَهْمَ الزَّكَاةِ. الثَّانِيَةُ: إِذَا وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ، أَوِ الْخَيْرِ، أَوِ الثَّوَابِ، صَحَّ، وَيُصْرَفُ إِلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا، فَإِلَى أَهْلِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : الْمَوْقُوفُ

عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ، أَوِ الْخَيْرِ، أَوِ الثَّوَابِ، يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ، وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَدَفْنِ الْمَوْتَى، وَغَيْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ: إِنْ وُقِفَ عَلَى جِهَةِ الْخَيْرِ، صُرِفَ [فِي] مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَلَا يُبْنَى بِهِ مَسْجِدٌ وَلَا رِبَاطٌ. وَإِنْ وُقِفَ عَلَى جِهَةِ الثَّوَابِ، صُرِفَ إِلَى أَقَارِبِهِ. وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ مَا قَدَّمْنَاهُ. قَالُوا: وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَبِيلِ الثَّوَابِ، وَسَبِيلِ الْخَيْرِ، صُرِفَ الثُّلُثُ إِلَى الْغُزَاةِ، وَالثُّلُثُ إِلَى أَقَارِبِهِ، وَالثُّلُثُ إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالْغَارِمِينَ، وَابْنِ السَّبِيلِ وَفِي الرِّقَابِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا سَبَقَ. الثَّالِثَةُ: يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى أَكْفَانِ الْمَوْتَى، وَمُؤْنَةِ الْغَسَّالِينَ، وَالْحَفَّارِينَ، وَعَلَى شِرَاءِ الْأَوَانِي، وَالظُّرُوفِ لِمَنْ تَكَسَّرَتْ عَلَيْهِ. الرَّابِعَةُ: يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْمُتَفَقِّيِّهَةِ - وَهُمُ الْمُشْتَغِلُونَ بِتَحْصِيلِ الْفِقْهِ - مُبْتَدِئِهِمْ وَمُنْتَهِيهِمْ، وَعَلَى الْفُقَهَاءِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ حَصَّلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ قَلَّ. الْخَامِسَةُ: الْوَقْفُ عَلَى الصُّوفِيَّةِ، حُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ بَاطِلٌ، إِذْ لَيْسَ لِلتَّصَوُّفِ حَدٌّ يُعْرَفُ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ صِحَّتُهُ، وَهُمُ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَةِ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ، الْمُعْرِضُونَ عَنِ الدُّنْيَا. وَفَصَّلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى فَقَالَ: لَا بُدَّ فِي الصُّوفِيِّ مِنَ الْعَدَالَةِ، وَتَرْكِ الْحِرْفَةِ، وَلَا بَأْسَ بِالْوِرَاقَةِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَشِبْهِهِمَا إِذَا تَعَاطَاهَا أَحْيَانًا فِي الرِّبَاطِ لَا فِي الْحَانُوتِ، وَلَا تَقْدَحُ قُدْرَتُهُ عَلَى الْكَسْبِ، وَلَا اشْتِغَالُهُ بِالْوَعْظِ، وَالتَّدْرِيسِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الْمَالِ قَدْرٌ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، أَوْ لَا يَفِي دَخْلُهُ بِخَرْجِهِ، وَتَقْدَحُ الثَّرْوَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْعُرُوضُ الْكَثِيرَةُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي زِيِّ الْقَوْمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاكِنًا، فَتَقُومَ الْمُخَالَطَةُ، وَالْمُسَاكَنَةُ مَقَامَ الزِّيِّ، قَالَ: وَلَا يُشْتَرَطُ لُبْسُ الْمُرَقَّعَةِ مِنْ شَيْخٍ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْمُتَوَلِّي.

السَّادِسَةُ: وَقَفَ عَلَى الْأَرِقَّاءِ الْمَوْقُوفِينَ لِسِدَانَةِ الْكَعْبَةِ، وَخِدْمَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. السَّابِعَةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى دَارٍ، أَوْ حَانُوتٍ، قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُ عَلَى هَذِهِ الدَّارِ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ فَوَائِدَهُ طَارِقُوهَا، فَيَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ. الثَّامِنَةُ: وَقَفَ عَلَى الْمَقْبَرَةِ لِتُصْرَفَ الْغَلَّةُ فِي عِمَارَةِ الْقُبُورِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْمَوْتَى صَائِرُونَ إِلَى الْبِلَى، فَلَا تَلِيقُ بِهِمُ الْعِمَارَةُ. التَّاسِعَةُ: وَقَفَ ضَيْعَةً عَلَى الْمُؤَنِ الَّتِي تَقَعُ فِي قَرْيَةِ كَذَا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ، فَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَصِيغَتُهُ أَنْ يَقُولَ: تَصَدَّقْتُ بِهَذِهِ الضَّيْعَةِ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً عَلَى أَنْ تُسْتَغَلَّ، فَمَا فَضَلَ عَنْ عِمَارَتِهَا صُرِفَ إِلَى هَذِهِ الْمُؤَنِ. الْعَاشِرَةُ: فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذِهِ الْبَقَرَةَ عَلَى الرِّبَاطِ الْفُلَانِيِّ لِيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا مَنْ نَزَلَهُ، أَوْ يُنْفِقَ مِنْ نَسْلِهَا عَلَيْهِ، صَحَّ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَفْتُهَا عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ. وَقَدْ بَقِيَتْ مَسَائِلُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ تَأْتِي مَنْثُورَةً فِي آخِرِ الْبَابِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ، فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ إِلَّا بِلَفْظٍ، لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ، أَوِ الْمَنْفَعَةِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ التَّمْلِيكَاتِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ مَعَ قُوَّتِهِ وَسِرَايَتِهِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظٍ، فَهَذَا أَوْلَى. فَلَوْ بُنِيَ عَلَى هَيْئَةِ الْمَسَاجِدِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ هَيْئَتِهَا، وَأُذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ، لَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا، وَكَذَا لَوْ أُذِنَ فِي الدَّفْنِ فِي مِلْكِهِ، لَمْ يَصِرْ مَقْبَرَةً سَوَاءٌ صَلَّى فِي ذَاكَ وَدُفِنَ فِي ذَا، أَمْ لَا. وَأَلْفَاظُ الْوَقْفِ عَلَى مَرَاتِبَ: إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ: وَقَفْتُ كَذَا، أَوْ حَبَّسْتُ، أَوْ سَبَّلْتُ، أَوْ أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ، أَوْ مُحَبَّسَةٌ، أَوْ مُسَبَّلَةٌ، فَكُلُّ لَفْظٍ مِنْ هَذَا صَرِيحٌ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ

بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي وَجْهٍ: كُلُّ هَذَا كِنَايَةٌ، وَفِي وَجْهٍ: الْوَقْفُ صَرِيحٌ، وَالْبَاقِي كِنَايَةٌ، وَفِي وَجْهٍ: التَّسْبِيلُ كِنَايَةٌ وَالْبَاقِي صَرِيحٌ. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: حَرَّمْتُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ أَبَّدْتُهَا، أَوْ دَارِي مُحَرَّمَةٌ، أَوْ مُؤَبَّدَةٌ، كِنَايَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُؤَكِّدَةً لِلْأُولَى. الثَّالِثَةُ: تَصَدَّقْتُ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ، لَيْسَ بِصَرِيحٍ، فَإِنْ زَادَ مَعَهُ شَيْئًا، فَالزِّيَادَةُ لَفْظٌ، أَوْ نِيَّةٌ، فَأَمَّا اللَّفْظُ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: إِنْ قَرَنَ بِهِ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ السَّابِقَةِ، بِأَنْ قَالَ: صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ مُحَبَّسَةٌ، أَوْ مَوْقُوفَةٌ، أَوْ قَرَنَ بِهِ حُكْمَ الْوَقْفِ، فَقَالَ: صَدَقَةٌ لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، الْتَحَقَ بِالصَّرِيحِ، لِانْصِرَافِهِ بِهَذَا عَنِ التَّمْلِيكِ الْمَحْضِ. وَالثَّانِي: لَا يَكْفِي قَوْلُهُ: صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ مُؤَبَّدَةٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّقْيِيدِ بِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَعْتَبِرَ هَذَا الْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مِثْلَ هَذَا التَّقْيِيدِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَكُونُ صَرِيحًا بِلَفْظٍ مَا، لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي التَّمْلِيكِ الْمَحْضِ. وَأَمَّا النِّيَّةُ، فَإِنْ أَضَافَ إِلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ بِأَنْ قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَنَوَى الْوَقْفَ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَلْتَحِقُ بِاللَّفْظِ فِي الصَّرْفِ عَنْ صَرِيحِ الصَّدَقَةِ إِلَى غَيْرِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: تَلْتَحِقُ فَيَصِيرُ وَقْفًا. وَإِنْ أَضَافَ إِلَى مُعَيَّنٍ، فَقَالَ: تَصَدَّقْتُ عَلَيْكَ، أَوْ قَالَهُ لِجَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، لَمْ يَكُنْ وَقْفًا عَلَى الصَّحِيحِ، بَلْ يَنْفُذُ فِيمَا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ، وَهُوَ التَّمْلِيكُ الْمَحْضُ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: تَجْرِيدُ لَفْظِ الصَّدَقَةِ عَنِ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ فِي الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي مُعَيَّنِينَ إِذَا لَمْ نُجَوِّزِ الْوَقْفَ الْمُنْقَطِعَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الْمَصَارِفِ بَعْدَ الْمُعَيَّنِينَ، وَحِينَئِذٍ فَالْمَأْتِيُّ بِهِ لَا يَحْتَمِلُهُ غَيْرُ الْوَقْفِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: تَصَدَّقْتُ بِهِ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً، أَوْ مَوْقُوفَةً، لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْوَقْفِ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذَا الْمَكَانَ مَسْجِدًا، صَارَ مَسْجِدًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِإِشْعَارِهِ بِالْمَقْصُودِ وَاشْتِهَارِهِ فِيهِ. وَقَطَعَ الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ وَالْمُتَوَلِّي، وَالْبَغَوِيُّ، بِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَلْفَاظِ الْوَقْفِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: فَإِنْ قَالَ: جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى، صَارَ مَسْجِدًا. وَحَكَى الْإِمَامُ خِلَافًا لِلْأَصْحَابِ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْوَقْفِ فِيمَا يُضَاهِي التَّجْرِيدَ، كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ عَلَى صَلَاةِ الْمُصَلِّينَ، وَهُوَ يُرِيدُ جَعْلَهَا مَسْجِدًا، وَالْأَصَحُّ صِحَّتُهُ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ، كَالْفُقَرَاءِ، وَعَلَى الْمَسْجِدِ، وَالرِّبَاطِ، لَمْ يُشْتَرَطِ الْقَبُولُ. وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذَا لِلْمَسْجِدِ، فَهُوَ تَمْلِيكٌ لَا وَقْفٌ، فَيُشْتَرَطُ قَبُولُ الْقَيِّمِ، وَقَبْضُهُ كَمَا لَوْ وَهَبَ شَيْئًا لِصَبِيٍّ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى شَخْصٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَآخَرِينَ: اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ. فَعَلَى هَذَا، فَلْيَكُنْ مُتَّصِلًا بِالْإِيجَابِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ. وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ كَالْعِتْقِ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَا يَحْتَاجُ لُزُومُ الْوَقْفِ إِلَى الْقَبُولِ، لَكِنْ لَا يُمَلَّكُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ، وَيَكْفِي الْأَخْذُ دَلِيلًا عَلَى الِاخْتِيَارِ. وَخَصَّ الْمُتَوَلِّي الْوَجْهَيْنِ بِقَوْلِنَا: يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْمَوْقُوفِ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا يُشْتَرَطُ قَطْعًا. قُلْتُ: صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» الِاشْتِرَاطَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَوَاءٌ شَرَطْنَا الْقَبُولَ أَمْ لَا، لَوْ رَدَّهُ بَطَلَ حَقُّهُ كَالْوَصِيَّةِ، وَالْوَكَالَةِ وَشَذَّ

فصل

الْبَغَوِيُّ فَقَالَ: لَا يَبْطُلُ بِالرَّدِّ كَالْعِتْقِ. فَعَلَى الصَّحِيحِ: لَوْ رَدَّ ثُمَّ رَجَعَ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ رَجَعَ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ لَهُ. وَإِنْ حَكَمَ بِهِ لِغَيْرِهِ بَطَلَ حَقُّهُ. هَذَا فِي الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، أَمَّا الْبَطْنُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: فَنَقَلَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ قَطْعًا، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لَا يَتَّصِلُ بِالْإِيجَابِ، وَنَقَلَا فِي ارْتِدَادِهِ بِرَدِّهِمْ وَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ قَدْ ثَبَتَ وَلَزِمَ فَيَبْعُدُ انْقِطَاعُهُ، وَأَجْرَى الْمُتَوَلِّي الْخِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهِمْ، وَارْتِدَادِهِ بِرَدِّهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْحَقَّ مِنَ الْوَاقِفِ، أَمْ مِنَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَقَبُولُهُمْ وَرَدُّهُمْ كَقَبُولِ الْأَوَّلِينَ وَرَدِّهِمْ، وَإِلَّا فَلَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُمْ، وَرَدُّهُمْ كَالْمِيرَاثِ، وَهَذَا أَحْسَنُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يَتَّصِلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْإِيجَابِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ، كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي شُرُوطِ الْوَقْفِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: التَّأْبِيدُ، بِأَنْ يَقِفَ عَلَى مَنْ لَا يَنْقَرِضُ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ عَلَى مَنْ يَنْقَرِضُ، ثُمَّ عَلَى مَنْ لَا يَنْقَرِضُ، كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ عَلَى زَيْدٍ، ثُمَّ عَقِبِهِ، ثُمَّ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَالرُّبُطِ، وَالْقَنَاطِرِ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ عَيَّنَ مَسَاجِدَ، أَوْ قَنَاطِرَ، فَوَجْهَانِ. وَفِي مَعْنَى الْفُقَرَاءِ الْعُلَمَاءُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يَنْقَطِعُونَ. فَصْلٌ لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذَا سَنَةً، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْوَقْفَ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: يَصِحُّ، وَيَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَقِيلَ: الْوَقْفُ الَّذِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ لَا يَفْسُدُ بِالتَّوْقِيتِ كَالْعِتْقِ، وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ، وَمَنْ تَابَعَهُ. وَفِي مُطْلَقِ الْوَقْفِ قَوْلٌ آخَرُ سَنَحْكِيهِ فِي الْهِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فصل

فَصْلٌ إِذَا وَقَفَ وَقْفًا مُنْقَطِعَ الْآخِرِ، بِأَنْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي، أَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى زَيْدٍ، ثُمَّ عَلَى عَقِبِهِ، وَلَمْ يَزِدْ، فَفِي صِحَّتِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الصِّحَّةُ. مِنْهُمُ الْقُضَاةُ: أَبُو حَامِدٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَالثَّانِي: الْبُطْلَانُ، وَصَحَّحَهُ الْمَسْعُودِيُّ وَالْإِمَامُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَقَارًا، فَبَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا صَحَّ، لِأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْهَلَاكِ، وَرُبَّمَا هَلَكَ قَبْلَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَإِذَا انْقَرَضَ الْمَذْكُورُ، فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْتَفِعُ الْوَقْفُ وَيَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ، أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَاتَ. وَأَظْهَرُهُمَا: يَبْقَى وَقْفًا، وَفِي مَصْرِفِهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : يُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ يَوْمَ انْقِرَاضِ الْمَذْكُورِ. وَالثَّانِي: إِلَى الْمَسَاكِينِ. وَالثَّالِثُ: إِلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مَصَارِفُ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَالرَّابِعُ: إِلَى مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ، فَيُعْتَبَرُ قُرْبُ الرَّحِمِ، أَمِ اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، فَيُقَدَّمُ ابْنُ الْبِنْتِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِلَةُ الرَّحِمِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ، فَالْقَوْلُ فِي الْأَقْرَبِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِ. وَهَلْ يَخْتَصُّ بِفُقَرَاءِ الْأَقَارِبِ، أَمْ يُشَارِكُهُمْ أَغْنِيَاؤُهُمْ. قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: الِاخْتِصَاصُ. وَهَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، أَمِ الِاسْتِحْبَابِ؟ وَجْهَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُصْرَفُ إِلَى الْمَسَاكِينِ، فَفِي تَقْدِيمِ جِيرَانِ الْوَاقِفِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّا لَوْ قَدَّمْنَا بِالْجِوَارِ، لَقَدَّمْنَا بِالْقَرَابَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

فَرْعٌ قَالَ: وَقَفْتُ هَذَا عَلَى زَيْدٍ شَهْرًا، عَلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى مِلْكِي بَعْدَ الشَّهْرِ، فَبَاطِلٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ: يَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَعُودُ مِلْكًا بَعْدَ الشَّهْرِ، أَمْ يَكُونُ كَالْمُنْقَطِعِ حَتَّى يُصْرَفَ بَعْدَ الشَّهْرِ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ. الشَّرْطُ الثَّانِي: التَّنْجِيزُ. فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى مَنْ سَيُولَدُ لِي، أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ سَيُبْنَى، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَلَا وَلَدَ لَهُ، فَهَذَا وَقْفٌ مُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي مُنْقَطِعِ الْآخِرِ. وَالْمَذْهَبُ هُنَا الْبُطْلَانُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، فَإِنْ صَحَّحْنَا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُمْكِنِ انْتِظَارُ مَنْ ذَكَرَهُ كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي وَلَا وَلَدَ لَهُ، أَوْ عَلَى مَجْهُولٍ، أَوْ مَيِّتٍ، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَهُوَ فِي الْحَالِ مَصْرُوفٌ إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَذِكْرُ الْأَوَّلِ لَغْوٌ. وَإِنْ أَمْكَنَ، إِمَّا بِانْقِرَاضِهِ كَالْوَقْفِ عَلَى عَبْدٍ، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَإِمَّا بِحُصُولِهِ، كَوَلَدٍ سَيُولَدُ (لَهُ) ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تُصْرَفُ الْغَلَّةُ إِلَى الْوَاقِفِ حَتَّى يَنْقَرِضَ الْأَوَّلُ. وَعَلَى هَذَا، فَفِي ثُبُوتِ الْوَقْفِ فِي الْحَالِ وَجْهَانِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ: تَنْقَطِعُ الْغَلَّةُ عَنِ الْوَاقِفِ، وَعَلَى هَذَا أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا: تُصْرَفُ فِي الْحَالِ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ، فَإِذَا انْقَرَضَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، صُرِفَ إِلَى الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلُ فِي اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ، وَسَائِرِ التَّفَارِيعِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَالثَّانِي: يُصْرَفُ إِلَى الْمَذْكُورِينَ بَعْدَهُ فِي الْحَالِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. فَرْعٌ وَقَفَ عَلَى وَارِثِهِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَقُلْنَا: الْوَقْفُ عَلَى الْوَارِثِ

بَاطِلٌ، أَوْ صَحِيحٌ، فَرَدَّهُ بَاقِي الْوَرَثَةِ، فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ. وَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَرَدَّهُ الْمُعَيَّنُ، وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ: إِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، فَمُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ. فَرْعٌ إِذَا عَلَّقَ الْوَقْفَ، فَقَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، أَوْ قَدِمَ فُلَانٌ، فَقَدْ وَقَفْتُهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ فِي مُنْقَطِعِ الْأَوَّلِ، وَأَوْلَى بِالْفَسَادِ. فَرْعٌ وَرَاءَ مُنْقَطِعِ الْأَوَّلِ فَقَطْ، أَوِ الْآخِرِ فَقَطْ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلَ الْأَوَّلِ، وَالْآخِرِ وَالْوَسَطِ، فَصَحِيحٌ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعَهَا جَمِيعًا، فَبَاطِلٌ قَطْعًا. الثَّالِثَةُ: مُتَّصِلَ الطَّرَفَيْنِ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ، بِأَنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ رَجُلٍ مَجْهُولٍ، ثُمَّ الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا مُنْقَطِعَ الْآخِرِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ، وَيُصْرَفُ عِنْدَ تَوَسُّطِ الِانْقِطَاعِ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ، أَوْ إِلَى الْمَسَاكِينِ، أَوِ الْمَصَالِحِ، أَوِ الْجِهَةِ الْعَامَّةِ الْمَذْكُورَةِ آخِرًا؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَنْقَطِعَ الطَّرَفَانِ دُونَ الْوَسَطِ، بِأَنْ وَقَفَ عَلَى رَجُلٍ مَجْهُولٍ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ فَقَطْ، فَإِنْ أَبْطَلْنَا مُنْقَطِعَ الْأَوَّلِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَالْأَصَحُّ بُطْلَانُهُ أَيْضًا. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَفِيمَنْ يُصْرَفُ إِلَيْهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْإِلْزَامُ، فَلَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، أَوْ قَالَ: وَقَفْتُ بِشَرْطٍ

أَنِّي أَبِيعُهُ، أَوْ أَرْجِعُ فِيهِ مَتَى شِئْتُ، فَبَاطِلٌ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَالْعِتْقِ، أَوْ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَهَذَا شَرْطٌ مُفْسِدٌ. لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَفْسُدُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَلَبَةِ، وَالسِّرَايَةِ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَبْطُلَ الشَّرْطُ، وَيَصِحَّ الْوَقْفُ. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ، أَوْ غَيْرِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ إِذَا مَاتَ، فَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَعَنِ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ أُخِذَا مِنْ مَسْأَلَةِ الْعُمَرِيِّ. وَلَوْ وَقَفَ وَشَرَطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَحْرِمَ مَنْ شَاءَ، أَوْ يُقَدِّمَ أَوْ يُؤَخِّرَ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ عَلَى الْأَصَحِّ. هَذَا إِذَا أَنْشَأَ الْوَقْفَ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَلَوْ أَطْلَقَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُغَيِّرَ مَا ذَكَرَهُ بِحِرْمَانٍ، أَوْ زِيَادَةٍ، أَوْ تَقْدِيمٍ، أَوْ تَأْخِيرٍ، فَلَيْسَ لَهُ قَطْعًا. فَإِنْ صَحَّحْنَا شَرْطَهُ لِنَفْسِهِ، فَشَرْطُهُ لِغَيْرِهِ، فَفَاسِدٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ أَفْسَدْنَاهُ، فَفِي فَسَادِ الْوَقْفِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ كَالْعِتْقِ، أَمْ لَا؟ هَذَا مَجْمُوعُ مَا حَضَرَنِي مِنْ كُتُبِ الْأَصْحَابِ. وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُهُمْ بُطْلَانُ الشَّرْطِ، وَالْوَقْفِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا، وَشَذَّ الْغَزَالِيُّ، فَجَعَلَ هَذِهِ الصُّوَرَ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ. الْأُولَى: وَقَفْتُ بِشَرْطِ أَنْ أَرْجِعَ مَتَى شِئْتُ، أَوْ أَحْرِمَ الْمُسْتَحِقَّ، وَأُحَوِّلَ الْحَقَّ إِلَى غَيْرِهِ مَتَى شِئْتُ، فَفَاسِدٌ. الثَّانِيَةُ: بِشَرْطِ أَنْ أُغَيِّرَ قَدْرَ الْمُسْتَحِقِّ لِلْمَصْلَحَةِ، فَهُوَ جَائِزٌ. الثَّالِثَةُ: يَقُولُ: أُغَيِّرُ تَفْصِيلَهُ، فَوَجْهَانِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ فِيهِ لَبْسٌ، فَإِنَّ التَّحْوِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْأُولَى هُوَ التَّغَيُّرُ الْمَذْكُورُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالْمَذْهَبُ مَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ. فَصْلٌ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ الْوَقْفُ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَتْبَعُ شَرْطَهُ كَسَائِرِ

فصل

الشُّرُوطِ. وَالثَّانِي: لَا، لِتَضَمُّنِهِ الْحَجْرَ عَلَى مُسْتَحِقِّي الْمَنْفَعَةِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ مَنَعَ الزِّيَادَةَ عَلَى سَنَةٍ اتُّبِعَ، لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِهِ، وَإِنْ مَنَعَ مُطْلَقًا، فَلَا. فَإِنْ أَفْسَدْنَا الشَّرْطَ، فَالْقِيَاسُ فَسَادُ الْوَقْفِ بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ: إِذَا شَرَطَ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، لَمْ يُخَالَفْ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الصَّلَاحُ فِي الزِّيَادَةِ زِيدَ، وَهَذَا تَصْحِيحٌ لِلْوَقْفِ مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ. قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا فَسَادًا لِلشَّرْطِ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا جَعَلَ دَارَهُ مَسْجِدًا، أَوْ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً، أَوْ بَنَى مَدْرَسَةً، أَوْ رِبَاطًا، فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ، وَيُدْفَنَ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَيَسْكُنَ الْمَدْرَسَةَ بِشَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ، وَيَنْزِلَ الرِّبَاطَ، وَسَوَاءٌ فِيهِ الْوَاقِفُ، وَغَيْرُهُ. وَلَوْ شَرَطَ فِي الْوَقْفِ اخْتِصَاصَ الْمَسْجِدِ بِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، أَوِ الرَّأْيِ، أَوْ طَائِفَةٍ مَعْلُومِينَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَتْبَعُ شَرْطَهُ. فَعَلَى هَذَا قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَفْسُدُ الْوَقْفُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ. وَالثَّانِي: يَتْبَعُ وَيَخْتَصُّ بِهِمْ رِعَايَةً لِلشَّرْطِ، وَقَطْعًا لِلنِّزَاعِ فِي إِقَامَةِ الشَّعَائِرِ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْفَتْوَى بِهَذَا، وَإِنْ كَانَ الْغَزَالِيُّ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ فِي «الْوَجِيزِ» . قُلْتُ: الْأَصَحُّ اتِّبَاعُ شَرْطِهِ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» . وَالْمُرَادُ بِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ: الْفُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةُ، وَبِأَصْحَابِ الرَّأْيِ: الْفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةُ، هَذَا عُرْفُ أَهْلِ خُرَاسَانَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - ثُمَّ الْوَجْهَانِ، فِيمَا إِذَا قَالَ: عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلِانْقِرَاضِ، فَفِيهِ خِلَافٌ.

قُلْتُ: يَعْنِي اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ لِاحْتِمَالِ انْقِرَاضِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَالْأَصَحُّ، أَوِ الصَّحِيحُ الصِّحَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ شَرَطَ فِي الْمَدْرَسَةِ، وَالرِّبَاطِ الِاخْتِصَاصَ، اخْتَصَّ قَطْعًا. وَلَوْ شَرَطَ فِي الْمَقْبَرَةِ الِاخْتِصَاصَ بِالْغُرَبَاءِ، أَوْ بِجَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُرَتَّبَ عَلَى الْمَسْجِدِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَخْتَصُّ، فَالْمَقْبَرَةُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْمَدْرَسَةِ، وَإِلْحَاقُهَا بِالْمَدْرَسَةِ أَصَحُّ، فَإِنَّ الْمَقَابِرَ لِلْأَمْوَاتِ كَالْمَسَاكِنِ لِلْأَحْيَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا شَرَطَ فِي حَالِ الْوَقْفِ. أَمَّا إِذَا وَقَفَ مُطْلَقًا، ثُمَّ خَصَّصَ الْمَدْرَسَةَ، أَوِ الْمَسْجِدَ أَوْ غَيْرَهُمَا، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ قَطْعًا. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: بَيَانُ الْمَصْرِفِ، فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: بُطْلَانُ الْوَقْفِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُ دَارِي بِعَشَرَةٍ، أَوْ وَهَبْتُهَا، وَلَمْ يَقُلْ لِمَنْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى جَمَاعَةٍ، لَمْ يَصِحَّ، لِجَهَالَةِ الْمَصْرِفِ. فَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْمَصْرِفَ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَالرُّويَانِيُّ، كَمَا لَوْ نَذَرَ هَدْيًا، أَوْ صَدَقَةً وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمَصْرِفَ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثَيَّ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ إِلَى الْمَسَاكِينِ. وَهَذَا إِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَالْفَرْقُ مُشْكِلٌ. قُلْتُ: الْفَرْقُ أَنَّ غَالِبَ الْوَصَايَا لِلْمَسَاكِينِ، فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ، فَتَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ، وَالنَّجَسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَفِي مَصْرِفِهِ الْخِلَافُ فِي مُنْقَطِعِ الْآخِرِ إِذَا صَحَّحْنَاهُ. وَعَنِ ابْنِ

فصل

سُرَيْجٍ، يَصْرِفُهُ النَّاظِرُ فِيمَا يَرَاهُ مِنَ الْبِرِّ كَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى، وَغَيْرِهَا. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ الْأُولَى: وَقَفَ عَلَى رَجُلَيْنِ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، فَفِي نَصِيبِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي حَرْمَلَةَ: يُصْرَفُ إِلَى صَاحِبِهِ. وَالثَّانِي: إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يُصْرَفَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَا إِلَى الْمَسَاكِينِ، بَلْ صَارَ الْوَقْفُ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ. قُلْتُ: مَعْنَاهُ: يَكُونُ صَرْفُهُ مَصْرِفَ مُنْقَطِعِ الْوَسَطِ، لِأَنَّهُ يَجِيءُ خِلَافٌ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّانِيَةُ: وَقَفَ عَلَى شَخْصَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ يُصْرَفُ إِلَيْهِ بَعْدَهُمَا، وَصَحَّحْنَا الْوَقْفَ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، فَنَصِيبُهُ لِلْآخَرِ، أَمْ حُكْمُهُ حُكْمُ نَصِيبِهَا إِذَا مَاتَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الثَّالِثَةُ: وَقَفَ عَلَى بُطُونٍ، فَرَدَّ الْبَطْنَ الثَّانِيَ، وَقُلْنَا: يَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ، فَهَذَا وَقْفٌ مُنْقَطِعُ الْوَسَطِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ، وَفِيهِ قَوْلٌ، أَوْ وَجْهٌ: أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّالِثِ. الرَّابِعَةُ: يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى أَقَارِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَوَّزْنَا الْوَقْفَ عَلَى قَوْمٍ غَيْرِ مَحْصُورِينَ، وَلَا يَكُونُ كَصَرْفِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ. الْخَامِسَةُ: قَالَ: وَقَفْتُ دَارِي عَلَى الْمَسَاكِينِ بَعْدَ مَوْتِي، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَفْتَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَوَافَقَهُ أَئِمَّةُ عَصْرِهِ، وَهَذَا كَأَنَّهُ وَصِيَّةٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ الدَّارَ عَلَى الْبَيْعِ صَارَ رَاجِعًا فِيهِ.

السَّادِسَةُ: قَالَ: جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ خَانْقَاهْ لِلْغُزَاةِ لَمْ تَصِرْ وَقْفًا بِذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِهَا صَدَقَةً مُحَرَّمَةً لِيَصْرِفَ مِنْ غَلَّتِهَا كُلَّ شَهْرٍ إِلَى فُلَانٍ كَذَا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، فَفِي صِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ وَجْهَانِ، فَإِنْ صَحَّ فَفِي الْفَاضِلِ عَنِ الْمِقْدَارِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: الصَّرْفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ، وَالثَّانِي: إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَالثَّالِثُ: يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ. السَّابِعَةُ: قَالَ: جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لِلْمَسْجِدِ، أَوْ سَلَّمَ دَارًا إِلَى قَيِّمِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: خُذْهَا لِلْمَسْجِدِ، أَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ فَأَعْطُوا مِنْ مَالِي أَلْفَ دِرْهَمٍ لِلْمَسْجِدِ، أَوْ فَدَارِي لِلْمَسْجِدِ، لَا يَكُونُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صِيغَةُ وَقْفٍ، وَلَا تَمْلِيكٍ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي التَّمْلِيكِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، الثَّامِنَةُ: قَالَ: وَقَفْتُ دَارِي عَلَى زَيْدٍ، وَعَلَى الْفُقَرَاءِ، بُنِيَ عَلَى مَا إِذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ، وَلِلْفُقَرَاءِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَأَحَدِهِمْ، صَحَّ الْوَقْفُ، وَلَا يُحْرَمُ زَيْدٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ النِّصْفُ، صَحَّ الْوَقْفُ فِي نَصِيبِ الْفُقَرَاءِ، وَأَمَّا النِّصْفُ الثَّانِي، فَمُنْقَطِعُ الْآخِرِ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ، جَاءَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَبْلَهَا مَنْقُولَةٌ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ. التَّاسِعَةُ: فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ، لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يُبَيِّنَ جِهَتَهُ، فَيَقُولَ: وَقَفْتُ عَلَى عِمَارَتِهِ، أَوْ وَقَفْتُ عَلَيْهِ لِيُسْتَغَلَّ فَيُصْرَفَ إِلَى عِمَارَتِهِ، أَوْ إِلَى دُهْنِ السِّرَاجِ، وَنَحْوِهِمَا، وَمُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْجُمْهُورِ صِحَّتُهُ. قُلْتُ: وَقَدْ صَرَّحَ الْبَغَوِيُّ، وَغَيْرُهُ بِصِحَّتِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْعَاشِرَةُ: فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى رِبَاطٍ، أَوْ مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَصْرِفَ إِنْ خَرِبَ، فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْآخِرِ. وَفَصَّلَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يُسْتَبْعَدُ فِي الْعَادَةِ خَرَابُهُ، بِأَنْ كَانَ فِي وَسَطِ الْبَلْدَةِ، فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ حَارَةٍ، فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْآخِرِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْوَقْفِ الصَّحِيحِ إِذَا صَحَّ الْوَقْفُ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا: مَا يَنْشَأُ مِنَ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْوَقْفِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ. وَمِنْهَا: مَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، وَيَجْمَعُ الْبَابَ طَرَفَانِ. [الطَّرَفُ] الْأَوَّلُ: فِي الْأَحْكَامِ اللَّفْظِيَّةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ مَرْعِيَّةٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُنَافِي الْوَقْفَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى: قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، فَلَا تَرْتِيبَ، بَلْ يُسَوَّى بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَلَوْ زَادَ فَقَالَ: مَا تَنَاسَلُوا، أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، فَكَذَلِكَ، وَيُحْمَلُ عَلَى التَّعْمِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الزِّيَادِيُّ: قَوْلُهُ: بَطَنًا بَعْدَ بَطْنٍ، يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي مَا تَنَاسَلُوا، أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، فَهُوَ لِلتَّرْتِيبِ، وَلَا يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي شَيْءٌ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَوَّلِ وَاحِدٌ، وَلَا إِلَى الثَّالِثِ مَا بَقِيَ مِنَ الثَّانِي أَحَدٌ، كَذَا أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ. وَالْقِيَاسُ فِيمَا إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، أَنْ يَجِيءَ فِي نَصِيبِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى شَخْصَيْنِ، أَوْ جَمَاعَةٍ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَمَاتَ وَاحِدٌ، فَإِلَى مَنْ يُصْرَفُ نَصِيبُهُ؟ وَلَمْ أَرَ تَعَرُّضًا إِلَيْهِ إِلَّا لِأَبِي الْفَرَجِ السَّرَخْسِيِّ، فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَحَكَى فِيهِمَا وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ لِصَاحِبِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ، وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ «الْإِيضَاحِ» أَنْ يُصْرَفَ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ.

قُلْتُ: الصَّحِيحُ: مَا أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ مَنْ بَقِيَ بَعْدَ مَوْتِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ يُسَمَّوْنَ أَوْلَادًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ لَا تَنْتَهِي عِنْدَ الْبَطْنِ الثَّالِثِ، وَالرَّابِعِ بَلْ يُعْتَبَرُ التَّرْتِيبُ فِي جَمِيعِ الْبُطُونِ، فَلَا يُصْرَفُ إِلَى بَطْنٍ وَهُنَاكَ أَحَدٌ مِنْ بَطْنٍ أَقْرَبُ، صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ، وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، أَوِ الْأَقْرَبِ، فَالْأَقْرَبِ، أَوِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَوْ يَبْدَأُ بِالْأَعْلَى مِنْهُمْ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا حَقَّ لِبَطْنٍ، وَهُنَاكَ أَحَدٌ فَوْقَهُمْ، فَمُقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ أَيْضًا. وَلَوْ قَالَ: فَمَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِي فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، اتَّبَعَ شَرْطَهُ. فَرْعٌ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي، فَمُقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، وَمَنْ دُونَهُمْ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي، فَمُقْتَضَاهُ الْجَمْعُ أَوَّلًا، وَالتَّرْتِيبُ ثَانِيًا. فَرْعٌ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، فَنَصِيبُهُ لِأَوْلَادِهِ، فَمَاتَ وَاحِدٌ، فَنَصِيبُهُ لِأَوْلَادِهِ خَاصَّةً، وَيُشَارِكُونَ الْبَاقِينَ فِيمَا عَدَا نَصِيبَ أَبِيهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا وَقَفَ عَلَى الْأَوْلَادِ، فَفِي دُخُولِ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: لَا يَدْخُلُونَ، وَالثَّانِي: يَدْخُلُونَ، وَالثَّالِثُ: يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنِينَ دُونَ

أَوْلَادِ الْبَنَاتِ، وَهَذَا الْخِلَافُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ يُقْرَنُ بِاللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِخُرُوجِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَلِأَحْفَادِي الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي، وَغَيْرُهُ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، فَفِي دُخُولِ أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ الْخِلَافُ، الثَّالِثَةُ: الْوَقْفُ عَلَى الْأَوْلَادِ، يَدْخُلُ فِيهِ الْبَنُونَ، وَالْبَنَاتُ، وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ. الرَّابِعَةُ: الْوَقْفُ عَلَى الْبَنِينَ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخُنْثَى، وَفِي دُخُولِ بَنِي الْبَنِينَ، وَالْبَنَاتِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ. الْخَامِسَةُ: الْوَقْفُ عَلَى الْبَنَاتِ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخُنْثَى، وَفِي بَنَاتِ الْأَوْلَادِ الْأَوْجُهُ. السَّادِسَةُ: وَقَفَ عَلَى الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، دَخَلَ الْخُنْثَى عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ. السَّابِعَةُ: وَقَفَ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ، وَصَحَّحْنَا مِثْلَ هَذَا الْوَقْفِ، فَفِي دُخُولِ نِسَائِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، كَالْوَقْفِ عَلَى بَنِي زَيْدٍ، وَأَصَحُّهُمَا: الدُّخُولُ لِأَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْقَبِيلَةِ. الثَّامِنَةُ: وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، دَخَلَ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنِينَ، وَالْبَنَاتِ، فَإِنْ قَالَ: عَلَى مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيَّ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِي، لَمْ يَدْخُلْ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ حَمْلًا عِنْدَ الْوَقْفِ، هَلْ يَدْخُلُ حَتَّى يُوقَفَ لَهُ شَيْءٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَالْمِيرَاثِ، وَيَسْتَحِقُّ

الْغَلَّةَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ. وَالصَّحِيحُ: لَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لَا يُسَمَّى وَلَدًا، وَأَمَّا غَلَّةُ مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، فَيَسْتَحِقُّهَا قَطْعًا، وَكَذَا الْأَوْلَادُ الْحَادِثُ عُلُوقُهُمْ بَعْدَ الْوَقْفِ، يَسْتَحِقُّونَ إِذَا انْفَصَلُوا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الْكُتُبِ، وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ خِلَافُهُ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ غَلَّةً مُدَّةَ الْحَمْلِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ نَخْلَةً، فَخَرَجَتْ ثَمَرَتُهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْحَمْلِ، لَا يَكُونُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الثَّمَرَةِ شَيْءٌ، كَذَا قَطَعَ بِهِ الْفُورَانِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ، وَأَطْلَقَاهُ. وَقَالَ الدَّارِمِيُّ فِي «الِاسْتِذْكَارِ» : فِي الثَّمَرَةِ الَّتِي أَطْلَعَتْ، وَلَمْ تُؤَبَّرْ، قَوْلَانِ: هَلْ لَهَا حُكْمُ الْمُؤَبَّرَةِ، فَتَكُونُ لِلْبَطْنِ الْأَوَّلِ، أَوْ لَا، فَتَكُونُ لِلثَّانِي؟ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَجْرِيَانِ هُنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ الْمَنْفِيُّ بِاللِّعَانِ، لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، لِانْقِطَاعِ نَسَبِهِ، وَخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ وَلَدًا، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ، وَأَثَرُ اللِّعَانِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمُلَاعِنِ. قُلْتُ: فَلَوِ اسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ نَفْيِهِ دَخَلَ فِي الْوَقْفِ قَطْعًا، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. التَّاسِعَةُ: قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى ذُرِّيَّتِي، أَوْ عَقِبِي، أَوْ نَسْلِي دَخَلَ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، قَرِيبُهُمْ، وَبِعِيدُهُمْ، وَلَوْ حَدَثَ حَمْلٌ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يُوقِفُ نَصِيبَهُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ مِنْ نَسْلِهِ، وَعَقِبِهِ قَطْعًا، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى عِتْرَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَثَعْلَبٌ: هُمْ ذُرِّيَّتُهُ، وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: هُمْ عَشِيرَتُهُ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِلْأَصْحَابِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.

فصل

قُلْتُ: هَذَانِ الْمَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ مُخْتَصَّيْنِ بِالْمَذْكُورِينَ، لَكِنَّ أَكْثَرَ مَنْ جَعَلَهُمْ عَشِيرَتَهُ خَصَّهُمْ بِالْأَقْرَبِينَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: عِتْرَتُهُ: عَشِيرَتُهُ الْأَدْنَوْنَ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: عِتْرَتُهُ: نَسْلُهُ وَرَهْطُهُ الْأَدْنَوْنَ. وَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ: عِتْرَتُهُ: أَقْرِبَاؤُهُ مِنْ وَلَدٍ، وَغَيْرِهِ، وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ يُدْخِلُ ذُرِّيَّتَهُ عَشِيرَتَهُ الْأَدْنَوْنَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ: قَالَ: عَلَى عَشِيرَتِي، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: عَلَى قَرَابَتِي. وَإِذَا قَالَ: عَلَى قَرَابَتِي، أَوْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيَّ، فَعَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْوَصِيَّةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: قَوْلُهُ: عَلَى قَبِيلَتِي، أَوْ عَشِيرَتِي، لَا يَدْخُلُ فِيهِ إِلَّا قَرَابَةُ الْأَبِ، ثُمَّ إِذَا كَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ، فَفِيهِمُ الْخِلَافُ السَّابِقُ، ثُمَّ مَنْ حَدَثَ بَعْدَ الْوَقْفِ يُشَارِكُونَ الْمَوْجُودِينَ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَنِ الْبُوَيْطِيِّ مَنْعُهُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اسْمُ الْمَوْلَى يَقَعُ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْمَوْلَى الْأَعْلَى، وَعَلَى الْعَتِيقِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَحَدُهُمَا، فَالْوَقْفُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وُجِدَا جَمِيعًا، فَهَلْ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، أَمْ يَخْتَصُّ بِهِ الْأَعْلَى، أَمِ الْأَسْفَلُ، أَمْ يَبْطُلُ الْوَقْفُ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا فِي «التَّنْبِيهِ» الْأَوَّلُ، وَفِي «الْوَجِيزِ» الرَّابِعُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْأَوَّلُ، وَقَدْ صَحَّحَهُ أَيْضًا الْجُرْجَانِيُّ فِي «التَّحْرِيرِ» ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَجْهًا خَامِسًا، أَنَّهُ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ يُرْعَى شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي الْأَقْدَارِ، وَصِفَاتِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَزَمَنِ الِاسْتِحْقَاقِ. فَإِذَا وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَشَرَطَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، أَوْ تَفْضِيلَ أَحَدِهِمَا، اتُّبِعَ

شَرْطُهُ. وَكَذَا الْوَقْفُ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِشَرْطِ كَوْنِهِمْ عَلَى مَذْهَبِ فُلَانٍ، أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِشَرْطِ الْغُرْبَةِ، أَوِ الشَّيْخُوخَةِ اتُّبِعَ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى بَنِي الْفُقَرَاءِ، أَوْ عَلَى بَنَاتِي الْأَرَامِلِ، فَمَنِ اسْتَغْنَى مِنْهُمْ، وَتَزَوَّجَ مِنْهُنَّ، خَرَجَ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ عَادَ فَقِيرًا، أَوْ زَالَ نِكَاحُهَا، عَادَ الِاسْتِحْقَاقُ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا تَعَرُّضًا لِاسْتِحْقَاقِهَا فِي حَالِ الْعِدَّةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، أَوْ فَارَقَتْ بِفَسْخٍ، أَوْ وَفَاةٍ اسْتَحَقَّتْ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَلَا، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْعَبَّادِيُّ فِي «الزِّيَادَاتِ» : لَوْ وَقَفَ عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ إِلَّا عَلَى مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ، فَتَزَوَّجَتْ خَرَجَتْ، وَلَا تَعُودُ بِالطَّلَاقِ، وَالْفَرْقُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَنَّهُ أَثْبَتَ الِاسْتِحْقَاقَ لِبَنَاتِهِ الْأَرَامِلِ، وَبِالطَّلَاقِ صَارَتْ أَرْمَلَةً، وَهُنَا جَعَلَهَا مُسْتَحِقَّةً إِلَّا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَبِالطَّلَاقِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا تَزَوَّجَتْ. وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ غَرَضَهُ أَنْ تَفِيَ لَهُ أُمُّ وَلَدِهِ فَلَا يَخْلُفُهُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، فَمَنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ تَفِ وَلَوْ طُلِّقَتْ. فَرْعٌ لَوْ شَرَطَ صَرْفَ غَلَّةِ السَّنَةِ الْأُولَى إِلَى قَوْمٍ، وَغَلَّةِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى آخَرِينَ، وَهَكَذَا مَا بَقُوا، اتُّبِعَ شَرْطُهُ. فَرْعٌ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي، فَإِذَا انْقَرَضَ أَوْلَادِي، وَأَوْلَادُ أَوْلَادِي فَعَلَى الْفُقَرَاءِ،

فَهَذَا وَقْفٌ مُنْقَطِعٌ عَلَى الْوَسَطِ الصَّحِيحِ، وَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا شَرَطَ انْقِرَاضَهُمْ لِاسْتِحْقَاقِ الْفُقَرَاءِ. وَقِيلَ: يَسْتَحِقُّونَ بَعْدَ انْقِرَاضِ أَوْلَادِ الصُّلْبِ. فَرْعٌ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ الْأَرْبَعَةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَهُ عَقِبٌ، فَنَصِيبُهُ لِعَقِبِهِ، وَمَنْ مَاتَ وَلَا عَقِبَ لَهُ، فَنَصِيبُهُ لِسَائِرِ أَصْحَابِ الْوَقْفِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ عَنِ ابْنٍ، وَآخَرُ عَنِ ابْنَيْنِ، وَثَالِثٌ وَلَا عَقِبَ لَهُ، فَنَصِيبُ الثَّالِثِ بَيْنَ الرَّابِعِ، وَابْنِ الْأَوَّلِ الْأَوَّلِ، وَابْنَيِ الثَّانِي بِالسَّوِيَّةِ، وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى بَنِيَّ الْخَمْسَةِ، وَمَنْ سَيُولَدُ لِي عَلَى مَا أُفَصِّلُهُ، ثُمَّ فَصَّلَ، فَقَالَ: ضَيْعَةُ كَذَا لِابْنِي فُلَانٍ، وَحِصَّةُ كَذَا لِفُلَانٍ، إِلَى أَنْ ذَكَرَ الْخَمْسَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ سَيُولَدُ لِي، فَنَصِيبُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ الْخَمْسَةِ، وَلَا عَقِبَ لَهُ يُصْرَفُ حَقُّهُ إِلَيْهِ، فَمَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الْخَمْسَةِ، وَلَا عَقِبَ لَهُ، وَوُلِدَ لِلْوَاقِفِ وَلَدٌ، يُصْرَفُ إِلَى الْمَوْلُودِ نَصِيبُ الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا: وَقَفْتُ عَلَى بَنِيَّ وَمَنْ سَيُولَدُ لِي، لِأَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ آخِرًا بَيَانٌ لِمَا أَجْمَلَهُ أَوَّلًا، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الشُّرُوطِيِّينَ بِمِثْلِهِ. فَرْعٌ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى سُكَّانِ مَوْضِعِ كَذَا، فَغَابَ بَعْضُهُمْ سَنَةً، وَلَمْ يَبِعْ دَارَهُ، وَلَا اسْتَبْدَلَ دَارًا، لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ، ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ.

فصل

فَرْعٌ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ بِشَرْطِ أَنْ يَسْكُنَ مَوْضِعَ كَذَا، ثُمَّ بَعْدَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، فَهَذَا (وَقْفٌ) مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ بَعْدَ انْقِرَاضِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ قَدْ يَتَخَلَّفُ. فَصْلٌ الصِّفَةُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَقِيبَ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَرْجِعَانِ إِلَى الْجَمِيعِ. مِثَالُ الصِّفَةِ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي وَأَحْفَادِي، وَإِخْوَتِي الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ. وَمِثَالُ الِاسْتِثْنَاءِ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي وَأَحْفَادِي، وَإِخْوَتِي، إِلَّا أَنْ يَفْسُقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ، وَرَأَى الْإِمَامُ تَقْيِيدَهُ بِقَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، فَإِنْ كَانَ بِـ «ثُمَّ» اخْتَصَّتِ الصِّفَةُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، فَإِنْ تَخَلَّلَ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، وَلَهُ عَقِبٌ، فَنَصِيبُهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُعْقِبْ، فَنَصِيبُهُ لِلَّذِينَ فِي دَرَجَتِهِ، فَإِذَا انْقَرَضُوا، فَهُوَ مَصْرُوفٌ إِلَى إِخْوَتِي إِلَّا أَنْ يَفْسُقَ أَحَدُهُمْ، فَالِاسْتِثْنَاءُ يَخْتَصُّ بِالْأُخُوَّةِ، وَالصِّفَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ، كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ عَلَى فُقَرَاءِ أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، وَإِخْوَتِي، كَالْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ جَمِيعِهَا، حَتَّى يُعْتَبَرَ الْفَقْرُ فِي الْكُلِّ. فَرْعٌ الْبَطْنُ الثَّانِي هَلْ يَتَلَقَّوْنَ الْوَقْفَ مِنَ الْوَاقِفِ، أَمْ مِنَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مِنَ الْوَاقِفِ.

فصل

الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي الْأَحْكَامِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَمِنْهَا اللُّزُومُ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ أَضَافَهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، أَمْ لَمْ يُضِفْهُ، وَسَوَاءٌ سَلَّمَهُ، أَمْ لَمْ يُسَلِّمْهُ، قَضَى بِهِ قَاضٍ، أَمْ لَا. قُلْتُ: وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ، أَوْ شَخْصٍ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي رَقَبَةِ الْوَقْفِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَمْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، أَمْ بَاقٍ لِلْوَاقِفِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا إِلَّا مَا شَذَّ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي «التَّحْرِيرِ» فَقَالَ: إِذَا كَانَ عَلَى شَخْصٍ وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، افْتَقَرَ إِلَى قَبْضِهِ كَالْهِبَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ، وَشُذُوذٌ مَرْدُودٌ، نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا لَزِمَ امْتَنَعَتِ التَّصَرُّفَاتُ الْقَادِحَةُ فِي غَرَضِ الْوَقْفِ، وَفِي شَرْطِهِ، وَسَوَاءٌ فِي امْتِنَاعِهَا الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا رَقَبَةُ الْوَقْفِ، فَالْمَذْهَبُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» هُنَا: أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا انْتَقَلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي قَوْلٍ: إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. وَخَرَجَ قَوْلٌ: أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ. وَقِيلَ: بِالْأَوَّلِ قَطْعًا، وَقِيلَ: بِالثَّانِي قَطْعًا، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ مَلَكَهُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَةٍ انْتَقَلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَقَفَ عَلَى شَخْصٍ، أَوْ جِهَةٍ عَامَّةٍ، فَأَمَّا إِذَا جَعَلَ الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا، أَوْ مَقْبَرَةً، فَهُوَ فَكٌّ عَنِ الْمِلْكِ كَتَحْرِيرِ الرَّقِيقِ، فَيَنْقَطِعُ عَنْهَا اخْتِصَاصَاتُ الْآدَمِيِّينَ قَطْعًا. فَصْلٌ فَوَائِدُ الْوَقْفِ، وَمَنَافِعُهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي الْأَمْلَاكِ. فَإِنْ كَانَ شَجَرَةً مَلَكَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ثِمَارَهَا، وَلَا يَمْلِكُ أَغْصَانَهَا إِلَّا فِيمَا يَعْتَادُ قَطْعَهُ كَشَجَرِ الْخِلَافِ، فَأَغْصَانُهَا كَثَمَرِ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ بَهِيمَةً، مَلَكَ صُوفَهَا

وَوَبَرَهَا، وَلَبَنَهَا قَطْعًا، وَيَمْلِكُ نِتَاجَهَا أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ كَالثَّمَرَةِ. وَالثَّانِي: تَكُونُ وَقْفًا تَبَعًا لِأُمِّهِ كَوَلَدِ الْأُضْحِيَّةِ، وَقِيلَ: الْوَجْهَانِ فِي وَلَدِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ، فَأَمَّا وَلَدُ النَّعَمِ فَيَمْلِكُهُ قَطْعًا، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهَا الدَّرُّ وَالنَّسْلُ، وَقِيلَ: لَا حَقَّ فِيهِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، بَلْ يُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي نِتَاجِ حَدَثٍ بَعْدَ الْوَقْفِ. فَإِنْ وَقَفَ الْبَهِيمَةَ، وَهِيَ حَامِلٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَادِثُ وَقْفٌ، فَهَذَا أَوْلَى وَإِلَّا فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَمْ لَا؟ وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي الدَّرِّ وَالنَّسْلِ هُوَ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ أَوْ شَرَطَهُمَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. فَلَوْ وَقَفَ دَابَّةً عَلَى رُكُوبِ إِنْسَانٍ، وَلَمْ يَشْرُطْ لَهُ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ، قِيلَ: حُكْمُهُمَا حُكْمُ وَقْفٍ مُنْقَطِعِ الْآخِرِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْوَاقِفِ وَهَذَا أَوْجَهُ، لِأَنَّ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ لَا مَصْرِفَ لَهُمَا أَوَّلًا، وَلَا آخِرًا. فَرْعٌ قَالُوا: لَوْ وُقِفَ ثَوْرٌ لِلْإِنْزَاءِ جَازَ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحِرَاثَةِ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْبَهِيمَةِ الْمَأْكُولَةِ الْمَوْقُوفَةِ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ الِانْتِفَاعِ، كَمَا لَا يَجُوزُ إِعْتَاقُ الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ، لَكِنْ لَوْ صَارَتْ بِحَيْثُ يُقْطَعُ بِمَوْتِهَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: تُذْبَحُ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي لَحْمِهَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ بَهِيمَةٌ مِنْ جِنْسِهَا، وَتُوقَفُ. وَالثَّانِي: إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِيهَا يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَ فِيهِ الْحَاكِمُ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْوَاقِفِ، صُرِفَ إِلَيْهِمَا.

فصل

فَرْعٌ إِذَا مَاتَتِ الْبَهِيمَةُ الْمَوْقُوفَةُ، فَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِجِلْدِهَا، وَإِذَا دَبَغَهُ فَفِي عَوْدِهِ وَقْفًا وَجْهَانِ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: أَصَحُّهُمَا الْعَوْدُ. فَصْلٌ الْمَنَافِعُ الْمُسْتَحَقَّةُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ بِإِعَارَةٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، وَالْأُجْرَةُ مِلْكٌ لَهُ، هَذَا إِنْ كَانَ الْوَقْفُ مُطْلَقًا فَإِنْ قَالَ: وَقَفْتُ دَارِي لِيَسْكُنَهَا مَنْ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَلِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَسْكُنَهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا غَيْرَهُ بِأُجْرَةٍ، وَلَا بِغَيْرِهَا. وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ دَارِي عَلَى أَنْ تُسْتَغَلَّ، وَتُصْرَفَ غَلَّتُهَا إِلَى فُلَانٍ تَعَيَّنَ الِاسْتِغْلَالُ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا، كَذَا ذُكِرَتِ الصُّورَتَانِ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ، وَغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُطْلَقًا، فَقَالَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ: أُسَكِّنُ الدَّارَ، فَقَالَ النَّاظِرُ: أَكْرِيهَا لِأَصْرِفَ غَلَّتَهَا فِي مَرَمَّتِهَا، فَلَهُ أَنْ يُكْرِيَ. فَرْعٌ مَتَى وَجَبَ الْمَهْرُ، فَوَطِئَ الْمَوْقُوفَةَ، فَهُوَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ كَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمَوْقُوفَةِ لَا لِلْوَاقِفِ، وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِيهَا لَهُمَا، لِأَنَّهُ مِلْكٌ ضَعِيفٌ. وَلَوْ وُطِئَتْ فَلَهَا أَحْوَالٌ.

أَحَدُهَا: أَنْ يَطَأَهَا أَجْنَبِيٌّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ، ثُمَّ هَلْ هُوَ مِلْكٌ طَلْقٌ، أَمْ وَقْفٌ؟ وَجْهَانِ كَنِتَاجِ الْبَهِيمَةِ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً عَالِمَةً بِالْحَالِ، فَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شُبْهَةٌ فَلَا حَدَّ وَيَجِبُ الْمَهْرُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَيَكُونُ مِلْكًا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ جَعَلْنَا الْوَلَدَ مَلِكًا وَإِلَّا، فَيُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ وَيُوقَفُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَطَأَهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شُبْهَةٌ، فَقِيلَ: لَا حَدَّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى أَقْوَالِ الْمِلْكِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ لَهُ فَلَا حَدَّ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَا أَثَرَ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ الْجَارِيَةِ، وَهَلِ الْوَلَدُ مِلْكٌ، أَوْ وَقْفٌ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ فَلَا حَدَّ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ إِنْ مَلَّكْنَاهُ وَلَدَ الْمَوْقُوفَةِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ وَقْفًا اشْتُرِيَ بِهَا عَبْدٌ آخَرُ وَيُوقَفُ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَتَعْتِقُ بِمَوْتِهِ وَتُؤَدَّى قِيمَتُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، ثُمَّ هَلْ هِيَ لِمَنْ يَنْتَقِلُ الْوَقْفُ إِلَيْهِ بَعْدَهُ مِلْكٌ، أَمْ يُشْتَرَى بِهَا جَارِيَةٌ وَتُوقَفُ؟ فِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ إِذَا قُتِلَ، وَلَا مَهْرَ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِحَالٍ، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لَهُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَطَأَهَا الْوَاقِفُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ تَفَرَّعَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمِلْكِ، فَإِنْ لَمْ نَجْعَلِ الْمِلْكَ لَهُ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ، وَفِي كَوْنِهِ مِلْكًا، أَوْ وَقْفًا الْوَجْهَانِ، وَلَا تَكُونُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ جَعَلْنَا الْمِلْكَ لَهُ فَلَا حَدَّ، وَفِي نُفُوذِ الِاسْتِيلَادِ - إِنْ أَوْلَدَهَا - الْخِلَافُ فِي اسْتِيلَادِ الرَّاهِنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِهَا، وَهَذَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَإِنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ فَلَا حَدَّ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ نَسِيبٌ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَفِيمَا يَفْعَلُ بِهَا الْوَجْهَانِ، وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِنْ مَلَّكْنَاهُ تَعْتِقُ بِمَوْتِهِ، وَتُؤْخَذُ قِيمَتُهَا. مِنْ تَرِكَتِهِ، وَفِيمَا يَفْعَلُ بِهَا الْخِلَافُ.

فصل

فَرْعٌ فِي تَزْوِيجِ الْمَوْقُوفَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ، وَرُبَّمَا مَاتَتْ مِنَ الطَّلْقِ، فَيَفُوتُ حَقُّ الْبَطْنِ الثَّانِي، وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ تَحْصِينًا لَهَا وَقِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ أَحَدٍ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ، وَيَسْتَأْذِنُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْوَاقِفِ زَوَّجَهَا بِإِذْنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، هَذَا كَلَامُ الْجُمْهُورِ، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ وَجْهَيْنِ، فِي أَنَّ السُّلْطَانَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ، وَفِي أَنَّهُ هَلْ يَسْتَأْذِنُ الْوَاقِفَ أَيْضًا؟ وَيَلْزَمُ مِثْلَهُ فِي اسْتِئْذَانِ الْوَاقِفِ إِذَا زَوَّجَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ، وَالْمَهْرُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَوَلَدُهَا مِنَ الزَّوْجِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِلْكًا أَوْ وَقْفًا؟ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. قُلْتُ: وَلَوْ طَلَبَتِ الْمَوْقُوفَةُ التَّزْوِيجَ، فَلَهُمُ الِامْتِنَاعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَوْقُوفَةَ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا مِلْكُهُ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ احْتِيَاطًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ انْفَسَخَ النِّكَاحُ. فَصْلٌ حَقُّ تَوْلِيَةِ أَمْرِ الْوَقْفِ فِي الْأَصْلِ لِلْوَاقِفِ، فَإِنْ شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ اتُّبِعَ شَرْطُهُ، وَأَشَارَ فِي «النِّهَايَةِ» إِلَى خِلَافٍ فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ وَشَرْطُ

التَّوْلِيَةِ لِأَجْنَبِيٍّ، هَلْ يُتَّبَعُ شَرْطُهُ إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْوَقْفِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؟ وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَسَوَاءٌ فَرَضَ فِي الْحَيَاةِ، أَوْ أَوْصَى فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَعْمُولٌ بِهِ، وَإِنْ وَقَفَ وَلَمْ يَشْرُطِ التَّوْلِيَةَ لِحَدٍّ، فَثَلَاثَةٌ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: هَلِ النَّظَرُ لِلْوَاقِفِ، أَمْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَمْ لِلْحَاكِمِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لِلْوَاقِفِ، فَالتَّوْلِيَةُ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لِلْحَاكِمِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى فَهِيَ لِلْحَاكِمِ، وَقِيلَ: لِلْوَاقِفِ إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ، فَإِنَّ قِيَامَهُ بِأَمْرِ الْوَقْفِ مِنْ تَتِمَّةِ الْقُرْبَةِ، وَقِيلَ: لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، لِأَنَّ الْغَلَّةَ، وَالْمَنْفَعَةَ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَالتَّوْلِيَةُ لَهُ، وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ قَالَهُ كَثِيرُونَ: التَّوْلِيَةُ لِلْوَاقِفِ بِلَا خِلَافٍ، وَالَّذِي يَقْتَضِي كَلَامُ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ الْفَتْوَى بِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ فَالتَّوْلِيَةُ لِلْحَاكِمِ كَمَا لَوْ وُقِفَ عَلَى مَسْجِدٍ، أَوْ رِبَاطٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ، فَكَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ لِلْوَاقِفِ، أَوِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ. فَرْعٌ لَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِيَةِ الْمُتَوَلِّي لِشَغْلِ التَّوْلِيَةِ، وَالصَّلَاحِيَةِ بِالْأَمَانَةِ، وَالْكِفَايَةِ فِي التَّصَرُّفِ، وَاعْتِبَارُهُمَا كَاعْتِبَارِهِمَا فِي الْوَصِيِّ، وَالْقَيِّمِ، وَسَوَاءٌ فِي اشْتِرَاطِهِمَا الْمَنْصُوبُ لِلتَّوْلِيَةِ وَالْوَاقِفُ إِذَا قُلْنَا: هُوَ الْمُتَوَلِّي عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَسَوَاءٌ الْوَقْفُ عَلَى الْجِهَةِ الْعَامَّةِ، وَالْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنِينَ. وَقِيلَ: لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنِينَ، وَلَا طِفْلَ فِيهِمْ، فَإِنْ خَانَ حَمَلُوهُ عَلَى السَّدَادِ، وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ. حَتَّى لَوْ فَوَّضَ إِلَى

مَوْصُوفٍ بِالْأَمَانَةِ وَالْكِفَايَةِ، فَاخْتَلَّتْ إِحْدَاهُمَا، انْتَزَعَ الْحَاكِمُ الْوَقْفَ مِنْهُ، وَقَبُولُ الْمُتَوَلِّي يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ مَا فِي قَبُولِ الْوَكِيلِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. فَرْعٌ وَظِيفَةُ الْمُتَوَلِّي الْعِمَارَةَ، وَالْإِجَارَةَ، وَتَحْصِيلَ الْغَلَّةِ، وَقِسْمَتَهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، وَحِفْظَ الْأُصُولِ وَالْغَلَّاتِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، هَذَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنَصَّبَ الْوَاقِفُ مُتَوَلِّيًا لِبَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، بِأَنْ يَجْعَلَ إِلَى وَاحِدٍ الْعِمَارَةَ، وَتَحْصِيلَ الْغَلَّةِ، وَإِلَى آخَرَ حَفْظَهَا، وَقِسْمَتَهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، أَوْ يَشْرُطَ لِوَاحِدٍ الْحِفْظَ، وَالْيَدَ، وَلِآخَرَ التَّصَرُّفَ، وَلَوْ فَرَضَ إِلَى اثْنَيْنِ، لَمْ يَسْتَقِلَّ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ، وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ لِعَدْلَيْنِ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِلَّا عَدْلٌ وَاحِدٌ، ضَمَّ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ عَدْلًا آخَرَ. فَرْعٌ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ لِلْمُتَوَلِّي شَيْئًا مِنَ الْغَلَّةِ جَازَ، وَكَانَ ذَلِكَ أُجْرَةَ عَمَلِهِ، فَلَوْ لَمْ يَشْرُطْ شَيْئًا، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ أُجْرَةَ عَمَلِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَا لَوِ اسْتَعْمَلَ إِنْسَانًا، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ أُجْرَةً، وَلَوْ شَرَطَ لِلْمُتَوَلِّي عُشْرَ الْغَلَّةِ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ ثُمَّ عَزَلَهُ بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِهِ أُجْرَةً، فَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ، لِأَنَّ الْعُشْرَ وَقْفٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَأَحَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أَثْبَتْنَا الْأُجْرَةَ بِمُجَرَّدِ التَّفْوِيضِ أَخْذًا مِنَ الْعَادَةِ، فَالْعَادَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْمُتَوَلِّي أُجْرَةُ عَمَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ بِأَنَّهُ أُجْرَةٌ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بُطْلَانُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعَزْلِ.

فَرْعٌ لَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ شَيْئًا عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ، وَلَوْ فَعَلَ ضَمِنَ، وَلَا يَجُوزُ ضَمُّ الضَّمَانِ إِلَى مَالِ الْوَقْفِ، وَإِقْرَاضُ مَالِ الْوَقْفِ، حُكْمُهُ حُكْمُ إِقْرَاضِ مَالِ الصَّبِيِّ. فَرْعٌ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ وَلَّاهُ وَيُنَصِّبَ غَيْرَهُ، كَمَا يَعْزِلُ الْوَكِيلُ، وَكَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ نَائِبٌ عَنْهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَأَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ، وَفِي وَجْهٍ: لَيْسَ لَهُ الْعَزْلُ لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ فَلَا تَبْقَى وِلَايَتُهُ عَلَيْهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةً فِي التَّوْلِيَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْوَقْفِ دُونَ مَا إِذَا وَقَفَ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ التَّوْلِيَةُ لِفُلَانٍ، لِأَنَّ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ مَدْرَسَةً عَلَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ قَالَ لِعَالَمٍ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ تَدْرِيسَهَا، أَوِ اذْهَبْ وَدَرِّسْ فِيهَا، كَانَ لَهُ إِبْدَالُهُ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُدَرِّسَهَا، أَوْ قَالَ حَالَ الْوَقْفِ: فَوَّضْتُ تَدْرِيسَهَا إِلَى فُلَانٍ، فَهُوَ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ الْفُقَرَاءِ، لَا يَجُوزُ التَّبْدِيلُ بِالْأَغْنِيَاءِ، وَهَذَا حَسَنٌ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ، وَغَيْرُ مُتَّضِحٍ فِي قَوْلِهِ: وَقَفْتُهَا وَفَوَّضْتُ التَّدْرِيسَ إِلَيْهِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ، هُوَ الْأَصَحُّ، أَوِ الصَّحِيحُ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ كَمَا ذَكَرَ، وَمَنْ أَطْلَقَهَا، فَكَلَامُهُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا، وَفِي فَتَاوَى الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَاقِفِ تَبْدِيلٌ مِنْ شَرْطِ النَّظَرِ لَهُ حَالَ إِنْشَاءِ الْوَقْفِ، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي تَبْدِيلِهِ، وَلَا حُكْمَ لَهُ

فِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ بَعْدَ تَمَامِ الْوَقْفِ، وَلَوْ عَزَلَ النَّاظِرُ الْمُعَيَّنُ حَالَةَ إِنْشَاءِ الْوَقْفِ نَفْسَهُ، فَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ نَصْبَ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا نَظَرَ لَهُ بَعْدَ أَنْ جَعَلَ النَّظَرَ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ لِغَيْرِهِ، بَلْ يُنَصِّبُ الْحَاكِمُ نَاظِرًا. وَفِيهَا: أَنَّهُ إِذَا جَعَلَ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ النَّظَرَ لِزَيْدٍ بَعْدَ انْتِقَالِ الْوَقْفِ مِنْ عَمْرٍو إِلَى الْفُقَرَاءِ، فَعَزَلَ زِيدٌ نَفْسَهُ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَى الْفُقَرَاءِ، لَمْ يُنَفَّذْ عَزْلُهُ، وَلَا يَمْلِكُ الْوَاقِفُ عَزْلَ زِيدٍ فِي الْحَالِ، وَلَا بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهَا: [أَنَّهُ] لَيْسَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُسْنِدَ مَا جَعَلَ لَهُ مِنَ الْإِسْنَادِ قَبْلَ مَصِيرِ النَّظَرِ إِلَيْهِ. وَفِيهَا: أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ النَّظَرَ لِلْأَرْشَدِ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ فَكَانَ الْأَرْشَدُ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ ثَبَتَ لَهُ النَّظَرُ. وَفِيهَا: أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ النَّظَرَ لِلْأَرْشَدِ مِنْ أَوْلَادِهِ فَأَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْأَرْشَدُ، اشْتَرَكُوا فِي النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْلَالٍ إِذَا وُجِدَتِ الْأَهْلِيَّةُ فِي جَمِيعِهِمْ، فَإِنْ وُجِدَتْ فِي بَعْضِهِمُ اخْتَصَّ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ تَعَارَضَتْ فِي الْأَرْشَدِ، فَتَسَاقَطَتْ وَبَقِيَ أَصْلُ الرُّشْدِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِرُشْدِ الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَحُكْمُهُ التَّشْرِيكُ لِعَدَمِ الْمَزِيَّةِ، وَأَمَّا عَدَمُ الِاسْتِقْلَالِ، فَكَمَا لَوْ أَوْصَى إِلَى شَخْصَيْنِ مُطْلَقًا وَفِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ النَّظَرُ عَلَى مَوَاضِعَ فِي بُلْدَانٍ، فَأَثْبَتَ أَهْلِيَّةَ نَظَرِهِ فِي مَكَانٍ مِنْهَا، ثَبَتَ أَهْلِيَّتُهُ فِي بَاقِي الْأَمَاكِنِ مِنْ حَيْثُ الْأَمَانَةُ، وَلَا تَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الْكِفَايَةُ، إِلَّا أَنْ تَثْبُتَ أَهْلِيَّتُهُ لِلنَّظَرِ فِي سَائِرِ الْوُقُوفِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ لَا يُبَدَّلُ بَعْدَ مَوْتِ الْوَاقِفِ الْقَيِّمُ الَّذِي نَصَّبَهُ، كَأَنَّهُ يُجْعَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوَصِيِّ. فَصْلٌ نَفَقَةُ الْعَبْدِ، وَالْبَهِيمَةِ الْمَوْقُوفِينَ مِنْ حَيْثُ شَرْطُ الْوَاقِفِ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ، فَفِي الْإِكْسَابِ، وَعِوَضِ الْمَنَافِعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ كَاسِبًا، أَوْ تَعَطَّلَ كَسْبُهُ، وَمَنَافِعُهُ لِزَمَانَةٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ لَمْ يَفِ كَسْبُهُ بِنَفَقَتِهِ بُنِيَ عَلَى أَقْوَالِ الْمِلْكِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَزِمَهُ النَّفَقَةُ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى، فَفِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ مَنْ لَا كَسْبَ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْوَاقِفِ فَهِيَ عَلَيْهِ فَإِذَا مَاتَ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي لِأَنَّ التَّرِكَةَ انْتَقَلَتْ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَالرَّقَبَةَ لَمْ تَنْتَقِلْ إِلَيْهِمْ، فَلَا يَلْزَمُهُمُ النَّفَقَةُ، وَقِيَاسُ قَوْلِنَا: أَنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ لِلْوَاقِفِ، انْتِقَالُهَا إِلَى وَارِثِهِ، وَإِذَا مَاتَ فَمَئُونَةُ تَجْهِيزِهِ كَنَفَقَتِهِ، وَأَمَّا الْعَقَارُ الْمَوْقُوفُ فَنَفَقَتُهُ مِنْ حَيْثُ شَرَطَ. فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ فَمِنْ غَلَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَلَّةً، لَمْ يَجِبْ عَلَى أَحَدٍ عِمَارَتُهُ كَالْمِلْكِ الطَّلْقِ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ تُصَانُ رُوحُهُ. فَصْلٌ لِلْوَاقِفِ، وَلِمَنْ وَلَّاهُ الْوَاقِفُ إِجَارَةُ الْوَقْفِ، وَإِذَا لَمْ يُنَصِّبِ الْوَاقِفُ لِلتَّوْلِيَةِ أَحَدًا، فَالْخِلَافُ فِيمَنْ لَهُ التَّوْلِيَةُ قَدْ سَبَقَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمُتَوَلِّي هُوَ الْحَاكِمُ، فَهُوَ الَّذِي يُؤَجِّرُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، يُمَكَّنُ مِنَ الْإِجَارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جَمَاعَةً اشْتَرَكُوا فِي الْإِيجَارِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ طِفْلٌ، قَامَ وَلِيُّهُ

فصل

مَقَامَهُ، وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ فِي الْمُدَّةِ فَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ فِي نَصِيبِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ جُعِلَ لِكُلِّ بَطْنٍ مِنْهُمُ الْإِجَارَةُ، فَلَهُمُ الْإِجَارَةُ قَطْعًا، وَإِذَا أَجَّرَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَجَوَّزْنَاهُ فَزَادَتِ الْأُجْرَةُ فِي الْمُدَّةِ أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ لَمْ يَتَأَثَّرِ الْعَقْدُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَجَّرَ الطَّلْقَ، وَلَوْ أَجَّرَ الْمُتَوَلِّي بِحُكْمِ التَّوْلِيَةِ، ثُمَّ حَدَثَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْعَقْدَ جَرَى بِالْغِبْطَةِ فِي وَقْتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا بَاعَ الْوَلِيُّ مَالَ الطِّفْلِ، ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الْقِيمَةُ بِالْأَسْوَاقِ، أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ. وَالثَّانِي: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ بَانَ وُقُوعُهُ، بِخِلَافِ الْغِبْطَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ سَنَةً فَمَا دُونَهَا لَمْ يَتَأَثَّرِ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ مَرْدُودَةٌ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ فِي الْأَمَالِي. فَصْلٌ إِذَا انْدَرَسَ شَرْطُ الْوَاقِفِ، وَلَمْ تُعْرَفْ مَقَادِيرُ الِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ كَيْفِيَّةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ أَرْبَابِ الْوَقْفِ، قُسِّمَتِ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْوَجْهَ: التَّوَقُّفُ إِلَى اصْطِلَاحِهِمْ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَلَوِ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ الْوَقْفِ فِي شَرْطِ الْوَقْفِ وَلَا بَيِّنَةَ، جُعِلَتِ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ حَيًّا رُجِعَ إِلَى قَوْلِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» ، وَ «التَّهْذِيبِ» ، وَلَوْ قِيلَ: لَا رُجُوعَ إِلَى قَوْلِهِ، كَمَا لَا رُجُوعَ إِلَى قَوْلِ الْبَائِعِ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُشْتَرِيَانِ مِنْهُ فِي كَيْفِيَّةِ الشِّرَاءِ، لَمَا كَانَ بَعِيدًا. قُلْتُ: الصَّوَابُ: الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُمْ: جُعِلَ بَيْنَهُمْ، هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، أَوْ لَا يَدَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ. أَمَّا لَوْ كَانَ فِي يَدِ بَعْضِهِمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَغَيْرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَرْبَابُ الْوَقْفِ جَعَلْنَاهُ كَوَقْفٍ مُطْلَقٍ لَمْ يُذْكَرْ مَصْرِفُهُ فَيُصْرَفَ إِلَى تِلْكَ الْمَصَارِفِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَصْلٌ فِي تَعَطُّلِ الْمَوْقُوفِ، وَاخْتِلَالِ مَنَافِعِهِ وَلَهُ سَبَبَانِ: السَّبَبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَحْصُلَ بِسَبَبٍ مَضْمُونٍ، بِأَنْ يُقْتَلَ الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ، فَإِمَّا أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِقَتْلِهِ قِصَاصٌ، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: يُنْظَرُ فِيهِ: هَلِ الْقَاتِلُ أَجْنَبِيٌّ، أَمِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، أَمِ الْوَاقِفُ؟ الْحَالُ الْأَوَّلُ: إِذَا قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ، لَزِمَهُ قِيمَتُهُ. وَفِي مَصْرِفِهَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: تَخْرِيجُهَا عَلَى أَقْوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، إِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى، اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا يَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَبَعْضُ عَبْدٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، أَوِ الْوَاقِفِ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: كَذَلِكَ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ غَرَضُ الْوَاقِفِ، وَحَقُّ بَاقِي الْبُطُونِ. وَالثَّانِي: يَصْرِفُ مِلْكًا إِلَى مَنْ حَكَمْنَا لَهُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَبَطَلَ الْوَقْفُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ يَكُونُ وَقْفًا، وَالْأَصْحَابُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى بِأَنَّهُ يُشْتَرَى عَبْدٌ، وَإِذَا اشْتُرِيَ عَبْدٌ، وَفَضَلَ شَيْءٌ مِنَ الْقِيمَةِ، فَهَلْ يَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ، أَمْ يُصْرَفُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. قُلْتُ: الْوَجْهَانِ مَعًا ضَعِيفَانِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُشْتَرَى بِهِ شِقْصُ عَبْدٍ، لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنَ الْمَوْقُوفِ، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى وُجُوبِ شِرَاءِ عَبْدٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ الْعَبْدُ الَّذِي يُجْعَلُ بَدَلًا يَشْتَرِيهِ الْحَاكِمُ إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي الرَّقَبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ

قُلْنَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْوَاقِفِ فَوَجْهَانِ، ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ فِي «الْجُرْجَانِيَّاتِ» ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتْلِفِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ وَيُقِيمَهُ مَقَامَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ لَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ. فَرْعٌ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَى، هَلْ يَصِيرُ وَقْفًا بِالشِّرَاءِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ وَقْفٍ جَدِيدٍ؟ وَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي بَدَلِ الْمَرْهُونِ إِذَا أُتْلِفَ، وَبِالثَّانِي قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَقَالَ: الْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يُنْشِئُ الْوَقْفَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ يُبَاشِرُ الشِّرَاءَ يُبَاشِرُ الْوَقْفَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِنْشَاءِ الْوَقْفِ فِيهِ، وَوَافَقَ الْمُتَوَلِّيَ آخَرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ شِرَاءُ عَبْدٍ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَلَا عَكْسُهُ، وَفِي جَوَازِ شِرَاءِ الصَّغِيرِ بِقِيمَةِ الْكَبِيرِ، وَعَكْسِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْجُرْجَانِيَّاتِ» . قُلْتُ: أَقْوَاهُمَا: الْمَنْعُ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبُطُونِ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: إِذَا قَتَلَهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، أَوِ الْوَاقِفُ، فَإِنْ صَرَفْنَا الْقِيمَةَ إِلَيْهِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى مِلْكًا، فَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ هُوَ الْقَاتِلَ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ وَالتَّفْرِيعُ كَالْحَالَةِ الْأُولَى.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْوَاقِفِ، أَوِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَجَبَ الْقِصَاصُ وَيَسْتَوْفِيهِ الْمَالِكُ مِنْهُمَا. وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ كَعَبِيدِ بَيْتِ الْمَالِ. وَالْأَصَحُّ: وُجُوبُ الْقِصَاصِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي، وَيَسْتَوْفِيهِ الْحَاكِمُ. فَرْعٌ حُكْمُ أُرُوشِ الْأَطْرَافِ، وَالْجِنَايَاتِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ حُكْمُ قِيمَتِهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي وَجْهٍ: يُصْرَفُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ كَالْمَهْرِ، وَالْأَكْسَابِ. فَرْعٌ إِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَلِلْمُسْتَحِقِّ الِاسْتِيفَاءُ. فَإِنِ اسْتَوْفَى فَاتَ الْوَقْفُ كَمَوْتِهِ، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، لَمْ تَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ لِتَعَذُّرِ بَيْعِ الْوَقْفِ، لَكِنْ يُفْدَى كَأُمِّ الْوَلَدِ إِذَا جَنَتْ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْوَاقِفِ، فَدَاهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى، فَهَلْ يَفْدِيهِ الْوَاقِفُ، أَمْ بَيْتُ الْمَالِ، أَمْ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: أَوَّلُهَا، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَدَاهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: عَلَى الْوَاقِفِ، وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: الْوَقْفُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، فَعَلَى الْوَاقِفِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا الْفِدَاءَ عَلَى الْوَاقِفِ، فَكَانَ مَيِّتًا، فَفِي «الْجُرْجَانِيَّاتِ» أَنَّهُ إِنْ تَرَكَ مَالًا، فَعَلَى الْوَارِثِ الْفِدَاءُ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَفْدِي مِنَ التَّرِكَةِ، لِأَنَّهَا انْتَقَلَتْ إِلَى الْوَارِثِ. فَعَلَى هَذَا [هَلْ] يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ، أَمْ بِبَيْتِ الْمَالِ كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ الَّذِي لَا عَاقِلَةَ لَهُ؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ عَقِبَ الْجِنَايَةِ بِلَا فَصْلٍ، فَفِي سُقُوطِ الْفِدَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ جَنَى الْقِنُّ ثُمَّ مَاتَ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ

قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا جَنَتْ أُمُّ الْوَلَدِ وَمَاتَتْ، وَتَكَرُّرُ الْجِنَايَةِ مِنَ الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ كَتَكَرُّرِهَا مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ. قُلْتُ: وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا الْأَرْشَ فِي جِهَةٍ، وَجَبَ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قَدْرِ قِيمَتِهِ، وَالْأَرْشِ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ مِنْهُمْ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ «الْبَيَانِ» : إِذَا أَوْجَبْنَا عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ تَعَيَّنَ الْأَرْشُ، فَشَاذٌّ بَاطِلٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. السَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ التَّعَطُّلُ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ. فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهُ يُنْتَفَعُ بِهِ، بِأَنْ مَاتَ الْمَوْقُوفُ، فَقَدْ فَاتَ الْوَقْفُ. وَإِنْ بَقِيَ، كَشَجَرَةٍ جَفَّتْ، أَوْ قَلْعَتْهَا الرِّيحُ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْقَطِعُ الْوَقْفُ كَمَوْتِ الْعَبْدِ، فَعَلَى هَذَا يَنْقَلِبُ الْحَطَبُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ، وَأَصَحُّهُمَا لَا يَنْقَطِعُ، وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُبَاعُ مَا بَقِيَ لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ، فَعَلَى هَذَا الثَّمَنُ كَقِيمَةِ الْمُتْلَفِ فَعَلَى وَجْهٍ: يُصْرَفُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِلْكًا، وَفِي وَجْهٍ: يُشْتَرَى بِهِ شَجَرَةٌ، أَوْ شِقْصُ شَجَرَةٍ مِنْ جِنْسِهَا، لِتَكُونَ وَقْفًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَى بِهِ وَدِيٌّ يُغْرَسُ مَوْضِعَهَا، وَأَصَحُّهَا: مَنْعُ الْبَيْعِ، فَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْتَفِعُ بِإِجَارَتِهِ جَذَعًا إِدَامَةً لِلْوَقْفِ فِي عَيْنِهِ، وَالثَّانِي: يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ الْمُتَوَلِّي، وَغَيْرُهُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ إِنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ مِنْهُ مَعَ بَقَائِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي إِنْ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ فِي اسْتِهْلَاكِهِ. فَرْعٌ زَمَانَةُ الدَّابَّةِ الْمَوْقُوفَةِ كَجَفَافِ الشَّجَرَةِ. قُلْتُ: هَذَا إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ مَأْكُولَةً، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهَا لِلَحْمِهَا، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ

مَأْكُولَةٍ لَمْ يَجِئِ الْخِلَافُ فِي بَيْعِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهَا إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الشَّاذِّ فِي صِحَّةِ بَيْعِهَا اعْتِمَادًا عَلَى جِلْدِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ حُصْرُ الْمَسْجِدِ إِذَا بَلِيَتْ، وَنُحَاتَةُ أَخْشَابِهِ إِذَا نَخَرَتْ، وَأَسْتَارُ الْكَعْبَةِ إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَلَا جَمَالٌ، فِي جَوَازِ بَيْعِهَا وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: تُبَاعُ لِئَلَّا تَضِيعَ وَتُضَيِّقَ الْمَكَانَ بِلَا فَائِدَةٍ، وَالثَّانِي: لَا تُبَاعُ بَلْ تُتْرَكُ بِحَالِهَا أَبَدًا، وَعَلَى الْأَوَّلِ قَالُوا: يُصْرَفُ ثَمَنُهَا فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، وَالْقِيَاسُ: أَنْ يُشْتَرَى بِثَمَنِ الْحَصِيرِ حَصِيرٌ، وَلَا يُصْرَفَ فِي مَصْلَحَةٍ أُخْرَى وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِإِطْلَاقِهِمْ، وَجِذْعُ الْمَسْجِدِ الْمُنْكَسِرُ إِذَا لَمْ يَصْلُحْ لِشَيْءٍ سِوَى الْإِحْرَاقِ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهُ أَلْوَاحٌ، أَوْ أَبْوَابٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ الْوَاقِفِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الدَّارِ الْمُنْهَدِمَةِ، وَفِيمَا إِذَا أَشْرَفَ الْجِذْعُ عَلَى الِانْكِسَارِ، وَالدَّارُ عَلَى الِانْهِدَامِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا جَوَّزْنَا الْبَيْعَ، فَالْأَصَحُّ صَرْفُ الثَّمَنِ إِلَى جِهَةِ الْوَقْفِ، وَقِيلَ: هُوَ كَقِيمَةِ الْمُتْلَفِ، فَيُصْرَفُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِلْكًا عَلَى رَأْيٍ، وَإِذَا قِيلَ بِهِ فَقَالَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ: لَا تَبِيعُوهَا، وَاقْلِبُوهَا إِلَى مِلْكِي، فَلَا يُجَابُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا تَنْقَلِبُ عَيْنُ الْوَقْفِ مِلْكًا، وَقِيلَ: تَنْقَلِبُ مِلْكًا بِلَا لَفْظٍ. فَرْعٌ لَوِ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ، أَوْ خُرِّبَتِ الْمَحَلَّةُ حَوْلَهُ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهَا فَتَعَطَّلَ الْمَسْجِدُ،

لَمْ يَعُدْ مِلْكًا بِحَالٍ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِإِمْكَانِ عَوْدِهِ كَمَا كَانَ، وَلِأَنَّهُ فِي الْحَالِ يُمْكِنُ الصَّلَاةُ فِيهِ. ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْمُعَطَّلُ فِي الْمَوْضِعِ الْخَرَابِ، إِنْ لَمْ يُخَفْ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ نَقْضُهُ لَمْ يُنْقَضْ، وَإِنْ خِيفَ نُقِضَ وَحُفِظَ، وَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَعْمُرَ بِنَقْضِهِ مَسْجِدًا آخَرَ جَازَ، وَمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى عِمَارَةِ بِئْرٍ، أَوْ حَوْضٍ، وَكَذَا الْبِئْرُ الْمَوْقُوفَةُ إِذَا خُرِّبَتْ يُصْرَفُ نَقْضُهَا إِلَى بِئْرٍ أُخْرَى أَوْ حَوْضٍ، لَا [إِلَى] الْمَسْجِدِ، وَيُرَاعَى غَرَضُ الوَاقِفِ مَا أَمْكَنَ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حُصْرِ الْمَسْجِدِ وَنَظَائِرِهَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى الْمَسْجِدِ، أَمَّا مَا اشْتَرَاهُ النَّاظِرُ لِلْمَسْجِدِ، أَوْ وَهَبَهُ لَهُ وَاهِبٌ، وَقَبِلَهُ النَّاظِرُ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مِلْكٌ حَتَّى إِذَا كَانَ الْمُشْتَرَى لِلْمَسْجِدِ شِقْصًا، كَانَ لِلشَّرِيكِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، وَلَوْ بَاعَ الشَّرِيكُ فَلِلنَّاظِرِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ الْغِبْطَةِ، هَكَذَا ذَكَرُوهُ. قُلْتُ: هَذَا إِذَا اشْتَرَاهُ النَّاظِرُ، وَلَمْ يَقِفْهُ. أَمَّا إِذَا وَقَفَهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا قَطْعًا، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْوَقْفِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوْ وَقَفَ عَلَى ثَغْرٍ فَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ الْإِسْلَامِ حَوْلَهُ، تُحْفَظُ غَلَّةُ الْوَقْفِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ ثَغْرًا.

فصل

فَرْعٌ قَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ: لَوْ وَقَفَ عَلَى قَنْطَرَةٍ، فَانْخَرَقَ الْوَادِي، وَتَعَطَّلَتْ تِلْكَ الْقَنْطَرَةُ، وَاحْتِيجَ إِلَى قَنْطَرَةٍ أُخْرَى جَازَ النَّقْلُ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. فَرْعٌ إِذَا خَرِبَ الْعَقَارُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَسْجِدِ وَهُنَاكَ فَاضِلٌ مِنْ غَلَّتِهِ بُدِئَ مِنْهُ بِعِمَارَةِ الْعَقَارِ. فَرْعٌ قَالَ ابْنُ كَجٍّ: إِذَا حَصَلَ مَالٌ كَثِيرٌ مِنْ غَلَّةِ الْمَسْجِدِ أُعِدَّ مِنْهُ قَدْرَ مَا لَوْ خَرِبَ الْمَسْجِدُ أُعِيدَتْ بِهِ الْعِمَارَةُ، وَالزَّائِدُ يُشْتَرَى بِهِ لِلْمَسْجِدِ مَا فِيهِ زِيَادَةُ غَلَّةٍ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّ الْمَوْقُوفَ لِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ لَا يُشْتَرَى بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا، لِأَنَّ الْوَاقِفَ وَقَفَ عَلَى الْعِمَارَةِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ إِحْدَاهَا: وَقَفَ عَلَى الطَّالِبِيِّينَ وَجَوَّزْنَاهُ، كَفَى الصَّرْفُ إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ عَلِيٍّ، وَالثَّانِي مِنْ أَوْلَادِ جَعْفَرٍ، وَالثَّالِثُ مِنْ أَوْلَادِ عَقِيلٍ،

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِ عَلِيٍّ، وَأَوْلَادِ عَقِيلٍ، وَأَوْلَادِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَا بُدَّ مِنَ الصَّرْفِ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، الثَّانِيَةُ: وَقَفَ شَجَرَةً، فَفِي دُخُولِ الْمَغْرَسِ وَجْهَانِ، وَكَذَا حُكْمُ الْأَسَاسِ مَعَ الْبِنَاءِ، الثَّالِثَةُ: وَقَفَ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْغَلَّةِ إِلَى النَّقْشِ، وَالتَّزْوِيقِ، وَذَكَرَ فِي «الْعُدَّةِ» أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ أُجْرَةِ الْقَيِّمِ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَى الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَيِّمَ يَحْفَظُ الْعِمَارَةَ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَى مِنْهُ الْبَوَارِي، وَلَا يُشْتَرَى الدُّهْنُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَأَكْثَرُ مَنْ تَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَى مِنْهُ الدُّهْنُ، وَلَا الْحَصِيرُ. وَالتَّجْصِيصُ الَّذِي فِيهِ إِحْكَامٌ مَعْدُودٌ مِنَ الْعِمَارَةِ، وَإِذَا وَقَفَ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ جَازَ أَنْ يُشْتَرَى مِنْهُ سُلَّمٌ لِصُعُودِ السَّطْحِ، وَمَكَانِسُ يُكْنَسُ بِهَا، وَمَسَاحِيُّ لِنَقْلِ التُّرَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِحِفْظِ الْعِمَارَةِ، وَلَوْ كَانَ يُصِيبُ بَابَهُ الْمَطَرُ، وَيُفْسِدُهُ جَازَ بِنَاءُ ظُلَّةٍ مِنْهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ، لَمْ يَجُزِ النَّقْشُ وَالتَّزْوِيقُ، وَيَجُوزُ شِرَاءُ الْحُصْرِ وَالدُّهْنِ، وَالْقِيَاسُ جَوَازُ الصَّرْفِ إِلَى الْإِمَامِ، وَالْمُؤَذِّنِ أَيْضًا، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْحَشِيشِ، وَالسَّقْفِ لَا يُصْرَفُ إِلَى الْحَصِيرِ، وَلَا بِالْعَكْسِ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يُصْرَفُ إِلَى اللُّبُودِ وَلَا بِالْعَكْسِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا، وَجَوَّزْنَاهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ كَالْوَقْفِ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، وَفِي «الْجُرْجَانِيَّاتِ» فِي جَوَازِ الصَّرْفِ إِلَى النَّقْشِ، وَالتَّزْوِيقِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهَانِ، وَفِي «فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ» : أَنَّهُ يَجُوزُ هُنَا صَرْفُ الْغَلَّةِ إِلَى الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءُ مَنَارَةٍ لِلْمَسْجِدِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجُوزَ بِنَاءُ الْمَنَارَةِ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى النَّقْشِ، وَالتَّزْوِيقِ، فَوَجْهَانِ قَرِيبَانِ مِنَ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى النَّقْشِ وَالتَّزْوِيقِ، لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرَّابِعَةُ: إِذَا قَالَ الْمُتَوَلِّي: أَنْفَقْتُ كَذَا، فَالظَّاهِرُ قَبُولُ قَوْلِهِ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ. الْخَامِسَةُ: لَا يَجُوزُ قِسْمَةُ الْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ بَيْنَ أَرْبَابِ الْوَقْفِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ إِفْرَازٌ جَازَ، فَإِذَا انْقَرَضَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ انْقَضَتِ الْقِسْمَةُ، وَيَجُوزُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ الْمُهَايَّأَةِ، قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ، السَّادِسَةُ: لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْوَقْفِ عَنْ هَيْئَتِهِ، فَلَا تُجْعَلُ الدَّارُ بُسْتَانًا، وَلَا حَمَّامًا، وَلَا بِالْعَكْسِ، إِلَّا إِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ إِلَى النَّاظِرِ مَا يَرَى فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْوَقْفِ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ حَانُوتَ الْقَصَّارِينَ لِلْخَبَّازِينَ، فَكَأَنَّهُ احْتَمَلَ تَغْيِيرَ النَّوْعِ دُونَ الْجِنْسِ، وَلَوْ هَدَمَ الدَّارَ أَوِ الْبُسْتَانَ ظَالِمٌ أُخِذَ مِنْهُ الضَّمَانُ، وَبُنِيَ بِهِ، أَوْ غُرِسَ لِيَكُونَ وَقْفًا مَكَانَ الْأَوَّلِ، وَلَوِ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ، وَانْقَلَعَتِ الْأَشْجَارُ اسْتُغِلَّتِ الْأَرْضُ بِالْإِجَارَةِ لِمَنْ يَزْرَعُهَا، أَوْ يَضْرِبُ فِيهَا خِيَامَهُ، ثُمَّ تُبْنَى وَتُغْرَسُ مِنْ غَلَّتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْرِضَ الْإِمَامُ النَّاظِرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الِاقْتِرَاضِ، أَوِ الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى الْعِمَارَةِ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ، وَلَيْسَ لَهُ الِاقْتِرَاضُ دُونَ إِذْنِ الْإِمَامِ، السَّابِعَةُ: لَوْ تَلِفَ الْمَوْقُوفُ فِي يَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَمِنْ ذَلِكَ الْكِيزَانُ الْمُسْبَلَةُ عَلَى أَحْوَاضِ الْمَاءِ، وَالْأَنْهُرِ، وَنَحْوِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِلَا تَعَدٍّ، فَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ، وَمِنَ التَّعَدِّي اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَا وُقِفَ لَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّامِنَةُ: لَوِ انْكَسَرَ الْمِرْجَلُ، وَالطِّنْجِيرُ الْمَوْقُوفَانِ، وَوُجِدَ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِصْلَاحِ فَذَاكَ وَإِلَّا اتُّخِذَ مِنْهُ أَصْغَرُ، وَأُنْفِقَ الْبَاقِي عَلَى إِصْلَاحِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اتِّخَاذُ مِرْجَلٍ

وَطِنْجِيرٍ، اتُّخِذَ مِنْهُ مَا يُمْكِنُ مِنْ قَصْعَةٍ وَمِغْرَفَةٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَلَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى إِنْشَاءِ وَقْفِهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ الْمَوْقُوفِ، التَّاسِعَةُ: الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، هَلْ يَخْتَصُّ بِفُقَرَاءِ بَلَدِ الْوَاقِفِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا لَوْ أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ، وَهَلْ يَجُوزُ الدَّفْعُ [مِنْهُ] إِلَى فَقِيرَةٍ لَهَا زَوْجٌ يُمَوِّنُهَا؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي أَوَّلِ قِسْمِ الصَّدَقَاتِ. قُلْتُ: سَبَقَ هُنَاكَ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهَا، وَلَا إِلَى الِابْنِ الْمَكْفِيِّ بِنَفَقَةِ أَبِيهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْمُعَايَاةِ» : وَلَوْ كَانَ لَهُ صَنْعَةٌ يَكْتَسِبُ بِهَا كِفَايَتَهُ، وَلَا مَالَ لَهُ، اسْتَحَقَّ الْوَقْفَ بِاسْمِ الْفَقْرِ قَطْعًا، وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ احْتِمَالٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْعَاشِرَةُ: سُئِلَ الْحَنَّاطِيُّ عَنْ شَجَرَةٍ تَنْبُتُ فِي الْمَقْبَرَةِ، هَلْ يَجُوزُ لِلنَّاسِ الْأَكْلُ مِنْ ثَمَرِهَا؟ فَقَالَ: قِيلَ: يَجُوزُ، وَعِنْدِي: الْأَوْلَى أَنْ تُصْرَفَ فِي مَصَالِحِ الْمَقْبَرَةِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ الْجَوَازُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَسُئِلَ عَنْ شَجَرَةٍ غَرَسَهَا رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: إِنْ غَرَسَهَا لِلْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ أَكْلُ ثَمَرِهَا بِلَا عِوَضٍ، وَيَجِبُ صَرْفُ عِوَضِهَا فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُغْرَسَ الْأَشْجَارُ فِي الْمَسْجِدِ. قُلْتُ: وَإِنْ غَرَسَهَا مُسْبَلَةً لِلْأَكْلِ جَازَ أَكْلُهَا بِلَا عِوَضٍ، وَكَذَا إِنْ جُهِلَتْ نِيَّتُهُ حَيْثُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ، وَسَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا تُقْلَعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْأَئِمَّةُ: إِذَا جَعَلَ الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا، فَكَانَ فِيهَا شَجَرَةٌ جَازَ لِلْإِمَامِ قَلْعُهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَبِمَاذَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْوَاقِفِ عَنِ الشَّجَرَةِ؟ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْأَرْضِ لَا يُخْرِجُ الشَّجَرَةَ عَنْ مِلْكِهِ كَبَيْعِ الْأَرْضِ،

وَحِينَئِذٍ لَا يُكَلَّفُ تَفْرِيغَ الْأَرْضِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: فِي اسْتِتْبَاعِ الْأَرْضِ لِلشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ، وَإِذَا قَالَ: جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ مَسْجِدًا، فَلَا تَدْخُلُ الشَّجَرَةُ قَطْعًا، لِأَنَّهَا لَا تُجْعَلُ مَسْجِدًا، وَلَوْ جَعَلَ الْأَرْضَ مَسْجِدًا، وَوَقَفَ الشَّجَرَةَ عَلَيْهَا، فَعَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَحْوِهَا يَنْزِلُ كَلَامُ الْأَصْحَابِ، الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَفْتَى الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ السُّتُورِ لِتُسْتَرَ بِهَا جُدْرَانُ الْمَسْجِدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي النَّقْشِ، وَالتَّزْوِيقِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ وَقَفَ عَلَى دُهْنِ السِّرَاجِ لِلْمَسْجِدِ جَازَ وَضْعُهُ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ أَنْشَطُ لِلْمُصَلِّينَ. قُلْتُ: إِنَّمَا يُسْرَجُ جَمِيعَ اللَّيْلِ إِذَا انْتَفَعَ بِهِ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ كَمُصَلٍّ، وَنَائِمٍ، وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ مُغْلَقًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ، لَمْ يُسْرَجْ، لِأَنَّهُ إِضَاعَةُ مَالٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الهبة

كِتَابُ الْهِبَةِ قَسَّمَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعَطَايَا، فَقَالَ: تَبَرُّعُ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى مُعَلَّقٍ بِالْمَوْتِ [وَهُوَ] الْوَصِيَّةُ، وَإِلَى مُنْجَزٍ فِي الْحَيَاةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: تَمْلِيكٌ مَحْضٌ، كَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ، وَالثَّانِي: الْوَقْفُ. وَالتَّمْلِيكُ الْمَحْضُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْهِبَةُ، وَالْهَدِيَّةُ، وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَسَبِيلُ ضَبْطِهَا أَنْ نَقُولَ: التَّمْلِيكُ لَا بِعِوَضٍ هِبَةٌ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ حَمْلُ الْمَوْهُوبِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إِعْظَامًا لَهُ، أَوْ إِكْرَامًا فَهُوَ هَدِيَّةٌ، وَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ كَوْنُ التَّمْلِيكِ لِلْمُحْتَاجِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَطَلَبًا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ، فَامْتِيَازُ الْهَدِيَّةِ عَنِ الْهِبَةِ بِالنَّقْلِ وَالْحَمْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَمِنْهُ إِهْدَاءُ النَّعَمِ إِلَى الْحَرَمِ، وَلِذَلِكَ لَا يَدْخُلُ لَفْظُ الْهَدِيَّةِ فِي الْعَقَارِ بِحَالٍ، فَلَا يُقَالُ: أَهْدَى إِلَيْهِ دَارًا، وَلَا أَرْضًا، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ ذَلِكَ فِي الْمَنْقُولَاتِ كَالثِّيَابِ، وَالْعَبِيدِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ تَفْتَرِقُ بِالْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ، فَكُلُّ هَدِيَّةٍ، وَصَدَقَةٍ هِبَةٌ، وَلَا تَنْعَكِسُ. وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَتَصَدَّقَ حَنِثَ، وَبِالْعَكْسِ لَا يَحْنَثُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الْهَدِيَّةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُهْدِي وَالْمُهْدَى إِلَيْهِ رَسُولٌ أَوْ مُتَوَسِّطٌ أَمْ لَا؟ فَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، فِيمَا إِذَا حَلَفَ لَا يَهْدِي إِلَيْهِ، فَوَهَبَ لَهُ خَاتَمًا، أَوْ نَحْوَهُ يَدًا بِيَدٍ، هَلْ يَحْنَثُ؟ وَجْهَيْنِ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ، وَيَنْتَظِمُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ: هَذِهِ هَدِيَّتِي أَهْدَيْتُهَا لَكَ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَتَفْتَرِقُ فِي أَحْكَامٍ، وَتَشْتَرِكُ فِي أَحْكَامٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.

فصل

قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفِعْلُهَا مَعَ الْأَقَارِبِ وَمَعَ الْجِيرَانِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْتَقِرَ الْقَلِيلَ، فَيَمْتَنِعَ مِنْ إِهْدَائِهِ، وَأَنْ لَا يَسْتَنْكِفَ الْمُهْدَى إِلَيْهِ عَنْ قَبُولِ الْقَلِيلِ. قُلْتُ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُهْدِي، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدِي إِذَا دَعَا لَهُ الْمُهْدَى إِلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ أَيْضًا لَهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ مَعَ بَيَانِ مَا يَدْعُو بِهِ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ وَيَشْتَمِلُ الْكِتَابُ عَلَى بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي أَرْكَانِ الْهِبَةِ، وَشَرْطِ لُزُومِهَا. أَمَّا أَرْكَانُهَا فَأَرْبَعَةٌ. [الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ وَالثَّانِي: الْعَاقِدَانِ، وَأَمْرُهُمَا وَاضِحٌ، الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الصِّيغَةُ، أَمَّا الْهِبَةُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ بِاللَّفْظِ، كَالْبَيْعِ وَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ. وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ، فَفِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَالْبَيْعِ وَالْوَصِيَّةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْمُتَلَقِّينَ عَنْهُ، وَالثَّانِي: لَا حَاجَةَ فِيهَا إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِاللَّفْظِ، بَلْ يَكْفِي الْقَبْضُ وَيَمْلِكُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ قَرَارُ الْمَذْهَبِ وَنَقَلَهُ الْأَثْبَاتُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ، وَاعْتَمَدَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْهَدَايَا كَانَتْ

تُحْمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقْبَلُهَا، وَلَا لَفْظَ هُنَاكَ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى النَّاسُ فِي الْأَعْصَارِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَبْعَثُونَ بِهَا عَلَى أَيْدِي الصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَا عِبَارَةَ لَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا كَانَ إِبَاحَةً لَا هَدِيَّةً وَتَمْلِيكًا، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِبَاحَةً لَمَا تَصَرَّفُوا فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا قَبِلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَيُمَلِّكُهُ غَيْرَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ مَنِ اعْتَبَرَ الْإِيجَابَ، وَالْقَبُولَ عَلَى الْأَمْرِ الْمُشْعِرِ بِالرِّضَا دُونَ اللَّفْظِ، وَيُقَالُ: الْإِشْعَارُ بِالرِّضَا قَدْ يَكُونُ لَفْظًا، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلًا. فَرْعٌ الصَّدَقَةُ كَالْهَدِيَّةِ بِلَا فَرْقٍ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْهَدِيَّةِ الْأَطْعِمَةُ وَغَيْرُهَا. فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِمَا سَبَقَ إِحْدَاهَا: حَيْثُ اعْتَبَرْنَا الْإِيجَابَ، وَالْقَبُولَ، لَا يَجُوزُ التَّعْلِيقُ عَلَى شَرْطٍ، وَلَا التَّوْقِيتُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِمَا كَلَامٌ سَنَذْكُرُهُ فِي الْعُمْرَى - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَبُولِ عَنِ الْإِيجَابِ، بَلْ يُشْتَرَطُ التَّوَاصُلُ الْمُعْتَادُ كَالْبَيْعِ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ جَوَازُ تَأْخِيرِ الْقَبُولِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا الْخِلَافُ حَكَاهُ كَثِيرُونَ فِي الْهِبَةِ، وَخَصَّهُ الْمُتَوَلِّي بِالْهَدِيَّةِ، وَجَزَمَ بِمَنْعِ التَّأْخِيرِ فِي الْهِبَةِ، وَالْقِيَاسُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ فِي الْهَدَايَا الَّتِي يُبْعَثُ بِهَا [مِنْ] مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ، وَالْقَبُولَ عَلَى الْفَوْرِ، فَأَمَّا أَنْ يُوكِلَ الرَّسُولَ لِيُوجِبَ، وَيَقْبَلَ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يُوجِبَ الْمُهْدِي وَيَقْبَلَ الْمُهْدَى إِلَيْهِ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ.

الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَبُولِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْوَاهِبُ أَجْنَبِيًّا قَبِلَ لَهُ مَنْ يَلِي أَمْرَهُ مِنْ وَلِيٍّ، وَوَصِيٍّ، وَقَيِّمٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ مِمَّنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، قَبِلَ لَهُ الْحَاكِمُ، أَوْ نَائِبُهُ، وَإِنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا تَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ. وَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى لَفْظَيِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، أَمْ يَكْفِي أَحَدُهُمَا؟ وَجْهَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَمَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْقَبُولِ، مَا إِذَا أَتَى بِلَفْظٍ مُسْتَقِلٍّ كَقَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ لِطِفْلِي، أَوِ انْهَبْتُ لَهُ كَذَا. أَمَّا قَوْلُهُ: قَبِلْتُ الْبَيْعَ، وَالْهِبَةَ، فَلَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ بِحَالٍ. فَرْعٌ لَا اعْتِبَارَ بِقَبُولِ مُتَعَهِّدِ الطِّفْلِ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ. الثَّالِثَةُ: إِذَا وَهَبَ لِعَبْدٍ غَيْرُهُ، فَالْمُعْتَبَرُ قَبُولُ الْعَبْدِ، وَفِي افْتِقَارِهِ إِلَى إِذَنْ سَيِّدِهِ خِلَافٌ سَبَقَ. الرَّابِعَةُ: وَهَبَ لَهُ شَيْئًا فَقَبِلَ نِصْفَهُ، أَوْ وَهَبَ لَهُ عَبْدَيْنِ، فَقَبِلَ أَحَدَهُمَا، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ، أَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ. الْخَامِسَةُ: غَرَسَ أَشْجَارًا وَقَالَ عِنْدَ الْغِرَاسِ: أَغْرِسُهُ لِابْنِي، لَمْ يَصِرْ لِلِابْنِ، وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُهُ لِابْنِي وَهُوَ صَغِيرٌ صَارَ لِلِابْنِ، لِأَنَّ هِبَتَهُ لَهُ لَا تَقْتَضِي قَبُولًا بِخِلَافِ مَا لَوْ جَعَلَهُ لِبَالِغٍ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ، وَهُوَ مُلْتَفِتٌ إِلَى الِانْعِقَادِ بِالْكِنَايَاتِ، وَإِلَى أَنَّ هِبَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ يَكْفِي فِيهَا أَحَدُ الشِّقَّيْنِ. السَّادِسَةُ: لَوْ خَتَنَ ابْنَهُ وَاتَّخَذَ دَعْوَةً، فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ هَدَايَا، وَلَمْ يُسَمِّ أَصْحَابُهَا الْأَبَ وَلَا الِابْنَ، فَهَلْ تَكُونُ الْهَدِيَّةُ مِلْكًا لِلْأَبِ، أَمْ لِلِابْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي «الْفَتَاوَى» بِأَنَّهُ لِلِابْنِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَقْبَلَهَا لِوَلَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَثِمَ، قَالَ: وَكَذَا وَصِيٌّ وَقَيِّمٌ، يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَالْوَصِيَّةَ لِلصَّغِيرِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ الْوَصِيُّ الْوَصِيَّةَ وَالْهَدِيَّةَ، أَثِمَ، وَانْعَزَلَ لِتَرْكِهِ النَّظَرَ، وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي: أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ قَالَ: تَكُونُ مِلْكًا لِلْأَبِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَقْصِدُونَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ، وَهَذَا أَقْوَى، وَأَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. السَّابِعَةُ: بَعَثَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً فِي ظَرْفٍ، وَالْعَادَةُ فِي مِثْلِهَا رَدُّ الظَّرْفِ، لَمْ يَكُنِ الظَّرْفُ هَدِيَّةً، فَإِنْ كَانَ الْعَادَةُ أَنْ لَا يُرَدَّ كَقَوْصَرَّةِ التَّمْرِ، فَالظَّرْفُ هَدِيَّةٌ أَيْضًا، وَقَدْ يُمَيَّزُ الْقِسْمَانِ بِكَوْنِهِ مَشْدُودًا فِيهِ، وَغَيْرَ مَشْدُودٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الظَّرْفُ هَدِيَّةً، كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ الْهَدِيَّةِ. وَأَمَّا فِيهَا، فَإِنِ اقْتَضَتِ الْعَادَةُ تَفْرِيغَهُ، لَزِمَ تَفْرِيغُهُ. وَإِنِ اقْتَضَتِ التَّنَاوُلَ مِنْهُ، جَازَ التَّنَاوُلُ مِنْهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَكُونُ عَارِيَةً. الثَّامِنَةُ: بَعَثَ كِتَابًا إِلَى حَاضِرٍ أَوْ غَائِبٍ، وَكَتَبَ فِيهِ أَنِ اكْتُبِ الْجَوَابَ عَلَى ظَهْرِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ، وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَإِلَّا، فَهُوَ هَدِيَّةٌ يَمْلِكُهَا الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُبْقَى عَلَى مِلْكِ الْكَاتِبِ، وَلِلْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي حَكَاهُ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» عَنْ حِكَايَةِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. التَّاسِعَةُ: أَعْطَاهُ دِرْهَمًا وَقَالَ: ادْخُلْ بِهِ الْحَمَّامَ، أَوْ دَرَاهِمَ وَقَالَ: اشْتَرِ بِهَا لِنَفْسِكَ عِمَامَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ إِنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَسُّطِ الْمُعْتَادِ، مَلَكَهُ وَتَصَرَّفَ [فِيهِ] كَيْفَ شَاءَ. وَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ تَحْصِيلُ

مَا عَيَّنَهُ لِمَا رَأَى بِهِ مِنَ الشَّعَثِ، وَالْوَسَخِ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ، لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إِلَى غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ. قُلْتُ: وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي «الْفَتَاوَى» : وَهَلْ يَتَعَيَّنُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. وَقَالَ: وَلَوْ طَلَبَ الشَّاهِدُ مَرْكُوبًا لِيَرْكَبَهُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ لِيَصْرِفَهَا إِلَى مَرْكُوبٍ، هَلْ لَهُ صَرْفُهَا إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ، مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِشَرْطِ أَنَّكَ تَشْتَرِي بِهَا خُبْزًا لِتَأْكُلَهُ، لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ لَهُ التَّصَرُّفَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ: سُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ رَجُلٍ مَاتَ أَبُوهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ثَوْبًا لِيُكَفِّنَهُ فِيهِ، هَلْ يَمْلِكُهُ حَتَّى يُمْسِكَهُ، وَيُكَفِّنَهُ فِي غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِتَكْفِينِهِ لَفِقْهٍ وَوَرَعٍ، فَلَا، وَلَوْ كَفَّنَهُ فِي غَيْرِهِ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى مَالِكِهِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ: أَنَّ خَادِمَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي السُّوقِ وَيَجْمَعُ لَهُمْ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ، يَمْلِكُهُ الْخَادِمُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الصَّرْفُ إِلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ الْمُرُوءَةَ تَقْتَضِي الْوَفَاءَ بِمَا تَصَدَّى لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَفِ، فَلَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ أَنْ يُظْهِرَ الْجَمْعَ لَهُمْ، وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا مَلَكَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلِيٍّ وَلَا وَكِيلٍ عَنْهُمْ، بِخِلَافِ هَدَايَا الْخِتَانِ. قُلْتُ: وَمِنْ مَسَائِلِ الْفَصْلِ، أَنَّ قَبُولَ الْهَدَايَا الَّتِي يَجِيءُ بِهَا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، جَائِزٌ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ قَبُولُ هَدِيَّةِ الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْعُمَّالِ وَأَهْلِ الْوِلَايَاتِ قَبُولُ هَدِيَّةٍ مِنْ رَعَايَاهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى أَمَّا الْعُمْرَى، فَقَوْلُهُ: أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ مَثَلًا، أَوْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ، أَوْ حَيَاتَكَ، أَوْ مَا عِشْتَ، أَوْ حَيِيتَ، أَوْ بَقِيتَ، وَمَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ لَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: فَإِذَا مُتُّ، فَهِيَ لِوَرَثَتِكَ، أَوْ لِعَقِبِكَ وَهِيَ الْهِبَةُ بِعَيْنِهَا، لَكِنَّهُ طَوَّلَ الْعِبَارَةَ فَإِذَا مَاتَ. فَالدَّارُ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا، فَلِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْوَاهِبِ بِحَالٍ. الثَّانِي: يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا سِوَاهُ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَلَهُ حُكْمُ الْهِبَةِ. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَدِيمَ: أَنَّ الدَّارَ تَكُونُ لِلْمُعَمَّرِ حَيَاتَهُ. فَإِذَا مَاتَ، عَادَتْ إِلَى الْوَاهِبِ، أَوْ وَرَثَتِهِ كَمَا شَرَطَ. وَقِيلَ: الْقَدِيمُ: أَنَّهَا تَكُونُ عَارِيَّةً يَسْتَرِدُّهَا مَتَى شَاءَ، فَإِذَا مَاتَ، عَادَتْ إِلَى الْوَاهِبِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ، فَإِذَا مُتُّ عَادَتْ إِلَيَّ، أَوْ إِلَى وَرَثَتِي إِنْ كُنْتُ مُتُّ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْبُطْلَانِ فِي الْحَالِ الثَّانِي، فَهُنَا أَوْلَى. وَإِنْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، وَالْعَوْدِ إِلَى الْوَاهِبِ، فَكَذَا هُنَا. وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْبُطْلَانُ. وَالصَّحِيحُ: الصِّحَّةُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَسَوَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَالَةِ الْإِطْلَاقِ، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَعَدَلُوا بِهِ عَنْ قِيَاسِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. وَأَمَّا الرُّقْبَى: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَهَبْتُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ عُمْرَكَ، عَلَى أَنَّكَ إِنْ مُتَّ قَبْلِي عَادَتْ إِلَيَّ. وَإِنْ مُتُّ قَبْلَكَ اسْتَقَرَّتْ لَكَ، أَوْ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ رُقْبَى، أَوْ أَرْقَبْتُهَا لَكَ. وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْحَالِ الثَّالِثِ مِنَ الْعُمْرَى، وَحَاصِلُهُ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ. وَأَصَحُّهُمَا: قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: صِحَّتُهُ، وَيَلْغُو الشَّرْطُ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ صِحَّةُ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَإِذَا صَحَّحْنَاهُمَا، وَأَلْغَيْنَا الشَّرْطَ، تَصَرَّفَ الْمُعَمَّرُ فِي الْمَالِ كَيْفَ شَاءَ. وَإِنْ أَبْطَلْنَا الْعَقْدَ أَوْ جَعَلْنَاهُ عَارِيَّةً، فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ، فَبَاعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُمَّ مَاتَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ احْتِمَالَيْنِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَهُ: لَا يُنَفَّذُ الْبَيْعُ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْبَيْعِ التَّأْبِيدُ، وَهُوَ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا مُؤَقَّتًا، فَكَيْفَ يَمُلِّكُ غَيْرَهُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ؟ وَالثَّانِي: يُنَفَّذُ كَبَيْعِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ عَلَى صِفَةٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ مِلْكٌ فِي الْحَالِ، وَالرُّجُوعَ أَمْرٌ يَحْدُثُ، وَشَبَّهَهُ بِرُجُوعِ نِصْفِ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَإِذَا صَحَّحْنَا بَيْعَهُ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَرْجِعَ الْوَاهِبُ فِي تَرِكَتِهِ بِالْغُرْمِ رُجُوعَ الزَّوْجِ إِذَا طَلَّقَ بَعْدَ خُرُوجِ الصَّدَاقِ عَنْ مِلْكِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِي رُجُوعِ الْمَالِ إِلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْمَوْهُوبِ لَهُ اسْتِبْعَادٌ، لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ مِلْكٍ لَهُمْ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُورِثُ، لَكِنَّهُ كَمَا لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ تَرِكَةٌ تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ الْوَصَايَا. فَرْعٌ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ عُمْرِي أَوْ حَيَاتِي، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ، أَوْ حَيَاتَكَ، لِشُمُولِ اسْمِ الْعُمْرَى. وَأَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانُ، لِخُرُوجِهِ عَنِ اللَّفْظِ الْمُعْتَادِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَأْقِيتِ الْمِلْكِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمُوتُ الْوَاهِبُ أَوَّلًا، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا مُدَّةَ حَيَاتِهِ، فَلَا تَوْقِيتَ فِيهِ. وَأُجْرِيَ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ قَالَ: جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَ فُلَانٍ. وَخَرَجَ مِنْ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وَإِلْغَاءِ الشَّرْطِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهٌ: أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يُفْسِدُ الْهِبَةَ، وَطُرِدَ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَوْقَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَهَبْتُكَ، أَوْ وَقَفْتُهَا سَنَةً.

وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَهُ فِي كُلِّ شَرْطٍ، كَقَوْلِهِ: وَهَبْتُكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَبِيعَهُ إِذَا قَبَضْتَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْبَيْعِ يُورِثُ جَهَالَةَ الثَّمَنِ فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ. وَالْمَذْهَبُ فَسَادُ الْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ بِالشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ لِلْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْعُمْرَى، لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ عَلَى صُورَةِ الْعُمْرَى فَقَالَ: مَلَّكْتُكَهَا بِعُشْرِ عُمْرِكَ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَا يَبْعُدُ عِنْدِي جَوَازُهُ تَفْرِيعًا عَلَى الْجَدِيدِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: لَا يَجُوزُ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْعُمْرَى، كَقَوْلِهِ: إِذَا مَاتَ، أَوْ قَدِمَ فُلَانٌ، أَوْ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ فَهِيَ لَكَ عُمْرَكَ. فَلَوْ عَلَّقَ بِمَوْتِهِ فَقَالَ: إِذَا مُتُّ فَهَذِهِ الدَّارُ لَكَ عُمْرَكَ، فَهِيَ وَصِيَّةٌ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ. فَلَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ فَهِيَ لَكَ

عُمْرَكَ، فَإِذَا مُتُّ عَادَتْ إِلَى وَرَثَتِي، فَهِيَ وَصِيَّةٌ بِالْعُمْرَى عَلَى صُورَةِ الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ. فَرْعٌ جَعَلَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارَهُ لِلْآخَرِ عُمْرَهُ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَهُ، عَادَتْ إِلَى صَاحِبِ الدَّارِ، فَهَذِهِ رُقْبَى مِنَ الْجَانِبَيْنِ. فَرْعٌ قَالَ: دَارِي لَكَ عُمْرَكَ، فَإِذَا مُتُّ فَهِيَ لِزَيْدٍ، أَوْ عَبْدِي لَكَ عُمْرَكَ، فَإِذَا مُتُّ فَهُوَ حُرٌّ، صَحَّتِ الْعُمْرَى عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ، وَلَغَا الْمَذْكُورُ بَعْدَهَا. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَوْهُوبُ، فَمَا جَازَ بَيْعُهُ، جَازَتْ هِبَتُهُ، وَمَا لَا، فَلَا، هَذَا هُوَ الْغَالِبُ. وَقَدْ يَخْتَلِفَانِ، فَتَجُوزُ هِبَةُ الْمَشَاعِ سَوَاءٌ الْمُنْقَسِمُ وَغَيْرُهُ، وَسَوَاءٌ وَهَبَهُ لِلشَّرِيكِ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَجُوزُ هِبَةُ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ مَعَ زَرْعِهَا وَدُونَ زَرْعِهَا وَعَكْسُهُ. فَرْعٌ لَوْ وَهَبَ لِاثْنَيْنِ، فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ، فَوَجْهَانِ كَالْبَيْعِ. وَقَطَعَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» بِالتَّصْحِيحِ. فَرْعٌ لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ، وَلَا الْآبِقِ، وَالضَّالِّ، وَتَجُوزُ هِبَةُ الْمَغْصُوبِ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ إِنْ قَدَرَ عَلَى الِانْتِزَاعِ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. وَأَمَّا هِبَتُهُ لِلْغَاصِبِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي

كتاب «الرهن» .

كِتَابِ «الرَّهْنِ» . وَتَجُوزُ هِبَةُ الْمُسْتَعَارِ لِغَيْرِ الْمُسْتَعِيرِ، ثُمَّ إِذَا قَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْإِذْنِ، بَرِئَ الْغَاصِبُ وَالْمُسْتَعِيرُ مِنَ الضَّمَانِ، وَتَجُوزُ هِبَةُ الْمُسْتَأْجِرَةِ إِذَا جَوَّزْنَا بَيْعَهَا، وَإِلَّا، فَفِيهَا الْوَجْهَانِ. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَغَيْرُهُ: وَلَوْ وَكَلَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْغَاصِبَ، أَوِ الْمُسْتَعِيرَ، أَوِ الْمُسْتَأْجِرَ فِي قَبْضِ مَا فِي يَدِهِ فِي نَفْسِهِ، وَقَبِلَ، صَحَّ. وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَتَأَنَّى فِيهَا الْقَبْضُ، بَرِئَ الْغَاصِبُ وَالْمُسْتَعِيرُ مِنَ الضَّمَانِ، وَهَذَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ الْمَشْهُورَ فِي أَنَّ الشَّخْصَ لَا يَكُونُ قَابِضًا مُقْبِضًا، وَفِي هِبَةِ الْمَرْهُونِ وَجْهَانِ. إِنْ صَحَّحْنَاهَا، انْتَظَرْنَا، فَإِنْ بِيعَ فِي الرَّهْنِ، بَانَ بُطْلَانُ الْهِبَةِ. وَإِنْ فُكَّ الرَّهْنُ، فَلِلْوَاهِبِ الْخِيَارُ مِنَ الْإِقْبَاضِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي هِبَةِ الْكَلْبِ، وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمَةِ. وَالْأَصَحُّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا الْبُطْلَانُ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: الصِّحَّةُ، لِأَنَّهَا أَخَفُّ مِنَ الْبَيْعِ. قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ صَحَّحَ فِيهَا، فَحَقُّهُ تَصْحِيحُهَا فِي الْمَجْهُولِ وَالْآبِقِ كَالْوَصِيَّةِ. فَرْعٌ إِذَا وَهَبَ الدَّيْنَ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ، فَهُوَ إِبْرَاءٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يَحْتَاجُ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ. وَإِنْ وَهَبَهُ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ، كَرَهْنِ الدَّيْنِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَفِي افْتِقَارِ لُزُومِهَا إِلَى قَبْضِ الدَّيْنِ، وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَفْتَقِرُ، فَهَلْ يَلْزَمُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَالْحَوَالَةِ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنٍ جَدِيدٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ كَالتَّخْلِيَةِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ رَجُلٌ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَلَهُ دَيْنٌ عَلَى مِسْكِينٍ، فَوَهَبَ لَهُ الدَّيْنَ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ، لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ بِتَمْلِيكٍ، وَإِقَامَةُ الْإِبْرَاءِ مَقَامَ التَّمْلِيكِ إِبْدَالٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ

فصل

فِي الزَّكَاةِ، هَكَذَا قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» . وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ [الدَّيْنُ] تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّمْلِيكِ، أَمْ هُوَ مَحْضُ إِسْقَاطٍ؟ وَعَلَى هَذَا خَرَجَ اعْتِبَارُ الْقَبُولِ فِيهَا. فَإِنْ قُلْنَا: تَمْلِيكٌ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْمَوْقِعَ. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى غَيْرِ الْمِسْكِينِ، فَوَهَبَهُ لِلْمِسْكِينِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ، وَقُلْنَا: تَصِحُّ الْهِبَةُ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ، أَجْزَأَهُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَيُطَالِبُ الْمِسْكِينَ وَالْمَدْيُونَ. فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ لُزُومِ الْهِبَةِ، فَهُوَ الْقَبْضُ، فَلَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ فِي الْمَوْهُوبِ وَالْهَدِيَّةِ إِلَّا بِقَبْضِهِمَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ كَالْوَقْفِ. وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ: الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ قَبَضَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مِلْكٌ بِالْعَقْدِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْأَقْوَالِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، لِمَنْ تَكُونُ؟ وَلَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لِجَوَازِهِ، كَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْفَسِخُ، لِأَنَّهُ يَئُولُ إِلَى اللُّزُومِ. كَالْبَيْعِ الْجَائِزِ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ تَخَيَّرَ الْوَارِثُ فِي الْإِقْبَاضِ. وَإِنْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَ وَارِثُهُ إِنْ أَقْبَضَهُ الْوَاهِبُ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي جُنُونِ أَحَدِهِمَا وَإِغْمَائِهِ. قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَقْبِضُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ مِنْهُمَا، وَلَا يَصِحُّ الْقَبْضُ فِي حَالِ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْقَبْضُ الْمُحَصِّلُ لِلْمِلْكِ، هُوَ الْوَاقِعُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، فَلَوْ قَبَضَ بِلَا إِذْنِهِ، لَمْ يَمْلِكْهُ،

وَدَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، سَوَاءٌ قَبَضَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ. وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ. وَلَوْ أَذِنَ فِي الْقَبْضِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، صَحَّ رُجُوعُهُ، فَلَا يَصِحُّ الْقَبْضُ بَعْدَهُ. وَكَذَا لَوْ أَذِنَ، ثُمَّ مَاتَ الْآذِنُ أَوِ الْمَأْذُونُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، بَطَلَ الْإِذْنُ. فَرْعٌ بَعَثَ هَدِيَّةً إِلَى إِنْسَانٍ، فَمَاتَ الْمُهْدَى إِلَيْهِ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَيْهِ، بَقِيَتِ الْهَدِيَّةُ لِلْمُهْدِي. وَلَوْ مَاتَ الْمُهْدِي، لَمْ يَكُنْ لِلرَّسُولِ حَمْلُهَا إِلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ، وَكَذَا الْمُسَافِرُ إِذَا اشْتَرَى لِأَصْدِقَائِهِ هَدَايَا، فَمَاتَ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَيْهِمْ، فَهِيَ لَهُ تَرِكَةٌ. فَرْعٌ كَيْفِيَّةُ الْقَبْضِ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ. وَحَكَيْنَا هُنَا قَوْلًا، أَنَّ التَّخْلِيَةَ فِي الْمَنْقُولِ قَبْضٌ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا جَرَيَانَ لَهُ هُنَا، لِأَنَّ الْقَبْضَ هُنَاكَ مُسْتَحَقٌّ، وَلِلْمُشْتَرِي الْمُطَالَبَةُ بِهِ، فَجُعِلَ التَّمْكِينُ قَبْضًا، وَفِي الْهِبَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَاعْتُبِرَ تَحْقِيقُهُ وَلَمْ يَكْتَفَ بِالْوَضْعِ بَيْنَ يَدَيْهِ. قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مَشَاعًا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ، فَقَبَضَهُ بِالتَّخْلِيَةِ، وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا، فَقَبَضَهُ بِقَبْضِ الْجَمِيعِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَآخَرُونَ: فَيُقَالُ لِلشَّرِيكِ لِيَرْضَى بِتَسْلِيمِ نَصِيبِهِ أَيْضًا إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، لِيَكُونَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً حَتَّى يَتَأَتَّى الْقَبْضُ ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ فَعَلَ [فَقَبَضَ الْمَوْهُوبُ الْجَمِيعَ، مَلَكَ. وَإِنِ

امْتَنَعَ، قِيلَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: وَكِّلِ الشَّرِيكَ فِي الْقَبْضِ لَكَ. فَإِنْ فَعَلَ] نَقَلَهُ الشَّرِيكُ وَقَبَضَهُ لَهُ. فَإِنِ امْتَنَعَا، نَصَّبَ الْحَاكِمُ مَنْ يَكُونُ فِي يَدِهِ لَهُمَا فَيَنْقُلُهُ لِيَحْصُلَ الْقَبْضُ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمَا. [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] فَرْعٌ لَوْ أَتْلَفَ الْمُتَّهِبُ الْمَوْهُوبَ، لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي إِذَا أَتْلَفَ الْمَبِيعَ، وَالْفَرْقُ مَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ. وَلَوْ أَذِنَ الْوَاهِبُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي أَكْلِ طَعَامِ الْمَوْهُوبِ، فَأَكَلَهُ، أَوْ فِي إِعْتَاقِ الْمَوْهُوبِ، فَأَعْتَقَهُ، أَوْ أَمَرَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْوَاهِبَ بِإِعْتَاقِهِ، فَأَعْتَقَهُ، كَانَ قَابِضًا. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ الْوَاهِبُ الْمَوْهُوبَ قَبْلَ الْإِقْبَاضِ، حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْهِبَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ، صَحَّ بَيْعُهُ وَبَطَلَتِ الْهِبَةُ. وَإِنِ اعْتَقَدَ لُزُومَهَا وَحُصُولَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ، فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهِ قَوْلَانِ، كَمَنْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ يَظُنُّ أَنَّهُ حَيٌّ، فَبَانَ مَيِّتًا.

فصل

فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ مَحْكِيَّةٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ قَالَ: وَهَبْتُهُ لَهُ وَمَلَّكَهُ، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِلُزُومِ الْهِبَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَقِدَ لُزُومَهَا وَحُصُولَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ، وَالْإِقْرَارُ يُحْمَلُ عَلَى الْيَقِينِ. وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُهُ لَهُ وَخَرَجْتُ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ، كَانَ إِقْرَارًا بِالْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْوَاهِبِ، فَلَا. وَلَوْ قِيلَ لَهُ: وَهَبْتُ دَارَكَ لِفُلَانٍ وَأَقْبَضْتُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كَانَ إِقْرَارًا بِالْهِبَةِ وَالْإِقْبَاضِ. الْبَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الْهِبَةِ فِي الرُّجُوعِ وَالثَّوَابِ فِيهِ طَرَفَانِ. [الطَّرَفُ] الْأَوَّلُ: فِي الرُّجُوعِ، فَالْهِبَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى مُقَيَّدَةٍ بِنَفْيِ الثَّوَابِ، وَمُقَيَّدَةٍ بِإِثْبَاتِهِ، وَمُطْلَقَةٍ. أَمَّا الْمُقَيَّدَةُ بِنَفْيِ الثَّوَابِ، فَتَلْزَمُ بِنَفْسِ الْقَبْضِ، وَلَا رُجُوعَ فِيهَا إِلَّا لِلْوَالِدِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ كَمَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْوَالِدِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ، فَقَدْ فَعَلَ مَكْرُوهًا، لَكِنْ تَصِحُّ الْهِبَةُ. وَالْأَوْلَى فِي هَذَا الْحَالِ، أَنْ يُعْطِيَ الْآخَرِينَ مَا يُحِبُّهُ الْعَدْلُ. وَلَوْ رَجَعَ، جَازَ. وَإِذَا أَعْطَى وَعَدَلَ، كُرِهَ لَهُ الرُّجُوعُ. وَكَذَا لَوْ كَانَ وَلَدًا وَاحِدًا، فَوَهَبَ لَهُ، كُرِهَ الرُّجُوعُ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ عَفِيفًا بَارًّا، فَإِنْ كَانَ عَاقًّا أَوْ يَسْتَعِينُ بِمَا أَعْطَاهُ فِي مَعْصِيَةٍ، فَلْيُنْذِرْهُ بِالرُّجُوعِ. فَإِنْ أَصَرَّ، لَمْ يُكْرَهُ الرُّجُوعُ.

فصل

فَرْعٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْهِبَةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَالثَّانِي: يُعْطِي الذَّكَرَ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. قُلْتُ: وَإِذَا وَهَبَتِ الْأُمُّ لِأَوْلَادِهَا، فَهِيَ كَالْأَبِ فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ، وَكَذَا الِابْنُ إِذَا وَهَبَ لِوَالِدَيْهِ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: فَإِنْ فَضَّلَ فَلْيُفَضِّلِ الْأُمَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِذَا قَصَدَ بِهِبَتِهِ اسْتِجْلَابَ بِرٍّ أَوْ دَفْعَ عُقُوقٍ فَلَمْ يَحْصُلْ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْهِبَةَ، وَلَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، فَلَا رُجُوعَ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْأُمُّ وَالْأَجْدَادُ، وَالْجَدَّاتُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمْ كَالْأَبِ. وَفِي قَوْلٍ: لَا رُجُوعَ لَهُمْ. وَقِيلَ: تَرْجِعُ الْأُمُّ. وَفِي غَيْرِهَا، قَوْلَانِ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ آبَاءُ الْأَبِ، وَفِي غَيْرِهِمْ قَوْلَانِ. وَلَا رُجُوعَ لِغَيْرِ الْأُصُولِ كَالْإِخْوَةِ، وَالْأَعْمَامِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقَارِبِ قَطْعًا. وَسَوَاءٌ فِي ثُبُوتِ الرُّجُوعِ لِلْوَالِدِ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فِي الدِّينِ، أَمْ لَا. وَلَوْ وَهَبَ لِعَبْدٍ وَلَدَهُ، رَجَعَ. وَلَوْ وَهَبَ لِمُكَاتَبٍ وَلَدَهُ، فَلَا. وَهِبَتُهُ لِمُكَاتَبِ نَفْسِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ مَوْلُودًا، وَوَهَبَا لَهُ، فَلَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَإِنْ أُلْحِقَ بِأَحَدِهِمَا، فَوَجْهَانِ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا ابْتِدَاءً. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الرُّجُوعُ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ، لِثُبُوتِ بُنُوَّتِهِ فِي الْأَحْكَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ حُكْمُ الرُّجُوعِ فِي الْهَدِيَّةِ حُكْمُهُ فِي الْهِبَةِ. وَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ دِينٍ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ، أَوْ تَمْلِيكٌ؟ إِنْ قُلْنَا: تَمْلِيكٌ، رَجَعَ، وَإِلَّا، فَلَا. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ وَهَبَ لِوَلَدِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ، وَوَارِثُهُ أَبُوهُ لِكَوْنِ الْوَلَدِ مُخَالِفًا فِي الدِّينِ، فَلَا رُجُوعَ لِلْجَدِّ. فَرْعٌ الْمَوْهُوبُ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بَاقِيًا فِي سَلْطَنَةِ الْمُتَّهِبِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ بِأَنْ أُتْلِفَ، أَوْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِبَيْعٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ وَقَفَهُ، أَوْ أَعْتَقَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ، أَوِ اسْتَوْلَدَهَا، أَوْ وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ، أَوْ رَهَنَهُ وَأَقْبَضَهُ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ، وَلَا قِيمَةَ أَيْضًا. وَحَكَى الْإِمَامُ خِلَافًا، فِي أَنَّ الرَّهْنَ هَلْ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، مَبْنِيًّا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ صِحَّةِ هِبَةِ الْمَرْهُونِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ، لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ، وَإِلَّا، تَوَقَّفْنَا. فَإِنْ فَكَّ الرَّهْنَ، بَانَ صِحَّةُ الرُّجُوعِ، وَذَكَرَ أَيْضًا تَرَدُّدًا فِي كِتَابَةِ الْعَبْدِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ بَيْعِهِ. وَلَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ إِذَا لَمْ يُقْبَضَا، وَلَا بِالتَّدْبِيرِ وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِصِفَةٍ، وَلَا بِزِرَاعَةِ الْأَرْضِ وَتَزْوِيجِ الْأَمَةِ قَطْعًا،

وَلَا بِالْإِيجَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَتَبْقَى الْإِجَارَةُ بِحَالِهَا كَالتَّزْوِيجِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ صَحَّحْنَا بَيْعَ الْمُسْتَأْجِرِ، رَجَعَ، وَإِلَّا، فَإِنْ جَوَّزْنَا الرُّجُوعَ فِي الْمَرْهُونِ وَتَوَقَّفْنَا، صَحَّ الرُّجُوعُ هُنَا وَلَا تُوقُّفَ، بَلِ الرَّقَبَةُ لِلرَّاجِعِ، وَيَسْتَوْفِي الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ مَنَعْنَا الرُّجُوعَ فِي الْمَرْهُونِ، فَفِي الْمُسْتَأْجِرِ تَرَدُّدٌ، وَخَرَجَ عَلَى هَذَا تَرَدُّدًا فِيمَا إِذَا أَبِقَ الْعَبْدُ الْمَوْهُوبُ مِنْ يَدِ الْمُتَّهِبِ، هَلْ يَصِحُّ رُجُوعُ الْوَاهِبِ، مَعَ قَوْلِنَا: لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْآبِقِ، لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ مُبْتَدَأٌ، وَالرُّجُوعَ بِنَاءٌ فَيُسَامَحُ فِيهِ؟ وَلَوْ جَنَى وَتَعَلَّقَ الْأَرْشُ بِرَقَبَتِهِ، فَهُوَ كَالْمَرْهُونِ فِي امْتِنَاعِ الرُّجُوعِ. لَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنَا أَفْدِيهِ وَأَرْجِعُ، مُكِّنَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مَرْهُونًا، فَأَرَادَ أَنْ يَبْذُلَ قِيمَتَهُ وَيَرْجِعَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُتَّهِبِ. وَلَوْ زَالَ مِلْكُ الْمُتَّهِبِ، ثُمَّ عَادَ بِإِرْثٍ، أَوْ شِرَاءٍ، فَفِي عَوْدِ الرُّجُوعِ وَجْهَانِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. وَاحْتَجَّ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ لِهَذَا الْوَجْهِ، بِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِابْنِهِ، فَوَهَبَهُ الِابْنُ لِجَدِّهِ، فَوَهَبَهُ الْجَدُّ لِابْنِ ابْنِهِ الَّذِي وَهَبَهُ، فَإِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ لِلْجَدِّ الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ هَذَا الْمِلْكُ، لَا لِلْأَبِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُثْبِتَ الْقَائِلُ الْأَوَّلُ الرُّجُوعَ لَهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ وَهَبَ لَهُ عَصِيرًا فَصَارَ خَمْرًا، ثُمَّ صَارَ خَلًّا، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ وَجْهَيْنِ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ بِالتَّخَمُّرِ، وَوَجْهَيْنِ فِي عَوْدِ الرُّجُوعِ تَفْرِيعًا عَلَى الزَّوَالِ. وَإِذَا انْفَكَّ الرَّهْنُ أَوِ الْكِتَابَةُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ، ثَبَتَ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ حُجِرَ عَلَى الْمُتَّهِبِ بِالْفَلَسِ، فَلَا رُجُوعَ عَلَى الْأَصَحِّ كَالرَّهْنِ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ، لِأَنَّ حَقَّهُ سَابِقٌ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ حِينِ الْهِبَةِ. قُلْتُ: وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ، ثَبَتَ الرُّجُوعُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ ارْتَدَّ وَقُلْنَا: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ، ثَبَتَ الرُّجُوعُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ، فَلَا. فَإِنْ

عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثَبَتَ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ زَالَ مِلْكُهُ ثُمَّ عَادَ. وَلَوْ وَهَبَ الِابْنُ الْمُتَّهِبُ الْمَوْهُوبَ لِابْنِهِ، أَوْ بَاعَهُ لَهُ، أَوْ وَرِثَهُ مِنْهُ، فَلَا رُجُوعَ لِلْجَدِّ عَلَى الْمَذْهَبِ. قُلْتُ: وَلَوْ وَهَبَهُ الْمُتَّهِبُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ، قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ قَطْعًا، لِأَنَّ الْوَاهِبَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ، فَالْأَبُ أَوْلَى. وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُ الْخِلَافِ لِأَنَّهُمْ عَلَّلُوا الرُّجُوعَ بِأَنَّهُ هِبَةٌ لِمَنْ لِلْجَدِّ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ هُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي سَلْطَنَةِ الْمُتَّهِبِ، فَإِنْ كَانَ بِحَالِهِ، أَوْ نَاقِصًا، فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَّهِبِ أَرْشُ النَّقْصِ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً، كَالسِّمَنِ وَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، رَجَعَ فِيهِ مَعَ الزِّيَادَةِ. وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ، وَالْكَسْبِ، رَجَعَ فِي الْأَصْلِ وَبَقِيَتِ الزِّيَادَةُ لِلْمُتَّهِبِ. وَإِنْ وَهَبَ جَارِيَةً أَوْ بَهِيمَةً حَامِلًا، فَرَجَعَ قَبْلَ الْوَضْعِ، رَجَعَ فِيهَا حَامِلًا. وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الْوَضْعِ، فَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَمْلِ حُكْمٌ، رَجَعَ فِي الْوَلَدِ مَعَ الْأُمِّ، وَإِلَّا، فَفِي الْأُمِّ فَقَطْ. وَإِنْ وَهَبَهَا حَائِلًا وَرَجَعَ وَهِيَ حَامِلٌ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا حُكْمَ لِلْحَمْلِ، رَجَعَ فِيهَا حَامِلًا، وَإِلَّا، فَلَا يَرْجِعُ إِلَّا فِي الْأُمِّ، وَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْحَالِ، أَمْ عَلَيْهِ الصَّبْرُ إِلَى الْوَضْعِ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ وَهَبَهُ حَبًّا فَبَذَرَهُ وَنَبَتَ، أَوْ بَيْضًا فَصَارَ فَرْخًا، فَلَا رُجُوعَ، لِأَنَّ مَالَهُ مُسْتَهْلَكٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ: هَذَا إِذَا ضَمَّنَّا الْغَاصِبَ بِذَلِكَ، وَإِلَّا، فَقَدْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَيَرْجِعُ. وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ الِابْنُ، رَجَعَ فِي الثَّوْبِ، وَالِابْنُ شَرِيكٌ بِالصَّبْغِ. وَلَوْ قَصَّرَهُ، أَوْ كَانَتْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ، فَإِنْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُ، رَجَعَ وَلَا شَيْءَ لِلِابْنِ. وَإِنْ زَادَتْ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقِصَارَةُ عَيْنٌ، فَالِابْنُ شَرِيكٌ. وَإِنْ قُلْنَا: أَثَرٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَلَوْ كَانَ أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ،

رَجَعَ الْأَبُ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لَهُ قَلْعُ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ مَجَّانًا، لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْإِبْقَاءِ بِأُجْرَةٍ، أَوِ التَّمَلُّكِ بِالْقِيمَةِ، أَوِ الْقِلْعِ. وَغَرَامَةُ النَّقْصِ كَالْعَارِيَّةِ. وَلَوْ وَطِئَ الِابْنُ الْمَوْهُوبَةَ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا رُجُوعَ وَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ، لِأَنَّهَا حَرُمَتْ عَلَى الْأَبِ، وَالصَّحِيحُ: ثُبُوتُ الرُّجُوعِ. فَرْعٌ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الرُّجُوعُ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: رَجَعْتُ فِيمَا وَهَبْتُ، أَوِ ارْتَجَعْتُ، أَوِ اسْتَرْدَدْتُ الْمَالَ، أَوْ رَدَدْتُهُ إِلَى مِلْكِي، أَوْ أَبْطَلْتُ الْهِبَةَ، أَوْ نَقَضْتُهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي «الْجُرْجَانِيَّاتِ» وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ نَقْضٌ، وَإِبْطَالٌ لِلْهِبَةِ، أَمْ لَا؟ فَعَلَى الثَّانِي: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ لَفْظُ النَّقْضِ، وَالْإِبْطَالِ، إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ كِنَايَةً عَنِ الْمَقْصُودِ. وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ هَذَا، أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرُّجُوعُ، صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ فَالصَّرِيحُ: رَجَعْتُ. وَالْكِنَايَةُ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، كَأَبْطَلْتُ الْهِبَةَ، وَفَسَخْتُهَا. فَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِلَفْظٍ، لَكِنْ بَاعَ الْمَوْهُوبَ، أَوْ وَهَبَهُ لِآخَرَ، أَوْ وَقَفَهُ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: لَا يَكُونُ رُجُوعًا. وَالثَّانِي: رُجُوعٌ وَيُنَفَّذُ التَّصَرُّفُ. وَالثَّالِثُ: رُجُوعٌ فَلَا يُنَفَّذُ التَّصَرُّفُ. وَلَوْ أَتْلَفَ الطَّعَامَ الْمَوْهُوبَ، أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ، أَوْ وَطِئَ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: رُجُوعٌ. وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ: أَنَّهُ إِنْ أَحْبَلَهَا بِالْوَطْءِ وَحَصَلَ الِاسْتِيلَادُ، كَانَ رُجُوعًا، وَإِلَّا، فَلَا. فَعَلَى الْأَصَحِّ: يَلْزَمُهُ بِالْإِتْلَافِ الْقِيمَةُ وَيَلْغُو الْإِعْتَاقُ، وَعَلَيْهِ بِالْوَطْءِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَبِاسْتِيلَادٍ الْقِيمَةُ. قُلْتُ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ عَلَى الْأَبِ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الرُّجُوعَ، كَذَا

قَالَهُ الْإِمَامُ، لِاسْتِحَالَةِ إِبَاحَةِ الْوَطْءِ لِشَخْصَيْنِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُتَّهِبَ يَسْتَبِيحُ الْوَطْءَ قَبْلَ الرُّجُوعِ. لَكِنْ إِذَا جَرَى وَطْءُ الْأَبِ الْحَرَامُ، هَلْ يَتَضَمَّنُ الرَّجْوعَ؟ فِيهِ الْخِلَافُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَوْهُوبَ، أَوْ خَلَطَ الطَّعَامَ بِطَعَامِ نَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، بَلْ هُوَ كَمَا لَوْ فَعَلَ الْغَاصِبُ ذَلِكَ. فَرْعٌ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ حَيْثُ يَثْبُتُ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي. وَإِذَا رَجَعَ وَلَمْ يَسْتَرِدَّ الْمَالَ، فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَلَدِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَخَذَهُ عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ. فَرْعٌ لَوِ اتَّفَقَ الْوَاهِبُ وَالْمُتَّهِبُ عَلَى فَسْخِ الْهِبَةِ حَيْثُ لَا رُجُوعَ، فَهَلْ يَنْفَسِخُ كَمَا لَوْ تَقَايَلَا، أَمْ لَا كَالْخَلْعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ عَنِ «الْجُرْجَانِيَّاتِ» . قُلْتُ: لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إِلَّا مُنْجَزًا. فَلَوْ قَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَقَدْ رَجَعْتُ، لَمْ يَصِحَّ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: لِأَنَّ الفُسُوخَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي الثَّوَابِ، قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْهِبَةَ مُقَيَّدَةٌ بِنَفْيِ الثَّوَابِ، وَإِثْبَاتِهِ، وَمُطْلَقَةٌ، وَمَضَى الْكَلَامُ فِي الْمُقَيَّدَةِ، وَفَرَّعْنَاهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ صِحَّتُهَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ إِذَا أَوْجَبْنَا الثَّوَابَ فِي الْمُطْلَقَةِ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهِيَ الْمُطْلَقَةُ، فَيَنْظُرُ، إِنْ وَهَبَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى، فَلَا ثَوَابَ، وَفِي عَكْسِهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا ثَوَابَ. وَالثَّانِي: يَجِبُ الثَّوَابُ، فَعَلَى هَذَا، هَلْ [هُوَ] قَدْرُ قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ، أَمْ مَا يَرْضَى بِهِ الْوَاهِبُ، أَمْ مَا يُعَدُّ ثَوَابًا لِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ، أَمْ يَكْفِي مَا يَتَمَوَّلُ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. وَقِيلَ: أَقْوَالٍ. أَصَحُّهَا: أَوَّلُهَا، وَالْخِيَارُ فِي جِنْسِهِ إِلَى الْمُتَّهِبِ. فَعَلَى الْأَصَحِّ، لَوِ اخْتَلَفَ قَدْرُ الْقِيمَةِ، فَالِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ يَوْمِ الْقَبْضِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: بِيَوْمِ بَذْلِ الثَّوَابِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَثِبْ مَا يَصْلُحُ ثَوَابًا، فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ إِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ بِحَالِهِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُجْبَرُ الْمُتَّهِبُ عَلَى الثَّوَابِ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ زَادَ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً، رَجَعَ فِيهِ دُونَهَا. وَإِنْ زَادَ مُتَّصِلَةً، رَجَعَ فِيهِ مَعَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لِلْمُتَّهِبِ إِمْسَاكُهُ وَبَذْلُ قِيمَتِهِ بِلَا زِيَادَةٍ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ فِي الْقَدِيمِ. أَصَحُّهُمَا: يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ. وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ لَهُ كَالْأَبِ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ. وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، رَجَعَ فِيهِ. وَفِي تَغْرِيمِهِ الْمُتَّهِبَ أَرْشَ النُّقْصَانِ الْوَجْهَانِ. وَقِيلَ: لَهُ تَرْكُ الْعَيْنِ وَالْمُطَالَبَةُ بِكَمَالِ الْقِيمَةِ. قُلْتُ: وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً قَدْ وَطِئَهَا الْمُتَّهِبُ، رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا، وَلَا مَهْرَ عَلَى الْمُتَّهِبِ، لِأَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إِذَا وَهَبَ لِنَظِيرِهِ، فَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنْ لَا ثَوَابَ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي هِبَةِ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى، وَهُوَ شَاذٌّ. قُلْتُ: وَحَكَى صَاحِبُ «الْإِبَانَةِ» ، وَ «الْبَيَانِ» وَجْهًا أَنَّهُ إِذَا وَهَبَ لِنَظِيرِهِ وَنَوَى الثَّوَابَ،

اسْتَحَقَّهُ، وَإِلَّا، فَقَوْلَانِ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي النِّيَّةِ، فَأَيُّهُمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟ وَجْهَانِ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الثَّوَابُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِذَا لَمْ يَجِبْ فَأَعْطَاهُ الْمُتَّهِبُ ثَوْبًا، كَانَ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ هِبَةٍ. حَتَّى لَوْ وَهَبَ لِابْنِهِ فَأَعْطَاهُ الِابْنُ ثَوَابًا، لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الرُّجُوعِ، وَلَا يَجِبُ فِي الصَّدَقَةِ ثَوَابٌ بِكُلِّ حَالٍ قَطْعًا، صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَالْهِبَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَالْمُقَيَّدَةُ بِالثَّوَابِ، وَهُوَ إِمَّا مَعْلُومٌ، وَإِمَّا مَجْهُولٌ. فَالْحَالَةُ الْأُولَى: الْمَعْلُومُ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَيَبْطُلُ عَلَى قَوْلٍ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَهُوَ بَيْعٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: هِبَةٌ. فَإِنْ قُلْنَا: هِبَةٌ، لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ، وَالشُّفْعَةُ، وَلَمْ يَلْزَمْ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ. وَهَلْ تَثْبُتُ عَقِبَ الْعَقْدِ، أَمْ عَقِبَ الْقَبْضِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ وَهَبَهُ حُلِيًّا بِشَرْطِ الثَّوَابِ، أَوْ مُطْلَقًا وَقُلْنَا: الْهِبَةُ تَقْتَضِي الثَّوَابَ، فَنَصَّ فِي «حَرْمَلَةَ» أَنَّهُ إِنْ أَثَابَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِجِنْسِهِ، اعْتُبِرَتِ الْمُمَاثَلَةُ. وَإِنْ أَثَابَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ بِعَرَضٍ، صَحَّ، وَبِالنَّقْدِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ صَرْفٌ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّا لَمْ نُلْحِقْهُ بِالْمُعَاوَضَاتِ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالْعِوَضِ، وَكَذَا سَائِرُ الشُّرُوطِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ هِبَةٌ. وَحَكَى الْإِمَامُ الْأَوَّلُ عَنِ الْأَصْحَابِ، وَأَبْدَى الثَّانِي احْتِمَالًا. وَخَرَجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَا إِذَا وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ بِثَوَابٍ مَعْلُومٍ. فَإِنْ جَعَلْنَا الْعَقْدَ بَيْعًا، فَلَا رُجُوعَ، وَإِلَّا، فَلَهُ الرُّجُوعُ. وَإِذَا وَجَدَ بِالثَّوَابِ عَيْبًا، وَهُوَ فِي الذِّمَّةِ، طَالَبَ بِسَلِيمٍ. وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، رَجَعَ إِلَى عَيْنِ الْمَوْهُوبِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِلَّا، طَالَبَ بِبَدَلِهِ. وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ مَجِيءَ الْخِلَافِ أَنَّهُ بَيْعٌ أَمْ هِبَةٌ هُنَا، حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَإِنْ طَرَدَهُ بَعْضُهُمْ. وَإِذَا جَعَلْنَاهُ هِبَةً، فَكَافَأَهُ بِدُونِ الْمَشْرُوطِ إِلَّا أَنَّهُ قَرِيبٌ، فَفِي

«شَرْحِ ابْنِ كَجٍّ» وَجْهَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ مُسَامَحَةٌ؟ قُلْتُ: وَالْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ: لَا يُجْبَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الثَّوَابُ مَجْهُولًا، فَإِنْ قُلْنَا: الْهِبَةُ لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا، بَطَلَ الْعَقْدُ، لِتَعَذُّرِ تَصْحِيحِهِ بَيْعًا وَهِبَةً، وَإِنْ قُلْنَا: تَقْتَضِيهِ، صَحَّ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِوَضَ يَلْحَقُهُ بِالْبَيْعِ. فَرْعٌ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِاثْنَيْنِ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، فَأَثَابَهُ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، لَمْ يَرْجِعْ فِي حِصَّةِ الْمُثِيبِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَثَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ صَاحِبِهِ وَرَضِيَ بِهِ الْوَاهِبُ، لَمْ يَرْجِعِ الْوَاهِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ثُمَّ إِنْ أَثَابَ بِغَيْرِ إِذْنِ الشَّرِيكِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَثَابَ بِإِذْنِهِ، رَجَعَ بِالنِّصْفِ إِنْ أَثَابَ مَا يَعْتَادُ ثَوَابًا لِمِثْلِهِ. فَإِنْ زَادَ، فَمُتَطَوِّعٌ بِالزِّيَادَةِ. فَرْعٌ خَرَجَ الْمَوْهُوبُ مُسْتَحِقًّا بَعْدَ الثَّوَابِ، رَجَعَ بِمَا أَثَابَ عَلَى الْوَاهِبِ. وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ مُسْتَحِقًّا، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَاهِبِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ وَيَرْجِعَ بِجَمِيعِ الثَّوَابِ. وَقِيلَ: تَبْطُلُ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ. وَقِيلَ: لَا يَجِيءُ قَوْلُ الْإِبْطَالِ هُنَا.

فصل

فَرْعٌ قَالَ: وَهَبْتُكَ بِبَدَلٍ، فَقَالَ: بِلَا بَدَلٍ، وَقُلْنَا: مُطْلَقُ الْهِبَةِ لَا يَقْتَضِي ثَوَابًا، فَهَلِ الْمُصَدِّقُ الْوَاهِبُ، أَمِ الْمُتَّهِبُ؟ وَجْهَانِ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ. قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ هِبَةُ مَنَافِعِ الدَّارِ، هَلْ هِيَ إِعَارَةٌ؟ لَهَا وَجْهَانِ فِي «الْجُرْجَانِيَّاتِ» ، وَلَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ الْفَاسِدَةِ. وَهَلِ الْمَقْبُوضُ بِهَا مَضْمُونٌ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ؟ أَمْ لَا، كَالْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ؟ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا ضَمَانَ، وَهُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي «النِّهَايَةِ» ، وَ «الْعُدَّةِ» ، وَ «الْبَحْرِ» وَ «الْبَيَانِ» ، ذَكَرُوهُ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَإِذَا حَكَمْنَا بِفَسَادِ الْهِبَةِ، فَسَلَّمَ الْمَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هِبَةٌ، فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ فَسَادَ الْأُولَى، صَحَّتِ الثَّانِيَةُ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَنْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ فَكَانَ مَيِّتًا. وَهَذِهِ مَسَائِلُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْكِتَابِ. إِحْدَاهَا: قَالَ لِرَجُلٍ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ أُرِدِ الْهِبَةَ، قَالَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : يُقْبَلُ قَوْلُهُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْعَارِيَّةِ، فَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي الْهِبَةِ.

الثَّانِيَةُ: قَالَ: مَنَحْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوِ الثَّوْبَ، فَقَالَ: قَبِلْتُ، وَأَقْبِضُهُ، فَهُوَ هِبَةٌ، قَالَهُ فِي «الْعُدَّةِ» . الثَّالِثَةُ: فِي «فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ» : لَوْ كَانَ فِي يَدِ ابْنِ الْمَيِّتِ عَيْنٌ، فَقَالَ: وَهَبَنِيهَا أَبِي وَأَقْبَضَنِيهَا فِي الصِّحَّةِ، فَأَقَامَ بَاقِي الْوَرَثَةِ بَيِّنَةً بِأَنَّ الْأَبَ رَجَعَ فِيمَا وَهَبَ لِابْنِهِ، وَلَمْ تَذْكُرِ الْبَيِّنَةُ مَا رَجَعَ فِيهِ، لَا تَنْتَزِعُ مِنْ يَدِهِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ لَيْسَتْ مِنَ الْمَرْجُوعِ فِيهِ. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا، لَوْ وَهَبَ وَأَقْبَضَ وَمَاتَ، فَادَّعَى الْوَارِثُ كَوْنَ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ، وَادَّعَى الْمُتَّهِبُ كَوْنَهُ فِي الصِّحَّةِ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُتَّهِبِ. الرَّابِعَةُ: دَفَعَ إِلَيْهِ ثَوْبًا بِنِيَّةِ الصَّدَقَةِ، فَأَخَذَهُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ ظَانًّا أَنَّهُ وَدِيعَةٌ، أَوْ عَارِيَّةٌ، فَرَدَّهُ عَلَى الدَّافِعِ، لَا يَحِلُّ لِلدَّافِعِ قَبْضُهُ، لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِنِيَّةِ الدَّافِعِ. فَإِنْ قَبَضَهُ، لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. الْخَامِسَةُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَعُقُوقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمٌ مَعْدُودٌ مِنَ الْكَبَائِرِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ مَأْمُورٌ بِهَا، فَأَمَّا بِرُّهُمَا، فَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا، وَفِعْلُ الْجَمِيلِ مَعَهُمَا، وَفِعْلُ مَا يَسُرُّهُمَا مِنَ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِحْسَانُ إِلَى صَدِيقِهِمَا، فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ. وَأَمَّا الْعُقُوقُ، فَهُوَ كُلُّ مَا أَتَى بِهِ الْوَلَدُ مِمَّا يَتَأَذَّى [بِهِ] الْوَالِدُ، أَوْ نَحْوُهُ تَأَذِّيًا لَيْسَ بِالْهَيِّنِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقِيلَ: تَجِبُ طَاعَتُهُمَا فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَتَجِبُ طَاعَتُهُمَا فِي الشُّبُهَاتِ.

وَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ هَذَا فِي «الْإِحْيَاءِ» عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَوْ أَكْثَرِهِمْ. وَأَمَّا صِلَةُ الرَّحِمِ، فَفِعْلُكَ مَعَ قَرِيبِكَ مَا تُعَدُّ بِهِ وَاصِلًا غَيْرَ مُنَافِرٍ وَمُقَاطِعٍ لَهُ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ تَارَةً بِالْمَالِ، وَتَارَةً بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَوْ خِدْمَتِهِ أَوْ زِيَارَتِهِ. وَفِي حَقِّ الْغَائِبِ بِنَحْوِ هَذَا، وَبِالْمُكَاتَبَةِ وَإِرْسَالِ السَّلَامِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. السَّادِسَةُ: الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، مُسْتَحَبٌّ اسْتِحْبَابًا مُتَأَكِّدًا، وَيُكْرَهُ إِخْلَافُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَدَلَائِلُهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» فِيهِ بَابًا، وَبَيَّنْتُ فِيهِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب اللقطة

كِتَابُ اللُّقَطَةِ فِيهِ بَابَانِ. [الْبَابُ] الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ. [الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ: الِالْتِقَاطُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى: فِي وُجُوبِ الِالْتِقَاطِ أَرْبَعَةُ طُرُقٍ أَصَحُّهَا وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ كَالِاسْتِيدَاعِ. وَالثَّانِي يَجِبُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: إِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ضَيَاعُهَا، بِأَنْ تَكُونَ فِي مَمَرِّ الْفُسَّاقِ وَالْخَوَنَةِ، وَجَبَ الِالْتِقَاطُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ لَا يَثِقُ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَجِبْ قَطْعًا. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَمَانَةُ نَفْسِهِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. وَالرَّابِعُ: لَا يَجِبُ مُطْلَقًا. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ، فَإِنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ، فَفِي الِاسْتِحْبَابِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا ثُبُوتُهُ. وَإِنْ لَمْ يَثِقْ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَالِ مِنَ الْفَسَقَةِ، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الِالْتِقَاطُ قَطْعًا. قَالَهُ الْإِمَامُ. وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ فِي الْجَوَازِ وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: ثُبُوتُهُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا بِوُجُوبِ الِالْتِقَاطِ، أَوْ عَدَمِهِ، فَلَا يَضْمَنُ اللُّقَطَةَ بِالتَّرْكِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ فِي يَدِهِ. هَذَا حُكْمُ الْأَمِينِ، أَمَّا الْفَاسِقُ، فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ الِالْتِقَاطُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: إِنْ عَلِمَ الْخِيَانَةَ، حَرُمَ الِالْتِقَاطُ، وَقَوْلُهُ فِي «الْوَسِيطِ» : الْفَاسِقُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ، فَمُخَالِفٌ لِمَا أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْكَرَاهَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقَطَةِ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ قَطْعًا. ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِشْهَادِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: يَشْهَدُ عَلَى أَصْلِهَا دُونَ صِفَاتِهَا، لِئَلَّا يَتَوَصَّلَ كَاذِبٌ

إِلَيْهَا. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ جِنْسَهَا. وَالثَّانِي: يَشْهَدُ عَلَى صِفَاتِهَا أَيْضًا، حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا يَتَمَلَّكُهَا الْوَارِثُ، وَيَشْهَدُ الشُّهُودُ لِلْمَالِكِ. وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى تَوَسُّطٍ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوْعِبُ الصِّفَاتِ، بَلْ يَذْكُرُ بَعْضَهَا لِيَكُونَ فِي الْإِشْهَادِ فَائِدَةٌ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ سَاقِطٌ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ ذِكْرِ تَمَامِ الْأَوْصَافِ، لَا نَرَاهُ يَنْتَهِي إِلَى التَّحْرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُلْتَقَطُ وَبِنَاءُ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ اللُّقَطَةَ فِيهَا مَعْنَى الْأَمَانَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالِاكْتِسَابِ، فَالْأَمَانَةُ وَالْوِلَايَةُ أَوَّلًا، وَالِاكْتِسَابُ آخِرًا بَعْدَ التَّعْرِيفِ. وَهَلِ الْمُغَلَّبُ الْأَمَانَةُ وَالْوِلَايَةُ لِأَنَّهَا نَاجِزَةٌ، أَمِ الِاكْتِسَابُ لِأَنَّهُ مَقْصُودُهُ وَلَا يَسْتَقِلُّ الْآحَادُ بِالْأَمَانَاتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ أَرْبَعُ صِفَاتٍ: الْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْأَمَانَةُ، وَالتَّكْلِيفُ، فَلَهُ أَنْ يَلْتَقِطَ وَيَعْرِفَ وَيَتَمَلَّكَ، لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْأَمَانَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالِاكْتِسَابِ، وَإِلَّا، فَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: يُمَكَّنُ الذِّمِّيُّ مِنَ الِالْتِقَاطِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: قَطْعًا، كَالِاصْطِيَادِ، وَالِاحْتِطَابِ، وَرُبَّمَا شُرِطَ فِيهِ عَدَالَتُهُ فِي دِينِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الِالْتِقَاطُ فَالْتَقَطَ، أَخَذَهُ الْإِمَامُ مِنْهُ وَحَفِظَهُ إِلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ كَالْتِقَاطِ الْفَاسِقِ. قَالَ: وَالْمُرْتَدُّ إِنْ قُلْنَا: يَزُولُ مِلْكُهُ، انْتُزِعَتِ اللُّقَطَةُ مِنْهُ، كَمَا لَوِ احْتَطَبَ، يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ، فَكَالْفَاسِقِ يَلْتَقِطُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَزَلْنَا مِلْكَهُ، فَمَا يَحْتَطِبُهُ يُنْتَزَعُ وَيَكُونُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ فَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ كَذَلِكَ، فَقِيَاسُهُ أَنْ يَجُوزَ لِلْإِمَامِ ابْتِدَاءُ الِالْتِقَاطِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَلِبَيْتِ الْمَالِ، وَأَنْ يَجُوزَ لِلْوَلِيِّ الِالْتِقَاطُ لِلصَّبِيِّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ، فَهُوَ بِالذِّمِّيِّ أَشْبَهُ [مِنْهُ] مِنَ الْفَاسِقِ، فَلْيَكُنْ كَالْتِقَاطِ الذِّمِّيِّ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي.

الثَّانِيَةُ: الْفَاسِقُ أَهْلٌ لِلِالْتِقَاطِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ. وَعَنِ الْقَفَّالِ، تَخْرِيجُهُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، إِنْ غَلَّبْنَا الِاكْتِسَابَ، فَنَعَمْ، أَوِ الْأَمَانَةَ، فَلَا، وَمَا يَأْخُذُهُ مَغْصُوبٌ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ، هَلْ يُقَرُّ الْمَالُ فِي يَدِهِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا، بَلْ يُنْتَزَعُ مِنْهُ وَيُوضَعُ عِنْدَ عَدْلٍ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَيُضَمُّ إِلَيْهِ عَدْلٌ يُشْرِفُ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يُضَمُّ إِلَيْهِ أَحَدٌ. وَسَوَاءٌ قُلْنَا: يُنْتَزَعُ أَوْ يُضَمُّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ، فَفِي التَّعْرِيفِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يُعْتَمَدُ وَحْدَهُ، بَلْ يُضَمُّ إِلَيْهِ نَظَرُ الْعَدْلِ، وَمُرَاقَبَتُهُ. وَالثَّانِي: يَكْفِي تَعْرِيفُهُ. ثُمَّ إِذَا تَمَّ التَّعْرِيفُ، فَلِلْمُلْتَقِطِ التَّمَلُّكُ. الثَّالِثَةُ: الْتِقَاطُ الْعَبْدِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: الْتِقَاطٌ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ السَّيِّدُ وَلَا نَهَى عَنْهُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَصِحُّ، وَالثَّانِي: كَاحْتِطَابِهِ، وَيَكُونُ الْحَاصِلُ لِسَيِّدِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ، لَمْ يُعْتَدَّ بِتَعْرِيفِهِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ الْتِقَاطَهُ، فَالْمَالُ مَضْمُونٌ فِي يَدِ الْعَبْدِ، وَالضَّمَانُ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ، سَوَاءٌ أَتْلَفَهُ، أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطٍ، أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، كَالْمَغْصُوبِ. وَإِنْ عَلِمَ، فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِهِ. وَلِهَذَا مُقَدِّمَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَخَذَ الْمَغْصُوبَ مِنَ الْغَاصِبِ لِيَحْفَظَهُ لِلْمَالِكِ، هَلْ يَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنَ الضَّمَانِ؟ وَجْهَانِ. أَقْيَسُهُمَا: الْبَرَاءَةُ، لِأَنَّ يَدَ الْقَاضِي نَائِبَةٌ عَنْ يَدِ الْمَالِكِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْرَأُ، فَلِلْقَاضِي أَخْذُهُ مِنْهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَبْرَأُ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُعَرَّضًا لِلضَّيَاعِ، وَالْغَاصِبِ بِحَيْثُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُفْلِسَ، أَوْ يُغَيِّبَ وَجْهَهُ، فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَأْخُذُ، فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمَالِكِ. وَالثَّانِي: يَأْخُذُ نَظَرًا لَهُمَا جَمِيعًا. وَلَيْسَ لِآحَادِ النَّاسِ أَخْذُ الْمَغْصُوبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَرَّضًا لِلضَّيَاعِ، وَلَا الْغَاصِبِ بِحَيْثُ تَفُوتُ مُطَالَبَتُهُ ظَاهِرًا. وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ النَّائِبُ عَنِ النَّاسِ، وَلِأَنَّهُ

قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ احْتِسَابًا وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ أَخَذَهُ ضَمِنَهُ، وَكَانَ كَغَاصِبٍ مِنْ غَاصِبٍ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ، وَبَرَاءَةُ الْغَاصِبِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَبْرَأَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ هُنَاكَ قَاضٍ يُمْكِنُ رَفْعُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ، وَإِلَّا، فَيَجُوزُ. إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَقَالَ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ: إِذَا أَخَذَ السَّيِّدُ اللُّقَطَةَ مِنَ الْعَبْدِ كَانَ أَخْذُهُ الْتِقَاطًا، لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ إِذَا لَمْ تَكُنْ يَدَ الْتِقَاطٍ، كَانَ الْحَاصِلُ فِي يَدِهِ ضَائِعًا بَعْدُ، وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنِ الْعَبْدِ لِوُصُولِهِ إِلَى نَائِبِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ كُلَّ أَهْلٍ لِلِالْتِقَاطِ كَأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ. وَبِمِثْلِهِ قَالُوا فِيمَا لَوْ أَخَذَهُ أَجْنَبِيٌّ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ جَعَلَ أَخْذَ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ تَعَلَّقَ صَيْدٌ بِشَبَكَةِ رَجُلٍ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ، وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ أَخْذَ السَّيِّدِ الْتِقَاطٌ، لِأَنَّ الْعَبْدَ ضَامِنٌ بِالْأَخْذِ. وَلَوْ كَانَ أَخْذُ السَّيِّدِ الْتِقَاطًا، لَسَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ، فَيَتَضَرَّرُ [بِهِ] الْمَالِكُ، وَهَذَا وَجْهٌ ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالْمُتَوَلِّي، وَحَكَيَا تَفْرِيعًا عَلَيْهِ أَنَّ السَّيِّدَ يَنْتَزِعُهُ مِنْ يَدِهِ، وَيُسَلِّمُهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَحْفَظَهُ لِمَالِكِهِ أَبَدًا. وَأَمَّا الْإِمَامُ فَقَالَ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْتِقَاطٍ، فَأَرَادَ أَخْذَهُ بِنَفَسِهِ وَحِفْظَهُ لِمَالِكِهِ، فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى أَخْذِ الْآحَادِ الْمَغْصُوبِ لِلْحِفْظِ، وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ سَاعٍ لِنَفْسِهِ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ. ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ حُصُولُ الْبَرَاءَةِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَإِنِ اسْتَدْعَى مِنَ الْحَاكِمِ انْتِزَاعُهُ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ أَوْلَى بِأَنْ يُزِيلَ الْحَاكِمُ فِيهَا الْيَدَ الْعَادِيَةَ. وَإِذَا أَزَالَ، فَأَوْلَى أَنْ تَحْصُلَ [الْبَرَاءَةُ] لِتَعَلُّقِ غَرَضِ السَّيِّدِ بِالْبَرَاءَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى عُدْوَانٍ حَتَّى يَغْلُظَ عَلَيْهِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقِرَّهُ فِي يَدِهِ، وَيَسْتَحْفِظَهُ عَلَيْهِ لِيَعْرِفَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ أَمِينًا، فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْإِقْرَارِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ وَرَدَّهُ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ أَمِينًا، جَازَ،

كَمَا لَوِ اسْتَعَانَ بِهِ فِي تَعْرِيفِ مَا الْتَقَطَهُ بِنَفْسِهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَهُ: الْمَنْعُ. وَقِيَاسُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ سُقُوطُهُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَأْخُذَهُ وَلَا يُقِرَّهُ، بَلْ يُهْمِلُهُ وَيُعْرِضُ عَنْهُ. فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الضَّمَانَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ كَمَا كَانَ، وَلَا يُطَالِبُ بِهِ السَّيِّدُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهُ لَا تَعَدِّيَ مِنْهُ، وَلَا أَثَرَ لِعِلْمِهِ، كَمَا لَوْ رَأَى عَبْدَهُ يُتْلِفُ مَالًا فَلَمْ يَمْنَعْهُ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ تَعَلُّقَهُ بِالْعَبْدِ، وَبِجَمِيعِ أَمْوَالِ السَّيِّدِ. وَعَكَسَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، فَنَسَبَا الْأَوَّلَ إِلَى الرَّبِيعِ، وَالثَّانِيَ إِلَى الْمُزَنِيِّ. وَالصَّوَابُ الْمُعْتَمَدُ، مَا سَبَقَ ثُمَّ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ طُرُقٍ. أَصَحُّهَا وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: تَعَلُّقُهُ بِالْعَبْدِ، وَسَائِرِ أَمْوَالِ السَّيِّدِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ، لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ. وَلَوْ أَفْلَسَ السَّيِّدُ، قُدِّمَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ فِي الْعَبْدِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ. وَمَنْ قَالَ بِهِ، لَمْ يُسَلِّمْ عَدَمَ وُجُوبِ الضَّمَانِ إِذَا رَأَى عَبْدَهُ يُتْلِفُ مَالًا فَلَمْ يَمْنَعْهُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: حَمْلُ نَقْلِ الْمُزَنِيِّ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُمَيِّزًا، وَنَقْلِ الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِ الْمُمَيِّزِ. وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِنَقْلِ الْمُزَنِيِّ فِي النَّقْلِ. وَالرَّابِعُ: الْقَطْعُ بِنَقْلِ الرَّبِيعِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَغَلَّطُوا الْمُزَنِيَّ فِي النَّقْلِ هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ، صَحَّ تَعْرِيفُهُ، وَلَيْسَ لَهُ التَّعْرِيفُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَهُ التَّمَلُّكُ لِلسَّيِّدِ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ كَاتِّهَابِهِ وَشِرَائِهِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ قِيلَ: لَا يَصِحُّ تَعْرِيفُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ. وَالصَّحِيحُ صِحَّتُهُ كَالِالْتِقَاطِ. قَالَ الْإِمَامُ: لَكِنْ إِنْ قُلْنَا: انْقِضَاءُ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ تُوجِبُ الْمِلْكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَصِحُّ تَعْرِيفُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَصِحُّ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ، كَمَا لَا يَثْبُتُ إِذَا عَرَّفَ مَنْ قَصَدَ الْحِفْظَ. ثُمَّ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ السَّيِّدُ بِالِالْتِقَاطِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَالْمَالُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْعَبْدِ، لَكِنْ لَوْ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ التَّعْرِيفِ، فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْحُرِّ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ التَّعْرِيفِ. وَلَوْ أَتْلَفَهُ الْعَبْدُ بَعْدَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، أَوْ تَمَلَّكَهُ لِنَفْسِهِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِذِمَّتِهِ كَمَا لَوِ اقْتَرَضَ فَاسِدًا وَأَتْلَفَهُ، أَمْ بِرَقَبَتِهِ كَالْمَغْصُوبِ؟ وَجْهَانِ. وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي «الْفُرُوقِ» ،

وَلَوْ أَتْلَفَهُ فِي الْمُدَّةِ، أَوْ تَلِفَ بِتَقْصِيرِهِ، فَالْمَذْهَبُ تَعَلُّقُ الضَّمَانِ بِرَقَبَتِهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّهُ خِيَانَةٌ مَحْضَةٌ، إِذْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ التَّمَلُّكِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ. وَقِيلَ: فِي تَعَلُّقِهِ بِالرَّقَبَةِ، أَوِ الذِّمَّةِ قَوْلَانِ. وَإِنْ عَلِمَ بِهِ السَّيِّدُ، فَلَهُ أَخْذُهُ كَأَكْسَابِهِ، ثُمَّ يَكُونُ كَالْتِقَاطِهِ بِنَفْسِهِ. فَإِنْ شَاءَ حَفِظَهُ لِمَالِكِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَرَّفَ وَتَمَلَّكَ. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَرَّفَ بَعْضَ الْمُدَّةِ، احْتَسَبَ [بِهِ] وَبَنَى عَلَيْهِ. وَإِنْ أَقَرَّهُ فِي يَدِهِ وَهُوَ خَائِنٌ، ضَمِنَ السَّيِّدُ بِإِبْقَائِهِ فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ أَمِينًا، جَازَ، ثُمَّ إِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهَا، فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ فِي التَّمَلُّكِ فَتَمَلَّكَ، لَمْ يَخْفَ الْحُكْمُ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِالسَّيِّدِ، لِإِذْنِهِ فِي سَبَبِ الضَّمَانِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي اسْتِيَامِ شَيْءٍ فَأَخَذَهُ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ. وَالثَّانِي: [لَا] كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْغَصْبِ فَغَصَبَ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ أَيْضًا بِذِمَّةِ الْعَبْدِ، فَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ كَمَا يُطَالَبُ بِهِ السَّيِّدُ فِي الْحَالِ، وَعَلَى الثَّانِي، يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِ السَّيِّدِ. وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الضَّامِنُ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ، أَمْ بِرَقَبَتِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّيِّدِ قَطْعًا. فَإِنْ أَتْلَفَهُ الْعَبْدُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. فَرْعٌ قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : الْقَوْلَانِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فِيمَا إِذَا نَوَى الِالْتِقَاطَ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ نَوَى لِسَيِّدِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُطْرَدَ الْقَوْلَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْطَعَ بِالصِّحَّةِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْقَوْلَانِ إِذَا الْتَقَطَ لِيَدْفَعَ إِلَى سَيِّدِهِ. فَإِنْ قَصَدَ نَفْسَهُ، فَلَيْسَ لَهُ الِالْتِقَاطُ قَطْعًا، بَلْ هُوَ مُتَعَدٍّ، وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْتِقَاطٌ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، بِأَنْ يَقُولَ: مَتَى وَجَدْتَ لُقَطَةً فَخُذْهَا، وَائْتِنِي بِهَا، فَطَرِيقَانِ. قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُفِيدُهُ أَهْلِيَّةُ الْوِلَايَةِ.

وَقَطَعَ غَيْرُهُ بِالصِّحَّةِ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْإِمَامِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي قَبُولِ الْوَدِيعَةِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الِاكْتِسَابِ مُطْلَقًا، فَفِي دُخُولِ الِالْتِقَاطِ وَجْهَانِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: الْتِقَاطٌ نَهَاهُ عَنْهُ السَّيِّدُ، فَقَطَعَ الْإِصْطَخْرِيُّ بِالْمَنْعِ، وَطَرَدَ غَيْرُهُ الْقَوْلَيْنِ. قُلْتُ: طَرِيقَةُ الْإِصْطَخْرِيِّ أَقْوَى، وَلَكِنَّ سَائِرَ الْأَصْحَابِ عَلَى طَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، قَالَهُ صَاحِبُ «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا الْتَقَطَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ، فَإِنْ صَحَّحْنَا الْتِقَاطَهُ، فَهِيَ كَسْبُ عَبْدِهِ يَأْخُذُهَا السَّيِّدُ وَيُعَرِّفُهَا، وَيَتَمَلَّكُهَا. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَرَّفَ، اعْتُدَّ بِهِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَلِ السَّيِّدُ أَحَقُّ نَظَرًا إِلَى وَقْتِ الِالْتِقَاطِ، أَمِ الْعَبْدُ نَظَرًا إِلَى وَقْتِ التَّمَلُّكِ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحِ الْتِقَاطَهُ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لِلسَّيِّدِ حَقُّ التَّمَلُّكِ إِذَا قُلْنَا: لِلسَّيِّدِ التَّمَلُّكُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا. فَعَلَى هَذَا، هَلْ لِلْعَبْدِ تَمَلُّكُهَا وَكَأَنَّهُ الْتَقَطَ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، أَمْ يَجِبُ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. فَرْعٌ فِي الْتِقَاطِ الْمُكَاتَبِ طُرُقٌ. أَحَدُهَا: الصِّحَّةُ قَطْعًا. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ قَطْعًا، بِخِلَافِ الْقِنِّ، فَإِنَّ السَّيِّدَ يَنْتَزِعُ مِنْهُ، وَلَا وِلَايَةَ لِلسَّيِّدِ عَلَى مَالِ الْمُكَاتَبِ مَعَ نُقْصَانِهِ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ كَالْعَبْدِ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ هُنَا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ،

صِحَّةُ الْتِقَاطِهِ. ثُمَّ الْمَذْهَبُ أَنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ فِي الْمُكَاتَبِ كِتَابَةٌ صَحِيحَةٌ. فَأَمَّا الْفَاسِدَةُ، فَكَالْقِنِّ قَطْعًا. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ فِي النَّوْعَيْنِ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ، تَفْرِيعًا عَلَى الْقَطْعِ بِالصِّحَّةِ، أَنَّ فِي إِبْقَاءِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ قَوْلَيْنِ كَمَا سَبَقَ فِي الْفَاسِقِ، وَكُتُبُهُمْ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ صَحَّحْنَا الْتِقَاطَ الْمُكَاتَبِ، عَرَّفَهَا وَتَمَلَّكَهَا وَيَكُونُ بَدَلُهَا فِي كَسْبِهِ. وَفِي تَقَدُّمِ الْمَالِكِ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَجْهَانِ فِي «أَمَالِي» أَبِي الْفَرَجِ الزَّازِ. وَإِذَا أُعْتِقَ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، أَتَمَّ التَّعْرِيفَ وَتَمَلَّكَ. وَإِنْ عَادَ إِلَى الرِّقِّ قَبْلَ تَمَامِ التَّعْرِيفِ، فَالْمَنْقُولُ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُهَا وَيَحْفَظُهَا لِلْمَالِكِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا وَتَمَلُّكُهَا، لِأَنَّ الْتِقَاطَ الْمُكَاتَبِ لَا يَقَعُ لِلسَّيِّدِ، فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْأَخْذُ، وَالتَّمَلُّكُ، لِأَنَّ الِالْتِقَاطَ اكْتِسَابٌ، وَأَكْسَابُ الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ. قَالَ: وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ، أَوِ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّعْرِيفِ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لِلسَّيِّدِ التَّعْرِيفُ، وَالتَّمَلُّكُ، كَمَا أَنَّ الْحُرَّ إِذَا الْتَقَطَ وَمَاتَ قَبْلَ التَّعْرِيفِ، يُعَرِّفُ الْوَارِثُ وَيَتَمَلَّكُ. وَإِذَا لَمْ نُصَحِّحِ الْتِقَاطَهُ فَالْتَقَطَ، صَارَ ضَامِنًا، وَلَا يَأْخُذُ السَّيِّدُ اللُّقَطَةَ مِنْهُ، بَلْ يَأْخُذُهَا الْقَاضِي وَيَحْفَظُهَا، هَكَذَا ذَكَرُوهُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: ذَكَرْتُمْ تَفْرِيعًا عَلَى مَنْعِ الْتِقَاطِ الْقِنِّ، أَنَّ لِلْأَجْنَبِيِّ أَخَذَهَا وَيَكُونُ مُلْتَقِطًا، وَلَمْ تَعْتَبِرُوا الْوِلَايَةَ، وَلَيْسَ السَّيِّدُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ بِأَدْنَى حَالًا مِنَ الْأَجْنَبِيِّ فِي الْقِنِّ. ثُمَّ إِذَا أَخَذَهَا الْحَاكِمُ بَرِئَ الْمُكَاتَبُ مِنَ الضَّمَانِ. ثُمَّ كَيْفَ الْحُكْمُ؟ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ يُعَرِّفُهَا، فَذًّا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ، تَمَلَّكَهَا الْمُكَاتَبُ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّمَلُّكُ، فَإِنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى فَسَادِ الِالْتِقَاطِ، لَكِنْ إِذَا [أَخَذَهَا] حَفِظَهَا إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا.

فَرْعٌ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ، هَلْ يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ قَطْعًا، أَمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَالْقِنِّ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي قَدْرِ الْحُرِّيَّةِ قَطْعًا، وَفِي الْبَاقِي الطَّرِيقَانِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَأَبْدَاهُ الشَّاشِيُّ احْتِمَالًا. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ، صِحَّةُ الْتِقَاطِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ، فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْأَخْذِ، ضَامِنٌ بِقَدْرِ الْحُرِّيَّةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَبِقَدْرِ الرِّقِّ فِي رَقَبَتِهِ. وَهَلْ يُنْتَزَعُ مِنْهُ، أَمْ يَبْقَى فِي يَدِهِ وَيُضَمُّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. أَصَحُّهُمَا: الِانْتِزَاعُ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يُسَلَّمُ إِلَى السَّيِّدِ، أَمْ يَحْفَظُهُ الْحَاكِمُ إِلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: الثَّانِي. فَإِنَّ سُلِّمَ إِلَى السَّيِّدِ، فَعَنْ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ: أَنَّ السَّيِّدَ يُعَرِّفُهُ وَيَتَمَلَّكُهُ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيِّدِ مُهَايَأَةٌ، فَاللُّقَطَةُ بَيْنَهُمَا يُعَرِّفَانِهَا وَيَتَمَلَّكَانِهَا بِحَسَبِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ كَشَخْصَيْنِ الْتَقَطَا مَالًا. وَقَالَ ابْنُ الْوَكِيلِ: يَخْتَصُّ بِهَا السَّيِّدُ كَلُقَطَةِ الْقِنِّ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ مُهَايَأَةٌ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ النَّادِرَ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ. وَمَيْلُ الْعِرَاقِيِّينَ وَالصَّيْدَلَانِيِّ هُنَاكَ إِلَى تَرْجِيحِ عَدَمِ الدُّخُولِ ثُمَّ أَنَّهُمْ مَعَ سَائِرِ الْأَصْحَابِ، كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى تَرْجِيحِ عَدَمِ الدُّخُولِ هُنَا، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . فَعَلَى هَذَا، إِنْ وَقَعَتِ اللُّقَطَةُ فِي نَوْبَةِ السَّيِّدِ، عَرَّفَهَا وَتَمَلَّكَهَا. وَإِنْ وَقَعَتْ فِي نَوْبَةِ الْعَبْدِ، عَرَّفَهَا وَتَمَلَّكَ. وَالِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ الِالْتِقَاطِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَأَشَارَ

الْإِمَامُ إِلَى وَجْهٍ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِوَقْتِ التَّمَلُّكِ. وَإِنْ قُلْنَا: النَّادِرُ لَا يَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُهَايَأَةً. قُلْتُ: وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ لَا يَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ، لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْمُدَبَّرُ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْقِنِّ فِي الِالْتِقَاطِ. لَكِنْ حَيْثُ حَكَمْنَا بِتَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِرَقَبَةِ الْقِنِّ، فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْتِقَاطَهَا، أَمْ لَا، لِأَنَّ جِنَايَتَهَا عَلَى السَّيِّدِ. وَفِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ سَيِّدُهَا، فَالضَّمَانُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِلَّا، فَفِي ذِمَّتِهَا، وَهَذَا لَمْ يُثْبِتْهُ الْأَصْحَابُ، وَقَالُوا: هَذَا سَهْوٌ مِنْ كَاتِبٍ، أَوْ غَلَطٌ مِنْ نَاقِلٍ، وَرُبَّمَا حَاوَلُوا تَأْوِيلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْتِقَاطُ الصَّبِيِّ، فِيهِ طَرِيقَانِ كَالْفَاسِقِ. وَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ كَاحْتِطَابِهِ وَاصْطِيَادِهِ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَلِيُّ، وَأَتْلَفَهُ الصَّبِيُّ، ضَمِنَ. وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أُودِعَ مَالًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ. وَتَسْلِيطُ الشَّرْعِ لَهُ عَلَى الِالْتِقَاطِ، كَتَسْلِيطِ الْمُودِعِ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ لِضَعْفِ أَهْلِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ فِي يَدِهِ. فَإِنْ عَلِمَ بِهِ الْوَلِيُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يَدِهِ، وَيُعَرِّفَهُ. ثُمَّ إِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي تَمَلُّكِهِ لِلصَّبِيِّ، جَازِ حَيْثُ يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: عِنْدِي يَجُوزُ التَّمَلُّكُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الِاقْتِرَاضُ، لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُلْحَقٌ بِالِاكْتِسَابِ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، كَمَا هُوَ شُذُوذٌ عَنِ الْأَصْحَابِ، فَهُوَ ضَعِيفٌ دَلِيلًا، فَإِنَّهُ اقْتِرَاضٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ لَمْ يَرَ التَّمَلُّكَ لَهُ، حَفِظَهُ أَمَانَةً، أَوْ سَلَّمَهُ إِلَى الْقَاضِي. وَإِذَا احْتَاجَ التَّعْرِيفُ إِلَى مُؤْنَةٍ، لَمْ يَصْرِفْهَا مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ، بَلْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيَبِيعَ جُزْءًا مِنَ اللُّقَطَةِ لِمُؤْنَةِ التَّعْرِيفِ. وَيَجِيءُ وَجْهٌ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْتِقَاطِ الشَّاةِ: أَنَّهُ يَبِيعُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ. وَلَوْ تَلِفَتِ اللُّقَطَةُ فِي يَدِ الصَّبِيِّ قَبْلَ الِانْتِزَاعِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ قَصَّرَ الْوَلِيُّ بِتَرْكِهَا فِي يَدِهِ حَتَّى تَلِفَتْ، أَوْ أَتْلَفَهَا، لَزِمَ الْوَلِيَّ الضَّمَانُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَشَبَّهُوهُ بِمَا إِذَا احْتَطَبَ الصَّبِيُّ وَتَرَكَهُ الْوَلِيُّ فِي يَدِهِ حَتَّى تَلِفَ، أَوْ أَتْلَفَهُ الصَّبِيُّ، يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْوَلِيِّ، لِأَنَّ عَلَيْهِ حِفْظَ الصَّبِيِّ عَنْ مِثْلِهِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: ثُمَّ يُعَرِّفُ التَّالِفَ، وَبَعْدَ التَّعْرِيفِ يُتَمَلَّكُ لِلصَّبِيِّ إِنْ كَانَ فِي التَّمَلُّكِ مَصْلَحَةٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِيمَا إِذَا وُجِدَ قَبْضٌ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي لِيَصِيرَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِلْمُلْتَقِطِ، أَوْ إِفْرَازًا مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ مَنِ الْتَقَطَ شَاةً وَأَكَلَهَا يَفْرِزُ بِنَفْسِهِ قِيمَتَهَا مِنْ مَالِهِ. فَأَمَّا الضَّمَانُ فِي الذِّمَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ تَمَلُّكُهُ لِلصَّبِيِّ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْتِقَاطُ الصَّبِيِّ، فَإِذَا الْتَقَطَ وَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهَا، وَجَبَ الضَّمَانُ فِي مَالِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُقِرَّهَا فِي يَدِهِ، بَلْ يَسْعَى فِي انْتِزَاعِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُ الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي، فَعَلَ، وَإِنِ انْتَزَعَ الْحَاكِمُ، فَفِي بَرَاءَةِ الصَّبِيِّ عَنِ الضَّمَانِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي انْتِزَاعِ الْقَاضِي الْمَغْصُوبَ مِنَ الْغَاصِبِ، وَأَوْلَى بِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ نَظَرًا لِلطِّفْلِ. إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي، أَخَذَهُ بِنَفْسِهِ، وَتَبَنَّى بَرَاءَةَ الصَّبِيِّ عَنِ الضَّمَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَرَاءَةِ الْغَاصِبِ بِأَخْذِ الْآحَادِ.

فَإِنْ لَمْ تَحْصُلِ الْبَرَاءَةُ، فَفَائِدَةُ الْأَخْذِ صَوْنُ عَيْنِ الْمَالِ عَنِ التَّضْيِيعِ، وَالْإِتْلَافِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَإِذَا أَخَذَهُ الْوَلِيُّ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّسْلِيمُ إِلَى الْقَاضِي فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَلِفَ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَإِلَّا، فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الصَّبِيِّ. وَفِي كَوْنِ الْوَلِيِّ طَرِيقًا، وَجْهَانِ. وَهَذَا إِذَا أَخَذَ الْوَلِيُّ لَا عَلَى قَصْدِ الِالْتِقَاطِ. أَمَّا إِذَا قَصَدَ ابْتِدَاءَ الِالْتِقَاطِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلِيَكُونَا كَالْخِلَافِ فِي الْأَخْذِ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ إِذَا لَمْ نُصَحِّحِ الْتِقَاطَهُ. وَلَوْ قَصَّرَ الْوَلِيُّ وَتَرَكَ الْمَالَ فِي يَدِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا تَلِفَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِهِ، وَلَا حَقَّ لِلصَّبِيِّ فِيهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ حِفْظُهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَخَصَّصَ الْإِمَامُ هَذَا الْجَوَابَ بِمَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ أَخْذَهُ لَا يُبَرِّئُ الصَّبِيَّ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: يُبَرِّئُ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ لِتَرْكِهِ الصَّبِيَّ فِي وَرْطَةِ الضَّمَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ أَخْذَهُ لَا يُبَرِّئُ الصَّبِيَّ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ الصَّبِيِّ مُعَرَّضٌ لِلضَّيَاعِ، فَحَقٌّ أَنْ يَصُونَهُ. فَرْعٌ الْمَجْنُونُ كَالصَّبِيِّ فِي الِالْتِقَاطِ، وَكَذَا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْرِيفُهُ، وَلَا يَصِحُّ تَعْرِيفُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الشَّيْءُ الْمُلْتَقَطُ، وَهُوَ قِسْمَانِ. مَالٌ وَغَيْرُهُ، وَالْمَالُ نَوْعَانِ، حَيَوَانٌ وَجَمَادٌ. وَالْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ، آدَمِيٌّ وَغَيْرُهُ. وَغَيْرُهُ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ بِفَضْلِ قُوَّتِهِ، كَالْإِبِلِ، وَالْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، أَوْ بِشِدَّةِ عَدْوِهِ كَالْأَرَانِبِ، وَالظِّبَاءِ الْمَمْلُوكَةِ، أَوْ بِطَيَرَانِهِ كَالْحَمَامِ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَفَازَةٍ، فَلِلْحَاكِمِ وَنُوَّابِهِ أَخْذُهَا لِلْحِفْظِ. وَفِي جَوَازِ أَخْذِهَا لِلْآحَادِ لِلْحِفْظِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْمُتَوَلِّي، وَغَيْرِهِمَا: جَوَازُهُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، لِئَلَّا يَأْخُذَهَا

خَائِنٌ فَتَضِيعَ. وَأَمَّا أَخْذُهَا لِلتَّمَلُّكِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ. فَمَنْ أَخَذَهَا لِلتَّمَلُّكِ ضَمِنَهَا، وَلَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ بِالرَّدِّ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْقَاضِي، بَرِئَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ وَجَدَهَا فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْهَا، فَوَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِلتَّمَلُّكِ كَالْمَفَازَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: جَوَازُهُ، لِأَنَّهَا فِي الْعِمَارَةِ تَضِيعُ بِتَسَلُّطِ الْخَوَنَةِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ قَطْعًا. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ قَطْعًا. فَإِنْ مَنَعْنَا، فَالْتِقَاطُهَا بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْتِقَاطِهَا مِنَ الصَّحْرَاءِ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَعَلَى مَا سَيَأْتِي فِي النِّصْفِ الثَّانِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ زَمَانُ أَمْنٍ. فَأَمَّا فِي زَمَنِ النَّهْبِ، وَالْفَسَادِ، فَيَجُوزُ الْتِقَاطُهَا قَطْعًا. وَسَوَاءٌ وُجِدَتْ فِي الصَّحْرَاءِ أَوِ الْعُمْرَانِ، كَمَا سَيَأْتِي فِيمَا لَا يَمْتَنِعُ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. الصِّنْفُ الثَّانِي: مَا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ، كَالْكَسِيرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْعُجُولِ، وَالْفُصْلَانِ، فَيَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِلتَّمَلُّكِ، سَوَاءٌ وُجِدَتْ فِي الْمَفَازَةِ، أَوِ الْعُمْرَانِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُؤْخَذُ مَا وُجِدَ فِي الْعُمْرَانِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ. ثُمَّ إِذَا وَجَدَهُ فِي الْمَفَازَةِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَيُعَرِّفَهَا، ثُمَّ يَتَمَلَّكَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا، وَيَحْفَظَ ثَمَنَهَا، وَيُعَرِّفَهَا، ثُمَّ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْكُلَهَا إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً وَيَغْرَمَ قِيمَتَهَا. وَالْخَصْلَةُ الْأُولَى أَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ، وَالثَّانِيَةُ أَوْلَى مِنَ الثَّالِثَةِ. وَإِنْ وَجَدَهَا فِي الْعُمْرَانِ، فَلَهُ الْإِمْسَاكُ مَعَ التَّعْرِيفِ، وَالتَّمَلُّكِ، وَلَهُ الْبَيْعُ وَالتَّعْرِيفُ وَتَمَلُّكُ الثَّمَنِ. وَفِي الْأَكْلِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ كَالْمَفَازَةِ. وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْعُمْرَانِ أَسْهَلُ هَذَا إِذَا كَانَتْ مَأْكُولَةً، فَأَمَّا الْجَحْشُ وَصِغَارُ مَا لَا يُؤْكَلُ، فَحُكْمُهَا فِي الْإِمْسَاكِ وَالْبَيْعِ حُكْمُ الْمَأْكُولِ، وَفِي جَوَازِ تَمَلُّكِهَا فِي الْحَالِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا يَجُوزُ أَكْلُ الْمَأْكُولِ. وَلَوْ لَمْ نُجَوِّزْ ذَلِكَ لَأَعْرَضَ عَنْهَا الْوَاجِدُونَ وَلَضَاعَتْ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا حَتَّى تُعَرَّفَ سَنَةً كَغَيْرِهَا.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِصَالِ الثَّلَاثِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِذَا أَمْسَكَهَا وَتَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ، فَذَاكَ. وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ، فَلْيُنْفِقْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، أَشْهَدَ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ. الثَّانِيَةُ: إِذَا أَرَادَ الْبَيْعَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، اسْتَقَلَّ بِهِ. وَإِنْ وَجَدَهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ. وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ جُزْءٍ مِنْهَا لِنَفَقَةِ بَاقِيهَا؟ قَالَ الْإِمَامُ: نَعَمْ، كَمَا تُبَاعُ جَمِيعُهَا. وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ احْتِمَالًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَأْكُلَ نَفْسَهَا، وَبِهَذَا قَطَعَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ، قَالَ: وَلَا يَسْتَقْرِضُ عَلَى الْمَالِكِ أَيْضًا، لِهَذَا الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ يُخَالِفُ مَا سَبَقَ فِي هَرَبِ الْجِمَالِ وَنَحْوِهِ. قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَرَبِ الْجِمَالِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ الْبَيْعُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُنَا يُمْكِنُ، فَلَا يَجُوزُ الْإِضْرَارُ بِمَالِكِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مَتَّى حَصَلَتِ الضَّالَّةُ فِي يَدِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ حِمًى، سَرَّحَهَا فِيهِ وَوَسَمَهَا بِسِمَةِ الضَّوَالِّ، وَيَسِمُ نِتَاجَهَا أَيْضًا. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، فَالْقَوْلُ فِي بَيْعِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا لِلنَّفَقَةِ عَلَى مَا سَبَقَ، لَكِنْ لَوْ تَوَقَّعَ مَجِيءَ الْمَالِكِ فِي طَلَبِهَا عَلَى قُرْبٍ، بِأَنْ عَرَفَ أَنَّهَا مِنْ نَعَمِ بَنِي فُلَانٍ، تَأَنَّى أَيَّامًا كَمَا يَرَاهُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْآدَمِيُّ، فَإِذَا وَجَدَ رَقِيقًا مُمَيِّزًا، وَالزَّمَانُ آمِنٌ، لَمْ يَأْخُذْهُ، لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى سَيِّدِهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، أَوْ مُمَيَّزًا فِي زَمَنِ نَهْبٍ، جَازَ أَخْذُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. ثُمَّ يَجُوزُ تَمَلُّكُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ كَالْمَجُوسِيَّةِ، وَالْمَحْرَمِ. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِلُّ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ كَالِاسْتِقْرَاضِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، لَمْ يَجِبِ التَّعْرِيفُ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَيُنْفِقُ عَلَى الرَّقِيقِ مُدَّةَ الْحِفْظِ مِنْ كَسْبِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الْكَسْبِ

فصل

حُفِظَ مَعَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَسْبٌ، فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الصِّنْفِ الثَّانِي. وَإِذَا بِيعَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمَالِكُ وَقَالَ: كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيُحْكَمُ بِفَسَادِ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: لَا، كَمَا لَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْجَمَادُ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَبْقَى، بِمُعَالَجَةٍ، كَالرُّطَبِ يُجَفَّفُ، أَوْ بِغَيْرِهَا، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالثِّيَابِ، وَإِلَى مَا لَا يَبْقَى، كَالْهَرِيسَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لُقَطَةٌ يُؤْخَذُ وَيُمَلَّكُ، لَكِنْ فِيمَا لَا يَبْقَى، أَوْ يَبْقَى بِمُعَالَجَةِ مَزِيدِ كَلَامٍ نَذْكُرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِمَالٍ، كَكَلْبٍ يُقْتَنَى، فَمَيْلُ الْإِمَامِ وَالْآخِذِينَ عَنْهُ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا عَلَى قَصْدِ الْحِفْظِ أَبَدًا لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِهِ بِعِوَضٍ مُمْتَنِعٌ، وَبِلَا عِوَضٍ يُخَالِفُ وَضْعَ اللُّقَطَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُعَرِّفُهُ سَنَةً ثُمَّ يَخْتَصُّ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ فَإِنْ ظَهَرَ صَاحِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ تَلِفَ، فَلَا ضَمَانَ. وَهَلْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَنْفَعَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهِ. فَصْلٌ يُشْتَرَطُ فِي اللُّقَطَةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ غَيْرُ مَا سَبَقَ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ شَيْئًا ضَاعَ مِنْ مَالِكِهِ لِسُقُوطٍ، أَوْ غَفْلَةٍ، وَنَحْوِهِمَا. فَأَمَّا إِذَا أَلْقَتِ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي حِجْرِهِ، أَوْ أَلْقَى إِلَيْهِ هَارِبٌ كِيسًا، وَلَمْ يَعْرِفْ مَنْ هُوَ، أَوْ مَاتَ مُورِثُهُ عَنْ وَدَائِعَ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مُلَّاكَهَا، فَهُوَ مَالٌ ضَائِعٌ يُحْفَظُ، وَلَا يُتَمَلَّكُ. وَلَوْ وُجِدَ دَفِينًا فِي الْأَرْضِ فَالْقَوْلُ فِي أَنَّهُ رِكَازٌ، أَوْ لُقَطَةٌ سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ. الثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ فِي مَوَاتٍ، أَوْ شَارِعٍ، أَوْ مَسْجِدٍ. أَمَّا إِذَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يُؤْخَذُ لِلتَّمَلُّكِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، بَلْ هُوَ لِصَاحِبِ الْيَدِ فِي

الْأَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ، فَلِمَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَهُ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمُحْيِي، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ، حِينَئِذٍ يَكُونُ لُقَطَةً. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَفِيهَا مُسْلِمُونَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَمَا يُوجَدُ فِيهَا غَنِيمَةٌ، خُمْسُهَا لِأَهْلِ الْخُمْسِ، وَالْبَاقِي لِلْوَاجِدِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الِالْتِقَاطِ الصَّحِيحِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: [الْحُكْمُ] الْأَوَّلُ: فِي الْأَمَانَةِ، وَالضَّمَانِ، وَيَخْلَتِفُ ذَلِكَ بِقَصْدِهِ. وَلَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهَا لِيَحْفَظَهَا أَبَدًا، فَهِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ. فَلَوْ دَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ لَزِمَهُ الْقَبُولُ. وَكَذَا مَنْ أَخَذَ لِلتَّمَلُّكِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ وَدَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ، لَزِمَهُ الْقَبُولُ. وَهَلْ يَجِبُ التَّعْرِيفُ إِذَا قَصَدَ الْحِفْظَ أَبَدًا؟ وَجْهَانِ يَأْتِي بَيَانُهُمَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَإِنْ لَمْ يَجِبْ، لَمْ يَضْمَنْ بِتَرْكِهِ. وَإِذَا بَدَا لَهُ قَصْدُ التَّمَلُّكِ، عَرَّفَهَا سَنَةً مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا عَرَفَ مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ بِالتَّرْكِ. حَتَّى لَوْ بَدَأَ بِالتَّعْرِيفِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلَكَ فِي سَنَةِ التَّعْرِيفِ، ضَمِنَ. الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ، وَالِاسْتِيلَاءِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا غَاصِبًا. وَفِي بَرَاءَتِهِ بِالدَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ الْوَجْهَانِ فِي الْغَاصِبِ، فَلَوْ عَرَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَرَادَ التَّمَلُّكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، كَالْغَاصِبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، لِوُجُودِ صُورَةِ الِالْتِقَاطِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَهَا لِيُعَرِّفَهَا سَنَةً، وَيَتَمَلَّكَهَا بَعْدَ السَّنَةِ، فَهِيَ أَمَانَةٌ فِي السَّنَةِ،

وَأَمَّا بَعْدَ السَّنَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: تُمَلَّكُ بِمُضِيِّ السَّنَةِ، فَقَدْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، وَضَمَانِهِ، وَإِلَّا، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: تَصِيرُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ إِذَا كَانَ غُرْمُ التَّمَلُّكِ مُطَّرِدًا، وَلَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ، فَالْأَصَحُّ مَا صَرَّحَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْبَغَوِيُّ: أَنَّهَا أَمَانَةٌ مَا لَمْ يَخْتَرِ التَّمَلُّكَ قَصْدًا، أَوْ لَفْظًا إِذَا اعْتَبَرْنَاهُ، كَمَا قَبْلَ الْحَوْلِ، لَكِنْ إِذَا اخْتَارَ وَقُلْنَا: لَا بُدَّ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْقَرْضِ. وَإِذَا قَصَدَ الْأَمَانَةَ، ثُمَّ قَصَدَ الْخِيَانَةَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ، كَالْمُودَعِ لَا يَضْمَنُ بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَالثَّانِي: يَصِيرُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّطْهُ الْمَالِكُ. وَمَهْمَا صَارَ الْمُلْتَقِطُ ضَامِنًا فِي الدَّوَامِ، إِمَّا بِحَقِيقَةِ الْخِيَانَةِ، أَوْ بِقَصْدِهَا، ثُمَّ أَقْلَعَ، وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ، وَيَتَمَلَّكَ، فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَ اللُّقَطَةَ، وَلَا يَقْصِدُ خِيَانَةً، وَلَا أَمَانَةً، أَوْ يَقْصِدَ أَحَدَهُمَا وَيَنْسَاهُ، فَلَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ وَلَهُ التَّمَلُّكُ بِشَرْطِهِ. الْحُكْمُ الثَّانِي: التَّعْرِيفُ، فَيَنْبَغِي لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَعْرِفَ اللُّقَطَةَ، وَيُعَرِّفَهَا. أَمَّا الْمَعْرِفَةُ، فَيُعْلِمُ عِفَاصَهَا، وَهُوَ الْوِعَاءُ مِنْ جِلْدٍ وَخِرْقَةٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَوِكَاءَهَا، وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ، وَجِنْسَهَا، أَذَهَبٌ أَمْ غَيْرُهُ؟ وَنَوْعَهَا، أَهَرَوِيَّةٌ، أَمْ غَيْرُهَا؟ وَقَدْرَهَا، بِوَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ وَإِنَّمَا يُعَرِّفُ هَذِهِ الْأُمُورَ لِئَلَّا تَخْتَلِطَ بِمَالِهِ، وَيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِ طَالِبِهَا، وَيُسْتَحَبُّ تَقْيِيدُهَا بِالْكِتَابَةِ. وَأَمَّا التَّعْرِيفُ، فَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: يَجِبُ تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ سَنَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْنَى اسْتِيعَابِ السَّنَةِ، بَلْ لَا يُعَرِّفُ فِي اللَّيْلِ، وَلَا يَسْتَوْعِبُ الْأَيَّامَ أَيْضًا، بَلْ عَلَى الْمُعْتَادِ، فَيُعَرِّفُ فِي الِابْتِدَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ طَرَفَيِ النَّهَارِ، ثُمَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً، ثُمَّ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً، ثُمَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِحَيْثُ لَا يَنْسَى أَنَّهُ تَكْرَارٌ لِلْأَوَّلِ. وَفِي وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ بِالتَّعْرِيفِ عَلَى الْفَوْرِ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْجُمْهُورِ: لَا يَجِبُ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ تَعْرِيفُ سَنَةٍ مَتَى كَانَ. وَهَلْ تَكْفِي سَنَةٌ مُفَرَّقَةٌ بِأَنْ يُفَرِّقَ شَهْرَيْنِ مَثَلًا، وَيَتْرُكَ شَهْرَيْنِ، وَهَكَذَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ، لِأَنَّهُ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ التَّعْرِيفِ.

فَعَلَى هَذَا، إِذَا قَطَعَ مُدَّةً، وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالرُّويَانِيُّ: نَعَمْ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ، وَلَمْ يَقْطَعْ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ بَلْ صَحَّحُوهُ، لِأَنَّهُ عُرِّفَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: لِيَصِفِ الْمُلْتَقِطُ بَعْضَ أَوْصَافِ اللُّقَطَةِ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الظَّفَرِ بِالْمَالِكِ. وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ، أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مُسْتَحَبٌّ. فَإِنْ شَرَطْنَاهُ، فَهَلْ يَكْفِي ذِكْرُ الْجِنْسِ بِأَنْ يَقُولَ: مَنْ ضَاعَ مِنْهُ دَرَاهِمُ؟ قَالَ الْإِمَامُ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي، وَلَكِنْ يَتَعَرَّضُ لِلْعِفَاصِ، وَالْوِكَاءِ، وَمَكَانِ الِالْتِقَاطِ وَزَمَنِهِ، وَلَا يَسْتَوْعِبُ الصِّفَاتِ، وَلَا يُبَالِغُ فِيهَا لِئَلَّا يَعْتَمِدَهَا الْكَاذِبُ. فَإِنْ بَالَغَ، فَفِي مَصِيرِهِ ضَامِنًا وَجْهَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، لَكِنْ قَدْ يَرْفَعُهُ إِلَى حَاكِمٍ يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ بِالْوَصْفِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الضَّمَانُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: إِنْ تَبَرَّعَ الْمُلْتَقِطُ بِالتَّعْرِيفِ، أَوْ بَذَلَ مُؤْنَتَهُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَإِنَّ أَخْذَهَا لِلْحِفْظِ أَبَدًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ إِنْ عَرَّفَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ، بَلْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيَبْذُلَ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يَقْتَرِضَ عَلَى الْمَالِكِ، أَوْ يَأْمُرَ الْمُلْتَقِطَ بِهِ لِيَرْجِعَ كَمَا فِي هَرَبِ الْجَمَّالِ. وَإِنْ أَخَذَهَا لِلتَّمَلُّكِ، وَاتَّصَلَ الْأَمْرُ بِالتَّمَلُّكِ، فَمُؤْنَةُ التَّعْرِيفِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ قَطْعًا. وَإِنْ ظَهَرَ مَالِكُهَا، فَهَلْ هِيَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ لِقَصْدِهِ التَّمَلُّكَ، أَمْ عَلَى الْمَالِكِ لِعَوْدِ الْفَائِدَةِ إِلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَوَّلُهُمَا. وَلَوْ قَصَدَ الْأَمَانَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ قَصَدَ التَّمَلُّكَ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ.

الرَّابِعَةُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ التَّعْرِيفِ، هُوَ فِيمَا إِذَا قَصَدَ التَّمَلُّكَ، أَمَّا إِذَا قَصَدَ الْحِفْظَ أَبَدًا، فَفِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: وُجُوبُهُ، لِئَلَّا يَكُونَ كِتْمَانًا مُفَوِّتًا لِلْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجِبُ، قَالُوا: لِأَنَّ التَّعْرِيفَ إِنَّمَا يَجِبُ لِتَخْصِيصِ شَرْطِ التَّمَلُّكِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَقْوَى، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْخَامِسَةُ: لِيَكُنِ التَّعْرِيفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ، وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ خُرُوجِ النَّاسِ مِنَ الْجَمَاعَاتِ، وَلَا يُعَرِّفْ فِي الْمَسَاجِدِ، كَمَا لَا تُطْلَبُ اللُّقَطَةُ فِيهَا، قَالَ الشَّاشِيُّ فِي «الْمُعْتَمَدِ» : إِلَّا أَنَّ الْأَصَحَّ جَوَازُ التَّعْرِيفِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. ثُمَّ إِذَا الْتَقَطَ فِي بَلْدَةٍ، أَوْ قَرْيَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْرِيفِ فِيهَا، وَلْيَكُنْ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي وَجَدَ فِيهَا، لِأَنَّ طَلَبَ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِ ضَيَاعِهِ أَكْثَرُ. فَإِنْ حَضَرَهُ سَفَرٌ، فَوَّضَ التَّعْرِيفَ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُسَافِرُ بِهَا. وَإِنِ الْتَقَطَ فِي الصَّحْرَاءِ، فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّهُ إِنِ اجْتَازَتْ بِهِ قَافِلَةٌ، تَبِعَهُمْ وَعَرَّفَ، وَإِلَّا، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعْرِيفِ فِي الْمَوَاضِعِ الْخَالِيَةِ، وَلَكِنْ يُعَرِّفُ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا قَرُبَتْ أَمْ بَعُدَتْ. وَإِنْ بَدَا لَهُ الرُّجُوعُ، أَوْ قَصَدَ بَلْدَةً أُخْرَى، عَرَّفَ فِيهَا، وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يُغَيِّرَ قَصْدَهُ، وَيَعْدِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، حَكَاهُ الْإِمَامُ، وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ. وَلَكِنْ ذَكَرَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ يُعَرِّفُ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، وَهَذَا إِنْ أَرَادَ بِهِ الْأَفْضَلَ فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَيَحْصُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْعُدُولَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ لَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ تَسْلِيمُ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ لِيُعَرِّفَهُ إِلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ فَعَلَ، ضَمِنَ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَغَيْرُهُ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُعَرِّفِ عَاقِلًا غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ، وَإِلَّا، فَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ، وَلَا تَحْصُلُ فَائِدَةُ التَّعْرِيفِ. فَصْلٌ إِنَّمَا يَجِبُ تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ إِذَا جَمَعَتْ وَصْفَيْنِ، أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الْمُلْتَقَطِ كَثِيرًا. فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، نُظِرَ، إِنِ انْتَهَتْ قِلَّتُهُ إِلَى حَدٍّ يَسْقُطُ تَمَوُّلُهُ كَحَبَّةِ الْحِنْطَةِ، وَالزَّبِيبَةِ، فَلَا تَعْرِيفَ، وَلِوَاجِدِهِ الِاسْتِبْدَادُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مُتَمَوَّلًا مَعَ قِلَّتِهِ، وَجَبَ تَعْرِيفُهُ، وَفِي قَدْرِ تَعْرِيفِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: [سَنَةٌ] كَالْكَثِيرِ. وَأَشْبَهَهُمَا بِاخْتِيَارِ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ: لَا يَجِبُ سُنَّةً. فَعَلَى هَذَا أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: يَكْفِي مَرَّةً. وَالثَّانِي: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَأَصَحُّهَا: مُدَّةً يُظَنُّ فِي مِثْلِهَا طَلَبُ فَاقِدِهِ لَهُ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إِعْرَاضُهُ، سَقَطَ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَدَانِقُ الْفِضَّةِ يُعَرَّفُ فِي الْحَالِ، وَدَانِقُ الذَّهَبِ يُعَرَّفُ يَوْمًا، أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً. وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْمُتَمَوَّلِ وَالْكَثِيرِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يَتَقَدَّرُ، بَلْ مَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ فَاقِدَهُ لَا يَكْثُرُ أَسَفُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَطُولُ طَلَبُهُ لَهُ غَالِبًا، فَقَلِيلٌ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ

الْغَزَالِيُّ، وَالْمُتَوَلِّي. وَالثَّانِي: الْقَلِيلُ: مَا دُونَ نِصَابِ السَّرِقَةِ. وَالثَّالِثُ: الدِّينَارُ قَلِيلٌ. وَالرَّابِعُ: مَا دُونَ الدِّرْهَمِ قَلِيلٌ، وَالدِّرْهَمُ كَثِيرٌ. فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَحِلُّ الْتِقَاطُ السَّنَابِلِ وَقْتَ الْحَصَادِ إِنْ أَذِنَ فِيهِ الْمَالِكُ، أَوْ كَانَ قَدْرًا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُلْتَقَطَ، وَإِنْ كَانَ يَلْتَقِطُ بِنَفْسِهِ لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا، فَلَا يَحِلُّ. الْوَصْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لَا يَفْسُدُ. أَمَّا مَا يَفْسُدُ، فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُمْكِنَ إِبْقَاؤُهُ كَالْهَرِيسَةِ، وَالرُّطَبِ الَّذِي لَا يَتَتَمَّرُ، وَالْبُقُولِ. فَإِنْ وَجَدَهُ فِي بَرِّيَّةٍ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ فِي الْحَالِ فَيَأْكُلَهُ وَيَغْرَمَ قِيمَتَهُ. وَإِنْ وَجَدَهُ فِي بَلْدَةٍ، أَوْ قَرْيَةٍ، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ الْأَكْلُ، بَلْ يَبِيعُهُ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ لِمَالِكِهِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ مُتَيَسِّرٌ فِي الْعُمْرَانِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ كَمَا لَوْ وُجِدَ فِي بَرِّيَّةٍ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمَشْهُورِ. فَإِذَا لَمْ نُجَوِّزِ الْأَكْلَ، فَأَخَذَ لِلْأَكْلِ، كَانَ غَاصِبًا. وَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فَأَكَلَ، فَفِي وُجُوبِ التَّعْرِيفِ بَعْدَهُ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا بَاعَ يُعَرِّفُ. وَإِنْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ، قَالَ الْإِمَامُ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَهَلْ يَجِبُ إِفْرَازُ الْقِيمَةِ الْمَغْرُومَةِ مِنْ مَالِهِ؟ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُخْشَى هَلَاكُهُ، وَإِذَا أَفْرَزَ [كَانَ الْمُفْرَزُ] أَمَانَةً. وَالثَّانِي: يَجِبُ احْتِيَاطًا لِصَاحِبِ الْمَالِ لِيُقَدَّمَ بِالْمُفْرَزِ لَوْ أَفْلَسَ الْمُلْتَقِطُ. وَعَلَى هَذَا، فَالطَّرِيقُ أَنَّهُ يُرْفَعُ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَقْبِضَ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، فَهَلْ لِلْمُلْتَقِطِ بِسُلْطَانِ الِالْتِقَاطِ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَنْهُ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ

عِنْدَ الْإِمَامِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، أَنَّهُ إِذَا أَفْرَزَهَا، لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمَالِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِتَمَلُّكِهَا. وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَا، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ بِهَلَاكِ الْمُفْرَزِ. وَقَدْ نَصُّوا عَلَى السُّقُوطِ، وَنَصُّوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَضَتْ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ، فَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمُفْرَزَ كَمَا يَتَمَلَّكُ نَفْسَ اللُّقَطَةِ، وَكَمَا يَتَمَلَّكُ الثَّمَنَ إِذَا بَاعَ الطَّعَامَ، وَهَذَا يَقْتَضِي صَيْرُورَةَ الْمُفْرَزِ مِلْكًا لِصَاحِبِ اللُّقَطَةِ. وَلَوِ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ يَوْمَيِ الْأَخْذِ وَالْأَكْلِ، فَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ لِلْأَكْلِ اعْتُبِرَتْ قِيمَةُ يَوْمِ الْأَخْذِ. وَإِنْ أَخَذَ التَّعْرِيفَ، اعْتُبِرَتْ قِيمَةُ يَوْمِ الْأَكْلِ. وَإِذَا اخْتَارَ الْبَيْعَ، فَفِي الْحَاجَةِ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ مَا سَبَقَ فِي بَيْعِ الشَّاةِ. وَإِذَا بَاعَ أَوْ أَكَلَ، عَرَّفَ الْمَبِيعَ وَالْمَأْكُولَ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، لَا الثَّمَنَ وَالْقِيمَةَ، سَوَاءٌ أَفْرَزَهَا، أَمْ لَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُمْكِنُ إِبْقَاؤُهُ بِالْمُعَالَجَةِ وَالتَّجْفِيفِ. فَإِنْ كَانَ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ فِي بَيْعِهِ رُطَبًا، بِيعَ، وَإِلَّا، فَإِنْ تَبَرَّعَ الْمُلْتَقِطُ بِالتَّجْفِيفِ فَذَاكَ، وَإِلَّا، بِيعَ بَعْضُهُ وَأُنْفِقَ عَلَى تَجْفِيفِ الْبَاقِي. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: التَّمَلُّكُ، فَيَجُوزُ تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا، أَوْ فَقِيرًا، وَمَتَى تَمَلَّكَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا تَمَلُّكَ إِلَّا بِلَفْظٍ، كَقَوْلِهِ: تَمَلَّكْتُ وَنَحْوِهِ. وَالثَّانِي: لَا تَمَلُّكَ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ. وَعَلَى هَذَا، يُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْقَرْضِ، فِي أَنَّ الْمِلْكَ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ التَّصَرُّفِ يَحْصُلُ. وَالثَّالِثُ: يَكْفِيهِ تَجْدِيدُ قَصْدِ التَّمَلُّكِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَفْظٌ. وَالرَّابِعُ: تَمَلُّكٌ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ السَّنَةِ. فَرْعٌ فِي لُقَطَةِ مَكَّةَ وَحَرَمِهَا وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُهَا لِلتَّمَلُّكِ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ لِلْحِفْظِ أَبَدًا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَلُقَطَةِ سَائِرِ الْبِقَاعِ. قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: وَالْمُرَادُ

بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ» أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا سَنَةً كَغَيْرِهَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ تَعْرِيفَهَا فِي الْمَوْسِمِ كَافٍ لِكَثْرَةِ النَّاسِ، وَبَعْدَ الْعَوْدِ فِي طَلَبِهَا مِنَ الْآفَاقِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَلْزَمُ الْمُلْتَقِطَ بِهَا الْإِقَامَةُ لِلتَّعْرِيفِ، أَوْ دَفْعُهَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَلَا يَجِيءُ هُنَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنِ الْتَقَطَ لِلْحِفْظِ، هَلْ يَلْزَمُهُ التَّعْرِيفُ؟ بَلْ يَجْزِمُ هُنَا بِوُجُوبِهِ، لِلْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: رَدَّ عَيْنَهَا، أَوْ بَدَلَهَا عِنْدَ ظُهُورِ مَالِكِهَا. فَإِذَا جَاءَ مَنْ يَدَّعِيهَا، فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ، وَلَمْ يَصِفْهَا، لَمْ تُدْفَعْ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهَا لَهُ، فَيَلْزَمُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ. وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً، دُفِعَتْ إِلَيْهِ. وَإِنْ وَصَفَهَا، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَظُنَّ الْمُلْتَقِطُ صِدْقَهُ، لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ، وَحَكَى الْإِمَامُ تَرَدُّدًا فِي جَوَازِ الدَّفْعِ، وَإِنْ ظَنَّ صِدْقَهُ، جَازَ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي وُجُوبِهِ وَجْهَيْنِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ، لَوْ قَالَ الْوَاصِفُ: يَلْزَمُكَ تَسْلِيمُهَا إِلَيَّ، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ. وَلَوْ قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهَا مِلْكِي، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ. وَلَوْ أَقَامَ الْوَاصِفُ شَاهِدًا، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ وُجُوبَهُ. وَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى الْوَاصِفِ بِوَصْفِهِ، فَأَقَامَ غَيْرُهُ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، انْتُزِعَتْ مِنْهُ وَدُفِعَتْ إِلَى الثَّانِي. وَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْمُلْتَقِطُ، أَوِ الْوَاصِفُ. فَإِنْ ضَمِنَ الْوَاصِفُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُلْتَقِطِ. وَإِنْ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ، رَجَعَ عَلَى الْوَاصِفِ إِنْ لَمْ يُقِرَّ بِالْمِلْكِ لِلْوَاصِفِ. وَإِنْ أَقَرَّ، لَمْ يَرْجِعْ، مُؤَاخَذَةً لَهُ. هَذَا إِذَا دَفَعَ بِنَفْسِهِ. أَمَّا إِذَا أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ الدَّفْعَ إِلَى الْوَاصِفِ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ تَضْمِينُهُ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ جَاءَ الْوَاصِفُ بَعْدَ أَنْ تَمَلَّكَ الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ، وَأَتْلَفَهَا، فَغَرَّمَهَا الْمُلْتَقِطَ لِظَنِّهِ صِدْقَهُ، فَأَقَامَ آخَرُ بَيِّنَةً بِهَا، طَالَبَ الْمُلْتَقِطَ دُونَ الْوَاصِفِ، لِأَنَّ الْحَاصِلَ عِنْدَ الْوَاصِفِ مَالُ الْمُلْتَقِطِ، لَا مَالُهُ. وَإِذَا غُرِّمَ الْمُلْتَقِطَ، هَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْوَاصِفِ؟ يُنْظَرُ، هَلْ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ أَمْ لَا كَمَا سَبَقَ فَرْعٌ أَقَامَ مُدَّعِي اللُّقَطَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ الْمُلْتَقِطِ، وَهُمَا فَاسِقَانِ عِنْدَ الْقَاضِي، لَمْ يُلْزِمْهُ الْقَاضِي الدَّفْعَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُلْزِمُهُ، لِاعْتِرَافِهِ بِعَدَالَتِهِمَا. فَرْعٌ [إِذَا] ادَّعَاهَا اثْنَانِ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ، فَفِيهِ أَقْوَالُ التَّعَارُضِ. فَصْلٌ إِذَا ظَهَرَ الْمَالِكُ قَبْلَ تَمَلُّكِ الْمُلْتَقِطِ، أَخَذَ اللُّقَطَةَ بِزَوَائِدِهَا الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُنْفَصِلَةِ. وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَ التَّمَلُّكِ، فَلِلُّقَطَةِ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً عِنْدَهُ، فَيُنْظَرُ، إِنْ بَقِيَتْ بِحَالِهَا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَهُ أَخْذُهَا، وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُلْزِمَهُ أَخْذَ بَدَلِهَا. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ رَدَّهَا الْمُلْتَقِطُ لَزِمَ الْمَالِكَ الْقَبُولُ، فَعَلَى الْأَصَحِّ:

فصل

لَوْ بَاعَهَا الْمُلْتَقِطُ فَجَاءَ الْمَالِكُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَهَلْ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّاشِيُّ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ بِأَنَّ الْفَسْخَ حَقٌّ لِلْعَاقِدِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَجَعَلَ ابْنُ كَجٍّ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ يُجْبِرُ الْمُلْتَقِطَ عَلَى الْفَسْخِ، وَيَجُوزُ فَرْضُ الْوَجْهَيْنِ فِي الِانْفِسَاخِ. فَإِنْ زَادَتْ، فَالْمُتَّصِلَةُ تَتْبَعُهَا، وَالْمُنْفَصِلَةُ تُسَلَّمُ لِلْمُلْتَقِطِ، وَيَرُدُّ الْأَصْلَ، وَإِنْ نَقَصَتْ بِعَيْبٍ وَنَحْوِهِ وَقُلْنَا: لَوْ بَقِيَتْ بِحَالِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا قَهْرًا، رَجَعَ إِلَى بَدَلِهَا سَلِيمَةً. وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ أَخْذُهَا قَهْرًا فَكَذَا هُنَا، وَيُغَرِّمُهُ الْأَرْشَ، لِأَنَّ الْكُلَّ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَا أَرْشَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ أَرَادَ بَدَلَهَا، وَقَالَ الْمُلْتَقِطُ: أَضُمُّ إِلَيْهَا الْأَرْشَ وَأَرُدُّهَا، أُجِيبَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: يُجَابُ الْمَالِكُ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْبَدَلِ أَوِ الْعَيْنِ النَّاقِصَةِ مَعَ الْأَرْشِ، أَوْ دُونَهُ كَمَا سَبَقَ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ تَالِفَةً، فَعَلَيْهِ بَدَلُهَا: الْمِثْلُ، أَوِ الْقِيمَةُ. وَالِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ يَوْمِ التَّمَلُّكِ. وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ - مِنْ أَصْحَابِنَا -: لَا يُطَالَبُ بِالْقِيمَةِ، وَلَا بِرَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ بَقَائِهَا. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَعَلَى هَذَا، فَالضَّمَانُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ يَوْمِ التَّلَفِ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عِنْدَ مَجِيءِ الْمَالِكِ وَطَلَبِهِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ إِحْدَاهَا: وَجَدَ رَجُلَانِ لُقْطَةً، يُعَرِّفَانِهَا، وَيَتَمَلَّكَانِهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا نَقْلُ حَقِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ نَقْلُ حَقِّهِ إِلَى غَيْرِهِ. الثَّانِيَةُ: تَنَازَعَا، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً أَنَّهُ الْمُلْتَقِطُ، فَإِنْ تَعَرَّضَتْ بَيِّنَةٌ لِسَبْقٍ، حُكِمَ بِهَا، وَإِلَّا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ.

الثَّالِثَةُ: ضَاعَتْ مِنْ يَدِ الْمُلْتَقِطِ، فَأَخَذَهَا آخَرُ، فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ بِهَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الثَّانِي. الرَّابِعُ: كَانَا يَتَمَاشَيَانِ، فَرَأَى أَحَدُهُمَا اللُّقَطَةَ، وَأَخْبَرَ بِهَا الْآخَرُ، فَالْآخِذُ أَوْلَى. فَلَوْ أَرَاهُ اللُّقَطَةَ وَقَالَ: هَاتِهَا، فَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، فَهِيَ لِلْآخِذِ. وَإِنْ أَخَذَهَا لِلْآمِرِ، أَوْ لَهُ وَلِنَفْسِهِ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالِاصْطِيَادِ وَنَحْوِهِ. الْخَامِسَةُ: رَأَى شَيْئًا مَطْرُوحًا عَلَى الْأَرْضِ، فَدَفَعَهُ بِرِجْلِهِ لِيَعْرِفَ جِنْسَهُ، أَوْ قَدْرَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى ضَاعَ، لَمْ يَضْمَنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِهِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. السَّادِسَةُ: دَفَعَ اللُّقَطَةَ إِلَى الْحَاكِمِ وَتَرَكَ التَّعْرِيفَ وَالتَّمَلُّكَ، ثُمَّ نَدِمَ وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ، فَفِي تَمْكِينِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ: قَالَ فِي «الْمُهَذَّبِ» : لَوْ وَجَدَ خَمْرًا أَرَاقَهَا صَاحِبُهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْرِيفُهَا، لِأَنَّ إِرَاقَتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ. فَإِنْ صَارَتْ عِنْدَهُ خَلًّا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلْمُرِيقِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهَا فَصَارَتْ خَلًّا. وَالثَّانِي: لِلْوَاجِدِ، لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَصْوِيرًا وَتَوْجِيهًا، إِنَّمَا يَسْتَمِرُّ فِي الْخَمْرَةِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ إِرَاقَتُهَا مُسْتَحَقَّةً. أَمَّا فِي الِابْتِدَاءِ، فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عِنْدَ الْوَاجِدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إِمْسَاكُهَا إِذَا خَلَا عَنْ قَصْدٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا أَرَاقَهَا، لِأَنَّهُ مَعْرِضٌ. أَمَّا إِذَا ضَاعَتِ الْمُحْتَرَمَةُ مِنْ صَاحِبِهَا، فَلْتُعَرَّفْ كَالْكَلْبِ. قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ. . إِلَى آخِرِهِ، فَكَذَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» فَقَالَ: وَجَدَ خَمْرًا أَرَاقَهَا صَاحِبُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْوَاجِدَ يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهَا،

فَغَيْرُ مَقْبُولٍ، بَلْ لَا يَجُوزُ وَإِنْ خَلَا عَنِ الْقَصْدِ الْفَاسِدِ. وَالْكَلَامُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْوَاجِدُ أَنَّهَا مُحْتَرَمَةٌ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ صَاحِبِ «الْمُهَذَّبِ» : الْإِرَاقَةُ وَاجِبَةٌ - يَعْنِي عَلَى الْوَاجِدِ - كَلَامٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ احْتِرَامِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْبَعِيرَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، لَا يُلْتَقَطُ إِذَا وُجِدَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَاسْتَثْنَى صَاحِبُ التَّلْخِيصِ مَا إِذَا وَجَدَ بَعِيرًا فِي أَيَّامِ مِنًى مُقَلَّدًا فِي الصَّحْرَاءِ تَقْلِيدَ الْهَدَايَا، فَحَكَى عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيُعَرِّفُهُ أَيَّامَ مِنًى. فَإِنْ خَافَ فَوْتَ وَقْتِ النَّحْرِ، نَحَرَهُ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِنَحْرِهِ. وَحَكَى غَيْرُهُ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ. وَبَنَوُا الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ وَجَدَ بَدَنَةً مَنْحُورَةً قَدْ غَمَسَ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، وَضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهَا، هَلْ يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا؟ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، مَنَعْنَا الْأَخْذَ هُنَا. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعَلَامَةِ، فَكَذَا هُنَا التَّقْلِيدُ عَلَامَةٌ. وَالْأُضْحِيَّةُ الْمُعَيَّنَةُ إِذَا ذُبِحَتْ فِي وَقْتِ النَّحْرِ، وَقَعَتِ الْمَوْقِعَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ صَاحِبُهَا، قَالَ الْإِمَامُ: لَكِنَّ ذَبْحَ الْأُضْحِيَّةِ إِنْ وَقَعَ الْمَوْقِعَ، لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، وَلِهَذَا الْإِشْكَالِ قَالَ الْقَفَّالُ تَفْرِيعًا عَلَى [هَذَا] الْقَوْلِ يَجِبُ رَفْعُ الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي لِيَنْحَرَهُ، وَأَوَّلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اسْتُحِبَّ. ثُمَّ لَكَ أَنْ تَقُولَ: الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ، وَإِنْ جَوَّزْنَا الْأَخْذَ، لِأَنَّ الْأَخْذَ الْمَمْنُوعَ إِنَّمَا هُوَ الْأَخْذُ لِلتَّمَلُّكِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْبَعِيرَ لَا يُؤْخَذُ لِلتَّمَلُّكِ. قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْبَعِيرِ لِآحَادِ النَّاسِ لِلْحِفْظِ وَجْهَانِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، ظَهَرَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَفَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالنَّحْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب اللقيط

كِتَابُ اللَّقِيطِ يُقَالُ لِلصَّبِيِّ الْمُلْقَى الضَّائِعِ: لَقِيطٌ، وَمَلْقُوطٌ، وَمَنْبُوذٌ، وَفِيهِ بَابَانِ. [الْبَابُ] الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِ الِالْتِقَاطِ الشَّرْعِيِّ وَأَحْكَامِهِ. أَمَّا الْأَرْكَانُ، فَثَلَاثَةٌ. أَحَدُهَا: نَفْسُ الِالْتِقَاطِ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَمَنْ أَخَذَ لَقِيطًا، لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ لِئَلَّا يَضِيعَ نَسَبُهُ. وَقِيلَ: فِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ كَاللُّقَطَةِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ. وَإِنْ كَانَ مَسْتُورَهَا، لَزِمَهُ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْإِشْهَادَ فَتَرَكَهُ، قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْحَضَانَةِ، وَيَجُوزُ الِانْتِزَاعُ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِ الْإِشْهَادِ الْوَاجِبِ بِابْتِدَاءِ الِالْتِقَاطِ. وَإِذَا أَشْهَدَ، فَلْيَشْهَدْ عَلَى اللَّقِيطِ وَمَا مَعَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: اللَّقِيطُ، وَهُوَ كُلُّ صَبِيٍّ ضَائِعٍ لَا كَافِلَ لَهُ، فَيَخْرُجُ بِقَيْدِ الصَّبِيِّ الْبَالِغِ، لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْحَضَانَةِ، وَالتَّعَهُّدِ، فَلَا مَعْنَى لِلِالْتِقَاطِ. لَكِنْ لَوْ وَقَعَ فِي مَعْرِضِ هَلَاكٍ، أُعِينَ لِيَتَخَلَّصَ. وَفِي الصَّبِيِّ الَّذِي بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ، وَالْأَوْفَقُ لِكَلَامِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ يُلْتَقَطُ، لِحَاجَتِهِ إِلَى التَّعَهُّدِ. وَالْمُرَادُ بِالضَّائِعِ: الْمَنْبُوذُ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَنْبُوذِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَلَا جَدٌّ وَلَا وَصِيٌّ، فَحِفْظُهُ مِنْ وَظِيفَةِ الْقَاضِي، فَيُسَلِّمُهُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ كَافِلٌ مَعْلُومٌ، فَإِذَا فُقِدَ، قَامَ الْقَاضِي مَقَامَهُ. وَقَوْلُنَا: لَا كَافِلَ لَهُ، الْمُرَادُ بِالْكَافِلِ: الْأَبُ وَالْجَدُّ وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا. وَالْمُلْتَقَطُ مِمَّنْ هُوَ فِي حَضَانَةِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ، لَا مَعْنَى لِالْتِقَاطِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ فِي مَضْيَعَةٍ أُخِذَ لِيُرَدَّ إِلَى حَاضِنِهِ.

قُلْتُ: مَعْنَاهُ: يَجِبُ أَخْذُهُ لِرَدِّهِ إِلَى حَاضِنِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُلْتَقِطُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: التَّكْلِيفُ، فَلَا يَصِحُّ الْتِقَاطُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، الثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ، فَالْعَبْدُ إِذَا الْتَقَطَ يُنْتَزَعُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ سَيِّدُهُ. وَإِنْ أَذِنَ أَوْ عَلِمَ بِهِ فَأَقَرَّهُ فِي يَدِهِ، جَازَ وَكَانَ السَّيِّدُ هُوَ الْمُلْتَقِطُ، وَهُوَ نَائِبُهُ فِي الْأَخْذِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَالْمُكَاتَبُ إِذَا الْتَقَطَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، انْتُزِعَ مِنْهُ أَيْضًا. وَإِنِ الْتَقَطَ بِإِذْنِهِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي تَبَرُّعَاتِهِ بِالْإِذْنِ، لَكِنَّ الْمَذْهَبَ الِانْتِزَاعُ، لِأَنَّ فِي الِالْتِقَاطِ وِلَايَةً وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا. فَإِنْ قَالَ لَهُ السَّيِّدُ: الْتَقِطْ لِي صَغِيرًا، فَالسَّيِّدُ هُوَ الْمُلْتَقِطُ. وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ إِذَا الْتُقِطَ فِي يَوْمِهِ، هَلْ يَسْتَحِقُّ كَفَالَتَهُ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْمُعْتَمَدِ» . الثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ، فَالْكَافِرُ يَلْتَقِطُ الطِّفْلَ الْكَافِرَ دُونَ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِهِ، وَلِلْمُسْلِمِ الْتِقَاطُ الصَّبِيِّ الْمَحْكُومِ بِكُفْرِهِ. الرَّابِعُ: الْعَدَالَةُ، فَلَيْسَ لِلْفَاسِقِ الِالْتِقَاطُ. وَلَوِ الْتَقَطَ، انْتُزِعَ مِنْهُ، وَأَمَّا مَنْ ظَاهِرُ حَالِهِ الْأَمَانَةُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُخْتَبَرْ، فَلَا يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ، لَكِنْ يُوكِلُ الْقَاضِي بِهِ مَنْ يُرَاقِبُهُ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ لِئَلَّا يَتَأَذَّى. فَإِذَا وَثِقَ بِهِ، صَارَ كَمَعْلُومِ الْعَدَالَةِ. وَقَبْلَ ذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْمُسَافَرَةَ بِهِ مُنِعَ وَانْتُزِعَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ. الْخَامِسُ: الرُّشْدُ، فَالْمُبَذِّرُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، لَا يُقِرُّ اللَّقِيطَ فِي يَدِهِ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَقِطِ الذُّكُورَةُ قَطْعًا، وَلَا الْغِنَى. وَقِيلَ: لَا يُقِرُّ فِي يَدِ الْفَقِيرِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا ازْدَحَمَ اثْنَانِ عَلَى لَقِيطٍ، نُظِرَ، إِنِ ازْدَحَمَا قَبْلَ الْأَخْذِ، وَطَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخْذَهُ وَحَضَانَتَهُ، جَعَلَهُ الْحَاكِمُ فِي يَدِ مَنْ رَآهُ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، إِذْ لَا حَقَّ لَهُمَا قَبْلَ الْأَخْذِ. وَإِنِ ازْدَحَمَا بَعْدَ الْأَخْذِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَهْلًا لِلِالْتِقَاطِ، سُلِّمَ اللَّقِيطُ إِلَى الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَا أَهْلَيْنِ، قُدِّمَ أَسْبَقُهُمَا بِالِالْتِقَاطِ. وَهَلْ يَثْبُتُ السَّبْقُ بِالْوُقُوفِ عَلَى رَأْسِهِ بِغَيْرِ أَخْذٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَقَدْ يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِصِفَةِ تَقَدُّمِهِ، وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ، وَالصِّفَاتُ الْمُقَدَّمَةُ أَرْبَعٌ. إِحْدَاهَا: الْغِنَى، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَنِيًّا وَالْآخَرُ فَقِيرًا، فَقِيلَ: يَسْتَوِيَانِ. وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ الْغَنِيِّ. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَفَاوَتَا فِي الْغِنَى، فَهَلْ يُقَدَّمُ أَكْثَرُهُمَا مَالًا؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ لَا يُقَدَّمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: الْبَلَدُ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَلَدِيًّا وَالْآخَرُ قَرَوِيًّا، أَوْ بَدَوِيًّا، فَفِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي فَصْلِ الْأَحْكَامِ. الثَّالِثَةُ: مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ بِالِاخْتِبَارِ، يُقَدَّمُ عَلَى الْمَسْتُورِ عَلَى الْأَصَحِّ. الرَّابِعَةُ: الْحُرُّ أَوْلَى مِنَ الْمُكَاتَبِ، وَإِنِ الْتَقَطَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا الْتَقَطَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَالِاعْتِبَارُ بِالسَّيِّدِ، وَالْآخَرِ، وَلَا تُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ عَلَى الرَّجُلِ، بِخِلَافِ الْأُمِّ فِي الْحَضَانَةِ، لِأَنَّ شَفَقَتَهَا أَكْمَلُ، وَيَتَسَاوَى الْمُسْلِمُ، وَالذِّمِّيُّ فِي اللَّقِيطِ الْمَحْكُومِ بِكُفْرِهِ، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ الْمُسْلِمُ، وَقِيلَ: الذِّمِّيُّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي الصِّفَاتِ وَتَشَاحَّا، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: يُقَدِّمُ الْحَاكِمُ مَنْ رَآهُ مِنْهُمَا أَصْلَحَ لِلَّقِيطِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا أَوْ تَحَيَّرَ، أَقْرَعَ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَا يُخَيَّرُ الصَّبِيُّ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ، بِخِلَافِ تَخْيِيرِهِ بَيْنَ

فصل

الْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّ هُنَاكَ يُعَوَّلُ عَلَى الْمَيْلِ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُخَيَّرَ وَيُقَدَّمَ اخْتِيَارُهُ عَلَى الْقُرْعَةِ، وَإِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِأَحَدِهِمَا، فَتَرَكَ حَقَّهُ لِلْآخَرِ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَيْسَ لِلْمُنْفَرِدِ نَقْلُ حَقِّهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ تَرَكَ حَقَّهُ قَبْلَ الْقُرْعَةِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَنْفَرِدُ بِهِ كَالشَّفِيعَيْنِ وَالثَّانِي: لَا بَلْ يُرْفَعُ إِلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يُقِرَّهُ فِي يَدِ الْآخَرِ إِنْ رَآهُ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَمِينًا آخَرَ فَيَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ. وَقَالَ الْإِمَامُ تَفْرِيعًا عَلَى الثَّانِي: إِنَّ التَّارِكَ لَا يَتْرُكُهُ الْحَاكِمُ، بَلْ يَقْرَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ. فَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ، أَلْزَمَهُ الْقِيَامَ بِحَضَانَتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ إِذَا شَرَعَ فِي الِالْتِقَاطِ، لَا يَجُوزُ لَهُ التَّرْكُ، وَسَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَصْلٌ وَأَمَّا أَحْكَامُ الِالْتِقَاطِ. فَمِنْهَا: أَنَّ الَّذِي يَلْزَمُ الْمُلْتَقِطَ حِفْظُ اللَّقِيطِ وَرِعَايَتُهُ. فَأَمَّا نَفَقَتُهُ، فَلَا تَلْزَمُهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَحَلِّهَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْحِفْظِ لِأَمْرٍ عَرَضَ، سَلَّمَهُ إِلَى الْقَاضِي، وَإِنَّ تَبَرَّمَ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ هَلْ يَلْزَمُ الْإِتْمَامَ وَيَصِيرُ الشَّارِعُ مُتَعَيِّنًا؟ وَمَوْضِعُ ذِكْرِهِ كِتَابُ السِّيَرِ، وَالْأَصَحُّ هُنَا: أَنَّ لَهُ التَّسْلِيمَ إِلَى الْقَاضِي، وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نَبْذُهُ وَرَدُّهُ إِلَى مَا كَانَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ فِي هَذَا الْبَابِ لَفْظَ الْحَضَانَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحِفْظُ وَالتَّرْبِيَةُ، لَا الْأَعْمَالُ الْمُفَصَّلَةُ فِي الْإِجَارَةِ، لِأَنَّ فِيهَا مَشَقَّةٌ وَمَؤْنَةٌ كَثِيرَةٌ، فَكَيْفَ تَلْزَمُ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ؟ وَقَدْ أَوْضَحَهُ الْبَغَوِيُّ فَقَالَ: نَفَقَةُ اللَّقِيطِ وَحَضَانَتُهُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَوَظِيفَةُ الْمُلْتَقِطِ حِفْظُهُ وَحِفْظُ مَالِهِ.

فَرْعٌ الْمُلْتَقِطُ الْبَلَدِيُّ، إِذَا وَجَدَ لَقِيطًا فِي بَلْدَتِهِ، أَقَرَّ فِي يَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى الْبَادِيَةِ إِنْ أَرَادَ الِانْتِقَالَ [إِلَيْهَا] ، بَلْ يُنْتَزَعُ مِنْهُ لِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَيْشَ الْبَادِيَةِ خَشِنٌ، وَيَفُوتُهُ الْعِلْمُ بِالدِّينِ وَالصَّنْعَةِ. وَالثَّانِي: تَعْرِيضُ نَسَبِهِ لِلضَّيَاعِ. فَلَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ الْمُنْتَقَلُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَادِيَةِ فِي بَيَاضِ الْبَلْدَةِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ مَا يُرَادُ مِنْهَا، فَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ: لَا يُمْنَعُ. وَعَلَى الثَّانِي: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَخْتَلِطُونَ بِهِمْ، فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا، مُنِعَ. وَكَمَا لَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى الْبَادِيَةِ، فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى قَرْيَةٍ. وَلَوْ أَرَادَ نَقْلَهُ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى، أَوِ الْتَقَطَهُ غَرِيبٌ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ، وَأَرَادَ نَقْلَهُ إِلَى بَلْدَتِهِ، فَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ: لَا يُمْنَعُ، وَعَلَى الثَّانِي: يُمْنَعُ وَيُنْتَزَعُ اللَّقِيطُ مِنْهُ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَفَرِ النَّقْلَةِ وَالتِّجَارَةِ، وَالزِّيَارَةِ. وَلَوْ وَجَدَ الْقَرَوِيُّ لَقِيطًا فِي قَرْيَتِهِ أَوْ قَرْيَةٍ أُخْرَى أَوْ [فِي] بَلْدَةٍ، يُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَلَدِيِّ. وَلَوْ وَجَدَ الْحَضَرِيُّ اللَّقِيطَ فِي بَادِيَةٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ فِي مَهْلَكَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهِ، وَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إِلَى مَقْصِدِهِ. وَمَنْ قَالَ فِي اللُّقَطَةِ: يُعَرِّفُهَا فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ، يُشْبِهُ أَنْ يَقُولَ: لَا يَذْهَبُ بِهِ إِلَى مَقْصِدِهِ رِعَايَةً لِلنَّسَبِ. وَإِنْ كَانَ فِي حِلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ، فَلَهُ نَقْلُهُ إِلَى الْبَلْدَةِ وَالْقَرْيَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ. وَلَوْ أَقَامَ هُنَاكَ، أَقَرَّ فِي يَدِهِ قَطْعًا. أَمَّا الْبَدَوِيُّ، فَإِذَا الْتَقَطَ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ بَلْدَةٍ، وَأَرَادَ الْمُقَامَ بِهَا أَقَرَّ فِي يَدِهِ. وَإِنْ أَرَادَ نَقْلَهُ إِلَى الْبَادِيَةِ، أَوْ قَرْيَةٍ، أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَضَرِيِّ. وَإِنْ وَجَدَهُ فِي حِلَّةٍ، أَوْ قَبِيلَةٍ فِي الْبَادِيَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ حِلَّةٍ مُقِيمِينَ فِي مَوْضِعٍ رَاتِبٍ، أَقَرَّ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعِ مُنْتَجِعِينَ، فَفِي مَنْعِهِ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا لَا مَنْعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوِ ازْدَحَمَ عَلَى لَقِيطٍ فِي الْبَلْدَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ مُقِيمٌ بِهَا وَظَاعِنٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي «الْمُخْتَصَرِ» : الْمُقِيمُ أَوْلَى. قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنْ كَانَ الظَّاعِنُ يَظْعَنُ إِلَى الْبَادِيَةِ، أَوْ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى، وَقُلْنَا: لَيْسَ لِلْمُنْفَرِدِ الْخُرُوجُ بِهِ إِلَى بَلْدَةٍ، فَالْمُقِيمُ أَوْلَى، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ لَهُ ذَلِكَ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَى لَقِيطٍ فِي الْقَرْيَةِ قَرَوِيٌّ مُقِيمٌ بِهَا وَبَلَدِيٌّ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْقَرَوِيُّ أَوْلَى، وَهَذَا يَخْرُجُ عَلَى مَنْعِ النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. فَإِنْ جَوَّزْنَا، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: هُمَا سَوَاءٌ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ الْجَزْمُ بِتَقْدِيمِ الْقَرَوِيِّ مُطْلَقًا، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَإِنَّمَا نُجَوِّزُ النَّقْلَ إِذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اجْتَمَعَ حَضَرِيٌّ وَبَدَوِيٌّ عَلَى لَقِيطٍ فِي الْبَادِيَةِ، نُظِرَ، إِنْ وُجِدَ فِي حِلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ، وَالْبَدَوِيُّ فِي مَوْضِعِ رَاتِبٍ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْبَدَوِيُّ أَوْلَى إِنْ كَانَ مُقِيمًا فِيهِمْ. وَإِنْ كَانَ مُنْتَجِعًا، فَإِنْ قُلْنَا: يُقِرُّ فِي يَدِهِ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، فَهُمَا سَوَاءٌ، وَإِلَّا، فَالْحَضَرِيُّ أَوْلَى. وَإِنْ وُجِدَ فِي مَهْلَكَةٍ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْحَضَرِيُّ أَوْلَى. وَقِيَاسُ قَوْلِهِ: تَقْدِيمُ الْبَدَوِيِّ أَوْ مَنْ كَانَ مَكَانَهُ أَقْرَبُ إِلَى مَوْضِعِ الِالْتِقَاطِ، أَقْرَبُ.

فَرْعٌ اللَّقِيطُ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ يَسْتَحِقُّهُ بِكَوْنِهِ لَقِيطًا أَوْ بِغَيْرِهِ، فَالْأَوَّلُ: كَالْوَقْفِ عَلَى اللُّقَطَاءِ وَالْوَصِيَّةُ لَهُمْ، وَالثَّانِي: كَالْوَصِيَّةِ لِهَذَا اللَّقِيطِ وَالْهِبَةُ لَهُ وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ، وَيَقْبَلُ لَهُ الْقَاضِي مِنْ هَذَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ. وَمِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا، مَا يُوجَدُ تَحْتَ يَدِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، فَإِنَّ لِلصَّغِيرِ يَدًا وَاخْتِصَاصًا كَالْبَالِغِ، وَالْأَصْلُ الْحُرِّيَّةُ مَا لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهَا، وَذَلِكَ كَثِيَابِهِ الَّتِي هُوَ لَابِسُهَا، وَالْمَفْرُوشَةِ تَحْتَهُ، وَالْمَلْفُوفَةِ عَلَيْهِ، وَمَا غُطِّيَ بِهِ مِنْ لِحَافٍ وَغَيْرِهِ، وَمَا شُدَّ عَلَيْهِ، وَعَلَى ثَوْبِهِ، أَوْ جُعِلَ فِي جَيْبِهِ مِنْ حُلِيٍّ، وَدَرَاهِمَ، وَغَيْرِهَا، وَكَذَا الدَّابَّةُ الَّتِي عِنَانُهَا بِيَدِهِ، أَوْ هِيَ مَشْدُودَةٌ فِي وَسَطِهِ، أَوْ ثِيَابِهِ، وَالْمَهْدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَكَذَا الدَّنَانِيرُ الْمَنْثُورَةُ فَوْقَهُ وَالْمَصْبُوبَةُ تَحْتَهُ وَتَحْتَ فِرَاشِهِ. وَفِي الَّتِي تَحْتَهُ، وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَلَوْ كَانَ فِي خَيْمَةٍ أَوْ دَارٍ لَيْسَ فِيهِمَا غَيْرُهُ، فَهُمَا لَهُ. وَعَنِ «الْحَاوِي» وَجْهَانِ فِي «الْبُسْتَانِ» . قُلْتُ: وَطَرَدَ صَاحِبُ «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» الْوَجْهَيْنِ فِي الضَّيْعَةِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ بِقُرْبِهِ ثِيَابٌ وَأَمْتِعَةٌ مَوْضُوعَةٌ، أَوْ دَابَّةٌ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا تُجْعَلُ لَهُ كَمَا لَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً. وَالثَّانِي: بَلَى، لِأَنَّ هَذَا يُثْبِتُ الْيَدَ وَالِاخْتِصَاصَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْتِعَةَ الْمَوْضُوعَةَ فِي السُّوقِ بِقُرْبِ الشَّخْصِ تُجْعَلُ لَهُ. وَالْمَالَ الْمَدْفُونَ تَحْتَ اللَّقِيطِ لَا يُجْعَلُ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِالدَّفْنِ الضَّمَّ إِلَى الطِّفْلِ، بِخِلَافِ مَا يُلَفُّ عَلَيْهِ وَيُوضَعُ بِقُرْبِهِ. فَلَوْ وُجِدَتْ مَعَهُ أَوْ فِي ثِيَابِهِ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: إِنَّ تَحْتَهُ دَفِينًا لَهُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: أَنَّهُ لَهُ بِقَرِينَةِ الْمَكْتُوبِ. وَالثَّانِي: لَا أَثَرَ لِلرُّقْعَةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ

الْأَكْثَرِينَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمَنْ عَوَّلَ عَلَى الرُّقْعَةِ لَيْتَ شِعْرِي مَا يَقُولُ لَوْ أَرْشَدَتِ الرُّقْعَةُ إِلَى دَفِينٍ بِالْبُعْدِ مِنْهُ، أَوْ دَابَّةٍ مَرْبُوطَةٍ بِالْبُعْدِ مِنْهُ. قُلْتُ: مُقْتَضَاهُ أَنْ نَجْعَلَهُ لِلَّقِيطِ، فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الرُّقْعَةِ، لَا عَلَى كَوْنِهِ تَحْتَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَتْ دَابَّةً مَشْدُودَةً بِاللَّقِيطِ وَعَلَيْهَا رَاكِبٌ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: هِيَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ إِنَّ مَا سِوَى الدَّفِينِ مِنْ [هَذِهِ] الْأَمْوَالِ إِذَا لَمْ يُجْعَلْ لِلَّقِيطِ، فَهُوَ لُقَطَةٌ، وَالدَّفِينُ قَدْ يَكُونُ لُقَطَةً وَقَدْ يَكُونُ رِكَازًا كَمَا سَبَقَ. [فَرْعٌ] إِذَا عُرِفَ لِلَّقِيطِ مَالٌ، فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ. فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُنْفِقُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ. وَالثَّانِي: يَسْتَقْرِضُ لَهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ بَعْضِ النَّاسِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ وَلَمْ يَقْرِضْ أَحَدٌ، جَمَعَ الْإِمَامُ أَهْلَ الثَّرْوَةِ مِنَ الْبَلَدِ، وَقَسَّطَ عَلَيْهِمْ نَفَقَتَهُ، وَجَعَلَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنْ بَانَ رَقِيقًا، رَجَعُوا عَلَى سَيِّدِهِ. وَإِنْ بَانَ حُرًّا، أَوْ لَهُ مَالٌ أَوْ قَرِيبٌ، فَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ. وَإِنْ بَانَ حُرًّا لَا قَرِيبَ لَهُ، وَلَا مَالَ وَلَا كَسْبَ، قَضَى الْإِمَامُ حَقَّهُمْ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ، أَوِ الْمَسَاكِينِ، أَوِ الْغَارِمِينَ كَمَا يَرَاهُ. قُلْتُ: اعْتِبَارُهُ الْقَرِيبَ غَرِيبٌ، قَلَّ مَنْ ذَكَرَهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ: إِنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَالٌ، أَوْ كَانَ هُنَاكَ مَا هُوَ أَهَمُّ، كَسَدِّ ثَغْرٍ يَعْظُمُ ضَرَرُهُ لَوْ تُرِكَ، قَامَ الْمُسْلِمُونَ بِكِفَايَتِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ تَضْيِيعُهُ. ثُمَّ هَلْ طَرِيقُهُ طَرِيقُ النَّفَقَةِ، أَمْ طَرِيقُ الْقَرْضِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَالَّذِي يَقْتَضِي كَلَامُ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ تَرْجِيحَهُ: أَنَّهُ طَرِيقُ الْقَرْضِ. فَإِنْ قُلْنَا: طَرِيقُ النَّفَقَةِ، فَقَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ، انْدَفَعَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ. وَإِنِ امْتَنَعُوا، أَثِمُوا كُلُّهُمْ، وَطَالَبَهُمُ الْإِمَامُ. فَإِنْ أَصَرُّوا، قَاتَلَهُمْ، وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يَقْتَرِضُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: طَرِيقُ الْقَرْضِ يُثْبِتُ الرُّجُوعَ. وَعَلَى هَذَا، إِنْ تَيَسَّرَ الِاقْتِرَاضُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، قَسَّطَ الْإِمَامُ نَفَقَتَهُ عَلَى الْمُوسِرِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ [ثُمَّ] إِنْ ظَهَرَ عَبْدًا، فَالرُّجُوعُ عَلَى سَيِّدِهِ. وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ أَوِ اكْتَسَبَ، فَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، قُضِيَ مِنْ سَهْمِ الْمَسَاكِينِ أَوِ الْغَارِمِينَ. وَإِنْ حَصَلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَيَسَارِهِ، قُضِيَ مِنْهُ. وَإِنْ حَصَلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ حَصَلَ لِلَّقِيطِ مَالٌ دُفْعَةً وَاحِدَةً، قُضِيَ مِنْ مَالِ اللَّقِيطِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَفِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْأَصْحَابُ لِطَرْدِ الْخِلَافِ، فِي أَنَّهُ إِنْفَاقٌ أَوْ إِقْرَاضٌ، إِذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ وَقُلْنَا: نَفَقَتُهُ مِنْهُ، وَالْقِيَاسُ طَرْدُهُ. قُلْتُ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ، أَنَّهُ إِنْفَاقٌ، فَلَا رُجُوعَ لِبَيْتِ الْمَالِ قَطْعًا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ الظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَيْثُ قُلْنَا: يُقَسِّطُهَا الْإِمَامُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَذَاكَ عِنْدَ إِمْكَانِ الِاسْتِيعَابِ. فَإِنْ كَثُرُوا أَوْ تَعَذَّرَ التَّوْزِيعُ عَلَيْهِمْ، قَالَ الْإِمَامُ: يَضْرِبُهَا السُّلْطَانُ عَلَى مَنْ يَرَاهُ مِنْهُمْ بِاجْتِهَادِهِ. فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي اجْتِهَادٍ، تَخَيَّرَ، وَالْمُرَادُ أَغْنِيَاءُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا كَانَ لِلَّقِيطٍ مَالٌ، هَلْ يَسْتَقِلُّ الْمُلْتَقِطُ بِحِفْظِهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْقَاضِي، إِذْ لَا وِلَايَةَ لِلْمُلْتَقِطِ. وَأَرْجَحُهُمَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْبَغَوِيِّ: الِاسْتِقْلَالُ. قُلْتُ: رَجَّحَ [الْإِمَامُ] الرَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي «الْمُحَرَّرِ» هَذَا الثَّانِيَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ ظَهَرَ مُنَازِعٌ فِي الْمَالِ الْمَخْصُوصِ بِاللَّقِيطِ، فَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ مُخَاصَمَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْحِفْظِ أَمْ لَا، فَلَيْسَ لَهُ إِنْفَاقُهُ عَلَى اللَّقِيطِ إِلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي إِذَا أَمْكَنَ مُرَاجَعَتُهُ. فَإِنْ أَنْفَقَ، ضَمِنَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى اللَّقِيطِ كَمَنْ فِي يَدِهِ مَالُ وَدِيعَةٍ لِيَتِيمٍ أَنْفَقَهَا عَلَيْهِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ [وَهُوَ شَاذٌّ] ، وَإِذَا رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَلْيَأْخُذِ الْمَالَ مِنْهُ وَيُسَلِّمْهُ إِلَى أَمِينٍ لِيُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى اللَّقِيطِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يَصْرِفَهُ إِلَى الْمُلْتَقِطِ يَوْمًا يَوْمًا. ثُمَّ إِنْ خَالَفَ الْأَمِينُ وَقَتَّرَ عَلَيْهِ، مُنِعَ مِنْهُ، وَإِنْ أَسْرَفَ، ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمِينِ وَالْمُلْتَقِطِ الزِّيَادَةَ، وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ إِنْ كَانَ سَلَّمَ إِلَيْهِ، لِحُصُولِ الْهَلَاكِ فِي يَدِهِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ وَيَأْذَنَ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهُ؟ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلَّقِيطِ مَالٌ وَاحْتِيجَ إِلَى الِاقْتِرَاضِ لَهُ، هَلْ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُلْتَقِطِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ [لِيَرْجِعَ] ؟ نَصَّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَنَصَّ فِي الضَّالَّةِ، أَنَّهُ لَا يَأْذَنُ لِوَاجِدِهَا فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهَا، بَلْ يَأْخُذُ الْمَالَ مِنْهُ وَيَدْفَعُهُ. إِلَى أَمِينٍ، ثُمَّ الْأَمِينُ يَدْفَعُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرَ الْحَاجَةِ، فَقَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ فِيهِمَا. وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: الْجَوَازُ فِيهِمَا لِلْحَاجَةِ، لِكَثْرَةِ الْمَشَقَّةِ، وَيُلْحَقُ لَا أَمِينَ

بِالْأَبِ فِي ذَلِكَ، وَسَبَقَ مِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِكِ عِنْدَ هَرَبِ عَامِلِ الْمُسَاقَاةِ، وَالْجَمَّالِ، وَأَجْرَاهُ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ فِي إِنْفَاقِ قَيِّمِ الطِّفْلِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِظَاهِرِ النَّصَّيْنِ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ اللَّقِيطَ لَا وَلِيَّ لَهُ فِي الظَّاهِرِ. رَجَعْنَا إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ لِلْمُلْتَقِطِ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ اللَّقِيطِ، فَالْأَكْثَرُونَ طَرَدُوا الطَّرِيقَيْنِ فِي جَوَازِهِ، وَالْأَحْسَنُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ كَقَيِّمِ الْيَتِيمِ يَأْذَنُ لَهُ الْقَاضِي فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ عَلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ هَذَا الْخِلَافُ فِي تَسْلِيمِ مَا اقْتَرَضَهُ الْقَاضِي عَلَى الجَّمَّالِ الْهَارِبِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَا ذِكْرَ لَهُ هُنَاكَ. وَإِذَا جَوَّزْنَاهُ، فَبَلَغَ اللَّقِيطُ وَاخْتَلَفَا فِيمَا أَنْفَقَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ إِذَا ادَّعَى قُدِّرَ الْإِيفَاءُ فِي الْحَالِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي هَرَبِ الجَّمَّالِ وَجْهٌ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الجَّمَّالِ، وَالْقِيَاسُ طَرْدُهُ هُنَا. وَإِنِ ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى اللَّائِقِ، فَهُوَ مَقِرٌّ بِتَفْرِيطِهِ، فَيَضْمَنُ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّحْلِيفِ. قَالَ الْإِمَامُ: لَكِنْ لَوْ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي عَيْنٍ، فَزَعَمَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ أَنْفَقَهَا، فَيُصَدَّقُ لِتَنْقَطِعَ الْمُطَالَبَةُ بِالْعَيْنِ، ثُمَّ يَضْمَنُ كَالْغَاصِبِ إِذَا ادَّعَى التَّلَفَ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَمْكَنَ مُرَاجَعَةُ الْقَاضِي. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَاضٍ، فَهَلْ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ اللَّقِيطِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، أَمْ يَدْفَعُهُ إِلَى أَمِينٍ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ أَشْهَدَ لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِلَّا، ضَمِنَ عَلَى الْأَصَحِّ. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ اللَّقِيطِ هِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ، وَإِسْلَامُ الشَّخْصِ قَدْ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ اسْتِقْلَالًا، وَقَدْ يَثْبُتُ تَبَعًا. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، فَالْبَالِغُ الْعَاقِلُ، يَصِحُّ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ الْإِسْلَامِ بِالنُّطْقِ إِنْ كَانَ نَاطِقًا،

فصل

وَبِالِإِشَارَةِ إِنْ كَانَ أَخْرَسَ. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، فَلَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُمَا مُبَاشَرَةً بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِمَا إِلَّا بِالتَّبَعِيَّةِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ. وَالثَّانِي: يَتَوَقَّفُ. فَإِنْ بَلَغَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، تَبَيَّنَّا كَوْنَهُ مُسْلِمًا مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لَغْوًا. وَقَدْ يُعَبِّرُ عَنْ هَذَا بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ إِسْلَامُهُ حَتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْكَافِرَةِ وَيُوَرَّثُ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ، قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ. وَعَلَى هَذَا، لَوِ ارْتَدَّ، صَحَّتْ رِدَّتُهُ، لَكِنْ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ. فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا، قُتِلَ. قُلْتُ: الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الرِّدَّةِ بَعِيدٌ، بَلْ غَلَطٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبَوَيْهِ وَأَهْلِهِ الْكُفَّارِ لِئَلَّا يَفْتِنُوهُ. فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الْكُفْرَ، هُدِّدَ وَطُولِبَ بِالْإِسْلَامِ. فَإِنْ أَصَرَّ، رُدَّ إِلَيْهِمْ. وَهَلْ هَذِهِ الْحَيْلُولَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، أَمْ وَاجِبَةٌ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مُسْتَحَبَّةٌ، فَلْيَتَلَطَّفْ بِوَالِدَيْهِ لِيُؤْخَذَ مِنْهُمَا. فَإِنْ أَبَيَا، فَلَا حَيْلُولَةَ. هَذَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا. فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِذَا أَضْمَرَ الْإِسْلَامَ كَمَا أَظْهَرَهُ، كَانَ مِنَ الْفَائِزِينَ بِالْجَنَّةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا. قَالَ الْإِمَامُ: فِي هَذَا إِشْكَالٌ، لِأَنَّ مَنْ يُحْكَمُ لَهُ بِالْفَوْزِ لِإِسْلَامِهِ، كَيْفَ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؟ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ يُحْكَمُ بِالْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا، كَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ. فَصْلٌ لِلتَّبَعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ ثَلَاثُ جِهَاتٍ. إِحْدَاهَا: إِسْلَامُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَيُتَصَوَّرُ

ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَبَوَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا يَوْمَ الْعُلُوقِ، فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ مُسْلِمٍ، فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الْكُفْرَ، فَهُوَ مُرْتَدٌّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا كَافِرَيْنِ يَوْمَ الْعُلُوقِ، ثُمَّ يُسْلِمَا أَوْ أَحَدُهُمَا، فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْوَلَدِ فِي الْحَالِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَسَوَاءٌ اتَّفَقَ الْإِسْلَامُ فِي حَالِ اجْتِنَانِ الْوَلَدِ أَوْ بَعْدَ انْفِصَالِهِ، وَسَنَذْكُرُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مَا يَفْتَرِقُ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ بِإِسْلَامِهِ. وَفِي مَعْنَى الْأَبَوَيْنِ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ، سَوَاءٌ كَانُوا وَارِثِينَ أَمْ لَمْ يَكُونُوا، فَإِذَا أَسْلَمَ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ، أَوْ أَبُو الْأُمِّ، تَبِعَهُ الصَّبِيُّ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَبُ حَيًّا قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ إِذَا بَلَغَ هَذَا الصَّبِيُّ، فَإِنْ أَفْصَحَ بِالْإِسْلَامِ، تَأَكَّدَ مَا حَكَمْنَا بِهِ. وَإِنْ أَفْصَحَ بِالْكُفْرِ، فَقَوْلَانِ. الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ مُرْتَدٌّ، لِأَنَّهُ سَبَقَ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِهِ جَزْمًا، فَأَشْبَهَ مَنْ بَاشَرَ الْإِسْلَامَ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَمَا إِذَا حَصَلَ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ أَوَّلًا وَأُزِيلَ تَبَعًا، فَإِذَا اسْتَقَلَّ، زَالَتِ التَّبَعِيَّةُ. وَيُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخْرِجٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ وَقَطَعَ بِالْأَوَّلِ. فَإِنْ حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ مُرْتَدًّا لَمْ يُنْقَضْ شَيْئًا مِمَّا أَمَضَيْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: إِمْضَاؤُهَا بِحَالِهَا، لِجَرَيَانِهِ فِي حَالِ التَّبَعِيَّةِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّا نَتَبَيَّنُ بُطْلَانَهَا، وَنَسْتَدْرِكُ مَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ، حَتَّى يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ تَرِكَةِ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ، وَيَأْخُذَ مِنْ تَرِكَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ مَا حَرَمْنَاهُ مِنْهُ، وَنَحْكُمُ بِأَنَّ إِعْتَاقَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَقَعْ مُجْزِئًا. هَذَا فِيمَا جَرَى فِي الصِّغَرِ. فَأَمَّا إِذَا بَلَغَ وَمَاتَ لَهُ قَرِيبٌ مُسْلِمٌ قَبْلَ أَنْ يُفْصِحَ بِشَيْءٍ، أَوْ أُعْتِقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ فِي هَذَا الْحَالِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَوْ أَفْصَحَ بِالْكُفْرِ كَانَ مُرْتَدًّا، أَمْضَيْنَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَلَا تُنْقَضُ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَافِرًا أَصْلِيًّا، فَإِنْ أَفْصَحَ بِالْكُفْرِ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا إِرْثَ وَلَا إِجْزَاءَ عَنِ الْكَفَّارَةِ. وَإِنْ فَاتَ الْإِفْصَاحُ بِمَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: إِمْضَاءُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ مَاتَ فِي الصِّغَرِ.

وَأَصَحُّهُمَا: نَتَبَيَّنُ الِانْتِقَاضَ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّبَعِبَّيَةِ الصِّغَرُ وَقَدْ زَالَ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْحَالِ حُكْمُهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُرَدُّ الْأَمْرُ إِلَى الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ إِنْ مَاتَ قَبْلَ الْإِفْصَاحِ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ، وَرِثَهُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ. وَلَوْ مَاتَ لَهُ قَرِيبٌ مُسْلِمٌ، فَإِرْثُهُ عَنْهُ مَوْقُوفٌ. قَالَ الْإِمَامُ: أَمَّا التَّوْرِيثُ مِنْهُ، فَيَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْإِفْصَاحِ، هَلْ يُنْقَضُ الْحُكْمُ؟ وَأَمَّا تَوْرِيثُهُ، فَإِنْ أَرَادَ بِالتَّوَقُّفِ أَنَّهُ يُقَالُ: لَوْ أَفْصَحَ بِالْإِسْلَامِ، فَهُوَ قَرِيبٌ، وَيُسْتَفَادُ بِهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ. وَأَمَّا لَوْ مَاتَ الْقَرِيبُ، ثُمَّ مَاتَ هُوَ، وَفَاتَ الْإِفْصَاحُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ تَوْرِيثِهِ وَالتَّوْرِيثِ عَنْهُ. وَلَوْ قُتِلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَقَبْلَ الْإِفْصَاحِ، فَفِي تَعَلُّقِ الْقِصَاصِ بِقَتْلِهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ قُتِلَ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا، لِلشُّبْهَةِ وَانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ. وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَالَّذِي أَطْلَقُوهُ وَحَكَوْهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَعَلُّقُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ بِقَتْلِهِ، وَقِيَاسُ قَوْلِنَا: إِنَّهُ لَوْ أَفْصَحَ بِالْكُفْرِ كَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا، أَنْ لَا نُوجِبَ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ عَلَى رَأْيٍ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا فَاتَ الْإِفْصَاحُ بِالْمَوْتِ يُرَدُّ الْمِيرَاثُ عَلَى رَأْيٍ. قُلْتُ: الصَّوَابُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَصْحَابُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْمَحْكُومُ بِكُفْرِهِ إِذَا بَلَغَ مَجْنُونًا، حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّغِيرِ، حَتَّى إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ وَالِدَيْهِ تَبِعَهُ. وَإِنْ بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: تَبَعِيَّةُ السَّابِي، فَإِذَا سَبَى الْمُسْلِمُ طِفْلًا مُنْفَرِدًا عَنْ أَبَوَيْهِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّهُ صَارَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ كَالْأَبَوَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ، هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ،

وَشَذَّ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» فَذَكَرَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ فِي الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ وَجْهَيْنِ، وَزَعَمَ أَنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ تَنْبِيهًا عَلَى ضَعْفِهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ سَبَاهُ ذِمِّيٌّ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَلَا فِي أَوْلَادِهِ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى. فَعَلَى هَذَا، لَوْ بَاعَهُ الذِّمِّيُّ لِمُسْلِمٍ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ. وَلَوْ سُبِيَ وَمَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ قَطْعًا. فَلَوْ كَانَا مَعَهُ ثُمَّ مَاتَا، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا، لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ فِي ابْتِدَاءِ السَّبْيِ. قُلْتُ: مَعْنَى «سُبِيَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ» ، أَنْ يَكُونَا فِي جَيْشٍ وَاحِدٍ وَغَنِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهَا فِي مِلْكِ رَجُلٍ. قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي كِتَابِ «الظِّهَارِ» : إِذَا سَبَاهُ مُسْلِمٌ، وَسَبَى أَبَوَيْهِ غَيْرُهُ، إِنْ كَانَ فِي عَسْكَرٍ وَاحِدٍ، تَبِعَ أَبَوَيْهِ. وَإِنْ كَانَ فِي عَسْكَرَيْنِ، تَبِعَ السَّابِيَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ حُكْمُ الصَّبِيِّ الْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلسَّابِي إِذَا بَلَغَ، حُكْمُ الْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ إِذَا بَلَغَ. فَرْعٌ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ، أَوْ لِلسَّابِي إِذَا وَصَفَ الْكُفْرَ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَافِرًا أَصْلِيًّا،

أَلْحَقْنَاهُ بِدَارِ الْحَرْبِ. فَإِنْ كَانَ كُفْرُهُ مِمَّا يُقِرُّ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ، قَرَّرْنَاهُ بِرِضَاهُ. وَإِنْ وَصَفَ كُفْرًا غَيْرَ مَا كَانَ مَوْصُوفًا بِهِ، فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ مِلَّةٍ إِلَى مِلَّةٍ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَأَمَّا تَجْهِيزُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَقَبْلَ الْإِفْصَاحِ، فَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ لَوْ أَفْصَحَ بِالْكُفْرِ كَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا؟ وَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي ذَلِكَ وَيُقَامَ فِيهِ شِعَارُ الْإِسْلَامِ. قُلْتُ: الَّذِي رَآهُ الْإِمَامُ هُوَ الْمُخْتَارُ أَوِ الصَّوَابُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: تَبَعِيَّةُ الدَّارِ. فَاللَّقِيطُ يُوجَدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ دَارِ الْكُفْرِ. الْحَالُ الْأَوَّلُ: دَارُ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: دَارٌ يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ، فَاللَّقِيطُ الْمَوْجُودُ فِيهَا مُسْلِمٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ، تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ. الثَّانِي: دَارٌ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَقَرُّوهَا فِي يَدِ الْكُفَّارِ بِجِزْيَةٍ، فَقَدْ مَلَكُوهَا، أَوْ صَالَحُوهُمْ وَلَمْ يَمْلِكُوهَا، فَاللَّقِيطُ فِيهَا مُسْلِمٌ إِنْ كَانَ فِيهَا مُسْلِمٌ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ، وَإِلَّا، فَكَافِرٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: مُسْلِمٌ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَلَدُ مَنْ يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ مِنْهُمْ. الثَّالِثُ: دَارٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْكُنُونَهَا، ثُمَّ جَلَوْا عَنْهَا وَغَلَبَ عَلَيْهَا الْكُفَّارُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَنْ يُعْرَفُ بِالْإِسْلَامِ، فَهُوَ كَافِرٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مُسْلِمٌ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ فِيهَا كَاتِمَ إِسْلَامِهِ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْرُوفٌ بِالْإِسْلَامِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. وَأَمَّا عَدُّ الْأَصْحَابِ الضَّرْبَ الثَّالِثَ دَارَ إِسْلَامٍ، فَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْقَدِيمَ يَكْفِي لِاسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ، وَرَأَيْتُ لِبَعْضِ

الْمُتَأَخِّرِينَ تَنْزِيلَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى مَا إِذَا كَانُوا لَا يَمْنَعُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، فَإِنْ مَنَعُوهُمْ، فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ. الْحَالُ الثَّانِي: دَارُ الْكُفْرِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَاللَّقِيطُ الْمَوْجُودُ فِيهَا مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا تُجَّارٌ مُسْلِمُونَ سَاكِنُونَ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ، أَوْ بِإِسْلَامِهِ تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ كَانَ فِيهَا أُسَارَى، وَرَأَى الْإِمَامُ تَرْتِيبَ الْخِلَافِ فِيهِمْ عَلَى التُّجَّارِ، لِأَنَّهُمْ مَقْهُورُونَ. قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي قَوْمٍ يَنْتَشِرُونَ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلْدَةِ، فَأَمَّا الْمَحْبُوسُونَ فِي الْمَطَامِيرِ، فَيَتَّجِهُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ أَثَرٌ كَمَا لَا أَثَرَ لِطُرُوقِ الْعَابِرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِالْكُفْرِ، فَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْبُقْعَةِ أَصْحَابَ مِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ أَصْوَنِهِمْ دِينًا. فَرْعٌ الصَّبِيُّ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ بِالدَّارِ، إِذَا بَلَغَ وَأَفْصَحَ بِالْكُفْرِ، فَهُوَ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ كَالْمُسْلِمِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوِ السَّابِي. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَصْلِيٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُرْتَدٌّ. فَإِذَا قُلْنَا: أَصْلِيٌّ، فَهَلْ نَتَوَقَّفُ فِي حَالِ صِبَاهُ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي يُشْتَرَطُ لَهَا الْإِسْلَامُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، بَلْ نُمْضِيهَا كَالْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ. وَالثَّانِي: نَتَوَقَّفُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيُفْصِحَ بِالْإِسْلَامِ. فَإِنْ مَاتَ فِي صِبَاهُ، لَمْ يُحْكَمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. فَرْعٌ اللَّقِيطُ الْمَوْجُودُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَوِ ادَّعَى ذِمِّيٌّ نَسَبَهُ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، لَحِقَهُ

وَتَبِعَهُ فِي الْكُفْرِ، وَارْتَفَعَ مَا كُنَّا نَظُنُّهُ. وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. ثَانِيهِمَا: يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ. فَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ، تَبِعَهُ فِي الدِّينِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ. وَحُجَّةُ الْمَذْهَبِ: أَنَّا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ، فَلَا نُغَيِّرُهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى كَافِرٍ. وَأَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ مِنْ مَسْلِمَةٍ، وَحِينَئِذٍ لَا يَتْبَعُ الدِّينُ النَّسَبَ. وَعَلَى الطَّرِيقَيْنِ، يُحَالُ بَيْنَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا وَصَفَ الْمُمَيِّزُ الْإِسْلَامَ. ثُمَّ إِذَا بَلَغَ وَوَصَفَ الْكُفْرَ، فَإِنْ قُلْنَا: يَتْبَعُهُ فِيهِ، قُرِّرَ، لَكِنَّهُ يُهَدَّدُ، وَلَعَلَّهُ يُسْلِمُ، وَإِلَّا، فَفِي تَقْرِيرِهِ مَا سَبَقَ مِنَ الْخِلَافِ. فَرْعٌ سَبَقَ أَنَّ اللَّقِيطَ الْمُسْلِمَ، يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ. فَأَمَّا الْمَحْكُومُ بِكُفْرِهِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: كَذَلِكَ، إِذْ لَا وَجْهَ لِتَضْيِيعِهِ. الْحُكْمُ الثَّانِي: جِنَايَةُ اللَّقِيطِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ. أَمَّا جِنَايَتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً، فَمُوجَبُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا نُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي التَّوَقُّفِ، كَمَا لَا نَتَوَقَّفُ فِي صَرْفِ تَرِكَتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ بَالِغًا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِشَرْطِهِ. وَإِنْ جَنَى قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ قُلْنَا: عَمْدُ الصَّبِيِّ عَمْدٌ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً فِي مَالِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَفِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَجِدَ. وَإِنْ قُلْنَا: خَطَأٌ، وَجَبَتْ مُخَفَّفَةً فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَلَوْ أَتْلَفَ مَالًا، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ، فَالتَّرِكَةُ فَيْءٌ، وَلَا تَكُونُ جِنَايَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْسِهِ، أُخِذَتِ الدِّيَةُ وَوُضِعَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقِيَاسُ مَنْ قَالَ بِالتَّوَقُّفِ فِي أَحْكَامِهِ: أَنْ لَا يُوجِبَ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ، وَلَمْ أَرَهُ.

قُلْتُ: الصَّوَابُ، الْجَزْمُ بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى طَرَفِهِ، فَوَاجِبُهَا حَقُّ اللَّقِيطِ يَسْتَوْفِيهِ الْقَاضِي، وَيَعُودُ فِيهِ الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ. وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا، فَإِنْ قُتِلَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: يَجِبُ قَطْعًا، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مَعْصُومٌ. وَإِنْ قُتِلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفْصَاحِ بِالْإِسْلَامِ، وَجَبَ قَطْعًا. وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُتَصَوَّرُ رِضَا كُلِّهِمْ بِاسْتِيفَائِهِ. وَإِنْ قُتِلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ الْإِفْصَاحِ، فَعَلَى الْخِلَافِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ قَطْعًا، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِفْصَاحِ الْوَاجِبِ. وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى الطَّرَفِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. ثَانِيهِمَا: يَتَوَقَّفُ. فَإِنْ بَلَغَ وَأَفْصَحَ، تَبَيَّنَّا وُجُوبَهُ، وَإِلَّا، فَعَدَمُهُ. وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَلَى النَّفْسِ أَوِ الطَّرَفِ كَافِرًا رَقِيقًا، وَجَبَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُتَصَوَّرُ رِضَاهُمْ. فَرْعٌ إِذَا أَوْجَبْنَا لَهُ الْقِصَاصَ، فَقِصَاصُ النَّفْسِ يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ إِنْ رَآهُ مَصْلَحَةً. وَإِنْ رَأَى الْعُدُولَ إِلَى الدِّيَةِ، عَدَلَ، وَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ مَجَّانًا، لِأَنَّهُ خِلَافُ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا قِصَاصُ الطَّرَفِ، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ بَالِغًا عَاقِلًا، فَالِاسْتِيفَاءُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ اسْتِيفَاؤُهُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَجُوزُ فِي الْمَجْنُونِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِإِفَاقَتِهِ زَمَنٌ مُعَيَّنٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. وَأَضْعَفُ وَجْهٍ حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ فِي جَوَازِ الِاقْتِصَاصِ، حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَرْشِ. وَالْمَذْهَبُ: الْمَنْعُ قَطْعًا. وَإِذَا لَمْ يَقْتَصَّ، فَهَلْ لَهُ أَخْذُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؟ نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَجْنُونًا فَقِيرًا، فَلَهُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا غَنِيًّا، فَلَا، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا غَنِيًّا، أَوْ صَبِيًّا فَقِيرًا، فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ. وَحَيْثُ مَنَعْنَا الْأَرْشَ،

أَوْ لَمْ نَرَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، يُحْبَسُ الْجَانِي إِلَى الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ، وَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فَأَخَذَهُ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، وَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَقْتَصَّ، فَفِي تَمَكُّنِهِ وَجْهَانِ شَبِيهَانِ بِمَا لَوْ عَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الشُّفْعَةِ لِلْمَصْلَحَةِ فَبَلَغَ وَأَرَادَ الْأَخْذَ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ عَفْوٌ كُلِّيٌّ وَإِسْقَاطٌ لِلْقِصَاصِ، أَمْ سَبَبُهُ الْحَيْلُولَةُ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ؟ وَقَدْ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْجَانِي كَإِبَاقِ الْمَغْصُوبِ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَخْذِ الْأَرْشِ لِلَّقِيطِ، جَارٍ فِي كُلِّ طِفْلٍ يَلِيهِ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ بِلَا فَرْقٍ. وَحَكَى الْإِمَامُ عَنْ شَيْخِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَخْذُهُ، قَالَ: وَهَذَا حَسَنٌ إِنْ جَعَلْنَاهُ إِسْقَاطًا. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَيْلُولَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ [لِلْوَصِيِّ أَيْضًا] . الْحُكْمُ الثَّالِثُ: نَسَبُ اللَّقِيطِ، وَهُوَ كَسَائِرِ الْمَجْهُولِينَ، فَإِذَا اسْتَلْحَقَهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ، لَحِقَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ «الْإِقْرَارِ» مَا يَشْتَرِطُ الِاسْتِلْحَاقَ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُلْتَقِطِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَالَ لِلْمُلْتَقِطِ: مِنْ أَيْنَ هُوَ لَكَ؟ فَرُبَّمَا تَوَهَّمَ أَنَّ الِالْتِقَاطَ يُفِيدُ النَّسَبَ. وَإِذَا أُلْحِقَ بِغَيْرِ الْمُلْتَقِطِ، سُلِّمَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ. وَاسْتِلْحَاقُ الْكَافِرِ، كَاسْتِلْحَاقِ الْمُسْلِمِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْجِهَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِلنَّسَبِ. وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ عَبْدٌ، لَحِقَهُ إِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ، وَكَذَا إِنْ كَذَّبَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: لَا يَلْحَقُ قَطْعًا. وَقِيلَ: يَلْحَقُ قَطْعًا إِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي النِّكَاحِ، وَمَضَى زَمَانُ إِمْكَانِهِ، وَإِلَّا، فَقَوْلَانِ. وَالْمَذْهَبُ: اللُّحُوقُ مُطْلَقًا، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي إِقْرَارِ الْعَبْدِ بِأَخٍ أَوْ عَمٍّ. وَقِيلَ بِالْمَنْعِ هُنَا قَطْعًا، لِأَنَّ لِظُهُورِ نَسَبِهِ طَرِيقًا آخَرَ، وَهُوَ إِقْرَارُ الْأَبِ أَوِ الْجَدِّ، وَيَجْرِي فِيمَا لَوِ اسْتَلْحَقَ حُرٌّ عَبْدَ غَيْرِهِ وَهُوَ بَالِغٌ فَصَدَّقَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْإِرْثِ الْمُتَوَهَّمِ بِالْوَلَاءِ. وَقِيلَ: يَثْبُتُ هُنَا قَطْعًا، وَيَجْرِي فِيمَا لَوِ اسْتَلْحَقَ الْمُعْتَقُ غَيْرَهُ. وَالْمَنْعُ هُنَا أَبْعَدُ، لِاسْتِقْلَالِهِ بِالنِّكَاحِ وَالتَّسَرِّي. وَإِذَا صَحَّحْنَا اسْتِلْحَاقَ الْعَبْدِ،

فصل

فَلَا يُسَلَّمُ إِلَيْهِ اللَّقِيطُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّغُ لِحَضَانَتِهِ، وَتَرْبِيَتِهِ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ، إِذْ لَا مَالَ لَهُ. فَرْعٌ اسْتَلْحَقَتْهُ امْرَأَةٌ وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً، لَحِقَهَا وَلَحِقَ زَوْجَهَا إِنْ أَمْكَنَ الْعُلُوقُ مِنْهُ، وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا بِلِعَانٍ. هَذَا إِذَا قَيَّدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ. فَإِنْ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْفِرَاشِ، فَفِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنَ الزَّوْجِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ وَاقْتَصَرَتْ عَلَى الدَّعْوَى، فَهَلْ يَلْحَقُهَا، أَمْ لَا؟ أَمْ يَلْحَقُ الْخَلِيَّةَ دُونَ الْمُزَوَّجَةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الثَّانِي. فَإِنْ أَلْحَقْنَا وَلَهَا زَوْجٌ، لَمْ يَلْحَقْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَبِاللُّحُوقِ قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ. وَاسْتِلْحَاقُ الْأَمَةِ كَالْحُرَّةِ إِنْ جَوَّزْنَا اسْتِلْحَاقَ الْعَبْدِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَاهُ، لَمْ يُحْكَمْ بِرِقِّ الْوَلَدِ لِمَوْلَاهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْمُتَوَلِّي، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. فَصْلٌ ادَّعَى نَسَبَ اللَّقِيطِ اثْنَانِ، فَفِيهِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: ادَّعَاهُ حُرٌّ وَعَبْدٌ، فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُ الْعَبْدِ، فَهُمَا سَوَاءٌ، وَإِلَّا، فَيَلْحَقُ بِالْحُرِّ. الثَّانِيَةُ: ادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ، يَسْتَوِيَانِ فِيهِ.

الثَّالِثَةُ: اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِيَدٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ هُوَ الْمُلْتَقِطُ، لَمْ يُقَدَّمْ، لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّسَبِ، بَلْ إِنِ اسْتَلْحَقَاهُ مَعًا وَلَا بَيِّنَةَ، عُرِضَ مَعَهُمَا عَلَى الْقَافَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ الْمُلْتَقِطُ أَوَّلًا، حَكَمْنَا بِالنَّسَبِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْآخَرُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُعْرَضُ الْوَلَدُ مَعَ الثَّانِي عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ نَفَاهُ عَنْهُ، بَقِيَ لَاحِقًا بِالْمُلْتَقِطِ بِاسْتِلْحَاقِهِ. وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِالثَّانِي، عُرِضَ مَعَ الْمُلْتَقَطِ عَلَيْهِ، فَإِنْ نَفَاهُ عَنْهُ، فَهُوَ لِلثَّانِي، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ أَيْضًا، فَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فَيُوقَفُ. وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ، فَإِنْ كَانَ اسْتَلْحَقَهُ وَحُكِمَ [لَهُ] بِالنَّسَبِ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَادَّعَى نَسَبَهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُسْمَعِ اسْتِلْحَاقُهُ إِلَّا بَعْدَمَا جَاءَ الثَّانِي وَاسْتَلْحَقَهُ، فَهَلْ يُقَدَّمُ صَاحِبُ الْيَدِ، أَمْ يَسْتَوِيَانِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. الرَّابِعَةُ: تَسَاوَيَا وَلَا بَيِّنَةَ، عُرِضَ الْوَلَدُ عَلَى الْقَائِفِ، فَبِأَيِّهِمَا أَلْحَقَهُ لَحِقَ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَائِفٌ، أَوْ تَحَيَّرَ، أَوْ أَلْحَقَهُ بِهِمَا، أَوْ نَفَاهُ عَنْهُمَا، تُرِكَ حَتَّى يَبْلُغَ، فَإِذَا بَلَغَ، أُمِرَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا يُنْسَبُ بِالتَّشَهِّي، بَلْ يُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى مَيْلِ الطَّبْعِ الَّذِي يَجِدُهُ الْوَلَدُ إِلَى الْوَالِدِ، وَالْقَرِيبُ إِلَى الْقَرِيبِ بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ. وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ، بَلْ يُخَيَّرُ إِذَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ فِي الْحَضَانَةِ. وَالصَّحِيحُ اشْتِرَاطُهُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي الْحَضَانَةِ لَا يَلْزَمُ، بَلْ لَهُ الرُّجُوعُ، وَهُنَا يَلْزَمُ، وَعَلَيْهِمَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ الِانْتِظَارِ. فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا، رَجَعَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ. وَلَوْ لَمْ يَنْتَسِبْ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِفَقْدِ الْمَيْلِ، بَقِيَ الْأَمْرُ مَوْقُوفًا. وَلَوِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِهِمَا وَادَّعَاهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ، ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى انْتِسَابِهِ بِسَبَبِ إِلْحَاقِ الْقَائِفِ بِهِمَا جَمِيعًا، لَمْ يُقْبَلِ انْتِسَابُهُ إِلَى غَيْرِهِمَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا لِفَقْدِ الْقَائِفِ، ثُمَّ وُجِدَ، عَرَضْنَاهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِالثَّانِي، قَدَّمْنَا قَوْلَهُ عَلَى الِانْتِسَابِ، لِأَنَّهُ حُجَّةٌ أَوْ حُكْمٌ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُقَدَّمُ الِانْتِسَابُ.

قَالَ: وَعَلَى هَذَا، فَمَتَى أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِأَحَدِهِمَا، فَلِلْآخَرِ أَنْ يُنَازِعَهُ، وَيَقُولَ: يُتْرَكُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْتَسِبَ. وَلَوْ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِأَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً، قُدِّمَتِ الْبَيِّنَةُ، لِأَنَّهَا حُجَّةٌ فِي كُلِّ خُصُومَةٍ، وَقِيلَ: لَا يُغَيَّرُ مَا حَكَمْنَا بِهِ، وَلَا يُعْمَلُ بِالْبَيِّنَةِ. فَرْعٌ ادَّعَتِ امْرَأَتَانِ نَسَبَ لَقِيطٍ، أَوْ مَجْهُولٍ غَيْرِهِ، وَلَا بَيِّنَةَ، وَقَبِلْنَا اسْتِلْحَاقَ الْمَرْأَةِ، فَفِي عَرْضِ الْوَلَدِ مَعَهُمَا عَلَى الْقَائِفِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ. وَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الْعَرْضُ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ، أَوْ حُجَّةٌ، فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِإِحْدَاهُمَا وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ، لَحِقَ زَوْجَهَا أَيْضًا كَمَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ. وَقِيلَ: لَا يَلْحَقُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. الْخَامِسَةُ: أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً بِنَسَبِهِ، وَتَعَارَضَتَا، فَفِي التَّعَارُضِ فِي الْأَمْوَالِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: التَّسَاقُطُ. فَعَلَى هَذَا تَسْقُطَانِ أَيْضًا هُنَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُرْجَعُ إِلَى قَوْلِ الْقَائِفِ. وَقِيلَ: لَا تَسْقُطَانِ وَتُرَجَّحُ إِحْدَاهُمَا بِقَوْلِ الْقَائِفِ، وَلَا يُخْتَلَفُ الْمَقْصُودُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تُسْتَعْمَلَانِ بِالْوَقْفِ، أَوِ الْقِسْمَةِ، أَوِ الْقُرْعَةِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ، وَلَا يَجِيءُ هُنَا الْوَقْفُ لِلْإِضْرَارِ بِالطِّفْلِ وَلَا الْقِسْمَةُ، فَلَا مَجَالَ لَهَا فِي النَّسَبِ، وَلَا تَجِيءُ الْقُرْعَةُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ النَّسَبَ، وَأَثْبَتَهَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَلَوِ اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِالْيَدِ، لَمْ تُرَجَّحْ بَيِّنَتُهُ بِهَا. وَفِي «الْإِفْصَاحِ» لِلْمَسْعُودِيِّ، وَ «أَمَالِي» أَبِي الْفَرَجِ الزَّازِ: أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ مِنْ سَنَةٍ، وَالثَّانِي بَيِّنَةً أَنَّهُ فِي يَدِهِ مِنْ شَهْرٍ، وَتَنَازَعَا فِي نَسَبِهِ، فَصَاحِبُ السَّنَةِ مُقَدَّمٌ، لَكِنْ هَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُهَذَّبٍ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْيَدِ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ النَّسَبِ. وَإِنْ فُرِضَ تَعْرِضُ الْبَيِّنَتَيْنِ لِنَفْسِ النَّسَبِ، فَلَا مَجَالَ لِلتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فِيهِ. وَإِنْ شَهِدَتَا عَلَى الِاسْتِلْحَاقِ، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ الِاسْتِلْحَاقَ مِنْ شَخْصٍ هَلْ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنَ الِاسْتِلْحَاقِ بَعْدُ؟ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.

فصل

فَرْعٌ ادَّعَاهُ امْرَأَتَانِ، وَأَقَامَتَا بَيِّنَتَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَرَيْتُهُ الْقَائِفَ مَعَهُمَا، فَبِأَيَّتِهِمَا أَلْحَقَهُ لَحِقَهَا، وَلَحِقَ زَوْجَهَا. فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ الِاسْتِعْمَالِ، وَتَرْجِيحٌ بِقَوْلِ الْقَائِفِ، كَمَا يُرَجَّحُ فِي الْأَمْلَاكِ بِالْقُرْعَةِ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا سَبَقَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ. وَعَلَى هَذَا، يَلْحَقُ الزَّوْجَ قَطْعًا، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْبَيِّنَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا جَوَابٌ عَلَى قَوْلِ التَّسَاقُطِ، وَكَأَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْقَائِفِ. وَعَلَى هَذَا، فَفِي لُحُوقِهِ بِالزَّوْجِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. فَرْعٌ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ بِالْآخَرِ، لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْهِ، إِذْ الِاجْتِهَادُ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ. فَرْعٌ وَصَفَ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَثَرَ جِرَاحَةٍ، أَوْ نَحْوَهُ، أَوْ بِظَهْرِهِ، أَوْ بَعْضَ أَعْضَائِهِ الْبَاطِنَةِ، وَأَصَابَ، لَا يُقَدَّمُ. فَصْلٌ تَنَازَعَا فِي الِالْتِقَاطِ، وَوِلَايَةِ الْحِفْظِ وَالتَّعَهُّدِ، فَإِنْ تَنَازَعَا عِنْدَ الْأَخْذِ، أَوْ قَبْلَهُ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: أَنَّا الْمُلْتَقِطُ فَلِيَ حِفْظُهُ، فَإِنِ اخْتَصَّ بِيَدٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَخَذَهُ مِنِّي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ،

قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَاهُ مَعًا، وَتَشَاحَّا فِي حِفْظِهِ، فَيَجْعَلُهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِمَا، فَإِنْ حَلَفَا، أَوْ نَكَلَا، فَحُكْمُهُ كَمَا ذَكَرْنَا إِذَا ازْدَحَمَا عَلَى الْأَخْذِ مَعًا، وَهُمَا مُتَسَاوِيَا الْحَالِ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، خُصَّ بِهِ. وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً، وَهُوَ فِي يَدِهِمَا، أَوْ لَا فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَتَا مُطْلَقَتَيْنِ، أَوْ مُؤَرَّخَتَيْنِ بِتَارِيخٍ وَاحِدٍ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُؤَرَّخَةٌ وَالْأُخْرَى مُطْلَقَةٌ، فَهُمَا مُتَعَارِضَتَانِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّسَاقُطِ، فَكَأَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ. وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ، فَلَا يَجِيءُ الْوَقْفُ، وَلَا الْقِسْمَةُ، وَتَجِيءُ الْقُرْعَةُ، فَيُسَلَّمُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ. وَإِنْ قُيِّدَتَا بِتَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، قُدِّمَ السَّابِقُ، بِخِلَافِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَدَّمُ فِيهِ بِسَبْقِ التَّارِيخِ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ تَنْتَقِلُ، وَالْمُلْتَقِطُ لَا يَنْتَزِعُ مِنْهُ مَا دَامَتِ الْأَهْلِيَّةُ. فَإِذَا ثَبَتَ السَّبْقُ، لَزِمَ اسْتِمْرَارُهُ. هَكَذَا فَرَّقَ الْأَصْحَابُ، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ: هَذَا إِذَا قُلْنَا: مَنِ الْتَقَطَ اللَّقِيطَ، ثُمَّ نَبَذَهُ لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ. فَإِنْ أَسْقَطْنَاهُ، فَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا نَبَذَهُ الْأَوَّلُ فَالْتَقَطَهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا حَسَنٌ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى تَقْدِيمِ الْبَيِّنَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالسَّبْقِ، مَا إِذَا كَانَ اللَّقِيطُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَأَقَامَ مَنْ فِي يَدِهِ الْبَيِّنَةُ، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ وَانْتَزَعَهُ مِنْهُ صَاحِبُ الْيَدِ، فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الِانْتِزَاعِ، لِإِثْبَاتِهَا السَّبْقَ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ، وَلِلَّقِيطِ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ، وَلَا يَدَّعِيَ رِقَّهُ أَحَدٌ، فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ الْحُرِّيَّةُ، وَلِأَنَّ غَالِبَ النَّاسِ أَحْرَارٌ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يُتَوَقَّفُ فِي إِسْلَامِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَذَلِكَ التَّرَدُّدُ يَجْرِي هُنَا وَأَوْلَى، لِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَاقْتِضَائِهِ الِاسْتِتْبَاعَ لِلْوَالِدِ وَالسَّابِي، بِخِلَافِ الْحُرِّيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْإِمَامُ تَفْصِيلًا مُتَوَسِّطًا، فَقَالَ: يُجْزَمُ بِالْحُرِّيَّةِ مَا لَمْ يَنْتَهِ الْأَمْرُ إِلَى إِلْزَامِ الْغَيْرِ شَيْئًا،

فَإِنِ انْتَهَى، تَرَدَّدْنَا إِنْ لَمْ يَعْتَرِفِ الْمُلْتَزِمُ بِحُرِّيَّتِهِ، فَنَحْكُمُ لَهُ بِالْمِلْكِ فِيمَا نُصَادِفُهُ فِي يَدِهِ جَزْمًا. وَإِذَا أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ، أَخَذْنَا مِنْهُ الضَّمَانَ وَصَرَفْنَاهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَالَ الْمَعْصُومَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُتْلِفِ، فَلَيْسَ التَّضْمِينُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَمِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ قَطْعًا، وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ الْخَطَأُ فِي بَيْتِ الْمَالِ قَطْعًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى التَّرَدُّدِ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ لَا يُبْذَلُ إِلَّا عَنْ تَحَقُّقٍ. وَلَوْ قُتِلَ اللَّقِيطُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ خِلَافًا، وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ التَّرَدُّدُ فِي الْحُرِّيَّةِ، فَمَنْ لَا يَجْزِمُ الْقَوْلَ بِإِسْلَامِهِ وَحُرِّيَّتِهِ، لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ بِقَتْلِهِ، وَيُوجِبُهُ عَلَى الرَّقِيقِ الْكَافِرِ. وَمَنْ يَجْزِمُ بِهِمَا، يُخْرِجُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى قَوْلَيْنِ - بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ - الْأَظْهَرُ: وَجُوبُهُ. وَإِذَا قُتِلَ خَطَأً، فَالْوَاجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الدِّيَةِ، وَالْقِيمَةِ فِي الثَّانِي، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ غَيْرُ مُتَيَقَّنَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَقِيَاسُ هَذَا أَنْ نُوجِبَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ عَبْدًا، وَدِيَةَ مَجُوسِيٍّ، لِإِمْكَانِ الْحَمْلِ عَلَى التَّمَجُّسِ، وَقَدْ يُرَتَّبُ الْقِصَاصُ عَلَى الدِّيَةِ فَيُقَالُ: إِنْ لَمْ نُوجِبِ الدِّيَةَ، فَالْقِصَاصُ أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ رِقَّهُ، وَلَا بَيِّنَةَ. وَمَنِ ادَّعَى رِقَّ صَغِيرٍ لَا تُتَيَقَّنُ حُرِّيَّتُهُ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ، لِإِمْكَانِهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْحَرِيَّةُ، فَلَا تُتْرَكُ إِلَّا بِحُجَّةٍ، بِخِلَافِ النَّسَبِ، فَإِنَّ قَبُولَهُ مَصْلَحَةٌ لِلصَّبِيِّ وَثُبُوتُ حَقٍّ لَهُ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ وَقَدْ عَرَفْنَا اسْتِنَادَهَا إِلَى الْتِقَاطِهِ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ لَهُ بِالرِّقِّ كَيَدِ غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ، وَكَمَا لَوِ الْتَقَطَ مَالًا وَادَّعَاهُ، وَلَا مُنَازِعَ، يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ، وَيُخَالِفُ الْمَالَ، فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ وَلَيْسَ فِي دَعْوَاهُ تَغْيِيرُ صِفَةٍ لَهُ، وَاللَّقِيطُ حُرٌّ ظَاهِرًا، وَفِي دَعْوَاهُ تَغْيِيرُ صِفَةٍ. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ اسْتِنَادُهَا إِلَى الِالْتِقَاطِ، حُكِمَ لِصَاحِبِهَا بِالرِّقِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ

الْمَالِكِينَ، وَلَا مُعَارِضَ لَهُ، وَلَا سَبَبَ يُحَالُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ مُمَيِّزًا، أَوْ غَيْرُهُ مُقِرًّا، أَوْ مُنْكِرًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا مُنْكِرًا، احْتَاجَ الْمُدَّعِي إِلَى الْبَيِّنَةِ. فَعَلَى الْأَصَحِّ: يَحْلِفُ الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. وَقِيلَ: مُسْتَحَبَّةٌ. ثُمَّ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَقَرَّ بِالرِّقِّ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ، لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنْ قَالَ: أَنَا حُرٌّ، لَمْ يُقْبَلْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِالْحُرِّيَّةِ، وَلَكِنْ لَهُ تَحْلِيفُ السَّيِّدِ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ. فَرْعٌ رَأَى صَغِيرًا فِي يَدِ إِنْسَانٍ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ وَيَسْتَخْدِمُهُ، هَلْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ؟ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: هُوَ عَبْدِي، أَوْ سَمِعَ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ عَبْدُهُ، شَهِدَ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَإِلَّا، فَلَا. قُلْتُ: هَذَا أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ صَغِيرَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي نِكَاحَهَا، فَبَلَغَتْ وَأَنْكَرَتْ، يُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ. وَهَلْ يُحْكَمُ فِي صِغَرِهَا بِالنِّكَاحِ؟ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: نَعَمْ كَالرِّقِّ. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. وَفَرَّقَ الْأَصْحَابُ، بِأَنَّ الْيَدَ فِي الْجُمْلَةِ دَالَّةٌ عَلَى الْمِلْكِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ وَالنِّكَاحُ طَارِئٌ، فَيَحْتَاجُ إِلَى الْبَيِّنَةِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِيَ رِقَّهُ مُدَّعٍ وَيُقِيمَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً حَيْثُ يَحْتَاجُ مُدَّعِي الرِّقِّ إِلَى بَيِّنَةٍ كَمَا فَصَّلْنَاهُ. وَهَلْ يَكْفِي إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الرِّقِّ، أَوِ الْمِلْكِ مُطْلَقًا؟ قَوْلَانِ.

أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِمِلْكِ دَارٍ، أَوْ ثَوْبٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الدَّعَاوَى، وَفِي الْقَدِيمِ. وَالثَّانِي: لَا، لِاحْتِمَالِ اعْتِمَادِ الشَّاهِدِ ظَاهِرِ الْيَدِ، وَيَكُونُ يَدَ الْتِقَاطٍ. وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ اللَّقِيطَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ بِظَاهِرِ الدَّارِ، لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَأَمْرُ الرِّقِّ خَطَرٌ، وَهَذَا نَصُّهُ [هُنَا] ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَالْبَغَوِيِّ، وَالرُّويَانِيِّ، وَآخَرِينَ، وَرَجَّحَ ابْنُ كَجٍّ، وَأَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ الْأَوَّلَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَحُمِلَ نَصُّهُ هُنَا عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ بِمُطْلَقِ الْمِلْكِ لَيْسَتْ بِأَقَلَّ مِنْ دَعْوَى غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ رِقَّ الصَّغِيرِ فِي يَدِهِ. قُلْتُ: كُلٌّ مِنَ التَّرْجِيحَيْنِ ظَاهِرٌ، وَقَدْ رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» الثَّانِيَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُلْتَقِطُ، أَوْ غَيْرُهُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ كَلَامًا يَتَخَرَّجُ مِنْهُ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ قَوْلُ: أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُطْلَقَةَ تَكْفِي فِي غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ، وَلَا تَكْفِي فِيهِ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ. وَإِذَا قُلْنَا: لَمْ يُكْتَفَ بِالْبَيِّنَةِ الْمُطْلَقَةِ، شَرَطْنَا تَعَرُّضَ الشُّهُودِ لِسَبَبِ الْمِلْكِ مِنَ الْإِرْثِ، أَوِ الثَّرَاءِ، أَوْ الِالْتِهَابِ وَنَحْوِهَا. وَمِنَ الْأَسْبَابِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ مَمْلُوكًا لَهُ. فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ، أَوْ أَنَّهُ وَلَدُ أَمَتِهِ، فَطَرِيقَانِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَكْفِي. وَالثَّانِي: لَا. وَقِيلَ: يَكْفِي قَطْعًا، وَهُوَ نَصُّهُ هُنَا. وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَدَتْهُ مَمْلُوكَتُهُ قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَكْفِي قَطْعًا، وَهُوَ نَصُّهُ هُنَا. وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَدَتْهُ مَمْلُوكَتُهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَكْفِي قَطْعًا، وَإِنْ شَهِدُوا بِأَنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: يَكْفِي قَطْعًا. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا يُكْتَفَى بِهِ تَفْرِيعًا عَلَى وُجُوبِ التَّعَرُّضِ لِسَبَبِ الْمِلْكِ، فَقَدْ تَلِدُ فِي مِلْكِهِ حُرًّا بِالشُّبْهَةِ، وَفِي نِكَاحِ الْغَرُورِ، وَقَدْ تَلِدُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِأَنْ يُوصِيَ بِحَمْلِهَا، وَتَكُونَ الرَّقَبَةُ لِلْوَارِثِ، وَهَذَا حَقٌّ. وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: فِي مِلْكِهِ، مَصْرُوفًا إِلَى الْمَوْلُودِ - كَقَوْلِكَ: وَلَدَتْهُ فِي مَشِيمَةٍ -

لَا إِلَى الْوِلَادَةِ، وَلَا إِلَى الْوَالِدَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُمْ: وَلَدَتْهُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَيَكْفِي الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ قَوْلُهُ: هُوَ مِلْكِي، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ السَّبَبِ إِنْ شَرَطْنَاهُ فِي صِيغَةِ الشُّهُودِ. فَرْعٌ تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ رَجُلٍ، وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ إِثْبَاتُ الْمِلْكِ. وَإِذَا اكْتَفَيْنَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ، قُبِلَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَيْضًا، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ، ثُمَّ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي ضِمْنِهَا كَثُبُوتِ النَّسَبِ فِي ضِمْنِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ. وَلَوْ شَهِدْنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: ثَبَتَ الْمِلْكُ، وَالْوِلَادَةُ، وَذِكْرُ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْوِلَادَةِ، ثُمَّ يُثْبَتُ الْمِلْكُ ضِمْنًا لَا بِتَصْرِيحِهِنَّ. فَرْعٌ لَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ لِمُدَّعِي الرِّقِّ بِالْيَدِ، قَالَ فِي «الْمُهَذَّبِ» : إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي الْمُلْتَقِطَ، لَمْ يُحْكَمْ لَهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ، فَقَوْلَانِ. وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» ، وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْمُدَّعِيَ إِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْتِقَاطِ الْمُلْتَقِطِ، قُبِلَتْ وَثَبَتَتْ يَدُهُ، ثُمَّ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الرِّقِّ، لِمَا سَبَقَ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ عَلَى الصَّغِيرِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ يَدَهُ عَنِ الْتِقَاطٍ، يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الرِّقِّ، وَبِمِثْلِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ فِيمَا إِذَا أَقَامَ الْمُلْتَقِطُ بَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ، قُبِلَ إِنِ الْتَقَطَهُ، لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ كَجٍّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَنِ النَّصِّ، أَنَّهُ لَا يَرِقُّ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى سَبَبِ الْمِلْكِ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَذَّبَهُ

الْمُقَرُّ لَهُ، لَمْ يَثْبُتِ الرِّقُّ. فَلَوْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَدَّقَهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ ثَبَتَتْ حُرِّيَّتُهُ بِالْأَصْلِ، فَلَا يَعُودُ رَقِيقًا. وَإِنْ صَدَّقَهُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَسْبِقِ الْإِقْرَارَ مَا يُنَاقِضُهُ، قُبِلَ عَلَى الْمَشْهُورِ كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ. وَفِي قَوْلٍ حَكَاهُ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : لَا يُقْبَلُ، لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ بِالدَّارِ، فَلَا يُنْقَضُ، كَالْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ بِالدَّارِ، لَوْ أَفْصَحَ بِالْكُفْرِ، لَا يُنْقَضُ مَا حَكَمْنَا بِهِ فِي قَوْلٍ، بَلْ يُجْعَلُ مُرْتَدًّا. وَإِنْ سَبَقَهُ مَا يُنَاقِضُهُ، فَفِيهِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: إِذَا أَقَرَّ بِالْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ، لَا يُقْبَلُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعُ الْأَصْحَابُ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ وَجْهَيْنِ، ثَانِيهِمَا الْقَبُولُ. الثَّانِيَةُ: إِذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِزَيْدٍ، فَكَذَّبَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ لِعَمْرٍو، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْمَنْصُوصِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، بَلْ يَكُونُ حُرًّا، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ قَبُولُهُ. الثَّالِثَةُ: إِذَا وُجِدَتْ مِنْهُ تَصَرُّفَاتٌ يَقْتَضِي نُفُوذُهَا الْحُرِّيَّةَ، كَبَيْعٍ، وَنِكَاحٍ، وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِرِقِّهِ، نُقِضَتْ تَصَرُّفَاتُهُ الْمُقْتَضِيَّةُ لِلْحُرِّيَّةِ، وَجُعِلَتْ صَادِرَةً عَنْ عَبْدٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ، وَيَسْتَرِدُّ مَا قَبَضَهُ مِنْ زَكَاةٍ، أَوْ مِيرَاثٍ، وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَتُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِيهَا. فَلَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ، لَكِنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» فَإِقْرَارُهُ لَاغٍ. لَكِنْ لَوْ كَانَ نَكَحَ، فَإِقْرَارُهُ اعْتِرَافٌ بِتَحْرِيمِهَا، فَيُؤَاخَذُ بِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ، فَفِيهِ طُرُقٌ، حَاصِلُهَا أَنَّهُ تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْأَرِقَّاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: قَوْلَانِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: يَبْقَى فِيمَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ، وَكِلَاهُمَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الْمَاضِي، فَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيمَا يَضُرُّ بِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةِ قَطْعًا، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فُرُوعٌ. أَحَدُهَا: إِذَا نَكَحَ قَبْلَ الْإِقْرَارِ، نُظِرَ، أَذَكَرٌ هُوَ، أَمْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، ثُمَّ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ. فَإِنْ قَبِلْنَا

الْإِقْرَارَ فِيمَا يَضُرُّ غَيْرَهُ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنْ دَخَلَ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلْمُقَرِّ لَهُ. فَإِنْ كَانَ سَلَّمَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا، اسْتَرَدَّهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِلَّا، رَجَعَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالْأَوْلَادُ مِنْهَا أَحْرَارٌ، لِظَنِّهِ الْحُرِّيَّةَ، وَعَلَى الزَّوْجِ قِيمَتُهُمْ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْغَارَّةَ. وَفِي الرُّجُوعِ بِالْمَهْرِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ. وَفِي الْعِدَّةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهَا قُرْءَانِ، لِأَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ قُرْءَانِ، وَنِكَاحُ الشُّبْهَةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَصَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» ، وَ «الشَّامِلِ» . وَالثَّانِي: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، إِذْ لَا نِكَاحَ، وَلَكِنْ تَسْتَبْرِئُ بِقُرْءٍ بِسَبَبِ الْوَطْءِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجِبُ طَرْدُ هَذَا الْخِلَافَ فِي كُلِّ نِكَاحِ شُبْهَةٍ عَلَى أَمَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقْبَلُ الْإِقْرَارُ فِيمَا يَضُرُّ غَيْرَهُ، فَالْكَلَامُ فِي أُمُورٍ. أَحَدُهَا: لَا يُحْكَمُ بِانْفِسَاخِ نِكَاحِهَا، بَلْ يَبْقَى كَمَا كَانَ. قَالَ الْإِمَامُ: سَوَاءٌ فَرَّقْنَا بَيْنَ الْمَاضِي، وَالْمُسْتَقْبَلِ، أَمْ لَا، وَيَصِيرُ النِّكَاحُ كَالْمُسْتَوْفَى الْمَقْبُوضِ، وَاسْتَدْرَكَ ابْنُ كَجٍّ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، لِأَنَّ الْأَوْلَادَ الَّذِينَ يَلِدُهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَرِقَّاءُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَيْسَ لَهُ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ، وَهَذَا حَسَنٌ، لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ الصَّبَّاغِ بِخِلَافِهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، كَالْحُرِّ إِذَا وُجِدَ الطَّوْلُ بَعْدَ نِكَاحِ الْأَمَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ أَنَّ لِلزَّوْجِ خِيَارَ فَسْخِ النِّكَاحِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا إِذَا نَكَحَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَإِنْ تَوَهَّمَ الْحُرِّيَّةَ، وَلَمْ يُجْرِ شَرْطَهَا، فَفِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي النِّكَاحِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. الثَّانِي: فِي الْمَهْرِ، وَمَتَى ثَبَتَ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ، فَفَسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ،

وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، لَزِمَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ أَجَازَ، لَزِمَهُ الْمُسَمَّى، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ، لَزِمَهُ نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَفِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَزْعُمُ فَسَادَ النِّكَاحِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ دُخُولٌ، وَجَبَ أَنْ لَا يُطَالِبَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ يُشْعِرُ بِهَذَا إِطْلَاقُ الْغَزَالِيِّ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ أَعْطَاهَا الصَّدَاقَ، لَمْ يُطَالَبْ بِهِ ثَانِيًا. الثَّالِثُ: أَوْلَادُهَا، فَالَّذِينَ حَصَلُوا قَبْلَ الْإِقْرَارِ أَحْرَارٌ، وَلَا يَلْزَمُ لِلزَّوْجِ قِيمَتُهُمْ. وَالْحَادِثُونَ بَعْدَهُ أَرِقَّاءُ، لِأَنَّهُ وَطِئَهَا عَالِمًا بِرِقِّهَا. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا ظَاهِرٌ إِنْ قَبِلْنَا الْإِقْرَارَ فِيمَا يَضُرُّ بِالْغَيْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَإِنْ لَمْ نَقْبَلْهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بَحُرِّيَّتِهِمْ لِصِيَانَةِ حَقِّ الزَّوْجِ، كَمَا أَدَمْنَا النِّكَاحَ صِيَانَةً لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِرِقِّهِمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ، لِأَنَّ الْعُلُوقَ مُتَوَهَّمٌ فَلَا يُجْعَلُ مُسْتَحَقًّا بِالنِّكَاحِ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ. الرَّابِعُ: تَرَدُّدُ الْإِمَامِ فِي أَنَّا إِذَا أَدَمْنَا النِّكَاحَ، تُسَلَّمُ إِلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمَ الْإِمَاءِ، أَمْ تَسْلِيمَ الْحَرَائِرِ؟ فَالظَّاهِرُ: الثَّانِي، وَإِلَّا، لِعِظَمِ الضَّرَرِ عَلَى الزَّوْجِ، وَاخْتَلَّتْ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي «الْمُخْتَصَرِ» : لَا أُصَدِّقُهَا عَلَى فَسَادِ النِّكَاحِ، وَلَا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ. الْخَامِسُ: فِي الْعِدَّةِ. وَأَمَّا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا وَطَلَّقَهَا، ثُمَّ أَقَرَّتْ، فَعَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي جَمِيعِهَا، لِأَنَّهُ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ. وَإِنْ أَقَرَّتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، لِأَنَّ النِّكَاحَ أَثْبَتَ لَهُ

الرَّجْعَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَقَرَاءٍ. وَالثَّانِي: تَعْتَدُّ بِقُرْئَيْنِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ كَإِرْقَاقِ أَوْلَادِهَا، وَصَحَّحَهُ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، فَهُوَ كَالرَّجْعِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهِمَا لَا تَخْتَلِفُ. وَالثَّانِي: تَعْتَدُّ بِقُرْئَيْنِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهَا رَقِيقَةٌ وَلَيْسَتْ لِلزَّوْجِ رَجْعَةٌ. وَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَإِنَّهَا بِشَهْرَيْنِ، وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ، عِدَّةُ الْإِمَاءِ، نَصَّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَقَرَّتْ قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ بَعْدَهُ فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَبِلَ فِي قَوْلِهَا انْتِقَاضَهَا، وَلَيْسَ فِيهَا إِضْرَارٌ بِأَحَدٍ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ أَصْلًا، لِأَنَّهَا تَزْعُمُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدْ مَاتَ الزَّوْجُ، فَعَلَى هَذَا، إِنْ جَرَى دُخُولٌ، لَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاءُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْقَوْلُ فِي أَنَّهُ بِقُرْءٍ، أَمْ بِقُرْئَيْنِ، عَلَى مَا سَبَقَ فِي التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَوْلِ. فَإِنْ لَمْ يَجْرِ دُخُولٌ، فَهَلْ تَسْتَبْرِئُ بِقُرْءٍ كَمَا لَوِ اشْتَرَيْتُ مِنِ امْرَأَةٍ، أَوْ مَجْبُوبٍ، أَمْ لَا اسْتِبْرَاءَ أَصْلًا لِانْقِطَاعِ حُقُوقِ الزَّوْجِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، وَبِالثَّانِي قَطَعَ الْغَزَالِيُّ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ أُنْثَى. فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَبَلَغَ، وَنَكَحَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ، فَإِنْ قَبِلْنَا إِقْرَارَهُ مُطْلَقًا، فَهَذَا نِكَاحٌ فَاسِدٌ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا مَهْرَ إِنْ لَمْ يَقَعْ دُخُولٌ، وَإِنْ وَقَعَ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ فِي «الْمُهَذَّبِ» - وَأَبْدَاهُ الْإِمَامُ احْتِمَالًا -: أَنَّ عَلَيْهِ الْأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى. ثُمَّ مُتَعَلَّقُ الْوَاجِبِ ذِمَّتُهُ، أَمْ رَقَبَتُهُ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. وَإِنْ قَبِلْنَا إِقْرَارَهُ فِيمَا يَضُرُّهُ دُونَ غَيْرِهِ، حَكَمْنَا بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ، وَلَمْ نَقْبَلْ قَوْلَهُ فِي الْمَهْرِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى إِنْ لَمْ يَدْخُلْ، وَجَمِيعُهُ إِنْ دَخَلَ، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ مِمَّا فِي يَدِهِ، أَوْ مِنْ كَسْبِهِ فِي الْحَالِ، أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، فَفِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يُعْتَقَ. الْفَرْعُ الثَّانِي: إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَقْتَ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ، وَفِي يَدِهِ أَمْوَالٌ، فَإِنْ قَبِلْنَا إِقْرَارَهُ مُطْلَقًا، فَالْأَمْوَالُ تُسَلَّمُ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَالدُّيُونُ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِنْ قَبِلْنَاهُ فِيمَا يَضُرُّهُ دُونَ غَيْرِهِ، قَضَيْنَا الدُّيُونَ مِمَّا فِي يَدِهِ. فَإِنْ فَضَلَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ، فَهُوَ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنْ بَقِيَ مِنَ الدَّيْنِ شَيْءٌ، فَفِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَعْتِقَ.

الْفَرْعُ الثَّالِثُ: إِذَا بَاعَ، أَوِ اشْتَرَى بَعْدَ الْبُلُوغِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ، فَإِنْ قَبِلْنَا الْإِقْرَارَ مُطْلَقًا، فَالْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ بَاطِلَانِ، فَإِنْ كَانَ مَا بَاعَهُ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، أَخَذَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَإِلَّا، طَالَبَهُ بِقِيمَتِهِ. وَالثَّمَنُ إِنْ أَخَذَهُ الْمُقِرُّ وَأَتْلَفَهُ، فَهُوَ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَعْتِقَ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا رَدَّهُ، وَمَا اشْتَرَاهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ، رَدَّهُ إِلَى بَائِعِهِ، وَإِلَّا، اسْتَرَدَّ الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ، وَحَقُّ الْبَائِعِ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقْبَلُ فِيمَا يَضُرُّ غَيْرَهُ، لَمْ نُبْطِلْهُمَا، ثُمَّ مَا بَاعَهُ إِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ ثَمَنَهُ، اسْتَوْفَاهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتَوْفَاهُ، لَمْ يُطَالِبِ الْمُشْتَرِيَ ثَانِيًا، وَمَا اشْتَرَاهُ إِنْ كَانَ وَزَنَ ثَمَنَهُ، فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ، وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ لِلْمُقَرِّ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَزِنْ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ حِينَ أَقَرَّ بِالرِّقِّ، وَزَنَ الثَّمَنَ مِنْهُ، وَإِلَّا، فَهُوَ كَإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي، فَيَرْجِعُ الْبَائِعُ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِلَّا، فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْمُقِرِّ حَتَّى يَعْتِقَ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: جَنَى ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا. وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ، أُخِذَ الْأَرْشُ مِنْهُ، كَذَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ قِيَاسِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ أَرْشَ الْخَطَأِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِ الْجَانِي حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ، تَعَلَّقَ الْأَرْشُ بِرَقَبَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إِنْ قُلْنَا: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيمَا يَضُرُّ غَيْرَهُ، فَالْأَرْشُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَلَوْ زَادَ الْأَرْشُ عَلَى قِيمَةِ الرَّقَبَةِ، فَالزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَطْعًا. [الْفَرْعُ] الْخَامِسُ: جُنِيَ عَلَيْهِ فَقَطَعَ طَرَفَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا وَالْجَانِي عَبْدًا، اقْتُصَّ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ حُرًّا، فَلَا قِصَاصَ، وَيَكُونُ كَالْخَطَأِ. وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً، فَإِنْ قَبِلْنَا إِقْرَارَهُ مُطْلَقًا، فَعَلَى الْجَانِي كَمَالُ قِيمَتِهِ إِنْ صَارَتْ قَتْلًا، وَإِلَّا، فَمَا تَقْتَضِيهِ جِرَاحَةُ الْعَبْدِ. وَإِنْ قَبِلْنَاهُ فِيمَا يَضُرُّهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ يَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَزِدْ نِصْفَ الْقِيمَةِ عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ، فَالْوَاجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ زَادَ، فَهَلْ يَجِبُ

فصل

نِصْفُ الدِّيَةِ، أَمْ نِصْفُ الْقِيمَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى تَعَلُّقِ الدِّيَةِ بِقَتْلِ اللَّقِيطِ. وَفِيهِ وَجْهٌ سَبَقَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَقَلُّ مِنَ الدِّيَةِ، وَالْقِيمَةِ، وَذَلِكَ الْوَجْهُ مُطَّرِدٌ فِي الطَّرَفِ. فَرْعٌ لَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، بَيْنَ أَنْ يُقِرَّ بِالرِّقِّ ابْتِدَاءً، وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِ رِقَّهُ شَخْصٌ فَيُصَدِّقُهُ، فَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ رِقَّهُ، فَأَنْكَرَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ، فَفِي قَبُولِهِ وَجْهَانِ، لِأَنَّهُ بِالْإِنْكَارِ لَزِمَهُ أَحْكَامُ الْأَحْرَارِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَفْصِلَ، فَإِنْ قَالَ: لَسْتُ بِعَبْدٍ، لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ قَالَ: لَسْتُ بِعَبْدٍ لَكَ، فَالْأَصَحُّ الْقَبُولُ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الصِّيغَةِ الْحُرِّيَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ ادَّعَى مُدَّعٍ رِقَّهُ، فَأَنْكَرَ وَلَا بَيِّنَةَ، فَإِنْ قَبِلْنَا إِقْرَارَهُ بِالرِّقِّ، فَلَهُ تَحْلِيفُهُ، وَإِلَّا، فَلَا، إِلَّا إِذَا جَعَلْنَا الْيَمِينَ مَعَ النُّكُولِ كَالْبَيِّنَةِ، فَلَهُ التَّحْلِيفُ. فَصْلٌ إِذَا قَذَفَ لَقِيطًا صَغِيرًا، عُزِّرَ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا، حُدَّ إِنِ اعْتَرَفَ بِحُرِّيَّتِهِ. فَإِنِ ادَّعَى رِقَّهُ، فَقَالَ الْمَقْذُوفُ: بَلْ أَنَا حُرٌّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ:

قَطْعًا. وَيَجْرِي الطَّرِيقَانِ، فِيمَا لَوْ قَطَعَ حُرٌّ طَرَفَهُ وَادَّعَى رِقَّهُ، وَقَالَ: بَلْ أَنَا حُرٌّ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْقِصَاصُ قَطْعًا، لِأَنَّ الْحَدَّ يُغْنِي عَنْهُ التَّعْزِيرُ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الزَّجْرِ. فَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْقِصَاصَ، أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ فِي الْيَدَيْنِ، وَنِصْفَهَا فِي إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: الْقِيمَةُ أَوْ نِصْفُهَا. وَلَوْ قَذَفَ اللَّقِيطُ وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ [حُرٌّ] ، حُدَّ حَدَّ الْأَحْرَارِ. وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ رَقِيقٌ، وَصَدَّقَهُ الْمَقْذُوفُ، حُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَأَيُّ الْحَدَّيْنِ يُحَدُّ؟ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى إِقْرَارِهِ، إِنْ قَبِلْنَاهُ مُطْلَقًا، فَحَدُّ الْعَبِيدِ، وَإِنْ مَنَعْنَاهُ فِيمَا يَضُرُّ غَيْرَهُ، فَحُدُّ الْأَحْرَارِ. وَحَكَى فِي «الْمُعْتَمَدِ» وَجْهًا: أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ لِمُعَيَّنٍ، قُبِلَ إِقْرَارُهُ وَحُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، حُدَّ حَدَّ الْأَحْرَارِ. انْتَهَى الْجُزْءُ الرَّابِعُ، وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الْخَامِسُ وَأَوَّلُهُ: (كِتَابُ الْفَرَائِضِ)

كتاب الفرائض

كِتَابُ الْفَرَائِضِ فِيهِ عَشَرَةُ أَبْوَابٍ. [الْبَابُ] الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أَسْبَابِ التَّوْرِيثِ وَالْوَرَثَةِ وَقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَنْ يُبْدَأَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِمُؤْنَةِ تَجْهِيزِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ غَيْرُهُ. فَإِنْ تَعَلَّقَ كَالْمَرْهُونِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ زَكَاةٌ وَالْعَبْدِ الْجَانِي، وَالْمَبِيعِ إِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا قُدِّمَ حَقُّ الْغَيْرِ، ثُمَّ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ إِمْسَاكُ مَا تَرَكَهُ، وَغَرَامَةُ مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِمْ كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ، ثُمَّ تُنَفَّذُ وَصَايَاهُ مِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى. فَصْلٌ أَسْبَابُ التَّوْرِيثِ أَرْبَعَةٌ: قَرَابَةٌ، وَنِكَاحٌ، وَوَلَاءٌ، وَجِهَةُ الْإِسْلَامِ. وَالْمُرَادُ بِجِهَةِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا بِالْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ، وَفَضَلَ عَنْهُ شَيْءٌ، كَانَ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْعُصُوبَةِ، كَمَا يَحْمِلُونَ دِيَتَهُ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمَصْلَحَةِ لَا إِرْثًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنِ ابْنِ عَمٍّ بَعِيدٍ، فَأُلْحِقَ ذَلِكَ بِالْمَالِ الضَّائِعِ الَّذِي لَا يُرْجَى ظُهُورُ مَالِكِهِ. وَحَكَى ابْنُ اللَّبَّانِ وَالرُّويَانِيُّ هَذَا قَوْلًا. قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ جَعَلْنَاهُ إِرْثًا، لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إِلَى الْمُكَاتَبِينَ وَالْكُفَّارِ. وَفِي جَوَازِ صَرْفِهِ إِلَى الْقَاتِلِ وَجْهَانِ: وَجْهُ الْجَوَازِ: أَنَّ تُهْمَةَ الِاسْتِعْجَالِ لَا تَتَحَقَّقُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مَصْرِفًا لِمَالِهِ.

فصل

قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَفِي جَوَازِ صَرْفِهِ إِلَى مَنْ أُوصِيَ لَهُ بِشَيْءٍ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى مَنْ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ رَقِيقًا فَعَتَقَ. قُلْتُ: قَدْ ضَمَّ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ إِلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ سَبَبًا خَامِسًا، وَهُوَ سَبَبُ النِّكَاحِ، وَهُوَ غَيْرُ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّهَا تَرِثُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَوْرِيثِهِمْ الرِّجَالُ الْوَارِثُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ: الِابْنُ، وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالْأَبُ، وَالْجَدُّ لِلْأَبِ وَإِنْ عَلَا، وَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ، وَالْأَخُ لِلْأُمِّ، وَابْنُ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ، وَابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ، وَالْعَمُّ لِلْأَبَوَيْنِ، وَالْعَمُّ لِلْأَبِ، وَابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبَوَيْنِ، وَابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبِ، وَالزَّوْجُ، وَالْمُعْتِقُ. وَالنِّسَاءُ الْوَارِثَاتُ عَشْرٌ: الْبِنْتُ، وَبِنْتُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالْأُمُّ، وَالْجَدَّةُ لِلْأَبِ، وَالْجَدَّةُ لِلْأُمِّ - وَإِنْ عَلَتَا - وَالْأُخْتُ لِلْأَبَوَيْنِ، وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ، وَالْأُخْتُ لِلْأُمِّ، وَالزَّوْجَةُ، وَالْمُعْتِقَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْمُعْتِقِ وَالْمُعْتِقَةِ مَنْ أَعْتَقَ، أَوْ عَصَبَةٌ أَدْلَى بِمُعْتِقٍ.

فصل

وَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْعَمِّ عَمُّ الْمَيِّتِ، وَعَمُّ أَبِيهِ، وَعَمُّ جَدِّهِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي، وَكَذَلِكَ حَيْثُ أَطْلَقْنَا لَفْظَ الْعَمِّ فِي الْوَرَثَةِ بِخِلَافِ الْأَخِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَخُو الْمَيِّتِ فَقَطْ. فَرْعٌ إِذَا اجْتَمَعَ الرِّجَالُ الْوَارِثُونَ وَرِثَ مِنْهُمُ الِابْنُ، وَالْأَبُ، وَالزَّوْجُ فَقَطْ. وَإِذَا اجْتَمَعَ النِّسَاءُ، فَالْبِنْتُ، وَبِنْتُ الِابْنِ، وَالْأُمُّ، وَالزَّوْجَةُ، وَالْأُخْتُ لِلْأَبَوَيْنِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الصِّنْفَانِ غَيْرَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَرِثَ خَمْسَةٌ: الْأَبَوَانِ، وَالِابْنُ، وَالْبِنْتُ، وَأَحَدُ الزَّوْجَيْنِ. وَمَنِ انْفَرَدَ مِنَ الرِّجَالِ حَازَ كُلَّ التَّرِكَةِ إِلَّا الزَّوْجَ وَالْأَخَ لِلْأُمِّ. وَمَنْ قَالَ بِالرَّدِّ، لَا يَسْتَثْنِي إِلَّا الزَّوْجَ. وَمَنِ انْفَرَدَتْ مِنَ النِّسَاءِ، لَمْ تَحُزْهَا إِلَّا الْمُعْتِقَةَ. وَمَنْ قَالَ بِالرَّدِّ، يُثْبِتُ لِكُلِّهِنَّ الْحِيَازَةَ إِلَّا الزَّوْجَةَ. قُلْتُ: وَلَيْسَ فِي الْوَرَثَةِ ذَكَرٌ يُدْلِي بِأُنْثَى فَيَرِثُ إِلَّا الْأَخَ لِلْأُمِّ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَرِثُ مَعَ مَنْ يُدْلِي بِهِ إِلَّا أَوْلَادُ الْأُمِّ. قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَالْقَفَّالُ وَغَيْرُهُمَا: لَيْسَ لَنَا مَنْ يُورَثُ وَلَا يَرِثُ إِلَّا الْجَنِينُ فِي غُرَّتِهِ، وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ: أَنَّهُ يُورَثُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ هُمْ كُلُّ قَرِيبٍ يَخْرُجُ عَنِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: كُلُّ قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ. وَأَمَّا تَفْصِيلُهُمْ، فَهُمْ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ: أَبُو الْأُمِّ، وَكُلُّ جَدٍّ وَجَدَّةٍ سَاقِطَيْنِ، وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ، وَأَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ،

وَبَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ، وَالْعَمُّ لِلْأُمِّ، وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ، وَالْعَمَّاتُ، وَالْأَخْوَالُ، وَالْخَالَاتُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُدُّهُمْ أَحَدَ عَشَرَ، وَيَفْصِلُ الْجَدَّ عَنِ الْجَدَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ لَا يَخْتَلِفُ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ شَيْئًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ لَمْ يُخَلِّفِ الْمَيِّتُ إِلَّا ذَا فَرْضٍ لَا يَسْتَغْرِقُ رُدَّ الْبَاقِي عَلَيْهِ، إِلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ فَلَا رَدَّ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ ذَا فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ، وَرِثَ ذَوُو الْأَرْحَامِ. وَقَوْلُنَا: إِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ وَلَا يُرَدُّ، هُوَ فِيمَا إِذَا اسْتَقَامَ أَمْرُ بَيْتِ الْمَالِ، بِأَنْ وَلِيَ إِمَامٌ عَادِلٌ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَجْمِعًا لِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ، فَفِي مَالِ مَنْ لَا عَصَبَةَ لَهُ وَلَا ذَا فَرْضٍ مُسْتَغْرِقٍ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ أَبِي حَامِدٍ وَصَاحِبِ (الْمُهَذَّبِ) : لَا يُصْرَفُ إِلَى الرَّدِّ، وَلَا إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ نَائِبِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُرَدُّ وَيُصْرَفُ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَصْرُوفٌ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ كَجٍّ، وَبِهِ أَفْتَى أَكَابِرُ الْمُتَأَخِّرِينَ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي، هُوَ الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ عِنْدَ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ وَأَفْتَى بِهِ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ سُرَاقَةَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا وَمُتَقَدِّمِيهِمْ، وَهُوَ أَحَدُ أَعْلَامِهِمْ فِي الْفَرَائِضِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ صَاحِبُ (الْحَاوِي) ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْمُتَوَلِّي، وَالْخَبْرِيُّ - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - وَآخَرُونَ، قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا. قَالَ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى الْيَوْمَ فِي الْأَمْصَارِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ (الْحَاوِي) عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَغَلِطَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي مُخَالَفَتِهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مَنْعُهُمْ إِذَا اسْتَقَامَ بَيْتُ الْمَالِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُرَدُّ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَمِينٍ نُظِرَ إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ بِشُرُوطِ الْقَضَاءِ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ دُفِعَ إِلَيْهِ لِيَصْرِفَهُ فِيهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاضٍ بِشَرْطِهِ صَرَفَهُ الْأَمِينُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ قَاضٍ بِشَرْطِهِ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ فَهَلْ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ، أَمْ يُفَرِّقُهُ الْأَمِينُ بِنَفْسِهِ، أَمْ يُوقَفُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ بَيْتُ الْمَالِ وَمَنْ يَقُومُ بِشَرْطِهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. قُلْتُ: الثَّالِثُ ضَعِيفٌ وَالْأَوَّلَانِ حَسَنَانِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ قِيلَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا لَكَانَ حَسَنًا، بَلْ هُوَ عِنْدِي أَرْجَحُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَعَلَى الثَّانِي وُقُوفُ مَسَاجِدِ الْقُرَى، يَصْرِفُهَا صُلَحَاءُ الْقَرْيَةِ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَمَصَالِحِهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَمِينٍ، فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ لِيُفَرِّقَهُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالصَّرْفِ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا نَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ: أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ يُقَدَّمُ الْأَحْوَجُ فَالْأَحْوَجُ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: يُصْرَفُ إِلَى جَمِيعِهِمْ. وَهَلْ هُوَ إِرْثٌ، أَمْ شَيْءٌ مَصْلَحِيٌّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَشْبَهُهُمَا بِأَصْلِ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَصْلَحَةِ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، قَالَ: وَيُصْرَفُ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ، أَوْ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ. فَإِنْ خِيفَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ مِنْ حَاكِمِ الزَّمَانِ، صُرِفَ إِلَى الْأَصْلَحِ بِقَوْلِ مُفْتِي الْبَلْدَةِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ: أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى جَمِيعِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَابِ الثَّامِنِ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ وَالرَّدِّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَارِثٍ مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِمْ وَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ، فَهُوَ صَاحِبُ فَرْضٍ. وَمَنْ وَرِثَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا فَرْضَ لَهُ، فَهُوَ عَصَبَةٌ. وَقَوْلُنَا: بِالْإِجْمَاعِ، احْتِرَازٌ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَإِنَّ مَنْ وَرَّثَهُمْ لَا يُسَمِّيهِمْ عَصَبَةً. وَأَصْحَابُ الْفُرُوضِ قِسْمَانِ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرِثُ إِلَّا بِالْفَرْضِيَّةِ، وَهُمُ: الزَّوْجَانِ، وَالْأُمُّ، وَالْجَدَّةُ، وَوَلَدُ الْأُمِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ أَيْضًا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يَجْمَعُ الْجِهَتَيْنِ دُفْعَةً، بَلْ يَرِثُ إِمَّا بِهَذِهِ، وَإِمَّا بِهَذِهِ، وَهُمُ الْبَنَاتُ، وَبَنَاتُ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبَوَيْنِ، وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِثُ بِهِمَا جَمْعًا وَانْفِرَادًا، وَهُمَا: الْأَبُ، وَالْجَدُّ. أَمَّا الْعَصَبَةُ، فَضَرْبَانِ: عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ وَهُوَ كُلُّ ذَكَرٍ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، أَوْ بِتَوَسُّطِ مَحْضِ الذُّكُورِ، وَهَؤُلَاءِ يَأْخُذُ الْمُنْفَرِدُ مِنْهُمْ جَمِيعَ الْمَالِ وَالْبَاقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَرُبَّمَا سَقَطُوا. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي حَدِّ الْعَصَبَةِ، غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٍ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي دُخُولَ الزَّوْجِ - فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ وَغَيْرَهُ عَدُّوهُ مِمَّنْ يُدْلِي بِنَفْسِهِ - وَخُرُوجَ الْمُعْتِقَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ كُلُّ مُعْتِقٍ وَذَكَرٍ نَسِيبٍ يُدْلِي إِلَى آخِرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَعَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ، وَهُمُ الْبَنَاتُ، وَبَنَاتُ الِابْنِ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبَوَيْنِ وَلِلْأَبِ، فَيَتَعَصَّبْنَ بِإِخْوَتِهِنَّ، وَيَتَعَصَّبُ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ بِالْبَنَاتِ وَبِبَنَاتِ الِابْنِ. وَقَدْ يُقَالُ: الْعَصَبَةُ ثَلَاثَةٌ: عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ، وَبِغَيْرِهِ، وَمَعَ غَيْرِهِ، عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ. أَمَّا قَدْرُ الْمُسْتَحَقِّ، فَلِلزَّوْجِ نِصْفُ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتَةِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ، وَرُبُعُهُ إِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَلِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ

فصل

لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ، وَالثُّمُنُ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا. وَالزَّوْجَاتُ يَشْتَرِكْنَ فِي الرُّبُعِ وَالثُّمُنِ بِالْإِجْمَاعِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْأُمُّ، فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ تَرِثُ ثُلُثَ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ، وَلَا اثْنَانِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَحَالٌ سُدُسَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ، أَوِ اثْنَانِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانُوا، وَحَالٌ يَكُونُ مَعَهَا زَوْجٌ وَأَبٌ، أَوْ زَوْجَةٌ وَأَبٌ، فَلَهَا ثُلُثُ مَا يَبْقَى عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ فِي الْمَذْهَبِ. وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: لَهَا الثُّلُثُ كَامِلًا. فَصْلٌ وَأَمَّا الْجَدَّةُ، فَتَرِثُ أُمُّ الْأُمِّ وَأُمَّهَاتُهَا الْمُدْلِيَاتُ بِمَحْضِ الْإِنَاثِ، وَأُمُّ الْأَبِ وَأُمَّهَاتُهَا كَذَلِكَ، وَفِي أُمِّ أَبِ الْأَبِ، وَأُمِّ مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الْأَجْدَادِ وَأُمَّهَاتِهِنَّ قَوْلَانِ. الْمَشْهُورُ: أَنَّهُنَّ وَارِثَاتٌ. وَالثَّانِي: لَا، نَقَلَهُ أَبُو ثَوْرٍ. وَأَمَّا الْجَدَّةُ الْمُدْلِيَةُ بِذَكَرٍ بَيْنَ أُنْثَيَيْنِ، كَأُمِّ أَبِي الْأُمِّ فَلَا تَرِثُ، بَلْ هِيَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَمَا سَبَقَ، فَحَصَلَ فِي ضَبْطِ الْجَدَّاتِ الْوَارِثَاتِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِبَارَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُقَالَ: هِيَ كُلُّ جَدَّةٍ أَدْلَتْ بِمَحْضِ إِنَاثٍ أَوْ بِمَحْضِ ذُكُورٍ، أَوْ بِمَحْضِ الْإِنَاثِ إِلَى مَحْضِ الذُّكُورِ. الثَّانِيَةُ: الَّتِي لَا تُدْلِي بِمَحْضِ الْوَارِثِينَ غَيْرُ وَارِثَةٍ، وَالْبَاقِيَاتُ وَارِثَاتٌ. وَعَلَى مَنْقُولِ أَبِي ثَوْرٍ: لَا تُرَدُّ جَدَّةٌ تُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ، وَلَا مَنْ وَقَعَ فِي آخِرِ نَسَبِهَا أَبَوَانِ

فَصَاعِدًا، وَلِلْجَدَّةِ الْوَاحِدَةِ السُّدُسُ. وَإِنِ اجْتَمَعَ جَدَّتَانِ فَصَاعِدًا وَارِثَاتٌ، اشْتَرَكْنَ فِي السُّدُسِ، فَلَوْ أَدْلَتْ إِحْدَاهُمَا بِجِهَتَيْنِ، كَامْرَأَةٍ تَزَوَّجَ ابْنُ بِنْتِهَا بِنْتَ بِنْتِهَا الْأُخْرَى، فَوُلِدَ لَهُمَا وَلَدٌ، فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ أُمُّ أُمِّ أَبِيهِ، وَأُمُّ أُمِّ أُمِّهِ. فَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ وَخَلَّفَ هَذِهِ، وَجَدَّةً أُخْرَى هِيَ أُمُّ أَبِي أَبِيهِ، أَوْ أَدْلَتْ بِثَلَاثِ جِهَاتٍ فَأَكْثَرَ، بِأَنْ نَكَحَ الْوَلَدُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ بِنْتَ بِنْتٍ أُخْرَى لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَوُلِدَ لَهُمَا، فَالْمَرْأَةُ جَدَّةٌ لِلْوَلَدِ الثَّانِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. فَالصَّحِيحُ: أَنَّ السُّدُسَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: يُوَزَّعُ عَلَى الْجِهَاتِ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ حَرْبَوَيْهِ. فَرْعٌ فِي تَنْزِيلِ الْجَدَّاتِ لَكَ أُمٌّ وَأَبٌ، وَهُمَا فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى مِنْ أُصُولِكَ، وَلِأَبِيكَ أُمٌّ وَأَبٌ، وَكَذَلِكَ لِأُمِّكَ، فَالْأَرْبَعَةُ هُمُ الْوَاقِعُونَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ دَرَجَاتِ أُصُولِكَ، وَهَذِهِ هِيَ الدَّرَجَةُ الْأُولَى مِنْ دَرَجَاتِ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، ثُمَّ أُصُولُكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ ثَمَانِيَةٌ ; لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ أَبًا وَأُمًّا، وَفِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَفِي الْخَامِسَةِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، وَالنِّصْفُ مِنَ الْأُصُولِ فِي كُلِّ دَرَجَةٍ ذُكُورٌ، وَالنِّصْفُ إِنَاثٌ، وَهُنَّ الْجَدَّاتُ، فَفِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْأُصُولِ جَدَّتَانِ، وَفِي الثَّالِثَةِ أَرْبَعٌ، وَفِي الرَّابِعَةِ ثَمَانٍ، وَفِي الْخَامِسَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَهَكَذَا يَتَضَاعَفُ عَدَدُهُنَّ فِي كُلِّ دَرَجَةٍ. [ثُمَّ] مِنْهُنَّ وَارِثَاتٌ وَغَيْرُ وَارِثَاتٍ، فَإِذَا سُئِلْتَ عَنْ عَدَدٍ مِنَ الْجَدَّاتِ الْوَارِثَاتِ عَلَى أَقْرَبِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْمَنَازِلِ، فَاجْعَلْ دَرْجَهُنَّ بِعَدَدِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَمَحِّضْ نِسْبَةَ الْأُولَى إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أُمَّهَاتٍ، ثُمَّ أَبْدِلْ مِنْ آخِرِ نِسْبَةِ الثَّانِيَةِ أُمًّا بِأَبٍ، وَفِي آخِرِ نِسْبَةِ الثَّالِثَةِ أُمَّيْنِ بِأَبَوَيْنِ، وَهَكَذَا تُنْقِصُ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَتَزِيدُ فِي الْآبَاءِ حَتَّى تَتَمَحَّضَ نِسْبَةُ الْأَخِيرَةِ آبَاءً.

مِثَالُهُ: سُئِلْتَ عَنْ أَرْبَعِ جَدَّاتٍ، فَقُلْ: هُنَّ أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمُّ أُمِّ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أُمِّ أَبِي أَبٍ، وَأُمُّ أَبِي أَبِي أَبٍ، فَالْأُولَى مِنْ جِهَةِ أُمِّ الْمَيِّتِ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ جِهَةِ جَدِّهِ، وَالرَّابِعَةُ مِنْ جِهَةِ أَبِي جَدِّهِ. وَهَكَذَا إِذَا أَرَدْتَ زِيَادَةً زِدْتَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ أَبًا. وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ مَنْ يُحَاذِي الْوَارِثَاتِ مَعَ السَّاقِطَاتِ، فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنْ جَدَّتَيْنِ عَلَى أَقْرَبِ مَا يُمْكِنُ، فَلَيْسَ فِي دَرَجَتِهِمَا غَيْرُهُمَا. وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنْ أَكْثَرَ، فَأَلْقِ مِنْ عَدَدِ الْوَارِثَاتِ اثْنَيْنِ أَبَدًا، وَضَعِّفْ الِاثْنَيْنِ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ مِنْهُنَّ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ عَدَدُ الْجَدَّاتِ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ الْوَارِثَاتِ وَالسَّاقِطَاتِ. فَإِذَا عَرَفْتَ الْوَارِثَاتِ مِنْهُنَّ، فَالْبَاقِيَاتُ السَّاقِطَاتُ. مِثَالُهُ: خُذْ مِنَ الْأَرْبَعِ اثْنَتَيْنِ وَضَعِّفْهُمَا مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ اثْنَانِ، فَيَبْلُغُ ثَمَانِيَةً، فَهُنَّ الْوَارِثَاتُ وَالسَّاقِطَاتُ، وَإِذَا فَرَضْتَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ، فَخُذْ مِنَ الثَّلَاثَةِ اثْنَتَيْنِ، وَضَعِّفْهُمَا مَرَّةً، لِأَنَّ الْبَاقِيَ وَاحِدٌ فَيَبْلُغُ أَرْبَعَةً، فَهُوَ عَدَدُهُنَّ، فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثُ وَارِثَاتٍ، وَوَاحِدَةٌ سَاقِطَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَارِثَاتِ فِي كُلِّ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِ الْأُصُولِ بِعَدَدِ تِلْكَ الدَّرَجَةِ، فَفِي الثَّانِيَةِ ثِنْتَانِ، وَفِي الثَّالِثَةِ ثَلَاثٌ، وَفِي الرَّابِعَةِ أَرْبَعٌ. وَهَكَذَا فِي كُلِّ دَرَجَةٍ لَا تَزِيدُ إِلَّا وَارِثَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَضَاعَفَ عَدَدُهُنَّ فِي كُلِّ دَرَجَةٍ، وَسَبَبُهُ [أَنَّ] الْجَدَّاتِ مَا بَلَغْنَ، فَنِصْفُهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، وَنِصْفُهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَلَا يَرِثُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَالْبَاقِيَاتُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ. فَإِذَا صَعِدْنَا دَرَجَةً، تَبَدَّلَتْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِأُمِّهَا، وَزَادَتْ أُمُّ الْجَدِّ الَّذِي صَعِدْنَا إِلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُعْظَمَ مَا ذَكَرْنَا فِي تَنْزِيلِ الْجَدَّاتِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. فَأَمَّا عَلَى مَنْقُولِ أَبِي ثَوْرٍ، فَلَا يَرِثُ إِلَّا جَدَّتَانِ.

فصل

فَصْلٌ وَلِلْأَبِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ يَرِثُ بِمَحْضِ الْفَرْضِ، وَهُوَ إِذَا كَانَ مَعَهُ ابْنٌ، أَوِ ابْنُ ابْنٍ، فَلَهُ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلِابْنِ أَوِ ابْنِ الِابْنِ. وَحَالٌ يَرِثُ بِمَحْضِ الْعُصُوبَةِ، وَهُوَ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ. وَحَالٌ يَرِثُ بِهِمَا، وَهُوَ إِذَا كَانَ مَعَهُ بِنْتٌ، أَوْ بِنْتُ ابْنٍ، أَوْ بَنَاتٌ، فَلَهُ السُّدُسُ فَرْضًا، وَلَهُنَّ فَرْضُهُنَّ وَالْبَاقِي لَهُ بِالتَّعْصِيبِ. فَصْلٌ الْجَدُّ كَالْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ إِلَّا فِي مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: الْأَبُ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مُطْلَقًا، وَالْجَدُّ لَا يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُمْ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. الثَّانِيَةُ: الْأَبُ يَرُدُّ الْأُمَّ إِلَى ثُلُثِ مَا يَبْقَى فِي صُورَتَيْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ [وَزَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ] كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ كَانَ بَدَلَهُ جَدٌّ، كَانَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَامِلًا. الثَّالِثَةُ: الْأَبُ يُسْقِطُ أُمَّ نَفْسِهِ وَأُمَّ كُلِّ جَدٍّ، وَالْجَدُّ لَا يُسْقِطُ أُمَّ الْأَبِ وَإِنْ أَسْقَطَ أُمَّ نَفْسِهِ، وَأَبُو الْجَدِّ وَمَنْ فَوْقَهُ كَالْجَدِّ، لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَحْجُبُ أُمَّ نَفْسِهِ، وَلَا يَحْجُبُهَا مَنْ فَوْقَهُ. الرَّابِعَةُ: سَبَقَ أَنَّ الْأَبَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ، وَفِي الْجَدِّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِثْلُهُ. وَالثَّانِي: لَا، بَلْ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْبِنْتِ أَوِ الْبَنَاتِ بِالتَّعْصِيبِ فَقَطْ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا خَاصٌّ بِالْأَبِ. وَهَذَا خِلَافٌ فِي الْعِبَارَةِ فَقَطْ، وَالْمَأْخُوذُ لَا يَخْتَلِفُ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَصْلٌ فِي الْأَوْلَادِ فَالِابْنُ الْوَاحِدُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا جَمَاعَةُ الْأَبْنَاءِ يَسْتَغْرِقُونَهُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْبِنْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ. فَإِنِ اجْتَمَعَ الصِّنْفَانِ، فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَرْعٌ إِذَا اجْتَمَعَ أَوْلَادُ الصُّلْبِ وَأَوْلَادُ ابْنٍ أَوْ بَنِينَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَوْلَادِ الصُّلْبِ ذَكَرٌ، لَمْ يَرِثْ أَوْلَادُ الِابْنِ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ وَلَدُ الصُّلْبِ بِنْتًا، فَلَهَا النِّصْفُ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ وَلَدُ الِابْنِ ذَكَرًا، فَالْبَاقِي لَهُ. وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا، أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الِابْنِ بِنْتًا، فَلَهَا السُّدُسُ، وَإِنْ كُنَّ بَنَاتٍ، فَالسُّدُسُ بَيْنَهُنَّ. وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الصُّلْبِ بِنْتَيْنِ فَصَاعِدًا، فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ ذَكَرٌ، عَصَّبَهُنَّ فِي الْبَاقِي لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الَّذِي فِي دَرَجَتِهِنَّ أَخَاهُنَّ أَوْ أَخَا بَعْضِهِنَّ، أَوِ ابْنَ عَمِّهِنَّ، وَإِنَّمَا يُعَصِّبُهُنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ فَرْضٌ كَمَا ذَكَرْنَا. فَلَوْ خَلَّفَ بِنْتَ صُلْبٍ، وَبِنْتَ ابْنٍ، وَابْنَ ابْنِ ابْنٍ، وَبِنْتَ ابْنِ ابْنٍ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ فَرْضًا، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَسْفَلِينَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَا يُعَصِّبُ ابْنُ الِابْنِ مَنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهُ، بَلْ يَخْتَصُّ بِالْبَاقِي. وَأَوْلَادُ ابْنِ الِابْنِ مَعَ أَوْلَادِ الِابْنِ، كَأَوْلَادِ الِابْنِ مَعَ أَوْلَادِ الصُّلْبِ فِي كُلِّ تَفْصِيلٍ، وَكَذَا فِي كُلِّ دَرَجَةٍ نَازِلَةٍ مَعَ دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ، حَتَّى إِذَا خَلَّفَ بِنْتَ ابْنٍ، وَبِنْتَ ابْنِ ابْنٍ، فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ، وَلِلسُّفْلَى السُّدُسُ. وَلَوْ خَلَّفَ

فصل

بِنْتَيِ ابْنٍ، وَبِنْتَ ابْنِ ابْنٍ، فَلِبِنْتَيْ الِابْنِ الثُّلُثَانِ، وَلَا شَيْءَ لِلسُّفْلَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي دَرَجَتِهَا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا. فَرْعٌ لَيْسَ فِي الْفَرَائِضِ مَنْ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَعَمَّتَهُ وَعَمَّةَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَبَنَاتِ أَعْمَامِهِ وَبَنَاتِ أَعْمَامِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ إِلَّا الْمُسْتَقِلَّ مِنْ أَوْلَادِ الِابْنِ. فَصْلٌ فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ أَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ إِذَا انْفَرَدُوا، فَكَأَوْلَادِ الصُّلْبِ لِلذَّكَرِ جَمِيعُ الْمَالِ، وَكَذَا لِلْجَمَاعَةِ، وَلِلْأُخْتِ الْفَرْدَةِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ، فَإِنِ اجْتَمَعَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. فَرْعٌ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمْ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبَوَيْنِ إِلَّا فِي الْمُشَرَّكَةِ، وَهِيَ زَوْجٌ، وَأُمٌّ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ، وَأَخَوَانِ لِلْأَبَوَيْنِ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْأَخَوَيْنِ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ الْأَخَوَانِ لِلْأَبَوَيْنِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَحَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ لَالٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ. ثَانِيهِمَا: سُقُوطُ الْأَخَوَيْنِ لِلْأَبَوَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،

وَالرِّوَايَةُ عَنْ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُخْتَلِفَةٌ كَمَا ذُكِرَ، لَكِنْ لَمْ أَجِدْ لِغَيْرِهِ نَقْلَ قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَكِنْ ذَهَبَ ابْنُ اللَّبَّانِ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ إِلَى الْإِسْقَاطِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لِلتَّشْرِيكِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ. أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ زَوْجٌ، وَأُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ، وَاثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَبَوَيْنِ ذَكَرٌ، إِمَّا وَحْدَهُ، وَإِمَّا مَعَ ذُكُورٍ أَوْ إِنَاثٍ، أَوْ كِلَيْهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَبَوَيْنِ ذَكَرٌ، بَلْ كَانَ مَعَ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُخْتٌ أَوْ أُخْتَانِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ، فَلَا تَشْرِيكَ، بَلْ يُفْرَضُ لِلْوَاحِدِ النِّصْفُ، وَلِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ، وَتُعَالُ الْمَسْأَلَةُ. وَلَوْ كَانَ وَلَدُ الْأُمِّ وَاحِدًا فَلَهُ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ مِنْ أَوْلَادِ الْأَبَوَيْنِ، أَوِ الْأَبِ، وَلَوْ كَانَ بَدَلَ أَوْلَادِ الْأَبَوَيْنِ إِخْوَةُ أَبٍ سَقَطُوا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ قَرَابَةُ أُمٍّ فَيُشَارِكُونَ أَوْلَادَ الْأُمِّ، فَافْتَرَقَ الصِّنْفَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَإِذَا شَرَكْنَا فِي الثُّلُثِ بَيْنَ أَوْلَادِ الْأُمِّ وَأَوْلَادِ الْأَبَوَيْنِ تَقَاسَمُوهُ سَوَاءً ذَكَرُهُمْ كَأُنْثَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ عُدِمَ فِي الْمُشَرَّكَةِ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ، وَكَانَ هُنَاكَ أُخْتٌ لِلْأَبِ، فَلَهَا النِّصْفُ فَرْضًا. فَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَخُوهَا لِأَبٍ أَيْضًا، سَقَطَ وَأَسْقَطَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْرَضُ لَهَا مَعَهُ، فَلَا تَشْرِيكَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوِ اجْتَمَعَ أَوْلَادُ الْأَبَوَيْنِ وَأَوْلَادُ الْأَبِ، فَهُوَ كَاجْتِمَاعِ أَوْلَادِ الصُّلْبِ وَأَوْلَادِ الِابْنِ، فَأَوْلَادُ الْأَبَوَيْنِ كَأَوْلَادِ الصُّلْبِ، وَأَوْلَادُ الْأَبِ كَأَوْلَادِ الِابْنِ. فَإِنْ كَانَ فِي أَوْلَادِ الْأَبَوَيْنِ ذَكَرٌ، حَجَبَ أَوْلَادَ الْأَبِ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَقَطْ، فَلَهَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِأَوْلَادِ الْأَبِ إِنْ كَانُوا ذُكُورًا، أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا. وَإِنْ تَمَحَّضْنَ إِنَاثًا، أَوْ أُنْثَى فَقَطْ،

فَلَهُنَّ أَوْ لَهَا السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَبَوَيْنِ ثِنْتَانِ فَأَكْثَرُ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَلَا شَيْءَ لِأَوْلَادِ الْأَبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ ذَكَرٌ، فَيُعَصِّبُ الْإِنَاثَ. وَلَا يُعَصِّبُ الْأُخْتَ إِلَّا مَنْ فِي دَرَجَتِهَا بِخِلَافِ بِنْتِ الِابْنِ، فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهَا مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهَا. فَلَوْ خَلَّفَ أُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ، وَأُخْتًا لِأَبٍ وَابْنَ أُخْتٍ لِأَبٍ، فَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقِي لِابْنِ الْأَخِ، وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ لِلْأَبِ. فَرْعٌ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأُمِّ، لِوَاحِدِهِمُ السُّدُسُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثُ يُقَسَّمُ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ. قُلْتُ: أَوْلَادُ الْأُمِّ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَيَرِثُونَ مَعَ مَنْ يُدْلُونَ بِهِ، وَيَرِثُ ذَكَرُهُمُ الْمُنْفَرِدُ كَأُنْثَاهُمُ الْمُنْفَرِدَةِ، وَيَتَقَاسَمُونَ بِالسَّوِيَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ ذَكَرَهُمْ يُدَلِي بِأُنْثَى، وَيَرِثُ. وَالْخَامِسُ: يَحْجُبُونَ مَنْ يُدْلُونَ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ نَظِيرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ بَنُو الْإِخْوَةِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَوِ الْأَبِ يُنَزَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ أَبِيهِ فِي حَالَتَيِ الِانْفِرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ فَيَسْتَغْرِقُ الْوَاحِدُ [وَالْجَمَاعَةُ] لِلْمَالِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، وَمَا فَضَلَ عَنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَسْقُطُ ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ، لَكِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْإِخْوَةَ فِي أُمُورٍ:

فصل

أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِخْوَةَ يَرُدُّونَ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَبَنُوهُمْ لَا يَرُدُّونَهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأَبَوَيْنِ وَلِلْأَبِ يُقَاسِمُونَ الْجَدَّ، وَبَنُوهُمْ يَسْقُطُونَ بِهِ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبَوَيْنِ بَدَلَ آبَائِهِمْ فِي الْمُشَرَّكَةِ سَقَطُوا. الرَّابِعُ: الْإِخْوَةُ لِلْأَبَوَيْنِ وَلِلْأَبِ يُعَصِّبُونَ أَخَوَاتِهِمْ، وَبَنُوهُمْ لَا يُعَصِّبُونَ أَخَوَاتِهِمْ. قُلْتُ: وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أُخَرَ: أَحَدُهَا: الْإِخْوَةُ لِلْأَبَوَيْنِ، يَحْجُبُونَ الْإِخْوَةَ لِلْأَبِ، وَأَوْلَادُهُمْ لَا يَحْجُبُونَهُمْ. وَالثَّانِي: الْأَخُ مِنَ الْأَبِ يَحْجُبُ بَنِي الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَلَا يَحْجُبُهُمُ ابْنُهُ. الثَّالِثُ: بَنُو الْإِخْوَةِ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَخَوَاتِ إِذَا كُنَّ عَصَبَاتٍ مَعَ الْبَنَاتِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ الْأَخَوَاتُ لِلْأَبَوَيْنِ وَلِلْأَبِ مَعَ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ عَصَبَاتٌ كَالْإِخْوَةِ. حَتَّى لَوْ خَلَّفَ بِنْتًا وَأُخْتًا، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ الْبَاقِي. وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ أُخْتًا أَوْ أَخَوَاتٍ، فَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ أَوْ لِلْأَخَوَاتِ. وَلَوْ كَانَ مَعَهُنَّ زَوْجٌ، فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ أَوِ الْأَخَوَاتِ. وَلَوْ كَانَ مَعَهُنَّ [أُمٌّ] ، عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ، وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ وَالْأَخَوَاتُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُنَّ أَخٌ. وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ وَأُخْتًا، فَلَهَا النِّصْفُ، وَالسُّدُسُ لِبِنْتِ الِابْنِ، وَلِلْأُخْتِ الْبَاقِي. وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبَوَيْنِ وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ مَعَ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الِابْنِ، فَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ لِلْأَبَوَيْنِ، وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ. وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ وَأَخًا لِأَبٍ، كَانَ الْبَاقِي

فصل

لِلْأُخْتِ، وَسَقَطَ الْأَخُ بِهَا كَسُقُوطِهِ بِالْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ. وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتًا، وَأَخًا وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَرْعٌ خَلَّفَ بِنْتًا، وَثَلَاثَ أَخَوَاتٍ أَوْ إِخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ أَوْ لِلْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ، وَسَقَطَ الْبَاقُونَ. فَصْلٌ الْعَمُّ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ كَالْأَخِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ فِي أَنَّ مَنِ انْفَرَدَ مِنْهُمَا يَأْخُذُ جَمِيعَ الْمَالِ، أَوْ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْفَرْضِ. وَإِذَا اجْتَمَعَا أَسْقَطَ الْعَمُّ لِلْأَبَوَيْنِ الْعَمَّ لِلْأَبِ. الْبَابُ الثَّانِي فِي بَيَانِ الْعَصَبَاتِ وَتَرْتِيبِهِمْ فَالْأَقْرَبُ مِنْهُمْ يُسْقِطُ الْأَبْعَدَ. وَجُمْلَةُ عَصَبَاتِ النَّسَبِ: الِابْنُ وَالْأَبُ وَمَنْ يُدْلِي بِهِمَا، وَيُقَدَّمُ مِنْهُمُ الْأَبْنَاءُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدَّةُ وَالْإِخْوَةُ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ، وَهُمْ فِي دَرَجَةٍ، وَلِذَلِكَ يَتَقَاسَمُونَ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَبُو الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا مَعَ الْأَخِ، كَالْجَدِّ مَعَ الْأَخِ، فَيَتَقَاسَمَانِ لِقُوَّةِ الْجُدُودَةِ، وَوُقُوعِ الِاسْمِ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ وَالْمَذْهَبُ وَالْمَعْرُوفُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي ذَلِكَ - يَعْنِي لِلْأَصْحَابِ - أَنَّ أَبَا الْجَدِّ يَكُونُ لَهُ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْقَلْبِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَأَبْدَى الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ احْتِمَالًا.

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَخٌ، فَالْمُقَدَّمُ الْجَدُّ، ثُمَّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلَا، وَيَسْقُطُ ابْنُ الْأَخِ بِالْجَدِّ الْعَالِي سُقُوطَهُ بِالْأَدْنَى، وَفِي النِّهَايَةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّ أَبَا الْجَدِّ وَابْنَ الْأَخِ يَتَقَاسَمَانِ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنَّا إِذَا قَدَّمْنَا نَوْعًا عَلَى نَوْعٍ، لَا نَنْظُرُ إِلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ الْأَخِ وَإِنْ سَفَلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمِّ مَعَ قُرْبِهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ جَدٌّ، فَالْأَخُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ مِنَ الْأَبِ، وَكَذَلِكَ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْعَمُّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ بَنُو الْعَمِّ كَذَلِكَ، [ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ] ، إِلَى حَيْثُ يَنْتَهُونَ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْ عَصَبَاتِ النَّسَبِ، وَالْمَيِّتُ عَتِيقٌ، فَالْعُصُوبَةُ لِمُعْتِقِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُعْتِقُ حَيًّا فَلِعَصَبَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا، فَلِمُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، ثُمَّ لِعَصَبَاتِهِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَتِيقًا، وَأَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ عَتِيقٌ، ثَبَتَ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ لِمُعْتِقِ الْأَبِ أَوِ الْجَدِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَالْمَالُ لِبَيْتِ الْمَالِ. فَرْعٌ الْبَعِيدُ مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَدَّمَةِ، يُقَدَّمُ عَلَى الْقَرِيبِ مِنَ الْجِهَةِ الْمُؤَخَّرَةِ. مِثَالُهُ: ابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَبِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الْأَخِ وَإِنْ سَفَلَ، يُقَدَّمُ عَلَى الْعَمِّ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الْعَمِّ النَّازِلُ، يُقَدَّمُ عَلَى عَمِّ الْأَبِ، وَإِذَا اتَّحَدَتِ الْجِهَةُ، قُدِّمَ الْأَقْرَبُ. فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ، قُدِّمَ مَنْ يُدْلِي بِالْأَبَوَيْنِ عَلَى مَنْ يُدْلِي بِالْأَبِ. مِثَالُهُ: الْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ، وَابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ يُقَدَّمُ عَلَى ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَنِي الْعَمِّ وَبَنِي عَمِّ الْأَبِ.

فَرْعٌ إِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي جِهَةِ عُصُوبَةٍ، وَاخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِقَرَابَةٍ أُخْرَى كَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ نُظِرَ إِنْ أَمْكَنَ التَّوْرِيثُ بِالْقَرَابَةِ الْأُخْرَى لِفَقْدِ الْحَاجِبِ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ يُوَرَّثُ بِهِمَا، فَالْأَخُ لِلْأُمِّ يَأْخُذُ السُّدُسَ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالْعُصُوبَةِ. وَنَصَّ فِيمَا لَوْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمِّ مُعْتِقِهِ وَأَحَدُهُمَا أَخُو الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ: أَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ لِلَّذِي هُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ. وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِمَا طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: جَعْلُهُمَا [عَلَى] قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحُ الْأَخِ لِلْأُمِّ، فَيَأْخُذُ جَمِيعَ الْمَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْعُصُوبَةِ وَزَادَ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، فَأَشْبَهَ الْأَخَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ. وَالثَّانِي: لَا تَرْجِيحَ؛ لِأَنَّ مَزِيَّتَهُ بِجِهَةٍ تُفْرَضُ لَهَا فَلَا يَسْقُطُ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي جِهَةِ الْعُصُوبَةِ كَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ فَعَلَى هَذَا فِي النَّسَبِ لَهُ السُّدُسُ فَرْضًا، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالْعُصُوبَةِ، وَفِي الْوَلَاءِ لَا يُمْكِنُ تَوْرِيثُهُ بِالْفَرْضِيَّةِ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ بِالْعُصُوبَةِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالْمَنْصُوصِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَالْفَرْقُ: أَنَّ الْأَخَ لِلْأُمِّ فِي النَّسَبِ يَرِثُ، فَأُعْطِيَ فَرْضَهُ، وَاسْتَوَيَا فِي الْبَاقِي بِالْعُصُوبَةِ، وَفِي الْوَلَاءِ لَا يَرِثُ بِالْفَرْضِ، فَرَجَحَ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ. وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ أَخَا الْمُعْتِقِ مِنْ أَبَوَيْهِ يُقَدَّمُ عَلَى أَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَيَجْرِي الطَّرِيقَانِ، فِيمَا لَوْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمِّ أَبِيهِ وَأَحَدُهُمَا أَخُوهُ لِأُمِّهِ. فَلَوْ تَرَكَتِ الْمَرْأَةُ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجُهَا، وَالْآخَرُ أَخٌ لِأُمٍّ فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْآخَرِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَإِنْ رَجَّحْنَا الْأَخَ لِلْأُمِّ، فَالْبَاقِي كُلُّهُ لَهُ. وَلَوْ تَرَكَتْ ثَلَاثَةً بَنِي أَعْمَامٍ أَحَدُهُمْ زَوْجٌ، وَالثَّانِي أَخٌ لِأُمٍّ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأَخِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَإِنْ رَجَّحْنَا الْأَخَ لِلْأُمِّ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي

فصل

لِلْأَخِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَمْكَنَ تَوْرِيثُ الْمُخْتَصِّ بِتِلْكَ الْقَرَابَةِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِحَاجِبٍ، بِأَنْ تَرَكَ بِنْتًا وَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، لِأَنَّ إِخْوَةَ الْأُمِّ سَقَطَتْ بِالْبِنْتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَخِ وَحْدَهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ مَعَ الْبِنْتِ أَخٌ لِأَبَوَيْنِ وَأَخٌ لِأَبٍ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، فَتَرَكَ ابْنَ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ، وَآخَرَ لِأَبٍ وَهُوَ أَخٌ لِأُمٍّ، فَلِلثَّانِي السُّدُسُ بِالْأُخُوَّةِ، وَالْبَاقِي لِلْأَوَّلِ، وَتَسْقُطُ بِهِ عُصُوبَةُ الثَّانِي. وَلَوْ تَرَكَتْ ثَلَاثَةً بَنِي أَعْمَامٍ مُتَفَرِّقِينَ، وَالَّذِي هُوَ لِأُمٍّ زَوْجٌ، وَالَّذِي هُوَ لِأَبٍ أَخٌ لِأُمٍّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأَخِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ. وَلَوْ تَرَكَ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، وَتَرَكَ سِوَاهُمَا أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ فَلَهُمَا الثُّلُثُ بِالْأُخُوَّةِ، وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ مِنْهُمَا بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، وَتَرَكَ سِوَاهُمَا أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَرَكَ أَخَوَيْنِ هُمَا ابْنَا عَمٍّ، وَأَخًا لَيْسَ بِابْنِ عَمٍّ، وَابْنَ عَمٍّ لَيْسَ بِأَخٍ، فَالثُّلُثُ لِلْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ، وَالْبَاقِي لِبَنِي الْأَعْمَامِ الثَّلَاثَةِ. فَصْلٌ فِي عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ قَدْ سَبَقَ أَنْ مَنْ لَا عَصَبَةَ لَهُ مِنَ النَّسَبِ، فَمَالُهُ أَوْ مَا يَفْضُلُ عَنِ الْفُرُوضِ لِمُعْتِقِهِ إِنْ كَانَ عَتِيقًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْمُعْتِقُ، فَالِاسْتِحْقَاقُ لِعَصَبَاتِهِ مِنَ النَّسَبِ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ دُونَ مَنْ يُعَصِّبُهُمْ غَيْرُهُمْ، فَلَا تَرِثُ النِّسَاءُ بِالْوَلَاءِ إِلَّا مِمَّنْ أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، أَوْ جَرَّ الْوَلَاءَ إِلَيْهِنَّ مَنْ أَعْتَقْنَ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: لَا تَرِثُ امْرَأَةٌ بِوَلَاءٍ إِلَّا مُعْتَقَهَا، أَوْ مُنْتَمِيًا إِلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَضْعَفُ مِنَ النَّسَبِ الْبَعِيدِ. وَإِذَا بَعُدَ النَّسَبُ، وَرِثَ الذُّكُورُ دُونَ الْإِنَاثِ،

فَيَرِثُ ابْنُ الْأَخِ وَالْعَمُّ وَابْنُهُ دُونَ أَخَوَاتِهِمْ. فَإِذَا لَمْ تَرِثْ بِنْتُ الْأَخِ، فَبِنْتُ الْمُعْتِقِ أَوْلَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ تَرْتِيبُهُمْ فِي الْوَلَاءِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي النَّسَبِ، فَيُقَدَّمُ ابْنُ الْمُعْتِقِ وَابْنُ ابْنِهِ عَلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ، لَكِنْ يَفْتَرِقُ التَّرْتِيبَانِ فِي مَسَائِلَ. إِحْدَاهَا: فِي الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ مَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ طَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ: يُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ كَمَا فِي النَّسَبِ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ: ثَانِيهِمَا: يَتَسَاوَيَانِ، إِذْ لَا مَدْخَلَ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ هَنَا. الثَّانِيَةُ: فِي الْجَدِّ وَالْأَخِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَأَبِي خَلَفٍ الطَّبَرِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْأَخَ مُقَدَّمٌ. وَالثَّانِي: يَتَسَاوَيَانِ كَالنَّسَبِ، وَرَجَّحَهُ الْبَغَوِيُّ. فَإِنْ قُلْنَا: يَتَسَاوَيَانِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا نَقَلَهُ الْحَنَّاطِيُّ وَغَيْرُهُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لِلْجَدِّ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ وَثُلُثِ الْمَالِ، كَمَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّسَبِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ فِي الْوَلَاءِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: الْقَطْعُ بِالْمُقَاسَمَةِ أَبَدًا. وَلَوِ اجْتَمَعَ مَعَ جَدِّ الْمُعْتِقِ إِخْوَةٌ لِأَبَوَيْنِ، وَإِخْوَةٌ لِأَبٍ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ اللَّبَّانِ: يُعَدُّ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ، كَمَا فِي النَّسَبِ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْأَكْثَرُونَ: لَا يُعَدُّونَ، بَلِ الْجَدُّ وَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ يَقْتَسِمَانِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأَبِ قَدْ يَأْخُذُونَ شَيْئًا فِي النَّسَبِ، كَمَا إِذَا كَانَ مَعَهُمْ أُخْتٌ لِلْأَبَوَيْنِ وَجَدٌّ، وَهُنَا لَا يَأْخُذُونَ شَيْئًا بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ هُنَا إِلَّا ذَكَرٌ، وَلَا يَرِثُ الْأَخُ لِلْأَبِ مَعَ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْقِسْمَةِ مَنْ لَا يَأْخُذُ بِحَالٍ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجَدُّ أَوْلَى مِنِ ابْنِ الْأَخِ عَلَى الْأَصَحِّ كَالنَّسَبِ. وَقِيلَ: يَسْتَوِيَانِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الْأَخُ أَوْلَى مِنْ أَبِي الْجَدِّ، وَأَبُو الْجَدِّ مَعَ ابْنِ الْأَخِ يَسْتَوِيَانِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ: إِنَّ الْأَخَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَدِّ، فَابْنُ الْأَخِ مُقَدَّمٌ أَيْضًا كَابْنِ الِابْنِ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْأَخِ وَالْجَدِّ يَجْرِيَانِ فِي الْعَمِّ مَعَ أَبِي الْجَدِّ، وَفِي كُلِّ عَمٍّ اجْتَمَعَ هُوَ وَجَدٌّ إِذَا أَدْلَى ذَلِكَ الْعَمُّ بِابْنِ ذَلِكَ الْجَدِّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى مِنَ الْعَمِّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ لِلْمُعْتِقِ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ مُقَدَّمٌ كَمَا سَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ. فَرْعٌ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ، فَالْمَالُ لِمُعْتِقِ الْمُعْتَقِ، ثُمَّ لِعَصَبَاتِهِ عَلَى النَّسَقِ الْمَذْكُورِ فِي عَصَبَاتِ الْمُعْتَقِ، ثُمَّ لِمُعْتِقِ مُعْتِقِ الْمُعْتَقِ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَالْقَوْلُ فِي مُعْتِقِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَقَوَاعِدَ أُخَرَ وَمَسَائِلَ عَوِيصَةٍ نَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ إِذَا كَانَ مَعَ الْجَدِّ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأَبِ لَمْ يَسْقُطُوا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَسْقُطُونَ، وَاخْتَارَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ اللَّبَّانِ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ. وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ مَعَهُ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَوْ مِنَ الْأَبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ، فَلِلْجَدِّ الْأَوْفَرُ مِنْ مُقَاسَمَتِهِمْ وَثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ. فَإِنْ قَاسَمَ كَانَ كَأَخٍ. وَإِنْ أَخَذَ الثُّلُثَ، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَقَدْ يَسْتَوِي الْأَمْرَانِ فَلَا يَكُونُ فَرْقٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنِ الْفَرْضِيُّونَ يَتَلَفَّظُونَ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ. وَإِنَّمَا تَكُونُ الْقِسْمَةُ أَوْفَرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا أَخٌ، أَوْ أُخْتٌ، أَوْ أَخٌ وَأُخْتٌ، أَوْ أُخْتَانِ، أَوْ أُخْتَانِ، أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ، فَهِيَ خَمْسُ مَسَائِلَ. وَإِنَّمَا يَسْتَوِيَانِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ إِلَّا أَخَوَانِ أَوْ أَخٌ وَأُخْتَانِ، أَوْ أَرْبَعُ أَخَوَاتٍ. وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ الثُّلُثُ أَوْفَرُ. وَضَابِطُهُ أَنَّ

الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ، إِنْ كَانُوا مِثْلَيْهِ، فَالْقِسْمَةُ وَالثُّلُثُ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانُوا دُونَ مِثْلَيْهِ، فَالْقِسْمَةُ أَوْفَرُ. وَإِنْ كَانُوا فَوْقَ مِثْلَيْهِ، فَالثُّلُثُ أَوْفَرُ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ صَاحِبُ فَرْضٍ - وَأَصْحَابُ الْفُرُوضِ الْوَارِثُونَ مَعَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ سِتَّةٌ: الْبِنْتُ، وَبِنْتُ الِابْنِ، وَالْأُمُّ، وَالْجَدَّةُ، وَالزَّوْجُ، وَالزَّوْجَةُ - فَإِمَّا أَنْ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْفُرُوضِ شَيْءٌ، كَبِنْتَيْنِ وَأُمٍّ وَزَوْجٍ، فَيُفْرَضُ لِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَيُزَادُ فِي الْعَوْلِ. وَإِمَّا أَنْ يَبْقَى السُّدُسُ فَقَطْ، كَبِنْتَيْنِ وَأُمٍّ، فَيُصْرَفُ إِلَى الْجَدِّ. وَإِمَّا أَنْ يَبْقَى دُونَ السُّدُسِ كَبِنْتَيْنِ وَزَوْجٍ، فَيُفْرَضُ لِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَتُعَالُ الْمَسْأَلَةُ. وَعَلَى هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ الثَّلَاثَةِ يَسْقُطُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي أَكْثَرَ مِنَ السُّدُسِ، فَلِلْجَدِّ خَيْرُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ مُقَاسَمَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَثُلُثُ مَا يَبْقَى، وَسُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ لِأَبَوَيْنِ وَلِأَبٍ، فَلِلْجَدِّ خَيْرُ الْأَمْرَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذُو فَرْضٍ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ إِنْ كَانَ كَمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ، لَكِنْ هُنَا يُعَدُّ أَوْلَادُ الْأَبَوَيْنِ أَوْلَادَ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ فِي الْقِسْمَةِ. ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الْجَدُّ حِصَّتَهُ نُظِرَ إِنْ كَانَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ عَصَبَةً، إِمَّا ذَكَرًا، وَإِمَّا ذُكُورًا، وَإِمَّا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلَهُمْ كُلُّ الْبَاقِي، وَلَا شَيْءَ لِوَلَدِ الْأَبِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ، بَلْ أُنْثَى، أَوْ إِنَاثٌ، فَالِاثْنَتَانِ فَصَاعِدًا يَأْخُذُونَ إِلَى الثُّلُثَيْنِ وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ، فَيَسْقُطُ أَوْلَادُ الْأَبِ، وَالْوَاحِدَةُ تَأْخُذُ إِلَى النِّصْفِ. فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ، فَلِأَوْلَادِ الْأَبِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ الصِّنْفَانِ مَعَهُ، وَكَانَ غَيْرُ الْقِسْمَةِ خَيْرًا لَهُ، بِأَنْ كَانَ مَعَهُ أُخْتٌ لِلْأَبَوَيْنِ، وَأَخَوَانِ، أَوْ أَرْبَعُ أَخَوَاتٍ فَصَاعِدًا لِلْأَبِ، فَلِلْجَدِّ الثُّلُثُ. قَالَ بَعْضُ الْفَرْضِيِّينَ: يُجْعَلُ الْبَاقِي

بَيْنَ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ وَوَلَدِ الْأَبِ، ثُمَّ يَرُدُّ وَلَدُ الْأَبِ عَلَى وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ قَدْرَ فَرْضِهِ. قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُفْرَضَ لِلْأُخْتِ لِلْأَبَوَيْنِ النِّصْفُ، وَيُجْعَلَ الْبَاقِي لِأَوْلَادِ الْأَبِ. فَرْعٌ لَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ أَنْ يَتَمَحَّضَ مَعَ الْجَدِّ إِخْوَةٌ أَوْ أَخَوَاتٌ، أَوْ يَخْتَلِطُوا، فَالْجَدُّ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا كَأَخٍ، وَالْأَخَوَاتُ مَعَهُ كَهُنَّ مَعَ أَخٍ، فَلَا يُفْرَضُ لَهُنَّ مَعَهُ وَلَا تُعَالُ مَسْأَلَةٌ بِسَبَبِهِنَّ، بِخِلَافِ الْجَدِّ حَيْثُ فَرَضْنَا لَهُ وَأَعَلْنَا؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ فَرْضٍ بِالْجُدُودَةِ، فَرُجِعَ إِلَيْهِ لِضَرُورَةٍ. وَهَذَا أَصْلٌ مُطَّرِدٌ إِلَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَكْدَرِيَّةِ، وَهِيَ زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَجَدٌّ، وَأُخْتٌ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَيُفْرَضُ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَتَعُولُ مِنْ سِتَّةٍ إِلَى تِسْعَةٍ، ثُمَّ يُجْمَعُ نَصِيبُ الْأُخْتِ وَالْجَدِّ، وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَتَصِحُّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وَلِلْأُمِّ سِتَّةٌ، وَلِلْأُخْتِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ. وَيُمْتَحَنُ بِهَا فَيُقَالُ: وُرَّاثٌ أَرْبَعَةٌ، أَخَذَ أَحَدُهُمْ ثُلُثَ الْمَالِ، وَالثَّانِي ثُلُثَ الْبَاقِي، وَالثَّالِثُ ثُلُثَ الْبَاقِي، وَالرَّابِعُ الْبَاقِي. وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الْأُخْتِ أَخٌ، سَقَطَ، إِذْ لَا فَرْضَ لَهُ. وَلَوْ كَانَتْ أُخْتَانِ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لَهُمَا، وَلَا عَوْلَ [وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ] . الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْحَجْبِ هُوَ نَوْعَانِ: حَجْبُ نُقْصَانٍ - كَحَجْبِ الْوَلَدِ الزَّوْجَ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، وَالزَّوْجَةَ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ، وَالْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ - وَحَجْبُ حِرْمَانٍ،

وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ، فَالْوَرَثَةُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ غَيْرُهُمْ، وَهُمُ: الْأَبَوَانِ، وَالزَّوْجَانِ، وَالْأَوْلَادُ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَحْجُبُهُمْ أَحَدٌ. وَقِسْمٌ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ غَيْرُهُمْ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. [الضَّرْبُ] الْأَوَّلُ: الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَهُمُ الْأُصُولُ. فَالْجَدُّ لَا يَحْجُبُهُ إِلَّا الْأَبُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جَدٍّ يَحْجُبُ مَنْ فَوْقَهُ. وَأَمَّا الْجَدَّاتُ، فَقَدْ يَحْجُبُهُنَّ غَيْرُهُنَّ، وَقَدْ يَحْجُبُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأُمُّ تَحْجُبُ كُلَّ جَدَّةٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِهَتِهَا، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ كَمَا يَحْجُبُ الْأَبُ كُلَّ مَنْ يَرِثُ بِالْأُبُوَّةِ، وَالْأَبُ يَحْجُبُ كُلَّ جَدَّةٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَا كُلُّ جَدٍّ يَحْجُبُ أُمَّ نَفْسِهِ وَأُمَّ آبَائِهِ، وَلَا يَحْجُبُ أُمَّ مَنْ دُونَهُ، وَالْأَبُ وَالْأَجْدَادُ لَا يَحْجُبُونَ الْجَدَّةَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ قَرِيبَةً كَانَتْ أَوْ بَعِيدَةً بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا حَجْبُ بَعْضِهِنَّ، فَالْقُرْبَى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ لَا يَكُونُ إِلَّا وَالْبُعْدَى مُدْلِيَةٌ بِالْقُرْبَى، وَمِنْ جِهَةِ الْأَبِ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ كَمِثْلٍ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَأُمِّ الْأَبِ، وَأُمِّ أَبِ الْأَبِ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ عَنِ الْفَرْضِيِّينِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْقُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى أَيْضًا. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ كَانَتِ الْبُعْدَى مُدْلِيَةً بِالْقُرْبَى لَكِنَّ الْبُعْدَى جَدَّةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَا تُحْجَبُ. مِثَالُهُ: لِزَيْنَبَ بِنْتَانِ، حَفْصَةُ، وَعَمْرَةُ، وَلِحَفْصَةَ ابْنٌ، وَلِعَمْرَةَ بِنْتُ بِنْتٍ، فَنَكَحَ الِابْنُ بِنْتَ بِنْتِ خَالَتِهِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، فَلَا تُسْقِطُ عَمْرَةُ الَّتِي هِيَ أُمُّ أُمِّ أُمِّهِ أُمَّهَا ; لِأَنَّهَا أُمُّ أُمِّ أَبِي الْمَوْلُودِ.

فَرْعٌ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، كَأُمِّ الْأُمِّ، تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الْأَبِ كَأُمِّ أُمِّ الْأَبِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّ تَحْجُبُ أُمَّ الْأَبِ. وَالْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأَبِ كَأُمِّ الْأَبِ، هَلْ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، كَأُمِّ أُمِّ الْأُمِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَحْجُبُهَا، فَأُمُّهُ الْمُدْلِيَةُ بِهِ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ نَقَلَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ أُمَّهَاتِ الْأَبِ، كَأُمِّ أُمِّ الْأَبِ، تُسْقِطُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ آبَاءِ الْأَبِ، كَأُمِّ أُمِّ أَبِي الْأَبِ، وَأُمِّ أَبِي أَبِي الْأَبِ، وَالْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ آبَاءِ الْأَبِ، كَأُمِّ أَبِي الْأَبِ، هَلْ تُسْقِطُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ أُمَّهَاتِ الْأَبِ، كَأُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْمُنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّفْلِ، فَابْنُ الِابْنِ لَا يَحْجُبُهُ إِلَّا الِابْنُ، وَبِنْتُ الْابْنِ يَحْجُبُهَا الِابْنُ، وَكَذَا بِنْتَا صُلْبٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا ذَكَرٌ يُعَصِّبُهَا، وَكَذَا بَنَاتُ ابْنِ الِابْنِ [يُسْقِطُهُنَّ] ابْنُ الِابْنِ، وَيَسْقُطْنَ أَيْضًا إِذَا اسْتَكْمَلَ بَنَاتُ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ مَنْ يُعَصِّبُهُنَّ، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ بِنْتُ صُلْبٍ، وَبِنْتُ ابْنٍ، أَوْ بَنَاتُ ابْنٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: الْمُنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ عَلَى الطَّرَفِ فَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأُمِّ يَحْجُبُهُمْ أَرْبَعَةٌ: الْوَلَدُ، وَوَلَدُ الِابْنِ، وَالْأَبُ، وَالْجَدُّ. وَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُهُ الْأَبُ، وَالِابْنُ، وَابْنُ الِابْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ سَبَقَ وَجْهٌ: أَنَّ الْجَدَّ أَيْضًا يُسْقِطُهُ. وَالْأُخْتُ لِلْأَبَوَيْنِ لَا يَحْجُبُهَا أَيْضًا إِلَّا هَؤُلَاءِ. وَالْأَخُ لِلْأَبِ يَحْجُبُهُ هَؤُلَاءِ وَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ. وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ يَحْجُبُهَا الْأَرْبَعَةُ. وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَكْمَلَتِ الْأَخَوَاتُ لِلْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَيْنِ سَقَطَتِ الْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ مُعَصِّبٌ وَابْنُ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُهُ سِتَّةٌ: الِابْنُ، وَابْنُ الِابْنِ، وَالْأَبُ، وَالْجَدُّ، وَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ. وَابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ يَحْجُبُهُ هَؤُلَاءِ، وَابْنُ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ. وَالْعَمُّ لِلْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُهُ هَؤُلَاءِ، وَابْنُ الْأَخِ

لِلْأَبِ. وَالْعَمُّ لِلْأَبِ يَحْجُبُهُ هَؤُلَاءِ، وَالْعَمُّ لِلْأَبَوَيْنِ [وَابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبَوَيْنِ] يَحْجُبُهُ هَؤُلَاءِ، وَالْعَمُّ لِلْأَبِ. وَابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبِ يَحْجُبُهُ هَؤُلَاءِ، وَابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبَوَيْنِ. وَالْمُعْتِقُ يَحْجُبُهُ عَصَبَاتُ النَّسَبِ. وَكُلُّ عَصَبَةٍ يَحْجُبُهُ أَصْحَابُ الْفُرُوضِ الْمُسْتَغْرِقَةِ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحَجْبِ هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْحَاجِبُ وَارِثًا مِنَ الْمَيِّتِ. فَإِنْ لَمْ يَرِثْ نُظِرَ إِنْ كَانَ امْتِنَاعُ الْإِرْثِ لِنَقْصٍ كَالرِّقِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ، فَلَا يَحْجُبُ لَا حَجْبَ حِرْمَانٍ، وَلَا حَجْبَ نُقْصَانٍ. وَإِنْ كَانَ لَا يَرِثُ لِتَقَدُّمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَقَدْ يَحْجُبُ غَيْرَهُ حَجْبَ نُقْصَانٍ، وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ. إِحْدَاهَا: مَاتَ عَنْ أَبَوَيْنِ وَأَخَوَيْنِ، فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْقُطَانِ بِهِ. الثَّانِيَةُ: أُمٌّ، وَجَدٌّ، وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ، لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. الثَّالِثَةُ: أَبٌ، وَأُمُّ أَبٍ، وَأُمُّ أُمٍّ، فَتَسْقُطُ أُمُّ الْأَبِ بِالْأَبِ، وَفِيمَا تَرِثُهُ أُمُّ الْأُمِّ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: السُّدُسُ. وَالثَّانِي: نِصْفُ السُّدُسِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا تَرَكَ جَدًّا، وَأَخًا لِأَبَوَيْنِ، وَأَخًا لِأَبٍ، يَنْقُصُ بِالْأَخِ لِلْأَبِ نَصِيبُ الْجَدِّ، وَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا. قُلْتُ: وَصُورَةٌ خَامِسَةٌ: أُمٌّ، وَأَخٌ لِأَبَوَيْنِ، وَأَخٌ لِأَبٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْبَابُ الْخَامِسُ فِي بَيَانِ مَانِعِ الْمِيرَاثِ هُوَ خَمْسَةٌ. [الْمَانِعُ] الْأَوَّلُ: اخْتِلَافُ الدِّينِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّسِيبِ وَالْمُعْتِقِ وَالزَّوْجِ، وَلَا بَيْنَ مَنْ يُسْلِمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَمْ لَا. الثَّانِيَةُ: يَرِثُ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَالْيَهُودِيِّ مِنَ النَّصْرَانِيِّ، وَالنَّصْرَانِيِّ مِنَ الْمَجُوسِيِّ، وَالْمَجُوسِيِّ الْحَرْبِيِّ مِنَ الْوَثَنِيِّ، وَبِالْعُكُوسِ عَنِ ابْنِ خَيْرَانَ وَغَيْرِهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا تَرِثُ مِلَّةٌ مِنْهُمْ مِنْ أُخْرَى. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ، هُوَ الْأَوَّلُ. هَذَا إِذَا كَانَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ مَثَلًا ذِمِّيَّيْنِ أَوْ حَرْبِيَّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَرْبِيَّانِ مُخْتَلِفَيِ الدَّارِ أَوْ مُتَّفِقَيْهَا، كَالرُّومِ وَالْهِنْدِ. فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا وَالْآخَرُ حَرْبِيًّا، فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَتَوَارَثَانِ لِانْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا، وَرُبَّمَا نَقَلَ الْفَرْضِيُّونَ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، ثَانِيهِمَا: التَّوَارُثُ لِشُمُولِ الْكُفْرِ. وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُسْتَأْمَنُ، هَلْ هُمَا كَالذِّمِّيِّ، أَمْ كَالْحَرْبِيِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: كَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْصُومَانِ بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانِ. فَعَلَى هَذَا، يَتَوَارَثُ الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ. وَعَلَى الْآخَرِ: فِي التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا الطَّرِيقَانِ، وَيَتَوَارَثُ هُوَ وَالْحَرْبِيُّ. فَرْعٌ مَاتَ يَهُودِيٌّ ذِمِّيٌّ عَنِ ابْنٍ مِثْلِهِ، وَابْنٍ نَصْرَانِيٍّ ذِمِّيٍّ، وَابْنٍ يَهُودِيٍّ مُعَاهَدٍ،

وَابْنٍ يَهُودِيٍّ حَرْبِيٍّ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ التَّرِكَةَ لِجَمِيعِهِمْ غَيْرَ الْحَرْبِيِّ، وَيَجِئُ فِي الْحَرْبِيِّ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَرِثُ، وَفِي الْآخَرِينَ وَجْهٌ بِالْمَنْعِ، سِوَى الْأَوَّلِ. الثَّالِثَةُ: لَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ أَحَدًا، وَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ، وَمَالُهُ فَيْءٌ سَوَاءٌ كَسَبَهُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ فِي الرِّدَّةِ، وَسَوَاءٌ فِي الْمُرْتَدِّ الْمُعْلِنُ وَالزِّنْدِيقُ وَالْمُسْتَسِرُّ، وَلَا يُنَزَّلُ الْتِحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مَنْزِلَةَ مَوْتِهِ. الْمَانِعُ الثَّانِي: الرِّقُّ. فَلَا يَرِثُ رَقِيقٌ وَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلَا يُوَرَّثُ رَقِيقٌ إِذْ لَا مِلْكَ لَهُ، وَإِذَا قُلْنَا: يَمْلِكُ بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ، فَمِلْكُهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، يَعُودُ إِلَى السَّيِّدِ إِذَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْ رَقَبَتِهِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْقَنُّ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، فَلَا يَرِثُونَ وَلَا يُوَرَّثُونَ. فَرْعٌ الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ لَا يَرِثُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَعَنِ الْمُزَنِيِّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يَرِثُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ. وَهَلْ يُوَرَّثُ؟ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: لَا، وَالْجَدِيدُ: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ تَامُّ الْمِلْكِ. قُلْتُ: الْجَدِيدُ، هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَعَلَى الْقَدِيمِ: فِيمَا مَلَكَهُ بِحُرِّيَّتِهِ، وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لِمَالِكِ الْبَاقِي. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْإِصْطَخْرِيِّ، وَنَقَلَهُ الْفَرْضِيُّونَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَقَالُوا: هُوَ الْأَصَحُّ. وَعَلَى الْجَدِيدِ: يَرِثُهُ قَرِيبُهُ أَوْ مُعْتِقُهُ. قُلْتُ: وَزَوْجَتُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَفِي الْقَدْرِ الْمَوْرُوثِ، وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: جَمِيعُ مَا مَلَكَهُ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقَسَّطُ مَا مَلَكَهُ بَحُرِّيَّتِهِ عَلَى مَالِكِ الْبَاقِي وَالْوَرَثَةِ بِقَدْرِ رِقِّهِ وَحُرِّيَّتِهِ. فَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا، فَنِصْفُ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ، وَنِصْفُهُ لِمَالِكِ بَاقِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَلَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ، وَالْبَدَنُ مُنْقَسِمٌ إِلَى رِقٍّ وَحُرِّيَّةٍ. الْمَانِعُ الثَّالِثُ: الْقَتْلُ، وَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: مَضْمُونٌ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحِرْمَانِ، سَوَاءٌ ضُمِنَ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ كَمَنْ رَمَى صَفَّ الْكُفَّارِ وَلَمْ يَعْلَمْ [فِيهِمْ] مُسْلِمًا، فَقَتَلَ قَرِيبَهُ الْمُسْلِمَ، تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَلَا دِيَةَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ قَوْلًا أَنَّ الْمُخْطِئَ يَرِثُ مُطْلَقًا، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَطَأُ بِمُبَاشَرَةٍ كَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَ مُوَرِّثَهُ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا فَسَقَطَ فِيهَا مُوَرِّثُهُ، أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ فَتَعَثَّرَ بِهِ مُوَرِّثُهُ. وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِالتَّسَبُّبِ مَصْلَحَتَهُ، كَضَرْبِ الْأَبِ وَالزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ لِلتَّأْدِيبِ، وَكَسَقْيِهِ الدَّوَاءَ وَبَطِّ جُرْحِهِ لِلْمُعَالَجَةِ إِذَا مَاتَ بِهِ الصَّبِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ لَا يَقْصِدُ. وَفِي بَطِّ الْجُرْحِ وَسَقْيِ الدَّوَاءِ وَجْهٌ حَكَاهُ ابْنُ اللَّبَّانِ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» وَجْهٌ فِي مُطْلَقِ الْقَتْلِ بِالتَّسَبُّبِ: أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ الْأَوَّلُ. وَسَوَاءٌ صَدَرَ الْقَتْلُ مِنْ مُكَلَّفٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَجِئُ فِي الصَّبِيِّ وَجْهٌ يَتَخَرَّجُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ فِي الْمُخْطِئِ إِذَا قُلْنَا: عَمْدُ الصَّبِيِّ خَطَأٌ. وَسَوَاءٌ فِيهِ الْمُكْرَهُ وَالْمُخْتَارُ، وَفِي الْمُكْرَهِ خِلَافٌ، وَالْمَذْهَبُ الْمَنْعُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: قَتْلٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ: مُسْتَحَقٌّ مَقْصُودٌ، وَغَيْرُهُ. وَالْأَوَّلُ نَوْعَانِ.

أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُسَوَّغُ تَرْكُهُ. فَإِذَا قَتَلَ الْإِمَامُ مُوَرِّثَهُ حَدًّا بِالرَّجْمِ، أَوْ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَفِي مَنْعِهِ أَوْجُهٌ. الثَّالِثُ: إِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، مُنِعَ. وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَلَا لِعَدَمِ التُّهْمَةِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْمَنْعُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يُسَوَّغُ تَرْكُهُ، كَالْقِصَاصِ، فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى قَتْلِ الْإِمَامِ حَدًّا، وَأَوْلَى بِالْحِرْمَانِ. وَلَوْ شَهِدَ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ أَوِ الْقِصَاصَ، فَقُتِلَ بِشَهَادَتِهِ، أَوْ شَهِدَ عَلَى إِحْصَانِهِ، وَشَهِدَ غَيْرُهُ بِالزِّنَا، أَوْ زَكَّى الشُّهُودَ بِالزِّنَا عَلَى مُوَرِّثِهِ، فَهُوَ كَمَا إِذَا قَتَلَهُ قِصَاصًا. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ مَقْصُودٌ، كَقَتْلِ الصَّائِلِ وَالْبَاغِي، فَفِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْقِصَاصِ، وَأَوْلَى بِالْحِرْمَانِ، وَالْبَاغِي أَوْلَى بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْعَادِلِ. وَالْمَذْهَبُ وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا: مَنْعُ الْإِرْثِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَكِنَّ الْقِيَاسَ وَالِاخْتِيَارَ: أَنَّ مَا لَا ضَمَانَ فِيهِ لَا يُمْنَعُ. فَرْعٌ قَدْ يَرِثُ الْمَقْتُولُ مِنْ قَاتِلِهِ، بِأَنْ جَرَحَ مُوَرِّثَهُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْمَجْرُوحِ. الْمَانِعُ الرَّابِعُ: اسْتِبْهَامُ وَقْتِ الْمَوْتِ. فَإِذَا مَاتَ مُتَوَارِثَانِ بِغَرَقٍ، أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ تَحْتَ هَدْمٍ، أَوْ فِي بِلَادِ غُرْبَةٍ، أَوْ وَجَدَا قَتِيلَيْنِ فِي مَعْرَكَةٍ، فَلَهُ خَمْسُ صُوَرٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ نَعْلَمَ سَبْقَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ. الثَّانِيَةُ: أَنْ نَعْلَمَ التَّلَاحُقَ وَلَا نَعْلَمَ السَّابِقَ. الثَّالِثَةُ: أَنْ نَعْلَمَ وُقُوعَ الْمَوْتَتَيْنِ مَعًا.

الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا نَعْلَمَ شَيْئًا، فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ لَا نُوَرِّثُ أَحَدَهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، بَلْ نَجْعَلُ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ لِبَاقِي وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ اسْتِحْقَاقَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ وَلِأَنَّا إِنْ وَرَّثْنَا أَحَدَهُمَا فَقَطْ، فَهُوَ تَحَكُّمٌ. وَإِنْ وَرَّثْنَا كُلًّا مِنْ صَاحِبِهِ تَيَقَّنَّا الْخَطَأَ. وَقِيلَ: إِذَا تَلَاحَقَ الْمَوْتَانِ، وَلَمْ يُعْلَمِ السَّابِقُ، أُعْطِيَ كُلُّ وَارِثٍ لَهُمْ مَا يُتَيَقَّنُ لَهُ، وَيُوقَفُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ اللَّبَّانِ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَيُصْرَفُ الْجَمِيعُ إِلَى الْوَرَثَةِ. الْخَامِسَةُ: أَنْ يُعْلَمَ سَبْقُ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَلْتَبِسَ فَيُوقَفَ الْمِيرَاثُ حَتَّى يُتَبَيَّنَ أَوْ يَصْطَلِحَا؛ لِأَنَّ التَّذَكُّرَ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمِ السَّابِقُ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْإِمَامِ. الْمَانِعُ الْخَامِسُ: الدَّوْرُ، وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَ مِنَ التَّوْرِيثِ عَدَمُهُ. وَمِثَالُهُ: أَقَرَّ الْأَخُ بِابْنٍ لِأَخِيهِ الْمَيِّتِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَا يَرِثُ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ. وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِأَبِي الْعَبْدِ، فَمَاتَ الْأَبُ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَقَبِلَهَا أَخُوهُ يُعْتَقُ الْعَبْدُ وَلَا يَرِثُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ أَبَاهُ عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْ. وَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ نَسَبًا عَلَى وَرَثَةِ مَيِّتٍ، فَأَنْكَرُوا وَنَكَلُوا عَنِ الْيَمِينِ، حَلَفَ وَوَرِثَ مَعَهُمْ إِنْ لَمْ يَحْجُبْهُمْ. وَإِنْ كَانَ يَحْجُبُهُمْ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَرِثُ، وَإِلَّا لَبَطَلَ نُكُولُهُمْ وَيَمِينُهُ. وَلَوْ مَلَكَ أَخَاهُ، ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْفُذُ، ثُمَّ إِنْ صَحَّحْنَا الْإِقْرَارَ لِلْوَارِثِ، وَرِثَهُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُوجِبُ إِبْطَالَ الْإِقْرَارِ بِحُرِّيَّتِهِ. وَإِذَا بَطَلَتْ، بَطَلَ الْإِرْثُ.

الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَسْبَابٍ تَمْنَعُ صَرْفَ الْمَالِ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ لِلشَّكِّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ هِيَ أَرْبَعَةٌ: [السَّبَبُ] الْأَوَّلُ: الشَّكُّ فِي الْوُجُودِ، كَمَنْ مَاتَ وَلَهُ قَرِيبٌ مَفْقُودٌ لَا يَعْلَمُ حَيَاتَهُ وَلَا مَوْتَهُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: فِي التَّوْرِيثِ مِنْهُ. فَالْمَفْقُودُ: الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ وَجُهِلَ حَالُهُ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ فِي قِتَالٍ أَوْ عِنْدَ انْكِسَارِ سَفِينَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَهُ مَالٌ - وَفِي مَعْنَاهُ: الْأَسِيرُ الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ - فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى مَوْتِهِ، قُسِّمَ مِيرَاثُهُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مَنْصُورٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَا يُقَسَّمُ مَالُهُ حَتَّى يُتَحَقَّقَ حَالُهُ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ إِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَعِيشُ فِيهَا، قُسِّمَ مَالُهُ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ لَيْسَتْ مُقَدَّرَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: تَتَقَدَّرُ بِسَبْعِينَ سَنَةً، وَيَكْفِي مَا يَغْلُبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الْقَطْعِ غَلَبَةُ الظَّنِّ. ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بِالْحَاكِمِ، فَقِسْمَتُهُ تَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِالْمَوْتِ، وَإِنِ اقْتَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي اعْتِبَارِ حُكْمِهِ مُخْتَلِفٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فِيهِ خِلَافٌ، إِنِ اعْتَبَرْنَا الْقَطْعَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْحُكْمِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. وَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ، وَقُسِّمَ مَالُهُ، فَهَلْ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ مَفْهُومُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ دَلَالَةً وَصَرِيحًا: أَنَّ لَهَا ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمَنْعَ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ مَخْصُوصٌ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ رَدُّوا عَلَى [الْقَوْلِ] الْقَدِيمِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ فِي قِسْمَةِ مَالِهِ وَعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ، لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهِ فِي فِرَاقِ زَوْجَتِهِ، فَأَشْعَرَ

بِأَنَّهُمْ رَأَوُا الْحُكْمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ. وَعَلَى هَذَا فَالْعَبْدُ الْمُنْقَطِعُ الْخَبَرِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا تَجِبُ فِطْرَتُهُ، وَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَمَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّا نَنْظُرُ إِلَى مَنْ يَرِثُهُ حِينَ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يُوَرَّثُ مِنْهُ مَنْ مَاتَ قُبَيْلَ الْحُكْمِ وَلَوْ بِلَحْظَةٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْمَفْقُودِ بَيْنَ مَوْتِهِ وَبَيْنَ حُكْمِ الْحَاكِمِ. وَأَشَارَ الْعَبَّادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقَعَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَقَالَ: يَضْرِبُ لَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةً لَا يَعِيشُ فِي الْغَالِبِ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِذَا انْتَهَتْ، فَكَأَنَّهُ مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَوْرِيثِهِ. فَإِذَا مَاتَ لَهُ قَرِيبٌ قَبْلَ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ إِلَّا الْمَفْقُودَ، تَوَقَّفْنَا حَتَّى يَبِينَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَوْتِ الْقَرِيبِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا. وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَفْقُودِ تَوَقَّفْنَا فِي نَصِيبِ الْمَفْقُودِ، وَأَخَذْنَا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ بِالْأَسْوَأِ، فَمَنْ يَسْقُطُ مِنْهُمْ بِالْمَفْقُودِ، لَا يُعْطَى شَيْئًا حَتَّى يَبِينَ حَالُهُ، وَمَنْ يَنْقُصُ حَقُّهُ بِحَيَاتِهِ يُقَدَّرُ فِي حَقِّهِ حَيَاتُهُ، وَمَنْ يَنْقُصُ حَقُّهُ بِمَوْتِهِ يُقَدَّرُ فِي حَقِّهِ مَوْتُهُ. وَمَنْ لَا يَخْتَلِفُ نَصِيبُهُ بِحَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ، يُعْطَى نَصِيبَهُ. مِثَالُهُ: زَوْجُ مَفْقُودٌ، وَأُخْتَانِ لِأَبٍ وَعَمٌّ حَاضِرُونَ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَلِلْأُخْتَيْنِ أَرْبَعَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَمِّ. وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَهُمَا اثْنَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ، فَيُقَدَّرُ فِي حَقِّهِمْ حَيَاتُهُ. أَخٌ لِأَبٍ مَفْقُودٍ، وَأَخٌ لِأَبَوَيْنِ وَجَدٌّ حَاضِرَانِ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَلِلْأَخِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْجَدِّ الثُّلُثُ. وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، فَيُقَدَّرُ فِي حَقِّ الْجَدِّ حَيَاتُهُ، وَفِي حَقِّ الْأَخِ مَوْتُهُ. أَخٌ لِأَبَوَيْنِ مَفْقُودٌ، وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ وَزَوْجٌ حَاضِرُونَ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ، فَيَكُونُ لِلْأُخْتَيْنِ الرُّبُعُ. وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ، وَلِلْأُخْتَيْنِ أَرْبَعَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ، فَيُقَدَّرُ فِي الزَّوْجِ مَوْتُهُ، وَفِي حَقِّ الْأُخْتَيْنِ حَيَاتُهُ.

ابْنٌ مَفْقُودٌ، وَبِنْتٌ وَزَوْجٌ، لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ بِكُلِّ حَالٍ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي كُلِّ الصُّوَرِ هُوَ الصَّحِيحُ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَفِي وَجْهٍ: يُقَدَّرُ مَوْتُهُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَاضِرِينَ مَعْلُومٌ، وَاسْتِحْقَاقَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ. فَإِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ، غَيَّرْنَا الْحُكْمَ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: تُقَدَّرُ حَيَاتُهُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ حَيَاتُهُ. فَإِنَّ ظَهَرَ خِلَافُهُ غَيَّرْنَا الْحُكْمَ. السَّبَبُ الثَّانِي: الشَّكُّ فِي النَّسَبِ. فَإِذَا أَشْكَلَ نَسَبُ مَوْلُودٍ، بِأَنْ وَطِيءَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، أَوِ ادَّعَى اثْنَانِ فَصَاعِدًا مَجْهُولًا، فَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ إِلَّا بِوَاحِدٍ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْقَائِفِ. فَلَوْ مَاتَ فِي زَمَنِ الْإِشْكَالِ وَقَفْنَا مِنْ مَالِهِ مِيرَاثَ أَبٍ. وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْوَاطِئَيْنِ، وَقَفْنَا مِنْ مَالِهِ مِيرَاثَ الْمَوْلُودِ، وَأَخَذْنَا فِي نَصِيبِ كُلِّ مَنْ يَرِثُ مَعَهُ لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِالْأَسْوَإِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمَفْقُودِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْحَمْلُ وَنَعْنِي بِهِ كُلَّ حَمْلٍ لَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا لَوَرِثَ مِنْهُ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرٍ. وَهَذَا الْحَمْلُ، قَدْ يَكُونُ مِنَ الْمَيِّتِ وَيَرِثُ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا إِذَا كَانَتْ أُمُّهُ حَامِلًا مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ مِنْ أَبِيهِ وَالْأَبُ مَيِّتٌ، أَوْ مَمْنُوعٌ بِرِقٍّ وَنَحْوِهِ، وَكَذَا زَوْجَةُ ابْنِهِ أَوْ أَخِيهِ أَوْ جَدِّهِ وَالْحَمْلُ مِنْ غَيْرِهِ، قَدْ لَا يَرِثُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ الذُّكُورَةِ، كَحَمْلِ امْرَأَةِ الْأَخِ وَالْجَدِّ، وَقَدْ لَا يَرِثُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْأُنُوثَةِ كَمَا إِذَا مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَحَمْلٍ مِنَ الْأَبِ، وَفِيهِ فَصْلَانِ. [الْفَصْلُ] الْأَوَّلُ: فِيمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَإِنَّمَا يَرِثُ بِشَرْطَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْلَمَ وُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ مِنْهُ، وَانْفَصَلَ لِمَا بَيْنَ مَوْتِهِ وَبَيْنَ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَرِثَ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ، وَإِنِ انْفَصَلَ لِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَرِثْ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ يَطَؤُهَا، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانَ مِنْهُ قَطْعًا. وَإِنْ كَانَ زَوْجٌ يَطَؤُهَا، فَإِنِ انْفَصَلَ قَبْلَ تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ، فَقَدْ عُلِمَ وُجُودُهُ حِينَئِذٍ. وَإِنِ انْفَصَلَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ، لَمْ يَرِثْ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ بَعْدَهُ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِوُجُودِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَإِذَا مَاتَ حُرٌّ عَنْ أَبٍ رَقِيقٍ تَحْتَهُ حُرَّةٌ حَامِلٌ، فَإِنْ وَلَدَتْ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ وَرِثَ الْمَوْلُودُ مِنْ أَخِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ رَقِيقٌ لَا يَحْجُبُهُ. وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَرِثْ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِ الْعُلُوقِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى وُجُودِهِ يَوْمَئِذٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ الْأَبُ عَنِ الْوَطْءِ حَتَّى يَظْهَرَ الْحَالُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَنْفَصِلَ حَيًّا، فَإِنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا، فَكَأَنْ لَا حَمْلَ، سَوَاءٌ كَانَ يَتَحَرَّكُ فِي الْبَطْنِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ انْفَصَلَ مَيِّتًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِجِنَايَةٍ وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْغُرَّةَ، وَتَصْرِفُ الْغُرَّةَ إِلَى وَرَثَةِ الْجَنِينِ؛ لِأَنَّ إِيجَابَ الْغُرَّةِ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ تَقْدِيرُ الْحَيَاةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ: الْغُرَّةُ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِدَفْعِ الْجَانِي الْحَيَاةَ مَعَ تَهَيُّؤِ الْجَنِينِ لَهَا، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْغُرَّةِ بِتَقْدِيرِ الْحَيَاةِ، فَالْحَيَاةُ مُقَدَّرَةٌ فِي حَقِّ الْجَانِي فَقَطْ تَغْلِيظًا، فَتُقَدَّرُ فِي تَوْرِيثِ الْغُرَّةِ فَقَطْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ الْحَيَاةُ عِنْدَ تَمَامِ الِانْفِصَالِ. فَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ حَيًّا، وَمَاتَ قَبْلَ تَمَامِ الِانْفِصَالِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ خَرَجَ مَيِّتًا فِي الْإِرْثِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. حَتَّى لَوْ ضَرَبَ بَطْنَهَا بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِهِ، وَانْفَصَلَ مَيِّتًا، فَالْوَاجِبُ الْغُرَّةُ دُونَ الدِّيَةِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ. وَعَنِ الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ: [أَنَّهُ] إِذَا خَرَجَ بَعْضُهُ حَيًّا، وَرِثَ وَإِنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَلَوْ مَاتَ عَقِبَ انْفِصَالِهِ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، وَرِثَ، وَنَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ. وَتُعْلَمُ الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ: بِصُرَاخِهِ، وَكَذَا بِالْبُكَاءِ، أَوِ الْعُطَاسِ، أَوِ التَّثَاؤُبِ، أَوِ امْتِصَاصِ الثَّدْيِ، لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْحَيَاةِ. وَحَكَى الْإِمَامُ اخْتِلَافَ قَوْلٍ فِي الْحَرَكَةِ وَالِاخْتِلَاجِ، ثُمَّ قَالَ:

وَلَيْسَ مَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ مَا إِذَا قَبَضَ الْيَدَ وَبَسَطَهَا - فَإِنَّ هَذِهِ الْحَرَكَةَ تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ قَطْعًا - وَلَا الِاخْتِلَاجَ الَّذِي يَقَعُ مِثْلُهُ لِانْضِغَاطِ وَتَقَلُّصِ عَصَبٍ فِيمَا أَظُنُّ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَرَكَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ: كَيْفَمَا قُدِّرَ الْخِلَافُ: أَنَّ مَا لَا تُعْلَمُ بِهِ الْحَيَاةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لِانْتِشَارٍ بِسَبَبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَضِيقِ أَوْ لِاسْتِوَاءٍ عَنِ الْتِوَاءٍ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ كَمَا لَا عِبْرَةَ بِحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ. فَرْعٌ لَوْ ذُبِحَ رَجُلٌ، فَمَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ، لَمْ يَرِثْهُ الْمَذْبُوحُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَرِثُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ قَرِيبًا مِنْهُ عَنِ الْمُزَنِيُّ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: مَنْ صَارَ فِي حَالِ النَّزْعِ، فَلَهُ حُكْمُ الْمَيِّتِ، فَكَيْفَ الظَّنُّ بِالْمَذْبُوحِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَمَتَى ظَهَرَتْ مَخَايِلُ الْحَمْلِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ مَخَايِلُهُ، وَادَّعَتِ الْمَرْأَةُ الْحَمْلَ، وَوَصَفَتْ عَلَامَاتٍ خَفِيَّةً، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ. وَالظَّاهِرُ: الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهَا. وَطَرْدُ التَّرَدُّدِ فِيمَا إِذَا لَمْ تَدَّعِهِ لَكِنَّهَا قَرِيبَةُ عَهْدٍ بِالْوَطْءِ، وَاحْتِمَالُ الْحَمْلِ قَرِيبٌ. إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَى الْحَمْلِ الْمُنْتَظَرِ، وَقَفْنَا الْمَالَ إِلَى أَنْ يَنْفَصِلَ. وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ، فَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو خَلَفٍ قَوْلًا عَنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ: أَنَّهُ يُوقَفُ جَمِيعُ الْمَالِ. وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ لَا يُوقَفُ الْجَمِيعُ، بَلْ يُنْظَرُ فِي الْوَرَثَةِ الظَّاهِرِينَ، فَمَنِ احْتَمَلَ حَجْبُهُ بِالْحَمْلِ، لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ لَا يَحْجُبُهُ الْحَمْلُ بِحَالٍ وَلَهُ مُقَدَّرٌ لَا يُنْقَصُ دَفَعَ إِلَيْهِ. وَإِنْ أَمْكَنَ الْعَوْلُ، دُفِعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَائِلًا.

مِثَالُهُ: زَوْجَةٌ حَامِلٌ، وَأَبَوَانِ، يُدْفَعُ إِلَيْهَا ثُمُنٌ عَائِلٌ، وَإِلَيْهِمَا سُدُسَانِ عَائِلَانِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْحَمْلَ بِنْتَانِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ كَالْأَوْلَادِ، فَالصَّرْفُ إِلَيْهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَقْصَى عَدَدِ الْحَمْلِ هَلْ لَهُ ضَبْطٌ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا ضَبْطَ [لَهُ] ، وَبِهِ قَالَ شَيْخَا الْمَذْهَبِ: أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَفَّالُ، وَالْعِرَاقِيُّونَ، وَالصَّيْدَلَانِيُّ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ خَمْسَةٌ فِي بَطْنٍ [وَاثْنَا عَشَرَ فِي بَطْنٍ] . وَالثَّانِي: أَنَّ أَقْصَى الْحَمْلِ أَرْبَعَةٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ وَالْغَزَالِيُّ، وَجَعَلَهُ الْفَرْضِيُّونَ قِيَاسَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَرَادُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يَتْبَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوُجُودَ، وَأَكْثَرُ الَّذِي وُجِدَ أَرْبَعَةٌ، لَكِنَّ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مُشْكِلٌ بِمَا نَقَلَهُ الْأَوَّلُونَ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ خَلَّفَ ابْنًا وَأُمَّ وَلَدٍ حَامِلًا، لَمْ يُصْرَفْ إِلَى الِابْنِ شَيْءٌ. وَلَوْ خَلَّفَ ابْنًا وَزَوْجَةً حَامِلًا، فَلَهَا الثُّمُنُ، وَلَا يُدْفَعُ إِلَى الِابْنِ شَيْءٌ. وَعَلَى الثَّانِي: لَهُ الْخُمُسُ أَوْ خُمُسُ الْبَاقِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةُ ذُكُورٍ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ يُمَكَّنُ الَّذِينَ صُرِفَ إِلَيْهِمْ حِصَّتُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَإِلَّا لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، قَالَ الْقَفَّالُ: لِأَنَّهُ قَدْ يَهْلِكُ الْمَوْقُوفُ لِلْحَمْلِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِرْدَادِ، وَالْحَاكِمُ وَإِنْ كَانَ يَلِي أَمْرَ الْأَطْفَالِ، فَلَا يَلِي أَمْرَ الْأَجِنَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ مَا جَرَى عَلَى الْقِسْمَةِ. ثُمَّ الْمَوْقُوفُ لِلْحَمْلِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، قَدْ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ الذُّكُورَةِ أَكْثَرَ، وَقَدْ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ الْأُنُوثَةِ أَكْثَرَ، بِأَنْ خَلَّفَتْ زَوْجًا وَأُمًّا حَامِلًا مِنْ أَبِيهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ذَكَرًا، فَلَهُ سُدُسُ الْمَالِ. وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا، فَثُلُثُ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ أُنْثَيَيْنِ، عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، فَيُدْفَعُ إِلَى الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَإِلَى الْأُمِّ سَهْمٌ، وَيُوقَفُ أَرْبَعَةٌ.

فَرْعٌ مَاتَ كَافِرٌ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ، وَقَفْنَا الْمِيرَاثَ لِلْحَمْلِ، فَأَسْلَمَتْ ثُمَّ وَلَدَتْ، وَرِثَ الْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ. فَرْعٌ مَاتَ عَنِ ابْنٍ وَزَوْجَةٍ حَامِلٍ، فَوَلَدَتْ ابْنًا وَبِنْتًا، فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا وَوُجِدَا مَيِّتَيْنِ، وَلَمْ يُعْلَمِ الْمُسْتَهِلُّ، أُعْطِيَ كُلُّ وَارِثٍ أَقَلَّ مَا يُصِيبُهُ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَصْطَلِحُوا أَوْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: [الْخُنُوثَةُ] سَبَقَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، بَيَانُ مَا تُعْرَفُ بِهِ ذُكُورَتُهُ وَأُنُوثَتُهُ. فَلَوْ مَاتَ لَهُ مُوَرِّثٌ فِي مُدَّةِ إِشْكَالِهِ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ مِيرَاثُهُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، كَوَلَدِ الْأُمِّ وَالْمُعْتِقِ وُرِّثَ. وَإِنِ اخْتَلَفَ، أُخِذَ فِي حَقِّ الْخُنْثَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْوَرَثَةِ بِالْيَقِينِ، وَيُوقَفُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ يَرِثُ عَلَى أَحَدِ تَقْدِيرَيِ الْأُنُوثَةِ وَالذُّكُورَةِ، دُونَ الْآخَرِ، لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَوُقِفَ مَا يَرِثُهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ. وَكَذَا مَنْ يَرِثُ مَعَهُ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى يَرِثُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، لَكِنْ يَرِثُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَقَلَّ، دُفِعَ إِلَيْهِ الْأَقَلُّ، وَوُقِفَ الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ يَرِثُ مَعَهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ قَدْرُ مَا يَأْخُذُهُ. وَإِنْ كَانَ مَنْ مَعَهُ يَرِثُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَلَا يَخْتَلِفُ حَقُّهُ، دُفِعَ إِلَيْهِ حَقُّهُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي حَقِّ الْخُنْثَى بِالْيَقِينِ، وَيُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَى بَاقِي الْوَرَثَةِ، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَنَسَبَهُ ابْنُ اللَّبَّانِ إِلَى تَخْرِيجِ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُؤْخَذُ مِنْ بَاقِي الْوَرَثَةِ ضَمِينٌ؟

فَرْعٌ الْمَالُ الْمَوْقُوفُ بِسَبَبِ الْخُنْثَى لَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ فِيهِ مَا دَامَ الْخُنْثَى بَاقِيًا عَلَى إِشْكَالِهِ. فَإِنْ مَاتَ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاصْطِلَاحِ عَلَيْهِ. وَحَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ يُرَدُّ إِلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ. فَرْعٌ لَوِ اصْطَلَحَ الَّذِينَ وُقِفَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى تَسَاوٍ أَوْ تَفَاوُتٍ جَازَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا بُدَّ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا تَوَاهُبٌ، وَإِلَّا لَبَقِيَ الْمَالُ عَلَى صُورَةِ التَّوَقُّفِ، وَهَذَا التَّوَاهُبُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جَهَالَةٍ، لَكِنَّهَا تُحْتَمَلُ لِلضَّرُورَةِ. وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ نَفْسَهُ مِنَ الْبَيْنِ، وَوَهَبَهُ لَهُمْ عَلَى جَهْلٍ بِالْحَالِ، جَازَ أَيْضًا. فَرْعٌ لَوْ قَالَ الْخُنْثَى فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ: أَنَا رَجُلٌ، أَوْ قَالَ: أَنَا امْرَأَةٌ، قَطَعَ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ يُقْضَى بِقَوْلِهِ، وَلَا نَظَرَ إِلَى التُّهْمَةِ، فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ. وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ هَذَا عَنْ نَصِّهِ هُنَا، قَالَ: وَنَصَّ فِيمَا إِذَا جُنِيَ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْخُنْثَى فِي ذُكُورَةِ الْخُنْثَى: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَانِي. وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ وَخَرَجَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بِأَنَّا عَرَفْنَا هُنَاكَ أَصْلًا ثَابِتًا، وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْجَانِي، فَلَا نَرْفَعُهُ بِقَوْلِهِ، وَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَإِذَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ، حَلَّفْنَاهُ عَلَيْهِ.

فَرْعٌ فِي أَمْثِلَةٍ مُخْتَصَرَةٍ تُوَضِّحُ مَسَائِلَ الْخُنْثَى بِنْتَانِ وَوَلَدُ ابْنٍ خُنْثَى وَأَخٌ، لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي. وَلَدٌ خُنْثَى، وَأَخٌ أَوْ عَمٌّ، لِلْخُنْثَى النِّصْفُ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي. وَلَدٌ خُنْثَى وَابْنٌ، يُعْطَى الِابْنُ النِّصْفَ، وَالْخُنْثَى الثُّلُثَ. وَلَدٌ خُنْثَى، وَابْنَانِ، يُعْطَى الْخُنْثَى الْخُمُسُ، وَالِابْنَانِ الثُّلُثَيْنِ. وَلَدٌ خُنْثَى، وَبِنْتٌ، وَعَمٌّ، يُعْطَى الْخُنْثَى الثُّلُثَ، وَكَذَا الْبِنْتُ. زَوْجٌ، وَأَبٌ، وَوَلَدٌ خُنْثَى، لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْأَبِ السُّدُسُ، وَلِلْخُنْثَى النِّصْفُ. زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَوَلَدُ أَبٍ خُنْثَى، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ عَائِلًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ عَائِلًا، وَلِلْخُنْثَى سُدُسٌ تَامٌّ. وَإِذَا اجْتَمَعَ وَلِدَانِ خُنْثَيَانِ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي. ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ خَنَاثَى، وَعَمٌّ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَنَاثَى خُمُسُ الْمَالِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى وَصَاحِبَاهُ ذَكَرَانِ. ابْنٌ وَخُنْثَيَانِ، يُدْفَعُ إِلَيْهِ الثُّلُثُ، وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخُمُسُ. وَلَدٌ خُنْثَى، وَوَلَدُ ابْنٍ خُنْثَى، وَعَمٌّ، فَلِلْوَلَدِ النِّصْفُ. بِنْتٌ، وَبِنْتُ ابْنٍ، وَوَلَدُ ابْنٍ خُنْثَى، وَعَمٌّ، لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِوَلَدَيْ الِابْنِ السُّدُسُ بِالسَّوِيَّةِ. ثَلَاثَةُ أَوْلَادِ ابْنٍ خَنَاثَى بَعْضُهُمْ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ، لِلْأَوَّلِ النِّصْفُ. وَالْبَاقِي فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ يُوقَفُ حَتَّى يَبِينَ الْحَالُ.

الْبَابُ السَّابِعُ فِي مِيرَاثِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْمَجُوسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ. [الْفَصْلُ] الْأَوَّلُ: اللِّعَانُ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَ الْمُلَاعِنِ وَالْوَلَدِ؛ لِانْقِطَاعِ النَّسَبِ، وَكَذَا يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَكُلِّ مَنْ يُدْلِي بِالْمُلَاعِنِ، كَأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَوْلَادِهِ. وَفِي «السِّلْسِلَةِ» لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَجْهٌ مُخَرَّجٌ: أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْمُلَاعِنِ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الْمُلَاعِنَ هَلْ لَهُ نِكَاحُ الْبِنْتِ الَّتِي نَفَاهَا بِاللِّعَانِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا؟ [إِنْ قُلْنَا: لَهُ ذَلِكَ كَنِكَاحِ بِنْتِ الزِّنَا، فَلَا يَرِثُ، وَ] إِنْ مَنَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ نَسَبَهَا يَعْرِضُ لِلثُّبُوتِ، بِأَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ وَرِثَ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْوَجْهُ لِغَيْرِهِ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ لَا نَسَبَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الْوَلَدُ مَعَ الْأُمِّ، فَيَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ سَائِرِ الْأَوْلَادِ وَالْأُمَّهَاتِ. وَالتَّوْأَمَانِ الْمَنْفِيَّانِ بِاللِّعَانِ فِي تَوَارُثِهِمَا وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: لَا يَتَوَارَثَانِ إِلَّا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، لِانْقِطَاعِ نَسَبِ الْأَبِ. وَالثَّانِي: يَتَوَارَثَانِ بِأُخُوَّةِ الْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَقَطْ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَلَا عَصَبَةَ لِلْمَنْفِيِّ إِلَّا مِنْ صُلْبِهِ، أَوْ بِالْوَلَاءِ بِأَنْ يَكُونَ عَتِيقًا أَوْ أُمُّهُ عَتِيقَةً، فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِمَوْلَاهَا عَلَيْهِ، وَعَصَبَةُ الْأُمِّ لَا يَكُونُونَ عَصَبَةً لَهُ.

فَرْعٌ إِذَا نَفَاهُ ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ، وَتُنْقَضُ الْقِسْمَةُ إِنْ كَانَتْ تَرِكَتُهُ قُسِّمَتْ. حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهِ وَلَاءٌ، فَأَخَذَ مَوْلَاهَا مِيرَاثَهُ، كَانَ لِلْمُسْتَلْحَقِ اسْتِرْدَادُهُ، وَلَا فَرْقَ فِي اللُّحُوقِ بَيْنَ أَنْ يُخَلِّفَ الْمَيِّتُ وَلَدًا، أَمْ لَا. الْفَصْلُ الثَّانِي: وَلَدُ الزِّنَا كَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَجْهَ الْمَنْقُولَ عَنِ «السِّلْسِلَةِ» ، لَا يَجِئُ هُنَا قَطْعًا. وَالثَّانِي: أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يُلْحَقُ بِالِاسْتِلْحَاقِ. الثَّالِثُ: التَّوْأَمَانِ مِنَ الزِّنَا لَا يَتَوَارَثَانِ إِلَّا بِأُخُوَّةِ الْأُمِّ قَطْعًا. وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَصَاحِبُ (الْحَاوِي) : يَتَوَارَثَانِ بِأُخُوَّةِ الْأَبَوَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ فَاحِشٌ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ عَلِقَتْ بِتَوْأَمَيْنِ مِنْ وَاطِئٍ بِشُبْهَةٍ، ثُمَّ جُهِلَ الْوَاطِئُ تَوَارَثَا بِأُخُوَّةِ الْأَبَوَيْنِ بِلَا خِلَافٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ قَرَابَتَانِ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ اجْتِمَاعِهِمَا، كَأُمٍّ هِيَ أُخْتٌ، وَذَلِكَ يَقَعُ فِي الْمَجُوسِ، لِاسْتِبَاحَتِهِمْ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ، وَرُبَّمَا أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا، وَقَدْ يَتَّفِقُ فِي الْمُسْلِمِينَ نَادِرًا بِغَلَطٍ وَاشْتِبَاهٍ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ لَا تَوْرِيثَ بِالْقَرَابَتَيْنِ، بَلْ يُوَرَّثُ بِأَقْوَاهُمَا. وَفِي وَجْهٍ: يَرِثُ بِهِمَا إِنْ كَانَتَا بِحَيْثُ لَوْ كَانَتَا فِي شَخْصَيْنِ وَرِثَا مَعًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ اللَّبَّانِ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَيُعْرَفُ الْأَقْوَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَحْجُبَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، كَبِنْتٍ هِيَ أُخْتٌ لِأُمٍّ، أَنْ يَطَأَ أُمَّهُ فَتَلِدَ بِنْتًا. وَالثَّانِي: أَنْ لَا تُحْجَبَ إِحْدَاهُمَا أَصْلًا، أَوْ يَكُونَ حَجْبُهَا أَقَلَّ، فَالْأَوَّلُ: كَأُمٍّ هِيَ أُخْتٌ. وَالثَّانِي: كَأُمِّ أُمٍّ هِيَ أُخْتٌ، فَتَرِثُ بِالْأُمُومَةِ أَوِ الْجُدُودَةِ دُونَ الْأُخُوَّةِ، وَعَنِ ابْنِ اللَّبَّانِ [وَجْهٌ: أَنَّهَا تَرِثُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ بِالْأُخُوَّةِ، دُونَ الْجُدُودَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْأُخْتِ أَكْثَرُ، وَلْيُجْبَرْ هَذَا فِي

فصل

أَخَوَاتِ] الصُّورَةِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: الْأَوَّلُ، وَلَا يَرِثُونَ بِالزَّوْجِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ، لِبُطْلَانِهَا. الْبَابُ الثَّامِنُ فِي الرَّدِّ وَذَوِي الْأَرْحَامِ أَصْلُ الْمَذْهَبِ فِيهِمَا وَمَا اخْتَارَهُ الْأَصْحَابُ لِضَرُورَةِ فَسَادِ بَيْتِ الْمَالِ، ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالرَّدِّ، فَمَقْصُودُ الْفَتْوَى مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ إِلَّا صِنْفٌ، فَإِنْ كَانَ شَخْصًا وَاحِدًا، دُفِعَ إِلَيْهِ الْفَرْضُ، وَالْبَاقِي بِالرَّدِّ. وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَإِنِ اجْتَمَعَ صِنْفَانِ فَأَكْثَرُ، رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ سِهَامِهِمْ. وَأَمَّا الْحِسَابُ وَتَصْحِيحُ الْمَسَائِلِ، فَيُذْكَرُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَابِ الْحِسَابِ. فَصْلٌ وَأَمَّا تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَالذَّاهِبُونَ إِلَيْهِ مِنَّا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ بِمَذْهَبِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ وَصَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَالْإِمَامُ، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ مِمَّنْ وَرَّثَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، وَسُمِّيَ الْأَوَّلُونَ: أَهْلَ التَّنْزِيلِ، لِتَنْزِيلِهِمْ كُلَّ فَرْعٍ مَنْزِلَةَ أَصْلِهِ، وَسُمِّيَ الْآخَرُونَ: أَهْلَ الْقَرَابَةِ، لِأَنَّهُمْ يُوَرَّثُونَ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ كَالْعَصَبَاتِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْأَقْيَسُ: مَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ. وَلِلْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَذَاهِبُ غَيْرُ هَذَيْنِ، لَكِنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ أَصْحَابُنَا مِنْهَا هَذَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَالْمَذْهَبَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ مَنِ انْفَرَدَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، يَحُوزُ جَمِيعَ الْمَالِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الِاخْتِلَافُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي طَرَفَيْنِ [الطَّرَفُ] الْأَوَّلُ: فِيمَا إِذَا انْفَرَدَ صِنْفٌ مِنْهُمْ، فَمِنَ الْأَصْنَافِ: أَوْلَادُ الْبَنَاتِ [وَبَنَاتُ ابْنَةِ الِابْنِ، فَأَهْلُ التَّنْزِيلِ يُنَزِّلُونَهُمْ مَنْزِلَةَ الْبَنَاتِ] وَبَنَاتِ الِابْنِ، وَيُقَدِّمُونَ مِنْهُمْ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْوَارِثِ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي السَّبْقِ إِلَى الْوَارِثِ، قُدِّرَ كَأَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ مَنْ يُدْلُونَ [بِهِ] مِنَ الْوَرَثَةِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً، [ثُمَّ] يُجْعَلُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْمُدْلِينَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتَ، وَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: إِنِ اخْتَلَفَتْ دَرَجَاتُهُمْ، فَالْأَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ أَوْلَى ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَتُقَدَّمُ بِنْتُ الْبِنْتِ عَلَى بِنْتِ بِنْتِ الْبِنْتِ، وَعَلَى ابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ. وَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ، فَهُوَ أَوْلَى، فَتُقَدَّمُ بِنْتُ بِنْتِ الِابْنِ عَلَى بِنْتِ بِنْتِ الْبِنْتِ. هَذَا إِذَا أَدْلَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْوَارِثِ، أَمَّا إِذَا أَدْلَى بِوَاسِطَةٍ، كَبِنْتِ [بِنْتِ] بِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ بِنْتِ بِنْتِ الْبِنْتِ، فَلِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فِيهِ اخْتِلَافٌ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنْ لَا تَرْجِيحَ. وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، التَّرْجِيحُ، كَمَا لَوْ أَدْلَى بِنَفْسِهِ. وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْإِدْلَاءِ، وَرِثُوا جَمِيعًا. وَكَيْفَ يَرِثُونَ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعْتَبَرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ. فَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا، سُوِّيَ بَيْنَهُمْ. فَإِنِ اخْتَلَطُوا، فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُنْظَرُ فِي الْمُتَوَسِّطِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ. فَإِنِ اتَّفَقُوا ذُكُورَةً وَأُنُوثَةً، فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ. وَإِنِ اخْتَلَفُوا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَإِمَّا فِي أَكْثَرَ. فَإِنْ كَانَ فِي بَطْنٍ، قَسَّمْنَا الْمَالَ بَيْنَ بَطْنِ الِاخْتِلَافِ، وَجَعَلْنَا كُلَّ ذَكَرٍ

بِعَدَدِ أَوْلَادِهِ الَّذِينَ يُقَسَّمُ مِيرَاثُهُمْ ذُكُورًا، وَكُلُّ أُنْثَى بِعَدَدِ أَوْلَادِهَا الَّذِينَ يُقَسَّمُ مِيرَاثُهُمْ إِنَاثًا، وَيُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ الْحَاصِلِينَ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ، يُقَسَّمُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي أَكْثَرَ مِنْ بَطْنٍ، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَ أَعْلَى بُطُونِ الِاخْتِلَافِ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ مَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ، قُسِّمَ عَلَى أَوْلَادِهِ الَّذِينَ فِيهِمْ الِاخْتِلَافُ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، [وَهَكَذَا] يُفْعَلُ حَتَّى تَنْتَهِيَ الْقِسْمَةُ إِلَى الْأَحْيَاءِ. قَالَ النَّاقِلُونَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، يَدَّعِي أَنَّ قَوْلَهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْأَكْثَرُونَ صَدَّقُوا مُحَمَّدًا، لَكِنْ مُتَأَخِّرُوهُمْ يُفْتُونَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي: إِنَّهُ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْمَذْهَبَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْقِسْمَةِ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ. فَرْعٌ فِي أَمْثِلَةٍ تُوَضِّحُ الْغَرَضَ بِنْتُ بِنْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ، الْمُنَزِّلُونَ يَجْعَلُونَ الْمَالَ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الِابْنِ، وَأَهْلُ الْقَرَابَةِ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ لِقُرْبِهَا. بِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ، وَبِنْتُ [بِنْتِ] ابْنٍ، الْمَالُ لِلثَّانِيَةِ بِالِاتِّفَاقِ. أَمَّا عَلَى التَّنْزِيلِ، فَلِأَنَّ السَّبْقَ إِلَى الْوَارِثِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ. وَأَمَّا عَلَى الْقَرَابَةِ، فَلِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الدَّرَجَةِ. بِنْتُ بِنْتٍ، وَابْنٌ، وَبِنْتٌ مِنْ بِنْتٍ أُخْرَى، الْمُنَزِّلُونَ يَجْعَلُونَ الْمَالَ مِنْ بِنْتَيِ الصُّلْبِ تَقْدِيرًا بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، ثُمَّ يَقُولُونَ: نِصْفُ الْبِنْتِ الْأُولَى لِبِنْتِهَا، وَنِصْفُ الْأُخْرَى

لِوَلَدَيْهَا أَثْلَاثًا. وَأَهْلُ الْقَرَابَةِ يَجْعَلُونَ الْمَالَ بَيْنَ ثَلَاثَتِهِمْ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَمُحَمَّدٌ لَا يُخَالِفُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيمَا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأُصُولُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ. ابْنُ بِنْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتٍ أُخْرَى، وَثَلَاثُ بَنَاتِ بِنْتٍ أُخْرَى، الْمُنَزِّلُونَ يَقُولُونَ: لِلِابْنِ الثُّلُثُ، وَلِلْبِنْتِ الْفَرْدَةِ كَذَلِكَ، وَلِلثَّلَاثِ الثُّلُثُ أَثْلَاثًا، وَأَهْلُ الْقَرَابَةِ يَجْعَلُونَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ، وَبِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ، عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ وَأَبِي يُوسُفَ: الْمَالُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: ثُلُثُ الْمَالِ لِلْأُولَى، وَثُلُثَاهُ لِلثَّانِيَةِ. بِنْتَا بِنْتِ بِنْتٍ، وَثَلَاثُ بَنَاتِ ابْنِ بِنْتٍ أُخْرَى، عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ: لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلِلثَّلَاثِ النِّصْفُ أَثْلَاثًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: الْمَالُ بَيْنَ الْخَمْسِ بِالسَّوِيَّةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يُقَّسَمُ الْمَالُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْمُتَوَسِّطَيْنِ، وَيُقَدَّرُ الذَّكَرُ ثَلَاثَةَ ذُكُورٍ بِعَدَدِ فُرُوعِهِ، وَالْأُنْثَى اثْنَتَيْنِ بِعَدَدِ فَرْعَيْهَا، فَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، حِصَّةُ الذَّكَرِ سِتَّةٌ، وَهِيَ لِبَنَاتِهِ بِالسَّوِيَّةِ، وَحِصَّةُ الْأُنْثَى سَهْمَانِ، هُمَا لِبِنْتَيْهَا. بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنِ بِنْتٍ، وَابْنُ ابْنِ ابْنِ بِنْتٍ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يُقَسَّمُ الْمَالُ أَوَّلًا بَيْنَ أَعْلَى بَطْنَيْ الِاخْتِلَافِ، وَفِيهِ ابْنَانِ وَبِنْتٌ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعَدُّ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْفُرُوعَ آحَادٌ، فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، حِصَّةُ الْبِنْتِ سَهْمٌ هُوَ لِبِنْتِ بِنْتِهَا، وَحِصَّةُ الذَّكَرَيْنِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ تُقَسَّمُ عَلَى وَلَدَيْهِمَا لِلِاخْتِلَافِ، وَهُمَا ابْنٌ وَبِنْتٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَأَرْبَعَةٌ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَتُضْرَبُ ثَلَاثَةٌ فِي خَمْسَةٍ، تَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ، كَانَ لِلْبِنْتِ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى سَهْمٌ، فَلَهَا الْآنَ ثَلَاثَةٌ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِابْنَيْنِ سَهْمَانِ، فَيَكُونُ سِتَّةً. فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ

فصل

اثْنَيْ عَشَرَ، يُقَسَّمُ بَيْنَ وَلَدَيْهِمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَإِذًا لِبِنْتِ بِنْتِ الْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِلْأُخْرَى أَرْبَعَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِلِابْنِ الثَّمَانِيَةُ الْبَاقِيَةُ. فَصْلٌ وَمِنَ الْأَصْنَافِ، بَنَاتُ الْإِخْوَةِ، وَبَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ، وَأَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ، فَالْمُنَزِّلُونَ يُنَزِّلُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مَنْزِلَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ، وَيَرْفَعُونَهُمْ عِنْدَ التَّسَفُّلِ بَطْنًا بَطْنًا، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى وَارِثٍ قَدَّمُوهُ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الِانْتِهَاءِ إِلَى الْوَارِثِ، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَ الْأُصُولِ، فَمَا أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ قُسِّمَ بَيْنَ فُرُوعِهِ. وَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: إِنِ اخْتَلَفُوا فِي الدَّرَجَةِ، قُدِّمَ مِنْهُمُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، حَتَّى تُقَدَّمَ بِنْتُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ أَوْ لِلْأُمِّ عَلَى بِنْتِ ابْنِ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الدَّرَجَةِ، فَالْأَقْرَبُ إِلَى الْوَارِثِ أَوْلَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، حَتَّى تُقَدَّمَ بِنْتُ ابْنِ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ عَلَى بِنْتِ ابْنِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. فَإِنِ اسْتَوَوْا فِيهِ أَيْضًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْأُمِّ رِعَايَةً لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى الْأُصُولِ وَمَنْ يَسْقُطُ مِنْهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَمَنْ لَا يَسْقُطُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى مَنْ كَانَ مِنَ الْأَبِ، وَلَا يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، اعْتِبَارًا بِالْأُصُولِ. فَرْعٌ أَوْلَادُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ، يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْقِسْمَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ

مِنَ الْمُنَزِّلِينَ وَأَهْلِ الْقَرَابَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَقِيَاسُ الْمُنَزِّلِينَ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ أَوْلَادَ الْوَارِثِ كَأَنَّهُمْ يَرِثُونَ مِنْهُ. وَأَمَّا أَوْلَادُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَمِنَ الْأَبِ، فَيُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَتَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَبِهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَنَّ الْجَوَابَ كَذَلِكَ. وَالثَّانِيَةُ وَبِهَا قَالَ مُحَمَّدٌ: أَنَّهُ يُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَ الْأُصُولِ أَوَّلًا، وَيُؤْخَذُ عَدَدُهُمْ مِنَ الْفُرُوعِ، فَمَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُجْعَلُ لِفُرُوعِهِ كَمَا سَبَقَ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ. فَرْعٌ فِي أَمْثِلَتِهِ بِنْتُ أُخْتٍ، وَابْنَا أُخْتٍ أُخْرَى، وَهُمَا مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأَبِ عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ: نِصْفُ الْمَالِ لِلْبِنْتِ، وَنِصْفُهُ لِلِابْنَيْنِ. وَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ. ثَلَاثُ بَنَاتِ إِخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ. قَالَ الْمُنَزِّلُونَ وَمُحَمَّدٌ: السُّدُسُ لِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، اعْتِبَارًا بِالْآبَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. ثَلَاثٌ بَنِي أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ. قَالَ الْمُنَزِّلُونَ وَمُحَمَّدٌ: الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ أُمَّهَاتِهِمْ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. وَلَوْ كَانَ بَدَلَهُمْ ثَلَاثُ بَنَاتِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، كَانَ جَوَابُ الْفَرِيقَيْنِ كَذَلِكَ. وَلَوِ اجْتَمَعَ الْبَنُونَ الثَّلَاثَةُ وَالْبَنَاتُ الثَّلَاثُ. قَالَ الْمُنَزِّلُونَ: الْمَالُ بَيْنَ أُمَّهَاتِهِمْ عَلَى خَمْسَةٍ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، فَنَصِيبُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ لِوَلَدَيْهَا أَثْلَاثًا، وَنَصِيبُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ كَذَلِكَ، وَنَصِيبُ الثَّالِثَةِ لِوَلَدَيْهَا بِالسَّوِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الْكُلُّ لِوَلَدَيِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُجْعَلُ كَأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ سِتَّ أَخَوَاتٍ، اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْفُرُوعِ،

فصل

فَيَكُونُ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ بِتَقْدِيرِهَا أُخْتَيْنِ، وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ بِتَقْدِيرِهَا أُخْتَيْنِ، فَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ لِوَلَدَيْهَا، هَذِهِ بِالتَّفْضِيلِ، وَتِلْكَ بِالسَّوِيَّةِ. قَالَ الْإِمَامُ: قَدْ نَظَرَ مُحَمَّدٌ هُنَا إِلَى الْأُصُولِ الْوَارِثِينَ، وَفِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى الْوَارِثِينَ، وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى بُطُونِ الِاخْتِلَافِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَمَا سَبَقَ. ابْنُ أُخْتٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَبِنْتُ أَخٍ، كَذَلِكَ عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ وَمُحَمَّدٍ: الثُّلُثَانِ لِبِنْتِ الْأَخِ، وَالثُّلُثُ لِابْنِ الْأُخْتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِالْعَكْسِ. فَصْلٌ وَمِنَ الْأَصْنَافِ، الْأَجْدَادُ السَّاقِطُونَ، وَالْجَدَّاتُ السَّاقِطَاتُ، فَالْمُنَزِّلُونَ يُنَزِّلُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ وَلَدِهِ بَطْنًا بَطْنًا، وَيُقَدِّمُونَ [مِنْهُمْ] مَنِ انْتَهَى إِلَى الْوَارِثِ أَوَّلًا. فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الِانْتِهَاءِ، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ الَّذِينَ انْتَهَوْا إِلَيْهِمْ، وَقُسِّمَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَارِثٍ بَيْنَ الْمُدْلِينَ بِهِ. وَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: إِنِ اخْتَلَفَتْ دَرَجَاتُهُمْ، فَالْمَالُ لِلْأَقْرَبِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ حَتَّى يُقَدَّمَ أَبُو الْأُمِّ عَلَى أَبِي أُمِّ الْأَبِ. وَأُمُّ أَبِي الْأُمِّ عَلَى أَبِي أَبِي أَبِي الْأُمِّ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجَةِ، لَمْ يُقَدَّمْ هُنَا بِالسَّبْقِ إِلَى الْوَارِثِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَدَّمَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُقَدَّمْ بِهِ، أَوْ قُدِّمَ وَاسْتَوَوْا فِي السَّبْقِ إِلَيْهِ، نُظِرَ إِنْ [كَانَ] الْكُلُّ مِنْ جِهَةِ أَبِي الْمَيِّتِ، فَرِوَايَةُ الْجُوزَجَانِيِّ وَهِيَ الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ يُجْعَلُ ثُلُثَا الْمَالِ لِمَنْ هُوَ مِنْ جِهَةِ أَبِي الْأَبِ، وَثُلُثُهُ لِمَنْ هُوَ مِنْ جِهَةِ أُمِّ الْأَبِ. وَرِوَايَةُ عِيسَى بْنِ أَبَانٍ: كُلُّ الْمَالِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَبِيهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ مَنْ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ. وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مِنْ جِهَةِ أُمِّ الْمَيِّتِ، اطَّرَدَتِ الرِّوَايَتَانِ فِي أَنَّهُ يَسْقُطُ مَنْ هُوَ مِنْ جِهَةِ أُمِّهَا، أَمْ يُجْعَلُ الْمَالُ بَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ جِهَةِ أَبِيهَا وَمَنْ هُوَ مِنْ جِهَةِ أُمِّهَا أَثْلَاثًا؟ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ [مِنْ جِهَةِ أَبِ الْمَيِّتِ، وَبَعْضُهُمْ]

مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ أَثْلَاثًا، وَجُعِلَ كُلُّ قِسْمٍ (كَأَنَّهُ) كُلُّ التَّرِكَةِ، وَأَهْلُ كُلِّ جِهَةٍ كَأَنَّهُمْ كُلُّ الْوَرَثَةِ، فَتَجِيءُ فِيهِمُ الرِّوَايَتَانِ. ثُمَّ قِسْمَةُ الثُّلُثَيْنِ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَقِسْمَةُ الثُّلُثِ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ كَمِثْلِ ذَلِكَ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ فِي «التَّهْذِيبِ» . فَرْعٌ فِي أَمْثِلَتِهِ أُمُّ أَبِي الْأُمِّ، وَأَبُو أُمِّ الْأُمِّ. عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ: الْمَالُ لِأَبِي أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ إِلَى الْوَارِثِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجُوزَجَانِيِّ: الثُّلُثَانِ لِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ، وَالثُّلُثُ لَأَبِي أُمِّ الْأُمِّ، وَعَلَى رِوَايَةِ عِيسَى: الْكُلُّ لِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ. أَبُ أُمِّ أَبٍ، وَأَبُو أَبِي أُمٍّ. عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ: الْمَالُ لِلْأَوَّلِ، وَعَلَى رِوَايَةِ عِيسَى: لِلثَّانِي، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجُوزَجَانِيِّ: الثُّلُثَانِ لِلثَّانِي، وَالثُّلُثُ لِلْأَوَّلِ. أَبُ أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، قَالَ الْمُنَزِّلُونَ: الْمَالُ لِلثَّانِي، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مَنْ رَجَّحَ بِالسَّبْقِ إِلَى الْوَارِثِ مِنْ أَهْلِ الْقَرَابَةِ. وَأَمَّا الظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ، فَالثُّلُثَانِ لِلثَّانِي وَالثُّلُثُ لِلْأَوَّلِ. أَبُو أُمِّ أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أَبٍ. عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ: الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْأَبِ فَرْضًا وَرَدًّا. وَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ: الثُّلُثُ لِلْأَوَّلِ، وَالثُّلُثَانِ لِلثَّانِي. أَبُو أَبِي أُمٍّ، وَأُمُّ أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أُمٍّ. عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ: الْمَالُ لِلثَّالِثِ وَعَلَى رِوَايَةِ عِيسَى: لِلْأَوَّلَيْنِ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْجُوزَجَانِيِّ: الثُّلُثَانِ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالثُّلُثُ لِلثَّالِثِ.

فصل

أَبُو أَبِي أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أَبِي أُمِّ الْأَبِ، وَأَبُو أَبِي أَبِي أُمٍّ، وَأُمُّ أَبِي أَبِي الْأُمِّ، قَالَ الْمُنَزِّلُونَ: الْمَالُ لِلْأَوَّلَيْنِ. وَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: الْأَوَّلَانِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَالْآخَرَانِ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، فَيُجْعَلُ الْمَالُ أَثْلَاثًا بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ، ثُمَّ عَلَى رِوَايَةِ الْجُوزَجَانِيِّ: الثُّلُثَانِ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ أَثْلَاثًا، وَالثُّلُثُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ كَذَلِكَ، وَعَلَى رِوَايَةِ عِيسَى: الثُّلُثَانِ لِلْأَوَّلِ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ، وَالثُّلُثُ لِلْأَوَّلِ مِنَ الْآخَرَيْنِ. فَصْلٌ وَمِنَ الْأَصْنَافِ، الْخَالَاتُ وَالْأَخْوَالُ، وَالْعَمَّاتُ وَالْأَعْمَامُ مِنَ الْأُمِّ، نَزَّلَ الْمُنَزِّلُونَ الْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ، وَقَسَّمُوا الْمَالَ بَيْنَهُمْ إِذَا انْفَرَدُوا عَلَى حَسَبِ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تَرِكَةِ الْأُمِّ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمَّاتِ وَالْأَعْمَامِ لِلْأُمِّ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُمْ كَالْأَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَالْعَمِّ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَقِيلَ: الْعَمَّاتُ مِنَ الْجِهَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْعَمِّ لِلْأَبَوَيْنِ. وَقِيلَ: كُلُّ عَمَّةٍ بِمَنْزِلَةِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخُوهَا، ثُمَّ مَنْ جَعَلَ الْعَمَّاتِ كَالْأَبِ أَوْ كَالْعَمِّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ افْتِرَاقِهِنَّ، قَالَ: إِذَا انْفَرَدْنَ قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِنَّ لَوْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الْمَيِّتَ، وَمَنْ نَزَّلَهُنَّ مَنْزِلَةَ الْأَعْمَامِ الْمُفْتَرِقِينَ قَدَّمَ الْعَمَّةَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ الْعَمَّةَ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ الْعَمَّةَ مِنَ الْأُمِّ. وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَالْأَخْوَالُ، فَالثُّلُثَانِ لِلْعَمَّاتِ، وَالثُّلُثُ لِلْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّصِيبَيْنِ مَا اعْتُبِرَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ لَوِ انْفَرَدَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْقَرَابَةِ، فَقَالُوا: إِذَا انْفَرَدَتِ الْخَالَاتُ، فَإِنْ كُنَّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ. وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ، فَالْخَالَةُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مُقَدَّمَةٌ، ثُمَّ الْخَالَةُ مِنَ الْأَبِ. وَالْأَخْوَالُ الْمُنْفَرِدُونَ، كَالْخَالَاتِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ جِهَةٍ قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِهَةِ

الْأُمِّ. وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْجِهَاتُ، فَمَنِ اخْتَصَّ بِقَرَابَةِ الْأَبَوَيْنِ أَوْلَى ثُمَّ مَنِ اخْتَصَّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ. وَالْعَمَّاتُ الْمُنْفَرِدَاتُ كَالْخَالَاتِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعَمَّاتُ مِنَ الْأُمِّ، وَالْأَعْمَامُ مِنَ الْأَبِ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَلِلْعَمَّاتِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْخَالَاتِ سَوَاءً اتَّفَقَتْ جِهَةُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، أَوِ اخْتَلَفَتْ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ، فَالْمَالُ لِأَقْوَى الصِّنْفَيْنِ جِهَةً. ثُمَّ إِذَا قُسِّمَ الْمَالُ أَثْلَاثًا اعْتُبِرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّصِيبَيْنِ مَا يُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ عِنْدَ انْفِرَادِ الصِّنْفِ الْمَصْرُوفِ إِلَيْهِمْ. فَرْعٌ فِي أَمْثِلَتِهِ ثَلَاثُ خَالَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ. عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ: الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمْسَةٍ، كَمَا لَوْ وَرِثْنَ مِنَ الْأُمِّ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ: هُوَ لِلْخَالَةِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَبِمِثْلِهِ قَالُوا فِي ثَلَاثَةِ أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقِينَ. وَعِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ: لِلْخَالِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْخَالِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. وَلَوِ اجْتَمَعَ الْأَخْوَالُ الْمُتَفَرِّقُونَ، وَالْخَالَاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ، قَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: الْمَالُ كُلُّهُ لِلْخَالِ وَالْخَالَةِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَالَ الْمُنَزِّلُونَ: ثُلُثَا الْمَالِ لَهُمَا كَذَلِكَ، وَثُلُثُهُ لِلْخَالِ وَالْخَالَةِ لِلْأُمِّ كَذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَتَفْضِيلُ الْخَالِ مِنَ الْأُمِّ عَلَى الْخَالَةِ مِنَ الْأَبِ مُشْكِلٌ مُخَالِفٌ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنْ أَوْلَادِ الْأَخِ لِلْأُمِّ. ثَلَاثَةُ أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقُونَ، وَثَلَاثُ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ. عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ: ثُلُثُ الْمَالِ بَيْنَ الْخَالِ لِلْأَبَوَيْنِ وَالْخَالِ لِلْأُمِّ عَلَى سِتَّةٍ، وَاحِدٌ لِلثَّانِي، وَالْبَاقِي لِلْأَوَّلِ: وَقِسْمَةُ الثُّلُثَيْنِ تُخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَنْزِيلِ الْعَمَّاتِ. إِنْ جُعِلْنَ كَالْأَعْمَامِ، فَالثُّلُثَانِ لِلْعَمَّةِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ.

وَإِنْ نُزِّلْنَ مَنْزِلَةَ الْأَبِ، فَالثُّلُثَانِ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمْسَةٍ، كَمَا يَرِثْنَ مِنَ الْأَبِ. وَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: الثُّلُثَانِ لِلْعَمَّةِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَالثُّلُثُ لِلْخَالِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. فَرْعٌ أَوْلَادُ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَعْمَامِ لِلْأُمِّ عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ كَآبَائِهِمْ [وَأُمَّهَاتِهِمْ] عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَمَنْ تَسَفَّلَ مِنْهُمْ رُفِعَ بَطْنًا بَطْنًا. فَإِنْ سَبَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى وَارِثٍ، قُدِّمَ. وَإِنِ اسْتَوَوْا فِيهِ، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَ الَّذِينَ يُدْلِي بِهِمْ هَؤُلَاءِ عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ فَمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُسِّمَ بَيْنَ الْمُدْلِينَ بِهِ عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ مِنْهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتَ. وَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: الْأَقْرَبُ يُسْقِطُ الْأَبْعَدَ بِكُلِّ حَالٍ. فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجَةِ نُظِرَ إِنِ انْفَرَدَ أَوْلَادُ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، بِأَنِ اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ، قُدِّمَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْأُمِّ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ وَرِثُوا جَمِيعًا. ثُمَّ النَّظَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَبْدَانِهِمْ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: إِلَى آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ كَمَا سَبَقَ فِي أَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ. وَأَوْلَادُ الْعَمَّاتِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ كَأَوْلَادِ الْخَالَاتِ وَالْأَخْوَالِ، فَإِنِ اجْتَمَعَ الصِّنْفَانِ، فَثُلُثَا الْمَالِ لِأَوْلَادِ الْعَمَّاتِ، وَثُلُثُهُ لِأَوْلَادِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي آبَائِهِمْ، وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّصِيبَيْنِ مَا يُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ هَؤُلَاءِ بَنَاتُ الْأَعْمَامِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأَبِ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الدَّرَجَةُ، فَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ أَوْلَى، لِسَبْقِهِنَّ إِلَى الْوَارِثِ.

فَرْعٌ أَخْوَالُ الْأُمِّ وَخَالَاتُهَا عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ بِمَنْزِلَةِ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ، وَأَعْمَامُهَا وَعَمَّاتُهَا بِمَنْزِلَةِ الْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ. وَأَخْوَالُ الْأَبِ وَخَالَاتُهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ، وَعَمَّاتُهُ عِنْدَ مَنْ نَزَّلَ عَمَّةَ الْمَيِّتِ مَنْزِلَةَ أَبِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَدِّ أَبِي الْأَبِ. وَعِنْدَ مَنْ نَزَّلَ عَمَّةَ الْمَيِّتِ مَنْزِلَةَ عَمِّهِ بِمَنْزِلَةِ عَمِّ الْأَبِ فَيُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ. وَمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، يُجْعَلُ لِلْمُدْلِينَ بِهِ عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتَ، وَعَلَى الْقِيَاسِ: يَجْعَلُونَ كُلَّ خَالٍ وَخَالَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْجَدَّةِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُمَا، وَكُلَّ عَمٍّ وَعَمَّةٍ بِمَنْزِلَةِ الْجَدِّ الَّذِي هُوَ أَخُوهُمَا. وَأَمَّا أَهْلُ الْقَرَابَةِ، فَيَعْتَبِرُونَ فِي أَخْوَالِ الْمَيِّتَةِ وَخَالَاتِهَا مَا اعْتَبَرُوهُ فِي أَخْوَالِ الْمَيِّتِ وَخَالَاتِهِ، وَكَذَلِكَ فِي عَمَّاتِهَا إِذَا انْفَرَدْنَ. وَإِنِ اجْتَمَعَ أَعْمَامُهَا وَعَمَّاتُهَا، فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِنْ كَانُوا مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَوْ مِنَ الْأَبِ، قُدِّمَ الْأَعْمَامُ. وَلَوِ اجْتَمَعَ أَعْمَامُهَا وَعَمَّاتُهَا وَأَخْوَالُهَا وَخَالَاتُهَا، فَالثُّلُثُ لِلْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَالثُّلُثَانِ لِلْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَخُئُولَةُ الْأَبِ وَعُمُومَتُهُ كَخُئُولَةِ الْأُمِّ وَعُمُومَتِهَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ. وَلَوِ اجْتَمَعَ الْقَرَابَتَانِ، فَلِقَرَابَةِ الْأَبِ الثُّلُثَانِ، وَلِقَرَابَةِ الْأُمِّ الثُّلُثُ، ثُمَّ يُقَسَّمُ كُلُّ نَصِيبٍ بَيْنَهُمْ، كَمَا يُقَسَّمُ جَمِيعُ الْمَالِ لَوِ انْفَرَدُوا، فَثُلُثَا الثُّلُثَيْنِ لِعَمَّاتِ الْأَبِ، وَثُلُثُهُ لِخَالَاتِهِ وَأَخْوَالِهِ، وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ. وَسَوَاءٌ كَانَ قَرَابَةُ الْأَبِ مِنْ جِنْسِ قَرَابَةِ الْأُمِّ، أَمْ لَمْ يَكُنْ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ عَمَّ أُمِّهِ وَخَالَةَ أَبِيهِ، كَانَ الثُّلُثَانِ لِلْخَالَةِ، وَالثُّلُثُ لِلْعَمِّ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، وَثَلَاثَ خَالَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ لِأَبِيهِ وَمِثْلَهُنَّ لِأُمِّهِ، فَعَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ: ثُلُثَا الثُّلُثَيْنِ لِعَمَّةِ الْأَبِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَثُلُثُهَا لِخَالَةِ الْأَبِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَثُلُثُ الثُّلُثِ لِعَمَّةِ الْأُمِّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَثُلُثُهُ لِخَالَةِ الْأُمِّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَيَسْقُطُ الْبَوَاقِي. وَعِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ: نِصْفُ سُدُسِ الْمَالِ بَيْنَ خَالَاتِ الْأَبِ، وَمِثْلُهُ بَيْنَ خَالَاتِ الْأُمِّ، لِنُزُولِهِنَّ مَنْزِلَةَ الْجَدَّتَيْنِ، وَالْبَاقِي لِعَمَّاتِ

الْأَبِ دُونَ عَمَّاتِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ عَمَّاتِ الْأَبِ كَأَبِ الْأَبِ، وَعَمَّاتِ الْأُمِّ كَأَبِي الْأُمِّ. هَذَا تَمَامُ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي تَرْتِيبِ الْأَصْنَافِ. قَالَ الْمُنَزِّلُونَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْوَارِثِ الَّذِي يُدْلِي بِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْوَرَثَةِ لَوْ قُدِّرَ اجْتِمَاعُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا يَرِثُونَ، يَرِثُ الْمُدْلُونَ بِهِمْ، وَإِنْ حَجَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، جَرَى الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: ذَوُو الْأَرْحَامِ وَإِنْ كَثُرُوا يَرْجِعُونَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: الْمُنْتَمُونَ إِلَى الْمَيِّتِ، وَهُمْ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ وَأَوْلَادُ بَنَاتِ الِابْنِ، وَالْمُنْتَمِي إِلَيْهِمُ الْمَيِّتُ، وَهُمُ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ السَّاقِطُونَ، وَالْمُنْتَمُونَ إِلَى أَبَوَيِ الْمَيِّتِ، [وَهُمْ] أَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ، وَالْمُنْتَمُونَ إِلَى أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ، وَهُمُ الْعُمُومَةُ وَالْخُئُولَةُ. وَمَذْهَبُهُمُ: الظَّاهِرُ تَقْدِيمُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ، فَمَا دَامَ يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْ فُرُوعِ الْمَيِّتِ وَإِنْ سَفَلَ، فَلَا شَيْءَ لِأُصُولِهِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَإِنْ قَرُبُوا وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةٌ بِتَقْدِيمِ النَّوْعِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ. وَقَدَّمَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ النَّوْعَ الثَّالِثَ عَلَى الثَّانِي، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْعُمُومَةِ وَالْخُئُولَةِ وَأَوْلَادِهِمْ وَمِنْ وَلَدِ جَدٍّ أَوْ جَدَّةٍ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ وَإِنْ بَعُدَ مِمَّنْ هُوَ مِنْ وَلَدِ جِدٍّ أَوْ جِدَّةٍ أَبْعَدَ مِنْهُ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ الْخَالَاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْعَمَّاتِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تُقَدَّمُ الْجُدُودَةُ. وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ: إِنْ كَانَتِ الْعُمُومَةُ أَوِ الْخُئُولَةُ مِنْ وَلَدِ جَدٍّ أَوْ جَدَّةٍ، تَسَاوَى الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ الْمَوْجُودَيْنِ، أَوْ أَبْعَدَ، فَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَا مِنْ أَصْلٍ أَقْرَبَ مِنْهُمَا، فَهُمْ أَوْلَى. وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَقْدِيمُ الْخَالِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَفِي الْبَاقِينَ مَذْهَبُهُ مَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ فِي كُلِّ فَصْلٍ.

فصل

فَصْلٌ قَدْ يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَرَابَتَانِ بِالرَّحِمِ، كَبِنْتِ بِنْتِ بِنْتٍ هِيَ بِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ، وَكَبِنْتِ أُخْتِ الْأَبِ هِيَ بِنْتُ أَخِ الْأُمِّ، وَكَبِنْتِ خَالَةٍ هِيَ بِنْتُ عَمَّةٍ، فَالْمُنَزِّلُونَ يُنَزِّلُونَ وُجُوهَ الْقَرَابَةِ. فَإِنْ سَبَقَ بَعْضُ الْوُجُوهِ إِلَى وَارِثٍ، قُدِّمَ بِهِ، وَإِلَّا قَدَّرُوا الْوُجُوهَ أَشْخَاصًا وَرَّثُوا بِهَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْقَرَابَةِ: فَمُحَمَّدٌ يُوَرِّثُهُ بِجِهَتَيِ الْقَرَابَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ، جُعِلَتِ الْوُجُوهُ كَوَجْهٍ وَلَمْ يُوَرَّثْ بِهَا. وَإِنْ كَانَ فِي أَوْلَادِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَرِثَ بِأَقْوَى الْجِهَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ فِي أَوْلَادِ الْعُمُومَةِ وَالْخُئُولَةِ وَرِثَ بِالْقَرَابَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ، وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدَهُمْ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ خَلَّفَ بِنْتَ أَخٍ لَأُمٍّ هِيَ بِنْتُ أُخْتٍ لِأَبٍ، وَبِنْتَ أُخْتٍ أُخْرَى، أَوْ بِنْتَ أَخٍ أُخْرَى، وُرِّثَتْ بِأَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ، وَهِيَ كَوْنُهَا بِنْتَ أُخْتٍ لِأَبٍ. وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتَ خَالٍ هِيَ بِنْتُ عَمَّةٍ، وَبِنْتَ عَمَّةٍ أُخْرَى، فَالثُّلُثُ لِبِنْتِ الْخَالِ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَلَوْ كَانَ مَعَهَا بِنْتُ خَالٍ، فَالثُّلُثَانِ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ عَمَّةٍ، وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ مَعَ ذَوِي الْأَرْحَامِ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ، قَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: يُخْرَجُ نَصِيبُهُ، وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ كَمَا يُقَسَّمُ الْجَمِيعُ لَوِ انْفَرَدُوا، وَلِلْمُنَزِّلِينَ مَذْهَبَانِ. أَصَحُّهُمَا: كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَاقِيَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ سِهَامِ الَّذِينَ يُدْلِي بِهِمْ ذَوُو الْأَرْحَامِ مِنَ الْوَرَثَةِ مَعَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ، وَيُعْرَفُ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ: بِأَصْحَابِ اعْتِبَارِ مَا بَقِيَ، وَالْقَائِلُونَ بِالثَّانِي: أَصْحَابُ اعْتِبَارِ الْأَصْلِ.

مِثَالُهُ: زَوْجَةٌ، وَبِنْتُ بِنْتٍ، وَبِنْتُ أُخْتٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. عِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْبِنْتِ. وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُنَزِّلِينَ، جَعَلُوا لَهَا الرُّبُعَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ بِنْتِ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الْأُخْتِ بِالسَّوِيَّةِ. وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي قَالَ: إِذَا نَزَّلْنَاهُمَا، فَكَأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ زَوْجَةً وَبِنْتًا وَأُخْتًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، نَصِيبُ الزَّوْجَةِ مِنْهَا وَاحِدٌ، يَبْقَى سَبْعَةٌ يَخْرُجُ مِنْهَا تَمَامُ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ، يَبْقَى سِتَّةٌ تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا أَسْبَاعًا. وَلَوْ خَلَّفَتْ زَوْجًا وَبِنْتَ بِنْتٍ، وَخَالَةً، وَبِنْتَ عَمٍّ. عِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْبِنْتِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلْمُنَزِّلِينَ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَلِلْخَالَةِ سُدُسُ الْبَاقِي، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ الْبَاقِي. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: إِذَا نَزَّلْنَا حَصَلَ مَعَ الزَّوْجِ بِنْتٌ وَأُمٌّ وَعَمٌّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، يُخْرَجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ، يَبْقَى تِسْعَةٌ، ثُمَّ يُخْرَجُ تَمَامُ النِّصْفِ لِلزَّوْجِ، يَبْقَى سِتَّةٌ يُقَسِّمُهَا عَلَى التِّسْعَةِ [وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ] . الْبَابُ التَّاسِعُ فِي حِسَابِ الْفَرَائِضِ فِيهِ مَقْصُودَانِ. أَحَدُهُمَا: تَصْحِيحُ الْمَسَائِلِ. وَالثَّانِي: قِسْمَةُ التَّرِكَاتِ. [الْمَقْصُودُ] الْأَوَّلُ: التَّصْحِيحُ، وَفِيهِ فُصُولٌ. [الْفَصْلُ] الْأَوَّلُ: فِي مُقَدِّمَاتِهِ، وَهُنَّ أَرْبَعٌ. إِحْدَاهَا: الْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى سِتَّةٌ: النِّصْفُ، وَالرُّبُعُ، وَالثُّمُنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مُسْتَحِقِّيهَا. فَالنِّصْفُ فَرْضُ خَمْسَةٍ: الزَّوْجُ، وَالْبِنْتُ، وَبِنْتُ الِابْنِ، وَالْأُخْتُ لِلْأَبَوَيْنِ، وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ.

وَالرُّبُعُ فَرْضُ الزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ أَوِ الزَّوْجَاتِ. وَالثُّمُنُ فَرْضُ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَاتِ. وَالثُّلُثَانِ فَرْضُ أَرْبَعَةٍ وَهُنَّ الْإِنَاثُ الَّتِي لِوَاحِدَتِهِنَّ النِّصْفُ. وَالثُّلُثُ فَرْضُ ثَلَاثَةٍ: الْأُمِّ وَأَوْلَادِهَا، وَالْجَدِّ. وَالسُّدُسُ فَرْضُ سَبْعَةٍ: الْأُمِّ، وَالْجَدَّةِ، وَالْأَبِ، وَالْجَدِّ، وَبِنْتِ الِابْنِ، مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ، وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ لِلْأَبَوَيْنِ، وَوَاحِدِ أَوْلَادِ الْأُمِّ. [الْمُقَدِّمَةُ] الثَّانِيَةُ: كُلُّ عَدَدَيْنِ فَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ، أَوْ مُتَدَاخِلَانِ، أَوْ مُتَوَافِقَانِ، أَوْ مُتَبَايِنَانِ. فَالْمُتَمَاثِلَانِ، كَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثَةٍ. وَالْمُتَدَاخِلَانِ، كَثَلَاثَةٍ وَسِتَّةٍ، أَوْ تِسْعَةٍ. فَالثَّلَاثَةُ دَاخِلَةٌ فِي السِّتَّةِ وَالتِّسْعَةِ. وَالْمُتَوَافِقَانِ، كَأَرْبَعَةٍ وَسِتَّةٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفٌ صَحِيحٌ، وَسِتَّةٍ وَتِسْعَةٍ لَهُمَا ثُلُثٌ صَحِيحٌ، وَثَمَانِيَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ لَهُمَا رُبُعٌ صَحِيحٌ، وَلِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ سُبْعٌ صَحِيحٌ، وَلِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ. وَالْمُتَبَايِنَانِ، كَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْمُدَاخَلَةِ أَنْ تُسْقِطَ الْأَقَلَّ مِنَ الْأَكْثَرِ مَرَّتَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ زِدْ عَلَى الْأَقَلِّ مِثْلَهُ مَرَّةً فَصَاعِدًا. فَإِنْ فَنِيَ الْأَكْثَرُ بِالْأَقَلِّ، أَوْ تَسَاوَيَا بِزِيَادَةِ الْأَمْثَالِ، فَمُتَدَاخِلَانِ، وَإِلَّا فَلَا. وَطَرِيقُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُبَايَنَةِ، أَنْ تُسْقِطَ الْأَقَلَّ مِنَ الْأَكْثَرِ مَا أَمْكَنَ، فَمَا بَقِيَ، فَأَسْقِطْهُ مِنَ الْأَقَلِّ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَسْقِطْهُ مِمَّا بَقِيَ مِنَ الْأَكْثَرِ، وَلَا يَزَالُ يُفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَفْنَى الْعَدَدُ الْمَنْقُوصُ مِنْهُ آخِرًا، فَإِنْ فَنِيَ بِوَاحِدٍ، فَمُتَبَايِنَانِ. وَإِنْ فَنِيَ بِعَدَدٍ، فَمُتَوَافِقَانِ بِالْجُزْءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ. وَإِنْ فَنِيَ بِاثْنَيْنِ، فَبِالنِّصْفِ،

أَوْ بِثَلَاثَةٍ فَبِالثُّلُثِ، أَوْ بِعَشَرَةٍ فَبِالْعَشَرَةِ، أَوْ بِأَحَدَ عَشَرَ فَبِأَجْزَاءٍ أَحَدَ عَشَرَ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. مِثَالُهُ: أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَتِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، تُسْقِطُ الْأَقَلَّ مِنَ الْأَكْثَرِ مَرَّتَيْنِ يَبْقَى سَبْعَةٌ، تُسْقِطُهَا مِنَ الْأَقَلِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَفْنَى بِهَا، فَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِالْأَسْبَاعِ. [الْمُقَدِّمَةُ] الثَّالِثَةُ: فِي أُصُولِ الْمَسَائِلِ، أَصْلُهَا الْعَدَدُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ سِهَامُهَا. وَمَسَائِلُ الْفَرَائِضِ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ الْوَرَثَةِ عَصَبَاتٍ، بِأَنْ كَانُوا ذُكُورًا، أَوْ نِسْوَةً أَعْتَقْنَ عَبْدًا بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ، فَالْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَإِنْ كَانَتِ الْعَصَبَةُ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، قَدَّرْنَا كُلَّ ذَكَرٍ اثْنَيْنِ، وَأَعْطَيْنَا كُلَّ ذَكَرٍ سَهْمَيْنِ، وَكُلَّ أُنْثَى سَهْمًا، فَعَدَدُ الرُّءُوسِ فِي هَذَا النَّوْعِ هُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْمَسَائِلُ الَّتِي وَرَثَتُهَا أَصْحَابُ فُرُوضٍ أَوْ بَعْضُهُمْ ذُو فَرْضٍ. فَالْأُصُولُ فِي هَذَا النَّوْعِ سَبْعَةٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: تِسْعَةٌ. فَالسَّبْعَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا: اثْنَانِ، وَثَلَاثَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ، وَسِتَّةٌ، وَثَمَانِيَةٌ، وَاثْنَا عَشَرَ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا نِصْفٌ وَمَا بَقِيَ. كَزَوْجٍ وَأَخٍ، أَوْ نِصْفَانِ كَزَوْجٍ وَأُخْتٍ، فَهِيَ مِنِ اثْنَيْنِ وَمَا فِيهَا ثُلُثَانِ وَمَا بَقِيَ، كَبِنْتَيْنِ وَعَمٍّ، أَوْ ثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ كَأُمٍّ وَأَخٍ: أَوْ ثُلُثَانِ وَثُلُثٌ كَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَوَلَدَيْ أُمٍّ، فَمِنْ ثَلَاثَةٍ، وَمَا فِيهَا رُبُعٌ وَمَا بَقِيَ، كَزَوْجٍ وَابْنٍ، أَوْ رُبُعٍ وَنِصْفٍ وَمَا بَقِيَ كَزَوْجٍ وَبَنْتٍ وَأَخٍ، فَمِنْ أَرْبَعَةٍ. وَمَا فِيهَا سُدُسٌ وَمَا بَقِيَ كَأُمٍّ وَابْنٍ، أَوْ سُدُسٌ وَنِصْفٌ وَمَا بَقِيَ كَأُمٍّ وَبِنْتِ أَخٍ، أَوْ سُدُسٌ وَثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ كَأُمٍّ وَوَلَدٍ أَوْ وَعَمٍّ، أَوْ نِصْفٌ وَثُلُثَانِ كَزَوْجٍ وَأُخْتَيْنِ، أَوْ نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ كَزَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَخٍ فَمِنْ سِتَّةٍ. وَمَا فِيهَا ثُمُنٌ وَمَا بَقِيَ كَزَوْجَةٍ وَابْنٍ، أَوْ ثُمُنٌ وَنِصْفٌ وَمَا بَقِيَ كَزَوْجَةٍ وَبِنْتٍ وَأَخٍ فَمِنْ ثَمَانِيَةٍ. وَمَا فِيهَا رُبُعٌ وَثُلُثَانِ

وَمَا بَقِيَ كَزَوْجٍ وَابْنَتَيْنِ وَأَخٍ، أَوْ رُبُعٌ وَثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ كَزَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأَخٍ، فَمِنْ سِتَّةٍ، أَوْ رُبُعٌ وَسُدُسٌ وَمَا بَقِيَ كَزَوْجٍ وَأُمٍّ وَابْنٍ، فَمِنِ اثْنَيْ عَشَرَ. وَمَا فِيهَا ثُمُنٌ وَثُلُثَانِ وَمَا بَقِيَ، كَزَوْجَةٍ وَبِنْتَيْنِ وَأَخٍ، أَوْ ثُمُنٌ وَسُدُسٌ وَمَا بَقِيَ كَزَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَابْنٍ، فَمِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْأَخِيرِ ثُمُنٌ وَسُدُسَانِ وَمَا بَقِيَ كَزَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَابْنٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الْأَصْلَانِ الْمَزِيدَانِ، فَثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ حَيْثُ يَكُونُ الثُّلُثُ خَيْرًا لَهُ. فَالْأَوَّلُ: فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا سُدُسُ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا يَبْقَى، كَجَدٍّ وَأُمٍّ وَإِخْوَةٍ. وَالثَّانِي: فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا رُبُعُ وَسُدُسُ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا يَبْقَى، كَزَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ وَإِخْوَةٍ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالزِّيَادَةِ يُصَحِّحُ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِالضَّرْبِ. فَالْأُولَى: مِنْ سِتَّةٍ، لِلْأُمِّ سَهْمٌ، يَبْقَى خَمْسَةٌ، يُضْرَبُ مُخْرَجُ الثُّلُثِ فِي السِّتَّةِ تَبْلُغُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَالثَّانِيَةُ: مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، يُخْرَجُ بِالْفَرْضَيْنِ خَمْسَةٌ، [ثُمَّ] يُضْرَبُ مُخْرَجُ الثُّلُثِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ، تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَاسْتَصْوَبَ الْإِمَامُ وَالْمُتَوَلِّي صَنِيعَ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ مَا يَبْقَى وَالْحَالَةُ هَذِهِ مَضْمُومٌ إِلَى السُّدُسِ وَالرُّبُعِ، فَلْتَكُنِ الْفَرِيضَةُ مِنْ مُخْرَجِهَا. وَاحْتَجَّ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ أَنَّهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَلَوْلَا جَعْلُهَا مِنَ النِّصْفِ وَثُلُثِ الْبَاقِي، لَكَانَتْ مِنِ اثْنَيْنِ، لِلزَّوْجِ سَهْمٌ، يَبْقَى سَهْمٌ، فَيُضْرَبُ مُخْرَجُ الثُّلُثِ فِي اثْنَيْنِ تَبْلُغُ سِتَّةً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ فِي صُوَرِ الْجَدِّ نِصْفُ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ، كَبِنْتٍ وَجَدٍّ وَإِخْوَةٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ سِتَّةٍ قَطْعًا، كَمَا ذُكِرَ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَطَّرِدَ فِيهِ الْخِلَافُ.

قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ أَصَحُّ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْأَصَحَّ الْجَارِي عَلَى الْقَاعِدَةِ: طَرِيقُ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَمَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ لِمَا سَبَقَ، وَلِكَوْنِهَا أَخْصَرَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْعَوْلِ. إِذَا ضَاقَ الْمَالُ عَنِ الْفُرُوضِ، فَتُعَالُ الْمَسْأَلَةُ، أَيْ: تُرْفَعُ سِهَامُهَا لِيَدْخُلَ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ فَرْضِهِ، كَأَصْحَابِ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا إِذَا ضَاقَ الْمَالُ. وَالَّذِي يَعُولُ مِنَ الْأُصُولِ التِّسْعَةِ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ: سِتَّةٌ، وَاثْنَا عَشَرَ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَتَعُولُ السِّتَّةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ إِلَى سَبْعَةٍ، كَزَوْجٍ، وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ، وَإِلَى ثَمَانِيَةٍ كَهَؤُلَاءِ، وَأُمٍّ وَإِلَى تِسْعَةٍ، كَهَؤُلَاءِ، وَأَخٍ لِأُمٍّ، وَإِلَى عَشَرَةٍ كَهَؤُلَاءِ، وَأَخٍ [آخَرَ] لِأُمٍّ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْأَخِيرَةُ: الشُّرَيْحِيَّةَ، لِأَنَّ شُرَيْحًا الْقَاضِيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَضَى فِيهَا، وَتُسَمَّى: أُمَّ الْفَرُّوخِ، لِكَثْرَةِ سِهَامِهَا. وَمَتَى عَالَتْ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ لَا يَكُونُ الْمَيِّتُ إِلَّا امْرَأَةً. وَأَمَّا اثْنَا عَشَرَ، فَتَعُولُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، كَزَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ، وَإِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، كَهَؤُلَاءِ وَأَخٍ لِأُمٍّ. وَإِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، كَهَؤُلَاءِ وَأَخٍ [آخَرَ] لِأُمٍّ. وَمِنْ صُوَرِهَا: أُمُّ الْأَرَامِلِ، وَهِيَ ثَلَاثُ زَوْجَاتٍ وَجَدَّتَانِ، وَأَرْبَعُ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ، وَثَمَانٍ لِأَبٍ فَهُنَّ سَبْعَ عَشْرَةَ أُنْثَى أَنْصِبَاؤُهُنَّ سَوَاءٌ. وَلَا يَعُولُ هَذَا الْأَصْلُ إِلَى سَبْعَ عَشْرَةَ إِلَّا وَالْمَيِّتُ رَجُلٌ. وَأَمَّا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَتَعُولُ مَرَّةً فَقَطْ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ كَزَوْجَةٍ وَبِنْتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ، وَتُسَمَّى: الْمِنْبَرِيَّةَ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْهَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ ارْتِجَالًا: صَارَ ثُمُنُهَا تُسْعًا. وَلَا يَكُونُ هَذَا الْعَوْلُ إِلَّا وَالْمَيِّتُ رَجُلٌ، بَلْ لَا تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ [مِنْ] أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ إِلَّا وَهُوَ رَجُلٌ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي طَرِيقِ التَّصْحِيحِ، وَفِيهِ نَظَرَانِ. أَحَدُهُمَا: فِي تَصْحِيحِ فَرِيضَةِ

الْمَيِّتِ الْوَاحِدِ. وَالثَّانِي: فِي التَّصْحِيحِ إِذَا مَاتَ وَارِثَانِ فَأَكْثَرُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَتُعْرَفُ: بِالْمُنَاسَخَاتِ. أَمَّا [النَّظَرُ] الْأَوَّلُ: فَإِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ عَصَبَاتٍ، فَأَمْرُ الْقِسْمَةِ سَهْلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ. وَإِنْ كَانُوا أَصْحَابَ فُرُوضٍ، أَوْ فِيهِمْ صَاحِبُ فَرْضٍ، وَعُرِفَتِ الْمَسْأَلَةُ بِعَوْلِهَا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، فَانْظُرْ فِي السِّهَامِ وَأَصْحَابِهَا، فَإِنِ انْقَسَمَتْ عَلَيْهِمْ [جَمِيعًا] ، حَصَلَ الْغَرَضُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الضَّرْبِ، كَزَوْجٍ وَثَلَاثِ بَنِينَ هِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْمٌ. وَكَزَوْجَةٍ وَبِنْتٍ وَثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ، مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلزَّوْجَةِ سَهْمٌ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةٌ، وَلَهُمُ الْبَاقِي. وَإِنْ لَمْ تَنْقَسِمْ، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْكَسْرُ عَلَى صِنْفٍ، وَإِمَّا عَلَى أَكْثَرَ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: عَلَى صِنْفٍ، فَيُنْظَرُ فِي سِهَامِهِمْ وَعَدَدِ رُءُوسِهِمْ، إِنْ كَانَا مُتَبَايِنَيْنِ، ضَرَبْتَ عَدَدَ رُءُوسِهِمْ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ. وَإِنْ كَانَا مُتَوَافِقَيْنِ، ضَرَبْتَ جُزْءَ الْوَفْقِ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، ثُمَّ الْحَاصِلُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَصِحُّ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ. مِثَالُ التَّبَايُنِ زَوْجٌ وَأَخَوَانِ، هِيَ مِنِ اثْنَيْنِ، لَهُ سَهْمٌ، يَبْقَى سَهْمٌ لَا يَصِحُّ عَلَيْهِمَا، وَلَا مُوَافَقَةَ فَيُضْرَبُ عَدَدُهُمَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ تَبْلُغُ أَرْبَعَةً مِنْهَا تَصِحُّ. مِثَالُ التَّوَافُقِ، أُمٌّ وَأَرْبَعَةُ أَعْمَامٍ، هِيَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، يَبْقَى اثْنَانِ يُوَافِقُ عَدَدُهُمْ بِالنِّصْفِ، فَتَضْرِبُ وَفْقَ عَدَدِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ، تَبْلُغُ سِتَّةً مِنْهَا تَصِحُّ. وَإِذَا أَمْكَنَتِ الْمُوَافَقَةُ بِأَجْزَاءٍ، ضَرَبْنَا أَقَلَّهَا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الْكَسْرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ صِنْفٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ عَلَى صِنْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَلَا تُتَصَوَّرُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثِينَ فِي الْفَرِيضَةِ لَا يَزِيدُونَ عَلَى خَمْسَةِ أَصْنَافٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ مَنْ يَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ نَصِيبِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ الزَّوْجُ وَالْأَبَوَانِ، وَالْوَاحِدُ يَصِحُّ عَلَيْهِ نُصِيبُهُ قَطْعًا، فَلَزِمَ الْحَصْرُ. فَإِنْ وَقَعَ الْكَسْرُ عَلَى صِنْفَيْنِ نَظَرْنَا فِي سِهَامِ كُلِّ صِنْفٍ وَعَدَدِ رُءُوسِهِمْ. وَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ مُوَافَقَةٌ فِي وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ، فَتُتْرَكُ رُءُوسُ الصِّنْفَيْنِ بِحَالِهَا. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُوَافَقَةٌ فِيهِمَا، فَتُرَدُّ رُءُوسُ كُلِّ صِنْفٍ إِلَى جُزْءِ الْوَفْقِ. الثَّالِثُ: بِأَنْ يَكُونَ الْوَفْقُ فِي أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ، فَتُرَدُّ رُءُوسُهُ إِلَى جُزْءِ الْوَفْقِ، وَتُتْرَكُ رُءُوسُ الْآخَرِ بِحَالِهَا. ثُمَّ الرُّءُوسُ - مَرْدُودِينَ أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ غَيْرَ مَرْدُودِينَ - إِمَّا أَنْ يَتَمَاثَلَا، فَتَضْرِبُ أَحَدَهُمَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَتَدَاخَلَا، فَتَضْرِبُ أَكْثَرَهُمَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَافَقَا، فَتَضْرِبُ جُزْءَ الْوَفْقِ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، فَمَا بَلَغَ ضَرَبْتَهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَتَبَايَنَا، فَتَضْرِبُ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ، فَمَا حَصَلَ ضَرَبْتَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَا بَلَغَ صَحَّتْ مِنْهُ. وَيَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ اثْنَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَرْبَعَ حَالَاتٍ، وَالْحَاصِلُ مِنْ ضَرْبِ ثَلَاثَةٍ فِي أَرْبَعَةٍ اثْنَا عَشَرَ. وَإِنْ وَقَعَ الْكَسْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ نَظَرْنَا أَوَّلًا فِي سِهَامِ كُلِّ صِنْفٍ وَعَدَدِ رُءُوسِهِمْ، فَحَيْثُ وَجَدْنَا الْمُوَافَقَةَ، رَدَدْنَا الرُّءُوسَ إِلَى جُزْءِ الْوَفْقِ. وَحَيْثُ لَمْ نَجِدْ بَقَّيْنَاهُ بِحَالِهِ. ثُمَّ يَجِئُ فِي عَدَدِ الْأَصْنَافِ الْأَحْوَالُ الْأَرْبَعَةُ، فَكُلُّ عَدَدَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ، نَقْتَصِرُ مِنْهُمَا عَلَى وَاحِدٍ. وَإِنْ تَمَاثَلَ الْكُلُّ اكْتَفَيْنَا بِوَاحِدٍ وَضَرَبْنَاهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، وَكُلُّ عَدَدَيْنِ مُتَدَاخِلَيْنِ نَقْتَصِرُ عَلَى أَكْثَرِهِمَا، وَإِنْ تَدَاخَلَتْ كُلُّهَا، اكْتَفَيْنَا بِأَكْثَرِهَا وَضَرَبْنَاهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، وَكُلُّ مُتَوَافِقَيْنِ

نَضْرِبُ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، فَمَا بَلَغَ ضَرَبْنَاهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ. وَإِنْ تَوَافَقَ الْكُلُّ فَفِيهِ طَرِيقَانِ لِلْفَرْضِيِّينَ. قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: نَقِفُ أَحَدَهُمَا وَنَرُدُّ مَا عَدَاهُ إِلَى جُزْءِ الْوَفْقِ، ثُمَّ نَنْظُرُ أَجْزَاءَ الْوَفْقِ، فَنَكْتَفِي عِنْدَ التَّمَاثُلِ بِوَاحِدٍ، وَعِنْدَ التَّدَاخُلِ بِالْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ التَّوَافُقِ، نَضْرِبُ جُزْءَ الْوَفْقِ مِنَ الْبَعْضِ فِي الْبَعْضِ. وَعِنْدَ التَّبَايُنِ، نَضْرِبُ الْبَعْضَ فِي الْبَعْضِ، ثُمَّ نَضْرِبُ الْحَاصِلَ فِي الْعَدَدِ الْمَوْقُوفِ، ثُمَّ مَا حَصَلَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: نَقِفُ أَحَدَ الْأَعْدَادِ وَنُقَابِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ، وَنَضْرِبُ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، ثُمَّ نُقَابِلُ الْحَاصِلَ بِالْعَدَدِ الثَّالِثِ، وَنَضْرِبُ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، ثُمَّ نُقَابِلُ الْحَاصِلَ بِالْعَدَدِ الرَّابِعِ وَنَضْرِبُ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، ثُمَّ نَضْرِبُ الْحَاصِلَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا وَتُسَمَّى صُورَةُ تَوَافُقِ الْأَعْدَادِ: الْمَسَائِلَ الْمَوْقُوفَاتِ. وَإِنْ كَانَتِ الْأَعْدَادُ مُتَبَايِنَةً، ضَرَبْنَا عَدَدًا مِنْهَا فِي آخَرَ [ثُمَّ] مَا حَصَلَ فِي ثَالِثٍ، ثُمَّ مَا حَصَلَ فِي الرَّابِعِ ثُمَّ مَا حَصَلَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا. وَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ أَحَدَهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، ثُمَّ مَا يَحْصُلُ فِي الثَّانِي، ثُمَّ فِي الثَّالِثِ، ثُمَّ فِي الرَّابِعِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ السِّهَامِ وَعَدَدِ الرُّءُوسِ، وَلَا بَيْنَ أَعْدَادِ الرُّءُوسِ مُوَافَقَةٌ، سُمِّيَتِ الْمَسْأَلَةُ: صَمَّاءَ، وَلَا فَرْقَ فِي الْأَعْدَادِ الْمُتَوَافِقَةِ بَيْنَ عَدَدٍ وَعَدَدٍ، فَتَقِفُ أَيَّهَا شِئْتَ، وَالْعَدَدُ الَّذِي تَصِحُّ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ لَا يَخْتَلِفُ. فَإِنْ حَصَلَ اخْتِلَافٌ، فَاسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى الْغَلَطِ، وَإِنْ وَافَقَ أَحَدُ الْأَعْدَادِ الثَّلَاثَةِ الْآخَرَيْنِ وَالْآخَرَانِ مُتَبَايِنَانِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ نَقِفَ إِلَّا الَّذِي يُوَافِقُهُمَا، وَيُسَمَّى هَذَا الْمَوْقُوفُ: الْمُقَيَّدَ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَيَانُ التَّصْحِيحِ. فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهُ وَأَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفِ، مِمَّا حَصَلَ مِنَ الضَّرْبِ، فَلَهُ طُرُقٌ:

أَشْهَرُهَا وَأَخَفُّهَا: أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْعَدَدِ الْمَضْرُوبِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَيُعْرَفُ بِعَدَدِ الْمُنْكَسِرِينَ فَمَا بَلَغَ، فَهُوَ نَصِيبُ ذَلِكَ الصِّنْفِ، فَتَقْسِمُهُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، فَالْخَارِجُ بِالْقِسْمَةِ هُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ. مِثَالُهُ: زَوْجَتَانِ، وَأَرْبَعُ جَدَّاتٍ، وَسِتُّ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ، هِيَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَعُولُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَيَرْجِعُ عَدَدُ الْجَدَّاتِ بِالْمُوَافَقَةِ إِلَى اثْنَيْنِ، وَالْأَخَوَاتِ إِلَى ثَلَاثٍ، فَيَحْصُلُ اثْنَانِ وَاثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ، تُسْقِطُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَتَضْرِبُ الْآخَرَ فِي ثَلَاثَةٍ، تَبْلُغُ سِتَّةً، تَضْرِبُهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ، كَانَ لِلزَّوْجَيْنِ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ، فَتَضْرِبُ فِي سِتَّةٍ، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَهُوَ نَصِيبُهُمَا. وَإِذَا قُسِّمَ ذَلِكَ عَلَى رُءُوسِهِمَا خَرَجَ تِسْعَةٌ، وَكَانَ لِلْجَدَّاتِ سَهْمَانِ، تَضْرِبُهُمَا فِي سِتَّةٍ، تَبْلُغُ اثْنَيْ عَشَرَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةٌ، وَكَانَ لِلْأَخَوَاتِ ثَمَانِيَةٌ، تَضْرِبُ فِي سِتَّةٍ، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَمَانِيَةٌ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: تُقَسِّمُ سِهَامَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، فَمَا خَرَجَ مِنَ الْقِسْمَةِ، يُضْرَبُ فِي الْمَضْرُوبِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَا حَصَلَ، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفِ. فَفِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ، يُقْسَمُ نَصِيبُ الزَّوْجَتَيْنِ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمَا، يَخْرُجُ بِالْقِسْمَةِ سَهْمٌ وَنِصْفٌ، يُضْرَبُ فِي السِّتَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، تَبْلُغُ تِسْعَةً، وَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ زَوْجَةٍ، وَيُقْسَمُ نَصِيبُ الْجَدَّاتِ عَلَيْهِنَّ، يَخْرُجُ نِصْفُ سَهْمٍ، تَضْرِبُهُ فِي السِّتَّةِ، تَكُونُ ثَلَاثَةٌ، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ جَدَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَقِسِ الْأَخَوَاتِ. [الطَّرِيقُ] الثَّالِثُ: تَقْسِمُ الْعَدَدَ الْمَضْرُوبَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ كُلِّ صِنْفٍ، فَمَا خَرَجَ تَضْرِبُهُ فِي نَصِيبِ ذَلِكَ الصِّنْفِ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُ الْوَاحِدِ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ، فَفِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ تَقْسِمُ السِّتَّةَ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ الزَّوْجَتَيْنِ يَخْرُجُ ثَلَاثَةٌ، تَضْرِبُهَا فِي نَصِيبِهِمَا مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، تَبْلُغُ تِسْعَةً، وَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ زَوْجَةٍ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ.

[الطَّرِيقُ] الرَّابِعُ: تُقَابِلُ بَيْنَ نَصِيبِ كُلِّ صِنْفٍ وَعَدَدِ رُءُوسِهِمْ، وَتَضْبِطُ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا، وَتَأْخُذُ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ فِي الْعَدَدِ الْمَضْرُوبِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ، فَفِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ، نَصِيبُ الزَّوْجَتَيْنِ ثَلَاثَةٌ وَهُمَا اثْنَانِ. وَالثَّلَاثَةُ مِثْلُ الِاثْنَيْنِ وَمِثْلُ نِصْفِهِمَا، فَتَأْخُذُ مِثْلَ الْعَدَدِ الْمَضْرُوبِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِثْلُ نِصْفِهِ، يَكُونُ تِسْعَةً، وَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ زَوْجَةٍ، وَنَصِيبُ الْأَخَوَاتِ ثَمَانِيَةٌ، وَعَدَدُهُنَّ سِتَّةٌ، وَالثَّمَانِيَةُ مِثْلُ السِّتَّةِ، وَمِثْلُ ثُلُثِهَا، فَلِكُلِّ أُخْتٍ مِثْلُ الْعَدَدِ الْمَضْرُوبِ. وَمِثْلُ ثُلُثِهِ تَكُونُ ثَمَانِيَةٌ، وَنَصِيبُ الْجَدَّاتِ اثْنَانِ مِثْلُ نِصْفِ عَدَدِهِنَّ، فَلِكُلِّ جَدَّةٍ نِصْفُ الْعَدَدِ الْمَضْرُوبِ. [الطَّرِيقُ] الْخَامِسُ: وَيُعْرَفُ بِهِ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ قَبْلَ الضَّرْبِ وَالتَّصْحِيحِ. إِنْ كَانَ الْكَسْرُ عَلَى صِنْفٍ، فَانْظُرْ إِنْ لَمْ يُوَافِقْ سِهَامُهُمْ عَدَدَهُمْ، فَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَدَدِ سِهَامِ جَمِيعِ الصِّنْفِ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَصِيبُ كُلِّ [وَاحِدٍ] مِنَ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ لَا كَسْرَ عَلَيْهِمْ، بِعَدَدِ رُءُوسِ الْمُنْكَسِرِ عَلَيْهِمْ إِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمٍ ضُرِبَ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَدَدِ الْمُنْكَسِرِ عَلَيْهِمْ، فَمَا حَصَلَ، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ وَافَقَ سِهَامُهُمْ عَدَدَهُمْ، فَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُنْكَسِرِ عَلَيْهِمْ بِعَدَدِ وَفْقِ سِهَامِهِمْ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَمْ يَنْكَسِرْ عَلَيْهِمْ وَفْقَ عَدَدِ الرُّءُوسِ الْمُنْكَسِرِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. مِثَالُهُ: زَوْجٌ، وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ، وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ، تَعُولُ مِنْ سِتَّةٍ إِلَى تِسْعَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَنَصِيبُ كُلِّ أُخْتٍ بِعَدَدِ سِهَامِ جَمِيعِهِنَّ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَنَصِيبُ كُلِّ أَخٍ خَمْسَةٌ بِعَدَدِ رُءُوسِ الْأَخَوَاتِ الْمُنْكَسِرِ عَلَيْهِنَّ، وَنَصِيبُ الزَّوْجِ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ سَهْمٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، فَتُضْرَبُ فِي عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ. وَلَوْ كَانَ عَدَدُ الْأَخَوَاتِ عَشْرَةً، وَافَقَ سِهَامُهُنَّ عَدَدَهُنَّ بِالنِّصْفِ، وَتَرُدُّ

عَدَدَهُنَّ إِلَى النِّصْفِ، وَيَكُونُ نَصِيبُ كُلِّ أُخْتٍ بِعَدَدِ نِصْفِ مَا لِجَمِيعِهِنَّ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ اثْنَانِ، وَيَكُونُ لِكُلِّ أَخِي خَمْسَةٍ نِصْفُ عَدَدِ رُءُوسِ الْأَخَوَاتِ، وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي نِصْفِ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَسْرُ عَلَى صِنْفَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالسِّهَامِ مُوَافَقَةٌ، أَوْ كَانَتْ وَرَدَدْتَ الرُّءُوسَ إِلَى وَفْقِهَا، فَانْظُرْ فِي عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَلَهُمَا أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ، فَالْحَاصِلُ مِنْ ضَرْبِ كُلِّ صِنْفٍ فِي سِهَامِ الصِّنْفِ الْآخَرِ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفِ الْمَضْرُوبِ فِي سِهَامِهِمْ، وَالْحَاصِلُ مِنْ ضَرْبِ عَدَدِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ فِي الْآخَرِ، إِذَا ضَرَبْتَهُ فِي نَصِيبِ الْوَاحِدِ [مِنَ] الَّذِينَ لَا كَسْرَ عَلَيْهِمْ، كَانَ الْمَبْلَغُ نَصِيبَ [ذَلِكَ] الْوَاحِدِ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ. مِثَالُهُ: خَمْسُ بَنَاتٍ، وَأَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، وَأَرْبَعُ جَدَّاتٍ، وَأَخٌ لِأَبٍ، هِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ، وَالْكَسْرُ فِي الْبَنَاتِ وَالزَّوْجَاتِ، وَلَا مُوَافَقَةَ. فَإِذَا ضَرَبْتَ رُءُوسَ الْبَنَاتِ فِي سِهَامِ الزَّوْجَاتِ حَصَلَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ زَوْجَةٍ. وَإِذَا ضَرَبْتَ الزَّوْجَاتِ فِي سِهَامِ الْبَنَاتِ، حَصَلَ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ بِنْتٍ. وَإِذَا ضَرَبْتَ الْبَنَاتِ فِي الزَّوْجَاتِ حَصَلَ عِشْرُونَ. فَإِذَا ضَرَبْتَهُ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَدَّاتِ كَانَ عِشْرِينَ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدًا، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ جَدَّةٍ. وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْأَخِ. وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الْأَرْبَعِ جَدَّتَانِ، ضَرَبْتَ الْعِشْرِينَ فِي اثْنَيْنِ، فَالْحَاصِلُ نَصِيبُ كُلِّ جَدَّةٍ. الْحَالُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ عَدَدُ الرُّءُوسِ مُتَوَافِقًا سَوَاءٌ تَدَاخَلَا أَمْ لَا فَإِذَا ضَرَبْتَ وَفْقَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ فِي سِهَامِ الْآخَرِ كَانَ الْحَاصِلُ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفِ الْمَضْرُوبِ فِي سِهَامِهِمْ. وَإِذَا ضَرَبْتَ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ وَلَا تَدَاخُلَ بَيْنَهُمَا، وَضَرَبْتَ مَا حَصَلَ فِي نَصِيبِ الْوَاحِدِ مِمَّنْ لَا كَسْرَ عَلَيْهِمْ، كَانَ الْحَاصِلُ نَصِيبَ الْوَاحِدِ

مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ، وَإِنْ تَدَاخَلَا ضَرَبْتَ أَكْثَرَهُمَا فِي النَّصِيبِ، فَمَا حَصَلَ فَهُوَ نَصِيبُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ. مِثَالُهُ: زَوْجٌ، وَتِسْعَةُ إِخْوَةٍ لِأُمٍّ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ أُخْتًا لِأَبٍ هِيَ مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ، تَضْرِبُ وَفْقَ عَدَدِ الْإِخْوَةِ فِي سِهَامِ الْأَخَوَاتِ تَبْلُغُ اثْنَيْ عَشَرَ، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ أُخْتٍ، وَوَفْقَ عَدَدِ الْأَخَوَاتِ فِي نَصِيبِ الْإِخْوَةِ تَبْلُغُ عَشْرَةً، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ أَخٍ، وَوَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ تَبْلُغُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، تَضْرِبُهُ فِي سِهَامِ الزَّوْجِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، تَبْلُغُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ نَصِيبُ الزَّوْجِ. فَإِنْ كَانَ عَدَدُ الْإِخْوَةِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَعَدَدُ الْأَخَوَاتِ سِتَّ عَشْرَةَ، فَالسِّهَامُ تُوَافِقُ الْأَعْدَادَ، فَتَرْجِعُ الْإِخْوَةُ إِلَى سِتَّةٍ، وَالْأَخَوَاتُ إِلَى أَرْبَعَةٍ، لِلْمُوَافَقَةِ بِالرُّبُعِ، وَبَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ. وَإِذَا ضَرَبْتَ وَفْقَ الرَّاجِعِ مِنْ عَدَدِ الْإِخْوَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي وَفْقِ سِهَامِ الْأَخَوَاتِ، وَهُوَ وَاحِدٌ كَانَ الْحَاصِلُ ثَلَاثَةً، وَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ أُخْتٍ. وَإِذَا ضَرَبْتَ وَفْقَ الرَّاجِعِ مِنْ عَدَدِ الْأَخَوَاتِ، وَهُوَ اثْنَانِ فِي وَفْقِ سِهَامِ الْإِخْوَةِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، كَانَ الْحَاصِلُ اثْنَيْنِ، وَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ أَخٍ. وَإِذَا ضَرَبْتَ وَفْقَ أَحَدِ الرَّاجِعِينَ فِي جَمِيعِ الْآخَرِ حَصَلَ اثْنَا عَشَرَ، فَإِذَا ضَرَبْتَهُ فِي سِهَامِ الزَّوْجِ مِنَ الْأَصْلِ حَصَلَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، وَهُوَ نَصِيبُ الزَّوْجِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: إِذَا كَانَ عَدَدُ الرُّءُوسِ مُتَمَاثِلًا، فَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ بِعَدَدِ مَا كَانَ لِجَمِيعِهِمْ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَا كَسْرَ عَلَيْهِمْ هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ ضَرْبِ مَا كَانَ لَهُ فِي عَدَدِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ الْمُنْكَسِرِ عَلَيْهِمْ. مِثَالُهُ: خَمْسُ بَنَاتٍ، وَخَمْسُ جَدَّاتٍ، وَأَخٌ هِيَ مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثِينَ، وَنَصِيبُ كُلِّ بِنْتٍ مِثْلُ مَا كَانَ [لَهُنَّ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَنَصِيبُ كُلِّ جَدَّةٍ مِثْلُ مَا كَانَ لَهُنَّ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَنَصِيبُ الْأَخِ هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ ضَرْبِ مَا كَانَ] لَهُ فِي خَمْسَةٍ، وَهُوَ خَمْسَةٌ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَسْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ، فَانْظُرْ إِنْ كَانَتْ أَعْدَادُ الرُّءُوسِ مُتَبَايِنَةً، فَاعْزِلِ الصِّنْفَ الَّذِينَ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ نَصِيبَهُمْ، وَاضْرِبْ عَدَدَ أَحَدِ الْآخَرِينَ فِي الْآخَرِ، فَمَا بَلَغَ فَاضْرِبْهُ فِي نَصِيبِ الصِّنْفِ الَّذِينَ عَزَلْتَهُمْ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَاضْرِبْ عَدَدَ رُءُوسِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ، فَمَا بَلَغَ فَاضْرِبْهُ فِي نَصِيبِ مَنِ انْقَسَمَ عَلَيْهِمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. مِثَالُهُ: أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، وَثَلَاثُ جَدَّاتٍ، وَخَمْسُ بَنَاتٍ، وَأُخْتٌ لِأَبٍ، هِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتَصِحُّ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ. فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ نَصِيبَ الزَّوْجَاتِ، فَاعْزِلْهُنَّ وَاضْرِبِ الْبَنَاتِ فِي الْجَدَّاتِ، تَبْلُغُ خَمْسَةَ عَشَرَ، اضْرِبْهُ فِي نَصِيبِ الزَّوْجَاتِ فِي الْأَصْلِ، تَبْلُغُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ زَوْجَةٍ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ حُكْمُ الْبَنَاتِ. وَاضْرِبْ لِمَعْرِفَةِ نَصِيبِ الْأُخْتِ عَدَدَ الْأَصْنَافِ الْمُنْكَسِرِ عَلَيْهِمْ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ تَبْلُغُ سِتِّينَ اضْرِبْهُ فِي نَصِيبِهَا مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ وَاحِدٌ تَبْلُغُ سِتِّينَ، فَهُوَ نَصِيبُهَا. وَإِنْ كَانَتِ الْأَعْدَادُ مُتَوَافِقَةً أَوْ مُتَمَاثِلَةً، فَالْعَمَلُ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْكَسْرَيْنِ. وَصُورَةُ التَّمَاثُلِ هَيِّنَةٌ، وَأَمَّا التَّوَافُقُ فَكَتِسْعِ بَنَاتٍ، وَسِتِّ جَدَّاتٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَخًا، هِيَ مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ. فَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ نَصِيبِ الْبَنَاتِ فَاعْزِلْهُنَّ وَاضْرِبْ وَفْقَ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْجَدَّاتِ وَالْإِخْوَةِ فِي وَفْقِ الْآخَرِ تَبْلُغُ عَشْرَةً تُضْرَبُ فِي نَصِيبِ الْبَنَاتِ، تَبْلُغُ أَرْبَعِينَ، فَهَذَا نَصِيبُ كُلِّ بِنْتٍ. وَكَذَا تَعْزِلُ الْجَدَّاتِ وَتَضْرِبُ وَفْقَ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِي وَفْقِ الثَّانِي، تَبْلُغُ خَمْسَةَ عَشَرَ تَضْرِبُهَا فِي نَصِيبِ الْجَدَّاتِ تَبْلُغُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ جَدَّةٍ. وَتَعْزِلُ الْإِخْوَةَ، وَتَضْرِبُ وَفْقَ أَحَدِ الْآخَرَيْنِ فِي وَفْقِ الثَّانِي، تَبْلُغُ سِتَّةً تَضْرِبُهَا فِي نَصِيبِهِمْ، تَبْلُغُ سِتَّةً فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ أَخٍ.

النَّظَرُ الثَّانِي: فِي الْمُنَاسَخَاتِ. فَإِذَا مَاتَ عَنْ جَمَاعَةٍ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، فَلِلْمَسْأَلَةِ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَنْحَصِرَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي فِي الْبَاقِينَ، وَيَكُونُ إِرْثُهُمْ مِنَ الثَّانِي مِثْلَ الْإِرْثِ مِنَ الْأَوَّلِ، فَتَجْعَلُ الْمَيِّتَ الثَّانِيَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَتُقَسِّمُ التَّرِكَةَ عَلَى الْبَاقِينَ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِرْثُ عَنْهُمَا بِالْعُصُوبَةِ، كَمَنْ مَاتَ عَنْ إِخْوَةٍ وَأَخَوَاتٍ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ عَنِ الْبَاقِينَ، أَوْ عَنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ. وَفِيمَا إِذَا كَانَ الْإِرْثُ عَنْهُمَا بِالْفَرْضِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَنْ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ، وَأُمٍّ، وَأَخَوَاتٍ مُخْتَلِفَاتِ الْآبَاءِ، ثُمَّ نَكَحَ الزَّوْجُ إِحْدَاهُنَّ، فَمَاتَتْ عَنِ الْبَاقِينَ. وَفِيمَا إِذَا وَرِثَ بَعْضُهُمْ بِالْفَرْضِ وَبَعْضُهُمْ بِالْعُصُوبَةِ كَمَنْ مَاتَ عَنْ أُمٍّ، وَإِخْوَةٍ لِأُمٍّ، وَمُعْتَقٍ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْإِخْوَةِ عَنِ الْبَاقِينَ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرِثَ كُلُّ الْبَاقِينَ مِنَ الثَّانِي أَوْ بَعْضُهُمْ، كَمَنْ مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ وَبَنِينَ، وَلَيْسَتْ أُمَّهُمْ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ عَنِ الْبَاقِينَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَنْحَصِرُوا، إِمَّا لِأَنَّ الْوَارِثَ غَيْرُهُمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ غَيْرَهُمْ يَشْرَكُهُمْ، وَإِمَّا لِاخْتِلَافِ مَقَادِيرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، فَنُصَحِّحُ مَسْأَلَتَيِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جَمِيعًا، وَنَنْظُرُ فِي نَصِيبِ الثَّانِي مِنْ مَسْأَلَةِ الْأَوَّلِ. فَإِنِ انْقَسَمَ نَصِيبُهُ عَلَى مَسْأَلَتِهِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَنُقَابِلُ نَصِيبَهُ بِمَسْأَلَتِهِ الْمُصَحَّحَةِ، إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ ضُرِبَ أَقَلُّ جُزْءِ الْوَفْقِ مِنْ مَسْأَلَةِ الثَّانِي فِي جَمِيعِ مَسْأَلَةِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضُرِبَ جَمِيعُ مَسْأَلَتِهِ فِي جَمِيعِ مَسْأَلَةِ الْأَوَّلِ، فَمَا بَلَغَ، صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَتَانِ. وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ مِمَّا حَصَلَ مِنَ الضَّرْبِ، فَقُلْ: كُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، يَأْخُذُهُ مَضْرُوبًا فِيمَا ضَرَبْتَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ جَمِيعُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ وَفْقُهَا. وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ، يَأْخُذْهُ مَضْرُوبًا فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، أَوْ فِي وَفْقِ النَّصِيبِ إِنْ كَانَ بَيْنَ مَسْأَلَتِهِ وَنَصِيبِهِ وَفْقٌ.

مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَأُخْتَانِ لِأَبٍ، مَاتَتْ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى وَعَنْ بِنْتٍ، الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ سَبْعَةٍ، وَالثَّانِيَةُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَنَصِيبُ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ اثْنَانِ. زَوْجَةٌ، وَثَلَاثُ بَنِينَ، وَبِنْتٌ، ثُمَّ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ أُمٍّ وَثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ، وَهُمُ الْبَاقُونَ مِنْ وَرَثَةِ الْأَوَّلِ، فَالْأُولَى مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَالثَّانِيَةُ تَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَنَصِيبُ الْمَيِّتَةِ مِنَ الْأَوَّلِ سَهْمٌ لَا يُوَافِقُ، فَتَضْرِبُ الثَّانِيَةَ فِي الْأُولَى، تَبْلُغُ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ، لِلزَّوْجَةِ سَهْمٌ مَضْرُوبٌ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَلِلْأُمِّ مِنَ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي سَهْمِ الْمَيِّتَةِ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلِكُلِّ أَخٍ خَمْسَةٌ، فَحَصَلَ لِلْأُمِّ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَلِكُلِّ أَخٍ أَحَدٌ وَأَرْبَعُونَ. جَدَّتَانِ، وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُخْتُ لِلْأُمِّ عَنْ أُخْتٍ لِأُمٍّ، وَهِيَ الْأُخْتُ لِلْأَبَوَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَعَنْ أُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ، وَعَنْ أُمِّ أُمٍّ وَهِيَ إِحْدَى الْجَدَّتَيْنِ، فَالْأُولَى مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ سِتَّةٍ، وَنَصِيبُ الْمَيِّتَةِ مِنَ الْأُولَى سَهْمَانِ، وَنَصِيبُهَا وَمَسْأَلَتُهَا يَتَوَافَقَانِ بِالنِّصْفِ، فَتَضْرِبُ نِصْفَ مَسْأَلَتِهَا فِي الْأُولَى، تَبْلُغُ سِتَّةً [وَثَلَاثِينَ، كَانَ لِلْجَدَّتَيْنِ سَهْمَانِ، تَضْرِبُهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ، تَبْلُغُ سِتَّةً، وَكَذَا الْأُخْتُ لِلْأَبِ، وَكَانَ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ سِتَّةً] تَضْرِبُهَا فِي ثَلَاثَةٍ، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلَهَا مِنَ الثَّانِيَةِ سَهْمٌ مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ نَصِيبِ الْمَيِّتَةِ وَهُوَ سَهْمٌ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِلْأَبَوَيْنِ أَرْبَعَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي سَهْمٍ، وَلِلْجَدَّةِ سَهْمٌ فِي سَهْمٍ، فَحَصَلَ لِلْأُخْتِ الْوَارِثَةِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَلِلْجَدَّةِ الْوَارِثَةِ فِيهِمَا أَرْبَعَةٌ. فَرْعٌ لَوْ مَاتَ ثَالِثٌ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، فَلَكَ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: تُصَحِّحُ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ، وَتَأْخُذُ نَصِيبَ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ، وَتُقَابِلُهُ بِمَا صَحَّتْ مِنْهُ مَسْأَلَتُهُ، فَإِنِ انْقَسَمَ

نَصِيبُهُ عَلَى مَسْأَلَتِهِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَإِنْ تَوَافَقَا ضَرَبْتَ وَفْقَ مَسْأَلَتِهِ فِيمَا صَحَّتْ مِنْهُ الْأُولَيَانِ. وَإِنْ تَبَايَنَا، ضَرَبْتَ مَسْأَلَتَهُ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ تَعْمَلُ إِذَا مَاتَ رَابِعٌ وَخَامِسٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. ثُمَّ مَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَوْ مِنَ إِحْدَاهُمَا أَخَذَهُ مَضْرُوبًا فِي الثَّالِثَةِ، أَوْ فِي وَفْقِهَا، وَمَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّالِثَةِ، أَخَذَهُ مَضْرُوبًا فِي نَصِيبِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، أَوْ فِي وَفْقِهِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ تُصَحِّحَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِرَأْسِهَا، وَتُقَابِلَ نَصِيبَ كُلِّ مَيِّتٍ بِمَسْأَلَتِهِ، فَمَنِ انْقَسَمَ نَصِيبُهُ عَلَى مَسْأَلَتِهِ، فَلَا اعْتِدَادَ بِمَسْأَلَتِهِ. وَمَنْ لَمْ يَنْقَسِمْ [حَفَظْتَ] مَسْأَلَتَهُ بِتَمَامِهَا إِنْ لَمْ تُوَافِقْ نَصِيبَهُ، أَوْ وَفْقِهَا إِنْ تَوَافَقَا، وَفَعَلْتَ بِهَا مَا تَفْعَلُ بِأَعْدَادِ الْأَصْنَافِ الْمُنْكَسِرِ عَلَيْهِمْ سِهَامُهُمْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَمَا حَصَلَ ضَرَبْتَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَمَا حَصَلَ قَسَمْتَهُ، فَتَضْرِبُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُولَى فِي الْعَدَدِ الْمَضْرُوبِ فِيهَا، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ لَهُ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَلِوَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا. مِثَالُهُ: زَوْجَةٌ، وَبِنْتٌ، وَثَلَاثَةُ بَنِي ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ زَوْجٍ، وَأَخٍ لِأُمٍّ، وَأُمٍّ وَهِيَ الزَّوْجَةُ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ ابْنَيْ الِابْنِ عَنْ زَوْجَةٍ، وَبِنْتٍ، وَابْنِ ابْنٍ، وَجَدَّةٍ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، ثُمَّ مَاتَ آخَرُ عَنْ هَذِهِ الْجَدَّةِ، وَعَنْ خَمْسَةِ بَنِينَ وَخَمْسِ بَنَاتٍ، فَالْأُولَى مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ سِتَّةٍ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالرَّابِعَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَنَصِيبُ الْبِنْتِ يُوَافِقُ مَسْأَلَتَهَا بِالنِّصْفِ، فَتُرَدُّ مَسْأَلَتُهَا إِلَى ثَلَاثَةٍ، فَإِذًا مَعَنَا ثَلَاثَةٌ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالثَّلَاثَةُ دَاخِلَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، فَتَقْتَصِرُ عَلَيْهَا، وَهِيَ تُوَافِقُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِالسُّدُسِ، فَتَضْرِبُ سُدُسَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، تَبْلُغُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، تَضْرِبُهَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسَبْعِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ الْمَسَائِلُ، فَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأُولَى، يُضْرَبُ نَصِيبُهُ فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ وَيُقْسَمُ عَلَى وَرَثَتِهِ.

زَوْجَةٌ وَثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ عَنِ ابْنَيْنِ، وَالثَّانِي عَنِ ابْنَيْنِ وَبِنْتٍ، وَالثَّالِثُ عَنِ ابْنٍ وَبِنْتٍ، فَالْأُولَى مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالثَّانِيَةُ، مِنَ اثْنَيْنِ، وَالثَّالِثَةُ، مِنْ خَمْسَةٍ، وَالرَّابِعَةُ، مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالسِّهَامُ لَا تُوَافِقُ الْمَسَائِلَ فَتَضْرِبُ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، تَبْلُغُ ثَلَاثِينَ، تَضْرِبُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، تَبْلُغُ مِائَةً وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا سَهْمٌ فِي ثَلَاثِينَ، وَلِكُلِّ أَخٍ كَذَلِكَ. فَمَا لِلْأَوَّلِ لِابْنَيْهِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَمَا لِلثَّانِي لِابْنَيْهِ وَبِنْتِهِ، لِكُلِّ ابْنٍ اثْنَا عَشَرَ، وَلِلْبِنْتِ سِتَّةٌ. وَمَا لِلثَّالِثِ بَيْنَ ابْنِهِ وَبِنْتِهِ لَهُ عِشْرُونَ، وَلَهَا عَشْرَةٌ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا تَصْحِيحُ الْمُنَاسِخَاتِ. قَالَ الْفَرْضِيُّونَ: وَقَدْ يُمْكِنُ اخْتِصَارُ الْحِسَابِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِ التَّصْحِيحِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ أَنْصِبَاءُ الْوَرَثَةِ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةً، فَتَرُدُّ الْمَسْأَلَةَ إِلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مُتَوَافِقَةً بِجُزْءٍ صَحِيحٍ، فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْوَفْقُ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ، يُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ، كَزَوْجَةٍ، وَبِنْتٍ، وَثَلَاثَةِ بَنِينَ مِنْهَا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ عَنِ الْبَاقِينَ، فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَالثَّانِيَةُ، مِنْ سِتَّةٍ، وَنَصِيبُ الْمَيِّتِ الثَّانِي سَهْمَانِ يُوَافِقَانِ مَسْأَلَتَهُ بِالنِّصْفِ، فَتَضْرِبُ نِصْفَ مَسْأَلَتِهِ فِي الْأُولَى، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجَةِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سِتَّةٌ، وَمِنْ نَصِيبِ الثَّانِي لِلْأُمِّ سَهْمٌ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ، وَلِكُلِّ أَخٍ سَهْمَانِ، فَمَجْمُوعُ مَا لِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْأُخْتِ كَذَلِكَ، وَلِكُلِّ أَخٍ ثَمَانِيَةٌ، فَالْأَنْصِبَاءُ مُتَوَافِقَةٌ بِالرُّبُعِ، فَتَأْخُذُ رُبُعَ كُلِّ نَصِيبٍ، يَبْلُغُ الْمَجْمُوعُ سِتَّةً، فَتَقْسِمُ الْمَالَ عَلَيْهَا اخْتِصَارًا. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَنْصِبَاءِ مُوَافَقَةٌ، أَوْ وَافَقَ بَعْضُهَا فَقَطْ، فَلَا يُمْكِنُ الِاخْتِصَارُ. الْمَقْصُودُ الثَّانِي: قِسْمَةُ التَّرِكَاتِ، وَلَهُ أَصْلٌ وَفُرُوعٌ مُتَشَعِّبَةٌ. أَمَّا الْأَصْلُ،

فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّا يَنْقَسِمُ بِالْأَجْزَاءِ، كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، قَسَمْتَ عَيْنَهَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ بِالْأَجْزَاءِ، كَالْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي وَالدَّوَابِّ، قُوِّمَ ثُمَّ قُسِّمَ بَيْنَهُمْ بِالْقِيمَةِ، فَمَا أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِيمَةِ فَلَهُ بِقَدْرِهَا مِنَ الْمُقَوَّمِ. وَطَرِيقُهُ: أَنْ يُنْظَرَ فِي التَّرِكَةِ، أَهِيَ عَدَدٌ صَحِيحٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا، أَمْ عَدَدٌ وَكَسْرٌ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، قَابَلْتَ التَّرِكَةَ بِالْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ. فَإِنْ تَمَاثَلَا، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِلَّا فَإِنْ تَبَايَنَا فَاضْرِبْ نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، أَوْ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ فِي عَدَدِ التَّرِكَةِ، فَمَا بَلَغَ فَاقْسِمْهُ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، أَوْ عَلَى مَا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ، فَمَا خَرَجَ مِنَ الْقِسْمَةِ، فَهُوَ نَصِيبُ ذَلِكَ الْوَارِثِ. وَإِنْ شِئْتَ قَسَمْتَ التَّرِكَةَ أَوَّلًا عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، أَوْ عَلَى مَا صَحَّتْ مِنْهُ، فَمَا خَرَجَ بِالْقِسْمَةِ، فَاضْرِبْهُ فِي سَهْمِ كُلِّ وَارِثٍ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُهُ. وَإِنْ كَانَا مُتَوَافِقِينَ، فَإِنْ عَمِلْتَ كَمَا عَمِلْتَ فِي الْمُتَبَايِنِينَ حَصَلَ الْغَرَضُ، وَإِنْ أَرَدْتَ الِاخْتِصَارَ، فَخُذْ وَفْقَهُمَا، وَاضْرِبْ سَهْمَ كُلِّ وَارِثٍ فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ، فَمَا بَلَغَ فَاقْسِمْهُ عَلَى وَفْقِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ نَصِيبُهُ مِنَ التَّرِكَةِ. وَإِنْ شِئْتَ فَاقْسِمْ وَفْقَ التَّرِكَةِ عَلَى وَفْقِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَا خَرَجَ فَاضْرِبْهُ فِي سَهْمِ كُلِّ وَارِثٍ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُهُ. وَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْعَمَلِ امْتَحَنْتَ صِحَّتَهُ، بِأَنْ تَجْمَعَ مَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ وَتَنْظُرَ هَلِ الْمَجْمُوعُ مِثْلُ التَّرِكَةِ، أَمْ لَا؟ الْأَمْثِلَةُ: زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَأُخْتَانِ لِأَبٍ، وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ، وَالتَّرِكَةُ سِتُّونَ دِينَارًا، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى عَشْرَةٍ. فَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ سِهَامَ الزَّوْجِ فِي سِتِّينَ تَبْلُغُ مِائَةً وَثَمَانِينَ تَقْسِمُهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ، يَخْرُجُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَهُوَ نَصِيبُ الزَّوْجِ، وَتَضْرِبُ نَصِيبَ الْأُمِّ فِي سِتِّينَ، يَكُونُ سِتِّينَ تَقْسِمُهُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ يَخْرُجُ سِتَّةٌ، فَهُوَ نَصِيبُهَا. وَتَضْرِبُ نَصِيبَ الْأَخَوَيْنِ فِيهَا يَكُونُ مِائَةً وَعِشْرِينَ تَقْسِمُهُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ يَخْرُجُ اثْنَا عَشَرَ،

فَهُوَ نَصِيبُهُمَا [وَتَضْرِبُ نَصِيبَ الْأُخْتَيْنِ يَكُونُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ تَقْسِمُهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ، يَخْرُجُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَهُوَ نَصِيبُهُمَا] . وَإِنْ شِئْتَ قَسَمْتَ التَّرِكَةَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، يَخْرُجُ سِتَّةٌ، تَضْرِبُهَا فِي سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ يَخْرُجُ مَا ذَكَرْنَا. زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَأُخْتٌ لِأَبٍ، وَالتَّرِكَةُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ. الْمَسْأَلَةُ تَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، تَضْرِبُ نَصِيبَ الزَّوْجِ فِي التَّرِكَةِ، يَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ تَقْسِمُهُ عَلَى سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ يَخْرُجُ لِلسَّهْمِ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ، وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْأُخْتِ. وَتَضْرِبُ نَصِيبَ الْأُمِّ وَهُوَ سَهْمَانِ فِي أَرْبَعَةٍ، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةً تُقْسَمُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، يَخْرُجُ وَاحِدٌ، فَهُوَ نَصِيبُهَا. ثَلَاثُ زَوْجَاتٍ وَأَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ لِأُمٍّ، وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ، وَالتَّرِكَةُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا. الْمَسْأَلَةُ تَعُولُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَتُوَافِقُ التَّرِكَةَ بِأَجْزَاءٍ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَتَرُدُّهُمَا إِلَى جُزْءِ الْوَفْقِ، فَتَعُودُ التَّرِكَةُ إِلَى خَمْسَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ إِلَى وَاحِدٍ، ثُمَّ إِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ سِهَامَ الزَّوْجَاتِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ، تَبْلُغُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَهُوَ لِلزَّوْجَاتِ. وَضَرَبْتَ سِهَامَ الْإِخْوَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ [فِي الْخَمْسَةِ] تَبْلُغُ عِشْرِينَ، فَهُوَ نَصِيبُهُمْ، وَسِهَامَ الْأَخَوَاتِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، فِي الْخَمْسَةِ، تَبْلُغُ أَرْبَعِينَ، فَهُوَ نَصِيبُهُنَّ. وَإِنْ شِئْتَ قَسَّمْتَ وَفْقَ التَّرِكَةِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ عَلَى وَفْقِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ وَاحِدٌ، يَخْرُجُ خَمْسَةٌ، تُضْرَبُ فِي سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ، يَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَرْعٌ فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ عَدَدًا وَكَسْرًا نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْكَسْرُ وَاحِدًا، ضَرَبْتَ مُخْرَجَ ذَلِكَ الْكَسْرِ فِي الصِّحَاحِ، فَمَا خَرَجَ فَرُدَّ عَلَيْهِ الْكَسْرَ، وَاقْسِمِ الْمَجْمُوعَ عَلَى الْوَرَثَةِ كَمَا تَقْسِمُ الصِّحَاحَ، ثُمَّ اجْعَلْ مَا خَرَجَ بِالْقِسْمَةِ بِعَدَدٍ فَخَرِّجْ ذَلِكَ الْكَسْرَ وَاحِدًا صَحِيحًا، وَأَضِفْ إِلَيْهِ الْبَاقِيَ.

فصل

مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَأُخْتَانِ، وَالتَّرِكَةُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، تَضْرِبُ مُخْرَجَ النِّصْفِ، وَهُوَ اثْنَانِ، فِي الْعَشْرَةِ، تَبْلُغُ عِشْرِينَ، وَتَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ وَاحِدًا، فَكَأَنَّ التَّرِكَةَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ صِحَاحًا تَعْمَلُ بِهَا عَمَلَكَ بِالصِّحَاحِ، فَيَخْرُجُ لِلزَّوْجِ تِسْعَةُ أَنْصَافٍ هِيَ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ سِتَّةُ أَنْصَافٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَالتَّرِكَةُ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، ضَرَبْتَ مُخْرَجَ الرُّبُعِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي الثَّمَانِيَةِ تَبْلُغُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، تَزِيدُ عَلَيْهِ الْكَسْرَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ تَبْلُغُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، تُقَسَّمُ كَقِسْمَةِ الصِّحَاحِ، يَخْرُجُ لِلزَّوْجِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ عَشْرَةٌ، وَهِيَ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الصِّحَاحِ كَسْرَانِ كَرُبُعٍ وَسُدُسٍ، أَخَذْتَ مُخْرَجَ مَجْمُوعِهِمَا، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ وَضَرَبْتَهُ فِي الصِّحَاحِ وَتَمَّمْتَ الْعَمَلَ كَمَا ذَكَرْنَا. فَصْلٌ وَأَمَّا الْفُرُوعُ الْمُتَشَعِّبَةُ، فَتَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً، نَذْكُرُ مِنْهَا مَسَائِلَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. مَسْأَلَةٌ: أَخَذَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ قَدْرًا مَعْلُومًا مِنَ التَّرِكَةِ، وَأَرَدْتَ مَعْرِفَةَ جُمْلَتِهَا، فَأَقِمْ سِهَامَ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ، ثُمَّ إِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ الْمَأْخُوذَ فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ فَمَا بَلَغَ قَسَمْتَهُ عَلَى سِهَامِ الْآخِذِ، فَمَا خَرَجَ بِالْقِسْمَةِ فَهُوَ جُمْلَةُ التَّرِكَةِ. وَإِنْ شِئْتَ قَسَمْتَ الْمَأْخُوذَ عَلَى سِهَامِ الْآخِذِ، وَضَرَبْتَ الْخَارِجَ مِنَ الْقِسْمَةِ فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ التَّرِكَةُ. مِثَالُهُ: زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَأُخْتَانِ لِأَبٍ، وَأَخَذَ الزَّوْجُ بِحَقِّهِ ثَلَاثِينَ دِينَارًا، إِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ الثَّلَاثِينَ فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، يَكُونُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، تُقَسَّمُ عَلَى سِهَامِ الزَّوْجِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، يَخْرُجُ ثَمَانُونَ، فَهُوَ التَّرِكَةُ. وَإِنْ شِئْتَ قَسَّمْتَ الثَّلَاثِينَ عَلَى سِهَامِهِ،

يَخْرُجُ عَشَرَةٌ، تَضْرِبُهَا فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ تَبْلُغُ ثَمَانِينَ. وَلَكَ طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ تَنْظُرَ فِيمَا بَيْنَ سِهَامِ الْآخِذِ وَسِهَامِ الْبَاقِينَ مِنَ النِّسْبَةِ، وَتَزِيدَ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِثْلَ نِسْبَةِ سِهَامِهِمْ مِنْ سِهَامِهِ، فَهُوَ جُمْلَةُ التَّرِكَةِ. فَفِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ، سِهَامُ بَاقِي الْوَرَثَةِ مِثْلُ سِهَامِ الزَّوْجِ، وَمِثْلُ ثُلُثَيْهَا، فَتَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِينَ مِثْلَهَا وَمِثْلَ ثُلُثَيْهَا، تَبْلُغُ ثَمَانِينَ. مَسْأَلَةٌ: زَوْجَةٌ، وَأُمٌّ، وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، وَالتَّرِكَةُ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثَوْبٌ، أَخَذَتِ الزَّوْجَةُ الثَّوْبَ بِنَصِيبِهَا بِرِضَى الْوَرَثَةِ، كَمْ قِيمَةُ الثَّوْبِ وَجُمْلَةُ التَّرِكَةِ؟ فَالطَّرِيقُ فِيهَا وَفِي أَخَوَاتِهَا، أَنْ تُقِيمَ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَعُولُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. ثُمَّ لَكَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَضْرِبَ سِهَامَ الزَّوْجَةِ مِنَ الْمَسْأَلَةِ فِي عَدَدِ الدَّرَاهِمِ فَتَبْلُغُ تِسْعِينَ، فَتَقْسِمَ التِّسْعِينَ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ سِهَامِ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ، يَخْرُجُ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، فَهُوَ قِيمَةُ الثَّوْبِ. وَإِنْ شِئْتَ قَسَّمْتَ الدَّرَاهِمَ عَلَى بَاقِي سِهَامِ الْوَرَثَةِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ، يَخْرُجُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، تَضْرِبُهُ فِي سِهَامِ الزَّوْجَةِ، تَبْلُغُ سَبْعَةً وَنِصْفًا. وَإِنْ شِئْتَ نَسَبْتَ سِهَامَهَا إِلَى سِهَامِ الْبَاقِينَ، فَإِذَا هِيَ رُبُعُ سِهَامِ الْبَاقِينَ، فَتَأْخُذُ رُبُعَ الثَّلَاثِينَ، وَهُوَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: طَرِيقُ الْجَبْرِ، تَقُولُ: إِذَا أَخَذَتْ بِخُمُسِ التَّرِكَةِ ثَوْبًا، فَجُمْلَةُ التَّرِكَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ، وَهِيَ تَعْدِلُ ثَوْبًا وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَتُسْقِطُ ثَوْبًا بِثَوْبٍ، فَتَبْقَى أَرْبَعَةُ أَثْوَابٍ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَتَعْلَمُ أَنَّ الثَّوْبَ الْوَاحِدَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ. أَوْ تَقُولُ: خُمُسُ التَّرِكَةِ خُمُسُ [ثَوْبٍ] وَسِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَقَدْ أَخَذَتْ بِالْخُمُسِ ثَوْبًا، فَهُوَ يَعْدِلُ خُمُسَ ثَوْبٍ وَسِتَّةَ دَرَاهِمَ، [تُسْقِطُ الْخُمُسَ بِالْخُمُسِ، يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ ثَوْبٌ فِي مُقَابَلَةِ سِتَّةِ دَرَاهِمَ] ، فَتُكْمِلُ الثَّوْبَ بِأَنْ تَزِيدَ عَلَى الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ رُبُعَهَا، وَتَزِيدَ عَلَى الْعَدِيلِ رُبُعَهُ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَأَخَذْتَ مَعَ الثَّوْبِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ،

تَنْقُصُ الْخَمْسَةُ مِنَ الثَّلَاثِينَ، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ تَضْرِبُ نَصِيبَهَا مِنَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ، تَكُونُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، تُقْسَمُ عَلَى سِهَامِ الْبَاقِينَ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ، يَخْرُجُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَرُبُعٌ، وَهُوَ نَصِيبُهَا مِنَ التَّرِكَةِ. فَإِذَا نَقَصَتْ مِنْهَا الْخَمْسَةُ، يَبْقَى دِرْهَمٌ وَرُبُعٌ، وَهُوَ قِيمَةُ الثَّوْبِ. وَبِالْجَبْرِ تَقُولُ: أَخَذَتْ بِخُمُسِ التَّرِكَةِ ثَوْبًا وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَجَمِيعُ التَّرِكَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، تَعْدِلُ ثَوْبًا وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَتُسْقِطُ ثَوْبًا بِالثَّوْبِ، وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ بِالْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ، يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَثْوَابٍ فِي مُقَابَلَةِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، فَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ دِرْهَمٌ وَرُبُعٌ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَأَخَذْتَ الثَّوْبَ وَزِدْتَ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، تُزَادُ السِّتَّةُ الْمَرْدُودَةُ عَلَى الثَّلَاثِينَ، وَتُضْرَبُ سِهَامُ الزَّوْجَةِ فِي السِّتَّةِ وَالثَّلَاثِينَ، تَبْلُغُ مِائَةً وَثَمَانِيَةً، تُقْسَمُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ، يَخْرُجُ بِالْقِسْمَةِ تِسْعَةٌ، فَهُوَ نَصِيبُهَا مِنَ التَّرِكَةِ. فَإِذَا زِدْتَ سِتَّةً عَلَى التِّسْعَةِ، فَهِيَ قِيمَةُ الثَّوْبِ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ يُقَالُ: أَخَذَتْ بِخُمُسِ التَّرِكَةِ ثَوْبًا إِلَّا سِتَّةَ دَرَاهِمَ، فَجَمِيعُ التَّرِكَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ إِلَّا ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، تَعْدِلُ ثَوْبًا وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَتُكْمِلُ الثِّيَابَ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَيُزَادُ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى الْعَدِيلِ، فَتَصِيرُ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ مُعَادِلَةً لِسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثَوْبٍ، تُسْقِطُ ثَوْبًا بِالثَّوْبِ، يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَثْوَابٍ فِي مُقَابَلَةِ سِتِّينَ دِرْهَمًا، فَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا، وَالتَّرِكَةُ ثَلَاثُونَ وَثَوْبٌ وَعَبْدٌ وَخَاتَمٌ، أَخَذَتِ الزَّوْجَةُ بِنَصِيبِهَا الثَّوْبَ، وَالْأُمُّ الْعَبْدَ، وَالْأُخْتُ لِلْأُمِّ الْخَاتَمَ، فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، تَضْرِبُ سِهَامَ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ [ثَلَاثَةٌ] ، فِي ثَلَاثِينَ، تَبْلُغُ تِسْعِينَ، تَقْسِمُهَا عَلَى الثَّمَانِيَةِ الَّتِي لِلْبَاقِينَ، يَخْرُجُ بِالْقِسْمَةِ أَحَدَ عَشَرَ وَرُبُعٌ، أَوْ تَقْسِمُ الثَّلَاثِينَ عَلَى الْبَاقِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ سِهَامِ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْأُخْتِ لِلْأُمِّ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، يَخْرُجُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، تَضْرِبُهَا فِي سِهَامِ الزَّوْجَةِ، تَبْلُغُ أَحَدَ عَشَرَ وَرُبُعًا، فَهُوَ قِيمَةُ الثَّوْبِ، وَفِي سَهْمَيِ الْأُمِّ تَبْلُغُ سَبْعَةً وَنِصْفًا، فَهُوَ قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ قِيمَةُ الْخَاتَمِ. وَبِالْجَبْرِ يُقَالُ: أَخَذَتِ الزَّوْجَةُ بِالْخُمُسِ ثَوْبًا،

وَالْأُمُّ بِثُلُثَيِ الْخُمُسِ عَبْدًا، وَالْأُخْتُ بِمِثْلِهِ خَاتَمًا، بَقِيَ مِنَ السِّهَامِ ثَمَانِيَةٌ، وَهِيَ خُمُسَانِ وَثُلُثَا خُمُسٍ، يَكُونُ ثَوْبَيْنِ وَثُلُثَيْ ثَوْبٍ، فَالْجُمْلَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ وَثُلُثَا ثَوْبٍ وَعَبْدٌ وَخَاتَمٌ، وَهِيَ تَعْدِلُ ثَوْبًا وَعَبْدًا وَخَاتَمًا وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، تُسْقِطُ ثَوْبًا بِالثَّوْبِ، وَالْعَبْدَ بِالْعَبْدِ، وَالْخَاتَمَ بِالْخَاتَمِ، يَبْقَى ثَوْبَانِ وَثُلُثَا ثَوْبٍ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَالْوَاحِدُ يَعْدِلُ أَحَدَ عَشَرَ وَرُبُعًا. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا، وَالتَّرِكَةُ ثَلَاثُونَ وَثَوْبَانِ يَتَفَاوَتَانِ فِي الْقِيمَةِ بِدِرْهَمَيْنِ، وَأَخَذَتِ الزَّوْجَةُ بِنَصِيبِهَا الثَّوْبَ الْأَدْنَى عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ يَزِيدُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا عَلَى الدَّرَاهِمِ، فَتَصِيرُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، تَضْرِبُ سِهَامَ الزَّوْجَةِ فِيهَا يَكُونُ سِتَّةً وَتِسْعِينَ، تَقْسِمُهَا عَلَى الْبَاقِي مِنْ سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ إِسْقَاطِ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَبَعْدَ إِسْقَاطٍ مِثْلِهِ لِلثَّوْبِ الْآخَرِ، فَالْبَاقِي تِسْعَةٌ يَخْرُجُ مِنَ الْقِسْمَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، فَهُوَ قِيمَةُ مَا أَخَذَتْهُ. وَبِالْجَبْرِ تَقُولُ: أَخَذَتْ بِالْخُمُسِ ثَوْبًا، فَالْجَمِيعُ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ تَعْدِلُ التَّرِكَةَ، وَهِيَ ثَوْبَانِ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، تُسْقِطُ ثَوْبَيْنِ بِثَوْبَيْنِ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ تَعْدِلُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَالْوَاحِدُ يَعْدِلُ عَشْرَةً وَثُلُثَيْنِ. وَلَوْ أَخَذَتِ الزَّوْجَةُ بِنَصِيبِهَا الثَّوْبَ الْأَعْلَى، فَتَزِيدُ الدِّرْهَمَيْنِ عَلَى الثَّلَاثِينَ، تَصِيرُ التَّرِكَةُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَثَوْبَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، أَخَذَتِ الزَّوْجَةُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ثَوْبًا وَدِرْهَمَيْنِ، فَيَخُصُّ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ [أُخْرَى] مِثْلُ ذَلِكَ. فَإِذَا أَسْقَطْنَاهَا بَقِيَ مِنْ سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ تِسْعَةٌ، وَمِنَ التَّرِكَةِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، تُضْرَبُ سِهَامُ الزَّوْجَةُ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ تَقْسِمُهَا عَلَى التِّسْعَةِ الْبَاقِيَةِ، يَخْرُجُ تِسْعَةٌ وَثُلُثٌ، فَهُوَ قِيمَةُ الثَّوْبِ الْأَعْلَى، وَقِيمَةُ الْأَدْنَى سَبْعَةٌ وَثُلُثٌ، وَجَمِيعُ التَّرِكَةِ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَانِ. مَسْأَلَةٌ: ابْنَانِ وَالتَّرِكَةُ ثَوْبَانِ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتُ دِينَارَيْنِ، أَخَذَ أَحَدُهُمَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْأَعْلَى، كَمْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ؟ فَطَرِيقُهُ: أَنْ تَزِيدَ التَّفَاوُتَ عَلَيْهِمَا، فَتَجْعَلَ التَّرِكَةَ ثَوْبَيْنِ وَدِينَارَيْنِ، وَلِكُلِّ ابْنِ ثَوْبٌ وَدِينَارٌ، وَقَدْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ ثَوْبٍ وَدِينَارًا

وَنِصْفًا، فَتُقَابِلُ بِهِ حَقَّهُ وَهُوَ ثَوْبٌ وَدِينَارٌ، وَتُسْقِطُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ ثَوْبٍ بِمِثْلِهَا، وَدِينَارًا بِدِينَارٍ، يَبْقَى رُبُعُ ثَوْبٍ فِي مُقَابَلَةِ نِصْفِ دِينَارٍ، فَالثَّوْبُ الْكَامِلُ يَعْدِلُ دِينَارَيْنِ، فَهُمَا قِيمَةُ الْأَدْنَى، وَقِيمَةُ الْأَعْلَى أَرْبَعَةٌ، وَجُمْلَةُ التَّرِكَةِ سِتَّةٌ. مَسْأَلَةٌ: زَوْجٌ، وَابْنٌ، أَخَذَ الزَّوْجُ بِمِيرَاثِهِ وَبِدَيْنٍ لَهُ عَلَى الْمَيِّتَةِ ثُلُثَ الْمَالِ، الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، تُسْقِطُ مِنْهَا سَهْمَ الزَّوْجِ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ تَضْرِبُهَا فِي مُخْرَجِ الْكَسْرِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ تَبْلُغُ تِسْعَةً، مِنْهَا تَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلِابْنِ سِتَّةٌ. وَإِذَا كَانَ لِلِابْنِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سِتَّةٌ كَانَ لِلزَّوْجِ بِسَهْمٍ اثْنَانِ، فَاثْنَانِ إِرْثٌ، وَوَاحِدٌ دَيْنٌ. وَنَقُولُ بِطَرِيقٍ آخَرَ: الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالدَّيْنُ شَيْءٌ، فَجُمْلَةُ التَّرِكَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَشَيْءٌ، مِنْهَا سَهْمٌ وَشَيْءٌ ثُلُثُ الْمَالِ، وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ثُلُثَاهُ، وَالثُّلُثُ يَعْدِلُ نِصْفَ الثُّلُثَيْنِ. فَإِذًا سَهْمٌ وَشَيْءٌ يَعْدِلُ سَهْمًا وَنِصْفَ سَهْمٍ، السَّهْمُ بِالسَّهْمِ، يَبْقَى شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ نِصْفِ سَهْمٍ، فَتَعْلَمُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمَضْمُومَ إِلَى السِّهَامِ الْأَرْبَعَةِ نِصْفُ سَهْمٍ. فَإِذَا بَسَطْنَاهَا أَنْصَافًا كَانَتْ تِسْعَةً. مَسْأَلَةٌ: ابْنٌ وَبِنْتٌ انْتَهَبَا التَّرِكَةَ، ثُمَّ رَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ رُبُعَ مَا انْتَهَبَ، فَوَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الْمِيرَاثِ، يَجْعَلُ مَا انْتَهَبَهُ الِابْنُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، وَمَا انْتَهَبَتْهُ الْبِنْتُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ. فَإِذَا رَدَّ الِابْنُ رُبُعَ مَا انْتَهَبَهُ، وَأَخَذَ مِنْهَا رُبُعَ مَا انْتَهَبَتْهُ، حَصَلَ فِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ وَدِينَارٌ، وَفِي يَدِهَا ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَشَيْءٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَقَّهُ ضِعْفُ حَقِّهَا، فَضِعْفُ مَا مَعَهَا مِثْلُ مَا مَعَهُ، وَضِعْفُ مَا مَعَهَا سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَشَيْئَانِ، تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَدِينَارًا، فَتُسْقِطُ دِينَارًا بِدِينَارٍ، وَشَيْئَيْنِ بِشَيْئَيْنِ، يَبْقَى خَمْسَةُ دَنَانِيرَ تَعْدِلُ شَيْئًا، فَعَرَفْنَا أَنَّ قِيمَةَ الشَّيْءِ خَمْسَةٌ، وَقِيمَةَ الدِّينَارِ وَاحِدٌ، وَجُمْلَةُ التَّرِكَةِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ وَأَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، مَا انْتَهَبَهُ الِابْنُ عِشْرُونَ، وَمَا انْتَهَبَتْهُ الْبِنْتُ أَرْبَعَةٌ. فَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهَا خَمْسَةً وَأَخَذَ مِنْهَا وَاحِدًا، كَانَ مَعَهُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَمَعَهَا ثَمَانِيَةٌ. وَتُعْرَفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَظَائِرُهَا بِ «مَسْأَلَةُ النُّهْبَى» .

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ [مِنَ] الْحِسَابِ، تَتَعَلَّقُ بِأَبْوَابٍ سَبَقَتْ أَحْكَامُهَا إِحْدَاهَا: سَبَقَ أَنَّ الْمَفْقُودَ إِذَا مَاتَ لَهُ قَرِيبٌ، [وَخَلَّفَ] وَرَثَةً أَيْضًا حَاضِرِينَ يُؤْخَذُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ بِالْأَسْوَإِ مِنْ حَيَاةِ الْمَفْقُودِ وَمَوْتِهِ فِي إِسْقَاطِهِ وَفِي دَفْعِ الْأَقَلِّ إِلَيْهِ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْأَقَلِّ: أَنْ تُصَحِّحَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى تَقْدِيرَيْ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ، وَتَضْرِبَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى إِنْ لَمْ تَتَوَافَقَا، فَإِنْ تَوَافَقَتَا ضَرَبْتَ وَفْقَ إِحْدَاهُمَا فِي جَمِيعِ الْأُخْرَى، ثُمَّ كُلُّ مَنْ وَرِثَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَضْرِبُ مَا يَرِثُهُ مَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِي الْأُخْرَى، أَوْ [فِي] وَفْقِهَا، وَتَصْرِفُ إِلَيْهِ الْأَقَلَّ مِمَّا حَصَلَ مِنَ الضَّرْبَيْنِ. مِثَالُهُ: أُخْتَانِ لِأَبٍ، وَعَمٌّ، وَزَوْجٌ مَفْقُودٌ. فَإِنْ كَانَ حَيًّا، فَهِيَ مِنْ سَبْعَةٍ، وَإِلَّا فَمِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَهُمَا، فَتَضْرِبُ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ، يَبْلُغُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ لِلْأُخْتَيْنِ [مِنْ] مَسْأَلَةِ الْحَيَاةِ أَرْبَعَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ، وَمِنْ مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ سَهْمَانِ فِي سَبْعَةٍ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَيُصْرَفُ إِلَيْهِمَا اثْنَا عَشَرَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي، فَإِنْ عُرِفَ حَيَاةُ الزَّوْجِ، دُفِعَ إِلَيْهِ، وَإِنْ عُرِفَ مَوْتُهُ، فَسَهْمَانِ مِنَ الْمَوْقُوفِ لِلْأُخْتَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ. أُمٌّ، وَزَوْجٌ، وَأُخْتَانِ لِأَبٍ، وَابْنٌ مَفْقُودٌ. فَإِنْ كَانَ حَيًّا، فَالْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، عَالَتْ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، وَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِالرُّبُعِ، فَتَضْرِبُ رُبُعَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، لِلْأُمِّ [مِنْ] مَسْأَلَةِ الْحَيَاةِ سَهْمَانِ مَضْرُوبَانِ فِي وَفْقِ مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ، تَكُونُ أَرْبَعَةً، وَمِنْ مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ سَهْمٌ فِي وَفْقِ مَسْأَلَةِ الْحَيَاةِ، تَكُونُ ثَلَاثَةً فَتُعْطَى ثَلَاثَةً، وَلِلزَّوْجِ مِنَ الْحَيَاةِ ثَلَاثَةٌ فِي وَفْقِ الْمَوْتِ، تَكُونُ سِتَّةً، وَمِنَ الْمَوْتِ ثَلَاثَةٌ فِي وَفْقِ الْحَيَاةِ، تَكُونُ تِسْعَةً، فَيُعْطَى سِتَّةً، وَيُوقَفُ الْبَاقِي. وَ [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: طَرِيقُ تَصْحِيحِ مَسَائِلِ الْخُنْثَى عَلَى جَمِيعِ الْحَالَاتِ،

وَطَلَبُ الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ: أَنْ تُقِيمَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى جَمِيعِ الْحَالَاتِ. فَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى وَاحِدًا، فَلَهُ حَالَانِ. إِمَّا ذَكَرٌ، وَإِمَّا أُنْثَى. وَإِنْ كَانَ خُنْثَيَانِ، فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، لِأَنَّهُمَا ذَكَرَانِ أَوْ أُنْثَيَانِ، أَوْ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَلِثَلَاثَةِ خَنَاثَى أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ، فَإِذَا ضَبَطْتَ أَصْلَ كُلِّ حَالٍ، فَخُذِ اثْنَيْنِ مِنْهَا، وَانْظُرْ أَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ، أَمْ مُتَدَاخِلَانِ، أَمْ مُتَوَافِقَانِ، أَمْ مُتَبَايِنَانِ؟ وَاعْمَلْ فِيهِمَا عَمَلَكَ عِنْدَ الِانْكِسَارِ عَلَى فَرِيقَيْنِ، ثُمَّ قَابِلِ الْحَاصِلَ مَعَكَ بِأَصْلٍ ثَالِثٍ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى آخِرِهَا، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ صَاحِبُ فَرْضٍ، صَحَّتْ مِمَّا عِنْدَكَ، وَإِنْ كَانَ ضَرَبْتَهُ مِنْ مُخْرَجِ الْفَرْضِ ثُمَّ قَسَمْتَ. مِثَالُهُ: وَلِدَانِ خُنْثَيَانِ إِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْنِ. أَوْ أُنْثَيَيْنِ فَمِنْ ثَلَاثَةٍ، وَكَذَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، فَتُسْقِطُ أَحَدَ الثَّلَاثَتَيْنِ، وَتَضْرِبُ الْأُخْرَى فِي اثْنَيْنِ، تَبْلُغُ سِتَّةً، تُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ. زَوْجٌ، وَوَلَدَانِ خُنْثَيَانِ، تَضْرِبُ السِّتَّةَ الَّتِي صَحَّتْ مِنْهَا مَسْأَلَتُهُمَا عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا فِي مُخْرَجِ الرُّبُعِ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجِ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةٌ، لِاحْتِمَالِ أُنُوثَتِهِ وَذُكُورَةِ الْآخَرِ. ابْنٌ، وَوَلَدَانِ خُنْثَيَانِ، إِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ، فَمِنْ ثَلَاثَةٍ. أَوْ أُنْثَيَيْنِ، فَمِنْ أَرْبَعَةٍ. أَوْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَمِنْ خَمْسَةٍ، وَكُلُّهَا مُتَبَايِنَةٌ، فَتَضْرِبُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، تَبْلُغُ سِتِّينَ، لِلِابْنِ عِشْرُونَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اثْنَا عَشَرَ، لِاحْتِمَالِ أُنُوثَتِهِ وَذُكُورَةِ الْآخَرِ. قُلْتُ: ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ خَنَاثَى، إِنْ كَانُوا ذُكُورًا، فَمِنْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ إِنَاثًا تَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ، أَوْ ذَكَرًا وَأُنْثَيَيْنِ، فَمِنْ أَرْبَعَةٍ، أَوْ عَكْسُهُ، فَمِنْ خَمْسَةٍ، وَالثَّلَاثَةُ دَاخِلَةٌ فِي التِّسْعَةِ، فَتَضْرِبُ الْأَعْدَادَ الثَّلَاثَةَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، تَبْلُغُ مِائَةً وَثَمَانِينَ، مِنْهَا تَنْقَسِمُ، تُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ سَهْمًا مِنْ خَمْسَةٍ فِي أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ فِي تِسْعَةٍ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ. فَإِنْ بَانَ وَاحِدٌ أُنْثَى لَمْ تَرُدَّهُ؛ لِبَقَاءِ الِاحْتِمَالِ، وَتَزِيدُ صَاحِبَيْهِ كُلَّ وَاحِدٍ تَمَامَ أَرْبَعِينَ إِذْ أَسْوَأُ

أَحْوَالِهِمَا أَنْ يَكُونَا أُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ بَانَ أَحَدُ الْآخَرَيْنِ أُنْثَى لَمْ تَزِدْهُمَا، وَتَزِيدُ الْأَوَّلَ تَمَامَ الْأَرْبَعِينَ. فَإِنْ بَانَ الثَّالِثُ أُنْثَى، فَلَا زِيَادَةَ لَهُنَّ. وَإِنْ بَانَ ذَكَرًا تُمِّمَ لَهُ تِسْعُونَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: فِي تَصْحِيحِ مَسَائِلِ الْحَمْلِ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ أَرْبَعَةٌ، وَأَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ كَالْأَوْلَادِ، يَأْخُذُ مَعَ الْحَمْلِ شَيْئًا، فَتُقَامُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى تَقْدِيرِ وَلَدٍ وَاحِدٍ، وَلَهُ حَالَانِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، وَعَلَى تَقْدِيرِ وَلَدَيْنِ، وَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثَلَاثَةٍ، وَلَهُمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَرْبَعَةٍ، وَلَهُمْ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْأَعْدَادِ، وَيُكْتَفَى مِمَّا تَمَاثَلَ بِوَاحِدٍ، وَمِمَّا تَدَاخَلَ بِالْأَكْثَرِ، وَمِمَّا تَوَافَقَ بِجُزْءِ الْوَفْقِ، وَتَتْرُكُ الْمُتَبَايِنَةَ بِحَالِهَا، وَتَضْرِبُ مَا حَصَلَ مِنَ الْأَعْدَادِ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، فَمَا بَلَغَ صَحَّتْ مِنْهُ الْقِسْمَةُ، وَيُعْطَى الْمَوْجُودُ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَضَرِّ. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: فِي تَصْحِيحِ مَسَائِلِ الِاسْتِهْلَالِ. فَإِذَا مَاتَ عَنِ ابْنٍ وَزَوْجَةٍ حَامِلٍ، فَوَلَدَتِ ابْنًا وَبِنْتًا، وَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا فَوُجِدَا مَيِّتَيْنِ، وَلَمْ يُعْلَمِ الْمُسْتَهِلُّ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يُعْطَى كُلُّ وَارِثٍ أَقَلَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ يُقَالَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تَصِحُّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ إِنْ [كَانَ] الْمُسْتَهِلُّ هُوَ الِابْنَ، لِلزَّوْجَةِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ، وَمَسْأَلَةُ الِابْنِ الْمُسْتَهِلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالسَّبْعَةُ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَلَا تُوَافِقُهَا، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةَ عَشَرَ، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ سِتَّةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِلْأُمِّ مِنْهَا سَبْعَةٌ، وَلِلْأَخِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَيَجْتَمِعُ لِلْأُمِّ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلِلْأَخِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ. وَإِنْ كَانَتِ الْبِنْتُ هِيَ الْمُسْتَهِلَّةَ، فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْبِنْتِ مِنْهَا سَبْعَةٌ، وَمَسْأَلَتُهَا مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا تَصِحُّ السَّبْعَةُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَلَا تُوَافِقُهَا، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، تَبْلُغُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ،

لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ تِسْعَةٌ، وَلِلِابْنِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَلِلْبِنْتِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِلْأُمِّ مِنْهَا سَبْعَةٌ، وَلِلْأَخِ الْبَاقِي، فَيَجْتَمِعُ لِلْأُمِّ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْأَخِ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ وَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِالثُّمُنِ، فَتَرُدُّ مَا صَحَّتْ مِنْهُ مَسْأَلَةُ الْبِنْتِ وَهُوَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ إِلَى ثُمُنِهَا وَهُوَ تِسْعَةٌ لِلْأُمِّ مِنْهَا سَهْمَانِ، وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ. فَانْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِهْلَالِ الِابْنِ صَحَّتْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَصَحَّتْ مَسْأَلَةُ الْبِنْتِ مِنْ تِسْعَةٍ، وَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِالثُّلُثِ، فَتَضْرِبُ ثُلُثَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ تَبْلُغُ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ، مِنْهَا تَصِحُّ فِي الْحَالَيْنِ لِلْأُمِّ بِتَقْدِيرِ اسْتِهْلَالِ الِابْنِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَبِتَقْدِيرِ اسْتِهْلَالِ الْبِنْتِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، فَتُعْطَى الْأَقَلَّ، وَلِلِابْنِ بِتَقْدِيرِ اسْتِهْلَالِ الِابْنِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ، وَبِتَقْدِيرِ اسْتِهْلَالِ الْبِنْتِ مِائَةٌ وَاثْنَيْ عَشَرَ، فَتُعْطَى الْأَقَلَّ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ بَيْنَهُمَا. فَرْعٌ لِابْنِ الْحَدَّادِ مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ وَأَخَوَيْنِ، فَوَلَدَتِ ابْنًا، ثُمَّ صُودِفَ مَيِّتًا، فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: انْفَصَلَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ نُظِرَ إِنْ صَدَّقَاهَا، فَهَذَا رَجُلٌ خَلَّفَ زَوْجَةً وَابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ وَخَلَّفَ أُمًّا وَعَمَّيْنِ، فَتَصِحَّانِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ. وَإِنْ كَذَّبَاهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ يَمِينِهِمَا، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ. وَإِنْ صَدَّقَهَا أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهَا الْآخَرُ، حَلَفَ الْمُكَذِّبُ وَأَخَذَ تَمَامَ حَقِّهِ لَوْ كَذَّبَاهَا، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَالْبَاقِيَ وَهُوَ خَمْسَةٌ يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُصَدِّقِ وَالزَّوْجَةِ عَلَى النِّسْبَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ نَصِيبَيْهِمَا لَوْ صَدَّقَاهَا، وَذَلِكَ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّ الْمُكَذِّبَ ظَالِمٌ يَأْخُذُ الزِّيَادَةَ، فَكَأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنَ التَّرِكَةِ، وَنَصِيبُ الزَّوْجَةِ لَوْ صَدَّقَاهَا عَشَرَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، ثَلَاثَةٌ مِنَ الزَّوْجِ، وَسَبْعَةٌ مِنْ الِابْنِ، وَنَصِيبُ الْعَمِّ سَبْعَةٌ، فَالْخَمْسَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، وَهِيَ غَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ، فَتَضْرِبُ سَبْعَةَ عَشَرَ

فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ تَبْلُغُ مِائَةً وَسِتَّةً وَثَلَاثِينَ، لِلْمُكَذِّبِ ثَلَاثَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِيمَا ضَرَبْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَكُونُ أَحَدًا وَخَمْسِينَ، وَالْبَاقِيَ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ تُقْسَمُ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، يَكُونُ لِكُلِّ سَهْمٍ خَمْسَةٌ، فَلَهَا بِعَشَرَةٍ خَمْسُونَ، وَلَهُ بِسَبْعَةٍ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَقَدْ زَادَ نَصِيبُ الْمُكَذِّبِ عَلَى نَصِيبِ الْمُصَدِّقِ بِسِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَكِنْ وَلَدَتْ بِنْتًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ تَخْرِيجًا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: إِنْ صَدَّقَاهَا صَحَّتِ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ. وَإِنْ كَذَّبَاهَا فَمِنْ ثَمَانِيَةٍ. وَإِنْ صَدَّقَهَا أَحَدُهُمَا، فَمِنْ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ. [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ: فِي حِسَابِ مَسَائِلِ الرَّدِّ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: الرَّدُّ نَقِيضُ الْعَوْلِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ يَنْقُصُ السِّهَامَ عَنْ سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْعَوْلُ يَزِيدُ عَلَيْهَا، ثُمَّ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ مَنْ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ شَخْصًا وَاحِدًا فَجَمِيعُ الْمَالِ لَهُ فَرْضًا وَرَدًّا. وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ صِنْفٍ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا. وَإِنْ كَانُوا صِنْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، جُعِلَ عَدَدُ سِهَامِهِمْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ كَأَنَّهُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَعَدَدُ سِهَامِ كُلِّ صِنْفٍ وَعَدَدُ رُءُوسِهِمْ، إِنِ انْقَسَمَ عَلَيْهِمْ، فَذَاكَ، وَإِلَّا صُحِّحَ بِطَرِيقِهِ. مِثَالُهُ: أُمٌّ، وَبِنْتٌ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ، وَسِهَامُهَا أَرْبَعَةٌ، فَنَجْعَلُ الْمَسْأَلَةَ مِنْهَا. أُمٌّ، وَبِنْتٌ، وَبِنْتُ ابْنٍ، مَجْمُوعُ سِهَامِهِنَّ خَمْسَةٌ، فَنَجْعَلُهَا أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ ثَلَاثُ بَنَاتِ ابْنٍ ضَرَبْنَا عَدَدَهُنَّ فِي خَمْسَةٍ، تَبْلُغُ خَمْسَةَ عَشَرَ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْبِنْتِ تِسْعَةٌ، وَلِبَنَاتِ الِابْنِ ثَلَاثَةٌ. الْحَالُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ دُفِعَ إِلَيْهِ فَرْضُهُ مِنْ مُخْرَجِهِ، وَجُعِلَ الْبَاقِي لِمَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ شَخْصًا أَوْ جَمَاعَةً مِنْ صِنْفٍ. فَإِنْ كَانُوا صِنْفَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَخُذْ مُخْرَجَ فُرُوضِهِمْ وَسِهَامِهِمْ مِنْهُ، وَانْظُرْ فِي الْبَاقِي مِنْ مُخْرَجِ [فَرْضِ] مَنْ لَا رَدَّ عَلَيْهِ، فَمَا بَلَغَ جَعَلْتَهُ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ وَقَعَ كَسْرٌ صُحِّحَ بِطَرِيقِهِ.

مِثَالُهُ: زَوْجَةٌ، وَأُمٌّ، لَهَا الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي لِلْأُمِّ. زَوْجٌ، وَسِتُّ بَنَاتٍ، لَهُ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي لَا يَصِحُّ عَلَيْهِنَّ، وَيَتَوَافَقَانِ بِالثُّلُثِ، فَتَضْرِبُ وَفْقَ عَدَدِهِنَّ فِي أَرْبَعَةٍ، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةً، مِنْهَا تَصِحُّ. زَوْجَةٌ، وَأُمٌّ، وَثَلَاثُ بَنَاتٍ، مُخْرَجُ فَرْضِ الزَّوْجَةِ ثَمَانِيَةٌ، وَمَسْأَلَةُ الْأُمِّ وَالْبَنَاتِ مِنْ سِتَّةٍ، وَسِهَامُهُنَّ خَمْسَةٌ، وَالسَّبْعَةُ الْبَاقِيَةُ لَا تَصِحُّ عَلَى خَمْسَةٍ وَلَا تُوَافِقُهَا، فَتَضْرِبُ خَمْسَةً فِي ثَمَانِيَةٍ، تَبْلُغُ أَرْبَعِينَ، لِلزَّوْجَةِ خَمْسَةٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُنَّ أَخْمَاسًا، لِلْأُمِّ سَبْعَةٌ، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ لَا تَصِحُّ عَلَى ثَلَاثَةٍ، تَضْرِبُ الثَّلَاثَةَ فِي أَرْبَعِينَ، تَبْلُغُ مِائَةً وَعِشْرِينَ، مِنْهَا تَصِحُّ. فَرْعٌ بَاعَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ جَمِيعَ نَصِيبِهِ لِلْبَاقِينَ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ، قُدِّرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَقُسِّمَ الْمَالُ عَلَى الْبَاقِينَ. مِثَالُهُ: زَوْجٌ، وَابْنٌ، وَبِنْتٌ بَاعَ الزَّوْجُ نَصِيبَهُ لَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا فَكَأَنَّهُ لَا زَوْجَ، وَتُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَلَوْ بَاعَ بَعْضَ نَصِيبِهِ، جَعَلْتَ الْمَسْأَلَةَ مِنْ عَدَدٍ يُوجِدُ نَصِيبُ الْبَائِعِ مِنْهُ الْجُزْءَ الْمَبِيعَ، وَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ عَلَى الْبَاقِينَ. مِثَالُهُ: بَاعَ الزَّوْجُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ نِصْفَ نَصِيبِهِ، تَجْعَلُ الْمَسْأَلَةَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِيَكُونَ لِنَصِيبِهِ مِنْهَا وَهُوَ الرُّبُعُ نِصْفٌ، لَكِنَّ نِصْفَ رُبُعِ الثَّمَانِيَةِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى الِابْنِ وَالْبِنْتِ أَثْلَاثًا، فَتُضْرَبُ الثَّمَانِيَةُ فِي مُخْرَجِ الثَّلَاثِ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْبِنْتِ سَبْعَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ.

الْبَابُ الْعَاشِرُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُلَقَّبَاتِ وَمَسَائِلِ الْمُعَايَاةِ وَالْقَرَابَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ. [الْفَصْلُ] الْأَوَّلُ: فِي الْمُلَقَّبَاتِ. مِنْهَا: الْمُشَرَّكَةُ، وَالْخَرْقَاءُ، وَالْأَكْدَرِيَّةُ، وَأُمُّ الْفَرُّوخِ، وَأُمُّ الْأَرَامِلِ، وَالصَّمَّاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُنَّ. وَمِنْهَا: مُرَبَّعَاتُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُنَّ: بِنْتٌ، وَأُخْتٌ، وَجَدٌّ. قَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً. وَزَوْجَةٌ، وَأُمٌّ، وَجَدٌّ، وَأَخٌ، جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا. وَزَوْجَةٌ، وَأُخْتٌ، وَجَدٌّ. قَالَ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. فَالصُّوَرُ كُلُّهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالْأَخِيرَةُ تُسَمَّى: مُرَبَّعَةَ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ جَعَلُوهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ. وَمِنْهَا: الْمُثَمَّنَةُ، وَهِيَ: زَوْجَةٌ، وَأُمٌّ، وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ، وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ، وَوَلَدٌ لَا يَرِثُ لِرِقٍّ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ فِيهَا ثَمَانِيَةَ مَذَاهِبَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، هِيَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تَفْرِيعًا عَلَى إِنْكَارِ الْعَوْلِ: أَنَّ الْفَاضِلَ عَنْ فَرْضِ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَوَلَدَيِ الْأُمِّ، لِوَلَدَيِ الْأَبَوَيْنِ، فَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ. وَعَنْهُ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ الْفَاضِلَ عَنِ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ، بَيْنَ وَلَدَيِ الْأُمِّ وَوَلَدَيِ الْأَبَوَيْنِ، فَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ. وَعَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْأُمَّ لَا تُحْجَبُ إِلَّا بِأُخُوَّةٍ، فَتَعُولُ إِلَى تِسْعَةَ عَشَرَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِسْقَاطُ وَلَدَيِ الْأُمِّ [وَعَنْهُ: إِسْقَاطُ وَلَدَيِ الْأَبَوَيْنِ، وَعَنْهُ:

إِسْقَاطُ الصِّنْفَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَعَنْهُ] وَهُوَ الْأَشْهَرُ: أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْأَوْلَادِ، يَحْجُبُ الزَّوْجَةَ وَالْأُمَّ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتَعُولُ إِلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ، وَتُسَمَّى [لِذَلِكَ] : ثَلَاثِينِيَّةَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمِنْهَا: تِسْعِينِيَّةُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهِيَ: أُمٌّ، وَجَدٌّ، وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ، وَأَخَوَانِ، وَأُخْتٌ لِأَبٍ، هِيَ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَصْلًا أَوْ ضَرْبًا، لِلْأُمِّ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدِّ خَمْسَةٌ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبَوَيْنِ تِسْعَةٌ، يَبْقَى سَهْمٌ عَلَى خَمْسَةٍ، فَتَضْرِبُهُمْ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَبْلُغُ تِسْعِينَ، مِنْهَا تَصِحُّ. وَمِنْهَا: النِّصْفِيَّةُ، وَهِيَ: زَوْجٌ، وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْفَرَائِضِ شَخْصَانِ يَرِثَانِ نِصْفَيِ الْمَالِ فَرْضًا إِلَّا هُمَا، وَرُبَّمَا سُمِّيَتِ الصُّورَتَانِ: يَتِيمَتَيْنِ. وَمِنْهَا: الْعُمَرِيَّتَانِ، وَهُمَا: زَوْجٌ، وَأَبَوَانِ، أَوْ زَوْجَةٌ، وَأَبَوَانِ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَضَى فِيهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمِنْهَا: مُخْتَصَرَةُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهِيَ: أُمٌّ، وَجَدٌّ، وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ، وَأَخٌ، وَأُخْتٌ لِأَبٍ ; لِأَنَّهَا تَعْمَلُ تَارَةً بِالْبَسْطِ، فَيُقَالُ: هِيَ مِنْ سِتَّةٍ، لِلْأُمِّ سَهْمٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْأُخْتَيْنِ عَلَى سِتَّةٍ، فَتَضْرِبُ سِتَّةً فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَيَبْقَى بَعْدَ الْقِسْمَةِ سَهْمَانِ لِوَلَدَيِ الْأَبِ لَا يَصِحَّانِ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، تَبْلُغُ مِائَةً وَثَمَانِيَةً، وَالسِّهَامُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ تَتَوَافَقُ بِالْأَنْصَافِ، فَتَرُدَّهَا إِلَى أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ. وَتَارَةً بِالِاخْتِصَارِ فَيُقَالُ: الْمُقَاسَمَةُ وَثُلُثُ الْبَاقِي سَوَاءٌ لِلْجَدِّ، فَتَقْسِمُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، يَبْقَى سَهْمٌ لَا يَصِحُّ عَلَى وَلَدَيِ الْأَبِ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ. وَمِنْهَا: مَسْأَلَةُ الِامْتِحَانِ: وَهِيَ: أَرْبَعُ نِسْوَةٍ: وَخَمْسُ جَدَّاتٍ، وَسَبْعُ بَنَاتٍ، وَتِسْعَةُ إِخْوَةٍ لِأَبٍ، هِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ.

قُلْتُ: سُمِّيَتْ بِالِامْتِحَانِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: وَرَثَةٌ لَا تَبْلُغُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَشَرَةً، لَمْ تَصِحَّ مَسْأَلَتُهُمْ مِنْ أَقَلَّ مِنْ كَذَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهَا: الْغَرَّاءُ، هِيَ: زَوْجٌ، وَأُخْتَانِ لِأَبٍ، وَوَلَدَا أُمٍّ، وَتُسَمَّى: مَرْوَانِيَّةً، لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهَا وَقَعَتْ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَاشْتُهِرَتْ فِي النَّاسِ فَسُمِّيَتْ: غَرَّاءَ. وَمِنْهَا: الْمَرْوَانِيَّةُ الْأُخْرَى، وَهِيَ: زَوْجَةٌ وَرِثَتْ مِنْ زَوْجِهَا دِينَارًا وَدِرْهَمًا، وَالتَّرِكَةُ عِشْرُونَ دِينَارًا وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، يُقَالُ: [إِنَّ] عَبْدَ الْمَلِكِ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: صُورَتُهَا أُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ، وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ، وَأَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، لِلزَّوْجَاتِ خُمُسُ الْبَابِ بِسَبَبِ الْعَوْلِ، وَالْخُمُسُ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، لِكُلِّ زَوْجَةٍ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ. وَمِنْهَا: مَسَائِلُ الْمُبَاهَلَةِ، وَهِيَ مَسَائِلُ الْعَوْلِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَعُولُ. وَمِنْهَا: النَّاقِضَةُ، وَهِيَ: زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ ; لِأَنَّهَا تَنْقُضُ أَحَدَ أَصْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، إِنْ أَعْطَاهَا الثُّلُثَ لَزِمَ الْعَوْلُ. وَإِنْ أَعْطَاهَا السُّدُسَ لَزِمَ الْحَجْبُ بِأَخَوَيْنِ وَهُوَ يَمْنَعُ الْحُكْمَيْنِ، لَكِنْ قِيلَ: إِنَّ الصَّحِيحَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَخَوَيْنِ. وَمِنْهَا: الدِّينَارِيَّةُ، وَهِيَ: زَوْجَةٌ، وَأُمٌّ، وَبِنْتَانِ، وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا، وَأُخْتٌ، وَالتَّرِكَةُ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ، خَصَّ الْأُخْتَ دِينَارٌ مِنْهَا. يُرْوَى أَنَّهَا جَاءَتْ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُتَظَلِّمَةً فَقَالَ: قَدِ اسْتَوْفَيْتِ حَقَّكِ. قُلْتُ: وَيُرْوَى أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَرَكَ أَخِي سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ، أُعْطِيتُ دِينَارًا، فَقَالَ: لَعَلَّ أَخَاكِ تَرَكَ زَوْجَةً. . .، وَذَكَرَ الْبَاقِينَ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَّهَا تُسَمَّى: الْعَامِرِيَّةَ، وَأَنَّ الْأُخْتَ سَأَلَتْ عَامِرًا الشَّعْبِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -[عَنْهَا] ، فَأَجَابَ بِمَا ذَكَرْنَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهَا: الْمَأْمُونِيَّةُ، وَهِيَ: أَبَوَانِ، وَبِنْتَانِ لَمْ تُقَسَّمِ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ، وَتَرَكَتِ الْبَاقِينَ، سَأَلَ الْمَأْمُونُ عَنْهَا يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ فَقَالَ: الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ رَجُلٌ، أَمِ امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ الْمَأْمُونُ: إِذَا عَرَفْتَ الْفَرْقَ عَرَفْتَ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا، فَالْأَبُ وَارِثٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ أَبُو أُمٍّ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْمُعَايَاةِ قَالَتْ حُبْلَى لِقَوْمٍ يُقَسِّمُونَ تَرِكَةً: لَا تَعَجَّلُوا فَإِنِّي حُبْلَى، إِنْ وَلَدْتُ ذَكَرًا وَرِثَ، وَإِنْ وَلَدْتُ أُنْثَى لَمْ تَرِثْ. وَإِنْ وَلَدْتُ ذَكَرًا وَأُنْثَى وَرِثَ الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى، هَذِهِ زَوْجَةُ كُلِّ عَصَبَةٍ سِوَى الْأَبِ وَالِابْنِ. وَلَوْ قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ ذَكَرًا، أَوْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَرِثَا، وَإِنْ وَلَدْتُ أُنْثَى لَمْ تَرِثْ فَهِيَ زَوْجَةُ الْأَبِ، وَفِي الْوَرَثَةِ أُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ، أَوْ زَوْجَةُ الِابْنِ، وَفِي الْوَرَثَةِ بِنْتَا صُلْبٍ. وَلَوْ قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ ذَكَرًا لَمْ يَرِثْ، وَإِنْ وَلَدْتُ أُنْثَى وَرِثَتْ، فَهِيَ زَوْجَةُ الِابْنِ، وَالْوَرَثَةُ الظَّاهِرُونَ: زَوْجٌ، وَأَبَوَانِ، وَبِنْتٌ أَوْ زَوْجَةُ الْأَبِ. وَالْوَرَثَةُ الظَّاهِرُونَ: زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ. وَلَوْ قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لَمْ تَرِثْ، وَإِنْ وَلَدْتُهُمَا وَرِثَا، فَهِيَ زَوْجَةُ الْأَبِ، وَقَدْ مَاتَ الْأَبُ قَبْلَهُ. وَالْوَرَثَةُ الظَّاهِرُونَ: أُمٌّ، وَجَدٌّ، وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ. نَوْعٌ آخَرُ: قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ ذَكَرًا، وَرِثَ وَوَرِثْتُ. وَإِنْ وَلَدْتُ أُنْثَى لَمْ تَرِثْ وَلَا أَرِثُ، فَهِيَ بِنْتُ ابْنِ الْمَيِّتِ، وَزَوْجَةُ ابْنِ ابْنٍ لَهُ آخَرَ، وَهُنَاكَ بِنْتَا صُلْبٍ. وَلَوْ قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ ذَكَرًا، لَمْ يَرِثْ وَلَمْ أَرِثْ، وَإِنْ وَلَدْتُ أُنْثَى، وَرِثْنَا،

فَهِيَ بِنْتُ ابْنِ ابْنِ الْمَيِّتَةِ، وَزَوْجَةُ ابْنِ ابْنٍ آخَرَ. وَالْوَرَثَةُ الظَّاهِرُونَ: زَوْجٌ، وَأَبَوَانِ، وَبِنْتُ ابْنٍ. وَلَوْ قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ ذَكَرًا، فَلِيَ الثُّمُنُ وَلَهُ الْبَاقِي، أَوْ أُنْثَى فَالْمَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا سَوَاءٌ، وَإِنْ أَسَقَطْتُ مَيِّتًا فَالْمَالُ كُلُّهُ لِي، فَهِيَ امْرَأَةٌ أَعَتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ فَمَاتَ وَهِيَ حُبْلَى مِنْهُ. نَوْعٌ آخَرُ: قَالَ رَجُلٌ: لَا تَعَجَّلُوا، فَامْرَأَتِي غَائِبَةٌ، إِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً وَرِثْتُ أَنَا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَرِثَتْ وَلَمْ أَرِثْ، فَهَذَا أَخُو الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ، وَزَوْجَتُهُ الْغَائِبَةُ أُخْتُ الْمَيِّتِ لِأُمِّهِ وَلَهُ مَعَهَا أُمٌّ وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَتْ حَيَّةً، وَرِثْتُ دُونَهَا، أَوْ مَيِّتَةً، فَلَا شَيْءَ لَنَا، هِيَ امْرَأَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ، وَجَدٍّ، وَأُخْتٍ لِأُمٍّ، وَأَخٍ لِأَبٍ قَدْ نَكَحَهَا، وَهِيَ الْغَائِبَةُ. نَوْعٌ آخَرُ: امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا، أَخَذَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَالِ، وَأُخْرَى وَزَوْجُهَا أَخَذَا الرُّبُعَ، صُورَتُهُ: أُخْتٌ لِأَبٍ، وَأُخْرَى لِأُمٍّ وَابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، وَالَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ، زَوْجُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ، وَالْآخِرُ زَوْجُ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ، فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ النِّصْفُ، وَلِلْأَخِ وَلِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ ابْنَيِ الْعَمِّ. زَوْجَانِ أَخَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَآخَرَانِ ثُلُثَيْهِ، صُورَتُهُ: أَبَوَانِ، وَبِنْتُ ابْنٍ فِي نِكَاحِ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ آخَرَ. رَجُلٌ وَابْنَتُهُ وَرِثَا مَالًا نِصْفَيْنِ، صُورَتُهُ: مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ هُوَ ابْنُ عَمٍّ وَبِنْتٌ مِنْهُ. رَجُلٌ وَزَوْجَتَاهُ وَرِثُوا الْمَالَ أَثْلَاثًا، صُورَتُهُ: بَنَتَا ابْنَيْنِ فِي نِكَاحِ ابْنِ أَخٍ، أَوِ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ [ابْنُ] زَوْجَةٍ، وَسَبْعَةُ إِخْوَةٍ لَهَا وَرِثُوا مَالًا بِالسَّوِيَّةِ، صُورَتُهُ: نَكَحَ ابْنُ

رَجُلٍ أُمَّ امْرَأَتِهِ وَأَوْلَدَهَا سَبْعَةً، وَمَاتَ الرَّجُلُ بَعْدَ الِابْنِ عَنْ زَوْجَةٍ وَسَبْعَةِ بَنِي ابْنٍ، هُمْ إِخْوَتُهَا لِأُمٍّ، فَلَهَا الثُّمُنُ، وَلَهُمُ الْبَاقِي. نَوْعٌ آخَرُ: امْرَأَةٌ وَرِثَتْ أَرْبَعَةَ أَزْوَاجٍ، وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ، فَحَصَلَ لَهَا نِصْفُ أَمْوَالِهِمْ، هُمْ أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ لِأَبٍ، كَانَ لَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِينَارًا لِلْأَوَّلِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلثَّانِي سِتَّةٌ، وَلِلثَّالِثِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلرَّابِعِ دِينَارٌ. امْرَأَةٌ وَرِثَتْ خَمْسَةَ أَزْوَاجٍ، فَحَصَلَ لَهَا نِصْفُ أَمْوَالِهِمْ، هُمْ خَمْسَةُ إِخْوَةٍ لَهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِينَارًا لِلْأَوَّلِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلثَّانِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلِلثَّالِثِ تِسْعَةٌ، وَلِلرَّابِعِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْخَامِسِ سَبْعَةٌ. فَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً، وَوَرِثَتِ النِّصْفَ، فَهُمْ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ، لَهُمْ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ، لِلْأَوَّلِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلثَّانِي ثَمَانِيَةٌ، وَلِلثَّالِثِ دِينَارَانِ. نَوْعٌ آخَرُ: قَالَ صَحِيحٌ لِمَرِيضٍ: أَوْصِ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَرِثُنِي أَنْتَ وَأَخَوَاكَ وَأَبَوَاكَ وَعَمَّاكَ، فَالصَّحِيحُ أَخُو الْمَرِيضِ لِأُمِّهِ وَابْنُ عَمِّهِ، فَأَخَوَاهُ أَخَوَا الْمَرِيضِ لِأُمِّهِ، وَأَبَوَاهُ عَمُّ الْمَرِيضِ وَأُمُّهُ، وَعَمَّاهُ عَمَّا الْمَرِيضِ، وَالْحَاصِلُ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ لِأُمٍّ، وَأُمٌّ، وَثَلَاثَةُ أَعْمَامٍ. وَلَوْ قَالَ: يَرِثُنِي أَبَوَاكَ وَعَمَّاكَ وَخَالَاكَ، فَالصَّحِيحُ ابْنُ أَخِي الْمَرِيضِ لِأَبِيهِ، وَابْنُ أُخْتِهِ لِأُمِّهِ، وَلَهُ أَخَوَانِ آخَرَانِ لِأَبٍ، وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ. وَلَوْ قَالَ، يَرِثُنِي جَدَّتَاكَ وَأُخْتَاكَ وَزَوْجَتَاكَ وَبِنْتَاكَ، فَجَدَّتَا الصَّحِيحِ زَوْجَتَا الْمَرِيضِ، وَأُخْتَاهُ مِنَ الْأُمِّ أُخْتَا الْمَرِيضِ مِنَ الْأَبِ، وَزَوْجَتَا الصَّحِيحِ إِحْدَاهُمَا أُمُّ الْمَرِيضِ، وَالْأُخْرَى أُخْتُهُ لِلْأَبِ، وَبِنْتَا الصَّحِيحِ أُخْتَا الْمَرِيضِ مِنَ الْأُمِّ، وَلَدَتْهُمَا لَهُ أُمُّ الْمَرِيضِ. وَالْحَاصِلُ: زَوْجَتَانِ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ، وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ، وَأُمٌّ. وَلَوْ قَالَ: يَرِثُنِي زَوْجَتَاكَ، وَبِنْتَاكَ، وَأُخْتَاكَ، وَعِمَّتَاكَ، وَخَالَتَاكَ، فَزَوْجَتَا الصَّحِيحِ أُمُّ الْمَرِيضِ وَأُخْتُهُ لِأَبِيهِ، وَبِنْتَا الصَّحِيحِ أُخْتَا الْمَرِيضِ لِأُمِّهِ، وَأُخْتَا الصَّحِيحِ لِأُمِّهِ أُخْتَا الْمَرِيضِ لِأَبِيهِ،

وَعَمَّتَا الصَّحِيحِ إِحْدَاهُمَا لِأَبٍ وَالْأُخْرَى لِأُمٍّ، وَخَالَتَاهُ كَذَلِكَ، وَأَرْبَعُهُنَّ زَوْجَاتُ الْمَرِيضِ، فَالْحَاصِلُ: أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، وَأُمٌّ، وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ، وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ. نَوْعٌ آخَرُ: تَرَكَ سَبْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا عَلَى سَبْعَ عَشْرَةَ أُنْثَى، أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ دِينَارٌ، هِيَ أُمُّ الْأَرَامِلِ. تَرَكَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ أُنْثَى، أَصَابَ كُلَّ أُنْثَى دِينَارٌ، هِيَ ثَلَاثُ زَوْجَاتٍ، وَأَرْبَعُ جَدَّاتٍ، وَسِتَّ عَشْرَةَ بِنْتًا، وَأُخْتٌ لِأَبٍ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْقَرَابَاتِ الْمُشْتَبِهَةِ. رَجُلَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ عَمُّ الْآخَرِ، هُمَا رَجُلَانِ نَكَحَ كُلٌّ أُمَّ صَاحِبِهِ، فَوُلِدَ لِكُلٍّ ابْنٌ، فَكُلُّ ابْنٍ عَمُّ الْآخَرِ لِأُمِّهِ. رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ خَالُ الْآخَرِ، هُمَا رَجُلَانِ نَكَحَ كُلُّ وَاحِدٍ بِنْتَ الْآخَرِ، فَوُلِدَ لَهُمَا ابْنَانِ، فَكُلُّ ابْنٍ خَالُ الْآخَرِ. رَجُلَانِ، كُلٌّ عَمُّ أَبِي الْآخَرِ، صُورَتُهُ: نَكَحَ رَجُلَانِ كُلٌّ أُمَّ أَبِي الْآخَرِ، فَوُلِدَ لَهُمَا ابْنَانِ. رَجُلَانِ كُلٌّ عَمُّ أُمِّ الْآخَرِ، نَكَحَ كُلٌّ بِنْتَ ابْنِ الْآخَرِ، فَوُلِدَ لَهُمَا ابْنَانِ. رَجُلَانِ كُلٌّ خَالُ أَبِي الْآخَرِ، نَكَحَ كُلٌّ أُمَّ أُمِّ الْآخَرِ فَوَلَدَا ابْنَيْنِ. رَجُلَانِ كُلٌّ خَالُ أُمِّ الْآخَرِ، نَكَحَ كُلٌّ بِنْتَ بِنْتِ الْآخَرِ فَوَلَدَا ابْنَيْنِ. رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَمُّ الْآخَرِ، وَالْآخَرُ خَالُ الْأَوَّلِ، صُورَتُهُ: نَكَحَ امْرَأَةً وَابْنُهُ أُمَّهَا، فَوُلِدَ لِكُلٍّ ابْنٌ، فَابْنُ الْأَبِ [عَمُّ ابْنِ الِابْنِ] وَهُوَ خَالُ ابْنِ الْأَبِ. رَجُلٌ هُوَ عَمٌّ وَخَالٌ صُورَتُهُ: أَنْ يَنْكِحَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ أُخْتَ الْآخَرِ لِلْأُمِّ فَتَلِدَ ابْنًا، فَالْأَخُ الْآخَرُ عَمُّ الْمَوْلُودِ لِأَبِيهِ وَخَالُهُ لِأُمِّهِ. رَجُلٌ هُوَ عَمُّ أَبِيهِ وَعَمُّ أُمِّهِ، صُورَتُهُ: أَنْ يَنْكِحَ أَبُو أَبِي أَبِيهِ أُمَّ أَبِي أُمِّهِ، فَتَلِدَ ابْنًا، فَذَلِكَ الِابْنُ عَمُّ أَبِيهِ لِلْأَبِ، وَعَمُّ أُمِّهِ لِلْأُمِّ.

رَجُلٌ هُوَ خَالُ أَبِيهِ، وَخَالُ أُمِّهِ، صُورَتُهُ: أَنْ يَنْكِحَ أَبُو أُمِّ أُمِّهِ أُمَّ أُمِّ أَبِيهِ، فَتَلِدَ ابْنًا، فَالْأَبُ خَالُ أُمِّ الرَّجُلِ لِأَبِيهِ، وَخَالُ أَبِيهِ لِأُمِّهِ. رَجُلَانِ كُلٌّ ابْنُ عَمِّ الْآخَرِ وَابْنُ خَالِهِ، صُورَتُهُ: أَنْ يَنْكِحَ رَجُلَانِ كُلٌّ أُخْتَ الْآخَرِ فَيُولَدَ لَهُمَا ابْنَانِ. وَعَنْ حَرْمَلَةَ: أَنَّ رَجُلًا دَفَعَ رُقْعَةً إِلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهَا: رَجُلٌ مَاتَ وَخَلَّى رَجُلًا ابْنَ عَمِّ ابْنِ أَخِي عَمٍّ أَبِيهْ، فَكَتَبَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَسْفَلِهَا: صَارَ مَالُ الْمُتَوَفَّى كَمِلًا بِاتِّفَاقِ الْقَوْلِ لَا مِرْيَةَ فِيهْ لِلَّذِي خَبَّرْتَ عَنْهُ أَنَّهُ ابْنُ عَمِّ ابْنِ أَخِي عَمِّ أَبِيهْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ أَخِي عَمِّ الْأَبِ، هُوَ الْأَبُ، فَابْنُ عَمِّهِ هُوَ ابْنُ عَمِّ الْأَبِ. وَيُعْرَفُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ: وَرِثَ مِنَ الْمَيِّتِ خَالُ ابْنِ عَمَّتِهِ دُونَ أَخِيهِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ ; لِأَنَّ خَالَ ابْنِ الْعَمَّةِ هُوَ الْأَبُ وَالْأَعْمَامُ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْأَبُ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: وَرِثَ الْمَيِّتُ عَمَّةَ ابْنِ خَالِهِ دُونَ الْجَدَّةِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْأُمُّ. كُتِبَ هُنَا فِي الْأَصْلِ الْمَخْطُوطِ بِخَطِّ النَّاسِخِ مَا نَصُّهُ: تَمَّ الْجُزْءُ الثَّانِي مِنَ الرَّوْضَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ وَصَلَوَاتِهِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَدِ الْعَبْدِ الْفَقِيرِ الرَّاجِي عَفْوَ رَبِّهِ الْعَزِيزِ: عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ الْمُكَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ

كتاب الوصايا

كِتَابُ الْوَصَايَا يُقَالُ: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا، وَوَصَّيْتُ، وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ: إِذَا جَعَلْتَهُ وَصِيًّا. وَمَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَزَكَاةٍ، وَحَجٍّ، أَوْ دَيْنٍ لِآدَمِيٍّ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ غَيْرُهُ. قُلْتُ: الْمُرَادُ، إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مَنْ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ مَنْ لَهُ مَالٌ. وَتَعْجِيلُ الصَّدَقَةِ فِي الصِّحَّةِ ثُمَّ فِي الْحَيَاةِ أَفْضَلُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ لَا يَرِثُ مِنْ قَرَابَتِهِ، وَيُقَدِّمُ مِنْهُمُ الْمَحَارِمَ، ثُمَّ غَيْرَ الْمَحَارِمِ، ثُمَّ يُقَدِّمُ بِالرِّضَاعِ، ثُمَّ بِالْمُصَاهَرَةِ، ثُمَّ بِالْوَلَاءِ، ثُمَّ بِالْجِوَارِ، كَمَا فِي الصَّدَقَةِ الْمُنْجَزَةِ. وَفِي «أَمَالِي» السَّرَخْسِيِّ: أَنَّ مَنْ قَلَّ مَالُهُ، وَكَثُرَ عِيَالُهُ، يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُفَوِّتَهُ عَلَيْهِمْ بِالْوَصِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَيَشْتَمِلُ الْكِتَابُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ. [الْبَابُ] الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. [الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ: الْمُوصِي، وَهُوَ كُلُّ مُكَلَّفٍ حُرٍّ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمَجْنُونِ، وَالْمُبَرْسَمِ، وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ قَطْعًا، وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيَّزِ. وَتَدْبِيرُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَهِبَتِهِ وَإِعْتَاقِهِ، إِذْ لَا عِبَارَةَ لَهُ. وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ كَالصَّبِيِّ.

وَأَمَّا الْعَبْدُ، فَإِنْ أَوْصَى، وَمَاتَ رَقِيقًا فَبَاطِلَةٌ. وَإِنْ عَتَقَ، ثُمَّ مَاتَ، فَبَاطِلَةٌ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْمُكَاتَبُ كَالْقِنِّ وَكَالصَّبِيِّ. فَرْعٌ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْكَافِرِ بِمَا يُتَمَوَّلُ أَوْ يُقْتَنَى، وَلَا تَصِحُّ بِخَمْرٍ، وَلَا خِنْزِيرٍ، سَوَاءٌ أَوْصَى لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، وَلَا بِمَعْصِيَةٍ كَعِمَارَةِ كَنِيسَةٍ، أَوْ بِنَائِهَا، أَوْ كَتْبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، أَوْ قِرَاءَتِهِمَا، وَمَا أَشْبَهَهُمَا. الرُّكْنُ الثَّانِي الْمُوصَى لَهُ. فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ، فَشَرْطُهُ: أَنْ لَا تَكُونَ جِهَةَ مَعْصِيَةٍ وَسَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ، فَلَوْ وَصَّى مُسْلِمٌ بِبِنَاءِ بُقْعَةٍ لِبَعْضِ الْمَعَاصِي، لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَصَّى ذِمِّيٌّ بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ. فَرْعٌ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ الْوَصِيَّةُ لِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَلِعِمَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِحْيَاءِ الزِّيَارَةِ، وَالتَّبَرُّكِ بِهَا، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ لِفَكِّ أَسَارَى الْكُفَّارِ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْمُفَادَاةَ جَائِزَةٌ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ بِبِنَاءِ رِبَاطٍ يَنْزِلُهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ، أَوْ دَارٍ لِتُصْرَفَ غَلَّتُهَا إِلَيْهِمْ. فَرْعٌ عَدُّوا مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَعْصِيَةِ، مَا إِذَا أَوْصَى لِدَهْنِ سِرَاجِ الْكَنِيسَةِ، لَكِنْ قَيَّدَ

فصل

الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْمَنْعَ بِمَا إِذَا قَصَدَ تَعْظِيمَ الْكَنِيسَةِ. فَأَمَّا إِذَا قَصَدَ انْتِفَاعَ الْمُقِيمِينَ أَوِ الْمُجَاوِرِينَ بِضَوْئِهَا، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ. فَصْلٌ وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِمُعَيَّنٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَصَوَّرَ لَهُ الْمُلْكُ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الضَّبْطِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ جَائِزَةٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ فُلَانَةَ، أَوْ لِحَمْلِ فُلَانَةَ الْمَوْجُودِ الْآنَ، فَلَا بُدَّ لِنُفُوذِهَا مِنْ شَرْطَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْلَمَ وُجُودُهُ حَالَ الْوَصِيَّةِ، بِأَنْ يَنْفَصِلَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَلَوِ انْفَصَلَ لِسِتَّةٍ فَصَاعِدًا نُظِرَ إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لِزَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا، بَلْ فَارَقَهَا مُسْتَفْرِشُهَا قَبْلَ الْوَصِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ الِانْفِصَالُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. وَإِنِ انْفَصَلَ لِدُونِ ذَلِكَ، فَقَوْلَانِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُهُ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ فُلَانَةَ مِنْ زَيْدٍ اشْتُرِطَ مَعَ ذَلِكَ ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْ زَيْدٍ، حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ زَوَالِ الْفِرَاشِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْفِرَاقِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْوَصِيَّةِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ; لِأَنَّ النَّسَبَ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْهُ. وَلَوِ اقْتَضَى الْحَالُ ثُبُوتَ نَسَبِهِ مِنْ زَيْدٍ، فَنَفَاهُ بِاللِّعَانِ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورُ: لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: يَسْتَحِقُّ ; لِأَنَّ النَّسَبَ كَانَ ثَابِتًا، وَاللِّعَانُ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ أَوْصَى لَحَمْلِ أَمَةٍ مِنْ سَيِّدِهَا، فَادَّعَى سَيِّدُهَا الِاسْتِبْرَاءَ، وَرَأَيْنَاهُ نَافِيًا لِلنَّسَبِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَنْفَصِلَ حَيًّا، فَلَوِ انْفَصَلَ مَيِّتًا، فَلَا شَيْءَ لَهُ وَإِنِ انْفَصَلَ بِجِنَايَةٍ وَأَوْجَبْنَا الْغُرَّةَ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمِيرَاثِ. فَرْعٌ أَتَتْ بِوَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْأَوَّلِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا وَإِنْ زَادَ مَا بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالثَّانِي عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا؛ لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ. فَرْعٌ يَقْبَلُ الْوَصِيَّةَ لِلْحَمْلِ مَنْ يَلِي أَمْرَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ حَيًّا. وَإِنْ قَبِلَهَا قَبْلَ انْفِصَالِهِ، ثُمَّ انْفَصَلَ حَيًّا، فَعَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ قَوْلَانِ. كَمَنْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ حَيَاتِهِ فَبَانَ مَيِّتًا. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فِيمَا إِذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لِحَمْلِهَا، أَوْ لِحَمْلِهَا الْمَوْجُودِ. أَمَّا إِذَا قَالَ: لِحَمْلِهَا الَّذِي سَيَحْدُثُ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ، وَتَمْلِيكُ الْمَعْدُومِ مُمْتَنِعٌ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو مَنْصُورٍ، كَمَا تَصِحُّ بِالْحَمْلِ الَّذِي سَيُوجَدُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْحَمْلُ مَوْجُودًا حَالَ الْمَوْتِ، صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَبْدُ الْمُوصَى لَهُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْنَبِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصِي، وَإِمَّا لِلْوَرَثَةِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: لِأَجْنَبِيٍّ، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ. ثُمَّ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَسْتَمِرَّ رِقُّهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَسْتَمِرَّ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَسْتَمِرَّ رِقُّهُ، فَالْوَصِيَّةُ لِلسَّيِّدِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْمُوصِي الْعَبْدَ الْمُوصَى لَهُ لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ قَتَلَهُ سَيِّدُ الْعَبْدِ، كَانَتْ وَصِيَّتُهُ لِلْقَاتِلِ. وَفِي افْتِقَارِ قَبُولِ الْعَبْدِ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي بَابِ «مُعَامَلَةِ الْعَبِيدِ» . أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَلَا. يَصِحُّ مِنَ السَّيِّدِ مُبَاشَرَةُ الْقَبُولِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ، وَالْوَجْهَانِ فِيمَا حُكِيَ مَخْصُوصَانِ بِقَوْلِنَا: إِنَّ قَبُولَ الْعَبْدِ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعَمَّمَا ; لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلسَّيِّدِ بِكُلِّ حَالٍ، فَلَا يَبْعُدُ تَصْحِيحُ الْقَبُولِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ فِي الْوَصِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَارِثَ الْمُوصَى لَهُ يَقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ فِي الْوَصِيَّةِ. وَأَمَّا قَبُولُ السَّيِّدِ مَا وُهِبَ لِعَبْدِهِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: هُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا ; لِأَنَّ الْقَبُولَ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ بِخِلَافِ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ. وَإِذَا صَحَّحْنَا قَبُولَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، فَلَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْقَبُولِ فَقَبِلَ، قَالَ الْإِمَامُ: الظَّاهِرُ عِنْدِي الصِّحَّةُ، وَحُصُولُ الْمِلْكِ لِلسَّيِّدِ، كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنِ الْخَلْعِ فَخَالَعَ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ بِلَا إِذْنٍ، فَلَوْ رَدَّ السَّيِّدُ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ عَدَمِ الْإِذْنِ. فَلَوْ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْقَبُولِ فَفِيهِ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْإِمَامِ، قَالَ: وَإِذَا صَحَّحْنَا الْقَبُولَ مِنَ السَّيِّدِ، فَيَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ رَدُّ الْعَبْدِ لَوْ رَدَّهُ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَسْتَمِرَّ، بَلْ يُعْتَقَ. فَيُنْظَرُ إِنْ عَتَقَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَالِاسْتِحْقَاقُ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْمِلْكِ حُرٌّ، وَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَإِنْ قَبِلَ ثُمَّ عَتَقَ، فَالِاسْتِحْقَاقُ لِلسَّيِّدِ، وَإِنْ عَتَقَ ثُمَّ قَبِلَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَصِيَّةُ تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ، أَوْ مَوْقُوفَةٌ،

فَالْمِلْكُ لِلسَّيِّدِ. وَإِنْ قُلْنَا: تُمْلَكُ بِالْقَبُولِ، فَلِلْعَبْدِ. وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدٍ هُوَ لِزَيْدٍ، فَبَاعَهُ لِعَمْرٍو، فَيُنْظَرُ فِي وَقْتِ الْبَيْعِ، وَيُجَابُ بِمِثْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ. فَرْعٌ أَوْصَى لِمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ لِأَجْنَبِيٍّ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، وَقَبِلَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَالْمُوصَى بِهِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوِ احْتَشَّ أَوِ احْتَطَبَ. وَإِنْ قَبِلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقُلْنَا: يَفْتَقِرُ قَبُولُ الْعَبْدِ إِلَى إِذْنِ سَيِّدِهِ، فَالْقَبُولُ بَاطِلٌ فِي نِصْفِ السَّيِّدِ. وَفِي نِصْفِهِ وَجْهَانِ ; لِأَنَّ مَا يَمْلِكُهُ يَنْقَسِمُ عَلَى نِصْفَيْهِ، فَيَلْزَمُ دُخُولُ نِصْفِهِ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْأَكْسَابَ النَّادِرَةَ هَلْ تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي «زَكَاةِ الْفِطْرِ» ، وَفِي «كِتَابِ اللُّقَطَةِ» . فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَدْخُلُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: تَدْخُلُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ فِي الْقَبُولِ ; لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ إِذْنٌ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَكْسَابِ الدَّاخِلَةِ فِيهَا. وَهَلْ الِاعْتِبَارُ بِيَوْمِ مَوْتِ الْمُوصِي، أَمْ بِيَوْمِ الْقَبُولِ، أَمْ بِيَوْمِ الْوَصِيَّةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ وَهَبَ لِمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي دُخُولِ الْكَسْبِ النَّادِرِ فِي الْمُهَايَأَةِ. فَإِنْ أَدْخَلْنَا وَوَقَعَ الْعَقْدُ فِي يَوْمِ أَحَدِهِمَا، وَالْقَبْضُ فِي يَوْمِ الْآخَرِ بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ الْمَقْبُوضَةَ يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ فِيهَا إِلَى الْعَقْدِ، أَمْ يَثْبُتُ عَقِبَ الْقَبْضِ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَالِاعْتِبَارُ بِيَوْمِ الْعَقْدِ، وَإِلَّا فَيَوْمِ الْقَبْضِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى الثَّانِي بِيَوْمِ الْعَقْدِ. فَرْعٌ قَالَ: أَوْصَيْتُ لِنِصْفِهِ الْحُرِّ، أَوْ لِنِصْفِهِ الرَّقِيقِ خَاصَّةً. فَعَنِ الْقَفَّالِ: بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ لِبَعْضِ شَخْصٍ، كَمَا لَا يَرِثُ [بَعْضُهُ] ، وَقَالَ غَيْرُهُ:

يَصِحُّ وَيَنْزِلُ بِتَقْيِيدِ الْمُوصِي مَنْزِلَةَ الْمُهَايَأَةِ، فَيَكُونُ الْمُوصَى بِهِ لِلسَّيِّدِ إِنْ وَصَّى لِنِصْفِهِ الرَّقِيقِ، وَلَهُ إِنْ أَوْصَى لِنَفْسِهِ الْحُرِّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الثَّانِي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ تَرَدَّدَ الْإِمَامُ فِيمَا إِذَا صَرَّحَا بِإِدْرَاجِ الْأَكْسَابِ النَّادِرَةِ فِي الْمُهَايَأَةِ، أَنَّهَا تَدْخُلُ قَطْعًا، أَمْ تَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ؟ وَفِيمَا لَوْ عَمَّتِ الْهِبَاتُ وَالْوَصَايَا فِي قُطْرٍ، أَنَّهَا هَلْ تَدْخُلُ قَطْعًا، أَمْ تَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ؟ قُلْتُ: الرَّاجِحُ طَرْدُ الْخِلَافِ مُطْلَقًا، لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمُوصَى لَهُ لِلْمُوصِي، فَيُنْظَرُ إِنْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ الْقِنِّ بِرَقَبَتِهِ، فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّانِي. وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ رَقَبَتِهِ نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ فِيهِ، وَعَتَقَ ذَلِكَ الْجُزْءُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِثُلُثِ مَالِي وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِثُلُثِ مَا أَمْلِكُ مِنْ رَقَبَتِهِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِي، نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِهِ، وَبَقِيَ بَاقِيهِ رَقِيقًا لِلْوَرَثَةِ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ وَصِيَّةً لِمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ لِوَارِثِهِ. وَسَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِثُلُثِ مَا أَمْلِكُ، أَوْ بِثُلُثِ أَمْوَالِي، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: أَنَّ رَقَبَتَهُ تَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِ. وَالثَّانِي: لَا لِإِشْعَارِهِ بِغَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْوَصِيَّةُ لَهُ وَصِيَّةٌ لِلْعَبْدِ بِغَيْرِ رَقَبَتِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ، وَثُلُثِ بَاقِي أَمْوَالِي. وَالثَّالِثَةُ:

تُجْمَعُ الْوَصِيَّةُ فِي رَقَبَتِهِ، فَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ، عَتَقَ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، صُرِفَ الْفَضْلُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يَخْرُجُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَيْنِ مَالٍ، أَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ مِنْ مَالِي كَذَا، فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ مِلْكُهُ، فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ بَاعَهُ الْمُوصِيَ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ أَعْتَقَهُ، فَهِيَ لِلْعَتِيقِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ، وَشَرَطَ تَقْدِيمَ رَقَبَتِهِ، عَتَقَ جَمِيعُهُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ مَا يَتِمُّ بِهِ الثُّلُثُ. فَرْعٌ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِأُمِّ وَلَدِهِ ; لِأَنَّهَا تَعْتِقُ بِمَوْتِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِالْمِلْكِ. ثُمَّ إِنْ عَجَزَ وَرَقَّ، صَارَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَرَثَةِ. وَكَذَا الْمُدَبَّرُ. ثُمَّ عِتْقُهُ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ مُعْتَبَرَانِ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنْ وَفَى بِهِمَا عَتَقَ، وَنَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالْمُدَبَّرِ عُتِقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَصَارَتِ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ لِلْوَارِثِ. وَإِنْ وَفَى بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمُدَبَّرِ وَالْوَصِيَّةِ، بِأَنْ كَانَ الْمُدَبَّرُ يُسَاوِي مِائَةً، وَالْوَصِيَّةُ بِمِائَةٍ، وَلَهُ غَيْرُهُمَا مِائَةٌ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: تُقَدَّمُ رَقَبَتُهُ، فَيُعْتَقُ كُلُّهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: يُعْتَقُ نِصْفُهُ، وَالْوَصِيَّةُ وَصِيَّةٌ لِمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ لِلْوَارِثِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ: أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لِوَارِثِ الْمُوصِي بِأَنْ بَاعَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَالْوَصِيَّةُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَعْتَقَهُ، فَهِيَ لِلْعَتِيقِ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ فِي مِلْكِهِ، فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ، وَسَيَأْتِي حُكْمُهَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَعَبْدِ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ

وَارِثُهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي. وَلَوْ أَوْصَى لِمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ لِوَارِثِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيِّدِ مُهَايَأَةٌ، أَوْ كَانَتْ، وَقُلْنَا: لَا تَدْخُلُ الْوَصِيَّةُ فِيهَا، فَهُوَ كَالْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَكَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُبَعِّضَ الْوَصِيَّةَ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِنْ جَرَتْ مُهَايَأَةٌ، وَقُلْنَا: يَدْخُلُ فِيهَا، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِيَوْمِ مَوْتِ الْمُوصِي عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ مَاتَ فِي يَوْمِ الْعَبْدِ، فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ لَهُ، وَإِلَّا، فَوَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُهَايَأَةٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، أَمْ أَحْدَثَاهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. فَرْعٌ أَوْصَى لِمُكَاتَبِ وَارِثِهِ. فَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ بَعْدَهُ بِأَدَاءِ النُّجُومِ. فَإِنْ عَجَزَ، وَرَقَّ، صَارَتْ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَوْصَى لِدَابَّةِ غَيْرِهِ، وَقَصَدَ تَمْلِيكَهَا، أَوْ أَطْلَقَ. قَالَ الْأَصْحَابُ: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ; لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ لِلتَّمْلِيكَ، وَالدَّابَّةُ لَا تَمْلِكُ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِلْعَبْدِ، بِأَنَّ الْعَبْدَ تَنْتَظِمُ مُخَاطَبَتُهُ، وَيَتَأَتَّى مِنْهُ الْقَبُولُ، وَرُبَّمَا عَتَقَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ. وَقَدْ سَبَقَ فِي الْوَقْفِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ فِي كَوْنِهِ وَقْفًا عَلَى مَالِكِهَا، فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ. وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُضَافَ إِلَى مَنْ تَمَلَّكَ. قُلْتُ: الْفَرْقُ أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ فُسِّرَ بِالصَّرْفِ فِي عَلَفِهَا صَحَّتْ ; لِأَنَّ عَلَفَهَا عَلَى مَالِكِهَا، فَالْقَصْدُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْمَالِكُ. هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَنْقُولِ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

وَيُحْتَمَلُ طَرْدُ خِلَافٍ سَبَقَ فِي مِثْلِهِ فِي الْوَقْفِ. فَعَلَى الصِّحَّةِ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِ الْمَالِكِ وَجْهَانِ: اخْتِيَارُ أَبِي زَيْدٍ: لَا يُشْتَرَطُ، وَيُجْعَلُ وَصِيَّةً لِلدَّابَّةِ. وَالْأَصَحُّ: الِاشْتِرَاطُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» كَسَائِرِ الْوَصَايَا. وَهِيَ وَصِيَّةٌ لِمَالِكِهَا، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِعِمَارَةِ دَارِهِ، فَعَلَى هَذَا، يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إِلَى جِهَةِ الدَّابَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» رِعَايَةً لِغَرَضِ الْمُوصِي. فَعَلَى هَذَا، يَتَوَلَّى الْإِنْفَاقَ الْوَصِيُّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَالْقَاضِي، أَوْ مَنْ يَأْمُرُهُ مِنَ الْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَتَعَيَّنُ، بَلْ لَهُ إِمْسَاكُهُ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِ. فَرْعٌ لَوِ انْتَقَلَتِ الدَّابَّةُ مِنْ مَالِكِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَقِيَاسُ كَوْنِ الْوَصِيَّةِ لِلدَّابَّةِ الِاسْتِمْرَارُ لَهَا. وَقِيَاسُ كَوْنِهَا لِلْمَالِكِ اخْتِصَاصُهَا بِالْمُنْتَقَلِ عَنْهُ. قُلْتُ: بَلِ الْقِيَاسُ اخْتِصَاصُهَا بِالْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْعَبْدِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ أَوْصَى لِمَسْجِدٍ وَفُسِّرَ بِالصَّرْفِ فِي عِمَارَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَهَلْ تَبْطُلُ كَالْوَصِيَّةِ لِلدَّابَّةِ، أَمْ تَصِحُّ تَنْزِيلًا عَلَى الصَّرْفِ فِي عِمَارَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَيَصْرِفُهُ الْقَيِّمُ فِي الْأَهَمِّ وَالْأَصْلَحِ بِاجْتِهَادِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ تَمْلِيكَ الْمَسْجِدِ، فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: سَبَقَ أَنْ لِلْمَسْجِدِ مِلْكًا وَعَلَيْهِ وَقْفًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَشَارَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ إِلَى اخْتِيَارِهِ هُوَ الْأَفْقَهُ وَالْأَرْجَحُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْوَصِيَّةُ لِلذِّمِّيِّ صَحِيحَةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا لِلْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ فِي «عُيُونِ الْمَسَائِلِ» . [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ: فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْإِمَامِ وَالرُّويَانِيِّ: الصِّحَّةُ، كَالْهِبَةِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً بِحَقٍّ أَمْ بِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِي الْقَتْلِ ظُلْمًا، وَتَصِحُّ لِلْقَاتِلِ بِحَقٍّ قَطْعًا، كَالْقِصَاصِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنْ وَرَّثْنَا الْقَاتِلَ بِحَقٍّ صَحَّتْ، وَإِلَّا فَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَنْ أَوْصَى لِجَارِحِهِ ثُمَّ مَاتَ. أَمَّا مَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ، فَقَتَلَهُ فَبَاطِلَةٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْجِلٌ، فَحُرِمَ كَالْوَارِثِ. وَقِيلَ: تَصِحُّ فِي الْجَارِحِ قَطْعًا. وَالْقَوْلَانِ فِي الْآخَرِ. وَالْمَذْهَبُ الصِّحَّةُ مُطْلَقًا. فَرْعٌ الْمُسْتَوْلَدَةُ إِذَا قَتَلَتْ سَيِّدَهَا عَتَقَتْ قَطْعًا وَإِنِ اسْتَعْجَلَتْ ; لِأَنَّ الْإِحْبَالَ كَالْإِعْتَاقِ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا، فَقَتَلَ سَيِّدَهُ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي حُرِّيَّتِهِ. وَلَوْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: التَّدْبِيرُ وَصِيَّةٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ فَقَتَلَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: تَعْلِيقُ عِتْقٍ بِصِفَةٍ عَتَقَ [قَطْعًا] ، كَالْمُسْتَوْلَدَةِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ صَحَّحْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ عَتَقَ الْمُدَبَّرُ بِقَتْلِ سَيِّدِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ سَوَاءٌ قُلْنَا: التَّدْبِيرُ وَصِيَّةٌ، أَمْ تَعْلِيقٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا، فَفِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الثُّلُثِ.

فَرْعٌ أَوْصَى لِعَبْدِ جَارِحِهِ، أَوْ لِمُدَبَّرِهِ، أَوْ لِمُسْتَوْلَدَتِهِ، فَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْعَتِيقِ، وَإِنِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، صَحَّتْ لِذَلِكَ الْغَيْرِ، وَإِلَّا فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِجَارِحٍ. فَرْعٌ أَوْصَى لِعَبْدِ زَيْدٍ بِشَيْءٍ، فَجَاءَ الْعَبْدُ فَقَتَلَ الْمُوصِيَ، لَمْ تَتَأَثَّرْ بِهِ الْوَصِيَّةُ. فَإِنْ جَاءَ زَيْدٌ وَقَتَلَهُ، فَهُوَ وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ. وَلَوْ أَوْصَى لِمُكَاتَبٍ، فَقَتَلَ الْمُكَاتَبُ الْمُوصِيَ، فَإِنْ عَتَقَ فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ. وَإِنْ عَجَزَ، فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ لِلسَّيِّدِ. وَإِنْ قَتَلَهُ سَيِّدُ الْمَكَاتِبِ، فَالْحُكْمُ بِالْعَكْسِ. وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ الْقَاتِلِ ; لِأَنَّهَا تَقَعُ لِسَيِّدِهِ. فَرْعٌ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إِذَا قَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَلَّ دَيْنُهُ ; لِأَنَّ الْحَظَّ لَهُ الْآنَ فِي تَعْجِيلِ بَرَاءَتِهِ. [الْمَسْأَلَةُ] السَّادِسَةُ: فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ. يُقَدَّمُ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ. فَلَوْ خَالَفَ وَلَهُ وَارِثٌ [خَاصٌّ] فَرَدَّ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَإِنْ أَجَازَ دُفِعَ الْمَالُ بِالزِّيَادَةِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ. وَهَلْ إِجَازَتُهُ تَنْفِيذٌ لِتَصَرُّفِ الْمُوصِي، أَمِ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنَ الْوَارِثِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: تَنْفِيذٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ خَاصٌّ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ بَاطِلَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ،

لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا مُجِيزَ. وَحَكَى أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ وَجْهًا فِي صِحَّتِهَا. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لِلْإِمَامِ رَدُّهَا. وَهَلْ لَهُ إِجَازَتُهَا؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ، هَلْ يُعْطَى حُكْمَ الْوَارِثِ الْخَاصِّ. وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، فَتَبْطُلُ بِرَدٍّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ. فَإِنْ أَجَازُوا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِجَازَتُهُمُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا تَنْفِيذٌ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِبُطْلَانِهَا وَإِنْ أَجَازَتِ الْوَرَثَةُ. وَالْفَرْقُ [أَنَّ] الْمَنْعَ مِنَ الزِّيَادَةِ هُنَاكَ لَحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا رَضُوا أَجَازَ. وَالْمَنْعُ هُنَا لِتَغْيِيرِ الْفُرُوضِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى سُبْحَانَهُ لِلْوَرَثَةِ، فَلَا أَثَرَ لِرِضَاهُمْ. فَإِنْ قُلْنَا: تَنْفِيذٌ، كَفَى لَفْظُ الْإِجَازَةِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هِبَةٍ وَتَجْدِيدِ قَبُولٍ وَقَبْضٍ، وَلَيْسَ لِلْمُجِيزِ الرُّجُوعُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَإِنْ قُلْنَا: ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ، فَلَا يَكْفِي قَبُولُ الْوَصِيَّةِ أَوَّلًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولٍ آخَرَ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ، وَلِلْمُجِيزِ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لَفْظُ التَّمْلِيكِ أَوْ لَفْظُ الْإِعْتَاقِ إِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ إِعْتَاقًا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَلَا يَكْفِي لَفْظُ الْإِجَارَةِ، كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا فَاسِدًا مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ ثُمَّ أَجَازَهُ. فَرْعٌ خَلَّفَ زَوْجَةً هِيَ بِنْتُ عَمِّهِ، وَأَبَاهَا، وَكَانَ أَوْصَى لَهَا، فَأَجَازَ أَبُوهَا الْوَصِيَّةَ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ إِنْ جَعَلْنَا الْإِجَازَةَ تَنْفِيذًا، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا ابْتِدَاءَ عَطِيَّةٍ، فَلَهُ الرُّجُوعُ. فَرْعٌ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ، أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، أَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ

عَلَى الثُّلُثِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِجَازَةُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، فَوَلَاءُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِلْمُجِيزِينَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ. وَإِنْ قُلْنَا: تَنْفِيذٌ، فَوَلَاءُ جَمِيعِهِ لِلْمَيِّتِ يَرِثُهُ ذُكُورُ الْعَصَبَةِ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ اللَّبَّانِ وَجْهٌ: أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمَيِّتِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا، فَمَاتَ قَبْلَ سَيِّدِهِ، فَهَلْ يَمُوتُ كُلُّهُ حُرًّا، أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي «بَابِ الْعِتْقِ» . فَرَوَّعَ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ إِحْدَاهَا: الْهِبَةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِلْوَارِثِ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ وَإِبْرَاءُهُ مِنْ دَيْنٍ كَالْوَصِيَّةِ لَهُ، فَفِيهَا الْخِلَافُ. الثَّانِي: لَا اعْتِبَارَ بِرَدِّ الْوَرَثَةِ وَإِجَازَتِهِمْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي. فَلَوْ أَجَازُوا فِي حَيَاتِهِ، أَوْ أَذِنُوا لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ أَرَادُوا الرَّدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ. فَإِنْ أَجَازُوا بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَالصَّحِيحُ لُزُومُهَا. وَقِيلَ: كَالْإِجَازَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ، حَكَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ. الثَّالِثُ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْوَارِثُ قَدْرَ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ، وَقَدْرَ التَّرِكَةِ، فَإِنْ جَهِلَ أَحَدَهُمَا، لَمْ يَصِحَّ إِنْ قُلْنَا: الْإِجَازَةُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ. وَإِنْ قُلْنَا: تَنْفِيذٌ، فَكَالْإِبْرَاءِ عَنْ مَجْهُولٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الْأَظْهَرِ. الرَّابِعُ: أَجَازَ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أَعْتَقِدُ التَّرِكَةَ قَلِيلَةً، فَبَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا ظَنَنْتُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي «الْأُمِّ» : يَحْلِفُ وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يَتَحَقَّقُهُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْيَمِينِ إِذَا حَصَلَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُوصَى لَهُ.

فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ إِنْ جَعَلْنَاهَا ابْتِدَاءَ عَطِيَّةٍ، فَإِنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَلْزَمُ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: التَّنْفِيذُ فِي الْقَدْرِ الْمَظْنُونِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ تَنْفِيذٌ، فَتَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْإِبْرَاءِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ، فَإِذَا حَلَفَ بَطَلَ فِي الْجَمِيعِ. وَاللَّفْظُ الْمَحْكِيُّ عَنِ النَّصِّ يُنَازِعُهُ فِيمَا ادَّعَاهُ. وَلَوْ أَقَامَ الْمُوصَى لَهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا قَدْرَ التَّرِكَةِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ لَزِمَتْ إِنْ جَعَلْنَاهَا تَنْفِيذًا، وَإِنْ قُلْنَا: عَطِيَّةٌ، فَلَا إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْقَبْضُ. وَلَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعَبْدٍ مُعَيَّنٍ، فَأَجَازَ، ثُمَّ قَالَ: ظَنَنْتُ التَّرِكَةَ كَثِيرَةً وَأَنَّ الْعَبْدَ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهَا وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ، أَوْ ظَهَرَ دَيْنٌ لَمْ أَعْلَمْهُ، أَوْ بَانَ لِي أَنَّهُ تَلِفَ بَعْضُهَا، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِجَازَةُ عَطِيَّةٌ، صَحَّتْ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ مَعْلُومٌ، وَالْجَهَالَةُ فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: تَنْفِيذٌ، فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ لِلْعِلْمِ بِالْعَبْدِ. وَالثَّانِي: يَحْلِفُ وَلَا يُلْزَمُ إِلَّا الثُّلُثَ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمُشَاعِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. الْخَامِسُ: الِاعْتِبَارُ فِي كَوْنِهِ وَارِثًا بِيَوْمِ الْمَوْتِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَابْنٍ لَهُ، فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ قَبْلَ مَوْتِهِ صَحَّتْ. وَلَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ، فَمَاتَ الِابْنُ قَبْلَ الْمُوصِي، فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرْنَا فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ خِلَافًا فِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِيَوْمِ الْإِقْرَارِ، أَمِ الْمَوْتِ؟ وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ، وَلَا ثَبَاتَ لَهَا قَبْلَهُ. السَّادِسُ: إِذَا أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِلَا وَصِيَّةٍ. وَيَجِئُ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَنَّهُ يَصِحُّ ; لِأَنَّ صَاحِبَ «التَّتِمَّةِ» حَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا وَارِثٌ وَاحِدٌ فَأَوْصَى لَهُ بِمَالِهِ، الصَّحِيحُ مِنْهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، وَيَأْخُذُ التَّرِكَةَ بِالْإِرْثِ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ، فَيَأْخُذُهَا بِالْوَصِيَّةِ إِذَا لَمْ يَنْقُضْهَا، قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إِذَا ظَهَرَ دَيْنٌ. إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ أَخَذَ التَّرِكَةَ إِرْثًا، فَلَهُ إِمْسَاكُهَا وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِهَا. وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَصِيَّةِ، قَضَاهُ مِنْهَا وَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ الِامْتِنَاعُ لَوْ قَضَى مِنْ غَيْرِهَا.

قُلْتُ: وَمِنْ فَوَائِدِهِ لَوْ حَدَثَتْ مِنْ عَيْنِ التَّرِكَةِ زَوَائِدُ. إِنْ قُلْنَا: وَصِيَّةٌ، لَمْ يَمْلِكْهَا. وَإِنْ قُلْنَا: إِرْثٌ مَلَكَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ أَوْصَى لِكُلِّ وَارِثٍ بِعَيْنٍ هِيَ قَدْرُ حِصَّتِهِ، مِنْ ثَوْبٍ، وَعَبْدٍ، وَغَيْرِهِمَا، فَهَلْ تَحْتَاجُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ إِلَى الْإِجَازَةِ، أَمْ لَا بَلْ يُخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا عَيَّنَهُ لَهُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: تَحْتَاجُ، لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ فِي الْأَعْيَانِ وَمَنَافِعِهَا. وَلِهَذَا أَوْصَى أَنْ تُبَاعَ عَيْنُ مَالِهِ لِزَيْدٍ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَالشَّاشِيُّ. السَّابِعُ: لَوْ بَاعَ الْمَرِيضُ مَالَهُ لِوَارِثِهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، نَفَذَ قَطْعًا. الثَّامِنُ: أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ وَوَارِثٍ. إِنْ صَحَّحْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَأَجَازَتِ الْوَرَثَةُ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا، أَوْ رَدَّهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، بَقِيَ السُّدُسُ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: تَبْطُلُ فِيهِ أَيْضًا أَخْذًا مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَإِنْ أَوْصَى لِهَذَا بِالثُّلُثِ، وَلِهَذَا بِالثُّلُثِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَأَجَازَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ. وَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا، أَوْ رَدُّوا فَلَا شَيْءَ لِلْوَارِثِ. ثُمَّ يُنْظَرُ فِي كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ، إِنْ رَدُّوا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ، سَلِمَ الثُّلُثُ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا يَسْلَمُ لَهُ إِلَّا السُّدُسُ. وَإِنْ قَالُوا: رَدَدْنَا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنَ الْوَصِيَّتَيْنِ، فَالْأَصَحُّ: أَنَّ لِلْأَجْنَبِيِّ الثُّلُثَ. وَقِيلَ: السُّدُسُ. التَّاسِعُ: أَوْصَى لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنَ التَّرِكَةِ، أَوْ بِمَا دُونَهُ، وَأَجَازَ الْبَاقُونَ، سَلِمَ لَهُ الْمُوصَى بِهِ، وَالْبَاقِي مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمْ. قَالَ الْإِمَامُ: وَذَلِكَ الْقَدْرُ، خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَوْرُوثًا بِاتِّفَاقِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ أَوْصَى لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ نَصِيبِهِ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَاقِيَ لِمَنْ لَمْ يُوصِ لَهُ،

لِاحْتِمَالِ أَنَّ غَرَضَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ تَخْصِيصُهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا إِذَا أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِأَحَدِ ابْنَيْهِ الْحَائِزَيْنِ بِالنِّصْفِ، وَأَجَازَا الْوَصِيَّتَيْنِ، فَلِلْأَجْنَبِيِّ النِّصْفُ. وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الِابْنُ الْمُوصَى لَهُ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: النِّصْفُ. وَالثَّانِي: الرُّبُعُ وَالسُّدُسُ، وَيَبْقَى نِصْفُ سُدُسِ الَّذِي لَمْ يُوصَ لَهُ. وَلَوْ أَجَازَ الِابْنُ الَّذِي لَمْ يُوصَ لَهُ الْوَصِيَّتَيْنِ، وَلَمْ يُجِزِ الْمُوصَى لَهُ وَصِيَّةَ الْأَجْنَبِيِّ، فَالْمَسْأَلَةُ تَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْأَجْنَبِيِّ الثُّلُثُ أَرْبَعَةً بِلَا إِجَازَةٍ، وَيَأْخُذُ سَهْمًا آخَرَ مِنْ نَصِيبِ الَّذِي أَجَازَ، فَيَجْتَمِعُ لَهُ خَمْسَةٌ، وَلِلِابْنِ الْمُوصَى لَهُ سَبْعَةٌ، مِنْهَا سِتَّةٌ بِالْوَصِيَّةِ وَسَهْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِزْ وَصِيَّةَ الْأَجْنَبِيِّ، كَذَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَهُوَ قِيَاسُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَقِيَاسُ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ الِابْنُ الْمُوصَى لَهُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ، وَيَبْقَى لِلِابْنِ الْآخَرِ سَهْمٌ. وَلَوْ لَمْ يُجِزْ الِابْنُ الَّذِي لَمْ يُوصَ لَهُ وَصِيَّةَ الْأَجْنَبِيِّ، فَلِلْأَجْنَبِيِّ خَمْسَةٌ. ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لِلِابْنِ الْمُوصَى لَهُ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْآخَرِ سَهْمٌ، وَعَلَى قِيَاسِ الثَّانِي لَهُ خَمْسَةٌ، وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ. الْعَاشِرُ: أَوْصَى لِزَيْدٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِأَحَدِ ابْنَيْهِ الْحَائِزَيْنِ بِالْكُلِّ، وَأَجَازَا الْوَصِيَّتَيْنِ، فَلِزَيْدٍ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ لِلِابْنِ الْمُوصَى لَهُ. وَلَيْسَ لَهُ زَحْمَةُ زَيْدٍ فِي الثُّلُثِ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَجْنَبِيِّ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ الْإِجَازَةِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ. وَإِنْ رَدَّا، فَثُلُثُ زَيْدٍ بِحَالِهِ، وَلَا شَيْءَ لِلِابْنِ بِالْوَصِيَّةِ. وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِالثُّلُثِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنِ ابْنَيْهِ بِالثُّلُثِ فَرَدَّا، لَمْ يُؤَثِّرْ رَدُّهُمَا فِي حَقِّ زَيْدٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا ثُلُثُ الثُّلُثِ بِالشُّيُوعِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: وَقَفَ دَارًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى ابْنِهِ الْحَائِزِ. فَإِنْ أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَإِنْ صَحَّحْنَاهَا بِالْإِجَازَةِ، فَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: إِنِ احْتَمَلَهَا

ثُلُثُ مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ إِبْطَالُ الْوَقْفِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ; لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ فِي ثُلُثِ مَالِهِ نَافِذٌ، فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ قَطْعِ حَقِّ الْوَارِثِ عَنِ الثُّلُثِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَتَمَكُّنُهُ مِنْ وَقْفِهِ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ، لَمْ يَبْطُلِ الْوَقْفُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ، فَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ تَفْوِيتُهَا عَلَى الْوَارِثِ، فَلِلْوَارِثِ رَدُّهَا وَإِبْطَالُهَا. فَإِنْ أَجَازَ، فَإِجَازَتُهُ وَقْفٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ جَعْلَنَا إِجَازَةَ الْوَارِثِ عَطِيَّةً مِنْهُ، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا تَنْفِيذًا لَزِمَ الْوَقْفُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَهُ رَدُّ الْكُلِّ فِي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ كَهِيَ بِالزِّيَادَةِ فِي حَقٍّ غَيْرِ الْوَارِثِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَعَلَيْهِ تَتَفَرَّعُ الصُّوَرُ الْآتِيَةُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. ثُمَّ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا نَجَزَ الْوَقْفُ فِي مَرَضِهِ، وَكَانَ الِابْنُ طِفْلًا فَقَبِلَهُ لَهُ ثُمَّ مَاتَ فَأَرَادَ الِابْنُ الرَّدَّ أَوِ الْإِجَازَةَ، لَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّصْوِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَقَبِلَهُ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ الرَّدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ، إِذِ الْإِجَازَةُ الْمُعْتَبَرَةُ هِيَ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ ابْنٌ، وَبِنْتٌ، فَوَقَفَ ثُلُثَ الدَّارِ عَلَى الِابْنِ، وَالثُّلُثَ عَلَى الْبِنْتِ، فَلَا رَدَّ لَهُمَا إِنْ خَرَجَتِ الدَّارُ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ، فَلَهُمَا رَدُّ الْوَقْفِ فِي الزِّيَادَةِ. وَإِنْ وَقَفَهَا عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُهَا، فَإِنْ رَضِيَ الِابْنُ فَهِيَ كَمَا وَقَفَ، وَإِلَّا، فَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَدَّادِ: أَنَّ لَهُ رَدَّ الْوَقْفِ فِي رُبُعِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ النِّصْفَ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقِفَ عَلَى الْبِنْتِ الرُّبُعَ، فَإِذَا زَادَ، كَانَ لِلِابْنِ رَدُّهُ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ شَيْءٌ مِنْهُ وَقْفًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْأَبَ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ إِلَّا النِّصْفَ، بَلْ يَكُونُ الرُّبُعُ الْمَرْدُودُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا مِلْكًا، وَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، لِحَاجَتِنَا إِلَى عَدَدٍ لِرُبُعِهِ ثُلُثٌ، فَتِسْعَةٌ مِنْهَا وَقْفٌ عَلَيْهِمَا، وَثَلَاثَةٌ مِلْكٌ، وَكِلَاهُمَا بِالْأَثْلَاثِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: عِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلِابْنِ إِبْطَالُ الْوَقْفِ إِلَّا فِي سُدُسِ الدَّارِ،

لِأَنَّهُ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ إِجَازَتُهُ فِي حَقِّهِ، وَحَقُّهُ مُنْحَصِرٌ فِي ثُلُثِ الدَّارِ، وَقَدْ وَقَفَ عَلَيْهِ النِّصْفَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ، لَكِنْ تَتَخَيَّرُ الْبِنْتُ فِي نِصْفِ السُّدُسِ، إِنْ شَاءَتْ أَجَازَتْ، فَيَكُونُ وَقْفًا. وَإِنْ شَاءَتْ رَدَّتْ، فَيَكُونُ مِلْكًا. قُلْتُ: قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ هُوَ الْأَصَحُّ، أَوِ الصَّحِيحُ، أَوِ الصَّوَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ وَقَفَ الدَّارَ عَلَى ابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ نِصْفَيْنِ وَلَا وَارِثَ سِوَاهُمَا، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: قَدْ نَقَصَ الْمَرِيضُ مِنْ حَقِّ الِابْنِ ثَلَاثَةَ أَثْمَانِ الدَّارِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ حَقِّهِ، فَلَهُ رَدُّ الْوَقْفِ فِي حَقِّهَا وَهُوَ الثُّمُنُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَسِبَاعِهِ، لِيَكُونَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا مَنْ نَصِيبِهَا كَالْوَقْفِ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا مِلْكًا، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ، لِحَاجَتِنَا إِلَى عَدَدٍ لِثُمُنِهِ سَبْعٌ، فَتَكُونُ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الدَّارِ كُلِّهَا - وَهِيَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ - وَقْفًا، ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْهَا وَقْفٌ عَلَى الِابْنِ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَالْبَاقِي - وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ - مِلْكًا، مِنْهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِلِابْنِ، وَثَلَاثَةٌ لَهَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَيْسَ لَهُ رَدُّ الْوَقْفِ إِلَّا فِي تَتِمَّةِ حَقِّهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الدَّارِ، وَأَمَّا الثُّمُنُ، فَالْخِيَارُ فِيهِ لِلزَّوْجَةِ. وَلَوْ وَقَفَ ثُلُثَ الدَّارِ عَلَى أَبِيهِ، وَثُلُثَهَا عَلَى أُمِّهِ، وَلَا وَارِثَ سِوَاهُمَا، فَالْجَوَابُ عَلَى قِيَاسِ ابْنِ الْحَدَّادِ: أَنَّهُ نَقَصَ مِنْ نَصِيبِ الْأَبِ ثُلُثُ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ثُلُثَيْهَا، وَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ إِلَّا الثُّلُثَ، وَذَلِكَ نِصْفُ نَصِيبِهِ، فَلَهُ رَدُّ الْوَقْفِ فِي نِصْفِ نَصِيبِهَا وَهُوَ سُدُسُ الدَّارِ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا مِلْكًا. وَتَقَعُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ، لِحَاجَتِنَا إِلَى عَدَدٍ لِثُلُثِهِ نِصْفٌ، فَيَكُونُ نِصْفُ الدَّارِ وَقْفًا، وَنِصْفُهَا مِلْكًا أَثْلَاثًا. وَعَلَى قِيَاسِ الشَّيْخِ: لَا يُرَدُّ الْوَقْفُ إِلَّا فِي تَتِمَّةِ حَقِّهِ، وَهُوَ الثُّلُثُ، وَلَهَا الْخِيَارُ فِي السُّدُسِ. وَلَفْظُ ابْنِ الْحَدَّادِ فِي الْمُوَلَّدَاتِ يُمْكِنُ تَنْزِيلُهُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ، فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، لَكِنَّهُ يُحْوِجُ إِلَى ضَرْبِ تَعَسُّفٍ.

فصل

فَصْلٌ وَالْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ، أَمْ لَا. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُوصَى بِهِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: كَوْنُهُ مَقْصُودًا، فَيَخْرُجُ عَنْهُ مَا لَا يُقْصَدُ. وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ. فَالْمَنْفَعَةُ الْمُحَرَّمَةُ كَالْمَعْدُومَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْبَلَ النَّقْلَ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ. فَمَا لَا يَقْبَلُهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُمَا وَإِنِ انْتَقَلَا بِالْإِرْثِ، لَا يَتَمَكَنُّ مُسْتَحِقُّهُمَا مِنْ نَقْلِهِمَا. وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْحُقُوقِ التَّابِعَةِ لِلْأَمْوَالِ، كَالْخِيَارِ وَحَقِّ الشُّفْعَةِ إِذَا لَمْ تَبْطُلْ بِالتَّأْخِيرِ لِتَأْجِيلِ الثَّمَنِ. قُلْتُ: فَلَوْ أَوْصَى بِالشِّقْصِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِسَبَبِهِ، كَانَ الشِّقْصُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَالشُّفْعَةُ لِلْوَرَثَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي «الْفَتَاوَى» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْمُوصِي إِذَا قُلْنَا: لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِمَالِ الْغَيْرِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ الْمَوْجُودِ، إِنْ أَطْلَقَهَا فَقَالَ: أَوْصَيْتُ بِحَمْلِ فُلَانَةَ، أَوْ قَيَّدَهَا، فَقَالَ: بِحَمْلِهَا الْمَوْجُودِ الْآنَ، فَهِيَ صَحِيحَةٌ بِشَرْطِ انْفِصَالِهِ حَيًّا، وَلِوَقْتٍ يُعْلَمُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَمْلِ. فَلَوِ انْفَصَلَ مَيِّتًا مَضْمُونًا بِجِنَايَةٍ لَمْ تَبْطُلْ،

فصل

وَتَنْفُذُ مِنَ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ مُقَوَّمًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَوْصَى بِحَمْلٍ وَانْفَصَلَ مَيِّتًا بِجِنَايَةٍ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ كَمَا سَبَقَ ; لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ الْمَالِكِيَّةُ. وَهَلْ يَصِحُّ قَبُولُ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْوَضْعِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ يُعْرَفُ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِحَمْلٍ سَيَكُونُ، صَحَّتْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ الْوَصِيَّةُ بِثِمَارِ الْبُسْتَانِ الْحَاصِلَةِ فِي الْحَالِ صَحِيحَةٌ، وَبِالَّتِي سَتَحْدُثُ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا: عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَمْلِ الَّذِي سَيَحْدُثُ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ ; لِأَنَّهَا تَحْدُثُ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ أَمْرٍ فِي أَصْلِهَا، بِخِلَافِ الْوَلَدِ. فَرْعٌ الْوَصِيَّةُ بِصُوفِ الشَّاةِ وَلَبَنِهَا، كَالثِّمَارِ. فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ بِمَنَافِعِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ صَحِيحَةٌ، مُؤَبَّدَةً وَمُؤَقَّتَةً، وَالْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ. فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، كَالْآبِقِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَالطَّيْرِ الْمُفْلِتِ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا بِالْمَجْهُولِ، كَقَوْلِهِ: أَعْطُوهُ ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا.

فصل

فَرْعٌ لَوْ أَوْصَى بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ صَحَّتْ. وَلَوْ أَوْصَى لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ لَمْ تَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، كَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ فِي الْمُوصَى بِهِ مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ الْإِبْهَامُ فِي الْمُوصَى لَهُ إِنَّمَا يُمْنَعُ إِذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ. فَلَوْ قَالَ: أَعْطُوا الْعَبْدَ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ، فَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ جَائِزٌ تَشْبِيهًا بِمَا إِذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْهُ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ، وَإِذَا أُبْهِمَ الْمُوصَى [بِهِ] عَيَّنَهُ الْوَارِثُ، وَإِذَا أَبْهَمَ الْمُوصَى لَهُ، فَسَنَذْكُرُ حُكْمَهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَصْلٌ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، كَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، وَالزَّيْتِ النَّجِسِ، وَالزِّبْلِ، وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ، وَالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَالْخِنْزِيرِ؛ لِثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ فِيهَا وَانْتِقَالِهَا مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ بِالْإِرْثِ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ شَحْمُ الْمَيْتَةِ لِدَهْنِ السُّفُنِ وَلَحْمُهَا إِذَا جَوَّزْنَا الِانْتِفَاعَ بِهِ. وَفِي الْجِرْوِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ إِمْسَاكِهِ وَتَرْبِيَتِهِ لِذَلِكَ، أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. فَأَمَّا مَا لَا يَحِلُّ اقْتِنَاؤُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ. وَنَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، كَالْكَلْبِ الَّذِي لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، وَقَوْلًا: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمُقْتَنَى، وَهُمَا شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ. فَصْلٌ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِنُجُومِ الْكِتَابَةِ. فَإِنْ عَجَزَ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَتَصِحُّ بِرَقَبَةِ

فصل

الْمُكَاتَبِ إِنْ جَوَّزْنَا بَيْعَهُ، وَإِلَّا فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِمَالِ الْغَيْرِ، وَسَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَصْلٌ إِنْ أَوْصَى بِمَالِ الْغَيْرِ فَقَالَ: أَوْصَيْتُ بِهَذَا الْعَبْدِ، وَهُوَ مِلْكُ غَيْرِهِ، أَوْ بِهَذَا الْعَبْدِ إِنْ مَلَكْتُهُ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ ; لِأَنَّهَا تَصِحُّ بِالْمَعْدُومِ، فَذَا أَوْلَى. وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّ مَالِكَهُ يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ بِهِ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِتَصَرُّفِ شَخْصَيْنِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْغَزَالِيُّ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَفْقَهُ وَأَجْرَى عَلَى قَوَاعِدِ الْبَابِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ بِالْأَصْنَامِ وَالسِّلَاحِ لِلذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ، وَبِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ لِلْكَافِرِ كَبَيْعِهَا لَهُ. فَرْعٌ إِذَا قَالَ: أَعْطُوهُ كَلْبًا مِنْ كِلَابِي، وَلَهُ كِلَابٌ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا كَكَلْبِ صَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ أُعْطِيَ وَاحِدًا مِنْهَا. وَلَوْ قَالَ: كَلْبًا مِنْ مَالِي، فَكَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْكَلْبُ مَالًا ; لِأَنَّ الْمُنْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْكِلَابِ يُقْتَنَى وَتَعْتَوِرُهُ الْأَيْدِي، كَالْأَمْوَالِ، فَقَدْ يُسْتَعَارُ لَهُ اسْمُ الْمَالِ. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ كَلْبًا مِنْ كِلَابِي، أَوْ مِنْ

مَالِي، وَلَيْسَ لَهُ كَلْبٌ يُنْتَفَعُ بِهِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: [أَعْطُوهُ] عَبْدًا، فَإِنَّهُ يُشْتَرَى ; لِأَنَّ الْكَلْبَ يَتَعَذَّرُ شِرَاؤُهُ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي «الْمُعَايَاةِ» وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَيُعْطَى قِيمَةَ مِثْلِ الْكَلْبِ مِنَ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ كَانَ لَهُ كَلْبٌ، وَلَا مَالَ لَهُ، فَأَوْصَى بِكَلْبِهِ، لَمْ تَنْفُذِ الْوَصِيَّةُ إِلَّا فِي ثُلُثِهِ، كَالْمَالِ، فَإِنْ أَوْصَى بِبَعْضِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ كِلَابٌ فَأَوْصَى بِبَعْضِهَا، فَفِي وَجْهٍ: لَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْمُوصَى بِهِ مِنَ الثُّلُثِ ; لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ، وَيَكْفِي أَنْ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ. وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُهُ كَالْأَمْوَالِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا كَلْبٌ وَاحِدٌ، لَمْ يَخْفَ اعْتِبَارُ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَ كِلَابٌ، فَفِي كَيْفِيَّتِهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ [بِهِ] : أَنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: يُنْظَرُ إِلَى قِيمَتِهَا بِتَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا كَمَا يُقَدَّرُ الرِّقُّ فِي الْحُرِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ بِالْقِيمَةِ. وَالثَّالِثُ: تُقَوَّمُ مَنَافِعُهَا، وَيُؤْخَذُ الثُّلُثُ مِنْ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ. وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا كَلْبًا، وَطَبْلَ لَهْوٍ، وَزِقَّ خَمْرٍ مُحْتَرَمَةٍ، فَأَوْصَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَأَرَدْنَا اعْتِبَارَ الثُّلُثِ، لَمْ يَجُزِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَلَا الثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَاسُبَ بَيْنَ الرُّءُوسِ وَلَا الْمَنْفَعَةِ، فَيَتَعَيَّنُ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَكِلَابٌ، فَأَوْصَى بِكُلِّهَا، أَوْ بِبَعْضِهَا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: نُفُوذُ الْوَصِيَّةِ فِيهَا وَإِنْ كَثُرَتْ وَقَلَّ الْمَالُ ; لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَنْ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ الْمُوصَى بِهِ، وَالْمَالُ وَإِنْ قَلَّ خَيْرٌ مِنْ ضِعْفِ الْكَلْبِ، إِذْ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرِيُّ وَالشَّيْخُ. وَالثَّانِي قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ: أَنَّ الْكِلَابَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، فَيُقَدَّرُ كَأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ،

فصل

وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثَلَاثِ كِلَابٍ عَلَى مَا سَبَقَ. وَالثَّالِثُ: تُقَوَّمُ الْكِلَابُ أَوْ مَنَافِعُهَا عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَتُضَمُّ إِلَى مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْمَالِ، وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ الْجَمِيعِ. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَبِالْكِلَابِ لِآخَرَ، فَعَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ: يُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْكِلَابِ وَحْدَهَا. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْكِلَابِ ; لِأَنَّ ثُلُثَيِ الْمَالِ الَّذِي يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ خَيْرٌ مِنْ ضَعْفِ الْكِلَابِ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ ; لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْوَرَثَةُ مِنَ الثُّلُثَيْنِ هُوَ حِصَّتُهُمْ بِسَبَبِ مَا نُقِلَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ، وَهُوَ الثُّلُثُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْسَبَ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى فِي وَصِيَّةِ الْكِلَابِ، فَعَلَى هَذَا يَلْتَقِي الْوَجْهَانِ. قُلْتُ: قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنْ تُضَمَّ قِيمَةُ الْكِلَابِ أَوْ مَنَافِعُهَا إِلَى الْمَالِ، وَيُدْخَلَ الْمَالُ فِي حِسَابِ الْوَصِيَّةِ بِالْكِلَابِ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلِ الْكِلَابُ فِي حِسَابِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ. فَصْلٌ اسْمُ الطَّبْلِ يَقَعُ عَلَى طَبْلِ الْحَرْبِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ لِلتَّهْوِيلِ، وَعَلَى طَبْلِ الْحَجِيجِ وَالْقَوَافِلِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ لِلْإِعْلَامِ بِالنُّزُولِ وَالِارْتِحَالِ، وَعَلَى طَبْلِ الْعَطَّارِينَ وَهُوَ سَفَطٌ لَهُمْ، وَعَلَى طَبْلِ اللَّهْوِ، كَالطَّبْلِ الَّذِي يَضْرِبُ بِهِ الْمُخَنَّثُونَ، وَسَطُهُ ضَيِّقٌ وَطَرَفَاهُ وَاسِعَانِ. فَإِنْ أُطْلِقَ الطَّبْلُ، فَفِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّانِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَإِنْ عُيِّنَ مَا سِوَى طَبْلِ اللَّهْوِ صَحَّ. وَإِنْ عُيِّنَ طَبْلُ اللَّهْوِ، نُظِرَ، إِنْ صَلَحَ لِلْحَجِيجِ، أَوِ الْحَرْبِ، أَوْ مَنْفَعَةٍ أُخْرَى مُبَاحَةٍ، إِمَّا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، وَإِمَّا بَعْدَ التَّغْيِيرِ الَّذِي يَبْقَى مَعَهُ اسْمُ الطَّبْلِ، فَالْوَصِيَّةُ أَيْضًا صَحِيحَةٌ، وَإِلَّا فَبَاطِلَةٌ،

فصل

وَلَا نَظَرَ إِلَى الْمَنَافِعِ الْمُتَوَقَّعَةِ بَعْدَ زَوَالِ اسْمِ الطَّبْلِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْصَى بِالطَّبْلِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ: إِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الطَّبْلِ، وَكَانَ لَا يَنْتَفِعُ إِلَّا بِرُضَاضِهِ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ الرُّضَاضُ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ نَفِيسٍ، كَذَهَبٍ أَوْ عُودٍ، فَتَنْزِلُ الْوَصِيَّةُ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِرُضَاضِهِ إِذَا كُسِرَ، وَالْوَصِيَّةُ تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَبَقَ فِي بَيْعِ الْمَلَاهِي الَّتِي يُعَدُّ رُضَاضُهَا مَالًا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَتْ مُتَّخَذَةً مِنْ شَيْءٍ نَفِيسٍ صَحَّ، وَإِلَّا، فَلَا. فَإِنِ اكْتَفَيْنَا بِمَالِيَّةِ الرُّضَاضِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ، فَكَذَا الْوَصِيَّةُ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِذًا مَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ مَعَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَجْهَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَكَمَا أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ، فَكَذَا الْوَصِيَّةُ، وَكَمَا اخْتَارَ الْإِمَامُ صِحَّةَ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ شَيْئًا نَفِيسًا، فَكَذَا صَحَّحَ الْوَصِيَّةَ فِيهِ. فَصْلٌ سَبَقَ أَنَّ الْمُوصَى بِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى ثُلُثِ الْمَالِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الثُّلُثِ شَيْئًا. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ اسْتَوْفَى الثُّلُثَ، وَإِلَّا فَيُسْتَحَبُّ النَّقْصُ مِنْهُ. وَبِأَيِّ يَوْمٍ يُعْتَبَرُ الْمَالُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِيَوْمِ الْوَصِيَّةِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِمَالِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: بِيَوْمِ الْمَوْتِ، إِذْ يَمْلِكُ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ زَادَ مَالُهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، تَعَلَّقَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ. وَكَذَا لَوْ هَلَكَ ثُمَّ كَسَبَ مَالًا، تَعَلَّقَتْ بِهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِعَشَرَةٍ وَلَا مَالَ لَهُ، ثُمَّ كَسَبَهُ، تَعَلَّقَتْ بِهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، كُلُّ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ فِي اعْتِبَارِ الْقَدْرِ بِيَوْمِ الْمَوْتِ وَخَصَّ الْخِلَافَ بِمَنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا أَصْلًا ثُمَّ مَلَكَهُ. ثُمَّ الثُّلُثُ الَّذِي تَنْفُذُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ هُوَ ثُلُثُ الْفَاضِلِ عَنِ الدُّيُونِ. فَلَوْ كَانَ

عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَمْ تُنَفَّذِ الْوَصِيَّةُ فِي شَيْءٍ، لَكِنْ يُحْكَمُ بِانْعِقَادِهَا فِي الْأَصْلِ حَتَّى يُنَفِّذَهَا لَوْ تَبَرَّعَ شَخْصٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ أَبْرَأَهُ الْمُسْتَحِقُّ. فَرْعٌ التَّبَرُّعَاتُ الْمُعَلَّقَةُ بِالْمَوْتِ - وَهِيَ الْوَصَايَا - مُعْتَبَرَةٌ مِنَ الثُّلُثِ سَوَاءٌ أَوَصَى [بِهَا] فِي صِحَّتِهِ، أَوْ فِي مَرَضِهِ، وَكَذَا التَّبَرُّعَاتُ الْمُنْجَزَةُ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ مِنَ الثُّلُثِ. وَلَوْ وَهَبَهُ فِي صِحَّتِهِ، وَأَقْبَضَ فِي مَرَضِهِ، فَمِنَ الثُّلُثِ ; لِأَنَّ الْهِبَةَ إِنَّمَا تُمْلَكَ بِالْقَبْضِ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مَعْرِفَةِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَنَّ الْمَرَضَ الْمَخُوفَ مَاذَا؟ وَأَنَّ التَّبَرُّعَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمَحْسُوبَةَ مِنَ الثُّلُثِ مَا هِيَ؟ وَأَنَّهَا كَيْفَ تُحْسَبُ؟ فَنَعْقِدُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ فَصْلًا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَاهُ، وَبَيَانِ طَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ عِنْدَ الْإِشْكَالِ، وَبَيَانِ مَا يُحْكَمُ بِهِ الْمَخُوفُ وَغَيْرُ الْمَخُوفِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. [أَمَّا] الْأَوَّلُ: فَمَا بِالْإِنْسَانِ مِنْ مَرَضٍ وَعِلَّةٍ، إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ إِلَى حَالٍ يُقْطَعُ فِيهَا بِمَوْتِهِ مِنْهُ عَاجِلًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْخَصَ بَصَرُهُ عِنْدَ النَّزْعِ وَتَبْلُغَ الرُّوحُ الْحَنْجَرَةَ، أَوْ يُقْطَعَ حُلْقُومُهُ وَمَرِّيُّهُ، أَوْ يُشَقَّ بَطْنُهُ وَتَخْرُجَ حِشْوَتُهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَوْ يَغْرَقُ فِي الْمَاءِ وَيَغْمُرُهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ السِّبَاحَةَ، فَلَا اعْتِبَارَ بِكَلَامِهِ وَوَصِيَّتِهِ وَغَيْرِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، حَتَّى لَا يَصِحَّ إِسْلَامُ الْكَافِرِ وَلَا تَوْبَةُ الْفَاسِقِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حَيِّزِ الْأَمْوَاتِ، وَحَرَكَتُهُ حَرَكَةُ الْمَذْبُوحِ.

قُلْتُ: وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذِهِ هِيَ الْحَالُ الَّتِي قَالَ فِيهَا فِرْعَوْنُ: «آمَنْتُ» فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِمَّا أَنْ لَا يَنْتَهِيَ إِلَيْهَا، فَأَمَّا أَنْ يُخَافَ مِنْهُ الْمَوْتُ عَاجِلًا، وَهُوَ الْمَخُوفُ الَّذِي يَقْتَضِي الْحَجْرَ فِي التَّبَرُّعَاتِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ. هَذَا ضَابِطُهُ. ثُمَّ تَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَمْرَاضٍ خَاصَّةٍ مَخُوفَةٍ، وَغَيْرِ مَخُوفَةٍ. فَمِنَ الْمَخُوفَةِ: الْقُولَنْجُ، وَهُوَ أَنْ تَنْعَقِدَ أَخْلَاطُ الطَّعَامِ فِي بَعْضِ الْأَمْعَاءِ فَلَا تَنْزِلُ، وَيَصْعَدُ بِسَبَبِهِ الْبُخَارُ إِلَى الدِّمَاغِ فَيُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ. وَمِنْهَا: ذَاتُ الْجَنْبِ، وَهِيَ قُرُوحٌ تَحْدُثُ فِي دَاخِلِ الْجَنْبِ بِوَجَعٍ شَدِيدٍ، ثُمَّ يَنْفَتِحُ فِي الْجَنْبِ، وَيَسْكُنُ الْوَجَعُ، وَذَلِكَ وَقْتُ الْهَلَاكِ، وَكَذَلِكَ وَجَعُ الْخَاصِرَةِ. وَمِنْهَا: الرُّعَافُ الدَّائِمُ، لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الْقُوَّةَ، وَابْتِدَاؤُهُ لَيْسَ بِمَخُوفٍ. وَمِنْهَا: الْإِسْهَالُ، إِنْ كَانَ مُتَوَاتِرًا، فَمَخُوفٌ؛ لِأَنَّهُ يُنَشِّفُ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ. وَإِنْ كَانَ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَلَمْ يَدُمْ، فَلَيْسَ مَخُوفًا، إِلَّا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ أَحَدُ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَنْخَرِقَ الْبَطْنُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْإِمْسَاكُ وَيَخْرُجُ الطَّعَامُ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ زَحِيرٌ، وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ بِشِدَّةٍ وَوَجَعٍ، أَوْ تَقْطِيعٍ، وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ كَذَلِكَ وَيَكُونُ مُنْقَطِعًا، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ انْفِصَالُ شَيْءٍ كَثِيرٍ، فَإِذَا رَآهُ [نَظَرَهُ] كَانَ قَلِيلًا. الثَّالِثُ: أَنْ يُعَجِّلَهُ وَيَمْنَعَهُ النَّوْمَ. الرَّابِعُ: إِذَا كَانَ مَعَهُ دَمٌ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخُوفٍ. وَفِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَلَا يَأْتِي مَعَهُ دَمٌ، لَا يَكُونُ مَخُوفًا. وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ

مَعَ الدَّمِ مَخُوفٌ. فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: سَهَا الْمُزَنِيُّ، وَهُوَ مَخُوفٌ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الْقُوَّةَ، قَالَهُ الْمَسْعُودِيُّ. وَتَأَوَّلَ الْأَكْثَرُونَ فَحَمَلُوا نَقْلَ الْمُزَنِيِّ عَلَى دَمٍ يَحْدُثُ مِنَ الْمَخْرَجِ مِنَ الْبَوَاسِيرِ وَنَحْوِهِ. وَنَصَّ فِي «الْأُمِّ» عَلَى دَمِ الْكَبِدِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ، فَهَذَا مَخُوفٌ، وَذَاكَ غَيْرُ مَخُوفٍ. وَمِنْهَا: السُّلُّ، وَهُوَ دَاءٌ يُصِيبُ الرِّئَةَ، وَيَأْخُذُ الْبَدَنُ مِنْهُ فِي النُّقْصَانِ وَالِاصْفِرَارِ. وَقَدْ أَطْلَقَ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخُوفٍ، فَأَخَذَ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ آخِذُونَ، حَتَّى قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَخُوفٍ لَا فِي أَوَّلِهِ وَلَا فِي آخِرِهِ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ السُّلَّ وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ صَاحِبُهُ غَالِبًا، فَإِنَّهُ لَا يُخْشَى مِنْهُ الْمَوْتُ عَاجِلًا، فَيَكُونُ كَالشَّيْخُوخَةِ وَالْهَرَمِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّهُ مَخُوفٌ فِي انْتِهَائِهِ دُونَ ابْتِدَائِهِ، وَعَكَسَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالْأَشْبَهُ بِأَصْلِ الْمَذْهَبِ مَا قَالَهُ الْحَنَّاطِيُّ وَمُوَافِقُوهُ. وَمِنْهَا: الْفَالِجُ، وَسَبَبُهُ غَلَبَةُ الرُّطُوبَةِ وَالْبَلْغَمِ، وَابْتِدَاؤُهُ مَخُوفٌ. فَإِذَا اسْتَمَرَّ، فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ ارْتِعَاشٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ عَاجِلًا. وَفِي وَجْهٍ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ارْتِعَاشٌ، فَمَخُوفٌ. وَمِنْهَا: الْحُمَّى الشَّدِيدَةُ، وَهِيَ ضَرْبَانِ: مُطْبِقَةٌ، وَغَيْرُهَا. فَالْمُطْبِقَةُ: هِيَ اللَّازِمَةُ الَّتِي لَا تَبْرَحُ فَإِنْ كَانَتْ حُمَّى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، لَمْ تَكُنْ مَخُوفَةً. وَإِنْ زَادَتْ فَمَخُوفَةٌ. وَفِي وَجْهٍ: الْحُمَّى مِنْ أَوَّلِ حُدُوثِهَا مَخُوفَةٌ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَعَلَى هَذَا، لَوِ اتَّصَلَ الْمَوْتُ بِحُمَّى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، نُظِرَ فِي عَطِيَّتِهِ، إِنْ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يَعْرَقَ، فَهِيَ مِنَ الثُّلُثِ، وَقَدْ بَانَتْ مَخُوفَةً، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْعَرَقِ، فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ ; لِأَنَّ أَثَرَهَا زَالَ بِالْعَرَقِ، وَالْمَوْتُ بِسَبَبٍ آخَرَ، ذَكَرَهُ صَاحِبَا «التَّهْذِيبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» . الضَّرْبُ الثَّانِي: غَيْرُ الْمُطْبِقَةِ. وَهُوَ أَنْوَاعٌ. الْوِرْدُ وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ، وَالْغِبُّ، وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي يَوْمًا وَتُقْلِعُ يَوْمًا، وَالثُّلُثُ. وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي يَوْمَيْنِ وَتُقْلِعُ يَوْمًا.

وَحُمَّى الْأَخَوَيْنِ، وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي يَوْمَيْنِ وَتُقْلِعُ يَوْمَيْنِ. وَالرِّبْعُ، وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي يَوْمًا وَتُقْلِعُ يَوْمَيْنِ. فَمَا سِوَى الرِّبْعِ وَالْغِبِّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، مَخُوفٌ. وَالرِّبْعُ عَلَى تَجَرُّدِهَا غَيْرُ مَخُوفَةٍ ; لِأَنَّ الْمَحْمُومَ يَأْخُذُ قُوَّتَهُ فِي يَوْمِ الْإِقْلَاعِ. وَفِي الْغِبِّ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: مَخُوفَةٌ، وَبِهِ قَطَعَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الْحُمَّى الْيَسِيرَةُ، فَغَيْرُ مَخُوفَةٍ بِحَالٍ. وَمِنْهَا: الدِّقُّ، وَهُوَ دَاءٌ يُصِيبُ الْقَلْبَ، وَلَا تَمْتَدُّ مَعَهُ الْحَيَاةُ غَالِبًا، وَهُوَ مَخُوفٌ. وَمِنْهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ سَاوَرَهُ الدَّمُ حَتَّى تَغَيَّرَ عَقْلُهُ، أَوِ الْمُرَارُ أَوِ الْبَلْغَمُ، كَانَ مَخُوفًا. وَقَالَ أَيْضًا: الطَّاعُونُ مَخُوفٌ حَتَّى يَذْهَبَ. وَقَوْلُهُ: «سَاوَرَهُ» بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: وَاثَبَهُ وَهَاجَ بِهِ. وَالْمُرَارُ: الصَّفْرَاءُ، فَهَيَجَانُ الصَّفْرَاءِ وَالْبَلْغَمِ، مَخُوفٌ. وَكَذَا هَيَجَانُ الدَّمِ، بِأَنْ يَثُورَ وَيَنْصَبَّ إِلَى عُضْوٍ، كَيَدٍ، وَرِجْلٍ، فَتَحْمَرَّ وَتَنْتَفِخَ، [وَقَدْ يَذْهَبُ الْعُضْوُ إِنْ لَمْ يُتَدَارَكْ أَمْرُهُ فِي الْحَالِ وَإِنْ سَلِمَ الشَّخْصُ] ، وَقَوْلُهُ: «حَتَّى تَغَيَّرَ عَقْلُهُ» لَيْسَ مَذْكُورًا شَرْطًا، بَلْ هُوَ مَخُوفٌ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْعَقْلُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» . وَالطَّاعُونُ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ انْصِبَابِ الدَّمِ إِلَى عُضْوٍ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إِنَّهُ هَيَجَانُ الدَّمِ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَانْتِفَاخُهُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْجُذَامِ، مَنْ أَصَابَهُ تَآكَلَتْ أَعْضَاءُهُ وَتَسَاقَطَ لَحْمُهُ. وَمِنْهَا: الْجِرَاحَةُ، إِنْ كَانَتْ عَلَى مَقْتَلٍ، أَوْ نَافِذَةً إِلَى جَوْفٍ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ كَثِيرِ اللَّحْمِ، أَوْ لَهَا ضَرَبَانٌ شَدِيدٌ، أَوْ حَصَلَ مَعَهَا تَآكُلٌ، أَوْ وَرَمٌ، فَهِيَ مَخُوفَةٌ، وَإِلَّا فَلَا [وَقِيلَ: الْوَرَمُ وَحْدَهُ لَا يَجْعَلُهَا مَخُوفَةً، بَلْ يُشْتَرَطُ مَعَهُ التَّآكُلُ. وَمِنْهَا: الْقَيْءُ إِنْ كَانَ مَعَهُ دَمٌ أَوْ بَلْغَمٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنَ الْأَخْلَاطِ، فَمَخُوفٌ، وَإِلَّا فَلَا] إِلَّا أَنْ يَدُومَ.

وَمِنْهَا: الْبِرْسَامُ، وَهُوَ مَخُوفٌ. فَرْعٌ وَأَمَّا الْجَرَبُ، وَوَجَعُ الضِّرْسِ وَالْعَيْنِ وَالصُّدَاعُ، فَغَيْرُ مَخُوفَةٍ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فِي الْأَمْرَاضِ، وَقَدْ تَعْرِضُ أَحْوَالٌ تُشْبِهُ الْأَمْرَاضَ فِي اقْتِضَاءِ الْخَوْفِ، وَفِيهَا صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: إِذَا الْتَقَى الْفَرِيقَانِ وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا وَاخْتَلَطُوا. الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ فِي سَفِينَةٍ فَاشْتَدَّتِ الرِّيحُ وَهَاجَتِ الْأَمْوَاجُ. الثَّالِثَةُ: إِذَا وَقَعَ فِي أَسْرِ الْكُفَّارِ وَعَادَتُهُمْ قَتْلُ الْأُسَارَى. الرَّابِعَةُ: قُدِّمَ لِيُقْتَلَ قِصَاصًا وَلَمْ يُجْرَحْ بَعْدُ، فَالْحِكَايَةُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ: الْأُولَى أَنَّ لَهَا حُكْمَ الْمَخُوفِ. وَعَنْ نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» : فِي الرَّابِعَةِ: الْمَنْعُ. وَلِلْأَصْحَابِ فِيهَا طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: إِلْحَاقُهَا بِالْمَخُوفِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْعَمَلُ بِظَاهِرِ النَّصَّيْنِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ لَا تَبْعُدُ مِنْهُ الرَّحْمَةُ وَالْعَفْوُ طَمَعًا فِي الثَّوَابِ أَوِ الْمَالِ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» : أَنَّهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ شِدَّةِ حِقْدٍ أَوْ عَدَاوَةٍ قَدِيمَةٍ، فَمَخُوفٌ، وَإِلَّا، فَلَا. ثُمَّ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي صُورَةِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ، مَا إِذَا كَانَ الْفَرِيقَانِ مُتَكَافِئَيْنِ، أَوْ قَرِيبَيْنِ مِنَ التَّكَافُؤِ، وَإِلَّا فَلَا خَوْفَ فِي حَقِّ الْغَالِبَيْنِ قَطْعًا، وَلَا خَوْفَ أَيْضًا قَطْعًا فِيمَا إِذَا الْتَحَمَ الْحَرْبُ وَلَمْ يَخْتَلِطِ الْفَرِيقَانِ وَإِنْ

كَانَا يَتَرَامَيَانِ بِالنُّشَّابِ وَالْحِرَابِ، وَلَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَحْرُ سَاكِنًا، وَلَا فِي الْأَسِيرِ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَقْتُلُونَ الْأُسَارَى، كَالرُّومِ. قُلْتُ: وَسَوَاءٌ فِي مَسْأَلَةِ الْقِتَالِ كَانَ الْفَرِيقَانِ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا، أَوْ فَرِيقًا مُسْلِمِينَ [وَفَرِيقًا] كُفَّارًا، كَذَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا قُدِّمَ لِيُقْتَلَ رَجْمًا فِي الزِّنَا، أَوْ لِيُقْتَلَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَهُوَ كَالْتِحَامِ الْقِتَالِ. فَعَلَى طَرِيقٍ: يُقْطَعُ بِأَنَّهُ مَخُوفٌ. وَعَلَى طَرِيقٍ: قَوْلَانِ. وَقِيلَ: إِنْ ثَبَتَ الزِّنَا بِالْبَيِّنَةِ، فَمَخُوفٌ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، لِاحْتِمَالِ الرُّجُوعِ. السَّادِسَةُ: إِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ فِي الْبَلَدِ، وَفَشَا الْوَبَاءُ، فَهَلْ هُوَ مَخُوفٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: مَخُوفٌ. السَّابِعَةُ: الْحَامِلُ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَهَا الطَّلْقُ، لَيْسَتْ فِي حَالِ خَوْفٍ. وَإِنْ ضَرَبَهَا الطَّلْقُ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: مَخُوفٌ. وَإِذَا وَضَعَتْ، فَالْخَوْفُ بَاقٍ إِلَى انْفِصَالِ الْمَشِيمَةِ، فَإِذَا انْفَصَلَتْ، زَالَ الْخَوْفُ، إِلَّا إِذَا حَصَلَ مِنَ الْوِلَادَةِ جِرَاحَةٌ، أَوْ ضَرَبَانٌ شَدِيدٌ، أَوْ وَرَمٌ. وَإِلْقَاءُ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ لَا خَوْفَ فِيهِ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ كَالْوِلَادَةِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا خَوْفَ فِيهِمَا، كَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ عَنِ الْأَصْحَابِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ أَسْهَلُ خُرُوجًا مِنَ الْوَلَدِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمَوْتُ الْوَلَدِ فِي الْجَوْفِ يُوجِبُ الْخَوْفَ. الْأَمْرُ الثَّانِي: إِذَا أَشْكَلَ مَرَضٌ فَلَمْ يُدْرَ أَمَخُوفٌ هُوَ أَمْ لَا؟ فَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ، وَالْعِلْمِ بِالطِّبِّ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ: الْإِسْلَامُ، وَالْبُلُوغُ،

وَالْعَدَالَةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعَدَدُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهًا فِي جَوَازِ الْعُدُولِ مِنَ الْوُضُوءِ إِلَى التَّيَمُّمِ بِقَوْلِ الْمُرَاهِقِ وَالْفَاسِقِ، وَوَجْهًا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ، وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيِّ وَجْهٌ لَمْ نَذْكُرْهُ هُنَاكَ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْعُدُولُ بِقَوْلِ طَبِيبٍ كَافِرٍ، كَمَا يَجُوزُ شُرْبُ الدَّوَاءِ مِنْ يَدِهِ وَلَا يُدْرَى أَنَّهُ دَوَاءٌ أَمْ دَاءٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُطْرَدَ هَذِهِ الْأَوْجُهُ هُنَا. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ هُنَا: الَّذِي أَرَاهُ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِالشَّهَادَاتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ يُلْحَقُ بِالتَّقْوِيمِ وَتَعْدِيلِ الْأَنْصِبَاءِ فِي الْقِسْمَةِ حَتَّى يَخْتَلِفَ الرَّأْيُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: الْجَزْمُ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذَكَرْنَا أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ، فَاشْتُرِطَ شُرُوطُ الشَّهَادَةِ كَغَيْرِهَا مِنَ الشَّهَادَاتِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ مَعَ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى بَدَلٍ، وَلَيْسَ كَالتَّقْوِيمِ الَّذِي هُوَ تَخْمِينٌ فِي مَحْسُوسٍ يُمْكِنُ تَدَارُكُ الْخَطَأِ، إِنْ وَقَعَ فِيهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا اخْتَلَفَ الْوَارِثُ وَالْمُتَبَرِّعُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِ الْمَرَضِ مَخُوفًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُتَبَرِّعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخَوْفِ. وَعَلَى الْوَارِثِ الْبَيِّنَةُ، وَلَا تَثْبُتُ دَعْوَاهُ إِلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ; لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى غَيْرِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَالُ. لَكِنْ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ بِامْرَأَةٍ عَلَى وَجْهٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ [غَالِبًا] ، قُبِلَتْ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ. وَيُعْتَبَرُ فِي الشَّاهِدَيْنِ الْعِلْمُ بِالطِّبِّ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ.

الْأَمْرُ الثَّالِثُ: إِذَا وَجَدْنَا الْمَرَضَ مَخُوفًا حَجَرْنَا عَلَيْهِ فِي التَّبَرُّعِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَمْ نُنْفِذْهُ. لَكِنَّهُ لَوْ فَعَلَ، ثُمَّ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ تَبَيَّنَ صِحَّةُ تَبَرُّعِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَرَضَ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا إِذَا الْتَحَمَ الْقِتَالُ، وَحَكَمْنَا بِأَنَّهُ مَخُوفٌ، ثُمَّ انْقَضَتِ الْحَرْبُ وَسَلِمَ. وَأَمَّا إِذَا رَأَيْنَا الْمَرَضَ غَيْرَ مَخُوفٍ، فَاتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُحَالُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، كَوَجَعِ الضِّرْسِ وَنَحْوِهِ، فَالتَّبَرُّعُ نَافِذٌ، وَالْمَوْتُ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَجْأَةِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ، كَإِسْهَالِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، تَبَيَّنَّا بِاتِّصَالِ الْمَوْتِ بِهِ كَوْنَهُ مَخُوفًا، وَكَذَلِكَ حُمَّى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، قَالَهُ فِي الْوَسِيطِ، وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَعْرَقَ أَوْ لَا يَعْرَقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ كَوْنُ الْمَوْتِ مِنْهُ غَالِبًا، بَلْ يَكْفِي أَنْ لَا يَكُونَ نَادِرًا بِدَلِيلِ الْبِرْسَامِ. وَلَوْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: هَذَا الْمَرَضُ لَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ، لَكِنَّهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْهُ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ، فَالْأَوَّلُ مَخُوفٌ أَيْضًا. وَهَذَا يُشْكِلُ بِالْحَمْلِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهَا الطَّلْقُ. فَإِنْ قَالُوا: يُفْضِي إِلَى الْمَخُوفِ نَادِرًا، فَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِمَخُوفٍ. قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ الْمَرَضُ مَخُوفًا فَتَبَرَّعَ، ثُمَّ قَتَلَهُ إِنْسَانٌ، أَوْ سَقَطَ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ، أَوْ غَرِقَ حُسِبَ تَبَرُّعُهُ مِنَ الثُّلُثِ، كَمَا لَوْ مَاتَ بِذَلِكَ الْمَرَضِ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ التَّبَرُّعِ الْمَحْسُوبِ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ عَنْ مَالٍ مَجَّانًا، كَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ، وَالصَّدَقَةِ، وَغَيْرِهَا. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ مَا يَتَنَاوَلُ التَّبَرُّعَ بِالْكَلْبِ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَبِالْمَنْفَعَةِ الَّتِي تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا، فَيُقَالُ: إِزَالَةُ الِاخْتِصَاصِ عَنْ مَالٍ وَنَحْوِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَفِيمَا يَدْخُلُ فِي الضَّابِطِ وَيَخْرُجُ، مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ، وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، تُخْرَجُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَتَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ. وَقِيلَ: إِذَا أَوْصَى بِهَا، حُسِبَتْ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَذَا الَّذِي نُوجِبُهُ، مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِلَا خِلَافٍ إِذَا لَمْ يُوصِ هُوَ فِيمَا وَجَبَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، كَالزَّكَاةِ، وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ، وَالنُّذُورُ، فَفِيهَا خِلَافٌ سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الثَّانِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. فَرْعٌ لَوْ قَضَى فِي مَرَضِهِ دُيُونَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ لَمْ يُزَاحِمْهُ غَيْرُهُ إِنْ وَفَى الْمَالُ بِجَمِيعِ الدُّيُونِ، وَكَذَا إِذَا لَمْ يَفِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ نَافِذٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سَوَاءٌ بَاعَ لِلْوَارِثِ، أَمْ لِغَرِيمِهِ، أَمْ لِغَيْرِهِمَا. وَإِنْ بَاعَ بِمُحَابَاةٍ، فَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً يُتَسَامَحُ بِمِثْلِهَا كَانَ كَالْبَيْعِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ لِوَارِثٍ، فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ، وَإِلَّا فَمُعْتَبَرَةٌ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ، نَفَذَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ،

وَإِلَّا بَطَلَ فِيمَا لَا يُخْرَجُ، وَفِيمَا يُخْرَجُ طَرِيقَانِ سَبَقَا. وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ، فَفِي كَيْفِيَّةِ صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ. وَقَدْ سَبَقَ كُلُّ هَذَا فِي «بَابِ تَفْرِيقِ الصِّفَةِ» . ثُمَّ الْمُحَابَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ مِنَ الثُّلُثِ مَا تَزِيدُ عَلَى مَا يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ، ذَكَرَهُ الْحَنَّاطِيُّ، وَأَبُو مَنْصُورٍ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا بَاعَ بِثَمَنِ حَالٍّ، فَإِنْ بَاعَ بِمُؤَجَّلٍ، وَلَمْ يَحُلَّ حَتَّى مَاتَ، اعْتُبِرَ مِنَ الثُّلُثِ سَوَاءٌ بَاعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكَثَرَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْيَدِ عَلَى الْوَرَثَةِ. وَتَفْوِيتُ الْيَدِ مُلْحَقٌ بِتَفْوِيتِ الْمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ بِالْحَيْلُولَةِ كَمَا يَضْمَنُ بِتَفْوِيتِ الْمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ تَفْوِيتُ الْيَدِ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَيْسَ لَهُ تَفْوِيتُ الْمَالِ. فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، وَرَدَّ الْوَارِثُ مَا زَادَ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَالْإِجَازَةِ فِي الثُّلُثِ بِثُلُثِ الثَّمَنِ. فَإِنْ أَجَازَ، فَهَلْ يَزِيدُ مَا صَحَّ فِيهِ الْبَيْعُ إِذَا أَدَّى الثُّلُثُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «التَّهْذِيبِ» . أَصَحُّهُمَا: لَا، لِانْقِطَاعِ الْبَيْعِ بِالرَّدِّ. وَالثَّانِي: نَعَمْ ; لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ يَنْبَغِي أَنْ نُصَحِّحَ الْوَصِيَّةَ فِي مِثْلِ نِصْفِهِ. فَعَلَى هَذَا يُصَحَّحُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ نِصْفِ الْمُؤَدَّى، وَهُوَ السُّدُسُ، بِسُدُسِ الثَّمَنِ. فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ السُّدُسُ، زِيدَ بِقَدْرِ نِصْفِ النِّصْفِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَحْصُلَ الِاسْتِيعَابُ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: نِكَاحُ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ فَإِنْ نَكَحَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ، فَهُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنِ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، اسْتَحَقَّتْ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَالزِّيَادَةُ تَبَرُّعٌ عَلَى الْوَارِثِ. وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً، كَالذِّمِّيَّةِ، وَالْمُكَاتَبَةِ، فَالزِّيَادَةُ مَحْسُوبَةٌ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ، نَفَذَ التَّبَرُّعُ بِهَا. وَلَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ، سَلِمَتْ لَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالْمِيرَاثِ. وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ، دَارَتِ الْمَسْأَلَةُ، وَنَذْكُرُهَا فِي بَابِ الدَّوْرِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.

فَرْعٌ لَوْ نُكِحَتِ الْمَرِيضَةُ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَالنُّقْصَانُ تَبَرُّعٌ عَلَى الْوَارِثِ، فَلِلْوَرَثَةِ رَدُّهُ وَتَكْمِيلُ مَهْرِ الْمِثْلِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، بِأَنْ كَانَ عَبْدًا، أَوْ مُسْلِمًا وَهِيَ ذِمِّيَّةٌ، لَمْ يُكْمَلْ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا النَّقْصُ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ وَصِيَّةً فِي حَقِّ الْوَارِثِ، وَلَمْ يُجْعَلْ وَصِيَّةً فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ إِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ تَفْوِيتِ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَفْوِيتٍ، إِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعٌ مِنَ الْكَسْبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَنْعَ فِيمَا يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ لِلْوَارِثِ وَانْتِفَاعُهُ بِهِ، وَالْبُضْعُ لَيْسَ كَذَلِكَ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إِذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ - فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ - بِفَرْقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ ذِكْرِ مَهْرٍ يَقْتَضِي مَهْرَ الْمِثْلِ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِدُونِهِ، فَكَأَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ، فَصَارَ كَالْإِبْرَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْمَهْرِ فِيهَا نَوْعُ عَارٍ عَلَى الْوَرَثَةِ، فَأُثْبِتَ لَهُمْ وِلَايَةُ رَفْعِهَا، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ. قُلْتُ: هَذَانِ الْفَرْقَانِ ضَعِيفَانِ جِدًّا. وَكَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ادَّعَاهُ وَشَذَّ بِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: إِجَارَةُ الدَّوَابِّ وَالْعَبِيدِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ بِمَا دُونَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، مُعْتَبَرَةٌ مِنَ الثُّلُثِ. وَكَذَلِكَ إِعَارَتُهَا. حَتَّى لَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ أَوِ الْإِعَارَةِ فِي مَرَضِهِ، وَاسْتَرَدَّ الْعَيْنَ، اعْتُبِرَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ وَجَمِيعُ الْأُجْرَةِ فِي الْإِعَارَةِ مِنَ الثُّلُثِ. وَلَوْ أَجَّرَ نَفْسَهُ بِمُحَابَاةٍ، أَوْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ مُتَبَرِّعًا، لَمْ يُحْسَبْ مِنَ الثُّلُثِ عَلَى الْأَصَحِّ.

[الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ: كَاتَبَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا، أَوْ أَوْصَى بِكِتَابَتِهِ، تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مِنَ الثُّلُثِ سَوَاءٌ كَاتَبَهُ بِقِيمَتِهِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكَثَرَ. وَلَوْ كَاتَبَ فِي الصِّحَّةِ، وَاسْتَوْفَى النُّجُومَ فِي مَرَضِهِ، لَمْ تُعْتَبَرْ قِيمَتُهُ مِنَ الثُّلُثِ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنَ النُّجُومِ اعْتُبِرَ مِنَ الثُّلُثِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوِ النُّجُومِ. [الْمَسْأَلَةُ] السَّادِسَةُ: الِاسْتِيلَادُ فِي الْمَرَضِ لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ، كَمَا يَسْتَهْلِكُهُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ اللَّذِيذَةِ، وَالثِّيَابِ النَّفِيسَةِ، وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالِاسْتِيلَادِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِنْشَائِهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا مِنَ الثُّلُثِ. [الْمَسْأَلَةُ] السَّابِعَةُ: قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَرَضِ مَوْتِي بِيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ، ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ، لَمْ يُعْتَبَرْ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِنْ قَالَ: قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ، فَإِنْ نَقَصَ مَرَضُهُ عَنْ شَهْرٍ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِلَّا، فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ فِي الصِّحَّةِ وَوُجِدَتِ الصِّفَةُ فِي الْمَرَضِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ. فَرْعٌ بَاعَ بِمُحَابَاةٍ، بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ مَرِضَ وَأَجَازَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَفْوِيتٍ، بَلِ امْتِنَاعٌ مِنْ كَسْبٍ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ عِنْدَهُ وَمَرِضَ الْبَائِعُ فَلَمْ يَفْسَخْ، وَكَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ بِعَيْبِهَا فَتَرَكَ حَتَّى مَاتَ وَاسْتَقَرَّ الْمَهْرُ، فَإِنَّهُ لَا يُحْسَبُ مِنَ الثُّلُثِ. وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى بِمُحَابَاةٍ، ثُمَّ مَرِضَ وَوَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، وَلَمْ يَرُدَّ مَعَ الْإِمْكَانِ، لَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِنَ الثُّلُثِ. وَلَوْ وُجِدَ الْعَيْبُ، وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ بِسَبَبٍ، فَأَعْرَضَ عَنِ الْأَرْشِ، اعْتُبِرَ قَدْرُ الْأَرْشِ مِنَ الثُّلُثِ.

وَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ فِي الْإِقَالَةِ يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ، وَخَلْعُ الْمَرِيضِ لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ ; لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُطْلَقَ مَجَّانًا، وَخَلْعُ الْمَرِيضَةِ مَذْكُورٌ فِي «كِتَابِ الْخَلْعِ» . الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ الِاحْتِسَابِ مِنَ الثُّلُثِ. إِذَا وُجِدَ تَبَرُّعَانِ، وَأَكْثَرُ، وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا، فَهِيَ إِمَّا مُنْجَزَةٌ، وَإِمَّا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَوْتِ، وَإِمَّا مِنَ النَّوْعَيْنِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، الْمُنْجَزَةُ، كَالْإِعْتَاقِ، وَالْإِبْرَاءِ، وَالْوَقْفِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ، وَالْمُحَابَاةِ فِي الْعُقُودِ، فَإِنْ تَرَتَّبَتْ، قُدِّمَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ إِلَى اسْتِغْرَاقِ الثُّلُثِ. فَإِذَا تَمَّ الثُّلُثُ، وَقَفَ أَمْرُ الزَّائِدِ عَلَى إِجَازَةِ الْوَارِثِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ جِنْسًا أَوْ جِنْسَيْنِ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْعِتْقُ عَلَى الْمُحَابَاةِ وَنَحْوِهَا أَوْ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَازِمٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَ أَقْوَى. وَإِنْ وُجِدَتْ دُفْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَاتَّحَدَ الْجِنْسُ مِثْلَ أَنْ قَالَ لِعَبِيدٍ: أَعْتَقْتُكُمْ، أَوْ أَبْرَأَ جَمَاعَةً مِنْ دُيُونِهِ، أَوْ وَهَبَ لَهُمْ، لَمْ يُقَدِّمِ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ. لَكِنْ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ يُقَسَّطُ الثُّلُثُ عَلَى الْجَمِيعِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنَ التَّسَاوِي أَوِ التَّفَاضُلِ. وَفِي الْعِتْقِ، يُقْرَعُ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَلَا تُوَزَّعُ الْحُرِّيَّةُ. وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، بِأَنْ وَكَّلَ فِي كُلِّ تَبَرُّعٍ وَكِيلًا، فَتَصَرَّفُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِتْقٌ قُسِّطَ الثُّلُثُ عَلَى الْجَمِيعِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ، فَهَلْ يُقَسَّطُ، أَمْ يُقَدَّمُ الْعِتْقُ؟ قَوْلَانِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي التَّبَرُّعَاتِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْمَوْتِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّبَرُّعَاتُ الْمُعَلَّقَةُ بِالْمَوْتِ، كَالْوَصَايَا، وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ، فَلَا يُقَدَّمُ عِتْقٌ عَلَى عِتْقٍ، وَلَا تَبَرُّعٌ غَيْرُ الْعِتْقِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْإِيصَاءِ، بَلْ فِي الْعِتْقِ يُقْرَعُ، وَفِي غَيْرِهِ يُقَسَّطُ الثُّلُثُ عَلَى الْجَمِيعِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَفِي الْعِتْقِ هُنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يُقَسَّطُ، وَتُخَصُّ الْقُرْعَةُ بِالْمُنْجَزِ، لِوُرُودِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيهِ،

وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. ثُمَّ هَذَا عِنْدَ إِطْلَاقِ الْوَصِيَّةِ. أَمَّا إِذَا قَالَ: أَعْتِقُوا سَالِمًا بَعْدَ مَوْتِي، ثُمَّ غَانِمًا، أَوِ ادْفَعُوا إِلَى زَيْدٍ مِائَةً، ثُمَّ إِلَى عَمْرٍو مِائَةً، فَيُقَدَّمُ مَا قَدَّمَهُ قَطْعًا. وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْقِسْمِ عِتْقٌ وَغَيْرُهُ، فَهَلْ يُقَدَّمُ الْعِتْقُ لِقُوَّتِهِ، أَمْ يُسَوَّى فِيهِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: التَّسْوِيَةُ. هَذَا فِي وَصَايَا التَّمْلِيكِ مَعَ الْعِتْقِ. أَمَّا إِذَا أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ بِشَيْءٍ، وَبِعِتْقِ عَبْدٍ، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: هُمَا سَوَاءٌ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقُرْبَةِ. وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، لِوُجُودِ الْقُوَّةِ وَالسِّرَايَةِ. قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِذَا سَوَّيْنَا، فَمَا خَصَّ الْعَبِيدَ إِذَا ضَاقَ عَنْهُمْ، يُقْرَعُ. وَالْكِتَابَةُ مَعَ الْهِبَةِ وَسَائِرِ الْوَصَايَا، كَالْعِتْقِ، فَتَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: يُسَوَّى [هُنَا] قَطْعًا، إِذْ لَيْسَ لَهَا قُوَّةٌ وَسَرَايَةٌ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ تَبَرُّعَاتٌ مُنَجَّزَةٌ وَمُعَلِّقَةٌ بِالْمَوْتِ، قُدِّمَتِ الْمُنَجَّزَةُ ; لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْمِلْكَ نَاجِزًا، وَلِأَنَّهَا لَازِمَةٌ. وَلَا يَمْلِكُ الْمَرِيضُ الرُّجُوعَ فِيهَا. فَرْعٌ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدٍ بِالْمَوْتِ، وَأَوْصَى بِعِتْقِ آخَرَ، فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ; لِأَنَّ وَقْتَ اسْتِحْقَاقِهِمَا وَاحِدٌ، وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْقُوَّةِ. وَفِي وَجْهٍ: الْمُدَبَّرُ أَوْلَى بِالْعِتْقِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ عِتْقُهُ، فَإِنَّ الْآخَرَ يَحْتَاجُ إِلَى إِنْشَاءِ عِتْقِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ لَا يُؤَثِّرُ تَقَدُّمُ الْهِبَةِ وَحْدَهَا بِلَا قَبْضٍ ; لِأَنَّ مِلْكَهَا بِالْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ وَهَبَ

الْمَرِيضُ ثُمَّ أَعْتَقَ، أَوْ حَابَى فِي بَيْعٍ ثُمَّ أَقْبَضَ الْمَوْهُوبَ، قُدِّمَ الْعِتْقُ وَالْمُحَابَاةُ، وَلَا تَفْتَقِرُ الْمُحَابَاةُ فِي بَيْعٍ وَنَحْوِهِ إِلَى قَبْضٍ ; لِأَنَّهَا فِي ضِمْنِ مُعَاوَضَةٍ. فَرْعٌ قَالَ فِي مَرَضِهِ: سَالِمٌ حُرٌّ، وَغَانِمٌ حُرٌّ، وَخَالِدٌ حُرٌّ، فَهَذَا مِنْ صُوَرِ تَرْتِيبِ التَّبَرُّعَاتِ الْمُنْجَزَةِ. وَلَوْ قَالَ: سَالِمٌ وَغَانِمٌ وَخَالِدٌ أَحْرَارٌ، فَهُوَ مِنْ صُوَرِ وُقُوعِهَا دُفْعَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُمْ بِالْمَوْتِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، سَوَاءً قَالَ: إِذَا مُتُّ، فَسَالِمٌ حُرٌّ، وَغَانِمٌ حُرٌّ، وَخَالِدٌ حُرٌّ، أَوْ [قَالَ: فَهُمْ أَحْرَارٌ. وَلَوْ] قَالَ: إِذَا مُتُّ فَسَالِمٌ حُرٌّ، وَإِنْ مُتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا، فَغَانِمٌ حُرٌّ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَلَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِهِمَا، أُقْرِعَ [بَيْنَهُمَا] . وَإِنْ بَرَأَ، وَمَاتَ بَعْدَهُ، بَطَلَ التَّدْبِيرُ الْمُقَيَّدُ، وَيَعْتِقُ سَالِمٌ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ أَعْتَقْتُ غَانِمًا، فَسَالِمٌ حُرٌّ، ثُمَّ أَعْتَقَ غَانِمًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَإِنْ خَرَجَا مِنَ الثُّلُثِ عَتَقَا، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا أَحَدُهُمَا، فَقِيلَ: يُقْرَعُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُكُمَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا قُرْعَةَ، بَلْ يَتَعَيَّنُ غَانِمٌ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّا لَوْ أَقْرَعْنَا، رُبَّمَا خَرَجَتْ عَلَى سَالِمٍ، فَيَلْزَمُ إِرْقَاقُ غَانِمٍ. وَإِذَا رَقَّ لَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ عِتْقِ سَالِمٍ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْتَقْتُ غَانِمًا، فَسَالِمٌ حُرٌّ فِي حَالِ إِعْتَاقِي

غَانِمًا، ثُمَّ أَعْتَقَ غَانِمًا فِي مَرَضِهِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ بِلَا فَرْقٍ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ أَعْتَقْتُ غَانِمًا، فَسَالِمٌ وَغَانِمٌ حُرَّانِ، ثُمَّ أَعْتَقَ غَانِمًا، وَالثُّلُثُ لَا يَفِي إِلَّا بِأَحَدِهِمْ، عَتَقَ غَانِمٌ، وَلَا قُرْعَةَ. وَإِنْ فَضَلَ مِنَ الثُّلُثِ شَيْءٌ أُقْرِعَ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ. فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ عَتَقَ كُلُّهُ إِنْ خَرَجَ كُلُّهُ، وَبَعْضُهُ إِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا بَعْضُهُ. وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ أَحَدُ الْآخَرَيْنِ، وَبَعْضُ الثَّالِثِ عَتَقَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَعَتَقَ مِنَ الْآخَرِ بَعْضُهُ. فَرْعٌ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ تَزَوَّجْتُ، فَأَنْتَ حُرٌّ. ثُمَّ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مُهِمَّ الْمِثْلِ مَحْسُوبٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِنِ اقْتَضَى الْحَالُ تَنْفِيذَ الزِّيَادَةِ نُظِرَ إِنْ خَرَجَتِ الزِّيَادَةُ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِنَ الثُّلُثِ نَفَذَ، وَإِلَّا فَيُقَدَّمُ الْمَهْرُ، كَذَا ذَكَرُوهُ تَوْجِيهًا بِأَنَّ الْمَهْرَ أَسْبَقُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ بِالنِّكَاحِ، وَالْعِتْقُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. لَكِنَّ مُقْتَضَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْمُرَتَّبَ وَالْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ يَقَعَانِ مَعًا وَلَا يَتَلَاحَقَانِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ أَنْ لَا يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، بَلْ يُوَزَّعُ الثُّلُثُ عَلَى الزِّيَادَةِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فَأَنْتَ حُرٌّ فِي حَالِ تَزَوُّجِي: أَنَّهُ يُوَزَّعُ الثُّلُثُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَرَتُّبَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ - حَيْثُ لَا يُوَزَّعُ هُنَاكَ، كَمَا لَا يُقْرَعُ - أَنَّ الْعِتْقَ هُنَا مُعَلَّقٌ بِالنِّكَاحِ، وَالتَّوْزِيعُ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَهُنَاكَ عِتْقُ سَالِمٍ مُعَلَّقٌ بِعِتْقِ غَانِمٍ كَامِلًا. وَإِذَا وَزَّعْنَا، فَلَا يَكْمُلُ عِتْقُ غَانِمٍ، وَلَا يُمْكِنُ إِعْتَاقُ شَيْءٍ مِنْ سَالِمٍ.

فَرْعٌ قَالَ لِأَمَتِهِ الْحَامِلِ: إِنْ أَعْتَقْتُ نِصْفَ حِمْلِكِ، فَأَنْتِ حُرَّةٌ، ثُمَّ أَعْتَقَ نِصْفَ حِمْلِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَمُقْتَضَى عِتْقِ نِصْفِ الْحِمْلِ سَرَايَتُهُ إِلَى بَاقِيهِ وَعِتْقُ الْأُمِّ بِالتَّعْلِيقِ. فَإِنْ خَرَجَا مِنَ الثُّلُثِ، عَتَقَا، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ النِّصْفِ إِلَّا الْأُمُّ، أَوِ النِّصْفُ الْآخَرُ، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ ثَلَاثَمِائَةٍ، وَالْأُمُّ مِنْهَا خَمْسُونَ، وَالْوَلَدُ مِائَةٌ، فَيُقْرَعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالنِّصْفِ الْآخَرِ. وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ عَتَقَ جَمِيعُ الْحَمْلِ وَرَقَّتِ الْأُمُّ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَى الْأُمِّ لَمْ يُعْتَقْ كُلُّهَا ; لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا يَتْبَعُ عِتْقُهُ عِتْقَهَا، فَتُوَزَّعُ قِيمَةُ الثُّلُثِ وَهِيَ خَمْسُونَ عَلَى الْأُمِّ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بِالسَّوِيَّةِ، فَيُعْتَقُ مِنَ الْأُمِّ نِصْفُهَا، وَمِنَ النِّصْفِ الْبَاقِي نِصْفُهُ، فَيَكُونُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ حُرًّا. وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ كَمَا ذَكَرْنَا إِلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْأُمِّ مِائَةٌ، وَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى الْأُمِّ وُزِّعَتِ الْخَمْسُونَ عَلَيْهَا وَعَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ الْبَاقِي أَثْلَاثًا، فَيُعْتَقُ مِنْهَا ثُلُثُهَا، وَهُوَ ثُلُثَا الْخَمْسِينَ، وَمِنَ النِّصْفِ الْبَاقِي ثُلُثُهُ وَهُوَ ثُلُثُ الْخَمْسِينَ، وَسُدُسُ جُمْلَتِهِ، فَيَكُونُ الْحُرُّ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَمِنَ الْوَلَدِ الثُّلُثَيْنِ. فَرْعٌ أَوْصَى بِعَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ يُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَبَاقِي مَالِهِ غَائِبٌ، لَا يُدْفَعُ كُلُّهُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، وَلَا يُسَلَّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ مِنَ الْمَالِ الْغَائِبِ مَا يَخْرُجُ الْمُوصَى بِهِ مِنْ ثُلُثِهِ ; لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْمُوصَى لَهُ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ لِلْوَارِثِ مِثْلَاهُ، وَرُبَّمَا تَلِفَ الْغَائِبُ. وَهَلْ يَتَسَلَّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِهِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ ; لِأَنَّ تَسْلِيطَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَسْلِيطِ الْوَرَثَةِ عَلَى مِثْلَيْ مَا تَسَلَّطَ عَلَيْهِ. وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيطُهُمْ، لِاحْتِمَالِ سَلَامَةِ الْغَائِبِ. فَيَخْلُصُ جَمِيعُ الْمُوصَى بِهِ لِلْمُوصَى لَهُ. فَلَوْ تَصَرَّفُوا فِي ثُلُثَيِ

الْحَاضِرِ، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ: إِنْ بَانَ هَلَاكُ الْغَائِبِ تَبَيَّنَّا نُفُوذَ تَصَرُّفِهِمْ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: يَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ. قُلْتُ: بَلْ يَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ فَبَانَ مَيِّتًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَإِنْ سَلِمَ وَعَادَ إِلَيْهِمْ، تَبَيَّنَّا بُطْلَانَ التَّصَرُّفِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُمْضَى عَلَى الصِّحَّةِ، وَيَغْرَمُ لِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثَيْنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، أَوْ دَبَّرَهُ، وَبَاقِي مَالِهِ غَائِبٌ فَفِي نُفُوذِ الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ فِي ثُلُثِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْوَصِيَّةِ. كَذَا ذَكَرُوهُ، وَقَدْ يُسْتَبْعَدُ التَّرَدُّدُ فِي الْعِتْقِ فِي الثُّلُثِ، فَإِنَّهُ حُرٌّ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. بَلِ الْوَجْهُ: الْجَزْمُ بِحُصُولِ الْمِلْكِ فِي الثُّلُثِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ أَيْضًا. وَرُدَّ الْخِلَافُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، أَمْ يُمْنَعُ [مِنَ] التَّصَرُّفِ إِلَى أَنْ يَتَسَلَّطَ الْوَارِثُ عَلَى مِثْلَيْهِ؟ . الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ، فَنَتَكَلَّمُ فِي طَرَفِ الْإِيجَابِ، ثُمَّ طَرَفِ الْقَبُولِ، أَمَّا الْإِيجَابُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، بِأَنْ يَقُولَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِكَذَا، أَوْ أَعْطُوهُ، أَوِ ادْفَعُوا إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِي كَذَا، أَوْ هُوَ لَهُ، أَوْ جَعَلْتُهُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ مَلَّكْتُهُ، أَوْ وَهَبْتُهُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِي. أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَهَبْتُهُ لَهُ، وَنَوَى الْوَصِيَّةَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ فِي مَوْضُوعِهِ الصَّرِيحِ، وَهُوَ التَّمْلِيكُ النَّاجِزُ. وَلَوْ قَالَ: هَذَا لَهُ، فَهُوَ إِقْرَارٌ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَا يُجْعَلُ كِنَايَةً عَنِ الْوَصِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: هُوَ لَهُ مِنْ مَالِي، أَوْ يَقُولَ: عَبْدِي هَذَا لِفُلَانٍ، فَيَصِحُّ كِنَايَةً عَنِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ إِقْرَارًا. وَلَوْ قَالَ: عَيَّنْتُهُ لَهُ، فَهَذَا كِنَايَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ لِلتَّمْلِيكِ بِالْوَصِيَّةِ، وَالتَّعْيِينَ لِلْإِعَارَةِ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْكِتَابَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا سَبَقَ فِي «كِتَابِ الْبَيْعِ» : أَنَّ مَا يُقْبَلُ مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقُ بِالْإِغْرَارِ، كَالْكِتَابَةِ، وَالْخَلْعِ، يَنْعَقِدُ

فصل

بِالْكِتَابَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالْإِغْرَارِ، فَأَوْلَى أَنْ تَنْعَقِدَ بِالْكِتَابَةِ. وَلَوْ كَتَبَ: إِنِّي أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَنْعَقِدُ إِذَا كَانَ الشَّخْصُ نَاطِقًا، كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا؟ فَأَشَارَ: أَنْ نَعَمْ. وَلَوْ وُجِدَ لَهُ كِتَابُ وَصِيَّةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى مَضْمُونِهِ، أَوْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ جَمَاعَةً أَنَّ الْكِتَابَ خَطِّي، وَمَا فِيهِ وَصِيَّتِي، وَلَمْ يُطْلِعْهُمْ عَلَى مَا فِيهِ فَقَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ، وَلَا يُعْمَلُ بِمَا فِيهِ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ بِهِ مُفَصَّلًا. وَنَقَلَ الْإِمَامُ، وَالْمُتَوَلِّي: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: يَكْفِي الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ مُبْهَمًا. وَرَوَى أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ أَنَّهُ قَالَ: يَكْفِي الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ» عِنْدَهُ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْكِتَابَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ انْعِقَادَ الْوَصِيَّةِ بِالْكِتَابَةِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ وَإِنِ اسْتَبْعَدُوهُ ; لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَكِنَايَاتِ الْأَلْفَاظِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَيْعِ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ بِالْكِنَايَاتِ. وَذَكَرْنَا الْآنَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أَشَدُّ قَبُولًا لِلْكِنَايَاتِ. فَإِذَا كَتَبَ، وَقَالَ: نَوَيْتُ الْوَصِيَّةَ لِفُلَانٍ، أَوِ اعْتَرَفَ وَرَثَتُهُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ. فَرْعٌ لَوِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ بِالْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْقَبُولُ فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ لَزِمَتْ بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ

فِيهَا الْقَبُولُ. وَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ، فَالْمَذْهَبُ اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ وَلَا يَصِحُّ قَبُولٌ وَلَا رَدٌّ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَلَهُ الرَّدُّ وَإِنْ قَبِلَ فِي الْحَيَاةِ، وَبِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَأَشْبَهَ إِسْقَاطَ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ فِي الْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِيهِ وَجْهٌ: يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ. حَكَاهُ صَاحِبُ «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِنْ رَدَّ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ قَبْلَ الْقَبُولِ، فَتَرْتَدُّ الْوَصِيَّةُ، وَيَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ لِلْوَرَثَةِ فِي الْمُوصَى بِهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِالْعَيْنِ لِوَاحِدٍ، وَبِالْمَنْفَعَةِ لِآخَرَ، فَرَدَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، فَهَلْ هِيَ لِلْوَرَثَةِ، أَمْ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدٍ لِرَجُلٍ سَنَةً، وَقَالَ: هُوَ حُرٌّ بَعْدَ سَنَةٍ، فَرَدَّ الْمُوصَى لَهُ، لَمْ يُعْتَقْ قَبْلَ السَّنَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَقَبْلَ الْمُوصَى لَهُ، فَلَا يَصِحُّ رَدُّهُ، فَإِنْ رَاضَى الْوَرَثَةَ، فَهُوَ ابْتِدَاءُ تَمْلِيكٍ مِنْهُ لَهُمْ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقَعَ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَا يَصِحُّ الرَّدُّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: رَدَدْتُ الْوَصِيَّةَ لِفُلَانٍ، يَعْنِي أَحَدَ الْوَرَثَةِ، قَالَ فِي «الْأُمِّ» : إِنْ قَالَ: أَرَدْتُ لِرِضَاهُ، كَانَ رَدًّا عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ. وَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ تَخْصِيصَهُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، فَهُوَ هِبَةٌ لَهُ خَاصَّةً. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى تَصْحِيحِ الرَّدِّ بَعْدَ الْقَبُولِ، [وَإِلَّا فَمَا لَا يَمْلِكُهُ] لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ غَيْرَهُ. ثُمَّ لَمْ يُعْتَبَرْ لَفْظُ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا أَرَادَهُ، جُعِلَ رَدًّا عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ.

فصل

فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَقْبَلِ الْمُوصَى لَهُ، وَلَمْ يَرُدَّ، فَلِلْوَارِثِ مُطَالَبَتُهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنِ امْتَنَعَ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ. فَرْعٌ لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِهِ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ. فَصْلٌ مَتَى يَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ الْمُوصَى بِهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: بِالْمَوْتِ. وَالثَّانِي: بِالْقَبُولِ. وَعَلَى هَذَا، هَلِ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبُولِ لِلْوَارِثِ، أَمْ لِلْمَيِّتِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَالثَّالِثُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ -: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. فَإِنْ قَبِلَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَ بِالْمَوْتِ، وَإِلَّا بَانَ أَنَّهُ كَانَ لِلْوَارِثِ. وَلَوْ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ إِلَى أَنْ يُعْتَقَ لِلْوَارِثِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَمْلِيكًا. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْأَقْوَالِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: كَسْبُ الْعَبْدِ، وَثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ، وَسَائِرُ زَوَائِدِ الْمُوصَى بِهِ، إِنْ حَصَلَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهِيَ لَهُ، وَلَا تَتَنَاوَلُهَا الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ حَصَلَتْ بَعْدَهُ وَبَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ حَصَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْمَوْتِ، فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ، قَبِلَ الْوَصِيَّةَ أَوْ رَدَّهَا. وَفِيمَا إِذَا رَدَّهَا وَجْهٌ: أَنَّ الزَّوَائِدَ تُرْتَدُّ

أَيْضًا. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ، لَمْ تَكُنِ الزَّوَائِدُ لِلْمُوصَى لَهُ، قَبِلَ الْوَصِيَّةَ أَوْ رَدَّهَا. وَفِيمَا إِذَا قَبِلَ وَجْهٌ: أَنَّهَا لَهُ ; لِأَنَّ لَهُ حَقَّ التَّمْلِيكِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، فَهِيَ حَادِثَةٌ فِي مَحَلِّ حَقِّهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَقْفِ، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ. فَإِنْ قَبِلَ فَلَهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَحَيْثُ قُلْنَا: تُرْتَدُّ الزَّوَائِدُ، فَإِلَى مَنْ تُرْتَدُّ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى الْمُوصِي، فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِ يُقْضَى مِنْهَا دَيْنُهُ، وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ كَالْأَصْلِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا لِلْوَارِثِ ; لِأَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمُوصِي. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَلَدُ الْجَارِيَةِ وَالْبَهِيمَةُ الْمُوصَى بِهِمَا، وَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا تَفْصِيلٌ وَأَحْوَالٌ نَذْكُرُهَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى الْأَثَرِ مُوَضَّحَةً. الثَّانِيَةُ: فِطْرَةُ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِهِ إِذَا وَقَعَ وَقْتَ وُجُوبِهَا بَيْنَ الْقَبُولِ وَالْمَوْتِ عَلَى مَنْ تَجِبُ؟ يَخْرُجُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ. وَالنَّفَقَةُ وَالْمُؤَنُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهَا بَيْنَ الْقَبُولِ وَالْمَوْتِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْفِطْرَةِ. وَقَالَ فِي الْوَسِيطِ: إِنَّهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ إِنْ قَبِلَ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، وَعَلَى الْوَارِثِ إِنْ رَدَّ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الْأَصْحَابِ مِنْ طَرْدِ الْخِلَافِ. وَإِذَا تَوَقَّفَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، أُلْزِمَ النَّفَقَةَ فَإِنْ أَرَادَ الْخَلَاصَ رُدَّ. الثَّالِثَةُ: إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ حُرًّا، وَأَوْصَى لَهُ بِهَا، فَإِنْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْمَوْتِ، فَيُفْسَخُ النِّكَاحُ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ ضَعِيفًا. وَإِنْ قَبِلَ انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَيَكُونُ الِانْفِسَاخُ مِنْ يَوْمِ الْقَبُولِ إِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ، وَمِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَيُّنِ إِنْ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ. وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا وَارِثَهُ، ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: الْمِلْكُ يَحْصُلُ بِالْقَبُولِ، وَإِنَّهُ قَبْلَ الْقَبُولِ لِلْوَارِثِ، فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا، لِضَعْفِ الْمِلْكِ وَإِنْ رُدَّ انْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَفِي اسْتِنَادِ الْفَسْخِ إِلَى حَالَةِ الْمَوْتِ لِضَعْفِ الْمِلْكِ هَذَا الْخِلَافُ. هَذَا إِذَا خَرَجَتِ الْأَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ

وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، لِدُخُولِ شَيْءٍ مِمَّا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ. وَإِنْ أَجَازُوا وَقُلْنَا: يَمْلِكُهُ بِالْمَوْتِ، أَوْ مَوْقُوفٌ، فَهَلْ يَنْفَسِخُ؟ إِنْ قُلْنَا: إِجَازَتُهُمْ تَنْفِيذٌ لِمَا فَعَلَهُ الْمُوصِي، فَلَا. وَإِنْ قُلْنَا: ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ، فَنَعَمْ. الرَّابِعَةُ: أَوْصَى بِأَمَتِهِ الْحَامِلِ مِنْ زَوْجِهَا لِزَوْجِهَا، وَلِابْنٍ لَهَا حُرٍّ، وَمَاتَ، وَخَرَجَتْ كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ، وَقَبِلَا الْوَصِيَّةَ وَهُمَا مُوسِرَانِ، نُظِرَ إِنْ قَبِلَا مَعًا، عَتَقَتِ الْأَمَةُ كُلُّهَا عَلَى ابْنِهَا، نِصْفُهَا بِالْمِلْكِ، وَالْبَاقِي بِالسِّرَايَةِ، وَعَلَيْهِ لِلزَّوْجِ نِصْفُ قِيمَتِهَا، وَيَعْتِقُ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ. أَمَّا نَصِيبُ الزَّوْجِ، فَلِأَنَّهُ وَلَدُهُ. وَأَمَّا نَصِيبُ الِابْنِ، فَلِأَنَّ الْأُمَّ عَتَقَتْ عَلَيْهِ. وَالْعِتْقُ يَسْرِي مِنَ الْحَامِلِ إِلَى مَا يَمْلِكُهُ الْمُعَتِقُ مِنْ حَمْلِهَا. وَلَا يُقَوَّمُ نَصِيبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ عَلَيْهِمَا حَصَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا اشْتَرَى ابْنَانِ أَبَاهُمَا، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِمَا وَلَا تَقْوِيمَ، وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ الْمِلْكُ بِالْمَوْتِ، أَوْ قُلْنَا: بِالْوَقْفِ، فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ وَقْتَ الْمِلْكِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ وَقْتُ الْقَبُولِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ قَبُولُ الِابْنِ، عَتَقَتِ الْأَمَةُ وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ. أَمَّا الْأُمُّ، فَبِالْمِلْكِ وَالسِّرَايَةِ، وَأَمَّا الْحَمْلُ فَبِسِرَايَةِ عِتْقِ الْأُمِّ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ لِلزَّوْجِ نِصْفُ قِيمَتِهَا. وَإِنْ تَقَدَّمَ قَبُولُ الزَّوْجِ، عَتَقَ جَمِيعُ الْحَمْلِ عَلَيْهِ، النِّصْفُ بِالْمِلْكِ، وَالْبَاقِي بِالسِّرَايَةِ، فَيَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ لِلِابْنِ، وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمَةِ شَيْءٌ. فَإِذَا قَبِلَ الِابْنُ عَتَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُهَا بِالْمِلْكِ وَالسِّرَايَةِ، وَغَرِمَ لِلزَّوْجِ نِصْفُ قِيمَتِهَا. قُلْتُ: وَيَجِيءُ وَجْهٌ: أَنَّ الْأَمَةَ تُعْتَقُ عَلَى الزَّوْجِ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّ عِتْقَ الْجَنِينِ يَسْرِي إِلَى عِتْقِ الْأُمِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا إِذَا قَبِلَ الزَّوْجُ وَحْدَهُ، فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ الْحَمْلُ، نِصْفُهُ بِالْمِلْكِ، وَنِصْفُهُ بِالسِّرَايَةِ، فَيَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، وَلَا يَسْرِي الْعِتْقُ مِنَ الْحَمْلِ إِلَى الْأُمِّ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ لَهَا، وَلَيْسَتْ تَبَعًا لَهُ. قُلْتُ: وَفِيهِ وَجْهُ أَبِي إِسْحَاقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ قَبِلَ الِابْنُ وَحْدَهُ، عَتَقَا عَلَيْهِ [جَمِيعًا] ، وَغَرِمَ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِوَرَثَةِ الْمُوصِي. قُلْتُ: قَدْ كَرَّرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ نِصْفَ الْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ. وَالْقِيَاسُ: أَنَّهُ يَجِبُ قِيمَةُ النِّصْفِ، وَهِيَ أَقَلُّ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتْلَفَ نِصْفًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِمَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، [كَأَبِيهِ وَابْنِهِ] ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ، كَمَا لَا يَجِبُ شِرَاؤُهُ [إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ] ، بَلْ لَهُ الرَّدُّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُمْنَعُ الرَّدُّ إِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْمَوْتِ ; لِأَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَطَعُ الْمُتَوَلِّي تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبُولِهِ. ثُمَّ إِنْ رَدَّ فَذَاكَ، وَإِنْ قَبِلَ وَقُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ، عَتَقَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالْمَوْتِ، أَوْ مَوْقُوفٌ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْمَوْتِ. وَلَوْ مَلَكَ ابْنَ أَخِيهِ، وَأَوْصَى بِهِ لِأَجْنَبِيٍّ، وَوَارِثُهُ أَخُوهُ، فَقَبِلَ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ، فَهُوَ لِلْأَجْنَبِيِّ إِنْ قُلْنَا: يُمْلَكُ بِالْمَوْتِ أَوْ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ قُلْنَا: يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ، وَأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبُولِ لِلْوَارِثِ، فَمُقْتَضَاهُ الْعِتْقُ عَلَى الْوَارِثِ يَوْمَ الْمَوْتِ، لَكِنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ كَيْ لَا تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ. وَلَوْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِابْنِهِ، وَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَأَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّدَّ يُمْنَعُ، لِعِتْقِهِ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ إِذَا قُلْنَا: يَمْلِكُ بِهِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لِلْوَارِثِ قَبُولُهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِتْقِ عَلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَإِثْبَاتِ

الْوَلَاءِ لَهُ. هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْعِتْقَ إِذَا حَصَلَ وَقَعَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ جِدًّا. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الرَّدِّ وَالْقَبُولِ؛ لِنِيَابَتِهِ عَنْهُ فِي حُقُوقِهِ. فَإِنْ قَبِلَ، فَهُوَ كَقَبُولِ الْمُوصَى لَهُ بِنَفْسِهِ إِنْ قُلْنَا: يُمْلَكُ بِالْمَوْتِ، أَوْ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ قُلْنَا: يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ، نُظِرَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمُوصَى بِهِ، وَوَارِثِ الْمُوصَى لَهُ قَرَابَةٌ تَقْتَضِي عِتْقَهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ كَانَ الْوَارِثُ أَخَا الْمُوصَى لَهُ، فَهَلْ نَحْكُمُ بِعِتْقِهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّ الْمُوصِيَ إِنَّمَا أَوْجَبَ الْمِلْكَ لِلْمُوصَى لَهُ فَلَا يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا قَبُولَ وَارِثِهِ نِيَابَةً، وَهَذَا كَمَا لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فِي حَيَاتِهِ وَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّا نَحْكُمُ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْمُوصَى بِهِ وَوَارِثِ الْمُوصَى لَهُ قَرَابَةٌ تَقْتَضِي الْعِتْقَ، بِأَنْ كَانَ الْوَارِثُ أَبَا الْمُوصَى لَهُ، حُكِمَ بِعِتْقِ الْمُوصَى بِهِ قَطْعًا. وَيَعُودُ الْوَجْهَانِ، فِي أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، أَمْ عَلَى وَارِثِهِ؟ وَأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ يَثْبُتُ؟ فَإِنْ قُلْنَا: عَنِ الْمُوصَى لَهُ، قَالَ الْإِمَامُ: يُسْنَدُ الْعِتْقُ إِلَى أَلْطَفِ زَمَانٍ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصَى لَهُ. وَإِذَا لَمْ نَحْكُمُ بِالْعِتْقِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ، فَهَلْ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُ الْمُوصَى لَهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ كَدِيَتِهِ فَإِنَّهُ تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا تَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً. هَذَا حُكْمُ الْعِتْقِ. وَهَلْ يَرِثُ الَّذِي عَتَقَ مِنَ الْمُوصِي؟ أَمَّا إِذَا قَبِلَ بِنَفْسِهِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ قَبِلَ فِي صِحَّتِهِ، فَنَعَمْ. وَإِنْ قَبِلَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَإِرْثُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُ إِذَا حَصَلَ الْمِلْكُ فِيهِ لَا بِعِوَضٍ، بَلْ بِإِرْثٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ قَبُولِ وَصِيَّةٍ، هَلْ يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ، أَمْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ. إِنْ قُلْنَا: مِنَ الثُّلُثِ، لَمْ يَرِثْهُ، وَإِلَّا، وَرَثَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَقَبِلَ وَارِثُهُ، فَإِنْ حَكَمْنَا بِالْحُرِّيَّةِ عِنْدَ الْقَبُولِ،

لَمْ يَرِثْ، لِرِقِّهِ. وَإِنْ حَكَمْنَا بِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ الْقَابِلُ مِمَّنْ يَحْجُبُهُ الْمُوصَى بِهِ كَالْأَخِ، لَمْ يَرِثْ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَحَجَبَ الْأَخَ وَأَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ وَارِثًا، وَلَبَطَلَ قَبُولُهُ. وَإِنْ كَانَ لَا يُحْجِبُهُ، كَابْنِ الْأَخِ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَرِثُ أَيْضًا، لِلدَّوْرِ فِي نِصْفِهِ. وَقِيلَ: يَرِثُ. وَقَالَ الدَّارِكِيُّ: إِنْ ثَبَتَ الْقَبُولُ لِلْمُوصَى لَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، لَمْ يَرِثْ ; لِأَنَّ قَبُولَ وَرَثَتِهِ كَقَبُولِهِ، وَلَوْ قَبِلَ لَكَانَ وَصِيَّةً، وَالْإِرْثُ لَا يُجَامِعُهَا. فَرْعٌ: أَوْصَى لَهُ بِمَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَنِ ابْنَيْنِ، فَالْقَوْلُ فِي قَبُولِهِمَا تَفْرِيعًا عَلَى الْأَقْوَالِ فِي وَقْتِ الْمِلْكِ كَمَا سَبَقَ. وَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ وَوُقُوعُ الْعِتْقِ عَنِ الْمَيِّتِ. وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، صَحَّ الْقَبُولُ فِي النِّصْفِ، وَعَتَقَ عَلَى الْمَيِّتِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَآخَرُونَ: يُنْظَرُ، إِنْ وَرِثَ الْقَابِلُ مِنَ الْمُوصَى لَهُ مَا يَفِي بِبَاقِي قِيمَةِ الْمُوصَى بِهِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي فِيمَا وَرِثَهُ، وَإِلَّا فَلَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِيَسَارِ الْقَابِلِ فِي نَفْسٍ، وَلَا يَثْبُتُ التَّقْوِيمُ فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يَقْبَلْ مِنَ التَّرِكَةِ. أَمَّا عَدَمُ اعْتِبَارِ يَسَارِهِ، فَلِأَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ عَنِ الْمَيِّتِ، فَلَا يَكُونُ التَّقْوِيمُ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا عَدَمُ ثُبُوتِهِ فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يَقْبَلْ، فَلِأَنَّ سَبَبَ الْعِتْقِ الْقَبُولُ، فَالَّذِي لَمْ يَقْبِلْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهِ، فَهُوَ مُعْتَرِفٌ بِعِتْقِ نَصِيبِ الْقَابِلِ وَاقْتِضَائِهِ التَّقْوِيمَ، فَالتَّقْوِيمُ كَدَيْنٍ يَلْحَقُ التَّرِكَةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يَجِبُ أَنْ لَا يُقَوَّمَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَيُقْصَرُ الْعِتْقُ عَلَى الْقَدْرِ الْمَقْبُولِ لِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِلْكَ حَصَلَ لِلْمَيِّتِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، بَلْ بِقَبُولِ الْوَارِثِ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا وَرِثَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ فَعَتَقَ عَلَيْهِ، لَا يُقَوَّمُ الْبَاقِي. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِتْقَ يَحْصُلُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ حِينَئِذٍ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا أَعْتَقَ شِقْصًا بَعْدَ الْمَوْتِ، لَا يُقَوَّمُ الْبَاقِي. قَالَ: وَرَأَيْتُ

هَذَا لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّمَا حَكَمْنَا بِالْعِتْقِ عَلَى الْمَيِّتِ لِجَعْلِنَا الْوَارِثَ نَائِبًا عَنْهُ، فَكَيْفَ يَنْتَفِي اخْتِيَارُهُ مَعَ النِّيَابَةِ؟ لَكِنَّهُمَا حُكْمِيَّانِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلَا يُسَلَّمُ أَنَّ الْعِتْقَ يَحْصُلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، بَلْ يَسْتَنِدُ إِلَى قُبَيْلِ الْمَوْتِ كَمَا سَبَقَ. ثُمَّ وَلَاءُ مَا عَتَقَ مِنْهُ لِلْمَيِّتِ. وَهَلْ يَشْتَرِكُ فِيهِ الِابْنَانِ، أَمْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْقَابِلُ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِبَعْضِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ، وَقَبِلَ وَارِثُهُ، فَالْقَوْلُ فِي عِتْقِهِ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَقْوِيمُ الْبَاقِي عَلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. السَّادِسَةُ: أَوْصَى بِأَمَةٍ لِابْنِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ، وَقَبِلَ الِابْنُ الْوَصِيَّةَ، عَتَقَتْ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَدَّ، بَقِيَتْ لِلْوَارِثِ. وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ، فَالْجَوَابُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ كَذَلِكَ. وَأَمَّا الزَّائِدُ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ ابْنُهَا الْوَصِيَّةَ، فَقَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّ جَمِيعَهَا لِلْوَارِثِ، فَيَسْرِي الْعِتْقُ مِنَ الْبَعْضِ الَّذِي أَعْتَقَهُ إِلَى الْبَاقِي. وَإِنْ قَبِلَ، عَتَقَ عَلَيْهِ مَا قَبِلَ. قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: وَلَا يُقَوَّمُ نَصِيبُهُ عَلَى الْوَارِثِ، لِأَنَّا تَبَيَّنَّا بِالْقَبُولِ حُصُولَ مِلْكِهِ بِالْمَوْتِ وَتَقَدُّمَهُ عَلَى إِعْتَاقِ الْوَارِثِ الزِّيَادَةَ، وَلَا يُقَوَّمُ نَصِيبُ الْوَارِثِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: الصَّوَابُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا: يُمْلَكُ بِالْمَوْتِ ابْتِدَاءً، وَتَبَيَّنَّا، قُوِّمَ نَصِيبُ الْوَارِثِ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ، عَتَقَ الْكُلُّ عَلَى الْوَارِثِ ; لِأَنَّهُ يَسْرِي مِنْ نَصِيبِهِ إِلَى قَدْرِ الثُّلُثِ. وَالْقَبُولُ بَعْدَهُ كَإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ الثَّانِي بَعْدَ إِعْتَاقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُوسِرٌ. هَذَا إِذَا حَكَمْنَا بِحُصُولِ السِّرَايَةِ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَقَبُولُهُ كَإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ الثَّانِي نَصِيبَهُ قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْفُذُ ; لِأَنَّهُ مِلْكُهُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّ تَقْوِيمَهُ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، لَهُ قِيمَةُ نَصِيبِهِ عَلَى الْوَارِثِ. فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَوَارِثُ الْمُوصِي ابْنٌ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ بِنِكَاحٍ، فَإِنْ رَدَّ الْمُوصَى لَهُ، عَتَقَتْ عَلَى الِابْنِ الَّذِي

هُوَ وَارِثُ السَّيِّدِ. وَإِنْ قَبِلَهَا، نُظِرَ، إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ، عَتَقَتْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ. وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ، فَالزَّائِدُ مِنْهَا عَلَى الثُّلُثِ. أَطْلَقَ ابْنُ الْحَدَّادِ: أَنَّهُ يَعْتِقُ فِي الْحَالِ عَلَى الْوَارِثِ، وَفَصَّلَ الشَّارِحُونَ، فَقَالُوا: إِنْ لَمْ يُجِزِ الْوَارِثُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَجَازَ، فَعِتْقُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ، أَمْ تَنْفِيذٌ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَقَدْ حَكَمْنَا لِلْوَارِثِ بِالْمِلْكِ قَبْلَ أَنْ يُعْطَى، فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: تَنْفِيذٌ، لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا نَجْعَلُ الزَّائِدَ لِلْوَارِثِ، بَلْ نَقِفُهُ عَلَى الرَّدِّ وَالْإِجَازَةِ. فَإِذَا أَجَازَ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ. وَأَمَّا قَدْرُ الثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، وَلَا يُقَوَّمُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. السَّابِعَةُ: أَوْصَى بِعَبْدٍ لِشَخْصَيْنِ، أَحَدُهُمَا قَرِيبُهُ الَّذِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَبِلَا مَعًا، عَتَقَ جَمِيعُهُ عَلَى الْقَرِيبِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، النِّصْفُ بِالْمِلْكِ، وَالنِّصْفُ بِالسِّرَايَةِ، وَيَغْرَمُ لِلْأَجْنَبِيِّ نِصْفَ قِيمَتِهِ. وَإِنْ قَبِلَ الْقَرِيبُ أَوَّلًا، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْعِتْقِ، وَيَكُونُ غُرْمُ النِّصْفِ لِلْأَجْنَبِيِّ إِنْ قَبِلَ بَعْدِ ذَلِكَ، وَلِوَارِثِ الْمُوصِي إِنْ لَمْ يَقْبَلْ. وَإِنْ قَبِلَ الْأَجْنَبِيُّ أَوَّلًا، مَلَكَ نَصِيبَهُ، [وَيَبْقَى نَصِيبُ الْقَرِيبِ مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ يَقْبَلَ أَوْ يَرُدَّ، فَإِنْ أَعْتَقَ الْأَجْنَبِيُّ نَصِيبَهُ قَبْلَ قَبُولِ الْقَرِيبِ، ثُمَّ قَبِلَ، فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ، قُوِّمَ نَصِيبُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَكَانَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْتَقَ الثَّانِي نَصِيبَهُ] ، وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْمَوْتِ، تَبَيَّنَّا أَنَّ عِتْقَ الْأَجْنَبِيِّ غَيْرُ نَافِذٍ، وَأَنَّهُ عَتَقَ جَمِيعُهُ عَلَى الْوَارِثِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ. الثَّامِنَةُ: أَوْصَى بِجَارِيَةٍ فَوَلَدَتْ، فَلَهَا أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ تَلِدَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَيُنْظَرُ، إِنِ انْقَضَى أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ مِنْ يَوْمِ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ، لَمْ يَدْخُلِ الْوَلَدُ فِي الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حُدُوثَهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْحَمْلِ يَوْمئِذٍ، فَلَا يُجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالشَّكِّ.

وَإِنْ لَمْ يَنْقَضِ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، عَلِمْنَا وُجُودَهُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، فَيُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْحَمْلَ [هَلْ] يُعْرَفُ وَيُعْطَى حُكْمًا قَبْلَ الِانْفِصَالِ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَالْوَلَدُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْوَصِيَّةِ، بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْمُوصِي، فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِالْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، فَيُنْظَرُ، أَيَقْبَلُهُمَا الْمُوصَى لَهُ؟ أَمْ يَرُدُّهُمَا؟ أَمْ يَقْبَلُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ؟ وَفِي هَذَا زِيَادَةٌ بِحَيْثُ نَذْكُرُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ زَوْجَ الْجَارِيَةِ، وَقَبِلَ الْوَصِيَّةَ فِي الْوَلَدِ، عَتَقَ [كُلُّهُ] عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِرَقِيقٍ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَلِدَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهَذَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. (الْقِسْمُ) الْأَوَّلُ: وَلَدَتْ بَعْدَ مُضِيِّ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ، فَالْوَلَدُ غَيْرُ مُوصًى بِهِ؛ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ زَوْجَ الْجَارِيَةِ، بُنِيَ حُكْمُ الْوَلَدِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَتَى تُمْلَكُ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْقَبُولِ، وَأَنَّهَا قَبْلَ الْقَبُولِ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، فَالْوَلَدُ لَهُمْ، لَا إِرْثًا مِنَ الْمَيِّتِ، بَلْ لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِمْ. وَإِنْ قُلْنَا: تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ، أَوْ مَوْقُوفٌ، فَقَبِلَ، فَالْعُلُوقُ فِي مُلْكِهِ، فَيَنْعَقِدُ الْوَلَدُ حُرًّا لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ. (الْقِسْمُ) الثَّانِي: وَلَدَتْ قَبْلَ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ، وَبَعْدَهَا مِنْ يَوْمِ الْوَصِيَّةِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ حَدَثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ يُعْرَفُ، فَالْوَلَدُ زِيَادَةٌ حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْمُوصِي، فَهُوَ لَهُ، وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْرَفُ، وَلَا يُعْطَى حُكْمًا، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَتَى تُمَلَّكُ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْقَبُولِ وَأَنَّهَا لِلْوَرَثَةِ قَبْلَ الْقَبُولِ، فَالْوَلَدُ لَهُمْ؛ لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِمْ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالْمَوْتِ، أَوْ مَوْقُوفٌ، وَكَانَ الْمُوصَى لَهُ

زَوْجَ الْجَارِيَةِ، وَقَبِلَ، عَتَقَ الْوَلَدُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَلَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ. (الْقِسْمُ) الثَّالِثِ: أَنْ تَلِدَ قَبْلَ مُضِيِّ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ مِنْ يَوْمَيِ الْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةِ جَمِيعًا. فَإِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ يُعْرَفُ، فَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِالْجَارِيَةِ وَالْحَمْلِ جَمِيعًا، وَإِلَّا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَتَى تُمَلَّكُ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي. الْحَالُ الثَّالِثِ: أَنْ تَلِدَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولِ، وَلَهُ صُوَرٌ. أَحَدُهَا: تَلِدُ بَعْدَ مُضِيِّ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ مِنْ وَقْتِ الْقَبُولِ، فَالْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ. فَلَوْ كَانَ زَوْجَ الْجَارِيَةِ، انْعَقَدَ الْوَلَدُ حُرًّا، وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. الثَّانِيَةُ: تَلِدُ قَبْلَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَبُولِ، وَبَعْدِهَا مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْوَصِيَّةُ تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ، أَوْ مَوْقُوفٌ، فَقَبِلَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصُّورَةِ الْأُولَى. وَإِنْ قُلْنَا: تُمْلَكُ بِالْقَبُولِ، وَأَنَّهَا قَبْلَ الْقَبُولِ لِلْوَرَثَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ يُعْرَفُ، فَهُوَ زِيَادَةٌ لِلْوَرَثَةِ، وَإِلَّا فَلِلْمُوصَى لَهُ، وَإِذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ زَوْجَ الْجَارِيَةِ، عَتَقَ الْوَلَدُ عَلَيْهِ، وَثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ. الثَّالِثَةُ: تَلِدُ قَبْلَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَبُولِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا، وَبَعْدَهَا مِنْ يَوْمِ الْوَصِيَّةِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ يُعْرَفُ، فَالْوَلَدُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا، وَاعْتَبَرْنَا حَالَةَ الِانْفِصَالِ، فَالِانْفِصَالُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ، فَيَكُونُ الْوَلَدُ لَهُ، وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ زَوْجَهَا، وَلَا اسْتِيلَادَ. الرَّابِعَةُ: تَلِدُ قَبْلَ مُضِيِّهَا مِنْ يَوْمِ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا. فَإِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ يُعْرَفُ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِلَّا فَهُوَ حَاصِلٌ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ، فَيَكُونُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ زَوْجَهَا، عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَلَا اسْتِيلَادَ.

فَرْعٌ: نِتَاجُ بَاقِي الْحَيَوَانِ يُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْجَارِيَةِ، وَيُرْجَعُ فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ. فَرْعٌ: قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ: حَيْثُ حَكَمْنَا بِمَصِيرِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ، هَلْ تُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْإِصَابَةِ مِنْ يَوْمِ الْمِلْكِ، أَمْ يَكْفِي إِمْكَانُ الْإِصَابَةِ؟ وَجْهَانِ. وَالثَّانِي هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ. قَالَ: وَحَيْثُ بَقَّيْنَا الْوَلَدِ عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ، فَالْمُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ قِيمَةُ الْجَارِيَة وَحْدَهَا. وَإِذَا لَمْ نُبَقِّهِ، فَالْمُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ مَا كَانَ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي مَوْجُودًا. فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا، اعْتُبِرَ قِيمَتُهَا وَحْدَهَا. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَقِيمَتُهَا مَعَ قِيمَةِ الْحَمْلِ، وَحِينَئِذٍ فَالنَّظَرُ إِلَى قِيمَتِهَا حَامِلًا يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمئِذٍ لَوْ كَانَتْ حَائِلًا، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْحَمْلِ فِي أَوَّلِ حَالِ الِانْفِصَالِ. وَإِذَا قَوَّمْنَاهُمَا فَخَرَجَا مِنَ الثُّلُثِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَلَا يُقْرَعُ، بَلْ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ مِنْهُمَا عَلَى نِسْبَةٍ وَاحِدَةٍ. فَرْعٌ: نَقَلَ الْمُزَنِيُّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَمَةٍ لِزَوْجِهَا، فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى وَضَعَتْ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا أَوْلَادًا. فَإِنْ قَبِلَ عَتَقُوا وَلَمْ تَكُنْ أُمُّهُمْ أُمَّ وَلَدٍ حَتَّى تَلِدَ مِنْهُ بَعْدَ قَبُولِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: «أَنَّهُ» لِمَ اعْتَبَرَ عَدَمَ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ؟ وَهَلْ يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ؟ وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَكَمَ بِحُرِّيَّةِ الْأَوْلَادِ، وَأَنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ. فَإِنْ فَرَّعَ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، أَوْ عَلَى الْوَقْفِ، فَلِمَ اعْتَبَرَ مُضِيَّ الْأَشْهُرِ فِي مَصِيرِهَا أُمَّ وَلَدٍ؟ وَإِنْ فَرَّعَ عَلَى الْمِلْكِ بِالْقَبُولِ، فَلِمَ حَكَمَ بِحُرِّيَّةِ الْأَوْلَادِ فِي الْحَالِ؟ ! أَمَّا الْأَوَّلُ، فَعَنِ الْخُضَرِيِّ مَا يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ يَظُنُّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ الْحُرَّةُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَلَوْ ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ الرَّقِيقَةَ، فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِي أُمَّيْهِ بَيْنَ عِلْمِهِ وَعَدَمِهِ، حَتَّى لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ يَظُنُّهَا أَمَةَ غَيْرِهِ، أَوْ حُرَّةً فَأَحْبَلَهَا، ثَبَتَتْ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ. فإذًا قَوْلُهُ: «وَلَمْ يَعْلَمْ» لَيْسَ بِقَيْدٍ، بَلْ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً، لَا مَقْبُولَةً، وَلَا مَرْدُودَةً، إِلَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُوصَى لَهُ؛ لِغَيْبَتِهِ أَوْ نَحْوِهَا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَقِيلَ: هُوَ تَخْلِيطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ. فَقَوْلُهُ: «عَتَقُوا» ، تَفْرِيعٌ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ: «وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ» ، تَفْرِيعٌ عَلَى حُصُولِهِ [بَالْقَبُولِ] . وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ الْوَقْفِ. وَأَرَادَ بِالْقَبُولِ، فِي قَوْلِهِ: «بَعْدَ قَبُولِهِ» الْمَوْتَ، فَسَمَّاهُ قَبُولًا ; لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَبُولِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَفْظُ الشَّافِعِيِّ الْمَوْتُ لَكِنَّ الْمُزَنِيَّ سَهَا فِيهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ الْمُوصَى بِهَا زَوْجَةَ الْمُوصَى لَهُ، وَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ وَرَثَتَهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، فَإِنْ قَبِلُوا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمِلْكُ مَتَّى يَحْصُلُ؟ إِنْ قُلْنَا: بِالْمَوْتِ، أَوْ مَوْقُوفٌ، فَقَبُولُهُمْ كَقَبُولِ الْمُوصَى لَهُ فِي عِتْقِ الْأَوْلَادِ بِالْمِلْكِ، وَفِي انْعِقَادِهِمْ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَمَصِيرِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ وَفِي بَقَائِهِمْ مَمَالِيكَ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ السَّابِقَةِ بِلَا فَرْقٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا عَتَقُوا بِقَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، وَرِثُوهُ. وَإِذَا عَتَقُوا بِقَبُولِ الْوَرَثَةِ، لَمْ يَرِثُوا كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ. فَإِنْ كَانَ بَيْنَ

الْوَارِثِ وَالْأَوْلَادِ قَرَابَةٌ تَقْتَضِي الْعِتْقَ، بِأَنْ كَانَ وَارِثُ الْمُوصَى لَهُ أَبَاهُ، عَتَقُوا عَلَيْهِ، وَإِلَّا، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْعِتْقُ، فَهَلْ تُقْضَى دُيُونُ الْمُوصَى لَهُ مِنْهَا؟ أَمْ تُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ أَيْضًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْوَصِيَّةِ الصَّحِيحَةِ إِذَا جَمَعَتِ الْوَصِيَّةُ شُرُوطَ صِحَّتِهَا صَحَّتْ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَحْكَامِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: لَفْظِيَّةٌ، وَمَعْنَوِيَّةٌ، وَحِسَابِيَّةٌ. (الْقِسْمُ) الْأَوَّلُ: اللَّفْظِيَّةُ، وَفِيهِ طَرَفَانِ. (الطَّرَفُ) الْأَوَّلُ: فِي اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْمُوصَى بِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. (الْمَسْأَلَةُ) الْأُولَى: إِذَا أَوْصَى بِجَارِيَةٍ حَامِلٍ، وَاسْتَثْنَى حَمْلَهَا لِنَفْسِهِ، صَحَّ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَكَذَلِكَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ وَحْدَهُ، بِشَرْطِهِ الْمُتَقَدِّمِ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِالْحَمْلِ لِرَجُلٍ، وَبِالْأُمِّ لِآخَرَ، صَحَّتِ الْوَصِيَّتَانِ. وَلَوْ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ بِالْجَارِيَةِ، فَفِي دُخُولِ الْحَمْلِ فِيهَا وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ: الدُّخُولُ، كَالْبَيْعِ، وَلَا تَبْعُدُ الْفَتْوَى، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَنْفَرِدُ بِالْبَيْعِ، فَجُعِلَ تَبَعًا، وَيُفْرَدُ بِالْوَصِيَّةِ، فَلَا يَتْبَعُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ تَنْزِيلُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ؛ وَلِأَنَّهَا عَقْدٌ ضَعِيفٌ، فَلَا يُسْتَتْبَعُ. فَإِنْ قُلْنَا بِدُخُولِهِ، لَمْ تَنْقَطِعِ الْوَصِيَّةُ بِانْفِصَالِ الْحَمْلِ، بَلْ يَبْقَى مُوصَى بِهِ، وَالِانْفِصَالُ زِيَادَةٌ حَدَثَتْ فِيهِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِالْحَمْلِ وَالْجَارِيَةِ مَعًا، صَحَّ فِيهِمَا قَطْعًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِمَا لِرَجُلَيْنِ. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّانِيَةُ: الطَّبْلُ أَنْوَاعٌ سَبَقَ بَيَانُهَا. وَذَكَرْنَا أَنَّ طَبْلَ اللَّهْوِ إِنْ صَلُحَ لِمَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ، إِمَّا عَلَى هَيْئَتِهِ، وَإِمَّا بَعْدَ التَّغْيِيرِ الَّذِي لَا يُبْطِلُ اسْمَ الطَّبْلِ،

صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ، وَإِلَّا، فَلَا. إِذَا عَرَفَتْ هَذَا، فَإِنْ أَطْلَقَ وَقَالَ: أَعْطُوهُ طَبْلًا مِنْ مَالِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَبْلٌ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، اشْتُرِيَ وَدُفِعَ إِلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: طَبْلًا مِنْ طُبُولِي، فَإِنْ كَانَ لَهُ طَبْلٌ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ [بِهِ] ، كَطَبْلِ الْحَرْبِ، وَكَانَ لَهُ أَيْضًا طَبْلُ لَهْوٍ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ، صَحَّتِ [الْوَصِيَّةُ] وَنُزِّلَ عَلَى طَبْلِ الْحَرْبِ وَنَحْوِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا طُبُولٌ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَإِذَا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالطَّبْلِ، دُفِعَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ مَعَهُ الْجِلْدُ الَّذِي عَلَيْهِ إِنْ كَانَ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الطَّبْلِ دُونَ الْجِلْدِ. فَرْعٌ: تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالدُّفِّ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ جَلَاجِلُ، وَحَرَّمْنَاهَا، نُزِعَتْ، وَلَمْ تُدْفَعْ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهَا. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّالِثَةُ: اسْمُ الْعُودِ يَقَعُ عَلَى عُودِ اللَّهْوِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ، وَعَلَى وَاحِدِ الْأَخْشَابِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْبِنَاءِ وَالَّتِي تَصْلُحُ لِلسَّقْيِ وَالْعِصِيِّ. وَالْوَصِيَّةُ بِعُودِ اللَّهْوِ كَهِيَ بِطَبْلِ اللَّهْوِ، فَيُنْظَرُ، هَلْ يَصْلُحُ عَلَى هَيْئَتِهِ لِمَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ أَوْ بَعْدَ التَّغْيِيرِ الَّذِي لَا يُبْطِلُ اسْمَ الْعُودِ، أَمْ لَا يَصْلُحُ؟ وَإِذَا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ لَمْ يُدْفَعِ الْوَتَرُ وَالْمِضْرَابُ ; لِأَنَّهُ يُسَمَّى عُودًا دُونَهُمَا. وَإِذَا قَالَ: أَعْطُوهُ عُودًا مِنْ عِيدَانِي، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ [لَهُ] إِلَّا عِيدَانُ الْقِسِيِّ وَالْبِنَاءِ، أُعْطِيَ وَاحِدًا مِنْهَا. وَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَهَا عِيدَانُ اللَّهْوِ الصَّالِحَةُ لِمَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ، أَعْطَاهُ الْوَارِثُ مَا شَاءَ مِنَ الْجَمِيعِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عِيدَانُ لَهْوٍ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِمُبَاحٍ، وَعِيدَانُ قِسِيٍّ وَبِنَاءٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَنْزِلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى عِيدَانِ الْقِسِيِّ وَالْبِنَاءِ، كَمِثْلِهِ فِي الطَّبْلِ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا عِيدَانُ الْقِسِيِّ وَالْبِنَاءِ، فَيُعْطَى وَاحِدًا مِنْهَا. وَأَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، تَنْزِيلًا عَلَى عِيدَانِ اللَّهْوِ ; لِأَنَّ اسْمَ الْعُودِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِهَذَا الَّذِي يُضْرَبُ، وَاسْتِعْمَالُهُ

فِي غَيْرِهِ مَرْجُوحٌ، وَالطَّبْلِ يَقَعُ عَلَى الْجَمِيعِ وُقُوعًا وَاحِدًا. وَلِلْقَائِلِ الْأَوَّلِ أَنْ يَمْنَعَ ظُهُورَ اسْمِ الْعُودِ فِيمَا يُضْرَبُ بِهِ، وَيَقُولُ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي يُتَبَخَّرُ بِهِ وَفِي وَاحِدِ الْأَخْشَابِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَلَا تَرْجِيحَ. فَرْعٌ: أَوْصَى بِعُودٍ، وَلَا عُودَ لَهُ، فَمُقْتَضَى تَنْزِيلِ مُطْلَقِ الْعُودِ عَلَى عُودِ اللَّهْوِ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ، وَأَنْ يُشْتَرَى لَهُ عُودُ لَهْوٍ يَصْلُحُ لِمُبَاحٍ، وَأَطْلَقَ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ يُشْتَرَى مَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي مَالِهِ أَمْكَنَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ بِالْعُودِ بِهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِعُودٍ مِنْ عِيدَانِهِ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا عُودُ لَهْوٍ، وَعُودُ بِنَاءٍ، وَعُودُ قِسِيٍّ. فَإِنْ حَمَلْنَا لَفْظَ الْعِيدَانِ عَلَى هَذِهِ الْآحَادِ، فَقَدْ حَمَلْنَا اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ عَلَى مَعَانِيهِ مَعًا، وَفِيهِ خِلَافٌ لِأَهْلِ الْأُصُولِ. فَإِنْ مُنِعَ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِعُودٍ مِنْ عِيدَانِهِ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا عُودُ لَهْوٍ، أَوْ لَا عُودَ لَهُ. قُلْتُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْوَصِيَّةُ بِالْمِزْمَارِ كَالْوَصِيَّةِ بِعُودِ اللَّهْوِ. وَإِذَا صَحَّتْ، لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُ الْمُجْمَعِ، وَهُوَ الَّذِي يُجْعَلُ بَيْنَ شَفَتَيْهِ ; لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ. (الْمَسْأَلَةُ) الرَّابِعَةُ: اسْمُ الْقَوْسِ يُطْلَقُ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا النَّبْلُ،

وَهِيَ السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ، وَعَلَى الْفَارِسِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا النُّشَّابُ. وَعَلَى الْقِسِيِّ الَّتِي لَهَا مَجْرَى تَنْفُذُ فِيهِ السِّهَامُ الصِّغَارُ، وَيُسَمَّى: الْحُسْبَانُ. وَعَلَى الْجُلَاهِقُ، وَهُوَ مَا يُرْمَى بِهِ الْبُنْدُقُ. وَعَلَى قَوْلٍ: النَّدْفُ. وَالسَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ لَفْظِ الْقَوْسِ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ. فَإِذَا قَالَ: أَعْطُوهُ قَوْسًا، حُمِلَ عَلَى أَحَدِهِمَا، دُونَ الْجُلَاهِقِ وَقَوْسِ النَّدْفِ. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ مَا يُسَمَّى قَوْسًا، فَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّ لِلْوَارِثِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا شَاءَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهَا. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ قَوْسًا، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: مَا يُسَمَّى قَوْسًا غَالِبًا أَوْ نَادِرًا وَمَا أَشْبَهَهُ. قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ فِي «التَّتِمَّةِ» هُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ قَوْسًا مِنْ قِسِيِّي، وَلَهُ قِسِيٌّ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ، أُعْطِيَ مَا يُرْمَى بِهِ النَّبْلُ أَوِ النُّشَّابُ أَوِ الْحُسْبَانُ، دُونَ الْبُنْدُقِ وَالْجُلَاهِقِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا قَوْسُ نَدْفٍ، أَوْ جُلَاهِقُ، حُمِلَ عَلَيْهِ، لِلتَّقْيِيدِ بِالْإِضَافَةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ قَوْسُ نَدْفٍ وَجُلَاهِقُ، أُعْطِيَ الْجُلَاهِقَ ; لِأَنَّ الِاسْمَ إِلَيْهِ أَسْبَقُ. وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. فَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ قَوْسًا يُقَاتِلُ بِهَا، أَوْ يَرْمِي الطَّيْرَ، أَوْ يَنْدِفُ بِهَا، فَقَدَ أَبَانَ الْغَرَضَ. فَرْعٌ: لَا يَدْخُلُ الْوَتَرُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْقَوْسِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِخُرُوجِهِ عَنِ اسْمِ الْقَوْسِ. وَكَمَا لَا يَدْخُلُ السَّرْجُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالدَّابَّةِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِي بَيْعِ الْقَوْسِ. وَأَمَّا الرِّيشُ، وَالنَّصْلُ، فَيَدْخُلَانِ فِي السَّهْمِ لِثُبُوتِهِمَا. (الْمَسْأَلَةُ) الْخَامِسَةُ: اسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى صَغِيرَةِ الْجُثَّةِ، وَكَبِيرَتِهَا، وَالسَّلِيمَةِ،

وَالْمَعِيبَةِ، وَالصَّحِيحَةِ، وَالْمَرِيضَةِ، وَالضَّائِنَةِ، وَالْمَاعِزِ. وَهَلْ يَدْخُلُ الذَّكَرُ فِيهَا؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: لَا يَدْخُلُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِنَاثِ بِالْعُرْفِ. وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: يَدْخُلُ ; لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ كَالْإِنْسَانِ، وَلَيْسَتِ التَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، بَلْ لِلْوَاحِدِ. قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ عَنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ ذَكَرًا، أَجْزَأَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي السَّخْلَةِ، وَالْعَنَاقِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَقَعُ عَلَيْهِمَا اسْمُ الشَّاةِ. وَالثَّانِي: يَقَعُ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ شَاةً مِنْ شِيَاهِي، أَوْ مِنْ غَنَمِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ أُعْطِيَ وَاحِدَةً مِنْهَا سَلِيمَةً، أَوْ مَعِيبَةً مِنَ الضَّأْنِ، أَوِ الْمَعْزِ، وَإِذَا كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا، أُعْطِيَ ذَكَرًا. وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا إِنَاثًا أُعْطِيَ أُنْثَى. وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، جَازَ أَنْ يُعْطَى أُنْثَى. وَفِي جَوَازِ الذَّكَرِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي تَنَاوُلِ الشَّاةِ الذَّكَرَ. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ شَاةً مِنْ مَالِي، أُعْطِيَ وَاحِدَةً يَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ. فَإِنْ مَلَكَ غَنَمًا، فَلِلْوَارِثِ أَنْ يُعْطِيَ عَلَى غَيْرِ صِفَةِ غَنَمِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَنَمًا، اشْتَرَى لَهُ شَاةً، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: مِنْ غَنَمِي، وَلَا غَنَمَ لَهُ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرُوا لَهُ شَاةً، حَكَى الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِي مَعِيبَةً ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْأَمْرِ بِالشِّرَاءِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ كَمَا فِي التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ، وَأَبْدَى فِيمَا حَكَاهُ احْتِمَالًا، وَلَوْ قَالَ: كَبْشًا أَوْ تَيْسًا، أَوْ شَاةً لِيُنْزِيَهَا عَنْ غَنَمِهِ، فَالْوَصِيَّةُ بِالذَّكَرِ. وَلَوْ قَالَ: نَعْجَةٌ، أَوْ شَاةٌ يَحْلِبُهَا، أَوْ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا، فَهِيَ بِالْأُنْثَى. قُلْتُ: لَمْ يُفْصِحِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ بِالْغَرَضِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قَالَ نَعْجَةٌ: فَهِيَ لِلْأُنْثَى مِنَ الضَّأْنِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا فِي «تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ» . وَإِنْ قَالَ: شَاةٌ يَحْلِبُهَا، أَوْ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا، فَهِيَ لِلْأُنْثَى مِنَ الضَّأْنِ، أَوِ الْمَعْزِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: الظِّبَاءُ قَدْ يُقَالُ لَهَا: شِيَاهُ الْبَرِّ، وَالثَّوْرُ الْوَحْشِيُّ قَدْ يُسَمَّى شَاةً فِي اللُّغَةِ، لَكِنَّ مُطْلَقَ الْوَصِيَّةِ بِالشَّاةِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا. لَكِنْ لَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ شَاةً مِنْ شِيَاهِي، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ظِبَاءٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي الْمُعْتَمَدِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ تَنْزِيلَ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَسْأَلَةُ) السَّادِسَةُ: الْبَعِيرُ، وَالْجَمَلُ، وَالنَّاقَةُ، أَسْمَاءٌ تَشْتَمِلُ السَّلِيمَ وَالْمَعِيبَ، وَالْبَخَاتِيِّ وَالْعِرَابِ. وَلَا يَتَنَاوَلُ الْجَمَلُ النَّاقَةَ، وَلَا النَّاقَةُ الْجَمَلَ. وَفِي تَنَاوُلِ الْبَعِيرِ النَّاقَةَ مِثْلُ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي تَنَاوُلِ الشَّاةِ الذَّكَرَ، وَالْحِكَايَةُ عَنِ النَّصِّ الْمَنْعُ، وَتَنْزِيلُ الْبَعِيرِ مَنْزِلَةَ الْجَمَلِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ التَّنَاوُلُ ; لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَسُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ: حَلَبَ فُلَانٌ بَعِيرَهُ، وَصَرَعَتْنِي بَعِيرِي. وَرُبَّمَا أَفْهَمَكَ كَلَامُ الْأَصْحَابِ تَوَسُّطًا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ تَنْزِيلُ النَّصِّ عَلَى مَا إِذَا عَمَّ الْعُرْفُ بِاسْتِعْمَالِ الْبَعِيرِ بِمَعْنَى الْجَمَلِ، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ إِذَا لَمْ يَعُمَّ. فَرْعٌ: اسْمُ الثَّوْرِ لِلذَّكَرِ. وَفِي الْبَقَرَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: اخْتِصَاصُهَا بِالْأُنْثَى. وَالثَّانِي: يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ، وَالْهَاءُ لِلْوَاحِدِ، كَقَوْلِنَا: تَمْرَةٌ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي اسْمِ الْبَغْلَةِ. فَرْعٌ: قَالَ: أَعْطُوهُ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، أَوِ الْغَنَمِ، جَازَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. وَلَوْ قَالَ:

عَشْرُ أَيْنُقٍ، أَوْ بَقَرَاتٍ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا الْإِنَاثَ. وَلَا فَرْقَ بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالْأَيْنُقِ وَالْبَقَرَاتِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: عَشْرًا وَعَشَرَةً. وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ الْبَقَرَةَ لِلْأُنْثَى. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، أَوْ عَشَرَةً، جَازَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى؛ لِتَنَاوُلِ الْإِبِلِ النَّوْعَيْنِ، وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ السَّرْخَسِيُّ: إِنْ قَالَ: عَشَرَةٌ، فَلِلذُّكُورِ، وَعَشْرٌ لِلْإِنَاثِ. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ رَأْسًا مِنَ الْإِبِلِ، أَوِ الْبَقَرِ، أَوِ الْغَنَمِ، جَازَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. فَرْعٌ: أَوْصَى بِكَلْبٍ، أَوْ حِمَارٍ، قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُمْ مَيَّزُوا، فَقَالُوا: كَلْبٌ وَكَلْبَةٌ، وَحِمَارٌ وَحِمَارَةٌ. وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا لِلْجِنْسِ ; لِأَنَّ التَّمْيِيزَ لَيْسَ مُسْتَمِرًّا فِي اللُّغَةِ، وَبِتَقْدِيرِ اسْتِمْرَارِهِ، فَلَا شَكَّ فِي اسْتِمْرَارِ الْعُرْفِ بِخِلَافِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ لِهَذَا: يُتَّبَعُ الْعُرْفُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: قِيَاسُ تَكْمِيلِ الْبَقْرِ بِالْجَوَامِيسِ فِي نُصُبِ الزَّكَاةِ، دُخُولُ الْجَوَامِيسِ فِي الْبَقْرِ، وَكَوْنُهُمَا نَوْعَيْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ فِي «الْمُعْتَمَدِ» : لَا تَدْخُلُ فِي الْبَقَرِ، إِلَّا إِذَا قَالَ: مِنْ بَقَرِي وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْجَوَامِيسُ، فَوَجْهَانِ كَمَا ذَكَرَ فِي الظِّبَاءِ.

(الْمَسْأَلَةُ) السَّابِعَةُ: الدَّابَّةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يُرْكَبُ مِنَ الْبَهَائِمِ. وَالْوَصِيَّةُ تَنْزِلُ عَلَى هَذَا الثَّانِي. فَإِذَا قَالَ: أَعْطُوهُ دَابَّةً، تَنَاوَلَ الْخَيْلَ، وَالْبِغَالَ، وَالْحَمِيرَ. هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ مِصْرَ فِي رُكُوبِهَا جَمِيعًا وَاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الدَّابَّةِ فِيهَا. فَأَمَّا سَائِرُ الْبِلَادِ، فَحَيْثُ لَا يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ إِلَّا فِي الْفَرَسِ، لَا يُعْطَى إِلَّا الْفَرَسَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا: الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَالَ: دَابَّةٌ مِنْ دَوَابِّي، وَلَهُ جِنْسَانِ مِنَ الثَّلَاثَةِ، تَخَيَّرَ الْوَارِثُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا جِنْسٌ، تَعَيَّنَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ «لَهُ» شَيْءٌ مِنْهَا، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالسَّلِيمُ وَالْمَعِيبُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَطْلَقَ. فَلَوْ قَالَ: دَابَّةٌ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ، أَوْ لِلْقِتَالِ، حُمِلَ عَلَى الْفَرَسِ. وَلَوْ قَالَ: لِيَنْتَفِعَ بِدَرِّهَا وَظَهْرِهَا، فَكَذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: بِظَهْرِهَا وَنَسْلِهَا، حُمِلَ عَلَى الْفَرَسِ، وَالْجَمَلِ، وَالْحِمَارَةِ. وَلَوْ قَالَ: لِلْحَمْلِ، حُمِلَ عَلَى الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالْحَمْلِ عَلَى الْبَرَاذِينِ، فَيَدْخَلُ الْجَمِيعُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: بَلْ لَوْ كَانَ عُرْفُ بَلَدِهِمُ الْحَمْلَ عَلَى الْجِمَالِ وَالْبَقَرِ، جَازَ أَنْ يُعْطَى جَمَلًا، أَوْ بَقَرَةً. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الدَّابَّةَ عَلَى الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ لَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَى غَيْرِهَا لِقَيْدٍ أَوْ صِفَةٍ. قُلْتُ: قَوْلُ الْمُتَوَلِّي قَوِيٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّامِنَةُ: اسْمُ الرَّقِيقِ بِالْوَضْعِ يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، وَالسَّلِيمَ وَالْمَعِيبَ، وَالْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالْخُنْثَى.

فَرْعٌ: إِذَا قَالَ: أَعْطُوهُ رَأْسًا مِنْ رَقِيقِي، أَوْ أَوْصَيْتُ لَهُ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَقِيقٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، وَلَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ عَبْدِيَ الْحَبَشِيَّ، أَوِ الْعَبْدَ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا، وَلَا عَبْدَ لَهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، وَلَا حَدَثَ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ. فَلَوْ حَدَثَ لَهُ أَرِقَّاءُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِيَوْمِ الْوَصِيَّةِ، أَمْ بِيَوْمِ الْمَوْتِ؟ وَعَلَيْهِمَا يُخَرَّجُ مَا إِذَا كَانَ لَهُ أَرِقَّاءُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ وَحَدَثَ آخَرُونَ بَعْدَهُ، وَهَلْ لِلْوَارِثِ أَنْ يُعْطِيَهُ رَقِيقًا مِنَ الْحَادِثِينَ، أَمْ يَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُونَ؟ وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا رَقِيقًا وَاحِدًا وَقَالَ: أَعْطُوهُ رَأْسًا مِنْ رَقِيقِي، فَهَلْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْوَاحِدُ، أَمْ تَبْطُلُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرِقَّاءُ، أَعْطَاهُ الْوَارِثُ مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ، وَيَجُوزُ الْخُنْثَى عَلَى الْأَصَحِّ، لِشُمُولِ الِاسْمِ. وَقِيلَ: لَا، لِانْصِرَافِ اللَّفْظِ إِلَى الْمَعْهُودِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ غَيْرِ أَرِقَّائِهِ وَلَوْ تَرَاضِيًا ; لِأَنَّ حَقَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَالْمُصَالَحَةُ عَنِ الْمَجْهُولِ بَاطِلَةٌ. فَرْعٌ: لَهُ أَرِقَّاءُ أَوْصَى بِأَحَدِهِمْ، فَمَاتُوا، أَوْ قُتِلُوا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ، تَعَيَّنَ. . وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُمْ إِلَّا وَاحِدًا. وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ أَنْ يُمْسِكَ الَّذِي بَقِيَ وَيَدْفَعَ إِلَيْهِ قِيمَةَ مَقْتُولٍ. وَإِنْ قُتِلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ وَبَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى الْقِيمَةِ، فَيَصْرِفُ الْوَارِثُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ. وَإِنْ قُتِلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَكَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: تُمْلَكُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَوْتِ، أَوْ مَوْقُوفَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: تُمْلَكُ بِالْقَبُولِ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، أَوْ قُتِلَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي

وَقَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَلِلْوَارِثِ التَّعْيِينُ فِيهِ، حَتَّى يَجِبَ التَّجْهِيزُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ فِي صُورَةِ الْمَوْتِ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ لَهُ فِي صُورَةِ الْقَتْلِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَكَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: تُمْلَكُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَوْتِ، أَوْ مَوْقُوفَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: تُمْلَكُ بِالْقَبُولِ، فَيُعْطَى وَاحِدًا مِنَ الْبَاقِينَ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي. فَرْعٌ: أَوْصَى بِرَقِيقٍ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يُضِفْ إِلَى أَرِقَّائِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَقِيقٌ، اشْتُرِيَ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَ، فَالْوَارِثُ يُعْطِيهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ، أَوْ يَشْتَرِي لَهُ كَمَا يَشَاءُ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرُوا لَهُ [مَمْلُوكًا، فَكَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: اشْتَرُوا لَهُ] شَاةً. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ رَقِيقًا، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ مَالِي، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا يَكُونُ وَصِيَّةً. وَحَكَى الْمُتَوَلِّي وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي - قَالَ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ -: تَصْحِيحُ الْوَصِيَّةِ، وَجَعَلَهَا كَقَوْلِهِ: مِنْ مَالِي ; لِأَنَّهُ الْمُرَادُ ظَاهِرًا. فَرْعٌ: قَالَ: أَعْطُوهُ عَبْدًا، لَمْ يُعْطَ أَمَةً، وَلَا خُنْثَى مُشْكِلًا. وَلَوْ قَالَ: أَمَةً، لَمْ يُعْطَ عَبْدًا، وَلَا خُنْثَى مُشْكِلًا. وَفِي الْوَاضِحِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. وَلَوْ قَالَ: رَقِيقًا يُقَاتِلُ، أَوْ يَخْدِمُهُ فِي السَّفَرِ، تَعَيَّنَ الْعَبْدُ. وَلَوْ قَالَ: رَقِيقًا يَسْتَمْتِعُ بِهِ، أَوْ يَحْضُنُ وَلَدَهُ، تَعَيَّنَتِ الْأَمَةُ. وَلَوْ قَالَ: رَقِيقًا يَخْدِمُهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ.

فَرْعٌ (لَوْ) أَوْصَى بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ، أُعْتِقَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ مَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ ; لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي الْإِعْتَاقِ، بِخِلَافِ: أَعْطُوهُ عَبْدًا، فَلَا عُرْفَ فِيهِ. فَرْعٌ: قَالَ: اشْتَرُوا بِثُلُثِي عَبْدًا وَأَعْتِقُوهُ عَنِّي، فَامْتَثَلَ الْوَارِثُ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنِ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ، وَقَعَ عَنْهُ وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ، وَيَكُونُ الْعِتْقُ عَنِ الْمَيِّتِ ; لِأَنَّهُ أُعْتِقَ عَنْهُ. وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ، بَطَلَ الشِّرَاءُ وَالْعِتْقُ. كَذَا ذَكَرُوهُ بِلَا خِلَافٍ. وَقَدْ سَبَقَ فِي تَصَرُّفِ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ تَفْصِيلٌ، وَذَكَرْنَا عَلَى تَقْدِيرِ الْبُطْلَانِ خِلَافًا فِي أَنَّهُ إِذَا تَصَرَّفَ ثُمَّ ظَهَرَ دَيْنٌ، هَلْ يَتَبَيَّنُ الْبُطْلَانُ، أَمْ لَا؟ وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافُ. فَرْعٌ: قَالَ: أَعْتِقُوا عَنِّي رِقَابًا، أَوْ قَالَ: اشْتَرُوا بِثُلُثِ مَالِي رِقَابًا وَاعْتِقُوهُمْ، فَأَقَلُ عَدَدٍ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الرِّقَابِ ثَلَاثَةٌ. فَإِنْ تَيَسَّرَ شِرَاءُ ثَلَاثٍ فَصَاعِدًا بِثُلُثِهِ، فَعَلَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِكْثَارُ مَعَ الِاسْتِرْخَاصِ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِقْلَالِ مَعَ الِاسْتِغْلَاءِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ إِعْتَاقَ خَمْسِ رِقَابٍ قَلِيلَةِ الْقِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْ إِعْتَاقِ أَرْبَعَةٍ كَثِيرَةِ الْقِيمَةِ. وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الثُّلُثِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَى رَقَبَتَيْنِ. فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَيْهِمَا،

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ: يُضَمَّنُ الْوَصِيُّ لِلرَّقَبَةِ الثَّالِثَةِ. وَهَلْ يُضَمَّنُ ثُلُثَ مَا نَفِذَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ، أَمْ أَقَلَّ مَا يَجِدُ بِهِ رَقَبَةً؟ فِيهِ الْخِلَافُ، كَمَنْ دَفَعَ نَصِيبَ أَحَدِ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ إِلَى اثْنَيْنِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ [شِرَاءُ] ثَلَاثِ رِقَابٍ بِالثُّلُثِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ لَمْ يُوجَدْ بِهِ إِلَّا رَقَبَتَانِ، اشْتَرَيْنَاهُمَا وَأَعْتَقْنَاهُمَا. وَإِنْ وَجَدْنَا رَقَبَتَيْنِ، وَفَضَلَ شَيْءٍ، فَهَلْ يُشْتَرَى بِالْفَاضِلِ شِقْصًا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الشِّقْصَ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: اشْتَرُوا بِثُلُثِي رَقَبَةً، فَلَمْ يَجِدْ رَقَبَةً، لَا يَشْتَرِي شِقْصًا قَطْعًا. فَعَلَى هَذَا، يَشْتَرِي رَقَبَتَيْنِ نَفِيسَتَيْنِ يَسْتَغْرِقُ ثَمَنُهُمَا الثُّلُثَ. فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَنْفَسِ رَقَبَتَيْنِ وَجَدْنَاهُمَا، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْفَاضِلِ، وَرُدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَشْتَرِي شِقْصًا، فَذَاكَ إِذَا وُجِدَ شِقْصٌ يُشْتَرَى بِالْفَاضِلِ وَزَادَ عَلَى ثَمَنِ أَنْفَسِ رَقَبَتَيْنِ شَيْءٌ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ شِرَاءُ شِقْصٍ بِالْفَاضِلِ، إِمَّا لِقِلَّتِهِ، وَإِمَّا لِعَدَمِ الشِّقْصِ، فَيُشْتَرَى رَقَبَتَانِ نَفِيسَتَانِ. فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ أَنْفَسِ رَقَبَتَيْنِ وَجَدْنَاهُمَا، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْفَاضِلِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُوقَفُ إِلَى أَنْ يُوجَدَ شِقْصٌ، فَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَمَنِ أَنْفَسِ رَقَبَتَيْنِ شَيْءٌ، بَلْ أَمْكَنَ شِرَاءُ رَقَبَتَيْنِ نَفِيسَتَيْنِ، وَأَمْكَنَ شِرَاءُ خَسِيسَتَيْنِ وَشِقْصٍ مِنْ ثَالِثَةٍ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى؟ وَجْهَانِ. أَشْبَهُهُمَا بِالْوَجْهِ الَّذِي تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ لَفْظُ الْمُوصِي: اصْرِفُوا ثُلُثِي إِلَى الْعِتْقِ، اشْتَرَيْنَا الشِّقْصَ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرُوا عَبْدًا بِأَلْفٍ وَأَعْتِقُوهُ، فَلَمْ يَخْرُجِ الْأَلْفُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَأَمْكَنَ شِرَاءُ عَبْدٍ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَخْرُجُ، فَيُشْتَرَى وَيُعْتَقُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْمُوصَى لَهُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. (الْمَسْأَلَةُ) الْأُولَى: فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَمْلِ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْطُ صِحَّتِهَا. فَالْمَقْصُودُ الْآنَ بَيَانُ مَا يَقْتَضِي اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ. فَإِذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ

لِحَمْلِ هِنْدٍ بِكَذَا، فَأَتَتْ بِوَلَدَيْنِ، وُزِّعَ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا نُفَضِّلُ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى، كَمَا لَوْ وَهَبَ لِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ شَيْئًا، إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِالتَّفْضِيلِ. وَلَوْ خَرَجَ حَيٌّ وَمَيِّتٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَمِيعَ لِلْحَيِّ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ كَالْمَعْدُومِ. وَقِيلَ: لِلْحَيِّ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِوَارِثِ الْمُوصِي. فَرْعٌ: قَالَ: إِنْ كَانَ حَمْلُهَا غُلَامًا، فَأَعْطُوهُ كَذَا، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً، فَكَذَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فُعِلَ مَا ذَكَرَ. وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى جَمِيعًا، فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ; لِأَنَّهُ شَرَطَ صِفَةَ الذُّكُورَةِ [أَوِ] الْأُنُوثَةِ فِي جُمْلَةِ الْحَمْلِ، وَلَمْ يَحْصُلْ. وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرَيْنِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا شَيْءَ لَهُمَا ; لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يُشْعِرُ بِالتَّوْحِيدِ. وَيَصْدُقُ أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّ حَمْلَهَا غُلَامَيْنِ لَا غُلَامًا. لَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَانَ حَمْلُكِ ذَكَرًا، فَأَنْتَ طَالِقٌ طَلْقَةً، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى، فَطَلْقَتَيْنِ، فَوَلَدَتْ ذَكَرَيْنِ، فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تَطْلُقُ، لِهَذَا الْمَعْنَى. وَالثَّانِي: تَطْلُقُ طَلْقَةً. وَالْمَعْنَى: إِنْ كَانَ جِنْسُ حَمْلِكِ ذَكَرًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَيَجِئُ هُنَا وَجْهُ: أَنَّهُ يُقَسَّمُ الْمَذْكُورُ لِلْغُلَامِ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ. قَالَ: وَبِمَثَلِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ حَمْلُهَا ابْنًا، فَلَهُ كَذَا، وَإِنْ كَانَ بِنْتًا، فَكَذَا، فَوَلَدَتِ ابْنَيْنِ، لَا شَيْءَ لَهُمَا، وَفُرِّقَ بِأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَسْمَاءُ جِنْسٍ، فَتَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ، بِخِلَافِ الِابْنِ وَالْبِنْتِ، وَهَذَا لَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا فَرْقَ. قُلْتُ: بَلِ الْفَرْقُ وَاضِحٌ، وَالْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَ الذَّكَرَيْنِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، دُونَ الثَّانِيَةِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِهَا غُلَامًا، أَوِ الَّذِي فِي بَطْنِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ حَمْلُهَا غُلَامًا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ، فَأَعْطُوهُ كَذَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، اسْتَحَقَّ الْغُلَامُ مَا ذَكَرَ. وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّنْكِيرَ يَقْتَضِي التَّوْحِيدَ. وَأَصَحُّهُمَا: صِحَّتُهَا. فَعَلَى هَذَا هَلْ يُوَزَّعُ بَيْنَهُمَا، أَمْ يُوقَفُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَا فَيَصْطَلِحَا عَلَيْهِ، أَمْ يَصْرِفهُ الْوَارِثُ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ وَقَعَ الْإِبْهَامُ فِي الْمُوصَى بِهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ. وَتَجْرِي الْأَوْجُهُ فِيمَا لَوْ أَوْصَى لِأَحَدِ شَخْصَيْنِ وَجَوَّزْنَا الْإِبْهَامَ فِي الْمُوصَى لَهُ فَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَفِي وَجْهٍ: يُعَيِّنُ الْوَارِثُ. وَفِي وَجْهٍ: يُوَزَّعُ. وَفِي وَجْهٍ: يُوقَفُ حَتَّى يَصْطَلِحَا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا بِغُلَامٍ، أَوْ إِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا، فَلَهُ مِائَتَانِ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى، فَمِائَةٌ، فَوَلَدَتْ خُنْثَى، دُفِعَ إِلَيْهِ الْأَقَلُّ. وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ذَكَرَ. وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرَيْنِ وَأُنْثَيَيْنِ، جَاءَ الْوَجْهَانِ. ثُمَّ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ (الثَّانِيَةُ) : أَوْصَى لِجِيرَانِهِ، صُرِفَ إِلَى أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ دَارِهِ الْأَرْبَعَةِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تُلَاصِقُ دَارُهُ دَارَهُ. قُلْتُ: وَيُقَسَّمُ الْمَالُ عَلَى عَدَدِ الدُّورِ، لَا عَلَى عَدَدِ سُكَّانِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّالِثَةُ: أَوْصَى لِلْقُرَّاءِ، لَا يُصْرَفُ إِلَّا إِلَى الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَقْرَأُ مِنَ الْمُصْحَفِ وَلَا يَحْفَظُ؟ وَجْهَانِ. يُنْظَرُ فِي أَحَدِهِمَا إِلَى الْوَضْعِ. وَالثَّانِي: إِلَى الْعُرْفِ. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: اسْمُ الْقُرَّاءِ وَالْمُقْرِئِينَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ يُطْلَقُ عَلَى الْحُفَّاظِ وَعَلَى الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ بِالْأَلْحَانِ، وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي

لَا يُشْتَرَطُ لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْحِفْظُ، وَلَا قِرَاءَةُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تُفْهِمُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِلْمَوَالِي. قُلْتُ: الصَّوَابُ مَا رَجَّحَهُ الْأَصْحَابُ: أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا مَنْ يَحْفَظُ الْجَمِيعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَسْأَلَةُ) الرَّابِعَةُ: أَوْصَى لِلْعُلَمَاءِ، أَوْ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، صُرِفَ إِلَى الْعُلَمَاءِ بِعُلُومِ الشَّرْعِ، وَهِيَ: التَّفْسِيرُ، وَالْفِقْهُ، وَالْحَدِيثُ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِطُرُقِهِ، وَلَا بِأَسْمَاءِ الرُّوَاةِ وَلَا بِالْمُتُونِ، فَإِنَّ السَّمَاعَ الْمُجَرَّدَ لَيْسَ بِعِلْمٍ. وَلَا يَدْخُلُ أَيْضًا الْمُقْرِئُونَ وَعَابِرُو الرُّؤْيَا، وَلَا الْأُدَبَاءُ، وَالْأَطِبَّاءُ، وَالْمُنَجِّمُونَ، وَالْحُسَّابُ، وَالْمُهَنْدِسُونَ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ أَيْضًا، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: الْكَلَامُ يَدْخُلُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ. فَرْعٌ: أَوْصَى لِلْفُقَهَاءِ أَوِ الْمُتَفَقِّهَةِ أَوِ الصُّوفِيَّةِ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَقْفِ. لَكِنْ فِي لَفْظِ الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ لَا يَقْنَعُ بِمَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَوْصَى لِلْفُقَهَاءِ، فَهُوَ لِمَنْ يَعْلَمُ عِلْمَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي كُلِّ نَوْعٍ شَيْئًا. وَفِي التَّتِمَّةِ: أَنَّ الرُّجُوعَ فِيهِ إِلَى الْعَادَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ وَجْهًا أَنَّ مَنْ حَفِظَ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، فَهُوَ فَقِيهٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. (الْمَسْأَلَةُ) الْخَامِسَةُ: أَوْصَى لِأَعْقَلِ النَّاسِ فِي بَلَدِهِ، صُرِفَ إِلَى أَزْهَدِهِمْ فِي الدُّنْيَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَوْ أَوْصَى لِأَجْهَلِ النَّاسِ، حَكَى الرُّويَانِيُّ: أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. فَإِنْ قَالَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: مَنْ يَسُبُّ

الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يُصْرَفُ إِلَى الْإِمَامِيَّةِ الْمُنْتَظِرَةِ لِلْقَائِمِ، وَإِلَى الْمُجَسِّمَةِ. قُلْتُ: وَقِيلَ: يُصْرَفُ إِلَى مُرْتَكِبِي الْكَبَائِرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَسْأَلَةُ) السَّادِسَةُ: يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينُ، فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى هَؤُلَاءِ وَإِلَى هَؤُلَاءِ، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْمَسَاكِينِ الْفُقَرَاءُ، وَيَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الصِّنْفَيْنِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الِاسْمَيْنِ يَقَعُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ. وَفِي قَوْلٍ: مَا أَوْصَى بِهِ لِلْفُقَرَاءِ، لَا يُصْرَفُ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، رَوَاهُ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنِهِمَا، فَأَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي الزَّكَاةِ. وَلَوْ أَوْصَى لِسَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: ضَعُوا ثُلُثِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ لِلْغُزَاةِ الْمَسَاكِينِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ. وَلَوْ أَوْصَى لِلرِّقَابِ، أَوْ قَالَ: ضَعُوا ثُلُثِي فِي الرِّقَابِ، فَلِلْمُكَاتَبِينَ. فَإِنْ دَفَعَ إِلَى مُكَاتَبٍ، فَعَادَ إِلَى الرِّقِّ، وَالْمَالُ بَاقٍ فِي [يَدِهِ أَوْ فِي] يَدِ سَيِّدِهِ، اسْتَرَدَّ. وَلَوْ أَوْصَى لِلْغَارِمِينَ أَوْ لِابْنِ السَّبِيلِ، فَلِمَنْ تُصْرَفُ إِلَيْهِ الزَّكَاةُ مِنْهُمْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، أَخْذًا بِعُرْفِ الشَّرْعِ فِيهَا. حَتَّى إِذَا أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ نِصْفَيْنِ. وَلَا يُجْعَلُ عَلَى عَدَدِ رُؤُوسِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَوْصَى لِبَنِي زَيْدٍ، وَبَنِي عَمْرٍو. وَلَا يَجِبُ أَيْضًا الِاسْتِيعَابُ، بَلْ يَكْفِي الصَّرْفُ إِلَى الثَّلَاثَةِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ. وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ. وَلَوْ دُفِعَ إِلَى اثْنَيْنِ، غَرِمَ، إِمَّا الثُّلُثَ، وَإِمَّا أَقَلَّ مَا يُتَمَوَّلُ كَمَا سَبَقَ فِي «قَسْمِ الصَّدَقَاتِ» . ثُمَّ لَيْسَ لَهُ دَفْعُ مَا يَغْرَمُهُ إِلَى ثَالِثٍ، بَلْ يُسَلِّمُهُ إِلَى الْقَاضِي لِيَدْفَعَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ وَيَأْتَمِنَهُ بِالدَّفْعِ.

فَرْعٌ: الْوَصِيَّةُ لِلْعُلَمَاءِ وَسَائِرِ الْمَوْصُوفِينَ، كَالْوَصِيَّةِ لِأَصْنَافِ الزَّكَاةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالْأَفْضَلُ اسْتِيعَابُ الْمَوْجُودِينَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. كَمَا فِي الزَّكَاةِ. فَرْعٌ: لَوْ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، وَهُمْ عَدَدٌ مَحْصُورُونَ، اشْتُرِطَ اسْتِيعَابُهُمْ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ؛ لِتَعَيُّنِهِمْ. بَلْ يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِمُطْلَقِ الْفُقَرَاءِ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَغَيْرُهُ. وَفِي جَوَازِ نَقْلِ مَا أَوْصَى بِهِ لِلْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، خِلَافٌ سَبَقَ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَالْمَذْهَبُ الْجَوَازُ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَوْصَيْتُ لِلْفُقَرَاءِ - وَفُقَرَاءُ الْبَلَدِ مَحْصُورُونَ - كَقَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ لِفُقَرَاءِ هَذِهِ الْبَلْدَةِ - وَهُمْ مَحْصُورُونَ -، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا مَنْصُورٍ ذَكَرَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْغَارِمِينَ، أَنَّهُ يُعْطَى لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ إِنْ كَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ، فَإِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، اسْتُوعِبُوا. فَإِنِ اقْتَصَرَ الْوَصِيُّ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَهَلْ يُجْزِئُهُ، أَمْ يُضَمَّنُ حِصَّةَ الْبَاقِينَ؟ فِيهِ جَوَابَانِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَالْحِسَابُ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، أَمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَهُوَ مَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: لَوْ أَوْصَى لِثَلَاثَةٍ مُعَيَّنِينَ، وَجَبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ، بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ الْمَصْرُوفِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ الْأَصْنَافِ، لِأَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ مِنْ مَعْهُودِ الشَّرْعِ فِي الزَّكَاةِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ هُنَا مُضَافٌ إِلَى أَعْيَانِهِمْ. فَرْعٌ [لَوْ] أَوْصَى لِسَبِيلِ الْبِرِّ، أَوِ الْخَيْرِ، أَوِ الثَّوَابِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَقْفِ. فَرْعٌ: لَوْ قَالَ: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ رَأَيْتَ، أَوْ فِيمَا أَرَاكَ اللَّهُ، لَيْسَ لَهُ وَضْعُهُ فِي نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْ، لَا يَبِيعُ لِنَفْسِهِ. وَالْأَوْلَى صَرْفُهُ إِلَى أَقَارِبِ الْمُوصِي الَّذِينَ لَا يَرِثُونَهُ، ثُمَّ إِلَى مَحَارِمِهِ مِنَ الرَّضَاعِ، ثُمَّ إِلَى جِيرَانِهِ. (الْمَسْأَلَةُ) السَّابِعَةُ: أَوْصَى لِأَقَارِبِ زَيْدٍ، دَخَلَ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَالْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ، وَالْوَارِثُ وَغَيْرُهُ، وَالْمُحْرِمُ وَغَيْرُهُ، وَالْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، لِشُمُولِ الِاسْمِ. وَلَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِ نَفْسِهِ، فَفِي دُخُولِ وَرَثَتِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الْوَارِثَ لَا يُوصَى لَهُ. فَعَلَى هَذَا، يَخْتَصُّ بِالْبَاقِينَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَرَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ. وَالثَّانِي: الدُّخُولُ؛ لِوُقُوعِ الِاسْمِ، ثُمَّ يَبْطُلُ نَصِيبُهُمْ وَيَصِحُّ الْبَاقِي لِغَيْرِ الْوَرَثَةِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: يَجِبُ اخْتِصَاصُ الْوَجْهَيْنِ بِقَوْلِنَا: الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ بَاطِلَةٌ. فَأَمَّا إِنْ وَقَفْنَاهَا عَلَى الْإِجَازَةِ، فَلْيُقْطَعْ بِالْوَجْهِ الثَّانِي.

قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي جَرَيَانِهِمَا ; لِأَنْ مَأْخَذَهُمَا أَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ لِأَقَارِبِ زَيْدٍ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَدْخُلُ الْأَبَوَانِ وَالْأَوْلَادُ، وَيَدْخُلُ الْأَجْدَادُ وَالْأَحْفَادُ ; لِأَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ لَا يُعْرَفَانِ بِالْقَرِيبِ فِي الْعُرْفِ، بَلِ الْقَرِيبُ مَنْ يَنْتَمِي بِوَاسِطَةٍ. وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. وَالثَّالِثُ: يَدْخَلُ الْجَمِيعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. وَقَدِ ادَّعَى الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْأَبَوَانِ وَالْأَوْلَادُ. وَيُعْتَبَرُ أَقْرَبُ جَدٍّ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، وَيُعَدُّ أَصْلًا وَقَبِيلَةً فِي نَفْسِهِ، فَيَرْتَقِي فِي بَنِي الْأَعْمَامِ إِلَيْهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَنْ فَوْقِهِ. حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبَ حَسَنِيٍّ، أَوْ أَوْصَى حَسَنِيٌّ لِأَقَارِبَ نَفْسِهِ، لَمْ يَدْخُلِ الْحُسَيْنِيُّونَ، وَكَذَلِكَ وَصِيَّةُ الْمَأْمُونِيِّ لِأَقَارِبِهِ. وَالْوَصِيَّةُ لِأَقَارِبِ الْمَأْمُونِيِّ لَا يَدْخُلُ فِيهَا أَوْلَادُ الْمُعْتَصِمِ وَسَائِرُ الْعَبَّاسِيَّةِ. وَالْوَصِيَّةُ لِأَقَارِبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي زَمَانِهِ، تُصْرَفُ إِلَى أَوْلَادِ شَافِعٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا أَوْلَادُ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِنْ كَانَ شَافِعٌ وَعَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ كُلُّهُمْ أَوْلَادَ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدٍ. وَالشَّافِعِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، بْنِ الْعَبَّاسِ، بْنِ عُثْمَانَ، بْنِ شَافِعٍ، بْنِ السَّائِبِ، بْنِ عُبَيْدٍ، بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ، بْنِ هَاشِمٍ، بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ لِأَقَارِبَ بَعْضِ أَوْلَادِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، دَخَلَ فِيهِ أَوْلَادُ الشَّافِعِيِّ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَوْلَادِ شَافِعٍ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. فَرْعٌ: إِذَا أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ، فَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا، دَخَلَ قَرَابَةُ الْأَبِ وَالْأُمِّ. وَإِنْ كَانَ

عَرَبِيًّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا - وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» - دُخُولُهُمْ مِنَ الْجِهَتَيْنِ كَالْعَجَمِ. وَالثَّانِي: لَا تَدْخُلُ قَرَابَةُ الْأُمِّ، وَرَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ، وَ [الْبَغَوِيُّ] ; لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْتَخِرُ بِهَا. فَرْعٌ: لَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ لِأَقَارِبِي، أَوْ لِقَرَابَتِي، أَوْ لِذِي قَرَابَتِي، أَوْ ذِي رَحِمِي، أَوْ ذَوِي قَرَابَتِي، أَوْ ذَوِي رَحِمِي، لَكِنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ تَدْخُلُ فِي لَفْظِ الرَّحِمِ بِلَا خِلَافٍ فِي [وَصِيَّةِ] الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ جَمِيعًا. فَرْعٌ: إِذَا لَمْ يُوجَدْ قَرِيبٌ وَاحِدٌ، صُرِفَ الْمَالُ إِلَيْهِ إِنْ أَوْصَى لِذِي قَرَابَتِهِ، أَوْ ذِي رَحِمِهِ، أَوْ لِقَرَابَتِهِ ; لِأَنَّهُ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ: لِأَقَارِبِي، أَوْ أَقْرِبَائِي، أَوْ ذَوِي قَرَابَتِي، أَوْ ذَوِي رَحِمِي، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُعْطَى كُلَّ الْمَالِ. وَالثَّانِي: نِصْفُهُ. وَالثَّالِثُ: ثُلُثُهُ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فِي الْبَاقِي. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ مَحْصُورَةٌ، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَجِبُ اسْتِيعَابُهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ، فَهُوَ كَالْوَصِيَّةِ لِلْعَلَوِيَّةِ وَالْقَبَائِلِ الْعَظِيمَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّامِنَةُ: أَوْصَى لِأَقْرَبِ أَقَارِبِ زَيْدٍ، دَخَلَ فِيهَا الْأَبَوَانِ وَالْأَوْلَادُ. فَإِنِ اجْتَمَعَ أَبٌ وَابْنٌ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يُسَوَّى بَيْنَهُمَا، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الرُّتْبَةِ، فَعَلَى هَذَا يُقَدَّمُ الْأَبُ عَلَى ابْنِ الِابْنِ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ

طَوَائِفُ: يُقَدَّمُ الِابْنُ لِقُوَّتِهِ وَعُصُوبَتِهِ. فَعَلَى هَذَا، الْأَوْلَادُ مُقَدَّمُونَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، ثُمَّ يَلِيهِمُ الْبَطْنُ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ، إِلَى حَيْثُ يَنْتَهُونَ. وَيَسْتَوِي أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَحْفَادِ، قُدِّمَ الْأَبَوَانِ، ثُمَّ بَعْدَهُمَا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ، إِنْ لَمْ يُوجَدِ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْهُمْ. أَوِ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، إِنْ لَمْ يُوجَدِ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ، فَإِنِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَأَخٌ، قُدِّمَ الْأَخُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالثَّانِي: يَسْتَوِيَانِ. وَقِيلَ: يُقَدَّمُ الْأَخُ قَطْعًا. وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِي الْجَدِّ أَبِي الْأَبِ، وَالْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ، مَعَ الْأَخِ لِلْأُمِّ وَالْأَخِ لِأَبٍ. فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّسْوِيَةِ، فَالْجَدُّ أَوْلَى مِنِ ابْنِ الْأَخِ. وَإِنْ قَدَّمْنَا الْأَخَ، فَكَذَا ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ. وَالْمَذْهَبُ تَقْدِيمُ ابْنِ الْأَخِ عَلَى أَبِي الْجَدِّ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ. ثُمَّ يُقَدَّمُ بَعْدَهُمْ أَوْلَادُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ، وَيُسَاوِيهِمُ الْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ، ثُمَّ أَوْلَادُ هَؤُلَاءِ. وَالْأَخُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ مِنْ إِحْدَاهِمَا؛ لِزِيَادَةِ قَرَابَتِهِ. كَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَالْإِمَامُ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي تَقْدِيمِهِ قَوْلَيْنِ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَالْأَخُ مِنَ الْأَبِ، وَالْأَخُ مِنَ الْأُمِّ، يَسْتَوِيَانِ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَوْلَادِ الْإِخْوَةِ، وَالْأَعْمَامِ، وَالْأَخْوَالِ، وَأَوْلَادِهِمْ. وَفِي تَقْدِيمِ الْجَدَّةِ مِنْ جِهَتَيْنِ عَلَى الْجَدَّةِ مِنْ جِهَةٍ، وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ، تَرْجِيحُهَا فِي الْمِيرَاثِ. وَيَحْصُلُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ أَوْلَادُ إِخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ وَأَوْلَادُ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَالْمَالُ لِوَلَدِ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَوَلَدِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلَادُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، فَأَوْلَادُهُمْ مِنَ الْأَبِ وَأَوْلَادُهُمْ مِنَ الْأُمِّ سَوَاءٌ. هَذَا إِذَا اسْتَوَتِ الدَّرَجَةُ. فَإِنِ اخْتَلَفَتْ، قُدِّمَ الْأَقْرَبُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ. فَيُقَدَّمُ الْأَخُ مِنَ الْأَبِ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ، وَيُقَدَّمُ ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ وَابْنُ الْأَخِ لِلْأُمِّ عَلَى ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ ; لِأَنَّ جِهَةَ الْأُخُوَّةِ وَاحِدَةٌ. فَرُوعِيَ

قُرْبُ الدَّرَجَةِ. فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ، فَالْبَعِيدُ مِنَ الْجِهَةِ الْقَرِيبَةِ يُقَدَّمُ عَلَى الْقَرِيبِ مِنَ الْجِهَةِ الْبَعِيدَةِ. فَيُقَدَّمُ ابْنُ ابْنِ الِابْنِ عَلَى الْأَخِ. وَيُقَدَّمُ ابْنُ ابْنِ الْأَخِ وَإِنْ سَفُلَ عَلَى الْعَمِّ. وَلَا يُرَجَّحُ [فِي] هَذَا الْبَابِ بِالذُّكُورَةِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى الْوَرَثَةِ، بَلْ يَسْتَوِي فِي الِاسْتِحْقَاقِ، الْأَبُ وَالْأُمُّ. وَكَذَا الِابْنُ وَالْبِنْتُ، وَكَذَا الْأَخُ وَالْأُخْتُ، كَمَا يَسْتَوِي الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَيُقَدَّمُ ابْنُ الْبِنْتِ عَلَى ابْنِ ابْنِ الِابْنِ. وَكُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ مَنُوطٌ بِزِيَادَةِ الْقُرْبِ. فَرْعٌ: أَوْصَى لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَقْرَبِ أَقَارِبِ زَيْدٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ الصَّرْفِ إِلَى ثَلَاثَةٍ، فَإِنْ كَانَ [لَهُ] فِي الدَّرَجَةِ الْقُرْبَى ثَلَاثَةٌ، دَفَعَ إِلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ، وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِئَلَّا تَصِيرَ وَصِيَّةً لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، بِخِلَافِ الْفُقَرَاءِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمِ الْجِهَةُ. وَقِيلَ: لَا، فَيَخْتَارُ الْوَصِيُّ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ. فَإِنْ كَانُوا دُونَ الثَّلَاثَةِ، تَمَّمْنَا الثَّلَاثَةَ مِمَّنْ يَلِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ، وَابْنُ ابْنٍ، دُفِعَ إِلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَ ابْنٌ، وَابْنُ ابْنٍ، وَابْنُ ابْنِ ابْنٍ، دُفِعَ إِلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَ ابْنٌ، وَابْنَا ابْنٍ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ ابْنٌ، وَابْنُ ابْنٍ، وَبَنُو ابْنِ ابْنٍ، دُفِعَ إِلَى الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ. وَهَلْ يُدْفَعُ مَعَهُمَا إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، أَمْ يُعَمَّمُونَ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِذَا قُلْنَا: يُعَمَّمُونَ، فَالْقِيَاسُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ كُلِّ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِمْ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّ الثُّلُثَ لِمَنْ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى، وَالثُّلُثُ لِمَنْ فِي الثَّانِيَةِ، وَالثُّلُثُ لِمَنْ فِي الثَّالِثَةِ. هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْأَصْحَابُ فِي هَذَا الْفَرْعِ: وَكَانَ الْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا وَصِيَّةٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.

قُلْتُ: الصَّوَابُ، مَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: أَوْصَى لِأَقْرَبِ أَقَارِبِ نَفْسِهِ، فَالتَّرْتِيبُ كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ لَوْ كَانَ الْأَقْرَبُ وَارِثًا، صَرَفْنَا إِلَى مَنْ يَلِيهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ، إِنْ لَمْ نُصَحِّحِ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، أَوْ صَحَّحْنَاهُمَا فَلَمْ يُجِزْهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، كَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِ نَفْسِهِ، لَمْ تَدْخُلِ الْوَرَثَةُ بِقَرِينَةِ الشَّرْعِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: يَدْخُلُونَ، وَيُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ، فَهُنَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، إِلَّا أَنْ يَتَعَدَّدَ الْأَقْرَبُونَ وَيَكُونُ فِيهِمْ وَارِثٌ وَغَيْرُ وَارِثٍ. (الْمَسْأَلَةُ) التَّاسِعَةُ: آلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فَقَطْ، أَمْ جَمِيعُ أُمَّتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ أَوْصَى لِآلِ غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ، لِإِبْهَامِ اللَّفْظِ وَتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْقَرَابَةِ وَأَهْلِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ؛ لِظُهُورِ أَصْلٍ لَهُ فِي الشَّرْعِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَالْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَوَّضَ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَصِيٌّ، فَهَلِ الْمُتَّبَعُ رَأْيُ الْحَاكِمِ، أَمِ الْوَصِيِّ؟ حَكَى الْإِمَامُ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ الْحَاكِمَ وَالْوَصِيَّ يَتَحَرَّيَانِ مُرَادَ الْمُوصِي أَمْ أَظْهَرَ مَعَانِي اللَّفْظِ بِالْوَضْعِ أَوِ الِاسْتِعْمَالِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: الْمَرْعِيُّ مُرَادُهُ إِنْ أَمْكَنَ الْعُثُورُ عَلَيْهِ بِقَرِينَةٍ، وَإِلَّا، فَأَظْهَرُ الْمَعَانِي.

قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الرَّافِعِيُّ هُوَ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ فِي أَهْلِ بَيْتِ الرَّجُلِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْحَمْلُ عَلَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْآلُ. وَأَصَحُّهُمَا: دُخُولُ الزَّوْجَةِ أَيْضًا. وَفِي أَهْلِهِ دُونَ لَفْظِ الْبَيْتِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْحَمْلُ عَلَى الزَّوْجَةِ فَقَطْ. وَالثَّانِي: عَلَى كُلِّ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ صَدَرَتِ الْوَصِيَّةُ مِنِ امْرَأَةٍ، بَطَلَتْ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَبْطُلَ، بَلْ يَتَعَيَّنُ الْوَجْهُ الثَّانِي، أَوْ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ. وَالْأَرْجَحُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَسْأَلَةُ) الْعَاشِرَةُ: آبَاءُ فُلَانٍ: أَجْدَادُهُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ. وَأُمَّهَاتُهُ: جَدَّاتُهُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَهُ: لَا يَدْخُلُ الْأَجْدَادُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ فِي الْآبَاءِ، وَلَا الْجَدَّاتُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فِي الْأُمَّهَاتِ. وَلَا خِلَافَ فِي شُمُولِ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ الطَّرَفَيْنِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. (الْمَسْأَلَةُ) الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْأُخْتَانِ أَزْوَاجُ الْبَنَاتِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ أَزْوَاجُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ. وَفِي أَزْوَاجِ الْأَخَوَاتِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: الْمَنْعُ. وَيَدْخُلُ أَزْوَاجُ الْحَوَافِدِ إِنْ قُلْنَا بِدُخُولِ الْأَحْفَادِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْأَوْلَادِ. وَفِي وَجْهٍ: يَدْخُلُ زَوْجُ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ. ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِكَوْنِهِ زَوْجَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ. فَلَوْ كَانَتْ خَلِيَّةً يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، مَنْكُوحَةً يَوْمَ الْمَوْتِ، اسْتَحَقَّ زَوْجُهَا. وَإِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، مُطْلَقَةً يَوْمَ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، اسْتَحَقَّ، وَإِلَّا،

فَلَا. وَإِنْ أَبَانَهَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولِ، اسْتَحَقَّ إِنْ قُلْنَا: يَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَوْتِ أَوْ مَوْقُوفَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالْقَبُولِ، فَوَجْهَانِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ. فَرْعٌ: أَحْمَاءُ الرَّجُلِ أَبَوَا زَوْجَتِهِ. وَفِي دُخُولِ أَجْدَادِهَا وَجَدَّاتِهَا تَرَدُّدٌ حَكَاهُ الْإِمَامُ، وَلَا يَدْخُلُ أَبَوَا زَوْجَةِ الْأَبِ، وَأَبَوَا زَوْجَةِ الِابْنِ، وَالْأَصْهَارُ كَالْأَحْمَاءِ، كَذَا نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ: أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْمَحَارِمِ، فَأَبُو زَوْجَتِهِ حَمْوٌ. وَأَنَّ الْأَصْهَارَ يَشْمَلُ الْأُخْتَانِ وَالْأَحْمَاءَ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ السَّرَخْسِيُّ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: يَدْخُلُ فِي الْمَحَارِمِ كُلُّ مَحْرَمٍ بِالنَّسَبِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ. فَرْعٌ: الْأَوْلَادُ، وَالذُّرِّيَّةُ، وَالْعَقِبُ، وَالنَّسْلُ، وَالْعِتْرَةُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَقْفِ. فَرْعٌ: قَالَ: لِوَرَثَةِ فُلَانٍ، فَلِمَنْ وَرِثَهُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ بِالسَّوِيَّةِ،

لَا عَلَى مَقَادِيرِ الْإِرْثِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ خَاصٌّ، وَصُرِفَ مَالُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ وَرِثَهُ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِالرَّدِّ، اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِسْطَهَا فِي الْآخَرِ. وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي، وَبَقِيَ الَّذِي أَوْصَى لِوَرَثَتِهِ أَوْ عَقِبِهِ حَيًّا، فَالْمَنْقُولُ عَنِ الْأَصْحَابِ: بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ، وَلَا يَعْقُبُهُ أَحَدٌ فِي حَيَاتِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: الظَّاهِرُ عِنْدِي صِحَّتُهَا فِي لَفْظِ الْعَقِبِ إِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ عَقِبَهُ فِي حَيَاتِهِ. قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا مُحْتَمَلٌ فِي لَفْظِ الْوَرَثَةِ. وَعَلَى هَذَا، فَيُوقَفُ إِلَى أَنْ يَمُوتَ فَيُتَبَيَّنُ مَنْ يَرِثُهُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ فِي الْعَقِبِ، هُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَجَعَلَهُ مَذْهَبَنَا، وَجَعَلَ الْبُطْلَانَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَوْصَى لِعَصَبَةِ فُلَانٍ، لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَوْنُ فُلَانٍ مَيِّتًا يَوْمَ [مَوْتِ] الْمُوصِي قَطْعًا، بِخِلَافِ مَا ذَكَرُوهُ فِي لَفْظِ الْوَرَثَةِ وَالْعَقِبِ. ثُمَّ أَوْلَادُهُمْ بِالتَّعْصِيبِ، أَوْلَادُهُمْ بِالْوَصِيَّةِ. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْوَصِيَّةُ لِلْمَوَالِي عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَقْفِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ مَوَالٍ مِنْ أَعْلَى، وَمَوَالٍ مِنْ أَسْفَلَ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ السَّابِقَةُ، وَفِي قَوْلٍ عَنْ رِوَايَةٍ الْبُوَيْطِيِّ: يُوقَفُ إِلَى الِاصْطِلَاحِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَحَدُهُمَا، فَيُصْرَفُ الْمَالُ إِلَيْهِ. فَإِنِ اقْتَضَى الْحَالُ الْحَمْلَ عَلَى الْأَسْفَلِ، أَوْ صَرَّحَ بِهِ، اسْتَحَقَّ كُلُّ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ بِتَبَرُّعٍ، أَوْ مِلْكٍ، أَوْ نَذْرٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ. وَفِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَهُمَا يَعْتِقَانِ بِمَوْتِهِ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يَدْخُلَانِ، إِذْ لَيْسَا مِنَ الْمَوَالِي، لَا حَالَ الْوَصِيَّةِ، وَلَا حَالَ الْمَوْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: يَتَامَى الْقَبِيلَةِ، هُمُ الصِّبْيَانُ الْفَاقِدُونَ لِآبَائِهِمْ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ فِيهِمْ، وَجْهَانِ. أَشْبَهُهُمَا مَا قِيلَ فِي الْغَنِيمَةِ: نَعَمْ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو مَنْصُورٍ. ثُمَّ إِنِ انْحَصَرُوا، وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ، وَإِلَّا، جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَلَاثَةٍ. فَرْعٌ: الْعُمْيَانُ، وَالزَّمْنَى، كَالْأَيْتَامِ فِي التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ. قُلْتُ: قَطَعَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ فِي الزَّمْنَى، قَالَ: وَمِثْلُهُ الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ السُّجُونِ، وَلِلْغَارِمِينَ، وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى، وَحَفْرِ الْقُبُورِ، وَيَدْخُلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ. وَالْمُخْتَارُ طَرْدُ الْخِلَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَسْأَلَةُ) الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اسْمُ الْأَرَامِلِ، يَقَعُ عَلَى مَنْ مَاتَ زَوْجُهَا، وَالْمُخْتَلِعَةُ، وَالْمَبْتُوتَةُ دُونَ الرَّجْعِيَّةِ، وَالْأَيَامَى غَيْرُ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ، هَذِهِ عِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ، وَبِهَا أَخَذَ الْإِمَامُ وَقَالَ: الْفَرْقُ أَنَّ الْأَرْمَلَةَ: مَنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، وَالْأَيِّمُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَقَدُّمُ زَوْجٍ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي اشْتِرَاطِ الْخُلُوِّ عَنِ الزَّوْجِ فِي الْحَالِ. وَعِبَارَةُ صَاحِبَيِ «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» : لَا يُعْتَبَرُ تَقَدُّمُ زَوْجٍ فِي الْأَرْمَلَةِ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْأَيْتَامِ. وَقَطَعَ الْإِمَامُ بِالِاشْتِرَاطِ هُنَا. وَفِي دُخُولِ رَجُلٍ لَا زَوْجَةَ لَهُ فِي الْأَرَامِلِ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ تَخْصِيصُ الْأَرْمَلَةِ بِمَنْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ فِي الْعُرْفِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَرَامِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: ثَيِّبُ الْقَبِيلَةِ: النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: يَدْخُلُ الرِّجَالُ الَّذِينَ أَصَابُوا. وَفِي الْأَبْكَارِ هَذَا الْخِلَافُ. (الْمَسْأَلَةُ) الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْمُعْتَبَرُونَ مِنَ الْأَقَارِبِ، هُمُ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ وَلَا يَسْأَلُونَ، وَذَوُو الْقُنُوعِ: الَّذِينَ يَسْأَلُونَ. (الْمَسْأَلَةُ) السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: غِلْمَانُ الْقَبِيلَةِ، وَصِبْيَانُهُمْ، وَالْأَطْفَالُ، وَالذَّرَارِيُّ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا. وَاخْتَلَفُوا فِي الشُّيُوخِ، وَالشُّبَّانِ، وَالْفَتَيَانِ، فَفِي الْمُهَذَّبِ وَالتَّهْذِيبِ: أَنَّ الشُّيُوخَ: مَنْ جَاوَزُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَالْفِتْيَانُ وَالشُّبَّانُ: مَنْ جَاوَزَ الْبُلُوغَ إِلَى الثَّلَاثِينَ. وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ، أَنَّ الْكُهُولَ: مِنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الرُّجُوعَ فِي ذَلِكَ إِلَى اللُّغَةِ، وَاعْتِبَارِ لَوْنِ الشَّعْرِ فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالِاخْتِلَاطِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَمْزِجَةِ النَّاسِ. قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ «الْمُهَذَّبِ» «وَالتَّهْذِيبِ» قَالَهُ أَيْضًا آخَرُونَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ. وَصَرَّحَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْكُهُولَ: مَنْ جَاوَزَ ثَلَاثِينَ إِلَى أَرْبَعِينَ. وَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إِنَّهُ مَنْ جَاوَزَ الثَّلَاثِينَ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسِينَ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَعَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي «تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ» . وَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا سَبَقَ، لَوْ أَوْصَى لِلْحَجِيجِ،

فصل

قَالَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : يُسْتَحَبُّ دَفْعُهُ إِلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ صُرِفَ إِلَى فُقَرَائِهِمْ وَأَغْنِيَائِهِمْ، جَازَ، لِشُمُولِ الِاسْمِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَطَّرِدَ فِيهِ الْوَجْهَانِ، كَالْأَيْتَامِ، وَالْأَرَامِلِ. وَاشْتِرَاطُ الْفَقْرِ هُنَا أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ، أَوْ مُعَيَّنِينَ. الْحَالُ الْأَوَّلُ: مَوْصُوفُونَ، غَيْرُ مَحْصُورِينَ، كَالْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ. وَفِي زَيْدٍ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى أَقَلَّ مَا يُتَمَوَّلُ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ حِرْمَانُهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْطَى سَهْمًا مِنْ سِهَامِ الْقِسْمَةِ. فَإِنْ قُسِّمَ الْمَالُ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْفُقَرَاءِ، أُعْطِيَ زَيْدٌ الْخُمُسَ. وَإِنْ قُسِّمَ عَلَى خَمْسَةٍ، فَالسُّدُسُ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَالثَّالِثُ: لِزَيْدٍ رُبُعُ الْوَصِيَّةِ، وَالْبَاقِي لِلْفُقَرَاءِ ; لِأَنَّ أَقَلَّ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفُقَرَاءِ ثَلَاثَةٌ. وَالرَّابِعُ: لَهُ النِّصْفُ، وَلَهُمُ النِّصْفُ. وَالْخَامِسُ: إِنْ كَانَ فَقِيرًا، فَهُوَ كَأَحَدِهِمْ، وَإِلَّا، فَلَهُ النِّصْفُ. وَالسَّادِسُ: إِنْ كَانَ غَنِيًّا، فَلَهُ الرُّبُعُ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِمْ، وَإِلَّا، فَالثُّلُثُ؛ لِدُخُولِهِ فِيهِمْ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي حَقِّ زَيْدٍ بَاطِلَةٌ، لِجَهَالَةِ مَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ، حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْأَمَالِي، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَلَا بُدَّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَوْجُهِ مِنَ الصَّرْفِ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنَ الْفُقَرَاءِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَطْلَقَ ذِكْرَ زِيدٍ. أَمَّا إِذَا وَصَفَهُ بِصِفَةِ الْجَمَاعَةِ، فَقَالَ: لِزَيْدٍ الْفَقِيرِ، وَلِلْفُقَرَاءِ، فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لِزَيْدٍ إِنْ كَانَ فَقِيرًا. وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْأَوْجُهَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ. وَبَقِيَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ كَأَحَدِهِمْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَنَصِيبُهُ لِلْفُقَرَاءِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَأَحَدِهِمْ، وَإِلَّا، فَهُوَ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي. وَإِنْ وَصَفَ زَيْدًا بِغَيْرِ صِفَةِ الْجَمَاعَةِ، فَقَالَ: لِزَيْدٍ الْكَاتِبِ، وَلِلْفُقَرَاءِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ

أَبُو مَنْصُورٍ: فَلَهُ النِّصْفُ بِلَا خِلَافٍ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ الْقَوْلُ بِأَنَّ لَهُ الرُّبُعَ إِنْ لَمْ تَجِئْ بَاقِي الْأَوْجُهِ. وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ، وَلِلْفُقَرَاءِ بِثُلُثِ مَالِهِ، لَمْ يُصْرَفْ إِلَى زَيْدٍ غَيْرُ الدِّينَارِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا ; لِأَنَّهُ قَطَعَ اجْتِهَادَ الْوَصِيِّ بِالتَّقْدِيرِ، وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ. وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ، وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ كَأَحَدِهِمْ، فَكَذَا هُنَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ النِّصْفُ، فَهُنَا الثُّلُثُ. وَإِنْ قُلْنَا: الرُّبُعُ، فَهُنَا السُّبُعُ. الْحَالُ الثَّانِي: إِذَا كَانُوا مُعَيَّنِينَ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ كَالْعَلَوِيِّينَ، فَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَالْحُكْمُ كَمَا إِذَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ. وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْ، قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: هُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَزِيدٍ وَلِلْمَلَائِكَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، فَهَلْ هُوَ كَأَحَدِهِمْ، أَمْ لَهُ النِّصْفُ؟ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: فِيهِ احْتِمَالَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. ثُمَّ حَكَى خِلَافًا فِي أَنَّ النِّصْفَ الَّذِي لَهُمْ، يُقَسَّمُ بَيْن جَمِيعِهِمْ، أَمْ يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ؟ وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْجَمِيعِ. فَرْعٌ: لَهُ ثَلَاثُ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ، فَأَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ، وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى الْأَصْنَافِ أَثْلَاثًا. وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ الثَّقَفِيِّ: أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةٍ ; لِأَنَّ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مَحْصُورَاتٌ يَجِبُ اسْتِيعَابُهُنَّ، وَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ غَيْرُ مَحْصُورِينَ، فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مَصْرِفًا، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَصْرِفًا.

فصل

فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ لِجَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ غَيْرِ مَحْصُورِينَ، كَالْهَاشِمِيَّةِ، وَالطَّالِبِيَّةِ، وَالْعَلَوِيَّةِ، صَحِيحَةٌ عَلَى الْأَظْهَرِ، كَالْفُقَرَاءِ. فَعَلَى هَذَا، يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ، كَالْفُقَرَاءِ. وَمَتَّى أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ. فَإِنْ عُدُّوا قَبِيلَةً، كَبَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي تَمِيمٍ، فَهِيَ كَالْوَصِيَّةِ لِلْعَلَوِيَّةِ. وَفِي جَوَازِ الصَّرْفِ إِلَى إِنَاثِهِمْ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. وَإِنْ لَمْ يُعَدُّوا قَبِيلَةً، كَبَنِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو، اشْتُرِطَ الْقَبُولُ وَالِاسْتِيعَابُ وَالتَّسْوِيَةُ. وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الْإِنَاثِ. قُلْتُ: وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ هُنَا قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَجِبْرِيلَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لِزَيْدٍ النِّصْفُ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فِي الْبَاقِي. كَمَا لَوْ أَوْصَى لِابْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَكُنْ لِعَمْرِو ابْنٌ، أَوْ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَابْنَيْ بَكْرٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ابْنٌ اسْمُهُ زَيْدٌ، يَكُونُ النِّصْفُ لِلْمَوْجُودِ، وَيَبْطُلُ الْبَاقِي. وَالثَّانِي: أَنَّ لِزَيْدٍ الْكُلَّ، وَيَلْغُو ذِكْرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذَكَرَ مَعَهُ مَنْ يَمْلِكُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي كُلِّ صُورَةٍ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَلِمَنْ لَا يُوصَفُ بِالْمِلْكِ، كَالشَّيْطَانِ، وَالرِّيحِ، وَالْحَائِطِ، وَالْبَهِيمَةِ، وَغَيْرِهَا. وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ، وَلِلْمَلَائِكَةِ أَوْ لِلرِّيَاحِ، أَوْ لِلْحِيطَانِ، فَإِنْ جَعْلَنَا الْكُلَّ لِزَيْدٍ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَهَلْ لَهُ النِّصْفُ، أَمِ الرُّبُعُ، أَمْ لِلْمُوصِي أَنْ يُعْطِيَهُ أَقَلَّ مَا يُتَمَوَّلُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْوَصِيَّةِ لِزَيْدٍ وَلِلْفُقَرَاءِ. وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَلِلَّهِ تَعَالَى، فَهَلْ يَكُونُ لِزَيْدٍ الْجَمِيعُ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّبَرُّكِ؟ أَمْ لَهُ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْفُقَرَاءِ؟ أَمْ لَهُ النِّصْفُ وَالْبَاقِي

يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ لِأَنَّهَا مَصْرَفُ الْحُقُوقِ الْمُضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ أَمْ يَرْجِعُ النِّصْفُ الثَّانِي إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ. وَقَدَّمْنَا وَجْهًا فِيمَا إِذَا أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَوَارِثٍ، وَبَطَلَتْ فِي حَقِّ الْوَارِثِ: أَنَّهَا تَبْطُلُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ أَيْضًا، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَذَلِكَ الْوَجْهُ مَعَ ضَعْفِهِ، يَلْزَمُ طَرْدُهُ فِي نَصِيبِ زَيْدٍ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ. قُلْتُ: فَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، صُرِفَ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» وَقَالَ: هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ أَقْسَامِ الْبَابِ فِي الْأَحْكَامِ الْمَعْنَوِيَّةِ. قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَنَافِعِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ صَحِيحَةٌ مُؤَبَّدَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ، وَكَذَا بَغْلَةُ الدَّارِ وَالْحَانُوتِ، وَكَذَا بِثِمَارِ الْبُسْتَانِ الَّتِي تَحْدُثُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً، وَلَمْ تُعَيَّنْ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَالتَّعْيِينُ لِلْوَارِثِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ ثَمَرَةَ بُسْتَانِهِ الْعَامَ، فَإِنْ لَمْ يُثْمِرْ، فَثَمَرَةَ الْعَامِ الْقَابِلِ، أَوْ خِدْمَةَ عَبْدِهِ الْعَامَ، فَإِنْ مَرِضَ، فَخِدْمَةَ الْعَامِ الثَّانِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ مُدَّةَ حَيَاةِ زَيْدٍ. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْغَرَضُ الْآنَ الْكَلَامُ فِي مَسَائِلِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ لِلْمَنَافِعِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ إِبَاحَةٍ، كَمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْأَعْيَانِ تَمْلِيكٌ لَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، وُرِثَتْ عَنْهُ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلَهُ الْإِجَارَةُ وَالْإِعَارَةُ وَالْوَصِيَّةُ بِهَا. وَلَوْ تَلِفَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ، كَمَا لَا يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ، أَوْ قَيَّدَهَا بِالتَّأْبِيدِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّأْبِيدِ: اسْتِيعَابُ الْوَصِيَّةِ مَنْفَعَةَ الْعَبْدِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا لَوْ أَوْصَى بِمَنْفَعَتِهِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً، كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِ

الْمُوصَى لَهُ، [لَا] عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَا إِذَا قَدَّرَ مُدَّةً وَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. أَمَّا إِذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لَكَ بِمَنَافِعِهِ حَيَاتَكَ، فَهُوَ إِبَاحَةٌ، وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، فَلَيْسَ لَهُ الْإِجَارَةُ. وَفِي الْإِعَارَةِ وَجْهَانِ. وَأَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَكَ بِأَنْ تَسْكُنَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ بِأَنْ يَخْدِمَكَ هَذَا الْعَبْدُ، فَهُوَ إِبَاحَةٌ أَيْضًا، لَا تَمْلِيكٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ لَكَ بِسُكْنَاهَا، وَخِدْمَتِهِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ. وَفِي «فَتَاوَى» الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَطْعِمُوا زَيْدًا كَذَا رِطْلًا مِنَ الْخُبْزِ مِنْ مَالِي، اقْتَضَى تَمْلِيكَهُ، كَمَا فِي إِطْعَامِ الْكَفَّارَةِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرُوا خُبْزًا وَاصْرِفُوهُ إِلَى أَهْلِ مَحِلَّتِي، فَسَبِيلُهُ الْإِبَاحَةُ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ. أَمَّا الْمَسَائِلُ، فَإِحْدَاهَا: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ الْمُوصَى لَهُ، فَيَمْلِكُ إِثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الْعَبْدِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ، وَيَمْلِكُ مَنَافِعَهُ وَأَكْسَابَهُ الْمُعْتَادَةَ، مِنَ الِاحْتِطَابِ، وَالِاحْتِشَاشِ، وَالِاصْطِيَادِ، وَأُجْرَةِ الْحِرْفَةِ، لِأَنَّهَا أَبْدَالُ مَنَافِعِهِ. وَلَا يَمْلِكُ الْكَسْبَ النَّادِرَ، كَالْهِبَةِ وَاللُّقَطَةِ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِالْوَصِيَّةِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْعِبَّادِيُّ وَجْهًا فِي كُلِّ الْأَكْسَابِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَسَيَأْتِي دَلِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ أَتَتِ الْجَارِيَةُ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا بِوَلَدٍ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ: حُكْمُ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ، رَقَبَتُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَمَنْفَعَتُهُ لِلْمُوصَى لَهُ ; لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلْمُوصَى لَهُ، كَكَسْبِهَا. وَالثَّالِثُ: لِوَرَثَةِ الْمُوصِي ; لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَنْفَعَةِ. وَإِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، أَوْ زُوِّجَتْ، فَفِي الْمَهْرِ وَجْهَانِ. قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ لِلْمُوصَى لَهُ، كَالْكَسْبِ. وَالْمَنْسُوبُ إِلَى الْمَرَاوِزَةِ: أَنَّهُ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ،

لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، وَمَنْفَعَةُ الْبُضْعِ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهَا، فَكَانَ تَابِعًا لِلرَّقَبَةِ. وَلَا يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ وَطْؤُهَا بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ وَطِئَ، لَمْ يُحَدَّ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِلشُّبْهَةِ. وَقِيلَ: يُحَدُّ كَالْمُسْتَأْجِرِ. وَلَوْ أَوْلَدَهَا بِالْوَطْءِ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، لَكِنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِلشُّبْهَةِ. وَقِيلَ: رَقِيقٌ. وَإِذَا قُلْنَا: حُرٌّ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَلَدُ الْمَمْلُوكُ كَالْكَسْبِ، فَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا، فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ. ثُمَّ هَلْ هِيَ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ؟ أَمْ يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ تَكُونُ رَقَبَتُهُ لِمَالِكِ الْعَبْدِ وَمَنْفَعَتُهُ لِلْمُوصَى لَهُ وَجْهَانِ. هَذَا مَا ذَكَرُوهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ بِمَنْفَعَةِ الْعَبْدِ، أَوْ غَلَّتِهِ، أَوْ خِدْمَتِهِ، أَوْ كَسْبِهِ، وَبِمَنْفَعَةِ الدَّارِ، أَوْ سُكْنَاهَا، أَوْ غَلَّتِهَا. وَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ تُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ الْخِدْمَةِ فِي الْعَبْدِ، وَالسُّكْنَى فِي الدَّارِ. وَالْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى لَا تُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ سَائِرِ الْمَنَافِعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ، لَا يَمْلِكُ تَكْلِيفَهُ الْبِنَاءَ، وَالْغِرَاسَ، وَالْكِتَابَةَ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا لِلسُّكْنَى، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا عَمَلَ الْحَدَّادِينَ وَالْقَصَّارِينَ، وَلَا أَنْ يَطْرَحَ الزِّبْلَ فِيهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادَهُمْ وَإِنْ أَطْلَقُوا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: الْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ وَالْكَسْبِ لَا تُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ السُّكْنَى وَالرُّكُوبَ وَالِاسْتِخْدَامَ، وَبِوَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ [الْغَلَّةِ وَالْكَسْبِ] . وَهَذَا يُوَافِقُ الْوَجْهَ السَّابِقَ عَنِ الْحَنَّاطِيِّ وَالْعَبَّادِيِّ. فَرْعٌ: هَلْ يَنْفَرِدُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمُسَافِرِ بِالْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَزَوْجِ الْأَمَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِاسْتِغْرَاقِهِ الْمَنَافِعَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ وَارِثِ الْمُوصِي، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ فُرُوعٍ.

الْأَوَّلُ: الْوَارِثُ يَمْلِكُ إِعْتَاقَ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ ; لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَهُ، وَأَشَارَ صَاحِبُ «الرَّقْمِ» وَغَيْرُهُ إِلَى خِلَافٍ فِيهِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لَكِنْ لَا يَجْرِي إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِعَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ. وَإِذَا أُعْتِقَ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْقَى بِحَالِهَا، وَتَكُونَ الْمَنَافِعُ مُسْتَحَقَّةً لِلْمُوصَى لَهُ كَمَا كَانَتْ، كَمَا إِذَا أَعْتَقَ الْمُسْتَأْجَرَ. وَلَا يَرْجِعُ الْعَتِيقُ بِقِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ قَطْعًا. وَقِيلَ: تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، نَقَلَهُ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ ; لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَةُ الْحُرِّ مُسْتَحَقَّةً أَبَدًا. فَعَلَى هَذَا فِي رُجُوعِ الْمُوصَى لَهُ عَلَى الْمُعَتَقِ بِقِيمَةِ الْمَنَافِعِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: لَعَلَّ أَصَحَّهُمَا الرُّجُوعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ كِتَابَةُ هَذَا الْعَبْدِ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ أَكْسَابَهُ مُسْتَحَقَّةٌ. وَوَجْهُ الْجَوَازِ تَوَقُّعُ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا. الْفَرْعُ الثَّانِي: إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَنْفَعَةٍ - مُدَّةً مَعْلُومَةً -، فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْوَارِثِ، كَالْمُسْتَأْجَرِ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: عَلَى الْمُوصَى لَهُ. وَالثَّالِثُ: فِي كَسْبِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَسْبٌ. أَوْ لَمْ يَفِ بِهَا، فَفِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالْفِطْرَةُ كَالنَّفَقَةِ، فَفِيهَا الْأَوْجُهُ، كَذَا قَالَهُ السَّرَخْسِيُّ وَطَائِفَةٌ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهَا عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ. وَعَلَفُ الْبَهِيمَةِ، كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ. أَمَّا عِمَارَةُ الدَّارِ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهَا، وَسَقْيُ الْبُسْتَانِ الْمُوصَى بِثِمَارِهِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، أَوْ تَطَوَّعَ أَحَدُهُمَا بِهِ، فَذَاكَ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ مَنْعُهُ. وَإِنْ تَنَازَعَا، لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ؛ لِحُرْمَةِ الزَّوْجِ. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى طَرْدِ الْخِلَافِ فِي الْعِمَارَةِ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: بَيْعُ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ مُدَّةً، كَبَيْعِ الْمُسْتَأْجَرِ. وَأَمَّا الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَفِي بَيْعِ الْوَارِثِ رَقَبْتَهُ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَصِحُّ [بَيْعُهَا]

لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: لَا. وَالرَّابِعُ: يَصِحُّ بَيْعُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، لِأَنَّهُمَا يُتَقَرَّبُ بِإِعْتَاقِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ. وَالْمَاشِيَةُ الْمُوصَى بِنِتَاجِهَا يَصِحُّ بَيْعُهَا، لِبَقَاءِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، كَالصُّوفِ، وَالظَّهْرِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا اسْتَغْرَقَتِ الْوَصِيَّةُ مَنَافِعَهُ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: هَلْ لِلْوَارِثِ وَطْءُ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: ثَالِثُهَا: يَجُوزُ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحْبَلُ، وَإِلَّا، فَلَا. فَإِنْ مَنَعْنَا، فَوَطِئَ، فَلَا حَدَّ، لِلشُّبْهَةِ، وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ لِمَنِ الْمَهْرُ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لِلْوَارِثِ، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا، فَعَلَيْهِ. فَإِنْ أَوْلَدَهَا، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ. وَهَلْ تَكُونُ الْقِيمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ؟ أَمْ يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ يَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ وَتَكُونُ رَقَبَتُهُ لِلْوَارِثِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا وَلَدَتْ رَقِيقًا. وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ يَعْتِقُ بِمَوْتِهِ مَسْلُوبَةَ الْمَنْفَعَةِ. وَقِيلَ: لَا تَصِيرُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ، فَإِنْ قُتِلَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ قَتْلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَلِمَالِكِ الرَّقَبَةِ الِاقْتِصَاصُ، فَإِذَا اقْتَصَّ، بَطَلَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ، أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ، وَبَطَلَتْ مَنَافِعُهَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ الْمَالَ، أَوْ رَجَعَ إِلَيْهِ، فَفِي الْقِيمَةِ الْمَأْخُوذَةِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَتَكُونُ رَقَبَتُهُ لِلْوَارِثِ، وَمَنَافِعُهُ لِلْمُوصَى لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِلْوَارِثِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ، كَمَا لَا حَقَّ لِزَوْجِ الْأَمَةِ فِي بَدَلِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لِلْمُوصَى لَهُ خَاصَّةً. وَالرَّابِعُ: تُوَزَّعُ عَلَى الرَّقَبَةِ مَسْلُوبَةَ الْمَنْفَعَةِ، وَعَلَى الْمَنْفَعَةِ وَحْدَهَا، فَتُقَوَّمُ الرَّقَبَةُ بِمَنَافِعِهَا، ثُمَّ بِلَا مَنْفَعَةٍ، فَيَكُونُ لَهَا قِيمَةٌ، لِمَا فِي إِعْتَاقِهَا مِنَ الثَّوَابِ وَجَلْبِ الْوَلَاءِ. فَقَدْرُ التَّفَاوُتِ هُوَ قِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَالْبَاقِي لِلْوَارِثِ. وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا إِذَا قَتَلَهُ الْوَارِثُ أَوِ الْمُوصَى لَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهُ،

كَانَتِ الْقِيمَةُ مَصْرُوفَةً إِلَيْهِ. وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ بِقَطْعِ طَرَفِهِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْأَوْجُهِ، سِوَى الثَّالِثِ. وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُ الثَّالِثِ أَيْضًا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، تَشْبِيهًا لَهُ بِالْوَلَدِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّ الْأَرْشَ لِلْوَارِثِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَرْجِيحِهِ وَإِنْ ثَبَتَ الْخِلَافُ، [وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْعَبْدَ بَقِيَ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَمَقَادِيرُ الْمَنْفَعَةِ لَا تَنْضَبِطُ، وَتَخْتَلِفُ بِالْمَرَضِ وَالْكِبَرِ، وَكَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بَاقٍ بِحَالِهِ] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي جِنَايَتِهِ، فَإِنِ اقْتُصَّ مِنْهُ، بَطَلَ حَقُّهُمَا كَمَوْتِهِ. وَإِنْ وَجَبَ مَالٌ، تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَفْدِيَاهُ، بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ، وَبَطَلَ حَقُّهُمَا. فَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ عَلَى الْأَرْشِ، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ: يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى نِسْبَةِ حَقِّهِمَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. قُلْتُ: مَجِيءُ الْخِلَافِ هُوَ الْوَجْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ فَدَيَاهُ، اسْتَمَرَّ الْحَقَّانِ. وَإِنْ فَدَاهُ مَالِكُ الرَّقَبَةِ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ فَدَاهُ الْمُوصَى لَهُ، فَفِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا ; لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الرَّقَبَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ، لِظُهُورِ غَرَضِهِ. وَهَذَا فِيمَا إِذَا فَدَى أَحَدُهُمَا الْعَبْدَ بِمَنَافِعِهِ. فَلَوْ فَدَى حِصَّتَهُ، قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: يُبَاعُ نَصِيبُ صَاحِبِهِ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّهُ إِنْ فَدَى الْوَارِثَ، فَكَيْفَ تُبَاعُ الْمَنَافِعُ وَحْدَهَا؟ وَإِنْ فَدَى الْمُوصَى لَهُ وَاسْتَمَرَّ حَقُّهُ، فَبَيْعُ الرَّقَبَةِ يَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ حِسَابِ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنْ أَوْصَى بِالْمَنْفَعَةِ أَبَدًا، فَوَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ نَصُّهُ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ وَفِي «الْإِمْلَاءِ» وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: [أَنَّهُ] تُعْتَبَرُ الرَّقَبَةُ بِتَمَامِ مَنَافِعِهَا مِنَ الثُّلُثِ ; لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَ الْوَارِثِ وَبَيْنَهَا، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُؤَبَّدَةَ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهَا ; لِأَنَّ مُدَّةَ

[عُمُرِهِ] غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَإِذَا تَعَذَّرَ تَقْوِيمُ الْمَنَافِعِ تَعَيَّنَ تَقْوِيمُ الرَّقَبَةِ. وَالثَّانِي خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا بِمَنَافِعِهَا، وَقِيمَتِهَا مَسْلُوبَةَ الْمَنَافِعِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَطَائِفَةٌ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ تُحْسَبُ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ مِنَ التَّرِكَةِ أَمْ لَا؟ كَمَا لَا تُحْسَبُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. مِثَالُهُ: أَوْصَى بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ بِمَنَافِعِهِ، مِائَةٌ. وَدُونَ الْمَنَافِعِ عَشَرَةٌ. فَعَلَى الْمَنْصُوصِ: تُعْتَبَرُ الْمِائَةُ مِنَ الثُّلُثِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِائَتَانِ سِوَى الْعَبْدِ. وَعَلَى الثَّانِي الْمُعْتَبَرُ تِسْعُونَ. فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ التِّسْعِينَ مَعَ الْعَشَرَةِ عَلَى وَجْهٍ، وَدُونَهَا عَلَى وَجْهٍ. أَمَّا إِذَا أَوْصَى بِمَنْفَعَتِهِ مُدَّةً، كَسَنَةٍ، أَوْ شَهْرٍ، فَفِيهِ طُرُقٌ. أَحَدُهَا: طَرْدُ الْخِلَافِ، كَالْوَصِيَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ. وَالثَّانِي: إِنِ اعْتَبَرْنَا هُنَاكَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: التَّفَاوُتُ. وَالثَّانِي: الرَّقَبَةُ. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ أُجْرَةُ مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَالرَّابِعُ وَهُوَ أَصَحُّهَا: يُقَوَّمُ الْعَبْدُ بِمَنَافِعِهِ، ثُمَّ مَسْلُوبًا مَنْفَعَتُهُ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَمَا نَقَصَ حُسِبَ مِنَ الثُّلُثِ. وَقِيمَةُ الرَّقَبَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، مَحْسُوبَةٌ مِنَ التَّرِكَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: أَوْصَى بِمَنْفَعَةِ عَبْدِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَلَا مَالَ سِوَاهُ، إِنِ اعْتَبَرْنَا قِيمَةَ الرَّقَبَةِ مِنَ الثُّلُثِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي مَنَافِعِ الثُّلُثِ، وَرُدَّتْ فِي الْبَاقِي. وَإِنِ اعْتَبَرْنَا مَا نَقَصَ، وَكَانَ النَّقْصُ نِصْفَ الْقِيمَةِ، فَهَلْ تُرَدُّ الْوَصِيَّةُ فِي سُدُسِ الْعَبْدِ؟ أَمْ يَنْقُصُ مِنْ آخِرَ الْمَدَّةِ سُدُسُهَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ قِيمَةَ الْمَنَافِعِ تَخْتَلِفُ بِالْأَوْقَاتِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرَقَبَتِهِ، وَلِآخَرَ بِمَنْفَعَتِهِ. إِنْ قُلْنَا: [يُعْتَبَرُ مِنَ] الثُّلُثِ تَمَامُ الْقِيمَةِ، نُظِرَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَأُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ حَقَّهُ كَامِلًا أَوْ غَيْرَ كَامِلٍ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ، فَإِنْ حَسَبْنَا الرَّقَبَةَ عَلَى الْوَارِثِ، إِذَا بَقِيَتْ لَهُ،

حُسِبَ هَنَا كَمَالُ الْقِيمَةِ عَلَيْهِمَا، وَإِلَّا، لَمْ تُحْسَبْ أَيْضًا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِهَا. وَتَصِحُّ وَصِيَّتُهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي. [الصُّورَةُ] الثَّالِثَةُ: أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ لِرَجُلٍ، وَأَبْقَى الْمَنْفَعَةَ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ كَمَالُ الْقِيمَةِ، لَمْ تُعْتَبَرْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الثُّلُثِ، لَجَعَلْنَا الرَّقَبَةَ الْخَالِيَةَ عَنِ الْمَنْفَعَةِ كَالتَّالِفَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ، فَإِنْ حَسَبْنَا قِيمَةَ الرَّقَبَةِ عَلَى الْوَارِثِ، حُسِبَتْ هُنَا قِيْمَةُ الرَّقَبَةِ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا، وَتَدْخُلُ فِي الثُّلُثِ، وَإِلَّا، فَهُنَا يُحْسَبُ قَدْرُ التَّفَاوُتِ عَلَى الْوَارِثِ، وَلَا تُحْسَبُ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا. [الصُّورَةُ] الرَّابِعَةُ: الْعَبْدُ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ، لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ، فَلِمَنْ تَكُونُ أُجْرَةُ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ؟ قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِنْ قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ جَمِيعُ الْقِيمَةِ، فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَكَأَنَّهُ فَوَّتَ الرَّقَبَةَ عَلَى الْوَارِثِ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلْوَارِثِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ الْمُسْتَأْجِرُ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا لِلْمُوصَى لَهُ ; لِأَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا تَنْفَسِخُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَتَعُودُ الْمَنَافِعُ إِلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ. [الصُّورَةُ] الْخَامِسَةُ: أَوْصَى بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ، يُخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ. فَفِي وَجْهٍ: تُعْتَبَرُ جَمِيعُ قِيمَةِ الْبُسْتَانِ مِنَ الثُّلُثِ. وَفِي وَجْهٍ: مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ بِمَنَافِعِهِ وَفَوَائِدِهِ، وَبَيْنَ قِيمَتِهِ مَسْلُوبَ الْفَوَائِدِ. فَإِنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَلِلْمُوصَى لَهُ الْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ، وَالْبَاقِي لِلْوَارِثِ. فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ إِلَّا نِصْفَهُ، فَلَهُ مِنْ ثَمَرِهِ كُلَّ عَامٍ النِّصْفُ. وَالْبَاقِي لِلْوَارِثِ.

فَرْعٌ لِابْنِ الْحَدَّادِ: أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدِينَارٍ كُلَّ شَهْرٍ مِنْ غَلَّةِ دَارِهِ، أَوْ كَسْبِ عَبْدِهِ، وَجَعَلَهُ بَعْدَهُ لِوَارِثِ الرَّجُلِ، أَوْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْغَلَّةُ وَالْكَسْبُ عَشَرَةٌ مَثَلًا، فَاعْتِبَارُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مِنَ الثُّلُثِ كَاعْتِبَارِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، لِبَقَاءِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ، فَيَكُونُ الْمَذْهَبُ فِيهِمَا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ قَدْرُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ. ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الثُّلُثِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا بَعْضَ الدَّارِ وَيَدَعُوا مَا يَحْصُلُ مِنْهُ دِينَارٌ ; لِأَنَّ الْأُجْرَةَ تَخْتَلِفُ، فَقَدْ تَنْقُصُ فَتَعُودُ إِلَى دِينَارٍ أَوْ أَقَلَّ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ لِلْمُوصَى لَهُ. وَهَذَا إِذَا أَرَادُوا بَيْعَ بَعْضِهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْغَلَّةُ لِلْمُشْتَرِي. فَأَمَّا بَيْعُ مُجَرَّدِ الرَّقَبَةِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْخِلَافِ فِي بَيْعِ الْوَارِثِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، فَالزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ رَقَبَةٌ وَغَلَّةٌ لِلْوَارِثِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ. وَلَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعُشْرِ الْغَلَّةِ كُلَّ سَنَةٍ، فَمَا سِوَى الْعُشْرِ لِلْوَارِثِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ. فَرْعٌ: أَوْصَى لِشَخْصٍ بِدِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ، حَكَى الْإِمَامُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ فِي السَّنَةِ الْأُولَى بِدِينَارٍ. وَفِيمَا بَعْدَهَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ ; لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ صَحِيحَةٌ لَا إِلَى غَايَةٍ. وَأَظْهَرُهُمَا: الْبُطَلَانُ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ الْمُوصَى بِهِ لِيَخْرُجَ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى، فَلِلْوَرَثَةِ التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ قَطْعًا. وَفِي ثُلُثِهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ

بَعْدَ إِخْرَاجِ الدِّينَارِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ اسْتِحْقَاقَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُوقَفُ ; لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ ثَبَتَ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ قَاطِعٌ. فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ، وَبَقِيَ الْمُوصَى لَهُ إِلَى أَنِ اسْتَوْعَبَتْ دَنَانِيرُهُ الثُّلُثَ، فَذَاكَ. وَإِنْ مَاتَ، فَعَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ: أَنَّ بَقِيَّةَ الثُّلُثِ تُسَلَّمُ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ إِذَا صَحَّحْنَاهَا، كَالْوَصِيَّةِ بِالثِّمَارِ بِلَا نِهَايَةٍ، فَوَجَبَ انْتِقَالُ الْحَقِّ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ. وَإِنْ نَفَّذْنَا تَصَرُّفَهُمْ، فَكُلَّمَا انْقَضَتْ سَنَةٌ، طَالَبَ الْمُوصَى لَهُ الْوَرَثَةَ بِدِينَارٍ، وَكَانَ ذَلِكَ كَوَصِيَّةٍ تَظْهَرُ بَعْدَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَصَايَا أُخَرُ. قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : يُوَزَّعُ الثُّلُثُ بَعْدَ الدِّينَارِ الْوَاحِدِ عَلَى أَصْحَابِ الْوَصَايَا، وَلَا يُتَوَقَّفُ. فَإِذَا انْقَضَتْ سَنَةٌ أُخْرَى، اسْتَرَدَّ مِنْهُمْ بِدِينَارٍ مَا يَقْتَضِيهِ التَّقْسِيطُ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا بَيِّنٌ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ نُقَيِّدْ، وَأَقَمْنَا وَرَثَتَهُ مَقَامَهُ، فَهُوَ مُشْكِلٌ لَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ. فَرْعٌ: لَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهَا، فَأَعَادَهَا الْوَارِثُ بِآلَتِهَا، هَلْ يَعُودُ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ إِعَادَتَهَا بِآلَتِهَا، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الْعَوْدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ. الْحَجُّ ضَرْبَانِ، مُتَطَوَّعٌ بِهِ، وَمَفْرُوضٌ. فَالتَّطَوُّعُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ تَفْرِيعًا عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِيهِ. ثُمَّ هُوَ مَحْسُوبٌ مِنَ الثُّلُثِ، وَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ إِنْ قُيِّدَ بِهِ، وَمِنَ الْمِيقَاتِ إِنْ قُيِّدَ بِهِ. فَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مِنَ الْمِيقَاتِ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ أَكْثَرِهِمْ. وَهَلْ يُقَدَّمُ حَجُّ التَّطَوُّعِ

فِي الثُّلُثِ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا؟ قَالَ الْقَفَّالُ: هُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَقْدِيمِ الْعِتْقِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْوَصَايَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَمْ أَرَ هَذَا لِأَحَدٍ مِنَ الْأَصْحَابِ، بَلْ جَعَلُوا الْوَصِيَّةَ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ. وَإِذَا لَمْ يَفِ الثُّلُثُ، أَوْ حِصَّةُ الْحَجِّ مِنْهُ بِالْحَجِّ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةٍ مِنْ ثُلُثِي وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُحَجَّ بِهَا. وَلَوْ قَالَ: أَحِجُّوا عَنِّي بِثُلُثِي، صُرِفَ ثُلُثُهُ إِلَى مَا يُمْكِنُ مِنْ حَجَّتَيْنِ وَثَلَاثٍ فَصَاعِدًا. فَإِنْ فَضَلَ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ، فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَحِجُّوا عَنِّي بِثُلُثِي حَجَّةً، صُرِفَ ثُلُثُهُ إِلَى حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَمَا دُونَهَا، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ أَجْنَبِيًّا وَوَارِثًا. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، لَمْ يُسْتَأْجَرْ إِلَّا أَجْنَبِيٌّ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مُحَابَاةٌ [فَلَا تَجُوزُ لِلْوَارِثِ] . الضَّرْبُ الثَّانِي: الْمَفْرُوضُ، وَهُوَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا. أَمَّا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ مَاتَ وَهِيَ فِي ذِمَّتِهِ، قُضِيَتْ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا، كَالزَّكَاةِ، وَسَائِرِ الدُّيُونِ. وَإِنْ أَوْصَى بِهَا نُظِرَ، إِنْ أَضَافَهَا إِلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَهِيَ تَأْكِيدٌ. وَإِنْ أَضَافَ إِلَى الثُّلُثِ، قُضِيَتْ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ ثُلُثِهِ. وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَرْفِيهَ الْوَرَثَةِ بِتَوْفِيرِ الثُّلُثَيْنِ. وَفِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا وَجْهَانِ - وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: قَوْلَانِ - يَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ أَوْصَى بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنَ الثُّلُثِ. أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوصَ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُقَدَّمُ، بَلْ يُزَاحِمُهَا بِالْمُضَارَبَةِ ; لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالْحَجِّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَوِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمُضَارَبَةِ عَلَى الثَّانِي، كُمِّلَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْضُوا دَيْنِي مِنْ ثُلُثِي فَلَمْ يُوَفِّ الثُّلُثُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ تَدُورُ الْمَسْأَلَةُ، وَسَنُوَضِّحُ مِثَالَهَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَلَمْ يُضِفْ إِلَى الثُّلُثِ، وَلَا إِلَى رَأْسِ الْمَالِ، حُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، سَوَاءٌ قَرَنَ بِهِ مَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ، [أَمْ لَا] ، وَقِيلَ:

قَوْلَانِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مِنَ الثُّلُثِ. وَقِيلَ: إِنْ قَرَنَ، فَمِنَ الثُّلُثِ، وَإِلَّا، فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ. ثُمَّ مَتَى جَعَلَنَا الْحَجَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، حُجَّ عَنْهُ مِنَ الْمِيقَاتِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا هَذَا. وَإِذَا جَعَلْنَاهُ مِنَ الثُّلُثِ، إِمَّا لِتَصْرِيحِهِ، وَإِمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مِنَ الْمِيقَاتِ أَيْضًا. فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ثُلُثُهُ حَجَّةً مِنْ بَلَدِهِ، حُجَّ مِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ. وَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحَجَّ مِنَ الْمِيقَاتِ، تُمِّمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْحَجُّ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَالثَّانِي: مِنْ بَلَدِهِ. فَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ: إِنْ أَوْصَى بِالْحَجِّ مِنَ الثُّلُثِ، فَجَمِيعُهُ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنْ أَطْلَقَ، وَجَعَلْنَاهُ مِنَ الثُّلُثِ، فَالَّذِي مِنَ الثُّلُثِ مُؤْنَةُ مَا بَيْنَ الْبَلَدِ إِلَى الْمِيقَاتِ. فَأَمَّا مِنَ الْمِيقَاتِ، فَهُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَأَمَّا الْحَجَّةُ الْمَنْذُورَةُ، فَفِيهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، إِلَّا أَنَّ هَاهُنَا وَجْهًا أَنَّهَا إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا، قُضِيَتْ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَالثَّانِي: كَالتَّطَوُّعَاتِ، لِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا، لَمْ تُقْضَ. وَإِنْ أَوْصَى بِهَا، كَانَتْ مِنَ الثُّلُثِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الصَّدَقَةِ الْمَنْذُورَةِ وَالْكَفَّارَاتِ. فَرْعٌ: أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الثُّلُثِ، وَلِزَيْدٍ بِمِائَةٍ، وَالتَّرِكَةُ ثَلَاثُمِائَةٍ، وَأُجْرَةُ الْحَجِّ مِائَةٌ. فَإِنْ قَدَّمْنَا الْحَجَّ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، صُرِفَ الثُّلُثُ إِلَى الْحَجِّ. وَإِنْ لَمْ نُقَدِّمْ، وَوَزَّعْنَا الثُّلُثَ، دَارَتِ الْمَسْأَلَةُ ; لِأَنَّ حِصَّةَ الْحَجِّ تُكَمَّلُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِذَا أَخَذْنَا شَيْئًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، نَقَصَ الثُّلُثُ. وَإِذَا نَقَصَ، نَقَصَتْ حِصَّةُ الْحَجِّ، [فَلَا تُعْرَفُ حِصَّةُ الْحَجِّ مَا لَمْ يُعْرَفِ الثُّلُثُ] وَلَا يُعْرَفُ الثُّلُثُ [مَا لَمْ يُعْرَفِ الْمَأْخُوذُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يُعْرَفُ الْمَأْخُوذُ] مَا لَمْ تُعْرَفْ حِصَّةُ الْحَجِّ.

فَالطَّرِيقُ أَنْ نَأْخُذَ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْئًا [لِإِكْمَالِ حِصَّةِ الْحَجِّ] ، يَبْقَى ثَلَثُمِائَةٍ إِلَّا شَيْئًا بِقَدْرِ ثُلُثِهِ، وَهُوَ مِائَةٌ إِلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ، يُقَسَّمُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْمُوصَى لَهُ نِصْفَيْنِ، فَنَصِيبُ الْحَجَّ خَمْسُونَ إِلَّا سُدُسَ شَيْءٍ، فَيُضَمُّ الشَّيْءُ الْمُفْرَزُ إِلَيْهِ، تَبْلُغُ خَمْسِينَ وَخَمْسَةَ أَسْدَاسِ شَيْءٍ تَعْدِلُ مِائَةً، وَذَلِكَ تَمَامُ الْأُجْرَةِ، فَيُسْقِطُ خَمْسِينَ بِخَمْسِينَ، تَبْقَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ شَيْءٍ فِي مُقَابَلَةِ خَمْسِينَ. وَإِذَا كَانَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الشَّيْءِ خَمْسِينَ، كَانَ الشَّيْءُ سِتِّينَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا أَفْرَزْنَاهُ سِتُّونَ، فَنَأْخُذُ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ السِّتِّينَ، وَهُوَ ثَمَانُونَ، وَنُقَسِّمُهُ بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ، يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ أَرْبَعُونَ وَالْأَرْبَعُونَ مَعَ السِّتِّينَ، تَمَامُ أُجْرَةِ الْحَجِّ. فَرْعٌ: أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ تَطَوُّعًا، أَوْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ ثُلُثِهِ بِمِائَةٍ، وَأَوْصَى بِمَا يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الْمِائَةِ لِزَيْدٍ، وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِعَمْرٍو، وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَ عَمْرٍو وَالْوَصِيَّتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ نِصْفَيْنِ. فَإِذَا كَانَ ثُلُثُ الْمَالِ ثَلَثَمِائَةٍ، كَانَ لِعَمْرٍو مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْحَجِّ وَزَيْدٍ. وَفِي قِسْمَتِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ: تُصْرَفُ خَمْسُونَ إِلَى الْحَجِّ، وَمِائَةٌ إِلَى زَيْدٍ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ لَوْ نَفَذَتَا يَخُصُّ زَيْدًا ثُلُثَا الثُّلُثِ. وَأَصَحُّهُمَا: تُصْرَفُ مِائَةٌ إِلَى الْحَجِّ، وَخَمْسُونَ لِزَيْدٍ. وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ مِائَتَيْنِ، فَلِعَمْرٍو مِائَةٌ، وَالْمِائَةُ الْبَاقِيَةُ لِلْحَجِّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا شَيْءَ لِزَيْدٍ. وَعَلَى الثَّانِي: هِيَ بَيْنَ زَيْدٍ وَالْحَجِّ نِصْفَانِ. وَلَوْ كَانَ الثُّلْثُ مِائَةً، قُسِّمَتْ بَيْنَ الْحَجِّ وَعَمْرٍو نِصْفَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِزَيْدٍ فِي هَذَا الْحَالِ. وَكَذَا لَوْ لَمْ تُوجَدِ الْوَصِيَّةُ لِعَمْرٍو، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الثُّلُثُ فَوْقَ الْمِائَةِ. وَلَوْ أَوْصَى أَوَّلًا بِالثُّلُثِ لِعَمْرٍو، ثُمَّ بِالْحَجِّ بِمِائَةٍ مِنَ الثُّلُثِ، ثُمَّ لِزَيْدٍ بِمَا يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ الْمِائَةِ،

فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِزَيْدٍ بَاطِلَةٌ ; لِأَنَّ وَصِيَّةَ عَمْرٍو اسْتَغْرَقَتِ الثُّلُثَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ وَلِزَيْدٍ وَصِيَّةٌ بِثُلُثٍ آخَرَ، وَهَذَا شَخْصٌ أَوْصَى بِالثُّلُثَيْنِ، كَمَنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يُوَزَّعُ الثُّلُثُ عَلَيْهِمَا. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يُقَدَّمُ فِي الثُّلُثِ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا. فَأَمَّا إِذَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ ثَلَثَمِائَةٍ، وَالْمِائَةُ الْمُقَدَّرَةُ لِلْحَجِّ أُجْرَةُ مِثْلِ الْحَجِّ، أُخِذَتِ الْمِائَةُ مِنْ رَأْسِ الثُّلُثِ. وَكَيْفَ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو؟ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: نِصْفَيْنِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ مَعَ الْحَجِّ لَأَخَذَ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ. وَغَلَّطَهُ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ وَقَالُوا: يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ وَصِيَّتِهِمَا. وَالْوَصِيَّةُ لِزَيْدٍ بِالْبَاقِي، وَهُوَ مِائَتَانِ، وَلِعَمْرٍو بِالثُّلُثِ، وَهُوَ ثَلَثُمِائَةٍ، فَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ، لِزَيْدٍ ثَمَانُونَ، وَلِعَمْرٍو مِائَةٌ وَعِشْرُونَ. وَلَوْ كَانَتِ الصُّوَرُ بِحَالِهَا، وَأُجْرَةُ مِثْلِ الْحَجِّ خَمْسُونَ، أُخِذَ مِنَ الثُّلُثِ خَمْسُونَ أَوَّلًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُجْعَلُ الْبَاقِي نِصْفَيْنِ، نِصْفُهُ لِعَمْرٍو، وَنِصْفُهُ الْآخَرُ لِلْحَجِّ مِنْهُ خَمْسُونَ، وَبَاقِيهِ لِزَيْدٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلْ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَعْدَ أُجْرَةِ مِثْلِ الْحَجِّ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ; لِأَنَّ وَصِيَّةَ عَمْرٍو فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِثَلَثِمِائَةٍ، وَلِلْحَجِّ وَزَيْدٍ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَا، فَلِعَمْرٍو مَا يَخُصُّ سِتَّةً، وَالْبَاقِي يُقَدَّمُ الْحَجُّ مِنْهُ بِخَمْسِينَ، وَبَاقِيهِ لِزَيْدٍ. وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ مِائَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ مِثْلِ الْحَجِّ مِائَةً، أُخِذَتْ مِنْ رَأْسِ الثُّلُثِ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: يُجْعَلُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِزَيْدٍ بِمِائَةٍ، وَلِعَمْرٍو بِمِائَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ أُجْرَةُ مِثْلِهِ خَمْسِينَ، أُخِذَتْ خَمْسُونَ أَوَّلًا، وَالْبَاقِي عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ بَيْنَ عَمْرٍو وَالْوَصِيَّتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ يُقَدَّمُ الْحَجُّ بِخَمْسِينَ مِنْ حِصَّتِهِمَا، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: يُقَسَّمُ الْمَالُ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ،

فصل

لِأَنَّهُ أَوْصَى لِعَمْرٍو بِمِائَتَيْنِ، وَلِلْحَجِّ وَزَيْدٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ. فَلِعَمْرٍو مَا يَخُصُّ أَرْبَعَةً، وَالْبَاقِي يُؤْخَذُ مِنْهُ، خَمْسُونَ لِلْحَجِّ، وَالْبَاقِي لِزَيْدٍ. وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ مِائَةً، فَإِنْ كَانَ أُجْرَةُ مِثْلِ الْحَجِّ مِائَةً، فَلَا شَيْءَ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَإِنْ كَانَ خَمْسِينَ، أُخِذَ لِلْحَجِّ خَمْسُونَ. ثُمَّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: الْبَاقِي بَيْنَ الْحَجِّ وَعَمْرٍو نِصْفَانِ. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: لِلْحَجِّ ثُلْثُ الْبَاقِي، وَلِعَمْرٍو ثُلُثَاهُ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِلْحَجِّ بِخَمْسِينَ، وَلِعَمْرٍو بِمِائَةٍ. وَإِذَا لَمْ تَفِ حِصَّةُ الْحَجِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْحَجِّ. فَإِنْ كَانَتْ لِحَجَّةِ تَطَوُّعٍ، بَطَلَتْ. وَإِنْ كَانَتْ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَّلْنَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرِيقَهُ. فَصْلٌ جَرَتِ الْعَادَةُ بِذِكْرِ مَا يَقَعُ عَنِ الْمَيِّتِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِمُنَاسَبَتِهِ الْحَجَّ عَنْهُ فَالْحَجُّ يُؤَدَّى عَنْهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا. ثُمَّ إِنْ عَيَّنَ شَخْصًا وَأَوْصَى إِلَيْهِ فِيهِ، فَعَلَهُ عَنْهُ، وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَإِنْ قَالَ: أَحِجُّوا عَنِّي، وَلَمْ يُعَيِّنْ، فَلِلْوَارِثِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ أَجْنَبِيًّا. وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ أَصْلًا، فَلِلْوَارِثِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، وَكَذَا لِلْأَجْنَبِيِّ إِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَارِثُ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَأْذَنْ عَلَى الْأَصَحِّ، كَقَضَاءِ الدَّيْنِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ: افْتِقَارُهُ إِلَى النِّيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِنَابَةٍ. وَأَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ، فَالنِّيَابَةُ جَائِزَةٌ عَلَى الْأَظْهَرِ كَمَا سَبَقَ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهَا، فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: إِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ، لَا يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْهُ. وَفِي «أَمَالِي» السَّرَخْسِيِّ: أَنَّ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَأَنَّهُ إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ إِلَى مُعَيَّنٍ، فَعَلَ. وَلَوِ اسْتَقَلَّ بِهِ أَجْنَبِيٌّ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَجْوِيزُ الِاسْتِنَابَةِ لِلْوَارِثِ، وَتَجْوِيزُ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ الْمَيِّتُ. وَأَمَّا أَدَاءُ الزَّكَاةِ عَنْهُ، فَكَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، فَيَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ زَكَاةَ الْمَالِ وَزَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مَالِيَّةً،

فَلِلْوَرِثِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ مِنَ التَّرِكَةِ، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمَيِّتِ إِذَا أُعْتِقَ. وَإِنْ كَانَتْ مُخَيَّرَةً، فَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ، وَيَكْسُوَ. وَفِي الْإِعْتَاقِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، إِذْ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ ; لِأَنَّهُ نَائِبُهُ شَرْعًا، فَإِعْتَاقُهُ كَإِعْتَاقِهِ. وَلَوْ أَدَّى الْوَارِثُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَا تَرِكَةَ، فَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ. وَقِيلَ بِالْمَنْعِ، لِبُعْدِ الْعِبَادَةِ عَنِ النِّيَابَةِ. وَقِيلَ: يُمْنَعُ الْإِعْتَاقُ فَقَطْ، لِبُعْدِ إِثْبَاتِ الْوَلَاء لِلْمَيِّتِ، فَإِذَا جَوَّزْنَا، فَلَوْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِالطَّعَامِ، أَوِ الْكِسْوَةِ، أَجْزَأَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَقَضَاءِ الدَّيْنِ. وَاحْتَجَّ [لَهُ] الْإِمَامُ بِأَنَّهُ لَوِ اشْتَرَطَتِ الْوَرَثَةُ، لَا يُشْتَرَطُ صُدُورُهُ مِنْ جَمِيعِهِمْ، كَالْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ، بَلْ يَسْتَبِدُّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ. وَلَوْ تَبَرَّعَ الْأَجْنَبِيُّ بِالْعِتْقِ، فَقِيلَ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَقِيلَ بِالْمَنْعِ قَطْعًا. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ عِتْقٌ أَصْلًا، فَأَعْتَقَ عَنْهُ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَلَا يَصِحُّ عَنِ الْمَيِّتِ، بَلْ يَقَعُ الْعِتْقُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ. وَلَوْ أَوْصَى بِالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ الْمُخَيَّرَةِ، وَزَادَتْ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ عَلَى قِيمَةِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ أَدَاءٌ وَاجِبٌ. وَأَصَحُّهُمَا: الِاعْتِبَارُ مِنَ الثُّلُثِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ، وَتَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِدُونِهِ، وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: تُعْتَبَرُ جَمِيعُ قِيمَتِهِ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ، عَدَلَ إِلَى الْإِطْعَامِ. وَأَقْيَسُهُمَا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ; لِأَنَّ أَقَلَّ الْقِيمَتَيْنِ لَازِمٌ لَا مَحَالَةَ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَوْصَى أَنْ يُكْسَى عَنْهُ - وَالْكِسْوَةُ أَكْثَرُ مِنَ الطَّعَامِ - وَسَنُعِيدُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ بِزِيَادَةِ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ أَعْتَقَ مِنْ عَلَيْهِ كَفَارَّةٌ مُخَيَّرَةٌ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِنَ الثُّلُثِ ; لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ فَرْضًا، وَهَذَا كَأَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِهِ، أُعْتِقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.

فَرْعٌ: وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ، وَالصَّدَقَةُ عَنْهُ، فَيَنْفَعَانِهِ بِلَا خِلَافٍ. وَسَوَاءٌ فِي الدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ، الْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي وُسْعِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُثِيبَ الْمُتَصَدِّقَ أَيْضًا. قَالَ الْأَصْحَابُ: فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْوِيَ الْمُتَصَدِّقُ الصَّدَقَةَ عَنْ أَبَوَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنِيلُهُمَا الثَّوَابَ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : أَنَّهُ لَوْ أَنْبَطَ عَيْنًا، أَوْ حَفَرَ نَهْرًا، أَوْ غَرَسَ شَجَرَةً، أَوْ وَقَفَ مُصْحَفًا فِي حَيَاتِهِ، أَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، يَلْحَقُ الثَّوَابُ الْمَيِّتَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْحَيِّ، فَهِيَ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ، يَلْحَقُهُ ثَوَابُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ، وَإِذَا فَعَلَ غَيْرُهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَدْ تَصَدَّقَ عَنْهُ. وَالصَّدَقَةُ عَنِ الْمَيِّتِ تَنْفَعُهُ، وَلَا يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِوَقْفِ الْمُصْحَفِ، بَلْ يَجْرِي فِي كُلِّ وَقْفٍ. وَهَذَا الْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّضْحِيَةِ عَنِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا ضَرْبٌ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَقَدْ أَطْلَقَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ جَوَازَ التَّضْحِيَةِ عَنِ الْغَيْرِ، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا. لَكِنْ فِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ عَنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَكَذَلِكَ [عَنِ] الْمَيِّتِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَوْصَى بِهِ. فَرْعٌ: وَمَا عَدَا هَذِهِ الْقُرَبِ، يَنْقَسِمُ إِلَى صَوْمٍ وَغَيْرِهِ، فَأَمَّا الصَّوْمُ، فَلَا يُتَطَوَّعُ بِهِ عَنِ الْمَيِّتِ. وَفِي قَضَاءِ وَاجِبِهِ عَنْهُ قَوْلَانِ سَبَقَا فِي الصِّيَامِ. الْجَدِيدُ: الْمَنْعُ.

فصل

وَالْقَدِيمُ: أَنَّ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ أَوْصَى إِلَى أَجْنَبِيٍّ لِيَصُومَ، كَانَ كَالْوَلِيِّ. وَلَوْ مَرِضَ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَفِي الصَّوْمِ عَنْهُ وَجْهَانِ تَشْبِيهًا بِالْحَجِّ. وَأَمَّا غَيْرُ الصَّوْمِ، كَالصَّلَاةِ عَنْهُ قَضَاءً أَوْ غَيْرِهِ، وَقِرَاءَةِ الْقِرَانِ، فَلَا يَنْفَعُهُ. وَاسْتَثْنَى صَاحِبُ التَّلْخِيصِ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَقَالَ: يَأْتِي بِهِمَا الْأَجِيرُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ تَبَعًا لِلطَّوَافِ. فَوَافَقَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقَعُ عَنِ الْأَجِيرِ وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ بِمَا يَفْعَلُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. فَرْعٌ: الَّذِي يُعْتَادُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ، قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَاب الْإِجَارَةِ طَرِيقَيْنِ لِعَوْدِ فَائِدَتِهَا إِلَى الْمَيِّتِ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ طَرِيقٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ كَالْحَيِّ الْحَاضِرِ، فَتُرْجَى لَهُ الرَّحْمَةُ وَوُصُولُ الْبَرَكَةِ إِذَا وَصَلَ الثَّوَابُ إِلَى الْقَارِئِ. فَصْلٌ إِذَا مَلَكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَلِكَهُ بِالْإِرْثِ، فَهَلْ يَعْتِقُ مِنَ الثُّلُثِ، أَمْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؟ وَجْهَانِ، رَجَّحَ الْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي كَوْنَهُ مِنَ الثُّلُثِ، وَالْأَصَحُّ: كَوْنُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ: مَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِهِ ; لِأَنَّهُ [لَمْ يَقْصِدْ] تَمَلُّكَهُ، وَلَا تَضَرَّرَ بِهِ الْوَرَثَةُ. وَإِنْ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ، أَوِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا فِي الْمَوْرُوثِ: يَعْتِقُ مِنَ الثُّلُثِ، فَهُنَا أَوْلَى ; لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَبِهِ قَطَعَ

ابْنُ الْحَدَّادِ وَأَبُو مَنْصُورٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ مَالًا، وَزَوَالُ الْمِلْكِ حَصَلَ بِغَيْرِ رِضَاهُ. فَإِنْ قُلْنَا: مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ. وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، وَكَذَا الْمُفْلِسُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ إِذَا قَبِلَهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَعْتِقُ مِنَ الثُّلُثِ، فَلَمْ يَكُنْ مَالٌ سِوَاهُ، عَتَقَ ثُلُثُهُ فَقَطْ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، لَمْ يَعْتِقْ، وَبِيعَ فِي الدَّيْنِ، وَكَذَا فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ. وَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَفِي صِحَّةِ الشِّرَاءِ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، إِذْ لَا خَلَلَ فِي الشِّرَاءِ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ، وَلَا يَعْتِقُ، لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ، اعْتُبِرَ عِتْقُهُ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَعَتَقَ كُلُّهُ، وَإِلَّا، فَفِي صِحَّةِ الشِّرَاءِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ، فَفِي قَدْرِ الثُّلُثِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ، عَتَقَ الثُّلُثُ فَقَطْ. وَفِي وَجْهٍ: شِرَاءُ الْمَرِيضِ أَبَاهُ بَاطِلٌ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ، وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الثُّلُثِ، وَالْبَيْعُ لَا يُوقَفُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحَابَاةً. أَمَّا إِذَا اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ هِبَةٌ، فَيَجِئُ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّهُ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ رَأْسِ الْمَالِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: مِنَ الثُّلُثِ، فَجَمِيعُ الْمِائَةِ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِلَّا فَالْمُعْتَبَرُ مِنْهُ خَمْسُونَ. ثُمَّ مَتَى حَكَمْنَا بِعِتْقِهِ مِنَ الثُّلُثِ، لَا يَرِثُهُ ; لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِرْثِ. هَكَذَا أَطْلَقُوهُ وَعَلَّلُوهُ، وَكَأَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ. فَإِنْ قُلْنَا: يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَارِثِ، لَمْ يَمْتَنِعِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِرْثِ، فَيُحْتَمَلُ تَوَقُّفُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ. وَحَكَى الْأُسْتَاذُ وَأَبُو مَنْصُورٍ وَجْهًا: أَنَّهُ يَرِثُ ; لِأَنَّهُ لَا (يَمْلِكُ) رَقَبَتَهُ حَتَّى يُقَالَ: أَوْصَى لَهُ بِهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَمَتَى عَتَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وُرِثَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَرِثُ، وَجَعَلَ عِتْقَهُ وَصِيَّةً فِي حَقِّهِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةٌ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، كَمَا لَوْ نُكِحَتِ الْمَرِيضَةُ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، تَصِحُّ الْمُحَابَاةُ مِنْ رَأْسِ

فصل

الْمَالِ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا. فَإِنْ كَانَ وَارِثًا، جُعِلَ وَصِيَّةً، فَتَبْطُلُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. فَصْلٌ إِذَا قَالَ: أَعْتِقُوا عَبْدِي بَعْدَ مَوْتِي، لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى قَبُولِ الْعَبْدِ ; لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حَقًّا مُؤَكَّدًا فِي الْعِتْقِ، فَكَانَ كَالْوَصِيَّةِ لِلْجِهَاتِ الْعَامَّةِ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِرَقَبَتِهِ، فَهِيَ وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَمَقْصُودُهَا الْإِعْتَاقُ، وَيُشْتَرَطُ قَبُولُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِاقْتِضَاءِ الصِّيغَةِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ: مَلَّكْتُكَ نَفْسَكَ، أَوْ وَهَبْتُ لَكَ نَفْسَكَ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ. وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُكَ نَفْسَكَ، وَنَوَى بِهِ الْعِتْقَ، عَتَقَ بِلَا قَبُولٍ. فَصْلٌ قَالَ: إِذَا مُتُّ، فَأَعْتِقُوا ثُلُثَ عَبْدِي، أَوْ قَالَ: ثُلُثُ عَبْدِي حُرٌّ إِذَا مُتُّ، لَمْ يَعْتِقْ إِذَا مَاتَ إِلَّا ثُلُثُهُ، وَلَا يَسْرِي ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْبَاقِي فِي حَالِ الْعِتْقِ، وَلَا مُوسِرٍ بِقِيمَتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْمَرِيضُ بَعْضَ عَبْدِهِ، فَإِنَّهُ يَسْرِي إِذَا وَفَّى بِهِ الثُّلُثُ ; لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْبَاقِي. وَلَوْ مَلَكَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، لَا مَالَ سِوَاهُمْ، فَأَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ ثُلُثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ: ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُرٌّ، أَوْ أَثَلَاثُهُمْ أَحْرَارٌ، فَهَلْ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ ثُلُثُهُ كَمَا ذَكَرَ؟ أَمْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَيَعْتِقُ وَاحِدٌ بِالْقُرْعَةِ لِتَجْتَمِعَ الْحُرِّيَّةُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ هَؤُلَاءِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ ثُلُثَكُمْ، أَوْ ثُلُثُكُمْ حُرٌّ، أُقْرِعَ قَطْعًا. وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَثْلَاثُ هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ، عَتَقَ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ ثُلُثُهُ، وَلَا قُرْعَةَ،

فصل

لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَسْرِي، لَكِنْ لَوْ زَادَ مَا أَعْتَقَ عَلَى الثُّلُثِ، أُقْرِعَ لَرَدِّ الزِّيَادَةِ، لَا لِلسِّرَايَةِ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يُقْرَعُ، كَمَا لَوْ نَجَّزَ فِي الْمَرَضِ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، عَتَقَ، وَرُقَّ الْآخَرَانِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَوْ قَالَ لِلثَّلَاثَةِ: النِّصْفُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ مِنْكُمْ حُرٌّ، فَقَدْ أَعْتَقَ نِصْفَ مَالَهُ. فَإِنْ لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ، أُقْرِعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ بِسَهْمِ رِقٍّ وَسَهْمَيْ حُرِّيَّةٍ، فَمَنْ أَصَابَهُ سَهْمُ الرِّقِّ، رُقَّ، وَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِينَ نِصْفُهُ، وَلَا يَسْرِي. وَلَوْ أَعْتَقَ الْأَنْصَافَ فِي مَرَضِهِ، فَمَنْ عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، سَرَى إِلَى بَاقِيهِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الثُّلُثُ، فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ بِسَهْمَيْ رِقٍّ، وَسَهْمِ عِتْقٍ. فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْعِتْقِ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ. وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا عَبْدَيْنِ قِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ، فَقَالَ: نِصْفُ غَانِمٍ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَثُلُثُ سَالِمٍ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، فَقَدْ أَعْتَقَ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَرْبَعَةُ أَسْدَاسٍ، فَيُقْرَعُ لِرَدِّ الزِّيَادَةِ، فَإِنْ خَرَجَ الْعِتْقُ لِغَانِمٍ، عَتَقَ نِصْفُهُ، وَعَتَقَ سُدُسُ سَالِمٍ لِيَتِمَّ الثُّلُثُ. فَإِنْ خَرَجَ الْعِتْقُ لِسَالِمٍ، عَتَقَ ثُلُثُهُ وَثُلُثُ غَانِمٍ. وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَرَضِهِ، أُقْرِعَ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْعِتْقِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُ، وَرُقَّ بَاقِيهِ مَعَ جَمِيعِ الْآخَرِ. هَذَا كُلُّهُ، إِذَا أَعْتَقَ الْأَبْعَاضَ فِي الْمَرَضِ مَعًا، بِأَنْ قَالَ: أَثْلَاثُ هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ، أَوْ نِصْفُ كُلِّ عَبْدٍ حُرٌّ. فَأَمَّا إِذَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ، فَيُقَدَّمُ الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ، حَتَّى لَوْ قَالَ: نِصْفُ غَانِمٍ حُرٌّ، وَثُلُثُ سَالِمٍ حُرٌّ، عَتَقَ ثُلُثَا غَانِمٍ، وَلَا قُرْعَةَ. فَصْلٌ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَفِي الْحَمْلِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَعْتِقُ، لِمَا سَبَقَ أَنْ إِعْتَاقَ الْمَيِّتِ لَا يَسْرِي. وَأَصَحُّهُمَا: يَعْتِقُ ; لِأَنَّهُ كَعُضْوِهَا. وَلَوْ قَالَ:

فصل

هِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي إِلَّا جَنِينَهَا، أَوْ دُونَ جَنِينِهَا، لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ نَجَّزَ عِتْقَهَا فِي الْحَيَاةِ، عَتَقَ الْحَمْلُ، وَلَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ كَانَتْ لِشَخْصِ، وَحَمْلُهَا لِآخَرَ، فَأَعْتَقَهَا مَالِكُهَا، لَمْ يَعْتِقِ الْحَمْلُ قَطْعًا ; لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمِلْكِ يَمْنَعُ الِاسْتِتْبَاعَ. فَصْلٌ أَوْصَى بِثُلُثِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ دَارٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَاهُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا آخَرَ، فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الثُّلُثِ الْبَاقِي. وَإِنْ مَلَكَ غَيْرَهُ، وَاحْتَمَلَ ثُلُثُ مَالِهِ الثُّلُثَ الْبَاقِي، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ الْبَاقِي. وَالثَّانِي: ثُلُثَ الثُّلُثِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: ثُلُثَ الثُّلُثِ قَطْعًا. ثُمَّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ هَذَا فِيمَا إِذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِثُلُثِ هَذَا الْعَبْدِ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَعْطُوهُ ثُلُثَهُ، فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ الثُّلُثُ الْبَاقِي قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِشَاةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، أَوْ بِأَحَدِ أَثْلَاثِ هَذَا الْعَبْدِ، أَوْ بِثُلُثِ هَذِهِ الدَّارِ، فَاسْتَحَقَّ الثُّلُثَانِ، أَوِ اشْتَرَى مِنْ زِيدٍ ثُلُثَهَا، وَمِنْ عَمْرٍو ثُلُثَيْهَا، وَأَوْصَى بِمَا اشْتَرَاهُ مَنْ زِيدٍ، فَاسْتَحَقَّ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ عَمْرٍو، نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثُ الْبَاقِي فِي هَذِهِ الصُّوَرِ قَطْعًا. وَلَوْ أَوْصَى بِأَثْلَاثِ الْأَعْبُدِ الثَّلَاثَةِ، فَاسْتَحَقَّ اثْنَانِ مِنْهُمْ، نَفَذَتْ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ صُبْرَةٍ، فَتَلَفَ ثُلُثَاهَا، فَلَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي قَطْعًا. فَصْلٌ مَا أَوْصَى بِهِ لِلْمَسَاكِينِ، هَلْ يَجُوزُ نَقْلُهُ إِلَى مَسَاكِينِ غَيْرِ بَلَدِ الْمَالِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ.

أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ قَطْعًا. فَإِنْ مَنَعْنَا فَلَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مِسْكِينٌ، فَهَلْ يُنْقَلُ كَالزَّكَاةِ، أَمْ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا النَّقْلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ عَيَّنَ فُقَرَاءَ بَلَدٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقِيرٌ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ وَلَا وَلَدَ لَهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْبَابِ: فِي الْمَسَائِلِ الْحِسَابِيَّةِ. هَذَا فَنٌّ طَوِيلٌ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوهُ عِلْمًا بِرَأْسِهِ، وَأَفْرَدُوهُ بِالتَّدْرِيسِ وَالتَّصْنِيفِ. وَفِيهِ أَطْرَافٌ. الْأَوَّلُ: فِيمَا إِذَا أَوْصَى بِجُزْءٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: إِذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ، وَلَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ لَا يَرِثُهُ غَيْرُهُ، فَالْوَصِيَّةُ بِالنِّصْفِ، فَإِنْ لَمْ يَجُزْ، رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ، أَوْ بَنُونَ فَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهِمَا، أَوْ نَصِيبِهِمْ، فَهُوَ كَابْنٍ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثًا لِرِقٍّ وَغَيْرِهِ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِنَصِيبِ ابْنِي، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْبَغَوِيِّ: بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَبِهِ قَطَعَ وَأَبُو مَنْصُورٍ: صِحَّتُهَا. وَالْمَعْنَى: بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِي. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ عَبْدِي بِمَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ فَرَسَهُ وَهُمَا يَعْلَمَانِ قَدْرَهُ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَهُوَ وَصِيَّةٌ بِالنِّصْفِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: بِالْكُلِّ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ، فَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، أَوْ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِ، فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ. وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً، فَبِالرُّبُعِ، أَوْ أَرْبَعَةً، فَبِالْخُمُسِ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَيُجْعَلُ الْمُوصَى لَهُ كَابْنٍ آخَرَ مَعَهُمْ. وَضَابِطُهُ: أَنْ تُصَحَّحَ فَرِيضَةُ الْمِيرَاثِ، وَيُزَادَ عَلَيْهَا

مِثْلُ نَصِيبِ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهَا، فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ ; لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنِ اثْنَيْنِ لَوْ لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةٌ، فَتَزِيدُ عَلَى الِاثْنَيْنِ سَهْمًا، وَتُعْطِيهِ سَهْمًا مِنْ ثَلَاثَةِ [أَسْهُمٍ] . وَلَوْ كَانَ بِنْتَانِ، فَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، فَالْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ ; لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ ثَلَاثَةٍ لَوْلَا الْوَصِيَّةُ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ، فَتَزِيدُ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمًا، فَتَبْلُغُ أَرْبَعَةً. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِيهِمَا [مَعًا] ، فَالْوَصِيَّةُ بِخُمُسَيِ الْمَالِ، لِأَنَّهَا مِنْ ثُلُثِهِ، وَنَصِيبُهُمَا مِنْهَا اثْنَانِ، فَتَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ سَهْمَيْنِ. وَلَوْ أَوْصَى - وَلَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ وَأَخٌ - بِمِثْلِ نَصِيبِ وَاحِدَةٍ، فَالْوَصِيَّةُ بِسَهْمَيْنِ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ. لِأَنَّهَا مِنْ تِسْعَةٍ لَوْلَا الْوَصِيَّةُ. وَنَصِيبُ كُلِّ بِنْتٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ، فَتَزِيدُهُمَا عَلَى التِّسْعَةِ. وَكَذَا لَوْ أَوْصَى - وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَثَلَاثُ بَنَاتٍ - بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ، فَالْوَصِيَّةُ بِسَهْمَيْنِ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ. وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَبِنْتٌ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهَا، فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّمُنِ. وَلَوْ كَانَ ابْنٌ، وَثَلَاثُ بَنَاتٍ، وَأَبَوَانِ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ، فَالْوَصِيَّةُ بِثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ. فَرْعٌ: أَوْصَى وَلَهُ ابْنٌ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ ثَانٍ لَوْ كَانَ، أَوْ أَوْصَى وَلَهُ ابْنَانِ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ ثَالِثٍ لَوْ كَانَ، فَالْوَصِيَّةُ فِي الْأُولَى بِالثُّلُثِ. وَفِي الثَّانِيَةِ بِالرُّبُعِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: فِي الْأُولَى بِالنِّصْفِ. وَفِي الثَّانِيَةِ بِالثُّلُثِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ ثَانٍ، أَوْ ثَالِثٍ لَوْ كَانَ؟ وَبَيْنَ أَنْ يَحْذِفَ لَفْظَةَ «مِثْلِ» فَيَقُولُ: بِنَصِيبِ ابْنٍ ثَانٍ؟ الْقِيَاسُ أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا أَضَافَ

إِلَى الْوَارِثِ الْمَوْجُودِ. وَحَكَى الْأُسْتَاذُ وَأَبُو مَنْصُورٍ عَنِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُمْ فَرَّقُوا فَقَالُوا: إِذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهِ، دُفِعَ إِلَيْهِ نَصِيبُهُ لَوْ كَانَ زَائِدًا عَلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ، وَإِذَا أَوْصَى بِنَصِيبِهِ، دُفِعَ إِلَيْهِ لَوْ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْفَرِيضَةِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَوْصَى وَلَهُ ابْنَانِ بِنَصِيبٍ ثَالِثٍ لَوْ كَانَ، فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ. وَلَوْ قَالَ: بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ ثَالِثٍ لَوْ كَانَ، فَبِالرُّبُعِ كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ أَوْصَى وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، بِمِثْلِ نَصِيبِ بِنْتٍ لَوْ كَانَتْ، فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّمُنِ، وَعَلَى قَوْل الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ: بِالسُّبُعِ. فَرْعٌ لِابْنِ سُرَيْجٍ: لَهُ ابْنَانِ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِ رَابِعٍ لَوْ كَانَ، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ نَصِيبِ خَامِسٍ لَوْ كَانَ، فَلِلْحِسَابِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْنِ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةٌ، وَمِنْ أَرْبَعَةٍ لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً، وَمِنْ خَمْسَةٍ لَوْ كَانُوا خَمْسَةً، فَهُنَا اثْنَانِ، وَأَرْبَعَةٌ، وَخَمْسَةٌ، [وَالِاثْنَانِ وَالْأَرْبَعَةُ مُتَدَاخِلَانِ] ، فَتَسْقُطُ الِاثْنَيْنِ لِدُخُولِهِمَا فِي الْأَرْبَعَةِ، وَتُضْرَبُ أَرْبَعَةٌ فِي خَمْسَةٍ، تَبْلُغُ عِشْرِينَ، وَهَذَا الْعَدَدُ يَنْقَسِمُ عَلَى الِاثْنَيْنِ بِلَا وَصِيَّةٍ، وَعَلَى الْأَرْبَعَةِ [لَوْ كَانُوا] ، وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةٌ، وَعَلَى الْخَمْسَةِ [لَوْ كَانُوا] ، وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةٌ، فَتَزِيدُ الْأَرْبَعَةُ وَالْخَمْسَةُ عَلَى الْعِشْرِينَ، تَبْلُغُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، لِزَيْدٍ مِنْهَا خَمْسَةٌ، وَلِعَمْرٍو أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي لِلِاثْنَيْنِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا وَصِيَّةُ زَيْدٍ، لَكَانَ لَهُ سَهْمٌ مِنْ خَمْسَةٍ، فَيُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى خَمْسَةٍ، لِوَصِيَّتِهِ لِعَمْرٍو بِمِثْلِ نَصِيبِ [ابْنٍ] خَامِسٍ، فَيَخْرُجُ مِنَ الْقِسْمَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ لَوْ كَانُوا خَمْسَةً، فَتَزِيدُ عَلَى الْخَمْسَةِ

لِعَمْرٍو أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، تَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ، لِزَيْدٍ مِنْهَا وَاحِدٌ، وَلِعَمْرٍو أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَالْبَاقِي لِلِاثْنَيْنِ، فَإِذَا بَسَطْنَاهَا أَخْمَاسًا، كَانَتْ [تِسْعَةً] وَعِشْرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ، أُعْطِيَ مِثْلَ أَقَلِّهِمْ نَصِيبًا. وَطَرِيقُهُ: أَنْ تُصَحَّحَ الْمَسْأَلَةُ بِلَا وَصِيَّةٍ، وَتَزِيدُ عَلَيْهَا مِثْلُ سَهْمِ أَقَلِّهِمْ، ثُمَّ تُقَسَّمُ، فَإِذَا كَانَ ابْنٌ وَبِنْتٌ، فَالْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ، أَوْ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتَانِ، فَبِالتُّسُعِ ; لِأَنَّ نَصِيبَ الْأُمِّ وَاحِدٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، فَتَضُمُّهُ إِلَيْهَا تَصِيرُ تِسْعَةً، أَوْ بِنْتَانِ وَثَلَاثُ زَوْجَاتٍ وَأَخٌ، فَبِسَهْمٍ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ وَأَخٌ، فَبِالسُّبُعِ. وَإِنْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَكْثَرِهِمْ نَصِيبًا، فَطَرِيقُهُ: أَنْ تُصَحِّحَهَا بِلَا وَصِيَّةٍ، وَتَضُمَّ إِلَيْهَا مِثْلَ نَصِيبِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ ابْنٌ وَبِنْتٌ، فَلَهُ خُمُسَانِ. فَرْعٌ: لَهُ ابْنَانِ، أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ نَصِيبِ الْآخَرِ، فَأَجَازَا لَهُمَا، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَاعًا، وَإِنْ رَدَّا الْوَصِيَّتَيْنِ، ارْتَدَتَا إِلَى الثُّلُثِ وَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَإِنْ أَجَازَا إِحْدَاهُمَا وَرَدَّا الْأُخْرَى، فَالصَّحِيحُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْخُذُ سُدُسَ الْمَالِ، وَلِلْمُجَازِ لَهُ مَعَ ذَلِكَ نِصْفُ سُدُسٍ. وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلْمُجَازِ لَهُ سِتَّةٌ، وَلِلْمَرْدُودِ أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي لِلِابْنَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يُضَمُّ سَهْمُ الْمُجَازِ لَهُ إِلَى سَهْمِ الِابْنَيْنِ وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلْمَرْدُودِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْبَاقِينَ خَمْسَةٌ خَمْسَةٌ. وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا لِأَحَدِهِمَا، وَرَدَّهُمَا الْآخَرُ، فَعَلَى الصَّحِيحِ: الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلْمَرْدُودِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْمُجَازِ خَمْسَةٌ، وَلِلْمُجِيزِ سَبْعَةٌ، وَلِلرَّادِّ ثَمَانِيَةٌ. وَعَلَى الْمَحْكِيِّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: تَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلِلْمَرْدُودِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمُجَازِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْمُجِيزِ خَمْسَةٌ، وَلِلرَّادِّ سِتَّةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضِّعْفُ، وَهُوَ الشَّيْءُ وَمِثْلُهُ، فَإِذَا أَوْصَى بِضِعْفِ نَصِيبِ ابْنِهِ، وَلَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ، فَهِيَ وَصِيَّةٌ بِالثُّلُثَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: بِضِعْفِ نَصِيبِ أَحَدِ أَوْلَادِي أَوْ وَرَثَتِي، أُعْطِيَ مِثْلَيْ نَصِيبِ أَقَلِّهِمْ [نَصِيبًا] ، فَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، فَلَهُ خُمُسَانِ. وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِائَةٍ، وَلِعَمْرٍو بِضِعْفِهَا، فَالثَّانِيَةُ مِائَتَيْنِ. وَضِعْفَا الشَّيْءِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهِ، فَإِذَا قَالَ: ضِعْفَيْ نَصِيبِ ابْنِي، وَلَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ، فَالْوَصِيَّةُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْمَالِ. وَلَوْ قَالَ: ضِعْفَيْ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيَّ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سِتَّةٍ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ. وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِائَةٍ، وَلِعَمْرٍو بِضِعْفَيْهِمَا فَلِعَمْرٍو ثَلَثُمِائَةٍ. وَثَلَاثَةُ أَضْعَافِ الشَّيْءِ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ، وَأَرْبَعَةُ أَضْعَافِهِ خَمْسَةُ أَمْثَالِهِ. (الْمَسْأَلَةُ) الرَّابِعَةُ: أَوْصَى بِنَصِيبٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ جُزْءٍ، أَوْ حَظٍّ، أَوْ قِسْطٍ، أَوْ شَيْءٍ، أَوْ قَلِيلٍ، أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ سَهْمٍ، يُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُمْ بِأَقَلِّ مَا يُتَمَوَّلُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. فَإِنِ ادَّعَى الْمُوصَى لَهُ أَنَّ الْمُوصِيَ أَرَادَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ وَأَبُو مَنْصُورٍ وَالْحَنَّاطِيُّ وَالْمَسْعُودِيُّ: يَحْلِفُ الْوَارِثُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ إِرَادَةَ الزِّيَادَةِ. وَحَكَى الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْإِرَادَةِ، بَلْ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ اسْتِحْقَاقَ الزِّيَادَةِ. وَسُلِّمَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِمُبْهَمٍ وَمَاتَ وَجَرَى مِثْلُ هَذَا النِّزَاعِ بَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْوَارِثِ، حَلَفَ الْوَارِثُ عَلَى نَفْيِ إِرَادَةِ الْمُوَرِّثِ، وَفُرِّقَ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ، وَالْوَصِيَّةُ إِنْشَاءُ أَمْرٍ عَلَى الْجَهَالَةِ. وَرَدَّ الْمُتَوَلِّي افْتِرَاقَ الْبَابَيْنِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ فَقَالَ: الْوَارِثُ هُنَا يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْمُوصِي أَرَادَ الزِّيَادَةَ، وَلَا يَحْلِفُ أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الْقَدْرَ، وَفِي الْإِقْرَارِ، يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الزِّيَادَةَ، وَأَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الْقَدْرَ. فَرْعٌ: أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ إِلَّا شَيْئًا، قُبِلَ التَّفْسِيرُ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُتَمَوَّلُ وَحَمَلُهُ الشَّيْءَ

الْمُسْتَثْنَى عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ وَأَبُو مَنْصُورٍ: يُعْطَى زِيَادَةً عَلَى السُّدُسِ. قَالَ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ ثُلُثَ مَالِي إِلَّا قَلِيلًا. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ الثُّلُثَ إِلَّا كَثِيرًا، جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ أَقَلَّ مِنَ السُّدُسِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ قَالَ: أَعْطُوهُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَشَرَةٍ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْإِقْرَارِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ وَأَبُو مَنْصُورٍ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: إِنْ أَرَادَ الْحِسَابَ، فَلِلْمُوصَى لَهُ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ، وَهُوَ الْحَاصِلُ مِنْ جَمْعِ وَاحِدٍ إِلَى عَشَرَةٍ عَلَى تَوَالِي الْعَدَدِ. وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْحِسَابَ، فَلَهُ الْمُتَيَقَّنُ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، وَلَا شَكَّ فِي اطِّرَادِ هَذَا فِي الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ وَاحِدًا فِي عَشَرَةٍ، أَوْ سِتَّةً فِي خَمْسَةٍ، أَطْلَقَ الْأُسْتَاذُ ثُبُوتَ مَا يَقْتَضِيهِ الضَّرْبُ، وَذَكَرْنَا فِيهِ تَفْصِيلًا فِي الْإِقْرَارِ. فَرْعٌ قَالَ: أَعْطُوهُ أَكْثَرَ مَالِي، فَالْوَصِيَّةُ بِمَا فَوْقَ النِّصْفِ. وَلَوْ قَالَ: أَكْثَرَ مَالِي وَمِثْلَهُ، فَالْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ مَالِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ زُهَاءَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ مُعْظَمَ الْأَلْفِ أَوْ عَامَّتَهُ، فَالْوَصِيَّةُ بِمَا فَوْقَ النِّصْفِ. قُلْتُ: هَذَا فِي «زُهَاءٍ» مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ زُهَاءَ أَلْفٍ، مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: قَدْرُ أَلْفٍ، وَلَا يَصْدُقُ ذَلِكَ عَلَى خَمْسمِائَةٍ وَدِرْهَمٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَأَقَلُّ مَا يُعْطَى ثَلَاثَةٌ. وَلَفْظُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ

عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ الْغَالِبِ، وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ التَّفْسِيرُ بِغَيْرِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبٌ، رُجِعَ إِلَى الْوَارِثِ. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ كَذَا، أَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، أَوْ قَالَ: كَذَا دِرْهَمًا، أَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ: مِائَةً وَدِرْهَمًا، أَوْ أَلْفًا وَدِرْهَمًا، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ الْمِائَةُ وَالْأَلْفُ دَرَاهِمَ. وَلَوْ قَالَ: مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَوْ مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَعَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْإِقْرَارِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا مِنْ دَنَانِيرِي، يُعْطَى دِينَارًا. وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا مِنْ دَنَانِيرِي، يُعْطَى دِينَارَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا مِنْ دَنَانِيرِي، يُعْطَى حَبَّةً، وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا مِنْ دَنَانِيرِي فَحَبَّتَانِ. وَلَك أَنْ تَقُولَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى حَبَّةً أَيْضًا إِذَا قَالَ: كَذَا وَكَذَا مِنْ دَنَانِيرِي. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي طَرِيقِ تَصْحِيحِ مَسَائِلِ الْوَصِيَّةِ بِالْأَجْزَاءِ. فَإِذَا أَوْصَى مَنْ لَهُ وَرَثَةٌ بِجُزْءٍ شَائِعٍ، وَأَرَدْنَا قِسْمَةَ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، وَإِمَّا بِأَكْثَرَ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ، فَتُصَحَّحُ مَسْأَلَةُ الْمِيرَاثِ عَائِلَةً أَوْ غَيْرَ عَائِلَةٍ، وَيُنْظَرُ فِي مَخْرَجِ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ. ثُمَّ إِنِ انْقَسَمَ الْبَاقِي عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، صَحَّتِ الْمَسْأَلَتَانِ، وَذَلِكَ كَمَنْ أَوْصَى بِرُبُعِ مَالِهِ، وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ فَمَخْرَجُ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي بَعْدَ إِخْرَاجِ الرُّبُعِ يَنْقَسِمُ عَلَى الْبَنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَسِمْ، فَلَكَ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَنْظُرَ فِي الْبَاقِي وَفِي مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ تَبَايَنَا، ضُرِبَتْ مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ تَوَافَقَا، ضُرِبَتْ وَفْقَ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، فَمَا بَلَغَ صَحَّتْ مِنْهُ الْقِسْمَةُ. ثُمَّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، أَخَذَهُ مَضْرُوبًا فِيمَا ضَرَبْتَهُ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، أَخَذَهُ مَضْرُوبًا

فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ إِنْ كَانَ الْبَاقِي مَعَ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ مُتَبَايِنَيْنِ. وَإِنْ كَانَا مُتَوَافِقَيْنِ، فَفِي وَفْقِ الْبَاقِي. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ تُنْسَبَ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ إِلَى الْبَاقِي مِنْ مَخْرَجِهَا بَعْدَ الْجُزْءِ، وَتَزِيدَ مِثْلُ تِلْكَ النِّسْبَةِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ الْقِسْمَةُ. فَإِنْ كَانَ فِيهِ كَسْرٌ، ضَرَبْتَهُ فِي مَخْرَجِ الْكَسْرِ، فَمَا بَلَغَ، صَحَّتْ مِنْهُ الْقِسْمَةُ. مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَمَخْرَجُ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي بَعْدَ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ لَا يَنْقَسِمَانِ عَلَى ثَلَاثَةٍ. فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: تُضْرَبُ ثَلَاثَةٌ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، تَبْلُغُ تِسْعَةً مِنْهَا الْقِسْمَةُ، كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ يَأْخُذُهُ مَضْرُوبًا فِي الثَّلَاثَةِ الْمَضْرُوبَةِ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ مَضْرُوبٌ فِي الْبَاقِي مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ اثْنَانِ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي تَقُولُ: جُزْءُ الْوَصِيَّةِ نِصْفُ الْبَاقِي مِنْ مَخْرَجِهَا، فَتَزِيدُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، نِصْفُهَا تَكُونُ أَرْبَعَةً وَنِصْفًا، تَبْسُطُهَا أَنْصَافًا تَبْلُغُ تِسْعَةً. أَبَوَانِ وَخَمْسُ بَنَاتٍ، وَأَوْصَى بِخُمُسِ مَالِهِ، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثِينَ، وَمَخْرَجُ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ خَمْسَةٌ، وَالْبَاقِي بَعْدَ إِخْرَاجِ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ أَرْبَعَةٌ لَا تَصِحُّ عَلَى الثَّلَاثِينَ. فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، هُمَا مُتَوَافِقَانِ بِالنِّصْفِ، فَتُضْرَبُ نِصْفُ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، تَبْلُغُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ يَأْخُذُهُ مَضْرُوبًا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ خَمْسَةٌ فِي نِصْفِ الْأَرْبَعَةِ تَكُونُ عَشَرَةً، وَلِكُلِّ بِنْتٍ أَرْبَعَةٌ فِي اثْنَيْنِ ثَمَانِيَةٌ. وَعَلَى الثَّانِي تَقُولُ: الْجُزْءُ الْمُخْرَجُ مِثْلُ رُبُعِ الْبَاقِي، فَتَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِينَ رُبُعَهَا وَتَبْسُطُهَا أَنْصَافًا، تَبْلُغُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ. ابْنَانِ وَبِنْتَانِ، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ سِتَّةٍ، وَالْوَصِيَّةُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَالْبَاقِي بَعْدَ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى سِتَّةٍ.

فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: يَتَوَافَقَانِ بِالنِّصْفِ، فَتَضْرِبُ نِصْفَ السِّتَّةِ فِي مُخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، تَبْلُغُ تِسْعَةً، لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ فِي ثَلَاثَةٍ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ فِي وَاحِدٍ. وَعَلَى الثَّانِي تَقُولُ: جُزْءُ الْوَصِيَّةِ نِصْفُ الْبَاقِي مِنْ مَخْرَجِهَا، فَتَزِيدُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ نِصْفُهَا تَكُونُ تِسْعَةً. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءَيْنِ فَصَاعِدًا، فَيُؤْخَذُ مَخْرَجُ الْجُزْءَيْنِ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ فِي أُصُولِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، ثُمَّ الْعَمَلُ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ. مِثَالُهُ: أَبَوَانِ، وَأَوْصَى بِثُمُنِ مَالِهِ لِزَيْدٍ، وَبِخُمُسِهِ لِعَمْرٍو، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَمَخْرَجُ الْجُزْءَيْنِ أَرْبَعُونَ. لِزَيْدٍ خَمْسَةٌ، وَلِعَمْرٍو ثَمَانِيَةٌ، وَيَبْقَى سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ تَصِحُّ عَلَى ثَلَاثَةِ بَنِينَ. وَأَوْصَى بِرُبُعِ مَالِهِ لِزَيْدٍ، وَبِنِصْفِ سُدُسِهِ لِعَمْرٍو، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةٌ، وَمَخْرَجُ الْوَصِيَّتَيْنِ اثْنَا عَشَرَ، وَمَجْمُوعُ الْجُزْءَيْنِ أَرْبَعَةٌ، إِذَا أَخْرَجْنَاهَا، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ لَا تَصِحُّ عَلَى ثَلَاثَةٍ. فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: لَا مُوَافَقَةَ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ، فَتَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ مِنْهَا تَصِحُّ. وَعَلَى الثَّانِي: الْخَارِجُ بِالْوَصِيَّتَيْنِ، نِصْفُ الْبَاقِي مِنْ مَخْرَجِهِمَا، فَتَزِيدَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ نِصْفَهَا، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَنِصْفًا، تَبْسُطُهَا أَنْصَافًا تَكُونُ تِسْعَةً، لَكِنَّ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُمَا مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّتَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَحِصَّتُهُمَا مِنَ التِّسْعَةِ ثَلَاثَةٌ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي تِسْعَةٍ، تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ. وَلَوْ كَانَتِ الْبَنُونَ سِتَّةً، وَالْوَصِيَّتَانِ بِحَالِهِمَا. فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، تَبْقَى ثَمَانِيَةٌ لَا تَصِحُّ عَلَى سِتَّةٍ، لَكِنْ تُوَافَقُ بِالنِّصْفِ، فَتُضْرَبُ نِصْفُ السِّتَّةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ، تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: كَمَا سَبَقَ. الْقِسْمُ الثَّانِي: إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ، فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِشَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ، إِمَّا بِجُزْءٍ، كَالنِّصْفِ، وَإِمَّا بِجُزْءَيْنِ كَالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ،

فَمَدَارُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَرَدِّهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْحُكْمِ وَالْحِسَابِ. وَإِنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِجُزْءٍ وَلِآخَرَ بِجُزْءٍ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ، أُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا سُمِّيَ لَهُ، وَقُسِّمَ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ. وَطَرِيقُ الْقِسْمَةِ مَا سَبَقَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ رَدُّوا الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ بِتَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ، وَسَوَاءٌ زَادَ الْجُزْءُ الْوَاحِدُ، كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ، أَوْ لَمْ يَزِدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، كَالرُّبُعِ وَالثُّلُثِ. مِثَالُهُ: أَبَوَانِ وَابْنَانِ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِهِ، وَأَجَازُوهُمَا، فَمَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ سِتَّةٌ، وَكَذَا مَخْرَجُ الْوَصِيَّتَيْنِ، وَالْبَاقِي بَعْدَ جُزْأَيِ الْوَصِيَّتَيْنِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى سِتَّةٍ. فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: تَضْرِبُ السِّتَّةَ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّتَيْنِ، تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ. وَعَلَى الثَّانِي نَقُولُ: جُزْءَا الْوَصِيَّتَيْنِ خَمْسَةُ أَمْثَالِ الْبَاقِي مِنْ مَخْرَجِهِمَا، فَيُزَادُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةُ أَمْثَالِهَا، تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، مِنْهَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ. وَإِنْ رَدُّوا الْوَصِيَّتَيْنِ، قَسَّمْنَا الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ ; لِأَنَّ نَصِيبَهُمَا بِتَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ خَمْسَةٌ مِنْ سِتَّةٍ. وَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْظَرَ إِلَى مَا زَادَ مِنَ الْوَصَايَا عَلَى الثُّلُثِ، وَيُنْقَصُ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُوصَى لَهُمْ، فَنِسْبَةُ مَا زَادَ هُنَا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ ; لِأَنَّ مَجْمُوعَ الْوَصِيَّةِ بِخَمْسَةٍ مِنْ سِتَّةٍ، وَلَا خُمُسَ لِمَخْرَجِ الْوَصِيَّتَيْنِ، فَتَضْرِبُ مَخْرَجَ الْخُمُسِ فِي سِتَّةٍ، تَبْلُغُ ثَلَاثِينَ، مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ، وَعَشَرَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، فَيَنْقُصُ مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ، يَبْقَى لِلْأَوَّلِ سِتَّةٌ، وَلِلثَّانِي أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي عِشْرُونَ لِلْوَرَثَةِ. وَهَذِهِ الْأَنْصِبَاءُ مُتَوَافِقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَتُرَدُّ لِلِاخْتِصَارِ إِلَى أَنْصَافِهَا، وَتُقَسَّمُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّا نَطْلُبُ مَالًا لِثُلُثِهِ خُمُسٌ، فَنَضْرِبُ مَخْرَجَ الثُّلُثِ فِي مَخْرَجَ الْخُمُسِ، تَبْلُغُ خَمْسَةَ عَشَرَ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْآخَرِ اثْنَانِ، يَبْقَى عَشَرَةٌ لِلْوَرَثَةِ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى مَسْأَلَتِهِمْ وَهِيَ سِتَّةٌ، لَكِنْ تُوَافِقُهَا بِالنِّصْفِ، فَنَضْرِبُ نِصْفَ السِّتَّةِ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ، تَبْلُغُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، مِنْهَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ.

فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، إِذَا لَمْ تَسْتَغْرِقَ الْوَصِيَّةُ الْمَالَ. فَإِنِ اسْتَغْرَقَتْ وَأُجِيزَتْ، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا. وَإِنْ رَدُّوا، قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ بِتَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ. وَإِنْ زَادَتِ الْوَصَايَا عَلَى الْمَالِ، بِأَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِهِ، فَإِنْ أَجَازُوا، فَقَدْ عَالَتْ إِلَى أَرْبَعَةٍ، لِزَيْدٍ ثَلَاثَةٌ، وَلِعَمْرٍو سَهْمٌ. وَإِنْ رَدُّوا، قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَتَكُونُ قِسْمَةُ الْوَصِيَّةِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ. وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِهِ، وَلِبَكْرٍ بِرُبُعِهِ، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا إِنْ أَجَازُوا، وَإِلَّا، قُسِّمَ ثُلُثُهُ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ. فَرْعٌ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَلِعَمْرٍو بِدَارٍ قِيمَتُهَا أَلْفٌ، وَلِبَكْرٍ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ ثُلُثُ مَالِهِ ثَمَانِمَائَةٍ، فَقَدْ أَوْصَى بِثُلُثَيْ مَالِهِ. فَإِنْ أَجَازُوا، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَالزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ مِثْلُ جَمِيعِ الْوَصَايَا، فَتُرَدُّ كُلُّ وَصِيَّةٍ إِلَى نِصْفِهَا، وَيُخَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِنِصْفِ مَا عُيِّنَ لَهُ. وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِعَشَرَةٍ، وَلِعَمْرٍو بِعَشَرَةٍ، وَلِبَكْرٍ بِخَمْسَةٍ، وَثُلُثُهُ عِشْرُونَ، وَلَمْ يُجِيزُوا، قُسِّمَتْ الْعِشْرُونَ عَلَى خَمْسَةٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوَّلِينَ ثَمَانِيَةٌ، وَلِبَكْرٍ أَرْبَعَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا وَقَالَ: قَدِّمُوا بَكْرًا عَلَى عَمْرٍو، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لِزَيْدٍ ثَمَانِيَةٌ، وَلِعَمْرٍو سَبْعَةٌ، وَلِبَكْرٍ خَمْسَةٌ. وَلَوْ قَالَ: قَدِّمُوا بَكْرًا عَلَيْهِمَا، أُعْطِيَ خَمْسَةً، وَدَخَلَ النَّقْصُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ، فَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ.

فَرْعٌ: أَوْصَى لِزَيْدٍ بِعَبْدٍ، وَلِعَمْرٍو بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، اعْتُبِرَ مَالُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَإِنْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ ثُلُثِهِ، دَفَعْنَاهُ إِلَى زَيْدٍ، وَأَعْطَيْنَا عَمْرًا بَاقِي الثُّلُثِ إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ، وَإِلَّا، بَطَلَتْ وَصِيَّةُ عَمْرٍو. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، لَمْ يُحْسَبْ مِنَ التَّرِكَةِ، وَيُنْظَرُ فِي بَاقِي أَمْوَالِهِ، فَيُحَطُّ مِنْ ثُلُثِهَا قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَيُدْفَعُ بَاقِيهِ إِلَى عَمْرٍو. فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ، بَطَلَتْ أَيْضًا وَصِيَّتُهُ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، حُسِبَ مِنَ التَّرِكَةِ، وَحُسِبَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ، فَهُوَ لِعَمْرٍو. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الْعَبْدِ، فَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِهِ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِهِ، أَوْ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَمْ يَجْرِ لَفْظٌ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى. فَإِنْ أَجَازُوا، قُسِّمَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا، لِزَيْدٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلِعَمْرٍو رُبُعُهُ. وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا، قُسِّمَ الثُّلُثُ كَذَلِكَ. وَإِنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِالْعَبْدِ. وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَهُ أَلْفَانِ سِوَى الْعَبْدِ، فَإِنْ أَجَازُوا، جُعِلَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَلِعَمْرٍو مَعَ رُبُعِهِ ثُلُثُ الْأَلْفَيْنِ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي هُوَ ثُلُثُ الْمَالِ أَرْبَعَةً، كَانَ الْأَلْفَانِ وَهُمَا ثُلُثَاهُ ثَمَانِيَةً، لَكِنْ [لَيْسَ] لِلثَّمَانِيَةِ ثُلُثٌ، فَتَضْرِبُ مَخْرَجَ الثُّلُثِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ، تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، الْعَبْدُ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ، تِسْعَةٌ مِنْهَا لِزَيْدٍ، وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا مَعَ ثَمَانِيَةٍ مِنَ الْبَاقِي لِعَمْرٍو، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ رَدُّوا الْوَصِيَّةَ، قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى عِشْرِينَ ; لِأَنَّ جُمْلَةَ سِهَامِ الْوَصَايَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ عِشْرُونَ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ وَهُوَ ثُلْثُ الْمَالِ عِشْرِينَ، كَانَ الْجَمِيعُ سِتِّينَ، لِزَيْدٍ تِسْعَةٌ مِنَ الْعَبْدِ، وَلِعَمْرٍو ثَلَاثَةٌ مِنْهُ وَثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ مِنَ الْبَاقِي، كَمَا كَانَ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا مِنَ الْبَاقِي، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا أَجَازَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ جَمِيعَ الْوَصَايَا، أَوْ رَدَّ جَمِيعُهُمْ جَمِيعَهَا إِلَى الثُّلُثِ. فَلَوْ أَجَازُوا بَعْضَهَا، أَوْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ بَعْضَهَا، وَبَعْضُهُمْ كُلَّهَا، أَوْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ بَعْضَهَا، وَبَعْضُهُمْ بَعْضًا آخَرَ، أَوْ أَجَازَ

بَعْضُهُمْ جَمِيعَهَا، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ جَمِيعَهَا، (أَوْ رَدَّ بَعْضُهُمْ جَمِيعَهَا) وَبَعْضُهُمْ بَعْضَهَا، فَالطَّرِيقُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَنْ تُصَحَّحَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ الْمُطْلَقَةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الرَّدِّ الْمُطْلَقِ. فَإِنْ تَمَاثَلَتِ الْمَسْأَلَتَانِ، اكْتَفَيْتَ بِإِحْدَاهِمَا. وَإِنْ تَدَاخَلَتَا، اكْتَفَيْتَ بِالْأَكْثَرِ وَاسْتَغْنَيْتَ عَنِ الضَّرْبِ. وَإِنْ تَبَايَنَتَا، ضَرَبْتَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، وَإِنْ تَوَافَقَتَا، ضَرَبْتَ وَفْقَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى تَقْدِيرَيِ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَيُنْظَرُ فِي الْحَاصِلِ لِكُلِّ مُجِيزٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَيَكُونُ قَدْرُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا لِمَنْ أَجَازَ لَهُ. مِثَالُهُ: ابْنَانِ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِهِ، الْمَسْأَلَةُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الرَّدِّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِالثُّلُثِ، فَتَضْرِبُ ثُلُثَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، تَبْلُغُ سِتِّينَ، لِزَيْدٍ مِنْهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ الْمُطْلَقَةِ ثَلَاثُونَ، وَلِعَمْرٍو عِشْرُونَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ، وَلِزَيْدٍ عَلَى تَقْدِيرِ الرَّدِّ الْمُطْلَقِ اثْنَا عَشَرَ، وَلِعَمْرٍو ثَمَانِيَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ عِشْرُونَ، فَالتَّفَاوُتُ فِي نَصِيبِ كُلِّ ابْنٍ خَمْسَةَ عَشَرَ. فَإِنْ أَجَازَا وَصِيَّةَ زَيْدٍ، فَقَدْ سَامَحَهُ كُلُّ ابْنٍ بِتِسْعَةٍ، فَيَتِمُّ لَهُ ثَلَاثُونَ، وَيَبْقَى لِكُلِّ ابْنٍ [أَحَدَ] عَشَرَ. وَإِنْ أَجَازَا وَصِيَّةَ عَمْرٍو، فَقَدْ سَامَحَهُ كُلُّ ابْنٍ بِسِتَّةٍ، فَيَتِمُّ لَهُ عِشْرُونَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّتَيْنِ وَرَدَّهُمَا الْآخَرُ، فَقَدْ سَامَحَ الْمُجِيزُ زَيْدًا بِتِسْعَةٍ، وَعَمْرًا بِسِتَّةٍ، فَيَكُونُ لِزَيْدٍ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَلِعَمْرٍو أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْمُجِيزِ خَمْسَةٌ، وَلِلرَّادِّ عِشْرُونَ. وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّتَيْنِ، وَأَجَازَ الْآخَرُ وَصِيَّةَ زَيْدٍ، تَمَّ لِزَيْدٍ ثَلَاثُونَ. وَإِنْ أَجَازَ الْآخَرُ وَصِيَّةَ عَمْرٍو، تَمَّ لَهُ عِشْرُونَ. وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَصِيَّةَ زَيْدٍ، وَالْآخَرُ وَصِيَّةَ عَمْرٍو، فَهَذَا سَامَحَ زَيْدًا بِتِسْعَةٍ، وَذَاكَ سَامَحَ عَمْرًا بِسِتَّةٍ، فَيَكُونُ لِزَيْدٍ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَلِمُجِيزِهِ أَحَدَ عَشَرَ، وَلِعَمْرٍو أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِمُجِيزِهِ مِثْلُهَا.

فصل

الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي الدَّوْرِيَّاتِ مِنَ الْوَصَايَا. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ، وَبِجُزْءٍ شَائِعٍ الْجُزْءُ الشَّائِعُ، قَدْ يَكُونُ مُضَافًا إِلَى مَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، وَقَدْ يَكُونُ مُضَافًا إِلَى جَمِيعِ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَى جَمِيعِ الْمَالِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ تَزِدْ جُمْلَةُ الْمَالِ الْمُوصَى بِهِ عَلَى الثُّلُثِ، جُعِلَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ، فَتُصَحَّحُ مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ يُؤْخَذُ مَخْرَجُ الْوَصِيَّةِ وَيُخْرَجُ مِنْهُ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ، وَيُنْظَرُ هَلْ يَنْقَسِمُ الْبَاقِي عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ؟ إِنِ انْقَسَمَ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَطَرِيقُ التَّصْحِيحِ مَا سَبَقَ. وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ وَأَجَازَ الْوَرَثَةُ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ وَالْحِسَابُ. وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا، قُسِّمَ الثُّلُثُ عَلَى نِسْبَةِ الْقِسْمَةِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ. مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِعُشْرِ الْمَالِ، فَمَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ وَزَيْدٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَمَخْرَجُ الْجُزْءِ عَشَرَةٌ، يَبْقَى مِنْهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْجُزْءِ تِسْعَةٌ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَلَا تَوَافُقَ، فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي عَشَرَةٍ، تَبْلُغُ أَرْبَعِينَ، لِعَمْرٍو أَرْبَعَةٌ، وَلِزَيْدٍ وَكُلِّ ابْنٍ تِسْعَةٌ، وَجُمْلَةُ الْوَصِيَّتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ مُضَافًا إِلَى مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، مِثْلَ إِنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِسُدُسِ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، فَالْمَقْصُودُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا، يُعْرَفُ بِطُرُقٍ. مِنْهَا: طَرِيقَةُ الْجَبْرِ، وَلَهَا وُجُوهٌ. أَسْهَلُهَا: أَنْ تَأْخُذَ مَالًا وَتُسْقِطَ مِنْهُ نَصِيبًا لِزَيْدٍ، يَبْقَى مَالٌ سِوَى نَصِيبٍ، تُسْقِطُ سُدُسَهُ لِعَمْرٍو، يَبْقَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَالٍ إِلَّا خَمْسَةَ أَسْدَاسِ نَصِيبٍ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَتَكُونُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَالٍ مُعَادِلَةً لِثَلَاثَةِ أَنْصِبَاءَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ نَصِيبٍ، تَضْرِبُ ثَلَاثَةً وَخَمْسَةَ

أَسْدَاسِ مَالٍ فِي أَقَلِّ عَدَدٍ لَهُ سُدُسٌ وَهُوَ سِتَّةٌ، تَكُونُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ، النَّصِيبُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةٌ، يَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، سُدُسُهَا لِعَمْرٍو، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، لِكُلٍّ خَمْسَةٌ. وَمِنْهَا: أَنْ تَجْعَلَ الْمَالَ كُلَّهُ دِينَارًا وَسِتَّةَ دَرَاهِمَ، فَالْوَصِيَّةُ بِالسُّدُسِ، فَتَجْعَلَ الدِّينَارَ نَصِيبَ زَيْدٍ، وَدِرْهَمًا مِنَ السِّتَّةِ لِعَمْرٍو، يَبْقَى خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِلْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ دِرْهَمَ وَثُلُثَانِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، [وَكُنَّا جَعَلْنَا الْمَالَ دِينَارًا وَسِتَّةَ دَرَاهِمَ، فَهُوَ إِذَنْ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ] ، فَتَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، فَتَبْلُغُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ: طَرِيقَةُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. وَمِنْهَا: أَنْ تَقُولَ: مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَيَكُونُ لِزَيْدٍ سَهْمٌ مِثْلُ أَحَدِهِمْ، فَتَزِيدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ سِهَامِ الْبَنِينَ مِثْلَ خُمُسِهِ ; لِأَنَّهُ أَوْصَى بِسُدُسِهَا، وَسُدُسُ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُ خُمُسِ الْبَاقِي بَعْدَ إِخْرَاجِ السُّدُسِ، فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَالِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسٍ، تَبْسُطُهَا أَخْمَاسًا، تَبْلُغُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ: طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ. وَمِنْهَا: أَنْ تُقَسِّمَ سِهَامَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، وَتُضِيفَ إِلَيْهَا سَهْمًا لِزَيْدٍ، تَكُونُ أَرْبَعَةً، تَضْرِبُهَا فِي مَخْرَجِ السُّدُسِ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، تُسْقِطُ مِنْهَا الْحَاصِلَ مِنْ ضَرْبِ الْجُزْءِ الْمُوصَى بِهِ بَعْدَ النَّصِيبِ فِي النَّصِيبِ وَهُوَ وَاحِدٌ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ الْمَالُ، فَإِذَا أَرَدْتَ النَّصِيبَ، أَخَذْتَ سَهْمًا، فَتَضْرِبُهُ فِي مَخْرَجِ السُّدُسِ، تَكُونُ سِتَّةً، تُسْقِطُ مِنْهَا مَا أَسْقَطْتَهُ مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى خَمْسَةٌ، فَهِيَ النَّصِيبُ، وَهَذِهِ تُسَمَّى: طَرِيقَةُ الْحَشْوِ، وَيُسَمَّى هَذَا الَّذِي يَسْقُطُ: سَهْمَ الْحَشْو. وَيُقَالُ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَمِدُهَا. وَمِنْهَا: أَنْ تَأْخُذَ سِهَامَ الْوَرَثَةِ، وَتَضْرِبَهَا فِي مَخْرَجِ السُّدُسِ، تَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، تَصْرِفُ سُدُسَهَا إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ. وَإِذَا بَانَ [أَنَّ] النَّصِيبَ خَمْسَةٌ، فَزِدْ خَمْسَةً عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، تَكُونُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ.

وَمِنْهَا: أَنْ يُقَالَ: الْمَالُ كُلُّهُ سِتَّةٌ وَنَصِيبٌ، النَّصِيبُ لِزَيْدٍ، وَسَهْمٌ مِنَ السِّتَّةِ لِعَمْرٍو، يَبْقَى خَمْسَةٌ لَا تَصِحُّ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَعَ النَّصِيبِ الْمَجْهُولِ، فَسُدُسُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ لِعَمْرٍو، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ. فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّصِيبَ الْمَجْهُولَ خَمْسَةٌ، وَالْمَالَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ. مَسْأَلَةٌ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِ بَاقِي الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، اسْتِخْرَاجُهَا بِطْرِيقِ الْخَطَائِنِ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَالُ أَرْبَعَةً، لِيُعْلِمَنَا أَنَّ هُنَا نَصِيبًا وَثُلُثًا بَعْدَ النَّصِيبِ، فَتَجْعَلَ النَّصِيبَ وَاحِدًا، وَتَدْفَعَ ثُلُثَ الْبَاقِي إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى اثْنَانِ، وَنَحْنُ نَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثَةٍ لِيَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ مِثْلُ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ، فَقَدْ نَقَصَ عَنِ الْوَاجِبِ وَاحِدٌ، وَهَذَا هُوَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ تَجْعَلَ الْمَالَ خَمْسَةً، وَتَجْعَلَ النَّصِيبَ مِنْهَا اثْنَيْنِ، وَتَدْفَعَ ثُلُثَ الْبَاقِي إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى اثْنَانِ، وَنَحْنُ نَحْتَاجُ إِلَى سِتَّةٍ لِيَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ مِثْلُ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ، فَقَدْ نَقَصَ عَنِ الْوَاجِبِ أَرْبَعَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْخَطَأُ الثَّانِي. وَالْخَطَأَنِ جَمِيعًا نَاقِصَانِ، فَتُسْقِطُ أَقَلَّهُمَا مِنْ أَكْثَرِهِمَا، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، فَتَحْفَظُهَا، ثُمَّ تَضْرِبُ الْمَالَ الْأَوَّلَ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، فَيَكُونَ سِتَّةَ عَشَرَ، وَتَضْرِبَ الْمَالَ الثَّانِي فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ خَمْسَةً، تُسْقِطُ الْأَقَلَّ مِنَ الْأَكْثَرِ، يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ، تُقَسِّمُهَا عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمَحْفُوظَةِ، يَخْرُجُ بِالْقِسْمَةِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ، تَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، تَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ، فَهُوَ الْمَالُ. ثُمَّ تَضْرِبُ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، يَكُونُ أَرْبَعَةً، وَتَضْرِبُ النَّصِيبَ الثَّانِيَ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ اثْنَيْنِ، تُسْقِطُ الْأَقَلَّ مِنَ الْأَكْثَرِ، يَبْقَى اثْنَانِ، تُقَسِّمُهَا عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمَحْفُوظَةِ، يَخْرُجُ بِالْقِسْمَةِ ثُلُثَانِ، إِذَا بُسِطَا كَانَا اثْنَيْنِ، فَهُمَا النَّصِيبُ، فَتَدْفَعُ اثْنَيْنِ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ إِلَى زَيْدٍ، وَثُلُثُ الْبَاقِي ثَلَاثَةٌ إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى سِتَّةٌ، لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَهَذَا إِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ زَائِدَتَانِ عَلَى الثُّلُثِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الطَّرِيقَةُ: الْجَامِعَ الْكَبِيرَ مِنْ طُرُقٍ الْخَطَائِنِ. وَبِطَرِيقَةِ الْبَابِ نَقُولُ: سِهَامُ الْبَنِينَ ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ

فصل

أَوْصَى بِثُلُثِهَا، فَيَبْقَى لِكُلِّ ابْنٍ ثُلُثَا سَهْمٍ، فَبَانَ أَنَّ النَّصِيبَ الْمُوصَى بِهِ لِزَيْدٍ ثُلُثَا سَهْمٍ، ثُمَّ تَضُمُّ الثُّلُثَ الْمُخْرَجَ إِلَى أَنْصِبَائِهِمْ، تَبْلُغُ جُمْلَةُ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ، تَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، تَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ. وَبِطَرِيقَةِ الْمَقَادِيرِ تُعْطِي الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ نَصِيبًا مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى مِنْهُ مِقْدَارٌ، تَدْفَعُ ثُلُثَهُ إِلَى عَمْرٍو، وَيَبْقَى ثُلُثَا مِقْدَارٍ، تُقَسِّمُهَا بَيْنَ الْبَنِينَ، يَحْصُلُ لِكُلِّ ابْنٍ تُسْعَا مِقْدَارٍ، فَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ تُسْعَا مِقْدَارٍ، فَالْمَالُ كُلُّهُ مِقْدَارٌ وَتُسْعَا مِقْدَارٍ، تَبْسُطُهَا أَتْسَاعًا، يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ، وَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ بِهَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثِ خُرُوجَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِتِلْكَ الطُّرُقِ السِّتِّ. فَصْلٌ وَقَدْ تَكُونُ الْوَصِيَّة بِجُزْءٍ مِنْ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ يَبْقَى بَعْدَ النَّصِيبِ أَوْ بَعْضَهُ. مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ مَا تَبَقَّى مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، تُقَدِّرُ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لَهُ ثُلُثٌ، لِقَوْلِهِ: بِثُلُثِ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ. وَلْيَكُنْ ثَلَاثَةً، تَزِيدُ عَلَيْهِ وَاحِدًا لِلنَّصِيبِ، فَيَكُونُ أَرْبَعَةً. وَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ أَرْبَعَةً، فَالثُّلْثَانِ ثَمَانِيَةٌ، وَالْجُمْلَةُ اثْنَا عَشَرَ، تُعْطِي زَيْدًا سَهْمًا، وَعَمْرًا سَهْمًا، وَهُوَ ثُلُثُ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ الْبَاقِي، يَبْقَى سَهْمَانِ، تَضُمُّهُمَا إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، تَكُونُ عَشَرَةً، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةً، لِيَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ مِثْلُ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ، فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا يَنْبَغِي سَبْعَةً، وَهُوَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ تُقَدِّرُ الثُّلُثَ خَمْسَةً، وَتَجْعَلُ النَّصِيبَ اثْنَيْنِ، وَتُعْطِي عَمْرًا وَاحِدًا، يَبْقَى سَهْمَانِ، تَزِيدُهُمَا عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ وَهُوَ عَشَرَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، تَبْلُغُ اثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سِتَّةً، لِيَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، فَزَادَ عَلَى مَا يَنْبَغِي سِتَّةٌ، وَهُوَ الْخَطَأُ الثَّانِي. ثُمَّ نَقُولُ: لَمَّا أَخَذْنَا أَرْبَعَةً، زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ سَبْعَةٌ، وَلَمَّا زِدْنَا سَهْمًا نَقَصَ عَنِ الْخَطَأِ سَهْمٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ يَزِيدُ

فصل

يَنْقُصُ بِهِ مِنَ الْخَطَأِ سَهْمٌ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْخَطَأِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، فَنَزِيدُ لَهَا سِتَّةَ أَسْهُمٍ، يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ، فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، النَّصِيبُ مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ، وَجَمِيعُ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَنُسَمِّي هَذِهِ الطَّرِيقَةَ: الْجَامِعَ الصَّغِيرَ مِنْ طُرُقٍ الْخَطَائِنِ. مَسْأَلَةٌ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَا تَبَقَّى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ نِصْفِ النَّصِيبِ، خُذْ ثُلُثَ مَالٍ، وَأَسْقِطْ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى ثُلُثُ مَالٍ سِوَى نَصِيبٍ، أَسْقِطْ مِنْهُ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ نِصْفِ النَّصِيبِ، وَهُوَ تُسْعُ مَالٍ إِلَّا سُدُسَ نَصِيبٍ، يَبْقَى تُسْعَا مَالٍ إِلَّا خَمْسَةَ أَسْدَاسِ نَصِيبٍ، زِدْهُ عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، يَكُونُ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ، [إِلَّا خَمْسَةَ أَسْدَاسِ نَصِيبٍ، تَعْدِلُ] ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، [فَاجْبُرْ وَقَابِلْ، تَعْدِلُ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ، ثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءُ] وَخَمْسَةَ أَسْدَاسِ نَصِيبٍ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً وَخَمْسَةَ أَسْدَاسٍ فِي تِسْعَةٍ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ وَنِصْفًا، ابْسُطْهَا أَنْصَافًا، تَكُونُ تِسْعَةً وَسِتِّينَ، فَهِيَ الْمَالُ، لِزَيْدٍ مِنْهَا سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِعَمْرٍو خَمْسَةٌ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِنَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ بِجُزْأَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْآخِرُ مِمَّا تَبَقَّى مِثَالُهُ: بِنْتٌ وَأَخٌ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَلِعَمْرٍو بِرُبُعِ الْمَالِ، وَلِبَكْرٍ بِنِصْفِ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ. فَعَلَى طَرِيقِ الْقِيَاسِ، نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ عَمْرٌو رُبُعَ الْمَالِ، وَزَيْدٌ نَصِيبًا، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْبَاقِي نِصْفٌ، وَأَقَلُّ عَدَدٍ لَهُ نِصْفٌ اثْنَانِ، لِبَكْرٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ، يَبْقَى سَهْمٌ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَارِثِينَ نِصْفُ سَهْمٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ النَّصِيبَ

فصل

نِصْفُ سَهْمٍ، فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الرُّبُع سَهْمَيْنِ وَنِصْفُ سَهْمٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، نَزِيدُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةً، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، يَبْلُغُ ثَلَاثَةً وَسُدُسَيْنِ، نَبْسُطُهَا أَسْدَاسًا، تَبْلُغُ عِشْرِينَ، لِزَيْدٍ ثَلَاثَةٌ وَلِعَمْرٍو خَمْسَةٌ، يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ، لِبَكْرٍ نِصْفُهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَارِثِينَ ثَلَاثَةٌ كَالنَّصِيبِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، إِلَّا أَنَّ وَصِيَّةَ عَمْرٍو بِخُمُسِ الْمَالِ، وَوَصِيَّةُ بَكْرٍ بِثُلُثِ الْبَاقِي، فَالْمَالُ خَمْسَةٌ، وَالنَّصِيبُ وَاحِدٌ. فَصْلٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْجُزْءَانِ مَعَ النَّصِيبِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ مِثَالُهُ: أُمٌّ، وَعَمَّانِ، أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِرُبُعِ مَا تَبَقَّى مِنْ [الْمَالِ] بَعْدَ النَّصِيبِ، وَلِبَكْرٍ بِثُلُثِ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِخَالِدٍ بِنِصْفِ مَا تَبَقَّى بَعْدَ ذَلِكَ. تَأْخُذُ مَالًا، وَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى مَالٌ إِلَّا نَصِيبًا، تُلْقِي مِنْ هَذَا الْبَاقِي رُبُعَهُ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ، تُلْقِي مِنَ الْبَاقِي ثُلُثَهُ، يَبْقَى نِصْفُ مَالٍ إِلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ، تُلْقِي مِنَ الْبَاقِي نِصْفَهُ، يَبْقَى رُبُعُ مَالٍ إِلَّا رُبُعَ نَصِيبٍ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، تَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَرُبُعُ مَالٍ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ وَرُبُعَ نَصِيبٍ، فَتَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ، تَبْلُغُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، النَّصِيبُ مِنْهُ وَاحِدٌ، يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ، لِعَمْرٍو رُبُعُهَا، يَبْقَى تِسْعَةٌ لِبَكْرٍ ثُلُثَهَا، يَبْقَى سِتَّةٌ، لِخَالِدٍ نِصْفُهَا، يَبْقَى ثَلَاثَةً، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ وَاحِدٌ كَالنَّصِيبِ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِنَصِيبَيْنِ مَعَ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ بَعْدَ كُلِّ نَصِيبٍ مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَا تَبَقَّى مِنَ الثُّلُثِ، وَلِبَكْرٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِخَالِدٍ بِنِصْفِ مَا تَبَقَّى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ.

فصل

فَخُذْ أَحَدَ أَثْلَاثِ الْمَالِ، وَادْفَعْ مِنْهُ نَصِيبًا إِلَى زَيْدٍ، يَبْقَى مِنْهُ مِقْدَارٌ، تَدْفَعُ ثُلُثَهُ إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى مَعَنَا ثُلُثَا مِقْدَارٍ، وَنَأْخُذُ ثُلُثًا آخَرَ وَتَدْفَعُ مِنْهُ نَصِيبًا إِلَى بَكْرٍ، يَبْقَى مِقْدَارٌ، تُعْطِي مِنْهُ خَالِدًا نِصْفَهُ، يَبْقَى نِصْفُ مِقْدَارٍ، فَتَضُمُّ الْبَاقِيَ مِنَ الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ مِقْدَارٌ وَسُدُسُ مِقْدَارٍ إِلَى الثُّلُثِ الثَّالِثِ وَهُوَ نَصِيبٌ، وَمِقْدَارٌ يَكُونُ نَصِيبًا وَمِقْدَارَيْنِ وَسُدُسَ مِقْدَارٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، تُسْقِطُ نَصِيبًا بِنَصِيبٍ، يَبْقَى مِقْدَارَانِ وَسُدُسُ مِقْدَارٍ فِي مُعَادَلَةِ نَصِيبَيْنِ، فَالنَّصِيبُ الْوَاحِدُ مِقْدَارٌ وَنِصْفُ سُدُسِ مِقْدَارٍ، وَكُنَّا فَرَضْنَا كُلَّ ثُلُثٍ نَصِيبًا وَمِقْدَارًا، فَهُوَ إِذًا مِقْدَارَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ، تَبْسُطُهَا بِالضَّرْبِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ، تَكُونُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَلِزَيْدٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلِعَمْرٍو أَرْبَعَةٌ، وَلِبَكْرٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلِخَالِدٍ سِتَّةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ كَالنَّصِيبِ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِنَصِيبٍ وَبِجُزْءٍ شَائِعٍ، عَلَى شَرْطِ أَنْ لَا يُضَامَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ، أَيْ: لَا يَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَيْهِ مِثَالُهُ: ابْنَانِ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِرُبُعِ الْمَالِ، وَلِعَمْرٍو بِنَصِيبِ أَحَدِ الِابْنَيْنِ، عَلَى أَنْ لَا يُضَامَ الثَّانِي بِالْوَصِيَّتَيْنِ، هِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِذِكْرِهِ الرُّبُعَ، لِزَيْدٍ سَهْمٌ، وَلِلِابْنِ الَّذِي شَرَطَ أَنْ لَا يُضَامَ سَهْمَانِ، يَبْقَى سَهْمٌ لِعَمْرٍو وَلِلِابْنِ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ عَلَيْهِمَا، فَتَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي أَرْبَعَةٍ. مَسْأَلَةٌ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، أَحَدُهُمْ بَكْرٌ، وَأَوْصَى مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَا تَبَقَّى مِنَ الثُّلُثِ، وَشَرَطَ أَنْ لَا يُضَامَ بَكْرٌ. فَخُذْ ثُلُثَ الْمَالِ، وَادْفَعْ إِلَى زَيْدٍ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى مِقْدَارٌ، تَدْفَعُ ثُلُثَهُ إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى ثُلُثَا مِقْدَارٍ تَضُمُّهُمَا

فصل: في الوصية بالنصيب مع استثناء جزء من المال عنه

إِلَى الثُّلُثَيْنِ وَهُمَا نَصِيبَانِ وَمِقْدَارَانِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَعْدِلُ ثُلُثَ الْمَالِ وَنَصِيبَيْنِ. أَمَّا ثُلُثَ الْمَالِ، فَهُوَ الَّذِي تُوَفِّيهِ بَكْرًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ. وَأَمَّا النَّصِيبَانِ، فَهُمَا نَصِيبَا الِابْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ وَمِقْدَارٌ، فَتُسْقِطُ نَصِيبَيْنِ بِنَصِيبَيْنِ، وَمِقْدَارًا بِمِقْدَارٍ، يَبْقَى نَصِيبٌ فِي مُعَادَلَةِ مِقْدَارٍ وَثُلُثَيْنِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّصِيبَ مِقْدَارٌ وَثُلُثَانِ، وَأَنَّ الثُّلُثَ مِقْدَارَانِ وَثُلُثَانِ، فَنَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً، فَهِيَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَالنَّصِيبُ مِنْهَا خَمْسَةٌ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، لِزَيْدٍ خَمْسَةٌ، وَلِعَمْرٍو سَهْمٌ، وَلِبَكْرٍ ثَمَانِيَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِينَ خَمْسَةٌ كَالنَّصِيبِ. فَصُلٌ: فِي الْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ عَنْهُ مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا رُبُعَ جَمِيعِ الْمَالِ. تَأْخُذُ مَالًا، وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى مَالٌ يَنْقُصُ نَصِيبًا، تَزِيدُ عَلَيْهِ رُبُعَ الْمَالِ الْمُسْتَثْنَى، يَبْلُغُ مَالًا وَرُبُعَ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، وَهِيَ أَنْصِبَاءُ الْوَرَثَةِ، تَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَإِذًا مَالٌ وَرُبُعٌ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ، تَبْسُطُهَا أَرْبَاعًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ خَمْسَةٌ، تَدْفَعُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ خَمْسَةً، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ رُبُعَ الْمَالِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، يَبْقَى مَعَنَا خَمْسَةَ عَشَرَ، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ كَالنَّصِيبِ. مَسْأَلَةٌ: ابْنٌ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهِ إِلَّا نِصْفَ الْمَالِ، تَأْخُذُ مَالًا، وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا، ثُمَّ تَسْتَرْجِعُ مِنَ النَّصِيبِ نِصْفَ مَالٍ، يَحْصُلُ مَعَنَا مَالٌ وَنِصْفٌ سِوَى نَصِيبٍ، يَعْدِلُ نَصِيبًا وَاحِدًا، تَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَيَكُونُ مَالٌ وَنِصْفٌ يَعْدِلُ نَصِيبَيْنِ، تَبْسُطُهُمَا أَنْصَافًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَيَكُونُ الْمَالُ أَرْبَعَةً، وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةً، تَدْفَعُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةً، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ اثْنَيْنِ، يَبْقَى مَعَهُ سَهْمٌ، وَهُوَ مِثْلُ نَصِيبِ الِابْنِ نَاقِصًا بِنِصْفِ الْمَالِ.

فصل في الوصية بالنصيب مع استثناء جزء مما تبقى من المال

مَسْأَلَةٌ: ابْنٌ، وَأَوْصَى بِنَصِيبِ ابْنٍ رَابِعٍ لَوْ كَانَ إِلَّا عُشْرَ الْمَالِ. نَقُولُ: لَوْ كَانَ الْبَنُونَ أَرْبَعَةً، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ، تَأْخُذُ مَالًا، وَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ عُشْرَ الْمَالِ، يَكُونُ مَعَنَا مَالٌ وَعُشْرُ مَالٍ سِوَى نَصِيبٍ، يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ، تَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَإِذًا مَالٌ وَعُشْرُ مَالٍ تُقَابِلُ خَمْسَةَ أَنْصِبَاءَ، تَبْسُطُهَا أَعْشَارًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ خَمْسُونَ، وَالنَّصِيبُ أَحَدَ عَشَرَ، تُدْفَعُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ أَحَدَ عَشَرَ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ عُشْرَ الْمَالِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، يَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ سِتَّةٌ، وَيَأْخُذُ الِابْنُ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ، وَلَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً لَأَخَذَ كُلُّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ كَالنَّصِيبِ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ فَهَذَا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ تَقْيِيدِ الْمُوصِي الِاسْتِثْنَاءَ بِجُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، وَإِمَّا مَعَ التَّقْيِيدِ بِجُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَإِمَّا مُطْلَقًا، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. (الْقِسْمُ) الْأَوَّلُ: مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا رُبُعَ الْبَاقِي مِنَ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، تَأْخُذُ مَالًا وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى مَالٌ نَاقِصٌ بِنَصِيبٍ، تَزِيدُ عَلَيْهِ رُبُعَهُ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَرِدُّهُ مِنْ جُمْلَةِ النَّصِيبِ، وَرُبُعُهُ رُبُعُ مَالٍ إِلَّا رُبُعَ نَصِيبٍ، فَيَبْلُغُ مَالًا وَرُبُعَ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا، وَرُبُعُ نَصِيبٍ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَإِذَا مَالٌ وَرُبُعُ مَالٍ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ وَرُبُعَ نَصِيبٍ، تَبْسُطُهَا أَرْبَاعًا وَتقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ خَمْسَةٌ، تُعْطِي الْمُوصَى لَهُ خَمْسَةً، يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ، تَسْتَرْجِعُ مِنَ الْخَمْسَةِ رُبُعَ الْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، يَبْقَى مَعَ الْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ، وَمَعَ الْبَنِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُقَيَّدَ الِاسْتِثْنَاءُ بِجُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَالْجُزْءُ مِنْ

بَاقِي الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، كَالْجُزْءِ الْوَاقِعِ تَحْتَهُ مِنْ بَاقِي الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، فَعُشْرُ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَتُسُعِ الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ، وَتُسُعُ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَثُمُنِ الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى ثُلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَهُوَ كَنِصْفِ الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ، وَخَرَّجُوا صُوَرَ هَذَا الْقِسْمِ بِطَرِيقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْبِنَاءُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ. فَإِذَا أَوْصَى - وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ - بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا رُبُعَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا ثُلُثَ مَا تَبَقَّى بَعْدَ النَّصِيبِ، فَتَأْخُذُ مَالًا، وَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى مَالٌ نَاقِصٌ بِنَصِيبٍ، تَزِيدُ ثُلُثَهُ لِلِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ ثُلُثُ مَالٍ إِلَّا ثُلُثَ نَصِيبٍ، يَبْلُغُ مَالًا وَثُلُثَ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا، وَثُلُثَ نَصِيبٍ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَإِذَا مَالٌ وَثُلُثُ مَالٍ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ وَثُلُثَ نَصِيبٍ، فَتَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةٌ، تُعْطِي الْمُوصَى لَهُ أَرْبَعَةً، يَبْقَى تِسْعَةٌ، تَسْتَرِدُّ مِنَ الْأَرْبَعَةِ ثُلُثَ التِّسْعَةِ الْبَاقِيَةِ، يَبْقَى مَعَهُ سَهْمٌ، وَيَحْصُلُ لِلْبَنِينَ اثْنَا عَشَرَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ، فَالَّذِي أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ مِثْلَ النَّصِيبِ إِلَّا ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ، وَمِثْلَ النَّصِيبِ إِلَّا رُبُعَ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ اثْنَا عَشَرَ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ بَاقِيَ الْمَالِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ أَنْصِبَاءُ الْبَنِينَ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، وَرُبُعُهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ، فَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ، يَبْقَى رُبُعُ نَصِيبٍ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، فَتَزِيدُهُ عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَنِينَ، تَبْلُغُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ وَرُبُعَ نَصِيبٍ، نَبْسُطُهَا أَرْبَاعًا بِالضَّرْبِ فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالْوَصِيَّةُ سَهْمٌ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ فَيَقُولُ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ فُلَانٍ إِلَّا رُبُعَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ، وَلَمْ يَقُلْ: بَعْدَ النَّصِيبِ، وَلَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا. أَحَدُهُمَا: يُحْمَلُ عَلَى الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ ; لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ النَّصِيبُ فَانْصَرَفَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَيْهِ.

فصل في الوصية بالنصيب مع استثناء جزء مما تبقى من جزء من المال

وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ: يُحْمَلُ عَلَى الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ مِنَ الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ، فَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى أَكْثَرَ، وَيَقِلُّ نَصِيبُ الْمُوصَى لَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ تَنْزِيلُ الْوَصَايَا عَلَى الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ، ثُمَّ طَرِيقُ الْحِسَابِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَا سَبَقَ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنْ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ هَذَا يَجِيءُ فِيهِ الْأَقْسَامُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيهِ الْوَجْهَانِ. فَإِنْ صَرَّحَ بِذِكْرِ النَّصِيبِ، فَأَوْصَى - وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ - بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا ثُلُثَ مَا تَبَقَّى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ النَّصِيبِ، فَتَأْخُذُ ثُلُثَ مَالٍ، وَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى ثُلُثُ مَالٍ سِوَى نَصِيبٍ، تَزِيدُ عَلَى ثُلُثِهِ وَهُوَ تُسْعُ مَالٍ إِلَّا ثُلُثَ نَصِيبٍ لِلِاسْتِثْنَاءِ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ سِوَى نَصِيبٍ وَثُلُثِ نَصِيبٍ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَمَالٌ وَتُسُعُ مَالٍ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ وَثُلُثَ نَصِيبٍ، تَبْسُطُهَا أَتْسَاعًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَالنَّصِيبُ عَشَرَةٌ، تَأْخُذُ الثُّلُثَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا وَهُوَ عَشَرَةٌ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، تَسْتَرْجِعُ ثُلُثَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ، يَبْقَى تِسْعَةٌ، تُسْقِطُهَا مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى ثَلَاثُونَ، لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ. مَسْأَلَةٌ: أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا رُبُعَ مَا تَبَقَّى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ ثُلُثِ النَّصِيبِ، تَأْخُذُ ثُلُثَ مَالٍ، وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى ثُلُثُ مَالٍ سِوَى نَصِيبٍ، ثُمَّ تَسْتَرْجِعُ مِنَ النَّصِيبِ رُبُعَ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ ثُلُثِ النَّصِيبِ، وَهُوَ نِصْفُ سُدُسِ مَالٍ إِلَّا سُدُسَ نَصِيبٍ، وَتَضُمُّهُ إِلَى مَا مَعَكَ، تَبْلُغُ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا، وَجُزْءًا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبٍ، تَزِيدُهُ عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، يَبْلُغُ مَالًا وَجُزْءًا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا، وَجُزْءًا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبٍ يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، تَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فِإِذَا

مَالٌ وَجُزْءٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ، يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَنْصِبَاءَ وَجُزْءًا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبٍ، ثُمَّ ابْسُطْهَا بِأَجْزَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَاقْلِبِ الِاسْمَ، فَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالْمَالُ أَحَدٌ وَسِتُّونَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ وَسِتِّينَ ثُلُثٌ، فَتَضْرِبُهَا فِي ثَلَاثَةٍ، تَبْلُغُ مِائَةً وَثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ، فَهُوَ الْمَالُ، وَالنَّصِيبُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ أَحَدٌ وَسِتُّونَ، تَعْزِلُ مِنْهُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ لِلنَّصِيبِ، ثُمَّ تَسْتَرْجِعُ مِنْهُ اثْنَيْ عَشَرَ ; لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ ثُلُثِ النَّصِيبِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَرُبُعُهَا اثْنَا عَشَرَ، فَيَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، تُسْقِطُهَا مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، لِكُلِّ ابْنٍ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ. فَرْعٌ: أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ إِلَّا ثُلُثَ مَا تَبَقَّى، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا ثُلُثَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ الْمُتَيَقَّنُ. فَإِذَا كَانَ لَهُ ابْنَانِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَلَهُمْ سَهْمٌ مِنْ تِسْعَةٍ ; لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِابْنَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ تَسْتَرْجِعُ مِنْهُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْبَاقِي وَهُوَ سَهْمَانِ، فَيَبْقَى سَهْمٌ. فَرْعٌ: وَأَمَّا إِنْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْوَصِيَّةِ وَالْبَاقِي مِنَ الْجُزْءِ فَقَالَ - وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ -: أَوْصَيْتُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا ثُلُثَ مَا تَبَقَّى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ، فَطُرُقُ الْحِسَابِ فِيهِ عَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ، لَكِنْ يُسْتَعْمَلُ بَدَلَ ثُلُثِ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ، نِصْفُ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ كَمَا سَبَقَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ، وَيَكُونُ الْمَالُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ

فصل في الوصية بجزء من المال وبالنصيب مع استثناء جزء من باقي المال

سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، وَالنَّصِيبُ سَبْعَةٌ. فَإِذَا أَخَذْنَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَعَزَلْنَا مِنْهُ سَبْعَةً، بَقِيَ اثْنَانِ، نَسْتَرْجِعُ نِصْفَهُمَا مِنَ النَّصِيبِ وَهُوَ وَاحِدٌ، يَبْقَى مَعَ الْمُوصَى لَهُ سِتَّةٌ، وَمَعَ الْبَنِينَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، مَعَ كُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ كَالنَّصِيبِ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ مِنَ الْمَالِ وَبِالنَّصِيبِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِنْ بَاقِي الْمَالِ الْبَاقِي مِنَ الْمَالِ، قَدْ يُقَيَّدُ بِمَا بَعْدَ النَّصِيبِ، وَقَدْ يُقَيَّدُ بِمَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَقَدْ يُطْلَقُ كَمَا سَبَقَ، فَإِنْ جَرَى ذِكْرُ النَّصِيبِ، بِأَنْ أَوْصَى - وَلَهُ ابْنَانِ - لِزَيْدٍ بِرُبُعِ الْمَالِ، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا إِلَّا ثُلُثَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ. فَخُذْ مَالًا، وَاجْعَلْ رُبُعَهُ لِزَيْدٍ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالٍ، تُعْطِي عَمْرًا مِنْهَا نَصِيبًا، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا، تَسْتَرْجِعُ مِنَ النَّصِيبِ مِثْلَ ثُلُثِ هَذَا الْبَاقِي وَهُوَ رُبُعُ مَالٍ إِلَّا ثُلُثَ نَصِيبٍ، تَزِيدُهُ عَلَى مَا مَعَكَ، يَبْلُغُ مَالًا إِلَّا نَصِيبًا وَثُلُثَ نَصِيبٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ نَصِيبَيْنِ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَإِذَا مَالٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ وَثُلُثَ نَصِيبٍ، فَتَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ عَشَرَةٌ، وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةٌ، تُعْطِي زَيْدًا رُبُعَ الْعَشَرَةِ، يَبْقَى سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، تَعْزِلُ مِنْهَا ثَلَاثَةً لِعَمْرٍو، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، تَسْتَرْجِعُ ثُلُثَهَا مِنَ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَنِصْفٌ، فَتَضُمُّهُ إِلَى مَا مَعَكَ، تَبْلُغُ سِتَّةً، لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ كَالنَّصِيبِ. فَإِنْ أَرَدْتَ إِزَالَةَ الْكَسْرِ، بَسَطْتَ الْعَشَرَةَ أَيْضًا أَنْصَافًا وَقُلْتَ: الْمَالُ عِشْرُونَ، وَالنَّصِيبُ سِتَّةٌ. وَإِنْ جَرَى ذِكْرُ الْوَصِيَّةِ، بِأَنْ أَوْصَى - وَلَهُ ابْنَانِ - لِزَيْدٍ بِرُبُعِ الْمَالِ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا إِلَّا ثُلُثَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِلَّا نِصْفَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ كَمَا سَبَقَ، فَتَأْخُذُ مَالًا، وَتَجْعَلُ لِزَيْدٍ رُبُعَهُ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالٍ، تُعْطِي عَمْرًا مِنْهَا نَصِيبًا، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ سِوَى نَصِيبٍ، تَسْتَرْجِعُ

فصل

مِنْهُ نِصْفَ هَذَا الْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ مَالٍ سِوَى نِصْفِ نَصِيبٍ، وَتَزِيدُهُ عَلَى مَا مَعَكَ، يَبْلُغُ مَالًا وَثُمُنَ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا وَنِصْفَ نَصِيبٍ، [وَذَلِكَ يَعْدِلُ نَصِيبَيْنِ، فَإِذَا جَبَرْتَ وَقَابَلْتَ، فَمَالٌ وَثُمُنُ مَالٍ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ وَنِصْفَ نَصِيبٍ] تَبْسُطُهَا أَثْمَانًا، فَالْمَالُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالنَّصِيبُ تِسْعَةٌ، تُعْطِي زَيْدًا رُبُعَ الْمَالِ، يَبْقَى أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، تَفْرِزُ مِنْهَا تِسْعَةً لِعَمْرٍو، يَبْقَى اثْنَا عَشْرَةَ، تَسْتَرْجِعُ نِصْفَهَا مِنْ تِسْعَةِ عَمْرٍو، وَتَضُمُّهُ إِلَيْهَا، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِكُلِّ ابْنٍ تِسْعَةٌ كَالنَّصِيبِ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ الْمَالِ وَبِالنَّصِيبِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِمَّا (يَبْقَى) مِنْ جُزْءٍ (مِنْ) الْمَالِ مِثَالُهُ: خَمْسَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِثُمُنِ مَالِهِ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَا تَبَقَّى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ الثُّمُنِ وَالنَّصِيبِ. تَأْخُذُ ثُلُثَ مَالٍ، وَتُلْقِي مِنْهُ ثُمُنَ جَمِيعِ الْمَالِ، يَبْقَى خَمْسَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ الْمَالِ، تُفْرِزُ مِنْهُ نَصِيبًا لِعَمْرٍو، يَبْقَى خَمْسَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا سِوَى نَصِيبٍ، تَسْتَرْجِعُ مِنَ النَّصِيبِ ثُلُثَ هَذَا الْبَاقِي، وَلَيْسَ لِلْخَمْسَةِ ثُلُثٌ صَحِيحٌ، فَتَضْرِبُ الْمَالَ فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُونُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَيَكُونُ مَعَكَ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ الْمَالِ سِوَى نَصِيبٍ، تَزِيدُ ثُلُثَ هَذَا الْمَبْلَغِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءًا سِوَى نَصِيبٍ وَثُلُثِ [نَصِيبٍ] يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ خَمْسَةٌ، فَإِذَا جَبَرْتَ وَقَابَلْتَ، فَثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ تَعْدِلُ سِتَّةَ أَنْصِبَاءَ وَثُلُثَ نَصِيبٍ، فَتَبْسُطُهَا بِأَجْزَاءِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَإِذَا الْمَالُ أَرْبَعُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، وَالنَّصِيبُ ثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَخَمْسُونَ، وَتُلْقِي مِنْهُ ثُمُنَ الْمَالِ، وَهُوَ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ، تُلْقِي مِنْهَا نَصِيبًا وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ، يَبْقَى سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، تَسْتَرْجِعُ مِنَ النَّصِيبِ ثُلُثَهَا، وَتَزِيدُهَا

فصل في الوصية بمثل نصيب وارث أو عدد من الورثة، إلا مثل نصيب وارث آخر أو عدد منهم

عَلَى السَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ، تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، تَزِيدُهَا عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، وَهُوَ ثَلَثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، تَبْلُغُ ثَلَثَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ كَالنَّصِيبِ. فَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، إِلَّا أَنَّهُ أَوْصَى لِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الثُّمُنِ وَبَعْدَ وَصِيَّتِهِ، فَالْحِسَابُ كَمَا مَضَى، لَكِنْ تَجْعَلُ بَدَلَ اسْتِثْنَاءِ ثُلُثِ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، نِصْفَ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ النَّصِيبِ، وَإِذَا عَمِلْتَهَا، كَانَ الْمَالُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ، وَهُوَ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ، وَتُسْقِطُ مِنْهُ ثُمُنَ الْمَالِ، وَهُوَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ، تُسْقِطُ مِنْهُ النَّصِيبَ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ، يَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، تَسْتَرْجِعُ مِنَ النَّصِيبِ نِصْفَهَا تِسْعَةً، وَتَزِيدُهَا عَلَيْهَا، تَصِيرُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، تَزِيدُهَا عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، وَهُوَ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ، تَبْلُغُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ أَوْ عَدَدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، إِلَّا مِثْلَ نَصِيبِ وَارِثٍ آخَرَ أَوْ عَدَدٍ مِنْهُمْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ، إِمَّا أَنْ تَتَجَرَّدَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ الْمَالِ وَالْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ، أَوْ بِجُزْءٍ مِنْ جُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى، وَإِمَّا أَنْ لَا تَتَجَرَّدَ. فَالْحَالَةُ الْأُولَى لَا حَاجَةَ فِيهَا إِلَى الطُّرُقِ الْجَبْرِيَّةِ، بَلْ تُقَامُ مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ، وَتُؤْخَذُ سِهَامُ مَنْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهِ، فَيَنْقُصُ مِنْهَا نَصِيبُ مَنِ اسْتُثْنِيَ مِثْلُ نَصِيبِهِ، وَيُزَادُ مَا بَقِيَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، فَمِنْهُ تَصِحُّ. مِثَالُهُ: زَوْجَةٌ وَأُخْتٌ وَعَمٌّ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ الْأُخْتِ إِلَّا مِثْلَ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ، هِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَنَصِيبُ الْأُخْتِ سَهْمَانِ، يَنْقُصُ مِنْهَا نَصِيبُ الزَّوْجَةِ وَهُوَ سَهْمٌ، يَبْقَى سَهْمٌ، تَزِيدُهُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ، يَكُونُ خَمْسَةً، وَاحِدٌ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا لَمْ تَتَجَرَّدْ، وَفِيهَا صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: أَنْ يُوصِيَ مَعَ ذَلِكَ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ الْمَالِ. مِثَالُهُ: أَبَوَانِ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِرُبُعِ مَالِهِ، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ نَصِيبِ الْأَبِ إِلَّا مِثْلَ نَصِيبِ الْأُمِّ، فَالطَّرِيقُ أَنْ تَنْظُرَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ وَهِيَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تَأْخُذُ مَالًا، وَتُلْقِي رُبُعَهُ لِزَيْدٍ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، تُلْقِي مِنْهَا نَصِيبَيْنِ كَنَصِيبِ الْأَبِ، وَتَسْتَرْجِعُ نِصْفَهُمَا كَنَصِيبِ الْأُمِّ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالٍ سِوَى نَصِيبٍ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ هِيَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالٍ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ، تَبْسُطُهَا أَرْبَاعًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةٌ. فَإِذَا أَخَذْنَا سِتَّةَ عَشَرَ، وَأَسْقَطْنَا رُبُعَهَا، بَقِيَ اثْنَا عَشَرَ، تُسْقِطُ مِنْهَا نَصِيبَيْنِ وَهُمَا سِتَّةٌ، وَتَسْتَرْجِعُ نَصِيبًا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، يَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ. فَإِذَا أَسْقَطَنَا الْوَصِيَّتَيْنِ مِنَ الْمَالِ، بَقِيَ تِسْعَةٌ، لِلْأَبِ سِتَّةٌ، وَلِلْأُمِّ ثَلَاثَةٌ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوصِيَ مَعَ ذَلِكَ بِجُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ. مِثَالُهُ: أَبَوَانِ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْأَبِ إِلَّا مِثْلَ نَصِيبِ الْأُمِّ، وَلِعَمْرٍو رُبُعُ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ. تَأْخُذُ مَالًا، وَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبَيْنِ، هُمَا نَصِيبُ الِابْنِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، فَتَسْتَرْجِعُ نَصِيبًا وَهُوَ نَصِيبُ الْأُمِّ، يَبْقَى مَالٌ سِوَى نَصِيبٍ، تُعْطِي عَمْرًا أَرْبَعَةٌ، وَهُوَ رُبُعُ مَالٍ إِلَّا رُبُعَ نَصِيبٍ، تُلْقِي ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مَالٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ، تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، هِيَ سِهَامُ الْمَسْأَلَةِ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالٍ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ، فَتَبْسُطُهَا أَرْبَاعًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةٌ، تَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَتُسْقِطُ مِنْهَا نَصِيبَيْنِ وَهُمَا سِتَّةٌ، وَتَسْتَرْجِعُ نَصِيبًا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ، رُبُعُهَا لِعَمْرٍو، يَبْقَى تِسْعَةٌ، سِتَّةٌ لِلْأَبِ، وَثَلَاثَةٌ لِلْأُمِّ.

فصل في الوصية بالنصيب مع استثناء نصيب وارث آخر منه وجزء شائع أيضا

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُوصِيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِجُزْءٍ مِنْ جُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ. مِثَالُهُ: أَبَوَانِ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْأَبِ إِلَّا مِثْلَ نَصِيبِ الْأُمِّ، وَلِعَمْرٍو بِرُبُعِ مَا تَبَقَّى مِنْ ثُلُثَيِ الْمَالِ، تَأْخُذُ ثُلُثَيْ مَالٍ وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبَيْنِ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى ثُلُثَا مَالٍ سِوَى نَصِيبٍ، تُسْقِطُ رُبُعَهُ لِعَمْرٍو، وَهُوَ سُدُسُ مَالٍ إِلَّا رُبُعَ نَصِيبٍ، يَبْقَى نِصْفُ مَالٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ، تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، هِيَ سِهَامُ الْمَسْأَلَةِ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ مَالٍ، تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ، تَبْسُطُهَا بِأَجْزَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَالنَّصِيبُ عَشَرَةٌ، تَأْخُذُ ثُلُثَيِ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثُونَ، وَتُسْقِطُ مِنْهَا نَصِيبَيْنِ وَهُمَا عِشْرُونَ، وَتَسْتَرْجِعُ نَصِيبًا، يَبْقَى مَعَكَ عِشْرُونَ، تُسْقِطُ رُبُعَهَا لِعَمْرٍو، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، تَزِيدُهَا عَلَى ثُلُثِ الْمَالِ، يَكُونُ ثَلَاثِينَ، لِلْأَبِ عِشْرُونَ، وَلِلْأُمِّ عَشَرَةٌ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ نَصِيبِ وَارِثٍ آخَرَ مِنْهُ وَجُزْءٍ شَائِعٍ أَيْضًا الْجُزْءُ الْمُسْتَثْنَى مَعَ النَّصِيبِ، قَدْ يَكُونُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جُزْءٍ مِنَ الْبَاقِي. مِثَالُ الْأَوَّلُ: أَبَوَانِ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ الْأَبِ إِلَّا مِثْلَ نَصِيبِ الْأُمِّ وَإِلَّا عُشْرَ جَمِيعِ الْمَالِ، [تَأْخُذُ مَالًا، وَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبَيْنِ، وَتَسْتَرْجِعُ نَصِيبًا وَعُشْرَ جَمِيعِ الْمَالِ] ، يَبْقَى مَالٌ وَعُشْرُ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا، يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَمَالٌ وَعُشْرُ مَالٍ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ، تَبْسُطُهَا أَعْشَارًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ أَرْبَعُونَ، وَالنَّصِيبُ أَحَدَ عَشَرَ، تَأْخُذُ أَرْبَعِينَ، فَتُسْقِطُ مِنْهَا نَصِيبَيْنِ، وَهُمَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ،

وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهَا نَصِيبًا وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ، [وَعُشْرُ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَيَحْصُلُ لِلْمُوصَى لَهُ سَبْعَةٌ، وَلِلْأَبِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَلِلْأُمِّ أَحَدَ عَشَرَ] . مِثَالُ الثَّانِي: الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِثْلُ نَصِيبِ الْأُمِّ وَعُشْرُ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ نَصِيبِ الْأُمِّ، فَتَأْخُذُ مَالًا، وَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبَ الْأُمِّ وَهُمَا سَهْمَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ هِيَ سِهَامُ الْمَسْأَلَةِ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى مَالٌ إِلَّا نَصِيبًا، تَزِيدُ عَلَيْهِ مِثْلَ عُشْرِهِ وَهُوَ عُشْرُ مَالٍ إِلَّا عُشْرَ نَصِيبٍ، تَبْلُغُ مَالًا وَعُشْرَ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا وَعُشْرَ نَصِيبٍ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ هِيَ سِهَامُ الْمَسْأَلَةِ. فَتُجْبِرُ وَتُقَابِلُ، وَتَبْسُطُهَا أَعْشَارًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ أَحَدٌ وَأَرْبَعُونَ، وَالنَّصِيبُ أَحَدَ عَشَرَ، تَأْخُذُ أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ، وَتُسْقِطُ مِنْهَا نَصِيبَيْنِ وَهُمَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَتَسْتَرْجِعُ نَصِيبًا، فَيَكُونُ مَعَكَ ثَلَاثُونَ، وَتَسْتَرْجِعُ عُشْرَ الثَّلَاثِينَ مِنْ ذَلِكَ النَّصِيبِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَتَزِيدُهُ عَلَى مَا مَعَكَ، تَبْلُغُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ، لِلْأَبِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَلِلْأُمِّ أَحَدَ عَشَرَ. مِثَالُ الثَّالِثِ: الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، إِلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِثْلَ نَصِيبِ الْأُمِّ وَثُمُنَ مَا تَبَقَّى مِنْ ثُلُثَيِ الْمَالِ بَعْدَ نَصِيبِ الْأُمِّ، فَتَأْخُذُ ثُلُثَيْ مَالٍ، وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبَيْنِ، وَتَسْتَرْجِعُ نَصِيبًا، يَبْقَى ثُلُثَا مَالٍ سِوَى نَصِيبٍ، تَسْتَرْجِعُ ثُمُنَ هَذَا الْمَبْلَغِ [أَيْضًا مِنَ النَّصِيبِ وَهُوَ نِصْفُ سُدُسِ مَالٍ إِلَّا ثُمُنَ نِصْفٍ، وَتَزِيدُهُ عَلَى الْمَبلَغِ] ، يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا وَثُمُنَ نَصِيبٍ، تَزِيدُهُ عَلَى ثُلُثِ مَالٍ، يَبْلُغُ مَالًا وَنِصْفَ سُدُسِ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا وَثُمُنَ نَصِيبٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ سِهَامُ الْمَسْأَلَةِ. فَتُجْبِرُ وَتُقَابِلُ، فَمَالٌ وَنِصْفُ سُدُسِ مَالٍ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ وَثُمُنَ [نَصِيبٍ] ، فَتَبْسُطُهَا بِأَجْزَاءٍ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَالنَّصِيبُ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ، تَأْخُذُ ثُلُثَيِ الْمَالِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ، وَتُسْقِطُ مِنْهَا نَصِيبَيْنِ وَهُمَا اثْنَانِ وَخَمْسُونَ، وَتَسْتَرْجِعُ نَصِيبًا، يَبْقَى مَعَكَ أَرْبَعُونَ، تَسْتَرْجِعُ ثَمَنَهَا مِنَ النَّصِيبِ أَيْضًا وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَتَزِيدُهُ

فصل في الوصية بالتكملة

عَلَى الْأَرْبَعِينَ، يَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، تَزِيدُهُ عَلَى ثُلُثِ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ، لِلْأَبِ بِنَصِيبَيْنِ اثْنَانِ وَخَمْسُونَ، وَلِلْأُمِّ بِنَصِيبٍ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّكْمِلَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا: الْبَقِيَّةُ الَّتِي يَبْلُغُ بِهَا الشَّيْءُ حَدًّا آخَرَ، وَهِيَ إِمَّا مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِغَيْرِهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ [مِنْهَا] ، وَإِمَّا غَيْرُ مُجَرَّدَةٍ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَالْوَصِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِتَكْمِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِمَّا بِتَكْمِلَتَيْنِ فَصَاعِدًا. مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِتَكْمِلَةِ ثُلُثِ مَالِهِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَتَأْخُذُ مَالًا، وَتَصْرِفُ ثُلُثَهُ إِلَى ثُلُثِهِ الْمُوصَى لَهُ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ نَصِيبًا، فَيَحْصُلُ مَعَكَ ثُلُثَا مَالٍ وَنَصِيبٌ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، فَتُلْقِي نَصِيبًا بِنَصِيبٍ، يَبْقَى ثُلُثَا مَالٍ فِي مُعَادَلَةِ ثَلَاثَةِ أَنْصِبَاءَ، فَتَبْسُطُهُمَا أَثْلَاثًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ تِسْعَةٌ، وَالنَّصِيبُ اثْنَانِ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الثُّلُثِ وَالنَّصِيبِ سَهْمٌ، فَهُوَ التَّكْمِلَةُ، تَدْفَعُهُ [إِلَى] الْمُوَصَى لَهُ، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ، لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ. وَبِطَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، تَجْعَلُ ثُلُثَ الْمَالِ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، وَتَجْعَلُ الدِّينَارَ نَصِيبًا، وَالتَّكْمِلَةَ دِرْهَمًا، تَدْفَعُهُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، يَبْقَى مِنَ الْمَالِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَدِرْهَمَانِ، يَأْخُذُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، يَبْقَى دِرْهَمَانِ يَأْخُذُهُمَا الِابْنُ الرَّابِعُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ دِرْهَمَانِ، وَأَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَالنَّصِيبُ دِرْهَمَانِ. مِثَالُ التَّكْمِلَتَيْنِ، أَرْبَعَةُ بَنِينَ وَبِنْتٌ، وَأَوْصَى بِتَكْمِلَةِ ثُلُثِ مَالِهِ بِنَصِيبِ ابْنٍ، وَلِآخَرَ بِتَكْمِلَةِ رُبُعِ مَالِهِ بِنَصِيبِ الْبِنْتِ، فَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى ثُلُثُ مَالٍ سِوَى نَصِيبَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ رُبُعُ مَالٍ سِوَى نَصِيبٍ، فَتَأْخُذُ مَالًا، وَتُسْقِطُ مِنْهُ الْوَصِيَّتَيْنِ، يَبْقَى خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ مَالٍ، وَثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ تِسْعَةٌ،

تُسْقِطُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ بِثَلَاثَةِ أَنْصِبَاءَ، يَبْقَى خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ مَالٍ فِي مُعَادَلَةِ سِتَّةِ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ وَهِيَ تِسْعَةٌ، تُسْقِطُ ثَلَاثَةً أَيْضًا بِثَلَاثَةِ أَنْصِبَاءَ، يَبْقَى خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ مَالٍ فِي مُعَادَلَةِ سِتَّةِ أَنْصِبَاءَ. ثُمَّ إِنْ شِئْتَ بَسَطْتَهَا بِأَجْزَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَقَلَبْتَ الِاسْمَ، فَالْمَالُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ، وَالنَّصِيبُ خَمْسَةٌ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِذَا كَانَتْ خَمْسَةً مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ تَعْدِلُ سِتَّةً، فَالْمَالُ بِتَمَامِهِ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَخَمْسِينَ، تَبْسُطُهَا أَخْمَاسًا تَبْلُغُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبَيْنِ وَهُمَا عَشَرَةٌ، يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَهِيَ الْوَصِيَّةُ الْأُولَى، وَتَأْخُذُ رُبُعَهُ وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، تُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا وَاحِدًا وَهُوَ خَمْسَةٌ، يَبْقَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَهِيَ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ، فَتُسْقِطُ الْوَصِيَّتَيْنِ مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ، وَلِلْبِنْتِ خَمْسَةٌ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي، فَيُتَصَوَّرُ عَلَى وُجُوهٍ. مِنْهَا الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ الْمَالِ. مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِرُبُعِ مَالِهِ، وَلِعَمْرٍو بِتَكْمِلَةِ النِّصْفِ بِنَصِيبِ ابْنٍ، فَتَأْخُذُ مَالًا، وَتُلْقِي مِنْهُ رُبُعَهُ لِزَيْدٍ، ثُمَّ تُلْقِي نِصْفَهُ لِعَمْرٍو، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى مَعَكَ رُبُعُ مَالٍ وَنَصِيبٌ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَتُسْقِطُ نَصِيبًا بِنَصِيبٍ، يَبْقَى رُبُعُ مَالٍ فِي مُعَادَلَةِ نَصِيبَيْنِ، تَبْسُطُهُمَا أَرْبَاعًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ ثَمَانِيَةٌ، وَالنَّصِيبُ وَاحِدٌ، تَأْخُذُ ثَمَانِيَةً، فَتَعْزِلُ رُبُعَهَا لِزَيْدٍ، ثُمَّ تَأْخُذُ نِصْفَ الثَّمَانِيَةِ لِعَمْرٍو، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ وَاحِدًا، يَبْقَى مَعَكَ ثَلَاثَةٌ، لِكُلِّ ابْنٍ وَاحِدٌ. وَبِطْرِيقِ الْقِيَاسِ تَقُولُ: رُبُعُ الْمَالِ وَنِصْفُهُ يَسْتَحِقُّهُمَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَأَحَدُ الْبَنِينَ، فَتَأْخُذُ مَالًا لَهُ رُبُعٌ وَنِصْفٌ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَتُسْقِطُ مِنْهُ الرُّبُعَ وَالنِّصْفَ، يَبْقَى وَاحِدٌ تُقَسِّمُهُ بَيْنَ الِابْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفٌ، فَتَعْلَمُ أَنَّ النَّصِيبَ نِصْفُ سَهْمٍ، فَتُسْقِطُهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَسْقَطْتَهَا مِنَ الْمَالِ،

يَبْقَى اثْنَانِ وَنِصْفٌ، تُسْقِطُ مِنْهَا رُبُعَ جَمِيعِ الْمَالِ، يَبْقَى وَاحِدٌ وَنِصْفٌ، فَهُوَ التَّكْمِلَةُ، تَبْسُطُ الْجَمِيعَ أَنْصَافًا لِيَزُولَ الْكَسْرُ، فَالنَّصِيبُ وَاحِدٌ، وَالتَّكْمِلَةُ ثَلَاثَةٌ، وَالرُّبُعُ اثْنَانِ، وَالْمَالُ ثَمَانِيَةٌ. وَبِطَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، تَجْعَلُ نِصْفَ الْمَالِ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، وَتَدْفَعُ الدِّرْهَمَ بِالتَّكْمِلَةِ إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى دِينَارَانِ وَدِرْهَمٌ، تُسْقِطُ مِنْهَا رُبُعَ الْمَالِ وَهُوَ نِصْفُ دِينَارٍ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ، يَبْقَى دِينَارٌ وَنِصْفُ دِينَارٍ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، تُسْقِطُ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ، يَبْقَى دِينَارٌ وَنِصْفٌ فِي مُعَادَلَةِ نِصْفِ دِرْهَمٍ، تَبْسُطُهَا أَنْصَافًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالدِّينَارُ وَاحِدٌ، وَالدِّرْهَمُ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ التَّكْمِلَةُ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ مِمَّا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ. مِثَالُهُ: أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِتَكْمِلَةِ ثُلُثِ مَالِهِ بِنَصِيبِ ابْنٍ، وَلِعَمْرٍو بِرُبُعِ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ. تَأْخُذُ مَالًا، وَتَدْفَعُ ثُلُثَهُ إِلَى زَيْدٍ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ نَصِيبًا، وَتَزِيدُهُ عَلَى بَاقِي الْمَالِ، فَيَحْصُلُ مَعَكَ ثُلُثَا مَالٍ وَنَصِيبٌ، يَخْرُجُ رُبُعُهُ لِعَمْرٍو وَذَلِكَ سُدُسُ مَالٍ وَرُبُعُ نَصِيبٍ، يَبْقَى نِصْفُ مَالٍ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، فَتُسْقِطُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ، يَبْقَى نِصْفُ مَالٍ فِي مُعَادَلَةِ ثَلَاثَةِ أَنْصِبَاءَ وَرُبُعِ نَصِيبٍ، فَتَبْسُطُهَا أَرْبَاعًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ سَهْمَانِ، لَكِنْ لَيْسَ لِلثَلَاثَةَ عَشَرَ ثُلُثٌ، فَتَضْرِبُهَا فِي ثَلَاثَةٍ، تَبْلُغُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ، فَهِيَ الْمَالُ، وَالنَّصِيبُ سِتَّةٌ، تَأْخُذُ ثُلُثَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، تُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى سَبْعَةٌ، فَهِيَ التَّكْمِلَةُ، تَدْفَعُهَا إِلَى زَيْدٍ، يَبْقَى مِنَ الْمَالِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، تَدْفَعُ رُبُعَهَا إِلَى عَمْرٍو وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ سِتَّةٌ.

وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنْ جُزْءِ الْمَالِ. مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِتَكْمِلَةِ ثُلُثِ مَالِهِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ، تَأْخُذُ ثُلُثَ مَالٍ، وَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى ثُلُثُ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا تَدْفَعُهُ إِلَى زَيْدٍ فَإِنَّهُ التَّكْمِلَةُ، يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ نَصِيبٌ، تَدْفَعُ ثُلُثَهُ إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى ثُلُثَا نَصِيبٍ تَضُمُّهُمَا إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، تُسْقِطُ ثُلُثَيْ نَصِيبٍ بِثُلُثَيْ نَصِيبٍ، يَبْقَى ثُلُثَا مَالٍ تَعْدِلُ نَصِيبَيْنِ وَثُلُثَ نَصِيبٍ. ثُمَّ إِنْ شِئْتَ بَسَطْتَهَا أَثْلَاثًا، وَقَلَبْتَ الِاسْمَ، فَالْمَالُ سَبْعَةٌ، وَالنَّصِيبُ اثْنَانِ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِذَا عَادَلَ ثُلُثَا مَالٍ نَصِيبَيْنِ وَثُلُثَ نَصِيبٍ، فَالْمَالُ الْكَامِلُ يُعَادِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ وَنِصْفَ نَصِيبٍ، تَبْسُطُهَا أَنْصَافًا، يَكُونُ سَبْعَةً، وَلَيْسَ لَهَا ثُلُثٌ صَحِيحٌ، فَتَضْرِبُهَا فِي ثَلَاثَةٍ، تَبْلُغُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، فَهُوَ الْمَالُ، وَالنَّصِيبُ سِتَّةٌ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ سَبْعَةٌ، وَتُلْقِي مِنْهُ النَّصِيبَ، يَبْقَى وَاحِدٌ فَهُوَ التَّكْمِلَةُ، وَتَدْفَعُ ثُلُثَ السِّتَّةِ إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ، تَضُمُّهَا إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، يَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِكُلِّ ابْنٍ سِتَّةٌ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: كَذَا ذَكَرُوهُ. لَكِنْ لَوْ تَجَرَّدَتِ الْوَصِيَّةُ الْأُولَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَأَوْصَى وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ بِتَكْمِلَةِ ثُلُثِ مَالِهِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ; لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ ابْنٍ يَسْتَغْرِقُ الثُّلُثَ، فَلَا تَكْمِلَةَ، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْوَصِيَّةُ الْأُولَى هُنَا بَاطِلَةٌ، وَالثَّانِيَةُ فَرْعُهَا فَتَبْطُلُ أَيْضًا، قَالَ: وَوَجْهُ مَا ذَكَرُوهُ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّانِيَةَ تَنْقُصُ النَّصِيبَ عَنِ الثُّلُثِ، فَتَظْهَرُ بِهَا التَّكْمِلَةُ. قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ تُخَرَّجَ الْمَسْأَلَةُ وَأَخَوَاتُهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فِي أَنَّ الْعِبْرَةَ بِاللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى، كَمَا إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ بِلَا ثَمَنٍ وَنَحْوَهُ؟ قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ صِحَّةُ الْوَصِيَّتَيْنِ هُنَا قَطْعًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَابِ الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ النَّصِيبِ. مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِتَكْمِلَةِ ثُلُثِ مَالِهِ، تَأْخُذُ ثُلُثَ مَالٍ، تَدْفَعُ مِنْهُ نَصِيبًا إِلَى زَيْدٍ، وَالْبَاقِي إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى مَعَكَ ثُلُثَا مَالٍ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، تَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ تِسْعَةٌ، وَالنَّصِيبُ اثْنَانِ، تَأْخُذُ ثُلُثَ التِّسْعَةِ ثَلَاثَةٌ، تَدْفَعُ مِنْهُ اثْنَيْنِ إِلَى زَيْدٍ، وَسَهْمًا إِلَى عَمْرٍو وَهُوَ التَّكْمِلَةُ، يَبْقَى سِتَّةٌ لِلْبَنِينَ. فَرْعٌ أَوْصَى - وَلَهُ ابْنَانِ - بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا لِزَيْدٍ، وَلِعَمْرٍو بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ، فَالْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ. وَكَذَا لَوْ أَوْصَى - وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ - بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ لِزَيْدٍ، وَلِعَمْرٍو بِتَكْمِلَةِ الرُّبُعِ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ. مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِتَكْمِلَةِ نِصْفِ مَالِهِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا ثُمُنَ جَمِيعِ الْمَالِ. طَرِيقُهُ أَنْ يُقَالَ: نِصْفُ مَالٍ نَصِيبٌ وَتَكْمِلَةٌ، وَالتَّكْمِلَةُ شَيْءٌ وَثُمُنُ جَمِيعِ الْمَالِ، تَدْفَعُ الشَّيْءَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، يَبْقَى بَعْدَ النِّصْفِ نَصِيبٌ وَثُمُنُ جَمِيعِ الْمَالِ، تَضُمُّهُمَا إِلَى النِّصْفِ الثَّانِي، يَحَصُلُ مَعَكَ خَمْسَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ وَنَصِيبٌ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، تُسْقِطُ نَصِيبًا بِنَصِيبٍ، يَبْقَى خَمْسَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ تَعْدِلُ نَصِيبَيْنِ، فَتَبْسُطُهُمَا أَثْمَانًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ. فَالْمَالُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ خَمْسَةٌ، تَأْخُذُ نِصْفَ الْمَالِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، تُسْقِطُ مِنْهُ النَّصِيبَ خَمْسَةً، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، تُسْقِطُ مِنْهَا ثُمُنَ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ اثْنَانِ، يَبْقَى وَاحِدٌ وَهُوَ التَّكْمِلَةُ، تُسْقِطُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِلْبَنِينَ.

وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ. سِتَّةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِتَكْمِلَةِ ثُلُثِ مَالِهِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا ثُمُنَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى ثُلُثُ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا، فَهُوَ التَّكْمِلَةُ، يَبْقَى مَعَكَ ثُلُثَا مَالٍ وَنَصِيبٌ، تَسْتَرْجِعُ مِنَ التَّكْمِلَةِ ثُمُنَهُ، وَيَنْتَظِمُ الْحِسَابُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِذِكْرِ الثُّلُثِ وَالثُّمُنِ. فَالَّذِي مَعَكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَنَصِيبٌ وَثُمُنُ ذَلِكَ وَهُوَ اثْنَانِ وَثُمُنُ نَصِيبٍ، تَزِيدُهُ عَلَيْهِ، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ وَنَصِيبًا وَثُمُنُ نَصِيبٍ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ سِتَّةٌ، تُسْقِطُ الْمِثْلَ بِالْمِثْلِ، يَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ [جُزْءًا] مِنْ مَالٍ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ وَسَبْعَةَ أَثْمَانِ نَصِيبٍ، تَبْسُطُهَا بِأَجْزَاءِ الْمَالِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ مِائَةٌ وَسَبْعَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَهُوَ التَّكْمِلَةُ، فَإِذَا أَسْقَطْنَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، بَقِيَ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ ثَمَنُهَا اثْنَا عَشَرَ، تُسْقِطُهُ مِنَ التَّكْمِلَةِ، يَبْقَى تِسْعَةٌ، فَهِيَ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمُوصَى لَهُ، يَبْقَى مِائَةٌ وَثَمَانِيَةُ لِلْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنْ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ. سَبْعَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِتَكْمِلَةِ رُبُعِ مَالِهِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا ثُلُثَ مَا تَبَقَّى مِنَ الثُّلُثِ، تَأْخُذُ رُبُعَ مَالٍ، وَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى رُبُعُ مَالٍ سِوَى النَّصِيبِ وَهُوَ التَّكْمِلَةُ، تُلْقِيهَا مِنَ الثُّلُثِ، يَبْقَى نِصْفُ سُدُسِ مَالٍ وَنَصِيبٌ، تُلْقِي ثُلُثَ ذَلِكَ مِنَ التَّكْمِلَةِ، وَيَنْتَظِمُ الْحِسَابُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ لِنِصْفِ سُدُسِهِ ثُلُثٌ، فَإِذَا الَّذِي مَعَكَ مِنَ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ وَنَصِيبٌ، تَسْتَرْجِعُ ثَلَاثَةً مِنَ التَّكْمِلَةِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَثُلْثُ نَصِيبٍ، يَبْقَى لِلْوَصِيَّةِ ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا وَثُلُثَ نَصِيبٍ، تُسْقِطُهَا مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ وَنَصِيبٌ وَثُلُثُ نَصِيبٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ سَبْعَةَ أَنْصِبَاءَ، تُسْقِطُ الْمِثْلَ بِالْمِثْلِ، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ

جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ فِي مُعَادَلَةِ خَمْسَةِ أَنْصِبَاءَ وَثُلُثَيْ نَصِيبٍ، تَبْسُطُهَا بِأَجْزَاءِ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ. فَالْمَالُ مِائَتَانِ وَأَرْبَعَةٌ، وَالنَّصِيبُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، تَأْخُذُ رُبُعَ الْمَالِ وَهُوَ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ، وَتُسْقِطُ مِنْهُ النَّصِيبَ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ هِيَ التَّكْمِلَةُ، تُلْقِيهَا مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، تَسْتَرْجِعُ ثُلُثَهَا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ التَّكْمِلَةِ، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهِيَ الْوَصِيَّةُ، تُسْقِطُهَا مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَتِسْعُونَ لِلْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ تَكْمِلَةٍ أُخْرَى. ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِتَكْمِلَةِ نِصْفِ مَالِهِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا تَكْمِلَةَ ثُلُثِ مَالِهِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ، تَأْخُذُ نِصْفَ مَالٍ، وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا، فَالْبَاقِي هُوَ تَكْمِلَةُ النِّصْفِ، وَتَأْخُذُ ثُلُثَ مَالٍ وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا، فَالْبَاقِي هُوَ تَكْمِلَةُ الثُّلُثِ، تُسْقِطُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثِ مِنْ تَكْمِلَةِ النِّصْفِ، يَبْقَى سُدُسُ مَالٍ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، فَالْوَصِيَّةُ إذًا بِسُدُسِ الْمَالِ، يَبْقَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَالٍ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَتَبْسُطُهَا أَسْدَاسًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ خَمْسَةٌ، تَأْخُذُ نِصْفَ الْمَالِ تِسْعَةً، وَتُسْقِطُ مِنْهُ النَّصِيبَ، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَهِيَ تَكْمِلَةُ النِّصْفِ، ثُمَّ تَأْخُذُ ثُلُثَهُ وَهُوَ سِتَّةٌ، وَتُسْقِطُ مِنْهَا نَصِيبًا، يَبْقَى وَاحِدٌ فَهُوَ تَكْمِلَةُ الثُّلُثِ، تُسْقِطُ وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعَةٍ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَهِيَ الْوَصِيَّةُ، تُسْقِطُهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِلْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ وَبِجُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ. خَمْسَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِتَكْمِلَةِ رُبُعِ مَالِهِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِثَالِثٍ بِثُلُثِ مَا تَبَقَّى بَعْدَ ذَلِكَ، تَأْخُذُ رُبُعَ مَالٍ، وَتُنْقِصُ مِنْهُ نَصِيبًا، فَالْبَاقِي هُوَ تَكْمِلَةُ الرُّبُعِ، تَدْفَعُهُ إِلَى عَمْرٍو، وَتَدْفَعُ النَّصِيبَ إِلَى زَيْدٍ، فَانْصَرَفَ الرُّبُعُ إِلَى الْوَصِيَّتَيْنِ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، تَدْفَعُ مِنْهُ وَاحِدًا إِلَى الثَّالِثِ، يَبْقَى رُبُعَانِ يَعْدِلَانِ أَنْصِبَاءَ

الْبَنِينَ وَهِيَ خَمْسَةٌ، تَبْسُطُهَا أَرْبَاعًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ عِشْرُونَ، وَالنَّصِيبُ اثْنَانِ، تَأْخُذُ رُبُعَ الْمَالِ خَمْسَةً، تَدْفَعُ مِنْهَا اثْنَيْنِ إِلَى زَيْدٍ، وَثَلَاثَةً إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُلُثُهَا [خَمْسَةٌ] لِلثَّالِثِ، وَالْبَاقِي لِلْبَنِينَ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ وَبِجُزْءٍ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ. خَمْسَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِتَكْمِلَة الرُّبُعِ بِالنَّصِيبِ، وَلِثَالِثٍ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ الْوَصِيَّتَيْنِ، يَحْتَاجُ إِلَى مَالٍ لَهُ رُبُعٌ وَثُلُثٌ، وَالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ إِسْقَاطِ الرُّبُع ثُلُثٌ، وَأَقَلُّهُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، تَأْخُذُ رُبُعَهُ وَهُوَ تِسْعَةٌ، فَتَصْرِفُهَا إِلَى الْوَصِيَّةِ بِالتَّكْمِلَةِ وَالنَّصِيبِ، وَإِذَا أَسْقَطْتَ تِسْعَةً مِنَ الثُّلُثِ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، تَصْرِفُ مِنْهَا وَاحِدًا إِلَى الثَّالِثِ، يَبْقَى اثْنَانِ، تَزِيدُهُمَا عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، تَبْلُغُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ خَمْسَةٌ، تَبْسُطُهَا بِأَجْزَاءِ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، وَالنَّصِيبُ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ سِتُّونَ، فَتُلْقِي مِنْهُ رُبُعَهُ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ بِالْوَصِيَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، سِتَّةً وَعِشْرِينَ بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ، وَالْبَاقِيَ بِالْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى، يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ خَمْسَةَ عَشَرَ، نَصْرِفُ ثُلُثَهَا إِلَى الْوَصِيَّةِ الثَّالِثَةِ، يَبْقَى عَشَرَةٌ، تَزِيدُهَا عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، تَبْلُغُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ لِلْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ مُسْتَثْنًى مِنْهُ جُزْءٌ مِمَّا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ. أَرْبَعَةُ بَنِينَ، فَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا خُمُسَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ، وَتَصْرِفُهُ إِلَيْهِمَا بِالنَّصِيبِ وَالتَّكْمِلَةِ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنَ النَّصِيبِ خُمُسَ الْبَاقِي، وَاجْعَلِ الْمَالَ خَمْسَةَ عَشَرَ لِيَكُونَ لِلْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثِ خُمُسٌ، فَالثُّلُثُ الْمُخْرَجُ بِالنَّصِيبِ وَالتَّكْمِلَةِ إِذًا خَمْسَةٌ، تَسْتَرْجِعُ مِنَ النَّصِيبِ خُمُسَ الْبَاقِي وَهُوَ اثْنَانِ، فَالْحَاصِلُ اثْنَا عَشَرَ جُزْءًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ، وَذَلِكَ

فصل في الوصية بالنصيب مستثنى من التكملة

يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، تَبْسُطُهَا بِأَجْزَاءِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ سِتُّونَ، وَالنَّصِيبُ اثْنَا عَشَرَ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ عِشْرُونَ، تُلْقِي مِنْهُ النَّصِيبَ اثْنَيْ عَشَرَ، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ هِيَ التَّكْمِلَةُ، تَدْفَعُهَا إِلَى زَيْدٍ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنَ النَّصِيبِ خُمُسَ الْبَاقِي وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، يَبْقَى لِعَمْرٍو أَرْبَعَةٌ، فَالْوَصِيَّتَانِ جَمِيعًا اثْنَا عَشَرَ، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ لِلْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ اثْنَا عَشَرَ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالتَّكْمِلَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ مُسْتَثْنًى مِنْهُ جُزْءٌ مِمَّا تَبَقَّى مِنْ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ. خَمْسَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِتَكْمِلَةِ الرُّبُعِ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا ثُلُثَ مَا تَبَقَّى مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ ذَلِكَ، يَحْتَاجُ إِلَى مَالٍ لَهُ رُبُعٌ وَثُلُثٌ، وَلِلْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ إِسْقَاطِ الرُّبُعِ ثُلُثٌ، وَأَقَلُّهُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، تَأْخُذُ رُبُعَهُ وَهُوَ تِسْعَةٌ، فَتَصْرِفُهَا فِي الْوَصِيَّتَيْنِ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنَ النَّصِيبِ ثُلُثَ مَا تَبَقَّى مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَتَزِيدُهُ عَلَى الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً، تَزِيدُهَا عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، تَبْلُغُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ خَمْسَةٌ، تَبْسُطُهَا بِأَجْزَاءِ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ. فَالْمَالُ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، وَالنَّصِيبُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، يَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَهِيَ التَّكْمِلَةُ، ثُمَّ تُلْقِي الرُّبُعَ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ سِتُّونَ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، تُسْقِطُهَا ثُلُثَهَا مِنَ النَّصِيبِ، يَبْقَى لِعَمْرٍو ثَلَاثَةً وَعِشْرُونَ، وَالْوَصِيَّتَانِ مَعًا أَرْبَعُونَ، يَبْقَى مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ لِلْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ مُسْتَثْنًى مِنَ التَّكْمِلَةِ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا تَكْمِلَةَ ثُلُثِ مَالِهِ بِالنَّصِيبِ، تَجْعَلُ

فصل في الوصايا المتعرضة للجذور والكعاب

ثُلُثَ الْمَالِ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، وَتَجْعَلُ النَّصِيبَ دِينَارًا، تَدْفَعُهُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ دِرْهَمًا ; لِأَنَّ التَّكْمِلَةَ دِرْهَمٌ، يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ دِرْهَمَانِ، تَزِيدُهُمَا عَلَى الثُّلُثَيْنِ، تَبْلُغُ دِينَارَيْنِ وَأَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، تُسْقِطُ الْمِثْلَ بِالْمِثْلِ، يَبْقَى أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فِي مُعَادَلَةِ دِينَارٍ، فَتَقْلِبُ الِاسْمَ وَتَقُولُ: الدِّينَارُ أَرْبَعَةٌ، وَالدَّرَاهِمُ وَاحِدٌ، فَالثُّلُثُ خَمْسَةٌ، وَالْمَالُ خَمْسَةَ عَشَرَ. تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ خَمْسَةً، تَدْفَعُ مِنْهُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ نَصِيبًا وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَيُسْتَرْجَعُ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّكْمِلَةُ، يَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ، تُسْقِطُهَا مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ، لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ. فَصْلٌ فِي الْوَصَايَا الْمُتَعَرِّضَةِ لِلْجُذُورِ وَالْكِعَابِ الْجِذْرُ: كُلُّ مَضْرُوبٍ فِي نَفْسِهِ، وَالْحَاصِلُ مِنَ الضَّرْبِ يُسَمَّى: مَالًا وَمَجْذُورًا وَمُرَبَّعًا. وَالْكَعْبُ: كُلُّ مَا ضُرِبَ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ ضُرِبَ مَبْلَغُهُ فِيهِ، وَالْحَاصِلُ مِنَ الضَّرْبَيْنِ يُسَمَّى مُكَعَّبًا، فَالْوَاحِدُ جِذْرُهُ وَكَعْبُهُ الْوَاحِدُ. وَالْأَعْدَادُ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَهُ جِذْرٌ صَحِيحٌ يُنْطَقُ بِهِ، كَالْأَرْبَعَةِ، جِذْرُهَا اثْنَانِ، وَالتِّسْعَةُ، جِذْرُهَا ثَلَاثَةٌ، وَالْمِائَةُ جِذْرُهَا عَشَرَةٌ. وَالثَّانِي: مَا لَيْسَ لَهُ جِذْرٌ يُنْطَقُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ جِذْرُهُ بِالتَّقْرِيبِ، كَالْعَشَرَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَيُقَالُ لَهُ: الْأَصَمَّ. وَكَذَلِكَ مِنَ الْأَعْدَادِ مَا لَهُ كَعْبٌ يُنْطَقُ بِهِ كَالثَّمَانِيَةِ، كَعْبُهَا اثْنَانِ، وَالسَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ، كَعْبُهَا ثَلَاثَةٌ. وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ كَعْبٌ يُنْطَقُ بِهِ، كَالْعَشَرَةِ وَالْمِائَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ كَعْبُهُ بِالتَّقْرِيبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَدَدُ مَنْطُوقًا بِجِذْرِهِ وَكَعْبِهِ كَالْأَرْبَعَةِ وَالسِّتِّينَ، جِذْرُهَا ثَمَانِيَةٌ، وَكَعْبُهَا أَرْبَعَةٌ. وَقَدْ يَكُونُ أَصَمَّ فِي الْجِذْرِ دُونَ الْكَعْبِ، كَالسَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ.

أَوْ فِي كَعْبٍ دُونَ الْجِذْرِ، كَالْأَرْبَعَةِ وَالتِّسْعَةِ، أَوْ فِيهِمَا، كَالْعَشَرَةِ. إِذَا عُرِفَ ذَلِكَ، فَتَعَرُّضُ الْوَصِيَّةِ لِلْجِذْرِ وَالْكَعْبِ بِفَرْضٍ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِجِذْرِ الْمَالِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ وَأَبُو مَنْصُورٍ: تُفْرَضُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ عَدَدٍ مَجْذُورٍ إِذَا أُسْقِطَ مِنْهُ جِذْرُهُ انْقَسَمَ الْبَاقِي صَحِيحًا عَلَى سِهَامِ الْوَرَثَةِ. فَإِذَا أَوْصَى بِجِذْرِ مَالِهِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، فَإِنْ جَعَلْتَ الْمَالَ تِسْعَةً، فَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي لِلْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ. وَإِنْ جَعَلْتَهُ سِتَّةَ عَشَرَ، فَلِلْمُوصَى لَهُ أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي لِلْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ. وَلَوْ أَوْصَى بِكَعْبِ مَالِهِ - وَالْوَرَثَةُ هَؤُلَاءِ - يَجْعَلُ الْمَالَ عَدَدًا مُكَعَّبًا، فَإِذَا أُسْقِطَ مِنْهُ كَعْبَهُ انْقَسَمَ الْبَاقِي عَلَى سِهَامِ الْوَرَثَةِ بِلَا كَسْرٍ. فَإِنْ جَعَلْتَ الْمَالَ ثَمَانِيَةً، فَاثْنَانِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَالْبَاقِي لِلْبَنِينَ. وَإِنْ جَعَلْتَهُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، فَثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَالْبَاقِي لِلْبَنِينَ. هَذَا كَلَامُ الْأُسْتَاذِ، وَتَعَجَّبَ الْإِمَامُ مِنْ إِرْسَالِهِ الْكَلَامَ هَكَذَا، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَالْفَرْضُ كَيْفَ شَاءَ الْفَارِضُ، فَإِنَّ الْأَقْدَارَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَدَدِ الْمَفْرُوضِ. فَإِذَا كَانَ الْمَالُ تِسْعَةً، فَالْجِذْرُ ثَلَاثَةً. وَإِذَا كَانَ سِتَّةَ عَشَرَ، فَالْجِذْرُ أَرْبَعَةٌ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مَجْذُورٍ، إِلَّا أَنَّ مِنَ الْأَعْدَادِ مَا يُنْطَقُ بِجِذْرِهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُنْطَقُ، كَمَا سَبَقَ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ إِلَّا جِذْرُ الْمَالِ، فَلِمَ حَمَلَ عَلَى مَجْذُورٍ صَحِيحٍ؟ وَلِمَ شَرَطَ أَنْ يَنْقَسِمَ الْبَاقِي صَحِيحًا عَلَى الْوَرَثَةِ؟ فَإِذًا كَلَامُ الْأُسْتَاذِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا قَيَّدَ الْمُوصِي وَصِيَّتَهُ بِمَا يَقْتَضِي الْحَمْلَ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْأَعْدَادِ الْمَجْذُورَةِ. فَإِذَا قَالَ: نَزِّلُوا مَالِي عَلَى أَوَّلِ مَجْذُورٍ صَحِيحٍ إِذَا طُرِحَ جِذْرُهُ انْقَسَمَ الْبَاقِي عَلَى سِهَامِ وَرَثَتِي بِلَا كَسْرٍ، تَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تِسْعَةٍ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ. وَإِنْ عَيَّنَ مَرْتَبَةً أُخْرَى، تَعَيَّنَتْ. قَالَ الْإِمَامُ: فَإِنْ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ بِالْجِذْرِ، وَلَمْ يُقَيِّدْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ أَرَادَ بِالْجِذْرِ مَا يُرِيدُهُ الْحُسَّابُ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ، أَوْ وَزْنٍ، أَوْ ذَرْعٍ، كَالْأَرْضِ،

أَوْ عَدَدٍ، كَالْجَوْزِ، نُزِّلَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ جِذْرُهُ مِمَّا يُنْطَقُ بِهِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَالْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ يُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَالْقَدْرُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، يُفَصَّلُ أَمْرُهُ بِالتَّرَاضِي. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ مُقَدَّرًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَعَبْدٍ وَجَارِيَةٍ، قُوِّمَ وَدُفِعَ جِذْرُ الْقِيمَةِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِجِذْرِ النَّصِيبِ. فَلَوْ أَوْصَى وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ بِجِذْرِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: يُجْعَلُ نَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ عَدَدًا مَجْذُورًا، ثُمَّ يُجْمَعُ أَنْصِبَاءُ الْبَنِينَ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا جِذْرُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَمَا بَلَغَ صَحَّتْ مِنْهُ الْقِسْمَةُ. فَإِنْ جَعَلْنَا نَصِيبَ كُلِّ ابْنٍ وَاحِدًا، فَأَنْصِبَاؤُهُمْ ثَلَاثَةٌ، تَزِيدُ عَلَيْهَا وَاحِدًا، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً تَصِحُّ مِنْهَا الْقِسْمَةُ. وَإِنَّ جَعَلْنَا النَّصِيبَ أَرْبَعَةً، فَأَنْصِبَاؤُهُمِ اثْنَا عَشَرَ، تَزِيدُ عَلَيْهَا اثْنَيْنِ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ تَصِحُّ مِنْهَا الْقِسْمَةُ. وَلَوْ أَوْصَى بِجِذْرَيْ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَفَرَضْنَا النَّصِيبَ أَرْبَعَةً، فَأَنْصِبَاؤُهُمِ اثْنَا عَشَرَ، تَزِيدُ عَلَيْهَا جِذْرَيِ النَّصِيبِ، تَبْلُغُ سِتَّةَ عَشَرَ مِنْهَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ. وَلَوْ أَوْصَى بِكَعْبِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، جَعَلْنَا النَّصِيبَ مُكَعَّبًا، وَجَمَعْنَا الْأَنْصِبَاءَ، وَزِدْنَا عَلَيْهَا كَعْبَ نَصِيبٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلْيَكُنْ هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إِذَا تَقَيَّدَتِ الْوَصِيَّةُ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ فِيمَا إِذَا قَالَ السَّائِلُ: كَيْفَ يُصَوَّرُ عَدَدٌ تَصِحُّ مِنْهُ الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ وُجُوهٌ. مِنْهَا: كَيْتَ وَكَيْتَ. أَمَّا إِذَا أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ بِجِذْرِ النَّصِيبِ، فَذَكَرَ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي حِصَّةِ ابْنٍ مِنَ التَّرِكَةِ، فَيُؤْخَذُ جِذْرُهُ مَنْطُوقًا بِهِ أَوْ أَصَمَّ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي جِذْرِ جَمِيعِ الْمَالِ، فَيُزَادُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ، فَيُؤْخَذُ جِذْرُهُ، وَيُزَادُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ. وَعَلَى هَذَا، فَنَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ هَنَا وَاحِدٌ، فَيُزَادُ عَلَى السِّهَامِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ، وَيَصِيرُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِنَصِيبِ أَحَدِهِمْ.

وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِجِذْرِ النَّصِيبِ وَجِذْرِ الْمَالِ مَعًا، فَلَوْ أَوْصَى وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ بِجِذْرِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ لِزَيْدٍ، وَأَوْصَى لِعَمْرٍو بِجِذْرِ جَمِيعِ الْمَالِ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَتْ وَصِيَّةُ زَيْدٍ جِذْرَ نَصِيبِ ابْنٍ، فَنَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ مَالٌ، ثُمَّ يُجْعَلُ الْمَالُ أَمْوَالًا لَهَا جُذُورٌ صَحِيحَةٌ. فَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهَا أَرْبَعَةَ أَمْوَالٍ، فَتَكُونُ وَصِيَّةُ عَمْرٍو جِذْرَيْنِ، كَمَا أَنَّ جِذْرَ أَرْبَعَةٍ مِنَ الْعَدَدِ اثْنَانِ، فَتَكُونُ الْوَصِيَّتَانِ ثَلَاثَةَ أَجْذَارٍ، وَتُسْقِطُهَا مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَمْوَالٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَجْذَارٍ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَمْوَالٍ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَأَرْبَعَةُ أَمْوَالٍ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَمْوَالٍ وَثَلَاثَةَ أَجْذارٍ، تُسْقِطُ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ، فَمَالٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَجْذَارٍ، فَالْجِذْرُ ثَلَاثَةٌ، وَالْمَالُ تِسْعَةٌ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: مَالٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَجْذَارِهِ، وَحِينَئِذٍ فَالتَّرِكَةُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ؛ لِأَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَمْوَالٍ، وَنَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ تِسْعَةٌ، يَأْخُذُ زَيْدٌ جِذْرَ النَّصِيبِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَعَمْرٌو جِذْرَ الْمَالِ وَهُوَ سِتَّةٌ، يَبْقَى سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْبَنِينَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَضْعِيَّةٌ، وَطَرِيقُ تَطْبِيقِهَا عَلَى الْفِقْهِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالْجِذْرِ وَالنَّصِيبِ. فَإِذَا أَوْصَى وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ لِزَيْدٍ، وَلِعَمْرٍو بِجِذْرِ الْمَالِ، يُقَدَّرُ كَأَنَّ الْبَنِينَ أَرْبَعَةٌ وَأَوْصَى بِجِذْرِ الْمَالِ وَحْدَهُ، وَقَدْ بَانَ طَرِيقُهُ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالْجَزَاءِ وَالنَّصِيبُ مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْجِذْرِ مِنْهَا. مِثَالُهُ: أَوْصَى وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ بِثُلُثِ مَالِهِ إِلَّا جِذْرَ جَمِيعِ الْمَالِ، تَدْفَعُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْمَالِ، وَتَسْتَرْجِعُ جِذْرًا، فَيَكُونُ مَعَكَ ثُلُثَا مَالٍ وَجِذْرٌ تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَتَجْعَلُ الْمَالَ عَدَدًا لَهُ ثُلُثٌ صَحِيحٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَنْقَسِمَ ثُلُثَاهُ مَزِيدًا عَلَيْهِ جِذْرَهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، فَتَدْفَعُ ثُلُثَهَا إِلَى الْمُوصَى لَهُ، وَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ جِذْرَ الْمَالِ وَهُوَ سِتَّةٌ، يَبْقَى عِنْدَهُ سِتَّةٌ، فَقَدْ أَخَذَ ثُلُثَ الْمَالِ إِلَّا جِذْرَ [الْمَالِ] ،

يَبْقَى ثَلَاثُونَ لِلْبَنِينَ. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا جِذْرَ جَمِيعِ الْمَالِ، فَخُذْ مَالًا، وَأَسْقِطْ مِنْهُ نَصِيبًا، وَاسْتَرْجِعْ مِنَ النَّصِيبِ جِذْرَ الْمَالِ، يَبْقَى مَالٌ وَجِذْرٌ إِلَّا نَصِيبًا تَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْبَنِينَ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَمَالٌ وَجِذْرٌ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ، فَتَجْعَلُ الْمَالَ عَدَدًا مَجْذُورًا إِذَا زِيدَ عَلَيْهِ جِذْرُهُ انْقَسَمَ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَلْيَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ، إِذَا زِيدَ عَلَيْهِ جِذْرُهُ كَانَ عِشْرِينَ، إِذَا قُسِّمَ عَلَى أَرْبَعَةٍ، خَرَجَ مِنَ الْقِسْمَةِ خَمْسَةٌ، فَإِذَا نَقَصْتَ مِنَ النَّصِيبِ جِذْرُ الْمَالِ، بَقِيَ وَاحِدٌ تَدْفَعُهُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِلْبَنِينَ. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا جِذْرَ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَالنَّصِيبُ عَدَدٌ مَجْذُورٌ. فَإِنْ جَعَلْتَهُ أَرْبَعَةً، فَالْوَصِيَّةُ اثْنَانِ، وَالْأَنْصِبَاءُ اثْنَا عَشَرَ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، إِذَا دَفَعْتَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ اثْنَيْنِ فَقَدْ أَخَذَ مِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا جِذْرَ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ تِسْعَةً، فَالْأَنْصِبَاءُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالْوَصِيَّةُ سِتَّةٌ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالْجُذُورِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْجُذُورِ. مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، أَوْصَى لِزَيْدٍ بِجِذْرِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِجِذْرِ وَصِيَّةِ زَيْدٍ، وَلِبَكْرٍ بِجِذْرِ وَصِيَّةِ عَمْرٍو، فَاجْعَلْ وَصِيَّةَ بَكْرٍ مَا شِئْتَ مِنَ الْأَعْدَادِ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ اثْنَيْنِ، فَوَصِيَّةُ عَمْرٍو أَرْبَعَةٌ، وَوَصِيَّةُ زَيْدٍ سِتَّةَ عَشَرَ، وَنَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ مِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ سَبْعُمِائَةٍ وَتِسْعُونَ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْجِذْرِ وَالتَّكْمِلَةِ. مِثَالُهُ: أَوْصَى بِتَكْمِلَةِ ثُلُثِ مَالِهِ بِجِذْرِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، تَجْعَلُ ثُلُثَ الْمَالِ مَالًا وَجِذْرًا، وَتَدْفَعُ الْمَالَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، يَبْقَى جِذْرُهُ، تَزِيدُهُ عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، يَبْلُغُ مَالَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَجْذَارٍ وَذَلِكَ يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْبَنِينَ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَمْوَالٍ، فَتُسْقِطُ مَالَيْنِ بِمَالَيْنِ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَجْذَارٍ فِي مُعَادَلَةِ مَالٍ، فَالْجِذْرُ ثَلَاثَةٌ، وَالْمَالُ تِسْعَةٌ، فَثُلُثُ الْمَالِ

فصل في الوصايا المتعرضة لمقدر من المال من درهم ودينار وغيرهما

اثْنَا عَشَرَ، وَالْوَصِيَّةُ تِسْعَةٌ، تُسْقِطُهَا مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْبَنِينَ، وَقَدْ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْمَالِ إِلَّا جِذْرَ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. فَصْلٌ فِي الْوَصَايَا الْمُتَعَرِّضَةِ لِمُقَدَّرٍ مِنَ الْمَالِ مِنْ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالنَّصِيبِ وَبِدِرْهَمٍ. مِثَالُهُ: أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَبِدِرْهَمٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: اجْعَلِ التَّرِكَةَ أَيَّ عَدَدٍ شِئْتَ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ إِذَا عَزَلْتَ مِنْهَا دِرْهَمًا وَقَسَّمْتَ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ النَّصِيبُ الْوَاحِدُ مَعَ الدِّرْهَمِ مِثْلَ [ثُلُثِ] التَّرِكَةِ أَوْ أَقَلَّ. فَإِنْ جَعَلْتَ التَّرِكَةَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَأَسْقِطْ مِنْهَا دِرْهَمًا، يَبْقَى عَشَرَةٌ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْمَانِ. وَإِنْ جَعَلَتْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَأَسْقِطْ دِرْهَمًا، وَاقْسِمِ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ، تَخْرُجُ الْقِسْمَةُ اثْنَانِ وَخُمُسَانِ، فَتَرُدَّ عَلَى الْخَارِجِ الدِّرْهَمَ الْمُسْقَطَ، يَكُونُ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ لِلْمُوصَى لَهُ. فَإِنْ أَرَدْتَ زَوَالَ الْكَسْرِ، فَأَسْقِطِ الدِّرْهَمَ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَاضْرِبِ الْبَاقِيَ بِخَمْسَةٍ، تَبْلُغُ سِتِّينَ، لِكُلِّ ابْنٍ اثْنَا عَشَرَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ دِرْهَمٍ. وَاسْتَدْرَكَ الْإِمَامُ فَقَالَ: الْمَدْفُوعُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْدَادِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْفَتْوَى لَا تَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَلِيلِ، فَلْيُحْمَلْ مَا قَالَهُ الْحُسَّابُ عَلَى مِثْلِ مَا سَبَقَ فِي الْمَاضِي. أَمَّا إِذَا أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ، فَتُنَزَّلُ عَلَى مَا يُوجَدُ فِي التَّرِكَةِ، تَعْزِلُ مِنْهَا دِرْهَمًا، ثُمَّ تُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْمُوصَى لَهُ. ثُمَّ إِنِ انْحَصَرَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ، نَفَذَتْ، وَإِلَّا، فَتُعْتَبَرُ الْإِجَازَةُ. وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي أَكْثَرِ أَنْوَاعِ الْفَصْلِ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالنَّصِيبِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ دِرْهَمٍ. فَإِذَا أَوْصَى وَلَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا دِرْهَمًا، فَإِنْ جَعَلْتَ لِلْمُوصَى لَهُ دِرْهَمَيْنِ، فَاجْعَلْ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةً،

وَاجْعَلِ التَّرِكَةَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ. وَإِنْ جَعَلْتَ لَهُ ثَلَاثَةً، فَاجْعَلْ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةً، وَاجْعَلِ التَّرِكَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ وَبِدِرْهَمٍ. فَإِذَا أَوْصَى وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ بِسُدُسِ مَالِهِ وَبِدِرْهَمٍ، فَيُخْرَجُ سُدُسُ التَّرِكَةِ وَدِرْهَمٌ، وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ. وَبِطَرِيقِ الْجَبْرِ، تَأْخُذُ مَالًا، وَتُسْقِطُ مِنْهُ سُدُسَهُ وَدِرْهَمًا، يَبْقَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَالٍ إِلَّا دِرْهَمًا تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، [فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَالِ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ] وَدِرْهَمًا، فَتُكَمِّلُ أَجْزَاءَ الْمَالِ، بِأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهَا مِثْلَ خُمُسِهَا، وَتَزِيدَ عَلَى الْعَدِيلِ خَمْسَةً، فَمَالٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ نَصِيبٍ وَدِرْهَمًا وَخُمُسَ دِرْهَمٍ، فَاضْرِبِ الْأَنْصِبَاءَ الثَّلَاثَةَ وَأَخْمَاسَ النَّصِيبِ فِي عَدَدٍ، يَبْلُغُ الْحَاصِلُ مِنْهُ مَزِيدًا عَلَيْهِ الدِّرْهَمَ وَالْخُمُسَ عَدَدًا صَحِيحًا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَضْرِبَهَا فِي ثَلَاثَةٍ، فَيَحْصُلُ عَشَرَةَ دَرَاهِمٍ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ دِرْهَمٍ، إِذَا زِدْت عَلَيْهَا الدِّرْهَمَ وَالْخُمُسَ، بَلَغَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا مِنْهَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ، لِصَاحِبِ السُّدُسِ وَالدِّرْهَمِ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ. وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مَعَ اسْتِثْنَاءِ دِرْهَمٍ. فَإِذَا أَوْصَى وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ بِسُدُسِ مَالِهِ إِلَّا دِرْهَمًا، فَخُذْ مَالًا، وَأَسْقِطْ مِنْهُ سُدُسَهُ، وَاسْتَرْجِعْ مِنَ السُّدُسِ دِرْهَمًا، يَحْصُلُ مَعَكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَالٍ وَدِرْهَمٌ، تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَتُكَمِّلُ أَجْزَاءَ الْمَالِ، بِأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهَا خُمُسَهَا، وَتَزِيدَ الْخُمُسَ عَلَى كُلِّ مَا فِي الْمُعَادَلَةِ، فَمَالٌ وَدِرْهَمٌ وَخُمُسُ دِرْهَمٍ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ نَصِيبٍ، فَتَضْرِبُ هَذِهِ الْأَنْصِبَاءَ وَالْأَخْمَاسَ فِي عَدَدٍ إِذَا نَقَصَ مِنَ الْحَاصِلِ مِنَ الضَّرْبِ دِرْهَمٌ وَخُمُسٌ كَانَ الْبَاقِي عَدَدًا صَحِيحًا وَهُوَ سَبْعَةٌ، فَإِذَا ضَرَبْتَ سَبْعَةً فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثَةِ أَخْمَاسٍ، حَصَلَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَخُمُسٌ، فَإِذَا نَقَصَ مِنْهَا دِرْهَمٌ وَخُمُسٌ، بَقِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ، لِلْمُوصَى لَهُ سُدُسُهَا، يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ دِرْهَمٌ، يَبْقَى أَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِلْبَنِينَ.

وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ بِالنَّصِيبِ وَبِجُزْءٍ وَبِدِرْهَمٍ أَوْ دَرَاهِمَ، أَوْ مَعَ اسْتِثْنَاءِ دِرْهَمٍ أَوْ دَرَاهِمَ. مِثَالُهُ: خَمْسَةُ [بَنِينَ] ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَدِرْهَمٍ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ وَدِرْهَمٍ، تَأْخُذُ ثُلُثَ مَالٍ، وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا وَدِرْهَمًا، يَبْقَى ثُلُثُ مَالٍ إِلَّا نَصِيبًا وَدِرْهَمًا، تُسْقِطُ لِعَمْرٍو مِنْ هَذَا الْبَاقِي ثُلْثَهُ وَدِرْهَمًا، يَبْقَى تُسُعَا مَالٍ إِلَّا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ وَإِلَّا دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، تَزِيدُهُ عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، يَكُونُ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ إِلَّا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ، وَإِلَّا دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ تَعْدِلُ خَمْسَةَ أَنْصِبَاءَ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَثَمَانِيَةُ أَتْسَاعِ مَالٍ تَعْدِلُ خَمْسَةَ أَنْصِبَاءَ وَثُلُثَيْ نَصِيبٍ وَدِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، تُكَمِّلُ أَجْزَاءَ الْمَالِ، بِأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهَا ثُمُنَهَا، وَتَزِيدَ عَلَى كُلِّ مَا فِي الْمُعَادَلَةِ ثُمُنَهُ، فَمَالٌ يَعْدِلُ سِتَّةَ أَنْصِبَاءَ وَثَلَاثَةَ أَثْمَانِ نَصِيبٍ وَدِرْهَمًا وَسَبْعَةَ أَثْمَانِ دِرْهَمٍ، فَتَطَلَّبَ عَدَدًا إِذَا ضُرِبَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثَةِ أَثْمَانٍ يَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْهُ مَزِيدًا عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَسَبْعَةُ أَثْمَانٍ عَدَدًا صَحِيحًا، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ إِذَا ضَرَبْتَهَا بِسِتَّةٍ وَثَلَاثَةِ أَثْمَانٍ حَصَلَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ، إِذَا زِيدَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَسَبْعَةُ أَثْمَانٍ كَانَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، فَمِنْهُ الْقِسْمَةُ، وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةٌ، تَضْرِبُ الْأَنْصِبَاءَ فِي الثَّلَاثَةِ، تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ سَبْعَةٌ، فَتَدْفَعُ مِنْهَا إِلَى زَيْدٍ أَرْبَعَةً بِالنَّصِيبِ وَالدِّرْهَمِ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، تَدْفَعُ ثُلُثَهَا وَدِرْهَمًا إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى دِرْهَمٌ، تَزِيدُهُ عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ لِلْبَنِينَ الْخَمْسَةِ. مَسْأَلَةٌ: سِتَّةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِسُدُسِ مَالٍ إِلَّا دِرْهَمًا، تَأْخُذُ مَالًا، وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا لِوَصِيَّةِ زَيْدٍ، وَسُدُسَهُ إِلَّا دِرْهَمًا لِوَصِيَّةِ عَمْرٍو، يَبْقَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَالٍ وَدِرْهَمٍ إِلَّا نَصِيبًا تَعْدِلُ سِتَّةَ أَنْصِبَاءَ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، وَتُكَمِّلُ أَجْزَاءَ الْمَالِ بِزِيَادَةِ خُمُسِهَا، وَتَزِيدُ عَلَى مَا فِي الْمُعَادَلَةِ خَمْسَةٌ، فَمَالٌ وَدِرْهَمٌ وَخُمْسُ دِرْهَمٍ تَعْدِلُ ثَمَانِيَةَ أَنْصِبَاءَ وَخُمُسَيْ نَصِيبٍ، فَتَضْرِبُ الْأَنْصِبَاءَ الثَّمَانِيَةَ وَالْخَمْسِينَ فِي عَدَدٍ إِذَا نَقَصَ مِمَّا يَحْصُلُ مِنَ الضَّرْبِ دِرْهَمٌ وَخُمُسٌ كَانَ الْبَاقِي عَدَدًا صَحِيحًا،

فصل في نوادر الفصول المتقدمة

وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، إِذَا ضَرَبْتَهَا فِي ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ، حَصَلَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَخُمُسُ دِرْهَمٍ، إِذَا نَقَصَ مِنْهُ دِرْهَمٌ وَخُمُسٌ، بَقِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْهَا الْقِسْمَةُ، وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةٌ، فَتُعْطِي عَمْرًا السُّدُسَ إِلَّا دِرْهَمًا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَزَيْدًا ثَلَاثَةً، يَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلْبَنِينَ السِّتَّةِ. مَسْأَلَةٌ: ابْنَانِ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ مَا تَبَقَّى مِنَ النِّصْفِ وَبِدِرْهَمٍ، وَالتَّرِكَةُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، تَأْخُذُ نِصْفَ التَّرِكَةِ عَشَرَةً، وَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا، تُسْقِطُ مِنْ هَذَا الْبَاقِي نِصْفَهُ وَدِرْهَمًا لِعَمْرٍو وَهُوَ سِتَّةٌ إِلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ، يَبْقَى مِنَ الْعَشَرَةِ أَرْبَعَةٌ إِلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ، تَزِيدُهَا عَلَى نِصْفِ الْمَالِ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا إِلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ تَعْدِلُ نَصِيبَيِ الِابْنِ، تَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَأَرْبَعَةَ عَشَرَ تَعْدِلُ نَصِيبَيْنِ وَنِصْفَ نَصِيبٍ، تَبْسُطُهَا أَنْصَافًا، فَالْمَالُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالنَّصِيبُ خَمْسَةٌ، تُقَسِّمُ الْمَالَ عَلَى النَّصِيبِ، يَخْرُجُ مِنَ الْقِسْمَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ دِرْهَمٍ، فَهُوَ النَّصِيبُ، تَأْخُذُ عَشَرَةً، وَتَدْفَعُ إِلَى زَيْدٍ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ دِرْهَمٍ، يَبْقَى أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَخُمُسَانِ، تَدْفَعُهَا نِصْفَهَا وَدِرْهَمًا آخَرَ إِلَى عَمْرٍو، يَبْقَى مِنَ الْعَشَرَةِ دِرْهَمٌ وَخُمُسٌ، تَزِيدُهُ عَلَى الْعَشَرَةِ الْأُخْرَى، يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ وَخُمُسًا لِلِابْنَيْنِ، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ دِرْهَمٍ. فَصْلٌ فِي نَوَادِرِ الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَسْأَلَةٌ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ وَبِنْتٌ، أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ وَثُلُثِ مَا أَوْصَى بِهِ لِعَمْرٍو، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ وَرُبُعِ مَا أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ، فَتَجْعَلُ وَصِيَّةَ زَيْدٍ عَدَدًا لَهُ رُبُعٌ يَكُونُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَوَصِيَّةُ عَمْرٍو عَدَدًا لَهُ ثُلُثٌ، وَلْيَكُنْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَتَعْلَمُ أَنَّكَ إِذَا نَقَصْتَ مِنْ وَصِيَّةِ زَيْدٍ ثُلُثَ وَصِيَّةِ عَمْرٍو وَهُوَ دِرْهَمٌ،

بَقِيَ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ إِلَّا دِرْهَمًا، وَذَلِكَ نَصِيبُ الْبِنْتِ ; لِأَنَّ جُمْلَةَ وَصِيَّةِ زِيدٍ مِثْلُ نَصِيبِ الْبِنْتِ وَثُلُثِ وَصِيَّةِ عَمْرٍو، وَإِذَا نَقَصْتَ مِنْ وَصِيَّةِ عَمْرٍو رُبُعَ وَصِيَّةِ زَيْدٍ وَهُوَ دِينَارٌ، بَقِيَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا دِينَارًا وَهُوَ نَصِيبُ الِابْنِ، وَإِذَا بَانَ أَنَّ نَصِيبَ الْبِنْتِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ إِلَّا دِرْهَمًا، وَنَصِيبُ الِابْنِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا دِينَارًا، قَابَلْتَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَضَعَّفْتَ نَصِيبَ الْبِنْتِ لِيُعَادِلَ نَصِيبَ الِابْنِ، وَضِعْفُهُ ثَمَانِيَةُ دَنَانِيرَ إِلَّا دِرْهَمَيْنِ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إِلَّا دِينَارًا، فَتَجْبُرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ وَتُقَابِلُ، فَتِسْعَةُ دَنَانِيرَ تُقَابِلُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَالدِّينَارُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَالدِّرْهَمُ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَكَانَتْ وَصِيَّةُ زَيْدٍ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، فَهِيَ إذًا [عِشْرُونَ، وَوَصِيَّةُ عَمْرٍو ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، فَهِيَ إذًا] سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَنَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ ; لِأَنَّهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَهِيَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ إِلَّا دِينَارًا، وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَنَصِيبُ الْبِنْتِ أَحَدَ عَشَرَ ; لِأَنَّهُ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَهُوَ عِشْرُونَ إِلَّا دِرْهَمًا، وَهُوَ تِسْعَةٌ، فَوَصِيَّةُ زَيْدٍ مِثْلُ نَصِيبِ الْبِنْتِ وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ، وَمِثْلُ ثُلُثِ وَصِيَّةِ عَمْرٍو وَهُوَ تِسْعَةٌ، وَوَصِيَّةُ عَمْرٍو مِثْلُ نَصِيبِ ابْنٍ وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، مِثْلُ رُبُعِ وَصِيَّةِ زَيْدٍ، وَهُوَ خَمْسَةٌ. مَسْأَلَةٌ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا مَا انْتَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمْ بِالْوَصِيَّةِ، فَتَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةٌ، لَكَانَ لِكُلِّ ابْنٍ ثُلُثُ الْمَالِ وَقَدِ انْتَقَصَ مِنْهُ بِالْوَصِيَّةِ شَيْءٌ، فَثُلُثُ الْمَالِ نَصِيبٌ وَشَيْءٌ، وَالْمَالُ كُلُّهُ ثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ وَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ نَصِيبًا إِلَّا شَيْئًا، يَبْقَى نَصِيبَانِ وَأَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، تُسْقِطُ نَصِيبَيْنِ بِنَصِيبَيْنِ، يَبْقَى نَصِيبٌ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، وَالتَّرِكَةُ ثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ وَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، فَهِيَ إِذًا خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَالْوَصِيَّةُ نَصِيبٌ إِلَّا شَيْئًا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا لِلْبَنِينَ، وَقَدْ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا مَا انْتَقَصَ بِالْوَصِيَّةِ وَهُوَ

سَهْمٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ; لِأَنَّهُ لَوْلَا الْوَصِيَّةُ لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ. مَسْأَلَةٌ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا رُبُعَ مَا تَبَقَّى مِنْ مَالِهِ بَعْدَ الْوَصَايَا كُلِّهَا، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا خُمُسَ مَا تَبَقَّى مِنْ مَالِهِ بَعْدَ الْوَصَايَا، [وَلِثَالِثٍ بِمَثَلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا سُدُسَ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصَايَا] . فَتَعْلَمُ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصَايَا كُلِّهَا ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَوَصِيَّةٌ زَيْدٍ نَصِيبٌ إِلَّا رُبُعَ ثَلَاثَةِ أَنْصِبَاءَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ، تَبْقَى وَصِيَّتُهُ بِرُبُعِ نَصِيبٍ، وَوَصِيَّةُ عَمْرٍو بِنَصِيبٍ إِلَّا خُمُسَ - ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ - وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ نَصِيبٍ، تَبْقَى وَصِيَّتُهُ بِخُمُسَيْ نَصِيبٍ، وَوَصِيَّةُ الثَّالِثِ بِنَصِيبٍ إِلَّا سُدُسَ ثَلَاثَةِ أَنْصِبَاءَ وَهُوَ نِصْفُ نَصِيبٍ، فَجُمْلَةُ الْوَصَايَا رُبُعُ نَصِيبٍ وَخُمُسَا نَصِيبٍ وَنِصْفُ نَصِيبٍ، فَهِيَ نَصِيبٌ وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبٍ، فَيَبْقَى مَالٌ إِلَّا نَصِيبًا وَثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَمَالٌ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ وَثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبٍ، فَتَبْسُطُهَا بِأَجْزَاءٍ عِشْرِينَ، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمَالُ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ، وَالنَّصِيبُ عِشْرُونَ، تُلْقِي الْوَصَايَا كُلَّهَا وَهِيَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، يَبْقَى سِتُّونَ لِلْبَنِينَ، وَلِزَيْدٍ نَصِيبٌ إِلَّا رُبُعَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصَايَا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَلَهُ خَمْسَةٌ، وَلِعَمْرٍو نَصِيبٌ إِلَّا خُمُسَ مَا تَبَقَّى بَعْدَ الْوَصَايَا وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ، فَلَهُ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلثَّالِثِ نَصِيبٌ إِلَّا سُدُسَ مَا تَبَقَّى بَعْدَ الْوَصَايَا وَهُوَ عَشَرَةٌ، فَلَهُ عَشَرَةٌ. مَسْأَلَةٌ: خَمْسَةُ بَنِينَ، فَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا سُدُسَ مَا تَبَقَّى مِنْ مَالِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَإِلَّا ثُلُثَ مَا تَبَقَّى مِنْ ثُلُثِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَتَجْعَلُ الْوَصِيَّةَ شَيْئًا، وَالْبَاقِيَ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ، فَالْمَالُ شَيْءٌ وَثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ، فَتُسْقِطُ الْوَصِيَّةَ، وَتَأْخُذُ سُدُسَ الْبَاقِي وَهُوَ نِصْفُ نَصِيبٍ، فَتَحْفَظُهُ ثُمَّ تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ نَصِيبٌ وَثُلُثُ شَيْءٍ، فَتُسْقِطُ

مِنْهُ الْوَصِيَّةَ وَهِيَ شَيْءٌ، يَبْقَى نِصْفٌ إِلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ، تَأْخُذُ ثُلُثَهُ وَهُوَ ثُلُثُ نَصِيبٍ إِلَّا تُسُعَيْ شَيْءٍ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّصِيبِ، فَتَضُمُّهُ إِلَى نِصْفِ النَّصِيبِ الْمَحْفُوظِ، يَصِيرُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ نَصِيبٍ إِلَّا تُسُعَيْ شَيْءٍ [وَهُو الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّصِيبِ] ، فَتَضُمُّهُ إِلَى الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ شَيْءٌ لِيُكَمِّلَ النَّصِيبَ، فَيَبْلُغُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ نَصِيبٍ وَسَبْعَةَ أَتْسَاعِ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ نَصِيبًا، تُسْقِطُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ نَصِيبٍ بِمِثْلِهَا، يَبْقَى سُدُسُ نَصِيبٍ فِي مُعَادَلَةِ سَبْعَةِ أَتْسَاعِ شَيْءٍ، فَالنَّصِيبُ الْكَامِلُ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ، تَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالشَّيْءُ ثَلَاثَةٌ، وَالْمَالُ كُلُّهُ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ ; لِأَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ وَشَيْءٌ، تُلْقِي الْوَصِيَّةَ مِنَ الْمَالِ، يَبْقَى اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ، تَأْخُذُ سُدُسَهَا سَبْعَةً وَتَحْفَظُهَا، ثُمَّ تُلْقِي الْوَصِيَّةَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ أَيْضًا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ، تَأْخُذُ ثُلُثَهَا وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَتَضُمُّهَا إِلَى السَّبَعَةِ الْمَحْفُوظَةِ، تَبْلُغُ أَحَدَ عَشَرَ، تُلْقِيهَا مِنَ النَّصِيبِ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ. مَسْأَلَةٌ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ وَبِنْتٌ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ إِلَّا ثُلُثَ مَا أَوْصَى بِهِ لِعَمْرٍو، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ إِلَّا رُبُعَ مَا أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ. فَتَجْعَلُ وَصِيَّةَ زَيْدٍ عَدَدًا لَهُ رُبُعٌ، وَلْيَكُنْ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَوَصِيَّةَ عَمْرٍو عَدَدًا لَهُ ثُلُثٌ، وَلْيَكُنْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ. فَإِذَا أَخَذْتَ ثُلُثَ وَصِيَّةِ عَمْرٍو، وَضَمَمْتُهُ إِلَى وَصِيَّةِ زَيْدٍ، صَارَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَدِرْهَمًا، وَذَلِكَ مِثْلُ نَصِيبِ الْبِنْتِ، فَنَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ ضِعْفُهُ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ دَنَانِيرَ وَدِرْهَمَانِ. وَإِذَا أَسْقَطْتَ مِنْ ذَلِكَ رُبُعَ وَصِيَّةِ زَيْدٍ وَهُوَ دِينَارٌ، بَقِيَ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ وَدِرْهَمَانِ وَهِيَ وَصِيَّةُ عَمْرٍو، وَتُقَابِلُ بِهَا الدَّرَاهِمَ الَّتِي جَعَلْنَاهَا وَصِيَّةً أَوَّلًا، فَتُسْقِطُ دِرْهَمَيْنِ بِمِثْلِهَا، [يَبْقَى] سَبْعَةُ دَنَانِيرَ فِي مُقَابَلَةِ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَالدِّينَارُ وَاحِدٌ، وَالدِّرْهَمُ سَبْعَةٌ، كَانَتْ وَصِيَّةُ زَيْدٍ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، فَهِيَ إذًا أَرْبَعَةٌ، وَكَانَتْ وَصِيَّةُ عَمْرٍو ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَهِيَ إذًا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَنَصِيبُ الْبِنْتِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَدِرْهَمٌ، فَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ،

وَنَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَمَا أَخَذَهُ زَيْدٌ مِثْلُ نَصِيبِ الْبِنْتِ إِلَّا ثُلُثَ وَصِيَّةِ عَمْرٍو، وَمَا أَخَذَهُ عَمْرٌو مِثْلُ نَصِيبِ ابْنٍ إِلَّا رُبُعَ وَصِيَّةِ زَيْدٍ. مَسْأَلَةٌ: ابْنٌ وَبِنْتٌ، وَأَوْصَى بِوَصِيَّةٍ إِذَا زِدْتَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ كَانَتْ مِثْلَ نَصِيبِ الْبِنْتِ. وَإِذَا زِدْتَ عَلَيْهَا تِسْعَةً كَانَتْ مِثْلَ نَصِيبِ الِابْنِ، فَاجْعَلْ نَصِيبَ الْبِنْتِ شَيْئًا وَأَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَنَصِيبَ الِابْنِ شَيْئًا وَتِسْعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ تُضَعِّفُ نَصِيبَ الْبِنْتِ يَصِيرُ شَيْئَيْنِ وَثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ نَصِيبَ الِابْنِ، فَتُسْقِطُ شَيْئًا بِشَيْءٍ، وَثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ بِثَمَانِيَةٍ، يَبْقَى شَيْءٌ يَعْدِلُ دِرْهَمًا وَهُوَ الْوَصِيَّةُ. فَإِذَا زِدْت دِرْهَمًا عَلَى أَرْبَعَةٍ، صَارَتْ خَمْسَةً وَهِيَ نَصِيبُ الْبِنْتِ، وَإِذَا زِدْتَ دِرْهَمًا عَلَى تِسْعَةٍ، صَارَتْ عَشَرَةً وَهِيَ نَصِيبُ الِابْنِ، وَجُمْلَةُ التَّرِكَةِ سِتَّةَ عَشَرَ. مَسْأَلَةٌ: ابْنَانِ وَبِنْتٌ، وَأَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو بِوَصِيَّةٍ إِذَا زِدْتَ عَلَى وَصِيَّةِ زَيْدٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ كَانَتْ مِثْلَ نَصِيبِ الْبِنْتِ، وَإِذَا زِدْت عَلَى وَصِيَّةِ عَمْرٍو تِسْعَةَ دَرَاهِمَ كَانَتْ مِثْلَ نَصِيبِ ابْنٍ، وَالْوَصِيَّتَانِ مَعًا عِشْرُونَ، كَمْ كَانَتِ التَّرِكَةُ؟ وَكَمْ [كَانَتِ] الْأَنْصِبَاءُ وَكُلُّ وَصِيَّةٍ؟ فَاجْعَلْ نَصِيبَ الْبِنْتِ شَيْئًا، يَكُونُ نَصِيبُ الِابْنِ شَيْئَيْنِ، وَتَكُونُ وَصِيَّةُ زَيْدٍ شَيْئًا إِلَّا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَوَصِيَّةُ عَمْرٍو شَيْئَيْنِ إِلَّا تِسْعَةً، فَالْوَصِيَّتَانِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ إِلَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ يَعْدِلُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ، فَيَكُونُ الشَّيْءُ أَحَدَ عَشَرَ، فَهُوَ نَصِيبُ الْبِنْتِ، وَنَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ. فَإِذَا نَقَصْتَ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ أَرْبَعَةً، بَقِيَ سَبْعَةٌ، فَهِيَ وَصِيَّةُ زَيْدٍ، وَإِذَا نَقَصْتَ مِنِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ تِسْعَةً، بَقِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَهِيَ وَصِيَّةُ عَمْرٍو، فَالْوَصِيَّتَانِ مَعًا عِشْرُونَ، وَالتَّرِكَةُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ. مَسْأَلَةٌ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ بِوَصَايَا هِيَ مِثْلُ نَصِيبِ ابْنٍ، وَوَصِيَّةُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو مَعًا أَكْثَرُ مِنْ وَصِيَّةِ بَكْرٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَوَصِيَّةُ عَمْرٍو وَبَكْرٍ

مَعًا أَكْثَرُ مِنْ وَصِيَّةِ زَيْدٍ بِسَبْعَةِ دَرَاهِمَ، وَوَصِيَّةُ زَيْدٍ وَبَكْرٍ مَعًا أَكْثَرُ مِنْ وَصِيَّةِ عَمْرٍو بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، كَمِ التَّرِكَةُ؟ وَكَمْ كُلُّ وَصِيَّةٍ؟ فَاجْعَلْ نَصِيبَ كُلِّ ابْنٍ شَيْئًا، تَكُونُ الْوَصَايَا كُلُّهَا شَيْئًا، تُسْقِطُ مِنْهُ فَضْلُ وَصِيَّةِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو عَلَى وَصِيَّةِ بَكْرٍ وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، يَبْقَى شَيْءٌ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، تَأْخُذُ نِصْفَهُ وَهُوَ نِصْفُ شَيْءٍ إِلَّا دِرْهَمًا وَنِصْفًا، فَهُوَ وَصِيَّةُ بَكْرٍ، ثُمَّ تُسْقِطُ مِنْهُ فَضْلَ وَصِيَّةِ عَمْرٍو وَبَكْرٍ عَلَى وَصِيَّةِ زَيْدٍ وَهُوَ سَبْعَةٌ، يَبْقَى شَيْءٌ إِلَّا سَبْعَةَ دَرَاهِمَ، تَأْخُذُ نِصْفَهُ وَهُوَ نِصْفُ شَيْءٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفَ دِرْهَمٍ، فَهُوَ وَصِيَّةُ [زَيْدٍ] ، ثُمَّ تُسْقِطُ مِنْهُ فَضْلَ وَصِيَّةِ زَيْدٍ وَبَكْرٍ عَلَى وَصِيَّةِ عَمْرٍو وَهُوَ اثْنَيْ عَشَرَ، يَبْقَى شَيْءٌ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ، تَأْخُذُ نِصْفَهُ وَهُوَ نِصْفُ شَيْءٍ إِلَّا سِتَّةً، فَهِيَ وَصِيَّةُ عَمْرٍو، وَجَمِيعُهَا عِنْدَ الضَّمِّ شَيْءٌ وَنِصْفُ شَيْءٍ إِلَّا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئًا، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَشَيْءٌ وَنِصْفُ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئًا وَأَحَدَ عَشَرَ، تُسْقِطُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، فَالنِّصْفُ يَعْدِلُ أَحَدَ عَشَرَ، وَالشَّيْءُ الْكَامِلُ يَعْدِلُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، فَعَرَفْتَ أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْوَصَايَا. فَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ كُلِّ وَصِيَّةٍ، فَأَسْقِطْ مِنْ مَبْلَغِ الْجَمِيعِ فَضْلَ وَصِيَّتَيْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو عَلَى وَصِيَّةٍ بَكْرٍ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، تَبْقَى تِسْعَةَ عَشَرَ، تَأْخُذُ نِصْفَهَا وَهُوَ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ، فَهِيَ وَصِيَّةٌ بَكْرٍ، ثُمَّ أَسْقِطْ مِنْهُ فَضْلَ وَصِيَّتَيْ عَمْرٍو وَبَكْرٍ عَلَى وَصِيَّةِ زَيْدٍ وَهُوَ سَبْعَةٌ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، تَأْخُذُ نِصْفَهَا وَهُوَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، فَهِيَ وَصِيَّةُ زَيْدٍ، ثُمَّ أَسْقِطْ مِنْهُ فَضْلَ وَصِيَّتَيْ زَيْدٍ وَبَكْرٍ عَلَى وَصِيَّةِ عَمْرٍو وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ، يَبْقَى عَشَرَةٌ، تَأْخُذُ نِصْفَهَا خَمْسَةً، فَهِيَ وَصِيَّةُ عَمْرٍو، وَجُمْلَتُهَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْوَصَايَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ثَلَاثًا، وَكَانَتْ كُلُّ اثْنَتَيْنِ مِنْهَا تَفْضُلُ الثَّالِثَةَ بِعَدَدٍ، كَانَتْ كُلُّ مَفْضُولَةٍ نِصْفَ الْبَاقِي مِنْ جُمْلَةِ الْوَصَايَا بَعْدَ إِسْقَاطِ الْفَضْلِ. وَلَوْ كَانَتِ الْوَصَايَا أَرْبَعًا، وَكُلُّ ثَلَاثٍ تَفْضُلُ الرَّابِعَةَ بِعَدَدٍ، كَانَتِ الْمَفْضُولَةُ ثُلُثَ الْبَاقِي مِنْ جُمْلَةِ الْوَصَايَا بَعْدَ إِسْقَاطِ الْفَضْلِ. وَلَوْ كَانَتْ خَمْسًا، وَكُلُّ أَرْبَعٍ مِنْهَا تَفْضُلُ الْخَامِسَةَ بِعَدَدٍ،

كَانَتِ الْمَفْضُولَةُ رُبُعَ الْبَاقِي مِنْ جُمْلَةِ الْوَصَايَا بَعْدَ إِسْقَاطِ الْفَضْلِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. مَسْأَلَةٌ: ابْنَانِ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَا تَبَقَّى مِنَ النِّصْفِ وَبِدِرْهَمٍ، وَتَرَكَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَتَجْعَلُ الْوَصِيَّتَيْنِ شَيْئًا، وَتُلْقِيهِ مِنَ التَّرِكَةِ، يَبْقَى ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا إِلَّا شَيْئًا، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةَ عَشَرَ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، فَهُوَ النَّصِيبُ، ثُمَّ تَأْخُذُ نِصْفَ الْمَالِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَتُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، يَبْقَى نِصْفُ شَيْءٍ، تَأْخُذُ لِعَمْرٍو ثَلَاثَةً وَهُوَ سُدُسُ شَيْءٍ، وَتَضُمُّ إِلَيْهِ دِرْهَمًا، فَالْوَصِيَّتَانِ مَعًا سِتَّةَ عَشَرَ إِلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئًا، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَسِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا تَعْدِلُ شَيْئًا وَثُلُثَ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ يَعْدِلُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَهِيَ تَعْدِلُ جُمْلَةَ الْوَصِيَّتَيْنِ، يَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلِابْنَيْنِ، تَأْخُذُ نِصْفَ الْمَالِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، تُسْقِطُ مِنْهُ نَصِيبًا وَهُوَ تِسْعَةٌ، تَدْفَعُهُ إِلَى زَيْدٍ، يَبْقَى سِتَّةٌ، تَأْخُذُ ثُلُثَهَا وَدِرْهَمًا لِعَمْرٍو، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، تَزِيدُهَا عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ، تَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِكُلِّ ابْنٍ تِسْعَةٌ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي الْمَسَائِلِ الدَّوْرِيَّةِ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَلْنُورِدْهَا عَلَى تَرْتِيبِ أَبْوَابِهَا فِي الْفِقْهِ. فَمِنْهَا: الْبَيْعُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي «تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ» مَسَائِلَ مِنْهُ، مِنْهَا: بَاعَ مَرِيضٌ قَفِيزًا جَيِّدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِقَفِيزٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ بَاطِلٌ فِي قَوْلٍ، فَتَبْطُلُ الْمُحَابَاةُ الَّتِي فِي ضِمْنِهِ. وَفِي قَوْلٍ: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي بَعْضِ الْقَفِيزِ بِبَعْضِ الْقَفِيزِ، وَاسْتَخْرَجْنَا بِالْجُبْرَانِ ذَلِكَ الْبَعْضَ هُوَ الثُّلُثَانِ. وَلَوْ بَاعَ كُرًّا قِيمَتُهُ خَمْسُونَ، بِكُرٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ وَلَه سِوَاهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِ الْكُرِّ ; لِأَنَّهُ رَجَعَ إِلَيْهِ ثَلَاثُونَ، وَعِنْدَهُ عَشَرَةٌ، فَيَبْقَى لِوَرَثَتِهِ أَرْبَعُونَ، وَلَمْ يُحَابِ إِلَّا بِعِشْرِينَ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ كُرِّ الْمَرِيضِ خَمْسِينَ، وَالَّذِي يُقَابِلُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ،

وَلَهُ عَشَرَةٌ، فَتَقُولُ: صَحَّ الْبَيْعُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُرِّ الْجَيِّدِ، وَقَابَلَهُ مِنَ الثَّمَنِ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَبَقِيَتِ الْمُحَابَاةُ وَسَبْعَةُ أَعْشَارِ شَيْءٍ، وَمَعَ الْوَرَثَةِ عَشْرُ دَرَاهِمَ وَهِيَ عُشْرَا كُرٍّ، فَيَجْتَمِعُ مَعَهُمْ كُرٌّ وَعُشْرَا كُرٍّ إِلَّا سَبْعَةَ أَعْشَارِ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ شَيْءٌ وَأَرْبَعَةُ أَعْشَارِ شَيْءٍ ; لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ سَبْعَةُ أَعْشَارِ شَيْءٍ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَكُرٌّ وَعُشْرَا كُرٍّ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَعُشْرَ شَيْءٍ، تَبْسُطُهَا أَعْشَارًا، فَيَكُونُ الْكُرُّ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَالشَّيْءُ اثْنَيْ عَشَرَ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ الْكُرِّ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسِبَاعِهِ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ الْكُرِّ الرَّدِيءِ، وَهِيَ بِالْقِيمَةِ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الْمَبِيعِ مِنَ الْجَيِّدِ، فَتَجْعَلُ الْكُرَّ عَدَدًا لَهُ سُبُعٌ وَعُشْرٌ، وَأَقَلُّهُ سَبْعُونَ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي أَرْبَعَةِ أَسِبَاعِهِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ بِثَلَاثَةِ أَعْشَارِ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ، فَبَقِيَتِ الْمُحَابَاةُ بِثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ، وَمَعَ الْوَرَثَةِ مِمَّا بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ ثَلَاثُونَ وَعُشْرَا كُرٍّ وَهُمَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ بِأَجْزَاءِ السَّبْعِينَ، فَيَجْتَمِعُ مَعَهُمْ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ، وَبِطْرِيقِ النِّسْبَةِ وَالتَّقْدِيرِ نَقُولُ: ثُلُثَا الْكُرِّ وَالْعَشَرَةُ الْمَتْرُوكَةُ عِشْرُونَ، وَالْمُحَابَاةُ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَالْعِشْرُونَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الْخَمْسَةِ وَالثَّلَاثِينَ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ الْكُرِّ. مَسْأَلَةٌ: بَاعَ كُرًّا قِيمَتُهُ مِائَةٌ بِكُرٍّ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ، وَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دَيْنًا، فَيَحُطُّ الْعَشَرَةَ مِنْ مَالِهِ، وَيُقَدِّرُ كَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا تِسْعِينَ، وَثُلُثُهَا ثَلَاثُونَ، وَالْمُحَابَاةُ بِخَمْسِينَ، وَالثَّلَاثُونَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْخَمْسِينَ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الْجَيِّدِ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الرَّدِيءِ، فَيَخْرُجُ مِنْ مِلْكِهِ سِتُّونَ، وَيَعُودُ إِلَيْهِ ثَلَاثُونَ، وَيَبْقَى مِمَّا بَطَلَ فِيهِ ثَلَاثُونَ، وَذَلِكَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ.

فصل في بيع المريض بالمحاباة مع حدوث زيادة أو نقص

فَرْعٌ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالٌ سِوَى مَا بَاعَ، فَقَابَلَ الدَّيْنَ بِالتَّرِكَةِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا، فَكَأَنَّهُ لَا دَيْنَ وَلَا تَرِكَةَ، وَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمَا، اعْتَبَرْنَا الزَّائِدَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَرْعٌ: هَذَا الْمَذْكُورُ [هُوَ] فِي بَيْعِ الْجِنْسِ بِجِنْسِهِ الرِّبَوِيِّ. فَلَوْ بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِكُرِّ شَعِيرٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي بَعْضٍ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ الْجَيِّدَةِ بِالرَّدِيئَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي ثُلُثَيِ الْحِنْطَةِ بِثُلُثَيِ الشَّعِيرِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ، وَفِيمَا يُوَازِي الثَّمَنَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْحِنْطَةِ بِجَمِيعِ الشَّعِيرِ ; لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَفِيمَا يُوَازِي الشَّعِيرَ بِالْقِيمَةِ وَهُوَ النِّصْفُ، وَلَا بَأْسَ بِالْمُفَاضَلَةِ فِي الْكَيْلِ. فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمَرِيضِ بِالْمُحَابَاةِ مَعَ حُدُوثِ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَمَّا الزِّيَادَةُ، فَالِاعْتِبَارُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ بِيَوْمِ الْبَيْعِ، وَزِيَادَةُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ عَلَيْهِ. وَالِاعْتِبَارُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَبْطُلُ فِيهِ الْبَيْعُ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ بِيَوْمِ الْمَوْتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ بِمُجَرَّدِ ارْتِفَاعِ السُّوقِ أَوْ بِصِفَةٍ تَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ. فَإِذَا بَاعَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِعَشَرَةٍ، ثُمَّ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ أَرْبَعِينَ، وَصَحَّحْنَا الْبَيْعَ فِي بَعْضِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي «تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ» ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ فِي بَعْضِهِ بِكُلِّ

الثَّمَنِ، فَلِلْمُشْتَرِي بِالْعَشَرَةِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَهِيَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الشِّرَاءِ، يَبْقَى نِصْفُ الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الْمَوْتِ عِشْرُونَ، يَضُمُّهُ إِلَى الثَّمَنِ، يَبْلُغُ ثَلَاثِينَ، فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ، وَشَيْءٌ يَتْبَعُ الْمُحَابَاةَ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْقِيمَةِ غَيْرِ مَحْسُوبٍ عَلَيْهِ، يَبْقَى ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا إِلَّا شَيْئَيْنِ تَعْدِلُ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ شَيْئَانِ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ رُبُعُ الثَّلَاثِينَ وَهُوَ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، وَهَذَا مَا يَجُوزُ التَّبَرُّعُ فِيهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْبَيْعِ، فَيُضَمُّ إِلَى النِّصْفِ الَّذِي مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِالثَّمَنِ وَالتَّبَرُّعِ سَبْعَةُ أَثْمَانِ الْعَبْدِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثُمُنُهُ وَهُوَ خَمْسَةٌ يَوْمَ الْمَوْتِ، وَالثَّمَنُ وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَهُمَا ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. وَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ فِي بَعْضِهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، فَنَقُولُ: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ شَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِنِصْفِ شَيْءٍ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي عَبْدٍ إِلَّا شَيْءٌ، وَقِيمَتُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا إِلَّا شَيْئَيْنِ. وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى شَيْئَيْنِ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَزِيدُ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَيُضَمُّ إِلَيْهِ الثَّمَنُ وَهُوَ نِصْفُ شَيْءٍ، يَبْقَى أَرْبَعُونَ إِلَّا شَيْئًا وَنِصْفَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ شَيْءٌ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، أَرْبَعُونَ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ خُمُسَا الْأَرْبَعِينَ، وَهُمَا سِتَّةَ عَشَرَ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْبَيْعِ، فَلِلْمُشْتَرِي أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الثَّمَنِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِثَمَانِيَةٍ، وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الثَّمَنِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، وَخُمُسُ الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الْمَوْتِ ثَمَانِيَةٌ، فَالْمَبْلَغُ سِتَّةَ عَشَرَ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ، بَلْ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا. وَأَمَّا النَّقْصُ، فَإِمَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَإِمَّا فِي يَدِ الْبَائِعِ الْمَرِيضِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا حَدَثَ النَّقْصُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِمَّا أَنْ يَحْدُثَ قَبْلَ مَوْتِ الْبَائِعِ، وَإِمَّا بَعْدَهُ.

فَالْحَالَةُ الْأُولَى: مِثَالُهَا: أَنْ يَبِيعَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِعَشَرَةٍ، ثُمَّ تَعُودُ قِيمَتُهُ إِلَى عَشَرَةٍ، ثُمَّ يَمُوتُ الْبَائِعُ، فَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ فِي بَعْضِ الْعَبْدِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، قُلْنَا: مَلَكَ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الْعَبْدِ بِالْعَشَرَةِ، وَنَضُمُّ نِصْفَهُ الْآخَرَ يَوْمَ الْمَوْتِ وَهُوَ خَمْسَةٌ إِلَى الثَّمَنِ، يَبْلُغُ خَمْسَةَ عَشَرَ، لِلْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَابَاةِ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ بِشَيْئَيْنِ ; لِأَنَّ النَّقْصَ بِالْقِسْطِ مَحْسُوبٌ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ عَلَيْهِ، فَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ إِلَّا شَيْئًا يَعْدِلُ ضِعْفَ الْمَحْسُوبِ عَلَيْهِ مِنَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَخَمْسَةَ عَشَرَ تَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْمَوْتِ. وَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا النِّصْفُ الَّذِي مَلَكَهُ بِالثَّمَنِ وَهُوَ خَمْسَةٌ يَوْمَ الْمَوْتِ، كَانَ الْمَبْلَغُ ثَمَانِيَةً وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْمَوْتِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَهُوَ عَشَرَةٌ، يَبْقَى التَّبَرُّعُ بِسِتَّةٍ، وَلِلْوَرَثَةِ خُمُسُ الْعَبْدِ وَهُوَ دِرْهَمَانِ، وَالثَّمَنُ وَهُوَ عَشَرَةٌ، فَالْجُمْلَةُ اثْنَا عَشَرَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. وَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ فِي بَعْضِهِ بِالْقِسْطِ، قُلْنَا: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ شَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، وَيَبْطُلُ فِي عَبْدٍ نَاقِصٍ بِشَيْءٍ، وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الْمَوْتِ عَشَرَةٌ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، فَتَضُمُّ الْحَاصِلَ مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ نِصْفُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، وَهِيَ تَعْدِلُ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ، وَهِيَ شَيْءٌ، فَالشَّيْءُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ يَوْمَ الْبَيْعِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نِصْفِهِ وَهُوَ عَشَرَةٌ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَهُوَ خَمْسَةٌ فَالْمُحَابَاةُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفُ الْعَبْدِ يَوْمَ الْمَوْتِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَنِصْفُ الثَّمَنِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَجُمْلَتُهَا ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. وَفِقْهُ هَذِهِ الْحَالَةِ: أَنَّ مَا صَحَّ فِيهِ الْبَيْعُ، فَحِصَّتُهُ مِنَ النَّقْصِ مَحْسُوبَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي ; لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ. وَمَا بَطَلَ فِيهِ الْبَيْعُ، فَحِصَّتُهُ مِنَ النَّقْصِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْمُشْتَرِي ; لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَلَا قَبَضَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ. وَاسْتَدْرَكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ النَّقْصُ بِانْخِفَاضِ السُّوقِ، فَهَذَا صَحِيحٌ ; لِأَنَّ نَقْصَ السُّوقِ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ. فَإِنْ كَانَ

النَّقْصُ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي ; لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى حُكْمِ الْبَيْعِ. حَتَّى لَوْ بَرَأَ الْمَرِيضُ، كَانَ الْبَيْعُ لَازِمًا فِي الْجَمِيعِ. فَعَلَى هَذَا، يَصِيرُ الْمُشْتَرِي غَارِمًا لِقَدْرٍ مِنَ النُّقْصَانِ مَعَ الثَّمَنِ، وَيَخْتَلِفُ الْقَدْرُ الْخَارِجُ بِالْحِسَابِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْدُثَ النَّقْصُ بَعْدَ مَوْتِ الْبَائِعِ، فَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ وَأَبُو مَنْصُورٍ، أَنَّهُ كَمَا لَو حَدَثَ قَبْلَ الْمَوْتِ، حَتَّى يَكُونَ الْقَدْرُ الْمَبِيعُ هُنَا كَالْقَدْرِ الْمَبِيعِ فِيمَا إِذَا حَدَثَ قَبْلَ مَوْتِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا خَطَأٌ إِنْ أَرَادَ هَذَا الظَّاهِرَ ; لِأَنَّ النَّظَرَ فِي التَّرِكَةِ وَحِسَابِ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ إِلَى حَالَةِ الْمَوْتِ، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ النَّقْصِ بَعْدَهُ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: إِذَا حَدَثَ النَّقْصُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، بِأَنْ بَاعَ مَرِيضٌ عَبْدًا يُسَاوِي عِشْرِينَ بِعَشَرَةٍ، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ حَتَّى عَادَتْ قِيمَتُهُ إِلَى عَشَرَةٍ، ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهِ ; لِأَنَّ التَّبَرُّعَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِالتَّسْلِيمِ، وَقَدْ بَانَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَنَّهُ لَا تَبَرُّعَ. قَالَ: وَكَذَا لَوْ عَادَتْ قِيمَتُهُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ ; لِأَنَّ التَّبَرُّعَ يَكُونُ بِخَمْسَةٍ، وَالثُّلُثُ وَافٍ بِهَا. وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ بِأَنَّ التَّبَرُّعَ الْوَاقِعَ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ لَا يَتَوَقَّفُ نُفُوذُهُ وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ فِيهِ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى وَقْتِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَأَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ النَّقْصِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَهَذِهِ الِاعْتِرَاضَات بَيِّنَةٌ. فَرْعٌ: الْحَادِثُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، إِنْ كَانَ بِانْخِفَاضِ السُّوقِ، لَمْ يَدْفَعْ خِيَارَ الْمُشْتَرِي بِتَبَعُّضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، فَقَدْ شَبَّهُوهُ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ مَعَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْبِ الْقَدِيمِ.

فصل محاباة المشتري تعتبر من الثلث كمحاباة البائع.

فَصْلٌ مُحَابَاةُ الْمُشْتَرِي تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ كَمُحَابَاةِ الْبَائِعِ. فَإِذَا اشْتَرَى مَرِيضٌ عَبْدًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعِشْرِينَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، فَثُلُثُ مَالِهِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَالْمُحَابَاةُ عَشَرَةٌ، وَالسِّتَّةُ وَالثُّلُثَانِ ثُلُثَا الْعَشَرَةِ، فَيَصِحُّ الشِّرَاءُ فِي ثُلُثَيِ الْعَبْدِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ بِثُلُثَيِ الثَّمَنِ وَهُوَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، يَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ ثُلُثُ الثَّمَنِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَثُلُثَا الْعَبْدِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَذَلِكَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. هَذَا إِنْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ، وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَيَسْتَرِدَّ الْعَبْدَ لِتَبَعُّضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعِشْرِينَ، فَزَادَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ، أَوْ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَصَارَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَقَدْ زَادَتْ خَمْسَةً فِي تَرِكَتِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الشِّرَاءُ فَبَعْضُ مَا حَابَى فِيهِ بِجَمِيعِ مَا يُقَابِلُهُ، فَتُضَمُّ الْخَمْسَةُ الزَّائِدَةُ إِلَى الثَّمَنِ، فَيَصِيرُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَثُلُثُهَا ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ، فَيُقَالُ لِلْبَائِعِ: ثُلُثُ مَالِهِ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ، وَقَدْ حَابَاكَ بِعَشَرَةٍ، فَإِمَّا أَنْ تَفْسَخَ الْبَيْعَ وَتَسْتَرِدَّ الْعَبْدَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ. فَإِنْ رَدَّ، [فَمَعَ] الْوَرَثَةِ الْعَبْدُ، وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الْمَوْتِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَمَعَهُمْ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، وَالْجُمْلَةُ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الشِّرَاءُ فِي بَعْضِهِ بِبَعْضِ مَا يُقَابِلُهُ، قُلْنَا: يَصِحُّ الشِّرَاءُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ بِشَيْئَيْنِ مِنَ الثَّمَنِ، فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِشَيْءٍ، يَبْقَى عِشْرُونَ دِرْهَمًا إِلَّا شَيْئَيْنِ، تَضُمُّ إِلَيْهَا الْمُشْتَرَى مِنَ الْعَبْدِ وَكَانَ شَيْئًا، فَصَارَ شَيْئَانِ وَنِصْفَ شَيْءٍ، تَبْلُغُ عِشْرِينَ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ شَيْئَانِ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَالْعِشْرُونَ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ ثَمَانِيَةٌ وَهِيَ خُمُسَا الْعِشْرِينَ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ [الْعَبْدِ] ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ، فَتَكُونُ مُحَابَاةُ الْمُشْتَرِي بِثَمَانِيَةٍ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ خُمُسُ الثَّمَنِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ يَوْمَ الْمَوْتِ، فَالْجُمْلَةُ سِتَّةَ عَشَرَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. وَلَوِ اشْتَرَى كَمَا ذَكَرْنَا،

ثُمَّ نَقَصَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمَرِيضِ فَعَادَتْ قِيمَتُهُ إِلَى خَمْسَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَقَدْ كَانَتْ تَرِكَتُهُ عِشْرِينَ، وَصَارَتْ بِالْآخِرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَثُلُثُهَا خَمْسَةٌ، فَيُقَالُ لِلْبَائِعِ: إِمَّا أَنْ تَرُدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ خَمْسَةً لِيَكُونَ مَعَهُمُ الْعَبْدُ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَالدَّرَاهِمُ الْخَمْسَةُ فَيَكُونُ لَهُمْ ضِعْفُ الْخَمْسَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَفْسَخَ الْبَيْعَ وَتَرُدَّ الثَّمَنِ بِتَمَامِهِ وَتَسْتَرِدَّ الْعَبْدَ نَاقِصًا وَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّقْسِيطِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ وَأَبُو مَنْصُورٍ: يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي قِسْطَ مَا بَطَلَ فِيهِ الْبَيْعُ مِنَ النُّقْصَانِ، وَيَنْقُصُ ذَلِكَ مِنَ التَّرِكَةِ كَدَيْنٍ يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا رُجُوعٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَى أَنَّهُ مَبِيعٌ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَمُنَاقِضٌ لِمَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ حِسَابُهُ أَنْ يُقَالَ: صَحَّ الشِّرَاءُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ بِشَيْئَيْنِ مِنَ الثَّمَنِ، وَبَطَلَ فِي عَبْدٍ نَاقِصٍ بِشَيْءٍ قِيمَتُهُ بِالتَّرَاجُعِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، فَيَنْقُصُ الْقَدْرُ الَّذِي نَقَصَ مِنَ التَّرِكَةِ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا إِلَّا شَيْئًا وَنِصْفَ [شَيْءٍ] ، تَضُمُّ إِلَيْهِ الشَّيْءَ الْمُشْتَرَى مِنَ الْعَبْدِ وَقَدْ رَجَعَ إِلَى نِصْفٍ، فَيَكُونُ الْحَاصِلُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا إِلَّا شَيْئًا تَعْدِلُ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ شَيْئَانِ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَخَمْسَ عَشَرَ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ ثُلُثُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ، فَيَصِحُّ الشِّرَاءُ فَنِصْفُ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِخَمْسَةٍ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ نِصْفُ الثَّمَنِ وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَنِصْفُ الْعَبْدِ وَهُوَ اثْنَانِ وَنِصْفٌ، تُسْقِطُ مِنَ الْمَبْلَغِ قِسْطَ مَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ مِنَ النُّقْصَانِ وَهُوَ اثْنَانِ وَنِصْفٌ، يَبْقَى فِي أَيْدِيهِمْ عَشَرَةٌ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. فَرْعٌ: اشْتَرَى مَرِيضٌ عَبْدًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِعِشْرِينَ، وَلَهُ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَقَبَضَ الْعَبْدَ وَأَعْتَقَهُ، فَالْمُحَابَاةُ بِعَشَرَةٍ وَهِيَ ثُلُثُ مَالِهِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَوْفِيَةِ

الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، نَفَذَ الْعِتْقُ وَبَطَلَتِ الْمُحَابَاةُ، وَالْبَائِعُ يَأْخُذُ قَدْرَ قِيمَةِ الْعَبْدِ بِلَا زِيَادَةٍ ; لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الشِّرَاءِ كَالْهِبَةِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَقْبُوضَةً حَتَّى جَاءَ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا وَهُوَ الْعِتْقُ، أَبْطَلَهَا. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَوْفِيَةِ الثَّمَنِ، بَطَلَ الْعِتْقُ ; لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ الْمَقْبُوضَةَ اسْتَغْرَقَتِ الثُّلُثَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ أَكْثَرَ ابْنُ الْحَدَّادِ التَّبَجُّحَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ غَالِطٌ فِيهَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ كُلِّهِمْ، وَقَالُوا: لَا فَرْقَ فِي الْمُحَابَاةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَقْبُوضَةً أَوْ لَا تَكُونَ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقُهَا بِالْمُعَاوَضَةِ، وَالْمُعَاوَضَاتُ تَلْزَمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ الْوَاهِبُ مِنْ إِبْطَالِ الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِبْطَالِ الْمُحَابَاةِ، وَالْحُكْمُ فِي الْحَالَتَيْنِ تَصْحِيحُ الْمُحَابَاةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِبْطَالُ الْعِتْقِ الْمُتَأَخِّرِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَأْخُذُ الْبَائِعُ قِيمَةَ الْعَبْدِ بِلَا زِيَادَةٍ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ وَيُكَلَّفَ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ إِلَّا بِعِشْرِينَ، لَكِنْ يُخَيَّرُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيُبْطِلَ الْعِتْقَ. فَرْعٌ: بَاعَ مَرِيضٌ قَفِيزَ حِنْطَةٍ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ لِأَخِيهِ بِقَفِيزٍ قِيمَتُهُ خَمْسَةٌ، فَمَاتَ أَخُوهُ قَبْلَهُ، وَخَلَّفَ بِنْتًا وَأَخَاهُ الْبَائِعُ، ثُمَّ مَاتَ الْبَائِعُ وَلَا مَالَ لَهُمَا سِوَى الْقَفِيزَيْنِ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقَفِيزِ الْجَيِّدِ، وَيَرْجِعُ بِالْعِوَضِ ثُلُثَ شَيْءٍ، يَبْقَى مَعَهُ قَفِيزٌ إِلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ، فَالْمُحَابَاةُ بِثُلُثَيْ شَيْءٍ، وَيَحْصُلُ مَعَ الْمُشْتَرِي [شَيْءٌ] مِنَ الْقَفِيزِ الْجَيِّدِ، وَالْبَاقِي مِنْ قَفِيزِهِ وَهُوَ قِيمَةُ الْقَفِيزِ الْجَيِّدِ ثُلُثُ قَفِيزٍ إِلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ، فَهُمَا مَعًا ثُلُثُ قَفِيزٍ وَثُلُثَا شَيْءٍ، يَرْجِعُ نِصْفُهُ بِالْإِرْثِ إِلَى الْبَائِعِ وَهُوَ سُدُسُ قَفِيزٍ وَثُلُثُ شَيْءٍ، فَتَزِيدُهُ عَلَى مَا كَانَ لِلْبَائِعِ، فَالْمَبْلَغُ قَفِيزٌ وَسُدُسُ قَفِيزٍ إِلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ، وَهَذَا يَعْدِلُ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ، وَهُوَ شَيْءٌ وَثُلُثُ شَيْءٍ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَقَفِيزٌ وَسُدُسُ قَفِيزٍ تَعْدِلُ شَيْئًا وَثُلُثَا شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهُمَا أَسْدَاسًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْقَفِيزُ

عَشَرَةٌ، وَالشَّيْءُ سَبْعَةٌ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي سَبْعَةِ أَعْشَارِ الْجِيدِ، وَهِيَ عَشَرَةٌ وَنِصْفٌ، بِسَبْعَةِ أَعْشَارِ الرَّدِيءِ، [وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ، فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِسَبْعَةٍ] ، يَبْقَى مَعَ الْبَائِعِ مِنْ قَفِيزِهِ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَقَدْ أَخَذَ بِالْعِوَضِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفًا، فَالْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْمُشْتَرِي مِنْ قَفِيزِهِ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ، وَمِنَ الْقَفِيزِ الْجَيِّدِ عَشَرَةٌ وَنِصْفٌ، تَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، يَرْجِعُ نِصْفُهُ إِلَى الْبَائِعِ وَهُوَ سِتَّةٌ، يَبْلُغُ مَا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَهُوَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. وَلَوْ كَانَ الْقَفِيزُ الرَّدِيءُ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَيِّدِ، وَالْجَيِّدُ يُسَاوِي عِشْرِينَ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ ; لِأَنَّهُ تَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِعَشَرَةٍ، فَيَبْقَى عِنْدَهُ عَشَرَةٌ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ عَشَرَةٌ. فَرْعٌ: بَاعَ مَرِيضٌ عَبْدًا يُسَاوِي عِشْرِينَ بِعَشَرَةٍ، فَاكْتَسَبَ الْعَبْدُ عِشْرِينَ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ، فَإِنْ تَرَكَ عَشَرَةً سِوَى ثَمَنِ الْعَبْدِ، نَفَذَ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ، وَكَانَ الْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا آخَرَ، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي بَعْضِ الْعَبْدِ ; لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ. ثُمَّ حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْأُسْتَاذِ، أَنَّ جَمِيعَ الْكَسْبِ لِلْمُشْتَرِي ; لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ عَرَضَ الْفَسْخُ وَالرَّدُّ كَاطِّلَاعِ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ وَيَبْقَى لَهُ الْكَسْبُ، قَالَ: وَهَذَا زَلَلٌ عَظِيمٌ، بَلِ الْوَجْهُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْكَسْبَ يَتَبَعَّضُ بِتَبَعُّضِ الْعَبْدِ كَمَا فِي الْعِتْقِ، وَلَيْسَ هَذَا فَسْخًا وَرَدًّا لِلْبَيْعِ فِي بَعْضِ الْعَبْدِ، بَلْ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ الْبَيْعِ وَحُصُولُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي بَعْضِ الْعَبْدِ دُونَ بَعْضِهِ، وَهَذَا حَقٌّ، لَكِنَّ الْأُسْتَاذَ لَمْ يَقُلْ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُشَنَّعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ حَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْكَسْبَ كَالزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِي قِيمَتِهِ. وَعَلَى هَذَا، فَحُكْمُهُ التَّبْعِيضُ كَالزِّيَادَةِ. وَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعِشْرِينَ (فَاكْتَسَبَ) ، فَالْكَسْبُ كَالزِّيَادَةِ فِي الْقِيمَةِ، لَكِنَّ التَّرِكَةَ تَزْدَادُ بِهِ، وَحُكْمُ الزِّيَادَةِ مَا سَبَقَ.

فَرْعٌ اشْتَرَى مَرِيضٌ عَبْدًا بِعَشَرَةٍ، وَتَرَكَ سِوَاهُ بِعِشْرِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِعَشَرَةٍ، ثُمَّ وُجِدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا يُنْقِصُهُ خَمْسَةً، فَاخْتَارَ إِمْسَاكَهُ، جَازَ، وَكَأَنَّهُ حَابَاهُ بِخَمْسَةٍ، وَالْمُحَابَاةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بَاقِي الثُّلُثِ وَهُوَ خَمْسَةٌ. وَإِنْ وَجَدَ الْوَرَثَةُ الْعَبْدَ مَعِيبًا وَأَمْسَكُوهُ، فَلِزَيْدٍ الْعَشَرَةٌ، وَمَا نَقَصَ بِالْعَيْبِ كَأَنَّهُمْ أَتْلَفُوهُ، لِأَنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا لَفَسَخُوا أَوِ اسْتَرَدُّوا الثَّمَنَ. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِثَلَاثِينَ فَأَعْتَقَهُ، وَخَلَفَ سِتِّينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ وَجَدَ الْوَرَثَةُ بِهِ عَيْبًا يُنْقِصُهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، رَجَعُوا عَلَى الْبَائِعِ بِالْأَرْشِ. وَلَوْ وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ، لَمْ يَرْجِعُوا بِهِ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَادَ إِلَيْهِمْ فَيَرُدُّونَهُ. هَذَا جَوَابُ الْأُسْتَاذِ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْرُوحٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَوْ لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَ الْعَبْدِ وَكَانَ قَدْ أَعْتَقَهُ، عَتَقَ مِنْهُ خُمُسَاهُ وَهُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَيَرْجَعُ الْوَرَثَةُ بِالْأَرْشِ وَهُوَ خَمْسَةٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَهُمْ مَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَيَكُونُ عِشْرِينَ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ، وَيَرُدَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الثَّمَنِ، وَيَغْرَمَ أَرْشَ خُمُسَيْهِ وَهُوَ دِرْهَمَانِ. وَلَوْ كَانَ قَدْ وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ بَدَلَ الْإِعْتَاقِ، فَالْخَمْسَةُ النَّاقِصَةُ تُحْسَبُ مِنَ الثُّلُثِ ; لِأَنَّ الْمَرِيضَ هُوَ الَّذِي فَوَّتَ الرُّجُوعَ بِالْأَرْشِ بِمَا أَنْشَأَ مِنَ الْهِبَةِ، وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ خُمُسُهُ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ وَهِيَ عِشْرُونَ. فَرْعٌ: ترَكَ عَبْدًا قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ، وَأَوْصَى بِبَيْعِهِ لِزَيْدٍ بِعَشَرَةٍ، فَثُلُثُ مَالِهِ عَشَرَةٌ، وَأَوْصَى بِالْمُحَابَاةِ بِعِشْرِينَ، فَإِنْ لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ، بِيعَ مِنْهُ عَلَى قَوْلٍ ثُلُثَا الْعَبْدِ بِجَمِيعِ الْعَشَرَةِ لِتَحْصُلَ لَهُ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَلِلْوَرَثَةِ ضِعْفُهُ. وَعَلَى قَوْلِ التَّقْسِيطِ، يُبَاعُ مِنْهُ نِصْفُ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ. وَلَوْ أَوْصَى مَعَ ذَلِكَ بِثُلُثِ مَالِهِ لِعَمْرٍو، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، لِزَيْدٍ سَهْمَانِ، وَلِعَمْرٍو سَهْمٌ.

فصل

فَصْلٌ وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ الدَّوْرِيَّةِ السَّلَمُ. فَإِذَا أَسْلَمَ الْمَرِيضُ عَشَرَةً فِي قَدْرٍ مِنَ الْحِنْطَةِ مُؤَجَّلًا يُسَاوِي عَشَرَةً، وَمَاتَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَلِلْوَارِثِ الْخِيَارُ. فَإِنْ أَجَازَ، فَالسَّلَمُ بِحَالِهِ. وَإِنْ قَالُوا: لَا نَرْضَى بِالْأَجَلِ فِي مَحَلِّ حَقِّنَا وَهُوَ الثُّلُثَانِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي «بَيْعِ الْأَعْيَانِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ» ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ السَّلَمَ وَرَدَّ رَأْسَ الْمَالِ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ ثُلُثَيْ رَأْسِ الْمَالِ وَفَسَخَ الْعَقْدَ فِي الثُّلُثَيْنِ وَبَقِيَ الثُّلُثُ عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا، وَإِنْ شَاءَ عَجَّلَ ثُلُثَيْ مَا عَلَيْهِ وَيَبْقَى الثُّلُثُ عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا، وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ سَقَطَ حَقُّ الْوَرَثَةِ مِنَ الْفَسْخِ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةً فِي قَدْرٍ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ، فَلِلْوَرَثَةِ الْخِيَارُ أَيْضًا مَعَ الْغِبْطَةِ بِسَبَبِ الْأَجَلِ، وَلِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ الْخِيَارُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَكْفِيهِ أَنْ يَجْعَلَ مِمَّا عَلَيْهِ ثُلُثَيِ الْعَشَرَةِ وَذَلِكَ تُسُعَا مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي عَلَيْهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ. وَلَوْ أَسْلَمَ الثَّلَاثِينَ فِي قَدْرٍ يُسَاوِي عَشَرَةً، فَلِلْوَرَثَةِ الِاعْتِرَاضُ هُنَا بِسَبَبِ الْأَجَلِ وَبِسَبَبِ التَّبَرُّعِ. فَإِذَا لَمْ يُجِيزُوا، فَالْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ السَّلَمَ وَرَدَّ رَأْسَ الْمَالِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ فِي الثَّلَاثِينَ وَرَدَّ ثُلُثَيْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي عَلَيْهِ إِلَى أَجَلِهِ، فَإِنْ شَاءَ عَجَّلَ مَا عَلَيْهِ مَعَ مَا زَادَ مِنَ الْمُحَابَاةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَا يَكْفِيهِ تَعْجِيلُ مَا عَلَيْهِ هُنَا ; لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَا الْمَالِ، وَلَوْ عَجَّلَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ مَعَ نِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ وَفَسَخَ السَّلَمَ فِي النِّصْفِ، كَفَى. وَلَوْ أَسْلَمَ مَرِيضٌ إِلَى رَجُلَيْنِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فِي قَفِيزٍ مِنَ الْحِنْطَةِ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ إِلَى أَجَلٍ، وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ، وَاخْتَارَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِمَا إِمْضَاءَ السَّلَمِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الْعَقْدُ

فصل

فِي بَعْضِ مَا حَابَى فِيهِ بِقِسْطِهِ، صَحَّ لَهُمَا السَّلَمُ فِي نِصْفِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، بِنِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِعَشَرَةٍ، وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَنِصْفُ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي بَعْضِ مَا حَابَى بِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِذَا أَمْضَيَا الْعَقْدَ، صَحَّ السَّلَمُ فِي جَمِيعِ الْقَفِيزِ بِثُلُثَيْ رَأْسِ الْمَالِ، فَيُؤَدِّيَانِ الْقَفِيزَ وَيَرُدَّانِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. فَصْلٌ وَمِنْهَا الضَّمَانُ، وَالْإِقْرَارُ، وَالشُّفْعَةُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثَالَ الدَّوْرِ فِيهَا فِي أَبْوَابِهَا. وَمِنْ صُوَرِهِ فِي الْإِقْرَارِ، قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا نِصْفَ مَا عَلَى بَكْرٍ، وَقَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا نِصْفَ مَا عَلَى زَيْدٍ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ زَيْدٍ وَبَكْرٍ عَشَرَةٌ إِلَّا شَيْئًا، تَأْخُذُ نِصْفَ مَا عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ خَمْسَةٌ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ الشَّيْءَ النَّاقِصَ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَخَمْسَةٌ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ تَعْدِلُ شَيْئًا، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَخَمْسَةٌ تَعْدِلُ شَيْئًا وَنِصْفًا، فَالشَّيْءُ ثُلُثَا الْخَمْسَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، فَهِيَ الشَّيْءُ، تُسْقِطُهَا مِنَ الْعَشَرَةِ، يَبْقَى سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، فَهِيَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ إِلَّا رُبُعَ مَا عَلَى الْآخَرِ، قُلْنَا: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَشَرَةٌ إِلَّا شَيْئًا، تَأْخُذُ رُبُعَ مَا عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ إِلَّا رُبُعَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ الشَّيْءَ النَّاقِصَ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَيَقَعُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ فِي مُعَادَلَةِ شَيْءٍ وَرُبُعِ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ دِرْهَمَانِ تُسْقِطُهُمَا مِنَ الْعَشَرَةِ، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ، فَهِيَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ عَشَرَةٌ وَنِصْفُ مَا عَلَى الْآخَرِ، قُلْنَا: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَشَرَةٌ وَشَيْءٌ، تَأْخُذُ نِصْفَ مَا عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَنِصْفُ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ الشَّيْءَ الزَّائِدَ عَلَى الْعَشَرَةِ، فَتُسْقِطُ نِصْفَ شَيْءٍ بِنِصْفِ شَيْءٍ، يَبْقَى نِصْفُ شَيْءٍ فِي مُعَادَلَةِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ،

فصل ومنها الهبة، فإذا وهب مريض عبدا، ثم رجع العبد أو بعضه إلى الواهب بهبة أو غيرها، دارت المسألة ; لأن التركة تزيد بقدر الراجع.

فَالشَّيْءُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عِشْرُونَ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ عَشَرَةٌ وَثُلُثٌ مَا عَلَى الْآخَرِ، فَيُزَادُ عَلَى الْعَشَرَةِ نِصْفُهَا، تَبْلُغُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَهِيَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا. وَلَوْ قَالَ: وَرُبُعُ مَا عَلَى الْآخَرِ، فَيُزَادُ عَلَى الْعَشَرَةِ ثُلُثُهَا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، وَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلُ. فَصْلٌ وَمِنْهَا الْهِبَةُ، فَإِذَا وَهَبَ مَرِيضٌ عَبْدًا، ثُمَّ رَجَعَ الْعَبْدُ أَوْ بَعْضُهُ إِلَى الْوَاهِبِ بِهِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، دَارَتِ الْمَسْأَلَةُ ; لِأَنَّ التَّرِكَةَ تَزِيدُ بِقَدْرِ الرَّاجِعِ. وَإِذَا زَادَتْ، زَادَ الثُّلُثُ. وَإِذَا زَادَ الثُّلُثُ، زَادَ الرَّاجِعُ فَزَادَتِ التَّرِكَةُ، فَإِذَا وَهَبَ مَرِيضٌ لِزَيْدٍ عَبْدًا، وَأَقْبَضَهُ، ثُمَّ وَهَبَهُ زِيدٌ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ مَرِيضٌ أَيْضًا، وَمَاتَا وَلَا مَالَ لَهُمَا سِوَى الْعَبْدِ، فَبِالْجَبْرِ نَقُولُ: صَحَّتْ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، فَبَقِيَ عَبْدٌ إِلَّا شَيْئًا، وَصَحَّتْ هِبَةُ زَيْدٍ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثُ شَيْءٍ، فَيَكُونُ مَعَهُ عَبَدٌ إِلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ضِعْفَ مَا صَحَّتْ هِبَتُهُ فِيهِ وَهُوَ شَيْئَانِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ، تَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ ثَمَانِيَةٌ، وَالشَّيْءُ ثَلَاثَةٌ، فَتَصِحُّ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الْعَبْدِ، وَتَبْطُلُ فِي الْبَاقِي، وَتَصِحُّ هِبَةُ زَيْدٍ فِي ثَمَنٍ مِنَ الْأَثْمَانِ الثَّلَاثَةِ، فَيَبْقَى مَعَ وَرَثَةِ زَيْدٍ ثَمَنَانِ وَهُمَا ضِعْفُ هِبَتِهِ، وَمَعَ وَرَثَةِ الْأَوَّلِ سِتَّةُ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ ضِعْفُ هِبَتِهِ. وَبِطَرِيقِ السِّهَامِ، تَطْلُبُ عَدَدًا لَهُ ثُلُثٌ، وَلِثُلُثِهِ ثُلُثٌ بِسَبَبِ الْهِبَتَيْنِ، وَأَقَلُّهُ تِسْعَةٌ، فَتَصِحُّ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي ثَلَاثَةٍ، وَيَرْجَعُ مِنَ الثَّلَاثَةِ سَهْمٌ وَهُوَ سَهْمُ الدَّوْرِ، تُسْقِطُهُ مِنَ التِّسْعَةِ، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ، تَصِحُّ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْهَا كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ وَهَبَ زَيْدٌ لِمَرِيضٍ ثَالِثٍ وَأَقْبَضَهُ، ثُمَّ وَهَبَ الثَّالِثُ الْأَوَّلَ، صَحَّتْ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَهِبَةُ زَيْدٍ

فِي ثُلُثِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهِبَةُ الثَّالِثِ فِي ثُلُثِ ثُلُثِهِ وَهُوَ تُسُعٌ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ تُسُعُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، يَبْقَى مَعَهُ عَبْدٌ إِلَّا ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ شَيْءٍ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهَا أَتْسَاعًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ، وَالشَّيْءُ تِسْعَةٌ، فَتَصِحُّ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي تِسْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ الْعَبْدِ، وَهِبَةُ زَيْدٍ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْهَا، يَبْقَى مَعَ وَرَثَتِهِ سِتَّةٌ هِيَ ضِعْفُ هِبَتِهِ، وَهِبَةُ الثَّالِثِ فِي وَاحِدٍ، يَبْقَى مَعَ وَرَثَتِهِ سَهْمَانِ، وَيَنْضَمُّ جُزْءٌ إِلَى مَا بَقِيَ مَعَ وَرَثَةِ الْأَوَّلِ، تَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ هِيَ ضِعْفُ مَا صَحَّتْ فِيهِ هِبَتُهُ. وَبِالسِّهَامِ تَطْلُبُ عَدَدًا لَهُ ثُلُثٌ، وَلِثُلُثِهِ ثُلُثٌ، وَلِثُلُثِ ثُلُثِهِ ثُلُثٌ، وَأَقَلُّهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، يُسْقَطُ مِنْهُ سَهْمُ الدَّوْرِ، يَبْقَى سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. مَسْأَلَةٌ: كَانَ لِلْوَاهِبِ تَرِكَةٌ سِوَى الْعَبْدِ، بِأَنْ وَهَبَ لِزَيْدٍ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَأَقْبَضَهُ، ثُمَّ وَهَبَهُ زِيدٌ - وَهُوَ مَرِيضٌ أَيْضًا - لِلْأَوَّلِ، ثُمَّ مَاتَا وَلِلْأَوَّلِ خَمْسُونَ سِوَى الْعَبْدِ، فَبِطَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ تَقُولُ: الْعَبْدُ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ، تَصِحُّ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي دِرْهَمٍ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِهِبَةِ زَيْدٍ ثُلُثُ دِرْهَمٍ، يَبْقَى مَعَهُ مِنَ الْعَبْدِ دِينَارٌ، وَمِمَّا سِوَاهُ نِصْفُ دِينَارٍ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ، فَإِنَّهُ مِثْلُ نِصْفِ الْعَبْدِ، وَمِمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ ثُلُثُ دِرْهَمٍ، فَالْمَبْلَغُ دِينَارٌ وَنِصْفُ دِينَارٍ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ دِرْهَمَانِ، تُسْقِطُ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ دِرْهَمٍ، يَبْقَى دِينَارٌ وَنِصْفُ دِينَارٍ فِي مُعَادَلَةِ دِرْهَمٍ وَسُدُسِ دِرْهَمٍ، تَبْسُطُهَا أَسْدَاسًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالدِّرْهَمُ تِسْعَةٌ، وَالدِّينَارُ سَبْعَةٌ، وَكَانَ الْعَدَدُ دِرْهَمًا وَدِينَارًا، فَهُوَ إذًا سِتَّةَ عَشَرَ، تَصِحُّ الْهِبَةُ فِي تِسْعَةٍ مِنْهَا، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِهِبَةِ زَيْدٍ ثَلَاثَةٌ وَمَعَهُ تَرِكَةٌ مِثْلُ نِصْفِ الْعَبْدِ، فَالْمَبْلَغُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ضِعْفُ التِّسْعَةِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ دَيْنٌ وَلَا تَرِكَةَ سِوَى الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَ الْعَبْدِ أَوْ أَكْثَرَ، فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، بِأَنْ وَهَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَعَلَيْهِ عِشْرُونَ دَيْنًا، صَحَّتْ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي شَيْءٍ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ ثُلُثُ شَيْءٍ، فَيَبْقَى عَبْدٌ إِلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ عَبْدٍ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهُمَا بِأَجْزَاءِ

الثُّلُثِ وَالْخُمُسِ بِأَنْ تَضْرِبَهُمَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ أَرْبَعُونَ، وَالشَّيْءُ اثْنَا عَشَرَ، تَصِحُّ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْعَبْدِ، وَيَعُودُ إِلَيْهِ أَرْبَعَةٌ، يَبْقَى اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، يُقْضَى مِنْهَا الدَّيْنُ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءِ مِثْلِ خُمُسِ الْعَبْدِ، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِعْفُ الْهِبَةِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَرِيضِ الثَّانِي تَرِكَةٌ سِوَى الْعَبْدِ، بِأَنْ كَانَ الْعَبْدُ مِائَةً، وَلِلثَّانِي خَمْسُونَ سِوَاهُ، وَوَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ، فَتَصِحُّ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ وَيَكُونُ مَعَ الثَّانِي نِصْفُ عَبْدٍ وَشَيْءٌ، يَرْجَعُ ثُلُثُهُ إِلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ سُدُسُ عَبْدٍ وَثُلُثُ شَيْءٍ، فَيَجْتَمِعُ عِنْدَهُ عَبْدٌ وَسُدُسُ عَبْدٍ إِلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ وَسُدُسُ عَبْدٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهُمَا أَسْدَاسًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَالشَّيْءُ سَبْعَةٌ، وَمَعَ الثَّانِي نِصْفُ عَبْدٍ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ مَعَ الشَّيْءِ وَهُوَ سَبْعَةٌ، فَالْمَبْلَغُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَيَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ مِنْ هِبَتِهِ خَمْسَةٌ، فَيَصِيرُ مَعَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ضِعْفَ الْهِبَةِ. مَسْأَلَةٌ: وَهَبَ مَرِيضٌ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَمَاتَ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ وَلَا مَالَ لَهُ، فَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُورَثُ، فَتَكُونُ هِبَتُهُ كَهِبَةِ الصَّحِيحِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ. فَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَّهِبِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفَسِهِ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَعِيرَ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّهُ قَبَضَ لِيَرُدَّ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: يَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ، وَقِيَاسُ بُطْلَانِ الْهِبَةِ أَنْ يَضْمَنَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ. وَلَوِ اكْتَسَبَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ مِائَةً، ثُمَّ مَاتَ، فَإِنْ صَحَّحْنَا الْهِبَةَ فِي الْجَمِيعِ، فَالْكَسْبُ لِلْمُتَّهِبِ. وَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا فِي الْجَمِيعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَسْبٌ، فَهُنَا تَصِحُّ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ لِلْمُتَّهِبِ شَيْءٌ مِنَ الْكَسْبِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَيْهِ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَلِلْوَرَثَةِ بَاقِي الْكَسْبِ وَهُوَ مِائَةٌ إِلَّا شَيْئًا تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ: مِائَةٌ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ ثُلُثُ الْمِائَةِ، فَتَصِحُّ

الْهِبَةُ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ، وَتَبْطُلُ فِي ثُلُثِهِ، وَلِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ ثُلُثَا كَسْبِهِ، وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا صَحَّتْ فِيهِ الْهِبَةُ، وَلَمْ يَحْسِبْ ثُلُثَا الْعَبْدِ عَلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ ; لِأَنَّهُ تَلِفَ قَبْلَ مَوْتِ الْوَاهِبِ، وَحَسَبْنَا عَلَى الْمُتَّهِبِ مَا تَلِفَ مِنْ وَصِيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ. مَسْأَلَةٌ: وَهَبَ لِأَخِيهِ مَالًا لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، فَمَاتَ الْأَخُ قَبْلَهُ وَخَلَّفَ بِنْتًا وَأَخَاهُ الْوَاهِبَ، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ، فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ بِالْمِيرَاثِ نِصْفَهُ، فَالْبَاقِي عَبْدٌ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَعَبْدٌ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ خُمُسَا الْعَبْدِ، فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي خُمُسَيْهِ، وَتَبْطُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ، وَيَرْجِعُ بِالْمِيرَاثِ أَحَدُ الْخُمُسَيْنِ، فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ وَهِيَ ضِعْفُ مَا صَحَّتْ فِيهِ الْهِبَةُ. مَسْأَلَةٌ: أَخٌ وَأُخْتٌ مَرِيضَانِ، وَهَبَ كُلٌّ لِلْآخَرِ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ سِوَاهُ وَهُمَا مُتَسَاوِيَا الْقِيمَةِ، ثُمَّ مَاتَ الْأَخُ وَخَلَّفَ بِنْتَيْنِ وَالْأُخْتَ الْوَاهِبَةَ، أَوْ مَاتَتِ الْأُخْتُ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَالْأَخَ الْوَاهِبَ، فَإِنْ مَاتَتِ الْأُخْتُ أَوَّلًا، صَارَتْ هِبَتُهَا لِلْأَخِ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ. وَأَمَّا هِبَةُ الْأَخِ، فَتَصِحُّ فِي شَيْءٍ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ نِصْفُ شَيْءٍ مَعَ نِصْفِ الْعَبْدِ الَّذِي كَانَ لَهَا، فَيَجْتَمِعُ لِوَرَثَتِهِ عَبْدٌ وَنِصْفُ عَبْدٍ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ وَنِصْفُ عَبْدٍ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهَا أَنْصَافًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ خَمْسَةٌ، وَالشَّيْءُ ثَلَاثَةٌ، تَصِحُّ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ نِصْفُهَا وَنِصْفُ الْعَبْدِ الَّذِي لَهَا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، فَيُضَمُّ إِلَى الْخُمُسَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لَهُ، يَكُونُ سِتَّةَ أَجْزَاءِ ضِعْفَ الْهِبَةِ. وَإِنْ مَاتَ الْأَخُ أَوَّلًا، صَارَتْ هِبَتُهُ لِلْأُخْتِ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ، وَتَصِحُّ هِبَةُ الْأُخْتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهَا ثُلُثُهَا مَعَ ثُلُثِ الْعَبْدِ الَّذِي كَانَ لَهُ، فَيَجْتَمِعُ لِوَرَثَتِهَا عَبْدٌ وَثُلُثُ عَبْدٍ إِلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ وَثُلُثُ عَبْدٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَثُلْثَيْ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ ثَمَانِيَةٌ، وَالشَّيْءُ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ نِصْفُهَا، تَصِحُّ الْهِبَةُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ، وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ

مَالُهُ وَهُوَ عَبْدٌ، فَالْمَبْلَغُ عَبْدٌ وَنِصْفٌ يَعُودُ ثُلُثُهُ إِلَى الْأُخْتِ وَهُوَ نِصْفُ عَبْدٍ، فَيَجْتَمِعُ لِوَرَثَتِهَا عَبْدٌ ضِعْفُ الْهِبَةِ. وَلَوْ عَمِيَ مَوْتُهُمَا وَلَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، صَحَّتْ هِبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي نِصْفِ عَبْدِهِ. مَسْأَلَةٌ: وَهَبَ لِزَوْجَتِهِ مِائَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، وَأَقْبَضَهَا، فَأَوْصَتْ هِيَ بِثُلُثِ مَالِهَا، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ الزَّوْجِ، صَحَّتْ هِبَتُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمِائَةِ، وَصَحَّتْ وَصِيَّتُهَا فِي ثُلُثِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَرْجِعُ إِلَى الزَّوْجِ بِالْإِرْثِ نِصْفُ ذَلِكَ الْبَاقِي وَهُوَ ثُلُثُ شَيْءٍ، فَيَحْصُلُ عِنْدَ الزَّوْجِ مِائَةٌ إِلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: مِائَةٌ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهُمَا أَثْلَاثًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْمِائَةُ ثَمَانِيَةٌ، وَالشَّيْءُ ثَلَاثَةٌ، فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الْمِائَةِ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ فِي ثُمُنٍ، وَيَرْجِعُ بِالْإِرْثِ ثُمُنٌ إِلَى الزَّوْجِ، فَيَحْصُلُ عِنْدَ وَرَثَتِهِ سِتَّةُ أَثْمَانٍ وَهُوَ ضِعْفُ الْهِبَةِ. مَسْأَلَةٌ: وَهَبَ مَرِيضٌ لِمَرِيضٍ عَبْدًا، وَأَقْبَضَهُ، ثُمَّ وَهَبَهُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ وَأَقْبَضَهُ، وَلَا مَالَ لَهُمَا غَيْرُهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْأَوَّلُ وَمَاتَا، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الْمَسْأَلَةُ تَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ ثُلُثَاهُ، وَلِوَرَثَةِ الثَّانِي رُبُعُهُ، وَيَعْتِقُ مِنْهُ بَاقِي الثُّلُثِ وَهُوَ نِصْفُ سُدُسِهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: هَذَا خَطَأٌ عِنْدَ حُذَّاقِ الْأَصْحَابِ، وَالْعِتْقُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْهِبَةَ عَلَى الْعِتْقِ وَهِيَ تَسْتَغْرِقُ الثُّلُثَ. وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ، صَحَّتْ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِالْهِبَةِ الثَّانِيَةِ ثُمُنُهُ، فَيَجْتَمِعُ مَعَ وَرَثَتِهِ سِتَّةُ أَثْمَانٍ وَهِيَ ضِعْفُ الْهِبَةِ. وَصَوَّبَ الْإِمَامُ ابْنُ سُرَيْجٍ فَقَالَ: إِذَا اجْتَمَعَ لِلْأَوَّلِ سِتَّةُ أَثْمَانِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ، فَتَنْفِيذُ الْعِتْقِ فِي تَمَامِ الثُّلُثِ لَا يُنْقِصُ حَقَّ وَرَثَتِهِ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، وَلَا حَقَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ تَعْدِيلِ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ وَرِعَايَةِ الْأَثْمَانِ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي ثَمَانِيَةٍ، تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ كَمَا ذَكَرَهُ. فَلَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ هِبَةِ الثَّانِي، ثُمَّ وَهَبَهُ الثَّانِي، لَغَا الْعِتْقُ، إِذْ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، إِلَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الْوَقْفَ.

فَرْعٌ: زِيَادَةُ الْمَوْهُوبِ وَنَقْصُهُ، كَزِيَادَةِ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ وَنَقْصِهِ، لَكِنْ مَا يُحْسَبُ هُنَاكَ لِلْعَبْدِ الْمُعْتَقِ أَوْ عَلَيْهِ، يُحْسَبُ هُنَا عَلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي الْعِتْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. مَسْأَلَةٌ: وَهَبَ مَرِيضٌ لِأَخِيهِ عَبْدًا، ثُمَّ وَهَبَهُ الْمُتَّهِبُ نِصْفَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَاتَ قَبْلَ الْمَرِيضِ وَخَلَّفَ بِنْتًا وَأَخَاهُ الْوَاهِبَ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأُسْتَاذِ: أَنَّ هِبَةَ الثَّانِي تَنْحَصِرُ فِيمَا مَلَكَهُ بِهِبَةِ الْأَوَّلِ، وَتَصِحُّ فِي جَمِيعِهِ، وَحِسَابُهُ أَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ تَصِحُّ فِي شَيْءٍ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِهِبَةِ الثَّانِي ذَلِكَ الشَّيْءُ كُلُّهُ فَمَعَهُ عَبْدٌ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ نِصْفُ عَبْدٍ، فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ عَبْدٌ تَامٌّ ضِعْفُ الْهِبَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَشِيعُ، لِمُصَادَفَتِهَا مَا مَلَكَهُ وَغَيْرُهُ، فَتَصِحُّ فِي نِصْفِ مَا مَلَكَ. وَحِسَابُهُ: أَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ تَصِحُّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ بِهِبَةِ الثَّانِي نِصْفَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِالْإِرْثِ نِصْفَ مَا بَقِيَ وَهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَيْءٍ، يَبْقَى عَبْدٌ إِلَّا رُبُعَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَرُبُعَ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهَا أَرْبَاعًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ تِسْعَةٌ، وَالشَّيْءُ أَرْبَعَةٌ، فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي أَرْبَعَةِ أَتْسَاعِ الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِالْهِبَةِ تُسُعَانِ، وَبِالْإِرْثِ تُسُعٌ آخَرَ، فَيَجْتَمِعُ لِوَرَثَتِهِ ثَمَانِيَةُ أَتْسَاعٍ ضِعْفُ الْهِبَةِ. فَرْعٌ فِيمَا إِذَا وُطِئَتِ الْمَوْهُوبَةُ وِطْئًا يُوجِبُ الْمَهْرَ إِنْ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُبْهَةٍ قَبْلَ مَوْتِ الْوَاهِبِ، فَالْمَهْرُ كَالْكَسْبِ يُقَسَّمُ عَلَى مَا تَصِحُّ

فِيهِ الْهِبَةُ، وَعَلَى مَا لَا تَصِحُّ، فَحِصَّةُ مَا تَصِحُّ هِبَتُهُ لَا تُحْسَبُ عَلَى الْمُتَّهِبِ، وَحِصَّةُ مَا لَا تَصِحُّ تُحْسَبُ عَلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ. وَإِنْ وَطِئَهَا الْوَاهِبُ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ وَمَهْرُهَا مِثْلُ قِيمَتِهَا، صَحَّتِ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ، وَيَسْتَحِقُّ الْمُتَّهِبُ عَلَى الْوَاهِبِ مِثْلَ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْمَهْرِ، فَيُقْضَى مِمَّا بَقِيَ، يَبْقَى جَارِيَةٌ إِلَّا شَيْئَيْنِ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: جَارِيَةٌ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ رُبُعُ الْجَارِيَةِ، تَصِحُّ الْهِبَةُ فِي رُبُعِ الْجَارِيَةِ، وَيَثْبُتُ عَلَى الْوَاهِبِ مِثْلُ رُبُعِهَا يُقْضَى مِنَ الْجَارِيَةِ، يَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ نِصْفُهَا وَهُوَ ضِعْفُ الْمَوْهُوبِ. وَإِنْ وَطِئَهَا الْمُتَّهِبُ وَمَهْرُهَا مِثْلُ قِيمَتِهَا، صَحَّتِ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ، وَتَبْطُلُ فِي جَارِيَةٍ سِوَى شَيْءٍ، وَثَبَتَ لِلْوَاهِبِ عَلَى الْمُتَّهِبِ مِثْلُ مَا بَطَلَتْ فِيهِ الْهِبَةُ وَهُوَ جَارِيَةٌ إِلَّا شَيْئًا، فَيَحْصُلُ لَهُ جَارِيَتَانِ إِلَّا شَيْئَيْنِ يَعْدِلَانِ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: جَارِيَتَانِ تَعْدِلَانِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ نِصْفُ جَارِيَةٍ، فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي نِصْفِهَا، وَيَسْتَحِقُّ بِالْوَطْءِ مِثْلَ نِصْفِهَا، فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ جَارِيَةٌ تَامَّةٌ وَهِيَ ضِعْفُ الْمَوْهُوبِ. وَإِنْ كَانَ مَهْرُهَا نِصْفَ قِيمَتِهَا، صَحَّتِ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ، وَبَطَلَتْ فِي جَارِيَةٍ سِوَى شَيْءٍ، وَيَسْتَحِقُّ الْوَاهِبُ عَلَى الْمُتَّهِبِ مِثْلَ نِصْفِ مَا بَطَلَتْ فِيهِ الْهِبَةُ، وَهُوَ نِصْفُ جَارِيَةٍ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ فَيَجْتَمِعُ عِنْدَ الْوَاهِبِ جَارِيَةٌ وَنِصْفٌ إِلَّا شَيْئًا، وَنِصْفُ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: جَارِيَةٌ وَنِصْفٌ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهَا أَنْصَافًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْجَارِيَةُ سَبْعَةٌ، وَالشَّيْءُ ثَلَاثَةٌ، تَصِحُّ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ الْجَارِيَةِ، وَتَبْطُلُ فِي أَرْبَعَةِ أَسِبَاعِهَا، وَيَغْرَمُ الْمُتَّهِبُ مِنْ مَهْرِهَا مِثْلَ سُبُعِ قِيمَتِهَا، فَيَجْتَمِعُ مَعَ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا ضِعْفُ الْمَوْهُوبِ. وَإِنْ وَطِئَهَا الْوَاهِبُ وَالْمُتَّهِبُ وَمَهْرُهَا مِثْلُ قِيمَتِهَا، صَحَّتِ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ وَثَبَتَ لِلْمُتَّهِبِ عَلَى الْوَاهِبِ مِثْلُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، يَبْقَى جَارِيَةٌ إِلَّا شَيْئَيْنِ، وَثَبَتَ لِلْوَاهِبِ عَلَى الْمُتَّهِبِ مِثْلُ مَا بَطَلَتْ فِيهِ الْهِبَةُ وَهُوَ جَارِيَةٌ إِلَّا شَيْئًا، فَتُضَمُّ إِلَى مَا بَقِيَ لِلْوَاهِبِ، تَبْلُغُ جَارِيَتَيْنِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: جَارِيَتَانِ تَعْدِلَانِ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ خُمُسُ الْجَارِيَتَيْنِ وَهُوَ خُمُسَا جَارِيَةٍ، فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي خُمُسَيْهَا، وَيَثْبُتُ لِلْمُتَّهِبِ عَلَى

فصل

الْوَاهِبِ خُمُسَانِ آخَرَانِ، فَالْمَبْلَغُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، ثُمَّ يَسْتَرْجِعُ الْوَاهِبُ مِثْلَ مَا بَطَلَتْ فِيهِ الْهِبَةُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ، فَيَجْتَمِعُ لِوَرَثَتِهِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ وَهُوَ ضِعْفُ الْمَوْهُوبِ. وَلَوْ كَانَ مَهْرُهَا مِثْلَ نِصْفِ قِيمَتِهَا، صَحَّتِ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهَا، وَبَطَلَتْ فِي خَمْسَةِ أَثْمَانِهَا، وَيَثْبُتُ لِلْمُتَّهِبِ عَلَى الْوَاهِبِ ثُمُنٌ وَنِصْفُ ثُمُنٍ، فَيَجْتَمِعُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَثْمَانٍ وَنِصْفُ ثُمُنٍ، ثُمَّ يَسْتَرْجِعُ الْوَاهِبُ نِصْفَ مَا بَطَلَتْ فِيهِ الْهِبَةُ وَهُوَ ثُمُنَانِ وَنِصْفٌ، فَيَجْتَمِعُ لِوَرَثَتِهِ سِتَّةُ أَثْمَانٍ وَهُوَ ضِعْفُ الْمَوْهُوبِ. فَصْلٌ وَمِنْهَا: الصَّدَاقُ وَالْخُلْعُ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا نَكَحَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، جُعِلَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَإِنْ نَكَحَ بِأَكْثَرَ، فَالزِّيَادَةُ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنْ كَانَتْ وَارِثَةً، فَالتَّبَرُّعُ عَلَى وَارِثٍ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَهُ وَوَرِثَهَا الزَّوْجُ، وَقَعَ الدَّوْرُ، فَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: أَصْدَقَهَا مِائَةً، وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَرْبَعُونَ، فَمَاتَتْ قَبْلَهُ وَلَا مَالَ لَهُمَا سِوَى الصَّدَاقِ، فَلَهَا أَرْبَعُونَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَهَا شَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ، يَبْقَى مَعَ الزَّوْجِ سِتُّونَ إِلَّا شَيْئًا، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ نِصْفُ مَا لِلْمَرْأَةِ وَهُوَ عِشْرُونَ وَنِصْفُ شَيْءٍ، فَالْمَبْلَغُ ثَمَانُونَ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ ثَمَانُونَ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ خُمُسَا الثَّمَانِينَ وَهُوَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، فَلَهَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ، أَرْبَعُونَ مَهْرٌ، وَالْبَاقِي مُحَابَاةٌ، يَبْقَى مَعَ الزَّوْجِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، فَيَجْتَمِعُ لِوَرَثَتِهِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ، فَالرَّاجِعُ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ رُبُعُ مَالِهَا وَهُوَ عَشَرَةٌ وَرُبُعُ شَيْءٍ، فَيَحْصُلُ لِلزَّوْجِ سَبْعُونَ

إِلَّا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ شَيْءٍ وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: سَبْعُونَ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ شَيْءٍ، تَبْسُطُهُمَا أَرْبَاعًا، فَتَكُونُ الدَّرَاهِمُ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَالْأَشْيَاءُ أَحَدَ عَشَرَ، تُقَسَّمُ الدَّرَاهِمُ عَلَى الْأَشْيَاءِ، يَخْرُجُ مِنَ الْقِسْمَةِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَخَمْسَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، فَهَذَا قَدْرُ الْمُحَابَاةِ، فَلَهَا بِالْمَهْرِ وَالْمُحَابَاةِ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، يَرْجِعُ إِلَى الزَّوْجِ رُبُعُ ذَلِكَ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ ضَعْفُ الْمُحَابَاةِ. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّانِيَةُ: أَعْتَقَ مَرِيضٌ جَارِيَةً وَنَكَحَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهَا، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ جَمِيعِهَا، وَالنِّكَاحُ وَالْمِلْكُ لَا يَجْتَمِعَانِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلَا مَهْرَ. وَإِنْ دَخَلَ، فَهُوَ وَطْءُ شُبْهَةٍ، فَلَهَا مِنَ الْمَهْرِ بِقِسْطِ مَا عَتَقَ مِنْهَا، وَيَقَعُ فِيهِ الدَّوْرُ. فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً، وَالْمَهْرُ خَمْسِينَ، عَتَقَ مِنْهَا شَيْءٌ وَلَهَا بِالْمَهْرِ نِصْفُ شَيْءٍ ; لِأَنَّ الْمَهْرَ نِصْفُ الْقِيمَةِ، يَبْقَى جَارِيَةٌ إِلَّا شَيْئًا وَنِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: جَارِيَةٌ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ سُبُعَا الْجَارِيَةِ، فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي سُبُعَيْهَا، وَيَبْطُلُ فِي خَمْسَةِ أَسْبَاعِهَا، فَيُصْرَفُ سُبُعٌ مِنْهَا إِلَى مَهْرِ السَّبْعِينَ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسِبَاعِهَا ضِعْفُ مَا عَتَقَ، ثُمَّ السُّبُعُ الْمَصْرُوفُ إِلَى الْمَهْرِ، إِنْ رَضِيَتْ بِهِ بَدَلًا عَمَّا لَهَا مِنَ الْمَهْرِ، فَذَاكَ، وَيَعْتِقُ عَلَيْهَا حِينَ مَلَكَتْهُ لَا بِالْإِعْتَاقِ الْأَوَّلِ وَإِنْ أَبَتْ بِيعَ سُبُعُهَا فِي مَهْرِهَا. هَذَا إِذَا لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهَا. فَإِنْ مَلَكَ، وَ [كَانَتِ] الْجَارِيَةُ قَدْرَ الثُّلُثِ، بِأَنْ خَلَّفَ مِائَتَيْنِ سِوَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلَا مَهْرَ، لِأَنَّهَا لَوِ اسْتَحَقَّتْ مَهْرًا لَلَحِقَ [التَّرِكَةَ] دَيْنٌ، فَلَا تَخْرُجُ كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ، وَلَبَطَلَ النِّكَاحُ وَسَقَطَ الْمَهْرُ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَهَا الْخِيَارُ، فَإِنْ عَفَتْ عَنْ مَهْرِهَا، عَتَقَتْ وَصَحَّ النِّكَاحُ، وَإِلَّا، فَلَهَا ذَلِكَ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ جَمِيعَهَا لَمْ يَعْتِقْ، وَأَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ وَلَهَا مَهْرُهَا مَا عَتَقَ مِنْهَا. فَيُقَالُ: عَتَقَ شَيْءٌ، وَلَهَا بِالْمَهْرِ نِصْفُ شَيْءٍ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَلَثُمِائَةٍ إِلَّا شَيْئًا وَنِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ،

فَبَعْدَ الْجَبْرِ: ثَلَثُمِائَةٍ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ، فَمِائَةٌ تَعْدِلُ شَيْئًا وَسُدُسَ شَيْءٍ، تَبْسُطُهَا أَسْدَاسًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالشَّيْءُ سِتَّةٌ، وَالْمِائَةُ سَبْعَةٌ، فَالشَّيْءُ سِتَّةُ أَسْبَاعِ الْجَارِيَةِ. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّالِثَةُ: قَدْ عُلِمَ أَنَّ خُلْعَ الْمَرِيضِ بِأَقَلِّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ، وَأَنَّ الْمَرِيضَةَ [لو نُكِحَتْ بِأَقَلِّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْوَرَثَةِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ وَارِثًا، وَأَنَّ الْمَرِيضَةَ] لَوِ اخْتَلَعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، اعْتُبِرَتِ الزِّيَادَةُ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِذَا نَكَحَ مَرِيضٌ امْرَأَةً بِمِائَةٍ، وَمَهْرُهَا أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، ثُمَّ خَالَعَتْهُ فِي مَرَضِهَا بِمِائَةٍ، وَمَاتَا مِنْ مَرَضِهَمَا وَلَا مَالَ لَهُمَا إِلَّا الْمِائَةَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِمَّا بَعْدَهُ. الْحَالَةُ الْأُولَى: بَعْدَهُ، فَلِلْمَرْأَةِ أَرْبَعُونَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَهُ شَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الزَّوْجِ أَرْبَعُونَ بِالْخُلْعِ، وَلَهُ ثُلُثُ شَيْءٍ بِالْمُحَابَاةِ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ مِائَةٌ إِلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: مِائَةٌ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْمِائَةِ وَهُوَ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ دِرْهَمٍ وَهِيَ الْمُحَابَاةُ، فَلِلْمَرْأَةُ بِالْمَهْرِ وَالْمُحَابَاةِ سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ الزَّوْجُ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا بِعِوَضِ الْخُلْعِ، وَبِالْمُحَابَاةِ ثُلُثَ الْبَاقِي وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ، وَكَانَ [بَقِيَ] لَهُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَنِصْفٌ، فَالْمَبْلَغُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. هَذَا إِذَا جَرَى الْخُلْعُ بِمِائَةٍ فِي ذِمَّتِهَا، فَلَوْ جَرَى بِعَيْنِ الْمِائَةِ الَّتِي أَصْدَقَهَا، فَقَدْ خَالَعَهَا عَلَى مَمْلُوكٍ وَغَيْرِ مَمْلُوكٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْمُسَمَّى يَسْقُطُ وَيَرْجِعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ: لَهَا أَرْبَعُونَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَشَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ، وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ بِالْخُلْعِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ بِالْمُحَابَاةِ ; لِأَنَّ الْمُسَمَّى إِذَا بَطَلَ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنَ الْمُحَابَاةِ، فَيَكُونُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ مِائَةٌ إِلَّا شَيْئًا يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُسَمَّى ثُلُثُ الْمِائَةِ، فَلَهَا بِالْمَهْرِ وَالْمُحَابَاةِ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ

دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، يَأْخُذُ الزَّوْجُ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ، يَجْتَمِعُ لِوَرَثَتِهِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا جَرَى الْخُلْعُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَيَتَشَطَّرُ الصَّدَاقُ، وَالْحَاصِلُ لِلْمَرْأَةِ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَشَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ، لِلزَّوْجِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ، يَبْقَى شَيْءٌ إِلَّا عِشْرِينَ دِرْهَمًا لَهُ ثَلَاثَةٌ بِالْمُحَابَاةِ وَهُوَ ثُلُثُ شَيْءٍ إِلَّا سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، يَبْقَى لِوَرَثَتِهَا ثُلُثَا شَيْءٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثَ دِرْهَمٍ، فَيَجْتَمِعُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ مِائَةٌ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ إِلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: مِائَةٌ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ هَذَا الْمَبْلَغِ وَهِيَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ دِرْهَمٍ [وَهِيَ الْمُحَابَاةُ، فَلِلْمَرْأَةِ الْمُحَابَاةُ وَنِصْفُ الْمَهْرِ اثْنَانِ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ دِرْهَمٍ] يَبْقَى لِلزَّوْجِ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ دِرْهَمٍ، وَيَأْخُذُ مِمَّا صَارَ لَهَا بِعِوَضِ الْخُلْعِ أَرْبَعِينَ، وَيَأْخُذُ أَيْضًا ثُلُثَ الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، فَالْمَبْلَغُ خَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. هَذَا كَلَامُ الْأُسْتَاذِ، وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ بِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَعَ الْمُحَابَاةِ الصَّدَاقُ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْجَمِيعِ، وَعَلَى هَذَا طَرِيقُ الْحِسَابِ أَنْ يُقَالَ: لَهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَرْبَعُونَ، وَبِالْمُحَابَاةِ شَيْءٌ، يَبْقَى لِلزَّوْجِ سِتُّونَ إِلَّا شَيْئًا، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ نِصْفُ مَا مَلَكَتْهُ صَدَاقًا وَهُوَ عِشْرُونَ وَنِصْفُ شَيْءٍ، فَلِلزَّوْجِ ثَمَانُونَ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، ثُمَّ تَأْخُذُ مِمَّا بَقِيَ لَهَا أَرْبَعِينَ، يَبْقَى نِصْفُ شَيْءٍ إِلَّا عِشْرِينَ دِرْهَمًا، تَأْخُذُ بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثَ هَذَا الْبَاقِي وَهُوَ سُدُسُ شَيْءٍ إِلَّا سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، فَيَجْتَمِعُ لِوَرَثَتِهِ مِائَةٌ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ إِلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الشَّيْءَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ مِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، يَبْقَى لِلزَّوْجِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ، وَيَرْجِعُ بِالشَّطْرِ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسُبُعَانِ، وَيَأْخُذُ مِنَ الشَّطْرِ

فصل

الْآخَرَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ وَثُلُثُ الْبَاقِي وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ، فَالْمَبْلَغُ سَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَسُبُعُ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ، يَبْقَى لِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ دِرْهَمَانِ وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ. وَعَلَى قَوْلِ الْأُسْتَاذِ، يَبْقَى لَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ لَا فَرْقَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ مَوْتِهِ أَوَّلًا وَعَكْسِهِ، وَمَوْتِهِمَا مَعًا، لِانْقِطَاعِ الْإِرْثِ بِالْخُلْعِ، وَالدَّوْرُ إِنَّمَا يَقَعُ فِي جَانِبِهِ دُونَهَا، إِذْ لَا يَعُودُ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا. فَصْلٌ وَمِنْهَا الْجِنَايَاتُ، فَإِذَا جَنَى عَبْدٌ عَلَى حُرٍّ خَطَأً، وَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَمَاتَ لَمْ يَكُنِ الْعَفْوُ وَصِيَّةً لِقَاتِلٍ ; لِأَنَّ فَائِدَتَهُ تَعُودُ إِلَى السَّيِّدِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، نَفَذَ فِي الثُّلُثِ، وَانْفَكَّ ثُلُثُ الْعَبْدِ عَنْ تَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى وَجْهِ: أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ مِنَ الْمَرْهُونِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ السَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُلُثَيْهِ لِلْبَيْعِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ. فَإِنْ سَلَّمَهُ، فَلَا دَوْرَ، بَلْ يُبَاعُ وَيُؤَدَّى مِنْ ثَمَنِهِ ثُلُثَا الْأَرْشِ، أَوْ مَا تَيَسَّرَ. وَإِنْ فَدَاهُ، فَيَفْدِي الثُّلُثَيْنِ بِثُلُثَيِ الْأَرْشِ، كَمْ كَانَ، أَمْ بِالْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيِ الْقِيمَةِ وَثُلُثَيِ الدِّيَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. فَإِنْ كَانَ الْفِدَاءُ بِثُلُثَيِ الْقِيمَةِ، فَلَا دَوْرَ، وَإِنْ كَانَ بِالدِّيَةِ، فَيَقَعُ الدَّوْرُ، فَيَقْطَعُ بِالْحِسَابِ. مِثَالُهُ: قِيمَةُ الْعَبْدِ ثَلَثُمِائَةٍ، وَقَوَّمْنَا الْإِبِلَ فَكَانَتْ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، فَيَصِحُّ الْعَفْوُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَيَبْطُلُ فِي عَبْدٍ نَاقِصٍ بِشَيْءٍ يَفْدِيهِ السَّيِّدُ بِأَرْبَعَةِ أَمْثَالِهِ ; لِأَنَّ الدِّيَةَ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ، وَأَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ أَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ الْعَافِي أَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ، فَأَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ تَعْدِلُ سِتَّةَ أَشْيَاءَ، فَتَقْلِبُ الِاسْمَ، وَتَقُولُ: الْعَبْدُ سِتَّةٌ، وَالشَّيْءُ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ ثُلُثَا السِّتَّةِ، فَيَصِحُّ الْعَفْوُ فِي ثُلُثَيِ الْعَبْدِ وَهُوَ مِائَتَانِ، وَيَفْدِي السَّيِّدُ ثُلُثَهُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ الْعَافِي ضِعْفُ الْمِائَتَيْنِ. هَذَا إِذَا لَمْ يَتْرُكْ

الْعَافِي سِوَى مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ. فَإِنْ تَرَكَ مَالًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنَ الدِّيَةِ، وَكَانَ مَا تَرَكَهُ ضِعْفَ الْقِيمَةِ، صَحَّ الْعَفْوُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَهُ دُونَ ضِعْفِ الْقِيمَةِ، ضُمَّتِ التَّرِكَةُ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَصَحَّ الْعَفْوُ فِي ثُلُثِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ، جُمِعَ بَيْنَ التَّرِكَةِ وَالدِّيَةِ، وَصَحَّ الْعَفْوُ فَثُلُثُ الْجُمْلَةِ مِنَ الدِّيَةِ. فُرُوعٌ: أَحَدُهَا: لَوْ لَمْ يَتْرُكْ سِوَى مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِ مِائَتَانِ دَيْنًا، وَسَلَّمَهُ لِلْبَيْعِ، وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ، وَقُلْنَا: الْفِدَاءُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، سَقَطَ الدَّيْنُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، يَبْقَى مِائَةٌ لِلسَّيِّدِ ثُلُثُهَا، وَهُوَ تُسُعُ الْعَبْدِ، فَيَصِحُّ الْعَفْوُ فِي تُسُعِهِ، وَيُبَاعُ ثَمَانِيَةُ أَتْسَاعِهِ، أَوْ يَفْدِيهَا السَّيِّدُ بِثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِ قِيمَتِهِ، وَهُوَ مِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَانِ، يُقْضَى مِنْهَا دَيْنُهُ، يَبْقَى سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ ضِعْفُ مَا صَحَّ فِيهِ الْعَفْوُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالدِّيَةِ، صَحَّ الْعَفْوُ فِي شَيْءٍ، وَفَدَى السَّيِّدُ الْبَاقِيَ بِأَرْبَعَةِ أَمْثَالِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، تَحُطُّ مِنْهَا قَدْرَ الدَّيْنِ وَهُوَ ثُلُثَا عَبْدٍ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ وَثُلُثُ عَبْدٍ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَتَجْبُرُ وَتُقَابِلُ وَتَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالشَّيْءُ عَشَرَةٌ وَهُوَ خَمْسَةُ أَتْسَاعِهَا، فَيَصِحُّ الْعَفْوُ فِي خَمْسَةِ أَتْسَاعِ الْعَبْدِ وَهِيَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَانِ، وَيَفْدِي السَّيِّدُ بَاقِيهِ وَهُوَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ بِأَرْبَعَةِ أَمْثَالِهِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، يُقْضَى مِنْهَا الدَّيْنُ، يَبْقَى ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ ضِعْفُ مَا صَحَّ الْعَفْوُ فِيهِ. (الْفَرْعُ) الثَّانِي: جَنَى عَبْدَانِ خَطَأً عَلَى حُرٍّ، فَعَفَا عَنْهُمَا، وَمَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَى الدِّيَةِ، فَإِنِ اخْتَارَ السَّيِّدَانِ تَسْلِيمَهُمَا أَوِ اخْتَارَا الْفِدَاءَ، وَقُلْنَا: الْفِدَاءُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ،

فصل

صَحَّ الْعَفْوُ فِي ثُلُثِ كُلِّ عَبْدٍ، وَبِيعَ ثُلُثَاهُ، أَوْ فَدَى سَيِّدُهُ ثُلُثَيْهِ بِثُلُثَيِ الْقِيمَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْفِدَاءُ بِالدِّيَةِ، وَكَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ عَبْدٍ ثَلَثَمِائَةٍ، وَقِيمَةُ الدِّيَةِ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، صَحَّ الْعَفْوُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ، وَفَدَى سَيِّدُهُ بَاقِيهِ بِضِعْفِهِ ; لِأَنَّ نِصْفَ الدِّيَةِ هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِكُلِّ عَبْدٍ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ ضِعْفُ كُلِّ عَبْدٍ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ الْعَافِي أَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ضِعْفَ مَا جَازَ الْعَفْوُ فِيهِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: أَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ تَعْدِلُ ثَمَانِيَةَ أَشْيَاءَ، فَتَقْلِبُ الِاسْمَ، وَتَجْعَلُ الْعَبْدَ ثَمَانِيَةً، وَالشَّيْءَ أَرْبَعَةً وَهُوَ نِصْفُهَا، فَيَصِحُّ الْعَفْوُ فِي نِصْفِ كُلِّ عَبْدٍ، وَيَفْدِي كُلُّ سَيِّدٍ نِصْفَ عَبْدِهِ بِعَبْدٍ، فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ عَبْدَانِ ضِعْفُ مَا صَحَّ الْعَفْوُ فِيهِ. (الْفَرْعُ) الثَّالِثُ: قَتَلَ عَبْدٌ حُرَّيْنِ خَطَأً، تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ الدِّيَتَانِ. فَإِنْ سَلَّمَهُ سَيِّدُهُ، بِيعَ وَوُزِّعَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ فَدَاهُ وَقُلْنَا: الْفِدَاءُ بِالْقِيمَةِ، وُزِّعَتِ الْقِيمَةُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالدِّيَةِ، فَدَاهُ بِالدِّيَتَيْنِ. فَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا فِي مَرَضِهِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُدْفَعُ إِلَى وَرَثَةِ الْعَافِي ثُلُثَا نِصْفِهِ، وَإِلَى وَرَثَةِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ جَمِيعَ النِّصْفِ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُتَعَلِّقٌ بِنِصْفٍ مِنْهُ، فَيَنْفُذُ عَفْوُ الْعَافِي فِي ثُلُثِ مَحَلِّ حَقِّهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلِ الدِّيَتَانِ مُتَعَلِّقَتَانِ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا، سَقَطَ [ثُلُثُ] الدِّيَةِ، فَوَرَثَتُهُ وَوَرَثَةُ الْآخَرِ يَتَضَارَبُونَ هَؤُلَاءِ بِثُلُثَيْ دِيَةِ مُوَرِّثِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ بِكُلِّ دِيَةِ مُوَرِّثِهِمْ. فَصْلٌ وَمِنْهَا الْعِتْقُ، فَإِذَا أَعْتَقَ مَرِيضٌ عَبْدًا، فَاكْتَسَبَ مَالًا قَبْلَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ، وُزِّعَ الْكَسْبُ عَلَى مَا يَعْتِقُ وَ [مَا] يَرِقُّ، وَحِصَّةُ الْعِتْقِ لَا تُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَحِصَّةُ مَا رُقَّ تُزَادُ فِي التَّرِكَةِ، وَإِذَا زَادَتِ التَّرِكَةُ، زَادَ مَا عَتَقَ، فَتَزِيدُ حِصَّتُهُ مِنَ الْكَسْبِ، وَإِنْ زَادَتْ

حِصَّةُ مَا عَتَقَ، نَقَصَتِ التَّرِكَةُ، فَيَنْقُصُ مَا عَتَقَ، فَيَزِيدُ الْمَالُ، فَيَزِيدُ مَا عَتَقَ، وَهَكَذَا تَدُورُ زِيَادَتُهُ عَلَى نَقْصِهِ، وَنَقْصُهُ عَلَى زِيَادَتِهِ، فَيَقْطَعُ الدَّوْرَ بِالطُّرُقِ الْحِسَابِيَّةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. مَسْأَلَةٌ: اكْتَسَبَ الْعَبْدُ مِثْلَ قِيمَتِهِ، فَيَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْءٌ غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَيْهِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ عَبْدَانِ إِلَّا شَيْئَيْنِ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ضَعْفَ مَا عَتَقَ وَهُوَ شَيْئَانِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدَانِ يَعْدِلَانِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ أَرْبَعَةٌ، وَالشَّيْءُ اثْنَانِ، وَالِاثْنَانِ ضِعْفُ الْأَرْبَعَةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنَ الْعَبْدِ نِصْفُهُ، وَيَتْبَعُهُ نِصْفُ الْكَسْبِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَيْهِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الْكَسْبِ، وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا عَتَقَ. وَبِطَرِيقِ السِّهَامِ: تَأْخُذُ لِلْعِتْقِ سَهْمًا، وَلِمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ سَهْمًا، وَتَأْخُذُ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفَ مَا أَخَذْتَ لِلْعِتْقِ وَهُوَ سَهْمَانِ، يَجْتَمِعُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، ثُمَّ تَأْخُذُ الرَّقَبَةَ وَالْكَسْبَ وَهُمَا مِثْلَانِ، فَتُقَسِّمُهُمَا عَلَى الْأَرْبَعَةِ، يَخْرُجُ مِنَ الْقِسْمَةِ نِصْفٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي عَتَقَ نِصْفُ الرَّقَبَةِ. وَلَوِ اكْتَسَبَ الْعَبْدُ - وَقِيمَتُهُ تِسْعُونَ - مِثْلَ قِيمَتِهِ وَمِثْلَ نِصْفِهَا، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْءٌ وَنِصْفٌ غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَيْهِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ عَبْدَانِ وَنِصْفٌ إِلَّا شَيْئَيْنِ، وَنِصْفُ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدَانِ وَنِصْفٌ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهَا أَنْصَافًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ تِسْعَةٌ، وَالشَّيْءُ خَمْسَةٌ، فَيَعْتِقُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَتْسَاعِهِ وَقِيمَتُهَا خَمْسُونَ، وَيَتْبَعُهَا خَمْسَةُ أَتْسَاعِ الْكَسْبِ وَهِيَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ الْعَبْدِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ الْكَسْبِ وَهِيَ سِتُّونَ، وَهُمَا مِائَةٌ؛ ضِعْفُ مَا عَتَقَ. وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ بِحَالِهَا، وَعَلَى السَّيِّدِ مِثْلُ قِيمَةِ الْعَبْدِ دَيْنًا، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْءٌ وَنِصْفٌ، يَبْقَى عِنْدَ الْوَرَثَةِ عَبْدَانِ وَنِصْفُ عَبْدٍ إِلَّا شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ،

تُسْقِطُ مِنْهُ عَبْدًا لِلدَّيْنِ، يَبْقَى عَبْدٌ وَنِصْفٌ إِلَّا شَيْئَيْنِ، وَنِصْفٌ يَعْدِلُ ضِعْفَ مَا عَتَقَ، وَهُوَ شَيْئَانِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ وَنِصْفٌ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ، تَبْسُطُهَا أَنْصَافًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ تِسْعَةٌ، وَالشَّيْءُ ثَلَاثَةٌ، يَعْتِقُ مِنَ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَتْسَاعِهِ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ ثَلَاثَةُ أَتْسَاعِهِ، يُقْضَى الدَّيْنُ مِنَ الْبَاقِي، يَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ ضِعْفُ مَا عَتَقَ. وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا، إِلَّا أَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَى السَّيِّدِ، وَلَهُ سِوَى الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ تِسْعُونَ، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْءٌ وَنِصْفٌ، يَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ عَبْدَانِ وَنِصْفٌ إِلَّا شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ، وَمَعَهُمْ مِثْلُ قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَيَجْتَمِعُ مَعَهُمْ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ وَنِصْفُ عَبْدٍ إِلَّا شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ وَنِصْفُ عَبْدٍ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ، تَبْسُطُهَا أَنْصَافًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ تِسْعَةٌ، وَالشَّيْءُ سَبْعَةٌ، فَيَعْتِقُ مِنْهُ سَبْعَةُ أَتْسَاعِهِ وَهُوَ سَبْعُونَ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ سَبْعَةُ أَتْسَاعِهِ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ تُسْعَاهُ عِشْرُونَ، وَتُسْعَا الْكَسْبِ ثَلَاثُونَ، وَمَعَهُمْ تِسْعُونَ أَيْضًا، فَالْمَبْلَغُ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ ضِعْفَ مَا عَتَقَ. فَرْعٌ مَتَّى تَرَكَ السَّيِّدُ ضِعْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَتَبِعَهُ كَسْبُهُ وَلَا دَوْرَ. وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دِيَةٌ، وَلَهُ سِوَى الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ مَالٌ، قُوبِلَ بِذَلِكَ الْمَالِ. فَإِنْ تَسَاوَيَا، فَكَأَنْ لَا دَيْنَ وَلَا مَالَ، وَإِنْ زَادَ الدَّيْنُ، فَكَأَنَّ الْقَدْرَ هُوَ الدَّيْنُ. وَإِنَّ زَادَ الْمَالُ، فَكَأَنَّ الْقَدْرَ الزَّائِدَ هُوَ الْمَتْرُوكُ.

فَرْعٌ الْمَوْهُوبُ لِلْعَبْدِ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، كَالْكَسْبِ. فَرْعٌ قِيمَتُهُ تِسْعُونَ، وَاكْتَسَبَ بَعْدَ الْعِتْقِ تِسْعِينَ، فَاسْتَقْرَضَهَا السَّيِّدُ مِنْهُ وَأَتْلَفَهَا، ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ وَاسْتَحَقَّ عَلَى السَّيِّدِ شَيْئًا هُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ عَبْدٌ إِلَّا شَيْئَيْنِ تَعْدِلُ ضِعْفَ مَا عَتَقَ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَتَقْلِبُ الِاسْمَ، وَتَقُولُ: عَتَقَ مِنْهُ رُبْعُهُ، وَيَتْبَعُهُ رُبْعُهُ كَرُبْعِ كَسْبِهِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ نِصْفُهُ وَهُوَ ضِعْفُ مَا عَتَقَ، ثُمَّ رُبُعُ الْكَسْبِ الَّذِي هُوَ دَيْنٌ، إِنْ أَدَّاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ عِنْدِهِمْ، جَازَ وَاسْتَمَرَّ مِلْكُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، وَمَلَكَ هُوَ مَا سَلَّمُوهُ إِلَيْهِ بِرُبُعِهِ الْحُرِّ، وَإِنْ تَرَاضَوْا هُمْ وَالْعَبْدُ عَلَى أَنْ تَكُونَ رَقَبَتُهُ بَدَلًا عَنْ رُبُعِ الْكَسْبِ، جَازَ وَعَتَقَ رُبْعُهُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: وَيَكُونُ وَلَاءُ هَذَا الرُّبُعِ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ بَيْعَهُ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ الْعَبْدُ: آخُذُهُ بَدَلًا عَنِ الدَّيْنِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ، أَنَّهُ أَحَقُّ بِنَفْسِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ. فَرْعٌ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَهَلْ يَمُوتُ حُرًّا، أَمْ رَقِيقًا؟ أَمْ ثُلُثُهُ حُرًّا وَثُلُثَاهُ رَقِيقًا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ اكْتَسَبَ ضِعْفَ قِيمَتِهِ، وَلَمْ يُخْلِفْ إِلَّا السَّيِّدَ، مَاتَ حُرًّا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ

يَرِثُ هُنَا بِالْوَلَاءِ كَسْبَهُ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَتِهِ ضِعْفُ الْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَ الْكَسْبُ مِثْلَ قِيمَتِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَوْ لَمْ يُخْلِفْ كَسْبًا لَمَاتَ حُرًّا، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: يَمُوتُ رَقِيقًا، فَهُنَا لَا يَرِثُ جَمِيعَهُ، لِأَنَّهُ خَلَفَ شَيْئًا، وَلَا يَعْتِقُ جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ لَيْسَ ضِعْفَهُ. فَإِنْ قُلْنَا: مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ يُورَثُ، عَتَقَ نِصْفُهُ، وَكَانَ جَمِيعُ كَسْبِهِ لِسَيِّدِهِ، نِصْفُهُ بِالْمِلْكِ، وَنِصْفُهُ بِالْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَتِهِ ضِعْفُ مَا عَتَقَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُورَثُ، قَالَ الْإِمَامُ: يَعْتِقُ مِنْهُ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْءٌ، يَصْرِفُ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَيَبْقَى عَبْدٌ نَاقِصٌ بِشَيْءٍ يَعْدِلُ ضِعْفَ مَا عَتَقَ وَهُوَ شَيْئَانِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ ثُلُثُ الْعَبْدِ، فَيَعْتِقُ ثُلُثُهُ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ ثُلْثَهُ، يَبْقَى لِلسَّيِّدِ ثُلْثَا كَسْبِهِ بِالْمِلْكِ وَهُوَ ضِعْفُ مَا عَتَقَ. وَلَوْ كَانَ الْكَسْبُ ضِعْفَ الْقِيمَةِ، وَخَلَفَ الْعَتِيقُ مَعَ السَّيِّدِ بِنْتًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَوْ لَمْ يُخْلِفْ بِنْتًا لَمَاتَ حُرًّا، فَكَذَا هُنَا، وَالْكَسْبُ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالسَّيِّدِ سَوَاءٌ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمُوتُ رَقِيقًا. فَإِنْ قُلْنَا: مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ يُورَثُ، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْئَانِ، تَرِثُ الْبِنْتُ أَحَدَهُمَا، وَالسَّيِّدُ الثَّانِيَ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ السَّيِّدِ ضِعْفُ الْعَبْدِ إِلَّا شَيْئًا، وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدَانِ يَعْدِلَانِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، وَالشَّيْءُ ثُلُثُ الْعَبْدَيْنِ، وَهُوَ ثُلْثَا عَبْدٍ، فَيَعْتِقُ مِنَ الْعَبْدِ ثُلْثَاهُ، وَيُتْبِعُهُ ثُلْثَا الْكَسْبِ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا إِلَى السَّيِّدِ بِالْإِرْثِ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ السَّيِّدِ ثُلُثَا الْكَسْبِ وَهُوَ ضِعْفُ مَا عَتَقَ. وَإِنْ قُلْنَا: مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَا يُورَثُ، لَمْ تَرِثِ الْبِنْتُ، لِأَنَّهَا لَوْ وَرِثَتْ لَمَا خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِذَا لَمْ يَعْتِقْ كُلُّهُ لَا يُورَثُ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهَا إِلَى مَنْعِ تَوْرِيثِهَا، وَهَذِهِ مِنَ الدَّوْرِيَّاتِ الْحُكْمِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ تَرِثْ، كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلِفْ إِلَّا السَّيِّدَ، فَيَمُوتُ حُرًّا، وَجَمِيعُ الْكَسْبِ لِلسَّيِّدِ كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ لَمْ يَمُتِ الْعَتِيقُ، لَكِنْ [كَانَ] لَهُ ابْنٌ حُرٌّ، فَمَاتَ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، وَتَرَكَ أَضْعَافَ قِيمَةِ أَبِيهِ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَبُوهُ وَسَيِّدُ أَبِيهِ، فَلَا يَرِثُ مِنْهُ أَبُوهُ، لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَاسْتَغْرَقَ وَلَمْ يَحْصُلْ لِلسَّيِّدِ شَيْءٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَعْتِقُ جَمِيعُهُ، فَلَا يَرِثُ. وَإِذَا لَمْ يَرِثْ، حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ، وَوَرِثَ السَّيِّدُ مَالَ ابْنِهِ

بِالْوَلَاءِ. وَلَوْ كَانَتْ تَرِكَةُ الِابْنِ مِثْلَ قِيمَةَ الْعَتِيقِ، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَثَبَتَ لِلسَّيِّدِ الْوَلَاءُ عَلَى الِابْنِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ، فَيَرِثُ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْئًا، وَلَا يَرِثُ أَبُوهُ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ السَّيِّدِ عَبْدٌ إِلَّا شَيْئًا، وَالشَّيْءُ الَّذِي وَرِثَهُ السَّيِّدُ بِالْوَلَاءِ، فَيَتِمُّ لَهُمْ عَبْدٌ؛ لِأَنَّ تَرِكَتَهُ مِثْلُ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ نِصْفُ الْعَبْدِ، فَيَعْتِقُ نِصْفُهُ، وَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ نِصْفُهُ وَنِصْفُ تَرِكَةِ ابْنِهِ وَهُمَا ضِعْفُ مَا عَتَقَ مِنْهُ. مَسْأَلَةٌ: مِنَ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ، أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا أَعْتَقَ عَبِيدًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ مَعًا، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ. وَإِنْ أَعْتَقَهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ، بُدِئَ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ. فَإِنْ زَادَ الْأَوَّلُ عَلَى الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْهُ قَدْرُ الثُّلْثِ. فَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَاكْتَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ آخَرَ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا وَهُمَا مُتَسَاوِيَا الْقِيمَةِ، عَتَقَ مِنَ الْأَوَّلِ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَيْهِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، فَيَعْتِقُ مِنَ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَيَتْبَعُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ، يَبْقَى عَبْدٌ وَنِصْفٌ، وَهُمَا ضِعْفُ مَا عَتَقَ. وَلَوِ اكْتَسَبَ الثَّانِي مِثْلَ الْقِيمَةِ دُونَ الْأَوَّلِ، عَتَقَ الْأَوَّلُ، وَبَقِيَ الثَّانِي وَكَسْبُهُ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنِ اكْتَسَبَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ قِيمَتِهِ، عَتَقَ، وَتَبِعَهُ كَسْبُهُ، وَبَقِيَ الثَّانِي وَكَسْبُهُ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنِ اكْتَسَبَ الْأَوَّلُ مِثْلَ قِيمَتِهِمَا، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْئَانِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ يَكُونُ الشَّيْءُ خُمُسَ أَرْبَعَةِ أَعْبُدٍ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ عَبْدٍ، يَعْتِقُ مِنَ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، وَيَتْبَعُهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ كَسْبِهِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ خُمُسُهُ وَخُمُسُ كَسْبِهِ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ. وَإِنِ اكْتَسَبَ الثَّانِي مِثْلَ قِيمَتِهِمَا، عَتَقَ الْأَوَّلُ، وَمِنَ الثَّانِي شَيْءٌ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْئَانِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ مِنَ الثَّانِي وَكَسْبِهِ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ ضِعْفَ مَا عَتَقَ، وَهُوَ عَبْدَانِ وَشَيْئَانِ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَتَقَ عَبْدٌ وَشَيْءٌ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ تَعْدِلُ عَبْدَيْنِ وَخَمْسَةَ

أَشْيَاءَ، تُسْقِطُ عَبْدَيْنِ بِعَبْدَيْنِ، يَبْقَى عَبْدٌ فِي مُعَادَلَةِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ خُمُسُ عَبْدٍ، فَالَّذِي عَتَقَ مِنَ الثَّانِي خُمُسُهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوِ اكْتَسَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ قِيمَتِهِمَا. أَمَّا إِذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَيْنِ مَعًا، فَيَقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، فَكَأَنَّ السَّيِّدَ قَدَّمَهُ. وَالْحِسَابُ فِي الصُّوَرِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَرِيضُ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ مَعًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ، فَاكْتَسَبَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ مَوْتِهِ كَقِيمَتِهِ، وَقِيَمُهُمْ مُتَسَاوِيَةٌ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ بِسَهْمِ عِتْقٍ وَسَهْمَيْ رِقٍّ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ عَلَى الْمُكْتِسَبِ، عَتَقَ، وَتَبِعَهُ كَسْبُهُ، وَبَقِيَ الْآخَرَانِ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ خَرَجَ لِأَحَدِ الْآخَرَيْنِ، عَتَقَ، ثُمَّ تُعَادُ الْقُرْعَةُ لِاسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ، فَإِنْ خَرَجَ لِلْآخَرِ، عَتَقَ ثُلْثُهُ، وَبَقِيَ ثُلْثَاهُ مَعَ الْمُكْتَسِبِ، وَكَسْبُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَلَا دَوْرَ. وَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ وَالْقُرْعَةُ الثَّانِيَةُ لِلْمُكْتَسِبِ، دَخَلَ الدَّوْرَ، فَتَقُولُ: يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْءٌ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا شَيْئَيْنِ، يَعْدِلُ ضِعْفَ مَا عَتَقَ وَهُوَ عَبْدَانِ وَشَيْئَانِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ تَعْدِلُ عَبْدَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، تُسْقِطُ عَبْدَيْنِ بِعَبْدَيْنِ، يَبْقَى عَبْدٌ فِي مُعَادَلَةِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ رُبْعُ الْعَبْدِ، فَيَعْتِقُ مِنْهُ رُبْعُهُ، وَيَتْبَعُهُ رُبْعُ كَسْبِهِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ، وَذَلِكَ عَبْدَانِ وَنِصْفٌ وَهُوَ ضِعْفُ مَا عَتَقَ. وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ بِحَالِهَا، عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ كَقِيمَةِ أَحَدِهِمْ، أَقْرَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ بِسَهْمِ دَيْنٍ وَسَهْمَيْ تَرِكَةٍ، وَلِسَهْمِ الدَّيْنِ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْرُجَ لِأَحَدِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَكْتَسِبَا، فَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ، ثُمَّ يَقْرَعُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ، لِإِعْتَاقِ الثُّلُثِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِسَهْمِ عِتْقٍ وَسَهْمِ رِقٍّ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِلَّذِي لَمْ يَكْتَسِبْ، عَتَقَ، وَبَقِيَ الْمُكْتَسِبُ وَكَسْبُهُ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ خَرَجَ لِلْمُكْتَسِبِ، دَخَلَ الدَّوْرَ، فَيَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْءٌ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا شَيْئَيْنِ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ. فَبَعْدَ الْجَبْرِ: ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ رُبْعُ الْعَبِيدِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ عَبْدٍ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَ سَهْمُ الدَّيْنِ لِلْمُكْتَسِبِ، فَيُبَاعُ مِنْهُ وَمِنْ كَسْبِهِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ مِثْلُ نِصْفِهِمَا، فَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ نِصْفُ رَقَبَتِهِ وَنِصْفُ كَسْبِهِ، ثُمَّ يَقْرَعُ بَيْنَ بَاقِيهِ وَبَيْنَ الْآخَرَيْنِ بِسَهْمِ عِتْقٍ وَسَهْمَيْ رِقٍّ. فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِأَحَدِ الْآخَرَيْنِ، عَتَقَ، وَبَقِيَ الْآخَرُ وَنِصْفُ الْمُكْتَسِبِ وَكَسْبُهُ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ خَرَجَ لِلْمُكْتَسِبِ، عَتَقَ نِصْفُهُ الْبَاقِي، وَتَبِعَهُ الْكَسْبُ غَيْرَ مَحْسُوبٍ، ثُمَّ تُعَادُ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ لِاسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ، فَأَيُّهُمَا خَرَّ عَلَيْهِ، عَتَقَ ثُلُثُهُ، فَيَكُونُ جَمِيعُ مَا عَتَقَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ عَبْدٍ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ عَبْدٌ وَثُلْثَا عَبْدٍ ضِعْفَ مَا عَتَقَ. وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ بِحَالِهَا، إِلَّا أَنَّ قِيمَةَ أَحَدِهِمْ مِائَةٌ، وَالثَّانِي مِائَتَانِ، وَالثَّالِثَ ثَلَثُمِائَةٍ، وَاكْتَسَبَ كُلُّ عَبْدٍ كَقِيمَتِهِ، أُقْرِعَ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ عَلَى الْأَعْلَى، عَتَقَ، وَتَبِعَهُ كَسْبُهُ، وَبَقِيَ الْآخَرَانِ وَكَسْبُهُمَا لِلْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ ضِعْفُ الْأَعْلَى، وَإِنْ خَرَجَ عَلَى الْأَدْنَى، عَتَقَ، وَتَبِعَهُ كَسْبُهُ، وَتُعَادُ الْقُرْعَةُ لِاسْتِكْمَالِ الثُّلْثِ. فَإِنْ خَرَجَ الْعِتْقُ لِلْأَوْسَطِ، عَتَقَ، وَتَبِعَهُ كَسْبُهُ، وَبَقِيَ الْأَعْلَى وَكَسْبُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ ضِعْفُ الْعَتِيقَيْنِ، وَإِنْ خَرَجَ لِلْأَعْلَى، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ مِنْ كَسْبِهِ مِثْلُهُ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ بَاقِيهِ وَبَاقِي كَسْبِهِ وَالْعَبْدُ الْأَوْسَطُ وَكَسْبُهُ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَلْفٌ إِلَّا شَيْئَيْنِ تَعْدِلُ ضِعْفَ مَا عَتَقَ وَهُوَ مِائَتَانِ وَشَيْئَانِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: أَلْفٌ تَعْدِلُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، تَسْقُطُ مِائَتَيْنِ بِمِائَتَيْنِ، يَبْقَى ثَمَانِمِائَةٍ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ مِائَتَانِ، وَذَلِكَ ثُلْثَا الْأَعْلَى، فَيَعْتِقُ مِنْهُ ثُلْثَاهُ، وَيَتْبَعُهُ ثُلُثَا كَسْبِهِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثُلُثُهُ وَثُلُثُ كَسْبِهِ وَالْأَوْسَطُ وَكَسْبُهُ، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ ضِعْفُ الْأَدْنَى وَمَا عَتَقَ مِنَ الْأَعْلَى. وَإِنْ خَرَجَ عَلَى الْأَوْسَطِ، [عَتَقَ، وَتَبِعَهُ كَسْبُهُ، وَتُعَادُ الْقُرْعَةُ، فَإِنْ خَرَجَ لِلْأَدْنَى، عَتَقَ، وَتَبِعَهُ كَسْبُهُ، وَبَقِيَ الْأَعْلَى وَكَسْبُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ خَرَجَ لِلْأَعْلَى] ، عَتَقَ [ثُلُثُهُ] ، وَتَبِعَهُ ثُلُثُ كَسْبِهِ، وَبَاقِيهِ مَعَ الْأَدْنَى لِلْوَرَثَةِ.

فصل

مَسْأَلَةٌ: إِذَا زَادَتْ قِيمَةُ الْعَتِيقِ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ، دَارَتِ الْمَسْأَلَةُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ كَالْكَسْبِ، فَقِسْطُ مَا عَتَقَ لَا يُحْسَبُ عَلَى الْعَبْدِ، وَقِسْطُ مَا رَقَّ تَزِيدُ بِهِ التَّرِكَةُ، وَكَذَا نُقْصَانُ الْقِيمَةِ يُوَزَّعُ، فَقِسْطُ مَا عَتَقَ يُحْسَبُ عَلَى الْعَبْدِ كَأَنَّهُ قَبَضَهُ وَأَتْلَفَهُ، وَقِسْطُ مَا رَقَّ كَأَنَّهُ تَلِفَ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ. فَإِذَا نَقَصَ الْمَالُ، نَقَصَ مَا يَعْتِقُ وَاحْتِيجَ إِلَى الْحِسَابِ. مِثَالُ الزِّيَادَةِ: أَعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَصَارَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ، تَقُولُ: عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَحْسُوبٌ بِثُلْثَيْ شَيْءٍ، يَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ عَبْدٌ إِلَّا شَيْئًا يَعْدِلُ ضِعْفَ الْمَحْسُوبِ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ شَيْءٌ وَثُلُثُ شَيْءٍ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَثُلُثُ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهَا أَثْلَاثًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ سَبْعَةٌ، وَالشَّيْءُ ثَلَاثَةٌ، فَيَعْتِقُ ثَلَاثَةُ أَسِبَاعِهِ، وَقِيمَتُهَا يَوْمَ الْمَوْتِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ وَسَبْعَانِ، وَالْمَحْسُوبُ عَلَيْهِ مِنْهَا [قِيمَةُ] يَوْمِ الْإِعْتَاقِ وَهُوَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ وَسِتَّةُ أَسْبَاعٍ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ، وَقِيمَتُهَا خَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعٍ وَهِيَ ضِعْفُ الْمَحْسُوبِ عَلَى الْعَبْدِ. وَمِثَالُ النَّقْصِ، قِيمَتُهُ مِائَةٌ، صَارَتْ خَمْسِينَ، يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ بِشَيْئَيْنِ، فَالْبَاقِي وَهُوَ عَبْدٌ إِلَّا شَيْئًا يَعْدِلُ ضِعْفَ الْمَحْسُوبِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: عَبْدٌ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ خُمُسُ الْعَبْدِ، فَيَعْتِقُ خُمْسُهُ، وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الْمَوْتِ عَشَرَةٌ، وَيُحْسَبُ عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْمَوْتِ عِشْرُونَ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، وَقِيمَتُهَا أَرْبَعُونَ ضِعْفَ الْمُحَابَاةِ. فَصْلٌ وَمِنْهَا الْكِتَابَةُ، فَإِذَا كَاتَبَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَلَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنَ النُّجُومِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ، فَثُلْثُهُ مُكَاتَبٌ. فَإِذَا أَدَّى نُجُومَ الثُّلُثِ، عَتَقَ. وَهَلْ يُزَادُ فِي الْكِتَابَةِ

لِكَوْنِ التَّرِكَةِ زَادَتْ بِمَا أَدَّى؟ فِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ زِيدَتْ، فَطَرِيقُ الْحِسَابِ، أَنَّ الْكِتَابَةَ تَصِحُّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَيُؤَدِّي الْمُكَاتِبُ عَنْهُ شَيْئًا، وَالْفَرْضُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ النُّجُومُ مِثْلَ الْقِيمَةِ، فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ مِنَ الرَّقَبَةِ وَمَالِ الْكِتَابَةِ مِثْلُ عَبْدٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ضِعْفَ مَا صَحَّتْ فِيهِ الْكِتَابَةُ وَهُوَ شَيْئَانِ، فَالشَّيْءُ نِصْفُ الْعَبْدِ، فَإِذَا أَدَّى نُجُومَ النِّصْفِ، عَتَقَ [نِصْفُهُ] ، وَاسْتَرَدَّ مِنَ الْوَرَثَةِ كَسْبَ سُدْسِهِ، فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ نِصْفُ الرَّقَبَةِ وَنِصْفُ النُّجُومِ، وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا صَحَّتْ فِيهِ الْكِتَابَةُ. وَلَوْ كَاتَبَ فِي الصِّحَّةِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي الْمَرَضِ، أَوْ أَبْرَأَهُ عَنِ النُّجُومِ، نُظِرَ، إِنْ عَجَزَ نَفْسُهُ، عَتَقَ ثُلْثُهُ، وَرَقَّ ثُلْثَاهُ. وَإِنِ اسْتَدَامَ الْكِتَابَةَ، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ مِثْلَ الْقِيمَةِ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يَعْتِقُ ثُلْثُهُ، وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِي ثُلْثَيْهِ. وَالثَّانِي: لَا يَعْتِقُ ثُلْثُهُ حَتَّى يُسَلَّمَ الثُّلْثَانِ لِلْوَرَثَةِ، إِمَّا بِالْعَجْزِ، وَإِمَّا بِأَدَاءِ نُجُومِ الثُّلْثَيْنِ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النُّجُومِ وَالْقِيمَةِ تَفَاوُتٌ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ أَقَلَّ، عَتَقَ ثُلْثُهُ، وَسَقَطَ ثُلُثُ النُّجُومِ، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثُلْثَا النُّجُومِ إِنْ أَدَّى، وَإِلَّا، فَثُلْثَا الرَّقَبَةِ. وَإِنْ كَانَتِ الرَّقَبَةُ أَقَلَّ، بِأَنْ كَانَتْ مِائَةً، وَالنُّجُومُ مِائَتَيْنِ، حَصَلَ الدَّوْرُ، فَيُقَالُ: عَتَقَ شَيْءٌ، وَسَقَطَ مِنَ النُّجُومِ شَيْئَانِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ مِنَ النُّجُومِ مَائَتَا دِرْهَمٍ إِلَّا شَيْئَيْنِ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ضِعْفَ مَا عَتَقَ وَهُوَ شَيْئَانِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: مِائَتَانِ تَعْدِلَانِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ رُبْعُ الْمِائَتَيْنِ وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي عَتَقَ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ يَسْقُطُ نِصْفُ النُّجُومِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: فَإِنْ عَجَّلَ مَا عَلَيْهِ مِنَ النُّجُومِ، عَتَقَ نِصْفُهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا، لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِ شَيْءٍ. ثُمَّ كُلَّمَا أَدَّى شَيْئًا، حُكِمَ بِعِتْقِ نِصْفِ مَا أَدَّى حَتَّى يُؤَدِّيَ نِصْفَ الْكِتَابَةِ وَيَسْتَوْفِيَ وَصِيَّتَهُ.

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ يَتَوَلَّدُ الدَّوْرُ فِيهَا مِنْ أَصْلَيْنِ مَسْأَلَةٌ: أَعْتَقَ مَرِيضٌ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ السَّيِّدُ، فَهَلْ يَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي جَمِيعِهِ إِذْ لَا تَرِكَةَ، أَمْ لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ الْمَحْكُومِ بِعِتْقِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: قِيَاسُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الثَّانِي، فَإِنْ تَرَكَ السَّيِّدُ مَالًا إِذَا قُضِيَتِ الدِّيَةُ مِنْهُ كَانَ الْبَاقِي ضِعْفَ قِيمَتِهِ، فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ تَرَكَ مِنَ الْمَالِ دُونَ ذَلِكَ، عَتَقَ بَعْضُهُ، وَلَزِمَ السَّيِّدَ قِسْطُ مَا عَتَقَ مِنَ الدِّيَةِ، وَلَا يَرِثُ السَّيِّدُ مِنْ دِيَتِهِ، لِأَنَّهُ قَاتِلٌ، بَلْ إِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ أَقْرَبَ مِنْ سَيِّدِهِ، فَهِيَ لَهُ، وَإِلَّا، فَلِأَقْرَبِ عَصَبَاتِ السَّيِّدِ. مِثَالُهُ: قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَقِيمَةُ إِبِلِ الدِّيَةِ ثَلَثُمِائَةٍ، وَلَوْ تَرَكَ السَّيِّدُ ثَلَثَمِائَةً، فَتَقُولُ: عَتَقَ شَيْءٌ، وَعَلَى السَّيِّدِ مِنَ الدِّيَةِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهِ، وَبَاقِي الْعَبْدِ الَّذِي بَطَلَ الْعِتْقُ فِيهِ قَدْ أَتْلَفَهُ بِالْقَتْلِ، فَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا ثَلَاثَمِائَةٍ، وَهِيَ مِثْلُ ثَلَاثَةِ أَعْبُدٍ، يَقْضِي مِنْهَا مَا وَجَبَ مِنَ الدِّيَةِ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ ضِعْفَ مَا عَتَقَ وَهُوَ شَيْئَانِ، فَتُجْبَرُ وَتُقَابَلُ، فَثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ تَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ، فَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ خَمْسَةٌ، وَالشَّيْءُ ثَلَاثَةٌ، يَعْتِقُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ سِتُّونَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ؛ وَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، يَبْقَى مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ضِعْفَ مَا عَتَقَ. مَسْأَلَةٌ: أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا، فَجَنَى الْعَبْدُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ بِقَطْعٍ أَوْ قَتْلٍ، وَلَا مَالَ لِلسَّيِّدِ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ مِثْلَ قِيمَتِهِ فَأَكْثُرُ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ دَيْنٌ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ دُونَهَا، بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةً، وَالْأَرْشُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، عَتَقَ شَيْءٌ، وَرَقَّ الْبَاقِي، وَالْأَرْشُ يَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا، فَحِصَّةُ مَا عَتَقَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ، وَحِصَّةُ مَا رَقَّ تُؤَدَّى مِنْهُ إِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ التَّسْلِيمَ، وَالْأَرْشُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْقِيمَةِ، فَعَلَى

السَّيِّدِ تَسْلِيمُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مَا رَقَّ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ عَبْدٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ شَيْءٍ، يَبْقَى مَعَ وَرَثَتِهِ رُبُعُ عَبْدٍ إِلَّا رُبُعَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ: رُبُعُ عَبْدٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَرُبُعَ شَيْءٍ، فَتَبْسُطُهَا أَرْبَاعًا، وَتَقْلِبُ الِاسْمَ، فَالْعَبْدُ تِسْعَةٌ، وَالشَّيْءُ وَاحِدٌ، فَيَعْتِقُ مِنْهُ سَبْعَةٌ، وَيَرِقُّ الْبَاقِي، فَيُسَلَّمُ فِي الْجِنَايَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ؛ وَهِيَ سِتَّةُ أَتْسَاعٍ، يَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ تُسْعَانِ ضِعْفَ مَا عَتَقَ. الطَّرَفُ الْخَامِسُ: فِي مَسَائِلِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ. مَقْصُودُهُ: أَنْ يُخْلِفَ الْمَيِّتُ عَيْنًا وَدَيْنًا عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ، أَوْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَنَصِيبُ الْوَارِثِ بَعْضُ مَا عَلَيْهِ بِالْإِرْثِ، أَوِ الْأَجْنَبِيُّ بَعْضُ مَا عَلَيْهِ بِوَصِيَّةٍ. وَأَوَّلُ مَا نُقَدِّمُهُ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا لَمْ يُخْلِفْ إِلَّا دَيْنًا عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ، بَرِئَ مَنْ عَلَيْهِ مِنْ حِصَّتِهِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ بَرَاءَتُهُ عَلَى تَوْفِيرِ حِصَّةِ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ لَا يَتَأَخَّرُ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا. وَلَوْ خَلَفَ عَيْنًا وَدَيْنًا عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْعَيْنِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ، قُسِّمَتِ الْعَيْنُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَمَا أَصَابَ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، دُفِعَ إِلَيْهِ، وَمَا أَصَابَ الْمَدِينَ، دُفِعَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مُقِرًّا مَلِيئًا. وَإِنْ كَانَ جَاحِدًا أَوْ مُعْسِرًا، فَالْآخَرُ مُسْتَحِقٌّ ظَفِرَ بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ. وَحُكْمُهُ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ نَوْعِ الْعَيْنِ، بِأَنْ خَلَفَ عَشَرَةً عَيْنًا [وَعَشَرَةً دَيْنًا] عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ الْحَائِزَيْنِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: يَأْخُذُ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ الْعَشَرَةَ نِصْفُهَا إِرْثًا وَنِصْفُهَا قِصَاصًا بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الدَّيْنِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا بَعِيدٌ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي تَقَاصِّ الدَّيْنَيْنِ، لَا فِي تَقَاصِّ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ، بَلِ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْإِرْثَ يَثْبُتُ شَائِعًا فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَلَيْسَ لِمَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْدَادُ بِالْعَشَرَةِ إِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُقِرًّا مَلِيئًا، فَإِنْ تَرَاضَيَا، أَنْشَآ عَقْدًا، وَإِنْ كَانَ جَاحِدًا أَوْ مُعْسِرًا، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى قَصْدِ التَّمَلُّكِ، لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ الْمُتَعَذِّرِ تَحْصِيلُهُ. وَلَوْ خَلَفَ دَيْنًا وَعَيْنًا، وَأَوْصَى بِالدَّيْنِ لِإِنْسَانٍ وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ أَوْ أَقَلُّ،

فَحَقُّهُ مُنْحَصِرٌ فِيهِ، فَمَا نَضَّ دُفِعَ إِلَيْهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ الدَّيْنِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا نَضَّ مِنْهُ يُضَمُّ إِلَى الْعَيْنِ. فَإِنْ كَانَ مَا نَضَّ ثُلُثَ الْجَمِيعِ أَوْ أَقَلَّ، دُفِعَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كُلَّمَا نَضَّ مِنْهُ شَيْءٌ، دُفِعَ ثُلُثُهُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ وَثُلُثَاهُ إِلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ شَائِعَةٌ فِي الدَّيْنِ. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالدَّيْنُ الْمُخَلَّفُ مَعَ الْعَيْنِ مِنْ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَارِثٍ، [وَإِمَّا عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَإِمَّا عَلَيْهِمَا. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: عَلَى وَارِثٍ] ، فَنَصِيبُهُ مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَإِمَّا أَكْثَرَ، وَإِمَّا أَقَلَّ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، فَتُصَحَّحُ الْمَسْأَلَةُ، وَيُطْرَحُ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ نَصِيبُ الْمَدِينِ، وَتُقَسَّمُ الْعَيْنُ عَلَى سِهَامِ الْبَاقِينَ، وَلَا يُدْفَعُ إِلَى الْمَدِينِ شَيْءٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ. مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَتَرَكَ خَمْسَةً دَيْنًا عَلَى ابْنٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ عَيْنًا، فَجُمْلَةُ التَّرِكَةِ عِشْرُونَ، نَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ، وَمَا عَلَى الْمَدِينِ مِثْلَ نَصِيبِهِ، فَتُصَحَّحُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَيُطْرَحُ مِنْهَا نَصِيبُ ابْنٍ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، تُقَسَّمُ الْعَيْنُ عَلَيْهَا، نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةٌ، وَنَصِيبُ الْمَدِينِ يَقَعُ قِصَاصًا، كَذَا أَطْلَقُوهُ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا رَضِيَ الْمَدِينُ بِذَلِكَ، أَوْ كَانَ جَاحِدًا، أَوْ مُعْسِرًا. وَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ الْجَوَابُ الْمُطْلَقُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ، فَتُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ، فَمَا أَصَابَ الْمَدِينُ، طُرِحَ مِنْهُ مَا عَلَيْهِ، وَيُعْطَى الْبَاقِي مِنَ الْعَيْنِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ أَقَلَّ، فَيُطْرَحُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ نُصِيبُهُ، وَتُقَسَّمُ الْعَيْنُ عَلَى الْبَاقِي، فَمَا خَرَجَ مِنَ الْقِسْمَةِ، يُضْرَبُ فِي نَصِيبِ الْمَدِينِ الَّذِي طُرِحَ، فَمَا بَلَغَ، فَهُوَ

الَّذِي حَيِيَ مِنَ الدَّيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَنَّ مَا يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ مِنَ الدَّيْنِ، كَالْمُسْتَوْفَى بِالْمُقَاصَّةِ، فَكَأَنَّهُ حَيِيَ مِنَ الدَّيْنِ، وَلَوْلَا الْمُقَاصَّةُ، فَالدَّيْنُ عَلَى الْمُفْلِسِ مَيِّتٌ فَائِتٌ، ثُمَّ الْبَاقِي مِنَ الدَّيْنِ بَعْدَ الَّذِي حَيِيَ يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَبْقَى شَيْءٌ يُؤَدِّيهِ الْمَدِينُ إِلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ السَّاقِطِ وَالْبَاقِي، أَنْ تُقَسَّمَ كُلُّ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَمَا أَصَابَ الْمَدِينُ، طُرِحَ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَمَا بَقِيَ، فَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّيهِ الْمَدِينُ، فَيُقَسِّمُهُ سَائِرُ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ إِسْقَاطِ نَصِيبِ الْمَدِينِ. مِثَالُهُ: الدَّيْنُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ ثَمَانِيَةٌ، وَالْعَيْنُ اثْنَا عَشَرَ، فَسِهَامُ الْفَرِيضَةِ أَرْبَعَةٌ، يُطْرَحُ مِنْهَا نَصِيبُ الْمَدْيُونِ، وَتُقَسَّمُ الْعَيْنُ عَلَى الْبَاقِي، يَخْرُجُ مِنَ الْقِسْمَةِ أَرْبَعَةٌ، تَضْرِبُهَا فِي نَصِيبِ الْمَدِينِ وَهُوَ وَاحِدٌ، يَكُونُ أَرْبَعَةٌ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي حَيِيَ مِنَ الدَّيْنِ، يَبْقَى مِنْهُ أَرْبَعَةٌ، تَأْخُذُ مِنْهُ نَصِيبَ الْمَدِينِ مِنَ التَّرِكَةِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، تَطْرَحُهَا مِمَّا عَلَيْهِ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، فَالثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي تَبْقَى مِنَ الدَّيْنِ، وَيَسْقُطُ وَاحِدٌ، وَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ مَقْسُومَةٌ عَلَى سِهَامِهِمْ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ. هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ، بِأَنْ خَلَفَ ابْنَيْنِ وَتَرَكَ عَشَرَةً عَيْنًا، وَعَشَرَةً دَيْنًا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ سُرَيْجٍ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: أَنَّنَا نَنْظُرُ إِلَى الْفَرِيضَةِ الْجَامِعَةِ لِلْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ، فَيَأْخُذُ الْمَدِينُ سَهْمَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَيَقْتَسِمُ الِابْنُ الْآخَرُ وَزَيْدٌ الْعَيْنَ نِصْفَيْنِ، وَقَدْ حَيِيَ مِنَ الدَّيْنِ خَمْسَةٌ، يَبْقَى خَمْسَةٌ، لِلْمَدِينِ ثَلَاثَةٌ، يَبْقَى [ثَلَاثَةٌ] وَثُلُثٌ، إِذَا أَدَّاهَا اقْتَسَمَهَا الِابْنُ الْآخَرُ وَزَيْدٌ نِصْفَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَيُنْسَبُ إِلَى أَبِي ثَوْرٍ: يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْعَيْنِ، وَالِابْنُ

الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، يَأْخُذُ ثُلُثًا إِرْثًا، وَالثُّلُثَ قِصَاصًا، فَيَبْرَأُ الْمَدِينُ مِنْ ثُلُثَيِ الدَّيْنِ بِالْإِرْثِ وَالْمُقَاصَّةِ، يَبْقَى عَلَيْهِ ثُلُثُ الدَّيْنِ، يَأْخُذُهُ الْمُوصَى لَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَيُنْظَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً، اشْتَرَكَتِ الْوَرَثَةُ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمَدِينِ، وَإِمَّا لَهُ، وَإِمَّا لَهُمَا. فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ، بِأَنْ خَلَفَ ابْنَيْنِ، وَتَرَكَ عَشَرَةً عَيْنًا وَعَشَرَةً دَيْنًا عَلَى زَيْدٍ، وَأَوْصَى لِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ، فَالِابْنَانِ وَعَمْرٍو يَقْتَسِمُونَ الْعَيْنَ أَثْلَاثًا، وَكُلَّمَا حُصِّلَ مِنَ الدَّيْنِ شَيْءٌ اقْتَسَمُوهُ كَذَلِكَ. وَلَوْ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الدَّيْنِ، اقْتَسَمَ الِابْنَانِ الْعَيْنَ. وَأَمَّا الدَّيْنُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهُ الدَّيْنُ، يُضَمُّ إِلَى الْعَيْنِ وَيُدْفَعُ ثُلُثُ الدَّيْنِ مِمَّا حَصَّلَ إِلَى زَيْدٍ، وَيُسَمَّى: وَجْهَ الْحَصْرِ، لِأَنَّهُ حَصَرَ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا يُتَنَجَّزُ مِنَ الدَّيْنِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ مَا يُحَصَّلُ مِنَ الدَّيْنِ يُدْفَعُ إِلَى زَيْدٍ ثُلُثُهُ، وَيُسَمَّى: وَجْهَ الشُّيُوعِ. وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْمَدِينِ، نُظِرَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْوَصِيَّةِ، أَهُوَ مِثْلُ الدَّيْنِ، أَمْ أَقَلُّ، أَمْ أَكْثَرُ؟ وَيُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى وَارِثٍ. وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا، بِأَنْ أَوْصَى - وَالصُّورَةُ مَا سَبَقَ - لِعَمْرٍو بِثُلُثِ الْعَيْنِ، وَلِزَيْدٍ بِمَا عَلَيْهِ، وَرَدَّ الِابْنَانِ الْوَصِيَّتَيْنِ إِلَى الثُّلُثِ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ، لِعَمْرٍو سَهْمٌ، وَلِزَيْدٍ ثَلَاثَةٌ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ: الْفَرِيضَةُ الْجَامِعَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، لِلْوَصِيَّتَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلِابْنَيْنِ ثَمَانِيَةٌ، فَيَقْتَسِمُ عَمْرٌو وَالِابْنَانِ الْعَيْنَ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ وَهِيَ تِسْعَةٌ، لِعَمْرٍو سَهْمٌ وَتُسْعٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ، وَيَبْرَأُ زَيْدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، يَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسَةٌ، كُلَّمَا أَدَّى شَيْئًا كَانَ بَيْنَ عَمْرٍو وَالِابْنَيْنِ عَلَى تِسْعَةٍ، فَيَحْصُلُ لِعَمْرٍو خَمْسَةُ أَتْسَاعِ دِرْهَمٍ، فَيَتِمُّ لَهُ رُبْعُ الثُّلُثِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلْثَانِ، وَلِلِابْنَيْنِ الْبَاقِي. ثُمَّ لِيَكُنِ الْمَصْرُوفُ إِلَى عَمْرٍو عِنْدَ خُرُوجِ الدَّيْنِ مِنْ نَفْسِ الْعَيْنِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً. وَعَلَى الْوَجْهِ الْمَنْسُوبِ إِلَى أَبِي ثَوْرٍ: لِعَمْرٍو رُبُعُ الثُّلُثِ،

وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلْثَانِ يَأْخُذُهُ مِنَ الْعَيْنِ، وَالْبَاقِي مِنَ الْعَيْنِ لِلِابْنَيْنِ، فَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ مِنْ خَمْسَةٍ، يَبْقَى عَلَيْهِ [خَمْسَةٌ] ، إِذَا أَدَّاهَا اقْتَسَمَهَا الِابْنَانِ. وَلَوْ خَلَفَ ابْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا عَيْنًا وَعَشَرَةً دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ، وَأَوْصَى لِلْغَرِيمِ بِمَا عَلَيْهِ، وَلِزَيْدٍ بِعَشَرَةٍ مِنَ الْعَيْنِ، وَلَمْ يُجِزِ الِابْنَانِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثُ، فَيَجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. ثُمَّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْفَرِيضَةَ الْجَامِعَةَ مِنْ سِتَّةٍ، لِلْوَصِيَّتَيْنِ اثْنَانِ، وَلِلِابْنَيْنِ أَرْبَعَةٌ، فَلِزَيْدٍ مِنَ الْعِشْرِينَ أَرْبَعَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ، وَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ عَنْ نِصْفِ الثُّلُثِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، يَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسَةٌ، إِذَا حُصِّلَ مِنْهَا شَيْءٌ جُعِلَ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا حَتَّى يُتِمَّ لِزَيْدٍ خَمْسَةً، وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَى زَيْدٍ مِنَ الْعَيْنِ نِصْفَ وَصِيَّتِهِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ مِنْ نِصْفِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَلِلِابْنَيْنِ بَاقِي الْعَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَيَقْتَصَّانِ بَاقِي الدَّيْنِ وَهُوَ خَمْسَةٌ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا الْوَجْهُ عَلَى ضَعْفِهِ يَجْرِي فِيمَا سَبَقَ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى وَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ، بِأَنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَعَشَرَةً عَيْنًا وَعَشَرَةً [دَيْنًا] عَلَى أَحَدِهِمَا وَعَشَرَةً [دَيْنًا] عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، فَعَلَى قِيَاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورِ: الْفَرِيضَةُ الْجَامِعَةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، يَجْعَلُ سَهْمَ الْمَدِينِ مَا عَلَيْهِ، وَيَقْتَسِمُ [الِابْنُ] الْآخَرُ وَالْمُوصَى لَهُ الْعَيْنَ نِصْفَيْنِ، وَمَا حُصِّلَ مِمَّا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ اقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْعَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَيَبْرَأُ الِابْنُ الْمَدِينُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَإِذَا حُصِّلَ مَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَيْهِ، وَالِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثُلُثَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فصل

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنِ الْوَصِيَّةِ وَعَنْ بَعْضِهَا، كَمَنْ أَوْصَى بِعَبْدٍ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ نِصْفِهِ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي كُلِّ تَبَرُّعٍ مُعَلَّقٍ بِالْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا مِتُّ فَلِفُلَانٍ كَذَا، أَوْ فَادْفَعُوا إِلَيْهِ، أَوْ فَأَعْتِقُوا عَبْدِي، أَوْ فَهُوَ وَقْفٌ. وَفِي الرُّجُوعِ عَنِ التَّدْبِيرِ صَرِيحًا خِلَافٌ، يُذْكَرُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنِ التَّبَرُّعَاتِ الْمُنْجَزَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ. فَصْلٌ يَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِطُرُقٍ: مِنْهَا أَنْ يَقُولَ: نَقَضْتُ وَصِيَّتِي، أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا، أَوْ رَفَعْتُهَا، أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ رَجَعْتُ عَنْهَا. وَلَوْ سُئِلَ عَنِ الْوَصِيَّةِ فَأَنْكَرَهَا، فَهُوَ رُجُوعٌ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَلَيْسَ بِرُجُوعٍ. وَلَوْ قَالَ: هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، فَرُجُوعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ قَالَ: هَذَا لِوَارِثِي بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ هُوَ مِيرَاثٌ عَنِّي، فَرُجُوعٌ. وَلَوْ قَالَ: هُوَ تَرِكَتِي، فَلَيْسَ بِرُجُوعٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمِنْهَا: إِزَالَةُ الْمِلْكِ عَنِ الْمُوصَى بِهِ بِبَيْعٍ أَوْ إِعْتَاقٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ جَعْلِهِ أُجْرَةً، أَوْ عِوَضِ خُلْعٍ، فَهُوَ رُجُوعٌ. وَالْهِبَةُ مَعَ الْإِقْبَاضِ رُجُوعٌ، وَدُونَهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالرَّهْنُ كَالْهِبَةِ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِرُجُوعٍ، لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِخْدَامَ. وَالْكِتَابَةُ رُجُوعٌ، وَالتَّدْبِيرُ رُجُوعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: إِنْ جَعَلْنَاهُ وَصِيَّةً، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ عَمْرٍو، فَيَكُونُ نِصْفُهُ مُدَبَّرًا. وَلَوْ أَوْصَى بِالْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ رُجُوعٌ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ رُجُوعٌ، وَقِيلَ: هُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ ثُمَّ عَمْرٍو. وَذَكَرَ صَاحِبُ: ((الْمُعْتَمَدِ))

الْوَجْهَيْنِ، فِيمَا لَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ لِرَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِعِتْقِهِ، فَفِي وَجْهٍ: يَعْتِقُ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ الْأُولَى. وَفِي وَجْهٍ: يَعْتِقُ نِصْفُهُ، وَيُدْفَعُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ نِصْفُهُ. وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَأَنْ يُنَصَّفَ عَلَى الثَّانِي، لَكِنَّهُ قَالَ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَيَّنُ [الْعِتْقُ] ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ. وَالثَّانِي: التَّنْصِيفُ، وَالتَّوْكِيلُ بِالتَّصَرُّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ كَالْوَصِيَّةِ بِهَا، وَالِاسْتِيلَادُ رُجُوعٌ. وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِهِ مَغْصُوبٌ أَوْ حُرُّ الْأَصْلِ، أَوْ قَالَ: كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ ثُمَّ فَسَخَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ يَزُولُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ حَصَلَ الرُّجُوعُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ بِانْقِطَاعِ الْخِيَارِ، فَلَا، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: هُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَقْوَى مِنَ الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ. فَإِذَا كَانَ الْأَصَحُّ فِيهِمَا حُصُولَ الرُّجُوعِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَتَعْلِيقُ الْعِتْقِ رُجُوعٌ، قَالَهُ الْعَبَّادِيُّ فِي ((الرَّقْمِ)) ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَا لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ. فَرْعٌ أَوْصَى بِعَيْنٍ لِزَيْدٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِعَمْرٍو، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رُجُوعٌ عَنِ الْأَوْلَى، فَتَصِحُّ وَصِيَّةُ عَمْرٍو، كَمَا لَوْ وَهَبَ لِزَيْدٍ مَالًا ثُمَّ وَهَبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِعَمْرٍو. وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ؛ لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ التَّشْرِيكِ، فَيُشْرَكُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ قَالَ دُفْعَةً وَاحِدَةً: أَوْصَيْتُ لَكُمَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِهِ لَكُمَا، فَرَدَّ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ إِلَّا نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهُ إِلَّا النِّصْفَ. وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِعَمْرٍو، فَرَدَّ أَحَدُهُمَا، كَانَ لِلْآخَرِ الْجَمِيعُ. وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ أَوْصَى

بِنِصْفِهِ لِلْآخَرِ، فَإِنْ قَبِلَاهُ، فَثُلُثَاهُ لِلْأَوَّلِ، وَثُلُثَهُ لِلثَّانِي. وَإِنْ رَدَّ الْأَوَّلَ، فَنِصْفُهُ لِلثَّانِي. وَإِنْ رَدَّ الثَّانِي، فَكُلُّهُ لِلْأَوَّلِ. فَرْعٌ قَالَ: الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِزَيْدٍ، قَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِعَمْرٍو، أَوْ قَالَ لِعَمْرٍو: أَوْصَيْتُ لَكَ بِالْعَبْدِ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِزَيْدٍ، فَهُوَ رُجُوعٌ عَلَى الصَّحِيحِ، لِإِشْعَارِهِ بِهِ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِرُجُوعٍ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ. وَالْفَرْقُ عَلَى الصَّحِيحِ، أَنَّ هُنَاكَ يَجُوزُ أَنَّهُ نَسِيَ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى، فَاسْتَصْحَبْنَاهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِبَيْعِهِ وَصَرْفِ ثَمَنِهِ إِلَى الْفُقَرَاءِ، ثُمَّ قَالَ: بِيعُوهُ وَاصْرِفُوا ثَمَنَهُ إِلَى الرِّقَابِ، جُعِلَ الثَّمَنُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ مُتَّفِقَتَانِ عَلَى الْبَيْعِ، وَأَنَّ الزَّحْمَةَ فِي الثَّمَنِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِدَارٍ، أَوْ بِخَاتَمٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِأَبْنِيَةِ الدَّارِ، أَوْ بِفَصِّ الْخَاتَمِ لِآخَرَ، فَالدَّارُ وَالْخَاتَمُ لِلْأَوَّلِ، وَالْأَبْنِيَةُ وَالْفَصُّ بَيْنَهُمَا تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِدَارٍ، ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِسُكْنَاهَا، أَوْ بِعَبْدٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ، نَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ أَنَّ الرَّقَبَةَ لِلْأَوَّلِ، وَالْمَنْفَعَةَ لِلثَّانِي، وَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْمَنْفَعَةِ كَالْأَبْنِيَةِ وَالْفَصِّ. فَرْعٌ هَذَا كُلُّهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِمُعَيَّنٍ، فَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ تَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ بِبَيْعٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا. وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَ جَمِيعُ مَالِهِ، لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ مُطْلَقًا لَا يَخْتَصُّ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ حَالَ الْوَصِيَّةِ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ مَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ زَادَ أَمْ نَقَصَ أَمْ تَبَدَّلَ.

فَرْعٌ التَّوَسُّلُ إِلَى أَمْرٍ يَحْصُلُ بِهِ الرُّجُوعُ، كَالْعَرَضِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، رُجُوعٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي مُجَرَّدِ الْإِيجَابِ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ. فَرْعٌ أَوْصَى بِحِنْطَةٍ فَطَحَنَهَا، أَوْ جَعَلَهَا سَوِيقًا، أَوْ بَذَرَهَا، أَوْ بِدَقِيقٍ فَعَجَنَهُ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَكَانَ مَا أَتَى بِهِ رُجُوعًا لِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: زَوَالُ الِاسْمِ. وَالثَّانِي: إِشْعَارُهُ بِإِعْرَاضِهِ عَنِ الْوَصِيَّةِ. وَنَسَبَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ إِلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالثَّانِي إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ. فَلَوْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ بِغَيْرِ إِذَنِ الْمُوصِي، فَقِيَاسُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ، وَقِيَاسُ الثَّانِي بَقَاؤُهَا، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ وَجْهَيْنِ فِي بَعْضِهَا، وَالْبَاقِي مُلْحَقٌ بِهِ، وَأَلْحَقُوا بِهَذِهِ الصُّوَرِ مَا إِذَا أَوْصَى بِشَاةٍ فَذَبَحَهَا، أَوْ بِعَجِينٍ فَخَبَزَهُ، لَكِنَّ خَبْزَ الْعَجِينِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْحَقَ بِعَجْنِ الدَّقِيقِ، فَإِنَّ الْعَجِينَ يَفْسُدُ لَوْ تُرِكَ، فَلَعَلَّهُ قَصَدَ إِصْلَاحَهُ وَحِفْظَهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، وَأَلْحَقَ الْعَبَّادِيُّ فِي ((الرَّقْمِ)) بِهَا مَا إِذَا أَوْصَى بِجِلْدٍ فَدَبَغَهُ، أَوْ بَيْضٍ فَأَحْضَنَهُ دَجَاجَةً، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: قِيَاسُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّبْغُ رُجُوعًا، لِبَقَاءِ الِاسْمِ، وَكَذَا الْإِحْضَانُ إِلَى أَنْ يَتَفَرَّخَ. وَلَوْ أَوْصَى بِخُبْزٍ فَجَعَلَهُ فَتِيتًا، فَرُجُوعٌ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا لَوْ ثَرَدَهُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ أَوْصَى بِلَحْمٍ ثُمَّ قَدَّدَهُ. وَلَوْ طَبَخَهُ أَوْ شَوَاهُ، فَرُجُوعٌ قَطْعًا. وَلَوْ أَوْصَى بِرُطَبٍ فَتَمَّرَهُ، فَوَجْهَانِ. الْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَكَذَا تَقْدِيدُ اللَّحْمِ إِذَا تَعَرَّضَ لِلْفَسَادِ. وَلَوْ أَوْصَى بِقُطْنٍ فَغَزَلَهُ، فَرُجُوعٌ، أَوْ بِغَزْلٍ فَنَسَجَهُ، فَرُجُوعٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ حَشَا بِالْقُطْنِ فِرَاشًا أَوْ جُبَّةً، فَرُجُوعٌ عَلَى الْأَصَحِّ.

فَرْعٌ أَوْصَى بِدَارٍ فَهَدَمَهَا حَتَّى بَطَلَ اسْمُ الدَّارِ، فَهُوَ رُجُوعٌ فِي الْأَخْشَابِ وَالنَّقْضِ، وَكَذَا فِي الْعَرْصَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوِ انْهَدَمَتْ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي النَّقْضِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِزَوَالِ اسْمِ الدَّارِ، وَتَبْقَى فِي الْعَرْصَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ. وَإِنْ كَانَ الِانْهِدَامُ بِحَيْثُ لَا يُبْطِلُ اسْمَ الدَّارِ بَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ فِيمَا بَقِيَ بِحَالِهِ. وَفِي الْمُنْفَصِلِ وَجْهَانِ. وَإِذَا قُلْنَا فِي الِانْهِدَامِ: تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فِي النَّقْضِ، فَكَانَ الِانْهِدَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: تَخْرِيجُهُ عَلَى أَقْوَالِ الْمِلْكِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَسْتَقِرُّ بِالْمَوْتِ وَكَانَ اسْمُ الدَّارِ بَاقِيًا يَوْمَئِذٍ. فَرْعٌ أَوْصَى بِثَوْبٍ فَقَطَعَهُ قَمِيصًا، أَوْ صَبَغَهُ، فَرُجُوعٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَغَسْلُهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ. وَلَوْ قَصَّرَهُ وَقُلْنَا: الْقِصَارَةُ أَثَرٌ، فَكَالْغَسْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: عَيْنٌ، فَكَالصَّبْغِ. وَلَوْ أَوْصَى بِثَوْبٍ مَقْطُوعٍ فَخَاطَهُ، فَلَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَاتِّخَاذُ الْبَابِ مِنَ الْخَشَبِ الْمُوصَى بِهِ كَاتِّخَاذِ الْقَمِيصِ مِنَ الثَّوْبِ. فَرْعٌ أَوْصَى بِشَيْءٍ، ثُمَّ نَقَلَهُ مِنْ بَلَدِ الْمُوصَى لَهُ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَلَيْسَ بِرُجُوعٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا أَشْعَرَ التَّبْعِيدَ بِتَغَيُّرِ الْقَصْدِ. فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى صَحِيحُ الْبَدَنِ بِدَابَّةٍ، ثُمَّ أَرْكَبَهَا غُلَامَهُ، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَلَا إِشْعَارَ.

فَرْعٌ أَوْصَى بِصَاعِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ خَلَطَهُ بِحِنْطَةٍ، فَرُجُوعٌ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: إِنْ خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ، فَرُجُوعٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ. وَلَوْ أَوْصَى بِصَاعٍ مِنْ صَبْرَةٍ، ثُمَّ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا، فَلَيْسَ بِرُجُوعٍ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ كَانَ مَخْلُوطًا شَائِعًا، فَلَا تَضُرُّ زِيَادَةُ الْخَلْطِ. وَإِنْ خَلَطَ بِأَجْوَدَ، فَرُجُوعٌ، وَبِالْأَرْدَإِ، لَيْسَ بِرُجُوعٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِنَفْسِهَا بِالْأَجْوَدِ، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي نَظَائِرِهِ. وَإِذَا أَبْقَيْنَا الْوَصِيَّةَ، فَالزِّيَادَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْجَوْدَةِ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، فَتَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ. وَلَوْ أَوْصَى بِصَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الصَّاعَ، وَلَا وَصَفَ الْحِنْطَةَ، فَلَا أَثَرَ لِلْخَلْطِ، وَيُعْطِيهِ الْوَارِثُ مِمَّا شَاءَ مِنْ حِنْطَةِ التَّرِكَةِ. وَلَوْ وَصَفَهَا وَقَالَ: مِنْ حِنْطَتِي الْفُلَانِيَّةِ، فَالْوَصْفُ مَرْعِيٌّ. فَإِنْ بَطَلَ بِالْخَلْطِ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ قَالَ: مِنْ مَالِي، حَصَّلَهُ الْوَارِثُ. فَرْعٌ أَوْصَى بِمَنْفَعَةِ عَبْدٍ أَوْ دَارٍ سَنَةً، ثُمَّ أَجَّرَ الْمُوصَى بِهِ سَنَةً مَثَلًا، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ إِنِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ قَبْلَ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ، كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ بَقِيَّةَ السَّنَةِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا مَضَى. وَإِنِ انْقَضَتْ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ مَنْفَعَةُ السَّنَةِ الْأُولَى، فَإِذَا انْصَرَفَتْ إِلَى جِهَةٍ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَأْنَفُ لِلْمُوصَى لَهُ سَنَةٌ مِنْ يَوْمِ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصِي قَيَّدَ وَصِيَّتَهُ بِالسَّنَةِ الْأُولَى، وَجَبَ أَنَّهُ لَا يَجِيءُ الْخِلَافُ. وَلَوْ لَمْ يُسَلِّمِ الْوَارِثَ حَتَّى انْقَضَتْ سَنَةٌ بِلَا عُذْرٍ، فَمُقْتَضَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ، وَمُقْتَضَى الثَّانِي تَسْلِيمُ سَنَةٍ أُخْرَى.

فصل

فَرْعٌ تَزْوِيجُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ الْمُوصَى بِهِمَا، وَإِجَارَتُهُمَا، وَخِتَانُهُمَا، وَتَعْلِيمُهُمَا، وَالْإِعَارَةُ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ، وَالِاسْتِخْدَامُ، وَرُكُوبُ الدَّابَّةِ، وَلُبْسُ الثَّوْبِ، لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَوَطْءُ الْجَارِيَةِ مَعَ الْعَزْلِ، لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَكَذَا مَعَ الْإِنْزَالِ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: رُجُوعٌ. فَرْعٌ أَوْصَى بِعَرْصَةٍ ثُمَّ زَرَعَهَا، فَلَيْسَ بِرُجُوعٍ كَلُبْسِ الثَّوْبِ. وَلَوْ بَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ، فَرُجُوعٌ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ رُجُوعًا، فَمَوْضِعُ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ هَلْ هُوَ كَالْبَيَاضِ الْمُتَخَلَّلِ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُوصَى لَهُ إِنْ زَالَ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ يَوْمًا؟ أَمْ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فِيهِ تَبَعًا لِلْبِنَاءِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَمُطْلَقُ عِمَارَةِ الدَّارِ، لَيْسَ بِرُجُوعٍ. فَإِنْ بَطَلَ الِاسْمُ، بِأَنْ جَعَلَهَا خَانًا، فَرُجُوعٌ. وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ، وَلَكِنْ أَحْدَثَ فِيهَا بِنَاءً وَبَابًا مِنْ عِنْدِهِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ بَنَى فِي الْأَرْضِ. فَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ رُجُوعًا، فَالْبِنَاءُ الْجَدِيدُ لَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَصْلٌ أَوْصَى بِمِائَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ بِمِائَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَهُ الْمَائَتَانِ. وَإِنْ أَطْلَقَ إِحْدَاهُمَا، حُمِلَتِ الْمُطْلَقَةُ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ، وَكَذَا لَوْ أَطْلَقَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا مِائَةٌ. وَلَوْ أَوْصَى بِخَمْسِينَ، ثُمَّ بِمِائَةٍ، فَلَهُ مِائَةٌ. وَلَوْ أَوْصَى بِمِائَةٍ، ثُمَّ بِخَمْسِينَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَيْسَ لَهُ إِلَّا خَمْسُونَ. وَالثَّانِي: لَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ.

الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْأَوْصِيَاءِ الْوِصَايَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا، وَأُمُورِ الْأَطْفَالِ. قُلْتُ: هِيَ فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْهَا فِي الْحَالِ وَاجِبَةٌ. فَإِنْ لَمْ يُوصِ إِلَى أَحَدٍ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَقُومُ بِهَا. وَأَغْرَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فَحَكَى وَجْهًا، أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ رَشِيدٌ، قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَإِنْ لَمْ يُنَصِّبْهُ الْقَاضِي. وَلِلْوِصَايَةِ أَرْكَانٌ وَأَحْكَامٌ، أَمَّا أَرْكَانُهَا، فَأَرْبَعَةٌ. [الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ: الْوَصِيُّ، وَلَهُ خَمْسَةُ شُرُوطٍ، وَهِيَ: التَّكْلِيفُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالْكِفَايَةُ فِي التَّصَرُّفَاتِ. فَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَمَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ، وَالْمُكَاتِبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِمْ. وَفِي مُسْتَوْلَدَتِهِ وَمُدَبَّرِهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ الْوَصِيِّ تُعْتَبَرُ حَالَةَ الْوِصَايَةِ وَالْمَوْتِ، أَمْ حَالَةَ الْمَوْتِ؟ وَلَا يَجُوزُ وِصَايَةُ مُسْلِمٍ إِلَى ذِمِّيٍّ، وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، وَتَجُوزُ وِصَايَةُ الذِّمِّيِّ إِلَى الذِّمِّيِّ عَلَى الْأَصَحِّ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ فِي دِينِهِ، وَلَا تَجُوزُ إِلَى فَاسِقٍ وَلَا إِلَى عَاجِزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ لَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ هَرَمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَرُبَّمَا دَلَّ كَلَامُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الْأَخِيرَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. وَتَجُوزُ الْوِصَايَةُ إِلَى أَعْمَى عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا، فَتَكُونُ الشُّرُوطُ سِتَّةً. وَزَادَ الرُّويَانِيُّ وَآخَرُونَ شَرْطًا سَابِعًا، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَصِيُّ عَدُوًّا لِلطِّفْلِ الَّذِي يُفَوَّضُ أَمْرُهُ إِلَيْهِ، وَحَصَرُوا الشُّرُوطَ كُلَّهَا بِلَفْظٍ مُخْتَصَرٍ فَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَصِيُّ بِحَيْثُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الطِّفْلِ. وَكُلُّ مَا اعْتُبِرَ مِنَ الشُّرُوطِ، فَفِي وَقْتِ اعْتِبَارِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: يُعْتَبَرُ حَالُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَالثَّانِي: عِنْدَ الْوِصَايَةِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا. وَالثَّالِثُ: يُعْتَبَرُ فِي الْحَالَتَيْنِ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا.

فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَصِيِّ الذُّكُورَةُ، بَلْ يَجُوزُ التَّفْوِيضُ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الشُّرُوطُ فِي أُمِّ الْأَطْفَالِ، فَهِيَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْوِصَايَةُ إِلَيْهَا، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، وَمُقْتَضَاهُ الطَّرْدُ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ. فَرْعٌ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُ الْوَصِيِّ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ مَتَى تُعْتَبَرُ؟ وَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْدَ مَوْتِهِ، نُظِرَ، إِنْ فَسَقَ، إِمَّا بِتَعَدٍّ فِي الْمَالِ، وَإِمَّا بِسَبَبٍ آخَرَ، بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ. وَقِيلَ: لَا تَبْطُلُ حَتَّى يَعْزِلَهُ الْحَاكِمُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِي مَعْنَاهُ قَيِّمُ الْقَاضِي. وَفِي بُطْلَانِ وِلَايَةِ الْقَاضِي بِالْفِسْقِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانُ. وَالثَّانِي: لَا، كَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ. وَالْأَبُ، وَالْجَدُّ، إِذَا فَسَقَا، انْتَزَعَ الْحَاكِمُ مَالَ الطِّفْلِ مِنْهُمَا. وَلَا تَبْطُلُ وِلَايَةُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ بِالْفِسْقِ، لِتَعَلُّقِ الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ بِوِلَايَتِهِ؛ بَلْ تَجُوزُ وِلَايَةُ الْفَاسِقِ ابْتِدَاءً، إِذَا دَعَتْ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ، لَكِنْ لَوْ أَمْكَنَ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ إِذَا فَسَقَ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ، اسْتُبْدِلَ. وَفِيهِ وَجْهٌ، أَنَّهَا تَبْطُلُ أَيْضًا، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا تَابَ الْفَاسِقُ وَصَلَحَتْ حَالُهُ، فَهَلْ تَعُودُ وِلَايَتُهُ؟ أَمَّا الْوَصِيُّ وَالْقَيِّمُ، فَلَا تَعُودُ وِلَايَتُهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْأَبُ، وَالْجَدُّ، تَعُودُ وِلَايَتُهُمَا، وَالْقَاضِي كَالْوَصِيِّ. وَإِذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَدْ أَتْلَفَ مَالًا، لَمْ يَبْرَأْ عَنْ ضَمَانِهِ حَتَّى يَدْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ إِنْ وَلَّاهُ. فَإِنْ كَانَ أَبًا، قَبَضَ الْمَضْمُونَ مِنْ نَفْسِهِ لِوَلَدِهِ، وَلَيْسَ مِنَ التَّعَدِّي أَكْلُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ مَالَ الطِّفْلِ لِضَرُورَةٍ، لَكِنْ إِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ، فَطَرِيقُ الْبَرَاءَةِ مَا ذَكَرْنَا.

فَرْعٌ تَصَرُّفَاتُ الْوَصِيِّ بَعْدَ الِانْعِزَالِ بَاطِلَةٌ. قَالَ الْقَفَّالُ: لَكِنْ رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِي وَالْوَدَائِعِ وَقَضَاءُ الدُّيُونِ مِنْ جِنْسِهَا فِي التَّرِكَةِ، لَا يُنْقَضُ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمُسْتَحَقِّ فِيهَا كَافٍ. فَرْعٌ إِذَا جُنَّ الْمُوصِي، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَقَامَ الْحَاكِمُ غَيْرَهُ مَقَامَهُ. فَإِنْ أَفَاقَ، فَهَلْ يَبْقَى عَلَى وِلَايَتِهِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ إِذَا أَفَاقُوا؟ أَمْ تَبْطُلُ لِأَنَّهُ يَلِي بِالتَّفْوِيضِ كَالتَّوْكِيلِ بِخِلَافِ الْأَبِ وَبِخِلَافِ الْإِمَامِ لِلْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَيَجْرِيَانِ فِي الْقَاضِي إِذَا أَفَاقَ. وَإِذَا أَفَاقَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ بَعْدَمَا وُلِّيَ غَيْرُهُ، فَالْوِلَايَةُ لِلثَّانِي، إِلَّا أَنْ تَثُورَ فِتْنَةٌ، فَهِيَ لِلْأَوَّلِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ لَوِ اخْتَلَّتْ كِفَايَةُ الْوَصِيِّ، بِأَنْ ضَعُفَ عَنِ الْكِتَابَةِ وَالْحِسَابِ، أَوْ سَاءَ تَدْبِيرُهُ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ، ضَمَّ الْقَاضِي إِلَيْهِ مَنْ يُعِينُهُ وَيُرْشِدُهُ. وَلَوْ عَرَضَ ذَلِكَ لِقَيِّمِ الْقَاضِي، عَزَلَهُ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَلَّاهُ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُوصِي، فَإِنْ كَانَتِ الْوِصَايَةُ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا، صَحَّتْ مِنْ كُلِّ حُرٍّ مُكَلَّفٍ. وَإِنْ كَانَتْ فِي أُمُورِ الْأَطْفَالِ، اشْتُرِطَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصِي وِلَايَةٌ عَلَى الْمُوصَى فِي حَقِّهِ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ ابْتِدَاءً مِنَ الشَّرْعِ، لَا بِتَفْوِيضٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ.

إِحْدَاهَا: أَنَّ الْوَصِيَّ هَلْ يُوصِي؟ فِيهِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: لَيْسَ لِلْمُوصِي فِي الْوِصَايَةِ الْمُطْلَقَةِ أَنْ يُوصِيَ. الثَّانِيَةُ: قَالَ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ ابْنِي فُلَانٌ، أَوْ يَقْدَمَ مِنْ سَفَرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ أَوْ قَدِمَ، فَهُوَ الْوَصِيُّ. أَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ سَنَةً وَبَعْدَهَا وَصِيِّي فُلَانٌ، فَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَتَحْتَمِلُ الْوَصِيَّةُ التَّعْلِيقَ كَمَا تَحْتَمِلُ الْجَهَالَاتِ وَالْأَخْطَارَ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَآخَرُونَ فِيهِ خِلَافًا كَتَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ، وَبِالْمَنْعِ أَجَابَ الرُّويَانِيُّ فَقَالَ: لَوْ قَالَ: إِذَا مِتُّ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ، لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ إِذَا مِتُّ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ، فَإِذَا حَضَرَكَ الْمَوْتُ فَقَدْ أَوْصَيْتُ [إِلَى مَنْ أَوْصَيْتَ] إِلَيْهِ، أَوْ فَوَصِيُّكَ وَصِيِّي، فَبَاطِلَةٌ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا. وَقِيلَ: صَحِيحَةٌ قَطْعًا. الثَّالِثَةُ: أَوْصَى إِلَى زَيْدٍ، وَأَذِنَ لَهُ فِي الْوِصَايَةِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، بَلْ قَالَ: أَوْصِ بِتَرِكَتِي إِلَى مَنْ شِئْتَ، فَأَوْصَى بِهَا إِلَى شَخْصٍ، صَحَّ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا. وَإِنْ عَيَّنَ فَقَالَ: أَوْصِ بِهَا إِلَى فُلَانٍ، فَكَذَلِكَ. وَقِيلَ: تَصِحُّ قَطْعًا، لِأَنَّهُ قَطَعَ اجْتِهَادَهُ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ بَعْدَهُ إِلَى فُلَانٍ. فَرْعٌ لَوْ أَطْلَقَ فَقَالَ: أَوْصِ إِلَى مَنْ شِئْتَ، أَوْ إِلَى فُلَانٍ، وَلَمْ يُضِفْ إِلَى نَفْسِهِ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْوِصَايَةِ عَنْهُ حَتَّى يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ؟ أَمْ يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يُوصِي عَنْهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ، وَقَالَ: الْأَصَحُّ الثَّانِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ نَصْبُ وَصِيٍّ عَلَى الْأَوْلَادِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِي أَمْرَهُمْ. وَأَمَّا الْمَجَانِينُ، فَتَجُوزُ الْوِصَايَةُ فِي أَمْرِهِمْ كَالصِّبْيَانِ، وَلَهُ نَصْبُ الْوَصِيِّ لِقَضَاءِ

الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا. وَإِذَا نَصَبَهُ لِذَلِكَ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِلْزَامِ الْوَرَثَةِ تَسْلِيمَ التَّرِكَةِ لِتُبَاعَ فِي الدَّيْنِ، بَلْ لَهُمْ إِمْسَاكُهَا وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ مَالِهِمْ. فَلَوِ امْتَنَعُوا مِنَ التَّسْلِيمِ وَالْقَضَاءِ مِنْ عِنْدِهِمْ، أَلْزَمَهُمْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ. هَذَا إِذَا أَطْلَقَ الْوِصَايَةَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ. فَإِنْ قَالَ: ادْفَعْ هَذَا الْعَبْدَ إِلَيْهِ عِوَضًا عَنْ دَيْنِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَرَثَةِ إِمْسَاكُهُ؛ لِأَنَّ فِي أَعْيَانِ الْأَمْوَالِ أَغْرَاضًا. وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ وَاقْضِ الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمُ الْإِمْسَاكُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَطْيَبَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ نَصْبُ الْوَصِيِّ فِي حَيَاةِ الْجَدِّ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ شَرْعًا كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ. هَذَا فِي أَمْرِ الْأَطْفَالِ، فَأَمَّا فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا، فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْوَصِيُّ أَوْلَى مِنَ الْجَدِّ. وَلَوْ لَمْ يُنَصِّبْ وَصِيًّا، فَأَبُوهُ أَوْلَى بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَأَمْرِ الْأَطْفَالِ، وَالْحَاكِمُ أَوْلَى بِتَنْفِيذِ الْوَصَايَا، كَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. الرَّابِعَةُ: لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ الْوِصَايَةُ فِي أَمْرِ الْأَطْفَالِ، وَلَا لِلْأُمِّ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ فِي أَنَّهَا تَلِي فَتُوصِي. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُوصَى فِيهِ، وَهُوَ التَّصَرُّفَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمُبَاحَةُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْوِصَايَةُ بِقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَتُنَفَّذُ فِي الْوَصَايَا وَأُمُورِ الْأَطْفَالِ، وَلَا تَجُوزُ فِي تَزْوِيجِ الْأَطْفَالِ، وَلَا فِي مَعْصِيَةٍ، كَبِنَاءِ كَنِيسَةٍ وَكُتُبِ التَّوْرَاةِ. وَذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْإِمَامُ، أَنَّ الْوِصَايَةَ لَا تَجْرِي فِي رَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ، وَلَا فِي الْوَصِيَّةِ بِعَيْنٍ لِمُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِأَعْيَانِهَا فَيَأْخُذُهَا أَصْحَابُهَا، وَإِنَّمَا يُوصِي فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، كَالْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ مَوْضِعُ تَوَقُّفٍ نَقْلًا وَمَعْنًى. أَمَّا النَّقْلُ، فَمَا سَيَأْتِي فِي بَقِيَّةِ الْبَابِ وَفِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ قَالُوا: إِنْ أَوْصَى إِلَى فَاسِقٍ، ضَمِنَ. وَأَمَّا الْمَعْنَى، فَلِأَنَّهُ قَدْ يُخَافُ خِيَانَةُ الْوَارِثِ.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ، فَلَا بُدَّ فِي الْوِصَايَةِ مِنَ الْإِيجَابِ، بِأَنْ يَقُولَ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ، أَوْ فَوَّضْتُ، أَوْ أَقَمْتُكَ مَقَامِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ فِيهَا التَّوْقِيتُ كَمَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ التَّعْلِيقِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ سَنَةً، أَوْ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ ابْنِي فُلَانٌ، أَوْ أَوْصَى إِلَى زَوْجَتِهِ إِلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ. وَأَمَّا الْقَبُولُ، فَالْمَذْهَبُ اشْتِرَاطُهُ، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى خِلَافٍ فِيهِ. وَهَلْ يَقُومُ عَمَلُ الْوَصِيِّ مَقَامَ لَفْظِ قَبُولِهِ؟ وَجْهَانِ. وَكُلُّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَكَالَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي. فَلَوْ قِيلَ فِي حَيَاتِهِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. كَمَا لَوْ أَوْصَى بِمَالٍ، يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: يُعْتَدُّ بِهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِعَمَلٍ يَتَأَخَّرُ، يَصِحُّ الْقَبُولُ فِي الْحَالِ. وَالرَّدُّ فِي حَيَاةِ الْوَصِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ رَدَّ فِي حَيَاتِهِ، ثُمَّ قَبِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، جَازَ، وَلَوْ رَدَّ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَغَتِ الْوِصَايَةُ. فَرْعٌ إِنْ فَصَّلَ فَقَالَ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ فِي قَضَاءِ دُيُونِي وَتَنْفِيذِ وِصَايَاتِي وَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ أَطْفَالِي وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِمْ، أَوْ ذَكَرَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، فَذَاكَ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ، أَوْ أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِي أَمْرِ أَطْفَالِي، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّصَرُّفَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: لَهُ التَّصَرُّفُ وَالْحِفْظُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعُرْفِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْحِفْظُ تَنْزِيلًا عَلَى الْأَقَلِّ. وَالثَّالِثُ: لَا تَصِحُّ الْوِصَايَةُ حَتَّى يُبَيِّنَ مَا فَوَّضَهُ إِلَيْهِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ، فَبَاطِلَةٌ قَطْعًا.

فَرْعٌ لَوِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ، فَأَوْصَى بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ كِتَابُ الْوِصَايَةِ، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، صَحَّتِ الْوِصَايَةُ كَالْأَخْرَسِ. فَرْعٌ أَوْصَى إِلَيْهِ فِي تَصَرُّفٍ، لَا يَتَعَدَّاهُ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إِلَى اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَأَنْ يُوصِيَ إِلَى وَاحِدٍ وَيُنَصِّبَ عَلَيْهِ مُشْرِفًا، وَلَا يَتَصَرَّفَ الْوَصِيُّ إِلَّا بِإِذْنِهِ. ثُمَّ إِذَا أَوْصَى إِلَى اثْنَيْنِ، إِنْ كَانَتْ فِي رَدِّ الْوَدَائِعِ أَوِ الْغُصُوبِ وَالْعَوَارِي وَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِهِ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ بِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ مُسْتَقِلٌّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْأَخْذِ. هَكَذَا نَقَلَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي صَرَّحُوا فِيهَا بِجَرَيَانِ الْوِصَايَةِ فِي رَدِّ الْغُصُوبِ وَالْعَوَارِي، خِلَافَ مَا قَالَتْهُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ. ثُمَّ وُقُوعُ الْمَدْفُوعِ مَوْقِعَهُ، وَعَدَمُ الرَّدِّ وَالنَّقْصِ عِنْدَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا، بَيِّنٌ، لَكِنَّ تَجْوِيزَ الِانْفِرَادِ لَيْسَ بِبَيِّنٍ، فَإِنَّ تَصَرُّفَهُمَا فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ مُسْتَفَادٌ بِالْوِصَايَةِ، فَلْيَكُنْ بِحَسَبِهَا، وَلْتَجِئْ فِيهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَسَتَجِدُ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ مَا هُوَ كَالصَّرِيحِ فِيمَا ذَكَرْتُهُ. وَإِنْ كَانَتِ الْوِصَايَةُ فِي تَفْرِقَةِ الثُّلُثِ وَأُمُورِ الْأَطْفَالِ وَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَلَهَا أَحْوَالٌ.

فصل

أَحَدُهَا: أَنْ يَثْبُتَ الِاسْتِقْلَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَيَقُولُ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكُمَا، أَوْ إِلَى كُلٍّ مِنْكُمَا، أَوْ يَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا وَصِيِّي فِي كَذَا، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازِ: أَوْ يَقُولُ: أَنْتُمَا وَصِيَّايَ فِي كَذَا، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ. وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ، أَوْ لَمْ يَقْبَلِ الْوِصَايَةَ، كَانَ لِلْآخَرِ الِانْفِرَادُ. وَإِنْ ضَعُفَ نَظَرُ أَحَدِهِمَا، فَلِلْآخَرِ الِانْفِرَادُ، وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَضُمَّ إِلَى ضَعِيفِ النَّظَرِ مَنْ يُعِينُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ. فَإِنِ انْفَرَدَ، لَمْ يُنَفَّذِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْإِعْتَاقُ، وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ. فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ جُنَّ، أَوْ فَسَقَ، أَوْ غَابَ، أَوْ لَمْ يَقْبَلِ الْوَصِيَّةَ، نَصَبَ الْحَاكِمُ بَدَلًا عَنْهُ لِيَتَصَرَّفَ مَعَ الْآخَرِ. وَهَلْ لَهُ إِثْبَاتُ الِاسْتِبْدَادِ لِلْآخَرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَهُ. وَلَوْ مَاتَا جَمِيعًا، فَهَلْ لِلْحَاكِمِ نَصْبُ وَاحِدٍ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى التَّصَرُّفِ تَلَفُّظُهُمَا بِصِيَغِ الْعُقُودِ مَعًا؛ بَلِ الْمُرَادُ صُدُورُهُ عَنْ رَأْيِهِمَا، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُبَاشِرَ أَحَدُهُمَا أَوْ غَيْرُهُمَا بِإِذْنِهِمَا. الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ قَوْلَهُ: أَوْصَيْتُ إِلَيْكُمَا، فَهُوَ كَالتَّقْيِيدِ بِالِاجْتِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ. فَصْلٌ قَالَ: أَوْصَيْتُ إِلَى زَيْدٍ، ثُمَّ قَالَ: [أَوْصَيْتُ] إِلَى عَمْرٍو، لَمْ يَكُنْ عَزْلًا لِزَيْدٍ، ثُمَّ إِنْ قَبِلَا، فَهُمَا شَرِيكَانِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْفَرِدُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، انْفَرَدَ بِالتَّصَرُّفِ. وَلَوْ قَالَ لِعَمْرٍو: مَا أَوْصَيْتُ بِهِ إِلَى زَيْدٍ قَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ إِلَيْكَ، فَهُوَ رُجُوعٌ. وَلَوْ قَالَ لِزَيْدٍ: ضَمَمْتُ إِلَيْكَ عَمْرًا، أَوْ قَالَ لِعَمْرٍو: ضَمَمْتُكَ إِلَى زَيْدٍ، فَإِنْ قَبِلَ عَمْرٌو دُونَ زَيْدٍ لَمْ يَنْفَرِدْ بِالتَّصَرُّفِ، بَلْ يَضُمُّ الْقَاضِي إِلَيْهِ أَمِينًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ

فِي اسْتِقْلَالِهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ قَبِلَ زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو، فَالَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، أَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَإِنْ قَبِلَا جَمِيعًا، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُمَا شَرِيكَانِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ وَصِيِّي، وَعَمْرٌو مُشْرِفٌ. فَرْعٌ أَوْصَى إِلَى شَخْصَيْنِ، فَاخْتَلَفَا فِي التَّصَرُّفِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَا مُسْتَقِلَّيْنِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: أَنَا أَتَصَرَّفُ، حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَنَّهُ يُقَسَّمُ فَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي نِصْفِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ، تُرِكَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَصَرَّفَا فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا حَاصِلَ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ، وَمَنْ سَبَقَ نُفِّذَ تَصَرُّفُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُسْتَقِلَّيْنِ، أَمَرَهُمَا الْحَاكِمُ بِمَا رَآهُ مَصْلَحَةً. فَإِنِ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا، ضَمَّ الْقَاضِي إِلَى الْآخَرِ أَمِينًا. وَإِنِ امْتَنَعَا، أَقَامَ مَقَامَهُمَا أَمِينَيْنِ، وَلَا يَنْعَزِلَانِ بِالِاخْتِلَافِ؛ بَلِ الْآخَرَانِ نَائِبَانِ عَنْهُمَا. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي تَعْيِينِ مَنْ يُصْرَفُ إِلَيْهِ مِنَ الْفُقَرَاءِ، عَيَّنَ الْقَاضِي مَنْ يَرَاهُ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْحِفْظِ، قُسِّمَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ التَّصَرُّفُ فِيمَا فِي يَدِهِ وَيَدِ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَكُونَا مُسْتَقِلَّيْنِ، لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِحِفْظِ شَيْءٍ. وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ. ثُمَّ إِذَا قُسِّمَ، وَتَنَازَعَا فِي عَيْنِ النِّصْفِ الْمَحْفُوظِ، أَقْرَعَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُعَيِّنُ الْقَاضِي. هَذَا إِذَا كَانَ الْمَتَاعُ مُنْقَسِمًا، وَإِلَّا فَيَحْفَظَانِهِ مَعًا بِجَعْلِهِ فِي بَيْتٍ يَقْفِلَانِهِ، أَوْ بِرِضَاهُمَا بِنَائِبٍ يَحْفَظُهُ مِنْ جِهَتِهِمَا، وَإِلَّا فَيَتَوَلَّى الْقَاضِي حِفْظَهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مُنْقَسِمًا وَقُلْنَا: لَا يَنْقَسِمُ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِيمَا إِذَا جَعَلَ إِلَيْهِمَا التَّصَرُّفَ وَاخْتَلَفَا فِي الْحِفْظِ إِلَى التَّصَرُّفِ. فَأَمَّا إِذَا جَعَلَ الْحِفْظَ إِلَى اثْنَيْنِ، فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِحَالٍ.

فصل

فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْوِصَايَةِ فَمِنْهَا الْجَوَازُ، فَلِلْمُوصِي الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ، وَلِلْمُوصَى عَزْلُ نَفْسِهِ مَتَى شَاءَ. قُلْتُ: إِلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُ الْمَالِ بِاسْتِيلَاءِ ظَالِمٍ مِنْ قَاضٍ وَغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْوَصِيَّ يَقْضِي الدُّيُونَ الَّتِي عَلَى الصَّبِيِّ مِنَ الْغَرَامَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ. وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَلْيُنْفِقْ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ تَرْكُ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ. فَإِنْ أَسْرَفَ، ضَمِنَ الزِّيَادَةَ، وَيَشْتَرِي لَهُ الْخَادِمَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ يُخْدَمُ. فَرْعٌ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَنَازَعَهُ فِي أَصْلِ الْإِنْفَاقِ، صُدِّقَ الْوَصِيُّ بِيَمِينِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَسْرَفْتُ فِي الْإِنْفَاقِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَعْيِينِهِمَا قَدْرًا، نُظِرَ فِيهِ، وَصُدِّقَ مَنْ يَقْتَضِي الْحَالُ تَصْدِيقَهُ. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنَا، فَالْمُصَدَّقُ الْوَصِيُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَهَذَا عَلَى غَرَابَتِهِ يَجِيءُ فِي أَصْلِ الْإِنْفَاقِ. فَرْعٌ ادَّعَى أَنَّ الْوَصِيَّ خَانَ فِي بَيْعِ مَالِهِ، فَبَاعَهُ بِلَا حَاجَةٍ وَلَا غِبْطَةٍ، فَفِيهِ خِلَافٌ قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ الْحَجْرِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُدَّعِي.

فصل

فَرْعٌ تَنَازَعَا فِي تَارِيخِ مَوْتِ أَبِيهِ، فَقَالَ: مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، فَقَالَ الْوَصِيُّ: مِنْ سِتٍّ، وَاتَّفَقَا عَلَى إِنْفَاقِهِ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْوَصِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ ادَّعَى دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لَا يُقْبَلُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِي التَّلَفِ بِالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ. فَرْعٌ قَيِّمُ الْحَاكِمِ، كَالْوَصِيِّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْمَجْنُونُ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ كَالصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. فَصْلٌ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مَجْنُونًا أَوْ سَفِيهًا، اسْتَمَرَّتْ وِلَايَةُ الصَّبِيِّ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْحَجْرِ،

فصل

ثُمَّ إِنْ رَأَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُبَذِّرِ نَفَقَةَ أُسْبُوعٍ أُسْبُوعٍ، فَعَلَ، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِهِ، دَفَعَهَا إِلَيْهِ يَوْمًا يَوْمًا، وَيَكْسُوهُ كُسْوَةً مِثْلَهُ، فَإِنْ كَانَ يَخْرِقُهَا، هَدَّدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ، اقْتَصَرَ فِي الْبَيْتِ عَلَى إِزَارٍ. وَإِذَا خَرَجَ، كَسَاهُ وَجَعَلَ عَلَيْهِ رَقِيبًا. فَصْلٌ لَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ الْأَطْفَالِ وَإِنْ ذَكَرَهُ الْمُوصِي، وَلَا بَيْعُ مَالِ الصَّبِيِّ لِنَفْسِهِ وَلَا عَكْسِهِ، وَلَا بَيْعُ مَالِ صَبِيٍّ لِصَبِيٍّ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَصِيِّ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ بِمَالٍ وَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي تَفْرِقَةِ الثُّلُثِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ وِلَايَةً، وَيَجُوزُ لِمَنْ هُوَ وَصِيٌّ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ أَنْ يَشْهَدَ بِغَيْرِهِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمُبَاشَرَتِهِ لِمِثْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ كِبَارِ الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ. وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا عَبْدٌ، لَمْ يَبِعِ الْوَصِيُّ إِلَّا ثُلُثَهُ. وَلَوْ كَانَ الْوَصِيُّ وَالصَّبِيُّ شَرِيكَيْنِ، لَمْ يَسْتَقِلَّ بِالْقِسْمَةِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: هِيَ بَيْعٌ أَوْ إِفْرَازٌ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: لَيْسَ لَهُ خَلْطُ حِنْطَتِهِ بِحِنْطَةِ الصَّبِيِّ، وَلَا دَرَاهِمِهِ بِدَرَاهِمِهِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: 220] مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْإِرْفَاقِ، وَهُوَ خَلْطُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ وَاللَّحْمِ بِاللَّحْمِ لِلطَّبْخِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْوَصِيَّ الْإِشْهَادُ فِي بَيْعِ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي الْجُرْجَانِيَّاتِ لِأَبِي الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ وَجْهَانِ فِي أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ فَسَقَ قَبْلَ انْبِرَامِ الْبَيْعِ، هَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ؟ وَوَجْهَانِ فِي أَنَّ الْوِصَايَةَ هَلْ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْوِلَايَةِ، كَقَوْلِهِ: وَلَّيْتُكَ كَذَا بَعْدَ مَوْتِي؟ وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ

أَنْ يَدْفَعَ مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً إِلَى مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي الْبَلَدِ، وَيَجُوزُ إِلَى مَنْ يُسَافِرُ بِهِ إِذَا جَوَّزْنَا الْمُسَافَرَةَ بِهِ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَجْرِ وَلَوْ أَوْصَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى زَيْدٍ، فَقِيَاسُ مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا أَوْصَى لِلَّهِ تَعَالَى وَلِزَيْدٍ مَجِيءُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوِصَايَةَ إِلَى زَيْدٍ. وَالثَّانِي: إِلَى زَيْدٍ وَالْحَاكِمِ. وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِرَجُلٍ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَقَالَ: قَدْ سَمَّيْتُهُ لِوَصِيِّي، فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ لَا يُصَدِّقُوهُ. وَفِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِأَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: سَمَّيْتُهُ لِوَصِيَّيَّ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَعَيَّنَا رَجُلًا، اسْتَحَقَّهُ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي التَّعْيِينِ، فَهَلْ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، أَمْ يَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعَ شَاهِدِهِ؟ قَوْلَانِ. وَفِي الزِّيَادَاتِ لِأَبِي عَاصِمٍ: أَنَّهُ لَوْ خَافَ الْوَصِيُّ أَنْ يَسْتَوْلِيَ غَاصِبٌ عَلَى الْمَالِ، فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا لِتَخْلِيصِهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ. وَفِي ((فَتَاوَى)) الْقَفَّالِ: أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ: بِعْ أَرْضِي الْفُلَانِيَّةَ، وَاشْتَرِ مِنْ ثَمَنِهَا رَقَبَةً فَأَعْتِقْهَا عَنِّي، وَأَحِجَّ عَنِّي، وَاشْتَرِ مِائَةَ رَطْلٍ خُبْزٍ فَأَطْعِمْهَا الْفُقَرَاءَ، فَبَاعَ الْأَرْضَ بِعَشَرَةٍ، وَكَانَ لَا تُوجَدُ رَقَبَةٌ إِلَّا بِعَشَرَةٍ، وَلَا يُحَجُّ إِلَّا بِعَشَرَةٍ، وَلَا يُبَاعُ الْخُبْزُ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ، فَتُوَزَّعُ الْعَشْرُ عَلَيْهَا خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِعْتَاقُ وَالْحَجُّ بِحِصَّتِهِمَا، فَيَضُمُّ إِلَى حِصَّةِ الْخُبْزِ تَمَامَ الْخَمْسَةِ، فَيُنَفِّذُ فِيهِ الْوَصِيَّةَ، وَيَرُدُّ الْبَاقِيَ عَلَى الْوَرَثَةِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو بِعَشَرَةٍ، وَكَانَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَرَدَّ أَحَدُهُمَا، دُفِعَتِ الْعَشَرَةُ إِلَى الْآخَرِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ مِنْ ثُلُثِي رَقَبَةً فَأَعْتِقْهَا، وَأَحِجَّ عَنِّي، وَاحْتَاجَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى عَشَرَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: يُقَدَّمُ الْعِتْقُ، صُرِفَتِ الْعَشَرَةُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا وَلَا يُوَزِّعَ، إِذْ لَوْ وَزَّعَ، لَمْ يَحْصُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الوديعة

كِتَابُ الْوَدِيعَةِ هِيَ الْمَالُ الْمَوْضُوعُ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ لِيَحْفَظَهُ. وَاسْتَوْدَعْتُهُ الْوَدِيعَةَ: اسْتَحْفَظْتُهُ إِيَّاهَا. وَمَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً يَعْجِزُ عَنْ حِفْظِهَا، حُرِّمَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا، لَكِنْ لَا يَثِقُ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ، فَهَلْ يُحَرَّمُ قَبُولُهَا، أَمْ يُكْرَهُ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ قَدَرَ، وَوَثِقَ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ، اسْتُحِبَّ الْقَبُولُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ، فَقَدْ أَطْلَقَ مُطْلِقُونَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَيَّنَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْأَمَالِي، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَصْلُ الْقَبُولِ دُونَ أَنْ يُتْلِفَ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ وَحِرْزِهِ فِي الْحِفْظِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. فَرْعٌ لَا يَصِحُّ إِيدَاعُ الْخَمْرِ وَنَحْوِهَا. فَصْلٌ الْإِيدَاعُ، تَوْكِيلٌ خَاصٌّ، وَأَرْكَانُهُ، كَأَرْكَانِهَا أَرْبَعَةٌ: الْحِفْظُ، وَالْعَاقِدَانِ، وَالصِّيغَةُ. فَلَا بُدَّ مِنْ صِيغَةٍ مِنَ الْمُودِعِ دَالَّةٍ عَلَى الِاسْتِحْفَاظِ، كَقَوْلِهِ: اسْتَوْدَعْتُكَ هَذَا الْمَالَ، أَوْ أَوْدَعْتُكَ، أَوِ اسْتَحْفَظْتُكَ، أَوْ أَنَبْتُكَ فِي حِفْظِهِ، أَوِ احْفَظْهُ، أَوْ هُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا. وَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ بِاللَّفْظِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: لَا يُشْتَرَطُ، بَلْ يَكْفِي الْقَبْضُ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ. وَالثَّالِثُ: يُشْتَرَطُ

فصل

إِنْ كَانَ بِصِيغَةِ عَقْدٍ، كَأَوْدَعْتُكَ، وَلَا يُشْتَرَطُ إِنْ قَالَ: احْفَظْهُ، أَوْ هُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَقَدْ أَوْدَعْتُكَ هَذَا، فَقَطَعَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ بِالْجَوَازِ، وَالْقِيَاسُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ. وَلَوْ جَاءَ بِمَالِهِ، وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِشَيْءٍ، لَمْ يَحْصُلِ الْإِيدَاعُ. فَلَوْ قَبَضَهُ الْمَوْضُوعُ عِنْدَهُ، ضَمِنَهُ. وَكَذَا لَوْ كَانَ قَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: أُرِيدُ أَنْ أُودِعَكَ، ثُمَّ جَاءَ بِالْمَالِ، فَإِنْ قَالَ: هَذَا وَدِيعَتِي عِنْدَكَ، أَوِ احْفَظْهُ، وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ الْمَوْضُوعُ عِنْدَهُ، تَمَّتِ الْوَدِيعَةُ إِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْقَبُولَ لَفْظًا. وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ، لَمْ يَكُنْ وَدِيعَةً، حَتَّى لَوْ ذَهَبَ وَتَرَكَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لَكِنْ يَأْثَمُ إِنْ كَانَ ذَهَابُهُ بَعْدَمَا غَابَ الْمَالِكُ. وَإِنْ قَالَ: قَبِلْتُ، أَوْ ضَعْهُ، فَوَضَعَهُ، كَانَ إِيدَاعًا، كَمَا لَوْ قَبَضَهُ بِيَدِهِ، كَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَكُونُ وَدِيعَةً مَا لَمْ يَقْبِضْهُ. وَفِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُوضَعُ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: ضَعْهُ، دَخَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ، لِحُصُولِهِ فِي الْمُوضَعِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، بِأَنْ قَالَ: انْظُرْ إِلَى مَتَاعِي فِي دُكَّانِي، فَقَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَكُنْ وَدِيعَةً. وَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ ذَهَبَ الْمَوْضُوعُ عِنْدَهُ وَتَرَكَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا بَعْدُ، فَهُوَ رَدٌّ لِلْوَدِيعَةِ. وَإِنْ غَابَ الْمَالِكُ، ضَمِنَهُ. فَصْلٌ لَا يَصِحُّ الْإِيدَاعُ إِلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ. فَلَوْ أَوْدَعَ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ مَالًا، لَمْ يَقْبَلْهُ، فَإِنْ قَبِلَهُ، ضَمِنَهُ، وَلَا يَزُولُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى النَّاظِرِ فِي أَمْرِهِ. لَكِنْ لَوْ خَافَ هَلَاكَهُ فِي يَدِهِ فَأَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ صَوْنًا لَهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَصِحُّ الْإِيدَاعُ إِلَّا عِنْدَ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، فَلَوْ أَوْدَعَ مَالًا عِنْدَ صَبِيٍّ، فَتَلِفَ، لَمْ يَضْمَنْهُ، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ حِفْظَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَرَكَهُ عِنْدَ بَالِغٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْفَاظٍ فَتَلِفَ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ الصَّبِيُّ،

فصل

فَقَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ أَقْرَضَهُ وَأَقْبَضَهُ فَأَتْلَفَهُ، فَلَا ضَمَانَ قَطْعًا. وَأَظْهَرُهُمَا: يَضْمَنُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْفَاظٍ. وَلَا تَسْلِيطٍ عَلَى الْإِتْلَافِ هُنَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ. وَلَوْ أَوْدَعَ مَالَهُ عِنْدَ عَبْدٍ فَتَلِفَ عِنْدَهُ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِرَقَبَتِهِ كَمَا لَوْ أُتْلِفَ ابْتِدَاءً، أَمْ بِذِمَّتِهِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّبِيِّ. وَإِيدَاعُ السَّفِيهِ وَالْإِيدَاعُ عِنْدَهُ، كَإِيدَاعِ الصَّبِيِّ وَالْإِيدَاعِ عِنْدَهُ. فَرْعٌ اسْتَنْبَطُوهُ مِنَ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ أَصْلًا فِي الْبَابِ وَهُوَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ عَقْدٌ بِرَأْسِهِ، أَمْ إِذْنٌ مُجَرَّدٌ؟ إِنْ قُلْنَا عَقْدٌ، لَمْ يَضْمَنْهُ الصَّبِيُّ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِذْنٌ، فَبِالْعَكْسِ، وَخَرَّجُوا عَلَيْهِ وَلَدَ الْجَارِيَةِ الْمُودَعَةِ، وَنِتَاجَ الْبَهِيمَةِ. إِنْ قُلْنَا: عَقْدٌ، فَالْوَلَدُ وَدِيعَةٌ كَالْأُمِّ، وَإِلَّا، فَلَيْسَ بِوَدِيعَةٍ، بَلْ أَمَانَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي يَدِهِ يَجِبُ رَدُّهَا فِي الْحَالِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يُؤَدِّ مَعَ التَّمَكُّنِ، ضَمِنَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَذَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ قُلْنَا: عَقْدٌ، لَمْ يَكُنْ وَدِيعَةً، بَلْ أَمَانَةً، اعْتِبَارًا بِعَقْدِ الرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ، وَإِلَّا فَهَلْ يَتَعَدَّى حُكْمُ الْأُمِّ إِلَى الْوَلَدِ كَالْأُضْحِيَةِ، أَمْ لَا كَالْعَارِيَةِ؟ وَجْهَانِ، وَالْمُوَافِقُ لِإِطْلَاقِ الْجُمْهُورِ كَوْنُ الْوَدِيعَةِ عَقْدًا. فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْوَدِيعَةِ هِيَ ثَلَاثَةٌ. أَحَدُهَا: الْجَوَازُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَتَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ جُنُونِهِ أَوْ إِغْمَائِهِ.

وَلَوْ عَزَلَ الْمُودَعُ نَفْسَهُ، فَانْعِزَالُهُ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ إِذْنٌ، أَمْ عَقْدٌ؟ إِنْ قُلْنَا: إِذْنٌ، فَالْعَزْلُ لَغْوٌ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لِلضِّيفَانِ فِي أَكْلِ طَعَامِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَزَلْتُ نَفْسِي، يَلْغُو قَوْلُهُ، وَلَهُ الْأَكْلُ بِالْإِذْنِ السَّابِقِ. فَعَلَى هَذَا، تَبْقَى الْوَدِيعَةُ بِحَالِهَا. وَإِنْ قُلْنَا: عَقْدٌ، انْفَسَخَتْ وَبَقِيَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً، كَالرِّيحِ تُطَيِّرُ الثَّوْبَ إِلَى دَارِهِ، فَعَلَيْهِ الرَّدُّ عِنْدَ التَّمَكُّنِ وَإِنْ لَمْ يُطْلَبْ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، ضَمِنَ. [الْحُكْمُ] الثَّانِي: أَنَّهَا أَمَانَةٌ، فَلَا يَضْمَنُ إِلَّا عِنْدَ التَّقْصِيرِ، وَأَسْبَابُ التَّقْصِيرِ تِسْعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُودِعَهَا الْمُودَعُ عِنْدَ غَيْرِهِ بِلَا عُذْرٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، فَيَضْمَنُ، سَوَاءٌ أَوْدَعَ عِنْدَ عَبْدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَابْنِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ. وَالْكَلَامُ فِي تَضْمِينِ الْمَالِكِ الْمُودَعَ الثَّانِيَ قَدْ سَبَقَ فِي بَابَيِ الرَّهْنِ وَالْغَصْبِ. وَإِنْ أَوْدَعَهَا عِنْدَ الْقَاضِي، فَوَجْهَانِ - سَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا - أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَضْمَنُ. فَإِنْ جَوَّزْنَا الدَّفْعَ إِلَى الْقَاضِي، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَبُولُ إِنْ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا وَالدَّفْعُ عَلَيْهِ مُتَيَسِّرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَزِمَهُ الْقَبُولُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْغَائِبِينَ. وَإِذَا حَمَلَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ إِلَى الْقَاضِي، فَفِي وُجُوبِ الْقَبُولِ الْوَجْهَانِ، لَكِنَّ هَذَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ لِيَبْقَى مَضْمُونًا لِلْمَالِكِ. وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَوْ حَمَلَهُ إِلَى الْقَاضِي، نُظِرَ، إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ قَبُولُهُ، فَالْقَاضِي أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلتَّلَفِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ، تَعَرَّضَ لَهُ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِيمَا إِذَا اسْتَحْفَظَ غَيْرَهُ وَأَزَالَ يَدَهُ وَنَظَرَهُ عَنِ الْوَدِيعَةِ. أَمَّا إِذَا اسْتَعَانَ بِهِ فِي حَمْلِهَا إِلَى الْحِرْزِ، فَلَا بَأْسَ، كَمَا لَوِ اسْتَعَانَ فِي سَقْيِ الْبَهِيمَةِ وَعَلْفِهَا. قَالَ الْقَفَّالُ: وَكَذَا لَوْ كَانَتْ خِزَانَتُهُ وَخِزَانَةُ ابْنِهِ وَاحِدَةً فَدَفَعَهَا إِلَى ابْنِهِ لِيَضَعَهَا فِي الْخِزَانَةِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ الْمُودَعَ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِحَاجَاتِهِ، فَاسْتَحْفَظَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ مُتَّصِلِيهِ، وَكَانَ يُلَاحِظُ الْمَخْزَنَ فِي عَوْدَاتِهِ، فَلَا بَأْسَ. وَإِنْ فَوَّضَ الْحِفْظَ إِلَى بَعْضِهِمْ، وَلَمْ يُلَاحِظِ الْوَدِيعَةَ

أَصْلًا، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ. وَإِنْ كَانَ الْمَخْزَنُ خَارِجًا عَنْ دَارِهِ الَّتِي يَأْوِي إِلَيْهَا، وَكَانَ لَا يُلَاحِظُهُ، فَالظَّاهِرُ تَضْمِينُهُ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ. فَإِنْ كَانَ، بِأَنْ أَرَادَ سَفَرًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِهِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ وُصُولُهُ إِلَيْهِمَا، دَفَعَهَا إِلَى الْقَاضِي، وَعَلَيْهِ قَبُولُهَا. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَاضِيًا، دَفَعَهَا إِلَى أَمِينٍ، وَلَا يُكَلَّفُ تَأْخِيرُ السَّفَرِ. فَإِنْ تَرَكَ هَذَا التَّرْتِيبَ فَدَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ أَوْ أَمِينٍ مَعَ إِمْكَانِ الدَّفْعِ إِلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ، ضَمِنَ، وَيَجِيءُ فِي هَذَا الْخِلَافِ السَّابِقِ. وَإِنْ دَفَعَ إِلَى أَمِينٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَاكِمِ، ضَمِنَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ دَفَنَ الْوَدِيعَةَ عِنْدَ سَفَرِهِ، ضَمِنَ إِنْ دَفَنَهَا فِي غَيْرِ حِرْزِهِ [أَوْ فِي حِرْزٍ] وَلَمْ يُعْلِمْ بِهَا أَمِينًا، أَوْ أَعْلَمَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْإِيدَاعُ عِنْدَ الْأَمِينِ، أَوْ حَيْثُ يَجُوزُ إِلَّا أَنَّ الَّذِي أَعْلَمَهُ لَا يَسْكُنُ الْمَوْضِعَ. فَإِنْ سَكَنَهُ، لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الْأَصَحِّ. كَذَا فَصَّلَهُ الْجُمْهُورُ، وَجَعَلَ الْإِمَامُ فِي مَعْنَى السُّكْنَى أَنْ يُرَاقِبَهَا مِنَ الْجَوَانِبِ، أَوْ مِنْ فَوْقِ مُرَاقَبَةِ الْحَارِسِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِعْلَامَ كَالْإِيدَاعِ سَوَاءٌ سَكَنَ الْمَوْضِعَ، أَمْ لَا. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرُهُ وَجْهَيْنِ، فِي أَنَّ سَبِيلَ هَذَا الْإِعْلَامِ سَبِيلُ الْإِشْهَادِ، أَمِ الِائْتِمَانِ؟ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَا بُدَّ مِنْ إِعْلَامِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَكَمَا يَجُوزُ الْإِيدَاعُ بِعُذْرِ السَّفَرِ كَمَا تَبَيَّنَ، فَكَذَا سَائِرُ الْأَعْذَارِ، كَمَا إِذَا وَقَعَ فِي الْبُقْعَةِ حَرِيقٌ أَوْ نَهْبٌ أَوْ غَارَةٌ، أَوْ خَافَ الْغَرَقَ، وَلْيَكُنْ فِي مَعْنَاهَا إِذَا أَشْرَفَ الْحِرْزُ عَلَى الْخَرَابِ وَلَمْ يَجِدْ حِرْزًا يَنْقُلُهَا إِلَيْهِ. السَّبَبُ الثَّانِي: السَّفَرُ بِهَا، فَإِذَا أَوْدَعَ حَاضِرًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، فَإِنْ فَعَلَ، ضَمِنَ. وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمَنًا، أَوْ سَافَرَ فِي الْبَحْرِ وَالْغَالِبُ فِيهِ

السَّلَامَةُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ سَافَرَ بِهَا لِعُذْرٍ، بِأَنْ جَلَا أَهْلُ الْبَلَدِ، أَوْ وَقَعَ حَرِيقٌ، أَوْ غَارَةٌ، فَلَا ضَمَانَ بِشَرْطِ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ رَدِّهَا إِلَى الْمَالِكِ وَوَكِيلِهِ وَالْحَاكِمِ وَعَنْ إِيدَاعِ أَمِينٍ، وَيَلْزَمُهُ السَّفَرُ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُضَيِّعٌ. وَلَوْ عَزَمَ عَلَى السَّفَرِ فِي وَقْتِ السَّلَامَةِ، وَعَجَزَ عَنِ الْمَالِكِ وَوَكِيلِهِ، وَالْحَاكِمِ، وَالْأَمِينِ، فَسَافَرَ بِهَا، لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَنْ مَصَالِحِهِ وَيَنْفِرَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ. وَشَرْطُ الْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَإِلَّا، فَيَضْمَنُ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مَسْأَلَةِ الْوَجْهَيْنِ. فَأَمَّا عِنْدَ الْحَرِيقِ وَنَحْوِهِ، فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ احْتِمَالُ الْهَلَاكِ فِي الْحَضَرِ أَقْرَبَ مِنْهُ فِي السَّفَرِ، فَلَهُ السَّفَرُ بِهَا. قَالَ فِي ((الرَّقْمِ)) : وَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، فَحَدَثَ خَوْفٌ، أَقَامَ. وَلَوْ هَجَمَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، فَأَلْقَى الْمَالَ فِي مَضْيَعَةٍ إِخْفَاءً لَهُ فَضَاعَ، ضَمِنَ. فَرْعٌ إِذَا أَوْدَعَ مُسَافِرًا، فَسَافَرَ بِالْوَدِيعَةِ، أَوْ مُنْتَجِعًا، فَانْتَجَعَ بِهَا، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ حِينَ أَوْدَعَهُ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: تَرَكَ الْإِيصَاءَ، فَإِذَا مَرِضَ الْمُودَعُ مَرَضًا مَخُوفًا، أَوْ حُبِسَ لِلْقَتْلِ، لَزِمَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهَا. فَإِنْ سَكَتَ عَنْهَا، ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْفَوَاتِ، إِذِ الْوَارِثُ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ الْيَدِ وَيَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَصِيَّةِ: الْإِعْلَامُ وَالْأَمْرُ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَيْنَ الْإِيدَاعِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِعْلَامِ وَالْأَمْرِ بِالرَّدِّ. ثُمَّ يُشْتَرَطُ فِي الْوَصِيَّةِ بِهَا أُمُورٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَعْجِزَ عَنِ الرَّدِّ إِلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَحِينَئِذٍ يُودِعُ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ يُوصِي إِلَيْهِ. فَإِنْ عَجَزَ، فَيُودِعُ عِنْدَ أَمِينٍ، أَوْ يُوصِي إِلَيْهِ. كَذَا رَتَّبَ الْجُمْهُورُ،

كَمَا إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ. وَفِي التَّهْذِيبِ: أَنَّهُ يَكْفِيهِ الْوَصِيَّةُ وَإِنْ أَمْكَنَ الرَّدُّ إِلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَتَى يَمُوتُ. الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ إِلَى أَمِينٍ. فَإِذَا أَوْصَى إِلَى فَاسِقٍ، كَانَ كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ، فَيَضْمَنُ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُوصِيَ إِلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ، وَكَذَا الْإِيدَاعُ حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يُودِعَ أَمِينًا. الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ الْوَدِيعَةَ وَيُمَيِّزَهَا عَنْ غَيْرِهَا بِإِشَارَةٍ إِلَيْهَا، أَوْ بِبَيَانِ جِنْسِهَا وَصِفَتِهَا. فَلَوْ لَمْ يُبَيِّنِ الْجِنْسَ، بَلْ قَالَ: عِنْدِي وَدِيعَةٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ. فَرْعٌ لَوْ ذَكَرَ الْجِنْسَ فَقَالَ: عِنْدِي ثَوْبٌ لِفُلَانٍ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ ثَوْبٌ، فَهَلْ يَضْمَنُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ: يَضْمَنُ، لِتَقْصِيرِهِ فِي الْبَيَانِ، فَيُضَارِبُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ بِقِيمَتِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ. وَإِنْ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ أَثْوَابٌ، ضَمِنَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُمَيِّزْ، فَكَأَنَّهُ خَلَطَ الْوَدِيعَةَ. وَإِنْ وُجِدَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، ضَمِنَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ الثَّوْبُ الْمَوْجُودُ. وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ الثَّوْبُ الْمَوْجُودُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي. وَفِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَضْمَنُ إِذَا قَالَ: عِنْدِي ثَوْبٌ لِفُلَانٍ، وَذَكَرَ مَعَهُ مَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ. فَأَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَلَا ضَمَانَ. فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا لَمْ يُوصِ أَصْلًا، فَادَّعَى صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ قَصَّرَ، وَقَالَ الْوَرَثَةُ: لَعَلَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى التَّقْصِيرِ، فَالظَّاهِرُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.

فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْإِيدَاعِ، أَوِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ، بِأَنْ قُتِلَ غِيلَةً، أَوْ مَاتَ فَجْأَةً، فَلَا ضَمَانَ. فَرْعٌ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً، فَوُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ كِيسٌ مَخْتُومٌ، أَوْ غَيْرُ مَخْتُومٍ؛ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: وَدِيعَةُ فُلَانٍ، أَوْ وُجِدَ فِي جَرِيدَتِهِ: لِفُلَانٍ عِنْدِي كَذَا وَدِيعَةً، لَمْ يَلْزَمِ الْوَرَثَةَ التَّسْلِيمُ بِهَذَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَتَبَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ تَلْبِيسًا، أَوِ اشْتَرَى الْكِيسَ وَعَلَيْهِ الْكِتَابَةُ فَلَمْ يَمْحُهَا، أَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ بَعْدَ كِتَابَتِهَا فِي الْجَرِيدَةِ وَلَمْ يَمْحُهَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ التَّسْلِيمُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ إِقْرَارِ الْمُوَرَّثِ وَوَصِيَّةٍ أَوْ بَيِّنَةٍ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: نَقْلُهَا، فَإِذَا أَوْدَعَهُ فِي قَرْيَةٍ، فَنَقَلَ الْوَدِيعَةَ إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ، ضَمِنَ، وَكَذَا إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَا يُسَمَّى سَفَرًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ سَفَرًا، ضَمِنَ إِنْ كَانَ فِيهَا خَوْفٌ، أَوْ كَانَتِ الْمَنْقُولُ عَنْهَا أَحْرَزَ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَحَيْثُ مَنَعْنَا النَّقْلَ، فَذَاكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً. فَإِنْ وَقَعَتْ ضَرُورَةٌ، فَكَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُسَافِرَةِ. وَإِذَا أَرَادَ الِانْتِقَالَ بِلَا ضَرُورَةٍ، فَالطَّرِيقُ مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ. وَالنَّقْلُ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ، أَوْ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، كَالنَّقْلِ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ مُتَّصِلَتَيِ الْعِمَارَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْقُولُ عَنْهَا أَحْرَزَ، ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ نَقَلَ مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ خَانٍ وَاحِدٍ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ كَانَ [الْأَوَّلُ أَحْرَزَ مِنْهُمَا، كَانَ الثَّانِي حِرْزًا أَيْضًا، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. وَجَمِيعُ مَسَائِلِ

الْفَصْلِ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ الْإِيدَاعَ، فَأَمَّا إِذَا أَمَرَ] بِالْحِفْظِ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، فَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّبَبُ الْخَامِسُ: التَّقْصِيرُ فِي دَفْعِ الْمُهْلِكَاتِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُودِعِ دَفْعَ الْمُهْلِكَاتِ عَلَى الْمُعْتَادِ. فَلَوْ أَوْدَعَهُ، فَلَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْعَلْفِ وَالسَّقْيِ، فَعَلَيْهِ رِعَايَةُ الْمَأْمُورِ. فَإِنِ امْتَنَعَ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يَمُوتُ مِثْلُهَا فِي مِثْلِهَا، فَإِنْ مَاتَتْ، ضَمِنَهَا، وَإِلَّا فَقَدْ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ. وَإِنْ نَقَصَتْ، ضَمِنَ نِصْفَهَا. وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ بِاخْتِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ. وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، لَمْ يَضْمَنْ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا جُوعٌ وَعَطَشٌ سَابِقٌ. وَإِنْ كَانَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ ضَمِنَاهُ، فَيَضْمَنُ الْجَمِيعَ، أَمْ بِالْقِسْطِ؟ وَجْهَانِ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ بَهِيمَةٍ فَحَمَّلَهَا أَكْثَرَ مِمَّا شُرِطَ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ الْعَلْفِ وَالسَّقْيِ، فَيَعْصِي إِنْ ضَيَّعَهَا لِحُرْمَةِ الرُّوحِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَنَّهُ لَا ضَمَانَ، وَضَمِنَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ. الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَأْمُرَهُ وَلَا يَنْهَاهُ، فَيَلْزَمُ الْقِيَامُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حِفْظَهَا. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْمُودَعُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَلْفُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالِكُ عَلْفَهَا، فَذَاكَ. وَلَوْ قَالَ: اعْلِفْهَا مِنْ مَالِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اقْضِ دَيْنِي. وَالْأَصَحُّ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا، رَاجَعَ الْمَالِكَ أَوْ وَكِيلَهُ لِيَسْتَرِدَّهَا، أَوْ يُعْطِيَ عَلْفَهَا. فَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِمَا، رَفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَقْتَرِضَ عَلَيْهِ، أَوْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنْهَا، أَوْ يُؤَجِّرَهَا وَيَصْرِفَ الْأُجْرَةَ فِي مُؤْنَتِهَا. وَالْقَوْلُ فِيهِ وَفِي تَفَارِيعِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي هَرَبِ الْجِمَالِ وَعَلْفِ الضَّالَّةِ وَنَفَقَةِ اللَّقِيطِ وَنَحْوِهَا.

الْأَمْرُ الثَّانِي: إِنْ عَلَفَهَا وَسَقَاهَا فِي دَارِهِ، أَوِ اصْطَبْلِهِ، حَيْثُ تُعْلَفُ وَتُسْقَى دَوَابُّهُ. فَقَدْ وَفَّى بِالْحِفْظِ. وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ مَعَ دَوَابِّهِ لِضِيقٍ وَغَيْرِهِ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ كَانَ لِيَسْقِيَ دَوَابَّهُ فِيهِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ: وَإِنْ أَخْرَجَهَا إِلَى غَيْرِ دَارِهِ وَهُوَ يَسْقِي فِي دَارِهِ، ضَمِنَ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ بِظَاهِرِهِ وَأَطْلَقَ وُجُوبَ الضَّمَانِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ. هَذَا إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ أَحْرَزَ. فَإِنْ تَسَاوَيَا، فَلَا ضَمَانَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَآخَرُونَ: هَذَا إِذَا كَانَ فِي الْإِخْرَاجِ خَوْفٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، لَمْ يَضْمَنْ، لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. ثُمَّ إِنْ تَوَلَّى السَّقْيَ وَالْعَلْفَ بِنَفْسِهِ - أَوْ أَمَرَ بِهِ صَاحِبَهُ وَغُلَامَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ لَمْ تَزُلْ يَدُهُ - فَذَاكَ، وَإِنْ بَعَثَهَا عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ لِيَسْقِيَهَا، أَوْ أَمَرَهُ بِعَلْفِهَا وَأَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا أَمِينًا، ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ، لِلْعَادَةِ. قَالَ فِي ((الْوَسِيطِ)) : وَالْوَجْهَانِ فِيمَنْ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ فِي الْعَادَةِ، فَأَمَّا غَيْرُهُ، فَلَا يَضْمَنُ قَطْعًا. فَرْعٌ إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْعَلْفِ لِعِلَّةٍ تَقْتَضِيهِ، كَالْقُولَنْجِ، فَعَلَفَهَا قَبْلَ زَوَالِ الْعِلَّةِ فَمَاتَتْ، ضَمِنَ. فَرْعٌ الْعَبْدُ الْمَوْدُوعُ، كَالْبَهِيمَةِ فِي الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَوْ أَوْدَعَهُ نَخِيلًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: سَقْيُهَا كَسَقْيِ الدَّابَّةِ. وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُ بِتَرْكِ السَّقْيِ إِذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ.

فَرْعٌ ثِيَابُ الصُّوفِ الَّتِي يُفْسِدُهَا الدُّودُ، يَجِبُ عَلَى الْمُودَعِ نَشْرُهَا وَتَعْرِيضُهَا لِلرِّيحِ. بَلْ يَلْزَمُهُ لُبْسُهَا إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِأَنْ تُلْبَسُ وَتَعْبَقُ بِهَا رَائِحَةُ الْآدَمِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفَسَدَتْ، ضَمِنَ، سَوَاءٌ أَمَرَهُ الْمَالِكُ أَوْ سَكَتَ. فَإِنْ نَهَاهُ عَنْهُ، فَامْتَنَعَ حَتَّى فَسَدَتْ، كُرِهَ وَلَا يَضْمَنُ. وَأَشَارَ فِي التَّتِمَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِيءُ فِيهِ وَجْهُ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ فِي صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ، فَفَتَحَ الْقُفْلَ لِيُخْرِجَهُ وَيَنْشُرَهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا يَضْمَنُ عَلَى الْأَصَحِّ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا عَلِمَ الْمُودَعُ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، بِأَنْ كَانَ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ كِيسٍ مَشْدُودٍ وَلَمْ يُعْلِمْهُ الْمَالِكُ، فَلَا ضَمَانَ. السَّبَبُ السَّادِسُ: الِانْتِفَاعُ. فَالتَّعَدِّي بِاسْتِعْمَالِ الْوَدِيعَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، كَلُبْسِ الثَّوْبِ، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ، خِيَانَةٌ مُضَمَّنَةٌ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ، بِأَنْ لَبِسَ لِدَفْعِ الدُّودِ كَمَا سَبَقَ، أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ حَيْثُ يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا لِلسَّقْيِ وَكَانَتْ لَا تَنْقَادُ إِلَّا بِالرُّكُوبِ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنِ انْقَادَتْ مِنْ غَيْرِ رُكُوبٍ فَرَكِبَ، ضَمِنَ. وَلَوْ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ لِيَصْرِفَهَا إِلَى حَاجَتِهِ، أَوِ الثَّوْبَ لِيَلْبَسَهُ، أَوْ أَخْرَجَ الدَّابَّةَ لِيَرْكَبَهَا، ثُمَّ لَمْ يَسْتَعْمِلْ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ خِيَانَةٌ. وَلَوْ نَوَى الْأَخْذَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَأْخُذْ، لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَضَمَّنَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ، فِيمَا لَوْ نَوَى أَنْ لَا يَرُدَّ الْوَدِيعَةَ بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ. وَقِيلَ: يَضْمَنُ هُنَا قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُمْسِكًا لِنَفْسِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ الثَّوْبُ فِي صُنْدُوقٍ غَيْرِ مُقْفَلٍ فَرَفَعَ رَأْسَهُ لِيَأْخُذَ الثَّوْبَ وَيَلْبَسَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ. وَلَوْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مُقْفَلًا وَالْكِيسُ مَخْتُومًا، فَفَتَحَ الْقُفْلَ وَفَضَّ الْخَتْمَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَا فِيهِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ مَا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْخَتْمَ الَّذِي تَصَرَّفَ فِيهِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَضْمَنُ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ هَتَكَ الْحِرْزَ. وَعَلَى هَذَا، فَفِي ضَمَانِ الْكِيسِ وَالصُّنْدُوقِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْخِيَانَةَ فِي الظَّرْفِ.

وَلَوْ خُرِقَ الْكِيسُ [نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْخَرْقُ] تَحْتَ مَوْضِعِ الْخَتْمِ، فَهُوَ كَفَضِّ الْخَتْمِ. وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ، لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا نُقْصَانَ الْخَرْقِ. وَلَوْ أَوْدَعَهُ شَيْئًا مَدْفُونًا فَنَبَشَهُ، فَهُوَ كَفَضِّ الْخَتْمِ. وَلَا يَلْتَحِقُ بِالْفَضِّ وَفَتْحِ الْقُفْلِ حَلُّ الْخَيْطِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ رَأْسُ الْكِيسِ، أَوْ رِزْمَةُ الثِّيَابِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنَ الِانْتِشَارِ، لَا أَنْ يَكُونَ مَكْتُومًا عَنْهُ. وَعَنِ الْحَاوِي وَجْهَانِ فِيمَا إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ فَوَزَنَهَا - أَوْدَعَهَا - أَوْ ثِيَابٍ فَذَرَعَهَا لِيَعْرِفَ طُولَهَا، أَنَّهُ هَلْ يَضْمَنُ؟ وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ هَذَا الْخِلَافُ فِي حَلِّ الشَّدِّ. قُلْتُ: لَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا صَارَتِ الْوَدِيعَةُ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُودَعِ بِانْتِفَاعٍ أَوْ إِخْرَاجٍ مِنَ الْحِرْزِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ وُجُوهِ التَّقْصِيرِ، ثُمَّ تَرَكَ الْخِيَانَةَ وَرَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى مَكَانِهَا، لَمْ يَبْرَأْ وَلَمْ تَعُدْ أَمَانَتُهُ. فَلَوْ رَدَّهَا إِلَى الْمَالِكِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ ثَانِيًا، فَلَا شَكَّ فِي عَوْدِ أَمَانَتِهِ. فَلَوْ لَمْ يَرُدَّهَا، بَلْ أَحْدَثَ لَهُ الْمَالِكُ اسْتِئْمَانًا فَقَالَ: أَذِنْتُ لَكَ فِي حِفْظِهَا، أَوْ أَوْدَعْتُكَهَا، أَوِ اسْتَأْمَنْتُكَ، أَوْ أَبْرَأْتُكَ مِنَ الضَّمَانِ، فَوَجْهَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَصِيرُ أَمِينًا وَيَبْرَأُ. وَلَوْ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ: أَوْدَعْتُكَ، فَإِنْ خُنْتَ ثُمَّ تَرَكْتَ الْخِيَانَةَ، عُدْتَ أَمِينًا لِي، فَخَانَ ثُمَّ تَرَكَ الْخِيَانَةَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَعُودُ أَمِينًا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَتَعْلِيقٌ لِلْوَدِيعَةِ. فَرْعٌ قَالَ: خُذْ هَذِهِ وَدِيعَةً يَوْمًا، وَغَيْرَ وَدِيعَةٍ يَوْمًا، فَهُوَ وَدِيعَةٌ أَبَدًا. وَلَوْ قَالَ:

فصل

وَدِيعَةً يَوْمًا، وَعَارِيَةً يَوْمًا، فَهُوَ وَدِيعَةٌ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَعَارِيَةٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ لَا تَعُودُ وَدِيعَةً أَبَدًا، حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَحْرِ عَنِ اتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ. فَصْلٌ إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَفَقَدَ التَّمْيِيزَ، ضَمِنَ، وَإِنْ خَلَطَهَا بِمَالٍ آخَرَ لِلْمَالِكِ، ضَمِنَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ خِيَانَةٌ. وَلَوْ أَوْدَعَهُ دَرَاهِمَ فَأَنْفَقَ مِنْهَا دِرْهَمًا، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهُ إِلَى مَوْضِعِهِ، لَا يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهِ، وَلَا يَمْلِكُهُ الْمَالِكُ إِلَّا بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَرْدُودُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ عَنِ الْبَاقِي، صَارَ الْجَمِيعُ مَضْمُونًا، لِخَلْطِهِ الْوَدِيعَةَ بِمَالِ نَفْسِهِ. فَإِنْ تَمَيَّزَ، فَالْبَاقِي غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَإِنْ لَمْ يُنْفِقِ الدِّرْهَمَ الْمَأْخُوذَ، وَرَدَّهُ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِ ذَلِكَ الدِّرْهَمِ، وَلَا يَصِيرُ الْبَاقِي مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِنْ تَمَيَّزَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ الْبَاقِي مَضْمُونًا لِخَلْطِهِ الْمَضْمُونَ بِغَيْرِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَلْطَ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الْأَخْذِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ عَشَرَةً فَتَلِفَتْ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمٌ، وَلَوْ تَلِفَتْ خَمْسَةٌ، لَزِمَهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الدَّرَاهِمِ خَتْمٌ وَلَا قُفْلٌ، أَوْ كَانَ وَقُلْنَا: مُجَرَّدُ الْفَتْحِ وَالْفَضِّ لَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: يَقْتَضِيهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَبِالْفَضِّ وَالْفَتْحِ يَضْمَنُ الْجَمِيعَ. فَرْعٌ إِذَا أَتْلَفَ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اتِّصَالٌ بِالْبَاقِي، كَأَحَدِ الثَّوْبَيْنِ، لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا الْمُتْلَفَ. وَإِنْ كَانَ لَهُ اتِّصَالٌ، كَتَحْرِيقِ الثَّوْبِ، وَقَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ، نُظِرَ إِنْ كَانَ عَامِلًا، فَهُوَ جَانٍ عَلَى الْكُلِّ، فَيَضْمَنُ الْجَمِيعَ. وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، ضَمِنَ الْمُتْلَفَ، وَلَا يَضْمَنُ الْبَاقِيَ عَلَى الْأَصَحِّ.

السَّبَبُ السَّابِعُ: الْمُخَالَفَةُ فِي الْحِفْظِ. فَإِذَا أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، فَعَدَلَ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ وَتَلِفَتْ، فَإِنْ كَانَ التَّلَفُ بِسَبَبِ الْجِهَةِ الْمَعْدُولِ إِلَيْهَا، ضَمِنَ، وَكَانَتِ الْمُخَالَفَةُ تَقْصِيرًا. وَإِنْ تَلِفَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَلَا ضَمَانَ. هَذِهِ جُمْلَةُ السَّبَبِ، وَلِتَفْصِيلِهَا صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: أَوْدَعَهُ مَالًا فِي صُنْدُوقٍ وَقَالَ: لَا تَرْقُدْ، فَرَقَدَ عَلَيْهِ، نُظِرَ، إِنْ خَالَفَ بِالرُّقُودِ، بِأَنِ انْكَسَرَ رَأْسُ الصُّنْدُوقِ بِثِقَلِهِ، أَوْ تَلِفَ مَا فِيهِ، ضَمِنَ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ مُحْرَزٍ، أَوْ فِي صَحْرَاءَ فَأَخَذَهُ لِصٌّ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا. وَإِنْ كَانَ فِي صَحْرَاءَ وَأَخَذَهُ لِصٌّ مِنْ جَانِبِ الصُّنْدُوقِ، ضَمِنَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ هَذَا، إِذَا سُرِقَ مِنْ جَانِبٍ لَوْ لَمْ يَرْقُدْ عَلَيْهِ لَرَقَدَ هُنَاكَ، وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَيْدِ. وَلَوْ قَالَ: لَا تُقْفِلْ عَلَيْهِ، فَأَقْفَلَ، أَوْ لَا تُقْفِلْ إِلَّا قُفْلًا، فَأَقْفَلَ قُفْلَيْنِ، أَوْ لَا تُغْلِقْ بَابَ الْبَيْتِ، فَأَغْلَقَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِدَفْنِهَا فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: لَا تَبْنِ، فَبَنَى، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: لَا تَرْقُدْ عَلَيْهِ، فَرَقَدَ، ثُمَّ هُوَ عِنْدَ الِاسْتِرْدَادِ مَنْقُوصٌ غَيْرُ مَغْرُومٍ عَلَى الْمَالِكِ، كَمَا لَوْ نَقَلَ الْوَدِيعَةَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا يَرْجِعُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي ((عُيُونِ الْمَسَائِلِ)) . [الصُّورَةُ] الثَّانِيَةُ: أَوْدَعَهُ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرَهَا وَقَالَ: ارْبُطْهَا فِي كُمِّكَ، فَأَمْسَكَهَا، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ. وَنَقَلَ الرَّبِيعُ: أَنَّهُ يَضْمَنُ. وَلِلْأَصْحَابِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: إِطْلَاقُ قَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْبِطْهَا فِي الْكُمِّ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِمْسَاكِ، ضَمِنَ، وَإِنْ أَمْسَكَ بِالْيَدِ بَعْدَ الرَّبْطِ، لَمْ يَضْمَنْ، وَالثَّالِثُ - وَهُوَ أَصَحُّهَا: إِنْ تَلِفَتْ بِأَخْذِ غَاصِبٍ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ أَحْرَزُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَإِنْ سَقَطَتْ بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّهَا

لَوْ كَانَتْ مَرْبُوطَةً لَمْ تَضِعْ بِهَذَا السَّبَبِ، فَالتَّلَفُ حَصَلَ بِالْمُخَالَفَةِ. وَلَفْظُ النَّصِّ فِي ((عُيُونِ الْمَسَائِلِ)) مُصَرِّحٌ بِهَذَا التَّفْصِيلِ. وَلَوْ لَمْ يَرْبِطْهَا فِي الْكُمِّ وَجَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزُ، إِلَّا إِذَا كَانَ وَاسِعًا غَيْرَ مَزْرُورٍ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَضْمَنُ، وَبِالْعَكْسِ يَضْمَنُ قَطْعًا. أَمَّا إِذَا امْتَثَلَ فَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ، فَلَا يُكَلَّفُ مَعَهُ الْإِمْسَاكَ بِالْيَدِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ جَعَلَ الْخَيْطَ الرَّابِطَ خَارِجَ الْكُمِّ فَأَخَذَهَا الطَّرَّارُ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِظْهَارَ الْوَدِيعَةِ وَتَنْبِيهَ الطَّرَّارِ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَيْهِ فِي قَطْعِهِ وَحَلِّهِ. وَإِنْ ضَاعَ بِالِاسْتِرْسَالِ وَانْحِلَالِ الْعُقْدَةِ، لَمْ يَضْمَنْ إِذَا كَانَ قَدِ احْتَاطَ فِي الرَّبْطِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا انْحَلَّتْ بَقِيَتِ الدَّرَاهِمُ فِي الْكُمِّ. وَإِنْ جَعَلَ الْخَيْطَ الرَّابِطَ دَاخِلَ الْكُمِّ، انْعَكَسَ الْحُكْمُ. فَإِنْ أَخَذَهَا الطَّرَّارُ، لَمْ يَضْمَنْ. وَإِنْ ضَاعَتْ بِالِاسْتِرْسَالِ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْعُقْدَةَ إِذَا انْحَلَّتْ تَنَاثَرَتِ الدَّرَاهِمُ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مُطْلَقُ الرَّبْطِ. فَإِذَا أَتَى بِهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى جِهَاتِ التَّلَفِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَدَلَ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَحَصَلَ بِهِ التَّلَفُ. فَرْعٌ لَوْ أَوْدَعَهُ دَرَاهِمَ فِي سُوقٍ أَوْ طَرِيقٍ، وَلَمْ يَقُلْ: ارْبُطْهَا فِي كُمِّكَ، وَلَا أَمْسِكْهَا فِي يَدِكَ، فَرَبَطَهَا فِي الْكُمِّ وَأَمْسَكَهَا بِالْيَدِ، فَقَدْ بَالَغَ فِي الْحِفْظِ. وَكَذَا لَوْ جَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ وَهُوَ ضَيِّقٌ، أَوْ [وَاسِعٌ] مَزْرُورٌ. فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا غَيْرَ مَزْرُورٍ، ضَمِنَ، لِسُهُولَةِ تَنَاوُلِهَا بِالْيَدِ. وَلَوْ أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ وَلَمْ يَرْبُطْهَا، لَمْ يَضْمَنْ إِنْ تَلِفَتْ بِأَخْذِ غَاصِبٍ، وَيَضْمَنُ إِنْ تَلِفَتْ بِغَفْلَةٍ أَوْ نَوْمٍ. فَلَوْ رَبَطَهَا وَلَمْ يُمْسِكْهَا بِيَدِهِ، فَقِيَاسُ مَا سَبَقَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى كَيْفِيَّةِ الرَّبْطِ وَجِهَةِ التَّلَفِ. وَلَوْ وَضَعَهَا فِي الْكُمِّ وَلَمْ يَرْبُطْهَا فَسَقَطَتْ، فَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً لَا يَشْعُرُ بِهَا،

ضَمِنَ؛ لِتَفْرِيطِهِ فِي الْإِحْرَازِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَقِيلَةً يَشْعُرُ بِهَا، لَمْ يَضْمَنْ، ذَكَرَهُ فِي ((الْمُهَذَّبِ)) وَقِيَاسُ هَذَا يُلْزِمُ طَرْدَهُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِرْسَالِ كُلِّهَا. وَلَوْ وَضَعَهَا فِي كَوْرِ عِمَامَتِهِ وَلَمْ يَشُدَّ، ضَمِنَ. فَرْعٌ أَوْدَعَهُ فِي سُوقٍ وَقَالَ: احْفَظْهَا فِي بَيْتِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْضِيَ إِلَى بَيْتِهِ وَيَحْفَظَهَا فِيهِ. فَإِنْ أَخَّرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، ضَمِنَ. وَإِنْ أَوْدَعَهُ فِي الْبَيْتِ وَقَالَ: احْفَظْهَا فِي الْبَيْتِ فَرَبَطَهَا فِي الْكُمِّ وَخَرَجَ بِهَا، صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ. وَكَذَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ بِهَا وَرَبَطَهَا فِي الْكُمِّ مَعَ إِمْكَانِ إِحْرَازِهَا فِي الصُّنْدُوقِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِقُفْلٍ تَعَذَّرَ فَتْحُهُ وَنَحْوُهُ. لَمْ يَضْمَنْ. قَالَ فِي الْمُعْتَمَدِ: وَإِنْ شَدَّهَا فِي عَضُدِهِ وَخَرَجَ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الشَّدُّ مِمَّا يَلِي الْأَضْلَاعَ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزُ مِنَ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ أَحْرَزُ مِنْهُ. وَفِي تَقْيِيدِهِمُ الصُّورَةَ بِمَا إِذَا قَالَ: احْفَظْهَا فِي الْبَيْتِ، إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَوْ أَوْدَعَهُ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا مَرْبُوطَةً، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَى الْعَادَةِ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا عَيَّنَ لِلْوَدِيعَةِ مَكَانًا فَقَالَ: احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ أَوْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَنْهَاهُ مَعَ ذَلِكَ عَنِ النَّقْلِ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَنَقَلَهَا إِلَى مَا دُونَهُ فِي الْحِرْزِ، ضَمِنَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ حِرْزًا لِمِثْلِهَا. وَإِنْ نَقَلَهَا إِلَى بَيْتٍ مِثْلَ الْأَوَّلِ، لَمْ يَضْمَنْ، إِلَّا أَنْ يَتْلَفَ بِسَبَبِ النَّقْلِ، كَانْهِدَامِ الْبَيْتِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ، فَيَضْمَنُ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِالْمُخَالَفَةِ. وَالسَّرِقَةُ مِنَ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ كَالِانْهِدَامِ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي. وَفِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ مَا يَقْتَضِي إِلْحَاقَ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ بِالْمَوْتِ، وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ. وَإِنْ نَهَاهُ فَقَالَ: احْفَظْ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَلَا تَنْقُلْهَا، فَإِنْ نَقَلَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، ضَمِنَ؛ لِصَرِيحِ الْمُخَالَفَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ

الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ أَحْرَزَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنْ كَانَ أَحْرَزَ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ مِثْلَهُ، لَمْ يَضْمَنْ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ نَقَلَ لِضَرُورَةِ غَارَةٍ، أَوْ غَرَقٍ، أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ غَلَبَةِ لُصُوصٍ، لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ حِرْزًا لِمِثْلِهَا. وَلَا بَأْسَ بِكَوْنِهِ دُونَ الْأَوَّلِ إِذَا لَمْ يَجِدْ أَحْرَزَ مِنْهُ. وَلَوْ تَرَكَ النَّقْلَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، ضَمِنَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّهْيِ تَحْصِيلَ الِاحْتِيَاطِ. وَلَوْ قَالَ: لَا تَنْقُلْهَا وَإِنْ حَدَثَتْ ضَرُورَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهَا، لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَتْلِفْ مَالِي، فَأَتْلَفَهُ، لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ نَقَلَ لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الصِّيَانَةَ. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ النَّقْلُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَاخْتَلَفَا فِي وُقُوعِهَا، فَإِنْ عُرِفَ هُنَاكَ مَا يَدَّعِيهِ الْمُودَعُ، صَدَقَ بِيَمِينِهِ، وَإِلَّا طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، صَدَقَ الْمَالِكُ بِيَمِينِهِ. وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الزَّازِ وَجْهًا، أَنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ يُغْنِيهِ عَنِ الْيَمِينِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَئِمَّةُ أَنَّ جَمِيعَ هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَيْتُ أَوِ الدَّارُ الْمُعَيَّنَةُ لِلْمُودَعِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَالِكِ، فَلَيْسَ لِلْمُودَعِ إِخْرَاجُهَا مِنْ مِلْكِهِ بِحَالٍ، إِلَّا أَنْ تَقَعَ ضَرُورَةٌ. الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا نَقَلَهَا مِنْ ظَرْفٍ إِلَى ظَرْفٍ، كَخَرِيطَةٍ إِلَى خَرِيطَةٍ، وَصُنْدُوقٍ إِلَى صُنْدُوقٍ، فَالْمُتَلَخِّصُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ عَلَى اضْطِرَابِهِ، أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَجْرِ فَتْحُ قُفْلٍ وَلَا فَضُّ خَتْمٍ وَلَا خَلْطٌ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمَالِكُ ظَرْفًا، فَلَا ضَمَانَ لِمُجَرَّدِ النَّقْلِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الصَّنَادِيقُ لِلْمُودَعِ أَوْ لِلْمَالِكِ. وَإِذَا كَانَتْ لِلْمَالِكِ، فَحُصُولُهَا فِي يَدِ الْمُودَعِ قَدْ يَكُونُ بِجِهَةِ كَوْنِهَا وَدِيعَةً أَيْضًا. إِمَّا فَارِغَةً، وَإِمَّا مَشْغُولَةً بِالْوَدِيعَةِ، وَقَدْ تَكُونُ بِجِهَةِ الْعَارِيَةِ. وَإِنْ جَرَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَالْفَضُّ وَالْفَتْحُ وَالْخَلْطُ سَبَقَ أَنَّهَا مُضَمَّنَةٌ. وَإِنْ عَيَّنَ ظَرْفًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَتِ الظُّرُوفُ لِلْمَالِكِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا لِأَنَّهُمَا وَدِيعَتَانِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا حِفْظُ أَحَدِهِمَا فِي حِرْزٍ وَالْأُخْرَى فِي آخَرَ. فَعَلَى هَذَا إِنْ نَقَلَ إِلَى مَا دُونَ الْأَوَّلِ، ضَمِنَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَإِنْ كَانَتِ الظُّرُوفُ لِلْمُودَعِ، فَهِيَ كَالْبُيُوتِ بِلَا خِلَافٍ.

الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ: احْفَظْ وَدِيعَتِي فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَلَا تُدْخِلْ إِلَيْهَا أَحَدًا، أَوْ لَا تَسْتَعِنْ عَلَى حِفْظِهَا بِالْحَارِسِينَ، فَخَالَفَ، فَإِنْ حَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبِ الْمُخَالَفَةِ، بِأَنْ سَرَقَهَا الَّذِينَ أَدْخَلَهُمْ، أَوِ الْحَارِسُونَ، ضَمِنَ. وَإِنْ سَرَقَ غَيْرُهُمْ أَوْ وَقَعَ حَرِيقٌ، فَلَا ضَمَانَ. [الصُّورَةُ] السَّادِسَةُ: أَوْدَعَهُ خَاتَمًا وَقَالَ: اجْعَلْهُ فِي خِنْصَرِكَ، فَجَعَلَهُ فِي بِنْصَرِهِ، فَهُوَ أَحْرَزُ، لَكِنْ لَوِ انْكَسَرَ لِغِلَظِهَا، أَوْ جَعَلَهُ فِي الْأُنْمُلَةِ الْعُلْيَا، ضَمِنَ. وَإِنْ قَالَ: اجْعَلْهُ فِي الْبِنْصَرِ، فَجَعَلَهُ فِي الْخِنْصَرِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَنْتَهِي إِلَى أَصْلِ الْبِنْصَرِ، فَالَّذِي فَعَلَهُ أَحْرَزُ، وَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ كَانَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، ضَمِنَ. وَإِنْ أَوْدَعَهُ الْخَاتَمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَإِنْ جَعَلَهُ فِي غَيْرِ الْخِنْصَرِ، لَمْ يَضْمَنْ، إِلَّا أَنَّ غَيْرَ الْخِنْصَرِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَالْخِنْصَرِ. وَإِنْ جَعَلَهُ فِي الْخِنْصَرِ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ. وَالثَّانِي: إِنْ قَصَدَ الْحِفْظَ، لَمْ يَضْمَنْ. وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِعْمَالَ، ضَمِنَ وَفِي ((الرَّقْمِ)) لِلْعَبَّادِيِّ: أَنَّهُ إِنْ جَعَلَ فَصَّهُ إِلَى ظَهْرِ الْكَفِّ، ضَمِنَ. وَإِلَّا فَلَا. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَضْمَنُ مُطْلَقًا، إِلَّا إِذَا قَصَدَ الْحِفْظَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الصُّورَةُ] السَّابِعَةُ: أَوْدَعَهُ وَقَالَ: لَا تُخْبِرْ بِهَا، فَخَالَفَ، فَسَرَقَهَا مَنْ أَخْبَرَهُ، أَوْ مَنْ أَخْبَرَهُ مَنْ أَخْبَرَهُ، ضَمِنَ. وَلَوْ تَلِفَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ، لَمْ يَضْمَنْ. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ: لَوْ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ لِفُلَانٍ وَدِيعَةٌ؟ فَأَخْبَرَهُ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّ كَتْمَهَا مِنْ حِفْظِهَا. السَّبَبُ الثَّامِنُ: التَّضْيِيعُ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا بِالتَّحَرُّزِ عَنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ. فَلَوْ أَخَّرَ إِحْرَازَهَا مَعَ التَّمَكُّنِ، أَوْ جَعَلَهَا فِي مُضَيِّعِهَا، أَوْ فِي غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهَا، ضَمِنَ. وَلَوْ جَعَلَهَا فِي أَحْرَزَ [مِنْ حِرْزِ] مِثْلِهَا، ثُمَّ نَقَلَهَا إِلَى حِرْزِ مِثْلِهَا، فَلَا ضَمَانَ. ثُمَّ هُنَا صُوَرٌ.

[الصُّورَةُ] الْأُولَى: إِذَا أَعْلَمَ بِالْوَدِيعَةِ مَنْ يُصَادِرُ الْمَالِكَ وَيَأْخُذُ أَمْوَالَهُ، ضَمِنَهَا. بِخِلَافِ مَا إِذَا أَعْلَمَهُ غَيْرُ الْمُودَعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمِ الْحِفْظَ. وَلَوْ أَعْلَمَ الْمُودَعُ اللُّصُوصَ بِالْوَدِيعَةِ، فَسَرَقُوهَا، إِنْ عَيَّنَ الْمَوْضِعَ، ضَمِنَ، وَإِلَّا، فَلَا. كَذَا فَصَّلَهُ الْبَغَوِيُّ. [الصُّورَةُ] الثَّانِيَةُ: ضَيَّعَ بِالنِّسْيَانِ، ضَمِنَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُؤَيِّدُهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ، أَنَّهُ لَوْ أَوْدَعَهُ إِنَاءً مِنْ قَوَارِيرَ، فَأَخَذَهُ الْمُودَعُ بِيَدِهِ لِيُحْرِزَهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَانْكَسَرَ، لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ أَصَابَهُ بِفِعْلِهِ مُخْطِئًا أَوْ عَامِدًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْبَيْتِ أَوْ بَعْدَمَا وَصَلَهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ. وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا؛ وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا: [لَوِ] انْتَفَعَ بِوَدِيعَةٍ ثُمَّ ادَّعَى غَلَطًا وَقَالَ: ظَنَنْتُهُ مِلْكِي، لَا يُصَدَّقُ مَعَ أَنَّهُ احْتِمَالٌ قَرِيبٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَلَطَ لَا يَدْفَعُ الضَّمَانَ. [الصُّورَةُ] الثَّالِثَةُ: إِذَا أَخَذَ الظَّالِمُ الْوَدِيعَةَ قَهْرًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ، كَمَا لَوْ سُرِقَتْ مِنْهُ. وَإِنْ أَكْرَهَهُ حَتَّى يُسَلِّمَهَا بِنَفْسِهِ، فَلِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ الظَّالِمِ بِالضَّمَانِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ إِذَا غُرِّمَ، وَلَهُ أَيْضًا مُطَالَبَةُ الْمُودَعِ عَلَى الْأَصَحِّ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الظَّالِمِ، وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، هَلْ يُطَالَبُ؟ وَمَهْمَا طَالَبَهُ الظَّالِمُ بِالْوَدِيعَةِ، لَزِمَهُ دَفْعُهُ بِالْإِنْكَارِ وَالْإِخْفَاءِ وَالِامْتِنَاعِ مَا قَدَرَ. فَإِنْ تَرَكَ الدَّفْعَ مَعَ الْقُدْرَةِ، ضَمِنَ. وَإِنْ أَنْكَرَ فَحَلَّفَهُ، جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ لِمَصْلَحَةِ حِفْظِ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْحَلِفِ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتَاقٍ، فَحَاصِلُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْحَلِفِ وَبَيْنَ الِاعْتِرَافِ وَالتَّسْلِيمِ. فَإِنِ اعْتَرَفَ وَسَلَّمَ، ضَمِنَ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ فَدَى زَوْجَتَهُ بِالْوَدِيعَةِ. وَ [إِنْ] حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، طُلِّقَتْ زَوْجَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ فَدَى الْوَدِيعَةَ بِزَوْجَتِهِ. السَّبَبُ التَّاسِعُ: الْجُحُودُ. فَإِذَا قَالَ الْمُوَدَعُ: لَا وَدِيعَةَ لِأَحَدٍ عِنْدِي، إِمَّا ابْتِدَاءً، وَإِمَّا جَوَابًا لِسُؤَالِ غَيْرِ الْمَالِكِ، فَلَا ضَمَانَ، سَوَاءٌ جَرَى ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمَالِكِ أَوْ فِي غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّ إِخْفَاءَهَا أَبْلَغُ فِي حِفْظِهَا. وَإِنْ طَلَبَهَا الْمَالِكُ فَجَحَدَهَا، فَهُوَ خَائِنٌ ضَامِنٌ.

وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا، بَلْ قَالَ: لِي عِنْدَكَ وَدِيعَةٌ، فَسَكَتَ، لَمْ يَضْمَنْ. وَإِنْ أَنْكَرَ، لَمْ يَضْمَنْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْإِخْفَاءِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الطَّلَبِ. فَلَوْ جَحَدَ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ غَلَطْتُ أَوْ نَسِيتُ، لَمْ يَبْرَأْ، إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَالِكُ. فَرْعٌ مَنْ أَنْكَرَ وَدِيعَةً ادُّعِيَتْ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. فَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالْإِيدَاعِ، أَوِ اعْتَرَفَ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، طُولِبَ بِهَا. فَإِنِ ادَّعَى رَدَّهَا أَوْ تَلَفَهَا قَبْلَ الْجُحُودِ أَوْ بَعْدَهُ، نُظِرَ فِي صِيغَةِ جُحُودِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِيدَاعِ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ الرَّدَّ؛ لِتَنَاقُضِ كَلَامِهِ وَظُهُورِ خِيَانَتِهِ. وَأَمَّا فِي دَعْوَى التَّلَفِ، فَيُصَدَّقُ، لَكِنَّهُ كَالْغَاصِبِ فَيَضْمَنُ. وَهَلْ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْلِيفِ الْمَالِكِ؟ وَهَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الرَّدِّ أَوِ التَّلَفِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ نَسِيَ فَصَارَ كَمَنِ ادَّعَى وَقَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي، ثُمَّ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ تُسْمَعُ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالرَّدِّ أَوِ الْهَلَاكِ قَبْلَ الْجُحُودِ، سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ. وَإِنْ قَامَتْ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ الْجُحُودِ، ضَمِنَ، لِخِيَانَتِهِ. وَقَدْ حَكَيْنَا فِي أَلْفَاظِ الْمُرَابَحَةِ إِذَا قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِمِائَةٍ، ثُمَّ قَالَ: بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، أَنَّ الْأَصْحَابَ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ لَا يَذْكُرَ وَجْهًا مُحْتَمَلًا فِي الْغَلَطِ، وَبَيْنَ أَنْ يَذْكُرَهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمِثْلِهِ هُنَا، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا مُتَّجِهَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ جُحُودِهِ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ، أَوْ مَا لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ أَوْ شَيْءٌ، صُدِّقَ فِي دَعْوَى الرَّدِّ وَالتَّلَفِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنَاقِضُ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ. فَإِنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ كَانَ بَاقِيًا يَوْمَ الْجُحُودِ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي دَعْوَى الرَّدِّ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَإِنِ ادَّعَى الْهَلَاكَ، فَكَالْغَاصِبِ إِذَا ادَّعَاهُ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ وَيَضْمَنُ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَحْكَامِ الْوَدِيعَةِ: رَدَّهَا عِنْدَ بَقَائِهَا، فَإِذَا كَانَتِ الْوَدِيعَةُ بَاقِيَةً، لَزِمَ الْمُودَعَ رَدُّهَا إِذَا طَلَبَهَا الْمَالِكُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةُ الرَّدِّ وَتَحَمُّلُ

مُؤْنَتِهِ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا عَلَى الْمُودَعِ رَفْعُ الْيَدِ وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمَالِكِ وَمَالِهِ، فَإِنْ أَخَّرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، دَخَلَتِ الْوَدِيعَةُ فِي ضَمَانِهِ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ يَعْسُرُ قَطْعُهُ، بِأَنْ طَالَبَهُ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ وَالْوَدِيعَةُ فِي خِزَانَةٍ لَا يَتَأَتَّى فَتْحُ بَابِهَا فِي الْوَقْتِ، أَوْ كَانَ مَشْغُولًا بِصَلَاةٍ أَوْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، أَوْ فِي حَمَّامٍ أَوْ عَلَى طَعَامٍ فَأَخَّرَ حَتَّى يَفْرَغَ، أَوْ كَانَ مُلَازِمًا لِغَرِيمٍ يَخَافُ هَرَبَهُ، أَوْ كَانَ الْمَطَرُ وَاقِعًا وَالْوَدِيعَةُ فِي الْبَيْتِ فَأَخَّرَ حَتَّى يَنْقَطِعَ وَيَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَهُ التَّأْخِيرُ قَطْعًا. فَلَوْ تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ؛ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ، وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْبَغَوِيِّ أَيْضًا. وَلَفْظُ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ يُشْعِرُ بِتَفْصِيلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَى الْوَدِيعَةِ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ كَانَ لِعُسْرٍ يَلْحَقُهُ، أَوْ غَرَضٍ يَفُوتُهُ، ضَمِنَ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مُطْلَقًا، وَصَرَّحَ بِهِ كَثِيرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ الْمُودَعُ: لَا أَرُدُّ حَتَّى تُشْهِدَ أَنَّكَ قَبَضْتَهَا، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَوَجْهٌ رَابِعٌ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَالِكُ أَشْهَدَ بِالْوَدِيعَةِ عِنْدَ دَفْعِهَا، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا، فَلَا. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ أَهْلًا لِلْقَبْضِ. فَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، أَوْ كَانَ نَائِمًا فَوَضَعَهَا فِي يَدِهِ، لَمْ يَجُزْ.

فَرْعٌ أَوْدَعَهُ جَمَاعَةٌ مَالًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُهُمْ يَطْلُبُهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُودَعِ الْقِسْمَةُ وَلَا تَسْلِيمُ الْجَمِيعِ، بَلْ يُرْفَعُ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُقَسِّمَهُ وَيَدْفَعَ إِلَيْهِ نَصِيبَهُ. فَرْعٌ قَالَ لَهُ: رُدَّهَا عَلَى فُلَانٍ وَكِيلِي، فَطَلَبَ الْوَكِيلُ فَلَمْ يَرُدَّ، فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَبَ الْمَالِكُ فَلَمْ يَرُدَّ، لَكِنْ لَهُ التَّأْخِيرُ لِيَشْهَدَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ عَلَى الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْوَكِيلُ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الرَّدِّ، لَمْ تَصِرْ مَضْمُونَةً، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ إِلَى وَكِيلِهِ، عَزَلَهُ، فَيَصِيرُ مَا فِي يَدِهِ كَالْأَمَانَةِ الشَّرْعِيَّةِ، مِثْلَ الثَّوْبِ تُطَيِّرُهُ الرِّيحُ إِلَى دَارِهِ. وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَمْتَدُّ إِلَى الْمُطَالَبَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: تَنْتَهِي بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الرَّدِّ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَنْ وَجَدَ ضَالَّةً وَهُوَ يَعْرِفُ مَالِكَهَا. وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأَسَالِيبِ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: رُدَّ الْوَدِيعَةَ عَلَى مَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ وُكَلَائِي هَؤُلَاءِ وَلَا تُؤَخِّرْ، فَقَدَرَ عَلَى الرَّدِّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَأَخَّرَ لِيَرُدَّ عَلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَاصٍ بِالتَّأْخِيرِ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ: وَلَا تُؤَخِّرْ، يَضْمَنُ بِالتَّأْخِيرِ، وَفِي الْعِصْيَانِ وَجْهَانِ. وَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: رُدَّهَا عَلَى مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَى وَاحِدٍ لِيَرُدَّ عَلَى آخَرَ، لَا يَعْصِي، وَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ. فَرْعٌ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُودَعِ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْوَكِيلِ؟ وَجْهَانِ جَارِيَانِ فِيمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالًا ابْتِدَاءً وَأَمَرَهُ بِإِيدَاعِهِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: يَجِبُ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ

فصل

دَيْنِهِ يَلْزَمُهُ الْإِشْهَادُ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: لَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ مَقْبُولٌ فِي الرَّدِّ وَالتَّلَفِ، فَلَا يُغْنِي الْإِشْهَادُ؛ لِأَنَّ الْوَدَائِعَ حَقُّهَا الْإِخْفَاءُ، بِخِلَافِ قَضَاءِ الدَّيْنِ. فَإِذَا قُلْنَا: يَجِبُ، فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ: أَنَّهُ إِنْ دَفَعَ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ، ضَمِنَ. وَإِنْ دَفَعَ بِحَضْرَتِهِ، لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ طَالَبَهُ الْمَالِكُ بِرَدِّهَا، فَادَّعَى التَّلَفَ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ كَالسَّرِقَةِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَإِنِ ادَّعَاهُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ كَالْحَرِيقِ وَالْغَارَةِ وَالسَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا ادَّعَاهُ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْهَلَاكِ بِهِ. وَإِنْ عُرِفَ بِالْمُشَاهَدَةِ أَوِ الِاسْتِفَاضَةِ، نُظِرَ، إِنْ عُرِفَ عُمُومُهُ، صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عُمُومُهُ، وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبِ الْوَدِيعَةَ، صُدِّقَ بِالْيَمِينِ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ التَّلَفِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَلَا يُكَلَّفُ بَيَانُ سَبَبِهِ. وَإِذَا نَكَلَ الْمُودَعُ عَنِ الْيَمِينِ، حَلَفَ الْمَالِكُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالتَّلَفِ وَاسْتَحَقَّ، وَعَدَّ الْمُتَوَلِّي مَوْتَ الْحَيَوَانِ وَالْغَصْبِ مِنَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ. وَفِي ((التَّهْذِيبِ)) إِلْحَاقُ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ. فَصْلٌ إِذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الَّذِي ائْتَمَنَهُ وَهُوَ الْمَالِكُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَلِفِ، نَابَ عَنْهُ وَارِثُهُ وَانْقَطَعَتِ الْمُطَالَبَةُ بِحَلِفِهِ. وَإِنِ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى غَيْرِ مَنِ ائْتَمَنَهُ، لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَتَفْصِيلُهُ بِصُوَرٍ. إِحْدَاهَا: إِذَا مَاتَ الْمَالِكُ، لَزِمَ الْمُودَعَ الرَّدُّ عَلَى وَرَثَتِهِ. حَتَّى لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ

بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّدِّ، ضَمِنَ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْوَرَثَةَ، رَدَّ إِلَى الْحَاكِمِ. وَقَيَّدَ فِي الْعُدَّةِ هَذَا الْجَوَابَ بِمَا إِذَا لَمْ تَعْلَمِ الْوَرَثَةُ بِالْوَدِيعَةِ، أَمَّا إِذْ عَلِمُوا، فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِهِمْ. وَلَوْ طَالَبَهُ الْوَارِثُ فَقَالَ: رَدَدْتُهُ عَلَى الْمَالِكِ، أَوْ تَلِفَ فِي يَدِي فِي حَيَاتِهِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ قَالَ: رَدَدْتُهُ عَلَيْكَ، فَأَنْكَرَ، فَالْمُصَدَّقُ الْوَارِثُ. وَإِنْ قَالَ: تَلِفَ فِي يَدِي قَبْلَ تَمَكُّنِي مِنَ الرَّدِّ، فَهَلِ الْمُصَدَّقُ الْوَارِثُ كَدَعْوَى الرَّدِّ؟ أَمِ الْمُودَعُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَصَحَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الصُّورَةُ] الثَّانِيَةُ: مَاتَ الْمُودَعُ، فَعَلَى وَارِثِهِ رَدُّهَا. فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ، ضَمِنَ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ غَائِبًا، سَلَّمَهَا إِلَى الْحَاكِمِ. فَلَوْ تَنَازَعَا، فَقَالَ وَارِثُ الْمُودَعِ: رَدَّ عَلَيْكَ مُوَرِّثِي، أَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ حُصُولِهَا فِي يَدِهِ. وَلَوْ قَالَ: رَدَدْتُهَا عَلَيْكَ، فَالْمُصَدَّقُ الْمَالِكُ. وَلَوْ قَالَ: تَلِفَتْ فِي يَدِي قَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. [الصُّورَةُ] الثَّالِثَةُ: [لَوْ] قَالَ مَنْ طَيَّرَتِ الرِّيحُ ثَوْبًا إِلَى دَارِهِ: رَدَدْتُ عَلَى الْمَالِكِ، وَادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ، لَمْ يُصَدَّقْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. [الصُّورَةُ] الرَّابِعَةُ: إِذَا أَرَادَ الْمُودَعُ سَفَرًا، فَأَوْدَعَهَا أَمِينًا، فَادَّعَى الْأَمِينُ تَلَفَهَا، صُدِّقَ. وَإِنِ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ. وَإِنِ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْمُودَعِ، صُدِّقَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينُهُ. كَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، وَهَذَا ذَهَابٌ إِلَى أَنَّ لِلْمُودَعِ إِذَا عَادَ مِنَ السَّفَرِ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا، وَبِهِ صَرَّحَ الْعَبَّادِيُّ وَغَيْرُهُ. وَحُكِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَنَّ اللَّائِقَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مَنْعُهُ مِنَ الِاسْتِرْدَادِ، بِخِلَافِ الْمُودَعِ يَسْتَرِدُّ مِنَ الْغَاصِبِ

عَلَى وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحِفْظِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ عَيَّنَ أَمِينًا فَقَالَ: إِذَا سَافَرْتُ فَاجْعَلْهَا عِنْدَ فُلَانٍ، فَفَعَلَ، فَالْحُكْمُ بِالْعَكْسِ، إِنِ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ، صُدِّقَ. وَإِنِ ادَّعَاهُ عَلَى الْمُودَعِ الْأَوَّلِ، لَمْ يُصَدَّقْ. [الصُّورَةُ] الْخَامِسَةُ: قَالَ الْمُودَعُ لِلْمَالِكِ: أَوْدَعْتُهَا عِنْدَ وَكِيلِكَ فُلَانٍ بِأَمْرِكَ، فَلِلْمَالِكِ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: يُنْكِرُ الْإِذْنَ، فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ فُلَانٌ مُقِرًّا بِالْقَبْضِ وَالْوَدِيعَةُ بَاقِيَةٌ، رَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ. فَإِنْ غَابَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ، فَلِلْمَالِكِ تَغْرِيمُ الْمُودَعِ. فَإِذَا قَدِمَ، أَخَذَهَا وَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ وَاسْتَرَدَّ الْبَدَلَ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً، فَلِلْمَالِكِ تَغْرِيمُ أَيِّهِمْ شَاءَ، وَلَيْسَ لِمَنْ غَرِمَ الرُّجُوعُ عَلَى صَاحِبِهِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْمَالِكَ ظَالِمٌ بِمَا أَخَذَ. وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ مُنْكِرًا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَاخْتَصَّ الْغُرْمُ بِالْمُودَعِ. [الْحَالَةُ] الثَّانِيَةُ: يَعْتَرِفُ بِالْإِذْنِ وَيُنْكِرُ الدَّفْعَ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُصَدَّقُ الْمُودَعُ وَتُجْعَلُ دَعْوَى الرَّدِّ عَلَى وَكِيلِ الْمَالِكِ كَدَعْوَاهُ عَلَى الْمَالِكِ، وَأَصَحُّهُمَا: تَصْدِيقُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الرَّدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَأْتَمِنْهُ. وَلَوْ وَافَقَ فُلَانٌ الْمُودَعَ وَقَالَ: تَلِفَتْ فِي يَدِي، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمَالِكِ، بَلْ يَحْلِفُ الْمَالِكُ وَيُغَرَّمُ الْمُودَعُ. [الْحَالَةُ] الثَّالِثَةُ: يَعْتَرِفُ بِالْإِذْنِ وَالدَّفْعِ مَعًا، لَكِنَّهُ يَقُولُ: لَمْ تَشْهَدْ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مُنْكَرٌ، فَيُبْنَى عَلَى وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْإِيدَاعِ. فَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، فَلَيْسَ لَهُ تَغْرِيمُهُ. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْوَكَالَةِ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الصُّورَةِ. وَلَوِ اتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَى الدَّفْعِ إِلَى الْأَمِينِ، وَادَّعَى الْأَمِينُ رَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ، أَوْ تَلَفَهَا فِي يَدِهِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. هَذَا إِذَا عَيَّنَ الْمَالِكُ الْأَمِينَ، أَمَّا لَوْ قَالَ: أَوْدَعَهَا أَمِينًا، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، فَادَّعَى الْأَمِينُ التَّلَفَ، صُدِّقَ. وَإِنِ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ، فَالْمُصَدَّقُ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ، كَذَا ذَكَرُوهُ. وَلَوْ قِيلَ: أَمِينُ أَمِينِهِ أَمِينُهُ، كَمَا تَقُولُ عَلَى رَأْيٍ: وَكِيلُ وَكِيلِهِ وَكِيلُهُ، لَمْ يَبْعُدْ.

فصل

قُلْتُ: بَلْ هُوَ بَعِيدٌ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ. فَصْلٌ فِي يَدِهِ مَالٌ، جَاءَ رَجُلَانِ ادَّعَى كُلٌّ أَنَّهُ مُودِعُهُ، فَجَوَابُهُ يُفْرَضُ بِصِيَغٍ. إِحْدَاهَا: أَنْ يُكَذِّبَهُمَا وَيَقُولَ: الْمَالُ لِي، فَيَحْلِفُ لِكُلٍّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ. [الصِّيغَةُ] الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقِرَّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، فَيُعْطَاهُ، وَهَلْ يَحْلِفُ لِلْآخَرِ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بِشَيْءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِعَمْرٍو، هَلْ يُغَرَّمُ لِعَمْرٍو؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَلَا، وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، عُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ. فَإِنْ حَلَفَ، سَقَطَتْ دَعْوَى الْآخَرِ. وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْآخَرُ. ثُمَّ هَلْ يُوقَفُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ يَصْطَلِحَا، أَمْ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمَا، أَمْ يُغَرَّمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقِيمَةَ لَهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: الْمَذْهَبُ هُوَ الثَّالِثُ. [الصِّيغَةُ] الثَّالِثَةُ: قَالَ: هُوَ لَكُمَا، فَهُوَ كَمَالٌ فِي يَدِ شَخْصَيْنِ يَتَدَاعَيَانِهِ. فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، قُضِيَ لَهُ، وَلَا خُصُومَةَ لِلْآخَرِ مَعَ الْمُودَعِ؛ لِنُكُولِهِ. وَإِنْ نَكَلَا أَوْ حَلَفَا، جُعِلَ بَيْنَهُمَا، وَحُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَالْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُقِرِّ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. [الصِّيغَةُ] الرَّابِعَةُ: قَالَ: هُوَ لِأَحَدِكُمَا وَقَدْ نَسِيتُ عَيْنَهُ، فَإِنْ ضَمِنَا الْمُودَعَ بِالنِّسْيَانِ، فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِلَّا، نُظِرَ، إِنْ صَدَّقَاهُ، فَلَا خُصُومَةَ لَهُمَا مَعَهُ، وَإِنَّمَا الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا. فَإِنِ اصْطَلَحَا فِي شَيْءٍ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَيُجْعَلُ الْمَالُ كَأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمَا يَتَدَاعَيَانِهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَالٌ فِي يَدِ ثَالِثٍ يَتَدَاعَيَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدِهِمَا يَدٌ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً [أَوْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ

أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً أَوْ حَلَفَ، وَنَكَلَ صَاحِبُهُ، قُضِيَ لَهُ. وَعَلَى الثَّانِي، لَوْ أَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً] ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ. وَإِنْ نَكَلَا أَوْ حَلَفَا، وُقِفَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا. وَسَوَاءٌ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ أَمْ بِالثَّانِي، هَلْ يُتْرَكُ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى أَنْ تَنْفَصِلَ خُصُومَتُهُمَا، أَمْ يُنْزَعُ مِنْهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا الثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَالْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا الِانْتِزَاعَ وَالْآخَرُ التَّرْكَ، أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَيَتَّبِعُ الْحَاكِمُ رَأْيَهُمَا. أَمَّا إِذَا كَذَّبَاهُ فِي دَعْوَى النِّسْيَانِ وَادَّعَيَا عِلْمَهُ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَيَكْفِيهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ عِلْمُهُ. وَهَلْ لِلْحَاكِمِ تَحْلِيفُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ إِذَا لَمْ يَدَّعِهِ الْخَصْمَانِ؟ وَجْهَانِ. ثُمَّ إِذَا حَلَفَ، فَالْحُكْمُ كَمَا إِذَا صَدَّقَاهُ فِي النِّسْيَانِ. وَقِيلَ: يُنْتَزَعُ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ هُنَا وَإِنْ لَمْ يُنْتَزَعْ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهُ خَائِنٌ عِنْدَهُمَا بِدَعْوَى النِّسْيَانِ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ نَكَلَا، فَالْمَالُ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمَا أَوْ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَى مَا سَبَقَ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، قُضِيَ لَهُ. وَإِنْ حَلَفَا، فَقَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُوقَفُ حَتَّى يَصْطَلِحَا. وَأَظْهَرُهُمَا: يُقَسَّمُ؛ لِأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمَا. وَعَلَى هَذَا، يُغَرَّمُ الْقِيمَةَ وَتُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِيَمِينِ الرَّدِّ كُلَّ الْعَيْنِ، وَلَمْ يَأْخُذْ إِلَّا نِصْفَهَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْأَشْهَرُ فِيمَا إِذَا نَكَلَ الْمُودَعُ. وَقِيلَ: لَا يُغَرَّمُ الْقِيمَةَ مَعَ الْعَيْنِ إِذَا حَلَفَا. وَقِيلَ: لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا بِنُكُولِهِ، بَلْ يُوقَفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ حَلَفَا وُقِفَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا، فَلَا مَعْنَى لِعَرْضِ الْيَمِينِ. وَإِذَا رَدَدْنَا الْيَمِينَ، فَهَلْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا؟ أَمْ يَبْدَأُ الْحَاكِمُ بِمَنْ رَأَى؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا الثَّانِي، حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْأَمَالِي. وَإِذَا حَلَفَا وَقَسَّمَ بَيْنَهُمَا الْعَيْنَ وَالْقِيمَةَ، فَإِنْ لَمْ يُنَازِعْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ نَازَعَهُ وَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ جَمِيعَ الْعَيْنِ لَهُ، سَلَّمْنَاهَا إِلَيْهِ وَرَدَدْنَا الْقِيمَةَ إِلَى الْمُودَعِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَنَكَلَ صَاحِبُهُ عَنِ الْيَمِينِ فَحَلَفَ وَاسْتَحَقَّ الْعَيْنَ، رَدَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ

فصل

الَّذِي أَخَذَهُ، وَلَا يَرُدُّ النَّاكِلُ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ بِيَمِينِهِ عَلَى الْمُودَعِ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ الْمُبْدَلُ، وَنُكُولُهُ كَانَ مَعَ صَاحِبِهِ، لَا مَعَ الْمُودَعِ. وَصَرَّحَ فِي الْوَسِيطِ بِأَنَّ النَّاكِلَ لَا يَرُدُّ، سَوَاءٌ سُلِّمَتِ الْعَيْنُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْيَمِينِ. فَرْعٌ ادَّعَى اثْنَانِ غَصْبَ مَالٍ فِي يَدِهِ، كُلٌّ يَقُولُ: غَصَبْتَهُ مِنِّي، فَقَالَ: غَصَبْتُهُ مِنْ أَحَدِكُمَا وَلَا أَعْرِفُهُ، حَلَفَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْبَتِّ أَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْهُ. فَإِذَا حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا، تَعَيَّنَ الْمَغْصُوبُ لِلثَّانِي، فَلَا يَحْلِفُ لَهُ. [الْحَالَةُ] الْخَامِسَةُ: قَالَ: هُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدِي وَلَا أَدْرِي أَهُوَ لَكُمَا، أَمْ لِأَحَدِكُمَا، أَمْ لِغَيْرِكُمَا؟ وَادَّعَيَا عِلْمَهُ، فَحَلَفَ عَلَى نَفْيِ عِلْمِهِ، تُرِكَ فِي يَدِهِ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا تَحْلِيفُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدٌ وَلَا اسْتِحْقَاقٌ، بِخِلَافِ الصُّورَةِ السَّابِقَةِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ: إِحْدَاهَا: تَعَدَّى فِي الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ بَقِيَتْ فِي يَدِهِ مُدَّةً، لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهَا. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ، أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ حِمَارَهُ فِي صَحْنِ خَانٍ وَقَالَ لِلْخَانِيِّ: احْفَظْهُ كَيْلَا يَخْرُجَ، فَكَانَ الْخَانِيُّ يَنْظُرُهُ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ غَفَلَاتِهِ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي الْحِفْظِ الْمُعْتَادِ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: الْمُودَعُ إِذَا وَقَعَ فِي خِزَانَتِهِ حَرِيقٌ، فَبَادَرَ إِلَى نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ، وَقَدَّمَ أَمْتِعَتَهُ

عَلَى الْوَدِيعَةِ، فَاحْتَرَقَتِ الْوَدِيعَةُ، لَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا وَدَائِعُ فَأَخَذَ فِي نَقْلِهَا فَاحْتَرَقَ مَا تَأَخَّرَ نَقْلُهُ. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: لَوِ ادَّعَى ابْنُ الْمَالِكِ مَوْتَ أَبِيهِ، وَعَلِمَ الْمُودَعُ بِذَلِكَ، وَطَلَبَ الْوَدِيعَةَ، فَلَهُ تَحْلِيفُ الْمُودَعِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُدَّعِي. [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ: مَاتَ الْمَالِكُ وَطَلَبَ الْوَارِثُ الْوَدِيعَةَ، فَامْتَنَعَ الْمُودَعُ لِيَفْحَصَ هَلْ فِي التَّرِكَةِ وَصِيَّةٌ؟ فَهُوَ مُتَعَدٍّ ضَامِنٌ. [الْمَسْأَلَةُ] السَّادِسَةُ: مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً وَعَلِمَ مَالِكَهَا فَلَمْ يُخْبِرْهُ حَتَّى تَلِفَتْ، ضَمِنَ، وَكَذَا قَيِّمُ الصَّبِيِّ وَالْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ فَعَزَلَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُخْبِرِ الْحَاكِمَ حَتَّى تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ، ضَمِنَ، وَهَذَا كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ عِنْدَ التَّمَكُّنِ أَوْ هُوَ هُوَ. [الْمَسْأَلَةُ] السَّابِعَةُ: مِنْ صُوَرِ تَعَدِّي الْأُمَنَاءِ، أَنْ لَا يَبِيعَ قَيِّمُ الصَّبِيِّ أَوْرَاقَ فِرْصَادِهِ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُهَا، فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، وَلَيْسَ مِنَ التَّعَدِّي أَنْ يُؤَخِّرَ لِتَوَقُّعِ زِيَادَةٍ، فَيَتَّفِقُ رُخْصٌ، وَكَذَا قَيِّمُ الْمَسْجِدِ فِي أَشْجَارِهِ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِتَعْرِيضِ الثَّوْبِ الَّذِي يُفْسِدُهُ الدُّودُ لِلرِّيحِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ سِوَى الْأُولَى فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّامِنَةُ: بَعَثَ رَسُولًا إِلَى حَانُوتِهِ، وَدَفَعَ خَاتَمَهُ مَعَهُ عَلَامَةً وَقَالَ: رُدَّهُ عَلَيَّ إِذَا قَبَضْتَ الْمَأْمُورَ بِقَبْضِهِ، فَقَبَضَهُ وَلَمْ يَرُدَّ الْخَاتَمَ، وَوَضَعَهُ فِي حِرْزِهِ، فَلَا ضَمَانَ، ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ فِي الزِّيَادَاتِ، كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَلَا مُؤْنَتُهُ وَإِنَّمَا التَّخْلِيَةُ. [الْمَسْأَلَةُ] التَّاسِعَةُ: فِي ((فَتَاوَى)) الْقَاضِي حُسَيْنٍ، أَنَّ الثِّيَابَ فِي مَسْلَخِ الْحَمَّامِ إِذَا سُرِقَتْ، وَالْحَمَّامِيُّ جَالِسٌ فِي مَكَانِهِ مُسْتَيْقِظٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ نَامَ أَوْ قَامَ مِنْ مَكَانِهِ، وَلَا نَائِبَ لَهُ هُنَاكَ، ضَمِنَ. وَيَجِبُ عَلَى الْحَمَّامِيِّ الْحِفْظُ إِذَا اسْتُحْفِظَ. وَإِنْ لَمْ يُسْتَحْفَظْ، حَكَى الْقَاضِي عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحِفْظُ، قَالَ: وَعِنْدِي يَجِبُ، لِلْعَادَةِ.

[الْمَسْأَلَةُ] الْعَاشِرَةُ: عَنْ بَعْضِهِمْ: لَوْ أَوْدَعَهُ قَبَالَةً وَقَالَ لَهُ: لَا تَدْفَعْهَا إِلَى زَيْدٍ حَتَّى يُعْطِيَكَ دِينَارًا، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْقَبَالَةِ مَكْتُوبَةً، الْكَاغَدُ وَأُجْرَةُ الْوَرَّاقِ. قُلْتُ: وَمِنْ مَسَائِلِ الْبَابِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَبُولِ وَدِيعَةٍ وَحِفْظِهَا، فَأَخَذَهَا، لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَبَضَهَا مُخْتَارًا وَأَوْلَى. وَلَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَبُولُ وَدِيعَةٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَتَلِفَتْ، فَهُوَ عَاصٍ، وَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمِ الْحِفْظَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب قسم الفيء والغنيمة

كِتَابُ قِسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْكُفَّارِ، مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا يُحَصَّلُ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ، وَإِلَى حَاصِلٍ بِذَلِكَ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ: فَيْئًا. وَالثَّانِي: غَنِيمَةً. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسْعُودِيُّ وَطَائِفَةٌ أَنَّ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ يَقَعُ عَلَى الْآخَرِ إِذَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا، افْتَرَقَا؛ كَاسْمَيِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ وَغَيْرُهُ: اسْمُ الْفَيْءِ يَشْمَلُ الْمَالَيْنِ، وَاسْمُ الْغَنِيمَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَوَّلَ. وَفِي لَفْظِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ مَا يُشْعِرُ بِهِ. وَبَيَانُ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ يَقَعُ فِي بَابَيْنِ: [الْبَابُ] الْأَوَّلُ فِي الْفَيْءِ فَمِنْهُ مَا جَلَا عَنْهُ الْكُفَّارُ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا خَبَرَهُمْ أَوْ لِضُرٍّ أَصَابَهُمْ، وَجِزْيَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَا صُولِحَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَلَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَعُشُورُ تِجَارَاتِهِمُ الْمَشْرُوطَةُ عَلَيْهِمْ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ، وَمَالُ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ، وَمَالُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَنَا، وَلَا وَارِثَ لَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُخَمَّسٌ عَلَى مَا سَنُفَصِّلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَحُكِيَ عَنِ الْقَدِيمِ: أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ لَا يُخَمَّسُ. فَقِيلَ: يَخْتَصُّ هَذَا الْقَوْلُ بِالْمُرْتَدِّ، وَيُخَمَّسُ مَا سِوَاهُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يَسْتَصْحِبُ بِهِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، كَمَا يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ وَتَلْزَمُهُ الْحُدُودُ. وَقِيلَ: مَا تَرَكُوهُ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُخَمَّسُ قَطْعًا، وَفِيمَا سِوَاهُ يَطَّرِدُ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ فِي جَمِيعِ مَالِ الْفَيْءِ قَوْلَيْنِ: الْجَدِيدُ: يُخَمَّسُ كَالْغَنِيمَةِ. وَالْقَدِيمُ: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ صُولِحُوا عَلَى الضِّيَافَةِ، فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَهْلِ الْخُمُسِ فِي مَالِ الضِّيَافَةِ، بَلْ يَخْتَصُّ بِهِ الطَّارِقُونَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يُخَمَّسُ،

فصل

فَحُكْمُ جَمِيعِ الْمَالِ حُكْمُ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى قَوْلِنَا بِالتَّخْمِيسِ، وَفِي مَصْرِفِهَا خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي ((الْحِلْيَةِ)) : لَوْ صَالَحُونَا عَلَى مَالٍ عِنْدَ الْقِتَالِ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ. فَصْلٌ مَالُ الْفَيْءِ يُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، فَأَرْبَعَةٌ يَأْتِي بَيَانُ مَصْرِفِهَا، وَالْخُمُسُ الْآخَرُ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ: أَحَدُهَا: السَّهْمُ الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَصَالِحِهِ، وَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي السِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ. وَأَمَّا بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيُصْرَفُ هَذَا السَّهْمُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَسَدِّ الثُّغُورِ، وَعِمَارَةِ الْحُصُونِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ، وَيُقَدَّمُ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ. وَنَقَلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ هَذَا السَّهْمَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ: أَنَّ بَعْضَ الْأَصْحَابِ جَعَلَ هَذَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْسَنَهُ. وَحَكَى فِي الْوَسِيطِ وَجْهًا: أَنَّ هَذَا السَّهْمَ يُصْرَفُ إِلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَانِ النَّقْلَانِ شَاذَّانِ مَرْدُودَانِ. السَّهْمُ الثَّانِي: لِذَوِي الْقُرْبَى، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، يَشْتَرِكُ فِيهِ فَقِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ وَكَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ وَذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، بِشَرْطِ كَوْنِ الِانْتِسَابِ بِالْآبَاءِ، فَلَا يُعْطَى أَوْلَادُ الْبَنَاتِ. قُلْتُ: وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ كَجٍّ وَجْهًا فِي اخْتِصَاصِهِ بِفُقَرَائِهِمْ، وَهُوَ شَاذٌّ مَتْرُوكٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَا يُفَضَّلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالذُّكُورَةِ، فَلِلذَّكَرِ سَهْمَانِ، وَلِلْأُنْثَى سَهْمٌ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يُسَوَّى بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: الْمُدْلِي بِجِهَتَيْنِ يُفَضَّلُ عَلَى الْمُدْلِي بِجِهَةٍ. فَرْعٌ يُعَمُّ بِالْعَطَاءِ الْحَاضِرُ فِي مَوْضِعِ حُصُولِ الْفَيْءِ وَالْغَائِبُ عَنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مَا حَصَلَ فِي إِقْلِيمٍ، دُفِعَ إِلَى مَنْ فِيهِ، لِمَشَقَّةِ النَّقْلِ. وَاحْتَجُّوا لِلصَّحِيحِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْإِرْثِ. وَأَمَّا الْمَشَقَّةُ، فَيَأْمُرُ الْإِمَامُ أُمَنَاءَهُ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ بِضَبْطِ مَنْ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ نَقْلُ مَا فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ إِلَى جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ، بَلِ الْحَاصِلُ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ يُضْبَطُ، يُفَرَّقُ عَلَى سَاكِنِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَعْضِهَا شَيْءٌ، أَوْ لَمْ يَفِ بِمَنْ فِيهِ، نُقِلَ قَدْرُ الْحَاجَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ كَانَ الْحَاصِلُ قَدْرًا لَوْ وُزِّعَ لَمْ يَسُدَّ مَسَدًّا، قُدِّمَ الْأَحْوَجُ، وَلَا يَسْتَوْعِبُ لِلضَّرُورَةِ. السَّهْمُ الثَّالِثُ: لِلْيَتَامَى. وَالْيَتِيمُ: الصَّغِيرُ الَّذِي لَا أَبَ لَهُ، قِيلَ: وَلَا جَدَّ. وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَقْرُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: عَلَى الصَّحِيحِ. السَّهْمُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: الْمَسَاكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي الزَّكَاةِ. فَرْعٌ فِي تَعْمِيمِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَتَخْصِيصِ الْحَاصِلِ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ وَنَاحِيَةٍ بِأَهْلِهِ، الْخِلَافُ فِي أَهْلِ الْقُرْبَى، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ.

فَرْعٌ سَبَقَ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ: أَنَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ فِي اسْمِ الْمَسَاكِينِ، وَعَكْسِهِ، وَلَفْظُ الْمَسَاكِينِ هُنَا مُفْرَدٌ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْفُقَرَاءُ، وَحِينَئِذٍ مُقْتَضَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ تَعْمِيمِ مَسَاكِينِ الْإِقْلِيمِ أَوِ الْعَالَمِ تَنَاوَلَ الْفُقَرَاءَ أَيْضًا، وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ بَعْضِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حَاجَةً، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَنَاوُلَهُمْ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُمَا دَاخِلَانِ فِي الِاسْمِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يُفَاوِتَ بَيْنَ الْيَتَامَى، وَكَذَا فِي الْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ بِالْحَاجَةِ، فَتُرَاعَى حَاجَاتُهُمْ، بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِالْقَرَابَةِ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَعَنِ الْقَفَّالِ: اخْتِصَاصُهُ بِيَتَامَى الْمُرْتَزِقَةِ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ مِثْلَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ.

فصل

فَرْعٌ إِذَا فُقِدَ بَعْضُ الْأَصْنَافِ، وُزِّعَ نَصِيبُهُ عَلَى الْبَاقِينَ كَالزَّكَاةِ، إِلَّا سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ لِلْمَصَالِحِ كَمَا ذَكَرْنَا. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى كَافِرٍ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى إِعْطَاءِ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْيَتَامَى، وَلَا مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَلَا مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ، كَمَا قُلْنَا فِي الزَّكَاةِ إِذَا فَرَّقَهَا الْإِمَامُ. قُلْتُ: لَا يَجُوزُ دَفْعُ شَيْءٍ مِنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى إِلَى مَوَالِيهِمْ، قَالَ صَاحِبُ ((التَّلْخِيصِ)) : لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ مِسْكِينٌ أَوِ ابْنُ سَبِيلٍ، قُبِلَ بِلَا بَيِّنَةٍ، وَلَا يُقْبَلُ الْيُتْمُ وَالْقَرَابَةُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، فَفِي مَصْرِفِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: أَنَّهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ الْمُرْصَدِينَ لِلْجِهَادِ. وَالثَّانِي: لِلْمَصَالِحِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تُقَسَّمُ كَمَا يُقَسَّمُ الْخُمُسُ، فَيُقَسَّمُ جَمِيعُ الْفَيْءِ عَلَى الْخَمْسَةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ، وَهَذَا غَرِيبٌ. فَعَلَى الثَّانِي: نَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ

فَالْأَهَمِّ. وَأَهَمُّهَا تَعَهُّدُ الْمُرْتَزِقَةِ. وَكَذَا حُكْمُ خُمُسُ الْخُمْسِ. فَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْمَصْرِفَ الْمُرْتَزِقَةُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِيمَا فَضَلَ عَنْهُمْ. فَرْعٌ وَلِلْإِمَامِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى الْمُرْتَزِقَةِ وَظَائِفُ: إِحْدَاهَا: يَضَعُ دِيوَانًا. قَالَ فِي الشَّامِلِ: وَهُوَ الدَّفْتَرُ الَّذِي يُثْبَتُ فِيهِ الْأَسْمَاءُ. فَيُحْصِي الْمُرْتَزِقَةَ بِأَسْمَائِهِمْ، وَيَنْصِبُ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ أَوْ عَدَدٍ يَرَاهُ عَرِّيفًا لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ أَحْوَالَهُمْ، وَيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُثْبِتُ [فِيهِ] قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ. قُلْتُ: نَصْبُ الْعَرِّيفِ مُسْتَحَبٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: يُعْطِي كُلَّ شَخْصٍ قَدْرَ حَاجَتِهِ، فَيَعْرِفُ حَالَهُ وَعَدَدَ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ وَقَدْرَ نَفَقَتِهِمْ وَكُسْوَتِهِمْ وَسَائِرَ مَؤُنَتِهِمْ، وَيُرَاعِي الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ، وَمَا يَعْرِضُ مِنْ رُخْصٍ وَغَلَاءٍ، وَحَالَ الشَّخْصِ فِي مُرُوءَتِهِ وَضِدِّهَا، وَعَادَةَ الْبَلَدِ فِي الْمَطَاعِمِ، فَيَكْفِيهِ الْمَئُونَاتِ لِيَتَفَرَّغَ لِلْجِهَادِ، فَيُعْطِيهِ لِأَوْلَادِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي نَفَقَتِهِ أَطْفَالًا كَانُوا أَوْ كِبَارًا، وَكُلَّمَا زَادَتِ الْحَاجَةُ بِالْكِبَرِ، زَادَ فِي حِصَّتِهِ. وَهَلْ يَدْفَعُ إِلَيْهِ مَا يَتَعَهَّدُ مِنْهُ الْأَوْلَادَ؟ أَمْ يَتَوَلَّى الْإِمَامُ تَعَهُّدَهُمْ بِنَفْسِهِ؟ أَوْ بِنَائِبٍ لَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُعْطِي الْأَوْلَادَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَإِذَا كَانَ لَهُ عَبْدٌ يَقْتَنِيهِ لِلزِّينَةِ أَوْ لِلتِّجَارَةِ، لَمْ يُعْطَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَهُ أَوْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْغَزْوِ لِسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا، أُعْطِيَ لَهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَبْدٌ يَخْدُمُهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُخْدَمُ، بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ [لَهُ] عَبْدٌ وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ، أَعْطَاهُ الْإِمَامُ عَبْدًا، وَلَا يُعْطِي إِلَّا لِعَبْدٍ وَاحِدٍ. وَفِي الزَّوْجَاتِ، يُعْطِي لِلْجَمَاعَةِ.

وَإِذَا نَكَحَ جَدِيدَةً، زَادَ فِي الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّ نِهَايَتَهُنَّ أَرْبَعٌ، وَالْعَبِيدُ لَا حَصْرَ لَهُمْ، وَكَأَنَّ هَذَا فِي عَبِيدِ الْخِدْمَةِ. فَأَمَّا الَّذِينَ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مَصْلَحَةُ الْجِهَادِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَ لَهُمْ وَإِنْ كَثُرُوا. قُلْتُ: كَذَا هُوَ مَنْقُولٌ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ فِي عَبِيدِ الْخِدْمَةِ عَلَى وَاحِدٍ إِذَا حَصَلَتْ بِهِ الْكِفَايَةُ. فَأَمَّا مَنْ لَا تَحْصُلُ كِفَايَتُهُ إِلَّا بِخِدْمَةِ عَبِيدٍ، فَيُعْطِي لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الشَّاذُّ فِي الْأَوْلَادِ يَجْرِي فِي الزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ. فَرْعٌ يُعْطَى الْمُرْتَزِقُ مُؤْنَةَ فَرَسِهِ، بَلْ يُعْطَى الْفَرَسَ إِذَا كَانَ يُقَاتِلُ فَارِسًا وَلَا فَرَسَ لَهُ، وَلَا يُعْطَى لِلدَّوَابِّ الَّتِي يَتَّخِذُهَا زِينَةً وَنَحْوَهَا. فَرْعٌ يُعْطَى كُلٌّ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ، وَلَا يُفَضَّلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَرَفِ نَسَبٍ أَوْ سَبْقٍ فِي الْإِسْلَامِ أَوِ الْهِجْرَةِ وَسَائِرِ الْخِصَالِ الْمَرْضِيَّةِ، بَلْ يَسْتَوُونَ كَالْإِرْثِ وَالْغَنِيمَةِ. وَفِي وَجْهٍ: يُفَضَّلُ إِذَا اتَّسَعَ الْمَالُ. الثَّالِثَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدِّمَ فِي الْإِعْطَاءِ وَفِي إِثْبَاتِ الِاسْمِ فِي الدِّيوَانِ قُرَيْشًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَهُمْ وَلَدُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، بْنِ خُزَيْمَةَ، بْنِ مُدْرِكَةَ، بْنِ إِلْيَاسَ، بْنِ مُضَرَ، بْنَ نِزَارِ، بْنِ مَعَدِّ، بْنِ عَدْنَانَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ النَّسَّابِينَ،

وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ. وَقِيلَ: هُمْ وَلَدُ إِلْيَاسَ. وَقِيلَ: وَلَدُ مُضَرَ. وَقِيلَ: وَلَدُ فِهْرَ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. ثُمَّ يُقَدِّمُ مِنْ قُرَيْشٍ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ: مُحَمَّدُ، بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ، بْنِ عَبْدِ مُنَافِ، بْنِ قُصَيٍّ، بْنِ كِلَابٍ، بْنِ مُرَّةٍ، بْنِ كَعْبِ، بْنِ لُؤَيِّ، بْنِ غَالِبِ، بْنِ فِهْرِ، بْنِ مَالِكِ، بْنِ النَّضْرِ، بْنِ كِنَانَةَ، فَيُقَدِّمُ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ أَخَوَيْ هَاشِمٍ، وَيُقَدِّمُ مِنْهُمَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ؛ لِأَنَّهُ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبَوَيْهِ، وَنَوْفَلٌ أَخُوهُ لِأَبِيهِ، ثُمَّ بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى وَبَنِي عَبْدِ الدَّارِ ابْنَيْ قُصَيٍّ يُقَدِّمُ مِنْهُمَا بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى؛ لِأَنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، ثُمَّ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ أَخِي قُصَيٍّ، ثُمَّ بَنِي تَيْمٍ وَبَنِي مَخْزُومٍ أَخَوَيْ كِلَابٍ، وَيُقَدِّمُ مِنْهُمَا بَنِي تَيْمٍ، لِمَكَانِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ بَنِي جُمَحٍ وَبَنِي سَهْمٍ، وَهُمَا [مِنْ] وَلَدِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ، وَبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ - وَهُصَيْصٌ وَعَدِيٌّ أَخَوَا مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ - وَقَدَّمَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَبَائِلِ الثَّلَاثِ بَنِي جُمَحٍ، وَسَوَّى بَيْنَ بَنِي سَهْمٍ وَبَنِي عَدِيٍّ، كَمَا يُسَوَّى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدَّمَ الْمَهْدِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَانِهِ بَنِي عَدِيٍّ عَلَى بَنِي جُمَحٍ وَبَنِي سَهْمٍ؛ لِمَكَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ تَوَاضُعًا مِنْهُ. ثُمَّ يُقَدِّمُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، ثُمَّ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قُرَيْشٍ، بَدَأَ بِالْأَنْصَارِ، ثُمَّ يُعْطِي سَائِرَ الْعَرَبِ. هَكَذَا رَتَّبَ الْأَصْحَابُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِي ((أَمَالِي)) السَّرَخْسِيِّ: أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْصَارِ، فَيُقَدَّمُونَ عَلَيْهِمْ. وَمَتَى اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ، قُدِّمَ أَسَنُّهُمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي السِّنِّ، فَأَقْدَمُهُمَا إِسْلَامًا وَهِجْرَةً.

قُلْتُ: قَدْ عَكَسَ أَقَضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا، فَقَالَ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: يُقَدِّمُ بِالسَّابِقَةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ، قَدَّمَ بِالدِّينِ. فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ، قَدَّمَ بِالسِّنِّ، فَإِنْ تَقَارَبَا، قَدَّمَ بِالشَّجَاعَةِ. فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ، فَوَلِيُّ الْأَمْرِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ بِالْقُرْعَةِ، أَوْ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الْمُخْتَارُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ بَعْدَ الْعَرَبِ، يُعْطِي الْعَجَمَ. وَفِي ((الْمُهَذَّبِ)) وَ ((التَّهْذِيبِ)) : أَنَّ التَّقْدِيمَ فِيهِمْ بِالسِّنِّ وَالْفَضَائِلِ، وَلَا يُقَدَّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالنَّسَبِ، وَفِيهِ كَلَامَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَجَمَ قَدْ يَعْرِفُ نَسَبَهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتَبِرَ فِيمَنْ عَرَفَ نَسَبَهُ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ أَيْضًا. الثَّانِي: أَنَّا قَدَّمَنَا فِي صِفَةِ الْأَئِمَّةِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّ الظَّاهِرَ رِعَايَةُ كُلِّ نَسَبٍ يُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّ نَسَبَ الْعَجَمِ مَرْعِيٌّ فِي الْكَفَاءَةِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ هُنَا. قُلْتُ: قَدْ أَشَارَ الْمَاوَرْدِيُّ إِلَى اعْتِبَارِ نَسَبِ الْعَجَمِ فَقَالَ: إِنْ كَانُوا عَجَمًا لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى نَسَبٍ، جَمَعَهُمْ بِالْأَجْنَاسِ، كَالتُّرْكِ، وَالْهِنْدِ، وَبِالْبُلْدَانِ. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ لَهُمْ سَابِقَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، تَرَتَّبُوا عَلَيْهَا، وَإِلَّا، فَبِالْأَقْرَبِ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ. فَإِنْ تَسَاوَوْا، فَبِالسَّبْقِ إِلَى طَاعَتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَجَمِيعُ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْوَظِيفَةِ، مُسْتَحَبٌّ لَا مُسْتَحَقٌّ. الرَّابِعَةُ: لَا يُثْبِتُ فِي الدِّيوَانِ اسْمَ صَبِيٍّ، وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَا عَبْدٍ، وَلَا ضَعِيفٍ لَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ، كَالْأَعْمَى، وَالزَّمِنِ، وَإِنَّمَا هُمْ تَبَعٌ لِلْمُقَاتِلِ إِذَا كَانُوا فِي عِيَالِهِ، يُعْطِي لَهُمْ كَمَا سَبَقَ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ فِي الدِّيوَانِ الرِّجَالَ الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ، وَإِذَا طَرَأَ عَلَى الْمُقَاتِلِ مَرَضٌ أَوْ جُنُونٌ، فَإِنْ رُجِيَ زَوَالُهُ، أُعْطِيَ وَلَمْ يُسْقِطِ اسْمَهُ،

وَإِلَّا أَسْقَطَ اسْمَهُ. وَفِي إِعْطَائِهِ الْخِلَافُ الْآتِي فِي زَوْجَةِ الْمُقَاتِلِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَوْلَى بِالْإِعْطَاءِ. قُلْتُ: تَرَكَ مِنْ شُرُوطِ مَنْ يُثْبِتُهُ فِي الدِّيوَانِ الْإِسْلَامَ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِقْدَامٌ عَلَى الْقِتَالِ وَمَعْرِفَةٌ بِهِ. فَإِنِ اخْتَلَّ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ؛ لِعَجْزِهِ عَمَّا هُوَ مُرْصَدٌ لَهُ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْأَقْطَعِ، وَيَجُوزُ إِثْبَاتُ الْأَعْرَجِ إِنْ كَانَ فَارِسًا. وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا، فَلَا. وَيَجُوزُ إِثْبَاتُ الْأَخْرَسِ وَالْأَصَمِّ. قَالَ: وَإِذَا كَتَبَهُ فِي الدِّيوَانِ، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورَ الِاسْمِ، لَمْ يَحْسُنْ تَحْلِيَتُهُ. وَإِنْ كَانَ مَغْمُورًا وُصِفَ وَحُلِّيَ، فَيَذْكُرُ سِنَّهُ وَقَدَّهُ وَلَوْنَهُ وَحُلِّيَ وَجْهُهُ، بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ، هَلْ يَنْقَطِعُ رِزْقُ زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ لِزَوَالِ الْمَتْبُوعِ؟ أَمْ يَسْتَمِرُّ تَرْغِيبًا لِلْمُجَاهِدِينَ؟ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي. فَعَلَى هَذَا، تُرْزَقُ الزَّوْجَةُ إِلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَالْأَوْلَادُ إِلَى أَنْ يَبْلُغُوا وَيَسْتَقِلُّوا بِالْكَسْبِ، أَوْ يَرْغَبُوا فِي الْجِهَادِ فَيُثْبَتُ اسْمُهُمْ فِي الدِّيوَانِ. وَمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ وَهُوَ أَعْمَى أَوْ زَمِنٌ، رُزِقَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا كَانَ يُرْزَقُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، هَذَا فِي ذُكُورِ الْأَوْلَادِ. وَأَمَّا الْإِنَاثُ، فَمُقْتَضَى كَلَامِهِ فِي الْوَسِيطِ أَنَّهُنَّ يُرْزَقْنَ إِلَى أَنْ يَتَزَوَّجْنَ. الْخَامِسَةُ: يُفَرِّقُ الْأَرْزَاقَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَيَجْعَلُ لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَخْتَلِفُ. وَإِذَا رَأَى مَصْلَحَةً أَنْ يُفَرِّقَ مُشَاهَرَةً وَنَحْوَهَا، فَعَلَ. وَإِذَا اقْتَصَرَ فِي السَّنَةِ عَلَى مَرَّةٍ، فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: يَجْتَهِدُ، فَمَا اقْتَضَتْهُ الْحَالُ وَتَمَكَّنَ فِيهِ مِنَ الْإِعْطَاءِ

فصل

فِي أَوَّلِ السَّنَةِ أَوْ آخِرِهَا، فَعَلَهُ، وَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ قَوْلُهُ فِي ((الْوَجِيزِ)) : يُفَرِّقُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سَنَةٍ، وَقَوْلُ الْآخَرِينَ: يُفَرِّقُ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ. فَرْعٌ إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ بَعْدَ جَمْعِ الْمَالِ وَانْقِضَاءِ الْحَوْلِ، صَرَفَ نَصِيبَهُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَلَا يَسْقُطُ هَذَا الْحَقُّ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ جَمْعِ الْمَالِ وَقَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، فَقَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَصْرِفُ قِسْطَ مَا مَضَى إِلَى وَرَثَتِهِ كَالْأُجْرَةِ. وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ لَهُمْ، كَالْجُعْلِ فِي الْجَعَالَةِ، لَا يُسْتَحَقُّ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ جَمْعِ الْمَالِ وَبَعْدَ الْحَوْلِ، فَظَاهِرُ النَّصِّ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْوَرَثَةِ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يَصْرِفُ نَصِيبَهُ مِمَّا سَيَحْصُلُ إِلَى وَرَثَتِهِ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ جَمْعِ الْمَالِ وَقَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يَسْتَحِقُّ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَفِي قِسْطِ مَا مَضَى الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ جَمْعِ الْمَالِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْعَطَاءُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ. فَإِنْ رَأَى الْإِعْطَاءَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فَصَاعِدًا، فَالِاعْتِبَارُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ. فَصْلٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَنْقُولَاتِ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ. فَأَمَّا الدُّورُ وَالْأَرْضُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هِيَ وَقْفٌ لِلْمُسْلِمِينَ تُسْتَغَلُّ وَتُقَسَّمُ غَلَّتُهَا فِي كُلِّ عَامٍ كَذَلِكَ أَبَدًا. هَذَا نَصُّهُ. فَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يَقُولُ: الْحُكْمُ بِأَنَّهَا وَقْفٌ عَلَى أَنَّهَا لِلْمَصَالِحِ، فَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ، فَتُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ كَالْمَنْقُولَاتِ

فصل

وَكَالْغَنِيمَةِ. وَالْأَصَحُّ جَرَيَانُ هَذَا الْحُكْمِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: لِلْمَصَالِحِ أَوْ لِلْمُرْتَزِقَةِ، لِتَبْقَى الرَّقَبَةُ مُؤَبَّدَةً، وَيَنْتَفِعُ بِغَلَّتِهَا الْمُسْتَحِقُّ كُلَّ عَامٍ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولَاتِ، فَإِنَّهَا مُعَرَّضَةٌ لِلْهَلَاكِ، وَالْغَنِيمَةُ بَعِيدَةٌ عَنْ نَظَرِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، لِتَأَكُّدِ حَقِّ الْغَانِمِينَ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْوَقْفِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِهِ التَّوَقُّفُ عَنْ قِسْمَةِ الرَّقَبَةِ، دُونَ الْوَقْفِ الشَّرْعِيِّ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ الْوَقْفُ الشَّرْعِيُّ لِلْمَصْلَحَةِ. فَعَلَى هَذَا، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الْحُصُولِ، كَمَا يَرِقُّ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْأَسْرِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لَكِنَّ الْإِمَامَ يَقِفُهَا. وَإِنْ رَأَى قِسْمَتَهَا أَوْ بَيْعَهَا وَقِسْمَةَ ثَمَنِهَا، فَلَهُ ذَلِكَ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هِيَ وَقْفٌ، أَيْ: تُجْعَلُ وَقْفًا. وَأَمَّا خُمُسُهُ، فَسَهْمُ الْمَصَالِحِ لَا سَبِيلَ إِلَى قِسْمَتِهِ، بَلْ يُوقَفُ وَتُصْرَفُ غَلَّتُهُ فِي الْمَصَالِحِ، أَوْ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إِلَيْهَا، وَالْوَقْفُ أَوْلَى وَيَجِيءُ الْوَجْهُ السَّابِقُ، أَنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الْحُصُولِ. وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ. وَسَهْمُ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ يُرَتَّبُ عَلَى سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى. إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ وَقْفٌ، فَهُنَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى مُتَعَيِّنُونَ، وَإِلَّا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَقْفٌ. وَقِيلَ: لَا. وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ فِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، ثُمَّ فِي الْخُمُسِ، عَلِمْتَ أَنَّ الْمَذْهَبَ؛ أَنَّ الْجَمِيعَ وَقْفٌ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَصْلٌ إِذَا زَادَتِ الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى حَاجَاتِ الْمُرْتَزِقَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، صُرِفَ الْفَاضِلُ إِلَيْهِمْ أَيْضًا عَلَى قَدْرِ مَئُونَاتِهِمْ. وَفِي جَوَازِ صَرْفِ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَى إِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَإِلَى الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ لِيَكُونَ عُدَّةً لَهُمْ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لِلْمَصَالِحِ، صُرِفَ الْفَاضِلُ إِلَى بَاقِي الْمَصَالِحِ، كَإِصْلَاحِ الْحُصُونِ

فصل

وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ. وَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، فَفِي جَوَازِ صَرْفِهِ إِلَيْهِمْ وَجْهَانِ. وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَيْهِمْ عَنْ كِفَايَةِ السَّنَةِ الْقَابِلَةِ بِلَا خِلَافٍ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ إِحْدَاهَا: جَاءَ رَجُلٌ فَطَلَبَ إِثْبَاتَ اسْمِهِ فِي الدِّيوَانِ، أَجَابَهُ الْإِمَامُ: إِنْ وَجَدَ فِي الْمَالِ سَعَةً وَفِي الطَّالِبِ أَهْلِيَّةً، وَإِلَّا، فَلَا. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: لَا يُحْبَسُ شَيْءٌ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ خَوْفًا أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ، بَلْ يُفْرِغُ الْجَمِيعَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ. ثُمَّ إِنْ نَزَلَتْ نَازِلَةٌ، فَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِأَمْرِهَا. فَإِنْ غَشِيَهُمُ الْعَدُوُّ، فَعَلَى جَمِيعِهِمْ أَنْ يَنْفِرُوا. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُرْزَقُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ الْحُكَّامُ وَوُلَاةُ الْأَحْدَاثِ وَالصَّلَاةِ، وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ الْفَيْءِ مِنْ وَالٍ وَكَاتِبٍ وَجُنْدِيٍّ لَا يَسْتَغْنِي أَهْلُ الْفَيْءِ عَنْهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْحُكَّامِ: الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي مَغْزَاهِمْ. وَوُلَاةُ الْأَحْدَاثِ، قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ أَحْدَاثَ أَهْلِ الْفَيْءِ الْفُرُوسِيَّةَ وَالرَّمْيَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يُنَصَّبُونَ فِي الْأَطْرَافِ لِتَوْلِيَةِ الْقُضَاةِ وَسُعَاةِ الصَّدَقَاتِ وَعَزْلِهِمْ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ إِلَى الثُّغُورِ وَحِفْظِ الْبِلَادِ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ. وَوُلَاةُ الصَّلَاةِ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ لَهُمُ الْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَكَذَلِكَ يُرْزَقُ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْفَيْءِ. وَإِذَا وُجِدَ مَنْ يَتَطَوَّعُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ، لَمْ يُرْزَقْ عَلَيْهَا غَيْرُهُ. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الْفَيْءِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَامِلُ الْفَيْءِ إِنْ وُلِّيَ وَضْعَ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَتَقْدِيرَهَا وَتَقْرِيرَهَا اشْتُرِطَ كَوْنُهُ مُسْلِمًا حُرًّا مُجْتَهِدًا عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ. وَإِنْ وُلِّيَ جِبَايَةَ أَمْوَالِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِهَا، سَقَطَ

الشَّرْطُ الثَّالِثُ. وَإِنْ وُلِّيَ جِبَايَةَ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الْفَيْءِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ فِيهِ عَنِ اسْتِنَابَةٍ، اشْتُرِطَ إِسْلَامُهُ وَحُرِّيَّتُهُ وَاطِّلَاعُهُ بِشَرْطِ مَا وَلِيَ مِنْ حِسَابٍ وَمِسَاحَةٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ. وَإِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِنَابَةِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ كَالرَّسُولِ الْمَأْمُورِ. وَأَمَّا تَوْلِيَةُ الذِّمِّيِّ، فَإِنْ كَانَتْ جِبَايَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَالْجِزْيَةِ وَعُشْرِ التُّجَّارِ، جَازَتْ. وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا فَسَدَتْ وِلَايَةُ الْعَامِلِ، وَقَبَضَ الْمَالَ مَعَ فَسَادِهَا، بَرِئَ الدَّافِعُ، لِبَقَاءِ الْإِذْنِ. فَلَوْ نُهِيَ عَنِ الْقَبْضِ بَعْدَ فَسَادِهَا لَمْ يَبْرَأَ الدَّافِعُ إِلَيْهِ إِنْ عَلِمَ النَّهْيَ، وَإِنْ جَهِلَهُ، فَوَجْهَانِ، كَالْوَكِيلِ. قُلْتُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ عَنِ الْمُثْبَتِينَ فِي الدِّيوَانِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَكَانَ الْمَالُ حَاصِلًا، فَلَهُمُ الْمُطَالَبَةُ كَالدُّيُونِ. وَإِنْ أَعْوَزَ بَيْتُ الْمَالِ، كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَيْسَ لَهُمْ مُطَالَبَةُ وَلِيِّ الْأَمْرِ بِهِ. قَالَ: وَإِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الْأَمْرِ إِسْقَاطَ بَعْضِهِمْ لِسَبَبٍ، جَازَ، وَبِغَيْرِ سَبَبٍ، لَا يَجُوزُ. وَإِذَا أَرَادَ بَعْضُهُمْ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنَ الدِّيوَانِ، جَازَ إِنِ اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا. قَالَ: وَإِذَا جُرِّدَ الْجَيْشُ لِلْقِتَالِ، فَامْتَنَعُوا وَهُمْ أَكْفَاءُ مَنْ حَارَبَهُمْ، سَقَطَتْ أَرْزَاقُهُمْ. وَإِنْ ضَعُفُوا عَنْهُ، لَمْ تَسْقُطْ. وَإِذَا جُرِّدَ أَحَدُهُمْ لِسَفَرٍ، أُعْطِيَ نَفَقَةَ سَفَرِهِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي تَقْدِيرِ عَطَائِهِ، وَلَمْ يُعْطَ إِنْ دَخَلَ فِيهِ. وَإِذَا تَلِفَ سِلَاحُهُ فِي الْحَرْبِ، أُعْطِيَ عِوَضَهُ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي تَقْدِيرِ عَطَائِهِ، وَإِلَّا، فَلَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا، أَنَّهَا الْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكُفَّارِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: سَوَاءٌ مَا أَخَذْنَاهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ قَهْرًا وَمَا اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهِ بَعْدَمَا هَزَمْنَاهُمْ فِي الْقِتَالِ وَتَرَكُوهُ. وَحِلُّ الْغَنِيمَةِ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا، وَكَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، يَصْنَعُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إِعْطَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، فَجُعِلَ خُمُسُهَا مَقْسُومًا خَمْسَةَ أَسْهُمٍ كَالْفَيْءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الْأَنْفَالِ: 41] وَجُعِلَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ. وَيَعْرِضُ فِي أَمْوَالِ الْغَنِيمَةِ النَّفَلُ وَالرَّضَخُ وَالسَّلَبُ وَالْقِسْمَةُ، وَيَحْصُلُ بَيَانُهَا فِي أَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ. الْأَوَّلُ: النَّفَلُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْفَاءِ، وَهُوَ زِيَادَةُ مَالٍ عَلَى سَهْمِ الْغَنِيمَةِ، يَشْرُطُهُ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ لِمَنْ يَقُومُ بِمَا فِيهِ نِكَايَةٌ زَائِدَةٌ فِي الْعَدُوِّ، أَوْ تَوَقُّعُ ظَفَرٍ، أَوْ دَفْعُ شَرٍّ، وَذَلِكَ كَالتَّقَدُّمِ عَلَى طَلِيعَةٍ، أَوِ التَّهَجُّمِ عَلَى قَلْعَةٍ، أَوِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَكَحِفْظِ مَكْمَنٍ، وَتَجَسُّسِ حَالٍ وَشِبْهِهَا. وَإِنَّمَا يُنَفِّلُ إِذَا مَسَّتْ حَاجَةٌ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْتَضَى الْحَالُ بَعْثَ السَّرَايَا وَحِفْظَ الْمَكَامِنِ، وَلِذَلِكَ نَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ دُونَ بَعْضٍ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِيمَنْ شَرَطَ لَهُ، وَفِي مَحَلِّ الْمَشْرُوطِ وَقَدْرِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ، فَيَجُوزُ كَوْنُهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا وَجَمَاعَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُطْلِقَ فَيَقُولُ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا. وَأَمَّا مَحَلُّهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ النَّفَلَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ الْمُرْصَدَةِ بِبَيْتِ الْمَالِ، وَحِينَئِذٍ يَشْتَرِطُ كَوْنَهُ مَعْلُومًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَهُ مِمَّا سَيُغْنَمُ وَيُؤْخَذُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي هَذَا الْقِتَالِ، وَحِينَئِذٍ يَذْكُرُ جُزْءًا كَثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ وَغَيْرِهِمَا، وَيَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ لِلْحَاجَةِ. وَإِذَا نَفَّلَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَمِمَّ يُنَفِّلُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، وَيُقَالُ: أَقْوَالٌ. أَصَحُّهَا: مِنْ خُمُسِ خُمُسِهَا. وَالثَّانِي: مِنْ أَصْلِهَا. وَالثَّالِثُ: مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا. وَأَمَّا قَدْرُهُ، فَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَضْبُوطٌ، فَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ وَيَجْعَلُهُ بِقَدْرِ الْعَمَلِ وَخَطَرِهِ، وَقَدْ صَحَّ فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْبَدْأَةِ الرُّبُعَ، وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ ((الْقُفُولُ)) بَدَلَ ((الرَّجْعَةِ)) ، وَقِيلَ: الْبَدْأَةُ: السَّرِيَّةُ الْأُولَى، وَالرَّجْعَةُ: الثَّانِيَةُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْبَدْأَةُ: السَّرِيَّةُ الَّتِي يَبْعَثُهَا الْإِمَامُ قَبْلَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ مُقَدِّمَةً لَهُ، وَالرَّجْعَةُ: الَّتِي يَأْمُرُهَا بِالرُّجُوعِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْجَيْشِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَنُقِصَ الْبَدْأَةُ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَرِيحُونَ لَمْ يَطُلْ بِهِمُ السَّفَرُ، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ فِي غَفْلَةٍ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مِنْ وَرَائِهِمْ يَسْتَظْهِرُونَ بِهِ، وَالرَّجْعَةُ بِخِلَافِهِمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْحَدِيثِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَحَلِّ النَّفَلِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ، ثُلُثُ خُمُسِ الْخُمُسِ، أَوْ رُبُعُهُ. وَقِيلَ: ثُلُثُ الْجَمِيعِ، أَوْ رُبُعُهُ. وَقِيلَ: ثُلُثُ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا، أَوْ رُبُعُهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ: أَنَّهُ يُزَادُ نَصِيبُ كُلُّ شَخْصٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ ثُلُثِهِ أَوْ رُبُعِهِ، وَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَالنَّقْصُ عَنِ الرُّبُعِ بِالِاجْتِهَادِ.

فَرْعٌ إِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، لَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. فَرْعٌ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ فِي الْحَرْبِ مُبَارَزَةٌ وَحُسْنُ إِقْدَامٍ وَأَثَرٌ مَحْمُودٌ، أُعْطِيَ سَهْمُهُ، وَزِيدَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي الرَّضْخِ. فَالصَّبِيُّ، وَالْعَبْدُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْخُنْثَى، وَالزَّمِنُ، وَالذِّمِّيُّ، لَا يُسْهِمُ لَهُمْ، لَكِنْ يَرْضَخُ لَهُمْ، وَهَذَا الرَّضْخُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ: مُسْتَحَبٌّ. وَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي قَدْرِهِ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ سَهْمَ رَاجِلٍ إِنْ كَانَ مَنْ يَرْضَخُ لَهُ رَاجِلًا. وَإِنْ كَانَ فَارِسًا، فَوَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ تَعْزِيرُ الْحُرِّ حَدَّ الْعَبِيدِ؟ وَبِالْمَنْعِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ. وَسَوَاءٌ حَضَرَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَالصَّبِيُّ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَالْمَرْأَةُ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، أَمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ. وَإِنْ حَضَرَ الذِّمِّيُّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا عَلَى الصَّحِيحِ، بَلْ يُعَزِّرُهُ الْإِمَامُ آنَ ذَلِكَ. وَإِنْ حَضَرَ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ، فَلَهُ الْأُجْرَةُ فَقَطْ، وَإِلَّا، فَلَهُ الرَّضْخُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا شَيْءَ لَهُ. وَقِيلَ: إِنْ قَاتَلَ، اسْتَحَقَّ، وَإِلَّا، فَلَا. وَإِذَا حَضَرَ نِسَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، فَلَهُنَّ الرَّضْخُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ يُفَاوِتُ الْإِمَامُ بَيْنَ أَهْلِ الرَّضْخِ بِحَسَبِ نَفْعِهِمْ، فَيُرَجِّحُ الْمُقَاتِلَ وَمَنْ قِتَالُهُ

أَكْثَرُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْفَارِسَ عَلَى الرَّاجِلِ، وَالْمَرْأَةَ الَّتِي تُدَاوِي الْجَرْحَى وَتَسْقِي الْعِطَاشَ عَلَى الَّتِي تَحْفَظُ الرِّجَالَ، بِخِلَافِ سَهْمِ الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُقَاتِلُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ. وَالرَّضْخُ بِالِاجْتِهَادِ، كَدِيَةِ الْحُرِّ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ. فَرْعٌ فِي مَحَلِّ الرَّضْخِ لِلْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا: مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ. وَالثَّانِي: مِنْ أَصْلِهَا. وَالثَّالِثُ: مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ كَالْعَبِيدِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يَرْضَخُ لَهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ قَطْعًا. وَحَيْثُ رَضَخْنَا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ يُبْدَأُ بِهِ كَالسَّلَبِ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي خُمُسًا وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ. فَرْعٌ إِذَا انْفَرَدَ الْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِغَزْوَةٍ وَغَنِمُوا، خُمِّسَتْ. وَفِي الْبَاقِي أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ كَمَا يُقَسَّمُ الرَّضْخُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الرَّأْيُ مِنْ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ. وَالثَّانِي: يُقَسَّمُ كَالْغَنِيمَةِ، لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ. وَالثَّالِثُ: يُرْضَخُ لَهُمْ مِنْهُ، وَيُجْعَلُ الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. وَخَصَّصَ الْبَغَوِيُّ هَذَا الْخِلَافَ بِالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ، وَقَطَعَ فِي الْعَبِيدِ بِكَوْنِهِ لِسَادَتِهِمْ، وَحَكَى أَنَّهُ لَوْ سَبَى مُرَاهِقُونَ أَوْ مَجَانِينُ صِغَارًا، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لَهُمْ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَ أَهْلِ الرَّضْخِ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، فَيُرْضَخُ لَهُمْ، وَالْبَاقِي لِذَلِكَ الْوَاحِدِ.

فَرْعٌ لَا يُخَمَّسُ مَا أَخَذَهُ الذِّمِّيُّونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقٌّ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَالزَّكَاةِ. فَرْعٌ مَنْ قَاتَلَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، رُضِخَ لَهُ مَعَ السَّهْمِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَازِعُ كَلَامَهُ فِيهِ. وَقِيلَ: يُزَادُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ. فَرْعٌ لَوْ زَالَ نَقْصُ أَهْلِ الرَّضْخِ، فَعَتَقَ الْعَبْدُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ انْقِضَاءِ دَارِ الْحَرْبِ، أَسْهَمَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَقَدْ أَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا الرَّضْخُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيمَا بَيْنَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَحِيَازَةِ الْمَالِ، الْخِلَافُ الْآتِي فِيمَنْ حَضَرَ فِي هَذَا الْحَالِ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي السَّلَبِ. هُوَ لِلْقِتَالِ، وَالْكَلَامُ فِي سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ وَمُسْتَحِقِّهِ وَنَفْسِهِ وَكَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ. أَمَّا سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ، فَقَالَ فِي ((الْوَسِيطِ)) فِي ضَبْطِهِ: هُوَ رُكُوبُ الْغَرَرِ فِي قَهْرِ كَافِرٍ مُقْبِلٍ عَلَى الْقِتَالِ بِمَا يَكْفِي شَرُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِيهِ قُيُودٌ: أَحَدُهَا: رُكُوبُ الْغَرَرِ. فَلَوْ رَمَى مِنْ حِصْنٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ الصَّفِّ كَافِرًا، وَقَتَلَهُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ، وَكَذَا لَوْ رَمَى مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ إِلَى صَفِّ الْكُفَّارِ، فَقَتَلَ رَجُلًا.

[الْقَيْدُ] الثَّانِي: إِقْبَالُ الْكَافِرِ عَلَى الْقِتَالِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ اشْتِغَالَهُ بِالْقِتَالِ حِينَ قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ تَقَاتَلَا زَمَانًا ثُمَّ هَرَبَ فَقَتَلَهُ الْمُسْلِمُ فِي إِدْبَارِهِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ. وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مُقَاتَلَتُهُ مَعَ قَاتِلِهِ، بَلْ لَوْ قَصَدَ كَافِرٌ مُسْلِمًا، فَجَاءَ مُسْلِمٌ آخَرُ مِنْ وَرَائِهِ فَقَتَلَهُ، اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ، بَلِ الْمَرْعِيُّ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، أَنْ يَقْتُلَهُ مُقْبِلًا أَوْ مُدْبِرًا وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَأَمَّا إِذَا انْهَزَمَ جَيْشُ الْكُفَّارِ فَاتَّبَعَهُمْ فَقَتَلَ كَافِرًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ؛ لِأَنَّ بِهَزِيمَتِهِمُ انْدَفَعَ شَرُّهُمْ، وَمَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً فَالشَّرُّ مُتَوَقَّعٌ، وَالْمُوَلِّي لَا تُؤْمَنُ كَرَّتُهُ. وَلَوْ قَتَلَ كَافِرًا وَهُوَ أَسِيرٌ فِي يَدِهِ، أَوْ نَائِمٌ، أَوْ مَشْغُولٌ بِأَكْلٍ أَوْ نَحْوِهِ، أَوْ مُثْخَنٌ زَائِلُ الِامْتِنَاعِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: قَهَرَهُ بِمَا يَكْفِي شَرَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ [بِقَتْلٍ] ، أَوْ إِثْخَانٍ، أَوْ إِزَالَةِ امْتِنَاعٍ، بِأَنْ يُعْمِيَهُ، أَوْ يَقْطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. وَلَا يَلْحَقُ بِهِ قَطْعُ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ. فَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ، أَوْ يَدًا وَرِجْلًا، فَهُوَ إِثْخَانٌ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ. وَلَوِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِهِ أَوْ إِثْخَانِهِ، فَالسَّلَبُ لَهُمْ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ لَا يُرْجَى نَجَاتُهُ مِنْهُمْ، لَمْ يَخْتَصَّ قَاتِلُهُ بِسَلَبِهِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ شَرُّهُ بِالْوُقُوعِ بَيْنَهُمْ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازِ: لَوْ أَمْسَكَهُ وَاحِدٌ وَقَتَلَهُ آخَرُ، فَالسَّلَبُ بَيْنَهُمَا؛ لِانْدِفَاعِ شَرِّهِ بِهِمَا، وَكَأَنَّ هَذَا فِيمَا إِذَا مَنَعَهُ الْهَرَبَ وَلَمْ يَضْبِطْهُ. فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ الضَّابِطُ، فَإِنَّهُ أَسْرٌ، وَقَتْلُ الْأَسِيرِ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ السَّلَبُ. وَلَوْ أَثْخَنَهُ، فَقَتَلَهُ آخَرُ، فَالسَّلَبُ لِلْمُثْخِنِ. وَلَوْ جَرَحَهُ فَلَمْ يُثْخِنْهُ، فَقَتَلَهُ آخَرُ، فَالسَّلَبُ لِلثَّانِي. وَلَوْ أَسَرَهُ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ سَلَبَهُ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ كُلَّ شَرِّهِ. وَأَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ أَصْعَبُ مِنَ الْقَتْلِ وَأَبْلَغُ فِي الْقَهْرِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ الْإِمَامُ يَتَخَيَّرُ فِي الْأَسِيرِ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ كَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ أَرَقَّهُ، فَهَلْ لِمَنْ أَسَرَهُ رَقَبَتُهُ؟

فصل

أَوْ فَادَاهُ، هَلْ لَهُ مَالُ الْفِدَاءِ؟ اطَّرَدَ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَظْهَرُ هُنَا الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّلَبِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْكَافِرُ الْمَقْتُولُ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا، إِنْ كَانَ لَا يُقَاتِلُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ، اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْعَبْدُ كَالصَّبِيِّ. وَقِيلَ: بِالِاسْتِحْقَاقِ قَطْعًا. فَصْلٌ فَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ، فَكُلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْغَنِيمَةِ، يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ يَسْتَحِقُّونَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الذِّمِّيُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ، فَكَانَ الْقَاتِلُ خُنْثَى، وُقِفَ السَّلَبُ حَتَّى يُتَبَيَّنَ. وَإِذَا حَضَرَ الذِّمِّيُّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، فَلَا سَلَبَ لَهُ قَطْعًا، وَلَا سَلَبَ لِلْمُخَذِّلِ قَطْعًا. وَالتَّاجِرُ إِذَا قُلْنَا: لَا سَهْمَ لَهُ، كَالصَّبِيِّ. فَصْلٌ وَأَمَّا نَفْسُ السَّلَبِ، فَمَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ وَالْخُفِّ وَالرَّانَيْنِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، كَالدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ وَالسِّلَاحِ، وَمَرْكُوبِهِ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ سَرْجٍ وَلِجَامٍ وَمِقْوَدٍ وَغَيْرِهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ مُمْسِكًا عِنَانَهُ وَهُوَ يُقَاتِلُ رَاجِلًا.

فصل

وَفِيمَا عَلَيْهِ مِنَ الزِّينَةِ، كَالطَّوْقِ، وَالسُّوَارِ، وَالْمِنْطَقَةِ، وَالْخَاتَمِ، وَالْهِمْيَانِ، وَمَا فِيهِ مِنَ النَّفَقَةِ، فَقَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَتْ سَلَبًا، كَثِيَابِهِ وَأَمْتِعَتِهِ الْمُخَلَّفَةِ فِي خَيْمَتِهِ. وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا سَلَبٌ؛ لِأَنَّهَا مَسْلُوبَةٌ. وَالْجَنِيبَةُ الَّتِي تُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فِيهَا هَذَا الْخِلَافُ. وَقِيلَ بِالْمَنْعِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا سَلَبٌ، صَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازِ: فَعَلَى هَذَا، لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا جَنِيبَةً وَاحِدَةً، فَعَلَى هَذَا يَبْقَى النَّظَرُ إِذَا قَادَ جَنَائِبَ فِي أَنَّ السَّلَبَ أَيَّتُهَا، يَرْجِعُ إِلَى تَعْيِينِ الْإِمَامِ، أَمْ يَقْرَعُ؟ قُلْتُ: تَخْصِيصُ أَبِي الْفَرَجِ بِجَنِيبَةٍ فِيهِ نَظَرٌ. وَإِذَا قِيلَ بِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ الْقَاتِلُ جَنِيبَةَ قَتِيلِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ بَلِ الصَّوَابُ، بِخِلَافِ مَا أَبْدَاهُ الرَّافِعِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَقِيبَةُ الْمَشْدُودَةُ عَلَى فَرَسِهِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالْأَمْتِعَةِ لَيْسَتْ سَلَبًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: كَالْمِنْطَقَةِ. فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ إِخْرَاجِ السَّلَبِ، فَفِي تَخْمِيسِهِ قَوْلَانِ. الْمَشْهُورُ: لَا يُخَمَّسُ. وَالثَّانِي: يُخَمَّسُ، فَيُدْفَعُ خُمُسُهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَبَاقِيهِ لِلْقَاتِلِ، ثُمَّ يُقَسَّمُ بَاقِي الْغَنِيمَةِ. فَرْعٌ لَا فَرْقَ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ، بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ كَافِرًا مُبَارَزَةً، وَبَيْنَ أَنْ يَنْغَمِرَ فِي

صَفِّ الْعَدُوِّ فَيَقْتُلَهُ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ: مَنْ قَتَلَ فَلَهُ السَّلَبُ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقُولَ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. مِنْ أَحْكَامِ قِسْمَتِهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ السِّيَرِ. فَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ، أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ الْقِسْمَةَ، بَدَأَ بِالسَّلَبِ فَأَعْطَاهُ لِلْقَاتِلِ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ السَّلَبَ لَا يُخَمَّسُ، ثُمَّ يُخْرِجُ الْمُؤَنَ اللَّازِمَةَ، كَأُجْرَةِ حَمَّالٍ وَحَافِظٍ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ يَجْعَلُ الْبَاقِيَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَيَأْخُذُ خَمْسَ رِقَاعٍ، فَيَكْتُبُ عَلَى وَاحِدَةٍ: لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْمَصَالِحِ، وَعَلَى أَرْبَعٍ: لِلْغَانِمِينَ، وَيُدْرِجُهَا فِي بَنَادِقَ مُتَسَاوِيَةٍ وَيُجَفِّفُهَا، وَيُخْرِجُ لِكُلِّ قِسْمٍ رُقْعَةً، فَمَا خَرَجَ عَلَيْهِ: سَهْمُ اللَّهِ تَعَالَى، جَعَلَهُ بَيْنَ أَهْلِ الْخُمُسِ عَلَى خَمْسَةِ [أَسْهُمٍ] ، وَمِنْهُ يَكُونُ النَّفَلُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ عَلَى الْغَانِمِينَ، وَيُقَدِّمُ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ عَلَى قِسْمَةِ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُمْ حَاضِرُونَ مَحْصُورُونَ، وَمِنْهَا يَكُونُ الرَّضْخُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَسَوَاءٌ فِي الْقِسْمَةِ الْمَنْقُولُ وَالْعَقَارُ، لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَلَا تُكْرَهُ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. قُلْتُ: هَذِهِ الْعِبَارَةُ نَاقِصَةٌ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: يُسْتَحَبُّ قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا، بَلْ قَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ ((الْمُهَذَّبِ)) وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصِلٌ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ اسْتَحَقَّهُ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُسْهَمُ لَهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْأَصْلِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: مَنْ حَضَرَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ، اسْتَحَقَّ. وَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ حِيَازَةِ الْمَالِ، فَلَا وَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ، وَقَبْلَ حِيَازَةِ الْمَالِ، فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّ. وَالثَّانِي: بَلَى. وَقِيلَ: إِنْ خِيفَ رَجْعَةُ الْكُفَّارِ، اسْتَحَقَّ. وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ أَقَامُوا عَلَى حِصْنٍ وَأَشْرَفُوا عَلَى فَتْحِهِ، فَلَحِقَ مَدَدٌ قَبْلَ الْفَتْحِ، شَارَكُوهُمْ. وَإِنْ فَتَحُوا وَدَخَلُوا آمِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ الْمَدَدُ، لَمْ يُشَارِكُوهُمْ. [الصُّورَةُ] الثَّانِيَةُ: غَابَ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ مُنْهَزِمًا وَلَمْ يَعُدْ حَتَّى انْقَضَى الْقِتَالُ، فَلَا حَقَّ لَهُ. وَإِنْ عَادَ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، اسْتَحَقَّ مِنَ الْمَحُوزِ بَعْدَ عَوْدِهِ دُونَ الْمَحُوزِ قَبْلَ عَوْدِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَقِيَاسُهُ أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ حَضَرَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ: لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَحُوزِ قَبْلَ حُضُورِهِ. كَذَا نَقَلَهُ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازِ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَإِنْ كُنَّا أَطْلَقْنَاهُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ أَبُو الْفَرَجِ مُتَعَيِّنٌ، وَكَلَامُ مَنْ أَطْلَقَهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ وَلَّى مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، اسْتَحَقَّ عَلَى تَفْصِيلٍ مَذْكُورٍ فِي ((كِتَابِ السِّيَرِ)) ، وَمَنْ هَرَبَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُتَحَرِّفًا أَوْ مُتَحَيِّزًا، قَالَ الْغَزَالِيُّ: يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ، لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ. وَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ حَلَفَ، اسْتَحَقَّ مِنَ الْجَمِيعِ. وَإِنْ نَكَلَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ إِلَّا مِنَ الْمَحُوزِ بَعْدَ عَوْدِهِ.

قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الصُّورَةُ] الثَّالِثَةُ: مَاتَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ، فَلَا حَقَّ لَهُ. وَلَوْ مَاتَ فَرَسُهُ أَوْ سُرِقَ أَوْ عَارَ أَوْ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِهِمَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَ الْفَرَسِ. وَفِيمَا إِذَا عَارَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَحِيَازَةِ الْمَالِ، انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى وَرَثَتِهِ. وَلَوْ مَاتَ فَرَسُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفَرَسِ. وَلَوْ مَاتَ الرَّجُلُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَقَبْلَ الْحِيَازَةِ، انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى وَرَثَتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ مَاتَ فَرَسُهُ فِي هَذَا الْحَالِ، اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفَرَسِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ، سَقَطَ حَقُّهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَنَصَّ فِي مَوْتِ الْفَرَسِ فِي هَذَا الْحَالِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَرَسِ. وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ. أَصَحُّهَا: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَارِسَ مَتْبُوعٌ، وَالْفَرَسَ تَابِعٌ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ فِيهِمَا. وَقِيلَ: إِنْ حِيزَ الْمَالُ بِقِتَالٍ جَدِيدٍ، فَلَا اسْتِحْقَاقَ فِيهِمَا. وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ الْقِتَالُ إِلَى الْحِيَازَةِ، اسْتُحِقَّ فِيهِمَا. [الصُّورَةُ] الرَّابِعَةُ: إِذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ صَحِيحًا، ثُمَّ مَرِضَ مَرَضًا لَا يَمْنَعُ الْقِتَالَ، كَالْحُمَّى الْخَفِيفَةِ وَالصُّدَاعِ، أَوْ مَرَضًا يُرْجَى زَوَالُهُ، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، كَالزَّمَانَةِ وَالْفَالِجِ، فَفِي بُطْلَانِ حَقِّهِ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا يَبْطُلُ. وَلَوْ خَرَجَ فِي الْحَرْبِ، اسْتَحَقَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. ثُمَّ الْأَكْثَرُونَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ فِي رَجَاءِ الزَّوَالِ وَعَدَمِهِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ رَجَاءُ الزَّوَالِ قَبْلَ انْجِلَاءِ الْقِتَالِ. وَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَرِيضُ، رُضِخَ لَهُ. وَالْمَرَضُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَقَبْلَ حِيَازَةِ الْمَالِ، عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. [الصُّورَةُ] الْخَامِسَةُ: الْمُخَذِّلُ لِلْجَيْشِ، يُمْنَعُ الْخُرُوجَ مَعَ النَّاسِ وَحُضُورَ الصَّفِّ. فَإِنْ حَضَرَ، لَمْ يُعْطَ سَهْمًا وَلَا رَضْخًا. وَلَا يُلْحَقُ الْفَاسِقُ بِالْمُخَذِّلِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: يُلْحَقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَخْذِيلُهُ.

فصل

قُلْتُ: كَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ، أَنَّ الْمُخَذِّلَ لَا رَضْخَ لَهُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ: إِنْ حَضَرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، رَضَخَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ بَعَثَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ سَرِيَّةً إِلَى دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَلَدِهِ، فَغَنِمَتْ، لَمْ يُشَارِكْهَا الْإِمَامُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ. قُلْتُ: سَوَاءٌ كَانَتْ دَارُ الْحَرْبِ قَرِيبَةً مِنَ الْإِمَامِ، أَمْ لَا. حَتَّى لَوْ بَعَثَ سَرِيَّةً، وَقَصَدَ الْخُرُوجَ وَرَاءَهَا، فَغَنِمَتِ السَّرِيَّةُ قَبْلَ خُرُوجِهِ، لَمْ يُشَارِكْهَا وَإِنْ قَرُبَتْ دَارُ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَقَبْلَ الْخُرُوجِ لَيْسُوا مُجَاهِدِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَعَثَ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ، لَمْ تُشَارِكْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. فَلَوْ أَوْغَلَتَا فِي دِيَارِ الْكُفَّارِ، وَالْتَقَتَا فِي مَوْضِعٍ، اشْتَرَكَتَا فِيمَا غَنِمَتَا بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ. وَلَوْ بَعَثَهُمَا إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ أَمَّرَ عَلَيْهِمَا أَمِيرًا وَاحِدًا، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا قَرِيبَةً مِنَ الْأُخْرَى، بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةً عَوْنًا لِلْأُخْرَى، اشْتَرَكَتَا، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ دَخَلَ الْإِمَامُ أَوِ الْأَمِيرُ دَارَ الْحَرْبِ، وَبَعَثَ سَرِيَّةً فِي نَاحِيَةٍ، فَغَنِمَتْ، شَارَكَهُمْ جَيْشُ الْإِمَامِ. وَلَوْ غَنِمَ الْجَيْشُ، شَارَكَتْهُ السَّرِيَّةُ، لِاسْتِظْهَارِ كُلٍّ بِالْآخَرِ. وَلَوْ بَعَثَ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَةٍ، اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِيمَا يَغْنَمُ كُلٌّ مِنْهُمْ. وَلَوْ بَعَثَهُمَا إِلَى جِهَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا شَرِكَةَ بَيْنَ السَّرِيَّتَيْنِ هُنَا. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ وَالْإِمَامُ أَنَّ شَرْطَ الِاشْتِرَاكِ أَنْ يَكُونُوا بِالْقُرْبِ مُتَرَصِّدِينَ لِلنُّصْرَةِ. وَحَدُّ الْقُرْبِ: أَنْ يَبْلُغَهُمُ الْغَوْثُ وَالْمَدَدُ مِنْهُمْ إِنِ احْتَاجُوا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ لِهَذَا، وَاكْتَفَوْا بِاجْتِمَاعِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

فصل

قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، هُوَ الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا قَرِيبَةً، وَالْأُخْرَى بَعِيدَةً، اخْتَصَّتِ الْقَرِيبَةُ بِالْمُشَارَكَةِ. فَرْعٌ بَعَثَ الْإِمَامُ جَاسُوسًا، فَغَنِمَ الْجَيْشُ قَبْلَ رُجُوعِهِ، شَارَكَهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ الدَّارَكِيُّ؛ لِأَنَّهُ فَارَقَهُمْ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَخَاطَرَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ شُهُودِ الْوَقْعَةِ. فَصْلٌ إِذَا شَهِدَ الْأَجِيرُ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ الْوَقْعَةَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لِعَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ تَعْيِينِ مُدَّةٍ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَبِنَاءِ حَائِطٍ، اسْتَحَقَّ السَّهْمَ قَطْعًا. وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، بِأَنِ اسْتَأْجَرَهُ لِسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ وَحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ شَهْرًا، فَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَلَا سَهْمَ لَهُ، وَإِنْ قَاتَلَ؛ فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَأَطْلَقَ الْمَسْعُودِيُّ وَآخَرُونَ الْأَقْوَالَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يُقَاتِلَ، أَوْ لَا. وَكَذَلِكَ أَطْلَقَهَا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ. أَظْهَرُهَا: لَهُ السَّهْمُ؛ لِحُضُورِ الْوَقْعَةِ. وَالثَّانِي: لَا. وَعَلَى هَذَيْنِ، يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِمُقْتَضَى الْإِجَارَةِ. وَالثَّالِثُ: يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأُجْرَةِ وَالسَّهْمِ. فَإِنِ اخْتَارَ الْأُجْرَةَ، فَلَا سَهْمَ. وَإِنِ اخْتَارَ السَّهْمَ، فَلَا أُجْرَةَ. قَالَ صَاحِبُ ((الْإِفْصَاحِ)) : هَذَا الثَّالِثُ هُوَ فِيمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ لِسَقْيِ الْغُزَاةِ وَحِفْظِ دَوَابِّهِمْ مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَيُخَيِّرُهُ الْإِمَامُ، أَمَّا أَجِيرُ آحَادِ النَّاسِ فَلَا يَجِيءُ فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَارِي بَيْنَهُمَا صُورَةَ جُعَالَةٍ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ:

يَجْرِي الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي كُلِّ أَجِيرٍ، كَمَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْإِجَارَةِ لَا يَخْتَلِفُ. ثُمَّ عَلَى الثَّالِثِ، إِذَا اخْتَارَ السَّهْمَ، فَفِيمَا يَسْقُطُ مِنَ الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قِسْطُهَا مِنْ وَقْتِ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ. وَأَصَحُّهُمَا: مِنْ وَقْتِ شُهُودِ الْوَقْعَةِ. وَأَمَّا وَقْتُ تَخْيِيرِهِ، فَنُقِلَ فِي ((الشَّامِلِ)) عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُخَيِّرُ، إِمَّا قَبْلَ الْقِتَالِ، وَإِمَّا بَعْدَهُ. فَيُقَالُ قَبْلَهُ: إِنْ أَرَدْتَ الْقِتَالَ، فَاطْرَحِ الْأُجْرَةَ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْأُجْرَةَ فَاطْرَحِ الْجِهَادَ. وَيُقَالُ بَعْدَهُ: إِنْ كُنْتَ قَصَدْتَ الْجِهَادَ، فَلَا أُجْرَةَ لَكَ، وَإِنْ كُنْتَ قَصَدْتَ الْأُجْرَةَ، فَخُذْهَا وَلَا سَهْمَ لَكَ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْصُلُ الْغَرَضُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِلَّا أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا. فَرْعٌ إِذَا أَسْهَمْنَا لِلْأَجِيرِ، فَلَهُ السَّلَبُ إِذَا قَتَلَ. وَإِنْ لَمْ نُسْهِمْ، فَوَجْهَانِ. وَعَلَى هَذَا، يَرْضَخُ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ كَالْعَبْدِ. وَقِيلَ: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ. فَرْعٌ هَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْأَجِيرِ لِغَيْرِ الْجِهَادِ. فَأَمَّا الْأَجِيرُ لِلْجِهَادِ، فَفِي صِحَّةِ اسْتِئْجَارِ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ كَلَامٌ يَأْتِي فِي ((السِّيَرِ)) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ، فَلَهُ الْأُجْرَةُ، وَلَا سَهْمَ وَلَا رَضْخَ، وَإِلَّا، فَلَا أُجْرَةَ. وَفِي سَهْمِ الْغَنِيمَةِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ؛ لِشُهُودِهِ الْوَقْعَةَ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، قَاتَلَ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ بِالْإِجَارَةِ.

فصل

فَصْلٌ تُجَّارُ الْعَسْكَرِ وَأَهْلُ الْحِرَفِ، كَالْخَيَّاطِينَ، وَالسَّرَّاجِينَ، وَالْبَزَّازِينَ، وَالْبَقَّالِينَ، وَكُلُّ مَنْ خَرَجَ لِغَرَضِ تِجَارَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ، إِذَا شَهِدُوا الْوَقْعَةَ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِمُ السَّهْمَ طُرُقٌ. الْمَذْهَبُ أَنَّهُمْ إِنْ قَاتَلُوا، اسْتَحَقُّوا، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَقِيلَ: بِالِاسْتِحْقَاقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الرُّويَانِيِّ، وَبِالْمَنْعِ مُطْلَقًا. وَإِذَا لَمْ نُسْهِمْ لَهُمْ، فَلَهُمُ الرَّضْخُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ إِذَا أَفْلَتَ أَسِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ، وَشَهِدَ الْوَقْعَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ هَذَا الْجَيْشِ، اسْتَحَقَّ السَّهْمَ، قَاتَلَ، أَمْ لَا؟ وَإِنْ أُسِرَ مِنْ جَيْشٍ آخَرَ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ لِشُهُودِهِ الْوَقْعَةَ أَمْ لَا لِعَدَمِ قَصْدِهِ الْجِهَادَ؟ قَوْلَانِ. ثُمَّ قِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، قَاتَلَ، أَمْ لَا. وَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ فِي ((الْمُخْتَصَرِ)) أَنَّهُمَا إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ، فَإِنْ قَاتَلَ، اسْتَحَقَّ قَطْعًا. هَذَا إِذَا أَفْلَتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَحِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ. فَإِنْ أَفْلَتَ بَعْدَ الْحَرْبِ وَقَبْلَ الْحِيَازَةِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي لُحُوقِ الْمَدَدِ. وَإِنْ أَفْلَتَ بَعْدَ الْحِيَازَةِ، قَالَ فِي ((الشَّامِلِ)) : إِنْ قُلْنَا: تُمْلَكُ الْغَنِيمَةُ بِالْحِيَازَةِ، فَلَا سَهْمَ لَهُ، وَإِلَّا، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَفْلَتَ قَبْلَ الْحِيَازَةِ وَلَمْ يُقَاتِلْ. وَإِذَا لَمْ يُسْهِمْ لَهُ، فَفِي الرَّضْخِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. فَصْلٌ أَسْلَمَ كَافِرٌ، وَالْتَحَقَ بِجَيْشِ الْإِسْلَامِ، فَشَهِدَ الْوَقْعَةَ، يُسْهَمُ لَهُ إِنْ قَاتَلَ قَطْعًا،

فصل

وَكَذَا إِنْ لَمْ يُقَاتِلْ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إِعْلَاءَ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَشَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَفِي ((الرَّقْمِ)) لِلْعَبَّادِيِّ: أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ. فَصْلٌ سَبَقَ أَنِ الْغَنِيمَةَ يُبْدَأُ مِنْهَا بِالسَّلَبِ وَالْمُؤَنِ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي خَمْسَةَ أَقْسَامٍ، وَيُجْعَلُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ، فَيُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُفَضَّلُ بَعْضُهُمْ إِلَّا بِشَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: النُّقْصَانُ الْمُقْتَضِي لِلرَّضْخِ، تَفْرِيعًا عَلَى الْأَظْهَرِ: أَنَّهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَارِسَ يُفَضَّلُ عَلَى الرَّاجِلِ، فَيُعْطَى الْفَارِسُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمًا لَهُ، وَيُعْطَى الرَّاجِلُ سَهْمًا. وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: رَاكِبُ الْبَعِيرِ، وَالْفِيلِ، وَالْحِمَارِ، وَالْبَغْلِ، لَا يَلْحَقُ بِالْفَارِسِ، لَكِنْ يُعْطَى الرَّاكِبُ سَهْمَهُ، وَيُرْضَخُ لِهَذِهِ الدَّوَابِّ، وَيَكُونُ رَضْخُ الْفِيلِ أَكْثَرَ مِنْ رَضْخِ الْبَغْلِ، وَرَضْخُ الْبَغْلِ أَكْثَرَ مِنْ رَضْخِ الْحِمَارِ، وَلَا يَبْلُغُ رَضْخُهَا سَهْمَ فَرَسٍ، وَيُرْضَخُ لِلصَّبِيِّ وَالذِّمِّيِّ الْفَارِسَيْنِ أَكْثَرَ مِمَّا يُرْضَخُ لَوْ كَانَا رَاجِلَيْنِ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: سَوَاءٌ فِي الْخَيْلِ الْعَتِيقُ، وَهُوَ الَّذِي أَبَوَاهُ عَرَبِيَّانِ، وَالْبِرْذَوْنُ، وَهُوَ الَّذِي أَبَوَاهُ أَعْجَمِيَّانِ، وَالْهَجِينُ، وَهُوَ الَّذِي أَبُوهُ عَرَبِيٌّ وَأُمُّهُ عَجَمِيَّةٌ، وَالْمُقْرِفُ، وَهُوَ الَّذِي أَبُوهُ عَجَمِيٌّ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ يَقَعُ مِنْهَا كُلِّهَا، وَلَا يَضُرُّ تَفَاوُتُهَا، كَالرِّجَالِ. وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ: لَا يُسْهَمُ لِلْبِرْذَوْنِ، بَلْ يُرْضَخُ لَهُ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: لِيَتَعَهَّدِ الْإِمَامُ الْخَيْلَ إِذَا أَرَادَ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يُدْخِلُ إِلَّا فَرَسًا شَدِيدًا، وَلَا يُدْخِلُ حَطْمًا، وَهُوَ الْكَسِيرُ، وَلَا قَحْمًا، وَهُوَ الْهَرِمُ، وَلَا ضَرَعًا، وَهُوَ الصَّغِيرُ الضَّعِيفُ، وَلَا أَعْجَفَ رَازِحًا. وَالْأَعْجَفُ: الْمَهْزُولُ. وَالرَّازِحُ: هُوَ بَيِّنُ الْهُزَالِ.

قُلْتُ: الْقَحْمُ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالضَّرَعُ، بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْضًا، وَالرَّازِحُ، بِالرَّاءِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ زَايٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ، وَضُبِطَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ؛ لِأَنَّهَا فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَكُتُبِ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَرَأَيْتُ مَنْ صَحَّفَهَا فَأَرَدْتُ السَّلَامَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ أَدْخَلَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْهَا، نُظِرَ إِنْ نَهَى الْإِمَامُ عَنْ إِدْخَالِهِ وَبَلَغَهُ النَّهْيُ، لَمْ يُسْهِمْ لِفَرَسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْهَ، أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يُسْهِمُ لَهُ كَالشَّيْخِ الضَّعِيفِ. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، بَلْ هُوَ كُلٌّ، بِخِلَافِ الشَّيْخِ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ وَدُعَائِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، بَلِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَمْكَنَ الْقِتَالُ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي إِذَا لَمْ يُمْكِنْ. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: مَنْ حَضَرَ بِفَرَسَيْنِ، لَمْ يُسْهِمْ إِلَّا لِوَاحِدٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ قَوْلًا أَنَّهُ يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ وَلَا يُزَادُ. [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ: يُسْهِمُ لِلْفَرَسِ الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، فَيَكُونُ السَّهْمُ لِلْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لِلْمُعِيرِ. وَأَمَّا الْفَرَسُ الْمَغْصُوبُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُسْهِمُ لَهُ، وَيَكُونُ سَهْمُهُ لِلْغَاصِبِ. وَقِيلَ: لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَقِيلَ: لَا يُسْهِمُ لَهُ؛ لِأَنَّ إِحْضَارَهُ حَرَامٌ، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ. [الْمَسْأَلَةُ] السَّادِسَةُ: إِذَا كَانَ الْقِتَالُ فِي مَاءٍ أَوْ حِصْنٍ وَقَدْ أَحْضَرَ فَرَسَهُ، أَسْهَمَ لِفَرَسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى الرُّكُوبِ، نُصَّ عَلَيْهِ، وَحَمَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَلَى مَا إِذَا كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنَ السَّاحِلِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ يَخْرُجُ وَيُرْكَبُ. فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ الْحَالُ الْخُرُوجَ، فَلَا مَعْنَى لِإِعْطَاءِ سَهْمِ الْفَرَسِ. [الْمَسْأَلَةُ] السَّابِعَةُ: حَضَرَ اثْنَانِ بِفَرَسٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، فَهَلْ يُعْطَى كُلٌّ مِنْهُمَا سَهْمَ فَرَسٍ؛

لِأَنَّ مَعَهُ فَرَسًا قَدْ يَرْكَبُهُ، أَمْ يُعْطَيَانِ سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدٍ مُنَاصَفَةً، أَمْ لَا يُعْطَيَانِ لِلْفَرَسِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِفَرَسٍ تَامٍّ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. قُلْتُ: لَعَلَّ الْأَصَحَّ الْمُنَاصَفَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ رَكِبَ اثْنَانِ فَرَسًا، وَشَهِدَا الْوَقْعَةَ، فَهَلْ لَهُمَا سِتَّةُ أَسْهُمٍ لِأَنَّهُمَا فَارِسَانِ؟ أَمْ سَهْمَانِ لِأَنَّهُمَا رَاجِلَانِ لِتَعَذُّرِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ؟ أَمْ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، سَهْمَانِ لَهُمَا وَسَهْمَانِ لِلْفَرَسِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قُلْتُ: اخْتَارَ ابْنُ كَجٍّ فِي التَّجْرِيدِ وَجْهًا رَابِعًا حَسَنًا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِيهِ قُوَّةُ الْكَرِّ وَالْفَرِّ مَعَ رُكُوبِهِمَا، فَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَإِلَّا، فَسَهْمَانِ. وَمِنْ مَسَائِلِ الْبَابِ: لَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا، ثُمَّ حَصَّلَ فَرَسًا بِبَيْعٍ أَوْ إِعَارَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَحَضَرَ بِهِ الْحَرْبَ، أُسْهِمَ لَهُ. قَالَ صَاحِبُ ((الْعُدَّةِ)) : وَلَوْ حَضَرَ فَارِسًا، فَضَاعَ فَرَسُهُ، فَأَخَذَهُ رَجُلٌ وَقَاتَلَ عَلَيْهِ، فَأَسْهَمَ الْمُقَاتِلُ [لَهُ] وَلِلْفَرَسِ، كَانَ سَهْمَا الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَفَرَسُهُ حَاضِرٌ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ اخْتِيَارُ إِزَالَةِ يَدٍ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلَيْهِ، وَيُفَارِقُ الْمَغْصُوبَ حَيْثُ قُلْنَا: سَهْمُ الْفَرَسِ لِلْغَاصِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ. وَمِنْهَا: الْأَعْمَى، وَالزَّمِنُ، وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُمْ، لَكِنْ يُرْضَخُ. وَحَكَى الْجُرْجَانِيُّ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ السَّهْمَ قَوْلَيْنِ. وَلَوْ شَرَطَ الْإِمَامُ لِلْجَيْشِ أَنْ لَا يُخَمِّسَ عَلَيْهِمْ، فَشَرْطُهُ بَاطِلٌ، وَيَجِبُ تَخْمِيسُ مَا غَنِمُوا، وَسَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ، أَمْ لَا. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا: أَنَّهُ

إِنْ شَرَطَهُ لِضَرُورَةٍ، لَمْ يُخَمِّسْ، وَهَذَا شَاذٌّ بَاطِلٌ. وَلَوْ غَزَتْ طَائِفَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ فَغَنِمَتْ، خَمَّسَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يُخَمِّسُ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَلَوْ كَانَ مَعَهُ فَرَسٌ فَلَمْ يَرْكَبْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَمْ يُسْهِمْ لَهُ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ: وَلَوْ عَلِمَ بِهِ وَلَمْ يَرْكَبْهُ بِحَالٍ، فَلَا سَهْمَ لَهُ. قَالَ: وَعِنْدِي يُسْهِمُ لَهُ إِذَا كَانَ يُمْكِنُهُ رُكُوبُهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تَمَّ - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ - الْجُزْءُ السَّادِسُ مِنْ كِتَابِ رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ وَعُمْدَةِ الْمُفْتِينَ لِلْإِمَامِ النَّوَوِيِّ، وَيَلِيهِ الْجُزْءُ السَّابِعُ، وَأَوَّلُهُ كِتَابُ النِّكَاحِ

كتاب النكاح

كِتَابُ النِّكَاحِ وَفِيهِ أَبْوَابٌ. [الْبَابُ الْأَوَّلُ] فِي خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: هِيَ أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: مَا اخْتَصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ زِيَادَةُ الزُّلْفَى وَالدَّرَجَاتِ، فَلَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هُنَا: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: الْفَرِيضَةُ يَزِيدُ ثَوَابُهَا عَلَى ثَوَابِ النَّافِلَةِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً، وَاسْتَأْنَسُوا فِيهِ بِحَدِيثٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَمِنْ ذَلِكَ، صَلَاةُ الضُّحَى، وَمِنْهُ الْأُضْحِيَّةُ، وَالْوِتْرُ، وَالتَّهَجُّدُ، وَالسِّوَاكُ، وَالْمُشَاوَرَةُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْخَمْسَةِ. وَالْأَرْجَحُ: أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ التَّهَجُّدِ. قُلْتُ: جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، عَلَى أَنَّ التَّهَجُّدَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْقَفَّالُ: وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي اللَّيْلِ وَإِنْ قَلَّ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَصَّ عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا نُسِخَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ. وَفِي

(صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَكَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِذَا رَأَى مُنْكَرًا أَنْ يُغَيِّرَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالْعِصْمَةِ. قُلْتُ: قَدْ يُقَالُ: هَذَا لَيْسَ مِنَ الْخَصَائِصِ، بَلْ كُلُّ مُكَلَّفٍ تَمَكَّنَ مِنْ إِزَالَتِهِ، لَزِمَهُ تَغْيِيرُهُ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ لِلْخَوْفِ، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَكَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ. وَكَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُعْسِرًا. وَقِيلَ: كَانَ يَقْضِيهِ تَكَرُّمًا. وَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ دَيْنِ الْمُعْسِرِ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ، وَجْهَانِ. وَقِيلَ: كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ. وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْيِيرَ نِسَائِهِ بَيْنَ مُفَارَقَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَمَّا خَيَّرَهُنَّ، اخْتَرْنَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّزْوِيجَ عَلَيْهِنَّ وَالتَّبَدُّلَ بِهِنَّ مُكَافَأَةً لَهُنَّ عَلَى حُسْنِ صَنِيعِهِنَّ، فَقَالَ تَعَالَى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ) [الْأَحْزَابِ: 52] ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ لِتَكُونَ الْمِنَّةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَرْكِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) [الْأَحْزَابِ: 50]

وَهَلْ حُرِّمَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَاقُهُنَّ بَعْدَمَا اخْتَرْنَهُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: يَحْرُمُ عَقِيبَ اخْتِيَارِهِنَّ، وَلَا يَحْرُمُ إِنِ انْفَصَلَ. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ اخْتَارَتِ الدُّنْيَا، فَهَلْ كَانَ يَحْصُلُ الْفِرَاقُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَهَلْ كَانَ جَوَابُهُنَّ مَشْرُوطًا بِالْفَوْرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. فَإِنْ قُلْنَا بِالْفَوْرِ، فَهَلْ كَانَ يَمْتَدُّ بِامْتِدَادِ الْمَجْلِسِ، أَمِ الْمُعْتَبَرُ مَا يُعَدُّ جَوَابًا فِي الْعُرْفِ؟ وَجْهَانِ. وَهَلْ كَانَ قَوْلُهَا: اخْتَرْتُ نَفْسِي، صَرِيحًا فِي الْفِرَاقِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَهَلْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّزْوِيجُ بِهَا بَعْدَ الْفِرَاقِ؟ وَجْهَانِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهِيَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمُحَرَّمَاتُ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ، فَمِنْهَا الزَّكَاةُ، وَكَذَا الصَّدَقَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَأَمَّا الْأَكْلُ مُتَّكِئًا، وَأَكْلُ الثَّوْمِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ، فَكَانَتْ مَكْرُوهَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: مُحَرَّمَةً. وَمِمَّا عُدَّ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، الْخَطُّ وَالشِّعْرُ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا مِمَّنْ يَقُولُ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحْسِنُهُمَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: كَانَ يُحْسِنُهُمَا لَكِنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُمَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَانَ لَا يُحْسِنُهُمَا. قُلْتُ: وَلَا يَمْتَنِعُ تَحْرِيمُهُمَا وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهُمَا. وَالْمُرَادُ تَحْرِيمُ التَّوَصُّلِ إِلَيْهِمَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِذَا لَبِسَ لَامَتَهُ أَنْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَلْقَى الْعَدُوَّ وَيُقَاتِلَ، وَقِيلَ: كَانَ مَكْرُوهًا لَا مُحَرَّمًا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَقِيلَ: بِنَاءً عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَبْتَدِئُ تَطَوُّعًا إِلَّا لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ. وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدُّ الْعَيْنِ إِلَى مَا مُتِّعَ بِهِ النَّاسُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ خَائِنَةُ

الْأَعْيُنِ، وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى مُبَاحٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ، عَلَى خِلَافِ مَا يُظْهِرُهُ وَيُشْعِرُ بِهِ الْحَالُ. وَقَالَ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْدَعَ فِي الْحَرْبِ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ. وَفِي الْجُرْجَانِيَّاتِ ذَكَرَ وَجْهَيْنِ، فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ وَهَلْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ وُجُودِ الضَّامِنِ؟ قُلْتُ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِجَوَازِهِ مَعَ الضَّامِنِ، ثُمَّ نُسِخَ التَّحْرِيمُ، فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا ضَامِنَ لَهُ، وَيُوَفِّيهُ مِنْ عِنْدِهِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُصَرِّحَةٌ بِمَا ذَكَرْتُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُحَرَّمَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنِّكَاحِ. فَمِنْهَا: إِمْسَاكُ مَنْ كَرِهَتْ نِكَاحَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ يُفَارِقُهَا تَكَرُّمًا. وَمِنْهَا: نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَالْإِصْطَخْرِيُّ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي التَّسَرِّي بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ وَنِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ فِي التَّسَرِّي بِالْكِتَابِيَّةِ، الْحِلُّ. وَفِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ، التَّحْرِيمُ. قَالُوا: وَلَوْ قُدِّرَ نِكَاحُ أَمَةٍ، كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا حُرًّا عَلَى الصَّحِيحِ مَعَ تَجْوِيزِنَا جَرَيَانَ الرِّقِّ عَلَى الْعَرَبِ. وَفِي لُزُومِ قِيمَةِ هَذَا الْوَلَدِ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: نَعَمْ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ الرِّقَّ بِظَنِّهِ، وَهُنَا الرِّقُّ مُتَعَذِّرٌ. وَأَمَّا الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ، فَكَانَ نِكَاحُهَا مُحَرَّمًا عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَطَرَدَ الْحَنَّاطِيُّ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ.

الضَّرْبُ الثَّالِثُ: التَّخْفِيفَاتُ وَالْمُبَاحَاتُ. وَمَا أُبِيحَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ غَيْرِهِ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِ النِّكَاحِ، فَمِنْهُ الْوِصَالُ فِي الصَّوْمِ، وَاصْطِفَاءُ مَا يَخْتَارُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ جَارِيَةٍ وَغَيْرِهَا، وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْمُخْتَارِ: الصَّفِيُّ وَالصَّفِيَّةُ، وَالْجَمْعُ: الصَّفَايَا. وَمِنْهُ، خُمْسُ خُمْسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، وَدُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، نَقَلَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ، أَنَّهُ لَا يُورَثُ مَالُهُ. ثُمَّ حَكَى الْإِمَامُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا تَرَكَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ كَمَا كَانَ يُنْفِقُ فِي حَيَاتِهِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَالثَّانِي: أَنَّ سَبِيلَ مَا خَلَّفَهُ سَبِيلُ الصَّدَقَاتِ، وَبِهَذَا قَطَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ فِي (الْجُرْجَانِيَّاتِ) . ثُمَّ حَكَى وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ وَقْفًا عَلَى وَرَثَتِهِ؟ وَأَنَّهُ إِذَا صَارَ وَقْفًا، هَلْ هُوَ لِلْوَاقِفِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: كُلُّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّ مَا تَرَكَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَرَثَةُ. وَكَيْفَ يَصِحُّ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ) ؟ فَهَذَا نَصٌّ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَهَذِهِ الْخَصْلَةُ، عَدَّهَا الْغَزَالِيُّ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَعَدَّهَا الْأَكْثَرُونَ مِنَ الضَّرْبِ الرَّابِعِ. وَمِنْهُ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ، وَفِي غَيْرِهِ خِلَافٌ. وَأَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ، وَأَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ،

وَأَنْ يَحْمِيَ الْمَوَاتَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَأْخُذَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مِنْ مَالِكِهِمَا الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِمَا إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِمَا، وَعَلَى صَاحِبِهِمَا الْبَذْلُ، وَيَفْدِي بِمُهْجَتِهِ مُهْجَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) . [الْأَحْزَابِ: 6] قُلْتُ: وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْفُورَانِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّهُ لَوْ قَصَدَهُ ظَالِمٌ، وَجَبَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ دُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَكَانَ لَا يُنْتَقَضُ وَضُوؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّوْمِ مُضْطَجِعًا، وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ فِيهِ وَجْهًا غَرِيبًا ضَعِيفًا، وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِي انْتِقَاضِ طُهْرِهِ بِاللَّمْسِ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ الْجَزْمُ بِانْتِقَاضِهِ بِاللَّمْسِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَحَكَى أَيْضًا صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) : أَنَّهُ كَانَ يَحِلُّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُخُولُ الْمَسْجِدِ جُنُبًا، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ الْقَفَّالُ لَهُ، بَلْ قَالَ: لَا أَظُنُّهُ صَحِيحًا. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) ، قَدْ يُحْتَجُّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (الْخُدْرِيِّ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا عَلِيُّ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ، مَعْنَاهُ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَسْتَطْرِقُهُ جُنُبَا غَيْرِي وَغَيْرُكُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي قَالَهُ ضِرَارٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) هُوَ لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ قَالَهُ، وَإِلَى أَيِّ أَصْلٍ أَسْنَدَهُ. قَالَ: فَالْوَجْهُ: الْقَطْعُ بِتَخْطِئَتِهِ، وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَعْلَمِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَكِنْ قَدْ يَقْدَحُ قَادِحٌ فِي الْحَدِيثِ بِسَبَبِ عَطِيَّةَ، فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ، لَكِنْ قَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَلَعَلَّهُ اعْتَضَدَ بِمَا اقْتَضَى حُسْنَهُ

كَمَا نُقَرِّرُ لِأَهْلِ هَذَا الْفَنِّ، فَظَهَرَ تَرْجِيحُ قَوْلِ صَاحِبِ (التَّلْخِيصِ) . وَاعْلَمْ أَنَّ مُعْظَمَ هَذِهِ الْمُبَاحَاتِ، لَمْ يَفْعَلْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً لَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُتَعَلِّقُ بِالنِّكَاحِ، فَمِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا فِي تِسْعٍ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا، وَيَنْحَصِرُ طَلَاقُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الثَّلَاثِ، وَيَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ - بِلَفْظِ الْهِبَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا. وَإِذَا انْعَقَدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ بِالْعَقْدِ وَلَا بِالدُّخُولِ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظُ النِّكَاحِ مِنْ جِهَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْنَى الْهِبَةِ، حَتَّى لَا يَجِبَ الْمَهْرُ ابْتِدَاءً وَلَا انْتِهَاءً، وَفِي (الْمُجَرَّدِ) لِلْحَنَّاطِيِّ وَغَيْرِهِ وَجْهٌ غَرِيبٌ: أَنَّهُ يَجِبُ الْمَهْرُ. وَمِنْهُ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ رَغِبَ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ خَلِيَّةً، لَزِمَهَا الْإِجَابَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ خِطْبَتُهَا. وَإِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً، وَجَبَ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقُهَا لِيَنْكِحَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَمِنْهُ انْعِقَادُ نِكَاحِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، وَفِي حَالِ

الْإِحْرَامِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْجَمِيعِ. وَفِي وُجُوبِ الْقَسْمِ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ، وَجْهَانِ. قَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: لَا. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَالْبَغَوِيِّ: الْوُجُوبُ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَخَوَاتِهَا، تَتَخَرَّجُ عَلَى أَصْلٍ اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَصْحَابُ، وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَلْ هُوَ كَالتَّسَرِّي فِي حَقِّنَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، لَمْ يَنْحَصِرْ عَدَدُ الْمَنْكُوحَاتِ وَالطَّلَاقِ، وَانْعَقَدَ بِالْهِبَةِ وَمَعْنَاهَا، وَبِلَا وَلِيٍّ وَشُهُودٍ، وَفِي الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يَجِبِ الْقَسْمُ، وَإِلَّا انْعَكَسَ الْحُكْمُ. وَكَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ مِمَّنْ شَاءَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَلَا إِذَنِ وَلِيِّهَا، وَتَزَوُّجُهَا لِنَفْسِهِ، وَتَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَ [لَا] إِذْنِ وَلِيِّهَا. قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَحِلُّ بِإِذْنِهَا، وَكَانَ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَهُوَ غَلَطٌ لَمْ يَذْكُرْهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، وَغَلَّطُوا مَنْ ذَكَرَهُ. بَلِ الصَّوَابُ الْقَطْعُ بِامْتِنَاعِ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَهَلْ كَانَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ زَوْجَاتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْمَهْرِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْوُجُوبُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَحِلُّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَزْوِيجِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ زَيْدٍ: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) [الْأَحْزَابِ: 37] وَقِيلَ: بَلْ نَكَحَهَا بِنَفْسِهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَحْلَلْنَا لَكَ نِكَاحَهَا. وَهَلْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ؟ وَلَمْ يَكُنْ يَحِلُّ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا وَأُمِّهَا وَبِنْتِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. وَأَعْتَقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَعْتَقَهَا وَشَرَطَ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَلَزِمَهَا

الْوَفَاءُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: جَعَلَ نَفْسَ الْعِتْقِ صَدَاقًا، وَجَازَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. قُلْتُ: وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَعْتَقَهَا بِلَا عِوَضٍ، وَتَزَوَّجَهَا بِلَا مَهْرٍ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِيمَا بَعْدُ، وَهَذَا أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَصَّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْإِكْرَامِ، فَمِنْهُ أَنَّ زَوْجَاتِهِ اللَّاتِي تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - مُحَرَّمَاتٌ عَلَى غَيْرِهِ أَبَدًا، وَفِيمَنْ فَارَقَهَا فِي الْحَيَاةِ أَوْجُهٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَحْرُمُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الْأَحْزَابِ: 60] . وَالثَّانِي، يَحِلُّ. وَالثَّالِثُ: يَحْرُمُ الدُّخُولُ بِهَا فَقَطْ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ الصَّحِيحُ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَرْجَحُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِنْ حَرَّمْنَا، فَفِي أَمَةٍ يُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ وَطْئِهَا وَجْهَانِ. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ الْمُخَيَّرَاتِ اخْتَارَتِ الْفِرَاقَ، فَفِي حِلِّهَا لِغَيْرِهِ طَرِيقَانِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: فِيهَا الْأَوْجُهُ، وَقَطَعَ أَبُو يَعْقُوبَ الْأَبِيوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ بِالْحِلِّ، لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ التَّخْيِيرِ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ. وَمِنْهُ، أَنَّ أَزْوَاجَهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، سَوَاءٌ مَنْ مَاتَتْ تَحْتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ تَحْتَهُ، وَذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِهِنَّ وَوُجُوبِ احْتِرَامِهِنَّ وَطَاعَتِهِنَّ، لَا فِي النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ، وَلَا يُقَالُ: بَنَاتُهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا آبَاؤُهُنَّ وَأُمَّهَاتُهُنَّ أَجْدَادُ وَجَدَّاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا إِخْوَتُهُنَّ وَأَخَوَاتُهُنَّ أَخْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ وَخَالَاتُهُمْ. وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ وَجْهًا أَنَّهُ يُطْلَقُ اسْمُ الْأُخُوَّةِ عَلَى بَنَاتِهِنَّ، وَاسْمُ الْخُئُولَةِ عَلَى إِخْوَتِهِنَّ وَأَخَوَاتِهِنَّ، لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْأُمُومَةِ لَهُنَّ، وَهَذَا ظَاهِرُ لَفْظِ (الْمُخْتَصَرِ) . قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: كُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، رُوِيَ ذَلِكَ

عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَهَذَا جَارٍ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَدْخُلْنَ فِي خِطَابِ الرِّجَالِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ خِلَافًا فِي كَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَدْخَلَهُنَّ فِي خِطَابِ الرِّجَالِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ أَبُو الْمُؤْمِنِينَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) [الْأَحْزَابِ: 40] قَالَ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ أَبُو الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: فِي الْحُرْمَةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَدَ صُلْبِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهُ، تَفْضِيلُ زَوْجَاتِهِ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ، وَجُعِلَ ثَوَابُهُنَّ وَعِقَابُهُنَّ مُضَاعَفًا، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَسْأَلَهُنَّ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ غَيْرَهُنَّ مُشَافَهَةً. قُلْتُ: وَأَفْضَلُ زَوْجَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خَدِيجَةُ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَاخْتَلَفُوا أَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهُ، فِي غَيْرِ النِّكَاحِ، أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَشَرِيعَتُهُ مُؤَبَّدَةٌ وَنَاسِخَةٌ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَكِتَابُهُ مُعْجِزٌ مَحْفُوظٌ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، وَأُقِيمَ بَعْدَهُ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ، وَمُعْجِزَاتُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ

انْقَرَضَتْ، وَنُصِرَ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لَهُ الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَتُرَابُهَا طَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ، وَيُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ. قُلْتُ: هَذِهِ الْعِبَارَةُ نَاقِصَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ شَفَاعَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا لَيْسَتِ الشَّفَاعَةَ فِي مُطْلَقِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، فَإِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقِيَامَةِ شَفَاعَاتٍ خَمْسًا. أُولَاهُنَّ: الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ حِينَ يَفْزَعُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ. وَالثَّانِيَةُ: فِي جَمَاعَةٍ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَالثَّالِثَةُ: فِي نَاسٍ اسْتَحَقُّوا دُخُولَ النَّارِ فَلَا يَدْخُلُونَهَا. وَالرَّابِعَةُ: فِي نَاسٍ دَخَلُوا النَّارَ، فَيَخْرُجُونَ. وَالْخَامِسَةُ: فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ نَاسٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ (كُلَّهُ) فِي (كِتَابِ الْإِيمَانِ) مِنْ أَوَّلِ شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالشَّفَاعَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هِيَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّالِثَةَ وَالْخَامِسَةَ أَيْضًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَبُعِثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ أَتْبَاعًا، وَأُمَّتُهُ مَعْصُومَةٌ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَصُفُوفُهُمْ كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ. وَكَانَ لَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَيَرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ كَمَا يَرَى مِنْ قُدَّامِهِ، وَتُطَوُّعُهُ بِالصَّلَاةِ قَاعِدًا كَتَطَوُّعِهِ قَائِمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ ثَوَابُ الْقَاعِدِ النِّصْفُ.

قُلْتُ: هَذَا قَدْ قَالَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) ، وَتَابَعَهُ الْبَغَوِيُّ، وَأَنْكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ هَذَا، بَلْ هُوَ كَغَيْرِهِ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَقُلْتُ: حَدَّثْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ قُلْتَ: صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى نِصْفِ الصَّلَاةِ» وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا: قَالَ: «أَجَلْ وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُخَاطِبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُصَلِّي بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَلَا يُخَاطِبُ سَائِرَ النَّاسِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ رَفْعُ صَوْتِهِ فَوْقَ صَوْتِهِ، وَلَا أَنْ يُنَادِيَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ، وَلَا أَنْ يُنَادِيَهُ بِاسْمِهِ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، بَلْ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي إِذَا دَعَاهُ، أَنْ يُجِيبَهُ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَكَانَ يُتَبَرَّكُ وَيُسْتَشْفَى بِبَوْلِهِ وَدَمِهِ، وَمَنْ زَنَا بِحَضْرَتِهِ أَوِ اسْتَهَانَ بِهِ، كُفِّرَ. قُلْتُ: فِي الزِّنَا، نَظَرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَوْلَادُ بَنَاتِهِ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ، وَأَوْلَادُ بَنَاتِ غَيْرِهِ، لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ فِي الْكَفَاءَةِ وَغَيْرِهَا.

قُلْتُ: كَذَا قَالَ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) وَأَنْكَرَهُ الْقَفَّالُ وَقَالَ: لَا اخْتِصَاصَ فِي انْتِسَابِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ «سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي» قِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ أُمَّتَهُ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأُمَمُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: يُنْتَفَعُ يَوْمَئِذٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِسَائِرِ الْأَنْسَابِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَسَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتَنِيَ بِأَبِي الْقَاسِمِ، سَوَاءً كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا، أَمْ لَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كَرَاهَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْكُنْيَةِ، وَجَوَّزَ الْإِفْرَادَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصَحَّ، لِأَنَّ النَّاسَ مَا زَالُوا يَكْتَنُونَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي تَأَوَّلَهُ الرَّافِعِيُّ وَاسْتَبْدَلَ بِهِ فِيهِمَا، ضَعِيفٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ. وَالثَّانِي: مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ لِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَلِغَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ لِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ دُونَ غَيْرِهِ. وَمَنْ جَوَّزَ مُطْلَقًا، جَعَلَ النَّهْيَ مُخْتَصًّا بِحَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ سَبَبِ النَّهْيِ، وَأَنَّ الْيَهُودَ تَكَنَّوْا بِهِ، وَكَانُوا يُنَادَوْنَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَإِذَا الْتَفَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: لَمْ نَعْنِكَ، إِظْهَارًا لِلْإِيذَاءِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ

الْمَعْنَى، وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَقْرَبُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ وَكِتَابِ الْأَسْمَاءِ. وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الضَّرْبِ، أَنَّ شَعْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَاهِرٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ نَجَّسْنَا شَعْرَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ بَوْلَهُ وَدَمَهُ وَسَائِرَ فَضَلَاتِهِ طَاهِرَةٌ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا سَبَقَ، وَأَنَّ الْهَدِيَّةَ لَهُ حَلَالٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ مِنْ رَعَايَاهُمْ. وَأُعْطِي جَوَامِعَ الْكَلِمِ. وَمِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) وَالْقَفَّالُ قَالَا: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْخَذُ عَنِ الدُّنْيَا عِنْدَ تَلَقِّي الْوَحْيِ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ وَلَا غَيْرُهَا. وَفَاتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَقَضَاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ وَاظَبَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ. وَفِي اخْتِصَاصِهِ بِهَذِهِ الْمُدَاوَمَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاخْتِصَاصُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجُنُونُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاحْتِلَامِ، وَالْأَشْهَرُ امْتِنَاعُهُ. وَمِنْهَا، أَنَّهُ مَنْ رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآهُ حَقًّا. وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَعْمَلُ بِمَا يَسْمَعُهُ الرَّائِي مِنْهُ فِي الْمَنَامِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، لِعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي، لَا لِلشَّكِّ فِي الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّ الْخَبَرَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مِنْ ضَابِطٍ مُكَلَّفٍ، وَالنَّائِمُ بِخِلَافِهِ. وَمِنْهَا، أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ» . فَالْكَذِبُ عَمْدًا عَلَيْهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَا يَكْفُرُ فَاعِلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: هُوَ كُفْرٌ. وَلْنَخْتِمِ الْبَابَ بِكَلَامَيْنِ. أَحَدُهُمَا: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: ذِكْرُ الِاخْتِلَافُ فِي مَسَائِلِ الْخَصَائِصِ خَبْطٌ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ نَاجِزٌ تَمَسُّ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَإِنَّمَا يَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَا نَجِدُ بُدًّا مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ فِيهِ، فَإِنَّ الْأَقْيِسَةَ لَا مَجَالَ لَهَا، وَالْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ تُتْبَعُ فِيهَا النُّصُوصُ، وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ، فَتَقْدِيرُ اخْتِيَارٍ فِيهِ، هُجُومٌ عَلَى الْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. وَالْكَلَامُ الثَّانِي: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: مَنَعَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ الْكَلَامَ فِي الْخَصَائِصِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ انْقَضَى، فَلَا مَعْنَى لِلْكَلَامِ فِيهِ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ، فَهَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ، وَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ ذَلِكَ، بَلْ بِاسْتِحْبَابِهِ. بَلْ لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ، لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا رَأَى جَاهِلٌ بَعْضَ الْخَصَائِصِ ثَابِتَةً فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَعَمِلَ بِهِ أَخْذًا بِأَصْلِ التَّأَسِّي، فَوَجَبَ بَيَانُهَا

لِتُعْرَفَ فَلَا يُعْمَلَ بِهَا، وَأَيُّ فَائِدَةٍ أَهَمُّ مِنْ هَذِهِ؟ وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي ضِمْنِ الْخَصَائِصِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ الْيَوْمَ، فَقَلِيلٌ لَا تَخْلُو أَبْوَابُ الْفِقْهِ عَنْ مِثْلِهِ لِلتَّدَرُّبِ وَمَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ وَتَحْقِيقِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْبَابُ الثَّانِي فِي مُقَدِّمَاتِ النِّكَاحِ وَفِيهِ فُصُولٌ. [الْفَصْلُ] الْأَوَّلُ: فِيمَنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ النِّكَاحُ: النَّاسُ ضَرْبَانِ، تَائِقٌ إِلَى النِّكَاحِ، وَغَيْرُهُ. فَالتَّائِقُ، إِنْ وَجَدَ أُهْبَةَ النِّكَاحِ، اسْتُحِبَّ لَهُ، سَوَاءً كَانَ مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ، أَمْ لَا. وَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ وَيَكْسِرَ شَهْوَتَهُ بِالصَّوْمِ، فَإِنْ لَمْ تَنْكَسِرْ بِهِ، لَمْ يَكْسِرْهَا بِالْكَافُورِ وَنَحْوِهِ، بَلْ يَتَزَوَّجُ. وَأَمَّا غَيْرُ التَّائِقِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أُهْبَةً، أَوْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ أَوْ عَجْزٌ، بِجَبٍّ أَوْ تَعْنِينٍ أَوْ كِبَرٍ، كُرِهَ لَهُ النِّكَاحُ لِمَا فِيهِ مِنِ الْتِزَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَإِنْ وَجَدَ الْأُهْبَةَ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عِلَّةٌ، لَمْ يُكْرَهْ لَهُ النِّكَاحُ، لَكِنَّ التَّخَلِّيَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَغِلًا بِالْعِبَادَةِ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ، وَأَصَحُّهُمَا: النِّكَاحُ أَفْضَلُ كَيْلَا تُفْضِيَ بِهِ الْبَطَالَةُ وَالْفَرَاغُ إِلَى الْفَوَاحِشِ. وَالثَّانِي: تَرْكُهُ أَفْضَلُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ بِالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ النِّكَاحَ أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ. وَفِي شَرْحِ (مُخْتَصَرِ) الْجُوَيْنِيِّ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِنْ خَافَ الزِّنَا، وَجَبَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالْعِرَاقِ، إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ مِنْهُ أَهْلُ قُطْرٍ، أُجْبِرُوا عَلَيْهِ.

قُلْتُ: الْوَجْهُ الْمَحْكِيُّ عَنْ شَرْحِ الْجُوَيْنِيِّ، لَا يُحَتِّمُ النِّكَاحَ، بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسَرِّي، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْفَصْلُ الثَّانِي: إِذَا أَرَادَ النِّكَاحَ، فَالْبِكْرُ أَوْلَى مِنَ الثَّيِّبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وَالْوَلُودُ أَوْلَى، وَالنَّسِيبَةُ أَوْلَى، وَالَّتِي لَيْسَتْ بِقَرَابَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْلَى، وَذَاتُ الدِّينِ أَوْلَى. قُلْتُ: وَبَعْدَ الدِّينِ، ذَاتُ الْجَمَالِ وَالْعَقْلِ أَوْلَى، وَقَرَابَتُهُ غَيْرُ الْقَرِيبَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ مَنْ مَعَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ لِغَيْرِ الْمَصْلَحَةِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَمَعَهَا وَلَدُ أَبِي سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي شَوَّالٍ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (فِي ذَلِكَ) . وَالْمُسْتَحَبُّ، أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا رَغِبَ فِي نِكَاحِهَا، اسْتُحِبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا لِئَلَّا يَنْدَمَ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُسْتَحَبُّ

هَذَا النَّظَرُ، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِلْأَحَادِيثِ. وَيَجُوزُ تَكْرِيرُ هَذَا النَّظَرِ لِيَتَبَيَّنَ هَيْئَتَهَا، وَسَوَاءٌ النَّظَرُ بِإِذْنِهَا وَبِغَيْرِ إِذْنِهَا. فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرِ النَّظَرُ، بَعَثَ امْرَأَةً تَتَأَمَّلُهَا وَتَصِفُهَا لَهُ، وَالْمَرْأَةُ أَيْضًا تَنْظُرُ إِلَى الرَّجُلِ إِذَا أَرَادَتْ تَزَوُّجَهُ، فَإِنَّهُ يُعْجِبُهَا مِنْهُ مَا يُعْجِبُهُ مِنْهَا، ثُمَّ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهَيْنِ فِي الْمِفْصَلِ الَّذِي بَيْنَ الْكَفِّ وَالْمِعْصَمِ. وَفِي شَرْحِ (مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ) وَجْهٌ: أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا نَظَرَ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيُبَاحُ هَذَا النَّظَرُ وَإِنْ خَافَ الْفِتْنَةَ لِغَرَضِ التَّزَوُّجِ، وَوَقْتُ هَذَا النَّظَرِ، بَعْدَ الْعَزْمِ عَلَى نِكَاحِهَا، وَقَبْلَ الْخِطْبَةِ، لِئَلَّا يَتْرُكَهَا بَعْدَ الْخِطْبَةِ فَيُؤْذِيَهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: يَنْظُرُ حِينَ تَأْذَنُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ. وَقِيلَ: عِنْدَ رُكُونِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ حِينَ تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ.

قُلْتُ: وَإِذَا نَظَرَ فَلَمْ تُعْجِبْهُ، فَلْيَسْكُتْ، وَلَا يَقُلْ: لَا أُرِيدُهَا، لِأَنَّهُ إِيذَاءٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي أَحْكَامِ النَّظَرِ. جَرَتِ الْعَادَةُ بِذِكْرِهِ هُنَا، وَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا تَمَسَّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَمَسَّ. وَ [الْحَالُ] الْأَوَّلُ: أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ، نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَعَكْسُهُ، وَالرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ. [الضَّرْبُ] الْأَوَّلُ: نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ، فَيَحْرُمُ نَظَرُهُ إِلَى عَوْرَتِهَا مُطْلَقًا، وَإِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا إِنْ خَافَ فِتْنَةً. وَإِنْ لَمْ يَخَفْ، فَوَجْهَانِ، قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ لَا سِيَّمَا الْمُتَقَدِّمُونَ: لَا يَحْرُمُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [الْأَحْزَابِ: 31] وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، لَكِنْ يُكْرَهُ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي: يَحْرُمُ، قَالَهُ الِاصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَالْإِمَامُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَالرُّويَانِيُّ، وَوَجَّهَهُ الْإِمَامُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ مِنَ الْخُرُوجِ سَافِرَاتٍ، وَبِأَنَّ النَّظَرَ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ، وَهُوَ مُحَرِّكٌ لِلشَّهْوَةِ، فَاللَّائِقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرْعِ، سَدُّ الْبَابِ فِيهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ، كَالْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْكَفِّ، الْيَدُ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمِعْصَمِ. وَفِي وَجْهٍ: يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِالرَّاحَةِ. وَأَمَّا أَخْمَصَا الْقَدَمَيْنِ، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَصَوْتُهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، لَكِنْ يَحْرُمُ الْإِصْغَاءُ إِلَيْهِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ. وَإِذَا قَرَعَ بَابَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُجِيبَ بِصَوْتٍ رَخِيمٍ، بَلْ تُغَلِّظُ صَوْتَهَا. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَغْلِيظِ صَوْتِهَا، كَذَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا. قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: طَرِيقُهَا أَنْ تَأْخُذَ ظَهْرَ كَفِّهَا بِفِيهَا وَتُجِيبَ كَذَلِكَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ النَّاظِرُ بَالِغًا فَحْلًا، وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهَا حُرَّةً كَبِيرَةً أَجْنَبِيَّةً. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي سِتِّ صُوَرٍ. إِحْدَاهَا: الطِّفْلُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، لَا حِجَابَ مِنْهُ. وَفِي الْمُرَاهِقِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ النَّظَرُ، كَمَا لَهُ الدُّخُولُ بِلَا اسْتِئْذَانٍ إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَعَلَى هَذَا، نَظَرُهُ كَنَظَرِ الْمَحَارِمِ الْبَالِغِينَ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ نَظَرَهُ كَنَظَرِ الْبَالِغِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، لِظُهُورِهِ عَلَى الْعَوْرَاتِ. وَنَزَّلَ الْإِمَامُ أَمْرَ الصَّبِيِّ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ. إِحْدَاهَا: أَنْ لَا يَبْلُغَ أَنْ يَحْكِيَ مَا يَرَى. وَالثَّانِيَةُ: يَبْلُغُهُ وَيَكُونُ فِيهِ ثَوَرَانُ شَهْوَةٍ وَتَشَوُّفٌ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ ذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ حُضُورُهُ كَغَيْبَتِهِ، وَيَجُوزُ التَّكَشُّفُ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَالثَّانِي: كَالْمَحْرَمِ. وَالثَّالِثُ: كَالْبَالِغِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَعَلْنَاهُ كَالْبَالِغِ، فَمَعْنَاهُ يَلْزَمُ الْمَنْظُورَ إِلَيْهَا الِاحْتِجَابُ مِنْهُ، كَمَا يَلْزَمُهَا الِاحْتِجَابُ مِنَ الْمَجْنُونِ قَطْعًا. قُلْتُ: وَإِذَا جَعَلْنَا الصَّبِيَّ كَالْبَالِغِ، لَزِمَ الْوَلِيَّ أَنْ يَمْنَعَهُ النَّظَرَ، كَمَا يَلْزَمُ أَنْ يَمْنَعَهُ الزِّنَا وَسَائِرَ الْمُحَرَّمَاتِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّانِيَةُ: فِي الْمَمْسُوحِ وَجْهَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: نَظَرُهُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، كَنَظَرِ الْفَحْلِ إِلَى الْمَحَارِمِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) [الْأَحْزَابِ: 31] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْفَحْلِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ، لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا.

قُلْتُ: وَالْمُخْتَارُ فِي تَفْسِيرِ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ أَنَّهُ الْمُغَفَّلُ فِي عَقْلِهِ الَّذِي لَا يَكْتَرِثُ لِلنِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهِيهِنَّ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الْمَجْبُوبُ الَّذِي بَقِيَ أُنْثَيَاهُ، وَالْخَصِيُّ الَّذِي بَقِيَ ذَكَرُهُ، وَالْعِنِّينُ، وَالْمُخَنَّثُ وَهُوَ الْمُشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ، وَالشَّيْخُ الْهِمُّ، فَكَالْفَحْلِ، كَذَا أَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ فِي الشَّامِلِ: لَا يَحِلُّ لِلْخَصِيِّ النَّظَرُ، إِلَّا أَنْ يَكْبُرَ وَيَهْرَمَ وَتَذْهَبَ شَهْوَتُهُ، وَكَذَا الْمُخَنَّثُ. وَأَطْلَقَ أَبُو مُخَلَّدٍ الْبَصْرِيُّ الْمُتَأَخِّرُ فِي الْخَصِيِّ وَالْمُخَنَّثِ وَجْهَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا الْمَذْكُورُ عَنِ الشَّامِلِ قَالَهُ شَيْخُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الشَّيْخَ الَّذِي ذَهَبَتْ شَهْوَتُهُ، يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثَةُ: مَمْلُوكُ الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ لَهَا عَلَى الْأَصَحِّ (عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ) . قُلْتُ: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: فَإِنْ كَاتَبَتْهُ، فَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهَا أَمَةً، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَلَا يَحْرُمُ مَا سِوَاهُ، لَكِنْ يُكْرَهُ. وَالثَّانِي: يَحْرُمُ مَا لَا يَبْدُو حَالَ الْمِهْنَةِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا كَالْحُرَّةِ، وَهَذَا غَرِيبٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ لِغَيْرِ الْغَزَالِيِّ. قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) وَغَيْرُهُ، بِأَنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ كَثِيرِينَ، وَهُوَ أَرْجَحُ دَلِيلًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْخَامِسَةُ: فِي النَّظَرِ إِلَى الصَّبِيَّةِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ. وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عَوْرَتِهَا وَغَيْرِهَا، لَكِنْ لَا يَنْظُرُ إِلَى الْفَرْجِ. قُلْتُ: جَزَمَ الرَّافِعِيُّ، بِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ الصَّغِيرَةِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ الِاتِّفَاقَ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ بِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى، وَالصَّغِيرِ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الصَّغِيرِ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ. وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ الْجَوَازُ، لِتَسَامُحِ النَّاسِ بِذَلِكَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ تَبْقَى إِلَى بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ، وَمَصِيرُهُ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ سَتْرُ عَوْرَتِهِ عَنِ النَّاسِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الْعَجُوزُ، فَأَلْحَقَهَا الْغَزَالِيُّ بِالشَّابَّةِ، لِأَنَّ الشَّهْوَةَ لَا تَنْضَبِطُ، وَهِيَ مَحَلُّ الْوَطْءِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إِذَا بَلَغَتْ مَبْلَغًا يُؤْمَنُ الِافْتِتَانُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، جَازَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) الْآيَةَ [النُّورِ: 6] . السَّادِسَةُ: الْمَحْرَمُ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَلَهُ النَّظَرُ إِلَى مَا سِوَاهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّهُ يُبَاحُ مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ. وَهَلِ الثَّدْيُ زَمَنَ الْإِرْضَاعِ مِمَّا يَبْدُو؟ وَجْهَانِ. وَسَوَاءٌ الْمُحَرَّمُ بِالنَّسَبِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ، وَقِيلَ: لَا يَنْظُرُ بِالْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ إِلَّا إِلَى الْبَادِي فِي الْمِهْنَةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: وَيَجُوزُ لِلْمَحْرَمِ الْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ بِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الضَّرْبُ الثَّانِي: نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، لَكِنْ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ وَغَيْرِهِ بِالشَّهْوَةِ، وَكَذَا النَّظَرُ إِلَى الْمَحَارِمِ وَسَائِرِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الضَّرْبِ السَّابِقِ بِالشَّهْوَةِ حَرَامٌ قَطْعًا. وَلَا يَحْرُمُ

النَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً، وَإِنْ خَافَهَا، حَرُمَ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. قُلْتُ: أَطْلَقَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَنَقَلَهُ الدَّارَكِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: حَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا: أَنَّهَا كَالْمَحْرَمِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. الثَّانِي: فِي نَظَرِ الذِّمِّيَّةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: كَالْمُسْلِمَةِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: الْمَنْعُ. فَعَلَى هَذَا، لَا تَدْخُلُ الذِّمِّيَّةُ الْحَمَّامَ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ، وَمَا الَّذِي تَرَاهُ مِنَ الْمُسْلِمَةِ؟ قَالَ الْإِمَامُ: هِيَ كَالرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ. وَقِيلَ: تَرَى مَا يَبْدُو فِي الْمِهْنَةِ، وَهَذَا أَشْبَهُ. قُلْتُ: مَا صَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ هُوَ الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ، وَسَائِرُ الْكَافِرَاتِ كَالذِّمِّيَّةِ فِي هَذَا، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ، وَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. وَالثَّانِي: لَهَا نَظَرُ مَا يَبْدُو مِنْهُ فِي الْمِهْنَةِ فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: لَا تَرَى مِنْهُ إِلَّا مَا يَرَى مِنْهَا. قُلْتُ: هَذَا الثَّالِثُ، هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَغَيْرُهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا، أَلَيْسَ تُبْصِرَانِهِ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَأَمَّا نَظَرُهَا إِلَى مَحْرَمِهَا، فَلَا يَحْرُمُ إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُحَقِّقُونَ. وَقِيلَ: هُوَ كَنَظَرِهِ إِلَيْهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا النَّظَرُ إِلَى الرَّجُلِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ قَطْعًا. وَحَدِيثُ أَفَعَمْيَاوَانِ، يُحْمَلُ عَلَى هَذَا أَوْ عَلَى الِاحْتِيَاطِ. فَرْعٌ مَا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مُتَّصِلًا كَالذَّكَرِ وَسَاعِدِ الْحُرَّةِ وَشَعْرِ رَأْسِهَا وَشَعْرِ عَانَةِ الرَّجُلِ وَمَا أَشْبَهَهَا، يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا، وَقَالَ الْإِمَامُ احْتِمَالًا لِنَفْسِهِ: إِنْ لَمْ يَتَمَيَّزِ الْمُبَانُ مِنَ الْمَرْأَةِ بِصُورَتِهِ وَشَكْلِهِ عَمَّا لِلرَّجُلِ: كَالْقُلَامَةِ، وَالشَّعْرِ، وَالْجِلْدَةِ، لَمْ يَحْرُمْ. وَإِنْ تَمَيَّزَ، حَرُمَ. قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، ضَعِيفٌ، إِذْ لَا أَثَرَ لِلتَّمْيِيزِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ جُزْءٌ يَحْرُمُ نَظَرُهُ. وَعَلَى الْأَصَحِّ: يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى قُلَامَةِ رِجْلِهَا دُونَ قُلَامَةِ يَدِهَا، وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَيَنْبَغِي لِمَنْ حَلَقَ عَانَتَهُ، أَنْ يُوَارِيَ الشَّعْرَ، لِئَلَّا يَنْظُرَ إِلَيْهِ أَحَدٌ. وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ لَوْ أُبِينَ شَعْرُ الْأَمَةِ أَوْ ظُفُرُهَا، ثُمَّ عَتَقَتْ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُبَانَ كَالْمُتَّصِلِ، لِأَنَّهُ حِينَ انْفَصَلَ لَمْ يَكُنْ عَوْرَةً، وَالْعِتْقُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمُنْفَصِلِ. فَرْعٌ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ زَوْجَتِهِ غَيْرَ الْفَرْجِ. وَفِي الْفَرْجِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لَكِنْ يُكْرَهُ. وَبَاطِنُ الْفَرْجِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَيُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ نَظَرُهُ إِلَى فَرْجِ نَفْسِهِ بِلَا حَاجَةٍ، وَنَظَرُ السَّيِّدِ إِلَى أَمَتِهِ الَّتِي يَجُوزُ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا كَنَظَرِ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجَتِهِ، سَوَاءً كَانَتْ قِنَّةً، أَوْ مُدَبَّرَةً، أَوْ مُسْتَوْلَدَةً، أَوْ عَرَضَ مَانِعٌ قَرِيبُ الزَّوَالِ كَالْحَيْضِ وَالرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَتْ مُرْتَدَّةً، أَوْ مَجُوسِيَّةً، أَوْ وَثَنِيَّةً، أَوْ مُزَوَّجَةً، أَوْ مُكَاتَبَةً، أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، حَرُمَ نَظَرُهُ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَلَا يَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَزَوْجَتُهُ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَطْءِ أَجْنَبِيٍّ بِشُبْهَةٍ، كَالْمُكَاتَبَةِ. وَنَظَرُ الزَّوْجَةِ إِلَى زَوْجِهَا كَنَظَرِهِ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ نَظَرُهَا إِلَى فَرْجِهِ قَطْعًا. قُلْتُ: وَنَظَرُهَا إِلَى سَيِّدِهَا كَنَظَرِهِ إِلَيْهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ حَيْثُ حَرُمَ النَّظَرُ، حَرُمَ الْمَسُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ لَذَّةً، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ دَلْكُ فَخِذِ رَجُلٍ بِلَا حَائِلٍ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَوْقَ إِزَارٍ جَازَ إِذَا لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً.

وَقَدْ يَحْرُمُ الْمَسُّ دُونَ النَّظَرِ، فَيَحْرُمُ مَسُّ وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ جَازَ النَّظَرُ، وَمَسُّ كُلِّ مَا جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْإِمَاءِ، بَلْ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ مَسُّ بَطْنِ أُمِّهِ وَلَا ظَهْرِهَا، وَلَا أَنْ يَغْمِزَ سَاقَهَا وَلَا رِجْلَهَا، وَلَا أَنْ يُقَبِّلَ وَجْهَهَا، حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ. قَالَ: وَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْمُرَ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ بِغَمْزِ رِجْلِهِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْعَجَائِزُ اللَّاتِي يُكَحِّلْنَ الرِّجَالَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مُرْتَكِبَاتٌ لِلْحَرَامِ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَاجِعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَلَا الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي جَانِبٍ مِنَ الْفِرَاشِ، وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوِ الصَّبِيَّةُ عَشْرَ سِنِينَ، وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ وَأُخْتِهِ وَأَخِيهِ فِي الْمَضْجَعِ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ مُصَافَحَةُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَتُكْرَهُ الْمُعَانَقَةُ وَالتَّقْبِيلُ، إِلَّا تَقْبِيلَ الْوَلَدِ شَفَقَةً. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ رَأْسَ الرَّجُلِ وَمَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ أَوْ تَبَاعُدِ لِقَائِهِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ تَقْبِيلَ يَدِ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ لِزُهْدِهِ وَصَلَاحِهِ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ شَرَفِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ. وَإِنْ كَانَ لِغِنَاهُ وَدُنْيَاهُ وَشَوْكَتِهِ وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَكْرُوهٌ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ: لَا يَجُوزُ. وَتَقْبِيلُ الصِّغَارِ شَفَقَةً سُنَّةٌ، سَوَاءٌ وَلَدُهُ وَوَلَدُ غَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ. وَالسُّنَّةُ مُعَانَقَةُ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَتَقْبِيلُهُ. وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ، وَيُكْرَهُ حَنْيُ الظَّهْرِ فِي كُلِّ حَالٍ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا بَأْسَ بِالْقِيَامِ لِأَهْلِ الْفَضْلِ،

بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلِاحْتِرَامِ، لَا لِلرِّيَاءِ وَالْإِعْظَامِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِكُلِّ مَا ذَكَرْتُهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهَا مَبْسُوطَةً فِي (كِتَابِ السَّلَامِ) مِنْ (كِتَابِ الْأَذْكَارِ) ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي مُتَدَيِّنٌ عَنْ مِثْلِهِ، وَفِي (كِتَابِ التَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَخْذُ بِالْأَشَدِّ، فَيُجْعَلُ مَعَ النِّسَاءِ رَجُلًا، وَمَعَ الرِّجَالِ امْرَأَةً. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ، قَالَهُ الْقَفَّالُ، اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الصِّغَرِ. قُلْتُ: قَطَعَ الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي بِالثَّانِي، وإِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ، وَنَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنِ الْقَاضِي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْحَالُ الثَّانِي: إِذَا احْتَاجَ إِلَى النَّظَرِ، وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ. مِنْهَا: أَنْ يُرِيدَ نِكَاحَهَا، فَلَهُ النَّظَرُ كَمَا سَبَقَ. وَمِنْهَا: أَنْ يُرِيدَ شِرَاءَ جَارِيَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَيْعِ. وَمِنْهَا: إِذَا عَامَلَ امْرَأَةً بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً عَلَيْهَا، جَازَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا فَقَطْ لِيَعْرِفَهَا. وَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا وَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ، كُلِّفَتِ الْكَشْفَ عَنْ وَجْهِهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ. فَإِنِ امْتَنَعَتْ، أُمِرَتِ امْرَأَةٌ بِكَشْفِهِ. وَمِنْهَا: يَجُوزُ النَّظَرُ وَالْمَسُّ لِلْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَمُعَالَجَةِ الْعِلَّةِ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِحُضُورِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ لِهَذَا أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ تُعَالِجُ، وَفِي جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ، أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ رَجُلٌ يُعَالِجُ، كَذَا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاصِّ خِلَافُهُ.

قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي. قَالَا أَيْضًا: وَلَا يَكُونُ ذِمِّيًّا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ أَصْلُ الْحَاجَةِ كَافٍ فِي النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَفِي النَّظَرِ إِلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ يُعْتَبَرُ تَأَكُّدُ الْحَاجَةِ، وَضَبَطَهُ الْإِمَامُ فَقَالَ: مَا يُجَوِّزُ الِانْتِقَالَ مِنَ الْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ وِفَاقًا أَوْ خِلَافًا كَشِدَّةِ الضَّنَى وَمَا فِي مَعْنَاهَا، يَجُوزُ النَّظَرُ بِسَبَبِهِ، وَفِي النَّظَرِ إِلَى السَّوْءَتَيْنِ، يُعْتَبَرُ مَزِيدُ تَأَكُّدٍ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ التَّكَشُّفُ بِسَبَبِهَا هَتْكًا لِلْمُرُوءَةِ وَيُعْذَرُ فِي الْعَادَةِ. وَمِنْهَا: يَجُوزُ لِلرِّجَالِ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِ الزَّانِيَيْنِ لِتَحَمُّلِ شَهَادَةِ الزِّنَا، وَإِلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ، وَإِلَى ثَدْيِ الْمُرْضِعَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: لَا يَجُوزُ كُلُّ ذَلِكَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي الزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: عَكْسُهُ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْخِطْبَةِ - بِكَسْرِ الْخَاءِ -، قَالَ الْغَزَالِيُّ: هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ، وَلَكِنْ لَا ذِكْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا الْجَوَازَ. ثُمَّ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَتْ خَلِيَّةً عَنِ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةَ، جَازَتْ خِطْبَتُهَا تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا، وَإِنْ كَانَ مُعْتَدَّةً، حَرُمَ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا مُطْلَقًا. وَأَمَّا التَّعْرِيضُ، فَيَحْرُمُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَلَا يَحْرُمُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِالْحَمْلِ، لَمْ تُخْطَبْ، خَوْفًا مِنْ تَكَلُّفِ إِلْقَاءِ وَلَدِهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَالْبَائِنُ بِطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ، يَحِلُّ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالَّتِي لَا تَحِلُّ لِمَنْ مِنْهُ الْعِدَّةُ بِلِعَانٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ طَلَاقِ الثَّلَاثِ، كَالْمُعْتَدَّةِ عَنِ الْوَفَاةِ. وَقِيلَ: كَالْفَسْخِ. ثُمَّ سَوَاءً كَانَتِ الْعِدَّةُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْإِقْرَاءِ أَمْ بِالْأَشْهُرِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ بِالْإِقْرَاءِ، حَرُمَ قَطْعًا. وَالصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: أَنْ لَا فَرْقَ.

وَفِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ، طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ. وَالثَّانِي: طَرْدُ الْخِلَافِ. وَالتَّصْرِيحُ، كَقَوْلِهِ: أُرِيدُ نِكَاحَكِ، أَوْ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ نَكَحْتُكِ. وَالتَّعْرِيضُ بِمَا يَحْتَمِلُ الرَّغْبَةَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ: رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، مَنْ يَجِدُ مِثْلَكِ؟ أَنْتِ جَمِيلَةٌ، إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، لَا تَبْقَيْنَ أَيِّمًا، لَسْتِ بِمَرْغُوبٍ عَنْكِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحُكْمُ جَوَابِ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا حُكْمُ الْخِطْبَةِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فِيمَا إِذَا خَطَبَهَا غَيْرُ صَاحِبِ الْعِدَّةِ. فَأَمَّا صَاحِبُهَا الَّذِي يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، فَلَهُ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا. فَرْعٌ تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ غَيْرِهِ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِجَابَةِ، إِلَّا إِذَا أَذِنَ الْغَيْرُ أَوْ تَرَكَ. وَصَرِيحُ الْإِجَابَةِ أَنْ تَقُولَ: أَجَبْتُكَ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ تَأْذَنَ لِوَلِيِّهَا (فِي) أَنْ يُزَوِّجَهَا إِيَّاهُ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةُ الْإِذْنِ. فَلَوْ لَمْ تُصَرِّحْ بِالْإِجَابَةِ، لَكِنْ وُجِدَ مَا يُشْعِرُ بِهَا، كَقَوْلِهَا: لَا رَغْبَةَ عَنْكِ، فَقَوْلَانِ. الْقَدِيمُ، تَحْرِيمُ الْخِطْبَةِ. وَالْجَدِيدُ، الْجَوَازُ. وَلَوْ رَدَّتْهُ، فَلِلْغَيْرِ خِطْبَتُهَا قَطْعًا. وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ إِجَابَةٌ وَلَا رَدٌّ، فَقِيلَ: يَجُوزُ قَطْعًا. وَقِيلَ بِالْقَوْلَيْنِ. وَالْمُعْتَبَرُ، رَدُّ الْوَلِيِّ وَإِجَابَتُهُ إِنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً، وَإِلَّا فَرَدُّهَا وَإِجَابَتُهَا، وَفِي الْأَمَةِ رَدُّ السَّيِّدِ وَإِجَابَتُهُ، وَفِي الْمَجْنُونَةِ رَدُّ السُّلْطَانِ وَإِجَابَتُهُ. ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ، أَنَّ سُكُوتَ الْوَلِيِّ عَنِ الْجَوَابِ، فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْخِلَافَ بِسُكُوتِهَا وَقَالَ: سُكُوتُ الْوَلِيِّ لَا يَمْنَعُ قَطْعًا. وَعَنِ الدَّارَكِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي سُكُوتِ الْبِكْرِ، وَلَا يَمْنَعُ سُكُوتُ الثَّيِّبِ بِحَالٍ.

فَرْعٌ يَجُوزُ الْهُجُومُ عَلَى الْخِطْبَةِ لِمَنْ لَمْ يَدْرِ أَخُطِبَتْ أَمْ لَا، وَلَمْ يَدْرِ أُجِيبَ خَاطِبُهَا أَمْ رُدَّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ. فَرْعٌ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ الْخَاطِبُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ إِذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ الْمُسْلِمِ. قُلْتُ: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: لَوْ خَطَبَ خَمْسَ نِسْوَةٍ دَفْعَةً فَأَذِنَّ، لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ خِطْبَةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى يَتْرُكَهَا الْأَوَّلُ، أَوْ يَعْقِدَ عَلَى أَرْبَعٍ فَتَحِلَّ الْخَامِسَةُ. وَإِنْ خَطَبَ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَحْدَهَا، فَأَذِنَّ، حَلَّتِ الْخَامِسَةُ دُونَ غَيْرِهَا. هَذَا كَلَامُهُ، وَالْمُخْتَارُ تَحْرِيمُ الْجَمِيعِ، إِذْ قَدْ يَرْغَبُ فِي الْخَامِسَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ التَّعْرِيضُ بِالْجِمَاعِ لِلْمَخْطُوبَةِ، وَلَا يُكْرَهُ التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ بِهِ لِزَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يَجُوزُ الصِّدْقُ فِي ذِكْرِ مَسَاوِئِ الْخَاطِبِ لِيُحْذَرَ، وَكَذَا مَنْ أَرَادَ نَصِيحَةَ غَيْرِهِ لِيَحْتَرِزَ عَنْ مُشَارَكَتِهِ وَنَحْوِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ.

قُلْتُ: الْغَيْبَةُ تُبَاحُ بِسِتَّةِ أَسْبَابٍ قَدْ أَوْضَحْتُهَا بِدَلَائِلِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَطُرُقِ مَخَارِجِهَا فِي آخِرِ (كِتَابِ الْأَذْكَارِ) . أَحَدُهَا: التَّظَلُّمُ، فَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ وَلَايَةٌ أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْصَافِهِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَيَقُولُ: ظَلَمَنِي فُلَانٌ وَفَعَلَ بِي كَذَا. الثَّانِي: الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَرَدِّ الْعَاصِي إِلَى الصَّوَابِ، فَيَقُولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتَهُ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ: فُلَانٌ يَعْمَلُ كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: الِاسْتِفْتَاءُ. بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: ظَلَمَنِي فُلَانٌ أَوْ أَبِي أَوْ أَخِي بِكَذَا، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ، أَمْ لَا؟ وَمَا طَرِيقِي فِي الْخَلَاصِ (مِنْهُ) وَدَفْعِ ظُلْمِهِ عَنِّي؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَكَذَا قَوْلُهُ: زَوْجَتِي تَفْعَلُ مَعِي كَذَا، وَزَوْجِي يَضْرِبُنِي وَيَقُولُ لِي كَذَا، فَهَذَا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ. وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَقُولَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ وَالِدٍ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْيِينُ جَائِزٌ، لِحَدِيثِ هِنْدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ شَحِيحٌ. . . الْحَدِيثَ. الرَّابِعُ: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا: جَرْحُ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُصَنِّفِينَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ وَاجِبٌ، صَوْنًا لِلشَّرِيعَةِ. وَمِنْهَا: الْإِخْبَارُ بِعَيْبِهِ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي مُوَاصَلَتِهِ.

وَمِنْهَا: إِذَا رَأَيْتَ مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا مَعِيبًا، أَوْ عَبْدًا سَارِقًا، أَوْ زَانِيًا، أَوْ شَارِبًا، تَذْكُرُهُ لِلْمُشْتَرِي - إِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ - نَصِيحَةً، لَا بِقَصْدِ الْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَادِ. وَمِنْهَا: إِذَا رَأَيْتَ مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّدُ إِلَى فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ يَأْخُذُ عَنْهُ عَلِمًا، وَخِفْتَ عَلَيْهِ ضَرَرَهُ، فَعَلَيْكَ نَصِيحَتُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ قَاصِدًا النَّصِيحَةَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَايَةٌ لَا يَقُومُ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ فِسْقِهِ، فَتَذْكُرُهُ لِمَنْ عَلَيْهِ وَلَايَةٌ لِيَسْتَبْدِلَ بِهِ، أَوْ يَعْرِفَ حَالَهُ فَلَا يَعْتَبِرَ بِهِ أَوْ يُلْزِمَهُ الِاسْتِقَامَةَ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ، كَالْخَمْرِ، وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ، وَجِبَايَةِ الْمُكُوسِ، وَتَوَلِّي الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِهِ إِلَّا بِسَبَبٍ آخَرَ. السَّادِسُ: التَّعْرِيفُ، فَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ، كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَزْرَقِ وَالْقَصِيرِ وَنَحْوِهَا، جَازَ تَعْرِيفُهُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِهِ تَنَقُّصًا، وَلَوْ أَمْكَنَ التَّعْرِيفُ بِغَيْرِهِ، كَانَ أَوْلَى. هَذَا مُخْتَصَرُ مَا تُبَاحُ بِهِ الْغَيْبَةُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي الْخُطْبَةِ، بِضَمِّ الْخَاءِ. يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَخْطُبُ امْرَأَةً أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ خِطْبَتِهِ خُطْبَةً، فَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَقُولُ: جِئْتُكُمْ رَاغِبًا فِي كَرِيمَتِكُمْ، وَيَخْطُبُ الْوَلِيُّ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَقُولُ: لَسْتَ بِمَرْغُوبٍ عَنْكَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَتُسْتَحَبُّ الْخُطْبَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْعَقْدِ، وَيَحْصُلُ الِاسْتِحْبَابُ سَوَاءٌ خَطَبَ الْوَلِيُّ أَوِ الزَّوْجُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ. وَإِذَا قَالَ الْوَلِيُّ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، زَوَّجْتُكَ، فَقَالَ الزَّوْجُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ، لِلْفَصْلِ، وَالصَّحِيحُ صِحَّتُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: لِلنِّكَاحِ خُطْبَتَانِ مَسْنُونَتَانِ، إِحْدَاهُمَا تَتَقَدَّمُ الْعَقْدَ، وَالثَّانِيَةُ تَتَخَلَّلُهُ، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، زَوَّجْتُكَ فُلَانَةً، ثُمَّ يَقُولُ الزَّوْجُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقُولُ: قَبِلْتُ. ثُمَّ قَالَ الْأَصْحَابُ: مَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ إِذَا لَمْ يَطُلِ الذِّكْرُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ طَالَ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ قَطْعًا. وَلَوْ تَخَلَّلَ كَلَامٌ يَسِيرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعَقْدُ وَلَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ، بَطَلَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ الْعَظِيمُ، مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ. وَهَذَا إِنْ ذَكَرَاهُ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَذَاكَ. وَإِنْ قَيَّدَ الْوَلِيُّ الْإِيجَابَ بِهِ، وَقَبِلَ الزَّوْجُ مُطْلَقًا أَوْ ذَاكِرًا لَهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ النِّكَاحُ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ شَرْطُ الطَّلَاقِ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ. وَأَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، لِأَنَّ كُلَّ زَوْجٍ مَأْخُوذٌ بِهِ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ، فَهُوَ ذِكْرٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَفَصَلَ الْإِمَامُ فَقَالَ: إِنْ أَجْرَيَاهُ شَرْطًا مُلْزِمًا، فَالْوَجْهُ الْبُطْلَانُ. وَإِنْ قَصَدَا الْوَعْظَ دُونَ الْإِلْزَامِ، لَمْ يَضُرَّ. وَإِنْ أَطْلَقَا، احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ، وَقَرِينَةُ الْحَالِ تَقْتَضِي الْوَعْظَ. فَرْعٌ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِلزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَيُقَالُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ.

قُلْتُ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ، لِحَدِيثٍ وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِآدَابِ الْعَقْدِ، أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِحْضَارُ جَمْعٍ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ زِيَادَةً عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، وَأَنْ يَنْوِيَ بِالنِّكَاحِ الْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ، كَإِقَامَةِ السُّنَّةِ، وَصِيَانَةِ دِينِهِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ عَرْضُ مُوَلِّيَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ، لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الصَّحِيحَيْنِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أَرْكَانِ النِّكَاحِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. [الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ: الصِّيغَةُ إِيجَابًا وَقَبُولًا، فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ، أَوْ أَنَكَحْتُكَ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُ، أَوْ نَكَحْتُ، أَوْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ نِكَاحَهَا. أَوْ يَقُولُ الزَّوْجُ أَوَّلًا: تَزَوَّجْتُهَا، أَوْ نَكَحْتُهَا، فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ أَوْ أَنَكَحْتُكَ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ. وَفِي انْعِقَادِهِ بِمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ بِالْعَجَمِيَّةِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الِانْعِقَادُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ انْعَقَدَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَإِذَا صَحَّحْنَاهُ، فَذَاكَ إِذَا فَهِمَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَلَامَ الْآخَرِ. فَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ، فَأَخْبَرَهُ ثِقَةٌ عَنْ مَعْنَى لَفْظِهِ، فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ. وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ مِنْهُمَا.

فَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ، فَقَالَ الزَّوْجُ: نَكَحْتُ، أَوْ قَالَ: أَنَكَحْتُكَ، فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ صَحَّ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ. فَرْعٌ إِذَا قَالَ: زَوَّجْتُكَهَا، فَلْيَقُلْ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا أَوْ تَزْوِيجَهَا، أَوْ قَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَبِلْتُ، لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا. وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ قَطْعًا. وَإِنْ قَالَ: قَبِلْتُ النِّكَاحَ أَوْ قَبِلْتُهَا، فَخِلَافٌ مُرَتَّبٌ، وَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ. وَلَوْ قَالَ: زَوِّجْنِي أَوْ أَنْكِحْنِي، فَقَالَ الْوَلِيُّ: قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ، أَوْ نَعَمْ، أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَهَا أَوْ أَنْكَحْتُكَهَا، أَقَبِلْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَوْ قَالَ: نَعَمْ، مِنْ غَيْرِ قَوْلِ الْوَلِيِّ: أَقَبِلْتَ، فَقِيلَ بِالْمَنْعِ قَطْعًا. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ، وَهُوَ أَقْيَسُ. وَفِي نَظَائِرِ هَذِهِ الصُّوَرِ مِنَ الْبَيْعِ، يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ كَذَا، فَقَالَ: قَبِلْتُ، يَنْعَقِدُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِيهِ وَجْهًا. فَرْعٌ إِذَا كَتَبَ بِالنِّكَاحِ إِلَى غَائِبٍ أَوْ حَاضِرٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي الْغَائِبِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَاتِ. وَلَوْ خَاطَبَ غَائِبًا بِلِسَانِهِ، فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، ثُمَّ كَتَبَ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَقَالَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا صَحَّحْنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَشَرْطُهُ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ، وَأَنْ يَقَعَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيِ الْإِيجَابِ.

قُلْتُ: لَا يَكْفِي الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ، بَلْ يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا اسْتَخْلَفَ الْقَاضِي فَقِيهًا فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ، لَمْ يَكْفِ الْكِتَابُ، بَلْ يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهَيْنِ، وَلَيْسَ لِلْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ اعْتِمَادُ الْخَطِّ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ إِذَا قَالَ (لِلْوَلِيِّ) : زَوِّجْنِي، قَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ. فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ بَعْدَهُ: قَبِلْتُ، صَحَّ النِّكَاحُ قَطْعًا، وَإِلَّا، فَالْمَذْهَبُ وَالنَّصُّ صِحَّتُهُ أَيْضًا. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْبَيْعِ فِي مِثْلِهِ. وَالْخُلْعُ، وَالصُّلْحُ عَنِ الدَّمِ، وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ، يَنْعَقِدُ بِالِاسْتِيجَابِ وَالْإِيجَابِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. فَإِذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي أَوْ خَالِعْنِي عَلَى أَلْفٍ، فَأَجَابَهَا الزَّوْجُ، طَلَقَتْ وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَبُولٍ بَعْدَهُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: أَعْتِقْنِي عَلَى كَذَا، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، أَوْ قَالَ: مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ: صَالِحْنِي عَلَى كَذَا، فَقَالَ الْمُسْتَحِقُّ: صَالَحْتُكَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الطَّرِيقَيْنِ فِي كُلِّ هَذِهِ الْعُقُودِ كَالنِّكَاحِ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَكَالْعِتْقِ، وَقِيلَ: كَالنِّكَاحِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهُ: زَوِّجْنِي أَوْ خَالِعْنِي وَأَعْتِقْنِي وَنَحْوَهَا. فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: قُلْ: زَوَّجْتُكَهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ هُوَ بِاسْتِيجَابٍ، لِأَنَّهُ اسْتَدْعَى اللَّفْظَ دُونَ التَّزْوِيجِ، فَإِذَا تَلَفَّظَ اقْتَضَى الْقَبُولَ. وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ أَوَّلًا:

تَزَوَّجِ ابْنَتِي، فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: زَوِّجْنِي، فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ، هَكَذَا قَالُوهُ. وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِهِمُ الْمَنْعَ فِي الْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِهِ هُنَا. وَلَوْ قَالَ: أَتُزَوِّجُنِي ابْنَتَكَ؟ فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ، هَكَذَا قَالُوهُ. وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِهِمُ الْمَنْعَ فِي الْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِهِ هُنَا. وَلَوْ قَالَ: أَتُزَوِّجُنِي ابْنَتَكَ؟ فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ، لَمْ يَنْعَقِدْ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْخَاطِبُ بَعْدَهُ: تَزَوَّجْتُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: أَتَتَزَوَّجُ بِنْتِي، أَوْ تَزَوَّجْتَهَا؟ فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ، لَا يَنْعَقِدُ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ بَعْدَهُ: زَوَّجْتُكَ، لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ. وَلَوْ قَالَ الْمُتَوَسِّطُ لِلْوَلِيِّ: زَوَّجْتَهُ ابْنَتَكَ؟ فَقَالَ: زَوَّجْتُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الزَّوْجِ فَقَالَ: قَبِلْتَ نِكَاحَهَا؟ فَقَالَ: قَبِلْتُهُ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مُتَرَابِطَيْنِ، وَمَنَعَهُ الْقَفَّالُ، لِعَدَمِ التَّخَاطُبِ. فَرْعٌ تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ: أَنَّ أَصْحَابَنَا الْعِرَاقِيِّينَ اكْتَفَوْا بِوُقُوعِ الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ، وَيَضُرُّ الطَّوِيلُ، وَهُوَ مَا أَشْعَرَ بِإِعْرَاضِهِ عَنِ الْقَبُولِ، فَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي طَرِيقَتَيِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ. وَمَا ادَّعَاهُ الْهَرَوِيُّ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ جُمْلَةً لَا يُقْبَلُ، وَالْمُشَاهَدَةُ تَدْفَعُهُ، وَالدَّلِيلُ يُبْطِلُهُ، فَلَا اغْتِرَارَ بِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا وُجِدَ أَحَدُ شِقَّيِ الْعَقْدِ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِصْرَارِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يُوجَدَ الشِّقُّ الْآخَرُ، فَلَوْ رَجَعَ عَنْهُ، لَغَا الْعَقْدُ. وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ ثُمَّ جُنَّ

فصل

أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، لَغَا إِيجَابُهُ، وَامْتَنَعَ الْقَبُولُ. وَكَذَا لَوْ أَذِنَتِ الْمَرْأَةُ فِي تَزْوِيجِهَا حَيْثُ يُعْتَبَرُ إِذْنُهَا، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْعَقْدِ، بَطَلَ إِذْنُهَا. فَصْلٌ النِّكَاحُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، كَقَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَقَدْ زَوَّجْتُكَ. فَلَوْ أُخْبِرَ بِمَوْلُودٍ، فَقَالَ لِجَلِيسِهِ: إِنْ كَانَتْ بِنْتًا، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، أَوْ قَالَ: إِنْ كَانَتْ بِنْتِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، أَوْ لَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنْ كَانَتْ مَاتَتْ إِحْدَاهُنَّ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، أَوْ قَالَ: إِنْ مَاتَ أَبِي وَوَرِثْتُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، وَبَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَدَّرَ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ كَمَنْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ فَبَانَ مَيِّتًا. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ بُشِّرَ بِبِنْتٍ، فَقَالَ: إِنْ صَدَقَ الْمُخْبِرُ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، صَحَّ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعْلِيقًا، بَلْ هُوَ تَحْقِيقٌ، كَقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتِ زَوْجَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَتَكُونُ «إِنْ» بِمَعْنَى «إِذْ» . قَالَ: وَكَذَا لَوْ أُخْبِرَ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ بِمَوْتِ إِحْدَاهُنَّ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: إِنْ صَدَقَ الْمُخْبِرُ فَقَدْ تَزَوَّجْتُ بِنْتَكَ، فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: زَوَّجْتُكَهَا، صَحَّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَفْرُوضًا فِيمَا إِذَا تَيَقَّنَ صِدْقَ الْمُخْبِرِ، وَإِلَّا، فَلَفْظُ «إِنْ» لِلتَّعْلِيقِ. فَرْعٌ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقًا لِلْأُخْرَى، فَقَبِلَ الْآخَرُ، أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَتَزَوَّجْتُ بِنْتَكَ أَوْ أُخْتَكَ،

عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقًا لِلْأُخْرَى، فَقَالَ الْمُخَاطَبُ: تَزَوَّجْتُ وَزَوَّجْتُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، فَهَذَا نِكَاحُ الشِّغَارِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِمَعْنَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْبُضْعِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لِلتَّعْلِيقِ وَالتَّوَقُّفِ. وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ، وَقَبِلَ الْآخَرُ، وَلَمْ يَجْعَلَا الْبُضْعَ صَدَاقًا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا شَرْطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، وَذَلِكَ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ. فَعَلَى هَذَا، يَصِحُّ النِّكَاحَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِمَعْنَى التَّعْلِيقِ وَالتَّوَقُّفِ. وَخَصَّ الْإِمَامُ الْوَجْهَيْنِ بِمَا إِذَا كَانَتِ الصِّيغَةُ هَذِهِ، وَلَمْ يَذْكُرَا مَهْرًا، وَقَطَعَ بِالصِّحَّةِ فِيمَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ، وَبُضْعُ بِنْتِكَ صَدَاقٌ لِبِنْتِي، فَقَبِلَ، صَحَّ الْأَوَّلُ، وَبَطَلَ الثَّانِي. وَلَوْ قَالَ: وَبُضْعُ بِنْتِي صَدَاقٌ لِبِنْتِكَ، بَطَلَ الْأَوَّلُ، وَصَحَّ الثَّانِي، وَهَذَا نَظَرٌ إِلَى مَعْنَى التَّشْرِيكِ. وَلَوْ سَمَّيَا لَهُمَا أَوْ لَإِحْدَاهُمَا مَهْرًا مَعَ جَعْلِ الْبُضْعِ صَدَاقًا، بِأَنْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ بِأَلْفٍ، وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقٌ لِلْأُخْرَى، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ، وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقٌ لِلْأُخْرَى، أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَيَكُونُ بُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ صَدَاقًا لِلْأُخْرَى، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْمُخْتَصَرِ: الصِّحَّةُ. وَأَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ.

فصل

فَرْعٌ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي بِمُتْعَةِ جَارِيَتِكَ، صَحَّ النِّكَاحُ، وَفَسَدَ الصَّدَاقُ. وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ جَارِيَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ، وَتَكُونَ رَقَبَةُ جَارِيَتِي صَدَاقًا لِبِنْتِكَ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: صَحَّ النِّكَاحَانِ، لِأَنَّهُ لَا تَشْرِيكَ فِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ، وَيَفْسُدُ الصَّدَاقُ، وَيَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَيَجِيءُ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيقِ وَالتَّوَقُّفِ أَنْ يُحْكَمَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحَيْنِ. وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ صَاحِبُهُ بِنْتَهُ، وَيَكُونُ بُضْعُ امْرَأَتِهِ صَدَاقًا لَهَا، وَزَوَّجَهُ صَاحِبُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَلْ يَبْطُلُ النِّكَاحُ، أَمْ يَصِحُّ وَيَفْسُدُ الصَّدَاقُ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ. قُلْتُ: أَفْقَهُهُمَا: الثَّانِي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَنْ يَعْتِقَ صَاحِبُهُ عَبْدَهُ، وَيَكُونَ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ عِوَضًا عَنْ عِتْقِهِ، قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا رُجُوعَ بِالْمَهْرِ عَلَى أَحَدٍ. وَفِي عِتْقِ الْعَبْدِ وَجْهَانِ. إِنْ عَتَقَ، فَلَا رُجُوعَ بِقِيمَتِهِ وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: عِنْدِي يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَحْصُلُ الْعِتْقُ، وَيَرْجِعُ الْمُطَلِّقُ عَلَى الْمُعْتِقِ بِمَهْرِ امْرَأَتِهِ، وَالْمُعْتِقُ عَلَى الْمُطَلِّقِ بِقِيمَةِ عَبْدِهِ. فَصْلٌ النِّكَاحُ الْمُوَقَّتُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ قَيَّدَهُ بِمُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ أَوْ مَعْلُومَةٍ، وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ. وَإِذَا وَطِئَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ جَاهِلًا بِفَسَادِهِ، فَلَا حَدَّ. وَإِنْ عَلِمَ، فَلَا حَدَّ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَيْثُ لَا حَدَّ، يَجِبُ الْمَهْرُ وَالْعِدَّةُ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ. وَلَوْ قَالَ: نَكَحْتُهَا مُتْعَةً، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، حَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَجْهَيْنِ.

فصل

قُلْتُ: الْأَصَحُّ، الْبُطْلَانُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَنْكُوحَةُ، وَيُشْتَرَطُ خُلُوُّهَا مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ. وَالْكَلَامُ فِي الْمَوَانِعِ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعِهَا، لَا سِيَّمَا بَابُ الْمَوَانِعِ، فَيُقْتَصَرُ هُنَا عَلَى عَدِّ تَرَاجِمِهَا. فَمِنَ الْمَوَانِعِ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً أَوْ مُعْتَدَّةً عَنْ غَيْرِهِ، أَوْ مُطَلَّقَتَهُ بِالثَّلَاثِ مَا لَمْ تُحَلَّلْ، أَوْ مُلَاعَنَتَهُ، أَوْ مُرْتَدَّةً، أَوْ مَجُوسِيَّةً، أَوْ وَثَنِيَّةً، أَوْ زِنْدِيقَةً، أَوْ كِتَابِيَّةً دَخَلَتْ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْدَ تَبْدِيلِهِمْ عَلَى الْأَظْهَرِ، أَوْ تَكُونَ أَمَةً وَالنَّاكِحُ حُرٌّ وَاجِدٌ طَوْلَ حُرَّةٍ، أَوْ غَيْرُ خَائِفٍ عَنَتًا، أَوْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَوْ كُلُّهَا مِلْكًا لِلنَّاكِحِ، أَوْ تَكُونَ مَحْرَمًا لَهُ، أَوْ خَامِسَةً، أَوْ يَكُونَ فِي نِكَاحِهِ أُخْتُهَا وَغَيْرُهَا مِمَّنْ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا، أَوْ تَكُونَ مُحْرِمَةً بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ ثَيِّبًا صَغِيرَةً، أَوْ تَكُونَ يَتِيمَةً لَا جَدَّ لَهَا. فَصْلٌ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا. فَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ إِحْدَى بِنْتَيَّ، أَوْ زَوَّجْتُ بِنْتِي أَحَدَكُمَا، أَوْ أَحَدَ ابْنَيْكَ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، صَحَّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهَا. وَلَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ، أَوْ كَانَتْ فِي الدَّارِ فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ الَّتِي فِي الدَّارِ، وَلَيْسَ فِيهَا غَيْرُهَا، صَحَّ. وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فُلَانَةً، وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْبِنْتِيَّةَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ مُمَيِّزَةٌ، فَاعْتُبِرَتْ وَلَغَا الِاسْمُ، كَمَا لَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ قَطْعًا. وَقَدْ يَمْنَعُ هَذِهِ الصُّورَةَ الْقَائِلُ الْآخَرُ، وَالْأَصَحُّ

الصِّحَّةُ فِيهِمَا، حَتَّى لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ هَذَا الْغُلَامَ، وَأَشَارَ إِلَى بِنْتِهِ، نَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ صِحَّةَ النِّكَاحِ، تَعْوِيلًا عَلَى الْإِشَارَةِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ، وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ فِي حُدُودِهَا، صَحَّ الْبَيْعُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ الدَّارَ الَّتِي فِي الْمَحَلَّةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ، لِأَنَّ التَّعْوِيلَ هُنَا عَلَى الْإِشَارَةِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَارِي، وَلَمْ يَقُلْ: هَذِهِ، وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَارٌ سِوَاهَا، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصَحِّ فِي قَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فُلَانَةً وَغَلِطَ فِي اسْمِهَا. وَأَمَّا إِذَا كَانَ اسْمُ بِنْتِهِ (الْوَاحِدَةِ) فَاطِمَةَ، فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ فَاطِمَةَ، وَلَمْ يَقُلْ: بِنْتِي، فَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ لِكَثْرَةِ الْفَوَاطِمِ، لَكِنْ (لَوْ) نَوَاهَا، صَحَّ. كَذَا قَالَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ، وَاعْتَرَضَ ابْنُ الصَّبَّاغِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ، وَالشُّهُودُ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى النِّيَّةِ، وَهَذَا قَوِيٌّ، وَلِهَذَا الْأَصْلِ مَنَعْنَا النِّكَاحَ بِالْكِنَايَاتِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ فَصَاعِدًا، اشْتُرِطَ تَمْيِيزُ الْمَنْكُوحَةِ بِاسْمٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ صِفَةٍ، كَقَوْلِهِ: فَاطِمَةُ، أَوْ هَذِهِ، أَوِ الْكُبْرَى. قَالَ الْمُكْتَفُونَ بِالنِّيَّةِ: أَوْ بِأَنْ يَنْوِيَا وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَفْظٌ مُمَيِّزٌ. وَلَوْ قَالَ: بِنْتِي الْكُبْرَى وَسَمَّاهَا بِاسْمِ الصُّغْرَى، صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الْكُبْرَى عَلَى الْوَصْفِ. وَيَجِيءُ عَلَى قِيَاسِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْوَاحِدَةِ أَنْ يَبْطُلَ النِّكَاحُ. وَإِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، بَلْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فُلَانَةً، وَذَكَرَ اسْمَ الْكَبِيرَةِ وَقَصَدَ تَزْوِيجَهُ الصَّغِيرَةَ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقَصَدَ الزَّوْجُ الَّتِي قَصَدَهَا الْوَلِيُّ، صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الَّتِي قَصَدَاهَا، وَلَغَتِ التَّسْمِيَةُ. وَفِي الِاعْتِمَادِ عَلَى النِّيَّةِ الْإِشْكَالُ السَّابِقُ. وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: قَصَدْنَا الْكَبِيرَةَ، فَالنِّكَاحُ فِي الظَّاهِرِ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْكَبِيرَةِ. وَإِنْ صَدَّقَ الْوَلِيَّ

فِي أَنَّهُ قَصَدَ الصَّغِيرَةَ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ قَبِلَ غَيْرَ مَا أَوْجَبَ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ الْمُعْتَبِرُونَ لِلنِّيَّةِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَسْأَلَةً مَنْقُولَةً، وَهِيَ أَنَّ زَيْدًا خَطَبَ إِلَى قَوْمٍ، وَعَمْرًا إِلَى آخَرِينَ، ثُمَّ جَاءَ زَيْدٌ إِلَى الْآخَرِينَ، وَعَمْرٌو إِلَى الْأَوَّلِينَ، وَزَوَّجَ كُلُّ فَرِيقٍ مَنْ جَاءَهُ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَقَعَتْ فِي أَيَّامِ أَبِي السَّائِبِ بِبَغْدَادَ، فَأَفْتَى الْفُقَهَاءُ بِصِحَّةِ النِّكَاحَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَلِيٍّ أَوْجَبَ لِغَيْرِ مَنْ قَبِلَ. قُلْتُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِثْلَهَا، وَالْفَرْقُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ، زَوَّجُ رَجُلٌ رَجُلًا إِحْدَى بِنْتَيْهِ، فَمَاتَ الْأَبُ، وَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَيْهِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، أَوِ ادَّعَى هُوَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَابِ الثَّانِيَ عَشَرَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الشَّهَادَةُ، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إِلَّا بِحَضْرَةِ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ مُكَلَّفَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ سَمِيعَيْنِ بَصِيرَيْنِ مُتَيَقِّظَيْنِ عَارِفَيْنِ لِسَانَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ بِالْأَعْمَيَيْنِ، وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهًا أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِمَنْ لَا يَعْرِفُ لِسَانَ الْمُتَعَاقِدَيْنَ، لِأَنَّهُ يَنْقُلُهُ إِلَى الْحَاكِمِ. وَأَمَّا الْمُغَفَّلُ الَّذِي لَا يَضْبِطُ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ، وَيَنْعَقِدُ بِمَنْ يَحْفَظُ وَيَنْسَى عَنْ قَرِيبٍ. وَفِي الْأَخْرَسِ وَذِي الْحِرْفَةِ الدَّنِيَّةِ، وَالصَّبَّاغِ، وَالصَّائِغِ، وَجْهَانِ. وَفِي عَدُوَّيِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ: الِانْعِقَادُ. وَالثَّالِثُ: يَنْعَقِدُ بِعَدُوَّيْ أَحَدِهِمَا دُونَ عَدُوَّيْهِمَا، وَاخْتَارَهُ الْعِرَاقِيُّونَ.

وَفِي ابْنَيْهِمَا وَابْنَيْ أَحَدِهِمَا وَابْنِهِ وَابْنِهَا هَذِهِ الْأَوْجُهُ. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ الْخِلَافُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَيَنْعَقِدُ فِي الْعَدُوَّيْنِ قَطْعًا، لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ قَدْ تَزُولُ. وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ بِابْنَيْهَا وَعَدُوَّيْهِ دُونَ ابْنَيْهِ وَعَدُوَّيْهَا، لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْإِثْبَاتِ دُونَهَا، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي جَدِّهِ وَجَدِّهَا، وَأَبِيهِ مَعَ جَدِّهَا. وَأَمَّا أَبُوهَا، فَوَلِيٌّ عَاقِدٌ، فَلَا يَكُونُ شَاهِدًا. وَلَوْ وَكَّلَ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِحُضُورِهِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبُهُ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ غَيْرَ الْأَبِ وَحَضَرَ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ، لَمْ يَنْعَقِدْ. قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : لَوْ كَانَ لَهَا إِخْوَةٌ، فَزَوَّجَ أَحَدُهُمْ، وَحَضَرَ آخَرَانِ مِنْهُمْ شَاهِدَيْنِ، فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ جَوَابَانِ. وَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْمُبَاشِرَ نَائِبًا عَنِ الْبَاقِينَ فِيمَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ مِنْهُمَا، الصِّحَّةُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَنْعَقِدُ بِحَضْرَةِ ابْنَيْهِ مَعَ ابْنَيْهَا، أَوْ عَدُوَّيْهِ مَعَ عَدُوَّيْهَا بِلَا خِلَافٍ، لِإِمْكَانِ إِثْبَاتِ شِقَّتِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: لَا. وَالْمَسْتُورُ: مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ ظَاهِرًا، لَا بَاطِنًا. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ بِمَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ ظَاهِرًا، وَهَذَا كَأَنَّهُ مُصَوَّرٌ فِيمَنْ لَا يُعْرَفُ إِسْلَامُهُ، وَإِلَّا، فَظَاهِرٌ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ الِاحْتِرَازُ مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ. قُلْتُ: الْحَقُّ، قَوْلُ الْبَغَوِيِّ، وَأَنَّ مُرَادَهُ مَنْ لَا يُعَرَفُ ظَاهِرُهُ بِالْعَدَالَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ

الْبَغَوِيُّ بِهَذَا، وَقَالَهُ شَيْخُهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَنَقَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ عَنِ الْقَاضِي وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَا يَنْعَقِدُ بِمَنْ لَا يَظْهَرُ إِسْلَامُهُ وَحُرِّيَّتُهُ، بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ يَخْتَلِطُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْكُفَّارِ وَالْأَحْرَارُ بِالْعَبِيدِ وَلَا غَالِبَ. وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مَسْتُورِ الْحُرِّيَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، بَلْ لَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ بِالدَّارِ حَتَّى يُعْرَفَ حَالُهُ فِيهِمَا بَاطِنًا. هَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ يَسْهُلُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ. وَلَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ بِفِسْقِ الْمَسْتُورِ، فَهَلْ يَزُولُ السِّتْرُ فَلَا يَنْعَقِدُ بِحُضُورِهِ، وَإِنْ زَالَ فَيُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الرِّوَايَةِ؟ أَمْ يُقَالُ: هُوَ شَهَادَةٌ فَلَا يَقْدَحُ إِلَّا قَوْلُ مَنْ يُجْرَحُ عِنْدَ الْقَاضِي؟ تَرَدَّدَ فِيهِمَا الْإِمَامُ. قُلْتُ: لَوْ تَرَافَعَ الزَّوْجَانِ إِلَى حَاكِمٍ، وَأَقَرَّا بِنِكَاحِ عَقْدٍ بِمَسْتُورَيْنِ، وَاخْتَصَمَا فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ، كَنَفَقَةٍ وَنَحْوِهَا، حَكَمَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَنْظُرُ فِي حَالِ الشَّاهِدَيْنِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ فِسْقَهُمَا فَلَا يَحْكُمَ. فَإِنْ جَحَدَ أَحَدُهُمَا النِّكَاحَ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي مَسْتُورَيْنِ، لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ وَلَا فَسَادِهِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَعْلَمَ بَاطِنَهُمَا، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لَوْ بَانَ الشَّاهِدُ فَاسِقًا حَالَ الْعَقْدِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا لَوْ بَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْفِسْقُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ أَنَّهُمَا كَانَا فَاسِقَيْنِ وَلَمْ نَعْلَمْهُمَا، أَوْ نَسِينَا فِسْقَهُمَا. فَأَمَّا لَوْ قَالَا: عَلِمْنَا (فِسْقَهُمَا) حِينَئِذٍ، أَوْ عَلِمَهُ أَحَدُنَا، فَقَالَ الْإِمَامُ: نَتَبَيَّنُ الْبُطْلَانَ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مَسْتُورَيْنِ عِنْدَ الزَّوْجَيْنِ، وَعَلَيْهِمَا التَّعْوِيلُ،

وَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ: كُنَّا فَاسِقَيْنِ يَوْمَئِذٍ، كَمَا لَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِهِمَا: كُنَّا فَاسِقَيْنِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا، وَكَذَا لَوْ تَقَارَّ الزَّوْجَانِ أَنَّ النِّكَاحَ وَقَعَ فِي الْإِحْرَامِ أَوِ الْعِدَّةِ أَوِ الرِّدَّةِ، نَتَبَيَّنُ بُطْلَانَهُ، وَلَا مَهْرَ إِلَّا إِذَا كَانَ دَخَلَ بِهَا، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. فَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، مَلَكَ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ. وَلَوِ اعْتَرَفَ الزَّوْجُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْكَرَتْ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهَا فِي الْمَهْرِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكُلُّهُ إِنْ كَانَ بَعْدَهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ. وَفِي سَبِيلِ هَذَا التَّفْرِيقِ خِلَافٌ. قَالَ أَصْحَابُ الْقَفَّالِ: هُوَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، فَلَوْ نَكَحَهَا يَوْمًا، عَادَتْ بِطَلْقَتَيْنِ. قَالُوا: وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ لَوْ نَكَحَ أَمَةً، ثُمَّ قَالَ: نَكَحْتُهَا وَأَنَا وَاجِدٌ طَوْلَ حُرَّةٍ، بَانَتْ بِطَلْقَةٍ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّهَا فُرْقَةُ فَسْخٍ لَا تُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالرَّضَاعِ. وَإِلَى هَذَا مَالَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، وَهَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا نَصَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَةِ، وَلِإِنْكَارِهِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ نَصَّ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ إِذَا نَكَحَ أَمَةً، ثُمَّ قَالَ: نَكَحْتُهَا وَأَنَا أَجِدُ طَوْلًا، فَصَدَّقَهُ مَوْلَاهَا، فُسِخَ النِّكَاحُ بِلَا مَهْرٍ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَإِنْ كَذَّبَهُ، فُسِخَ النِّكَاحُ بِإِقْرَارِهِ، وَلَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْمَهْرِ، دَخَلَ أَمْ لَمْ يَدْخُلْ. هَذَا لَفْظُهُ وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَ الْعِرَاقِيِّينَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ، قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ. وَحَكَى الْعِرَاقِيُّونَ وَجْهًا: أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْمَهْرِ، فَلَا يَلْزَمُهُ. وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إِنْ كَانَ اعْتِرَافُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا إِذَا مَاتَتْ لَا يَرِثُهَا. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهَا، فَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ، فَيَحْلِفُ وَارِثُهُ: لَا يَعْلَمُهُ تَزَوَّجَهَا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، وَلَا إِرْثَ لَهَا. وَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهَا، حَلَفَتْ أَنَّهُ عَقَدَ بِعَدْلَيْنِ وَوَرِثَتْ. وَلَوْ قَالَتْ: عَقَدْنَا بِفَاسِقَيْنِ، فَقَالَ: بَلْ بِعَدْلَيْنِ. فَأَيُّهُمَا يُقْبَلُ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: قَوْلُهُ. فَإِنْ مَاتَ، لَمْ تَرِثْهُ، وَإِنْ مَاتَ

أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ، لِإِنْكَارِهَا، وَبَعْدَ الدُّخُولِ لَهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ اسْتِتَابَةُ الْمَسْتُورَيْنِ قَبْلَ الْعَقْدِ، احْتِيَاطٌ وَاسْتِظْهَارٌ، وَتَوْبَةُ الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ حِينَئِذٍ، هَلْ تُلْحِقُهُ بِالْمَسْتُورِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. فَإِنْ أَلْحَقْنَا فَعَادَ إِلَى فُجُورِهِ عَلَى قُرْبٍ، قَالَ الْإِمَامُ: فَالظَّاهِرُ أَنَّ تِلْكَ التَّوْبَةَ تَكُونُ سَاقِطَةً، قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ. فَرْعٌ الِاحْتِيَاطُ، الْإِشْهَادُ عَلَى رِضَى الْمَرْأَةِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ رِضَاهَا، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ. قُلْتُ: وَمِنْ مَسَائِلِ الْفَصْلِ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إِحْضَارُ الشَّاهِدَيْنِ، بَلْ إِذَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا، وَسَمِعَا الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ، صَحَّ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا الصَّدَاقَ. وَلَوْ عَقَدَ بِشَهَادَةِ خُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ بَانَا رَجُلَيْنِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفُتُوحِ: احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي انْعِقَادِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ صَلَّى رَجُلٌ خَلْفَهُ فَبَانَ رَجُلًا. هَذَا كَلَامُهُ. وَالِانْعِقَادُ هُنَا هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ عَدَمَ جَزْمِ النِّيَّةِ يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْعَاقِدَانِ، وَهُمَا الْمُوجِبُ، وَالْقَابِلُ. فَالْقَابِلُ: هُوَ الزَّوْجُ وَمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ. وَالْمُوجِبُ: هُوَ الْوَلِيُّ أَوْ وَكِيلُهُ، وَلَا تَصِحُّ عِبَارَةُ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ إِيجَابًا وَقَبُولًا. فَلَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَلَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَا غَيْرَهَا، لَا بِوَلَايَةٍ وَلَا وِكَالَةٍ، (وَلَا يُقْبَلُ النِّكَاحُ لَا بِوَلَايَةٍ وَلَا وِكَالَةٍ) . وَلَوْ وَكَّلَ بِنْتَهُ بِأَنْ تُوَكِّلَ رَجُلًا بِتَزْوِيجِهَا، فَوَكَّلَتْ، نَظَرٌ، إِنْ قَالَ: وَكِّلِي عَنْ نَفْسِكِ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ قَالَ: وَكِّلِي عَنِّي، أَوْ أُطَلِّقُ، فَوَجْهَانِ. فَرْعٌ رَوَى يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِذَا كَانَ فِي الرُّفْقَةِ امْرَأَةٌ لَا وَلِيَّ لَهَا، فَوَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا حَتَّى يُزَوِّجَهَا، جَازَ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، لِأَنَّ أَبَا عَاصِمٍ الْعَبَّادِيَّ حَكَى هَذَا النَّصَّ فِي طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَنْكَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ، وَقَالَ: إِنَّهُ تَحْكِيمٌ، وَالْمُحَكَّمُ قَامَ مَقَامَ الْحَاكِمِ. قُلْتُ: ذَكَرَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) فِيمَا إِذَا كَانَتِ امْرَأَةٌ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ وَلِيٌّ وَلَا حَاكِمٌ، ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا تُزَوِّجُ. وَالثَّانِي: تُزَوِّجُ نَفْسَهَا لِلضَّرُورَةِ. وَالثَّالِثُ: تُوَلِّي أَمْرَهَا رَجُلًا يُزَوِّجُهَا. وَحَكَى الشَّاشِيُّ أَنَّ صَاحِبَ (الْمُهَذَّبِ) كَانَ يَقُولُ فِي هَذَا: تُحَكِّمُ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي التَّحْكِيمِ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى الْأَظْهَرِ فِي جَوَازِهِ فِي النِّكَاحِ، وَلَكِنَّ شَرْطَ الْحَكَمِ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ، وَهَذَا يُعْتَبَرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ. فَالَّذِي نَخْتَارُهُ، صِحَّةُ النِّكَاحِ إِذَا وَلَّتْ أَمْرَهَا عَدْلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ الَّذِي نَقَلَهُ يُونُسُ، وَهُوَ ثِقَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ إِذَا وَطِئَ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا حَدَّ سَوَاءٌ صَدَرَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ أَوْ إِبَاحَتَهُ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ حُسْبَانٍ مُجَرَّدٍ، لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّ مُعْتَقِدَ التَّحْرِيمِ يُعَزَّرُ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ: يُحَدُّ مُعْتَقِدُ التَّحْرِيمِ، وَلَا مَهْرَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ رُفِعَ النِّكَاحُ بِلَا وَلِيٍّ إِلَى قَاضٍ يُصَحِّحُهُ، فَحَكَمَ بِصِحَّتِهِ، ثُمَّ رُفِعَ إِلَيْنَا، لَمْ نَنْقُضْ قَضَاءَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: نَنْقُضُهُ، وَلَوْ طَلَّقَ فِيهِ، لَمْ يَقَعْ، فَلَوْ طَلَّقَ ثَلَاثًا، لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى مُحَلِّلٍ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَقَعُ وَيَفْتَقِرُ إِلَى مُحَلِّلٍ احْتِيَاطًا لِلْإِبْضَاعِ، وَهَذَا كَوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّهَا إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا، هَلْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَهَا قَبْلَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: وَبِالْمَنْعِ أَجَابَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْفِرَاشِ، وَهُوَ تَخْرِيجُ ابْنِ سُرَيْجٍ. فَرْعٌ إِذَا أَقَرَّتْ حُرَّةٌ مُكَلَّفَةٌ بِالنِّكَاحِ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهَا مَعَ تَصْدِيقِ الزَّوْجِ بِلَا بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقُّهُمَا، فَثَبَتَ بِتَصَادُقِهِمَا، كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ عَلَى هَذَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَلَا بَيْنَ الْغَرِيبَيْنِ وَالْبَلَدِيَّيْنِ. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُمَا إِنْ كَانَا غَرِيبَيْنِ، ثَبَتَ النِّكَاحُ، وَإِلَّا، طُولِبَا بِالْبَيِّنَةِ، لِسُهُولَتِهَا عَلَيْهِمَا، وَلِلِاحْتِيَاطِ، فَعَلَى الْجَدِيدِ: هَلْ يَكْفِي إِطْلَاقُ الْإِقْرَارِ، أَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُفَصِّلَ فَيَقُولَ: زَوَّجَنِي بِهِ وَلِيِّي بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ وَرِضَايَ؟ إِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةَ الرِّضَى، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. ثُمَّ إِذَا أَقَرَّتْ وَكَذَّبَهَا الْوَلِيُّ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يُحْكَمُ بِقَوْلِهَا، لِأَنَّهَا

تُقِرُّ عَلَى نَفْسِهَا، قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهَا كَالْمُقِرَّةِ عَلَى الْوَلِيِّ، قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَالثَّالِثُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَفِيفَةِ وَالْفَاسِقَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ أَنْ تُفَصِّلَ الْإِقْرَارَ وَتُضِيفَ التَّزْوِيجَ إِلَى الْوَلِيِّ فَيُكَذِّبَهَا، وَبَيْنَ أَنْ تُطْلِقَ إِذَا قَبِلْنَا الْإِقْرَارَ الْمُطْلَقَ فَقَالَ الْوَلِيُّ: لَا وَلِيَّ لَكِ غَيْرِي، وَمَا زَوَّجْتُكِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ أَيْضًا فِي تَكْذِيبِ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا كَانَتْ قَدْ عَيَّنَتْهُمَا. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ تَكْذِيبُهُمَا، لِاحْتِمَالِ النِّسْيَانِ وَالْكَذِبِ. فَإِنْ قُلْنَا: تَكْذِيبُ الْوَلِيِّ يَمْنَعُ قَبُولَ إِقْرَارِهَا، فَكَانَ غَائِبًا، لَمْ يُنْتَظَرْ حُضُورُهُ، بَلْ تُسَلَّمُ إِلَى الزَّوْجِ فِي الْحَالِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ عَادَ وَكَذَّبَهَا، فَهَلْ يُحَالُ بَيْنَهُمَا لِزَوَالِ الضَّرُورَةِ، أَمْ يُسْتَدَامُ؟ وَجْهَانِ، رَجَّحَ الْغَزَالِيُّ الْأَوَّلَ، وَغَيْرُهُ الثَّانِيَ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَجَرَى الْإِقْرَارُ فِي الْغُرْبَةِ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى الْوَطَنِ، فَفِي الْحِوَالَةِ بَيْنَهُمَا الْوَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ قَضَى قَاضٍ بِالْإِقْرَارِ، لَمْ يُنْقَضْ. فَرْعٌ أَقَرَّ الْوَلِيُّ بِإِنْكَاحِهَا، إِنْ كَانَ لَهُ إِنْشَاءُ النِّكَاحِ الْمُقَرِّ بِهِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ بِغَيْرِ رِضَاهَا، قُبِلَ إِقْرَارُهُ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْشَاءِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ حَتَّى تُوَافِقَهُ الْبَالِغَةُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِنْشَاءُ بِغَيْرِ رِضَاهَا، لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُجْبِرٍ، أَوِ الْحَالُ غَيْرُ حَالِ الْإِجْبَارِ، أَوِ الزَّوْجُ لَيْسَ بِكُفْءٍ، لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ. وَلَوْ قَالَ وَهِيَ ثَيِّبٌ: كُنْتُ زَوَّجْتُهَا فِي بَكَارَتِهَا، لَمْ يُقْبَلْ، وَاعْتُبِرَ وَقْتُ الْإِقْرَارِ، كَذَا أَطْلَقَهُ الْإِمَامُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَيُمْكِنُ جَعْلُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ أَقَرَّ مَرِيضٌ لِوَارِثِهِ بِهِبَةٍ فِي الصِّحَّةِ.

فَرْعٌ أَقَرَّتْ لِزَوْجٍ، وَأَقَرَّ وَلِيُّهَا الْمَقْبُولُ إِقْرَارُهُ لِآخَرَ، فَهَلِ الْمَقْبُولُ إِقْرَارُهُ، أَمْ إِقْرَارُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ وَالْحَلِيمِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَالْأَوْدَنِيِّ. فَرْعٌ قَالَ الْخَاطِبُ لِوَلِيِّ الْمَرْأَةِ: زَوَّجْتُ نَفْسِي بِنْتَكَ، فَقَبِلَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يُبْنَى انْعِقَادُ النِّكَاحِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ بَقَاءَهُمَا شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ كَالْعِوَضَيْنِ فِي الْبَيْعِ، أَمِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ فَقَطْ لِأَنَّ الْعِوَضَ مِنْ جِهَتِهِ الْمَهْرُ لَا نَفْسُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِي نِكَاحِ غَيْرِهَا مَعَهَا؟ فِيهِ خِلَافٌ. فَعَلَى الثَّانِي: لَا يَنْعَقِدُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ وَأَبُو سَهْلٍ الْأَبِيوَرْدِيُّ: يَنْعَقِدُ كَمَا لَوْ أَضَافَ إِلَيْهَا، وَمَنَعَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي بَيَانِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَحْكَامِهِمْ وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَطْرَافٍ. [الطَّرَفُ] الْأَوَّلُ: فِي أَسْبَابِ الْوَلَايَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. [السَّبُبُ] الْأَوَّلُ: الْأُبُوَّةُ، وَفِي مَعْنَاهَا الْجُدُودَةُ، وَهِيَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، لِكَمَالِ الشَّفَقَةِ، فَلِلْأَبِ تَزْوِيجُ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُ

الْبَالِغَةِ. وَلَوْ أَجْبَرَهَا، صَحَّ النِّكَاحُ. فَلَوْ كَانَ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا، وَكَذَا نَقَلَهُ الْحَنَّاطِيُّ عَنِ ابْنِ الْمَرْزُبَانِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ جَوَازُهُ. فَأَمَّا الثَّيِّبُ، فَلَا يُزَوِّجُهَا الْأَبُ إِلَّا بِإِذْنِهَا فِي حَالِ الْبُلُوغِ، وَالْجَدُّ كَالْأَبِ فِي كُلِّ هَذَا، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ قَوْلًا: أَنَّ الْجَدَّ لَا يُجْبِرُ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَاصِّ وَأَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَسَوَاءٌ حَصَلَتِ الثُّيُوبَةُ بِوَطْءٍ مُحْتَرَمٍ أَوْ زِنًا. وَحُكِيَ عَنِ الْقَدِيمِ: أَنَّ الْمُصَابَةَ بِالزِّنَا كَالْبِكْرِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِسَقْطَةٍ، أَوْ أُصْبَعٍ، أَوْ حِدَّةِ الطَّمْثِ، أَوْ طُولِ التَّعْنِيسِ، أَوْ وُطِئَتْ فِي دُبُرِهَا، فَبِكْرٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ وُطِئَتْ مَجْنُونَةٌ، أَوْ مُكْرَهَةٌ، أَوْ نَائِمَةٌ، فَثَيِّبٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ خَطَبَ الْبِكْرَ رَجُلٌ، فَمَنَعَهَا أَبُوهَا، فَذَهَبَتْ وَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِهِ، ثُمَّ زَوَّجَهَا الْأَبُ غَيْرَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَطَأْهَا، صَحَّ تَزْوِيجُ الْأَبِ، وَإِلَّا، فَلَا، لِأَنَّهَا ثَيِّبٌ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ. قُلْتُ: إِنَّمَا يَصِحُّ تَزْوِيجُ الْأَبِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ حَكَمَ بِصِحَّةِ نِكَاحِهَا بِنَفْسِهَا حَنَفِيٌّ وَنَحْوُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا الْتَمَسَتِ الْبِكْرُ الْبَالِغَةُ التَّزْوِيجَ وَقَدْ خَطَبَهَا كُفْءٌ، لَزِمَ الْأَبَ وَالْجَدَّ إِجَابَتُهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ، زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا تَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ، وَلَا يَأْثَمُ بِالِامْتِنَاعِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ يَحْصُلُ بِتَزْوِيجِ السُّلْطَانِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوِ الْتَمَسَتْ صَغِيرَةٌ بَلَغَتْ إِمْكَانَ الشَّهْوَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَزِمَهُ إِجَابَتُهَا.

قُلْتُ: هَذَا ضَعِيفٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ عَيَّنَتْ كُفْئًا، وَأَرَادَ الْأَبُ تَزْوِيجَهَا بِكُفْءٍ آخَرَ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اسْتُحِبَّ لِلْأَبِ أَنْ لَا يُزَوِّجَ الْبِكْرَ حَتَّى تَبْلُغَ وَيَسْتَأْذِنَهَا. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: فَإِنْ قَارَبَتِ الْبُلُوغَ، وَأَرَادَ تَزْوِيجَهَا، اسْتُحِبَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا ثِقَاتٍ يَنْظُرْنَ مَا فِي نَفْسِهَا. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَلَوْ خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ بِلَا بَكَارَةٍ، فَهِيَ بِكْرٌ. وَلَوِ ادَّعَتِ الْبَكَارَةَ أَوِ الثُّيُوبَةَ، فَقَطَعَ الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُ «الْحَاوِي» : بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا، وَلَا يُكْشَفُ حَالُهَا، لِأَنَّهَا أَعْلَمُ. قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : وَلَا تُسْأَلُ عَنِ الْوَطْءِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهَا زَوْجٌ. قَالَ الشَّاشِيُّ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا أَذْهَبَتْ بَكَارَتَهَا بِأُصْبَعِهَا، فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَهَا. فَإِنِ اتَّهَمَهَا، حَلَّفَهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. السَّبَبُ الثَّانِي: عُصُوبَةُ مَنْ عَلَى حَاشِيَةِ النَّسَبِ، كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَبَنِيهِمَا، فَلَا تُزَوَّجُ بِهَا الصَّغِيرَةُ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا. وَأَمَّا الْبَالِغَةُ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَلَهُمْ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهَا الصَّرِيحِ. وَإِنْ زُوِّجَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا، لَمْ يَنْعَقِدْ. وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا، فَلَهُمْ تَزْوِيجُهَا إِذَا اسْتَأْذَنُوهَا. وَهَلْ يَكْفِي سُكُوتُهَا، أَمْ يُشْتَرَطُ صَرِيحُ نُطْقِهَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِلِاسْتِئْذَانِ أَصْلًا، بَلْ إِذَا عَقَدَ بَيْنَ يَدَيْهَا وَلَمْ تُنْكِرْ، كَانَ رِضًى. وَالصَّحِيحُ الِاشْتِرَاطُ. وَإِذَا اكْتَفَيْنَا بِالسُّكُوتِ، حَصَلَ الرِّضَى، ضَحِكَتْ، أَمْ بَكَتْ، إِلَّا إِذَا بَكَتْ مَعَ الصِّيَاحِ وَضَرْبِ الْخَدِّ، فَلَا يَكُونُ رِضًى.

وَإِذَا أَرَادَ الْأَبُ تَزْوِيجَ الْبِكْرِ بِغَيْرِ كُفْءٍ، فَاسْتَأْذَنَهَا، فَهَلْ يَكْفِي السُّكُوتُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. قُلْتُ: وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ «كِتَابِ النِّكَاحِ» عَنْ فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ الْجَزْمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ إِذَا اسْتَأْذَنَهَا وَلِيٌّ فِي تَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ فَسَكَتَتْ. قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ: إِذَا اسْتَأْذَنَ الْوَلِيُّ الْبِكْرَ فِي أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهَا إِذْنًا فِي ذَلِكَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ قَالَ: أُزَوِّجُكِ بِشَخْصٍ؟ فَسَكَتَتْ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْأَلْيَقُ بِمَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ رِضًى، لِأَنَّ الرِّضَا بِالْمَجْهُولِ لَا يُتَصَوَّرُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: هَذَا يُخَرَّجُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الزَّوْجِ فِي الْإِذْنِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ إِذَا اكْتَفَيْنَا بِالسُّكُوتِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ الرَّافِعِيُّ، هُوَ الصَّوَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ قَالَ: أَيَجُوزُ أَنْ أُزَوِّجَكِ؟ فَقَالَتْ: لِمَ لَا يَجُوزُ؟ أَوْ قَالَ: أَتَأْذَنِينَ؟ فَقَالَتْ: لِمَ لَا آذَنُ؟ حَكَى بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ لَيْسَ بِإِذْنٍ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: هَذَا مُشْعِرٌ بِرِضَاهَا، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ سُكُوتِهَا. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِذْنٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ قَالَتْ: وَكَّلْتُكَ بِتَزْوِيجِي، فَالَّذِي لَقِينَاهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ لَا يَعُدُّونَهُ إِذْنًا، لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ بَاطِلٌ، لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَسْطُورَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ إِذْنًا، كَمَا إِذَا فَسَدَتِ الْوَكَالَةُ، نَفَذَ التَّصَرُّفُ بِالْإِذْنِ. قُلْتُ: هَذَا عَجَبٌ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ مَنْصُوصَةٌ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْذَنَ لِوَلِيِّهَا غَيْرِ الْمُجْبِرِ بِلَفْظِ (الْإِذْنِ) ، وَيَجُوزُ بِلَفْظِ الْوَكَالَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ نَقْلًا وَدَلِيلًا. وَلَوْ أَذِنَتْ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ، لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُهَا، كَالْمُوَكِّلِ إِذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ، فَإِنْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بَعْدَ الْعَزْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى بَيْعِ الْوَكِيلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ فِي «فَتَاوَى» الْبَغَوِيِّ: أَنَّ الَّتِي يُعْتَبَرُ إِذْنُهَا فِي تَزْوِيجِهَا إِذَا قَالَتْ لِوَلِيِّهَا وَهِيَ فِي نِكَاحٍ أَوْ عِدَّةٍ: أَذِنْتُ لَكَ فِي تَزْوِيجِي إِذَا فَارَقَنِي زَوْجِي أَوِ انْقَضَتْ عِدَّتِي، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ الْإِذْنُ، كَمَا لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ لِلْوَكِيلِ: زَوِّجْ بِنْتِي إِذَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا أَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَفِي هَذَا التَّوْكِيلِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْوَكَالَةِ. وَفِيهَا أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِلْبِكْرِ: رَضِيتِ بِمَا تَفْعَلُهُ أُمُّكِ؟ وَهِيَ تَعْرِفُ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ النِّكَاحَ، فَقَالَتْ: رَضِيتُ، لَمْ يَكُنْ إِذْنًا، لِأَنَّ الْأُمَّ لَا تَعْقِدُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ: رَضِيتُ بِمَا يَفْعَلُ الْوَلِيُّ. وَلَوْ قَالَتْ: رَضِيتُ بِالتَّزْوِيجِ بِمَنْ تَخْتَارُهُ أُمِّي، جَازَ. وَلَوْ قَالَتْ:

رَضِيتُ إِنْ رَضِيَتْ أُمِّي، لَا يَجُوزُ. وَلَوْ قَالَتْ: رَضِيتُ إِنْ رَضِيَ وَلِيِّي. فَإِنْ أَرَادَتِ التَّعْلِيقَ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ أَرَادَتْ: إِنِّي رَضِيتُ بِمَا يَفْعَلُهُ الْوَلِيُّ، كَانَ إِذْنًا. وَفِيهَا: لَوْ أَذِنَتْ فِي التَّزْوِيجِ بِأَلْفٍ، ثُمَّ قِيلَ لَهَا عِنْدَ الْعَقْدِ: بِخَمْسِمِائَةٍ، فَسَكَتَتْ وَهِيَ بِكْرٌ، كَانَ سُكُوتُهَا إِذْنًا فِي تَزْوِيجِهَا بِخَمْسِمِائَةٍ. وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ لِأُمِّهَا وَهِيَ حَاضِرَةٌ، فَسَكَتَتْ، لَمْ يَكُنْ إِذْنًا. السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْإِعْتَاقُ، فَالْمُعْتِقُ وَعَصَبَتُهُ يُزَوِّجُونَ كَالْأَخِ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: السَّلْطَنَةُ، فَيُزَوِّجُ السُّلْطَانُ بِالْوَلَايَةِ الْعَامَّةِ الْبَوَالِغَ بِإِذْنِهِنَّ، وَلَا يُزَوِّجُ الصِّغَارَ. ثُمَّ السُّلْطَانُ يُزَوِّجُ فِي مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: عَدَمُ الْوَلِيِّ الْخَاصِّ. الثَّانِي: عِنْدَ غَيْبَتِهِ. الثَّالِثُ: عِنْدَ إِرَادَتِهِ تَزَوُّجَهَا لِنَفْسِهِ. الرَّابِعُ: عَضْلُهُ، فَإِذَا عَضَلَهَا وَلِيُّهَا بِقَرَابَةٍ أَوْ إِعْتَاقٍ، وَاحِدًا كَانَ، أَوْ جَمَاعَةً مُسْتَوِينَ، زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ. وَهَلْ تَزْوِيجُهُ فِي هَذَا الْحَالِ بِالْوَلَايَةِ، أَمِ النِّيَابَةِ عَنِ الْوَلِيِّ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ فِيهِ وَفِي جَمِيعِ صُوَرِ تَزْوِيجِ السُّلْطَانِ مَعَ وُجُودِ أَهْلِيَّةِ الْوَلِيِّ الْخَاصِّ. ثُمَّ إِنَّمَا يَحْصُلُ الْعَضْلُ إِذَا دَعَتِ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ إِلَى تَزْوِيجِهَا بِكُفْءٍ فَامْتَنَعَ. فَأَمَّا إِذَا دَعَتْ إِلَى غَيْرِ كُفْءٍ، فَلَهُ الِامْتِنَاعُ، وَلَا يَكُونُ عَضْلًا. وَإِذَا حَصَلَتِ الْكَفَاءَةُ، فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّهَا. وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْعَضْلِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيُزَوِّجَهَا. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَضْلُ حَتَّى يَمْتَنِعَ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْضُرَ الْخَاطِبُ وَالْمَرْأَةُ وَالْوَلِيُّ، وَيَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِالتَّزْوِيجِ فَيَقُولُ: لَا أَفْعَلُ، أَوْ يَسْكُتُ، فَحِينَئِذٍ يُزَوِّجُهَا الْقَاضِي. وَكَانَ هَذَا فِيمَا إِذَا تَيَسَّرَ إِحْضَارُهُ عِنْدَ الْقَاضِي. فَأَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ بِتَعَزُّزٍ أَوْ تَوَارٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ الْإِثْبَاتُ بِالْبَيِّنَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الْحُضُورِ لَا مَعْنَى لِلْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُ إِنْ زَوَّجَ، وَإِلَّا فَعَضَلَ.

فَرْعٌ سَيَأْتِي خِلَافٌ فِي أَنَّ السَّيِّدَ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ بِالْمِلْكِ، أَمْ بِالْوَلَايَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: بِالْوَلَايَةِ، صَارَتِ الْأَسْبَابُ خَمْسَةً. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي تَرْتِيبِ الْأَوْلِيَاءِ، فَتُقَدَّمُ جِهَةُ الْقَرَابَةِ، ثُمَّ الْوَلَاءِ، ثُمَّ السَّلْطَنَةِ. وَيُقَدَّمُ مِنَ الْقَرَابَةِ الْأَبُ، ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ أَبُوهُ، إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي، ثُمَّ الْأَخُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ الْعَمُّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ سَائِرُ الْعَصَبَاتِ. وَالتَّرْتِيبُ فِي التَّزْوِيجِ، كَالتَّرْتِيبِ فِي الْإِرْثِ، إِلَّا فِي مَسَائِلَ. إِحْدَاهَا: الْجَدُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ هُنَا. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: الْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ فِي الْإِرْثِ، وَهُنَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: يُقَدَّمُ أَيْضًا. وَالْقَدِيمُ: يَسْتَوِيَانِ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي ابْنَيِ الْأَخِ وَالْعَمَّيْنِ وَابْنَيِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَالْآخَرُ مِنَ الْأَبِ. وَلَوْ كَانَ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخُوهَا مِنَ الْأُمِّ، أَوِ ابْنَا ابْنِ عَمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُهَا، فَقَالَ الْإِمَامُ: هُمَا سَوَاءٌ. وَطَرَدَ الْجُمْهُورُ الْقَوْلَيْنِ وَقَالُوا: الْجَدِيدُ: يُقَدَّمُ الْأَخُ وَالِابْنُ. وَلَوْ كَانَ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَالْآخَرُ مِنَ الْأَبِ، لَكِنَّهُ أَخُوهَا مِنَ الْأُمِّ، فَالثَّانِي هُوَ الْوَلِيُّ، لِأَنَّهُ يُدْلِي بِالْجَدِّ وَالْأُمِّ، وَالْأَوَّلُ بِالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ. وَلَوْ كَانَ ابْنَا ابْنِ عَمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُهَا، وَالْآخَرُ أَخُوهَا مِنَ الْأُمِّ، فَالِابْنُ هُوَ الْمُقَدَّمُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ. وَلَوْ كَانَ ابْنَا مُعْتِقٍ أَحَدُهُمَا ابْنُهَا، فَهُوَ الْمُقَدَّمُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي التَّفْرِيعِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمُعْتِقُ نِكَاحَ عَتِيقَتِهِ وَلَهُ ابْنٌ مِنْهَا وَابْنٌ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْحُرِّيَّةَ بِسَبَبِهِ، زَوَّجَهُ ابْنُهُ مِنْهَا دُونَ ابْنِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهَذَا غَلَطٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، لِأَنَّ ابْنَ الْمُعْتِقِ لَا يُزَوِّجُ فِي حَيَاةِ الْمُعْتِقِ، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهُ السُّلْطَانُ، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُ

فصل

ابْنُ الْمُعْتِقِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى الْجَدِيدِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَدِيمِ، فَيُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الصُّوَرِ. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا مُعْتِقٌ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، أَوِ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا خَالٌ، فَهُمَا سَوَاءٌ بِلَا خِلَافٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّالِثَةُ: الِابْنُ لَا يُزَوِّجُ بِالْبُنُوَّةِ، فَإِنْ شَارَكَهَا فِي نَسَبٍ كَابْنٍ هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمِّهَا، فَلَهُ الْوَلَايَةُ بِذَلِكَ. وَكَذَا إِنْ كَانَ مُعْتِقًا أَوْ قَاضِيًا، أَوْ تَوَلَّدَتْ قَرَابَةٌ مِنْ أَنْكِحَةِ الْمَجُوسِ، أَوْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، بِأَنْ كَانَ ابْنُهَا أَخَاهَا، أَوِ ابْنَ أَخِيهَا، أَوِ ابْنَ عَمِّهَا، وَلَا تَمْنَعُهُ الْبُنُوَّةُ التَّزْوِيجَ بِالْجِهَةِ الْأُخْرَى. فَصْلٌ وَأَمَّا الْوَلَاءُ، فَمَنْ لَا عَصَبَةَ لَهَا بِنَسَبٍ، وَعَلَيْهَا وَلَاءٌ، فَيُنْظَرُ، إِنْ أَعْتَقَهَا رَجُلٌ، فَوَلَايَةُ تَزْوِيجِهَا لَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الْوَلَايَةِ، فَلِعَصَبَاتِهِ، ثُمَّ لِمُعْتِقِهِ، ثُمَّ لِعَصِبَاتِ مُعْتِقِهِ، وَهَكَذَا عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الْإِرْثِ. وَتَرْتِيبُ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ فِي التَّزْوِيجِ، كَتَرْتِيبِ عَصَبَاتِ النَّسَبِ، إِلَّا فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ. إِحْدَاهَا: جَدُّهَا أَوْلَى مِنْ أَخِيهَا، وَفِي جَدِّ الْمُعْتِقِ وَأَخِيهِ قَوْلَانِ كَإِرْثِهِمَا بِالْوَلَاءِ. أَظْهَرُهُمَا: تَقْدِيمُ الْأَخِ، وَالثَّانِي: يَسْتَوِيَانِ. وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ الْمُعْتِقِ وَابْنُ أَخِيهِ، فَإِنْ قَدَّمْنَا الْأَخَ عَلَى الْجَدِّ، قَدَّمْنَا ابْنَهُ، وَإِلَّا فَيُقَدَّمُ الْجَدُّ. وَقَدْ حَكَيْنَا فِي الْإِرْثِ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهًا أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَطَّرِدَ هُنَا. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّانِيَةُ: ابْنُ الْمَرْأَةِ لَا يُزَوِّجُهَا، وَابْنُ الْمُعْتِقِ يُزَوِّجُ، وَيُقَدَّمُ عَلَى أَبِيهِ، لِأَنَّ التَّعْصِيبَ لَهُ. (الْمَسْأَلَةُ) الثَّالِثَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ أَخُو الْمُعْتِقِ لِأَبَوَيْهِ وَأَخُوهُ لِأَبِيهِ،

فَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِتَقْدِيمِ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ كَالنَّسَبِ. وَقِيلَ: يَسْتَوِيَانِ قَطْعًا. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ امْرَأَةً، فَلَا وَلَايَةَ لَهَا، لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا قَالَهُ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» : يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُزَوِّجُهَا مَنْ يُزَوِّجُ مُعْتِقَهَا، فَيُزَوِّجُهَا أَبُو الْمُعْتِقَةِ ثُمَّ جَدُّهَا عَلَى تَرْتِيبِ الْأَوْلِيَاءِ، وَلَا يُزَوِّجُهَا ابْنُ الْمُعْتِقَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي تَزْوِيجِهَا رِضَاهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَى الْمُعْتِقَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، إِذْ لَا وَلَايَةَ لَهَا. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ، فَإِنْ عَضَلَتْ، نَابَ السُّلْطَانُ عَنْهَا فِي الْإِذْنِ، وَيُزَوِّجُ الْوَلِيُّ. فَإِنْ كَانَتِ الْمُعْتِقَةُ مَيِّتَةً، زَوَّجَهَا مَنْ لَهُ الْوَلَاءُ مِنْ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقَةِ، وَيُقَدَّمُ الِابْنُ عَلَى الْأَبِ. وَتَعُودُ الصُّوَرُ الْمَذْكُورَةُ فِي مُفَارَقَتِهِمْ عَصَبَاتِ النَّسَبِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ رَجُلًا. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ الْأَبَ يُقَدَّمُ عَلَى الِابْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُعْتِقَةِ، وَوَجْهٌ: أَنَّ الِابْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَبِ فِي حَيَاتِهَا، وَهُمَا شَاذَّانِ. فَرْعٌ مَتَى اجْتَمَعَ عَدَدٌ مِنْ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ فِي دَرَجَةٍ، كَالْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ، فَهُمْ كَالْإِخْوَةِ فِي النَّسَبِ. فَإِذَا زَوَّجَهَا أَحَدُهُمْ بِرِضَاهَا صَحَّ، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَى الْآخَرِينَ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ اثْنَانِ، اشْتُرِطَ رِضَاهُمَا، فَيُوكِّلَانِ، أَوْ يُوكِّلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، أَوْ يُبَاشِرَانِ الْعَقْدَ مَعًا. وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ الْمُعْتِقَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، اشْتُرِطَ مُوَافَقَةُ السُّلْطَانِ لِلْآخَرِ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَنِ ابْنَيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ، كَفَى مُوَافَقَةُ أَحَدِهِمَا لِلْمُعْتِقِ الْآخَرِ. وَلَوْ مَاتَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ ابْنَيْنِ، كَفَى مُوَافَقَةُ أَحَدِ ابْنَيْ هَذَا أَحَدَ ابْنَيْ ذَاكَ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَوَارِثُهُ الْآخَرُ، اسْتَقَلَّ بِتَزْوِيجِهَا.

فصل

فَرْعٌ كَانَ الْمُعْتِقُ خُنْثَى مُشْكِلًا، يَنْبَغِي أَنْ يُزَوِّجَهَا أَبُوهُ بِإِذْنِهِ، فَيَكُونَ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا إِنْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا. فَصْلٌ فِيمَنْ بَعْضُهَا حُرٌّ، خَمْسَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يُزَوِّجُهَا مَالِكُ الْبَعْضِ وَمَعَهُ وَلِيُّهَا الْقَرِيبُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَمُعْتِقُ بَعْضِهَا، وَإِلَّا، فَالسُّلْطَانُ. وَالثَّانِي: يَكُونُ مَعَهُ مُعْتِقُ الْبَعْضِ. وَالثَّالِثُ: مَعَهُ السُّلْطَانُ. وَالرَّابِعُ: يَسْتَقِلُّ مَالِكُ الْبَعْضِ. وَالْخَامِسُ: لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا أَصْلًا، لِضَعْفِ الْمِلْكِ وَالْوَلَايَةِ بِالتَّبْعِيضِ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي مَوَانِعِ الْوَلَايَةِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ. (الْمَانِعُ) الْأَوَّلُ: الرِّقُّ، فَلَا وَلَايَةَ لِرَقِيقٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ قَطْعًا، وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ فِي الْإِيجَابِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي الْوَكَالَةِ. (الْمَانِعُ) الثَّانِي: مَا يَسْلُبُ النَّظَرَ وَالْبَحْثَ عَنْ حَالِ الزَّوْجِ، وَفِيهِ صُوَرٌ سِتٌّ. إِحْدَاهَا: الصِّبَا وَالْجُنُونُ الْمُطْبِقُ يَمْنَعَانِ الْوَلَايَةَ وَيَنْقُلَانِهَا إِلَى الْأَبْعَدِ. وَفِي الْجُنُونِ الْمُنْقَطِعِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَالْمُطْبِقِ، وَيُزَوِّجُهَا الْأَبْعَدُ يَوْمَ جُنُونِهِ، لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّتِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُزِيلُ وَلَايَتَهُ كَالْإِغْمَاءِ، فَعَلَى هَذَا يُنْتَظَرُ حَتَّى يُفِيقَ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ: يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ كَالْغَيْبَةِ، وَالْخِلَافُ جَارٍ فِي الثَّيِّبِ الْمُنْقَطِعِ جُنُونُهَا. فَعَلَى رَأْيٍ: تُزَوَّجَ فِي حَالِ جُنُونِهَا. وَعَلَى رَأْيٍ: يُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهَا لِتَأْذَنَ. وَلَوْ وَكَّلَ هَذَا الْوَلِيُّ فِي إِفَاقَتِهِ، اشْتُرِطَ عَقْدُ وَكِيلِهِ قَبْلَ عُودِ الْجُنُونِ، وَكَذَا إِذَا أَذِنَتِ الثَّيِّبُ، يُشْتَرَطُ

تَقَدُّمُ الْعَقْدِ عَلَى عَوْدِ الْجُنُونِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا قَصَرَتْ نَوْبَةُ الْإِفَاقَةِ جِدًّا، لَمْ تَكُنِ الْحَالُ حَالَ تَقَطُّعٍ، لِأَنَّ السُّكُونَ الْيَسِيرَ لَا بُدَّ مِنْهُ مَعَ إِطْبَاقِ الْجُنُونِ. وَلَوْ أَفَاقَ، وَبَقِيَتْ آثَارُ خَبَلٍ يُحْمَلُ مِثْلُهَا مِمَّنْ لَا يَعْتَرِيهِ الْجُنُونُ عَلَى حِدَّةٍ فِي الْخُلُقِ، فَهَلْ تَعُودُ وَلَايَتُهُ، أَمْ يُسْتَدَامُ حُكْمُ الْجُنُونِ إِلَى أَنْ يَصْفُوَ مِنَ الْخَبَلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: لَعَلَّ الثَّانِيَ أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتِلَالُ النَّظَرِ لِهَرَمٍ أَوْ خَبَلٍ جِبِلِّيٍّ أَوْ عَارِضٍ، يَمْنَعُ الْوِلَايَةَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى الْأَبْعَدِ، وَالْحَجْرُ بِالْفَلْسِ لَا يَمْنَعُهَا، وَبِالسَّفَهِ يَمْنَعُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. قُلْتُ: وَحَكَى الشَّاشِيُّ فِي الْمُفْلِسِ وَجْهًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. [الصُّورَةُ] الثَّالِثَةُ: الْإِغْمَاءُ الَّذِي لَا يَدُومُ غَالِبًا، فَهُوَ كَالنَّوْمِ، يُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ، وَلَا يُزَوِّجُ غَيْرَهُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَدُومُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَقْلُ الْوِلَايَةِ إِلَى الْأَبْعَدِ كَالْجُنُونِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. فَعَلَى هَذَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: تُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ كَالنَّائِمِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ مُدَّتُهُ بِالسَّفَرِ. فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةً يُعْتَبَرُ فِيهَا إِذْنُ الْوَلِيِّ الْغَائِبِ، وَقَطَعَ الْمَسَافَةَ ذَهَابًا وَرُجُوعًا، انْتُظَرِتْ إِفَاقَتُهُ، وَإِلَّا، فَيُزَوِّجُ الْحَاكِمُ، وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ مُدَّتِهِ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ. [الصُّورَةُ] الرَّابِعَةُ: السَّكْرَانُ الَّذِي سَقَطَ تَمْيِيزُهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَلَامُهُ لَغْوٌ. فَإِنْ بَقِيَ لَهُ تَمْيِيزٌ وَنَظَرٌ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ، وَتُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ. [الصُّورَةُ] الْخَامِسَةُ: الْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ الشَّاغِلَةُ عَنِ النَّظَرِ وَمَعْرِفَةِ الْمَصْلَحَةِ، تَمْنَعُ الْوِلَايَةَ وَتَنْقُلُهَا إِلَى الْأَبْعَدِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِهِ الْأَصْحَابُ.

[الصُّورَةُ] السَّادِسَةُ: لِلْأَعْمَى أَنْ يَتَزَوَّجَ قَطْعًا، وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي وَلَايَةِ الْأَخْرَسِ الَّذِي لَهُ كِتَابَةٌ أَوْ إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ. وَقِيلَ: يُزَوِّجُ قَطْعًا. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُفْهِمَةً، فَلَا وَلَايَةَ لَهُ. الْمَانِعُ الثَّالِثُ: الْفِسْقُ فِيهِ سَبْعُ طُرُقٍ. أَشْهَرُهَا: فِي وَلَايَةِ الْفَاسِقِ قَوْلَانِ، وَقِيلَ بِالْمَنْعِ قَطْعًا. وَقِيلَ: يَلِي قَطْعًا. وَقِيلَ: يَلِي الْمُجْبَرُ فَقَطْ. وَقِيلَ: عَكْسُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ. وَقِيلَ: يَلِي غَيْرُ الْفَاسِقِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ. وَقِيلَ: يَلِي الْمُسْتَتِرُ بِفِسْقِهِ دُونَ الْمُعْلِنِ. وَأَمَّا الرَّاجِحُ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْعُ وَلَايَةِ الْفَاسِقِ، وَأَفْتَى أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ يَلِي، لَا سِيَّمَا الْخُرَاسَانِيُّونَ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ. قُلْتُ: الَّذِي رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرِّرِ: مَنْعُ وَلَايَتِهِ. وَاسْتُفْتِيَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ سَلَبْنَاهُ الْوِلَايَةَ لَانْتَقَلَتْ إِلَى حَاكِمٍ يَرْتَكِبُ مَا يُفَسِّقُهُ، وُلِّيَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُمَا: وَلَايَةُ الْفَاسِقِ لِمَالِ وَلَدِهِ عَلَى الْخِلَافِ فِي وَلَايَةِ النِّكَاحِ بِلَا فَرْقٍ. وَقَطَعَ غَيْرُهُمْ بِالْمَنْعِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. فَرْعٌ سَبَقَ أَنَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحِينَئِذٍ فِي تَزْوِيجِهِ

بَنَاتِهُ وَبَنَاتِ غَيْرِهِ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ وَجْهَانِ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَلِي. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ كَغَيْرِهِ، وَيُزَوِّجُهُنَّ مَنْ دُونَهُ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يُزَوِّجُ، تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُحْكَمْ بِانْعِزَالِهِ. فَرْعٌ إِذَا تَابَ الْفَاسِقُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ: لَهُ التَّزْوِيجُ فِي الْحَالِ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُضِيُّ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ. وَالْقِيَاسُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الشَّهَادَاتِ: اعْتِبَارُ الِاسْتِبْرَاءِ، لِعَوْدِ الْوِلَايَةِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَسَنُفَصِّلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ لِلْفَاسِقِ أَنْ يَتَزَوَّجَ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ مَلِكْدَاذَ الْقَزْوِينِيِّ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي سَعْدٍ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّزْوِيجُ إِذَا قُلْنَا: لَا يَلِي. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: الْفَاسِقُ لَا يَلِي، فَالْوِلَايَةُ لِلْأَبْعَدِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهَا لِلسُّلْطَانِ. ثُمَّ الْفِسْقُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، أَوْ إِصْرَارٍ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَلَيْسَ الْعَضْلُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَإِنَّمَا يَفَسَّقُ بِهِ إِذَا عَضَلَ مَرَّاتٍ، أَقَلُّهَا فِيمَا حَكَى بَعْضُهُمْ - ثَلَاثٌ، وَحِينَئِذٍ فَالْوِلَايَةُ لِلْأَبْعَدِ.

فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: الْفَاسِقُ لَا يَلِي فَفِي أَصْحَابِ الْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِثُبُوتِ وَلَايَتِهِمْ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْمَانِعُ الرَّابِعُ: اخْتِلَافُ الدِّينِ، فَلَا يُزَوِّجُ الْمُسْلِمَةَ قَرِيبُهَا الْكَافِرُ، بَلْ يُزَوِّجُهَا الْأَبْعَدُ مِنْ أَوْلِيَاءِ النَّسَبِ أَوِ الْوَلَاءِ، وَإِلَّا، فَالسُّلْطَانُ. وَلَا يُزَوِّجُ الْكَافِرَةَ قَرِيبُهَا الْمُسْلِمُ، بَلْ يُزَوِّجُهَا الْأَبْعَدُ الْكَافِرُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، زَوَّجَهَا قَاضِي الْمُسْلِمِينَ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَاضٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَحَكَى الْإِمَامُ عَنْ إِشَارَةِ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» : أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ قَبُولُ نِكَاحِهَا مِنْ قَاضِيهِمْ. وَالْمَذْهَبُ الْمَنْعُ. وَهَلْ يُزَوِّجُ الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّةَ؟ يُمْكِنُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْإِرْثِ، وَيُمْكِنَ أَنْ يُمْنَعَ. ثُمَّ الْكَافِرُ إِمَّا يَلِي تَزْوِيجَ قَرِيبَتِهِ الْكَافِرَةِ إِذَا كَانَ لَا يَرْتَكِبُ مُحَرَّمًا فِي دِينِهِ، فَإِنِ ارْتَكَبَهُ، فَتَزْوِيجُهُ إِيَّاهَا كَتَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ الْفَاسِقِ بِنْتَهُ. وَعَنِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَلِي التَّزْوِيجَ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَرَادَ تَزَوُّجَ ذِمِّيَّةٍ، زَوَّجَهُ بِهَا الْقَاضِي. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلِي. فَرْعٌ فِي «فَتَاوَى» الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا فِي قَبُولِ نِكَاحِ نَصْرَانِيَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَبُولِ نِكَاحِ مُسْلِمَةٍ، وَيَجُوزُ تَوْكِيلُ النَّصْرَانِيِّ مُسْلِمًا فِي قَبُولِ نِكَاحِ نَصْرَانِيَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَبُولِ نِكَاحِ مَجُوسِيَّةٍ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ

نِكَاحُهَا (بِحَالٍ) ، بِخِلَافِ تَوْكِيلِ الْمُعْسِرِ مُوسِرًا فِي تَزْوِيجِ أَمَةٍ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ يَسْتَبِيحُهَا فِي الْجُمْلَةِ. فَرْعٌ الْمُرْتَدُّ لَا وَلَايَةَ لَهُ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَلَا مُرْتَدَّةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْكَافِرَاتِ. قُلْتُ: لَا يُزَوِّجُ مُسْلِمٌ كَافِرَةً إِلَّا السُّلْطَانُ وَالسَّيِّدُ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِذَا زَوَّجَ أَمَةَ مُوَلِّيَتِهِ وَلَا يُزَوِّجُ كَافِرٌ مُسْلِمَةً إِلَّا (أَمَتَهُ وَ) أُمَّ وَلَدِهِ عَلَى وَجْهٍ، قَالَهُ الْفُورَانِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْمَانِعُ الْخَامِسُ: الْإِحْرَامُ. فَإِحْرَامُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوِ الْمَرْأَةِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْعَاقِدُ الْإِمَامَ أَوِ الْقَاضِيَ، فَلَهُ التَّزْوِيجُ، لِقُوَّةِ وَلَايَتِهِمَا. وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. وَفِي تَأْثِيرِ الْإِحْرَامِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: سَلْبُ الْوِلَايَةِ وَنَقْلُهَا إِلَى الْأَبْعَدِ، كَالْجُنُونِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ مُجَرَّدُ الِامْتِنَاعِ دُونَ زَوَالِ الْوِلَايَةِ، لِبَقَاءِ الرُّشْدِ وَالنَّظَرِ، فَعَلَى هَذَا، يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ كَمَا لَوْ غَابَ. وَسَوَاءٌ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَالصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ، (وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُ الْفَاسِدُ) ، وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْمُحْرِمِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَخَالَفَ الِاصْطَخْرِيُّ. وَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، هَلْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَرْعٌ إِذَا وَكَّلَ حَلَالٌ حَلَالًا فِي التَّزْوِيجِ، ثُمَّ أَحْرَمَ أَحَدُهُمَا، أَوِ الْمَرْأَةُ، فَفِي انْعِزَالِ الْوَكِيلِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْعَزِلُ، فَيُزَوِّجُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ بِالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ الْحَلَالِ أَنْ يُزَوِّجَ قَبْلَ تَحَلُّلِ الْمُوَكِّلِ. هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ، وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ فِيهِ وَجْهًا، وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ وَلَا لَهُ فِي الْوَسِيطِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي حَالِ إِحْرَامِ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْمَرْأَةِ، نُظِرَ، إِنَّ وَكَّلَهُ لِيَعْقِدَ فِي الْإِحْرَامِ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ قَالَ: لِتُزَوَّجَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ، أَوْ أُطَلِّقَ، صَحَّ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ دُونَ الْإِذْنِ. وَمَنْ أَلْحَقَ الْإِحْرَامَ بِالْجُنُونِ، لَمْ يُصَحِّحْهُ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا حَصَلَ التَّحَلُّلُ فَقَدْ وَكَّلْتُكَ، فَهَذَا تَعْلِيقٌ لِلْوِكَالَةِ، وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ. وَإِذْنُ الْمَرْأَةِ فِي حَالِ إِحْرَامِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي التَّوْكِيلِ. وَلَوْ وَكَّلَ حَلَالٌ مُحْرِمًا لِيُوكِّلَ حَلَالًا بِالتَّزْوِيجِ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ سَفِيرٌ مَحْضٌ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَقْدِ شَيْءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَكِيلَ الْمُصَلِّي يُزَوِّجُ، بِخِلَافِ وَكِيلِ الْمُحْرِمِ، لِأَنَّ عِبَارَةَ الْمُحْرِمِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَعِبَارَةَ الْمُصَلِّي صَحِيحَةٌ. حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا، صَحَّ النِّكَاحُ وَالصَّلَاةُ. فَصْلٌ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ حَاضِرًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مَفْقُودًا لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ وَلَا مَوْتُهُ وَحَيَاتُهُ، زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ، لِتَعَذُّرِ نِكَاحِهَا مِنْ جِهَتِهِ. وَإِنِ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى غَايَةٍ يَحْكُمُ الْقَاضِي فِيهَا بِمَوْتِهِ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ - عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْفَرَائِضِ - انْتَقَلَتِ

الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ. وَإِنْ عُرِفَ مَكَانُ الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ، وَلَا يُزَوِّجُهَا الْأَبْعَدُ. وَقِيلَ: يُزَوِّجُ الْأَبْعَدُ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ: إِنْ كَانَ مِنَ الْمُلُوكِ وَكِبَارِ النَّاسِ، اشْتُرِطَ مُرَاجَعَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ التُّجَّارِ وَأَوْسَاطِ النَّاسِ، فَلَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَأَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: كَالطَّوِيلَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَأَصَحُّهَا: لَا تُزَوَّجُ حَتَّى يُرَاجَعَ فَيَحْضُرَ أَوْ يُوَكِّلَ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» . وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْمُبْتَكِرُ إِلَيْهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى مَنْزِلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ، اشْتُرِطَتْ مُرَاجَعَتُهُ، وَإِلَّا، فَلَا. فَرْعٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُزَوِّجُ مَنْ تَدَّعِي غَيْبَةَ وَلِيِّهَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ حَاضِرٌ، وَأَنَّهَا خَلِيَّةٌ عَنِ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ. فَقِيلَ: هَذَا وَاجِبٌ. وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَبِهِ قَطَعَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ، ذَكَرَهُ فِي آخِرِ «كِتَابِ الطَّلَاقِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَلَحَّتْ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَرَأَى السُّلْطَانُ التَّأْخِيرَ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَجْهَانِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي هَذَا إِلَّا شَهَادَةُ مُطَّلِعٍ عَلَى بَاطِنِ أَحْوَالِهَا. وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ الْغَائِبُ مِمَّنْ لَا يُزَوِّجُ إِلَّا بِإِذْنٍ، فَقَالَتْ: مَا أَذِنْتُ لَهُ، فَلِلْقَاضِي تَحْلِيفُهَا عَلَى نَفْيِ الْإِذْنِ.

قُلْتُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلِلْقَاضِي تَحْلِيفُهَا أَنَّ وَلِيَّهَا لَمْ يُزَوِّجْهَا فِي الْغَيْبَةِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْيَمِينِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِدَعْوَى، هَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، أَمْ وَاجِبَةٌ؟ وَجْهَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ الْغَيْبَةَ الْمُعْتَبَرَةَ، فَالْأَوْلَى لِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لِلْأَبْعَدِ أَنْ يُزَوِّجَ، أَوْ يَسْتَأْذِنَهُ لِيُزَوِّجَ الْقَاضِي. فَرْعٌ فِي «فَتَاوَى» الْبَغَوِيِّ: أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا زَوَّجَ مَنْ غَابَ وَلِيُّهَا، ثُمَّ قَدِمَ وَلِيُّهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْبَلَدِ عِنْدَ الْعَقْدِ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي تَوَلِّي طَرَفَيِ الْعَقْدِ، فِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: هَلْ يَتَوَلَّى الْجَدُّ طَرَفَيْ تَزْوِيجِ بِنْتِ ابْنِهِ الصَّغِيرَةِ أَوِ الْكَبِيرَةِ بِابْنِ ابْنٍ آخَرَ مُوَلًّى عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. اخْتَارَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْقَفَّالُ وَابْنُ الصَّبَّاغِ الْجَوَازَ، وَصَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَنْعَ. قُلْتُ: قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرِّرِ» : رَجَّحَ الْمُعْتَبَرُونَ الْجَوَازَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِنْ جَوَّزْنَا، اشْتُرِطَ الْإِتْيَانُ بِشِقَّيِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَكْفِي أَحَدُهُمَا. وَإِنْ مَنَعْنَا، فَإِنْ كَانَتْ بَالِغَةً، زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ بِإِذْنِهَا، وَيُقْبَلُ الْجَدُّ لِلِابْنِ. وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، وَجَبَ الصَّبْرُ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ فَتَأْذَنَ، أَوْ يَبْلُغَ الصَّغِيرُ فَيَقْبَلَ،

كَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَنْعِ: أَنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى السُّلْطَانِ لِيَتَوَلَّى أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَأْتِي بِمَا يَسْتَدْعِيهِ الْوَلِيُّ، وَهَذَا مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْوِلَايَةُ بِسَبَبِ الْجُنُونِ، وَإِلَّا، فَغَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَا يُزَوِّجُ الصَّغِيرَ وَلَا الصَّغِيرَةَ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: لِلْعَمِّ تَزْوِيجُ بِنْتِ أَخِيهِ بِابْنِهِ الْبَالِغِ، وَلِابْنِ الْعَمِّ تَزْوِيجُهَا بِابْنِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ فِيهِمَا. هَذَا إِذَا أَطْلَقَتِ الْإِذْنَ وَجَوَّزْنَاهُ. فَإِنْ عَيَّنَتْهُ فِي الْإِذْنِ، جَازَ قَطْعًا، لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ. وَإِنَّ زَوَّجَهَا بِابْنِهِ الطِّفْلِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْجُدُودَةِ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا، كَابْنِ الْعَمِّ، وَالْمُعْتَقِ، وَالْقَاضِي، وَأَرَادَ نِكَاحَهَا، لَمْ تَجُزْ تَوْلِيَةُ الطَّرَفَيْنِ، وَلَكِنْ يُزَوِّجُ ابْنُ الْعَمِّ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَالْقَاضِي. وَإِنْ كَانَ الرَّاغِبُ الْقَاضِيَ، زَوَّجَهُ وَالٍ فَوْقَهُ، أَوْ خَرَجَ إِلَى قَاضِي بَلَدٍ آخَرَ، أَوْ يَسْتَخْلِفُ مَنْ يُزَوِّجُهُ إِنْ كَانَ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ. وَإِنْ كَانَ الرَّاغِبُ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ، زَوَّجَهُ بَعْضُ قُضَاتِهِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي الْإِمَامِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ: أَنَّهُ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ. وَفِي الْقَاضِي وَابْنِ الْعَمِّ وَجْهٌ أَبْعَدُ، وَيَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الْمُعْتَقِ. وَحُكِيَ الْوَجْهُ فِي الْقَاضِي عَنْ أَبِي يَحْيَى الْبَلْخِيِّ. وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ تَزْوِيجَهَا بِابْنِهِ الصَّغِيرِ، فَكَنَفْسِهِ. وَحَيْثُ جَوَّزْنَا لِنَفْسِهِ، فَذَلِكَ إِذَا سَمَّتْهُ فِي إِذْنِهَا. فَإِنْ أَطْلَقَتْ، وَجَوَّزْنَا الْإِطْلَاقَ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ. وَفِي «فَتَاوَى» الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ نِكَاحَ بِنْتِ عَمِّهِ وَهُوَ وَلِيُّهَا، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، زَوَّجَهَا بِهِ قَاضِي بَلَدِ الْمَرْأَةِ، لَا قَاضِي بَلَدِ الرَّجُلِ. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: مَنْ مَنَعْنَاهُ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ، فَوَكَّلَ فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ وَكَّلَ

شَخْصَيْنِ فِيهِمَا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ فِعْلُ الْمُوَكَّلِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ، لِوُجُودِ الْعَدَدِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلْجَدِّ، لِتَمَامِ وَلَايَتِهِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ. وَلَوْ وَكَّلَ الْوَلِيُّ رَجُلًا، وَوَكَّلَهُ الْخَاطِبُ، أَوْ وَكَّلَهُ فِي تَزْوِيجِهِ لِنَفْسِهِ، فَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ. [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ: زَوَّجَ أَمَتَهُ بِعَبْدِهِ الصَّغِيرِ، وَجَوَّزْنَا لَهُ إِجْبَارَهُ، فَهُوَ كَتَوَلِّي الْجَدِّ طَرَفَيْهِ. [الْمَسْأَلَةُ] السَّادِسَةُ: ابْنَا عَمٍّ، أَحَدُهُمَا لِأَبٍ، وَالْآخَرُ لِأَبَوَيْنِ، أَرَادَ الْأَوَّلُ نِكَاحَهَا، يُزَوِّجُهُ الثَّانِي، وَإِنْ أَرَادَ الثَّانِي وَقُلْنَا: هُمَا سَوَاءٌ، زَوَّجَهُ الْأَوَّلُ، وَإِلَّا، فَالْقَاضِي. [الْمَسْأَلَةُ] السَّابِعَةُ: قَالَتْ لِابْنِ عَمِّهَا أَوْ مُعْتِقِهَا: زَوِّجْنِي، أَوْ زَوِّجْنِي مَنْ شِئْتَ، لَيْسَ لِلْقَاضِي تَزْوِيجُهُ بِهَا بِهَذَا الْإِذْنِ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ التَّزْوِيجُ بِأَجْنَبِيٍّ. وَإِنْ قَالَتْ: زَوِّجْنِي نَفْسَكَ، حَكَى الْبَغَوِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي تَزْوِيجُهُ إِيَّاهَا. قَالَ: وَعِنْدِي لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا أَذِنَتْ لَهُ، لَا لِلْقَاضِي. قُلْتُ: الصَّوَابُ الْجَوَازُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: فَوِّضْ إِلَى مَنْ يُزَوِّجُكِ إِيَّايَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الطَّرَفُ الْخَامِسُ: فِي التَّوْكِيلِ، التَّوْكِيلُ بِالتَّزْوِيجِ جَائِزٌ. فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مُجْبَرًا، فَلَهُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ إِذْنُهَا، حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، امْتَنَعَ التَّوْكِيلُ. فَعَلَى الصَّحِيحِ: إِذَا وَكَّلَ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الزَّوْجِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ أَذِنَتِ الثَّيِّبُ فِي النِّكَاحِ أَوِ الْبِكْرُ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، فَفِي اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ الْقَوْلَانِ. وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ قَطْعًا، لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَعْتَنِي بِدَفْعِ الْعَارِ عَنِ النَّسَبِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَظَاهِرُ كَلَامِ

الْأَصْحَابِ يَقْتَضِي طَرْدَ الْخِلَافِ وَإِنْ رَضِيَتْ بِتَرْكِ الْكَفَاءَةِ، لَكِنَّ الْقِيَاسَ تَخْصِيصُهُ بِمَنْ لَمْ تَرْضَ. فَأَمَّا مَنْ أَسْقَطَتِ الْكَفَاءَةَ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ فِيهَا. وَإِذَا جَوَّزْنَا التَّوْكِيلَ الْمُطْلَقَ، فَعَلَى الْوَكِيلِ رِعَايَةُ النَّظَرِ. فَلَوْ زَوَّجَ لِغَيْرٍ كُفْءٍ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَلَهَا الْخِيَارُ. فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، خُيِّرَتْ عِنْدَ الْبُلُوغِ. وَلَوْ خَطَبَ كُفْآنِ، وَأَحَدُهُمَا أَشْرَفُ، فَزَوَّجَ الْآخَرَ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِذَا جَوَّزْنَا الْإِذْنَ الْمُطْلَقَ، فَقَالَتْ: زَوِّجْنِي مِمَّنْ شِئْتَ، فَهَلْ لَهُ تَزْوِيجُهَا غَيْرَ كُفْءٍ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالسَّرَخْسِيِّ وَغَيْرِهِمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: زَوِّجْنِي مِمَّنْ شِئْتَ كُفْئًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مُجْبَرًا. فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُجْبَرٍ، لِكَوْنِهِ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، أَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَفِيهِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: قَالَتْ: زَوِّجْنِي وَوَكِّلْ، فَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. الثَّانِيَةُ: نَهَتْ عَنِ التَّوْكِيلِ، لَا يُوَكِّلُ. الثَّالِثَةُ: قَالَتْ: وَكِّلْ بِتَزْوِيجِي وَاقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ، فَلَهُ التَّوْكِيلُ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. الرَّابِعَةُ: قَالَتْ: أَذِنْتُ لَكَ فِي تَزْوِيجِي، فَلَهُ التَّوْكِيلُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْوِلَايَةِ. وَلَوْ وَكَّلَ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَتِهَا وَاسْتِئْذَانِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِنَفْسِهِ حِينَئِذٍ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ. فَعَلَى هَذَا، يَسْتَأْذِنُ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَكِيلُ لِلْوَلِيِّ، ثُمَّ يُزَوِّجُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ إِذَا وَكَّلَ غَيْرَ الْمُجْبَرِ بَعْدَ إِذْنِ الْمَرْأَةِ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الزَّوْجِ إِنْ أَطْلَقَتِ الْإِذْنَ؟ وَجْهَانِ كَمَا فِي تَوْكِيلِ الْمُجْبَرِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا عَيَّنَتْ زَوْجًا، سَوَاءٌ شَرَطْنَا تَعْيِينَهَا، أَمْ لَا، فَلْيَذْكُرْهُ الْوَلِيُّ

فصل

لِلْوَكِيلِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَزَوَّجَ الْوَكِيلُ غَيْرَهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَكَذَا لَوْ زَوَّجَهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ التَّفْوِيضَ الْمُطْلَقَ - مَعَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مُعَيَّنٌ - فَاسِدٌ. وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ لِلْوَكِيلِ: بِعْ مَالَ الطِّفْلِ بِالْعَيْنِ، فَبَاعَ بِالْغُبْطَةِ، لَمْ يَصِحَّ. فَرْعٌ قَالَتْ: أَذِنْتُ لَكَ فِي تَزْوِيجِي، وَلَا تُزَوِّجْنِي بِنَفْسِكَ، قَالَ الْإِمَامُ: قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْإِذْنُ، لِأَنَّهَا مَنَعَتِ الْوَلِيَّ، وَجَعَلَتِ التَّفْوِيضَ لِلْأَجْنَبِيِّ، فَأَشْبَهَ الْإِذْنَ لِلْأَجْنَبِيِّ ابْتِدَاءً. فَرْعٌ فِي «فَتَاوَى» الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلِيٌّ سِوَى الْحَاكِمِ، فَأَمَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْذِنَهَا رَجُلًا بِتَزْوِيجِهَا، فَزَوَّجَهَا الرَّجُلُ بِإِذْنِهَا، هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ اسْتِنَابَةَ الْقَاضِي فِي شُغْلٍ مُعَيَّنٍ - كَتَحْلِيفٍ وَسَمَاعِ شَهَادَةٍ - يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِخْلَافِ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، جَازَ قَبْلَ اسْتِئْذَانِهَا، وَصَحَّ النِّكَاحُ، وَإِلَّا، فَلَا يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ، كَتَوْكِيلِ الْوَلِيِّ قَبْلَ الْإِذْنِ. فَصْلٌ فِي بَيَانِ لَفْظِ الْوَكِيلِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَيَقُولُ وَكَيْلُ الْوَلِيِّ لِلزَّوْجِ: زَوَّجْتُكَ بِنْتَ فُلَانٍ. فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ لِلزَّوْجِ، قَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُ بِنْتِي فُلَانًا، فَيَقُولُ وَكِيلُهُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لَهُ. فَلَوْ لَمْ يَقُلْ:

«لَهُ» ، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ إِذَا قَالَ الزَّوْجُ: «قَبِلْتُ» وَلَمْ يَقُلْ: نِكَاحَهَا. وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ لِوَكِيلِ الزَّوْجِ: زَوَّجْتُ بِنْتِي لَكَ، فَقَالَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لِفُلَانٍ، لَمْ يَنْعَقِدْ. وَإِنْ قَالَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، وَقَعَ الْعَقْدُ لِلْوَكِيلِ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ إِلَى الْمُوَكِّلِ بِالنِّيَّةِ. وَلَوْ جَرَى النِّكَاحُ بَيْنَ وَكِيلَيْنِ، فَقَالَ وَكِيلُ الْوَلِيِّ: زَوَّجْتُ فُلَانَةً فُلَانًا، فَقَالَ وَكِيلُ الزَّوْجِ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لِفُلَانٍ، صَحَّ. وَفِي الْبَيْعِ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِوَكِيلِ الْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ، وَيَقُولَ الْوَكِيلُ: اشْتَرَيْتُ وَيَنْوِيَ مُوَكِّلَهُ، فَيَقَعُ الْعَقْدُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَيْنِ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَتِهِمَا. الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ يُرَدُّ عَلَى الْمَالِ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ، وَالنِّكَاحُ يُرَدُّ عَلَى الْبُضْعِ، وَهُوَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ، وَلِهَذَا لَوْ قَبِلَ النِّكَاحَ لِزَيْدٍ بِوِكَالَةٍ، فَأَنْكَرَهَا زَيْدٌ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ. وَلَوِ اشْتَرَى لِزَيْدٍ، فَأَنْكَرَهَا، صَحَّ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ. وَلَوْ قَالَ وَكِيلُ الزَّوْجِ أَوَّلًا: قَبِلْتُ نِكَاحَ فُلَانَةٍ مِنْكَ لِفُلَانٍ، فَقَالَ وَكِيلُ الْوَلِيِّ: زَوَّجْتُهَا فُلَانًا، جَازَ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: زَوَّجْتُهَا، وَلَمْ يَقُلْ: فُلَانًا، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. فَرْعٌ إِذَا قَبِلَ الْأَبُ النِّكَاحَ لِابْنِهِ بِالْوِلَايَةِ، فَلْيَقُلِ الْوَلِيُّ: زُوَّجْتُ فُلَانَةً بِابْنِكَ، فَيَقُولُ الْأَبُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لِابْنِي. فَرْعٌ كَانَتْ بِنْتُهُ مُزَوَّجَةً أَوْ مُعْتَدَّةً، فَقَالَ: إِذَا طُلِّقَتْ أَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَقَدْ

وَكَّلْتُكَ بِتَزْوِيجِهَا، فَقَوْلَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ، فَقَدْ وَكَّلْتُكَ بِتَزْوِيجِهَا. وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ بِتَزْوِيجِهَا إِذَا طَلَّقَهَا، يَصِحُّ، كَقَوْلِهِ: زَوِّجْهَا إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي الْوَكَالَةِ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّوْكِيلِ بِالتَّزْوِيجِ ذِكْرُ الْمَهْرِ، لَكِنْ لَوْ سَمَّى قَدْرًا، لَمْ يَصِحَّ التَّزْوِيجُ بِدُونِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: زَوِّجْهَا فِي يَوْمِ كَذَا، أَوْ مَكَانٍ، فَخَالَفَ الْوَكِيلُ، لَا يَصِحُّ. وَلَوْ أَطْلَقَ التَّوْكِيلَ، فَزَوَّجَ الْوَكِيلُ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَهْرِ، أَوْ نَفَاهُ، فَفِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ «كِتَابِ الصَّدَاقِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبُولِ نِكَاحِ امْرَأَةٍ، وَسَمَّى مَهْرًا، لَمْ يَصِحَّ الْقَبُولُ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ، فَلْيَقْبَلْ نِكَاحَ امْرَأَةٍ تُكَافِئُهُ، مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ. فَإِنْ تَزَوُّجَ لَهُ مَنْ لَا تُكَافِئُهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ: إِنْ قَبِلَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِ الْمُوَكِّلِ، أَوْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَعَلَى الْمُوَكِّلِ مَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ، كَالْبَيْعِ. هَكَذَا فَصَّلَ الْمَسْأَلَةَ الْبَغَوِيُّ. وَلَكَ أَنْ تَتَوَقَّفَ فِي مَوْضِعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَصْحِيحُ إِطْلَاقِ التَّوْكِيلِ فِي قَبُولِ نِكَاحِ امْرَأَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ، اشْتُرِطَ بَيَانُ نَوْعِهِ وَتَفْصِيلُهُ، فَالِاشْتِرَاطُ هُنَا أَوْلَى. الثَّانِي: حُكْمُهُ بِبُطْلَانِ قَبُولِ مَنْ لَا تُكَافِئُهُ، لِأَنَّا سَنَذْكُرُ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ الصَّغِيرَ مَنْ لَا تُكَافِئُهُ. وَإِذَا جَازَ لِلْوَلِيِّ، فَكَذَا لِلْوَكِيلِ عِنْدَ إِطْلَاقِ التَّوْكِيلِ.

فصل

قُلْتُ: هَذَا الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي فَاسِدٌ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى الْوَكِيلُ مَعِيبًا، بِخِلَافِ قُوَّةِ وَلَايَةِ الْأَبِ. وَفِي الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ أَيْضًا نَظَرٌ، وَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ قَالَ: اقْبَلْ لِي نِكَاحَ فُلَانَةٍ عَلَى عَبْدِكَ هَذَا، فَفَعَلَ، صَحَّ النِّكَاحُ. وَفِي الْعَبْدِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تَمْلِكُهُ الْمَرْأَةُ، بَلْ عَلَى الْعَبْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: تَمْلِكُهُ. وَهَلْ هُوَ قَرْضٌ، أَمْ هِبَةٌ؟ وَجْهَانِ. الطَّرَفُ السَّادِسُ: فِيمَا يَلْزَمُ الْوَلِيَّ. فَإِنْ كَانَ مُجْبَرًا، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ الْإِجَابَةَ إِلَى التَّزْوِيجِ إِذَا طُلِبَتْ. وَيَلْزَمُهُ تَزْوِيجُ الْمَجْنُونَةِ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِظُهُورِ أَمَارَاتِ التَّوَقَانِ، أَوْ بِتَوَقُّعِ الشِّفَاءِ عِنْدَ إِشَارَةِ الْأَطِبَّاءِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَزْوِيجُ وَلَدَيْهِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ. فَلَوْ ظَهَرَتِ الْغِبْطَةُ فِي تَزْوِيجِهِمَا، فَفِي الْوُجُوبِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، كَمَا إِذَا طَلَبَ مَالَهُ بِزِيَادَةٍ، يَجِبُ الْبَيْعُ. وَالْوُجُوبُ فِي الصَّغِيرِ أَبْعَدُ، لِلُزُومِ الْمُؤَنِ. أَمَّا غَيْرُ الْمُجْبَرِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ، كَأَخٍ وَاحِدٍ، لَزِمَهُ الْإِجَابَةُ إِذَا طُلِبَتْ كَالْمُجْبَرِ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ كَإِخْوَةٍ، فَطُلِبَتْ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَجَبَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ عَضَلَ الْوَاحِدُ أَوِ الْجَمْعُ، زَوَّجَ السُّلْطَانُ كَمَا سَبَقَ. فَصْلٌ إِذَا قَبِلَ الْأَبُ لِلصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ نِكَاحًا بِصَدَاقٍ مِنْ مَالِ الِابْنِ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا، فَذَاكَ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَبِ. وَإِنْ كَانَ دَيْنًا، فَقَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: أَنَّ الْأَبَ يَكُونُ ضَامِنًا

لِلْمَهْرِ بِالْعَقْدِ. وَالْجَدِيدُ: لَا يَكُونُ ضَامِنًا، إِلَّا أَنْ يَضْمَنَ صَرِيحًا، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لِطِفْلِهِ شَيْئًا. فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ، لَا عَلَى الْأَبِ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ. فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الِابْنِ، فَعَلَى الِابْنِ قَطْعًا. ثُمَّ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَعَامَّةُ الْأَصْحَابِ: الْقَوْلَانِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ مَالٌ. فَإِنْ كَانَ، فَالْأَبُ غَيْرُ ضَامِنٍ قَطْعًا. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَتَبَرَّعَ بِالْأَدَاءِ، لَمْ يَرْجِعْ، وَكَذَا الْأَجْنَبِيُّ. وَإِنْ ضَمِنَ صَرِيحًا، وَغَرِمَ، فَقَصْدُ الرُّجُوعِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ إِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ. فَإِنْ ضَمِنَ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ، وَغَرِمَ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ، رَجَعَ، وَإِلَّا، فَعَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الضَّمَانِ بِغَيْرِ الْإِذْنِ. وَإِنْ ضَمِنَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنْ لَمْ نُصَحِّحِ الضَّمَانَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ، فَهَذَا ضَمَانٌ فَاسِدٌ شُرِطَ فِي الصَّدَاقِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ شَرْطَ الضَّمَانِ الْفَاسِدِ أَوِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ فِي عَقْدٍ هَلْ يُفْسِدُ الْعَقْدَ؟ وَإِنْ صَحَّحْنَا الضَّمَانَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ، فَالشَّرْطُ هُنَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمَعْقُودِ لَهُ. وَإِذَا فَسَدَ الشَّرْطُ، فَفِي فَسَادِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي «الضَّمَانِ» . فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَغَرِمَ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَرْجِعُ عَلَى الِابْنِ، لِأَنَّهُ غَرِمَ بِالشَّرْعِ، كَمَا لَا تَرْجِعُ الْعَاقِلَةُ عَلَى الْجَانِي. وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ فَقَالَ: الْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى الِابْنِ، بِخِلَافِ الْجَانِي. فَعَلَى هَذَا، يَرْجِعُ إِنْ قَصَدَ الرُّجُوعَ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ شَرَطَ الْأَبُ أَنْ لَا يَكُونَ ضَامِنًا، فَعَنِ الْقَاضِي: أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ عَلَى الْقَدِيمِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا وَهْمٌ مِنَ النَّاقِلِينَ عَنْهُ، فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يَفْسُدُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ قَالَ: يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَلْزَمُ الضَّمَانُ.

فصل

فَصْلٌ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ حِفْظُ مَالِ الصَّبِيِّ وَصَوْنُهُ عَنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ، وَعَلَيْهِ اسْتِنْمَاءُ قَدْرِ مَا لَا تَأْكُلُ النَّفَقَةُ وَالْمُؤَنُ الْمَالَ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِنْمَاءِ وَطَلَبِ النِّهَايَةِ. وَإِذَا طُلِبَ مَتَاعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، لَزِمَهُ بَيْعُهُ. وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يُبَاعُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ، وَلِلطِّفْلِ مَالٌ، لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ إِذَا لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ لِنَفْسِهِ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَيَجِبُ أَنْ يَتَقَيَّدَ ذَلِكَ بِشَرْطِ الْغِبْطَةِ، بَلْ بِالْأَمْوَالِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ. أَمَّا مَا يَحْتَاجُ إِلَى عَيْنِهِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى بَيْعِهِ وَإِنْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ. وَكَذَا الْعَقَارُ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُ كِفَايَتُهُ. وَكَذَا فِي طَرَفِ الشِّرَاءِ قَدْ يُؤْخَذُ الشَّيْءُ رَخِيصًا، لَكِنَّهُ عُرْضَةٌ لِلتَّلَفِ، وَلَا يَتَيَسَّرُ بَيْعُهُ لِقِلَّةِ الرَّاغِبِينَ فِيهِ، فَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى مَالِكِهِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، هُوَ الصَّوَابُ، وَلَا يُغْتَرُّ بِمَا خَالَفَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا تَضَجَّرَ الْأَبُ بِحِفْظِ مَالِ الطِّفْلِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، رَفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيَنْصِبَ قَيِّمًا بِأُجْرَةٍ، وَلَهُ أَنْ يَنْصِبَ بِنَفْسِهِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ. وَلَوْ طَلَبَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يُثْبِتَ لَهُ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ، فَالَّذِي يُوَافِقُ كَلَامَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُ إِلَيْهِ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ فَقِيرًا يَنْقَطِعُ عَنْ كَسْبِهِ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا سَبَقَ فِي «الْحَجْرِ» ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُثْبِتُ لَهُ أُجْرَةً، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ، فَجَازَ لَهُ طَلَبُهَا لِنَفْسِهِ، وَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ. وَعَلَى هَذَا، لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْقَاضِي، وَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُتَبَرِّعٌ بِالْحِفْظِ وَالْعَمَلِ. فَإِنْ وُجِدَ مُتَبَرِّعٌ، وَطَلَبَ الْأَبُ الْأُجْرَةَ،

فَقَدْ أَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُثْبِتُهَا لَهُ، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: يُثْبِتُهَا، لِزِيَادَةِ شَفَقَتِهِ، كَمَا تُقَدَّمَ الْأُمُّ فِي الرَّضَاعِ عَلَى قَوْلٍ عَلَى الْمُتَبَرِّعَةِ. الطَّرَفُ السَّابِعُ: فِي خِصَالِ الْكَفَاءَةِ. إِحْدَاهَا: التَّنَقِّي مِنَ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ، وَاسْتَثْنَى الْبَغَوِيُّ مِنْهَا التَّعْنِينَ وَقَالَ: لَا يَتَحَقَّقُ، فَلَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ التَّعْنِينِ وَغَيْرِهِ، وَإِطْلَاقُ الْجُمْهُورِ يُوَافِقُهُ. فَمَنْ بِهِ عَيْبٌ، لَيْسَ كُفْئًا لِسَلِيمَةٍ مِنْهُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ بِهَا ذَلِكَ (الْعَيْبُ) ، لَكِنْ مَا بِهِ أَفْحَشُ، أَوْ أَكْثَرُ، فَلَيْسَ بِكُفْءٍ. فَإِنْ تَسَاوَيَا، أَوْ كَانَ مَا بِهَا أَكْثَرَ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَجْرِيَانِ لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا وَهِيَ رَتْقَاءُ، وَزَادَ الرُّويَانِيُّ عَلَى الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ الْعُيُوبَ الْمُنَفِّرَةَ، كَالْعَمَى، وَالْقَطْعِ، وَتَشَوُّهِ الصُّورَةِ. وَقَالَ: هِيَ تَمْنَعُ الْكَفَاءَةَ عِنْدِي، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَاخْتَارَهُ الصَّيْمَرِيُّ. الثَّانِيَةُ: الْحُرِّيَّةُ، فَلَا يَكُونُ رَقِيقٌ كُفْئًا لِحُرَّةٍ أَصْلِيَّةٍ وَلَا عَتِيقَةٍ، وَلَا عَتِيقٌ لِأَصْلِيَّةٍ، وَلَا مَنْ مَسَّ الرِّقُّ أَحَدَ آبَائِهِ لِمَنْ لَمْ يَمَسَّ أَحَدًا مِنْ آبَائِهَا، وَلَا مَنْ مَسَّ أَبًا أَقْرَبَ فِي نَسَبِهِ لِمَنْ مَسَّ أَبًا أَبْعَدَ مِنْ نَسَبِهَا. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الرِّقُّ فِي الْأُمَّهَاتِ مُؤَثِّرًا، وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِهِ الْوَلَاءُ. قُلْتُ: الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، أَنَّ الرِّقَّ فِي الْأُمَّهَاتِ لَا يُؤَثِّرُ كَمَا سَيَأْتِي فِي النَّسَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا صَاحِبُ «الْبَيَانِ» فَقَالَ: مَنْ وَلَدَتْهُ رَقِيقَةٌ كَفْءٌ لِمَنْ وَلَدَتْهُ عَرَبِيَّةٌ، لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْأَبَ فِي النَّسَبِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثَةُ: النَّسَبُ، فَالْعَجَمِيُّ لَيْسَ كُفْئًا لِلْعَرَبِيَّةِ، وَلَا غَيْرُ الْقُرَشِيِّ لِلْقُرَشِيَّةِ، وَلَا غَيْرُ الْهَاشِمِيِّ وَالْمُطَّلِبِيِّ لِلْهَاشِمِيَّةِ أَوِ الْمُطَّلِبِيَّةِ. وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ أَكْفَاءٌ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ، وَيُعْتَبَرُ النَّسَبُ فِي الْعَجَمِ كَالْعَرَبِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَالشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ: لَا يُعْتَبَرُ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَنُونَ بِحِفْظِهَا وَتَدْوِينِهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

وَمُقْتَضَاهُ الِاعْتِبَارُ فِيمَنْ سِوَى قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ أَيْضًا، لَكِنْ ذَكَرَ ذَاكِرُونَ أَنَّهُمْ أَكْفَاءٌ. قُلْتُ: مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ، أَنَّ غَيْرَ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ، أَنَّ غَيْرَ كِنَانَةَ لَيْسُوا أَكْفَاءً لِكِنَانَةَ. وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا مَا حَكَاهُ فِي «الْبَيَانِ» عَنِ الصَّيْمَرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: مَوَالِي قُرَيْشٍ أَكْفَاءٌ لِقُرَيْشِ، وَكَذَا مَوَالِي كُلِّ قَبِيلَةٍ أَكْفَاءٌ لَهَا، (قَالَ) : وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَكْفَاءٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ الِاعْتِبَارُ فِي النَّسَبِ بِالْأَبِ، فَمَنْ أَبُوهُ عَجَمِيٌّ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ، لَيْسَ بِكُفْءٍ لِمَنْ أَبُوهَا عَرَبِيٌّ وَأُمُّهَا عَجَمِيَّةٌ. الرَّابِعَةُ: الدِّينُ وَالصَّلَاحُ، فَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ، لَيْسَ كُفْئًا لِمَنْ لَهَا أَبَوَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: كُفْءٌ، وَقِيلَ: لَا يُنْظَرُ إِلَّا إِلَى الْأَبِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ، كُفْءٌ لِمَنْ لَهَا عَشَرَةُ آبَاءٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَالْفَاسِقُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْعَفِيفَةِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الشُّهْرَةُ، بَلْ مَنْ لَا يُشْهَرُ بِالصَّلَاحِ كُفْءٌ لِلْمَشْهُورَةِ بِهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْفَاسِقُ كُفْئًا لِلْعَفِيفَةِ، فَالْمُبْتَدِعِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ كُفْئًا لِلنَّسِيبَةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الرُّويَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الْخَامِسَةُ: الْحِرْفَةُ. فَأَصْحَابُ الْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ لَيْسُوا أَكْفَاءً لِغَيْرِهِمْ. فَالْكَنَّاسُ،

وَالْحَجَّامُ، وَقَيِّمُ الْحَمَّامِ، وَالْحَارِسُ، وَالرَّاعِي وَنَحْوُهُمْ، لَا يُكَافِئُونَ بِنْتَ الْخَيَّاطِ، وَالْخَيَّاطُ لَا يُكَافِئُ بِنْتَ تَاجِرٍ أَوْ بَزَّازٍ، وَلَا الْمُحْتَرِفُ بِنْتَ الْقَاضِي وَالْعَالِمِ. وَذُكِرَ فِي الْحِلْيَةِ أَنَّهُ تُرَاعَى الْعَادَةُ فِي الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ التِّجَارَةَ أَوْلَى مِنَ الزِّرَاعَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْعَكْسِ. فَرْعٌ الْحِرْفَةُ الدَّنِيَّةُ فِي الْآبَاءِ، وَالِاشْتِهَارُ بِالْفِسْقِ، مِمَّا يُعَيَّرُ بِهِ الْوَلَدُ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَالُ مَنْ كَانَ أَبُوهُ صَاحِبَ حِرْفَةٍ دَنِيَّةٍ، أَوْ مَشْهُورًا بِفِسْقٍ، مَعَ مَنْ أَبَوْهَا عَدْلٌ، كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ مَعَ مَنْ أَبَوْهَا مُسْلِمٌ. وَالْحَقُّ أَنْ يُجْعَلَ النَّظَرُ فِي حَقِّ الْآبَاءِ دِينًا وَسِيرَةً وَحِرْفَةً مِنْ حَيِّزِ النَّسَبِ، فَإِنَّ مَفَاخِرَ الْآبَاءِ وَمَثَالِبَهُمْ، هِيَ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا أَمْرُ النَّسَبِ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ اعْتِبَارَ النَّسَبِ فِي الْعَجَمِ. وَيَقْتَضِي أَنْ لَا تُطْلَقَ الْكَفَاءَةُ بَيْنَ غَيْرِ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ. السَّادِسَةُ: الْيَسَارُ عَلَى وَجْهٍ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. فَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ يَسَارٌ بِقَدْرِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، فَإِذَا أَيْسَرَ بِهِ، فَهُوَ كُفْءٌ لِصَاحِبَةِ الْأَلُوفِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَكْفِي ذَلِكَ، بَلِ النَّاسُ أَصْنَافٌ، غَنِيٌّ، وَفَقِيرٌ، وَمُتَوَسِّطٌ، وَكُلُّ صِنْفٍ أَكْفَاءٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْمَرَاتِبُ. وَفِي «فَتَاوَى» الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَ بِنْتَهُ الْبِكْرَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا رَجُلًا مُعْسِرًا بِغَيْرِ رِضَاهَا، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ بَخَسَ حَقَّهَا، كَتَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ.

فَرْعٌ لَيْسَ مِنَ الْخِصَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْكَفَاءَةِ الْجَمَالُ وَنَقِيضُهُ، لَكِنْ ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ، أَنَّ الشَّيْخَ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِلشَّابَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَنَّ الْجَاهِلَ لَيْسَ كُفْئًا لِلْعَالِمَةِ، وَهَذَا فَتْحُ بَابٍ وَاسِعٍ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ خِلَافُ مَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ الْبُخْلُ وَالْكَرَمُ وَالطُّولُ وَالْقِصَرُ مُعْتَبَرًا. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَاعْتَبَرَ قَوْمٌ الْبَلَدَ، فَقَالُوا: سَاكِنُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، لَيْسَ كُفْئًا لِسَاكِنِ الْجِبَالِ، قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ، أَنَّ خِصَالَ الْكَفَاءَةِ لَا تُقَابَلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ، حَتَّى لَا تُزَوَّجَ سَلِيمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ دَنِيَّةٌ بِمَعِيبِ نَسِيبٍ، وَلَا حُرَّةٌ فَاسِقَةٌ بِعَبْدٍ عَفِيفٍ، وَلَا عَرَبِيَّةٌ فَاسِقَةٌ بِعَجَمِيٍّ عَفِيفٍ، وَلَا رَقِيقَةٌ عَفِيفَةٌ بِحُرٍّ فَاسِقٍ، وَتَكْفِي صِفَةُ النَّقْصِ فِي الْمَنْعِ. وَفَصَّلَ الْإِمَامُ فَقَالَ: السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ لَا تُقَابَلُ بِسَائِرِ فَضَائِلِ الزَّوْجِ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ، وَكَذَا النَّسَبُ. وَفِي انْجِبَارِ دَنَاءَةِ نَسَبِهِ بِعِفَّتِهِ الظَّاهِرَةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، قَالَ: وَالتَّنَقِّي مِنَ الْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ، يُقَابِلُهُ الصَّلَاحُ وِفَاقًا. وَالصَّلَاحُ إِنِ اعْتَبَرْنَاهُ، يُقَابَلُ بِكُلِّ خَصْلَةٍ، وَالْأَمَةُ الْعَرَبِيَّةِ بِالْحُرِّ الْعَجَمِيِّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.

فصل

فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَا اعْتِبَارَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى عُظَمَاءِ الدُّنْيَا وَالظَّلَمَةِ الْمُسْتَوْلِينَ عَلَى الرِّقَابِ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ قَدْ يَتَفَاخَرُونَ بِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ، لَا يُسَاعِدُهُ كَلَامُ النَّقَلَةِ. وَقَدْ قَالَ الْمُتَوَلِّي: لِلْعَجَمِ عُرْفٌ فِي الْكَفَاءَةِ، فَيُعْتَبَرُ عُرْفُهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّامِلِ نَقَلَ قَوْلًا عَنْ كِتَابِ الْبُوَيْطِيِّ: أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي الدِّينِ وَحْدِهِ، وَالْمَشْهُورُ مَا سَبَقَ. فَصْلٌ الْكَفَاءَةُ حَقُّ الْمَرْأَةِ وَالْوَلِيِّ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً مُسْتَوِينَ فِي دَرَجَةٍ. فَإِنْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ وَلَيُّهَا الْمُنْفَرِدُ بِرِضَاهَا، أَوْ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ بِرِضَاهَا وَرِضَى الْبَاقِينَ، صَحَّ النِّكَاحُ، فَالْكَفَاءَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ. وَإِذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ بِغَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا، لَمْ يَكُنْ لِلْأَبْعَدِ الِاعْتِرَاضُ. فَلَوْ كَانَ الَّذِي يَلِي أَمْرَهَا السُّلْطَانُ، فَهَلْ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ إِذَا طَلَبَتْهُ؟ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ كَالنَّائِبِ، فَلَا يُتْرَكُ الْحَظُّ. وَلَوْ زَوَّجَهَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ بِغَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا دُونَ رِضَى الْبَاقِينَ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي قَوْلٍ: يَصِحُّ، وَلَهُمُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ قَطْعًا. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَإِنْ زَوَّجَهَا أَحَدُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَكَانَتْ قَدْ أَذِنَتْ فِي التَّزْوِيجِ مُطْلَقًا، وَقُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الزَّوْجِ، أَوْ زَوَّجَ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْبَالِغَةَ بِغَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ. وَقِيلَ: إِنْ عَلِمَ الْوَلِيُّ عَدَمَ الْكَفَاءَةِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا، فَصَحِيحٌ. وَإِذَا صَحَّحْنَا، فَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ إِنْ كَانَتْ بَالِغَةً، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، فَإِذَا بَلَغَتْ، تَخَيَّرَتْ. وَحَكَى الْإِمَامُ

وَجْهًا: أَنَّهَا لَا تَتَخَيَّرُ، وَعَلَيْهَا الرِّضَى بِعَقْدِ الْأَبِ. وَهَلْ لِلْوَلِيِّ الْخِيَارُ فِي صِغَرِهَا؟ وَجْهَانِ. وَرَوَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لِلصَّغِيرِ مَعِيبًا. وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهُ خِيَارُ شَهْوَةٍ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْحَنَّاطِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَرَآهُ الْإِمَامُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا جَهِلَ الْوَلِيُّ حَالَ الزَّوْجِ، فَإِنْ عَلِمَ، فَلَا خِيَارَ لَهُ. وَطَرَدَهُ ابْنُ كَجٍّ وَآخَرُونَ فِي حَالَتَيِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَقَالُوا: لَيْسَ هُوَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِعِلْمِهِ. فَرْعٌ فِي «فَتَاوَى» الْبَغَوِيِّ: أَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِنِكَاحٍ لِغَيْرِ كُفْءٍ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْوَلِيِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْشَاءِ عَقْدٍ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: مَا رَضِيَتْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ بِالنِّكَاحِ وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ، لَا يُقْبَلُ إِنْكَارُهُ، قَالَ: وَلَوْ زُوِّجَتْ بِوِكَالَةٍ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْوَلِيُّ التَّوْكِيلَ وَالْمَرْأَةُ سَاكِتَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ. فَلَوْ أَقَرَّتْ بِالنِّكَاحِ، قُبِلَ قَوْلُهَا. فَرْعٌ إِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَنْ لَا تُكَافِئُهُ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ مَعِيبَةً بِعَيْبٍ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ بِغَيْرِ كُفْءٍ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَصِحُّ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ إِنْكَاحُهُ الرَّتْقَاءَ وَالْقَرْنَاءَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ بَذْلُ مَالٍ فِي بُضْعٍ لَا يَنْفَعُ، بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ بِمَجْبُوبٍ. وَإِنْ زَوَّجَهُ أَمَةً، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْعَنَتَ. وَإِنْ زَوَّجَهُ بِمَنْ لَا تُكَافِئُهُ بِجِهَةٍ أُخْرَى، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، إِذْ لَا عَارَ عَلَى الرَّجُلِ فِي اسْتِفْرَاشِ مَنْ دُونَهُ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَالتَّفْرِيعُ كَمَا سَبَقَ فِي الصَّغِيرَةِ. وَإِنَّ زَوَّجَهُ عَمْيَاءَ، أَوْ عَجُوزًا، أَوْ مَفْقُودَةَ بَعْضِ الْأَطْرَافِ، فَوَجْهَانِ. وَيَجِبُ أَنْ

يَكُونَ فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ بِالْأَعْمَى وَالْأَقْطَعِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ زَوَّجَ الْمَجْنُونَ أَمَةً، جَازَ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَخُشِيَ عَلَيْهِ الْعَنَتُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ وَطْءٌ يُوجِبُ حَدًّا أَوْ إِثْمًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّغِيرَةِ. فَرْعٌ زَوَّجَ بِنْتَهُ بِخُنْثَى قَدْ بَانَ رَجُلًا، أَوِ ابْنَهُ بِخُنْثَى قَدْ بَانَ امْرَأَةً، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ بِهَذَا السَّبَبِ، فَالْخُنْثَى كَالْمَجْنُونِ وَالْمَجْنُونَةِ، وَإِلَّا، فَكَالْأَعْمَى. قُلْتُ: الْخَصِيُّ كَالْخُنْثَى فِي هَذَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَكَذَا لَوْ أَذِنَتِ الْبَالِغَةُ فِي التَّزْوِيجِ مُطْلَقًا فَزَوَّجَهَا بِخَصِيٍّ أَوْ خُنْثَى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ بِرَقِيقٍ وَدَنِيءِ النَّسَبِ، وَلَا يُزَوِّجُهَا مَنْ بِهِ عَيْبٌ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَلَا مَنْ لَا يُكَافِئُهَا بِسَبَبٍ آخَرَ. فَإِنْ خَالَفَ، فَهَلْ يَبْطُلُ النِّكَاحُ، أَمْ يَصِحُّ وَلَهَا الْخِيَارُ؟ فِيهِ مِثْلُ الْخِلَافِ السَّابِقِ. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَصِحُّ بِلَا خِيَارٍ. وَلَوْ زَوَّجَهَا بِمَعِيبٍ بِرِضَاهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَمْكِينِهِ، وَلَهُ بَيْعُهَا مِمَّنْ بِهِ بَعْضُ تِلْكَ الْعُيُوبِ. وَهَلْ لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَمْكِينِهِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهَا التَّمْكِينُ. وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْفَصْلِ، لَوْ زَوَّجَهَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بِكُفْءٍ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِرِضَاهَا دُونَ رِضَى بَقِيَّةِ الْأَوْلِيَاءِ، صَحَّ قَطْعًا، إِذْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمَهْرِ، وَلَا عَارَ. وَلَوْ طَلَبَتِ

التَّزْوِيجَ بِرَجُلٍ، وَادَّعَتْ كَفَاءَتَهُ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: لَيْسَ بِكُفْءٍ، رُفِعَ إِلَى الْقَاضِي، فَإِنْ ثَبَتَتْ كَفَاءَتُهُ، أَلْزَمَهُ تَزْوِيجَهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ، زَوَّجَهَا الْقَاضِي بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَزْوِيجُهَا بِهِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ زَوَّجَهَا وَاحِدٌ بِرِضَاهَا وَرِضَى الْبَاقِينَ بِغَيْرِ كُفْءٍ، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ، ثُمَّ زَوَّجَهَا أَحَدُهُمْ بِهِ بِرِضَاهَا دُونَ إِذْنِ الْبَاقِينَ، فَقِيلَ: يَصِحُّ قَطْعًا، لِأَنَّهُمْ رَضَوْا بِهِ أَوَّلًا. وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَدِيدٌ. وَلَوِ امْتَنَعُوا، فَلَهُمْ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ: وَلَوِ اسْتَأْذَنَ الْأَبُ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ فِي التَّزْوِيجِ بِغَيْرِ كُفْءٍ، فَسَكَتَتْ، فَهَلْ يَصِحُّ قَطْعًا، أَمْ يَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. وَالْمَذْهَبُ: الصِّحَّةُ. وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْإِمْلَاءِ» : لَوْ زَوَّجَ أُخْتَهُ، فَمَاتَ الزَّوْجُ، فَادَّعَى وَارِثُهُ أَنَّ الْأَخَ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَأَنَّهَا لَا تَرِثُ، فَقَالَتْ: زَوَّجَنِي بِرِضَايَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَتَرِثُ، قَالَ فِي «الْإِمْلَاءِ» : وَإِنْ قَالَ رَجُلٌ: هَذِهِ زَوْجَتِي، فَسَكَتَتْ فَمَاتَ، وَرِثَتْهُ، وَإِنْ مَاتَتْ، لَمْ يَرِثْهَا، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ يُقْبَلُ عَلَيْهِ دُونَهَا. وَلَوْ أَقَرَّتْ بِزَوْجِيَّةِ رَجُلٍ، فَسَكَتَ فَمَاتَتْ، وَرِثَهَا، وَإِنْ مَاتَ، لَمْ تَرِثْهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الطَّرَفُ الثَّامِنُ: فِي اجْتِمَاعِ الْأَوْلِيَاءِ. فَإِذَا اجْتَمَعُوا فِي دَرَجَةٍ، كَالْأُخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمُ، اسْتُحِبَّ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَفْضَلُهُمْ بِالْفِقْهِ أَوِ الْوَرَعِ، وَأَسَنُّهُمْ، بِرِضَى الْبَاقِينَ، لِأَنَّ هَذَا أَجْمَعُ لِلْمَصْلَحَةِ. وَلَوْ تَعَارَضَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ، قُدِّمَ الْأَفْقَهُ، ثُمَّ الْأَوْرَعُ، ثُمَّ الْأَسَنُّ. وَلَوْ زَوَّجَ غَيْرُ الْأَسَنِّ وَالْأَفْضَلِ بِرِضَاهَا بِكُفْءٍ، صَحَّ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْبَاقِينَ. وَلَوْ تَنَازَعُوا، وَقَالَ كُلٌّ: أَنَا أُزَوِّجُ، نُظِرَ، إِنْ تَعَدَّدَ الْخَاطِبُ، فَالتَّزْوِيجُ مِمَّنْ تَرْضَاهُ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ رَضِيَتْهُمْ جَمِيعًا، نَظَرَ الْقَاضِي فِي الْأَصْلَحِ وَأَمَرَ بِتَزْوِيجِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَإِنِ اتَّحَدَ الْخَاطِبُ، وَتَزَاحَمُوا عَلَى الْعَقْدِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، زَوَّجَهَا، فَإِنْ بَادَرَ غَيْرُهُ فَزَوَّجَهَا، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ.

فصل

فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَخْتَصُّ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا إِذَا اقْتَرَعُوا مِنْ غَيْرِ ارْتِفَاعٍ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، أَمْ يَخْتَصُّ بِقُرْعَةٍ يُنْشِئُهَا الْقَاضِي؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَذِنَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، أَوْ قَالَتْ: أَذِنْتُ فِي فُلَانٍ، فَمَنْ شَاءَ مِنْ أَوْلِيَائِي فَلْيُزَوِّجْنِي بِهِ. وَلَوْ قَالَتْ: زَوِّجُونِي، اشْتُرِطَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَتْ: رَضِيتُ أَنْ أُزَوَّجَ، أَوْ رَضِيتُ بِفُلَانٍ زَوْجًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لِأَحَدٍ تَزْوِيجُهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَأْذَنْ لِجَمِيعِهِمْ إِذْنًا عَامًّا، وَلَا خَاطَبَتْ وَاحِدًا، فَصَارَ كَقَوْلِهَا: رَضِيتُ أَنْ يُبَاعَ مَالِي. وَأَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ تَزْوِيجُهَا، لِأَنَّهُمْ مُتَعَيِّنُونَ شَرْعًا، وَالشَّرْطُ رِضَاهَا وَقَدْ وُجِدَ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ عَيَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاحِدًا، فَفِي انْعِزَالِ الْبَاقِينَ وَجْهَانِ. وَقَطَعَ فِي الرَّقْمِ بِالِانْعِزَالِ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِخِلَافِهِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عَدَمُ الِانْعِزَالِ، وَغَلَّطَ الشَّاشِيُّ مَنْ قَالَ بِالِانْعِزَالِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ إِذَا أَذِنَتْ لِأَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِزَيْدٍ، وَلِلْآخَرِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِعَمْرٍو، وَأَطْلَقَتِ الْإِذْنَ، وَصَحَّحْنَاهُ، فَزَوَّجَ وَاحِدٌ زَيْدًا، وَآخَرُ عَمْرًا، أَوْ وَكَّلَ الْوَلِيُّ الْمُجْبَرُ رَجُلًا، فَزَوَّجَهَا الْوَلِيُّ زَيْدًا، وَالْوَكِيلُ عَمْرًا، أَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ، فَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا زَيْدًا، وَالْآخَرُ عَمْرًا، فَلِلْمَسْأَلَةِ خَمْسُ صُوَرٍ. إِحْدَاهَا: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ النِّكَاحَيْنِ وَنَعْلَمُهُ، فَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالثَّانِي بَاطِلٌ، سَوَاءٌ دَخَلَ الثَّانِي، أَمْ لَا، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ السَّبْقُ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ التَّصَادُقِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقَعَا مَعًا، فَبَاطِلَانِ. وَلَوِ اتَّحَدَ الْخَاطِبُ، وَأَوْجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَلِيَّيْنِ النِّكَاحَ لَهُ مَعًا، صَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَتَقَوَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِيجَابَيْنِ بِالْآخَرِ،

وَحَكَى الْعِبَادِيُّ عَنِ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، فَتَدَافَعَا. الثَّالِثَةُ: إِذَا لَمْ يُعْلَمِ السَّبْقُ وَالْمَعِيَّةُ، وَأَمْكَنَا، فَبَاطِلَانِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الصِّحَّةِ، كَذَا أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ وَجْهًا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِنْشَاءِ فَسْخٍ، لِاحْتِمَالِ السَّبْقِ. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَسْبِقَ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، ثُمَّ يَخْفَى، فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يُبَيَّنَ، وَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا وَلَا لِثَالِثٍ نِكَاحُهَا، إِلَّا أَنْ يُطَلِّقَاهَا، أَوْ يَمُوتَا، أَوْ يُطَلِّقَ أَحَدُهُمَا، أَوْ يَمُوتَ الْآخَرُ. قُلْتُ: وَلَا بُدَّ مِنَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بَعْدَ مَوْتِ آخِرهِمَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَطَرَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الصُّورَةِ الْخَامِسَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. الْخَامِسَةُ: إِذَا عُلِمَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُعْلَمْ عَيْنُهُ، فَبَاطِلَانِ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، كَمَا لَوِ احْتَمَلَ السَّبْقُ وَالْمَعِيَّةُ لِتَعَذُّرِ الْإِمْضَاءِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي مُخَرَّجٌ مِنَ الْجَمْعَيْنِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ: أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ كَمَا فِي الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ، هَلْ يَبْطُلَانِ بِلَا فَسْخٍ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إِنْشَاءِ فَسْخٍ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنْ شَرَطْنَا الْإِنْشَاءَ، فَفِيمَنْ يَفْسَخُ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الْحَاكِمُ أَوِ الْمُحَكَّمُ إِنْ جَوَّزْنَا التَّحْكِيمَ. وَالثَّانِي: لِلْمَرْأَةِ الْفَسْخُ بِغَيْرِ مُرَاجَعَةِ الْحَاكِمِ. وَالثَّالِثُ: لِلزَّوْجَيْنِ الْفَسْخُ أَيْضًا. وَحَيْثُ أَبْطَلْنَا النِّكَاحَيْنِ، فَلَا مَهْرَ، إِلَّا أَنْ يُوجَدَ دُخُولٌ، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِذَا أَبْطَلْنَا عِنْدَ احْتِمَالِ السَّبْقِ وَالْمَعِيَّةِ، وَفِيمَا إِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُعْلَمْ، فَهَلْ يَبْطُلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، أَمْ ظَاهِرًا فَقَطْ؟ وَجْهَانِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ ظَهَرَ وَتَعَيَّنَ السَّابِقُ بَعْدُ، فَلَا زَوْجِيَّةَ. وَلَوْ نَكَحَتْ ثَالِثًا، فَهِيَ زَوْجَةُ الثَّالِثِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ.

قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ إِنْ جَرَى فَسْخٌ مِنَ الْحَاكِمِ، انْفَسَخَ أَيْضًا بَاطِنًا، وَإِلَّا، فَلَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، وَقَفْنَا مِنْ تَرِكَتِهِ مِيرَاثَ زَوْجِهِ. وَلَوْ مَاتَتْ، وَقَفْنَا مِيرَاثَ زَوْجٍ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا أَوْ يُبَيَّنَ الْحَالُ، وَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ وَمُدَّةِ الْحَبْسِ قَبْلَ الْفَسْخِ إِذَا قُلْنَا بِهِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِعَدَمِ التَّمْكِينِ، وَالْأَصْلُ الْبَرَاءَةُ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِصُورَةِ الْعَقْدِ وَعَدَمِ النُّشُوزِ مَعَ حَبْسِهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ. وَبِالثَّانِي قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا، وُزِّعَتْ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ تَعَيَّنَ السَّابِقُ، رَجَعَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يَرْجِعُ إِذَا أَنْفَقَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، وَبِهَذَا قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ، وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَلَا يُطَالَبُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا سَبَقَ، هُوَ فِيمَا إِذَا تَصَادَقُوا فِي كَيْفِيَّةِ جَرَيَانِ الْعَقْدِ. أَمَّا إِذَا تَنَازَعُوا، وَادَّعَى كُلُّ زَوْجٍ سَبْقَهُ، وَأَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَيُنْظَرُ، إِنْ لَمْ يَدَّعِيَا عَلَيْهَا، لَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُمَا، وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا يُحَلِّفُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. هَكَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْعَبَّادِيُّ فِي الرَّقْمِ: يُحَلَّفَانِ فَلَعَلَّهُ يَظْهَرُ الْحَقُّ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا لَا مَجَالَ لَهُ إِنْ زَعَمَا عِلْمَ الْمَرْأَةِ بِالْحَالِ، بَلْ تُرَاجَعُ هِيَ. فَإِنِ اعْتَرَفَا بِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ، فَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَيَنْقَدِحُ فِي الْبَدَاءَةِ تَخْيِيرُ الْقَاضِي أَوِ الْإِقْرَاعُ. فَإِنْ حَلَفَا

أَوْ نَكَلَا، فَهُوَ كَمَا لَوِ اعْتَرَفَا بِالْإِشْكَالِ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، قُضِيَ لَهُ. وَإِنِ ادَّعَيَا عَلَى الْمَرْأَةِ، فَذَاكَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَا عِلْمَهَا بِالسَّبْقِ. فَإِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ: إِنَّهَا تَعْلَمُ سَبْقَ أَحَدِ النِّكَاحَيْنِ، لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى، لِلْجَهْلِ. وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: هِيَ تَعْلَمُ أَنَّ نِكَاحِي سَابِقٌ، فَقَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمَا: يُبْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي إِقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالنِّكَاحِ، هَلْ يَقْبَلُ؟ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ، لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى، إِذْ لَا فَائِدَةَ. وَإِنْ قُلْنَا: تُقْبَلُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، سُمِعَتْ. وَحِينَئِذٍ، إِمَّا أَنْ تُنْكِرَ، وَإِمَّا أَنْ تُقِرَّ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ تُنْكِرَ الْعِلْمَ بِالسَّبْقِ، فَتَحْلِفَ عَلَيْهِ. وَهَلْ يَكْفِي لَهُمَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، أَمْ يَجِبُ يَمِينَانِ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَمِينَانِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنْ حَضَرَا وَادَّعَيَا، حَلَفَتْ يَمِينًا، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ كَجٍّ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ حَضَرَا وَرَضِيَا بِيَمِينٍ، كَفَتْ. وَإِنْ حَلَّفَهَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ حَضَرَ الْآخَرُ، فَهَلْ لَهُ تَحْلِيفُهَا؟ وَجْهَانِ، لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ وَاحِدَةٌ، وَنَفْيُ الْعِلْمِ بِالسَّبْقِ يَشْمَلُهُمَا. فَإِذَا حَلَفَتْ كَمَا يَنْبَغِي، فَقِيلَ: لَا تَحَالُفَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقَدْ أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى الْإِشْكَالِ، وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ وَقَالَ: إِنَّمَا حَلَفَتْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالسَّبْقِ، وَلَمْ تُنْكِرْ جَرَيَانَ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الصِّحَّةِ، فَيَبْقَى التَّدَاعِي وَالتَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا. وَالَّذِي أَنْكَرْنَاهُ ابْتِدَاءً التَّحَالُفُ مِنْ غَيْرِ رَبْطِ الدَّعْوَى بِهَا، وَبِهَذَا قَطَعَ الْغَزَالِيُّ. وَإِنْ نَكَلَتْ هِيَ، رَدَدْنَا الْيَمِينَ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا، جَاءَ الْإِشْكَالُ، وَإِلَّا فَيُقْضَى لِلْحَالِفِ، وَإِذَا حَلَفَا وَنَكَلَا، فَلَا شَيْءَ لَهُمَا عَلَيْهَا. وَفِي كِتَابِ الْحَنَّاطِيِّ وَجْهٌ: أَنَّهُمَا إِذَا حَلَفَا وَانْدَفَعَ النِّكَاحَانِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَيَمِينُهَا - حَلَفَتْ أَوْ نَكَلَتْ - تَكُونُ عَلَى الْبَتِّ دُونَ نَفْيِ الْعِلْمِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّعَرُّضِ لِعِلْمِهَا. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تُقِرَّ لِأَحَدِهِمَا بِالسَّبْقِ، فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ (لَهُ) . وَفِي سَمَاعِ دَعْوَى الثَّانِي عَلَيْهَا وَتَحْلِيفِهَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ لِلثَّانِي بَعْدَ إِقْرَارِهَا لِلْأَوَّلِ هَلْ تُغَرَّمُ لِلثَّانِي؟ وَفِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي الْإِقْرَارِ لِعَمْرٍو بِدَارٍ أَقَرَّ بِهَا لِزَيْدٍ

أَوَّلًا. فَإِنْ قُلْنَا: تُغَرَّمُ، سُمِعَتِ الدَّعْوَى وَحَلَّفَهَا، وَإِلَّا، فَقَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ كَبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا الْمُدَّعِي؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: كَالْإِقْرَارِ. فَعَلَى هَذَا، لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهَا، لِأَنَّ غَايَتَهَا أَنْ تُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ هُوَ بَعْدَ نُكُولِهَا، وَهُوَ كَإِقْرَارِهَا، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ وَيُحَلِّفَهَا. فَإِنْ حَلَفَتْ، سَقَطَتْ دَعْوَاهُ. وَإِنْ نَكَلَ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ. فَإِنْ نَكَلَ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ حَلَفَ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْإِقْرَارِ، أَمْ كَالْبَيِّنَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْدَفِعُ النِّكَاحَانِ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي أَنَّ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ إِقْرَارًا. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ نَصِّهِ فِي الْقَدِيمِ. وَأَصَحُّهُمَا: اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ لِلْأَوَّلِ، وَلَا يَرْتَفِعُ بِنُكُولِهَا الْمُحْتَمِلِ لِلتَّوَرُّعِ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ لِلْأَوَّلِ، ثُمَّ لِلثَّانِي. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ. فَقِيلَ: يُحْكَمُ بِالنِّكَاحِ لِلثَّانِي، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقَدَّمَ عَلَى الْإِقْرَارِ. وَبِهَذَا قَطَعَ فِي «الْمُهَذَّبِ» . وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَآخَرُونَ: الصَّحِيحُ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ إِنَّمَا تُجْعَلُ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الْحَالِفِ وَالنَّاكِلِ، لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا. وَإِذَا اخْتَصَرَتْ قُلْتُ: هَلْ يَنْدَفِعُ النِّكَاحَانِ، أَمْ تُسَلَّمُ لِلْأَوَّلِ، أَمْ لِلثَّانِي؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. إِنْ سُلِّمَتْ لِلْأَوَّلِ، غَرِمَتْ لِلثَّانِي، وَحَيْثُ تَغْرَمُ، نُغَرِّمُهَا مَا يُغَرَّمُ شُهُودُ الطَّلَاقِ إِذَا رَجَعُوا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ لَوْ كَانَتْ خَرْسَاءَ، أَوْ خَرُسَتْ بَعْدَ التَّزْوِيجِ، فَأَقَرَّتْ بِالْإِشَارَةِ بِسَبْقِ أَحَدِهِمَا، لَزِمَهَا الْإِقْرَارُ، وَإِلَّا، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا، وَالْحَالُ حَالُ الْإِشْكَالِ، حُكِيَ هَذَا عَنْ نَصِّهِ.

فَرْعٌ حَلَفَتْ لِأَحَدِهِمَا: لَا تَعْلَمُ سَبْقَهُ، لَا تَكُونُ مُقِرَّةً لِلْآخَرِ، وَلَوْ قَالَتْ لِأَحَدِهِمَا: لَمْ يَسْبِقْ، كَانَتْ مُقِرَّةً لِلْآخَرِ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ. وَالْمُرَادُ إِذَا جَرَى ذَلِكَ بَعْدَ إِقْرَارِهَا بِسَبْقِ أَحَدِهِمَا، وَإِلَّا، فَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَا مَعًا، فَلَا تَكُونُ مُقِرَّةً بِسَبْقِ الْآخَرِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَا عَلَيْهَا زَوْجِيَّةً مُطْلَقَةً، وَلَا يَتَعَرَّضَا لِسَبْقٍ، وَلَا لِعِلْمِهَا بِهِ، فَهَذَا يُبْنَى عَلَى أَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّفْصِيلُ وَذِكْرُ الشُّرُوطِ؟ وَبَيَانُهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ. فَإِنْ سَمِعْنَا دَعْوَى النِّكَاحِ مُطْلَقَةً، أَوْ فَصَّلَا الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلسَّبْقِ، لَزِمَهَا الْجَوَابُ الْحَازِمُ، وَلَا يَكْفِيهَا نَفْيُ الْعِلْمِ بِالسَّابِقِ، لَكِنَّهَا إِذَا لَمْ تَعْلَمْ، فَلَهَا الْجَوَابُ الْجَازِمُ وَالْحَلْفُ أَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ، وَهَذَا كَمَا إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّ أَبَاهُ أَتْلَفَ كَذَا، وَطَلَبَ غُرْمَهُ مِنَ التَّرِكَةِ، حَلَفَ الْوَارِثُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ أَتْلَفَ. وَلَوِ ادَّعَى (أَنَّ) عَلَيْهِ تَسْلِيمَ كَذَا مِنَ التَّرِكَةِ، حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ. وَعَدَمُ الْعِلْمِ يَجُوزُ لَهُ الْحَلْفُ الْجَازِمُ. فَرْعٌ هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى الْمَرْأَةِ. فَإِنِ ادَّعَيَا عَلَى الْوَلِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْبَرًا، لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ لَا يُقْبَلُ. وَإِنْ كَانَ مُجْبَرًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ. وَأَصَحُّهُمَا: تُسْمَعُ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ مَقْبُولٌ، وَمَنْ قُبِلَ إِقْرَارُهُ، تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَى وَالْيَمِينُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، حَلَفَ الْأَبُ. وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَحْلِفُ، لِلْقُدْرَةِ عَلَى تَحْلِيفِهَا. وَأَصَحُّهُمَا: يَحْلِفُ.

ثُمَّ إِنْ حَلَفَ الْأَبُ، فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْبِنْتَ أَيْضًا. فَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ، وَثَبَتَ نِكَاحُهُ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» : أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ بَالِغَةً، بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَالدَّعْوَى عَلَيْهَا. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْمُوَلَّى عَلَيْهِ الْأَسْبَابُ الْمُقْتَضِيَةُ لِنَصْبِ الْوَلِيِّ خَمْسَةٌ: الصِّغَرُ، وَالْأُنُوثَةُ، وَالْجُنُونُ، وَالسَّفَهُ، وَالرِّقُّ، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُ الْأَوَّلَيْنِ. السَّبُبُ الثَّالِثُ: الْجُنُونُ. فَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ كَبِيرًا، لَمْ يُزَوَّجْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَيُزَوَّجْ لِلْحَاجَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَظْهَرَ رَغْبَتُهُ فِيهِنَّ بِدَوَرَانِهِ حَوْلَهُنَّ وَتَعَلُّقِهِ بِهِنَّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. أَوْ بِأَنْ يَحْتَاجَ إِلَى مَنْ يَخْدِمُهُ وَيَتَعَهَّدُهُ، وَلَا يَجِدُ فِي مَحَارِمِهِ مَنْ يُحَصِّلُ هَذَا، وَتَكُونُ مَئُونَةُ النِّكَاحِ أَخَفَّ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ، أَوْ بِأَنْ يُتَوَقَّعَ شِفَاؤُهُ بِالنِّكَاحِ. وَإِذَا جَازَ تَزْوِيجُهُ، تَوَلَّاهُ الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ السُّلْطَانُ، دُونَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ، كَوِلَايَةِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ صَغِيرًا، لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُزَوِّجُهُ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ، وَطَرَدَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْوَجْهَيْنِ فِي الصَّغِيرِ الْعَاقِلِ الْمَمْسُوحِ. وَمَتَّى جَازَ تَزْوِيجُ الْمَجْنُونِ، لَمْ يُزَوَّجْ إِلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً، وَالْمُخَبَّلُ كَالْمَجْنُونِ فِي النِّكَاحِ، وَهُوَ الَّذِي فِي عَقْلِهِ خَلَلٌ، وَفِي أَعْضَائِهِ اسْتِرْخَاءٌ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ غَالِبًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُزَوَّجَ الصَّغِيرُ الْعَاقِلُ أَرْبَعًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى وَاحِدَةٍ. قُلْتُ: وَفِي الْإِبَانَةِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ أَصْلًا، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْأَصَحُّ، وَهُوَ غَلَطٌ.

ثُمَّ إِنَّمَا يُزَوِّجُ الصَّغِيرَ الْعَاقِلَ الْأَبُ وَالْجَدُّ، وَلَا يَصِحُّ تَزْوِيجُ الْوَصِيِّ وَالْقَاضِي، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ وَانْتِفَاءِ كَمَالِ الشَّفَقَةِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ فِي البُوَيْطِيِّ، وَصَرَّحَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ فِي «الْبَيَانِ» : يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ كَالْأَبِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ فِي الْمَجْنُونَةِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: أَنَّ الْأَبَ - وَالْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ - يُزَوِّجَانِهَا، سَوَاءً كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا. وَالثَّانِي: لَا يَسْتَقِلَّانِ بِتَزْوِيجِ الْكَبِيرَةِ الثَّيِّبِ، بَلْ يُشْتَرَطُ إِذْنُ السُّلْطَانِ بَدَلًا عَنْ إِذْنِهَا. وَالثَّالِثُ: لَا يُزَوَّجُ الثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ كَمَا لَوْ كَانَتْ عَاقِلَةً، وَالْفَرْقُ عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّ الْبُلُوغَ غَايَةٌ تُنْتَظَرُ. ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ فِي تَزْوِيجِهَا ظُهُورُ الْحَاجَةِ، بَلْ يَكْفِي ظُهُورُ الْمَصْلَحَةِ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ نِكَاحَهَا يُفِيدُ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، وَيُغَرَّمُ الْمَجْنُونُ. وَسَوَاءٌ الَّتِي بَلَغَتْ مَجْنُونَةً، وَمَنْ بَلَغَتْ عَاقِلَةً ثُمَّ جُنَّتْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ، فَوِلَايَةُ مَالِهِ لِأَبِيهِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لِلسُّلْطَانِ، فَكَذَا التَّزْوِيجُ. وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا وَلَا جَدَّ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، لَمْ تُزَوَّجْ، إِذْ لَا إِجْبَارَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَلَا حَاجَةَ لَهَا فِي الْحَالِ. وَإِنْ كَانَتْ بَالِغَةً، فَفِيمَنْ يُزَوِّجُهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَرِيبُ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ، لَكِنْ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ، بَلْ يُشْتَرَطُ إِذْنُ السُّلْطَانِ مَقَامَ إِذْنِهَا. فَإِنِ امْتَنَعَ الْقَرِيبُ، زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ كَمَا لَوْ عَضَلَهَا. وَأَصَحُّهُمَا: يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ كَمَا يَلِي مَالَهَا، لَكِنْ يُرَاجِعُ أَقَارِبَهَا، لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِمَصْلَحَتِهَا وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَهَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ وَاجِبَةٌ، أَمْ مُسْتَحَبَّةً؟ وَجْهَانِ. صَحَّحَ الْبَغَوِيُّ الْوُجُوبَ، وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ.

فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْمُشَاوَرَةَ، فَلَمْ يُشِيرُوا بِشَيْءٍ، اسْتَقَلَّ السُّلْطَانُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي وُجُوبِ الْمُشَاوَرَةِ فِي تَزْوِيجِ الْمَجْنُونِ. ثُمَّ مَنْ وَلِيَ نِكَاحَهَا مِنَ السُّلْطَانِ أَوِ الْقَرِيبِ، يُزَوِّجُ عِنْدَ ظُهُورِ الْحَاجَةِ بِأَنْ تَظْهَرَ عَلَامَاتُ غَلَبَةِ شَهْوَتِهَا، أَوْ يَقُولَ أَهْلُ الطِّبِّ: يُرْجَى بِتَزْوِيجِهَا الشِّفَاءُ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَظْهَرْ، وَأَرَادَ التَّزْوِيجَ لِكِفَايَةِ النَّفَقَةِ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى، فَهَلْ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لِلْأَبِ بِمُجَرَّدِ الْمَصْلَحَةِ؟ أَمْ لَا لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا يَقَعُ إِجْبَارًا وَلَيْسَ هُوَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. قَالَ الْإِمَامُ: وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْمَصْلَحَةِ فِي تَزْوِيجِ الْأَبِ وَالْجَدِّ. فَرْعٌ الْبَالِغُ الْمُنْقَطِعُ جُنُونُهُ، لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُهُ حَتَّى يُفِيقَ فَيَأْذَنَ، وَيُشْتَرَطُ وُقُوعُ الْعَقْدِ فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ. فَلَوْ عَادَ الْجُنُونُ قَبْلَ الْعَقْدِ، بَطَلَ الْإِذْنُ، كَمَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِالْجُنُونِ، وَهَكَذَا الثَّيِّبُ الْمُنْقَطِعُ جُنُونُهَا. وَأَمَّا الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ بِمَرَضٍ، فَتُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ، فَإِنْ لَمْ تُتَوَقَّعْ إِفَاقَتُهُ، فَكَالْمَجْنُونِ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: السَّفَهُ. فَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، لَا يَسْتَقِلُّ بِالتَّزَوُّجِ، بَلْ يُرَاجِعُ الْوَلِيَّ لِيَأْذَنَ أَوْ يُزَوِّجَهُ. فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فَتَزَوَّجَ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَالصَّبِيِّ. فَعَلَى الصَّحِيحِ، إِنْ عَيَّنَ لَهُ امْرَأَةً، لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ غَيْرِهَا، وَلْيَنْكِحْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ. فَإِنْ زَادَ، فَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ قَوْلًا مُخَرَّجًا: أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ. وَالْمَشْهُورُ صِحَّتُهُ، لِأَنَّ خَلَلَ الصَّدَاقِ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ. فَعَلَى هَذَا، تَبْطُلُ الزِّيَادَةُ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: الْقِيَاسُ بُطْلَانُ الْمُسَمَّى وَوُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ.

وَالْفَرْقُ أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ تَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنَ الْمُعَيَّنِ، وَعَلَى قَوْلِهِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ. وَإِنْ قَالَ لَهُ الْوَلِيُّ: انْكِحِ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فُلَانٍ، فَلْيَنْكِحْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَلَوْ قَدَّرَ الْمَهْرَ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمَرْأَةَ، فَقَالَ: انْكِحْ بِأَلْفٍ، فَلْيَنْكِحِ امْرَأَةً بِأَلْفٍ. فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا فَأَكْثَرَ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ بِالْمُسَمَّى. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، صَحَّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَسَقَطَتِ الزِّيَادَةُ. وَإِنْ نَكَحَ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمْ يَأْذَنْ فِي أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ. وَفِي الرَّدِّ إِلَى أَلْفٍ إِضْرَارٌ بِهَا. وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ، صَحَّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَسَقَطَتِ الزِّيَادَةُ. وَعَنْ تَخْرِيجِ ابْنِ خَيْرَانَ وَابْنِ الْقَطَّانِ، أَنَّهُ مَتَى زَادَ عَلَى مَا أَذِنَ بِهِ الْوَلِيُّ، بَطَلَ النِّكَاحُ بِكُلِّ حَالٍ. وَلَوْ جَمَعَ الْوَلِيُّ فِي الْإِذْنِ بَيْنَ تَعْيِينِ الْمَرْأَةِ وَتَقْدِيرِ الْمَهْرِ، فَقَالَ: انْكِحْ فُلَانَةً بِأَلْفٍ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا دُونَ الْأَلْفِ، فَالْإِذْنُ بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ أَلْفًا، فَنَكَحَهَا بِأَلْفٍ أَوْ أَقَلَّ، صَحَّ النِّكَاحُ بِالْمُسَمَّى. وَإِنْ زَادَ، سَقَطَتِ الزِّيَادَةُ. وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ، فَإِنْ نَكَحَ بِأَلْفٍ، صَحَّ النِّكَاحُ بِالْمُسَمَّى، وَإِنْ زَادَ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. أَمَّا إِذَا أَطْلَقَ الْوَلِيُّ الْإِذْنَ، فَقَالَ: تَزَوَّجْ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: (وَهُوَ) مَحْكِيٌّ عَنْ أَبَوَيْ عَلَيٍّ: ابْنِ خَيْرَانَ، وَالطَّبَرِيِّ. وَعَنِ الدَّارَكِيِّ، أَنَّهُ يَلْغُو الْإِذْنُ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ امْرَأَةٍ، أَوْ قَبِيلَةٍ، أَوْ مَهْرٍ. وَأَصَحُّهُمَا: يَكْفِي الْإِطْلَاقُ كَالْعَبْدِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ تَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، صَحَّ النِّكَاحُ، وَسَقَطَتِ الزِّيَادَةُ. وَإِنْ تَزَوَّجَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ، صَحَّ النِّكَاحُ بِالْمُسَمَّى. لَكِنْ لَوْ نَكَحَ شَرِيفَةً يَسْتَغْرِقُ مَهْرُ مِثْلِهَا مَالَهُ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ، بَلْ يَتَقَيَّدُ

بِمُوَافَقَةِ الْمَصْلَحَةِ. ذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ تَفْرِيعًا عَلَى اعْتِبَارِ الْإِذْنِ الْمُطْلَقِ وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ عَيَّنَ الْوَلِيُّ امْرَأَةً فَعَدَلَ السَّفِيهُ إِلَى غَيْرِهَا (فَنَكَحَهَا) بِمِثْلِ مَهْرِ الْمُعَيَّنَةِ، لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لِلْوَلِيِّ فِي أَعْيَانِ الزَّوْجَاتِ. فَرْعٌ قَالَ: انْكِحْ مَنْ شِئْتَ بِمَا شِئْتَ، ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِذْنُ، لِأَنَّهُ رَفَعَ الْحَجْرَ بِالْكُلِّيَّةِ. فَرْعٌ قَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْإِذْنُ لِلسَّفِيهِ فِي النِّكَاحِ، لَا يُفِيدُهُ جَوَازُ التَّوْكِيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعِ الْحَجْرَ. فَرْعٌ أَمَّا إِذَا قَبِلَ الْوَلِيُّ النِّكَاحَ لِلسَّفِيهِ، فَفِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ السَّفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ فَوَّضَ إِلَيْهِ رِعَايَةَ مَصْلَحَتِهِ. فَإِذَا عَرَفَ حَاجَتَهُ، زَوَّجَهُ كَمَا يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْعِرَاقِيُّونَ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ: أَنَّ السَّفِيهَ يُزَوِّجُهُ وَلِيُّهُ، فَرُبَّمَا اسْتَأْنَسَ بِهِ الْأَوَّلُونَ، وَحَمَلَهُ الْآخِرُونَ عَلَى أَصْلِ التَّزْوِيجِ، ثُمَّ يُرَاعَى شَرْطُهُ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ: أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهُ وَلِيُّهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ اخْتِلَافُ قَوْلٍ، بَلْ حَمَلَ قَوْمٌ رِوَايَةَ الرَّبِيعِ عَلَى الْقَيِّمِ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْحَاكِمُ فِي التَّزْوِيجِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى مَا إِذَا

لَمْ يَحْتَجِ السَّفِيهُ إِلَى النِّكَاحِ. ثُمَّ إِذَا قَبِلَ لَهُ الْوَلِيُّ النِّكَاحَ، فَلْيَقْبَلْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ، فَإِنْ زَادَ، كَانَ كَمَا لَوْ قَبِلَ الْأَبُ لِابْنِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. فَفِي قَوْلٍ: يَبْطُلُ النِّكَاحُ. وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ يَصِحُّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. فَرْعٌ لَوْ نَكَحَ السَّفِيهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ، فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فَلَا حَدَّ، لِلشُّبْهَةِ. وَفِي الْمَهْرِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يَجِبُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا فَأَتْلَفَهُ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَهْرَ حَقُّ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ تُزَوَّجَ وَلَا عِلْمَ لَهَا بِحَالِ الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ. قُلْتُ: وَإِذَا لَمْ نُوجِبْ شَيْئًا، فَفَكَّ الْحَجْرَ، فَلَا شَيْءَ [عَلَيْهِ] عَلَى الْمَذْهَبِ، كَالصَّبِيِّ إِذَا وَطِئَ ثُمَّ بَلَغَ. وَحَكَى الشَّاشِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُشْتَرَطُ فِي نِكَاحِ السَّفِيهِ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا، فَهُوَ إِتْلَافُ مَالِهِ بِلَا فَائِدَةٍ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهُ إِلَّا وَاحِدَةً كَالْمَجْنُونِ. قَالُوا: وَالْحَاجَةُ بِأَنْ تَغْلِبَ شَهْوَتُهُ، أَوِ احْتَاجَ إِلَى مَنْ يَخْدِمُهُ وَلَمْ تَقُمْ مَحْرَمٌ بِخِدْمَتِهِ، وَكَانَتْ مُؤَنُ الزَّوْجَةِ أَخَفَّ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ وَمُؤَنِهَا، وَلَمْ يَكْتَفُوا فِي الْحَاجَةِ بِقَوْلِ السَّفِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ إِتْلَافَ الْمَالِ، بَلِ اعْتَبَرُوا ظُهُورَ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ بِالْمَصْلَحَةِ كَالصَّبِيِّ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ ظُهُورَ أَمَارَاتِ الشَّهْوَةِ، وَاكْتَفَيَا فِيهَا بِقَوْلِ السَّفِيهِ.

فَرْعٌ إِذَا طَلَبَ السَّفِيهُ النِّكَاحَ مَعَ ظُهُورِ أَمَارَةِ الْحَاجَةِ إِنِ اعْتَبَرْنَاهُ، أَوْ دُونَهُ إِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهُ، وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ إِجَابَتُهُ. فَإِنِ امْتَنَعَ فَتَزَوَّجَ السَّفِيهُ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَصِحُّ. وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: إِذَا امْتَنَعَ الْوَلِيُّ، فَلْيُرَاجِعِ السَّفِيهُ السُّلْطَانَ كَالْمَرْأَةِ الْمَعْضُولَةِ. فَإِنْ خَفَّتِ الْحَاجَةُ، وَتَعَذَّرَتْ مُرَاجَعَةُ السُّلْطَانِ، فَفِي اسْتِقْلَالِ السَّفِيهِ حِينَئِذٍ الْوَجْهَانِ. فَرْعٌ يَصِحُّ طَلَاقُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مِطْلَاقًا، سُرِّيَ بِجَارِيَةٍ. فَرْعٌ الْكَلَامُ فِيمَنْ يَلِي أَمْرَ السَّفِيهِ، سَبَقَ فِي الْحَجْرِ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ: أَنَّهُ إِنْ بَلَغَ رَشِيدًا، ثُمَّ طَرَأَ السَّفَهُ، فَنِكَاحُهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّلْطَانِ. وَإِنْ بَلَغَ سَفِيهًا، فَهَلْ يُفَوِّضُ إِلَى السُّلْطَانِ، أَمْ إِلَى الْأَبِ وَالْجَدِّ؟ وَجْهَانِ. وَأَطْلَقَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ يُزَوِّجُهُ الْقَاضِي، وَأَنَّهُ إِنْ جَعَلَهُ فِي حِجْرِ إِنْسَانٍ، زَوَّجَهُ الَّذِي هُوَ فِي حِجْرِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ فُوِّضَ إِلَى الْقَيِّمِ التَّزْوِيجُ، زَوَّجَ، وَإِلَّا، فَلَا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ جَدٌّ، فَالتَّزْوِيجُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إِلَّا الْقَاضِي وَمَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْقَاضِي تَزْوِيجَهُ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ وَجَزَمَ بِهِ، الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي شَرْحِ «الْمُخْتَصَرِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِقْرَارُ السَّفِيهِ بِالنِّكَاحِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُبَاشِرُهُ، وَهَذَا قَدْ يُشْكَلُ بِإِقْرَارِ الْمَرْأَةِ. فَرْعٌ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلْسٍ النِّكَاحُ، وَتَكُونُ مُؤَنُهُ فِي كَسْبِهِ، لَا فِيمَا فِي يَدِهِ. السَّبَبُ الْخَامِسُ: الرِّقُّ. فَنِكَاحُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ بَاطِلٌ، وَبِإِذْنِهِ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ كَانَ سَيِّدُهُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً. وَيَجُوزُ إِذْنُ سَيِّدِهِ فِي امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقَبِيلَةِ، أَوِ الْبَلْدَةِ، وَيَجُوزُ مُطْلَقًا. وَإِذَا قُيِّدَ، فَعَدَلَ الْعَبْدُ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدَّرَ مَهْرًا، فَنَكَحَ غَيْرَ الْمُعَيَّنَةِ بِهِ، أَوْ بِأَقَلَّ، صَحَّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا أَطْلَقَ الْإِذْنَ، فَلَهُ نِكَاحُ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْبَلْدَةِ الْأُخْرَى. وَلَوْ قَدَّرَ مَهْرًا، فَزَادَ، فَالزِّيَادَةُ فِي ذِمَّتِهِ، يُطْلَبُ بِهَا إِذَا عَتَقَ. وَلَوْ نَكَحَ بِالْمُقَدَّرِ امْرَأَةً مَهْرُهَا أَقَلُّ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَّاطِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةَ احْتِمَالَاتٍ. أَصَحُّهَا: صِحَّةُ النِّكَاحِ، وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، يُطْلَبُ بِهَا إِذَا عَتَقَ. وَالثَّالِثُ: بُطْلَانُ النِّكَاحِ. وَلَوْ رَجَعَ عَنِ الْإِذْنِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْعَبْدُ حَتَّى نَكَحَ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْوَكِيلِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ. وَلَوْ طَلَّقَ الْعَبْدُ بَعْدَمَا نَكَحَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لَمْ يَنْكِحْ أُخْرَى إِلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ. وَلَوْ نَكَحَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا، فَهَلْ لَهُ نِكَاحُ أُخْرَى؟ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ يَتَنَاوَلُ الْفَاسِدَ، أَمْ يَخْتَصُّ بِالصَّحِيحِ، وَلِهَذَا أَصْلٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فصل

فَصْلٌ هَلْ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ الْعَبْدِ الْبَالِغِ عَلَى النِّكَاحِ؟ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: نَعَمْ. وَالْجَدِيدُ: لَا. فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَالْكَبِيرِ. وَقِيلَ: يُجْبَرُ قَطْعًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَجٍّ. وَالْكَبِيرُ الْمَجْنُونُ كَالصَّغِيرِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الْإِجْبَارَ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْبَلَ النِّكَاحَ لِلْبَالِغِ، وَلَهُ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى الْقَبُولِ، وَيَصِحُّ، لِأَنَّهُ إِكْرَاهٌ بِحَقٍّ، كَذَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَصِحُّ قَبُولُهُ كَرْهًا، وَيُقْبَلْ إِقْرَارُ السَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ بِالنِّكَاحِ كَإِقْرَارِ الْأَبِ عَلَى بِنْتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ بِعَبْدِهِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَلَا يَجِبُ مَهْرٌ. وَفِي اسْتِحْبَابِ ذِكْرِهِ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: اسْتِحْبَابُهُ. وَإِذَا طَلَبَ الْعَبْدُ النِّكَاحَ، فَلْيُجِبْهُ السَّيِّدُ، وَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا، فَامْتَنَعَ سَيِّدُهُ، زَوَّجَهُ السُّلْطَانُ كَالْمَعْضُولَةِ. وَلَوْ نَكَحَ بِنَفْسِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ كَمَا لَوْ طَلَبَ السَّفِيهُ وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ فَنَكَحَ بِنَفْسِهِ. وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ كَالْقِنِّ. وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَا يُجْبَرُ وَلَا يَسْتَقِلُّ، وَفِي وُجُوبِ إِجَابَتِهِ الْخِلَافُ. وَالْمُكَاتَبُ لَا يَسْتَقِلُّ، وَلَا يُجْبِرُهُ السَّيِّدُ. وَلَوْ نَكَحَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، صَحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ كَتَبَرُّعِهِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَفِي وُجُوبِ إِجَابَتِهِ الْخِلَافُ كَالْقِنِّ، وَأَوْلَى بِالْوُجُوبِ. وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ، هَلْ لِسَيِّدَيْهِ إِجْبَارُهُ وَعَلَيْهِمَا إِجَابَتُهُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الطَّرَفَيْنِ. وَلَوْ دَعَاهُ أَحَدُهُمَا إِلَى النِّكَاحِ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ أَوِ الْعَبْدُ، فَلَا إِجْبَارَ. وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا مَعَ الْعَبْدِ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَا تُؤَثِّرُ مُوَافَقَةُ الْآخَرِ.

فَرْعٌ لَهُ إِجْبَارُ أَمَتِهِ عَلَى النِّكَاحِ، سَوَاءٌ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ، وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ، وَالْعَاقِلَةُ وَالْمَجْنُونَةُ. وَإِنْ طَلَبَتْهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِجَابَتُهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَحِلَّ عَلَى الْأَصَحِّ، كَالْأُخْتِ. وَلَوْ مَلَكَ أُخْتَيْنِ، فَوَطِئَ إِحْدَاهُمَا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَزْوِيجِ الْأُخْرَى قَطْعًا، لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ لِعَارِضٍ. وَالْمُدَبَّرَةُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهَا كَالْقِنَّةِ، وَكَذَا أُمُّ الْوَلَدِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمَنْ بَعْضُهَا حُرٌّ، لَا تُجْبَرُ وَلَا يُجْبَرُ سَيِّدُهَا (أَيْضًا) عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْمُكَاتَبَةُ لَا تُجْبَرُ، وَلَا تُنْكَحُ دُونَ إِذْنِهِ. وَفِي وُجُوبِ إِجَابَتِهَا وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ لَا تَجِبُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَفِي وَجْهٍ: لَا تُزَوَّجُ أَصْلًا، لِاخْتِلَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا. فَرْعٌ لَا يُزَوِّجُ السَّيِّدُ أَمَةَ مُكَاتَبِهِ وَلَا عَبْدُهُ، وَلَا يُزَوِّجُهَا الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ كَتَبَرُّعِهِ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَمَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، جَازَ لِلسَّيِّدِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْعَبْدِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا، إِلَّا أَنْ يَعُدَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُحْدِثَ دَيْنٌ وَلَا يَفِي مَا فِي يَدِهِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَزَوَّجَهَا بِإِذْنِ

الْعَبْدِ وَالْغُرَمَاءِ، صَحَّ. وَإِنْ زَوَّجَ بِإِذْنِهِ دُونَهُمْ، أَوْ بِإِذْنِهِمْ دُونَهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَبَيْعُ السَّيِّدِ وَوَطْؤُهُ وَهِبَتُهُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ، كَتَزْوِيجِهَا فِي حَالَتَيْ قِيَامِ الدَّيْنِ وَعَدَمِهِ. وَإِذَا وَطِئَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْغُرَمَاءِ، فَهَلْ عَلَيْهِ الْمَهْرُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: لَعَلَّ أَصَحَّهُمَا الْوُجُوبُ، لِأَنَّ مَهْرَهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، بِخِلَافِ وَطْئِهِ الْمَرْهُونَةَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَإِنْ أَحْبَلَهَا، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ إِنْ كَانَ مُوسِرًا. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ، بَلْ تُبَاعُ فِي الدَّيْنِ. فَإِنْ مَلَكَهَا بَعْدُ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَرْهُونَةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي اسْتِيلَادِ الْجَارِيَةِ الْجَانِيَةِ وَفِي اسْتِيلَادِ الْوَارِثِ جَارِيَةَ التَّرِكَةِ إِذَا كَانَ عَلَى الْمُوَرِّثِ دَيْنٌ. وَإِذَا لَمْ نَحْكُمْ بِاسْتِيلَادٍ فِي الْحَالِ، وَجَبَ قِيمَةُ وَلَدِ جَارِيَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَجَارِيَةِ التَّرِكَةِ، وَلَا يَجِبُ فِي وَلَدِ الْجَانِيَةِ وَالْمَرْهُونَةِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَالْمُرْتَهَنِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَلَدِ. وَلَوْ أُعْتِقَ عَبْدُ الْمَأْذُونِ، وَعَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ، أَوْ أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدَ التَّرِكَةِ، وَعَلَى الْمُوَرِّثِ دَيْنٌ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: قِيلَ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ قَوْلَانِ، كَإِعْتَاقِ الْمَرْهُونِ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا، لَمْ يَنْفُذْ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، نَفَذَ كَالِاسْتِيلَادِ، وَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الدَّيْنِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ، كَإِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْجَانِي. فَرْعٌ تَزْوِيجُ مَنْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهَا مَالٌ، لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُعْسِرًا. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، جَازَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَكَانَ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ.

فصل

قُلْتُ: الْجَوَازُ أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ تَزْوِيجُ السَّيِّدِ أَمَتَهُ، هَلْ هُوَ بِالْمِلْكِ، أَمْ بِالْوِلَايَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: بِالْمِلْكِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا صُوَرٌ. مِنْهَا: إِذَا سَلَبْنَا الْفَاسِقَ الْوِلَايَةَ، زَوَّجَهَا إِنْ قُلْنَا بِالْمِلْكِ، [وَإِلَّا، فَلَا] . وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ أَمَةٌ كِتَابِيَّةٌ، فَلَهُ تَزْوِيجُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ تَزْوِيجُهُ إِيَّاهَا بِعَبْدٍ أَوْ حُرٍّ كِتَابِيٍّ إِذَا حَلَّلْنَاهَا لَهُمَا. وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ لِلْكَافِرِ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ، أَوْ أُمُّ وَلَدٍ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُزَوِّجُهَا بِالْمِلْكِ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ. وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ أَمَةٌ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ ذِمِّيَّةٌ، فَهَلْ لَهُ تَزْوِيجُهَا؟ وَجْهَانِ. صَحَّحَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْجَوَازَ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِالْمَنْعِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي أَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ بِالْمِلْكِ، أَمْ بِالْوِلَايَةِ، لَا يَجْرِي فِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهُ. فَلَوْ كَانَ لِلْكَافِرِ عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَرَأَيْنَا الْإِجْبَارَ، فَفِي إِجْبَارِهِ إِيَّاهُ الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ الْمُسْلِمَةَ. وَإِنْ لَمْ نَرَ الْإِجْبَارَ، لَمْ يَسْتَقِلَّ الْعَبْدُ، وَلَكِنْ يَأْذَنُ لَهُ السَّيِّدُ لِيَسْقُطَ حَقُّهُ فَيَسْتَقِلَّ الْعَبْدُ حِينَئِذٍ، كَمَا تَأْذَنُ الْمَرْأَةُ لِعَبْدِهَا فَيَتَزَوَّجُ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ أَهْلًا لِلتَّزْوِيجِ. وَمِنْهَا: قَالَ الْمُتَوَلِّي: لِلْمُكَاتَبِ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ إِنْ قُلْنَا بِالْمِلْكِ، وَإِلَّا، فَلَا. فَصْلٌ عَبْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ، لَا يُزَوِّجُهُ وَلِيُّهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ،

فصل

فَقَدْ تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةٌ. وَلَوْ طَلَبَ عَبْدُهُمُ التَّزْوِيجَ، فَإِنْ لَمْ نُجْبِرِ السَّيِّدَ الرَّشِيدَ، لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِمُ الْإِجَابَةُ. وَإِنْ أَجْبَرْنَاهُ، فَعَلَى وَلِيِّهِمُ الْإِجَابَةُ. وَأَمَّا أَمَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ، فَيَجُوزُ لِوَلِيِّهِمْ تَزْوِيجُهَا عَلَى الْأَصَحِّ إِذَا ظَهَرَتِ الْغِبْطَةُ. وَقِيلَ: لَا. وَقِيلَ: تُزَوَّجُ أَمَةُ الصَّبِيَّةِ دُونَ الصَّبِيِّ، فَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا إِذَا بَلَغَ. فَإِنْ جَوَّزْنَا، قَالَ الْإِمَامُ: يَجُوزُ تَزْوِيجُ أَمَةِ الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ تَزْوِيجُ أَمَةِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ وَإِنْ كَانَ يَقْهَرُهَا. وَفِيمَنْ يُزَوِّجُ أَمَةَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: وَلِيُّ مَالِهِ نَسِيبًا كَانَ أَوْ وَصِيًّا أَوْ قَيِّمًا كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ وَلِيُّ النِّكَاحِ الَّذِي يَلِي الْمَالَ. وَعَلَى هَذَا، غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَا يُزَوِّجُ أَمَةَ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، وَالْأَبُ لَا يُزَوِّجُ أَمَةَ الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةَ، فَإِنْ كَانَتْ مَجْنُونَةً، زَوَّجَ. وَإِنْ كَانَتْ لِسَفِيهٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِذْنِهِ. فَرْعٌ أَمَةُ الْمَرْأَةِ، إِنْ كَانَتْ مَالِكَتُهَا مَحْجُورًا عَلَيْهَا، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا، وَإِلَّا، فَيُزَوِّجُهَا وَلِيُّ الْمَرْأَةِ تَبَعًا لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا، وَسَوَاءٌ الْوَلِيُّ بِالنَّسَبِ وَغَيْرِهِ، وَالْأَمَةُ الْعَاقِلَةُ وَالْمَجْنُونَةُ، الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِذْنِ الْأَمَةِ، وَيُشْتَرَطُ إِذْنُ مَالِكَتِهَا نُطْقًا وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا، إِذْ لَا تَسْتَحِي. فَصْلٌ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَةً، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهَا الْحُرِّ كَالْأَبِ وَالْأَخِ تَزْوِيجُهَا حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يَمُوتَ، وَتَخْرُجَ مِنْ ثُلُثِهِ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُعْتَقُ كُلُّهَا عَلَى هَذَيْنِ

التَّقْدِيرَيْنِ، وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ كَجٍّ وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو زَيْدٍ وَالْأَكْثَرُونَ: يَجُوزُ لِوَلِيِّهَا تَزْوِيجُهَا، لِأَنَّهَا حُرَّةٌ فِي الظَّاهِرِ، فَعَلَى هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحٌ ظَاهِرًا. فَإِنْ تَحَقَّقْنَا بَعْدَ ذَلِكَ نُفُوذَ الْعِتْقِ، تَحَقَّقْنَا مُضِيَّ النِّكَاحِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِلَّا، فَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ أَوْ أَجَازُوا، وَقُلْنَا: الْإِجَازَةُ عَطِيَّةٌ مِنْهُمْ، بَانَ فَسَادُ النِّكَاحِ، وَإِلَّا، بَانَ صِحَّتُهُ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْتِقِ مَالٌ سِوَاهَا، فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ لَهُ (مَالٌ) يَفِي ثُلُثُهُ بِقِيمَتِهَا، فَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ الْحَدَّادِ وَجَمَاهِيرِ النَّاقِلِينَ، أَنَّهُ كَذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: النِّكَاحُ هَاهُنَا مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَيَجُوزُ خِلَافُهُ، لِضَعْفِ مِلْكِ الْمَرِيضِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَمَفْهُومُ كَلَامِ ابْنِ الْحَدَّادِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ غَيْرُ السَّيِّدِ، فَزَوَّجَهَا، صَحَّ، لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، فَهُوَ وَلِيٌّ مَا عَتَقَ بِالْوَلَاءِ، وَمَالُكٌ مَا لَمْ يَعْتِقْ. فَإِنْ زَوَّجَهَا السَّيِّدُ، وَلَهَا وَلِيٌّ مُنَاسِبٌ، إِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، صَحَّ قَطْعًا، وَإِلَّا، فَلَا قَطْعًا. الْبَابُ السَّادِسُ فِي مَوَانِعِ نِكَاحِهَا قَدْ سَبَقَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ، الْإِشَارَةُ إِلَى بَيَانِ الْمَوَانِعِ. وَمِنْهَا مَا نَتَكَلَّمُ فِي إِيضَاحِهِ فِي غَيْرِ الْبَابِ، كَكَوْنِهَا مُلَاعَنَةً، وَمُعْظَمُهَا نَبْسُطُ الْكَلَامَ فِيهِ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ. (الْجِنْسُ) الْأَوَّلُ: الْمَحْرَمِيَّةُ، وَهِيَ الْوُصْلَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ أَبَدًا، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ: الْقَرَابَةُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْمُصَاهَرَةُ. السَّبَبُ الْأَوَّلُ: الْقَرَابَةُ، وَيَحْرُمُ مِنْهَا سَبْعٌ: الْأُمَّهَاتُ، وَالْبَنَاتُ، وَالْأَخَوَاتُ،

وَالْعَمَّاتُ، وَالْخَالَاتُ، وَبَنَاتُ الْأَخِ، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ، وَلَا تَحْرُمُ بَنَاتُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، قَرُبْنَ أَمْ بَعُدْنَ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمِّ: كُلُّ أُنْثَى وَلَدَتْكَ، أَوْ وَلَدَتْ مَنْ وَلَدَكَ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، بِوَاسِطَةٍ أَمْ بِغَيْرِهَا. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: كُلُّ أُنْثَى يَنْتَهِي إِلَيْهَا نَسَبُكَ بِالْوِلَادَةِ بِوَاسِطَةٍ أَمْ بِغَيْرِهَا. وَبِنْتُكَ: كُلُّ أُنْثَى وَلَدْتَهَا، أَوْ وَلَدْتَ مَنْ وَلَدَهَا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، بِوَاسِطَةٍ أَمْ بِغَيْرِهَا. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: كُلُّ أُنْثَى يَنْتَهِي إِلَيْكَ نَسَبُهَا بِالْوِلَادَةِ، بِوَاسِطَةٍ أَمْ بِغَيْرِهَا. وَأُخْتُكَ: كُلُّ أُنْثَى وَلَدَهَا أَبَوَاكَ أَوْ أَحَدُهُمَا. وَبِنْتُ أَخِيكَ وَبِنْتُ أُخْتِكَ مِنْهُمَا، كَبِنْتِكَ مِنْكَ. وَعَمَّتُكَ: كُلُّ أُنْثَى هِيَ أُخْتُ ذَكَرٍ وَلَدَكَ، بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، كَأُخْتِ أَبِ الْأُمِّ. وَخَالَتُكَ: كُلُّ أُنْثَى هِيَ أُخْتُ أُنْثَى وَلَدَتْكَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، كَأُخْتِ أُمِّ الْأَبِ، وَعَبَّرَ الْأَصْحَابُ عَنْهُنَّ بِعِبَارَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهُ، وَفُصُولُهُ، وَفُصُولُ أَوَّلِ أُصُولِهِ، وَأَوَّلُ فَصْلٍ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ بَعْدَهُ، أَيْ بَعْدَ أَوَّلِ الْأُصُولِ. فَالْأُصُولُ: الْأُمَّهَاتُ. وَالْفُصُولُ: الْبَنَاتُ. وَفُصُولُ أَوَّلِ الْأُصُولِ: الْأَخَوَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَالْأُخْتِ. وَأَوَّلُ فَصْلٍ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ بَعْدَ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ: الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ. الثَّانِيَةُ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَاذِيُّ: تَحْرُمُ نِسَاءُ الْقَرَابَةِ، إِلَّا مَنْ دَخَلَتْ فِي اسْمِ وَلَدِ الْعُمُومَةِ أَوْ وَلَدِ الْخُؤُولَةِ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَرْجَحُ لِإِيجَازِهَا، وَلِأَنَّ الْأُولَى لَا تَنُصُّ عَلَى الْإِنَاثِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَلِأَنَّ اللَّائِقَ بِالضَّابِطِ أَنْ يَكُونَ أَقْصَرَ مِنَ الْمَضْبُوطِ، وَالْأُولَى بِخِلَافِهِ.

فَرْعٌ زَنَا بِامْرَأَةٍ، فَوَلَدَتْ بِنْتًا، يَجُوزُ لِلزَّانِي نِكَاحُ الْبِنْتِ، لَكِنْ يُكْرَهُ. وَقِيلَ: إِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهَا مِنْ مَائِهِ، إِنْ تَصَوَّرَ تَيَقُّنَهُ، حَرُمَتْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: تَحْرُمُ مُطْلَقًا. وَالصَّحِيحُ: الْحِلُّ مُطْلَقًا. وَالْبِنْتُ الَّتِي نَفَاهَا بِاللِّعَانِ، تَحْرُمُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ دَخَلَ بِأُمِّهَا، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ (بِهَا) عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَعَلَى هَذَا، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِقَتْلِهَا، وَالْحَدِّ بِقَذْفِهَا، وَالْقَطْعِ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ لَهَا الْوَجْهَانِ. قُلْتُ: وَسَوَاءٌ طَاوَعَتْهُ عَلَى الزِّنَا أَوْ أَكْرَهَهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. السَّبَبُ الثَّانِي: الرَّضَاعُ، فَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، فَكُلُّ مَنْ أَرْضَعَتْكَ، أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ أَرْضَعَتْكَ، أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ وَلَدَكَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَهِيَ أُمُّكَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ وَلَدَتِ الْمُرْضِعَةَ أَوِ الْفَحْلَ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ ارْتَضَعَتْ بِلَبَنِكَ أَوْ بِلَبَنِ مَنْ وَلَدْتَهُ، أَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ وَلَدْتَهَا أَنْتَ، فَهِيَ بِنْتُكَ. وَكَذَلِكَ بَنَاتُهَا مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ. وَكُلُّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْهَا أُمُّكَ، أَوِ ارْتَضَعَتْ بِلَبَنِ أَبِيكَ، فَهِيَ أُخْتُكَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ وَلَدَتْهَا الْمُرْضِعَةُ أَوِ الْفَحْلُ وَأَخَوَاتُ الْفَحْلِ وَالْمُرْضِعَةِ وَأَخَوَاتُ مَنْ وَلَدَهُمَا مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، عَمَّاتُكَ وَخَالَاتُكَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْهَا وَاحِدَةٌ مِنْ جَدَّاتِكَ، أَوِ ارْتَضَعَتْ بِلَبَنِ جَدٍّ لَكَ مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، وَبَنَاتُ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ وَالْفَحْلِ مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، بَنَاتُ أَخِيكَ وَأُخْتِكَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ أُنْثَى أَرْضَعَتْهَا أُخْتُكَ، أَوِ ارْتَضَعَتْ بِلَبَنِ أَخِيكَ، وَبَنَاتُهَا وَبَنَاتُ أَوْلَادِهَا مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، بَنَاتُ أَخِيكَ وَأُخْتِكَ. وَبَنَاتُ كُلِّ ذَكَرٍ أَرْضَعَتْهُ أُمُّكَ، أَوِ ارْتَضَعَ لَبَنَ أَبِيكَ، وَبَنَاتُ أَوْلَادِهِ مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، بَنَاتُ أَخِيكَ. وَبَنَاتُ كُلِّ امْرَأَةٍ

أَرْضَعَتْهَا أُمُّكَ، أَوِ ارْتَضَعَتْ لَبَنَ أَبِيكَ، وَبَنَاتُ أَوْلَادِهَا مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، بَنَاتُ أُخْتِكَ. فَرْعٌ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ يَحْرُمْنَ فِي النَّسَبِ، وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ يَحْرُمْنَ، وَقَدْ لَا يَحْرُمْنَ. إِحْدَاهُنَّ: أُمُّ الْأَخِ وَالْأُخْتِ فِي النَّسَبِ حَرَامٌ، لِأَنَّهَا أُمٌّ، أَوْ زَوْجَةُ أَبٍ، وَفِي الرَّضَاعِ إِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ حَرُمَتْ، وَإِلَّا، فَلَا، بِأَنْ أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ أَخَاكَ أَوْ أُخْتَكَ. الثَّانِيَةُ: أُمُّ نَافِلَتِكَ فِي النَّسَبِ، حَرَامٌ لِأَنَّهَا بِنْتُكَ، أَوْ زَوْجَةُ ابْنِكَ، وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ لَا تَكُونُ بِنْتًا وَلَا زَوْجَةَ ابْنٍ، بِأَنْ أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ نَافِلَتَكَ. الثَّالِثَةُ: جَدَّةُ وَلَدِكَ فِي النَّسَبِ، حَرَامٌ، لِأَنَّهَا أُمُّكَ، أَوْ أُمُّ زَوْجَتِكَ، وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ، بِأَنْ أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَدَكَ، فَإِنَّ أُمَّهَا جَدَّتُهُ، وَلَيْسَتْ بِأُمِّكَ، وَلَا بِأُمِّ زَوْجَتِكَ. الرَّابِعَةُ: أُخْتُ وَلَدِكَ حَرَامٌ، لِأَنَّهَا بِنْتُكَ أَوْ رَبِيبَتُكَ. وَإِذَا أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَدَكَ، فَبِنْتُهَا أُخْتُهُ، وَلَيْسَتْ بِنْتَكَ وَلَا رَبِيبَتَكَ، وَلَا تَحْرُمُ أُخْتُ الْأَخِ فِي النَّسَبِ، وَلَا فِي الرَّضَاعِ. وَصُورَتُهُ فِي النَّسَبِ: أَنْ يَكُونَ لَكَ أُخْتٌ لِأُمٍّ، وَأَخٌ لِأَبٍ، فَيَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا. وَفِي الرَّضَاعِ: امْرَأَةٌ أَرْضَعَتْكَ وَأَرْضَعَتْ صَغِيرَةً أَجْنَبِيَّةٌ مِنْكَ، يَجُوزُ لِأَخِيكَ نِكَاحُهَا. وَهَذِهِ الصُّوَرُ الْأَرْبَعُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَوْلِنَا: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. قُلْتُ: كَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: تُسْتَثْنَى الصُّوَرُ الْأَرْبَعُ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِثْنَائِهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي الضَّابِطِ، وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَثْنِهَا الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَا اسْتُثْنِيَتْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ

النَّسَبِ» لِأَنَّ أُمَّ الْأَخِ لَمْ تَحْرُمْ لِكَوْنِهَا أُمَّ أَخٍ، وَإِنَّمَا حَرُمَتْ لِكَوْنِهَا أُمًّا أَوْ حَلِيلَةَ أَبٍ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَاقِيهِنَّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْمُصَاهَرَةُ، فَيَحْرُمُ بِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ أَرْبَعٌ. إِحْدَاهُنَّ: أُمُّ زَوْجَتِكَ، [وَأُمُّ] زَوْجَتِكَ مِنْهَا كَأُمِّكَ مِنْكَ، وَسَوَاءٌ أُمَّهَاتُ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ. الثَّانِيَةُ: زَوْجَةُ ابْنِكَ وَابْنِ ابْنِكَ وَإِنْ سَفَلَ بِالنَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) [النِّسَاءِ: 23] الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا تَحْرُمُ زَوْجَةُ مَنْ تَبَنَّاهُ. الثَّالِثَةُ: زَوْجَةُ الْأَبِ وَالْأَجْدَادِ وَإِنْ عَلَوْا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا، وَتَحْرُمُ زَوْجَةُ الْأَبِ مِنَ الرَّضَاعِ. الرَّابِعَةُ: بِنْتُ الزَّوْجَةِ، وَبِنْتُ زَوْجَتِكَ مِنْهَا كَبِنْتِكَ مِنْكَ، سَوَاءٌ بِنْتُ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، وَتَحْرُمُ الثَّلَاثُ الْأُولَيَاتُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا. فَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ حِلَّ الْمَنْكُوحَةِ، وَحُرْمَةُ غَيْرِهَا فَرْعٌ لِحِلِّهَا. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ، وَهِيَ بِنْتُ الزَّوْجَةِ، فَلَا تَحْرُمُ إِلَّا بِالدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ وَابْنُهُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّابُونِيِّ

فصل

مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ أُمَّ الزَّوْجَةِ لَا تَحْرُمُ إِلَّا بِالدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ كَالرَّبِيبَةِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ لَا تَحْرُمُ بِنْتُ زَوْجِ الْأُمِّ، وَلَا أُمُّهُ، وَلَا بِنْتُ زَوْجِ الْبِنْتِ، وَلَا أُمُّهُ، وَلَا أُمُّ زَوْجَةِ الْأَبِ، وَلَا بِنْتُهَا، وَلَا أُمُّ زَوْجَةِ الِابْنِ، وَلَا بِنْتُهَا، وَلَا زَوْجَةُ الرَّبِيبِ وَلَا زَوْجَةُ الرَّابِّ. فَصْلٌ مُجَرَّدُ مِلْكِ الْيَمِينِ، لَا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، لَكِنَّ الْوَطْءَ فِيهِ يُثْبِتُهَا، حَتَّى تَحْرُمَ الْمَوْطُوءَةُ عَلَى ابْنِ الْوَاطِئِ وَأَبِيهِ، وَتَحْرُمَ عَلَيْهِ أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ وَبِنْتُهَا. وَالْوَطْءُ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ، وَوَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَجَارِيَةِ الِابْنِ، يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، كَمَا يُثْبِتُ النَّسَبَ، وَيُوجِبُ الْعِدَّةَ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ لَا يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، كَالزِّنَا. وَالْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا شَمِلَتِ الشُّبْهَةُ الْوَاطِئَ (أَوِ) الْمَوْطُوءَةَ. فَإِنِ اخْتَصَّتِ الشُّبْهَةُ بِأَحَدِهِمَا، وَالْآخَرُ زَانٍ، بِأَنْ وَطِئَهَا يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ وَهِيَ عَالِمَةٌ، أَوْ يَعْلَمُ وَهِيَ جَاهِلَةٌ أَوْ نَائِمَةٌ أَوْ مُكْرَهَةٌ، أَوْ مَكَّنَتِ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ مَجْنُونًا أَوْ مُرَاهِقًا عَالِمَةً، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاعْتِبَارُ بِالرَّجُلِ، فَتَثْبُتُ الْمُصَاهَرَةُ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، كَمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِدَّةُ، وَلَا يَثْبُتُ إِذَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِدَّةُ. وَالثَّانِي: تَثْبُتُ الْمُصَاهَرَةُ فِي أَيِّهِمَا كَانَتِ الشُّبْهَةُ، وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَخْتَصُّ بِمَنِ اخْتَصَّتِ الشُّبْهَةُ بِهِ. فَإِنْ كَانَ الِاشْتِبَاهُ عَلَيْهِ، حَرُمَ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا، وَلَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ. وَإِنْ كَانَ الِاشْتِبَاهُ عَلَيْهَا، حَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ وَأَبِيهِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُمُّ الطَّرَفَيْنِ كَالنَّسَبِ.

فَرْعٌ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، يُوجِبُ الْمَحْرَمِيَّةَ، فَيَجُوزُ لِلْوَاطِئِ الْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ بِأُمِّ الْمَوْطُوءَةِ وَبِنْتِهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا، وَلِابْنِهِ الْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ بِالْمَوْطُوءَةِ وَالنَّظَرُ. وَفِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُثْبِتُ النَّسَبَ وَالْعِدَّةَ، فَكَذَا الْمَحْرَمِيَّةُ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْمَنْعُ، وَحَكَوْهُ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» . فَرْعٌ الزِّنَا لَا يُثْبِتُ الْمُصَاهَرَةَ، فَلِلزَّانِي نِكَاحُ أُمِّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَبِنْتِهَا، وَلِأَبِيهِ وَابْنِهِ نِكَاحُهَا. وَلَوْ لَاطَ بِغُلَامٍ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْفَاعِلِ أُمُّ الْغُلَامِ وَبِنْتُهُ. وَلَوْ مَلَكَ جَارِيَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، فَوَطِئَهَا، فَإِنْ لَمْ نُوجِبْ بِهِ الْحَدَّ، ثَبَتَتِ الْمُصَاهَرَةُ. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَلَا. فَرْعٌ الْمُفَاخَذَةُ، وَالْقُبْلَةُ، وَالْمَسُّ، هَلْ هِيَ كَالْوَطْءِ فَتُثْبِتُ الْمُصَاهَرَةَ وَتُحَرِّمُ الرَّبِيبَةَ فِي النِّكَاحِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَالرُّويَانِيِّ: نَعَمْ. وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ الْقَطَّانِ وَالْإِمَامِ وَغَيْرِهِمْ: لَا. وَالْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا جَرَى ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ. فَأَمَّا الْمَسُّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَلَا أَثَرَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. قَالَ الْإِمَامُ:

وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُلَامَسَةِ. وَأَمَّا النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ، فَلَا يُثْبِتُ الْمُصَاهَرَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَقِيلَ: إِنْ نَظَرَ إِلَى الْفَرْجِ، فَقَوْلَانِ، وَإِلَّا، فَلَا. فَرْعٌ إِذَا اسْتَدْخَلَتْ مَاءَ زَوْجِهَا أَوْ أَجْنَبِيٍّ بِشُبْهَةٍ، ثَبَتَتِ الْمُصَاهَرَةُ وَالنَّسَبُ وَالْعِدَّةُ، دُونَ الْإِحْصَانِ وَالتَّحْلِيلِ. وَفِي تَقْدِيرِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِهِ لِلْمُفَوَّضَةِ وَثُبُوتِ الرَّجْعَةِ وَالْغُسْلِ وَالْمَهْرِ فِي صُورَةِ الشُّبْهَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. وَلَوْ أَنْزَلَ أَجْنَبِيٌّ بِزِنًا، لَمْ يَثْبُتْ بِاسْتِدْخَالِهِ الْمُصَاهَرَةُ وَلَا النَّسَبُ. وَإِنْ أَنْزَلَ الزَّوْجُ بِالزِّنَا، حَكَى الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا الْمُصَاهَرَةُ وَلَا الْعِدَّةُ. وَقَالَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ: وَجَبَ أَنْ تَثْبُتَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ كَمَا لَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ يَزْنِي. فَرْعٌ مَا أَثْبَتَ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ إِذَا طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ، قَطَعَهُ. فَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً، فَوَطِئَهَا أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ بِشُبْهَةٍ، أَوْ وَطِئَ هُوَ أُمَّهَا أَوْ بِنْتَهَا بِشُبْهَةٍ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا. وَفِي الْمُوَلَّدَاتِ لِابْنِ الْحَدَّادِ فَرْعَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِهَذَا الْأَصْلِ. أَحَدُهُمَا: نَكَحَ امْرَأَةً وَنَكَحَ ابْنُهُ ابْنَتَهَا، وَوَطِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجَةَ الْآخَرِ غَالِطًا، انْفَسَخَ النِّكَاحَانِ. وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ كَالْوَطْءِ فِي مِلْكٍ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِلَّتِي وَطِئَهَا بِالشُّبْهَةِ. ثُمَّ إِنْ سَبَقَ وَطْءُ الْأَبِ، فَعَلَيْهِ لِزَوْجَتِهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى، لِأَنَّهُ الَّذِي رَفَعَ نِكَاحَهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَهَلْ يَجِبُ عَلَى

الِابْنِ لِزَوْجَتِهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا، إِذْ لَا صُنْعَ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَعَمْ، إِذْ لَا صُنْعَ لَهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: إِنْ كَانَتْ زَوْجَةُ الِابْنِ نَائِمَةً، أَوْ صَغِيرَةً لَا تَعْقِلُ، أَوْ مُكْرَهَةً، وَجَبَ. وَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً طَاوَعَتِ الْأَبَ تَظُنُّهُ زَوْجَهَا، فَلَا شَيْءَ لَهَا. فَإِنْ أَوْجَبْنَا، رَجَعَ الِابْنُ عَلَى أَبِيهِ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ نِكَاحَهُ. وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، أَمْ بِنِصْفِهِ، أَمْ بِمَا غَرُمَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ نُوَضِّحُهَا فِي «كِتَابِ الرَّضَاعِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا إِنْ سَبَقَ وَطْءُ الِابْنِ، فَعَلَيْهِ لِزَوْجَتِهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى. وَهَلْ يَلْزَمُ الْأَبَ لِزَوْجَتِهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى؟ فِيهِ الْأَوْجُهُ. فَإِنْ أَلْزَمْنَاهُ، رَجَعَ عَلَى الِابْنِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ وَقَعَ الْوَطْآنِ مَعًا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا سَمَّى لِزَوْجَتِهِ. وَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْآخَرِ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْقَفَّالُ: يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا كَانَ يَرْجِعُ بِهِ لَوِ انْفَرَدَ، وَيُهْدَرُ نِصْفُهُ كَالِاصْطِدَامِ، فَإِنَّهَا حَرُمَتْ بِفِعْلِهِمَا، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ. (الْفَرْعُ) الثَّانِي: نَكَحَ امْرَأَتَيْنِ فِي عَقْدٍ، فَبَانَتْ إِحْدَاهُمَا أُمَّ الْأُخْرَى، بَطَلَ النِّكَاحَانِ. وَلَا شَيْءَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، إِلَّا أَنْ يَطَأَ، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَلَوْ نَكَحَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ، وَوَطِئَ إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ بَانَ الْحَالُ، نَظَرَ، إِنْ سَبَقَ نِكَاحُ الْأُمِّ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَوْطُوءَةَ، فَنِكَاحُهَا بِحَالِهِ، وَالْأُخْرَى مُحَرَّمَةٌ. وَإِنْ كَانَتِ الْبِنْتُ هِيَ الْمَوْطُوءَةَ، فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ، لِأَنَّ الْبِنْتَ نَكَحَهَا وَعِنْدَهُ أُمُّهَا، وَالْأُمُّ أُمٌّ مَوْطُوءَةٌ بِشُبْهَةٍ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ مَتَى شَاءَ، لِأَنَّهَا رَبِيبَةٌ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا، وَيَجِبْ لِلْبِنْتِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلِلْأُمِّ نِصْفُ الْمُسَمَّى. وَإِنْ سَبَقَ نِكَاحُ الْبِنْتِ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَوْطُوءَةَ، فَنِكَاحُهَا بِحَالِهِ، وَالْأُمُّ حَرَامٌ أَبَدًا. وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ الْأُمَّ، بَطَلَ النِّكَاحَانِ، وَحَرُمَتَا أَبَدًا، وَلِلْأُمِّ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلِلْبِنْتِ نِصْفُ الْمُسَمَّى. وَإِنْ أُشْبِهَتِ الْمَوْطُوءَةُ، وَعُرِفَتِ الَّتِي سَبَقَ نِكَاحُهَا، ثَبَتَ نِكَاحُ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِمْرَارُ صِحَّتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْأُولَى

فصل

إِنْ كَانَتْ بِنْتًا، فَالثَّانِيَةُ أُمُّ امْرَأَتِهِ مُحَرَّمَةٌ أَبَدًا. وَإِنْ كَانَتْ أُمًّا، فَلَيْسَ لَهُ نِكَاحُ الْبِنْتِ وَأُمُّهَا تَحْتَهُ. وَإِنِ ارْتَفَعَ نِكَاحُ الْأُمِّ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ أَبَدًا، فَصَارَ كَاشْتِبَاهِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ. وَإِنِ اشْتَبَهَ السَّابِقُ مِنَ النِّكَاحَيْنِ، وَعُرِفَتِ الْمَوْطُوءَةُ، فَغَيْرُ الْمَوْطُوءَةِ مُحَرَّمَةٌ أَبَدًا، وَالْمَوْطُوءَةُ يُوقَفُ نِكَاحُهَا، وَتُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهِ. وَإِنْ طَلَبَتِ الْفَسْخَ لِلِاشْتِبَاهِ، فُسِخَ كَمَا فِي اشْتِبَاهِ الْأُولَيَيْنِ. وَإِنِ اشْتَبَهَ السَّابِقُ مِنَ النِّكَاحَيْنِ وَالْمَوْطُوءَةِ، وُقِفَ عَنْهُمَا، لِاحْتِمَالِ سَبْقِ الْبِنْتِ وَالدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَلَيْسَ لَهُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ أَبَدًا. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَكِنْ وَطِئَهُمَا جَمِيعًا، بَطَلَ النِّكَاحَانِ، وَحَرُمَتَا أَبَدًا. ثُمَّ إِنْ وَطِئَ أَوَّلًا الَّتِي نَكَحَهَا أَوَّلًا، فَلِلْأُولَى مَهْرُهَا الْمُسَمَّى، وَلِلثَّانِيَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِنْ وَطِئَ أَوَّلًا الَّتِي نَكَحَهَا آخِرًا، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ نِكَاحُهَا، وَلِلْمَنْكُوحَةِ أَوَّلًا جَمِيعُ مَهْرِ) الْمِثْلِ وَنِصْفُ الْمُسَمَّى. أَمَّا نِصْفُ الْمُسَمَّى، فَلِارْتِفَاعِ نِكَاحِهَا بِسَبَبٍ مِنَ الزَّوْجِ. وَأَمَّا جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلِأَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ. فَصْلٌ إِذَا اخْتَلَطَتْ مُحَرَّمٌ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ بِأَجْنَبِيَّاتٍ، قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنْ كَانَ الِاخْتِلَاطُ بِعَدَدٍ لَا يَنْحَصِرُ، كَنِسْوَةِ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ، فَلَهُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا ظَاهِرٌ إِنْ عَمَّ الِالْتِبَاسُ. فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَهُ نِكَاحُ مَنْ لَا يَشُكُّ فِيهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُنْكَحُ مِنَ الْمَشْكُوكِ فِيهِنَّ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا حَجْرَ. فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَاطُ بِعَدَدٍ مَحْصُورٍ، فَلْيَجْتَنِبْهُنَّ. فَلَوْ خَالَفَ وَنَكَحَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ الْإِمَامُ: الْمَحْصُورُ: مَا عُسِرَ عَدُّهُ عَلَى آحَادِ النَّاسِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: كُلُّ عَدَدٍ لَوِ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ لَعَسُرَ عَلَى النَّاظِرِ عَدَدُهُمْ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ

كَالْأَلْفِ، فَهُوَ غَيْرُ مَحْصُورٍ، وَإِنْ سَهُلَ كَالْعَشَرَةِ، وَالْعِشْرِينَ، فَمَحْصُورٌ، وَبَيْنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْسَاطٌ يُلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا بِالظَّنِّ، وَمَا وَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ، اسْتُفْتِيَ فِيهِ الْقَلْبُ. الْجِنْسُ الثَّانِي: مَا يَقْتَضِي حُرْمَةً غَيْرَ مُؤَبَّدَةٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَدَدٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. الْأَوَّلُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنَ النَّسَبِ أَوِ الرَّضَاعِ، سَوَاءٌ الْأُخْتَانِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا. فَلَوْ نَكَحَهُمَا، بَطَلَ نِكَاحُهُمَا. وَإِنْ نَكَحَهَا مُرَتَّبًا، بَطَلَتِ الثَّانِيَةُ. فَإِنْ وَطِئَهَا جَاهِلًا بِالْحُكْمِ، فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَهُ وَطْءُ الْأُولَى وَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ فِي الْعِدَّةِ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لَا يَفْعَلَ. وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا، فَلَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، لَمْ تَحِلَّ أُخْتُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. فَلَوِ ادَّعَى أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْوَقْتُ مُحْتَمَلٌ، وَقَالَتْ: لَمْ تَنْقَضِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْإِمْلَاءِ» : أَنَّ لَهُ نِكَاحَ أُخْتِهَا. وَلَوْ طَلَّقَ الْأُولَى، لَمْ يَقَعْ. وَلَوْ وَطِئَهَا، لَزِمَهُ الْحَدُّ، لِزَعْمِهِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا. وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ وَالْقَفَّالُ: لَيْسَ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا، لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي الْعِدَّةِ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ طَلَّقَهَا وَقَعَ. وَلَوْ وَطِئَهَا، فَلَا حَدَّ، وَتَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إِسْقَاطِ حَقِّهَا. وَلَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، فَلَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا فِي الْحَالِ، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَاهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِرَاشَ انْقَطَعَ. فَرْعٌ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِ أَخِيهَا وَبَنَاتِ أَوْلَادِ أَخِيهَا، وَكَذَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِ أُخْتِهَا وَبَنَاتِ أَوْلَادِ أُخْتِهَا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعُمُومَةُ وَالْخُؤُولَةُ مِنَ النَّسَبِ

أَوِ الرَّضَاعِ. وَضُبِطَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بِعِبَارَاتٍ. إِحْدَاهُنَّ: يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ أَوْ رَضَاعٌ وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَحَرُمَتِ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمَا. الثَّانِيَةُ: يَحْرُمُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ أَوْ رَضَاعٌ يَقْتَضِي الْمَحْرَمِيَّةَ. الثَّالِثَةُ: يَحْرُمُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا وُصْلَةُ قَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ لَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوُصْلَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَةٍ لَحَرُمَتْ عَلَيْكَ. وَقَصَدُوا بِقَيْدِ الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعِ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُمِّ زَوْجِهَا وَبِنْتِ زَوْجِهَا، فَإِنَّ هَذَا الْجَمْعَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَإِنْ كَانَ يَحْرُمُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِقَرَابَةٍ وَلَا رَضَاعٍ، بَلْ مُصَاهَرَةٍ، وَلَيْسَ فِيهَا رَحِمٌ يُحْذَرُ قَطْعُهَا، بِخِلَافِ الرَّضَاعِ وَالْقَرَابَةِ. فَرْعٌ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا، لِدُخُولِهِمَا فِي الضَّابِطِ. فَلَوْ نَكَحَهُمَا مَعًا، بَطَلَ نِكَاحُهُمَا. وَلَوْ نَكَحَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ، فَالثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ. فَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ الْبِنْتَ، جَازَ أَنْ يَنْكِحَهَا إِنْ فَارَقَ الْأُمَّ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَرْعٌ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ بِنْتِ الرَّجُلِ وَرَبِيبَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَرَبِيبَةِ زَوْجِهَا مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَبَيْنَ أُخْتِ الرَّجُلِ مِنْ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ مِنْ أَبِيهِ، لِأَنَّهُ لَا تَحْرُمُ الْمُنَاكَحَةُ بِتَقْدِيرِ ذُكُورَةِ أَحَدِهِمَا.

فصل

فَصْلٌ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، لَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ الْمِلْكِ. فَإِذَا اشْتَرَى أُخْتَيْنِ أَوِ امْرَأَةً وَعَمَّتَهَا أَوْ خَالَتَهَا مَعًا، أَوْ مُتَعَاقِبَتَيْنِ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَهُ وَطْءُ أَيَّتِهِمَا شَاءَ. فَإِذَا وَطِئَ وَاحِدَةً، حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْءُ الْأُخْرَى، لَكِنْ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، لِأَنَّ لَهُ طَرِيقًا إِلَى اسْتِبَاحَتِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَطِئَ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ وَهِيَ مِلْكُهُ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ عَلَى قَوْلٍ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُهَا بِحَالٍ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ تَبْقَى حَرَامًا كَمَا كَانَتْ، وَالْأُولَى حَلَالًا كَمَا كَانَتْ، فَلَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَطَأَ الْأُولَى حَتَّى يَسْتَبْرِئَ الثَّانِيَةَ. وَعَنْ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ مِهْرَانَ أُسْتَاذِ الْأُودَنِيِّ، أَنَّهُ إِذَا أَحْبَلَ الثَّانِيَةَ، حَلَّتْ، وَحَرُمَتِ الْأُولَى، وَهُوَ غَرِيبٌ، ثُمَّ لَا تَزَالُ غَيْرُ الْمَوْطُوءَةِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، حَتَّى يُحَرِّمَ الْمَوْطُوءَةَ عَلَى نَفْسِهِ، إِمَّا بِإِزَالَةِ مِلْكٍ، كَبَيْعِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، أَوْ هِبَةٍ مَعَ الْإِقْبَاضِ، أَوْ بِالْإِعْتَاقِ، وَإِمَّا بِإِزَالَةِ الْحِلِّ بِالتَّزْوِيجِ أَوِ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَكْفِي الْحَيْضُ وَالْإِحْرَامُ وَالْعِدَّةُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، لِأَنَّهَا أَسْبَابٌ عَارِضَةٌ لَمْ تُزِلِ الْمِلْكَ وَلَا الِاسْتِحْقَاقَ، فَكَذَا الرِّدَّةُ لَا تُبِيحُ الْأُخْرَى، فَكَذَا الرَّهْنُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَحَيْثُ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ الْوَطْءُ، لَا تَحِلُّ بِهِ الثَّانِيَةُ، وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ وَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ عِنْدِي الْقَطْعُ بِالْحِلِّ، وَلَا يَكْفِي اسْتِبْرَاءُ الْأُولَى، لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْفِرَاشَ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، أَنَّ الْقِيَاسَ الِاكْتِفَاءُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْبَرَاءَةِ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ قَالَ: غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَقَالَ: إِذَا قَالَ: حَرَّمْتُهَا عَلَى نَفْسِي، حَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَحَلَّتِ الْأُخْرَى. ثُمَّ إِذَا حَرَّمَهَا بِالْأَسْبَابِ الْمُؤَثِّرَةِ، فَعَادَ الْحِلُّ، بِأَنْ بَاعَهَا، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ أَوْ إِقَالَةٍ،

فصل

أَوْ زَوَّجَهَا فَطُلِّقَتْ، أَوْ كَاتَبَهَا فَعَجَزَتْ، لَمْ يَجُزْ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، لِحُدُوثِ الْمِلْكِ. فَإِذَا اسْتَبْرَأَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْأُولَى، فَلَهُ الْآنَ وَطْءُ أَيَّتِهِمَا شَاءَ. وَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا، لَمْ يَجُزْ وَطْءُ الْعَائِدَةِ حَتَّى تَحْرُمَ الْأُخْرَى. فَرْعٌ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ كَالْقُبَلِ، فَتَحْرُمُ الْأُخْرَى بِهِ. وَفِي اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ مِثْلُ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ. فَرْعٌ مَلَكَ أُخْتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَجُوسِيَّةٌ، أَوْ أُخْتُهُ بِرَضَاعٍ، فَوَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، جَازَ وَطْءُ الْأُخْرَى، لِأَنَّ الْأُولَى مُحَرَّمَةٌ. وَلَوْ مَلَكَ أُمًّا وَبِنْتَهَا، وَوَطِئَ إِحْدَاهُمَا، حَرُمَتِ الْأُخْرَى أَبَدًا، فَلَوْ وَطِئَ الْأُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، حَرُمَتِ الْأُولَى أَيْضًا أَبَدًا. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ قَوْلَانِ. إِنْ قُلْنَا: لَا، حَرُمَتِ الْأُولَى أَيْضًا أَبَدًا، وَإِلَّا، فَلَا. فَصْلٌ مَلَكَهَا وَلَمْ يَطَأْ، أَوْ وَطِئَ ثُمَّ نَكَحَ أُخْتَهَا أَوْ عَمَّتَهَا، صَحَّ النِّكَاحُ، وَحَلَّتِ الْمَنْكُوحَةُ، وَحَرُمَتِ الْمَمْلُوكَةُ. وَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً، ثُمَّ مَلَكَ أُخْتَهَا، فَالْمَمْلُوكَةُ حَرَامٌ، وَيَبْقَى حِلُّ الْمَنْكُوحَةِ.

فصل

فَصْلٌ ارْتَدَّتِ الزَّوْجَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ، يَحْرُمُ نِكَاحُ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٌ سِوَاهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَالرَّجْعِيَّةِ. قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: فَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَلَهُ فِي الْحَالِ نِكَاحُ أُخْتِهَا، لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوِ ارْتَدَّتْ فَخَالَعَهَا فِي الرِّدَّةِ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ، وَكَبِيرَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا، فَارْتَدَّتِ الْكَبِيرَةُ، وَأَرْضَعَتْ أُمُّهَا فِي عِدَّتِهَا الصَّغِيرَةَ، وَقَفَ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ. فَإِنْ أَصَرَّتِ الْكَبِيرَةُ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَفِي نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ، بِحَالِهِ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ، بَطَلَ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ. وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْكَبِيرَةِ قَوْلَانِ نَذْكُرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَظِيرِ الْمَسْأَلَةِ فِي الرَّضَاعِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: أَظْهَرُهُمَا: لَا يَبْطُلُ كَمَا لَوْ نَكَحَ أُخْتًا عَلَى أُخْتٍ لَا تَبْطُلُ الْأُولَى. وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ كَانَتِ الْمُرْضِعَةُ أُخْتَ الْكَبِيرَةِ. ثُمَّ عَلَى الزَّوْجِ لِلصَّغِيرَةِ نَصِفُ الْمُسَمَّى، وَلِلْكَبِيرَةِ تَمَامُهُ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِكُلِّهِ فِي قَوْلٍ، وَبِجَمِيعِ مَهْرِ مِثْلِ الْكَبِيرَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ إِنْ أَبْطَلْنَا نِكَاحَهَا. النَّوْعُ الثَّانِي: فِي قَدْرِ الْعَدَدِ الْمُبَاحِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. فَلَوْ نَكَحَ خَمْسًا فِي عَقْدٍ، بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ، وَإِنْ نَكَحَهُنَّ مُرَتَّبًا، بَطَلَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ الْأُولَيَاتِ. وَلَوْ نَكَحَ خَمْسًا فِي عَقْدٍ فِيهِنَّ أُخْتَانِ، بَطَلَ فِيهِمَا، وَفِي الْبَوَاقِي قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَالْأَظْهَرُ الصِّحَّةُ. وَلَوْ نَكَحَ سَبْعًا فِيهِنَّ أُخْتَانِ، بَطَلَ الْجَمِيعُ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعٌ فَأَبَانَهُنُّ، فَلَهُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ بَدَلَهُنَّ وَإِنْ كُنَّ فِي الْعِدَّةِ. وَلَوْ أَبَانَ وَاحِدَةً، فَلَهُ نِكَاحُ أُخْرَى فِي عِدَّةِ الْمُبَانَةِ.

وَلَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ، فَلَهُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ فِي عِدَّتِهَا. وَلَوْ كَانَتِ الْمُفَارَقَةُ رَجْعِيَّةً، لَمْ تَجُزْ. وَأَمَّا الْعَبْدُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى امْرَأَتَيْنِ. فَرْعٌ لِابْنِ الْحَدَّادِ نَكَحَ سِتَّ نِسْوَةٍ، ثَلَاثًا فِي عَقْدٍ، وَثِنْتَيْنِ فِي عَقْدٍ، وَوَاحِدَةً فِي عَقْدٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُتَقَدِّمَ، فَنِكَاحُ الْوَاحِدَةِ صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا أَوَّلَةً، أَوْ ثَالِثَةً، أَوْ رَابِعَةً، فَإِنَّهَا لَوْ تَأَخَّرَتْ عَنِ الْعَقْدَيْنِ، كَانَ ثَانِيهُمَا بَاطِلًا، فَتَقَعُ هِيَ صَحِيحَةً. وَأَمَّا الْبَوَاقِي، فَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يَثْبُتُ نِكَاحُهُنَّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَقْدَيْهِمَا يَحْتَمِلُ كَوْنُهُ مُتَأَخِّرًا بَاطِلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الصِّحَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ غَلَطٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، بَلْ يَصِحُّ مَعَ نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ، إِمَّا الثِّنْتَانِ، وَإِمَّا الثَّلَاثُ، وَهُوَ الَّذِي سَبَقَ مِنْهُمَا، وَلَا نَعْرِفُ عَيْنَهُ فَيُوقَفُ، وَيُسْأَلُ الزَّوْجُ، فَإِنِ ادَّعَى سَبْقَ الثِّنْتَيْنِ وَصَدَّقَتَاهُ، ثَبَتَ نِكَاحُهُمَا. وَإِنِ ادَّعَى سَبْقَ الثَّلَاثِ، وَصَدَّقْنَهُ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَدْرِي، أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ، فَلَهُنَّ طَلَبُ الْفَسْخِ. وَإِنْ رَضِينَ بِالضَّرَرِ، لَمْ يَنْفَسِخْ، وَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ الْجَمِيعِ مُدَّةَ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، اعْتَدَّتْ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا عِدَّةَ وَفَاةٍ، وَمَنْ دَخَلَ بِهَا بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنْ وَفَاةٍ وَإِقْرَاءٍ، وَيَدْفَعُ إِلَى الْفَرْدَةِ رُبْعَ مِيرَاثِ النِّسْوَةِ، لِاحْتِمَالِ صِحَّةِ نِكَاحِ ثَلَاثٍ مَعَهَا، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحَ مَعَهَا نِكَاحُ الثَّلَاثِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ الرُّبْعِ الْمَأْخُوذِ، وَيُحْتَمَلُ صِحَّةُ نِكَاحِ الثِّنْتَيْنِ، فَيَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ، فَيُوقَفُ مَا بَيْنَ الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، وَهُوَ نِصْفُ سُدْسٍ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ، لَا حَقَّ لِلثِّنْتَيْنِ فِيهِ، وَيُوقَفُ الثُّلُثَانِ بَيْنَ

نَصِيبِ النِّسْوَةِ، بَيْنَ الثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثِ، لَا حَقَّ لِلْوَاحِدَةِ فِيهِ. فَإِنْ أَرَدْنَ الصُّلْحَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَالصُّلْحُ فِي نِصْفِ السُّدْسِ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ، وَفِي الثُّلُثَيْنِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالثِّنْتَيْنِ. وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَلِلْمُفْرَدَةِ الْمُسَمَّى. وَأَمَّا الْبَوَاقِي، فَإِنْ دَخَلَ بِهِنَّ، قَابَلْنَا الْمُسَمَّى لِإِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ وَمَهْرَ الْمِثْلِ بِالْمُسَمَّى لِلْفِرْقَةِ الْأُخْرَى وَمَهْرَ مِثْلِ الْأُولَى، وَأَخَذْنَا أَكْثَرَ الْقَدْرَيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَدَفَعْنَا إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الْأَقَلَّ مِنْ مُسَمَّاهَا وَمَهْرِ مِثْلِهَا، وَوَقَفْنَا الْبَاقِيَ. مِثَالُهُ: سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِائَةً، وَمَهْرُ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ خَمْسُونَ، فَمُسَمَّى الثَّلَاثِ وَمَهْرُ مِثْلِ الثِّنْتَيْنِ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ مُسَمَّى الثِّنْتَيْنِ وَمَهْرِ مِثْلِ الثَّلَاثِ، فَنَأْخُذُ مِنَ التَّرِكَةِ أَرْبَعَمِائَةٍ، وَنَدْفَعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ خَمْسِينَ، وَنَقِفُ الْبَاقِيَ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ (مِنْهَا) مِائَةٌ بَيْنَ النِّسْوَةِ الْخَمْسِ، وَخَمْسُونَ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالْوَرَثَةِ، فَإِنْ بَانَ صِحَّةُ نِكَاحِ الثِّنْتَيْنِ، فَالْمِائَةُ لَهُمَا، وَالْخَمْسُونَ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ بَانَ صِحَّةُ الثَّلَاثِ، فَالْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ لَهُنَّ. وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ، أَخَذْنَا مِنَ التَّرِكَةِ أَكْثَرَ الْمُسَمَّيَيْنِ، وَلَا نُعْطِي فِي الْحَالِ وَاحِدَةً شَيْئًا. وَالْأَكْثَرُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ ثَلَاثُمِائَةٍ، فَنَقِفُ مِائَتَيْنِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالثِّنْتَيْنِ، وَمِائَةً بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالْوَرَثَةِ. وَإِنْ دَخَلَ بِإِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ، أَخَذْنَا الْأَكْثَرَ مِنْ مُسَمَّى الْمَدْخُولِ بِهِنَّ فَقَطْ، وَمِنْ مَهْرِ مِثْلِهِنَّ مَعَ مُسَمَّى الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى، وَأُعْطِيَ الْمَوْطُوءَاتُ الْأَقَلَّ مِنَ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ مِثْلِهِنَّ. فَفِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ، إِنْ دَخَلَ بِالثِّنْتَيْنِ، فَمَهْرُ مِثْلِهِمَا مَعَ مُسَمَّى الثَّلَاثِ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ مُسَمَّى الثِّنْتَيْنِ، فَنَأْخُذُ أَرْبَعَمِائَةٍ، وَنُعْطِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثِّنْتَيْنِ خَمْسِينَ، وَنَقِفُ مِائَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّلَاثِ، وَمِائَتَيْنِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالْوَرَثَةِ. فَإِنْ بَانَ صِحَّةُ نِكَاحِ الثِّنْتَيْنِ، دَفَعْنَا الْمِائَةَ إِلَيْهِمَا، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ بَانَ صِحَّةُ نِكَاحِ الثَّلَاثِ، دَفَعْنَاهَا مَعَ الْمِائَتَيْنِ إِلَيْهِنَّ، وَإِنْ دَخَلَ بِالثَّلَاثِ، فَمَهْرُ مِثْلِهِنَّ مَعَ مُسَمَّى الثِّنْتَيْنِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ مُسَمَّى الثَّلَاثِ، فَنَأْخُذُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَنُعْطِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثُّلُثِ خَمْسِينَ مِنْهَا، وَنَقِفُ الْبَاقِيَ وَهُوَ مِائَتَانِ، مِنْهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ بَيْنَ الثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الثِّنْتَيْنِ وَالْوَرَثَةِ. فَإِنْ بَانَ صِحَّةُ نِكَاحِ الثَّلَاثِ، أَعْطَيْنَاهُنَّ مِائَةً وَخَمْسِينَ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ بَانَ صِحَّةُ نِكَاحِ الثِّنْتَيْنِ، أَعْطَيْنَاهُمَا الْمِائَتَيْنِ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: فَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَنَكَحَ أَرْبَعًا أُخَرَ فِي عَقْدٍ رَابِعٍ، وَلَمْ يُعْرَفِ التَّرْتِيبُ، لَمْ يُحْكَمْ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ، لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، وَقَفْنَا مِيرَاثَ زَوْجَاتٍ، وَلَا نُعْطِي وَاحِدَةً مِنْهُ شَيْئًا. وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَإِنْ دَخَلَ بِهِنَّ، أَخَذْنَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ الْأَكْثَرَ مِنْ مُسَمَّاهَا وَمَهْرِ مِثْلِهَا، وَأَعْطَيْنَاهَا أَقَلَّهُمَا، وَوَقَفْنَا الْبَاقِيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ. فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاحِدَةُ مَعَ الثَّلَاثِ، أَوْ مَعَ الثِّنْتَيْنِ، فَيُنْظَرُ مَهْرُ الْأَرْبَعِ وَحْدَهُ، وَمَهْرُ الْوَاحِدَةِ مَعَ الثَّلَاثِ، ثُمَّ مَعَ الثِّنْتَيْنِ، وَيُؤْخَذُ أَكْثَرُ الْمَقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ، وَيُوقَفُ. وَإِنْ دَخَلَ بِبَعْضِهِنَّ، أُخِذَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا أَكْثَرُ مَهْرَيْهَا، وَتُعْطَى مِنْهُ أَقَلَّهُمَا، وَيُوقَفُ الْبَاقِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَأُخِذَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مُسَمَّاهَا، فَيُوقَفُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: اسْتِيفَاءُ عَدَدِ الطَّلَاقِ. فَإِذَا طَلَّقَ الْحُرُّ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فِي نِكَاحٍ أَوْ أَنْكِحَةٍ دَفْعَةً أَوْ أَكْثَرَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيَطَأَهَا وَيُفَارِقَهَا وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ، وَإِذَا طَلَّقَ الْعَبْدُ طَلْقَتَيْنِ، فَكَطَلَاقِ الْحُرِّ ثَلَاثًا. وَلَوْ عَتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يُؤَثِّرْ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ. وَفِي قَوْلٍ: يَكْفِي الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَهُ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَيُشْتَرَطُ تَغْيِيبُ جَمِيعِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ، وَبِهِ تَتَعَلَّقُ أَحْكَامُ الْوَطْءِ كُلُّهَا. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَتْ بِكْرًا، فَأَقَلُّهُ الِاقْتِضَاضُ بِآلَتِهِ. وَمَنْ قُطِعَتْ حَشَفَتُهُ، إِنْ بَقِيَ مِنْ ذَكَرِهِ دُونَ قَدْرِهَا، لَمْ يَحِلَّ. وَإِنْ بَقِيَ قَدْرُهَا فَقَطْ، أُحِلَّ. وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِهَا، كَفَى تَغْيِيبُ قَدْرِ حَشَفَةِ هَذَا الشَّخْصِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ تَغْيِيبُ جَمِيعِ الْبَاقِي، سَوَاءً كَانَ قَوِيَّ الِانْتِشَارِ، أَوْ ضَعِيفَهُ فَاسْتَعَانَ بِأُصْبَعِهِ أَوْ أُصْبَعِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ انْتِشَارٌ أَصْلًا، لِتَعْنِينٍ أَوْ شَلَلٍ

أَوْ غَيْرِهِمَا، لَمْ يَحْصُلِ التَّحْلِيلُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ فِي كُتُبِهِمْ، لِعَدَمِ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ، وَحَصَّلَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْغَزَالِيُّ، لِحُصُولِ الْوَطْءِ وَأَحْكَامِهِ. وَاسْتِدْخَالُ ذَكَرِ النَّائِمِ وَغَيْرِهِ يُحَلِّلُ، وَاسْتِدْخَالُ الْمَاءِ لَا يُحَلِّلُ. قُلْتُ: وَلَوْ لَفَّ عَلَى ذَكَرِهِ خِرْقَةً وَأَوْلَجَ، حَلَّلَ عَلَى الصَّحِيحِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ يَحْصُلُ التَّحْلِيلُ بِكُلِّ زَوْجٍ، حُرٍّ مُسْلِمٍ، وَعَبْدٍ، وَمَجْنُونٍ، وَخَصِيٍّ، وَذِمِّيٍّ إِذَا كَانَتِ الْمُطَلَّقَةُ ذِمِّيَّةً، سَوَاءٌ كَانَ الْمُطَلِّقُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَيُشْتَرَطُ وَطْءُ الذِّمِّيِّ فِي وَقْتٍ لَوْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا لَقَرَرْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ النِّكَاحِ. قُلْتُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي تَحْلِيلِ الذِّمِّيَّةِ لِلْمُسْلِمِ وَطْءُ ذِمِّيٍّ، بَلِ الْمَجُوسِيُّ وَالْوَثَنِيُّ يُحَلِّلَانِهَا أَيْضًا لِلْمُسْلِمِ، كَمَا يُحَصِّنَانِهَا، صَرَّحَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَالصَّبِيُّ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ الْجِمَاعُ، كَالْبَالِغِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَالطِّفْلُ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ، لَا يُحَلِّلُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّهُ يُحَلِّلُ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ كَالْغَلَطِ الْمَنَابِذِ لِقَوَاعِدِ الْبَابِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُحَلِّلُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ إِذَا كَانَتِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا صَغِيرَةً، وَوَطِئَهَا زَوْجٌ، حَلَّتْ قَطْعًا. وَقِيلَ فِي الَّتِي لَا تُشْتَهَى الْوَجْهَانِ كَتَحْلِيلِ الصَّبِيِّ.

فَرْعٌ لَوْ وَطِئَهَا فِي إِحْرَامِهِ أَوْ إِحْرَامِهَا، أَوِ الْحَيْضِ، أَوْ صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْ ظِهَارِهَا، أَوْ ظَانًّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، حَلَّتْ، لِأَنَّهُ وَطْءُ زَوْجٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ. وَلَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ فِي عِدَّةِ وَطْءِ شُبْهَةٍ وَقَعَ بَعْدَ نِكَاحِهِ، حَلَّتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ وَطِئَهَا فِي حَالِ رِدَّتِهِ أَوْ رِدَّتِهَا، وَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، لَمْ تَحِلَّ، نُصَّ عَلَيْهِ، لِاضْطِرَابِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ سَائِرِ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ. وَاعْتَرَضَ الْمُزَنِيُّ بِأَنَّهُ إِنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَقَدْ حَلَّتْ، وَإِلَّا، فَتَبِينُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: تُتَصَوَّرُ الْعِدَّةُ بِلَا دُخُولٍ، بِأَنْ يَطَأَهَا فِي الدُّبُرِ أَوْ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَسَبَقَ الْمَاءُ، أَمْ تَسْتَدْخِلُ مَاءَهُ، فَتَجِبُ الْعِدَّةُ، وَلَا تَحِلُّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَكَذَا بِالْخَلْوَةِ عَلَى الْقَدِيمِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنِ النَّصِّ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِالْوَطْءِ فِي الرِّدَّةِ، هُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» : إِنِ اجْتَمَعَا فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْقَفَّالُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلَوْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا، بِاسْتِدْخَالِ الْمَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ (لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ) ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: إِذَا قُلْنَا: تَحِلُّ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَلَا تَحِلُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ نَكَحَهَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَطِئَهَا بَانَتْ مِنْهُ، أَوْ نَكَحَهَا إِلَى أَنْ يَطَأَهَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَطِئَهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، فَنِكَاحٌ بَاطِلٌ، فَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ إِذَا وَطِئَهَا طَلَّقَهَا، فَبَاطِلٌ

أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَفِي قَوْلٍ: يَصِحُّ الْعَقْدُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ بِلَا شَرْطٍ، وَفِي عَزْمِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِذَا وَطِئَهَا، كُرِهَ، وَصَحَّ الْعَقْدُ، وَحَلَّتْ بِوَطْئِهِ. وَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا إِلَّا مَرَّةً، أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا نَهَارًا، فَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ أَوْ صِحَّتِهِ دُونَ الشَّرْطِ نَصَّانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا عَلَى حَالَيْنِ. فَالْبُطْلَانُ إِذَا شَرَطَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ لَا يَطَأَهَا، وَالصِّحَّةُ إِذَا شَرَطَ الزَّوْجُ أَنْ لَا يَطَأَ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَلَهُ تَرْكُهُ وَالتَّمْكِينُ عَلَيْهَا. وَلَوْ نَكَحَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ، فَقَالَ الْإِمَامُ: يَجِبُ أَنْ تَلْحَقَ بِشَرْطِ تَرْكِ الْوَطْءِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ، لِلتَّنَاقُضِ. قُلْتُ: قَوْلُ الْغَزَالِيِّ أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَفِي «فَتَاوَى» الْقَفَّالِ: أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ الِاسْتِمْتَاعَ بِبُضْعِهَا، فَكَشَرْطِ أَنْ لَا يَطَأَ. وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمْلِكَ بُضْعَهَا، فَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ مِلْكَ الْعَيْنِ، لَمْ يَضُرَّ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا شَرَطَهُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَلَوْ تَوَاطَآ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَعَقَدَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ بِلَا شَرْطٍ، فَلَيْسَ كَالْمَشْرُوطِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ قَالَ الْأَئِمَّةُ: أَسْلَمُ طَرِيقٍ فِي الْبَابِ، وَأَدْفَعُهُ لِلْعَارِ، أَنْ تُزَوَّجَ بِعَبْدٍ صَغِيرٍ، وَتَسْتَدْخِلَ حَشَفَتَهُ، ثُمَّ تَتَمَلَّكُهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَيَحْصُلُ التَّحْلِيلُ إِنْ صَحَّحْنَا تَحْلِيلَ الصَّبِيِّ وَجَوَّزْنَا إِجْبَارَ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ عَلَى النِّكَاحِ، وَإِلَّا، فَلَا.

فَرْعٌ إِذَا قَالَتِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا: نَكَحْتُ زَوْجًا آخَرَ، فَوَطِئَنِي وَفَارَقَنِي، وَانْقَضَتْ عِدَّتِي مِنْهُ، قُبِلَ قَوْلُهَا عِنْدَ الِاحْتِمَالِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ الثَّانِي، وَصُدِّقَ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ، فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْوَطْءُ يَعْسُرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنْ ظَنَّ صِدْقَهَا، فَلَهُ نِكَاحُهَا بِلَا كَرَاهَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَظُنَّهُ، اسْتُحِبَّ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا. وَإِنْ قَالَ: هِيَ كَاذِبَةٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نِكَاحُهَا. فَإِنْ قَالَ بَعْدَهُ: تَبَيَّنْتُ صِدْقَهَا، فَلَهُ نِكَاحُهَا. قُلْتُ: قَدْ جَزَمَ الْفُورَانِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَذِبُهَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ. وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ عَلَى هَذَا، وَهُوَ غَلَطٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهَا تَحِلُّ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَذِبُهَا إِذَا كَانَ الصِّدْقُ مُمْكِنًا. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفُورَانِيُّ غَلَطٌ، وَهُوَ مِنْ عَثَرَاتِ الْكُتَّابِ، وَلَعَلَّ الرَّافِعِيَّ لَمْ يَحْكِ هَذَا الْوَجْهَ، لِشِدَّةِ ضَعْفِهِ، وَلِقَوْلِ الْإِمَامِ: إِنَّهُ غَلَطٌ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: وَلَوْ كَذَّبَهَا الزَّوْجُ وَالْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ، لَمْ تَحِلَّ عَلَى الْأَصَحِّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا قَبْلَ وَطْءِ زَوْجٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِظَاهِرِ الْقَرَانِ. قُلْتُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِ التَّحْلِيلِ، التَّنْفِيرُ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْجِنْسُ الثَّالِثُ مِنَ الْمَوَانِعِ: رِقُّ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ. رَقِيقَةٌ يَمْلِكُهَا، وَرَقِيقَةٌ لَا يَمْلِكُهَا. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مَمْلُوكَتُهُ، فَلَيْسَ لَهُ نِكَاحُ مَنْ يَمْلِكُهَا أَوْ بَعْضَهَا. وَلَوْ مَلَكَ بَعْضَ زَوْجَتِهِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، وَلَيْسَ لَهَا نِكَاحُ مَنْ تَمْلِكُ بَعْضَهُ. وَلَوْ مَلَكَتْ زَوْجَهَا، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَمَةُ غَيْرِهِ، فَلَا تَحِلُّ لِلْحُرِّ إِلَّا بِشُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ يَتَيَسَّرُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَمْنَعُ كَوْنُ الْكِتَابِيَّةِ تَحْتَهُ. فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرِ الِاسْتِمْتَاعُ، بِأَنْ كَانَتْ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ، أَوْ هَرِمَةٌ، أَوْ غَائِبَةٌ، أَوْ مَجْنُونَةٌ، أَوْ مَجْذُومَةٌ، أَوْ بَرْصَاءُ، أَوْ رَتْقَاءُ، أَوْ مُضْنَاةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ صَاحِبِ «الْمُهَذَّبِ» وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ. فَعَلَى هَذَا، لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ حَتَّى تَبِينَ مِنْهُ الْحُرَّةُ. (الشَّرْطُ) الثَّانِي: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ لِعَدَمِ الْحُرَّةِ، أَوْ عَدَمِ صَدَاقِهَا. فَلَوْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ رَتْقَاءَ، أَوْ قَرْنَاءَ، أَوْ مَجْنُونَةٍ، أَوْ مَجْذُومَةٍ، أَوْ رَضِيعَةٍ، أَوْ مُعْتَدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى حُرَّةٍ كِتَابِيَّةٍ، لَمْ تَحِلَّ الْأَمَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) [النِّسَاءِ: 25] قَيَّدَ بِالْمُؤْمِنَاتِ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، لَا لِلِاشْتِرَاطِ. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى حُرَّةٍ غَائِبَةٍ، قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنْ كَانَ يَخَافُ الْعَنَتَ فِي مُدَّةِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ، أَوْ يَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهَا، فَلَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِلَّا، فَلَا. قَالَ الْإِمَامُ: الْمَشَقَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ، أَنْ يُنْسَبَ مُتَحَمِّلُهَا فِي طَلَبِ زَوْجِهِ إِلَى الْإِسْرَافِ. وَلَوْ لَمْ يَجِدْ

إِلَّا حُرَّةً لَا تَرْضَى إِلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهُوَ وَاجِدُهُ، فَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ أَمَةً. وَنَقَلَ الْمُتَوَلِّي جَوَازَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: إِنْ كَانَتْ زِيَادَةً يُعَدُّ بَذْلُهَا إِسْرَافًا، حَلَّتِ الْأَمَةُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ، بِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَاءِ تَتَكَرَّرُ، وَبِأَنَّ هَذَا النَّاكِحَ لَا يُعَدُّ مَغْبُونًا. قُلْتُ: قَطَعَ آخَرُونَ بِمُوَافَقَةِ الْمُتَوَلِّي، وَهُوَ الْأَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَهْرٍ، وَوَجَدَ حُرَّةً تَرْضَى بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ، وَهُوَ يَتَوَقَّعُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَحَلِّ، أَوْ وَجَدَ مَنْ يَبِيعُهُ نَسِيئَةً مَا يَفِي بِصَدَاقِهَا، أَوْ وَجَدَ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ، أَوْ رَضِيَتْ حُرَّةٌ بِأَنْ يَنْكِحَهَا بِلَا مَهْرٍ، حَلَّتِ الْأَمَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أُقْرِضَ مَهْرَهَا، لَمْ يَجِبِ الْقَبُولُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِاحْتِمَالِ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ. وَقِيلَ بِالْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ رَضِيَتْ حُرَّةٌ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهُوَ يَجِدُهُ، لَمْ تَحِلَّ الْأَمَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِيهِ قَلِيلَةٌ، إِذِ الْعَادَةُ الْمُسَامَحَةُ فِي الْمُهُورِ. وَلَوْ وُهِبَ لَهُ مَالٌ أَوْ جَارِيَةٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَبُولُ، وَحَلَّتِ الْأَمَةُ. وَمَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَخَادِمٌ، هَلْ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، أَمْ عَلَيْهِ بَيْعُهُمَا وَصَرْفُهُمَا إِلَى طَوْلِ حُرَّةٍ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَالْمَالُ الْغَائِبُ لَا يَمْنَعُ نِكَاحَ الْأَمَةِ، كَمَا لَا يَمْنَعُ ابْنُ السَّبِيلِ الزَّكَاةَ. وَمَنْ هُوَ مُعْسِرٌ، وَلَهُ ابْنٌ مُوسِرٌ، يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إِنْ لَمْ نُوجِبْ عَلَى الِابْنِ إِعْفَافَهُ. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَوَجْهَانِ، لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ بِمَالِ الِابْنِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: خَوْفُ الْعَنَتِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الزِّنَا، قَالَ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُقُوعُ فِي الزِّنَا، بَلْ أَنْ يَتَوَقَّعَهُ لَا عَلَى النُّدُورِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِغَيْرِ الْخَائِفِ أَنْ يُعْلَمَ اجْتِنَابُهُ، بَلْ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِالتَّقْوَى، وَالِاجْتِنَابُ يُنَافِي الْخَوْفَ، فَمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ، وَضَعْفُ تَقْوَاهُ، فَهُوَ خَائِفٌ. وَمَنْ ضَعُفَتْ شَهْوَتُهُ، وَهُوَ يَسْتَبْدِعُ الزِّنَا لِدِينٍ أَوْ مُرُوءَةٍ أَوْ حَيَاءٍ، فَهُوَ غَيْرُ خَائِفٍ. وَإِنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ، وَقَوِيَ تَقْوَاهُ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ، لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا. وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ تَرْكُ الْوِقَاعِ يَجُرُّ ضَرَرًا أَوْ مَرَضًا، فَلَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَأَمَّا الْمَجْبُوبُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الزِّنَا. قَالَ الْإِمَامُ وَالْمُتَوَلِّي: لَيْسَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَلَوْ نَكَحَ حُرٌّ أَمَةً، فَوَجَدَتْهُ مَجْبُوبًا، وَأَرَادَتِ الْفَسْخَ، فَقَالَ الزَّوْجُ: جُبَّ ذَكَرِي بَعْدَ النِّكَاحِ. فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ غَيْرَ مُحْتَمَلٍ، بِأَنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مُنْدَمِلًا، وَقَدْ عُقِدَ النِّكَاحُ أَمْسِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ، فَذَاكَ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ، فَدَعْوَاهَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهَا، بُطْلَانُ النِّكَاحِ مِنْ أَصْلِهِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: لِلْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ نِكَاحُ الْأَمَةِ عِنْدَ خَوْفِ الْوُقُوعِ فِي الْفِعْلِ الْمَأْثُومِ بِهِ، لِأَنَّ الْعَنَتَ الْمَشَقَّةُ. فَرْعٌ الْقَادِرُ عَلَى شِرَاءِ أَمَةٍ يَتَسَرَّاهَا، لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَمَةٌ، لَمْ يَنْكِحْ أَمَةً قَطْعًا، وَطَرَدَ الْحَنَّاطِيُّ الْخِلَافَ فِيهِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ لَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا غَيْرَ مُبَاحَةٍ، فَإِنْ وَفَتْ قِيمَتُهَا بِمَهْرِ حُرَّةٍ، أَوْ ثَمَنِ أَمَةٍ يَتَسَرَّاهَا، لَمْ يَنْكِحِ الْأَمَةَ، وَإِلَّا، فَيَنْكِحُهَا.

فصل

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: كَوْنُ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ مُسْلِمَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهَا لِمُسْلِمٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجُوزُ لِلْحُرِّ الْكِتَابِيِّ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُقَالُ: الْأَظْهَرُ، وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَأَمَّا نِكَاحُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْأَمَةَ الْمُسْلِمَةَ، فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ (نِكَاحِ) الْمُشْرِكِ. وَالْعَبْدُ الْكِتَابِيُّ، يَنْكِحُ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ إِنْ نَكَحَهَا الْحُرُّ الْكِتَابِيُّ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. قُلْتُ: وَنِكَاحُ الْحُرِّ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ الْأَمَةَ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ، كَالْكِتَابِيِّ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ لِلْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَطْءُ أَمَتِهِ الْكِتَابِيَّةِ دُونَ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ، كَالنِّكَاحِ فِي حَرَائِرِهِمْ. فَصْلٌ مَنِ اسْتَجْمَعَ شُرُوطَ نِكَاحِ الْأَمَةِ، لَيْسَ لَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ صَغِيرَةٍ لَا تُوطَأُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ بِهَا الْعَنَتَ. وَمَنْ بَعْضُهَا رَقِيقٌ كَالرَّقِيقَةِ، لَا يَنْكِحُهَا حُرٌّ إِلَّا بِالشُّرُوطِ. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِهَا، فَهَلْ يُبَاحُ لَهُ نِكَاحُ الرَّقِيقَةِ الْمَحْضَةِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ، لِأَنَّ إِرْقَاقَ بَعْضِ الْوَلَدِ أَهْوَنُ مِنْ إِرْقَاقِ كُلِّهِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّ مَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ كَالرَّقِيقِ، فَيَنْكِحُ الْأَمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُرَّةِ، لِأَنَّهُ كَالرَّقِيقِ فِي الْوِلَايَةِ وَالنَّظَرِ.

فصل

فَصْلٌ وَلَدُ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ رَقِيقٌ لِمَالِكِهَا، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا الْحُرُّ عَرَبِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، وَفِي الْقَدِيمِ قَوْلٌ أَنَّ الْعَرَبَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمُ الرِّقُّ، فَيَكُونُ وَلَدُ الْعَرَبِيِّ حُرًّا، وَهَلْ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَتُهُ كَالْمَغْرُورِ؟ أَمْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ السَّيِّدَ رَضِيَ حِينَ زَوَّجَهَا عَرَبِيًّا؟ فِيهِ قَوْلَانِ. فَرْعٌ فِي «فَتَاوَى» الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ بِوَاجِدٍ طَوْلَ حُرَّةٍ، فَأَوْلَدَهَا، فَالْأَوْلَادُ أَرِقَّاءُ، لِأَنَّ شُبْهَةَ النِّكَاحِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ. فَصْلٌ نَكَحَ الْحُرُّ أَمَةً بِشُرُوطِهِ، ثُمَّ أَيْسَرَ أَوْ نَكَحَ حُرَّةً، لَا يَنْفَسِحُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَنْفَسِخُ. فَصْلٌ جَمَعَ حُرٌّ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عَقْدٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، فَنِكَاحُ الْأَمَةِ بَاطِلٌ، وَنِكَاحُ الْحُرَّةِ صَحِيحٌ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، بِأَنْ وَجَدَ حُرَّةً تَسْمَحُ بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ، أَوْ بِلَا مَهْرٍ، أَوْ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ حُرَّةً

كِتَابِيَّةً، وَقُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا تَمْنَعُ نِكَاحَ الْأَمَةِ، بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ قَطْعًا، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ. وَفِي الْحُرَّةِ طَرِيقَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» : أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَأَبُو زَيْدٍ وَآخَرُونَ: يَبْطُلُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ يَجُوزُ إِفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ، فَأَشْبَهَ الْأُخْتَيْنِ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ، فَرَّقَ بِأَنَّ الْأُخْتَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا أَقْوَى (وَالْحُرَّةُ أَقْوَى) . وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ وَوَثَنِيَّةٍ، أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ وَمَحْرَمٍ، أَوْ خَلِيَّةٍ وَمُعْتَدَّةٍ أَوْ مُزَوَّجَةٍ، فَهُوَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ لِمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْأَمَةُ. وَإِذَا صَحَّحْنَا نِكَاحَ مَنْ تَحِلُّ (لَهُ) ، فَقَدْ سَبَقَ فِي تَفْرِيقِ «الصَّفْقَةِ» قَوْلُ: أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى، وَأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَهُ، بَلْ تَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ فِي قَوْلٍ، وَمَا يَخُصُّ مَهْرَ مِثْلِهَا مِنَ الْمُسَمَّى إِذَا وُزِّعَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَمَهْرِ مِثْلِ الْأُخْرَى فِي قَوْلٍ. فَإِنْ قُلْنَا: تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى، فَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الصَّدَاقِ وَالرُّجُوعِ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ «التَّفْرِيقِ» . وَإِنْ قُلْنَا: تَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَلَا فَسْخَ، إِذْ لَا فَائِدَةَ (فِيهِ) ، فَإِنَّهُ لَوْ فَسَخَ لَرَجَعَ إِلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: تَسْتَحِقُّ حِصَّةَ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنَ الْمُسَمَّى، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: إِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، كَالْحُبُوبِ، فَلَا خِيَارَ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ، كَالْعَبْدِ، فَلَهُ الْخِيَارُ، لِتَضَرُّرِهِ بِالتَّشْقِيصِ. فَإِنْ فُسِخَ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَمِيعَ بَيْنَ مَنْ يَحِلُّ وَمَنْ لَا يَحِلُّ، يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُزَوِّجُ وَلِيَّهُمَا، بِأَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ وَبِنْتَهُ، أَوْ كَانَ وَكِيلًا لِوَلِيَّيْنِ، أَوْ وَلِيَّ إِحْدَاهُمَا وَوَكِيلًا فِي الْأُخْرَى. وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ إِذَا قَالَ: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ وَهَذِهِ بِكَذَا، فَقَالَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهُمَا بِكَذَا. فَأَمَّا إِذَا قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي هَذِهِ، وَزَوَّجْتُكَ أَمَتِي هَذِهِ، فَقَالَ: قَبِلْتُ نِكَاحَ بِنْتِكَ، وَقَبِلْتُ نِكَاحَ أَمَتِكَ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَبُولِ نِكَاحِ الْبِنْتِ، فَنِكَاحُ الْبِنْتِ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ فَصَّلَ الْمُزَوِّجُ، وَقَالَ الزَّوْجُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهُمَا، أَوْ جَمَعَ الْمُزَوِّجُ، وَفَصَّلَ الزَّوْجُ، فَهَلْ هُوَ كَمَا لَوْ فَصَّلَا جَمِيعًا، أَوْ كَمَا جَمَعَا جَمِيعًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ وَأَمَةٍ وَهُوَ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ

نِكَاحُ الْأَمَةِ، فَنِكَاحُ الْأُخْتَيْنِ بَاطِلٌ، وَفِي الْأَمَةِ الْخِلَافُ. وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، وَبِعْتُكَ هَذَا الزِّقَّ مِنَ الْخَمْرِ بِكَذَا، فَقَبِلَهُمَا، أَوْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَابْنِي أَوْ فَرَسِي، أَوْ وَهَذَا الزِّقَّ، صَحَّ نِكَاحُ الْبِنْتِ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الْمَضْمُومَ لَا يَقْبَلُ النِّكَاحَ، فَلَغَا. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ قُلْنَا فِيمَنْ جَمَعَ بَيْنَ مُحَلَّلَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ: لِلْمُحَلَّلَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِنْ قُلْنَا هُنَاكَ: لَهَا حِصَّةُ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنَ الْمُسَمَّى، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَجِبُ لَهَا هُنَا جَمِيعُ الْمُسَمَّى، لِتَعَذُّرِ التَّوْزِيعِ. قُلْتُ: وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَتَيْنِ فِي عَقْدٍ، بَطَلَ نِكَاحُهُمَا قَطْعًا كَالْأُخْتَيْنِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي نِكَاحِ أَمَةِ غَيْرِهِ، أَرَدْنَا بِهِ غَيْرَ أَمَةِ وَلَدِهِ، وَأَمَّا أَمَةُ وَلَدِهِ، فَفِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي «الْبَابِ الْعَاشِرِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْجِنْسُ الرَّابِعُ مِنَ الْمَوَانِعِ: الْكَفَرَةُ. الْكُفَّارُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ. أَحَدُهَا: الْكِتَابِيُّونَ، فَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ مُنَاكَحَتُهُمْ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكِتَابِيَّةُ ذِمِّيَّةً أَوْ حَرْبِيَّةً، لَكِنْ تُكْرَهُ الْحَرْبِيَّةُ، وَكَذَا الذِّمِّيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ، لَكِنْ أَخَفَّ مِنْ كَرَاهَةِ الْحَرْبِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِيِّينَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَأَمَّا الْمُتَمَسِّكُونَ بِكُتُبِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ، كَصُحُفِ شِيثٍ وَإِدْرِيسَ وَإِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُدَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، فَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ. الصِّنْفُ الثَّانِي: مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ وَلَا شُبْهَةَ كِتَابٍ، كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالشَّمْسِ وَالنُّجُومِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالزَّنَادِقَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْمُعْتَقِدِينَ مَذْهَبَ الْإِبَاحَةِ وَكُلَّ مَذْهَبٍ كُفِّرَ مُعْتَقِدُهُ، فَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَنْ لَا كِتَابَ لَهُمْ، لَكِنْ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ وَهُمُ الْمَجُوسُ. وَهَلْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَشْبَهُهُمَا: نَعَمْ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ،

لِأَنَّهُ لَا كِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ، وَلَا نَتَيَقَّنُهُ مِنْ قَبْلُ، فَنَحْتَاطُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ: يَحِلُّ إِنْ قُلْنَا: كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. فَرْعٌ الْكِتَابِيَّةُ كَالْمُسْلِمَةِ فِي النَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَالطَّلَاقِ وَعَامَّةِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، لَكِنْ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَلَا تُغَسِّلُهُ إِذَا اعْتَبَرْنَا نِيَّةَ الْغَاسِلِ وَلَمْ نُصَحِّحْ نِيَّتَهَا. وَإِذَا طَهُرَتْ عَنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، أَلْزَمَهَا الزَّوْجُ الِاغْتِسَالَ. فَإِنِ امْتَنَعَتْ، أَجْبَرْنَاهَا عَلَيْهِ وَاسْتَبَاحَهَا وَإِنْ لَمْ تَنْوِ، لِلضَّرُورَةِ، كَمَا تُجْبَرُ الْمُسْلِمَةُ الْمَجْنُونَةُ. وَعَنِ الْحَلِيمِيِّ تَخْرِيجًا عَلَى الْإِجْبَارِ عَلَى الْغُسْلِ، أَنَّ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارَ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ. وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ الرِّقَّ أَفَادَهَا الْأَمَانَ مِنَ الْقَتْلِ فَلَا تُجْبَرُ كَالْمُسْتَأْمَنَةِ، وَلَيْسَ كَالْغُسْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْظُمُ الْأَمْرُ فِيهِ. وَاخْتَلَفَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي إِجْبَارِ زَوْجَتِهِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: فِي إِجْبَارِهَا قَوْلَانِ. وَقِيلَ: الْإِجْبَارُ إِذَا طَالَتِ الْمُدَّةُ وَكَانَتِ النَّفْسُ تَعَافُهَا، وَعَدَمُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمَةُ، فَهِيَ مُجْبَرَةٌ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، كَذَا أَطْلَقَهُ الْبَغَوِيُّ. قُلْتُ: لَيْسَ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ هُوَ فِيمَا إِذَا طَالَ بِحَيْثُ حَضَرَ وَقْتُ صَلَاةٍ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَحْضُرْ صَلَاةٌ، فَفِي إِجْبَارِهَا الْقَوْلَانِ، وَهُمَا مَشْهُورَانِ حَتَّى فِي «التَّنْبِيهِ» . وَالْأَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْإِجْبَارُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَتُجْبَرُ الْمُسْلِمَةُ أَوِ الْكِتَابِيَّةُ عَلَى التَّنَظُّفِ، بِالِاسْتِحْدَادِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، وَإِزَالَةِ شَعْرِ الْإِبْطِ وَالْأَوْسَاخِ إِذَا تَفَاحَشَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ نَفَّرَ التَّوَّاقَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ

فصل

أَصْلَ الِاسْتِمْتَاعِ، لَكِنْ يَمْنَعُ كَمَالَهُ، فَقَوْلَانِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَيَجْرِيَانِ فِي مَنْعِ الْكِتَابِيَّةِ أَكْلَ الْخِنْزِيرِ لِلِاسْتِقْذَارِ، وَفِي كُلِّ مَا يَمْنَعُ كَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لِلزَّوْجِ الْمَنْعَ مِنْهُ. وَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ أَكْلِ مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ كَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا، وَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ شُرْبِ مَا تَسْكَرُ بِهِ. وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ الْقَوْلَانِ، وَيَجْرِيَانِ فِي مَنْعِ الْمُسْلِمَةِ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ النَّبِيذِ إِذَا كَانَتْ تَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ. وَقِيلَ بِمَنْعِهِمَا قَطْعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يَنْضَبِطُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ. وَمَتَى تَنَجَّسَ فَمُهَا أَوْ عُضْوٌ آخَرُ، فَلَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى غَسْلِهِ بِلَا خِلَافٍ لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ لُبْسِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ دِبَاغِهِ وَلُبْسِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ. وَيَمْنَعُ الْكِتَابِيَّةَ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، كَمَا يَمْنَعُ الْمُسْلِمَةَ مِنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْمَسَاجِدِ. فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْكِتَابِيَّةِ الَّتِي يَنْكِحُهَا الْمُسْلِمُ وَهِيَ ضَرْبَانِ، إِسْرَائِيلِيَّةٌ، وَغَيْرُهَا. [الضَّرْبُ] الْأَوَّلُ: الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَهَا أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْمٍ يُعْلَمُ دُخُولُهُمْ فِي ذَلِكَ الدِّينِ قَبْلَ تَحْرِيفِهِ وَنَسْخِهِ، فَيَحِلُّ نِكَاحُهَا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا، وَهَؤُلَاءِ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ قَطْعًا. وَفِي حِلِّ ذَبَائِحِهِمُ الْخِلَافُ كَالْمُنَاكَحَةِ. [الْحَالُ] الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعْلَمُ دُخُولُهُمْ بَعْدَ التَّحْرِيفِ وَقَبْلَ النَّسْخِ. فَإِنْ تَمَسَّكُوا بِالْحَقِّ مِنْهُ، وَتَجَنَّبُوا الْمُحَرَّفَ مِنْهُ، فَكَالْحَالِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ دَخَلُوا فِي الْمُحَرَّفِ، لَمْ تَحِلَّ مُنَاكَحَتُهُمْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى الْأَصَحِّ كَالْمَجُوسِ وَأَوْلَى لِلشُّبْهَةِ. (الْحَالُ) الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُعْلَمُ دُخُولُهُمْ بَعْدَ التَّحْرِيفِ وَالنَّسْخِ، فَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ

قَطْعًا. فَالَّذِينَ تَهَوَّدُوا أَوْ تَنَصَّرُوا بَعْدَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُنَاكَحُونَ. وَفِي الْمُتَهَوِّدِينَ بَيْنَ نَبِيِّنَا وَبَيْنَ عِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَمَنْ جَوَّزَ كَأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نَسْخِ شَرِيعَةِ عِيسَى لِشَرِيعَةِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ -، وَهَلْ نُسِخَتْ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْمٍ لَا يُعْلَمُ مَتَى دَخَلُوا، فَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ، وَيُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، وَبِذَلِكَ حَكَمَتِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي نَصَارَى الْعَرَبِ. هَكَذَا أَطْلَقَهُ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَفِيهِ شَيْءٌ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْكِتَابِيَّةُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي طُرُقِهِمْ، جَوَازُ نِكَاحِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى آبَائِهَا أَدَخَلُوا فِي ذَلِكَ الدِّينِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ أَمْ بَعْدَهُ؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إِسْرَائِيلِيَّةٍ يَلْزَمُ دُخُولُ آبَائِهَا قَبْلَ التَّحْرِيفِ وَإِنْ أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ هُوَ يَعْقُوبُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَدَخَلَ كُلُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فِي زَمَانِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ بَعْدَهُ قَبْلَ التَّحْرِيفِ، بَلْ فِي الْقَصَصِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ بَعْضِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَدْيَانِ الْفَاسِدَةِ، وَبِتَقْدِيرِ اسْتِمْرَارِ هَذَا فِي الْيَهُودِ، فَلَا يَسْتَمِرُّ فِي النَّصَارَى، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ فَأَصَرَّ عَلَى دِينِ مُوسَى. ثُمَّ مِنَ الْمُصِرِّينَ مَنْ تَنَصَّرَ عَلَى تَعَاقُبِ الزَّمَانِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ وَبَعْدَهُ، وَلَكِنْ كَأَنَّ الْأَصْحَابَ اكْتَفَوْا بِشَرَفِ النَّسَبِ وَجَعَلُوهُ جَابِرًا لِنَقْصِ دُخُولِ الْآبَاءِ فِي الدِّينِ بَعْدَ التَّحْرِيفِ، حَتَّى فَارَقَ حُكْمُهُنَّ حُكْمَ غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ إِذَا دَخَلَ آبَاؤُهُنَّ بَعْدَ التَّحْرِيفِ. وَأَمَّا الدُّخُولُ فِيهِ بَعْدَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا تُفَارِقُ فِيهِ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ غَيْرَهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فصل

وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي النَّظَرَ إِلَى حَالِ الْآبَاءِ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَيْضًا، حَتَّى يَكُونَ نِكَاحُ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّتِي دَخَلَ أَوَّلُ آبَائِهَا فِي ذَلِكَ الدِّينِ بَعْدَ التَّحْرِيفِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَغَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّتِي دَخَلَ آبَاؤُهَا فِيهِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ، لَكِنَّ كَلَامَ الْأَصْحَابِ يُخَالِفُهُ، فَاعْرِفْهُ وَانْظُرْ كَيْفَ يُمْكِنُكَ تَنْزِيلُ كَلَامِهِ عَلَى مَنْقُولِ الْأَصْحَابِ. فَرْعٌ الصَّابِئُونَ طَائِفَةٌ تُعَدُّ مِنَ النَّصَارَى، وَالسَّامِرَةُ طَائِفَةٌ تُعَدُّ مِنَ الْيَهُودِ. فَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَلَا يَتَأَوَّلُونَ نَصَّ كِتَابِهِمْ، لَمْ يُنَاكَحُوا كَالْمَجُوسِ. وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ وَتَأَوَّلُوا نُصُوصَ كِتَابِهِمْ، جَازَتْ مُنَاكَحَتُهُمْ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ قَوْلَيْنِ فِي مُنَاكَحَتِهِمْ. قَالَ الْإِمَامُ: لَا مَجَالَ لِلْخِلَافِ فِيمَنْ تُكَفِّرُهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَيُخْرِجُونَهُمْ عَنْهُمْ، لَكِنْ يُمْكِنُ الْخِلَافُ فِيمَنْ جَعَلُوهُ كَالْمُبْتَدِعِ فِينَا. وَإِذَا شَكَكْنَا فِي جَمَاعَةٍ أَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الْأُصُولِ أَمِ الْفُرُوعِ؟ لَمْ نُنَاكِحْهُمْ. وَالصَّابِئُونَ - فِيمَا نُقِلَ - فِرْقَتَانِ، فِرْقَةٌ تُوَافِقُ النَّصَارَى فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَفِرْقَةٌ تُخَالِفُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَفْتَى الْإِصْطَخْرِيُّ بِقَتْلِهِمْ. فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. [الْقِسْمُ] الْأَوَّلُ: مِنْ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى دِينٍ بَاطِلٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ.

أَحَدُهَا: الِانْتِقَالُ مِنْ دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، كَتَهَوُّدِ نَصْرَانِيٍّ وَعَكْسِهِ، فَهَلْ يُقَرُّ عَلَى مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ، أَمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ الدِّينُ الَّذِي انْتَقَلَ مِنْهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: الْأَوَّلُ، ثُمَّ الثَّانِي. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَعَلَى الْأَوَّلِ، تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ. وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً، حَلَّ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُهَا. وَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةَ مُسْلِمٍ، اسْتَمَرَّ نِكَاحُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقَرُّ، لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ وَلَا نِكَاحُهَا. وَإِذَا انْتَقَلَتْ مَنْكُوحَةُ مُسْلِمٍ، فَكَرِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ، فَتَتَنَجَّزُ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَتَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَهُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْهُ وَمِنَ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ مِنْهُ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يُقْتَلُ كَالْمُرْتَدِّ، وَأَشْبَهُهُمَا: يُلْحَقُ بِمَأْمَنِهِ كَمَنْ نَبَذَ الْعَهْدَ. ثُمَّ هُوَ حَرْبٌ لَنَا، إِنْ ظَفِرْنَا بِهِ قَتَلْنَاهُ. وَلَوْ تَمَجَّسَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، فَفِي تَقْرِيرِهِ وَعَدَمِهِ وَمَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْأَقْوَالُ. وَقِيلَ: يُمْنَعُ التَّقْرِيرُ قَطْعًا، لِكَوْنِهِ دُونَ دِينِهِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ لَمْ نُقِرُّهُ، وَأَبَى الرُّجُوعَ، فَفِي الْقَتْلِ وَالْإِلْحَاقِ بِالْمَأْمَنِ الْقَوْلَانِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَلَا نِكَاحُهَا. وَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةَ مُسْلِمٍ، تَنَجَّزَتِ الْفُرْقَةُ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِلَّا، فَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَوْ عَادَتْ إِلَى دِينِهَا وَقَنِعْنَا بِهِ، دَامَ النِّكَاحُ، وَإِلَّا بَانَ حُصُولُ الْفُرْقَةِ مِنْ وَقْتِ الِانْتِقَالِ. وَلَوْ تَمَجَّسَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ كِتَابِيٍّ، فَإِنْ كَانُوا لَا يُجَوِّزُونَ نِكَاحَ الْمَجُوسِ، فَكَتَمَجُّسِهَا تَحْتَ مُسْلِمٍ، وَإِلَّا، فَنُقِرُّهُمَا إِذَا أَسْلَمَا. وَلَوْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ مَجُوسِيٌّ، فَفِي التَّقْرِيرِ الْأَقْوَالُ، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، فَالتَّفْرِيعُ كَمَا سَبَقَ، وَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَنِكَاحُهَا بِحَالٍ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ بَاطِلٍ إِلَى بَاطِلٍ لَا يُفِيدُ فَضِيلَةً. الضَّرْبُ الثَّانِي: انْتِقَالٌ مِمَّا يُقَرُّ عَلَيْهِ إِلَى مَا لَا يُقَرُّ، كَتَوَثُّنِ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ

فَلَا يُقَرُّ قَطْعًا. وَهَلْ يُقْنَعُ بِعَوْدِهِ إِلَى مَا انْتَقَلَ مِنْهُ أَوْ دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، أَمْ لَا يُقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ مَا انْتَقَلَ مِنْهُ، أَمْ لَا يُقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الِانْتِقَالُ مِنْ كِتَابِيَّةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ. وَإِنْ دَخَلَ فَعَادَتْ إِلَى مَا يُقْبَلُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، اسْتَمَرَّ نِكَاحُهَا، وَإِلَّا، تَبَيَّنَ الْفِرَاقُ مِنْ وَقْتِ الِانْتِقَالِ. وَلَوْ تَوَثَّنَ مَجُوسِيٌّ، لَمْ يُقَرَّ، وَفِيمَا يُقْنَعُ بِهِ الْأَقْوَالُ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: عَكْسُ الثَّانِي، كَتَهَوُّدِ وَثَنِيٍّ وَتَنَصُّرِهِ وَتَمَجُّسِهِ، فَلَا يُقَرُّ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامُ قَطْعًا كَالْمُرْتَدِّ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُقَرُّ فَلَا يَسْتَفِيدُهُ بِبَاطِلٍ. وَإِذَا تَأَمَّلْتَ حُكْمَ هَذِهِ الْأَضْرُبِ، عَلِمْتَ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى بَاطِلٍ، يُبْطِلُ الْفَضِيلَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأَوَّلِ، وَلَا يُفِيدُ فَضِيلَةً لَمْ تَكُنْ فِي الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ تَبْقَى الْفَضِيلَةُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الدِّينَانِ إِنْ قُلْنَا بِالتَّقْرِيرِ. وَعَلِمْتَ أَنَّ كَلَامَهُمُ الْمُطْلَقَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ: أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي التَّهَوُّدِ وَالتَّنَصُّرِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَا يُنَاكَحُ وَلَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، غَيْرُ مُسْتَمِرٍّ عَلَى إِطْلَاقِهِ، لِأَنَّ مَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ الْيَوْمَ فَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي مُنَاكَحَتِهِ وَتَقْرِيرِهِ بِالْجِزْيَةِ إِذَا كَانَ الدُّخُولُ مِنْ دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، فَإِذًا إِطْلَاقُهُمْ هُنَاكَ وَجَزْمُهُمْ بِالْمَنْعِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الدُّخُولُ فِيهِ مِنْ دِينٍ لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ كَالْوَثَنِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي سَبَقَ الْوَعْدُ بِهِ. فَرْعٌ إِذَا قَبِلْنَا رُجُوعَهُ إِلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا نَقُولُ لَهُ: أَسْلِمْ أَوْ عُدْ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ، بَلْ نَأْمُرُهُ بِالْإِسْلَامِ، لَكِنْ نَتْرُكُهُ إِذَا عَادَ إِلَى غَيْرِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الِانْتِقَالُ مِنْ دِينٍ حَقٍّ إِلَى بَاطِلٍ، وَهُوَ رِدَّةُ الْمُسْلِمِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَبَى قُتِلَ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،

وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْمُرْتَدِّ لِأَحَدٍ. وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، تَنَجَّزَتِ الْفُرْقَةُ، وَبَعْدَهُ نَقِفُ عَلَى الْعِدَّةِ. فَإِنْ جَمَعَهُمَا الْإِسْلَامُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ، وَإِلَّا، بَانَ حُصُولُ الْفُرْقَةِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ. وَفِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ، لَا يَحِلُّ الْوَطْءُ، فَلَوْ وَطِئَ، فَلَا حَدَّ، وَتَجِبُ الْعِدَّةُ، وَهُمَا عِدَّتَانِ مِنْ شَخْصٍ، فَهُوَ كَوَطْءِ مُطَلَّقَتِهِ فِي عِدَّتِهِ، وَاجْتِمَاعُهُمَا فِي الْإِسْلَامِ هُنَا كَرَجْعَتِهِ هُنَاكَ، فَيَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ إِذَا جَمَعَهُمَا الْإِسْلَامُ فِي الْحَالَاتِ الَّتِي يُحْكَمُ فِيهَا بِثُبُوتِ الرَّجْعَةِ هُنَاكَ. وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ، أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا، أَوْ آلَى تَوَقَّفْنَا. فَإِنْ جَمَعَهُمَا الْإِسْلَامُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، تَبَيَّنَّا صِحَّتَهَا، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ إِذَا ارْتَدَّتْ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَهَا فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ، وَلَا أَرْبَعًا سِوَاهَا، وَلَا أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً. فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ، أَوْ خَالَعَهَا، جَازَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ تَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَدْ بَانَتْ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَإِلَّا، فَبِالطَّلَاقِ (أَوِ الْخُلْعِ) . الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الِانْتِقَالُ مِنْ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى حَقٍّ، وَهُوَ بَابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيٌّ وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ، يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا مُنَاكَحَتُهُ وَمُنَاكَحَةُ مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مَجُوسِيٌّ وَالْآخَرُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ ذَبِيحَتُهُ، فَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ هِيَ الْكِتَابِيَّةَ، لَمْ يَحِلَّ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ هُوَ الْأَبَ عَلَى الْأَظْهَرِ، هَذَا فِي صِغَرِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُمَا. فَأَمَّا إِذَا بَلَغَ وَتَدَيَّنَ بِدِينِ الْكِتَابِيِّ مِنْهُمَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ وَذَبِيحَتُهُ. فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَثْبَتَ هَذَا قَوْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا أَثَرَ لِبُلُوغِهِ، وَحَمَلَ النَّصَّ عَلَى مَا إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ يَهُودِيًّا وَالْآخَرُ نَصْرَانِيًّا، فَبَلَغَ وَاخْتَارَ دِينَ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ تَوَلَّدَ بَيْنَ يَهُودِيٍّ وَمَجُوسِيَّةٍ، فَبَلَغَ وَاخْتَارَ التَّمَجُّسَ،

فَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْهُ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَجُوسِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أَثْبَتْنَا لَهُ حُكْمَ الْيَهُودِ فِي الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ أَنْ نَمْنَعَهُ مِنَ التَّمَجُّسِ إِذَا مَنَعْنَا انْتِقَالَ الْكَافِرِ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ. الْبَابُ السَّابِعُ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَطْرَافٍ. [الطَّرَفُ] الْأَوَّلُ: فِيمَا يُقَرُّ عَلَيْهِ الْكَافِرُ مِنَ الْأَنْكِحَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْكُفْرِ إِذَا أَسْلَمَ. فَإِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَرْبَعُ كِتَابِيَّاتٍ، أَوْ أَقَلُّ، اسْتَمَرَّ نِكَاحُهُنَّ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْيَهُودِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ وَالْوَثَنِيُّ وَالْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ. وَإِنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ وَثَنِيَّةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا مِنَ الْكَافِرَاتِ، وَتَخَلَّفَتْ هِيَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، تَنَجَّزَتِ الْفُرْقَةُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَأَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ، وَإِلَّا، تَبَيَّنَّا حُصُولَ الْفُرْقَةِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ. وَإِنْ أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ، وَأَصَرَّ الزَّوْجُ عَلَى كُفْرِهِ، أَيَّ كُفْرٍ كَانَ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ وَأَصَرَّتْ عَلَى التَّوَثُنِ. وَإِنْ أَسْلَمَا مَعًا، بَقِيَا عَلَى النِّكَاحِ. سَوَاءٌ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَقَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَهُ، وَالِاعْتِبَارُ فِي التَّرْتِيبِ وَالْمَعِيَّةِ، بِآخِرِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، لَا بِأَوَّلِهَا. وَلَوْ نَكَحَ كَافِرٌ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ صَغِيرَةً، فَإِسْلَامُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا قَبْلَ بُلُوغِهِمَا كَإِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ نَكَحَ لِطِفْلِهِ بَالِغَةً، وَأَسْلَمَ أَبُو الطِّفْلِ وَالْمَرْأَةُ مَعًا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَبْطُلُ النِّكَاحُ، لِأَنَّ إِسْلَامَ الْوَلَدِ يَحْصُلُ عَقِبَ إِسْلَامِ الْأَبِ، فَيُقَدَّمُ إِسْلَامُهُمَا عَلَى إِسْلَامِ الزَّوْجِ، لَكِنَّ تَرَتُّبَ إِسْلَامِ الْوَلَدِ عَلَى إِسْلَامِ الْأَبِ

لَا يَقْتَضِي تَقَدُّمًا وَتَأَخُّرًا بِالزَّمَانِ، فَلَا يَظْهَرُ تَقَدُّمُ إِسْلَامِهَا عَلَى إِسْلَامِ الزَّوْجِ: قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَتْ عَقِبَ إِسْلَامِ الْأَبِ، بَطَلَ النِّكَاحُ أَيْضًا، لِأَنَّ إِسْلَامَ الْوَلَدِ يَحْصُلُ حُكْمًا، وَإِسْلَامُهَا يَحْصُلُ بِالْقَوْلِ، وَالْحُكْمِيُّ يَكُونُ سَابِقًا لِلْقَوْلِيِّ، فَلَا يَتَحَقَّقُ إِسْلَامُهُمَا مَعًا. فَرْعٌ حَيْثُ تَوَقَّفْنَا فِي النِّكَاحِ وَانْتَظَرْنَا الْحَالَ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَطَلَّقَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَطَلَاقُهُ مَوْقُوفٌ. فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْعِدَّةِ، تَيَقَّنَّا وُقُوعَهُ. وَيُعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَإِلَّا، فَلَا طَلَاقَ. وَقِيلَ: فِي الطَّلَاقِ قَوْلَا وَقْفِ الْعُقُودِ. فَفِي قَوْلٍ: لَا يَقَعُ وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَطُرِدَا فِيمَا إِذَا أَعْتَقَ عَبْدَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ حَيَاتِهِ، فَبَانَ مَيِّتًا، كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَلَى ظَنِّ حَيَاتِهِ فَبَانَ مَيِّتًا. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ يَقْبَلَانِ صَرِيحَ التَّعْلِيقِ، فَقَبُولُهُمَا تَقْدِيرَ التَّعْلِيقِ أَوْلَى، وَكَذَا يَتَوَقَّفُ فِي الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ. وَلَوْ قَذَفَهَا وَلَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى إِسْلَامٍ فِي الْعِدَّةِ، لَمْ يُلَاعِنْ، وَيُعَزَّرُ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُتَخَلِّفَةَ، وَيُحَدُّ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُتَخَلِّفَ. وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِدَفْعِ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ. وَلَوْ سَبَقَ الزَّوْجُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالزَّوْجَةُ وَثَنِيَّةٌ، فَنَكَحَ فِي زَمَنِ التَّوَقُّفِ أُخْتَهَا الْمُسْلِمَةَ أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا، لَمْ يَصِحَّ. وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا رَجْعِيَّةً فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَنَكَحَ فِي الْعِدَّةِ أُخْتَهَا الْمُسْلِمَةَ أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا، لِأَنَّ زَوَالَ نِكَاحِهَا غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، فَلَا يَنْكِحُ مَنْ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَتَوَقَّفُ فِيمَنْ نَكَحَهَا. فَإِنْ أَسْلَمَتِ الْمُتَخَلِّفَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بَانَ بُطْلَانُ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ، وَإِلَّا، بَانَ صِحَّتُهُ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْ وَقْفِ الْعُقُودِ. فَعَلَى قَوْلٍ: هُوَ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ. وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ.

فصل

وَلَوْ أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا، وَنَكَحَ فِي تَخَلُّفِهِ أُخْتَهَا الْكَافِرَةَ، ثُمَّ أَسْلَمَ مَعَ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ السَّابِقَةِ، أُقِرَّتِ الثَّانِيَةُ تَحْتَهُ. وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ أَسْلَمَتَا مَعَهُ، وَلَيْسَ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهُ هُنَاكَ مُسْلِمٌ عِنْدَ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ، فَلَا يَنْكِحُ الْأُخْتَ عَلَى الْأُخْتِ، وَهُنَا وَقَعَ النِّكَاحَانِ فِي الشِّرْكِ. فَصْلٌ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، كَلَامٌ جَمْلِيٌّ فِي مَوَاضِعِ اسْتِمْرَارِ النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَعَدَمِ اسْتِمْرَارِهِ. وَالْمَقْصُودُ الْآنَ، بَيَانُ شَرْطِ الِاسْتِمْرَارِ. فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ شَيْءٌ مِنْ مُفْسِدَاتِ النِّكَاحِ بِالْعَقْدِ الْجَارِي فِي الشِّرْكِ، وَلَا بِحَالَةِ عُرُوضِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مُقَرَّرٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فَسَادَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ نُبَالِ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَأَدَمْنَا مَا هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَنَا. وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ مُفْسِدٌ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ زَائِلًا عِنْدَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ بِحَيْثُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا حِينَئِذٍ ابْتِدَاءً، اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، إِلَّا إِذَا اعْتَقَدُوا فَسَادَهُ وَانْقِطَاعَهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُفْسِدُ بَاقِيًا وَقْتَ الْإِسْلَامِ، بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً نِكَاحُهَا، فَلَا تَقْرِيرَ، بَلْ يَنْدَفِعُ النِّكَاحُ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الضَّابِطِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: عَقَدَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَشُهُودٍ، أَوْ أَجْبَرَ الْبِكْرَ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ، أَوْ أُجْبِرَتِ الثَّيِّبُ، أَوْ رَاجَعَ فِي الْقُرْءِ الرَّابِعِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ امْتِدَادَ الرَّجْعَةِ إِلَيْهِ، فَيُقَرُّ عَلَيْهِ، إِذْ لَا مُفْسِدَ عِنْدَ الْإِسْلَامِ، وَنِكَاحُهَا الْآنَ جَائِزٌ. وَلَوْ نَكَحَ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَهُ، أَوْ زَوْجَةَ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، أَوْ مُطَلَّقَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ التَّحْلِيلِ، انْدَفَعَ النِّكَاحُ عِنْدَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ.

(الْمَسْأَلَةُ) الثَّانِيَةُ: (نَكَحَ) مُعْتَدَّةَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ بَاقِيَةً عِنْدَ الْإِسْلَامِ، انْدَفَعَ النِّكَاحُ، وَإِلَّا اسْتَمَرَّ. وَخَصَّ صَاحِبُ «الرَّقْمِ» هَذَا التَّفْصِيلَ بِعِدَّةِ النِّكَاحِ، قَالَ: وَفِي عِدَّةِ الشُّبْهَةِ يُقَرَّانِ وَإِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَمْنَعُ دَوَامَ النِّكَاحِ مَعَ عِدَّةِ الشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِهَذَا الْفَرْقِ، وَأَطْلَقُوا اعْتِبَارَ التَّقْرِيرِ بِالِابْتِدَاءِ. وَلَوْ كَانَ نَكَحَهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا مُدَّةً مُقَدَّرَةً، فَإِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً عِنْدَ الْإِسْلَامِ، انْدَفَعَ النِّكَاحُ، وَإِلَّا، اسْتَمَرَّ كَالْعِدَّةِ، وَسَوَاءٌ قَارَنَ بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ أَمْ مُدَّةَ الْخِيَارِ إِسْلَامُهُمَا أَوْ إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَالْعِدَّةُ أَوِ الْمُدَّةُ بَاقِيَةٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْآخَرُ وَقَدِ انْقَضَتْ، فَلَا تَقْرِيرَ، كَذَا قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَالْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ، لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لَاقَى إِسْلَامَ أَحَدِهِمَا فَغَلَبَ الْفَسَادُ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّ الْمُؤَثِّرَ اقْتِرَانُهُ بِإِسْلَامِهِمَا، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ، لَمْ يَنْدَفِعِ النِّكَاحُ، لِأَنَّ وَقْتَ الْإِمْسَاكِ وَالِاخْتِيَارِ هُوَ حَالُ اجْتِمَاعِهِمَا مُسْلِمِينَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ، إِنِ اعْتَقَدُوهُ مُؤَبَّدًا، أُقِرُّوا عَلَيْهِ. وَإِنِ اعْتَقَدُوهُ مُؤَقَّتًا، لَمْ يُقَرُّوا، سَوَاءٌ أَسْلَمَا بَعْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ أَوْ قَبْلَهَا، لِأَنَّ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَا نِكَاحَ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَقَبْلَهَا يَعْتَقِدُونَهُ مُؤَقَّتًا، وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: غَصَبَ حَرْبِيٌّ أَوْ مُسْتَأْمَنٌ امْرَأَةً وَاتَّخَذَهَا زَوْجَةً وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ غَصْبَهَا نِكَاحًا، قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يُقَرُّ، إِذْ لَا عَقْدَ. وَالصَّحِيحُ التَّقْرِيرُ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِقَامَةُ الْفِعْلِ مَقَامَ الْقَوْلِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ وُجُوهِ الْفَسَادِ. وَلَوْ غَصَبَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً، لَمْ يُقَرَّ، لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ دَفْعَ قَهْرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ. فَرْعٌ إِذَا أَسْلَمَا، لَمْ يُبْحَثْ عَنْ شَرْطِ نِكَاحِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُ أَسْلَمَ خَلَائِقُ فَلَمْ

فصل

يَسْأَلْهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شُرُوطِ أَنْكِحَتِهِمْ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا. وَأَمَّا فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، فَالْوَجْهُ: الِاحْتِيَاطُ. فَصْلٌ قَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَا إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَقْدِ الْجَارِي فِي الشِّرْكِ وَلَا بِالْإِسْلَامِ مُفْسِدٌ، وَمَا إِذَا اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ مُفْسِدٌ، وَهَذَا الْفَصْلُ لِقِسْمٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِالْعَقْدِ، لَكِنْ يَطْرَأُ مُفْسِدٌ وَيَقْتَرِنُ بِالْإِسْلَامِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ بَنَاهَا جَمَاعَةٌ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ وَالْإِمْسَاكَ كَابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، أَمْ كَاسْتِدَامَتِهِ؟ قَالُوا: وَفِيهِ قَوْلَانِ مُسْتَنْبَطَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ الْأَوَّلُ. إِحْدَى الْمَسَائِلِ: إِذَا أَسْلَمَ، وَوُطِئَتْ زَوْجَتُهُ بِشُبْهَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، أَوْ أَسْلَمَتْ ثُمَّ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، اسْتَمَرَّ نِكَاحُهُمَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ، لِأَنَّ عِدَّةَ الشُّبْهَةِ لَا تَقْطَعُ نِكَاحَ الْمُسْلِمِ، فَذَا أَوْلَى. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: أَسْلَمَ وَأَحْرَمَ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَعَنِ النَّصِّ جَوَازُ إِمْسَاكِهَا فِي الْإِحْرَامِ، وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ ثُمَّ أَسْلَمْنَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، لَهُ اخْتِيَارُ (أَرْبَعٍ) مِنْهُنَّ، وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَمَةٌ وَهُوَ مُوسِرٌ، لَا يَجُوزُ إِمْسَاكُهَا، وَهَؤُلَاءِ حَمَلُوا النَّصَّ عَلَى مَا إِذَا أَسْلَمَا مَعًا ثُمَّ أَحْرَمَ الزَّوْجُ، فَلَهُ الِاخْتِيَارُ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا التَّأْوِيلُ، الْأَنْمَاطِيُّ، وَابْنُ سَلَمَةَ. وَعَنِ الْقَفَّالِ إِنْكَارُ هَذَا النَّصِّ، وَقَالَ: تَفَحَّصْتُ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ، فَلَمْ أَجِدْهُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ.

وَأَظْهَرُهُمَا وَمُخْتَارُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ: الْأَخْذُ بِظَاهِرِ النَّصِّ، لِأَنَّ عُرُوضَ الْإِحْرَامِ لَا يُؤَثِّرُ كَمَا فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ اسْتِدَامَةٌ، فَأَشْبَهَ الرَّجْعَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَكَحَ فِي الْكُفْرِ حُرَّةً وَأَمَةً، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتَا مَعَهُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْحُرَّةَ تَتَعَيَّنُ لِلنِّكَاحِ، وَيَنْدَفِعُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَسَوَاءٌ نَكَحَهُمَا مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا، وَتَنْدَفِعُ الْأَمَةُ أَيْضًا بِالْيَسَارِ الْمُقَارِنِ لِلْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: فِي انْدِفَاعِهَا فِي الصُّورَتَيْنِ قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ. وَالْحَاصِلُ لِلْفَتْوَى، أَنَّهُ مَتَى أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَمَةٌ وَأَسْلَمَتْ مَعَهُ، أَوْ جَمَعَهُمَا الْإِسْلَامُ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ لِيَسَارٍ أَوْ أَمْنِ الْعَنَتِ، انْدَفَعَ نِكَاحُهَا. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: أَسْلَمَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ وَارْتَدَّتْ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمِ الزَّوْجُ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، بَانَتْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ أَوَّلًا، وَتَكُونُ الْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، سَقَطَ حُكْمُ تِلْكَ الْعِدَّةِ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَنَتَوَقَّفُ. فَإِنْ عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهَا، اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ، وَإِلَّا، انْقَطَعَ مِنْ يَوْمِ الرِّدَّةِ، وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَارْتَدَّ، إِنْ لَمْ تُسْلِمِ الْمَرْأَةُ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِ، بَانَتْ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ، تَوَقَّفْنَا، فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهِ، اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ، وَإِلَّا، حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ مِنْ يَوْمِئِذٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَحَكَى الْقَفَّالُ عَنِ النَّصِّ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ النِّكَاحُ فِي إِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَارْتِدَادِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ، وَالْمَشْهُورُ التَّوَقُّفُ. وَعَلَى هَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: الرِّدَّةُ يَفْتَرِقُ فِيهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ نِكَاحِ الْمُرْتَدِّ بَاطِلٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ عَلَى التَّوَقُّفِ، وَفِي الدَّوَامِ تَوَقَّفْنَا، فَالْتَحَقَتِ الرِّدَّةُ بِالْعِدَّةِ لِلشُّبْهَةِ وَالْإِحْرَامِ. وَإِنَّمَا قِيلَ بِالتَّوَقُّفِ فِي الرِّدَّةِ، وَلَمْ نُجَوِّزِ الِاخْتِيَارَ فِيهَا بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ وَالْعِدَّةِ، لِأَنَّ مُنَافَاةَ الرِّدَّةِ لِلنِّكَاحِ أَشَدُّ، فَإِنَّهَا تَقْطَعُهُ، بِخِلَافِهِمَا، وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الرَّجْعَةُ فِي الرِّدَّةِ، وَتَجُوزُ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ

النِّسْوَةُ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ فِي الرِّدَّةِ. فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي الْعِدَّةِ، فَلَهُ الِاخْتِيَارُ حِينَئِذٍ. فَرْعٌ قَدْ بَانَ بِمَا ذَكَرْنَا، أَنَّ الْقَاطِعَ لِلنِّكَاحِ عِنْدَ الْإِسْلَامِ، مِنْهُ مَا يَكُونُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَاسْتَمَرَّ كَالْعِدَّةِ، وَمِنْهُ مَا يَطْرَأُ كَمَا لَوْ نَكَحَ حُرَّةً عَلَى أَمَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ نَكَحَ أَمَةً ثُمَّ أَيْسَرَ وَأَسْلَمَ مُوسِرًا. ثُمَّ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِانْقِطَاعِ أَنْ يُقَارِنَ الْمُفْسِدُ إِسْلَامَهُمَا، أَوْ يَكْفِي اقْتِرَانُهُ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَالْأَصَحُّ الِاكْتِفَاءُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ وَمَعَهُ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ، انْدَفَعَتِ الْأَمَةُ، وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ الْمَدْخُولُ بِهَا مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَتِ الْأَمَةُ. وَلَوْ أَصَرَّتِ الْأَمَةُ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، انْدَفَعَتْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ. وَلَوْ مَاتَتِ الْحُرَّةُ بَعْدَ إِسْلَامِهَا، أَوِ ارْتَدَّتْ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الْأَمَةُ، انْدَفَعَتِ الْأَمَةُ أَيْضًا، وَكَفَى اقْتِرَانُ إِسْلَامِ الْحُرَّةِ بِإِسْلَامِهِ. وَلَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَمَةٌ وَهُوَ مُوسِرٌ، ثُمَّ تَلِفَ مَالُهُ وَأَسْلَمَتْ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَلَهُ إِمْسَاكُهَا، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الْيَسَارُ فِي الدَّفْعِ إِذَا قَارَنَ إِسْلَامَهُمَا جَمِيعًا. وَقِيلَ: يَكْفِي اقْتِرَانُ الْيَسَارِ بِإِسْلَامِهِ، حُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي يَحْيَى الْبَلْخِيِّ، قَالَ: وَعَكْسُهُ لَوْ أَسْلَمَ مُعْسِرًا ثُمَّ أَسْلَمَتْ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَلَهُ إِمْسَاكُهَا نَظَرًا إِلَى وَقْتِ إِسْلَامِهِ. وَعَنِ ابْنِ خَيْرَانَ: فِي الْيَسَارِ الزَّائِلِ قَوْلَانِ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ: أَنَّ فِي صُورَةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ لَهُ إِمْسَاكَ الْأَمَةِ، فَحَصَلَ خِلَافٌ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ فِي صُورَةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ انْدِفَاعُ الْأَمَةِ وَإِنْ مَاتَتِ الْحُرَّةُ. وَفِي صُورَةِ زَوَالِ الْيَسَارِ عَدَمُ انْدِفَاعِهَا، وَاعْتِبَارُ اقْتِرَانِهِ بِإِسْلَامِهِمَا، لِأَنَّ وَقْتَ الِاجْتِمَاعِ هُوَ وَقْتُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ.

فصل

فَصْلٌ فِي الْأَنْكِحَةِ الْجَارِيَةِ فِي الشِّرْكِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، كَذَا نَقَلَهَا الْأَكْثَرُونَ، وَسَمَّاهَا الْغَزَالِيُّ أَقْوَالًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَحْكُومٌ بِصِحَّتِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) [اللَّهَبِ: 4] (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ) [الْقَصَصِ: 9] وَلِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا لَمْ نُبْطِلْهُ قَطْعًا، وَلَمْ نُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا أَسْلَمُوا أَقْرَرْنَاهُمْ، وَالْفَاسِدُ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا وَلَا يُقَرَّرُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا فَاسِدَةٌ، لِعَدَمِ مُرَاعَاتِهِمُ الشُّرُوطَ، لَكِنْ لَا نُفَرِّقُ لَوْ تَرَافَعُوا، رِعَايَةً لِلْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ، وَنُقِرُّهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ تَخْفِيفًا. وَالثَّالِثُ: لَا نَحْكُمُ بِصِحَّةٍ وَلَا فَسَادٍ، بَلْ نَتَوَقَّفُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَمَا قُرِّرَ عَلَيْهِ، بَانَتْ صِحَّتُهُ، وَمَا لَا، فَفَسَادُهُ. وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَطَعَ بِالصِّحَّةِ. وَإِذَا ثَبَتَ الْخِلَافُ، فَهَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْعُقُودِ الَّتِي يُحْكَمُ بِفَسَادِ مِثْلِهَا فِي الْإِسْلَامِ؟ أَمْ يَجْرِي فِي كُلِّ عُقُودِهِمْ؟ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِ: التَّخْصِيصُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: مَنْ يَحْكُمُ بِفَسَادِ أَنْكِحَتِهِمْ، يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا عَقَدُوهُ بِشُرُوطِنَا وَغَيْرِهِ. وَالْمَصِيرُ إِلَى بُطْلَانِ نِكَاحٍ يُعْقَدُ عَلَى وَفْقِ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا، مَذْهَبٌ لَا يَعْتَقِدُهُ ذُو حَاصِلٍ. قُلْتُ: الصَّوَابُ التَّخْصِيصُ، بَلْ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِطَرْدِهِ فِي الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ إِثْبَاتُ نَقْلِ طَرْدِهِ، وَإِنَّمَا أَلْزَمَهُ إِلْزَامًا لَهُمُ الِانْفِصَالُ عَنْهُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ إِخْلَالُهُمْ بِالشُّرُوطِ، فَإِنْ تُصُوِّرَ عِلْمُنَا بِاجْتِمَاعِهَا، حَكَمْنَا بِالصِّحَّةِ قَطْعًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَيُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ مَسْأَلَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: طَلَّقَ كَافِرٌ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَسْلَمَا. فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ وَهُوَ صِحَّةُ

أَنْكِحَتِهِمْ، لَا تَحِلُّ إِلَّا بِمُحَلِّلٍ، وَهَذَا هُوَ نَصُّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْفَسَادِ، فَالطَّلَاقُ فِي الْفَاسِدِ لَا يُحْوِجُ إِلَى مُحَلِّلٍ، فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَنَكَحَتْ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ زَوْجًا فِي الشِّرْكِ، وَوَطِئَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، حَلَّتْ، وَكَذَا يَحْصُلُ التَّحْلِيلُ لِلْمُسْلِمِ بِنِكَاحِ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ كِتَابِيَّةً طَلَّقَهَا الْمُسْلِمُ ثَلَاثًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّتِي يُقَرَّرُ نِكَاحُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، لَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ صَحِيحًا. فَإِنْ كَانَ خَمْرًا وَنَحْوَهَا، فَسَيَأْتِي حُكْمُ مُهُورِهِمُ الْفَاسِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَنِ انْدَفَعَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا، وَصَحَّحْنَا أَنْكِحَتَهُمْ، فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ صَحِيحًا. وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، فَنِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا، وَجَبَ الْمُتْعَةُ. وَمَنِ انْدَفَعَتْ بِإِسْلَامِهَا، فَلَا شَيْءَ لَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. ثَانِيهِمَا: وُجُوبُ نِصْفِ الْمَهْرِ، لِأَنَّهَا مُحْسِنَةٌ بِالْإِسْلَامِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ يَنْسُبُ الْفِرَاقَ إِلَى تَخَلُّفِهِ. وَإِنْ أَفْسَدْنَا أَنْكِحَتَهُمْ، فَلَا مَهْرَ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ فِي الْفَاسِدِ بِلَا دُخُولٍ. وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَصَحَّحْنَا أَنْكِحَتَهُمْ، وَجَبَ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ صَحِيحًا. وَإِنْ أَفْسَدْنَاهَا، فَمَهْرُ الْمِثْلِ. ثُمَّ عَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّ مِنْ صِوَرِ الِانْدِفَاعِ مَنْ نَكَحَ مُحَرَّمًا لَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَجَعَلَ وُجُوبَ نِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى الْخِلَافِ. وَرَأَى الْإِمَامُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْمَحْرَمِ مِنَ الْمَهْرِ. قَالَ: وَلَا نَقُولُ: انْعَقَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا ثُمَّ انْفَسَخَ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأُخْتِ الْمُفَارَقَةِ مِنَ الْأُخْتَيْنِ وَفِي الزَّائِدَاتِ عَلَى أَرْبَعٍ. وَالْمُوَافِقُ لِإِطْلَاقِ غَيْرِ الْإِمَامِ مُوَافَقَةُ الْقَفَّالِ. فَرْعٌ نَكَحَ مُشْرِكٌ أُخْتَيْنِ، فَطَلَّقَهُمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنْ صَحَّحْنَا أَنْكِحَتَهُمْ، نَفَذَ الطَّلَاقُ فِيهِمَا، وَلَمْ يَنْكِحْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا إِلَّا بِمُحَلِّلٍ. وَإِنْ

فصل

أَفْسَدْنَاهَا، فَلَا نِكَاحَ وَلَا طَلَاقَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى مُحَلِّلٍ فِيهِمَا. وَإِنْ تَوَقَّفْنَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَلَاقٌ، لَاخْتَارَ إِحْدَاهُمَا وَبَانَ بِذَلِكَ صِحَّةُ نِكَاحِهَا وَفَسَادُ نِكَاحِ الْأُخْرَى، فَإِذَا طَلَّقَهُمَا، أُمِرَ بِالِاخْتِيَارِ لِيَنْفُذَ الطَّلَاقُ فِي الْمَنْكُوحَةِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مُحَلِّلٍ لَهَا دُونَ الْأُخْرَى. وَلَوْ أَسْلَمَ مَعَ أُخْتَيْنِ، ثُمَّ طَلَّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا، فَهُنَا يَتَخَيَّرُ قَطْعًا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَسْلَمُوا انْدَفَعَ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ الطَّلَاقُ فِي الْمَنْكُوحَةِ. وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَهُمَا، أَوْ أَسْلَمَتَا قَبْلَهُ، تَخَيَّرَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يُمْسِكُ إِلَّا إِحْدَاهُمَا، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأُخْرَى مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ مِنْهُمْ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ، فَطَلَّقَهُنَّ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَعَلَى الصَّحِيحِ يَنْفُذُ الطَّلَاقُ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ، وَعَلَى التَّوَقُّفِ، يَخْتَارُ أَرْبَعًا فَيَنْفُذَ فِيهِنَّ دُونَ الْبَاقِيَاتِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ، فَطَلَّقَهُمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَسْلَمُوا، لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ إِلَّا بِمُحَلِّلٍ. وَلَوْ أَسْلَمُوا، ثُمَّ طَلَّقَهُمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الْحُرَّةِ، لِأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ، وَتَنْدَفِعُ الْأَمَةُ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مُحَلِّلٍ. وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَتَا ثُمَّ طَلَّقَهُمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ أَسْلَمَ فَطَلَّقَهُمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ أَسْلَمَتَا، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَمَّا جَمَعَ الْجَمِيعَ، بَانَ انْدِفَاعُ الْأَمَةِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ مِنْهُمْ. فَصْلٌ أَصْدَقَ فَاسِدًا كَخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا بَعْدَ قَبْضِهِ، فَلَا شَيْءَ. وَإِنْ أَسْلَمَا قَبْلَ قَبْضِهِ، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَفِي قَوْلٍ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ قَبَضَتْهُ. وَفِي قَوْلٍ: لَا شَيْءَ وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْفَرْقُ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسَمَّى خَمْرًا مُعَيَّنَةً أَوْ فِي الذِّمَّةِ. وَلَوْ أَصْدَقَهَا حُرًّا مُسْلِمًا اسْتَرَقُّوهُ، ثُمَّ أَسْلَمَا قَبْلَ قَبْضِهِ

أَوْ بَعْدَهُ، لَمْ نُقِرُّهُ فِي يَدِهَا، بَلْ نُبْطِلُ مَا جَرَى، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. هَكَذَا ذَكَرُوهُ، وَقِيَاسُ مَا سَبَقَ، أَنْ يُخْرَجَ مِنْ يَدِهَا، وَلَا تَرْجِعَ بِشَيْءٍ، كَمَا تُرَاقُ الْخَمْرَةُ الْمَقْبُوضَةُ. وَلَوْ قَبَضَتْ بَعْضَ الْفَاسِدِ، ثُمَّ أَسْلَمَا، وَجَبَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِقِسْطِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَلَا يَجُوزُ تَسْلِيمُ الْبَاقِي مِنَ الْفَاسِدِ. وَطَرِيقُ التَّقْسِيطِ، أَنْ يَنْظُرَ، فَإِنْ سَمَّيَا جِنْسًا وَاحِدًا وَلَيْسَ فِيهِ تَعَدُّدٌ، كَزِقِّ خَمْرٍ قُبِضَتْ نِصْفُهُ ثُمَّ أَسْلَمَا، وَجَبَ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُسَمَّى كَزِقَّيْ خَمْرٍ، قَبَضَتْ أَحَدَهُمَا. فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْقَدْرِ، فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا، فَهَلْ يُعْتَبَرُ الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ أَوِ الْعَدَدُ؟ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ. وَإِنْ أَصْدَقَهَا خِنْزِيرَيْنِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ أَمْ قِيمَتُهُمَا بِتَقْدِيرِ مَالِيَّتِهِمَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهَا: الثَّانِي. وَإِنْ سَمَّيَا جِنْسَيْنِ فَأَكْثَرَ، كَزِقَّيْ خَمْرٍ وَكَلْبَيْنِ وَثَلَاثَةِ خَنَازِيرَ، وَقَبَضَتْ إِحْدَى الْأَجْنَاسِ، فَهَلْ يَنْظُرُ إِلَى الْأَجْنَاسِ، فَكُلُّ جِنْسٍ بِثُلُثٍ، أَمْ إِلَى الْأَعْدَادِ، فَكُلُّ فَرْدٍ سَبْعٍ، أَمْ إِلَى الْقِيمَةِ بِتَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ؟ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهُمَا: الثَّالِثُ. وَحَيْثُ اعْتَبَرْنَا تَقْوِيمَهَا، فَهَلْ طَرِيقُهُ أَنْ تُقَدَّرَ الْخَمْرُ خَلًّا، وَالْكَلْبُ شَاةً، وَالْخِنْزِيرُ بَقَرَةً، أَمِ الْكَلْبُ فَهْدًا، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاصْطِيَادِ، وَالْخِنْزِيرُ حَيَوَانًا يُقَارِبُهُ فِي الصُّورَةِ وَالْفَائِدَةِ، أَمْ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ لَهَا قِيمَةً كَتَقْدِيرِ الْحُرِّ عَبْدًا فِي الْحُكُومَةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ. وَلَوْ تَرَابَى كَافِرَانِ، فَبَاعَهُ أَوْ أَقْرَضَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا قَبْلَهُ، فَإِنْ جَرَى تَقَابُضٌ، لَمْ نَتَعَرَّضْ لِمَا جَرَى وَلَمْ يَلْزَمِ الرَّدُّ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ، أَبْطَلْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ قَبْضِ الدِّرْهَمَيْنِ، سَأَلْنَا الْمُؤَدِّيَ، أَقَصَدَ أَدَاءَهُ عَنِ الرِّبْحِ، أَمْ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَهُ فِي أَوَاخِرِ «كِتَابِ الرَّهْنِ» . وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ إِذَا تَقَابَضَا بِتَرَاضٍ، فَإِنْ أَجْبَرَهُمْ قَاضِيهِمْ عَلَى الْقَبْضِ فِي الرِّبَا وَالصَّدَاقِ وَثَمَنِ خَمْرٍ تَبَايَعُوهَا ثُمَّ أَسْلَمُوا، لَمْ نُوجِبِ الرَّدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَإِنْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا فِي كُفْرِهِمْ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَيُقَالُ: الْأَصَحُّ.

فصل

فَرْعٌ نَكَحَهَا مُفَوَّضَةً، وَيَعْتَقِدُونَ أَنْ لَا مَهْرَ لِلْمُفَوَّضَةِ بِحَالٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَلَا مَهْرَ وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ وَطْئًا بِلَا مَهْرٍ. فَصْلٌ إِذَا تَرَافَعَ إِلَيْنَا ذِمِّيَّانِ فِي نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ كَانَا مُتَّفِقَيِ الْمِلَّةِ، وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) [الْمَائِدَةِ: 49] وَلِأَنَّهُ يَجِبُ الذَّبُّ عَنْهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ، لَكِنْ لَا نَتْرُكُهُمْ عَلَى النِّزَاعِ، بَلْ نَحْكُمُ أَوْ نَرُدُّهُمْ إِلَى حَاكِمِ مِلَّتِهِمْ، وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقَوْلَانِ فِي غَيْرِهَا لِئَلَّا تَضِيعَ، وَقِيلَ: عَكْسُهُ، وَالْأَصَحُّ طَرْدُهُمَا فِي الْجَمِيعِ. وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيِ الْمِلَّةِ، كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ، وَجَبَ الْحُكْمُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ كُلًّا لَا يَرْضَى بِمِلَّةِ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ بِالْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ تَرَافَعَ مُعَاهَدَانِ، لَمْ يَجِبِ الْحُكْمُ قَطْعًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ مِلَّتُهُمَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَنَا، وَلَمْ نَلْتَزِمْ دَفْعَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ: هُمَا كَالذِّمِّيِّينَ. وَقِيلَ: إِنِ اخْتَلَفَ مِلَّتُهُمَا، وَجَبَ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ تَرَافَعَ ذِمِّيٌّ وَمُعَاهَدٌ، فَكَالذِّمِّيِّينَ. وَقِيلَ: يَجِبُ قَطْعًا. وَإِنْ تَرَافَعَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ أَوْ مُعَاهَدٌ، وَجَبَ قَطْعًا. فَرْعٌ قَالَ الْأَصْحَابُ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ: إِنْ قُلْنَا: وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْكَافِرِينَ،

فَاسْتَعْدَى خَصْمٌ عَلَى خَصْمٍ، وَجَبَ إِعْدَاؤُهُ وَإِحْضَارُ خَصْمِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، وَلَزِمَ الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ الْحُضُورُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ الْحُكْمُ، لَمْ يَجِبِ الْإِعْدَاءُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْحُضُورُ، وَلَا يَحْضُرُ قَهْرًا. قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَوْ أَقَرَّ ذِمِّيٌّ بِالزِّنَا، أَوْ سَرِقَةِ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، حُدَّ قَهْرًا إِنْ أَوْجَبْنَا الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ، وَإِلَّا، فَلَا يُحَدُّ إِلَّا بِرِضَاهُ، فَاعْتَبَرَ الْأَصْحَابُ الرِّضَى عَلَى قَوْلِ عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ عَلَى قَوْلِ الْوُجُوبِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: لَا يَجِبُ الْحُكْمُ إِلَّا إِذَا رَضِيَا جَمِيعًا، فَمَرْدُودٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. فَرْعٌ سَوَاءٌ أَوْجَبْنَا الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ، أَمْ لَا، إِنَّمَا نَحْكُمُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَإِذَا تَحَاكَمُوا فِي أَنْكِحَتِهِمْ، فَنُقِرُّ مَا نُقِرُّهُ لَوْ أَسْلَمُوا، وَنُبْطِلُ مَا لَا نُقِرُّهُ لَوْ أَسْلَمُوا. فَإِذَا نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ وَشُهُودٍ، أَوْ ثَيِّبًا بِلَا إِذْنِهَا أَوْ مُعْتَدَّةً مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ عِنْدَ التَّرَافُعِ وَتَرَافَعَا، حَكَمْنَا بِالتَّقْرِيرِ وَالنَّفَقَةِ. فَلَوْ كَانَتْ بَعْدُ فِي الْعِدَّةِ، أَبْطَلْنَاهُ وَلَمْ نُوجِبْ نَفَقَةً. وَلَوْ نَكَحَ مَجُوسِيٌّ مَحْرَمًا، وَتَرَافَعَا فِي النَّفَقَةِ، أَبْطَلْنَاهُ وَلَا نَفَقَةَ. وَلَوْ طَلَبَتْ مَجُوسِيَّةٌ النَّفَقَةَ مِنَ الزَّوْجِ الْمَجُوسِيِّ أَوِ الْيَهُودِيِّ، فَوَجْهَانِ، وَكَذَا فِي تَقْرِيرِهِمَا عَلَى النِّكَاحِ. أَصَحُّهُمَا: التَّقْرِيرُ وَالْحُكْمُ بِالنَّفَقَةِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَا وَالْتَزَمَا الْأَحْكَامَ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا فِي الْإِسْلَامِ. وَلَوْ جَاءَ كَافِرٌ تَحْتَهُ أُخْتَانِ، وَطَلَبُوا فَرْضَ النَّفَقَةِ، قَالَ الْإِمَامُ: فِيهِ تَرَدُّدٌ، لِأَنَّا نَحْكُمُ بِصِحَّةِ نِكَاحِهِمَا، وَإِنَّمَا تَنْدَفِعُ إِحْدَاهُمَا بِالْإِسْلَامِ. قَالَ: وَالَّذِي أَدَّى الْقَطْعَ بِهِ الْمَنْعُ، لِقِيَامِ الْمَانِعِ، وَحَيْثُ لَا نُقَرِّرُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَهَلْ يُعْرِضُ الْقَاضِي الْمَرْفُوعُ إِلَيْهِ عَنْهُمَا، أَمْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: الْإِعْرَاضُ، وَإِنَّمَا يُفَرِّقُ إِذَا رَضُوا بِحُكْمِنَا. وَوَجْهُ التَّفْرِيقِ، أَنَّهُمْ بِالتَّرَافُعِ أَظْهَرُوا مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ، كَمَا لَوْ أَظْهَرُوا الْخَمْرَ.

فَرْعٌ إِذَا الْتَمَسُوا مِنْ حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ ابْتِدَاءَ نِكَاحٍ، أَجَابَ إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةً وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ كَافِرٌ، وَلَا يُزَوِّجُ إِلَّا بِشُهُودٍ مُسْلِمِينَ. فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ لَمْ يَتَرَافَعْ إِلَيْنَا الْمَجُوسُ، لَكِنْ عَلِمْنَا فِيهِمْ مَنْ نَكَحَ مَحْرَمًا، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ. وَحَكَى الزُّبَيْرِيُّ قَوْلًا، أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ، فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ عَرَفَ أَنَّ الْمَجُوسِيَّ نَكَحَ مُسْلِمَةً أَوْ مُرْتَدَّةً. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِيمَا إِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَدَدٌ مِنَ النِّسْوَةِ، لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُنَّ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ صُوَرٌ. الصُّورَةُ الْأُولَى: أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ أَوْ تَخَلَّفْنَ وَهُنَّ كِتَابِيَّاتٌ، اخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ، وَانْدَفَعَ فِي نِكَاحِ الْبَاقِيَاتِ. وَإِنْ كُنَّ مَجُوسِيَّاتٍ أَوْ وَثَنِيَّاتٍ وَهُنَّ مَدْخُولٌ بِهِنَّ، فَتَخَلَّفْنَ ثُمَّ أَسْلَمْنَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ نَكَحَهُنَّ مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا. وَإِذَا نَكَحَهُنَّ مُرَتَّبًا، فَلَهُ إِمْسَاكُ الْأُخْرَيَاتِ وَمُفَارَقَةُ الْأُولَيَاتِ. وَإِذَا أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ وَهُنَّ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهِنَّ، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ أَرْبَعٌ، تَقَرَّرَ نِكَاحُهُنَّ، وَارْتَفَعَ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ. وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ، فَاجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ أَرْبَعٍ فَقَطْ فِي الْعِدَّةِ، تَعَيَّنَّ لِلنِّكَاحِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ أَرْبَعٌ مِنْ ثَمَانٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، أَوْ مِتْنَ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَأَسْلَمَتِ الْبَاقِيَاتُ فِي عِدَّتِهِنَّ، تَعَيَّنَتِ الْأُخْرَيَاتُ. وَلَوْ أَسْلَمَ أَرْبَعٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ، وَتَخَلَّفَتِ الْبَاقِيَاتُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ،

أَوْ مِتْنَ عَلَى الشِّرْكِ، تَعَيَّنَتِ الْأُولَيَاتُ. وَلَوْ أَسْلَمَ أَرْبَعٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْبَاقِيَاتُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ، اخْتَارَ أَرْبَعًا مِنَ الْأُولَيَاتِ وَالْأُخْرَيَاتِ كَيْفَ شَاءَ. فَإِنْ مَاتَتِ الْأُولَيَاتُ أَوْ بَعْضُهُنَّ، جَازَ لَهُ اخْتِيَارُ الْمَيِّتَاتِ، وَيَرِثُ مِنْهُمْ. فَرْعٌ قَبِلَ كَافِرٌ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ نِكَاحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ، انْدَفَعَ نِكَاحُ الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ، لَكِنْ لَا يَخْتَارُ الصَّبِيُّ وَلَا الْوَلِيُّ، لِأَنَّهُ خِيَارُ شَهْوَةٍ، فَيُوقَفُ حَتَّى يَبْلُغَ، وَنَفَقَتُهُنَّ فِي مَالِ الصَّبِيِّ لِحَبْسِهِنَّ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ وَجُنَّ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُمٌّ وَبِنْتُهَا، نَكَحَهُمَا مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا وَأَسْلَمَتَا، أَوْ لَمْ تُسْلِمَا وَهُمَا كِتَابِيَّتَانِ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِمَا، حَرُمَتَا أَبَدًا. وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مُسَمَّاهَا إِنْ جَرَتْ تَسْمِيَةٌ صَحِيحَةٌ، وَإِلَّا، فَمَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَهَلْ تَتَعَيَّنُ الْبِنْتُ لِلنِّكَاحِ وَيَنْدَفِعُ نِكَاحُ الْأُمِّ، أَمْ يَتَخَيَّرُ إِحْدَاهُمَا؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الْأَوَّلُ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى صِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ. إِنْ صَحَّحْنَاهَا، تَعَيَّنَتِ الْبِنْتُ، وَحَرُمَتِ الْأُمُّ أَبَدًا، وَإِلَّا، تَخَيَّرَ. فَإِنِ اخْتَارَ الْبِنْتَ، حَرُمَتِ الْأُمُّ أَبَدًا. وَإِنِ اخْتَارَ الْأُمَّ، انْدَفَعَتِ الْبِنْتُ، لَكِنْ لَا تَحْرُمُ مُؤَبَّدًا إِلَّا بِالدُّخُولِ بِأُمِّهَا. وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: إِنْ خَيَّرْنَاهُ، فَلِلْمُفَارَقَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ دَفَعَ نِكَاحَهَا بِإِمْسَاكِ الْأُخْرَى. وَإِنْ قُلْنَا: تَتَعَيَّنُ الْبِنْتُ، فَلَا مَهْرَ لِلْأُمِّ، لِانْدِفَاعِ نِكَاحِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ: الْحُكْمُ بِالْعَكْسِ، إِنْ خَيَّرْنَاهُ، فَلَا مَهْرَ لِلْمُفَارَقَةِ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يُبْنَى عَلَى فَسَادِ نِكَاحِهِمْ، فَالْمُفَارَقَةُ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْكِحْهَا، حَتَّى جَوَّزَ الْأَصْحَابُ

لِابْنِهِ وَأَبِيهِ نِكَاحَهَا تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نِكَاحٌ، فَلَا مَهْرَ. وَإِنْ عَيَّنَّا الْبِنْتَ، فَلِلْأُمِّ نِصْفُ الْمَهْرِ، لِصِحَّةِ نِكَاحِهَا وَانْدِفَاعِهِ بِالْإِسْلَامِ. وَمَالَ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّهُ لَا مَهْرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ صَحَّ نِكَاحُ الْبِنْتِ، فَتَصِيرُ الْأُمُّ مَحْرَمًا، وَإِيجَابُ الْمَهْرِ لِلْمَحْرَمِ بَعِيدٌ، وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُ هَذَا. وَإِنْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ فَقَطْ، ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَحَرُمَتِ الْأُمُّ أَبَدًا، وَلَا مَهْرَ لَهَا عِنْدَ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَلَهَا نِصْفُهُ عِنْدَ الْقَفَّالِ إِنْ صَحَّحْنَا أَنْكِحَتَهُمْ. وَإِنْ دَخَلَ بِالْأُمِّ فَقَطْ، حَرُمَتِ الْبِنْتُ أَبَدًا. وَهَلْ لَهُ إِمْسَاكُ الْأُمِّ؟ يُبْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ. إِنْ خَيَّرْنَاهُ، أَمْسَكَهَا، وَإِلَّا، فَلَا، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ. (الصُّورَةُ) الثَّالِثَةُ: سَبَقَ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَمَةٌ، وَأَسْلَمَتْ مَعَهُ، فَلَهُ إِمْسَاكُهَا إِنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِلَّا، فَلَا. فَلَوْ تَخَلَّفَتْ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، تَنَجَّزَتِ الْفُرْقَةُ كِتَابِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْكِحُ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَجَمَعَتِ الْعِدَّةُ إِسْلَامَهُمَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً، وَعَتَقَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَلَهُ إِمْسَاكُهَا. وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ، وَلَا عَتَقَتْ، أَوْ كَانَتْ وَثَنِيَّةً وَلَمْ تُسْلِمْ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، تَبَيَّنَّا انْدِفَاعَ النِّكَاحِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِ. وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ إِمَاءٌ، فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، اخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ إِنْ كَانَ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الْأَمَةُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ، وَإِلَّا، فَيَنْدَفِعُ نِكَاحُهُنَّ، سَوَاءٌ سَبَقَ إِسْلَامُهُ أَوْ سَبَقْنَهُ. وَلَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَلَاثٌ، فَأَسْلَمَتْ مَعَهُ وَاحِدَةٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ خَائِفٌ مِنَ الْعَنَتِ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الثَّانِيَةُ فِي عِدَّتِهَا وَهُوَ مُوسِرٌ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الثَّالِثَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ خَائِفٌ مِنَ الْعَنَتِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّ الْيَسَارَ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي انْدِفَاعِ النِّكَاحِ إِذَا اقْتَرَنَ بِإِسْلَامِهِمَا، انْدَفَعَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، لِفَقْدِ الشَّرْطِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهَا، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُؤَثِّرُ عِنْدَ إِسْلَامِهِ فَقَطْ، لَمْ تَنْدَفِعِ الثَّانِيَةُ، بَلْ تَدْخُلُ فِي التَّخْيِيرِ.

فَرْعٌ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ إِمَاءٌ، وَأَسْلَمَتْ مَعَهُ إِحْدَاهُنَّ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا، وَلَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ الْبَاقِيَاتِ. فَإِنْ أَصْرَرْنَ عَلَى الشِّرْكِ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُنَّ بِنَّ وَقْتَ إِسْلَامِهِ، وَأَنَّ عِدَّتَهُنَّ انْقَضَتْ. وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي الْعِدَّةِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ اخْتَارَ الْمُسْلِمَةَ أَوَّلًا، كَانَتْ بَيْنُونَتُهُنَّ بِاخْتِيَارِهِ إِيَّاهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اخْتَارَهَا، اخْتَارَ إِحْدَاهُنَّ، وَانْدَفَعَ الْبَاقِيَاتُ. وَإِنْ طَلَّقَ الْمُسْلِمَةَ أَوَّلًا، كَانَ الطَّلَاقُ مُتَضَمِّنًا اخْتِيَارَهَا. ثُمَّ إِنْ أَصَرَّ الْبَاقِيَاتُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، بَانَ أَنَّهُنَّ بِنَّ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ. وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي الْعِدَّةِ، بَانَ أَنَّهُنَّ بِنَّ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ. وَإِنْ فَسَخَ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ أَوَّلًا، لَمْ يَنْفُذْ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفْسَخُ الزَّائِدُ، وَلَيْسَ فِي الْحَالِ زِيَادَةٌ، ثُمَّ إِنْ أَصْرَرْنَ، انْدَفَعْنَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلَزِمَ نِكَاحُ الْأُولَى. وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي الْعِدَّةِ، اخْتَارَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْجَمِيعِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ اخْتِيَارُ الْأُولَى، بَلْ نَتَبَيَّنُ نُفُوذَ فَسْخِهِ فِيهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. الرَّابِعَةُ: أَسْلَمَ وَفِي نِكَاحِهِ حُرَّةٌ وَأَرْبَعُ إِمَاءٍ مَثَلًا، وَأَسْلَمْنَ، نُظِرَ، إِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ مَعَهُ، أَوْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا وَأَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، تَعَيَّنَتْ، وَانْدَفَعَ الْإِمَاءُ، سَوَاءٌ أَسْلَمْنَ قَبْلَهُ وَقَبْلَ الْحُرَّةِ أَوْ بَعْدَهُمَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُنَّ، فَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي الْعِدَّةِ، بِنَّ مِنْ وَقْتِ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ وَالْحُرَّةِ، وَعِدَّتُهُنَّ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَبَيْنُونَتُهُنَّ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ. وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ إِسْلَامُ الْحُرَّةِ وَإِسْلَامُهُ فِي الْعِدَّةِ، بِأَنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ، وَأَصَرَّتْ هِيَ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَوْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ أَسْلَمْنَ أَوَّلًا وَتَخَلَّفَ الزَّوْجُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَوْ مَاتَتْ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، فَيَخْتَارُ وَاحِدَةً مِنَ الْإِمَاءِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ،

وَفِي مُدَّةِ تَخَلُّفِ الْحُرَّةِ الْمَدْخُولِ بِهَا، لَا يَخْتَارُ وَاحِدَةً مِنَ الْإِمَاءِ، سَوَاءٌ أَسْلَمْنَ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى يَئِسَ مِنْهَا بِالْمَوْتِ أَوِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. فَإِنِ اخْتَارَ وَاحِدَةً قَبْلَ الْيَأْسِ، ثُمَّ مَاتَتِ الْحُرَّةُ، أَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَهِيَ مُصِرَّةٌ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَجِبُ اخْتِيَارٌ جَدِيدٌ، وَلَا يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عِتْقُ الْإِمَاءِ، فَإِنْ طَرَأَ قَبْلَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ بِأَنْ عَتَقْنَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ، أَوْ أَسْلَمْنَ ثُمَّ عَتَقْنَ ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ أَسْلَمَ وَعَتَقْنَ ثُمَّ أَسْلَمْنَ، الْتَحَقْنَ بِالْحَرَائِرِ الْأَصْلِيَّاتِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ ثُمَّ أَسْلَمَتِ الْإِمَاءُ الْمُتَخَلِّفَاتُ بَعْدَ عِتْقِهِنَّ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى حَرَائِرَ، فَيَخْتَارُ مِنَ الْجَمِيعِ أَرْبَعًا كَيْفَ شَاءَ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَجْهًا فِيمَا إِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ حَرَائِرُ وَإِمَاءٌ، فَعَتَقَ الْإِمَاءُ ثُمَّ أَسْلَمْنَ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا اخْتِيَارُ الْحَرَائِرِ الْأَصْلِيَّاتِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَلَوْ تَخَلَّفَتِ الْحُرَّةُ، وَاجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ وَهُنَّ عَتِيقَاتٌ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَهُنَّ. ثُمَّ إِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ الْمُتَخَلِّفَةُ فِي الْعِدَّةِ، بَانَتْ بِاخْتِيَارِهِ الْأَرْبَعُ. وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ، بَانَتْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ. وَإِنْ أَخَّرَ الِاخْتِيَارَ انْتِظَارًا لِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُتَخَلِّفَةِ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ جَائِزٌ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَأْخِيرِ اخْتِيَارِ الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ نِكَاحُ ثَلَاثٍ مِنْهُنَّ لَا مَحَالَةَ، فَيَخْتَارُ ثَلَاثًا. ثُمَّ إِنْ أَسْلَمَتِ الْمُتَخَلِّفَةُ فِي الْعِدَّةِ، اخْتَارَهَا أَوِ الرَّابِعَةَ مِنَ الْعَتِيقَاتِ. وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ، لَزِمَهُ نِكَاحُ الرَّابِعَةِ مِنَ الْعَتِيقَاتِ. وَلَوْ أَسْلَمَ وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ إِلَّا إِمَاءٌ، وَتَخَلَّفْنَ وَعَتَقْنَ ثُمَّ أَسْلَمْنَ فِي الْعِدَّةِ، اخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا كَالْحَرَائِرِ الْأَصْلِيَّاتِ. وَلَوْ أَسْلَمْنَ مَعَهُ إِلَّا وَاحِدَةً، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الْمُتَخَلِّفَةُ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَمَا عَتَقَتْ، تَعَيَّنَتْ لِلنِّكَاحِ كَالْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ إِمَاءٍ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ ثِنْتَانِ، وَتَخَلَّفَ ثِنْتَانِ، فَعَتَقَتْ وَاحِدَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ وَأَسْلَمَتِ الْمُتَخَلِّفَتَانِ عَلَى الرِّقِّ، انْدَفَعَتَا

فصل

، لِأَنَّ تَحْتَ زَوْجِهِمَا عَتِيقَةً، وَلَا تَنْدَفِعُ الرَّقِيقَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، لِأَنَّ عِتْقَ صَاحِبَتِهَا كَانَ بَعْدَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهَا وَإِسْلَامِ الزَّوْجِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّهَا، فَيَخْتَارُ وَاحِدَةً مِنَ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ إِمَاءٌ، فَأَسْلَمَ الزَّوْجُ مَعَ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ عَتَقَتْ، ثُمَّ عَتَقَ الْبَاقِيَاتُ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ، اخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ، لِالْتِحَاقِهِنَّ بِالْأَصْلِيَّاتِ، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِيَارُ الْأُولَى، لِأَنَّهَا كَانَتْ رَقِيقَةً عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ إِمَاءٍ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ اثْنَتَانِ، ثُمَّ عَتَقَتَا وَعَتَقَتِ الْمُتَخَلِّفَتَانِ، ثُمَّ أَسْلَمَتَا، تَعَيَّنَ إِمْسَاكُ الْأُخْرَيَيْنِ، وَانْدَفَعَتِ الْمُتَقَدِّمَتَانِ. وَلَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَتَخَلَّفْنَ، ثُمَّ عَتَقَتِ اثْنَتَانِ، ثُمَّ أَسْلَمَتَا وَأَسْلَمَتِ الْأُخْرَيَانِ، ثُمَّ عَتَقَتَا، تَعَيَّنَ إِمْسَاكُ الْأُولَيَيْنِ، وَانْدَفَعَتِ الْمُتَأَخِّرَتَانِ. وَالنَّظَرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَى حَالَةِ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ، لِأَنَّهُ حَالَةُ إِمْكَانِ الِاخْتِيَارِ. فَصْلٌ عِتْقُ الْأَمَةِ تَحْتَ عَبْدٍ، يُثْبِتُ لَهَا الْخِيَارَ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ عِتْقِ الْمُشْرِكَةِ مَعَ إِسْلَامِهَا، فَإِذَا نَكَحَ عَبْدٌ كَافِرٌ أَمَةً، ثُمَّ أَسْلَمَا وَعَتَقَتْ، نُظِرَ، إِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ، فَهِيَ كَسَائِرِ الْإِمَاءِ يَعْتَقْنَ تَحْتَ الْعَبِيدِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صُوَرِ الْفَصْلِ، وَإِنْ عَتَقَتْ قَبْلَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا، فَلَهَا حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تُسْلِمَ هِيَ أَوَّلًا وَتَعْتَقَ، وَيَتَخَلَّفَ الزَّوْجُ، فَلَيْسَ لَهَا الْإِجَازَةُ، سَوَاءٌ عَتَقَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، أَوْ أَسَلَمَتْ ثُمَّ عَتَقَتْ، لِأَنَّهَا مُعَرَّضَةٌ لِلْبَيْنُونَةِ، وَلَا يَبْطُلُ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ حَقُّهَا مِنَ الْفَسْخِ. وَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ فِي الْحَالِ، جَازَ، فَإِذَا فَسَخَتْ،

فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ عِدَّتِهَا، فَعِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ، وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ عِدَّتِهَا، فَعِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهَا. وَيَلْغُو الْفَسْخُ بِحُصُولِ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ، وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ إِنْ عَتَقَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ ثُمَّ عَتَقَتْ، فَهِيَ أَمَةٌ عَتَقَتْ فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهَا، فَهَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ، أَمْ عِدَّةَ أَمَةٍ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، أَقْرَبُهُمَا إِلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَطَعَ فِي الشَّامِلِ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا كَالرَّجْعِيَّةِ تَعْتَقُ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْمَذْهَبُ فِيهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ، وَمَوْضِعُ بَيَانِهِمَا «كِتَابُ الْعِدَدِ» . وَلَوْ أَرَادَتْ تَأْخِيرَ الْفَسْخِ إِلَى أَنْ تَبِينَ حَالُ الزَّوْجِ، جَازَ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا، كَالرَّجْعِيَّةِ إِذَا عَتَقَتْ فِي الْعِدَّةِ وَالزَّوْجُ رَقِيقٌ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يُسْلِمِ الزَّوْجُ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ، سَقَطَ الْخِيَارُ، وَعِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهَا وَهِيَ عِدَّةُ حُرَّةٍ إِنْ عَتَقَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ ثُمَّ عَتَقَتْ، فَهَلْ هِيَ عِدَّةُ حُرَّةٍ، أَمْ أَمَةٍ؟ فِيهِ الطَّرِيقَانِ. وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ، فَلَهَا الْفَسْخُ، وَتَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَّةَ حُرَّةٍ. الْحَالُ الثَّانِي: أَسْلَمَ وَتَخَلَّفَتْ، فَلَهَا الْخِيَارُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِتَضَرُّرِهَا بِرِقِّهِ. وَقِيلَ: لَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ كَافِرَةٌ، فَلَا يَثْبُتُ لَهَا. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَلَهَا تَأْخِيرُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةُ، ثُمَّ إِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ وَفَسَخَتِ، اعْتَدَّتْ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَّةَ حُرَّةٍ. وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ، تَبَيَّنَّا حُصُولَ الْفُرْقَةِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ. وَهَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ، أَمْ أَمَةٍ؟ فِيهِ الطَّرِيقَانِ. وَهُنَا أَوْلَى بِإِلْحَاقِهَا بِالْأَمَةِ، لِأَنَّهَا بَائِنٌ لَيْسَ بِيَدِ الزَّوْجِ مِنْ أَمْرِهَا شَيْءٌ. وَلَوْ أَجَازَتْ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ، لَمْ تَصِحَّ إِجَازَتُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهَا مُعَرَّضَةٌ لِلْبَيْنُونَةِ. وَلَوْ فَسَخَتْ، نَفَذَ الْفَسْخُ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، كَالْحَالَةِ الْأُولَى. وَقِيلَ: لَا يَنْفُذُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ. وَهُوَ ظَاهِرُ نَقْلِ الْمُزَنِيِّ، لَكِنَّهُ مُؤَوَّلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

فصل

فَرْعٌ أَسْلَمَ الزَّوْجُ الرَّقِيقُ، هَلْ لِزَوْجَتِهِ الْكَافِرَةِ خِيَارٌ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عَلَى مَا قَالَ الْإِمَامُ وَالْمُتَوَلِّي: لَا، لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِرِقِّهِ وَلَمْ يَحْدُثْ فِيهَا عِتْقٌ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ، لِأَنَّ الرِّقَّ نَقْصٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ كَبِيرَ نَقْصٍ فِي الْكُفْرِ. قَالَ الدَّارَكِيُّ: الْخِلَافُ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ، أَمَّا الذِّمِّيَّةُ مَعَ الذِّمِّيِّ، فَلَا خِيَارَ لَهَا قَطْعًا ; لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِأَحْكَامِنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ جَارِيَانِ سَوَاءٌ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، وَسَوَاءٌ أَسْلَمَتْ أَوْ لَمْ تُسْلِمْ إِذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً، كَذَلِكَ قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي «الْوَسِيطِ» ذِكْرُ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ، وَلَيْسَ هُوَ بِقَيْدٍ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ. فَصْلٌ الْعَبْدُ الْكَافِرُ، إِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنَ امْرَأَتَيْنِ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فِي الْعُدَّةِ، إِنْ دَخَلَ بِهِنَّ، اخْتَارَ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ، سَوَاءٌ كُنَّ حَرَائِرَ أَوْ إِمَاءً. فَإِنْ شَاءَ، اخْتَارَ حُرَّتَيْنِ، أَوْ حُرَّةً وَأَمَةً. وَإِنْ سَبَقْنَ بِالْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعُدَّةِ، فَكَذَلِكَ. وَلَوْ طَرَأَ عِتْقُهُ، نُظِرَ، إِنْ عَتَقَ بَعْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ، لَمْ يُؤَثِّرْ عِتْقُهُ فِي زِيَادَةِ الْعُدَدِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى ثِنْتَيْنِ. وَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ الْإِسْلَامَيْنِ، بِأَنْ عَتَقَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ، أَوْ بَيْنَهُمَا، تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ أَوْ تَأَخَّرَ، فَلَهُ حُكْمُ الْأَحْرَارِ، وَلِلزَّوْجَاتِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَمَحَّضْنَ حَرَائِرَ، فَيَخْتَارُ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ. وَلَوْ أَسْلَمَ مِنْهُنَّ ثِنْتَانِ مَعَهُ، ثُمَّ عَتَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ الْبَاقِيَاتُ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا اخْتِيَارُ ثِنْتَيْنِ، إِمَّا الْأَوَّلِيَّيْنِ، وَإِمَّا ثِنْتَيْنِ مِنَ الْبَاقِيَاتِ، وَإِمَّا وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَوَاحِدَةً مِنْهُنَّ. وَلَوْ أَسْلَمَتْ مَعَهُ وَاحِدَةٌ،

ثُمَّ عَتَقَ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الْبَاقِيَاتُ، فَلَهُ اخْتِيَارُ أَرْبَعٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْ بِإِسْلَامِ الْوَاحِدَةِ عَدَدَ الْعَبِيدِ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إِلَّا ثِنْتَيْنِ، وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَحَّضْنَ إِمَاءً. فَإِنْ كُنَّ قَدْ عَتَقْنَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ، اخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَإِلَّا، فَلَا يَخْتَارُ إِلَّا وَاحِدَةً بِشَرْطِ الْإِعْسَارِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ إِمَاءٍ، فَأَسْلَمَتْ مَعَهُ اثْنَتَانِ، ثُمَّ عَتَقَ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الْمُتَخَلِّفَتَانِ، لَمْ يَخْتَرْ إِلَّا اثْنَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ وُجِدَ كَمَالُ عَدَدِ الْعَبِيدِ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَيَجُوزُ اخْتِيَارُ الْأَوَّلِيَّيْنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ رَقِيقًا عِنْدَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِمَا، وَلَا يَجُوزُ اخْتِيَارُ الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَلَا يَجُوزُ اخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَوَّلِيَّيْنِ وَوَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَنَّ الْمُتَخَلِّفَتَيْنِ عَتَقَتَا بَعْدَ عِتْقِهِ ثُمَّ أَسْلَمَتَا، فَلَهُ اخْتِيَارُهُمَا، وَلَهُ اخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَوَاحِدَةٍ مِنَ الْأَوَّلِيَّيْنِ لِأَنَّهُمَا حُرَّتَانِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ حَرَائِرَ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ ثِنْتَانِ ثُمَّ عَتَقَ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الْآخِرَتَانِ، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ ثِنْتَيْنِ كَيْفَ شَاءَ. وَلَوْ أَسْلَمَتْ مَعَهُ وَاحِدَةٌ مِنَ الْإِمَاءِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ عَتَقَ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الْبَوَاقِي، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَخْتَارُ إِلَّا وَاحِدَةً عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، لَكِنَّ قِيَاسَ الْأَصْلِ السَّابِقِ جَوَازُ اخْتِيَارِ ثِنْتَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدَ الْعَبِيدِ قَبْلَ الْعِتْقِ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَخْتَارُ إِلَّا وَاحِدَةً، تَعَيَّنَتِ الْأُولَى، كَذَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَعَلَى طَرِيقَةِ الْقَاضِي يَخْتَارُ وَاحِدَةً مِنَ الْجُمْلَةِ، وَعَكَسَ الْإِمَامُ فَحَكَى عَنِ الْقَاضِي أَنَّ الْأُولَى تَتَعَيَّنُ. وَعَنْ سَائِرِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَخْتَارُ وَاحِدَةً مِنَ الْجُمْلَةِ، قَالَ: وَقَوْلُ الْقَاضِي هَفْوَةٌ مِنْهُ. وَلَوْ عَتَقَتِ الْبَوَاقِي بَعْدَ إِسْلَامِ الْوَاحِدَةِ مَعَهُ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَهُ إِمْسَاكُ الْجَمِيعِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدَ الرِّقِّ قَبْلَ الْعِتْقِ، فَلَهُ إِمْسَاكُ الْأُولَى ; لِأَنَّهُ كَانَ رَقِيقًا عِنْدَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهَا، وَالْبَوَاقِي كُنَّ حَرَائِرَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ، فَلَهُ إِمْسَاكُهُنَّ ; لِأَنَّ إِدْخَالَ الْحَرَائِرِ عَلَى الْإِمَاءِ جَائِزٌ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: إِذَا كُنَّ حَرَائِرَ وَإِمَاءً، انْدَفَعَتِ الْإِمَاءُ، وَيَخْتَارُ أَرْبَعًا مِنَ الْحَرَائِرِ إِنْ زِدْنَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَإِلَّا، فَيُمْسِكُهُنَّ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّتَانِ وَأَمَتَانِ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ، ثُمَّ عَتَقَ ثُمَّ أَسْلَمَتِ الْمُتَخَلِّفَتَانِ، لَمْ يَخْتَرْ إِلَّا اثْنَتَيْنِ، لِاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَلَهُ اخْتِيَارُ الْحُرَّتَيْنِ، وَاخْتِيَارُ الْأَمَةِ الْأُولَى مَعَ حُرَّةٍ، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِيَارُ الثَّانِيَةِ مَعَ حُرَّةٍ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي أَلْفَاظِ الِاخْتِيَارِ وَأَحْكَامِهِ. أَمَّا أَلْفَاظُهُ، فَكَقَوْلِهِ: اخْتَرْتُ نِكَاحَكِ، أَوْ تَقْرِيرَ نِكَاحَكِ، أَوْ حَبْسَكِ، أَوْ عَقْدَكِ، أَوِ اخْتَرْتُكِ، أَوْ أَمْسَكْتُكِ أَوْ أَمْسَكْتُ نِكَاحَكِ، أَوْ ثَبَتُّ [نِكَاحَكِ] أَوْ ثَبَّتُّكِ، أَوْ حَبَسْتُكِ عَلَى النِّكَاحِ. وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ هَذَا صَرِيحٌ، لَكِنَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: اخْتَرْتُكِ وَأَمْسَكْتُكِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلنِّكَاحِ كِنَايَةً. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ ثَمَانٍ مَثَلًا، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَاخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ لِلْفَسْخِ وَهُوَ يُرِيدُ حَلَّهُ بِلَا طَلَاقٍ، لَزِمَ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ فِيهِنَّ بِشَيْءٍ. وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعٍ: أُرِيدُكُنَّ، وَلِأَرْبَعٍ: لَا أُرِيدُكُنَّ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَحْصُلُ التَّعْيِينُ بِذَلِكَ. وَقِيَاسُ مَا سَبَقَ حُصُولُ التَّعْيِينِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: أُرِيدُكُنَّ. فُرُوعٌ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، أَوْ أَرْبَعًا، كَانَ تَعْيِينًا لِلنِّكَاحِ، لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ هِيَ الَّتِي تُخَاطَبُ بِالطَّلَاقِ، فَتَنْدَفِعُ الْأَرْبَعُ الْمُطَلَّقَاتُ بِالطَّلَاقِ، وَالْبَاقِيَاتُ بِالْفَسْخِ بِالشَّرْعِ. وَلَوْ طَلَّقَ أَرْبَعًا غَيْرَ مُعَيَّنَاتٍ، أُمِرَ بِالتَّعْيِينِ. فَإِذَا عَيَّنَ، فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَا،

هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ: أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ تَعْيِينًا لِلنِّكَاحِ. وَلَوْ آلَى أَوْ ظَاهَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوْ عَدَدٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعْيِينٌ لِنِكَاحِهِنَّ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ تُخَاطَبُ بِهِ، بَلْ هُوَ بِهَا أَلْيَقُ. فَعَلَى هَذَا، إِنِ اخْتَارَ مَنْ ظَاهَرَ مِنْهَا، أَوْ آلَى لِلنِّكَاحِ، صَحَّ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، وَيَصِيرُ عَائِدًا إِنْ لَمْ يُفَارِقْهَا فِي الْحَالِ. وَلَوْ قَذَفَ إِحْدَاهُنَّ، لَزِمَهُ الْحَدُّ إِنْ كَانَتْ مُحَصَنَةً، وَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَإِنِ اخْتَارَ غَيْرَ الْمَقْذُوفَةِ، وَإِنِ اخْتَارَهَا، سَقَطَ بِالْبَيِّنَةِ وَبِاللِّعَانِ. [الْفَرْعُ] الثَّانِي: قَالَ: فَسَخْتُ نِكَاحَ هَذِهِ، أَوْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ، أَوْ قَالَ: اخْتَرْتُ هَذِهِ لِلْفَسْخِ، أَوْ هَذِهِ لِلْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ اخْتَرْتُ فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ، فَهُوَ اخْتِيَارٌ لِلنِّكَاحِ، وَإِنْ أَرَادَ الْفِرَاقَ، أَوْ أَطْلَقَ، فَهُوَ اخْتِيَارٌ لِلْفَسْخِ. وَلَوْ قَالَ لِوَاحِدَةٍ: فَارَقْتُكِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ فَسْخٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ ; لِأَنَّهُ مِنْ صَرَائِحِ الطَّلَاقِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: لَوِ اخْتَارَ الْجَمِيعَ لِلنِّكَاحِ أَوِ الْفَسْخِ، فَهُوَ لَغْوٌ، وَلَوْ طَلَّقَ الْجَمِيعَ، وَقَعَ عَلَى الْمَنْكُوحَاتِ وَيُعَيِّنُهُنَّ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَقَدِ اخْتَرْتُكِ لِلنِّكَاحِ أَوْ لِلْفَسْخِ، لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّ تَعْلِيقَ الِاخْتِيَارِ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ إِمَّا كَالِابْتِدَاءِ، كَالنِّكَاحِ، وَإِمَّا كَالرَّجْعَةِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْفَسْخِ كَالطَّلَاقِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ، وَيَحْصُلُ اخْتِيَارُهَا ضِمْنًا، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ فِي الضِّمْنِيِّ مَا لَا يُحْتَمَلُ اسْتِقْلَالًا.

وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَنِكَاحُكِ مَفْسُوخٌ، إِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ نَفَذَ، وَإِلَّا لَغَا. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدِ اخْتَرْتُهَا لِلنِّكَاحِ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ قَالَ: فَقَدْ طَلَّقْتُهَا، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: فَقَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا، إِنْ أَرَادَ حَلَّهُ بِلَا طَلَاقٍ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْفَسْخِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ، جَازَ. وَإِذَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ، طُلِّقَتْ وَحَصَلَ اخْتِيَارُهَا ضِمْنًا، وَهَكَذَا إِلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِ، وَتَنْدَفِعُ الْبَاقِيَاتُ، وَفِي وَجْهٍ: لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْفَسْخِ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. [الْفَرْعُ] الْخَامِسُ: لَا يَكُونُ الْوَطْءُ اخْتِيَارًا لِلْمَوْطُوءَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ ; لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُنَا كَالِابْتِدَاءِ، وَلَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ بَلِ اسْتَدَامَتُهُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، فَإِنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَحْصُلُ بِالْوَطْءِ. فَلَوْ وَطِئَ الْجَمِيعَ وَجَعَلْنَاهُ اخْتِيَارًا، كَانَ مُخْتَارًا لِلْأَوَّلِيَّاتِ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِلْبَاقِيَاتِ، وَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ اخْتِيَارًا، اخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَغُرِّمَ الْمَهْرَ لِلْبَاقِيَاتِ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: قَالَ: حَصَرْتُ الْمُخْتَارَاتِ فِي هَؤُلَاءِ السِّتِّ أَوِ الْخَمْسِ، انْحَصَرْنَ وَيَنْدَفِعُ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ. فَرْعٌ أَسْلَمَ عَلَى ثَمَانِ وَثَنِيَّاتٍ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ أَرْبَعٌ، وَتَخَلَّفَ أَرْبَعٌ، فَعَيَّنَ الْأَوَّلِيَّاتِ لِلنِّكَاحِ، صَحَّ التَّعْيِينُ. فَإِنْ أَصَرَّتِ الْمُتَخَلِّفَاتُ، انْدَفَعْنَ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي الْعِدَّةِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِيَّاتِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: نَتَبَيَّنُ انْدِفَاعَهُنَّ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، لَكِنْ نَتَبَيَّنُ تَعْيِينَهُنَّ مِنْ وَقْتِ تَعْيِينِهِ لِلْأَوَّلِيَّاتِ. وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِأُصُولِ الْبَابِ. وَإِنْ طَلَّقَ الْأَوَّلِيَّاتِ، صَحَّ وَتَضَمَّنَ اخْتِيَارُهُنَّ، وَيَنْقَطِعُ نِكَاحُهُنَّ بِالطَّلَاقِ، وَنِكَاحُ الْأُخْرَيَاتِ بِالْفَسْخِ بِالشَّرْعِ.

وَإِنْ قَالَ: فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ حَلَّهُ بِلَا طَلَاقٍ، فَهُوَ لَغْوٌ ; لِأَنَّ الْحَلَّ هَكَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ. فَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ الْمُتَخَلِّفَاتُ، تَعَيَّنَ الْأَوَّلِيَّاتُ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ، اخْتَارَ مِنَ الْجَمِيعِ أَرْبَعًا، وَلِلْمُسْلِمَاتِ أَنْ يَدَّعِينَ: أَنَّكَ إِنَّمَا أَرَدْتَ طَلَاقَنَا، وَيُحَلِّفْنَهُ، وَلِلْمُتَخَلِّفَاتِ أَيْضًا أَنْ يَدَّعِينَ إِرَادَةَ الطَّلَاقِ وَبَيْنُونَتِهِنَّ بِالْفَسْخِ الشَّرْعِيِّ وَيُحَلِّفْنَهُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَلْغُو الْفَسْخُ، بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ، إِنْ أَصْرَرْنَ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، لَغَا، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِيهَا، تَبَيَّنَّا نُفُوذَهُ فِي الْأَوَّلِيَّاتِ، وَتَعَيَّنَ الْأُخْرَيَاتِ لِلنِّكَاحِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ عَيَّنَ الْمُتَخَلِّفَاتِ لِلْفَسْخِ، صَحَّ، وَتَعَيَّنَتِ الْأَوَّلِيَّاتُ لِلزَّوْجِيَّةِ. وَإِنْ عَيَّنَ الْمُتَخَلِّفَاتِ لِلنِّكَاحِ، لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّهُنَّ وَثَنِيَّاتٌ وَقَدْ لَا يُسْلِمْنَ. وَعَلَى وَجْهِ الْوَقْفِ: يَنْعَقِدُ الِاخْتِيَارُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ أَسْلَمْنَ، بَانَتْ صِحَّتُهُ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى ثَمَانِ وَثَنِيَّاتٍ، فَتَخَلَّفْنَ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ مُتَعَاقِبَاتٍ فِي عُدَدِهِنَّ، وَهُوَ يَقُولُ لِكُلِّ مَنْ أَسْلَمَتْ: فَسَخْتُ نِكَاحَكِ، فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ، صَارَ مُخْتَارًا لِلْأَوَّلِيَّاتِ، وَإِنْ أَرَادَ حَلَّهُ بِلَا طَلَاقٍ، فَهُوَ عَلَى الصَّحِيحِ لَغْوٌ فِي الْأَرْبَعِ الْأَوَّلِيَّاتِ، نَافِذٌ فِي الْأُخْرَيَاتِ ; لِأَنَّ فَسْخَ نِكَاحِهِنَّ وَقَعَ وَرَاءَ الْعَدَدِ الْكَامِلِ فَنَفِذَ. وَعَلَى وَجْهِ الْوَقْفِ: إِذَا أَسْلَمَتِ الْأُخْرَيَاتُ، تَبَيَّنَّا نُفُوذَ الْفَسْخِ فِي الْأَوَّلِيَّاتِ. وَلَوْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنَ الثَّمَانِ خَمْسٌ، فَقَالَ: فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ، فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ، صَارَ مُخْتَارًا لِأَرْبَعٍ مِنْهُنَّ وَبِنَّ بِالطَّلَاقِ، وَعَلَيْهِ التَّعْيِينُ، وَإِنْ أَرَادَ حَلَّهُ بِلَا طَلَاقٍ، انْفَسَخَ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا، فَإِذَا أَسْلَمَتِ الْمُتَخَلِّفَاتُ فِي الْعِدَّةِ، اخْتَارَ مِنَ الْجَمِيعِ أَرْبَعًا. وَلَوْ قَالَ: فَسَخْتُ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ، إِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ، صَارَ مُخْتَارًا لِوَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا، فَيُعَيِّنُهَا وَيَخْتَارُ لِلنِّكَاحِ مِنَ الْبَاقِيَاتِ ثَلَاثَةً. وَإِنْ أَرَادَ حَلَّهُ بِلَا طَلَاقٍ، انْفَسَخَ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ فَيُعَيِّنُهَا، وَيَخْتَارُ مِنَ الْبَاقِيَاتِ أَرْبَعًا. وَإِنِ انْفَسَخَ نِكَاحُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ غَيْرَ مُعَيَّنَتَيْنِ، وَأَرَادَ حَلَّهُ بِلَا طَلَاقٍ،

فصل

انْفَسَخَ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ فَيُعَيِّنُهَا، وَيَخْتَارُ مِنَ الْبَاقِيَاتِ أَرْبَعًا. فَلَوْ عَيَّنَ ثِنْتَيْنِ، انْفَسَخَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا فَيُعَيِّنُهَا، وَلَهُ اخْتِيَارُ الْأُخْرَى مَعَ ثَلَاثٍ أُخَرَ. وَلَوِ اخْتَارَ الْخَمْسَ كُلَّهُنَّ، تَعَيَّنَتِ الْمَنْكُوحَاتُ فِيهِنَّ، فَيَخْتَارُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. فَصْلٌ أَمَّا حُكْمُ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَا أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ بِالْإِسْلَامِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارُ وَالتَّعْيِينُ، وَإِنِ امْتَنَعَ، حُبِسَ. فَإِنْ أَصَرَّ وَلَمْ يَنْفَعِ الْحَبْسُ، عُزِّرَ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي مِنَ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ مَعَ الْحَبْسِ، بَلْ يُشَدَّدُ عَلَيْهِ الْحَبْسُ، فَإِنْ أَصَرَّ، عُزِّرَ ثَانِيًا وَثَالِثًا إِلَى أَنْ يَخْتَارَ. فَإِنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي الْحَبْسِ، خُلِّيَ حَتَّى يَفِيقَ، وَلَا يَخْتَارُ الْحَاكِمُ عَنِ الْمُمْتَنِعِ ; لِأَنَّهُ خِيَارُ شَهْوَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا حُبِسَ، لَا يُعَزَّرُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَعَلَّهُ يُؤَخَّرُ لِيُفَكِّرَ، وَأَقْرَبُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ مُدَّةُ الِاسْتِتَابَةِ. وَاعْتَبَرَ الرُّويَانِيُّ فِي الْإِمْهَالِ الِاسْتِنْظَارَ فَقَالَ: وَلَوِ اسْتَمْهَلَ، أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَزِيدُ، وَيُلْزِمُهُ نَفَقَةَ جَمِيعِهِنَّ إِلَى أَنْ يَخْتَارَ ; لِأَنَّهُنَّ فِي حَبْسِهِ. فَرْعٌ مَاتَ قَبْلَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِنَّ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ أَنْ تَعْتَدَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَإِنْ دَخَلَ بِهِنَّ، فَعِدَّةُ الْحَامِلِ بِالْحَمْلِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْحَامِلِ، فَمَنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، لَزِمَهَا الْأَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.

ثُمَّ الْأَشْهُرُ تُعْتَبَرُ مِنْ مَوْتِهِ. وَفِي الْأَقْرَاءِ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: كَذَلِكَ ; لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ شُرُوعَهَا فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَصَحُّهُمَا: الِاعْتِبَارُ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِمَا إِنْ أَسْلَمَا مَعًا، وَإِلَّا، فَمِنْ إِسْلَامٍ سَابِقٍ ; لِأَنَّ الْأَقْرَاءَ إِنَّمَا تَجِبُ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مُفَارَقَةٌ بِالِانْفِسَاخِ، وَهُوَ يَحْصُلُ مِنْ يَوْمِئِذٍ. فَرْعٌ مَاتَ قَبْلَ التَّعْيِينِ، وُقِفَ لَهُنَّ رُبُعُ مَالِهِ أَوْ ثُمُنُهُ، عَائِلًا أَوْ غَيْرَ عَائِلٍ بِحَسْبِ الْحَالِ إِلَى أَنْ يَصْطَلِحْنَ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُنَّ بِحَسْبِ اصْطِلَاحِهِنَّ بِالتَّسَاوِي أَوِ التَّفَاضُلِ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يُوَزَّعُ بَيْنَهُنَّ ; لِأَنَّ الْبَيَانَ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ وَهُنَّ مُعْتَرِفَاتٌ بِالْإِشْكَالِ، وَبِأَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ، وَمَالَ الْإِمَامُ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنْ كُنَّ ثَمَانِيًا وَفِيهِنَّ صَغِيرَةٌ، أَوْ مَجْنُونَةٌ، صَالَحَ عَنْهَا وَلِيُّهَا، وَلَيْسَ لَهُ الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ ثُمُنِ الْمَوْقُوفِ، وَلَهُ الْمُصَالَحَةُ عَلَى الثُّمُنِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا يُصَالِحُ عَلَى أَقَلِّ مِنَ الرُّبْعِ. ثُمَّ الْمُصَالَحَةُ إِذَا اصْطَلَحْنَ كُلُّهُنَّ، فَلَوْ طَلَبَ بَعْضُهُنَّ شَيْئًا بِلَا صُلْحٍ، لَمْ نَدْفَعْ إِلَى الْمُطَالَبَةِ شَيْئًا إِلَّا بِالْيَقِينِ. فَفِي ثَمَانِ نِسْوَةٍ، لَوْ طَلَبَ أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ، لَمْ نُعْطِهِنَّ، فَإِنْ طَلَبَ خَمْسٌ، أَعْطَيْنَاهُنَّ رُبْعَ الْمَوْقُوفِ، وَإِنْ طَلَبَ سِتٌّ، فَنِصْفُهُ، وَسَبْعٌ، ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلَهُنَّ قَسْمُ مَا أَخَذْنَ وَالتَّصَرُّفُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الدَّفْعِ أَنْ يُبَرَّئْنَ عَنِ الْبَاقِي؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَعَمُّ، وَنَسَبَهُ ابْنُ كَجٍّ إِلَى النَّصِّ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا. فَعَلَى الْأَوَّلِ، يُعْطَى الْبَاقِي لِلثَّلَاثِ، وَيَرْتَفِعُ الْوَقْفُ، وَكَأَنَّهُنَّ اصْطَلَحْنَ عَلَى الْقِسْمَةِ هَكَذَا. هَذَا كُلُّهُ إِذَا عَلِمْنَا اسْتِحْقَاقَ الزَّوْجَاتِ الْإِرْثَ. أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ عَلَى ثَمَانِ كِتَابِيَّاتٍ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ أَرْبَعٌ، أَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ كِتَابِيَّاتٍ وَأَرْبَعُ وَثَنِيَّاتٍ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ الْوَثَنِيَّاتُ،

وَمَاتَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: لَا يُوقَفُ شَيْءٌ لِلزَّوْجَاتِ، بَلْ يُقَسْمُ كُلُّ التَّرِكَةِ بَيْنَ بَاقِي الْوَرَثَةِ ; لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزَّوْجَاتِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُنَّ الْكِتَابِيَّاتُ. وَالثَّانِي: يُوقَفُ ; لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ قَدْرَ نَصِيبِ الزَّوْجَاتِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقِيَاسِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ الْمَقِيسُ هُوَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ فِي سَائِرِ الْوَرَثَةِ مَوْجُودٌ وَشَكَكْنَا فِي الْمُزَاحِمِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَإِرْثُ الزَّوْجَاتِ لَمْ نَتَحَقَّقْهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ كَانَ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ وَكِتَابِيَّةٌ، فَقَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ. فَرْعُ مَاتَ ذِمِّيٌّ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: الرُّبْعُ أَوِ الثُّمُنُ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَرِثُ مِنْهُنَّ إِلَّا أَرْبَعٌ، فَيُوقَفُ بَيْنَهُنَّ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ، وَيُجْعَلَ التَّرَافُعُ إِلَيْنَا بِمَثَابَةِ إِسْلَامِهِمْ. وَبَنَى الْقَفَّالُ الْخِلَافَ عَلَى صِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ. فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، وِرْثَ الْجَمِيعُ، وَإِلَّا، لَمْ يَرِثْ إِلَّا أَرْبَعٌ. وَلَوْ نَكَحَ مَجُوسِيٌّ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَهُ وَمَاتَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: مِنْهُمْ مَنْ بَنَى التَّوْرِيثَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ.

فَرْعٌ الْمُتَعَيَّنَاتُ لِلْفُرْقَةِ لِلزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ، هَلْ تُحْسَبُ عِدَّتُهُنَّ مِنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ إِنْ أَسْلَمَا مَعًا، وَإِسْلَامِ السَّابِقِ إِنْ تَعَاقَبَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْجُمْهُورِ الثَّانِي، خِلَافًا لِلْبَغَوِيِّ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ. أَمَّا النَّفَقَةُ، فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ مَعًا، اسْتَمَرَّتِ النَّفَقَةُ كَمَا يَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ، وَإِنْ أَسْلَمَا مُتَعَاقِبَيْنِ بَعْدَ الدُّخُولِ - وَالصُّورَةُ إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَجُوسِيَّةً أَوْ وَثَنِيَّةً - فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا، فَإِنْ أَصَرَّتْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَلَا نَفَقَةَ ; لِأَنَّهَا نَاشِزَةٌ بِالتَّخَلُّفِ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ، اسْتَحَقَّتْهَا مِنْ وَقْتِ الْإِسْلَامِ، وَلَا تَسْتَحِقُّهَا لِمُدَّةِ التَّخَلُّفِ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ. فَعَلَى هَذَا، لَوِ اخْتَلَفَا، فَقَالَ: أَسْلَمَتِ الْيَوْمَ، فَقَالَتْ: بَلْ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، لِلْأَصْلِ، وَكَذَا إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَقَالَ: أَسْلَمَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَلَا نَفَقَةَ، وَقَالَتْ: بَلْ فِيهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. أَمَّا إِذَا أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَهَا النَّفَقَةُ لِمُدَّةِ التَّخَلُّفِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: الصَّحِيحُ ; لِأَنَّهَا أَدَّتْ فَرْضًا مُضَيَّقًا، فَهُوَ كَصَوْمِ رَمَضَانَ. وَإِنْ أَصَرَّ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، اسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَلَوْ قَالَ: أَسْلَمَتْ أَوَّلًا، فَلَا نَفَقَةَ لَكِ، فَادَّعَتِ الْعَكْسَ، فَمَنَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: هِيَ ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً وَهُوَ يَدَّعِي مُسْقِطًا.

فصل

فَرْعٌ ارْتَدَّتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَا نَفَقَةَ لِزَمَنِ الرِّدَّةِ لِنُشُوزِهَا، سَوَاءٌ عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي الْعِدَّةِ، أَمْ لَا، وَلَا يَجِيءُ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ. قُلْتُ: ذَكَرَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَآخَرُونَ طَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنِ ارْتَدَّ، فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَإِنِ ارْتَدَّا مَعًا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا نَفَقَةَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ خِلَافٌ، كَتَشَطُّرِ الْمَهْرِ. فَصْلٌ أَمَّا الْمَهْرُ، إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَسَبَقَ بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ. فَلَوْ قَالَتْ: سَبَقْتَنِي بِالْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَعَلَيْكَ نِصْفُ الْمَهْرِ، فَادَّعَى الْعَكْسَ، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ نِصْفِ الصَّدَاقِ. وَلَوِ ادَّعَى سَبْقَهَا، فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي أَيُّنَا سَبَقَ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ طَلَبِ الْمَهْرِ. فَإِنْ عَادَتْ وَقَالَتْ: عَلِمْتُ أَنَّهُ سَبَقَ، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا وَأَخَذَتِ النِّصْفَ. وَلَوِ اعْتَرَفَا بِالْجَهْلِ بِالسَّابِقِ، فَلَا نِكَاحَ، لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَعَاقُبِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَهْرِ، لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْ طَلَبِهِ، لِاحْتِمَالِ سَبْقِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، لَمْ يَتَمَكَّنْ هُوَ مِنَ اسْتِرْدَادِ النِّصْفِ، لِاحْتِمَالِ سَبْقِهِ فَيُقَرُّ النِّصْفُ فِي يَدِهَا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَالُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ، فَقَالَ: أَسْلَمْنَا مَعًا، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ، وَقَالَتْ: بَلْ مُتَعَاقِبَيْنِ وَلَا نِكَاحَ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَالثَّانِي: قَوْلُهَا، لِتَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ. فَإِنْ

قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهَا، نُظِرَ، إِنْ قَالَتْ: أَسْلَمْتَ قَبْلِي، حَلَفَتْ عَلَى الْبَتِّ أَنَّهَا مَا أَسْلَمَتْ وَقْتَ إِسْلَامِهِ، وَإِنْ قَالَتْ: أَسْلَمْتُ قَبْلَكَ، حَلَفَتْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِإِسْلَامِهِ يَوْمَ إِسْلَامِهَا. وَلَوِ اخْتَلَفَا عَلَى الْعَكْسِ، فَقَالَتْ: أَسْلَمْنَا مَعًا، فَقَالَ: بَلْ مُتَعَاقِبَيْنِ، فَلَا نِكَاحَ، لِاعْتِرَافِهِ، وَهِيَ تَدَّعِي نِصْفَ الْمَهْرِ. وَفِي الْمُصَدَّقِ مِنْهُمَا الْقَوْلَانِ. وَلَوْ قَالَ: لَا نَدْرِي أَسْلَمْنَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ، اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ. فَرْعٌ أَسْلَمَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، ثُمَّ أَسْلَمَ هُوَ وَادَّعَى أَنَّ إِسْلَامَهُ سَبَقَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَادَّعَتِ الْعَكْسَ، فَهَذَا يُتَصَوَّرُ عَلَى أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَغُرَّةِ رَمَضَانَ، فَادَّعَى إِسْلَامَهُ فِي شَعْبَانَ، وَقَالَتْ: بَلْ فِي خَامِسِ رَمَضَانَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ كُفْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ إِسْلَامِهِ، كَغُرَّةِ رَمَضَانَ، وَقَالَ: انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فِي خَامِسِ رَمَضَانَ، وَقَالَتْ: بَلْ فِي شَعْبَانَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ إِسْلَامِي سَبَقَ، وَاقْتَصَرَتْ عَلَى أَنَّ عِدَّتِي سَبَقَتْ، فَالنَّصُّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَنَصٌّ فِيمَا إِذَا ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَادَّعَى أَنَّهُ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ، وَادَّعَتِ انْقِضَاءَهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَفِيمَا إِذَا قَالَ: رَاجَعْتُكِ فِي الْعِدَّةِ، فَقَالَتْ: بَلْ بَعْدَهَا، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا. وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ. أَحَدُهَا: طَرْدُ قَوْلَيْنِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، هَلِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ، أَمْ قَوْلُهَا؟ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّصَّيْنِ عَلَى حَالَيْنِ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ إِسْلَامِهِ أَوْ رَجْعَتِهِ، وَاخْتَلَفَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَاخْتَلَفَا فِي أَنَّهُ أَسْلَمَ أَوْ رَاجَعَ قَبْلَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَرَجَّحَهُ

الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ مَنْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ النَّصُّ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ ; لِأَنَّ الْمُدَّعِي أَوَّلًا مَقْبُولٌ، فَلَا يُرَدُّ بِمُجَرَّدِ قَوْلٍ آخَرَ. وَزَادَ الْبَغَوِيُّ فِيمَا إِذَا سَبَقَ دَعْوَاهُ فَقَالَ: إِنِ ادَّعَتْ بَعْدَ أَنْ مَضَى بَعْدَ دَعْوَاهُ زَمَنٌ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ. فَإِنِ اتَّصَلَ كَلَامُهَا بِكَلَامِهِ، فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ. فَرْعٌ نَصَّ الشَّافِعِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا أَسْلَمَا حِينَ طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ كَذَا، أَوْ حِينَ غَرَبَتْ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَاسْتَمَرَّ النِّكَاحُ. وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُمَا أَسْلَمَا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، أَوْ مَعَ غُرُوبِهَا، لَمْ يُحْكُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ حِينَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ تَمَامِ الطُّلُوعِ أَوِ الْغُرُوبِ، وَهِيَ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَوْلُهُ: مَعَ الطُّلُوعِ يُصَدَّقُ مِنْ حِينِ يَأْخُذُ فِي الطُّلُوعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا مُقَارِنًا لِطُلُوعِ أَوَّلِ الْقُرْصِ، وَإِسْلَامُ الْآخَرِ مُقَارِنًا بِطُلُوعِ آخِرِهِ. فَرْعٌ نَكَحَتْ فِي الْكُفْرِ زَوْجَيْنِ، ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَإِنْ تَرَتَّبَ النِّكَاحَانِ، فَهِيَ زَوْجَةُ الْأَوَّلِ، فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ ثُمَّ أَسْلَمَتْ مَعَ الثَّانِي وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَ التَّزْوِيجِ بِزَوْجَيْنِ، فَفِي جَوَازِ التَّقْرِيرِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصَحُّهُمَا التَّقْرِيرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ وَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا، لَمْ تَقَرَّ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ اعْتَقَدُوا جَوَازَهُ، أَمْ لَا. وَفِيمَا إِذَا اعْتَقَدُوهُ وَجْهٌ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَارُ أَحَدَهُمَا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْبَابُ الثَّامِنُ فِي مُثْبِتَاتِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ أَسْبَابُهُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ: الْعَيْبُ، وَالْغُرُورُ، وَالْعِتْقُ، وَالتَّعْنِينُ. وَقَوْلُنَا: «الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا» احْتِرَازٌ مِمَّا إِذَا زَوَّجَ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ بِكْرًا بِغَيْرِ كُفْءٍ وَصَحَّحْنَا النِّكَاحَ، فَلَهَا الْخِيَارُ. وَلَوْ زُوِّجَ الصَّغِيرُ مَنْ لَا تُكَافِئُهُ، وَصَحَّحْنَاهُ، فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَ. وَلَوْ ظَنَّهَا مُسْلِمَةً، فَكَانَتْ كِتَابِيَّةً، فَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى رَأْيٍ. وَالتَّعْنِينُ أَحَدُ الْعُيُوبِ، إِلَّا أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِأَحْكَامٍ، كَضَرْبِ الْمُدَّةِ وَغَيْرِهِ، فَبَيَّنَ الْأَصْحَابُ فِي «فَصْلِ الْعُيُوبِ» أَنَّهُ أَحَدُهَا، وَأَفْرَدُوهُ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِأَحْكَامٍ. السَّبَبُ الْأَوَّلُ: الْعَيْبُ، الْعُيُوبُ الْمُثْبِتَةُ لِلْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ: الْبَرَصُ، وَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ الْبَهَقُ. وَالثَّانِي: الْجُذَامُ، وَهُوَ عِلَّةٌ صَعْبَةٌ يَحْمَرُّ مِنْهَا الْعُضْوُ ثُمَّ يَسْوَدُّ ثُمَّ يَنْقَطِعُ وَيَتَنَاثَرُ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْعَافِيَةَ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي كُلِّ عُضْوٍ، لَكِنَّهُ فِي الْوَجْهِ أَغْلَبُ. ثُمَّ حَكَى الْإِمَامُ عَنْ شَيْخِهِ، أَنَّ أَوَائِلَ الْبَرَصِ وَالْجُذَامِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ إِذَا اسْتَحْكَمَا. وَإِنَّ اسْتِحْكَامَ الْجُذَامِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّقَطُّعِ. وَتَرَدَّدَ الْإِمَامُ فِي هَذَا وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى بِاسْوِدَادِ الْعُضْوِ، وَحُكْمِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاسْتِحْكَامِ الْعِلَّةِ. الثَّالِثُ: الْجُنُونُ مُنْقَطِعًا كَانَ أَوْ مُطْبِقًا، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ الْإِغْمَاءُ بِالْمَرَضِ إِلَّا أَنْ يَزُولَ الْمَرَضُ وَيَبْقَى زَوَالُ الْعَقْلِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي الْجُنُونِ لِاسْتِحْكَامِهِ، وَلَمْ يُرَاجِعُوا أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ أَهْوَ مَرْجُوُّ الزَّوَالِ، أَمْ لَا؟ وَلَوْ قِيلَ بِهِ لَكَانَ قَرِيبًا. وَمَتَى وَجَدَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ هَذِهِ الْعُيُوبَ، فَلَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ قَلَّ ذَلِكَ الْعَيْبُ أَمْ كَثُرَ. وَلَوْ تَنَازَعَا فِي قُرْحَةٍ، هَلْ هِيَ جُذَامٌ؟ أَوْ فِي بَيَاضٍ هَلْ هُوَ بَرَصٌ؟

فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الشَّاهِدَيْنِ عَالِمَيْنِ بِالطِّبِّ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مُخْتَصٌّ بِهِ وَهُوَ الْجَبُّ وَالتَّعْنِينُ. الثَّالِثُ: مُخْتَصٌّ بِهَا وَهُوَ الرَّتْقُ وَالْقَرَنُ، فَالرَّتْقُ: انْسِدَادُ مَحَلِّ الْجِمَاعِ بِاللَّحْمِ، وَالْقَرَنُ: عَظْمٌ فِي الْفَرَجِ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ، وَقِيلَ: لَحْمٌ يَنْبُتُ فِيهِ، وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ «الْقَرَنُ» بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ بِإِسْكَانِهَا. قُلْتُ: يَجُوزُ الْفَتْحُ وَالْإِسْكَانُ، فَالْفَتْحُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ هُنَا أَحْسَنُ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ لِكَوْنِ قَرَائِنِهِ مَصَادِرَ وَهِيَ الرَّتْقُ وَالْبَرَصُ وَنَحْوُهُمَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ أَكْمَلَ إِيضَاحٍ فِي (تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ) وَنَقَلْتُ أَقْوَالَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهَا وَحَاصِلُهُ، جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ وَتَرْجِيحُ الْفَتْحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ إِجْبَارُ الرَّتْقَاءِ عَلَى شَقِّ الْمَوْضِعِ، فَلَوْ فَعَلَتْ وَأَمْكَنَ الْوَطْءُ، فَلَا خِيَارَ كَذَا أَطْلَقُوهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا إِذَا عُلِمَ عَيْبُ الْمَبِيعِ بَعْدَ زَوَالِهِ. فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْعُيُوبِ سَبْعَةٌ، يُمْكِنُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ خَمْسَةٌ، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْعُيُوبِ لَا خِيَارَ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ زَاهِرٌ السَّرَخْسِيُّ: الصُّنَانُ وَالْبَخْرُ إِذَا لَمْ يَقْبَلَا الْعِلَاجَ يُثْبِتَانِ الْخِيَارَ، وَقَالَ: كَذَا الْعِذْيَوْطُ وَالْعِذْيَوْطَةُ، يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ. وَالْعِذْيَوْطُ، مَنْ يَخْرُجُ عَنْهُ الْغَائِطُ عِنْدَ الْجِمَاعِ. وَزَادَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ فَأَثْبَتُوا الْخِيَارَ بِالِاسْتِحَاضَةِ، وَبِالْعُيُوبِ الَّتِي تَجْتَمِعُ فَتُنَفِّرُ تَنْفِيرَ الْبَرَصِ، وَتَكْسِرُ سَوْرَةُ التَّائِقِ، كَالْقُرُوحِ السَّيَّالَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَيُقَالُ: إِنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَاصِمٍ حَكَاهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

فصل

أَمَّا إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ خُنْثَى قَدْ زَالَ إِشْكَالُهُ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْمَنْعُ ; لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ مَقْصُودُ النِّكَاحِ، وَمَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ إِذَا اخْتَارَ الذُّكُورَةَ أَوِ الْأُنُوثَةَ بِغَيْرِ عَلَامَةٍ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ بِخِلَافِهِ. فَأَمَّا إِذَا اتَّضَحَ بِعَلَامَةٍ، فَلَا خِيَارَ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ أَيْضًا فِيمَا إِذَا اتَّضَحَ بِعَلَامَةٍ مَظْنُونَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِقَطْعِيَّةٍ وَهِيَ الْوِلَادَةُ، فَلَا خِيَارَ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَتِ الْعَلَامَةُ قَطْعِيَّةً لِمَعْنَى النَّفْرَةِ. وَلَا خِيَارَ بِكَوْنِهِ أَوْ كَوْنِهَا عَقِيمًا، وَلَا بِكَوْنِهَا مُفْضَاةً، وَالْإِفْضَاءُ: رَفْعُ مَا بَيْنَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَمَدْخَلِ الذَّكَرِ. فَصْلٌ إِذَا ظَهَرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبٌ مُثْبِتٌ لِلْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَجْبُوبًا وَهِيَ رَتْقَاءُ، فَهُوَ كَالْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَّاطِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْإِمَامُ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ طَرِيقًا آخَرَ، أَنَّهُ لَا فَسْخَ بِهِ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى تَحْصِيلِ الْوَطْءِ. وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ، ثَبَتَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ. هَذَا فِي غَيْرِ الْجُنُونِ، أَمَّا إِذَا كَانَا مَجْنُونَيْنِ، فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَالِ، ثُمَّ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا تَسَاوَى الْعَيْبَانِ فِي الْقَدْرِ وَالْفُحْشِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ وَأَفْحَشَ، فَلِلْآخِرِ الْخِيَارُ قَطْعًا. فَرْعٌ نَكَحَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ عَالِمًا بِعَيْبِهِ، فَلَا خِيَارَ. فَلَوِ ادَّعَى الْمَعِيبُ عِلْمَ الْآخَرِ،

فصل

صُدِّقَ الْمُنْكَرُ بِيَمِينِهِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ هَذَا الِاخْتِلَافُ بَعْدَ الدُّخُولِ، صُدِّقَ مُدَّعِي الْعِلْمِ. فَرْعٌ جَبَّتِ الْمَرْأَةُ ذَكَرَ زَوْجِهَا، فَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ عَيَّبَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ كَمَا لَوْ خَرَّبَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ الْمُسْتَأْجَرَةَ فَإِنَّ لَهُ الْخِيَارَ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ بِالْجَبِّ لَا تَصِيرُ قَابِضَةً لِحَقِّهَا، وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِحَقِّهِ كَالتَّخْرِيبِ، وَالْمُشْتَرِي بِالتَّعَيُّبِ قَابِضٌ حَقَّهُ. فَصْلٌ الْعَيْبُ الْمُثْبِتُ لِلْخِيَارِ إِنْ كَانَ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ الْفَسْخُ بِعَيْبِ صَاحِبِهِ وَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ بِهَا، فَلَهُ الْفَسْخُ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ، نُظِرَ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَالْعَيْبُ جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ، فَلَهَا الْخِيَارُ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِيهِ وَجْهًا لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ حَدَثَ التَّعْنِينُ، فَلَا خِيَارَ ; لِأَنَّهَا عَرَفَتْ قُدْرَتَهُ وَأَخَذَتْ حَظَّهَا، وَإِنْ حَدَثَ الْجَبُّ، فَلَهَا الْفَسْخُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُقَالُ: الْأَظْهَرُ. فَرْعٌ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ لَيْسَ لَهُمْ خِيَارُ الْفَسْخِ بِعَيْبٍ حَدَثَ بِهِ، وَأَمَّا الْمُقَارِنُ، فَإِنْ كَانَ جَبًّا أَوْ تَعْنِينًا، فَلَا خِيَارَ لَهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ جُنُونًا، فَلَهُمُ الْخِيَارُ. وَإِنْ

فصل

رَضِيَتْ هِيَ، وَكَذَا إِنْ كَانَ جُذَامًا أَوْ بَرَصًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَنَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ فِي الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَجْهًا، أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ إِجْبَارَهَا عَلَى الْفَسْخِ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يَخْرُجُ حُكْمُ ابْتِدَاءِ التَّزْوِيجِ، فَإِنْ دَعَتْ إِلَى تَزْوِيجِهَا بِمَجْبُوبٍ أَوْ عَنِينٍ، فَعَلَيْهِمُ الْإِجَابَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا، كَانُوا عَاضِلِينَ، وَإِنْ دَعَتْ إِلَى مَجْنُونٍ، فَلَهُمُ الِامْتِنَاعُ، وَكَذَا الْمَجْذُومُ وَالْأَبْرَصُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ هَذَا الْخِيَارِ فِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: هَذَا الْخِيَارُ عَلَى الْفَوْرِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ آخَرَانِ كَخِيَارِ الْعِتْقِ. أَحَدُهُمَا: يَمْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَالثَّانِي: يَبْقَى إِلَى أَنْ يُوجَدَ صَرِيحُ الرِّضَى بِالْمَقَامِ مَعَهُ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَهُمَا ضَعِيفَانِ. وَهَلْ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْفَسْخِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنَ الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ؟ أَمَّا التَّعْنِينُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الرَّفْعِ، وَفِيمَا سِوَاهُ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا بُدَّ مِنَ الرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ لَوْ أَخَّرَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ إِلَى الْحَاكِمِ وَيَفْسَخَ بِحَضْرَتِهِ، جَازَ. وَلَوْ وَطِئَهَا وَظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ، فَقَالَتْ: وَطِئْتَ عَالِمًا، فَأَنْكَرَ، أَوْ كَانَ الْعَيْبُ بِهِ، فَقَالَ: كُنْتِ عَالِمَةً فَأَنْكَرَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَوْلُ الْآخَرِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ دَوَامُ النِّكَاحِ. الثَّانِيَةُ: الْفَسْخُ بِعَيْبٍ مُقَارِنٍ لِلْعَقْدِ، إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، سَقَطَ كُلُّ الْمَهْرِ وَلَا مُتْعَةَ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ فِيهِ أَوْ فِيهَا ; لِأَنَّ شَأْنَ الْفَسْخِ تَرَادُّ الْعِوَضَيْنِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، أَنَّهُ يَسْقُطُ الْمُسَمَّى وَيَجِبُ مَهْرُ

الْمِثْلِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ الْمُسَمَّى، وَالثَّالِثُ: إِنْ فَسَخَ بِعَيْبِهَا، فَمَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ فَسَخَتْ بِعَيْبِهِ، فَالْمُسَمَّى. وَأَمَّا الْفَسْخُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا فِي الْمُقَارِنِ الْمُسَمَّى، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَأَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: الْمُسَمَّى، وَالثَّانِي: مَهْرُ الْمِثْلِ، وَأَصَحُّهَا: إِنْ حَدَثَ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحَالِ، فَمَهْرُ الْمِثْلِ كَالْمُقَارِنِ، وَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالْمُسَمَّى ; لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الْخَلَلِ. فَرْعٌ إِذَا اطَّلَعَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى عَيْبِ الْآخَرِ، وَمَاتَ الْآخَرُ قَبْلَ الْفَسْخِ، فَهَلْ يُفْسَخُ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ، أَصَحُّهُمَا: يُفْسَخُ وَيَتَقَرَّرُ الْمُسَمَّى بِالْمَوْتِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهَا، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مِنَ النِّصْفِ ; لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ بِالطَّلَاقِ. الثَّالِثَةُ: إِذَا فُسِخَ بِعَيْبِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَغُرِّمَ الْمَهْرَ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ؟ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: الْأَظْهَرُ، لَا. وَمَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ، وَأَمَّا إِذَا فُسِخَ بِعَيْبٍ حَادِثٍ، فَلَا رُجُوعَ بِالْمَهْرِ مُطْلَقًا، إِذْ لَا غُرُورَ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: الْقَوْلَانِ إِذَا كَانَ الْمَغْرُومُ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسَمَّى، فَلَا رُجُوعَ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا بِالرُّجُوعِ، فَإِنْ كَانَ التَّغْرِيرُ وَالتَّدْلِيسُ مِنْهَا دُونَ الْوَلِيِّ، فَالرُّجُوعُ عَلَيْهَا دُونَهُ. وَصَوَّرَ الْمُتَوَلِّي التَّغْرِيرَ مِنْهَا، بِأَنْ خُطِبَ الزَّوْجُ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِعَيْبِهَا، وَطَلَبَتْ مِنَ الْوَلِيِّ تَزْوِيجَهَا بِهِ وَأَظْهَرَتْ لَهُ أَنَّ الزَّوْجَ عَرَفَ حَالَهَا. وَصَوَّرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجُ الزَّازُ، فِيمَا إِذَا عَقَدَتْ بِنَفْسِهَا، وَحَكَمَ بِصِحَّتِهِ حَاكِمٌ. ثُمَّ لَفْظُ الرُّجُوعِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ الْأَصْحَابُ يُشْعِرُ

بِالدَّفْعِ إِلَيْهَا، ثُمَّ الِاسْتِرْدَادِ مِنْهَا. لَكِنْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْإِمَامُ، أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلدَّفْعِ إِلَيْهَا وَالِاسْتِرْدَادِ، وَيَعُودُ مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُغَرَّمُ لَهَا. وَهَلْ يَجِبُ لَهَا أَقَلُّ مَا يَجُوزُ صَدَاقًا لِئَلَّا يَخْلُوَ النِّكَاحُ عَنْ مَهْرٍ؟ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالرُّجُوعِ، أَنَّهُ لَا يُبْقِي لَهَا شَيْئًا، وَيَكْفِي فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ أَنَّهُ وَجَبَ لَهَا ثُمَّ اسْتُرِدَّ بِالتَّغْرِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ التَّغْرِيرُ مِنَ الْوَلِيِّ، بِأَنْ خَطَبَ إِلَيْهِ فَزَوَّجَ وَهُوَ مُجْبَرٌ أَوْ غَيْرُهُ بِإِذْنِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْخَاطِبِ عَيْبَهَا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا غُرِّمَ. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَوَجْهَانِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقْتَصِرٍ، لَكِنَّ ضَمَانَ الْمَالِ لَا يَسْقُطُ بِالْجَهْلِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا رُجُوعَ إِذَا جَهِلَ، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا كَابْنِ عَمٍّ وَمُعْتَقٍ وَقَاضٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَرْأَةِ. فَأَمَّا الْمَحْرَمُ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْحَالُ غَالِبًا، وَإِنْ خَفِيَ فَلِتَقْصِيرِهِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ مَعَ الْجَهْلِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا رُجُوعَ عَلَى الْجَاهِلِ، فَعَلَى الزَّوْجِ إِثْبَاتُ الْعِلْمِ بِبَيِّنَةٍ عَلَى إِقْرَارِ الْوَلِيِّ بِالْعِلْمِ. وَإِنْ غَرَّهُ أَوْلِيَاءُ الزَّوْجَةِ، فَالرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ جَهِلَ بَعْضُهُمْ وَقُلْنَا: لَا رُجُوعَ عَلَى الْجَاهِلِ، رَجَعَ عَلَى مَنْ عَلِمَ. وَلَوْ وُجِدَ التَّغْرِيرُ مِنْهَا وَمِنَ الْوَلِيِّ، فَهَلْ يَكُونُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا فَقَطْ لِقُوَّةِ جَانِبِهَا، أَمْ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ غَرَّتِ الْوَلِيَّ وَغَرَّ الْوَلِيُّ الزَّوْجَ، رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْوَلِيُّ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَا إِذَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِعَيْبِهَا، وَلَا يَبْعُدُ مَجِيءُ الْخِلَافِ فِيهِ. قُلْتُ: لَا مَجِيءَ لَهُ لِتَقْصِيرِهَا الظَّاهِرِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ الْمَحْرَمَ لَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ لِتَقْصِيرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الرَّابِعَةُ: الْمَفْسُوخُ نِكَاحُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا سُكْنَى إِذَا كَانَتْ حَائِلًا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَإِنْ قُلْنَا: نَفَقَةُ الْمُطَلَّقَةِ الْحَامِلِ لِلْحَمْلِ وَجَبَتْ هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ. إِنَّهَا لِلْحَامِلِ، لَمْ تَجِبْ. وَأَمَّا السُّكْنَى، لَا تَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: إِنْ كَانَ الْفَسْخُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ، وَجَبَتْ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا لَمْ نُوجِبِ السُّكْنَى فَأَرَادَ أَنْ يُسْكِنَهَا حِفْظًا لِمَائِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهَا الْمُوَافَقَةُ، قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا السَّبَبِ رَضِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِعَيْبِ صَاحِبِهِ، فَحَدَثَ بِمَنْ بِهِ الْعَيْبُ عَيْبٌ آخَرُ، ثَبَتَ الْخِيَارُ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنِ ازْدَادَ الْأَوَّلُ، فَلَا خِيَارَ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْأَوَّلِ رِضًى بِمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ. وَلَوْ فُسِخَ بِعَيْبٍ، فَبَانَ أَنْ لَا عَيْبَ، فَهَلْ يَحْكُمُ بِبُطْلَانِ الْفَسْخِ وَبِاسْتِمْرَارِ النِّكَاحِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ، بُطْلَانُ الْفَسْخِ ; لِأَنَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ عَيْبَ صَاحِبِي، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الْعَيْبَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، فَقَوْلَانِ كَنَظِيرِهِ فِي عِتْقِهَا تَحْتَ عَبْدٍ. وَقِيلَ: لَا خِيَارَ هُنَا قَطْعًا ; لِأَنَّ الْخِيَارَ بِالْعَيْبِ مَشْهُورٌ فِي جِنْسِ الْعُقُودِ. السَّبَبُ الثَّانِي: الْغُرُورُ بِالِاشْتِرَاطِ. فَإِذَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ إِسْلَامُ الْمَنْكُوحَةِ، فَبَانَتْ ذِمِّيَّةً، أَوْ شُرِطَ نَسَبٌ أَوْ حُرِّيَّةٌ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَبَانَ خِلَافُهُ، فَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ أَمْ يَبْطُلُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الصِّحَّةُ. وَالْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا اشْتَرَطَتْ حُرِّيَّتَهُ فَبَانَ

عَبْدًا، هُمَا إِذَا نُكِحَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَإِلَّا، فَلَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَفِيمَا إِذَا شَرَطَ حُرِّيَّتَهَا فَبَانَتْ أَمَةً، هُمَا إِذَا نُكِحَتْ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَكَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ الْإِمَاءُ، وَإِلَّا، فَلَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي كُلِّ وَصْفِ شَرْطٍ، فَبَانَ خِلَافُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْرُوطُ صِفَةَ كَمَالٍ كَالْجَمَالِ، وَالنَّسَبِ، وَالشَّبَابِ، وَالْيَسَارِ، وَالْبَكَارَةِ، أَوْ صِفَةَ نَقْصٍ كَأَضْدَادِهَا، أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ نَقْصٌ وَلَا كَمَالٌ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَفِي «شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ» أَنَّهُمَا إِنَّمَا يَجْرِيَانِ فِي النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَفَاءَةِ، فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنْ دَخَلَ، فَلَا حَدَّ لِلشُّبْهَةِ وَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا سُكْنَى لَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَكَذَا لَا نَفَقَةَ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا. فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ أَوْ لِلْحَامِلِ؟ إِنْ قُلْنَا: لِلْحَمْلِ، وَجَبَتْ، وَإِلَّا، فَلَا، وَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ، فَإِنْ بَانَ الْمَوْصُوفُ خَيْرًا مِمَّا شَرَطَ، فَلَا خِيَارَ، وَإِنْ بَانَ دُونَهُ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ قَوْلَيْنِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَصْحَابِ، فَقَالُوا: إِنْ شُرِطَ فِي الزَّوْجِ نَسَبٌ شَرِيفٌ فَبَانَ خِلَافُهُ، نُظِرَ إِنْ كَانَ نَسَبُهُ دُونَ نَسَبِهَا، فَلَهَا الْخِيَارُ. وَإِنْ رَضِيَتْ هِيَ، فَلِأَوْلِيَائِهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ نَسَبُهُ كَنَسَبِهَا أَوْ فَوْقَهُ، إِلَّا أَنَّهُ دُونَ الْمَشْرُوطِ، فَلَا خِيَارَ لَهَا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ: لَا خِيَارَ قَطْعًا، وَلَا خِيَارَ لِلْأَوْلِيَاءِ ; لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ حَاصِلَةٌ وَالشَّرْطُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّهِمْ، وَإِنْ شَرَطَ فِي الزَّوْجَةِ نَسَبٌ فَبَانَ خِلَافُهُ، فَطَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَهِيَ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إِنْ كَانَتْ دُونَ نَسَبِهِ، وَإِلَّا، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ قَطْعًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الطَّلَاقِ وَعَدَمِ الْعَارِ عَلَيْهِ. وَإِنْ شَرَطَتْ حُرِّيَّتَهُ فَخَرَجَ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً، فَلَهَا وَلِوَلِيِّهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: يَثْبُتُ قَطْعًا. قَالَ الْإِمَامُ وَالْمُتَوَلِّي: وَإِذَا أَثْبَتْنَاهُ، فَهُوَ لِلسَّيِّدِ دُونَ الْأَمَةِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى نِكَاحِ عَبْدٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا خَرَجَ الزَّوْجُ مَعِيبًا، فَإِنَّ الْخِيَارَ لَهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهَا عَلَى نِكَاحِ مَعِيبٍ بِأَحَدِ هَذِهِ

فصل

الْعُيُوبِ. وَإِنْ شَرَطَ الزَّوْجُ حُرِّيَّةَ الزَّوْجَةِ فَخَرَجَتْ أَمَةً، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا، فَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، فَلَا خِيَارَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ صِفَةً أُخْرَى، فَإِنْ شَرَطَتْ فِي الزَّوْجِ فَبَانَ دُونَ الْمَشْرُوطِ، فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ شَرَطْتَ فِيهَا، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ قَوْلَانِ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الطَّلَاقِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ ثُبُوتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ: تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ، فَوُجِدَتْ ثَيِّبًا، فَقَالَتْ: كَنْتُ بِكْرًا فَزَالَتِ الْبَكَارَةُ عِنْدَكَ، وَقَالَ: بَلْ كُنْتِ ثَيِّبًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا لِدَفْعِ الْفَسْخِ، وَلَوْ قَالَتْ: كَنْتُ بِكْرًا فَافْتَضَّنِي فَأَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا لِدَفْعِ الْفَسْخِ، وَقَوْلُهُ بِيَمِينِهِ لِدَفْعِ كَمَالِ الْمَهْرِ. فَصْلٌ إِذَا ظَنَّتْ زَيْدًا كُفْئًا لَهَا، وَأَذِنَتْ فِي تَزْوِيجِهَا إِيَّاهُ، فَبَانَ غَيْرَ كُفْءٍ، فَلَا خِيَارَ لَهَا، كَذَا أَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ فَوَاتُ الْكَفَاءَةِ لِدَنَاءَةِ نَسَبِهِ أَوْ حِرْفَتِهِ، أَوْ فِسْقِهِ، فَلَا خِيَارَ، وَإِنْ كَانَ لِعَيْبِهِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ لِرِقِّهِ، فَلْيَكُنِ الْحُكْمُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِهَذَا فِيمَنْ نَكَحَهَا ظَانًّا حُرِّيَّتَهَا فَبَانَتْ أَمَةً، بَلْ جَانِبُ الْمَرْأَةِ أَوْلَى بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ ضَعِيفٌ، وَفِي فَتَاوَى صَاحِبِ (الشَّامِلِ) لَوْ تَزَوَّجَتْ حُرَّةٌ بِرَجُلٍ نِكَاحًا مُطْلَقًا، فَبَانَ عَبْدًا، فَلَهَا الْخِيَارُ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ نَحْوَ

فصل

هَذَا، وَالْمُخْتَارُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ بِالْجَمِيعِ، وَقَدْ أَنْكَرُوا عَلَى الْغَزَالِيِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذَا قُبَيْلَ ذِكْرِ كِتَابِ الصَّدَاقِ عَنْ «فَتَاوَى» الْقَاضِي حُسَيْنٍ، أَنَّهَا لَوْ أَذِنَتْ فِي تَزْوِيجِهَا بِرَجُلٍ وَلَمْ تَعْلَمْ فِسْقَهُ، فَبَانَ فَاسِقًا، صَحَّ النِّكَاحُ لِوُجُودِ الْإِشَارَةِ إِلَى عَيْنِهِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَكِنْ لَهَا حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي تَزْوِيجِهَا رَجُلًا ثُمَّ وَجَدَتْهُ مَعِيبًا، وَعَجَبٌ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ كَيْفَ قَالَ هُنَا مَا قَالَ مَعَ نَقْلِهِ هَذَا عَنِ الْبَغَوِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ نَكَحَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا مُسْلِمَةً فَخَرَجَتْ كِتَابِيَّةً، فَالنَّصُّ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ، وَلَوْ ظَنَّهَا حُرَّةً فَخَرَجَتْ أَمَةً وَهُوَ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ، وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْعَمَلُ بِظَاهِرِ النَّصَّيْنِ وَلِتَقْصِيرِ وَلِيِّ الْكَافِرَةِ بِتَرْكِ الْعَلَامَةِ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ مُنَفِّرٌ. وَأَصَحُّهُمَا: جَعْلُ الصُّورَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا خِيَارَ فِيهِمَا كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا يَظُنُّهُ كَاتِبًا فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ. فَصْلٌ الْخُلْفُ فِي الشَّرْطِ، إِذَا قُلْنَا: لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَأَنَّهُ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، فَمَنْ لَهُ الْخِيَارُ؟ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ فَسَخَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ يَجِبْ نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا الْمُتْعَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَهَلْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَمِ الْمُسَمَّى أَمْ أَقَلُّهُمَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، الْأَوَّلُ. وَهَلْ يَرْجِعُ الزَّوْجُ بِمَا غُرِّمَهُ مِنَ الْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ؟ فِيهِ التَّفْصِيلُ وَالْخِلَافُ السَّابِقَانِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، وَحُكْمِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

فصل

فَرْعٌ قَالَ الْأَصْحَابُ: التَّغْرِيرُ الْمُؤَثِّرُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَقْرُونًا بِالْعَقْدِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ فَلَوْ سَبَقَ الْعَقْدُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَلَا فِي الْخِيَارِ. وَقِيلَ: يُؤَثِّرُ فِيهِمَا. وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالْمَهْرِ، إِذَا قَضَيْنَا بِالرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: التَّغْرِيرُ السَّابِقُ كَالْمُقَارِنِ، وَحَقَّقَهُ الْإِمَامُ فَقَالَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي حُصُولِ التَّغْرِيرِ دُخُولُ الشَّرْطِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَا صُدُورُهُ مِنَ الْعَاقِدِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ بِالْعَقْدِ. فَلَوْ قَالَ: فُلَانَةٌ حُرَّةٌ فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ زَوَّجَهَا عَلَى الِاتِّصَالِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وَلَايَةٍ، فَهُوَ تَغْرِيرٌ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِقَوْلِهِ تَحْرِيضَ سَامِعٍ، وَاتَّفَقَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَنَّهُ زَوَّجَهَا لِمَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ، فَلَيْسَ مَا جَرَى تَغْرِيرًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ لَا فِي مَعْرِضِ التَّحْرِيضِ، وَجَرَى الْعَقْدُ عَلَى الِاتِّصَالِ أَوْ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ التَّحْرِيضِ، وَجَرَى الْعَقْدُ بَعْدَ زَمَانٍ فَاصِلٍ، فَفِي كَوْنِهِ تَغْرِيرًا تَرَدُّدٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يُعْتَبَرُ الِاتِّصَالُ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا أَطْلَقَهُ الْغَزَالِيُّ ; لِأَنَّ تَعَلُّقَ الضَّمَانِ أَوْسَعُ بَابًا. فَصْلٌ إِذَا غَرَّ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ وَصَحَّحْنَا النِّكَاحَ، فَأَوْلَادُهُ الْحَاصِلُونَ مِنْهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِرِقِّهَا أَحْرَارٌ لِظَنِّهِ الْحُرِّيَّةَ، سَوَاءٌ أَجَازَ الْعَقْدَ أَوْ فَسَخَهُ، إِذَا خَيَّرْنَاهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَغْرُورُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الظَّنِّ، ثُمَّ عَلَى الْمَغْرُورِ قِيمَةُ الْأَوْلَادِ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ عَلَى

الْمَشْهُورِ ; لِأَنَّهُ فَوَّتَ رِقَّهُمْ بِظَنِّهِ. وَفِي قَوْلٍ حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. فَعَلَى الْمَشْهُورِ إِنْ كَانَ الْمَغْرُورُ حُرًّا، فَالْقِيمَةُ مُسْتَقِرَّةٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، فَهَلْ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ أَمْ بِرَقَبَتِهِ أَمْ بِكَسْبِهِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأَوْلَادِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ. وَأَمَّا الْأَوْلَادُ الْحَاصِلُونَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِرِقِّهَا، فَهُمْ أَرِقَّاءُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَغْرُورُ عَرَبِيًّا أَوْ غَيْرَهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ: أَنَّ الْعَرَبَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمُ الرِّقَّ، وَالْمَشْهُورُ أَنْ لَا فَرْقَ. ثُمَّ فِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: فِي الرُّجُوعِ بِالْمَهْرِ الْمَغْرُومِ عَلَى الْغَارِّ قَوْلَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الْعَيْبِ، وَأَمَّا قِيمَةُ الْأَوْلَادِ، فَيُرْجَعُ بِهَا عَلَى الْغَارِّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالرُّجُوعِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِذَا غُرِّمَ كَالضَّامِنِ. فَقَدْ سَبَقَ فِي الضَّامِنِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَرْجِعُ قَبْلَ غَرَمِهِ، فَيَجِيءُ مِثْلُهُ هُنَا. وَالصَّحِيحُ، الْمَنْعُ. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمَغْرُورُ عَبْدًا وَعَلَّقْنَا الْقَيِّمَةَ بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ بَعْدَ عِتْقِهِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُغَرَّمُ. أَمَّا إِذَا عَلَّقْنَاهَا بِكَسْبِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ، وَغُرِّمَ سَيِّدُهُ مِنْ كَسْبِهِ، أَوْ مِنْ رَقَبَتِهِ، فَيَرْجِعُ فِي الْحَالِ، وَلِلْمَغْرُورِ مُطَالَبَةُ الْغَارِّ بِتَحْصِيلِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي «بَابِ الضَّمَانِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْمَغْرُورُ عَبْدًا وَقَدْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ، فَحَيْثُ يَجِبُ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ كَسْبُهُ، وَحَيْثُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، أَمْ بِرَقَبَتِهِ، أَمْ بِكَسْبِهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: الْأَوَّلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا يُتَصَوَّرُ الْغُرُورُ بِحُرِّيَّةِ الْأُمَّةِ مِنَ السَّيِّدِ ; لِأَنَّهُ مَتَى قَالَ: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْحُرَّةَ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، عَتَقَتْ. وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ وَكِيلِ السَّيِّدِ فِي تَزْوِيجِهَا، أَوْ مِنْهَا، أَوْ مِنْهُمَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ مَنْ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَلَا مَعْقُودٍ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنَ الْوَكِيلِ، رَجَعَ الْمَغْرُورُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ إِذَا غُرِّمَهَا، وَبِالْمَهْرِ إِنْ أَثْبَتْنَا الرُّجُوعَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنَ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ، كَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا،

لَكِنْ لَا يَرْجِعُ فِي الْحَالِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ الْغُرْمُ بِذِمَّتِهَا، تُطَالِبُ بِهِ إِذَا عَتَقَتْ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهَا قَطْعًا وَلَا بِرَقَبَتِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى الْوَكِيلِ، يَرْجِعُ بِكُلِّ الْمَهْرِ ; لِأَنَّ الْمَهْرَ لِلسَّيِّدِ وَقَدْ أَخَذَهُ. وَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْهَا وَمِنَ الْوَكِيلِ، فَالرُّجُوعُ عَلَيْهِمَا. وَفِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ عَلَى الْوَكِيلِ فِي الْحَالِ، وَبِالنِّصْفِ عَلَيْهَا إِذَا عَتَقَتْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْجَمِيعِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، عَلَى الْوَكِيلِ فِي الْحَالِ وَعَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَإِنْ رَجَعَ - هَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ -: يَرْجِعُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ بِالنِّصْفِ عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ الْحَنَّاطِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ ; لِأَنَّ التَّغْرِيرَ كَامِلٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ ذَكَرَتْ لِلْوَكِيلِ حُرِّيَّتَهَا، ثُمَّ ذَكَرَهَا الْوَكِيلُ لِلزَّوْجِ، رَجَعَ الْمَغْرُورُ عَلَى الْوَكِيلِ وَالْوَكِيلُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ. وَإِنْ ذَكَرَتْ لِلْوَكِيلِ ثُمَّ ذَكَرَتْ لِلزَّوْجِ، فَالرُّجُوعُ عَلَيْهَا وَإِنْ ذَكَرَ الْوَكِيلُ لِلزَّوْجِ أَيْضًا ; لِأَنَّهَا لَمَّا شَافَهَتِ الزَّوْجَ خَرَجَ الْوَكِيلُ مِنَ الْوَسَطِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَعَلَى هَذَا، فَصُورَةُ تَغْرِيرِهِمَا أَنْ يَذْكُرَا مَعًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ خَرَجَتِ الَّتِي غُرَّ بِحُرِّيَّتِهَا مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُعَلَّقَةً بِصِفَةٍ، فَالْكَلَامُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، ثُمَّ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ كَمَا سَبَقَ، إِذَا كَانَتْ قِنَّةً، لَكِنْ إِذَا خَرَجَتْ مُكَاتَبَةً وَفُسِخَ النِّكَاحُ، فَلَا مَهْرَ لَهَا إِذَا كَانَ الْغُرُورُ مِنْهَا ; لِأَنَّ الْمَهْرَ لِلْمُكَاتَبَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْغُرْمِ لَهَا وَالِاسْتِرْدَادِ مِنْهَا. وَهَلْ يَجِبُ أَقَلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْعَيْبِ. وَالْأَوْلَادُ الْحَاصِلُونَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْحَالِ أَحْرَارٌ، وَعَلَى الْمَغْرُورِ قِيمَتُهُمْ. وَلِمَنْ تَكُونُ الْقِيمَةُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ قِنٌّ لِلسَّيِّدِ أَمْ مَكَاتَبٌ كَالْأُمِّ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَكَاتَبٌ فَقَتَلَهُ قَاتِلٌ، فَهَلْ قِيمَتُهُ لِلسَّيِّدِ أَمْ لِلْمُكَاتَبَةِ تَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْأَدَاءِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فَإِذَا قُلْنَا: الْوَلَدُ لِلسَّيِّدِ، أَوْ قُلْنَا: هُوَ مَكَاتَبٌ، وَإِذَا قُتِلَ، فَالْقِيمَةُ لِلسَّيِّدِ، غُرِّمَ الْمَغْرُورُ قِيمَةَ الْأَوْلَادِ

لِلسَّيِّدِ، وَيُرْجَعُ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ، وَعَلَيْهَا إِنْ غَرَّتْ، وَيُأْخَذُ مِنْ كَسْبِهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَسْبٌ، فَفِي ذِمَّتِهَا إِلَى أَنْ تُعْتَقَ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقِيمَةَ لَهَا، فَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْهَا، لَمْ يُغَرِّمِ الْقِيمَةَ لَهَا كَالْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَكِيلِ، غُرِّمَ لَهَا وَرَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ. فَرْعٌ إِذَا حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ بِخُلْفِ الشَّرْطِ، فَالرُّجُوعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا غَرِمَهُ الزَّوْجُ بِالْوَطْءِ وَالرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ إِذَا غَرِمَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعًا عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ. فَرْعٌ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ قِيمَةِ الْوَلَدِ، هُوَ فِيمَا إِذَا انْفَصَلَ الْجَنِينُ حَيًّا. فَلَوِ انْفَصَلَ مَيِّتًا، نُظِرَ إِنِ انْفَصَلَ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهٌ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي وَطْءِ الْغَاصِبِ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ. وَإِنِ انْفَصَلَ بِجِنَايَةٍ، بِأَنْ ضَرَبَ بَطْنَهَا فَأُجْهِضَتْ، فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا، فَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْغُرَّةُ وَيُغَرَّمُهُ الْمَغْرُورُ ; لِأَنَّهُ يُغَرَّمُ لَهُ فَيُغَرَّمُهُ. وَقِيلَ: لَا يُغَرَّمُهُ إِذْ لَا قِيمَةَ لِلْمَيِّتِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَضَمَانُهُ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ ; لِأَنَّ الْجَنِينَ الرَّقِيقَ يُغَرَّمُ بِهَذَا الْقَدْرِ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْغُرَّةِ مِثْلَ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ، أَوْ أَكْثَرَ، فَالْمُسْتَحَقُّ لِلسَّيِّدِ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعُشْرُ أَكْثَرَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَسْتَحِقُّ الْعُشْرَ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْإِمَامِ وَغَيْرِهِمَا، وَنَسَبَهُ الْبَغَوِيُّ إِلَى الْعِرَاقِيِّينَ ; لِأَنَّهُ قَدْرُ مَا فَوَّتَهُ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِلَّا قَدْرُ الْغُرَّةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْوَاجِبَ أَقَلُّ

الْأَمْرَيْنِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يُتَوَقَّفُ تَغْرِيمُهُ عَلَى حُصُولِ الْغُرَّةِ لَهُ. وَعَلَى الثَّانِي، يُتَوَقَّفُ وَيُنْظَرُ إِلَى مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْغُرَّةِ، فَإِنْ كَانَ يَجُوزُ مِيرَاثُ الْجَنِينِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَيُغَرَّمُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حِصَّتِهِ مِنَ الْغُرَّةِ وَالْعُشْرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَرِثَ مَعَ الْأَبِ الْمَغْرُورِ إِلَّا الْجَدَّةَ أُمَّ الْأُمِّ، وَلَا تَسْقُطُ بِالْأُمِّ لِأَنَّهَا رَقِيقَةٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَانِي هُوَ الْمَغْرُورُ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الْغُرَّةُ، وَيَلْزَمُ الْمَغْرُورَ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ إِنْ قُلْنَا فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ بِالْأَصَحِّ: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُشْرَ وَتُسَلَّمُ الْغُرَّةُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، تَعَلَّقَ حَقُّ السَّيِّدِ بِالْغُرَّةِ فَيُؤَدِّي مِنْهَا، وَمَا فَضَلَ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، لَا يَرِثُ الْمَغْرُورُ مِنْهَا شَيْئًا ; لِأَنَّهُ قَاتِلٌ وَلَا يَحْجِبُ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْعَصَبَاتِ. فَإِنْ كَانَ الْمَغْرُورُ عَبْدًا، تَعَلَّقَتِ الْغُرَّةُ بِرَقَبَتِهِ. ثُمَّ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْغُرَّةَ وَلَمْ نُوجِبْ زِيَادَةً عَلَيْهَا، فَإِذَا حَصَلَتِ الْغُرَّةُ، صُرِفَ إِلَى السَّيِّدِ مِنْهَا عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنِ اعْتَبَرَنَا التَّفْوِيتَ، سُلِّمَتِ الْغُرَّةُ لِلْوَرَثَةِ، وَتَعَلَّقَ حَقُّ السَّيِّدِ بِذِمَّةِ الْمَغْرُورِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْجَانِي عَبْدَ الْمَغْرُورِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا التَّفْوِيتَ، فَحَقُّ سَيِّدِ الْأَمَةِ عَلَى الْمَغْرُورِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ الْغُرَّةُ بِرَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ الْمَغْرُورُ حَائِزَ مِيرَاثِ الْجَنِينِ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى عَبْدِهِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَدَّةُ الْجَنِينِ، تَعَلَّقَ نَصِيبُهَا بِرَقَبَتِهِ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ، تَعَلَّقَتِ الْغُرَّةُ بِرَقَبَتِهِ لِيُؤَدِّيَ مِنْهَا حَقَّ السَّيِّدِ. فَإِنْ فَضَلَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْجَانِي سَيِّدَ الْأَمَةِ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الْغُرَّةُ. ثُمَّ إِنِ اعْتَبَرْنَا التَّفْوِيتَ، سُلِّمَتِ الْغُرَّةُ لِلْوَرَثَةِ وَغُرِّمَ الْمَغْرُورُ لِلسَّيِّدِ عُشْرَ قِيمَةِ الْأُمِّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: انْفِصَالُهُ بِجِنَايَةِ السَّيِّدِ، كَانْفِصَالِهِ بِلَا جِنَايَةٍ، فَلَا يُغَرَّمُ الْمَغْرُورُ شَيْئًا،

وَإِنِ اعْتَبَرْنَا أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَا حَصَلَتِ الْغُرَّةُ، صُرِفَ مِنْهَا الْعُشْرُ إِلَى السَّيِّدِ. فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا كَانَتِ الْغُرَّةُ قَدْرَ الْعُشْرِ أَوْ أَقَلَّ، وَصَرَفْنَاهَا إِلَى السَّيِّدِ، كَانَ الْحَاصِلُ إِيجَابَ الْمَالِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي لِلْجَانِي وَهُوَ مُسْتَبْعَدٌ. فَرْعٌ خِيَارُ الْخُلْفِ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ وَغَيْرُهُ، الْمَذْهَبُ: نَعَمْ كَخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالثَّانِي: عَلَى أَقْوَالِ خِيَارِ الْعِتْقِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْفَسْخَ، انْفَرَدَ بِهِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ كَخِيَارِ عَيْبِ الْمَبِيعِ، وَلَكِنَّ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلْيَكُنْ كَخِيَارِ عَيْبِ النِّكَاحِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْعِتْقُ، فَإِذَا عَتَقَتْ أَمَةٌ تَحْتَ حُرٍّ، فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، فَلَهَا الْخِيَارُ إِنْ عَتَقَتْ كُلُّهَا، فَإِنْ أُعْتِقَ بَعْضُهَا، فَلَا خِيَارَ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَهَا الْخِيَارُ. وَلَوْ دُبِّرَتْ أَوْ كُوتِبَتْ أَوْ عُلِّقَ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ، فَلَا خِيَارَ. وَلَوْ عَتَقَتْ تَحْتَ مَكَاتَبٍ أَوْ مُدَبَّرٍ أَوْ مَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ، فَلَهَا الْخِيَارُ. وَلَوْ عَتَقَ الزَّوْجُ وَتَحْتَهُ أَمَةٌ، فَلَا خِيَارَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَوِ الْمَشْهُورِ. وَلَوْ عَتَقَا مَعًا، فَلَا خِيَارَ، وَيَثْبُتُ خِيَارُ الْعِتْقِ لِلصَّبِيَّةِ وَالْمَجْنُونَةِ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ، وَلَا يَقُومُ الْوَلِيُّ مَقَامَهُمَا فِي الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ. وَلَوْ عَتَقَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ تَفْسَخَ الْعَتِيقَةُ، بَطَلَ خِيَارُهَا عَلَى الْأَظْهَرِ الْمَنْصُوصِ فِي الْمُخْتَصَرِ. فُرُوعٌ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا فَعَتَقَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَلَهَا الْفَسْخُ لِيَقْطَعَ سَلْطَنَةَ الرَّجْعَةِ.

وَقِيلَ: الْفَسْخُ مَوْقُوفٌ، إِنْ رَاجَعَهَا، نَفَذَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا فَسَخَتْ هَلْ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةً، أَمْ تَكْفِي بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ؟ قَوْلَانِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ الرَّجْعِيَّةَ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْبِنَاءِ، فَتُكْمِلُ عِدَّةَ حُرٍّ أَوْ أَمَةٍ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَوْضِعُهُ «كِتَابُ الْعُدَدِ» . وَلَوْ أَخَّرَتِ الْفَسْخَ، فَلَهَا ذَلِكَ، وَلَا يَبْطُلُ لَهَا. وَلَوْ أَجَازَتْ، لَمْ تَنْفُذِ الْإِجَازَةُ ; لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةً جَارِيَةٌ إِلَى بَيْنُونَةٍ، فَالْإِجَازَةُ لَا تُلَائِمُ حَالَهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَمْ يُخْرِجُوهُ عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ ; لِأَنَّ شَرْطَ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدُ الْعَقْدِ [قَابِلًا لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ] وَحُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ حِكَايَةُ وَجْهٍ فِي نُفُوذِ إِجَازَتِهَا. وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ تَخْرِيجًا عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ، فَإِنْ رَاجَعَهَا، نَفَذَتْ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ ثَبَتَ لَهَا خِيَارُ الْعِتْقِ، فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ تَفْسَخَ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، بَقِيَ حَقُّهَا فِي الْفَسْخِ وَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ أُعْتِقَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَإِنْ كَانَ بَائِنًا، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ مَوْقُوفٌ، وَإِنْ فَسَخَتْ، بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ، وَإِلَّا بَانَ وُقُوعُهُ وَهَذَا نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» . وَأَظْهَرُهُمَا يَقَعُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْإِمْلَاءِ» لِمُصَادَفَتِهِ النِّكَاحَ، وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ. وَلَوْ طَلَّقَ الزَّوْجُ الْمَعِيبَ قَبْلَ فَسْخِهَا، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَوَقْفِهِ هَذَا الْخِلَافُ. الْفَرْعُ الثَّانِي: إِذَا فَسَخَتِ الْعَتِيقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهَا مِنَ الْفَسْخِ. وَإِنْ فَسَخَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، نُظِرَ، إِنْ تَقَدَّمَ الدُّخُولُ عَلَى الْعِتْقِ، وَجَبَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَكَانَتْ جَاهِلَةً بِالْحَالِ، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: الْمُسَمَّى، وَقِيلَ: خِلَافٌ فِيهِمَا. وَأَيُّهُمَا أَوْجَبْنَاهُ، فَهُوَ لِلسَّيِّدِ، وَكَذَا لَوِ اخْتَارَتِ الْمَقَامَ مَعَهُ، وَجَرَى فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ صَحِيحَةٌ أَوْ فَاسِدَةٌ، فَالْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ ; لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ.

وَإِنْ زُوِّجَهَا مُفَوَّضَةً، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ أَوْ فَرَضَ لَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ أَيْضًا. وَإِنْ عَتَقَتْ ثُمَّ دَخَلَ بِهَا، أَوْ فَرَضَ لَهَا، فَهَلِ الْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ أَمْ لَهَا؟ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَهْرَ الْمُفَوَّضَةِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ أَمْ بِالْفَرْضِ أَوِ الدُّخُولِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: خِيَارُ الْعِتْقِ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: يَمْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي قَوْلٍ: إِلَى أَنْ يُصَرِّحَ بِإِسْقَاطِهِ، أَوْ تَمَكَّنَ مِنَ الْوَطْءِ طَائِعَةً. وَفِي وَجْهٍ: تَتَقَدَّرُ بِالْمَجْلِسِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْفَوْرِ، فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ وَفِي الشُّفْعَةِ. قَالَ الْإِمَامُ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: ابْتِدَاءُ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ مِنْ وَقْتِ تَخْيِيرِهَا، وَذَلِكَ إِذَا عَلِمَتْ بِالْعِتْقِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَلَا يُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ الْعِتْقِ. وَذَكَرَ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ، أَنَّهَا لَوْ مَكَّنَتْ وَلَمْ يُصِبْهَا الزَّوْجُ، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهَا ; لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنَ الْوَطْءِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْوَطْءِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَصَابَهَا الزَّوْجُ قَهْرًا، فَفِي سُقُوطِ الْخِيَارِ تَرَدُّدٌ لِتَمَكُّنِهَا مِنَ الْفَسْخِ عِنْدَ الْوَطْءِ، فَإِنْ كَانَ قُبِضَ عَلَى فَمِهَا، بَقِيَ حَقُّهَا قَطْعًا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ قَالَ: أَصَبْتُهَا فَأَنْكَرَتْ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَعَدَمُ الْإِصَابَةِ. وَإِذَا اعْتَبَرْنَا الْفَوْرَ، فَتَمَكَّنَتْ وَلَمْ تَفْسَخْ، أَوْ مَضَتِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ، أَوْ مَكَّنَتْ مِنَ الْوَطْءِ، إِذَا اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ ادَّعَتِ الْجَهْلَ بِالْعِتْقِ، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا إِنْ لَمْ يُكَذِّبْهَا ظَاهِرُ الْحَالِ. فَإِنْ كَذَّبَهَا، بِأَنْ كَانَتْ مَعَهُ فِي بَيْتِهِ وَيَبْعُدُ خَفَاءُ الْعِتْقِ عَلَيْهَا، فَالْمُصَدَّقُ الزَّوْجُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: فِي الْمُصَدَّقِ قَوْلَانِ مُطْلَقًا. فَإِنِ ادَّعَتِ الْجَهْلَ بِأَنَّ الْعِتْقَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، صُدِّقَتْ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوِ ادَّعَتِ الْجَهْلَ بِأَنَّ الْخِيَارَ عَلَى الْفَوْرِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا تُعْذَرُ، وَلَمْ أَرَ الْمَسْأَلَةَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَلَكِنْ ذَكَرَهَا الْعَبَّادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» .

وَقَالَ: إِنْ كَانَتْ قَدِيمَةَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَخَالَطَتْ أَهْلَهُ، لَمْ تُعْذَرْ، وَإِنْ كَانَتْ حَدِيثَةَ الْعَهْدِ بِهِ أَوْ لَمْ تُخَالِطْ أَهْلَهُ، فَقَوْلَانِ. فَرْعٌ هَذَا الْفَسْخُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُرَاجَعَةِ الْحَاكِمِ، وَلَا إِلَى الْمُرَافَعَةِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالشُّفْعَةِ. قُلْتُ: وَلِلزَّوْجِ وَطْءُ الْعَتِيقَةِ مَا لَمْ تَفْسَخْ، وَكَذَا لِزَوْجِ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، الْعَتِيقَيْنِ وَطْؤُهُمَا مَا لَمْ تَفْسَخَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: التَّعْنِينُ، فَالتَّعْنِينُ مُثْبِتٌ لِلْخِيَارِ، وَكَذَا الْجَبُّ إِنْ لَمْ يَبْقَ مَا يُمْكِنُ الْجِمَاعُ بِهِ، كَأَنْ لَا يَبْقَى قَدْرُ الْحَشَفَةِ، فَإِنْ بَقِيَ دُونَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ، أَوْ بَقِيَ قَدْرُهَا فَأَكْثَرُ، فَلَا خِيَارَ بِسَبَبِ الْجَبِّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَعَنِ ابْنِ سَلَمَةَ، أَنَّهُ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْخَصْيِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَوْ عَجَزَ عَنِ الْجِمَاعِ بِهِ، فَهُوَ كَالسَّلِيمِ الْعَاجِزِ، فَتُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْحَالِ ; لِأَنَّ الْعَيْبَ مُتَحَقِّقٌ، وَالظَّاهِرُ دَوَامُ الْعَجْزِ، وَفِي مَعْنَاهُ الْمَرَضُ الْمُزْمِنُ الَّذِي لَا يُتَوَقَّعُ زَوَالُهُ، وَلَا يُمْكِنُ الْجِمَاعُ مَعَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ وَجَدَتْ زَوْجَهَا خَصِيًّا مَوْجُوءَ الْخُصْيَتَيْنِ أَوْ مَسْلُولَهُمَا، فَلَا خِيَارَ عَلَى الْأَظْهَرِ الْجَدِيدِ. وَقِيلَ: لَا خِيَارَ قَطْعًا. فَرْعٌ الْعُنَّةُ الطَّارِئَةُ لَا تُؤَثِّرُ ; لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَحَقَّقَتْ بِالْوَطْءِ، فَالْعَجْزُ بِعَارِضٍ. وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَعَنَّ عَنْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلَّتِي عَنَّ عَنْهَا، لِفَوَاتِ

فصل

الِاسْتِمْتَاعِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَقَدْ يَتَّفِقُ ذَلِكَ لِانْحِبَاسِ الشَّهْوَةِ عَنِ امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِسَبَبِ نُفْرَةٍ أَوْ حَيَاءٍ، وَيَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهَا لِمَيْلٍ أَوْ أُنْسٍ. فَأَمَّا الْعَجْزُ الْمُحَقِّقُ لِضَعْفٍ فِي الدِّمَاغِ أَوِ الْقَلْبِ أَوِ الْكَبِدِ، أَوْ لِخَلَلٍ فِي نَفْسِ الْآلَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالنِّسْوَةِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يُفْرَضُ الْعَجْزُ عَنِ الْقُبُلِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الدُّبُرِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِيهِ وَجْهًا بَعِيدًا، وَلَوْ عَجَزَ عَنِ افْتِرَاعِ بِكْرٍ وَقَدَرَ عَلَى ثَيِّبٍ، فَلِلْبِكْرِ الْخِيَارُ. فَصْلٌ إِذَا اعْتَرَفَتْ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَطْءِ وَقَالَتْ: إِنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ، فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَهَلْ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِوَطْأَةٍ وَاحِدَةٍ؟ وَهَلْ يُجْبَرُ هُوَ عَلَيْهَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا ; لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْوَطَآتِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ لِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: اسْتِقْرَارُ الْمَهْرِ. وَالثَّانِي: حُصُولُ الِاسْتِمْتَاعِ لِلتَّعَفُّفِ. فَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ الْوَطْأَةُ فَكَانَتْ أَمَةً، فَالطَّلَبُ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَلَهَا عَلَى الثَّانِي. وَلَوْ أَبْرَأَتِ الْحُرَّةُ عَنْ مَهْرِهَا، فَلَا مُطَالَبَةَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَتُطَالِبُ عَلَى الثَّانِي، وَلَا يُرْهَقُ إِلَى الْوَطْءِ بَلْ يُمْهَلُ لِيَسْتَعِدَّ لَهُ عَلَى الْعَادَةِ. وَلَوْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ أَوْ عُذْرٌ، أُمْهِلَ إِلَى زَوَالِهِ. وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ بِلَا عُذْرٍ، حُبِسَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَرَّجَ مِنَ الْإِيلَاءِ أَنْ يُطَلِّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، لَكِنْ لَمْ يُخَرِّجُوهُ. فَرْعٌ تَسْقُطُ مُطَالَبَةٌ الْعَنِينِ بِالْفَسْخِ، وَغَيْرِ الْعَنِينِ إِذَا أَوْجَبْنَا وَطْأَهُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ،

فصل

فَإِنَّ أَحْكَامَ الْوَطْءِ كُلَّهَا مَنُوطَةٌ بِهِ كَالتَّحْلِيلِ، وَالتَّحْصِينِ وَالْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالْغُسْلِ، وَفَسَادِ الْعِبَادَةِ، وَثُبُوتِ الْمُصَاهَرَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَسَبَبُهُ بَعْدَ الِاتِّبَاعِ، أَنَّ الْحَشَفَةَ هِيَ الَّتِي تُحِسُّ تِلْكَ اللَّذَّةَ، قَالَ: وَيَعْنِي بِتَغَيُّبَهَا أَنْ يَشْتَمِلَ الشَّفْرَانِ وَمُلْتَقَاهُمَا عَلَيْهَا. أَمَّا لَوِ انْقَلَبَ الشَّفْرَانِ إِلَى الْبَاطِنِ وَكَانَتِ الْحَشَفَةُ تُلَاقِي مَا انْعَكَسَ مِنَ الْبَشَرَةِ الظَّاهِرَةِ، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ ; لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي حَيِّزِ الْبَاطِنِ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ، أَنَّ أَقَلَّ مَا يَزُولُ بِهِ حُكْمُ التَّعْنِينِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا أَنْ يَقْتَضَّهَا بِآلَةِ الِاقْتِضَاضِ. وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَأَنْ تُغَيِّبَ الْحَشَفَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِضَاضِ لَا يَحْصُلُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ. وَلَوْ جُبَّ بَعْضُ ذَكَرِهِ فَغَيَّبَ مِنَ الْبَاقِي قَدْرَ الْحَشَفَةِ، فَهُوَ كَتَغَيُّبِ الْحَشَفَةِ مِنَ السَّلِيمِ. وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ تَغَيُّبُ جَمِيعَ الْبَاقِي وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَظَاهِرُ النَّصِّ مُؤَوَّلٌ. فَصْلٌ وَجَدَتْهُ عَنِينًا فَرَفَعَتْهُ إِلَى الْقَاضِي وَادَّعَتْ عَنَتَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا أَوْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً عَلَى إِقْرَارِهِ بِهَا، ثَبَتَتْ. وَإِنْ أَنْكَرَ، حُلِّفَ، فَإِنْ حَلَفَ، لَمْ يُطَالَبْ بِتَحْقِيقِ مَا قَالَهُ بِالْوَطْءِ، وَامْتَنَعَ الْفَسْخُ، وَيَعُودُ مَا سَبَقَ أَنَّهُ هَلْ يُطَالَبُ بِوَطْأَةٍ وَاحِدَةٍ؟ وَإِنْ نَكَلَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهَا، وَلَهَا أَنْ تَحْلِفَ إِذَا بَانَ لَهَا عَنَتُهُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَطُولِ الْمُمَارِسَةِ. وَالثَّانِي: يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَتُضْرَبُ الْمُدَّةُ بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَالثَّالِثُ: لَا تُرَدُّ عَلَيْهَا وَلَا يُقْضَى بِنُكُولِهِ. وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ وَجْهًا أَنَّ تَحْلِيفَ الزَّوْجِ لَا يُشْرَعُ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ لَا تُرَدُّ عَلَيْهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ، ثُمَّ ثُبُوتُ الْعُنَّةِ لَا يُفِيدُ

الْخِيَارَ فِي الْحَالِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ يَضْرِبُ لِلزَّوْجِ مُدَّةَ سَنَةٍ يُمْهِلُهُ فِيهَا، وَابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ ضَرْبِ الْقَاضِي لَا مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ ; لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَإِنَّمَا تُضْرَبُ الْمُدَّةُ إِذَا طَلَبَتِ الْمَرْأَةُ، لَكِنْ لَوْ سَكَتَتْ وَحَمَلَ الْقَاضِي سُكُوتَهَا عَلَى دَهْشَةٍ أَوْ جَهْلٍ، فَلَا بَأْسَ بِتَنْبِيهِهَا ثُمَّ قَوْلُهَا: أَنَا طَالِبَةُ حَقِّي عَلَى مُوجَبِ الشَّرْعِ، كَافٍ فِي ضَرْبِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ جَهَلَتْ تَفْصِيلَ الْحُكْمِ، وَسَوَاءٌ فِي الْمُدَّةِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، فَإِذَا تَمَّتْ السَّنَةُ وَلَمْ يُصِبْهَا، لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ، وَلَيْسَ لَهَا فَسْخُهُ، بَلْ تَرْفَعُهُ ثَانِيًا إِلَى الْقَاضِي. وَعَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ، أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا رَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَإِنِ ادَّعَى الْإِصَابَةَ فِي الْمُدَّةِ، حُلِّفَ، فَإِنْ نَكَلَ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَإِذَا حَلَفَتْ، أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا فِي الْمُدَّةِ، فَقَدْ جَاءَ وَقْتُ الْفَسْخِ، فَإِنِ اسْتَمْهَلَ ثَلَاثًا، فَهَلْ يُمْهَلُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِيلَاءِ. وَفِي اسْتِقْلَالِهَا بِالْفَسْخِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاسْتِقْلَالُ كَمَا يَسْتَقِلُّ بِالْفَسْخِ مَنْ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ تَغَيُّرًا وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ كَوْنَهُ عَيْبًا، وَأَقَامَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عِنْدَ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَسْخَ إِلَى الْقَاضِي ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، أَوْ يَأْمُرُهَا بِالْفَسْخِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ، وَالْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي فَصْلِ الْعُيُوبِ مَفْرُوضَانِ فِي الِاسْتِقْلَالِ دُونَ الْمُرَافَعَةِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَهَا الْفَسْخُ بِنَفْسِهَا، فَهَلْ يَكْفِي لِنُفُوذِ الْفَسْخِ إِقْرَارُ الزَّوْجِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِ الْقَاضِي: ثَبَتَتِ الْعُنَّةُ أَوْ ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ فَاخْتَارِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ الْفَسْخَ، وَلَمْ يَقُلِ الْقَاضِي: نَفَّذَتْهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ، هَلْ يَصِحُّ الرُّجُوعُ وَيَبْطُلُ الْفَسْخُ؟ وَجْهَانِ فِي «مَجْمُوعِ ابْنِ الْقَطَّانِ» . أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِلَافُ مُفَرَّعًا عَلَى اسْتِقْلَالِهَا بِالْفَسْخِ، أَمَّا إِذَا فَسَخَتْ بِإِذْنٍ، فَإِنَّ الْإِذْنَ السَّابِقَ كَالتَّنْفِيذِ.

فَرْعٌ إِنَّمَا تُحْسَبُ [الْمُدَّةُ] إِذَا لَمْ تَعْتَزِلْ عَنْهُ. فَإِنِ اعْتَزَلَتْ أَوْ مَرِضَتْ، لَمْ تُحْسَبْ. وَلَوْ سَافَرَتْ حُبِسَتْ عَلَى الْأَصَحِّ لِئَلَّا يُدَافِعَ الْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ. وَإِذَا عَرَضَ مَا يَمْنَعُ الِاحْتِسَابَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ وَزَالَ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ السَّنَةَ أَوْ يَنْتَظِرَ مُضِيَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْفَصْلِ فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى. فَرْعٌ الْفَسْخُ بِالْعُنَّةِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، كَالْفَسْخِ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ هُنَاكَ. وَإِذَا رَضِيَتْ بِالْمَقَامِ مَعَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْفَسْخِ، وَلَا رُجُوعَ لَهَا إِلَيْهِ. فَإِنْ فَسَخَتْ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، لَمْ تُنَفِّذْ. وَإِنْ أَجَازَتْ وَرَضِيَتْ بِالْمَقَامِ مَعَهُ فِي الْمُدَّةِ، أَوْ قَبْلَ ضَرْبِ الْمُدَّةِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَغْوٌ، وَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْمُدَّةِ. وَإِنْ رَضِيَتْ بَعْدَ الْمُدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا ثُمَّ رَاجَعَهَا، لَمْ يَعُدْ حَقُّ الْفَسْخِ ; لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِعُنَّتِهِ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَيُتَصَوَّرُ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ بِغَيْرِ وَطْءٍ يُزِيلُ الْعُنَّةَ، بِأَنْ يَسْتَدْخِلَ مَاءَهُ، أَوْ يَطَأَهَا فِي الدُّبُرِ، فَتَجِبُ الْعِدَّةُ وَحُكْمُ الْعُنَّةِ بَاقٍ. وَلَوْ بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، أَوْ فَسَخَتِ النِّكَاحَ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا، فَفِي تَجَدُّدِ حَقِّ الْفَسْخِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: التَّجَدُّدُ ; لِأَنَّهُ

نِكَاحٌ جَدِيدٌ، وَتُضْرَبُ الْمُدَّةُ ثَانِيًا. وَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً ابْتِدَاءً، وَأَعْلَمَهَا أَنَّهُ عَنِينٌ، فَقَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ: هُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ، فِيمَا إِذَا نَكَحَ امْرَأَةً ابْتِدَاءً وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّهُ حَكَمَ بِعُنَّتِهِ فِي حَقِّ امْرَأَةٍ أُخْرَى، طَرِيقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالثُّبُوتِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجَزُ عَنِ امْرَأَةٍ دُونَ أُخْرَى. وَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً أَوْ أَصَابَهَا ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ نَكَحَهَا وَعَنَّ عَنْهَا، فَلَهَا الْخِيَارُ قَطْعًا ; لِأَنَّهَا نَكَحَتْهُ غَيْرَ عَالِمَةٍ بِعُنَّتِهِ فَرْعٌ إِذَا ادَّعَتِ امْرَأَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْعُنَّةَ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهَا وَلَمْ تُضْرَبْ مُدَّةٌ ; لِأَنَّ الْمُدَّةَ وَالْفَسْخَ يَعْتَمِدَانِ إِقْرَارَ الزَّوْجِ أَوْ يَمِينَهَا بَعْدَ نُكُولِهِ، وَقَوْلُهُمَا سَاقِطٌ. وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا الصَّبِيُّ، أُجِّلَ، وَلَمْ يُثْبِتْهُ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ قَوْلًا وَقَالُوا: غَلَطَ الْمُزَنِيُّ. وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي «الْأُمِّ» وَالْقَدِيمُ: إِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا الْخَصِيُّ، أُجِّلَ، وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْخَصِيِّ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ بِالْإِخْصَاءِ أَوْ رَضِيَتْ بِهِ وَوَجَدَتْهُ مَعَ الْإِخْصَاءِ عَنِينًا، وَإِلَّا، فَالْخِيَارُ فِي الْخَصِيِّ لَا تَأْجِيلَ فِيهِ كَالْجَبِّ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا أَنَّ الْمُرَاهِقَ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ الْجِمَاعُ، تُسْمَعُ دَعْوَى التَّعْنِينِ عَلَيْهِ وَتُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

فصل

فَرْعٌ جُنَّ الزَّوْجُ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ، وَمَضَتِ السَّنَةُ وَهُوَ مَجْنُونٌ، فَطَلَبَتِ الْفَرْقَةَ، لَمْ تُجَبْ إِلَيْهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ. فَرْعٌ مَضَتِ السَّنَةُ فَأَمْهَلَتْهُ شَهْرًا أَوْ سَنَةً أُخْرَى، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ: لَهَا ذَلِكَ، وَلَهَا أَنْ تَعُودَ إِلَى الْفَسْخِ مَتَى شَاءَتْ، كَمَا إِذَا أُمْهِلَ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَا يُلْزَمُ الْإِمْهَالَ، وَالصَّحِيحُ بُطْلَانُ حَقِّهَا بِهَذَا الْإِمْهَالِ لِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. فَرْعٌ إِذَا فَسَخَتْ بِالْعُنَّةِ، فَلَا مَهْرَ عَلَى الْمَشْهُورِ ; لِأَنَّهُ فَسْخٌ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَفِي قَوْلٍ: كُلُّهُ، حَكَاهُمَا صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» عَنْ حِكَايَةِ الْإِصْطَخْرِيِّ. فَصْلٌ قَالَ الْأَصْحَابُ: إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْوَطْءِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ نَافِيهِ عَمَلًا بِأَصْلِ الْعَدَمِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ. إِحْدَاهَا: إِذَا ادَّعَتْ عُنَّتَهُ فَقَالَ: أَصَبْتُهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْمُدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ خَصِيًّا أَوْ مَقْطُوعَ بَعْضِ الذَّكَرِ، إِذَا كَانَ الْبَاقِي بِحَيْثُ يُمْكِنُ الْجِمَاعُ بِهِ، أَوْ، ادَّعَتْ عَجْزَهُ. وَقِيلَ: فِي الْخَصِيِّ وَالْمَقْطُوعِ،

فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُقَوِّي جَانِبَهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ الْبَاقِي، هَلْ يُمْكِنُ الْجِمَاعُ بِهِ؟ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَقَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: يَنْبَغِي أَنْ يَرَى أَهْلُ الْخِبْرَةِ لِيَعْرِفُوا قَدْرَهُ، وَيُخْبِرُوا عَنِ الْحَالِ، كَمَا لَوِ ادَّعَتْ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ فَأَنْكَرَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَلَوِ ادَّعَتْ عَجْزَهُ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ، وَادَّعَى أَنَّهَا امْتَنَعَتْ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا، وَإِلَّا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ دَوَامُ النِّكَاحِ. فَإِذَا حَلَفَ، ضَرَبَ الْقَاضِي الْمُدَّةَ ثَانِيًا وَأَسْكَنَهُمَا فِي جِوَارِ قَوْمٍ ثِقَاتٍ يَتَفَقَّدُونَ حَالَهُمَا. فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ، اعْتَمَدَ الْقَاضِي قَوْلَ الثِّقَاتِ وَجَرَى عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي. الثَّانِي: إِذَا طَالَبَتْهُ فِي الْإِيلَاءِ بِالْفَيْأَةِ وَالطَّلَاقِ فَقَالَ: وَطِئْتُهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِدَامَةً لِلنِّكَاحِ. وَلَوْ قَالَتْ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ: أَنَا بِكْرٌ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: إِنْ شَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ بِبَكَارَتِهَا، حُكِمَ بِعَدَمِ الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيفِهَا، فَلَوْ قَالَ بَعْدَ شَهَادَتِهِنَّ: أَصَبْتُهَا وَلَمْ أُبَالِغْ، فَعَادَتِ الْبَكَارَةُ وَطَلَبَ يَمِينَهَا، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ وَحَلَفَتْ. وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ شَيْئًا، لَمْ تَحْلِفْ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْإِفْصَاحِ وَابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ كَجٍّ، وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ: تَحْلِفُ الزَّوْجَةُ مَعَ الْبَيِّنَةِ عَلَى قِيَامِ الْبَكَارَةِ ; لِأَنَّ الْبَكَارَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً، فَاحْتِمَالُ الزَّوَالِ وَالْعَوْدِ قَائِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الزَّوْجُ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِاحْتِيَاطِ. ثُمَّ إِذَا حَلَفَتْ بَعْدَ دَعْوَاهُ أَوْ دُونَهَا [حَلَفَتْ] عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا، أَوْ عَلَى أَنَّ بَكَارَتَهَا هِيَ الْبَكَارَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَلَهَا حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ يَمِينِهَا. وَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ الزَّوْجُ وَبَطَلَ الْخِيَارُ. وَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ أَيْضًا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَهَا الْفَسْخُ وَيَكُونُ نُكُولُهُ كَحَلِفِهَا ; لِأَنَّ

الظَّاهِرَ أَنَّ بَكَارَتَهَا هِيَ الْأَصْلِيَّةُ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ ; لِأَنَّ مَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ، وَالْأَصْلُ دَوَامُ النِّكَاحِ. الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: قَالَتْ، طَلَّقَنِي بَعْدَ الدُّخُولِ فَلِي كُلُّ الْمَهْرِ، فَقَالَ: بَلْ قَبْلَهُ فَلَكِ النِّصْفُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِلْأَصْلِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مُؤَاخَذَةً بِقَوْلِهَا، وَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى، وَلِلزَّوْجِ نِكَاحُ بِنْتِهَا وَأُخْتِهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا فِي الْحَالِ. فَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِزَمَنٍ مُحْتَمَلٍ، ثَبَتَ النَّسَبُ وَتَقَوَّى بِهِ جَانِبُهَا، فَيُرْجَعُ إِلَى تَصْدِيقِهَا، وَتُطَالِبُ الزَّوْجَ بِالنِّصْفِ الثَّانِي، وَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينِهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْعَبَّادِيُّ ; لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ لَا يُورِثُ يَقِينَ الْوَطْءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا إِذَا ظَهَرَتِ الْبَكَارَةُ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ مَحَلُّ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ تَصْدِيقِ النَّافِي. فَإِنْ لَاعَنَ الزَّوْجُ وَنَفَى الْوَلَدَ، فَقَدْ زَالَ الْمُرَجَّحُ فَتَعُودُ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَيَسْتَمِرُّ الْأَمْرُ عَلَى مَا سَبَقَ. وَحَيْثُ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ نَافِي الْإِصَابَةِ، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُوَافِقْ عَلَى جَرَيَانِ خُلُوِّهِ، فَإِنْ وَافَقَ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ، وَالثَّانِي: تَصْدِيقُ الْمُثْبِتِ. فَعَلَى هَذَا: تُضَمُّ هَذِهِ الصُّورَةُ إِلَى مَوَاضِعَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ تَصْدِيقِ النَّافِي وَتَصِيرُ أَرْبَعَةً، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قُلْتُ: عَجَبٌ قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيمَا إِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لِزَمَنٍ مُحْتَمَلٍ أَنَّهَا الْمُصَدَّقَةُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ، فَفِي الْمُهَذَّبِ وَالتَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ، فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، فِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا، أَمْ قَوْلُهُ ; لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالْإِمْكَانِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُولِجُ بَعْضَ الْحَشَفَةِ أَوْ يُبَاشِرُ فِيمَا قَارَبَ الْفَرْجِ فَيُدْخِلُ الْمَنِيَّ فَيَلْحَقُ النَّسَبُ وَلَا وَطْءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ التَّاسِعُ فِيمَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: لَهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ، إِلَّا النَّظَرَ إِلَى الْفَرْجِ، فَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي حُكْمِ النَّظَرِ، وَإِلَّا الْإِتْيَانَ فِي الدُّبُرِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ، وَيَجُوزُ التَّلَذُّذُ بِمَا بَيْنَ الْإِلْيَتَيْنِ، وَالْإِيلَاجُ فِي الْقُبُلِ مِنْ جِهَةِ الدُّبُرِ. فَرْعٌ الْإِتْيَانُ فِي الدُّبُرِ كَالْإِتْيَانِ فِي الْقُبُلِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، كَإِفْسَادِ الْعِبَادَةِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا، لَكِنْ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ وَلَا التَّحْلِيلُ، وَلَا الْفَيْأَةُ فِي الْإِيلَاءِ، وَلَا يَزُولُ حُكْمُ التَّعْنِينِ، وَفِي هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا أَتَى السَّيِّدُ أَمَتَهُ فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَإِمْكَانُ الْوَطْءِ كَافٍ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَيَجِبُ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ قَطْعًا، وَيَسْتَقِرُّ بِهِ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ عَلَى الْمَذْهَبِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْتَقِرُّ، فَقَالَ الْحَنَّاطِيُّ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَهُ، فَلَهَا الْمُسَمَّى وَتَرُدُّ مَهْرَ الْمِثْلِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي وَجْهٍ: لَهَا الْمُسَمَّى وَمَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا وَطَلَّقَهَا، فَقَدْ وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلِلزَّوْجِ عِنْدَهَا الْمُسَمَّى. فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ، جَرَتْ أَقْوَالُ التَّقَاصِّ، وَهَذَا كَلَامٌ مُظْلِمٌ لَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ.

قُلْتُ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ، إِنَّا إِذَا قُلْنَا: لَا يَسْتَقِرُّ الْمُسَمَّى، لَا يَجِبُ أَيْضًا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَنَّاطِيُّ مُظْلِمٌ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ، وَعَجَبٌ قَوْلُهُ: وَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لَهُ عَلَيْهَا الْمُسَمَّى، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يَشْطُرُ الْمُسَمَّى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَثْبُتُ بِهِ الْمُصَاهَرَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْعِدَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يُشْتَرَطُ نُطْقُ الْمُصَابَةِ فِي دُبُرِهَا إِذَا اسْتُؤْذِنَتْ فِي النِّكَاحِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا وَطِئَ أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَلَا حَدَّ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: [حُكْمُ] الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ كَالْقُبُلِ إِلَّا فِي سَبْعَةِ أَحْكَامٍ: التَّحْلِيلِ، وَالتَّحْصِينِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْفَيْأَةِ، وَالتَّعْنِينِ، وَتَغَيُّرِ إِذْنِ الْبِكْرِ. وَالسَّادِسِ، أَنَّ الدُّبُرَ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ، وَالْقُبُلَ يَحِلُّ فِي الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ. وَالسَّابِعِ: إِذَا جُومِعَتِ الْكَبِيرَةُ فِي دُبُرِهَا، فَاغْتَسَلَتْ ثُمَّ خَرَجَ مَنِيُّ الرَّجُلِ مِنْ دُبُرِهَا، لَمْ يَجِبْ غُسْلٌ ثَانٍ، بِخِلَافِ الْقُبُلِ، فَقَدْ يَجِيءُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَزْلُ: هُوَ أَنْ يُجَامِعَ، فَإِذَا قَارَبَ الْإِنْزَالَ، نَزَعَ فَأَنْزَلَ خَارِجَ الْفَرَجِ، وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَطْلَقَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، كَرَاهَتَهُ، وَلَا يَحْرُمُ فِي السِّرِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ، صِيَانَةً لِلْمَلِكِ، وَلَا يَحْرُمُ فِي الزَّوْجَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ بِالْإِذْنِ وَغَيْرِهِ. [وَقِيلَ: يَحْرُمُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ بِغَيْرِ إِذَنٍ] وَقِيلَ: يَحْرُمُ فِي الْحُرَّةِ.

وَأَمَّا الْمُسْتَوْلَدَةُ، فَفِيهَا خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ الْحُرَّةِ، وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ لِأَنَّهَا غَيْرُ رَاسِخَةٍ فِي الْفِرَاشِ وَلِهَذَا لَا يَقْسِمُ لَهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَحَيْثُ حَرَّمْنَا، فَذَلِكَ إِذَا نَزَعَ بِقَصْدِ أَنْ يَقَعَ الْإِنْزَالُ خَارِجًا تَحَرُّزًا عَنِ الْوَلَدِ، فَأَمَّا إِذَا عَنَّ لَهُ أَنْ يَنْزِعَ لَا عَلَى هَذَا الْقَصْدِ، فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنْ لَا يَحْرُمَ. الثَّالِثَةُ: الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ حَرَامٌ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ تُوُقِّفَ فِيهِ فِي الْقَدِيمِ. وَالْمَذْهَبُ الْجَزْمُ بِتَحْرِيمِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْنِيَ بِيَدِ زَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ، كَمَا يَسْتَمْتِعُ بِسَائِرِ بَدَنِهَا، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ. الرَّابِعَةُ: الْقَوْلُ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَتَحْرِيمِ سَائِرِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ، كَمَا سَبَقَ فِي «بَابِ الْحَيْضِ» . وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ، أَنَّهُ يَجْتَنِبُ الْحَائِضَ فِي جَمِيعِ بَدَنِهَا. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ فَاحِشٌ، يُخَالِفُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْمَشْهُورَةَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ سِوَى النِّكَاحِ» وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يُبَاشِرُ الْحَائِضَ فَوْقَ الْإِزَارِ» فَقَدْ خَالَفَ قَائِلُهُ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى إِمَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَلِّلَ بَيْنَ كُلِّ وَطْئَيْنِ وُضُوءً أَوْ غَسْلَ الْفَرْجِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي «كِتَابِ الطَّهَارَةِ» ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الزَّوْجَاتِ إِلَّا بِإِذْنِهِنَّ. وَأَمَّا حَدِيثُ «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، فَمَحْمُولٌ عَلَى إِذْنِهِنَّ إِنْ قُلْنَا: كَانَ الْقَسْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَهُنَّ كَالْإِمَاءِ. السَّادِسَةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَطَأَ وَهُنَاكَ أَمَتُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ الْأُخْرَى، وَأَنْ يَتَحَدَّثَ بِمَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ.

قُلْتُ: وَيُسَنُّ مُلَاعَبَتُهُ الزَّوْجَةَ إِينَاسًا وَتَلَطُّفًا مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «هَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ» . وَيُسْتَحَبُّ أَلَّا يُعَطِّلَهَا، وَأَنْ لَا يُطِيلَ عَهْدَهَا بِالْجِمَاعِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَأَنْ لَا يَتْرُكَ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ، لِقَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «فَإِذَا قَدِمْتَ فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ» ، أَيِ: ابْتَغِ الْوَلَدَ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْجِمَاعِ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيهِ، وَلَا يُكَرَهُ الْجِمَاعُ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ وَلَا مُسْتَدْبِرُهَا، لَا فِي الْبُنْيَانِ وَلَا فِي الصَّحْرَاءِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ تَحْرِيمًا غَلِيظًا أَنْ تَمْتَنِعَ إِذَا طَلَبَهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ الْجَائِزِ، وَلَا يَحْرُمُ وَطْءُ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ، وَيُكْرَهُ أَنْ تَصِفَ الْمَرْأَةُ امْرَأَةً أُخْرَى لِزَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. الْبَابُ الْعَاشِرُ فِي وَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ وَنِكَاحِهِ إِيَّاهَا وَوُجُوبِ إِعْفَافِهِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ. الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: فِي وَطْئِهَا، فَيَحْرُمُ عَلَى الْأَبِ وَطْئُ جَارِيَةِ ابْنِهِ مَعَ عِلْمٍ بِالْحَالِ، فَإِنْ وَطِئَهَا، نُظِرَ، أَهِيَ مَوْطُوءَةُ الِابْنِ أَمْ لَا؟ الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ لَا تَكُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ لِشُبْهَةِ الْإِعْفَافِ. وَعَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ تَخْرِيجُ قَوْلٍ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَعَلَى هَذَا، فَيُعَزَّرُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِحَقِّ اللَّهِ، تَعَالَى. وَقِيلَ: لَا يُعَزَّرُ. فَعَلَى تَخْرِيجِ الْإِصْطَخْرِيِّ: هُوَ كَالزِّنَا بِأَمَةِ

أَجْنَبِيٍّ. فَإِنْ أَكْرَهَهَا، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ، فَوَجْهَانِ. وَعَلَى الْمَذْهَبِ: هُوَ كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِلِابْنِ. فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، أُخِذَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يُوسَرَ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُعْسِرًا، لَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ وَيَجِبُ الْمَهْرُ، تَثْبُتُ الْمُصَاهَرَةُ فَتَحْرُمُ الْجَارِيَةُ عَلَى الِابْنِ أَبَدًا، وَيَسْتَمِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ عَلَى الْأَبِ إِحْبَالٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الِابْنِ بِتَحْرِيمِهَا ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْحِلِّ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ فِيهِ الْمَالِيَّةُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَلَهُ تَزْوِيجُهَا وَتَحْصِيلُ مَهْرِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَطِئَ زَوْجَةَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ بِالشُّبْهَةِ، فَإِنَّهُ يُغَرَّمُ الْمَهْرَ لَهُ ; لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْمِلْكَ وَالْحِلَّ جَمِيعًا، وَلِأَنَّ الْحِلَّ هُنَاكَ هُوَ الْمَقْصُودُ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: إِذَا أَحْبَلَهَا بِوَطْئِهِ، فَالْوَلَدُ نَسِيبٌ حُرٌّ، كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَجْنَبِيٍّ بِشُبْهَةٍ. وَهَلْ تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا، فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا. وَضَعَّفَ الْأَصْحَابُ هَذَا. فَإِنْ قُلْنَا بِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: يَجِبُ أَنْ تُخَرَّجَ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي تَعْجِيلِ الِاسْتِيلَادِ، وَتَأْخِيرِهِ إِلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ أَوِ التَّوَقُّفِ، كَمَا فِي سِرَايَةَ الْعِتْقِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ، فَعَلَى الْأَبِ قِيمَةُ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ يَوْمِ الِانْفِصَالِ إِنِ انْفَصَلَ حَيًّا ; لِأَنَّ الرِّقَّ انْدَفَعَ بِسَبَبِهِ. وَإِنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلِابْنِ بَيْعُ الْأَمَةِ مَا لَمْ تَضَعْ ; لِأَنَّهَا حَامِلٌ بِحُرٍّ، وَهَلْ عَلَى الْأَبِ قِيمَتُهَا فِي الْحَالِ لِلْحَيْلُولَةِ ثُمَّ تُسْتَرَدُّ عِنْدَ الْوَضْعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ ; لِأَنَّ يَدَهُ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَيْهَا وَمُنْتَفِعٌ بِالِاسْتِخْدَامِ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْآبِقِ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَغْرُورِ

بَحُرِّيَّتِهَا، وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ إِذَا أَحْبَلَتَا، وَإِذَا مَلَكَ الْأَبُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ يَوْمًا، هَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ: إِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْأَبِ قِيمَتُهَا مَعَ الْمَهْرِ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَبِ عَلَى الْمَذْهَبِ ; لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَمَتَى يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْجَارِيَةِ إِلَى الْأَبِ؟ فِيهِ أَرْبَعَةٌ أَوْجُهٍ. أَحُدُهَا: قُبَيْلَ الْعُلُوقِ لِيَسْقُطَ مَاؤُهُ فِي مِلْكِهِ صِيَانَةً لَهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَالثَّانِي: مَعَ الْعُلُوقِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ. وَالثَّالِثُ: عِنْدَ الْوِلَادَةِ. وَالرَّابِعُ: عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ. وَفِي وُجُوبِ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ فُرِضَ الْإِنْزَالُ مَعَ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ، فَقَدِ اقْتَرَنَ مُوجِبُ الْمَهْرِ بِالْعُلُوقِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّلَ الْمُهْرُ مَنْزِلَةَ قِيمَةِ الْوَلَدِ. وَالَّذِي أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ مِنْ لُزُومِ الْمَهْرِ، مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا تَأَخَّرَ الْإِنْزَالُ عَنْ مُوجِبِ الْمَهْرِ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا وَلَاءَ عَلَى الْوَلَدِ إِنْ أَثْبَتْنَا الِاسْتِيلَادَ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يُثْبَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اسْتَوْلَدَ الْأَبُ جَارِيَةً مُشْتَرِكَةً بَيْنَ ابْنِهِ وَأَجْنَبِيٍّ، فَثُبُوتُ الِاسْتِيلَادِ فِي نَصِيبِ الِابْنِ عَلَى الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَاهُ وَكَانَ مُوسِرًا، سَرَى إِلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَعَلَى الْأَبِ كَمَالُ الْمَهْرِ، وَكَمَالُ الْقَيِّمَةِ لِلِابْنِ وَالْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، لَمْ يَثْبُتِ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَيَكُونُ نِصْفُ الْوَلَدِ حُرًّا وَنَصِفُهُ رَقِيقًا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَحَكَى أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ وَجْهًا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ

لَا يَثْبُتُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ بِحَالٍ، وَلَا يُجْعَلُ حَقُّ الْمِلْكِ وَشُبْهَتُهُ كَحَقِيقَةِ الْمِلْكِ، وَلَوْ كَانَ نِصْفُ الْجَارِيَةِ لِلِابْنِ وَنَصِفُهَا حُرًّا، اقْتَصَرَ الِاسْتِيلَادُ عَلَى نَصِيبِ الِابْنِ لَا مَحَالَةَ. [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ: لَوْ كَانَ الْأَبُ الْمُسْتَوْلِدُ رَقِيقًا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، وَالْوَلَدُ نَسِيبٌ. وَفِي حُرِّيَّتِهِ وَجْهَانِ. أَفْتَى الْقَفَّالُ بِالْحُرِّيَّةِ كَوَلَدِ الْمَغْرُورِ، وَقِيمَتُهُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يُعْتِقَ، وَالْمَهْرُ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ أَمْ بِذِمَّتِهِ؟ قَوْلَانِ كَمَا لَوْ وَطِئَ الْعَبْدُ أَجْنَبِيَّةً بِشُبْهَةٍ. وَلَوْ كَانَ الْأَبُ الْمُحْبِلُ مُكَاتِبًا، فَفِي ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ثُبُوتِهِ إِذْ أَوْلَدَ جَارِيَةَ نَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ رَقِيقًا، لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ، وَيَكُونُ نِصْفُ الْوَلَدِ حُرًّا، وَفِي نِصْفِهِ الْآخَرِ وَجْهَانِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ حُرٌّ أَيْضًا، فَعَلَيْهِ كَمَالُ قِيمَةِ الْوَلَدِ، نِصْفُهَا فِي كَسْبِهِ، وَنِصْفُهَا فِي ذِمَّتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: نِصْفُهُ الْآخَرُ رَقِيقٌ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نِصْفِهِ فِي كَسْبِهِ. فَرْعٌ لَا فَرْقَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ، بَيْنَ الْأَبِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَتَجْرِي الْأَقْوَالُ فِي ثُبُوتِ اسْتِيلَادِ (الذِّمِّيِّ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ لَا يَشْتَرِي الْمُسْلِمَ ; لِأَنَّهُ مِلْكٌ قَهْرِيٌّ كَالْأِرْثِ. فَرْعٌ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ الْبِنْتِ وَالْحَفَدَةِ كَجَارِيَةِ) الِابْنِ بِلَا فَرْقٍ.

[الْحَالَةُ] الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ مَوْطُوءَةَ الِابْنِ، وَوَطِئَهَا الْأَبُ عَالِمًا بِالْحَالِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ أَوِ الْأَظْهَرِ. وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِرِضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ. الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: لَا حَدَّ. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي «التَّجْرِبَةِ» : الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الِابْنُ اسْتَوْلَدَهَا، فَإِنْ كَانَ، وَجَبَ الْحَدُّ قَطْعًا، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ ; لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَمْلِكَهَا بِحَالٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ مَوْطُوءَةً غَيْرَ مُسْتَوْلَدَةٍ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْحَدَّ عَلَى الْأَبِ، لَمْ تَحْرُمِ الْجَارِيَةُ عَلَى الِابْنِ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً. وَإِنْ كَانَتْ طَائِعَةً، لَمْ تَجِبْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ أَوْلَدَهَا، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَكُونُ الْوَلَدُ رَقِيقًا غَيْرَ نَسِيبٍ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِرِضَاعٍ وَغَيْرِهِ وَأَوْلَدَهَا، لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ إِنْ أَوْجَبْنَا الْحَدَّ. وَقِيلَ: يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ هُنَا وَفِي جَارِيَةِ الِابْنِ وَإِنْ أَوْجَبْنَا الْحَدَّ فِيهِمَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ أَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ، ثَبَتَ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ ; لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ مِلْكَهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الْحَدَّ صِيَانَةً لِمِلْكِ الشَّرِيكِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ جَاهِلًا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمَا أَبَدًا. فَإِنْ أَوْلَدَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَوْلَدَةَ الِابْنِ، لَمْ تَصِرْ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ ; لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَقْبَلُ النَّقْلَ، وَإِلَّا فَفِي مَصِيرِهَا مُسْتَوْلَدَةٌ لِلْأَبِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ السَّابِقَةُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى. فَرْعٌ لَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَةَ ابْنِهِ وَأَوْلَدَهَا فَفِي مَصِيرِهَا مُسْتَوْلَدَةً لِلْأَبِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا ; لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَقْبَلُ النَّقْلَ. وَالثَّانِي: نَعَمْ ; لِأَنَّهَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ، بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ

فصل

وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْبَغَوِيِّ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ. قَالَ: وَلَيْسَ كَمَا لَوْ أَوْلَدَ مُكَاتَبَتَهُ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ الِاسْتِيلَادُ ; لِأَنَّهُ لَا نَقْلَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى فَسْخِ الْكِتَابَةِ، بَلْ يَجْتَمِعُ الِاسْتِيلَادُ وَالْكِتَابَةُ، وَلَا مُنَافَاةَ. فَرْعٌ كَانَتْ جَارِيَةُ الِابْنِ مَنْكُوحَةَ رَجُلٍ، فَأَوْلَدَهَا الْأَبُ، فَفِي ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ، وَيَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ وَإِنْ أَثْبَتْنَا الِاسْتِيلَادَ، كَمَا لَوِ اسْتَوْلَدَهَا سَيِّدُهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ. فَصْلٌ لَوْ وَطِئَ الِابْنُ جَارِيَةَ الْأَبِ، فَهُوَ كَوَطْءِ الْأَجْنَبِيِّ. فَإِنْ كَانَ بِشُبْهَةٍ، نُظِرَ، إِنْ ظَنَّهَا أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْأَبِ. وَإِنْ ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ الرَّقِيقَةَ انْعَقَدَ الْوَلَدُ رَقِيقًا ثُمَّ عَتَقَ عَلَى الْجَدِّ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الِابْنِ قِيمَتُهُ. وَإِنْ وَطِئَهَا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَهُوَ زِنَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَسْتَحِقُّ الْإِعْفَافَ عَلَى الْأَبِ، فَلَا شُبْهَةَ لَهُ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَيَلْزَمُ الِابْنَ الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، وَإِلَّا، فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ، فَهُوَ رَقِيقٌ لِلْأَبِ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، إِذْ لَا نَسَبَ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي نِكَاحِهِ جَارِيَةَ الِابْنِ، لِلشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي جَوَازِهِ نَصَّانِ. قِيلَ: هُمَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْإِعْفَافِ، إِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَطْعًا. قَالُوا: وَنَقْلُ الْجَوَازِ غَلَطٌ، إِنَّمَا قَالَ

الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ جَارِيَةَ أَبِيهِ، فَصَحَّفَ الْمُزَنِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ، عَلَى مَا إِذَا كَانَ الِابْنُ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ مَئُونَةَ الْإِعْفَافِ وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَتِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَبُ، أَوْ كَانَ الْأَبُ مَعَ إِعْسَارِهِ صَحِيحَ الْبَدَنِ، فَإِنَّا لَا نُوجِبُ نَفَقَتَهُ وَإِعْفَافَهُ عَلَى قَوْلٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَالصَّحِيحُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ، أَنَّهُ يُبْنَى جَوَازُ نِكَاحِهِ جَارِيَةَ الِابْنِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ، هَلْ تَصِيرُ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. وَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ الْإِعْفَافُ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْأَبُ حُرًّا. فَلَوْ كَانَ رَقِيقًا، فَلَهُ نِكَاحُ جَارِيَةِ ابْنِهِ ; لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ، وَلَا إِعْفَافُهُ. وَإِذَا اسْتَوْلَدَ الرَّقِيقُ جَارِيَةَ ابْنِهِ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ نَكَحَ الْأَبُ جَارِيَةَ أَجْنَبِيٍّ، فَمَلَكَهَا الِابْنُ، وَكَانَ الْأَبُ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ نَكَحَ جَارِيَةَ ابْنِهِ ثُمَّ عَتَقَ، هَلْ يَنْفَسِخُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، أَوْ جَوَّزْنَا نِكَاحَ جَارِيَةِ ابْنِهِ ابْتِدَاءً فَأَوْلَدَهَا، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْعِرَاقِيُّونَ، وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ: لَا تَصِيُرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ; لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرِقِّ وَلَدِهِ [حِينَ] نَكَحَهَا، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ حَاصِلٌ مُحَقَّقٌ، فَيَكُونُ وَاطِئًا بِالنِّكَاحِ لَا بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ نِكَاحٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ: يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ نِكَاحُ جَارِيَةِ مُكَاتَبَهِ لِشُبْهَتِهِ [فِيهَا] . وَلَوْ أَوْلَدَ أَمَةَ مُكَاتَبِهِ،

صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلسَّيِّدِ. وَلَوْ نَكَحَ أَمَةً فَمَلَكَهَا مُكَاتَبَهُ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ تَعَلُّقَ السَّيِّدِ بِمِلْكِ الْمُكَاتَبِ أَشَدُّ مِنْ تَعَلُّقِ الْأَبِ. قُلْتُ: وَيَجُوزُ نِكَاحُ جَارِيَةِ ابْنِهِ مِنَ الرِّضَاعِ، وَنِكَاحُ جَارِيَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ قَطْعًا، لِعَدَمِ وُجُوبِ الْإِعْفَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي إِعْفَافِ الْأَبِ. الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَلَدَ إِعْفَافُ الْأَبِ. وَخَرَّجَ ابْنُ خَيْرَانَ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ، كَمَا لَا يَجِبُ إِعْفَافُ الِابْنِ، وَلَا الْإِعْفَافُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. التَّفْرِيعُ عَلَى الْمَشْهُورِ. فَسَبِيلُ الْإِعْفَافِ سَبِيلُ النَّفَقَةِ، فَيَجِبُ لِلْمُعْسِرِ الزَّمِنِ، وَفِي الْمُعْسِرِ الصَّحِيحِ قَوْلَانِ كَالنَّفَقَةِ. وَقِيلَ: حَيْثُ تَجِبُ النَّفَقَةُ، فَالْإِعْفَافُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ إِذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْوَلَدِ، وَجَبَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقِيلَ: حَيْثُ لَا نَفَقَةَ، فَلَا إِعْفَافَ، وَإِلَّا، فَقَوْلَانِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ أَهَمُّ، وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ طَعَامِ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْجِمَاعِ. فَرْعٌ حَيْثُ وَجَبَ الْإِعْفَافُ، يَسْتَوِي فِي لُزُومِهِ الِابْنُ وَالْبِنْتُ، وَيَثْبُتُ لِلْأَبِ وَالْأَجْدَادِ مِنْ جِهَتَيِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَإِنْ عَلَوَا، وَيَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوِ اجْتَمَعَ أَصْلَانِ مُحْتَاجَانِ، فَإِنْ وَفَّى مَالُ الْوَلَدِ بِإِعْفَافِهِمَا، وَجَبَ. فَإِنْ لَمْ يَفِ إِلَّا بِأَحَدِهِمَا، نُظِرَ، إِنِ اخْتَلَفَا فِي الدَّرَجَةِ، قُدِّمَ الْأَقْرَبُ إِنِ اسْتَوَيَا فِي الْعُصُوبَةِ أَوْ عَدِمَهَا. فَإِنْ كَانَ لِلْأَبْعَدِ عُصُوبَةٌ دُونَ الْأَقْرَبِ، كَأَبِي أَبِي أَبٍ، مَعَ أَبِي أُمٍّ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ عُصُوبَةٌ، كَأَبِي أُمِّ الْأَبِ،

وَأَبِي أَبِي الْأُمِّ، فَسَوَاءٌ. وَحَيْثُ اسْتَوَيَا، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُقَدِّمُ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ. قُلْتُ: قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ رَأَيْنَا الْقُرْعَةَ، لَمْ يُرْفَعِ الْأَمْرُ إِلَى الْقَاضِي، وَإِنْ قُلْنَا: يَجْتَهِدُ الْقَاضِي، فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى شَيْءٍ، فُعِلَ. فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي نَظَرِهِ، تَعَيَّنَتِ الْقُرْعَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اجْتَمَعَ عَدَدٌ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِعْفَافُ، كَالْأَوْلَادِ وَالْأَحْفَادِ، فَلْيَكُنْ حُكْمُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي النَّفَقَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، تَعَالَى. فَرْعٌ لَا يَجِبُ إِعْفَافُ قَادِرٍ عَلَى إِعْفَافِ نَفْسِهِ بِمَالِهِ، وَكَذَا الْكَسُوبُ الَّذِي يَسْتَغْنِي بِكَسْبِهِ عَنْ غَيْرِهِ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي النَّفَقَةِ. وَلَوْ وَجَدَ قَدْرَ النَّفَقَةِ، وَلَمْ يَجِدْ مَئُونَةَ الْإِعْفَافِ، فَهَلْ يَجِبُ الْإِعْفَافُ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، أَمْ لَا لِعَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ سَقَطَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ أَيَّامًا لِعَارِضٍ، قَالَ الْإِمَامُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا خِلَافٌ فِي وُجُوبِ الْإِعْفَافِ. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى سِرِّيَّةٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَهْرِ حُرَّةٍ، فَالْمُتَّجَهُ أَنْ لَا يَجِبَ إِعْفَافُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي إِعْفَافِهِ تَزْوِيجُهُ حُرَّةً كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، تَعَالَى.

فصل

فَرْعٌ شَرْطُ الْإِعْفَافِ، الْحَاجَةُ إِلَى النِّكَاحِ، فَإِذَا ظَهَرَتِ الْحَاجَةُ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي النِّكَاحِ، صُدِّقَ بِغَيْرِ يَمِينٍ ; لِأَنَّ تَحْلِيفَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَلِيقُ بِحُرْمَتِهِ، لَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ طَلَبُ الْإِعْفَافِ إِلَّا إِذَا صَدَقَتْ شَهْوَتُهُ، بِحَيْثُ يَخَافُ الْعَنَتَ أَوْ يَضُرُّ بِهِ التَّعَزُّبُ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّبْرُ. فَصْلٌ الْمُرَادُ بِالْإِعْفَافِ، أَنْ يُهَيِّئَ لَهُ مُسْتَمْتَعًا، بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَهْرَ حُرَّةٍ يَنْكِحُهَا، أَوْ يَقُولَ: تَزَوَّجْ وَأَنَا أُعْطِي الْمَهْرَ، أَوْ يُبَاشِرَ النِّكَاحَ بِإِذْنِ الْأَبِ وَيُعْطِي الْمَهْرَ، أَوْ يُمَلِّكَهُ جَارِيَةً تَحِلُّ لِلْأَبِ، أَوْ ثَمَنَ جَارِيَةٍ. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْحُرَّةُ الْمَنْكُوحَةُ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً، وَأَوْمَأَ الرُّويَانِيُّ إِلَى وَجْهٍ [أَنَّ] الْكِتَابِيَّةَ لَا تَكْفِي وَهُوَ شَاذٌّ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ [أَنْ] يُعَيِّنَ النِّكَاحَ، وَلَا يَرْضَى بِالتَّسَرِّي، وَلَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى النِّكَاحِ أَنْ يُعَيِّنَ رَفِيعَةَ الْمَهْرِ لِجَمَالٍ أَوْ شَرَفٍ. وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى مَهْرٍ مُقَدَّرٍ، فَتَعْيِينُ الْمَرْأَةِ إِلَى الْأَبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلِّكَهُ أَوْ يُزَوِّجَهُ شَوْهَاءَ، أَوْ عَجُوزًا، ثُمَّ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى زَوْجَةِ الْأَبِ أَوْ أَمَتِهِ وَيَقُومَ بِمَئُونَاتِهَا. وَلَوْ أَيْسَرَ الْأَبُ بَعْدَمَا مَلَّكَهُ الْوَلَدُ جَارِيَةً أَوْ ثَمَنَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ نَفَقَةً فَلَمْ يَأْكُلْهَا حَتَّى أَيْسَرَ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ أَوْ عَجُوزٌ، أَوْ رَتْقَاءُ وَلَمْ تَنْدَفِعْ حَاجَتُهُ، فَالْقِيَاسُ وُجُوبُ الْإِعْفَافِ، وَأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ نَفَقَتَانِ. وَلَوْ مَاتَتِ الْأَمَةُ الَّتِي مَلَّكَهُ إِيَّاهَا، أَوِ الْحُرَّةُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا، أَوْ فَسَخَتِ النِّكَاحَ بِعَيْبِهِ، أَوْ فَسَخَ بِعَيْبِهَا، أَوِ انْفَسَخَ بِرِدَّةٍ

أَوْ رِضَاعٍ، بِأَنْ أَرْضَعَتِ الَّتِي نَكَحَهَا صَغِيرَةً كَانَتْ زَوْجَةً لَهُ، وَجَبَ عَلَى الْوَلَدِ تَجْدِيدُ الْإِعْفَافِ كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ نَفَقَةً فَسُرِقَتْ مِنْهُ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ فُرِضَ الْإِعْفَافُ مِرَارًا، أَوْ بِمَوْتِ الزَّوْجَاتِ، تَجَدَّدَ الْأَمْرُ بِوُجُوبِ الْإِعْفَافِ مَا دَامَتِ الْحَاجَةُ، وَلَا يَنْتَهِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَثُرَ تَكْرَارُ الْإِعْفَافِ. اللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ طَلَّقَهَا أَوْ خَالَعَهَا، أَوْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ مِنْ شِقَاقٍ أَوْ نُشُوزٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَجَبَ التَّجْدِيدُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِلَّا فَلَا. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ، أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ، لَزِمَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ يُسَرِّيَهُ. فَإِنْ طَلَّقَ ثَانِيًا، لَمْ يُزَوِّجْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ يُسَرِّيهِ، وَيَسْأَلِ الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُنَفَّذَ إِعْتَاقُهُ. وَإِذَا وَجَبَ التَّجْدِيدُ، فَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً، لَزِمَ التَّجْدِيدُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، لَمْ يَجِبْ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ الْإِعْفَافُ، فَلِلْأَبِ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ حُرَّةً وَخَائِفُ الْعَنَتِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ ; لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ بِمَالِ وَلَدِهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، حَصَلَ الْإِعْفَافُ بِأَنْ يُزَوِّجَهُ أَمَةً.

الْبَابُ الْحَادِي عَشَرَ فِي أَحْكَامِ نِكَاحِ الْأَمَةِ [وَالْعَبْدِ] فِيهِ طَرَفَانِ. [الطَّرَفُ الْأَوَّلُ] : فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهَا إِلَى الزَّوْجِ لَيْلًا وَنَهَارًا، لَكِنْ يَسْتَخْدِمُهَا نَهَارًا وَيُسَلِّمُهَا إِلَى الزَّوْجِ لَيْلًا. وَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يُسَلِّمَهَا نَهَارًا بَدَلًا عَنِ اللَّيْلِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ. وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ: لَا أُخْرِجُهَا مِنْ دَارِي، وَلَكِنْ أُخَلِّي لَكَ بَيْتًا لِتَدْخُلَهُ وَتَخْلُوَ بِهَا، فَقَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ وَالْمُرُوءَةَ تَمْنَعَانِهِ دُخُولَ دَارِ غَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا، فَلَا نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ كَمَا لَوْ قَالَتِ الْحُرَّةُ: أَدْخُلُ بَيْتِي وَلَا أَخْرُجُ إِلَى بَيْتِكَ. وَالثَّانِي، لِلسَّيِّدِ ذَلِكَ لِتَدُومَ يَدُهُ عَلَى مِلْكِهِ مَعَ تَمَكُّنِ الزَّوْجِ مِنْ حَقِّهِ. فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَكَانَتْ مُحْتَرِفَةً، فَقَالَ الزَّوْجُ: دَعُوهَا تَحْتَرِفْ لِلسَّيِّدِ فِي يَدِي وَبَيْتِي، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: لِلسَّيِّدِ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا ; لِأَنَّهُ مَالِكٌ رَقَبْتَهَا، وَلَا يَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنَ الْمُسَافِرَةِ مَعَهَا، وَلَا يُكَلَّفَ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا. وَإِذَا لَمْ يُسَافِرْ مَعَهَا، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا. وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَقَدِ اسْتَقَرَّ وَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ كَانَ سَلَّمَهُ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ. قُلْتُ: وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الْمُسَافِرَةُ بِهَا مُنْفَرِدًا إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: وَلَوْ سَامَحَ السَّيِّدُ فَسَلَّمَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، فَعَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ وَتَمَامُ النَّفَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَّا لَيْلًا، فَهَلْ تَجِبُ جَمِيعُ النَّفَقَةِ أَمْ نِصْفُهَا، أَمْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ فِيمَا إِذَا سَلَّمَتِ الْحُرَّةُ نَفْسَهَا لَيْلًا وَاشْتَغَلَتْ عَنِ الزَّوْجِ نَهَارًا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْجَزْمُ فِي الْحُرَّةِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ كَالنَّفَقَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ: يَجِبُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مَعَهُ [مِنَ] الْوَطْءِ قَدْ حَصَلَ، وَلَيْسَ كَالنَّفَقَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْوُجُوبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: هَلَاكُ الْمَنْكُوحَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ، لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ حُرَّةً كَانَتْ، أَوْ أَمَةً، سَوَاءٌ هَلَكَتْ بِمَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ. فَأَمَّا إِذَا هَلَكَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ قَتَلَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ الْمُزَوُّجَةَ، فَالنَّصُّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» أَنْ لَا مَهْرَ. وَنَصَّ فِي «الْأُمِّ» فِي الْحُرَّةِ إِذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ. وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ. وَأَشْهَرُهُمَا: طَرْدُ قَوْلَيْنِ فِيهِمَا، ثُمَّ الْحُرَّةُ إِذَا مَاتَتْ أَوْ قَتَلَهَا الزَّوْجُ، أَوْ أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا قَطْعًا، وَكَذَا لَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا الْأَمَةُ، فَإِنْ قَتَلَهَا سَيِّدُهَا، أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا، سَقَطَ عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ نَصُّهُ. وَإِنْ مَاتَتْ أَوْ قَتَلَهَا الزَّوْجُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يَسْقُطْ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِذَا قُلْنَا: قَتْلُ السَّيِّدِ أَمَتَهُ يُسْقِطُ الْمَهْرَ، فَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ أَمَةَ

أَبِيهِ ثُمَّ وَطِئَهَا الْأَبُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الِابْنُ، وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ الْمَهْرُ لِأَنَّ قَطْعَ النِّكَاحِ حَصَلَ مِنْ مُسْتَحَقِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ. [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ: لَوْ بَاعَ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ، لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ وَيَكُونُ الْمَهْرُ لِلْبَائِعِ إِنْ سُمِّي فِي الْعَقْدِ مَهْرٌ صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَهُ ; لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ وَكَانَ الْعَقْدُ فِي مِلْكِهِ. وَلَوْطَلَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الدُّخُولِ، كَانَ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ زَوَّجَهَا مُفَوَّضَةً ثُمَّ جَرَى فَرْضٌ أَوْ دُخُولٌ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَالْمَفْرُوضُ أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا. وَإِنْ جَرَى الْفَرْضُ أَوِ الدُّخُولُ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَهَلِ الْمَفْرُوضُ أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً، عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ بِالْفَرْضِ وَالدُّخُولِ، أَمْ نَتَبَيَّنُ بِهِمَا الْوُجُوبَ بِالْعَقْدِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا الْأَوَّلُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ بِالثَّانِي، فَلِلْبَائِعِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِلْبَائِعِ قَطْعًا ; لِأَنَّ الْعَقْدَ هُوَ السَّبَبُ وَجَرَى فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ وَالدُّخُولِ، وَأَوْجَبْنَا الْمَهْرَ، فَفِيمَنْ يَسْتَحِقُّهُ هَذَا الْخِلَافُ. وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ وَالدُّخُولِ، فَالْمُتْعَةُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، فَالْمَهْرُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، فَحَيْثُ جَعَلْنَاهُ لِلْبَائِعِ، فَهُوَ هُنَا لِلْمُعْتِقِ، وَحَيْثُ جَعَلْنَاهُ لِلْمُشْتَرِي، فَهُوَ لِلْمُعْتَقَةِ، وَحَيْثُ قُلْنَا: هُوَ لِلْبَائِعِ، أَوِ الْمُعْتِقِ، وَلَمْ يَجْرِ دُخُولٌ، فَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا لِدَفْعِ الصَّدَاقِ ; لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا لِلْعَتِيقَةِ الْحَبْسُ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الْمَهْرَ. وَحَيْثُ قُلْنَا: الْمَهْرُ لِلْمُشْتَرِي، أَوِ الْمُعْتَقَةِ فَلَهُمَا الْحَبْسُ لِاسْتِيفَائِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا وَأَوْصَى لَهَا بِصَدَاقِهَا، فَلَيْسَ لَهَا

حَبْسُ نَفْسِهَا لِاسْتِيفَائِهِ ; لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْوَصِيَّةِ لَا بِالنِّكَاحِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ وَلَدِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَعُتِقَتْ وَصَارَ الصَّدَاقُ لِلْوَارِثِ، فَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا، إِذْ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، أَمَّا إِذَا زَوَّجَهَا تَزْوِيجًا فَاسِدًا، ثُمَّ بَاعَهَا وَوَطِئَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَمَهْرُ الْمِثْلِ لِلْمُشْتَرِي ; لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلِلْبَائِعِ. السَّادِسَةُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ بِعَبْدِهِ، وَلَا مَهْرَ ; لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ دَيْنٌ عَلَى عَبْدِهِ ; وَلِهَذَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ لَمْ يَقْتَضِ ضَمَانًا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَلْ نَقُولُ: وَجَبَ الْمَهْرُ لِحُرْمَةِ النِّكَاحِ ثُمَّ سَقَطَ، أَمْ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَوْ أَحَدَهُمَا، فَلَا مَهْرَ لَا لِلسَّيِّدِ وَلَا لِلْمُعْتَقَةِ وَإِنْ جَرَى الدُّخُولُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهَا وَدَخَلَ الزَّوْجُ بِهَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَلَا مَهْرَ ; لِأَنَّهُ مَلَكَ بِضْعَهَا أَوَّلًا بِلَا مَهْرٍ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ عَلَى قَوْلِنَا: لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ أَصْلًا. قَالَ: وَلَا يَجِيءُ الِاحْتِمَالُ عَلَى قَوْلِنَا: يَجِبُ ثُمَّ يَسْقُطُ ; لِأَنَّهُ كَالْمَقْبُوضِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: أَعْتَقْتُكِ عَلَى أَنْ تَنْكِحِينِي، أَوْ عَلَى أَنْ أَنْكِحَكِ، لَمْ تُعْتَقْ إِلَّا بِالْقَبُولِ [عَلَى الِاتِّصَالِ] . وَسَوَاءٌ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: وَعِتْقُكِ صَدَاقُكِ أَوْ لَمْ يَقُلْ. وَلَوْ قَالَتِ ابْتِدَاءً أَعْتِقْنِي عَلَى أَنْ أَنْكِحَكَ، فَأَجَابَهَا إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُهَا الْوَفَاءُ ; لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ. وَفِي «شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ» وَجْهٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الْوَفَاءُ، وَهُوَ شَاذٌّ لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَيَلْزَمُهَا قِيمَتُهَا لِلسَّيِّدِ ; لِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا عَلَى عِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ، فَصَارَ كَإِعْتَاقِهَا عَلَى خَمْرٍ، وَسَوَاءٌ فِي لُزُومِ الْقِيمَةِ وَفَّتْ بِالنِّكَاحِ الْمَشْرُوطِ أَوْ لَمْ تَفِ. وَلَوْ رَغِبَتْ فِي النِّكَاحِ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْتَنِعَ وَلَا تَسْقُطُ الْقِيمَةُ بِذَلِكَ. وَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى النِّكَاحِ وَأَصْدَقَهَا غَيْرَ الْقِيمَةِ، فَلَهَا مَا أَصْدَقَهَا وَلَهُ عَلَيْهَا الْقِيمَةُ، وَقَدْ يَقَعُ التَّقَاصِّ. وَإِنْ أَصْدَقَهَا الْقِيمَةَ، فَإِنْ عَلِمَاهَا عِنْدَ الْعَقْدِ، صَحَّ الْإِصْدَاقُ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهَا. وَإِنْ جَهِلَاهَا جَمِيعًا أَوْ أَحَدُهُمَا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: فَسَادُ الصَّدَاقِ كَسَائِرِ الْمَجْهُولَاتِ. فَعَلَى هَذَا، لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الْقِيمَةُ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: يَصِحُّ ; لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَمْ تَثْبُتْ مَقْصُودَةً، وَكَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا جَهِلًا قِيمَتَهُ. وَلَوْ أَتْلَفَتِ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ عَبْدًا، فَتَزَوَّجَهَا بِقِيمَتِهِ الْمَجْهُولَةِ، فَسَدَ الصَّدَاقُ قَطْعًا، وَرَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ طُرِّدَ الْوَجْهَانِ هُنَا لَكَانَ قِيَاسًا، وَلَوْ نَكَحَهَا الْمُعْتِقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا، فَسَدَ الصَّدَاقُ لِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يَكُونُ صَدَاقًا لِنِكَاحٍ مُتَأَخِّرٍ. وَفِي «الرَّقْمِ» لِلْعَبَّادِيِّ وَجْهٌ، أَنَّهُ يَصِحُّ، وَكَأَنَّهُ بِالشَّرْطِ جَعَلَ رَقَبَتَهَا صَدَاقًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَالْمُسْتَوْلَدَةُ، وَالْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُكَاتَبَةُ، وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهَا، حُكْمُهُنَّ فِي الْإِعْتَاقِ عَلَى أَنْ يَنْكِحْنَهُ

حَكَمُ الْقِنَّةِ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَجْهًا، أَنَّهُ لَا قِيمَةَ عَلَى الْمُسْتَوْلَدَةِ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَنْ أَنْكِحَكَ بِنْتِي، فَأَجَابَ، أَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ: أَعْتِقْهُ عَلَى أَنْ أَنْكِحَكَ، فَفَعَلَ، عَتَقَ الْعَبْدُ، وَلَمْ يَلْزَمِ الْوَفَاءُ بِالنِّكَاحِ. وَفِي وُجُوبِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقُ عَبْدَكَ عَنْكَ عَلَى أَلْفٍ عَلَيَّ، هَلْ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ أَمْ لَا؟ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، إِذْ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ نَفْعٌ بِعِتْقِهِ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَعْتَقْتُكِ عَلَى أَنْ تَنْكِحِي زَيْدًا، فَقَبِلَتْ، فَفِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ. فَرْعٌ قَالَتْ لِعَبْدِهَا: أَعْتِقُكَ عَلَى أَنْ تَنْكِحَنِي، فَفِي افْتِقَارِ عِتْقِهِ إِلَى قَبُولِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ. فَإِذَا قَبِلَ، عَتَقَ وَلَزِمَهُ قِيمَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، بَلْ يُعْتَقُ بِلَا قَبُولٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَأْمَنِ السَّيِّدُ وَفَاءَهَا بِالنِّكَاحِ وَلَمْ يُرَدِ الْعِتْقَ إِنْ لَمْ تَنْكِحْهُ، فَهَلْ لِذَلِكَ طَرِيقٌ يَثِقُ بِهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: وَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، تَعَالَى، أَنْ أَنْكِحَكِ أَوْ تَنْكِحِينِي بَعْدَ عِتْقِكِ، فَأَنْتَ حُرَّةٌ. فَإِنْ رَغِبَتْ وَجَرَى النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، عَتَقَتْ وَحَصَلَ غَرَضُ السَّيِّدِ، وَإِلَّا اسْتَمَرَّ الرِّقُّ. وَنَسَبَ الْإِمَامُ هَذَا الْوَجْهَ إِلَى صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» ، وَعِبَارَتُهُ فِي هَذَا التَّعْلِيقِ: إِنْ يَسَّرَ اللَّهُ، تَعَالَى،

بَيْنَنَا نِكَاحًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ، فَإِذَا مَضَى يَوْمٌ وَنَكَحَتْهُ، انْعَقَدَ النِّكَاحُ وَتَبَيَّنَ حُصُولُ الْعِتْقِ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ، وَذِكْرُ الْيَوْمِ جَرَى تَمْثِيلًا، وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ: فَأَنْتِ حُرَّةٌ قَبْلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ لِأَنَّهُ حَالَ الْعِتْقِ شَاكٌّ، هَلْ هِيَ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ، كَمَا إِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ، وَأَرَادَ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي الْحَالِ، لَا يَصِحُّ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ لَازِمَانِ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ لُزُومُهُمَا فِي نِكَاحِ الْحُرِّ. وَبِمَا يَتَعَلَّقَانِ؟ نُظِرَ هَلِ الْعَبْدُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ أَمْ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؟ فَهُمَا حَالَانِ. الْأَوَّلُ: الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، فَيُنْظَرُ، أَمُكْتَسِبٌ هُوَ أَمْ لَا؟ إِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا تَعَلَّقَا بِكَسْبِهِ، وَيَتَعَلَّقَانِ بِالْكَسْبِ الْعَامِّ كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ وَمَا يُحَصِّلُهُ بِصَنْعَةٍ وَحِرْفَةٍ، وَبِالْأَكْسَابِ النَّادِرَةِ كَالْحَاصِلَةِ بِالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَتَعَلَّقَانِ بِالنَّادِرِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِمَا كُسِبَ بَعْدَ النِّكَاحِ. فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ مُؤَجَّلًا، لَمْ يَتَعَلَّقَا إِلَّا بِمَا كَسَبَهُ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ. وَهَلْ لِلْعَبْدِ أَنْ يُؤِّجَرَ نَفْسَهُ لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى بَيْعِ الْمُسْتَأْجِرِ. إِنْ جَوَّزْنَاهُ، جَازَ، وَإِلَّا، فَلَا لِئَلَّا يَمْنَعَ الْبَيْعَ عَلَى السَّيِّدِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَالْوَجْهَانِ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ. فَأَمَّا إِذَا الْتَزَمَ عَمَلًا فِي الذِّمَّةِ، فَالْمَذْهَبُ جَوَازُهُ ; لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ.

وَطَرِيقُ الصَّرْفِ إِلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، أَنْ يَنْظُرَ فِي الْحَاصِلِ كُلَّ يَوْمٍ فَيُؤَدِّي مِنْهُ النَّفَقَةَ إِنْ وَفَّى بِهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ صُرِفَ إِلَى الْمَهْرِ، وَهَكَذَا كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى يَتِمَّ الْمَهْرُ، فَإِذَا تَمَّ، صُرِفَ الْفَاضِلُ عَنِ النَّفَقَةِ إِلَى السَّيِّدِ، وَلَا يَدَّخِرُ لِلنَّفَقَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْتَسِبًا، فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ، أَمْ فِي رَقَبَتِهِ، أَمْ عَلَى السَّيِّدِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ. وَطَرَدَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْقَوْلَ الثَّانِي فِي الْمُكْتَسِبِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَالْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِرِبْحِ مَا فِي يَدِهِ ; لِأَنَّهُ كَسْبُهُ، وَيَتَعَلَّقَانِ بِرَأْسِ الْمَالِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي الرِّبْحِ الَّذِي يَتَعَلَّقَانِ بِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْحَاصِلُ بَعْدَ النِّكَاحِ فَقَطْ، كَمَا فِي كَسْبِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِهِ وَبِالْحَاصِلِ قَبْلَ النِّكَاحِ أَيْضًا، هَذَا كُلُّهُ فِي الْمَهْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ. أَمَّا لَوْ قَدَّرَ السَّيِّدُ مَهْرًا، فَزَادَ الْعَبْدُ، فَالزِّيَادَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالذِّمَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ تَخْلِيَةُ الْعَبْدِ بِاللَّيْلِ لِلِاسْتِمْتَاعِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ نَهَارًا إِذَا تَكَفَّلَ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَهُ لِيَكْتَسِبَ. فَإِنِ اسْتَخْدَمَهُ وَلَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، لَزِمَهُ الْغُرْمُ لِمَا اسْتَخْدَمَهُ. وَفِيمَا يُغَرَّمُهُ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. وَالثَّانِي: كَمَالُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِالنَّفَقَةِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: نَفَقَةُ مُدَّةِ الِاسْتِخْدَامِ. وَالثَّانِي: نَفَقَةُ مُدَّةِ النِّكَاحِ مَا امْتَدَّتْ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يَكْسِبُ مَا يَفِي بِجَمِيعِ ذَلِكَ. وَلَوِ اسْتَخْدَمَهُ أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا أُجْرَةُ الْمِثْلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلَّا الْإِتْلَافُ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ مَا سَبَقَ مِنَ السَّيِّدِ، وَهُوَ الْإِذْنُ الْمُقْتَضِي لِالْتِزَامِ مُؤَنِ النِّكَاحِ.

[الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: لِلسَّيِّدِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْعَبْدِ وَإِنْ تَضَمَّنَ مَنْعَهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ ; لِأَنَّهُ مَالِكُ الرَّقَبَةِ، كَمَا يُسَافِرُ بِالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ، ثُمَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُسَافِرَ بِزَوْجَتِهِ مَعَهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَكُونُ الْكِرَاءُ فِي كَسْبِهِ. فَإِنْ لَمْ تَخْرُجِ الزَّوْجَةُ مَعَهُ، أَوْ كَانَتْ رَقِيقَةً فَمَنَعَهَا سَيِّدُهَا، سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا. وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهَا الزَّوْجُ بِالْخُرُوجِ، فَالنَّفَقَةُ بِحَالِهَا، وَالسَّيِّدُ يَتَكَفَّلُ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَفِيمَا يُغَرِّمُهُ فِي مُدَّةِ السِّفْرِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الطُّرُقِ، وَنُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ، أَنَّهُ [لَيْسَ] لِلسَّيِّدِ اسْتِخْدَامُهُ، وَلَا أَنْ يُسَافِرَ بِهِ مَا بَقِيَتْ عَلَيْهِ مُؤْنَةٌ مِنْ مُؤَنِ النِّكَاحِ، وَجَعَلَ الْمَسْأَلَةَ ذَاتَ خِلَافٍ لِلْأَصْحَابِ، وَلَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ فِيهَا خِلَافٌ. فَرْعٌ أَكْثَرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَجْرَى النِّكَاحَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، لَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِالْإِذْنِ لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ تَصْرِيحًا وَ [لَا] تَعْرِيضًا. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَصِيرُ ضَامِنًا بِالْإِذْنِ مُلْتَزِمًا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْجَدِيدَ هُوَ الْأَظْهَرُ. فَعَلَى الْجَدِيدِ: لَوْ أَذِنَ بِشَرْطِ الضَّمَانِ لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ عِنْدَ الْإِذْنِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ ابْتِدَاءً، أَمْ يُلَاقِي الْعَبْدَ ثُمَّ يَحْمِلُ عَنْهُ السَّيِّدُ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ إِلَّا عَلَى السَّيِّدِ. وَلَوْ أَبْرَأْتَ الْعَبْدَ، فَهُوَ لَغْوٌ.

وَعَلَى الثَّانِي: تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِمَا، وَيَصِحُّ إِبْرَاءُ الْعَبْدِ، وَيَبْرَأُ بِهِ السَّيِّدُ. وَصَحَّحَ أَبُو الْفَرَجِ الْوَجْهَ الثَّانِي، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِالْأَوَّلِ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ يَقْرُبُ مِنْهُ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ، أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ، فَنَفَقَةُ الْأَمَةِ عَلَى السَّيِّدِ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ. فَلَوْ أَعْتَقَهَا السَّيِّدُ وَأَوْلَادَهَا، سَقَطَتْ نَفَقَتُهُمْ عَنْهُ، وَتَعَلَّقَتْ نَفَقَتُهَا بِكَسْبِ الْعَبْدِ، وَعَلَيْهَا نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ إِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً، وَإِلَّا فَفِي بَيْتِ الْمَالِ. وَلَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ دُونَهَا، سَقَطَتْ نَفَقَتُهُمَا عَنْهُ، وَكَانَتْ نَفَقَةُ الْأَمَةِ عَلَى الْعَتِيقِ كَحُرٍّ تَزَوُّجَ أَمَةَ غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا الَّذِي سَبَقَ حُكْمُ الْمُهْرُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ. وَأَمَّا الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَلَهُ صُورَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: إِذَا فَسَدَ نِكَاحُ الْعَبْدِ لِجَرَيَانِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ، فَلَا حَدَّ لِلشُّبْهَةِ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ لِكَوْنِهِ وَجَبَ بِرِضَى مُسْتَحِقِّهِ، أَمْ بِرَقَبَتِهِ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ. وَإِنْ جَرَى النِّكَاحُ بِغَيْرِ إِذْنِ مُسْتَحِقِّ الْمَهْرِ، بِأَنْ نَكَحَ أَمَةً بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا وَوَطِئَهَا، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِتَعَلُّقِهِ بِالرَّقَبَةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَ أَمَةً أَوْ حُرَّةً عَلَى الزِّنَا. وَالثَّانِي: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ ; لِأَنَّ الْمَهْرَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهَا فَيُمْكِنُهَا إِسْقَاطُهُ فِي الْجُمْلَةِ بِإِرْضَاعٍ أَوْ رِدَّةٍ. الثَّانِيَةُ: أَذِنَ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ، فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ

فصل

فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ بِذِمَّتِهِ، أَمْ بِرَقَبَتِهِ، أَمْ بِكَسْبِهِ؟ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ. وَلَوْ نَكَحَ بِالْإِذْنِ صَحِيحًا، لَكِنْ فَسَدَ الْمَهْرُ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: تَعَلَّقَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْكَسْبِ قَطْعًا. وَلَوْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَقِيَاسُ هَذِهِ الصُّوَرِ تَعَلُّقُهُ بِالْكَسْبِ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ لَوِ اخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَالْعَبْدُ فِي الْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: مَا أَذِنْتُ، فَالْوَجْهُ أَنْ تَدَّعِيَ الْمَرْأَةُ عَلَى السَّيِّدِ أَنَّ كَسْبَ هَذَا الْعَبْدِ مُسْتَحِقٌّ لِي لِمَهْرِي وَنَفَقَتِي لِيَسْمَعَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ. فَصْلٌ سَبَقَ فِي «بَابِ مَوَانِعِ النِّكَاحِ» أَنَّهُ مَتَى مَلَكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ جُزْءًا مِنَ الْآخَرِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ فِي نِكَاحِهِ أَمَةً، فَأَعْطَاهُ مَالًا وَقَالَ: اشْتَرِهَا لِي، فَفَعَلَ، صَحَّ وَاسْتَمَرَّ النِّكَاحُ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ. وَلَوْ مَلَّكَهُ الْمَالَ فَقَالَ: اشْتَرِهَا لِنَفْسِكَ، فَفَعَلَ، فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ [الْعَبْدُ] بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَإِلَّا، فَالْمِلْكُ لِلسَّيِّدِ، وَالنِّكَاحُ مُسْتَمِرٌّ. وَلَوِ اشْتَرَى مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ زَوْجَتَهُ، نُظِرَ، إِنِ اشْتَرَاهَا بِالْكَسْبِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَبِإِذْنِ سَيِّدِهِ، مَلَكَ جُزْءًا مِنْهَا وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ السَّيِّدُ، لَمْ يَصِحَّ فِي نَصِيبِهِ، وَفِي نَصِيبِ الْعَبْدِ قَوْلًا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ. إِنْ صَحَّ فِيهِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. [وَإِنِ اشْتَرَاهَا بِخَالِصِ

مَالِهِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ] وَإِنِ اشْتَرَاهَا بِخَالِصِ مَالِ سَيِّدِهِ مِنْ كَسْبِهِ بِإِذْنِهِ، لَمْ يَنْفَسِخْ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوِ اشْتَرَتْ مَنْ بَعْضُهَا حُرٌّ زَوْجَهَا. فَرْعٌ مَتَّى مَلَكَتْ زَوْجَهَا بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ وَغَيْرِهِمَا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهَلْ يَسْقُطُ كُلُّ الْمَهْرِ، أَمْ نِصْفُهُ؟ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: كُلُّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، لَمْ يُسْقِطْ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ بِالِانْفِسَاخِ. فَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتْهُ، لَمْ تَرُدَّ شَيْئًا مِنْهُ، وَإِلَّا فَقَدْ مَلَكَتْ عَبْدًا لَهَا فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ، وَفِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي «كِتَابِ الرَّهْنِ» وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ كَمَا لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ ابْتِدَاءً. وَأَصَحُّهُمَا: يَبْقَى ; لِأَنَّ الدَّوَامَ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْعَبْدِ مِنَ الْمَهْرِ، وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ عَلَيْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: يَبْقَى، فَلَهَا مُطَالَبَةُ الْعَبْدِ إِذَا عُتِقَ، وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ. فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ الْبَائِعُ وَضَمِنَ الْمَهْرَ، فَلَهَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِالضَّمَانِ، وَلَهُ عَلَيْهَا الثَّمَنُ وَقَدْ يَقَعُ التَّقَاصِّ. أَمَّا إِذَا مَلَكَ زَوْجَتَهُ بِالشِّرَاءِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ مَلَكَهَا بَعْدَ الْمَسِيسِ، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِلْبَائِعِ مَعَ الثَّمَنِ. وَإِنْ مَلَكَهَا قَبْلَهُ، فَالْمَذْهَبُ وَهُوَ نَصُّهُ: أَنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَلَوْ نَكَحَ جَارِيَةَ مُوَرِّثِهِ كَأَبِيهِ، ثُمَّ مَلَكَ بِالْإِرْثِ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، لَمْ يَسْقُطِ الْمَهْرُ بِالِانْفِسَاخِ لِاسْتِقْرَارِهِ وَهُوَ تَرْكُهُ لِلْمَيِّتِ. فَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِقَضَاءِ دَيْنٍ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ، فُعِلَ، وَإِلَّا سَقَطَ إِنْ كَانَ النَّاكِحُ حَائِزًا، وَإِلَّا فَلِغَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ اسْتِيفَاءُ نَصِيبِهِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا

قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ: يَسْقُطُ جَمِيعُ الْمَهْرِ فَيَسْتَرِدُّهُ، مِنَ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَ قَبَضَ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَسْقُطُ إِلَّا النِّصْفُ. فَعَلَى هَذَا: إِنْ كَانَ حَائِزًا، سَقَطَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّهُ، وَإِلَّا سَقَطَ نَصِيبُهُ وَلِلْآخَرِ نَصِيبُهُ. وَلَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ بِنْتَهُ بِعَبْدٍ بِإِذْنِهَا، ثُمَّ مَاتَ فَوَرِثَتْ بَعْضَ زَوْجِهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَقِسْطُ مَا وَرِثَتْهُ مِنَ الْمَهْرِ دَيْنٌ لَهَا عَلَى مَمْلُوكِهَا، وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْبَاقِي مِنْ كَسْبِ مَا تَرِثُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: يَسْقُطُ جَمِيعُ الْمَهْرِ. وَعَلَى الْأَصَحِّ: لَا يَسْقُطُ إِلَّا النِّصْفُ، وَحُكْمُ النِّصْفِ الْبَاقِي حُكْمُ الْجَمِيعِ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا اشْتَرَتْ زَوْجَهَا بِغَيْرِ الصَّدَاقِ. فَلَوِ اشْتَرَتْهُ بِعَيْنِ الصَّدَاقِ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ مُقَدِّمَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: إِذَا نَكَحَ الْعَبْدُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَقُلْنَا: لَا يَصِيرُ السَّيِّدُ ضَامِنًا لِلْمَهْرِ بِالْعَقْدِ. فَلَوْ ضَمِنَ عَنْهُ، جَازَ ; لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَيْنٍ لَازِمٍ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَسُوبًا، فَلِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَةُ الْعَبْدِ وَالسَّيِّدِ جَمِيعًا، وَإِلَّا، فَلَا يُطَالِبُ السَّيِّدُ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْمَهْرُ [غَيْرُ] مَقْبُوضٍ. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، سَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ عَنْهَا، وَمُطَالَبَتُهَا بِالنِّصْفِ الْآخَرِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. فَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتِ الْمَهْرَ، رَدَّتْ نِصْفَهُ عَلَى السَّيِّدِ إِنْ بَقِيَ الزَّوْجُ عَلَى الرِّقِّ عِنْدَ الطَّلَاقِ. فَإِنْ كَانَ أَعْتَقَهُ، فَعَلَى الزَّوْجِ. الثَّانِيَةُ: صُورَةُ الْبَيْعِ بِعَيْنِ الصَّدَاقِ، أَنْ يَلْتَزِمَ السَّيِّدُ الصَّدَاقَ، إِمَّا بِأَصْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَإِمَّا بِالضَّمَانِ اللَّاحِقِ عَلَى الْجَدِيدِ، وَيُصَرِّحُ الْمُتَبَايِعَانِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، بِأَنْ يَقُولَ سَيِّدُ الْعَبْدِ لِزَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ: بِعْتُكِ زَوْجَكِ بِصَدَاقِكِ الَّذِي يَلْزَمُنِي وَهُوَ كَذَا، فَتَشْتَرِي. أَمَّا إِذَا صَرَّحَا بِالْمُغَايِرَةِ أَوْ طُلِّقَا، فَهُوَ بَيْعٌ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ.

مِثَالُهُ: كَانَ الصَّدَاقُ أَلْفًا، فَقَالَ: بِعْتُكِ بِأَلْفٍ غَيْرَ الصَّدَاقِ، أَوْ بِأَلْفَيْنِ، أَوْ أَطْلَقَ فَقَالَ: بِعْتُكِ بِأَلْفٍ. وَلَوِ اخْتَلَفَ جِنْسُ الصَّدَاقِ، فَلَا شَكَّ فِي الْمُغَايَرَةِ. وَلَوْ دَفَعَ عَيْنًا إِلَى عَبْدِهِ لِيَجْعَلَهَا صَدَاقَ مَنْ يَنْكِحُهَا، فَفَعَلَ، ثُمَّ بَاعَهَا الْعَبْدُ بِتِلْكَ الْعَيْنِ، فَهُوَ بَيْعٌ بِالْعَيْنِ. إِذًا عَرَفْتَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، فَالْبَيْعُ بِعَيْنِ الصَّدَاقِ، إِمَّا أَنْ يَجْرِيَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِمَّا بَعْدَهُ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَجْرِيَ قَبْلَهُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّهُ يَسْقُطُ كُلُّ الْمَهْرِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، بَلْ يَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ ; لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْبَيْعُ لَمَلَكَتْ زَوْجَهَا وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ وَسَقَطَ الْمَهْرُ، وَعُرِّيَ الْبَيْعُ عَنِ الْعِوَضِ وَبَطَلَ، فَتَصْحِيحُهُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِهِ، هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يَجِبُ عِنْدِي أَنْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَيَبْطُلَ النِّكَاحُ ; لِأَنَّ الْبَيْعَ وَارْتِفَاعَ النِّكَاحِ لَا يَقَعَانِ مَعًا، بَلْ يَكُونُ الْفَسْخُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ حَتَّى لَا يَحْكُمَ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ حُصُولَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي. وَإِذَا كَانَ الِانْفِسَاخُ عَقِيبَ الْبَيْعِ وَالْمِلْكِ، كَانَ فِي زَوَالِ مِلْكِهَا عَنِ الصَّدَاقِ مَعَ حُصُولِ مِلْكِهَا فِي الرَّقَبَةِ، فَلَا يَبْطُلُ الثَّمَنُ بِالِانْفِسَاخِ، بَلْ أَثَّرَ الِانْفِسَاخُ الرُّجُوعَ إِلَى بَدَلِ الصَّدَاقِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، نَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي وَجْهًا. وَإِنْ قُلْنَا: إِنْ تَمَلَّكَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، يَقْتَضِي تَنْصِيفَ الْمَهْرِ، بُنِيَ عَلَى خِلَافٍ سَنَذْكُرُهُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ إِذَا جَرَى بَعْدَ الدُّخُولِ. فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحِ الْبَيْعَ هُنَاكَ، فَكَذَا هُنَا، وَإِلَّا بَطَلَ الْبَيْعُ هُنَا فِي نِصْفِ الْعَبْدِ، وَيَخْرُجُ فِي الْبَاقِي عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ فَرَّقْنَا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهِ لَا مَحَالَةَ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْرِيَ الْبَيْعُ بِعَيْنِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَيُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ مَنْ مَلَكَ عَبْدًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، هَلْ يَسْقُطُ ذَلِكَ الدَّيْنُ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّهُ لَا يَسْقُطُ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَتَصِيرُ مُسْتَوْفِيَةً لِلْمَهْرِ الْمُسْتَقِرِّ بِالدُّخُولِ، وَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْعَبْدِ، فَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَنَقَلَهُ الْقَفَّالُ عَنْ شُيُوخِ الْأَصْحَابِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ كَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّ سُقُوطَ الْمَهْرِ هُنَاكَ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْبُوضًا، وَجَبَ رَدُّهُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ ثَمَنًا، وَهُنَا السُّقُوطُ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ. وَإِذَا جُعِلَ ثَمَنًا، فَكَأَنَّهَا اسْتَوْفَتِ الصَّدَاقَ قَبْلَ لُزُومِ الْبَيْعِ، فَلَيْسَ لَهَا بَعْدَمَا مَلَكَتِ الزَّوْجَ صَدَاقٌ فِي رَقَبَتِهِ حَتَّى يَسْقُطَ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا اشْتَرَتْ زَوْجَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ. فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ أَمَةً فَاشْتَرَتْهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا، أَوْ كَانَتْ مَأْذُونًا لَهَا فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَتْهُ لِلتِّجَارَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ اشْتَرَتْ بِعَيْنِ الصَّدَاقِ أَمْ بِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلسَّيِّدِ، لَكِنْ إِذَا اشْتَرَتْهُ بِعَيْنِ الصَّدَاقِ، بَرِئَ السَّيِّدُ وَالْعَبْدُ ; لِأَنَّ الْكَفِيلَ إِذَا أَدَّى بَرِئَ الْأَصِيلُ، وَلَا رُجُوعَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا لَوْ ضَمِنَ عَنْهُ دِينًا آخَرَ أَدَّاهُ فِي رِقِّهِ [وَإِنِ] اشْتَرَتْهُ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ، فَفِي سُقُوطِ الصَّدَاقِ عَلَى الْعَبْدِ لِكَوْنِ سَيِّدِهَا مَلَكَهُ وَلَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ الْوَجْهَانِ الْمُتَكَرِّرَانِ، فَإِنْ سَقَطَ، بَرِئَ سَيِّدُهُ الْبَائِعُ عَنِ الضَّمَانِ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ، وَيَبْقَى الثَّمَنُ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ، وَإِلَّا، فَلِسَيِّدِ الْأَمَةِ عَلَى بَائِعِ الْعَبْدِ الصَّدَاقُ، وَلِلْبَائِعِ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَقَدْ يَقَعُ التَّقَاصِّ، فَإِذَا تَقَاصَّا، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْعَبْدِ عَنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ بِالتَّقَاصِّ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنَ الْبَائِعِ.

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مِنَ الدَّوْرِ الْحُكْمِيِّ عَادَةُ الْأَصْحَابِ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ هُنَا. وَالْمَسَائِلُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الدَّوْرُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْشَأُ الدَّوْرُ فِيهِ مِنْ مَحْضِ حُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا اشْتَرَتْ زَوْجَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِالصَّدَاقِ الَّذِي ضَمِنَهُ السَّيِّدُ، فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ الْبَيْعُ ثَبَتَ الْمِلْكُ. وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَإِذَا انْفَسَخَ، سَقَطَ الْمَهْرُ الْمَجْعُولُ ثَمَنًا، وَإِذَا سَقَطَ، فَسَدَ الْبَيْعُ، فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْمُرَتَّبَةُ وَلَّدَتِ الدَّوْرَ. وَالثَّانِي: يَنْشَأُ الدَّوْرُ فِيهِ مِنْ لَفْظَةٍ يَذْكُرُهَا الشَّخْصُ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ دَوْرِ الطَّلَاقِ، وَعِنْدَهَا نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَكْثَرَ مَسَائِلِ الدَّوْرِ اللَّفْظِيِّ. وَالَّذِي نَذْكُرُهُ هُنَا، خَمْسُ مَسَائِلَ مِنَ الدَّوْرِ الْحُكْمِيِّ. إِحْدَاهَا: أَعْتَقَ أَمَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَنَكَحَهَا عَلَى مَهْرٍ سَمَّاهُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ الدَّوْرِيَّةِ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا وَإِنْ خَرَجَتْ، نُظِرَ إِنْ كَانَتْ قَدْرَ الثُّلُثِ بِلَا مَزِيدٍ، بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً [وَ] لَهُ مِائَتَانِ سِوَاهَا، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَجْرِ دُخُولٌ، فَلَا مَهْرَ لَهَا لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمَهْرُ لَكَانَ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ، وَحِينَئِذٍ لَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ، وَيَرِّقُهُ بَعْضُهَا، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَالْمَهْرُ، فَإِثْبَاتُهُ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ، فَيَسْقُطُ. وَإِنْ جَرَى

دُخُولٌ، فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي (كِتَابِ الْوَصَايَا) وَسَوَاءٌ دَخَلَ أَمْ لَا، فَلَا تَرِثُ بِالزَّوْجِيَّةِ ; لِأَنَّ عِتْقَهَا وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ وَالْإِرْثُ لَا يَجْتَمِعَانِ. فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْإِرْثَ، لَزِمَ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ وَهِيَ الْعِتْقُ، وَإِذَا بَطَلَ بَطَلَتِ الزَّوْجِيَّةُ وَبَطَلَ الْإِرْثُ. وَإِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ دُونَ الثُّلُثِ، فَقَدْ تُمْكِنُهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْمَهْرِ لِخُرُوجِهَا مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُعْتِقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ نِكَاحُهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ كَمَا حَكَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ عَنِ ابْنِ الْحَدَّادِ، أَنَّ الْمُعْتَقَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ نِكَاحُهَا لَا يَجُوزُ لِقَرِينِهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الثُّلُثِ عِنْدَ الْمَوْتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَ غَيْرِهِ، وَقَبَضَ الصَّدَاقَ وَأَتْلَفَهُ بِإِنْفَاقٍ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهَا، فَأُعْتِقَتْ وَهِيَ ثُلُثُ مَالِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَيْسَ لَهَا خِيَارُ الْعِتْقِ ; لِأَنَّهَا لَوْ فَسَخَتِ النِّكَاحَ لَوَجَبَ رَدُّ الْمَهْرِ مِنْ تَرِكَةِ السَّيِّدِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَخْرُجُ كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ. وَإِذَا بَقِيَ الرِّقُّ فِي الْبَعْضِ، لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ، فَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ لَمْ يُتْلِفِ الصَّدَاقَ وَكَانَتِ الْأَمَةُ ثُلُثَ مَالِهِ مَعَ الصَّدَاقِ. وَلَوْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ دُونَ الصَّدَاقِ، أَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْخِيَارُ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، إِلَّا أَنَّ الْإِعْتَاقَ وُجِدَ مِنْ وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْوَارِثُ مُعْسِرًا، فَلَا خِيَارَ لَهَا ; لِأَنَّهَا لَوْ فَسَخَتْ لَزِمَ رَدُّ الْمَهْرِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، لَمْ نُنَفِّذْ إِعْتَاقَ الْوَارِثِ الْمُعْسِرِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا لَمْ يُنَفَّذِ الْإِعْتَاقُ، لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ. وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مُوسِرًا، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي (كِتَابِ الرَّهْنَ) خِلَافًا فِي أَنَّ الْوَارِثَ الْمُوسِرَ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدَ التَّرِكَةِ وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، هَلْ يُنَفَّذُ الْعِتْقُ فِي الْحَالِ، أَمْ يَتَوَقَّفُ نُفُوذُهُ عَلَى وُصُولِ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: يُنَفَّذُ فِي الْحَالِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، عَتَقَتْ

وَلَهَا الْخِيَارُ. فَإِنْ فَسَخَتْ، غُرِّمَ الْوَارِثُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الصَّدَاقِ وَقِيمَةِ الْأَمَةِ، كَمَا لَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ وَارِثُهُ الْمُوسِرُ، يَلْزَمُهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الدَّيْنِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، فَالْقِيمَةُ الَّتِي يُغَرَّمُهَا الْوَارِثُ يَتَضَارَبُ فِيهَا سَيِّدُ الْعَبْدِ وَالْغُرَمَاءِ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: مَاتَ عَنْ أَخٍ وَعَبْدَيْنِ، وَالْأَخُ هُوَ الْوَارِثُ فِي الظَّاهِرِ، فَأَعْتَقَ الْأَخُ الْعَبْدَيْنِ، ثُمَّ ادَّعَتِ امْرَأَةٌ أَنَّهَا زَوْجَةُ الْمَيِّتِ، وَادَّعَى ابْنُهَا أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ، فَشَهِدَ الْمُعَتَقَانِ لَهُمَا، ثَبَتَتِ الزَّوْجِيَّةُ وَالنَّسَبُ، وَلَا يَرِثُ الِابْنُ، إِذْ لَوْ وَرِثَ لَحَجَبَ الْأَخَ وَبَطَلَ إِعْتَاقُهُ وَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ الزَّوْجِيَّةُ وَالنِّسَبُ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ شَهِدَا بِنَسَبِ بِنْتٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْأَخُ مُعْسِرًا يَوْمَ الْإِعْتَاقِ، لَمْ تَرِثِ الْبِنْتُ، إِذْ لَوْ وَرِثَتْ لَرَقَّ نَصِيبُهَا وَبَطَلَتِ الشَّهَادَةُ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنْ عَجَّلْنَا السِّرَايَةَ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، وَرَثَتْ لِكَمَالِ الْعِتْقِ يَوْمَ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَحْصُلُ السِّرَايَةُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، لَمْ تَرِثْ لِأَنَّ تَوْرِيثَهَا يَمْنَعُ كَمَالَ الْعِتْقِ يَوْمَ الشَّهَادَةِ. وَحُكْمُ الزَّوْجَةِ فِي الْإِرْثِ حُكْمُ الْبِنْتِ، فَيُنْظَرُ إِلَى إِعْسَارِ الْأَخِ وَيَسَارِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: أَوْصَى لِرَجُلٍ بِابْنِهِ، وَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ، وَوَارِثُهُ أَخُوهُ، وَقَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي آخِرِ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ «كِتَابِ الْوَصَايَا» . [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ: اشْتَرَى فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ كَابْنِهِ، عَتَقَ مِنَ الثُّلُثِ وَلَا يَرِثُ، إِذْ لَوْ وَرِثَ لَكَانَ الْعِتْقُ أَوِ النَّسَبُ إِلَيْهِ بِالشِّرَاءِ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ، فَيَبْطُلُ. وَإِذَا امْتَنَعَ الْعِتْقُ، امْتَنَعَ الْإِرْثُ. وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَجْهًا

أَنَّهُ يَرِثُ، وَوَجْهًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ مَلَكَ الْمَرِيضُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَهِبَةِ وَارِثٍ، فَهَلْ يَرِثُ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي «كِتَابِ الْوَصَايَا» وَبِالتَّوْرِيثِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. فَرْعٌ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِ جَمْعِهِ فِي الْمَسَائِلِ الدَّوْرِيَّةِ، أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِعِتْقِ عَبْدٍ، وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الْعَبْدُ مَعَ آخَرَ فَشَهِدَا بِجُرْحِ الشَّاهِدِينَ، لَمْ يُقْبَلْ. وَأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ هُمَا ثُلُثُ مَالِهِ، فَشَهِدَا عَلَى الْمَيِّتِ بِوَصِيَّةٍ أَوْ بِإِعْتَاقٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ زَكَاةٌ، لَمْ يُقْبَلْ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ نَكَحَ امْرَأَةً عَلَى مَهْرٍ، كَذَا حَكَى عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْبَلَ فِي النِّكَاحِ وَلَا مَهْرَ، وَأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ لَهُ فَشَهِدَا أَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَسَفَهٍ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا. وَأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ وَقَدْ مَاتَ، وَوَارِثُهُ فِي الظَّاهِرِ أَخُوهُ، فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي، ثَبَتَ النَّسَبُ وَلَا يَرِثُ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ مَعَ النُّكُولِ كَالْإِقْرَارِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا كَالْبَيِّنَةِ، فَيَرِثُ. وَإِنَّهُ لَوْ وَرِثَ عَبْدَيْنِ يُعْتِقَانِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ وَوَرِثَاهُ، أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ يَسْتَغْرِقُ تَرِكَتَهُ، لَمْ يَثْبُتِ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِهِمَا. وَأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ أَمَةً فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَهِيَ ثُلُثُ مَالِهِ، فَادَّعَتْ أَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، أَوْ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا وَعَلَيْهِ أُجْرَتُهَا، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهَا.

وَأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ مِنْ زَوْجَتِهِ عَبْدَيْنِ وَأَعْتَقَهُمَا، ثُمَّ شَهِدَا بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ بِرِدَّةٍ أَوْ طَلَاقٍ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ عَبْدِهِ مَالٌ، فَأَخَذَهُ وَاشْتَرَى بِهِ عَبْدَيْنِ وَأَعْتَقَهُمَا فَشَهِدَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ. وَأَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَوَارِثُهُ فِي الظَّاهِرِ أَخُوهُ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا مِنَ التَّرِكَةِ، وَوَلِيَ الْعَتِيقُ الْقَضَاءَ، فَجَاءَ مَجْهُولٌ وَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ، لَمْ يَقْبَلْ هَذَا الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُمَا، وَلَمْ يَحْكُمْ بِقَوْلِهِمَا، هَكَذَا ذَكَرُوهُ، وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا وَيُثْبِتُ النِّسَبَ دُونَ الْإِرْثِ. كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْأَخُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَبْدَيْنِ وَشَهِدَا بِبُنُوَّةِ الْمُدَّعِي، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُؤَثِّرُ نَسَبُهُ فِي الْعِتْقِ وَالْقَضَاءِ. وَأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ عَبْدًا مِنْ مُوَرِّثِهِ الْمَقْتُولِ وَأَعْتَقَهُ وَوَلِيَ الْعَتِيقُ الْقَضَاءَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ الْوَارِثُ وَادَّعَى عَلَى قَاتِلِهِ الْقِصَاصَ فَقَالَ [قَتَلْتُهُ] وَهُوَ مُرْتَدٌّ وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنَ، لَمْ يَحْكُمْ هَذَا الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ، فَجَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ غَصَبَ الْعَبْدَيْنِ وَشَهِدَا لَهُ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا. وَفِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ رَجُلٌ أَخَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ، كَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا وَهَلْ يَرِثُهُ؟ إِنْ صَحَّحْنَا الْإِقْرَارَ لِلْوَارِثِ، وَرِثَ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «مَجْمُوعِهِ» «غَايَةُ الْغَوْرِ فِي دِرَايَةِ الدَّوْرِ» : الْمَسَائِلُ الدَّائِرَةُ

لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قَطْعِ الدَّوْرِ. وَفِي قَطْعِهِ ثَلَاثَةُ مَسَالِكٍ: تَارَةً يُقْطَعُ مِنْ أَوَّلِهِ، وَتَارَةً مِنْ وَسَطِهِ، وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَبُعْدِهِ عَنِ الدَّفْعِ، وَضَعْفِ بَعْضِهَا وَقُرْبِهِ لِلدَّفْعِ. مِثَالُ الْقَطْعِ مِنْ أَوَّلِهِ: بَيْعُ الْعَبْدِ لِزَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِصَدَاقِهَا الثَّابِتِ فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ، فَإِنَّا حَكَمْنَا بِفَسَادِ الْبَيْعِ، وَقَطَعْنَا الدَّوْرَ مِنْ أَصْلِهِ، لَمْ نَقُلْ: يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، أَوْ يَنْفَسِخُ وَلَا يَسْقُطُ الصَّدَاقُ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الْبَيْعَ اخْتِيَارِيٌّ، وَحُصُولُ الِانْفِسَاخِ بِالْمِلْكِ قَهْرِيٌّ، وَكَذَا سُقُوطُ الصَّدَاقِ بِالِانْفِسَاخِ، وَمَا يَخْتَارُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، يَصِحُّ تَارَةً وَيَفْسُدُ أُخْرَى، وَمَا يَثْبُتُ قَهْرًا يَبْعُدُ دَفْعُهُ بَعْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ، فَكَانَ الْبَيْعُ أَوْلَى بِالدَّفْعِ مِنْ غَيْرِهِ. وَمِثَالُ الْقَطْعِ مِنَ الْوَسَطِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّا لَمْ نَقْطَعِ الدَّوْرَ مِنْ أَوَّلِهِ بِأَنْ نَقُولَ: لَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ وَلَا مِنْ آخِرِهِ، بِأَنْ نَقُولَ: لَا يَزِيدُ الْمَهْرُ حَتَّى لَا تَضِيقَ التَّرِكَةُ، وَلَكِنْ قَطَعْنَاهُ مِنْ وَسَطِهِ فَقُلْنَا: لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ، وَسَبَبُهُ أَنَّ سُقُوطَ الْمَهْرِ عِنْدَ الْفَسْخِ قَهْرِيٌّ يَبْعُدُ دَفْعُهُ، وَالْخِيَارُ أَوْلَى بِالدَّفْعِ مِنَ الْعِتْقِ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالْخِيَارُ يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْإِسْقَاطِ وَبِالتَّقْصِيرِ. وَمِثَالُ الْقَطْعِ مِنَ الْآخِرِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنَ الْخَمْسِ، فَإِنَّا لَمْ نَقْطَعِ الدَّوْرَ مِنَ الْأَوَّلِ بِأَنْ نَقُولَ: لَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ، وَلَا مِنَ الْوَسَطِ بِأَنْ نَقُولَ: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ، لَكِنْ قَطَعْنَاهُ مِنَ الْآخِرِ فَقُلْنَا: لَيْسَ لَهَا الْمَهْرُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: سَبَبُهُ أَنَّ الْعِتْقَ لَهُ قُوَّةُ السُّرْعَةِ وَالسِّرَايَةِ، فَلَا يُدْفَعُ، وَالنِّكَاحُ أَقْوَى مِنَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِيهِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ النِّكَاحِ يَسْتَغْنِي عَنِ الْمَهْرِ بِدَلِيلِ الْمُفَوَّضَةِ، وَالْمُسَمَّى مَهْرًا لَا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ

فصل

ثُبُوتِ النِّكَاحِ. وَعُدَّ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ، أَمَّا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بَيْنِي وَبَيْنَكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، أَوْ جَرَى رَضَاعٌ أَوْ رِدَّةٌ، فَلَا يُقْطَعُ الدَّوْرُ مِنْ أَوَّلِهِ بِأَنْ نَقُولَ: [لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، لَكِنْ يُقْطَعُ مِنْ آخِرِهِ، بِأَنْ نَقُولَ] يَنْفَسِخُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَرُبَّمَا نَعُودُ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالدَّوْرُ فِيهَا لَفْظِيٌّ. فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ التَّسَرِّي ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، فَإِنْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ جَارِيَةً وَقُلْنَا بِالْجَدِيدِ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَوْ أَذِنَ السَّيِّدُ، فَلَوِ اسْتَوْلَدَهَا، كَانَ الْوَلَدُ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّهُ يَمْلِكُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبَيْعِ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ يَتَسَرَّى بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَلَا يَتَسَرَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ. لَكِنْ لَوْ وَطِئَ، لَمْ يُحَدَّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ. وَلَوِ اسْتَوْلَدَهَا، فَالْوَلَدُ مِلْكٌ لَهُ، لَكِنْ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ لِضَعْفِ مِلْكِهِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ السَّيِّدِ بِهِ. فَإِنْ عَتَقَ، عَتَقَ الْوَلَدَ أَيْضًا، وَحُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةِ حُكْمِ الْقِنِّ فِي هَذَا. وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِمَا كَسَبَهُ بِحُرِّيَّتِهِ مَلَكَهَا، لَكِنْ لَا يَطَؤُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ ; لِأَنَّ بَعْضَهُ مَمْلُوكٌ وَالْوَطْءُ يَقَعُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ الْحُرُّ. وَمَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ، كَمَا أَنَّهُ يَأْكُلُ كَسْبَهُ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ. فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ وَقُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ إِذْنِهِ، فَعَلَى الْقَدِيمِ: يَجُوزُ. وَعَلَى الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْمِلْكِ يَمْنَعُ التَّسَرِّي، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَتَسَرَّى بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ كَتَبَرُّعَاتِهِ.

الْبَابُ الثَّانِي عَشَرَ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي النِّكَاحِ وَفِيهِ مَسَائِلُ. [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى: إِذَا ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْوَلِيُّ لِأَنَّ إِقْرَارَهَا مَقْبُولٌ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي «بَابِ أَحْكَامِ الْأَوْلِيَاءِ» . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ، فَإِنِ ادَّعَتِ الْمَهْرَ فِي النِّكَاحِ، أَوِ ادَّعَتِ النِّكَاحَ، وَطَلَبَتْ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ، سُمِعَتْ دَعْوَاهَا. وَإِنِ ادَّعَتْ مُجَرَّدَ الزَّوْجِيَّةِ، فَوَجْهَانِ، إِنْ سُمِعَتْ، أَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ أَنْكَرَ، فَهَلْ إِنْكَارُهُ طَلَاقٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا: طَلَاقٌ انْدَفَعَ مَا يَدَّعِيهِ، وَلَا مَعْنَى لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي (كِتَابِ الدَّعَاوَى) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: زَوَّجَ إِحْدَى بِنْتَيْهِ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ تَنَازَعَا، فَلِتَنَازُعِهِمَا حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: تَقُولُ كُلُّ وَاحِدَةٍ: أَنَا الْمُزَوَّجَةُ، فَمَنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ، ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَالْأُخْرَى تَدَّعِي أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَحْلِفُ لَهَا. وَقِيلَ: فِي تَحْلِيفِهِ قَوْلَانِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَصِّلَ، فَإِنِ ادَّعَتْ زَوْجَتُهُ وَطَلَبَتِ الْمَهْرَ، فَالْوَجْهُ التَّحْلِيفُ. وَإِنِ ادَّعَتْ مُجَرَّدَ الزَّوْجِيَّةِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. فَإِنْ قُلْنَا: يَحْلِفُ، فَحَلَفَ، سَقَطَتْ دَعْوَاهَا. وَإِنْ نَكَلَ، فَحَلَفَتْ، فَهَلِ الْيَمِينُ الْمَرْدُودُ مَعَ النُّكُولِ كَالْبَيِّنَةِ؟ أَمْ كَالْإِقْرَارِ؟ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ. إِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، كَمَا لَوْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: يَنْتَفِي نِكَاحُ الْأُولَى، وَيُحْكُمُ بِانْقِطَاعِ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ لِإِنْكَارِ الزَّوْجِ. وَأَصَحُّهُمَا: اسْتِمْرَارُ نِكَاحِ الْأُولَى ; لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ إِنَّمَا تُجْعَلُ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَا فِي

حَقِّ غَيْرِهِمَا. وَقَدْ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى بِتَقَارِّهِمَا. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ النِّكَاحَانِ وَالصَّحِيحُ اسْتِمْرَارُ نِكَاحِ الْأُولَى، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِلْأُولَى ثُمَّ أَقَرَّ لِلثَّانِيَةِ. وَعَلَى هَذَا، فَهَلْ تَسْتَحِقُّ الثَّانِيَةُ نِصْفَ الْمَهْرِ، أَمْ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. الْحَالُ الثَّانِي: تَقُولُ كُلُّ وَاحِدَةٍ: لَسْتُ بِالْمُزَوَّجَةِ، بَلْ صَاحِبَتِي، فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ: عَيِّنْ، فَإِذَا عَيَّنَ، فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الْأُخْرَى لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ، فَلَا خُصُومَةَ لَهُ مَعَهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأُخْرَى مَعَ يَمِينِهَا. فَإِنْ لَمْ تَحْلِفْ، حَلِفَ الزَّوْجُ وَثَبَتَ النِّكَاحُ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بِيَمِينِهِ لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا زَوْجَةٌ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَحَلِّ حَقِّهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فُرُوعِ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَأَنَّهُ قَيَّدَهَا فَقَالَ: إِذَا مَاتَ الْأَبُ، وَكَذَا قَيَّدَهَا الْغَزَالِيُّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا الْقَيْدُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا وَعَيَّنَ إِحْدَاهُمَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الزَّوْجِ، لَكِنَّهُ مُفِيدٌ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَبُ حَيَّا وَهِيَ مُجْبَرَةٌ، رَاجَعْنَاهُ. فَإِنْ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ عَلَى إِحْدَاهِمَا، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَا يَضُرُّ الزَّوْجَ إِنْكَارُهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَظْهَرُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ إِقْرَارُهَا وَمَعَهَا مُجْبِرٌ حَذَرًا مِنَ اخْتِلَافِ الْإِقْرَارَيْنِ، وَإِذَا قَبِلْنَا إِقْرَارَهَا فَاخْتَلَفَ إِقْرَارُهَا وَإِقْرَارُ الْوَلِيِّ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ لِلسَّابِقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَبْطُلَانِ جَمِيعًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي آخِرِ الْبَابِ الثَّالِثِ عَنِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَالْأَوْدَنِيِّ، أَنَّ الْمَقْبُولَ إِقْرَارُهُ أَمْ إِقْرَارُهَا؟ فَحَصَلَ أَرْبَعَةُ احْتِمَالَاتٍ. وَلَوْ زَوَّجَ بِنْتَهُ مِنْ أَحَدِ ابْنَيْ رَجُلٍ، وَادَّعَتْ هِيَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ الزَّوْجُ،

فَإِنْ جَرَّدَتْ دَعْوَى النِّكَاحِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ، وَإِنِ ادَّعَتِ الْمَهْرَ، حَلَّفَتْهُ. فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ وَأَخَذَتْ نِصْفَ الْمَهْرِ، وَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، فَأَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا، ثَبَتَ نِكَاحُهُ، وَهَلْ لِلْآخَرِ تَحْلِيفُهَا؟ قَوْلَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَنْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ بِشَخْصَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ بِمَهْرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَحَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا، هَلْ يُغَرَّمُونَ لَهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَإِنَّمَا يُغَرَّمُونَ مَا فَوَّتُوا عَلَى الزَّوْجِ وَهُوَ نِصْفُ الْمُسَمَّى. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُغَرَّمُونَ، فَذَلِكَ فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ زَادَ الْمُسَمَّى عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، فَحُكْمُ الزِّيَادَةِ فِي الرُّجُوعِ حُكْمُ شُهُودِ الْمَالِ إِذَا رَجَعُوا. وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقٍ، ثُمَّ رَجَعُوا، فَهَلْ يُغَرَّمُونَ مَهْرَ الْمِثْلِ أَمْ نِصْفَهُ، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَوْضِعُهُ " بَابُ " الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ ". وَإِذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا فِي نِكَاحِ رَجُلٍ بِمَهْرٍ مَعْلُومٍ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ، ثُمَّ ادَّعَتِ الْإِصَابَةَ وَاسْتِقْرَارَ الْمَهْرِ، فَشَهِدَ عَلَى الْإِصَابَةِ أَوْ عَلَى إِقْرَارِ الزَّوْجِ بِهَا آخَرَانِ، ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَشَهِدَ بِذَلِكَ آخَرَانِ، وَحَكَمَ بِمُقْتَضَى الشَّهَادَاتِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْمَهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ جَمِيعًا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا غُرْمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ شُهُودَ النِّكَاحِ وَالْإِصَابَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إِلَّا إِثْبَاتُ مِلْكٍ وَاسْتِمْتَاعٌ بِمِلْكٍ، وَشُهُودُ الطَّلَاقِ لَمْ يُفَوِّتُوا عَلَيْهِ شَيْئًا فِي زَعْمِهِ، فَإِنَّهُ يُنْكِرُ النِّكَاحَ، وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ نِكَاحٌ فَقَدْ فَوَّتَهُ بِزَعْمِهِ بِإِنْكَارِهِ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا غُرْمَ عَلَى شُهُودِ النِّكَاحِ وَالْإِصَابَةِ، وَيُغَرَّمُ شُهُودُ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُمْ فَوَّتُوا مَا ثَبَتَ بِالْأَوَّلَيْنِ. فَعَلَى هَذَا، فِي قَدْرِ غُرْمِهُمُ الْخِلَافُ الَّذِي أَحَلْنَاهُ عَلَى بَابِ الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا: لَا شَيْءَ عَلَى شُهُودِ الطَّلَاقِ ; لِأَنَّهُ يُنْكِرُ أَصْلَ النِّكَاحِ، فَكَيْفَ يُطَالِبُهُمْ بِضَمَانِ تَفْوِيتِهِ؟ بَلِ النِّكَاحُ لَا يَثْبُتُ مَعَ إِنْكَارِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُسْمَعَ بَيِّنَةُ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا شُهُودُ النِّكَاحِ وَالْإِصَابَةِ، فَإِنْ أَرَّخُوا شَهَادَتَهُمْ، فَشَهِدَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ نَكَحَهَا فِي " الْمُحَرَّمِ " وَأُولَئِكَ أَنَّهُ أَصَابَهَا فِي " صَفَرٍ " غُرِّمَ الصِّنْفَانِ مَا غُرِّمَ الزَّوْجُ بِالسَّوِيَّةِ. وَإِنْ أَطْلَقَ شُهُودُ الْإِصَابَةِ شَهَادَتَهُمْ، فَنِصْفُ الْغُرْمِ عَلَى شُهُودِ النِّكَاحِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى شُهُودِ الْإِصَابَةِ، لِجَوَازِ وُقُوعِهَا فِي غَيْرِ النِّكَاحِ وَكَوْنِهَا زِنًا، وَلَوْ شَهِدُوا بِالْإِصَابَةِ فِي النِّكَاحِ، فَقَدْ أُلْحِقَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا أُرِّخَتِ الشَّهَادَتَانِ. وَفِي " النِّهَايَةِ " أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا بِالنِّكَاحِ ثُمَّ عَلَى الْإِصَابَةِ بَعْدَهُ، اشْتَرَكَ الصِّنْفَانِ فِي غُرْمِ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُخْتَصٌّ بِغُرْمِ شُهُودِ الْإِصَابَةِ، وَالصُّورَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ، وَلَا يَبْعُدُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَخْصِيصِ الْغُرْمِ بِشُهُودِ الْإِصَابَةِ. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: إِذَا زُوِّجَتْ بِرَجُلٍ، ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مَحْرَمِيَّةٌ، بِأَنْ قَالَتْ: هُوَ أَخِي مَنِ الرَّضَاعِ، أَوْ كُنْتُ زَوْجَةَ أَبِيهِ، أَوِ ابْنِهِ، أَوْ وَطِئَنِي أَحَدُهُمَا بِشُبْهَةٍ، نُظِرَ، أَوَقَعَ التَّزْوِيجُ بِرِضَاهَا أَمْ لَا؟ الْحَالَةُ الْأُولَى: زُوِّجَتْ بِرِضَاهَا بِهِ بِأَنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، أَوْ زَوْجُهَا أَخٌ أَوْ عَمٌّ، أَوْ زَوْجُهَا الْمُجْبَرُ بِرِضَاهَا، فَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهَا وَالنِّكَاحُ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ ; لِأَنَّ إِذْنَهَا فِيهِ يَتَضَمَّنُ حِلَّهَا لَهُ، فَلَا يُقْبَلُ نَقِيضُهُ. لَكِنْ إِنْ ذَكَرَتْ عُذْرًا كَغَلَطٍ أَوْ نِسْيَانٍ، سُمِعَتْ دَعْوَاهَا عَلَى الْمَذْهَبِ فَتَحْلِفُهُ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: زُوِّجَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا لِكَوْنِهَا مُجْبَرَةً، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا، وَيُحْكَمُ بِانْدِفَاعِ النِّكَاحِ مِنْ أَصْلِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهَا مُحْتَمَلٌ وَلَمْ تَعْتَرِفْ بِنَقِيضِهِ، فَصَارَ كَقَوْلِهَا فِي الِابْتِدَاءِ: هُوَ أَخِي لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِهِ. وَالثَّانِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَحُكِيَ عَنِ اخْتِيَارِ ابْنِ سُرَيْجٍ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا اسْتِدَامَةً لِلنِّكَاحِ الْجَارِي عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا وَلِئَلَّا تَتَّخِذَهُ الْفَاسِقَاتُ ذَرِيعَةً إِلَى الْفِرَاقِ. وَاحْتَجَّ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُ أَيْضًا، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْحَاكِمُ عَبْدًا أَوْ عَقَارًا عَلَى مَالِكِهِ الْغَائِبِ بِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ، ثُمَّ جَاءَ الْمَالِكُ وَقَالَ: كُنْتُ أَعْتَقْتُ الْعَبْدَ أَوْ وَقَفْتُ الْعَقَارَ أَوْ بِعْتُهُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَنُقِضَ بَيْعُ الْقَاضِي، وَرُدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ تَوْكِيلِهِ، ثُمَّ ادَّعَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُ نَقِيضُهُ، وَمُقْتَضَى حِكَايَتِهِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي صُورَةِ بَيْعِ الْحَاكِمِ، لَكِنَّ الْإِمَامَ حَكَى فِيهَا قَوْلَيْنِ، وَلَوْ زَوَّجَ بِنْتَهُ أَوْ أَمَتَهُ ثُمَّ ادَّعَى الْأَبُ أَوِ السَّيِّدُ مَحْرَمِيَّةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِهِ ; لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقُّ الزَّوْجَيْنِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَوْ قَالَ بَعْدَ تَزْوِيجِهِ أَمَتَهُ: كُنْتُ أَعْتَقْتُهَا، حُكِمَ بِعِتْقِهَا، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ، وَكَذَا لَوْ أَجَّرَّ الْعَبْدَ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ، وَيُغَرَّمُ لِلْعَبْدِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ ; لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِإِتْلَافِ مَنَافِعِهِ ظُلْمًا، كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ غَصَبْتُهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْبَيْعِ، وَيُغَرُّمُ قِيمَتَهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ. وَالْخِلَافُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، فِي أَنَّهَا هَلْ تُصَدَّقُ بِيَمِينِهَا؟ وَأَمَّا دَعْوَاهَا، فَتُسْمَعُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا بِلَا خِلَافٍ. وَالْكَلَامُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، فِي رَدِّ الدَّعْوَى مِنْ أَصْلِهَا، وَأَنَّ الْإِذْنَ وَالرِّضَى بِالتَّزْوِيجِ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ إِذَا أَذِنَتْ فِي تَزْوِيجِهَا بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ.

أَمَّا إِذَا أَذِنَتْ فِي النِّكَاحِ مُطْلَقًا وَقُلْنَا: لَا حَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ الزَّوْجِ، فَزَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِرَجُلٍ، ثُمَّ ادَّعَتْ مَحْرَمِيَّةً، فَالْحُكْمُ كَمَا إِذَا زُوِّجَتْ مُجْبَرَةً ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِجَهَالَةٍ. وَلَوْ زَوَّجَ الْأَخُ الْبِكْرَ وَهِيَ سَاكِتَةٌ، اكْتُفِيَ بِصُمَاتِهَا عَلَى الْأَصَحِّ ثُمَّ ادَّعَتْ مَحْرَمِيَّةً، قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي ارْتَضَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ، أَنَّ دَعْوَاهَا مَسْمُوعَةٌ. قَالَ: لَكِنْ لَا تُصَدَّقُ بِيَمِينِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ مَجْنُونًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيَّ وَقْتَ تَزْوِيجِهَا، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ وَقَالَ: تَزَوَّجْتُهَا تَزَوُّجًا صَحِيحًا، فَإِنْ. لَمْ يَعْهَدِ السَّيِّدُ مَا ادَّعَاهُ وَلَا بَيِّنَةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بِيَمِينِهِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ النِّكَاحِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: زُوِّجْتُهَا وَأَنَا مَحْرَمٌ، أَوْ قَالَ: لَمْ تَكُنْ مِلْكِي يَوْمَئِذٍ ثُمَّ مَلَكْتُهَا، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ بَاعَ عَبْدًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ الْبَيْعِ: بِعْتُهُ وَأَنَا مَحْجُورٌ عَلَيَّ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِلْكِي ثُمَّ مَلَكْتُهُ. وَعَنْ نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَ أُخْتَهُ وَمَاتَ الزَّوْجُ، فَادَّعَى وَرَثَتُهُ أَنَّ أَخَاهَا زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَقَالَتْ: بَلْ زَوَّجَنِي بِإِذْنِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوِ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَالْآخَرُ فَسَادَهُ، فَلْيَجِئْ ذَلِكَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. قُلْتُ: لَمْ يَذْكُرْهُ الْأَصْحَابُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَا يَصِحُّ مَجِيئُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْغَالِبَ فِي الْأَنْكِحَةِ الِاحْتِيَاطُ لَهَا، وَعَقْدُهَا بِشُرُوطِهَا وَبِحَضْرَةِ الشُّهُودِ وَغَيْرِهِمْ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ وُقُوعَهُ فَاسِدٌ كَثِيرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ ادَّعَتِ الْمَنْكُوحَةُ أَنَّهَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَهِيَ مُعْتَبِرَةُ الْإِذْنِ، فَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بَعْدَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَأَقَامَتْ مَعَهُ، كَأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ بِمَنْزِلَةِ الرِّضَى.

أَمَّا إِذَا عُهِدَ لِلسَّيِّدِ الْمُزَوَّجِ جُنُونٌ، أَوْ حَجْرٌ، أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُهَا وَأَنَا صَبِيٌّ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ؟ قَوْلَانِ خَرَّجَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْمُصَدَّقَ الزَّوْجُ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ جَرَيَانُ الْعَقْدِ صَحِيحًا، وَلِأَنَّهُ صَحَّ ظَاهِرًا وَالْأَصْلُ دَوَامُهُ. وَلَوْ زَوَّجَ أُخْتَهُ بِرِضَاهَا، ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَةً يَوْمَئِذٍ، فَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْبَغَوِيِّ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا وَإِنْ أَقَرَّتْ يَوْمَئِذٍ بِبُلُوغِهَا، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ صَغِيرًا يَوْمَ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْعَقْدِ الْجَارِي بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، صِحَّتُهُ وَهَذِهِ لَمْ تَعْقِدْ. وَلَوْ وَكَّلَ الْوَلِيَّ بِتَزْوِيجِهَا، ثُمَّ أَحْرَمَ، وَجَرَى الْعَقْدُ، فَادَّعَى الْوَلِيُّ جَرَيَانَهُ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، فَنَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الصِّحَّةِ. وَلَمْ يَحْكِ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ خِلَافًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَسَبَبُهُ أَنَّ الْإِحْرَامَ طَرَأَ وَالْأَصْلُ اسْتِنَادُ الْعَقْدِ إِلَى الْحِلِّ، لَكِنَّ الشَّيْخَ أَلْحَقَ بِمَسْأَلَةِ الْإِحْرَامِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ النَّصِّ، مَا إِذَا وَكَّلَ بِقَبُولِ نِكَاحٍ ثُمَّ أَحْرَمَ الْمُوَكِّلُ وَقَبِلَ الْوَكِيلُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: عَقَدَ قَبْلَ إِحْرَامِي [أَوْ بَعْدَهُ] أَوْ بَعْدَ

تَحَلُّلِي، وَقَالَتْ: بَلْ فِي حَالِ إِحْرَامِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، فَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ سَبْقَ الْإِحْرَامِ النِّكَاحَ وَعَكْسَهُ. وَمُقْتَضَى مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ، أَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا زَوَّجَ ثُمَّ ادَّعَى الْمَحْرَمِيَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لَا يُلْتَفَتُ إِلَى دَعْوَاهُ أَنْ لَا يُفْرَضَ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةِ النَّصِّ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ، بَلْ يُفْرَضُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ صُدِّقَ الزَّوْجُ. وَلَوْ زَوَّجَ بِنْتَهُ وَمَاتَ، فَادَّعَتْ أَنَّ أَبَاهَا كَانَ مَجْنُونًا يَوْمَ الْعَقْدِ، نُظِرَ، هَلْ كَانَ التَّزْوِيجُ بِرِضَاهَا أَمْ بِغَيْرِهِ؟ وَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ. فَرْعٌ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِهِ، ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهَا زَوْجَةُ غَيْرِهِ وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً بِهِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُعْمَلُ بِبَيِّنَةِ الرَّجُلِ ; لِأَنَّ حَقَّهُ فِي النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّ الْمُتَصَرِّفَ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ، فَقُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ كَصَاحِبِ الْيَدِ مَعَ غَيْرِهِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُنْظُرَ فِي جَوَابِ مَنِ ادَّعَتْ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ فَلَا نِكَاحَ لَهُ، فَيُعْمَلُ بِبَيِّنَةِ الرَّجُلِ. وَإِنْ سَكَتَ، فَهُمَا بَيِّنَتَانِ تَعَارَضَتَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ لِدَعْوَاهَا الْمَهْرَ، أَوْ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي سَمَاعِ دَعْوَى الزَّوْجِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ خِلَافٌ. فَإِنْ سَمِعَتْ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، فَفِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَيْضًا خِلَافٌ. فَإِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجِيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ، فَإِنَّمَا تُقِيمُ [هِيَ] الْبَيِّنَةَ تَفْرِيعًا عَلَى سَمَاعِ هَذِهِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ مَعَ إِنْكَارِهِ.

فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ وَذِمِّيَّةٌ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا، فَقَالَ لِلْمُسْلِمَةِ: ارْتَدَدْتُ، وَقَالَ لِلذِّمِّيَّةِ: أَسَلَمْتُ، فَأَنْكَرَتَا، ارْتَفَعَ نِكَاحُهُمَا لِزَعْمِهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ هُنَا مَسَائِلَ مَنْثُورَةً مِنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْبَغَوِيِّ، تَتَعَلَّقُ بِأَبْوَابِ النِّكَاحِ قَدَّمْتُهَا أَنَا فَوَضَعْتُهَا فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الصداق

كِتَابُ الصَّدَاقِ هُوَ اسْمُ الْمَالِ الْوَاجِبِ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ بِالنِّكَاحِ أَوِ الْوَطْءِ، وَلَهُ أَسْمَاءٌ: الصَّدَاقُ، وَالصَّدَقَةُ وَالْمَهْرُ، وَالْأَجْرُ، وَالْعَقْرُ، وَالْعَلِيقَةُ. وَيُقَالُ: أَصْدَقَهَا، وَمَهَرَهَا. وَيُقَالُ فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ: أَمْهَرَهَا. قَالَ الْأَصْحَابُ: لَيْسَ الْمَهْرُ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَتَوَابِعُهُ، وَهُوَ قَائِمٌ بِالزَّوْجَيْنِ، فَهُمَا الرُّكْنُ، فَيَجُوزُ إِخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَسْمِيَتُهُ ; لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ، ثُمَّ لَيْسَ لِلصَّدَاقِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، بَلْ كُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا أَوْ مُثَمَّنًا أَوْ أُجْرَةً، جَازَ جَعْلُهُ صَدَاقًا. فَإِنِ انْتَهَى فِي الْقِلَّةِ إِلَى حَدٍّ لَا يَتَمَوَّلُ، فَسَدَتِ التَّسْمِيَةُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنْ لَا يُغَالِيَ فِي الصَّدَاقِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى صَدَاقِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَمْسُمِائَةُ دِرْهَمٍ. فَصْلٌ يَشْتَمِلُ كِتَابُ الصَّدَاقِ عَلَى سِتَّةِ أَبْوَابٍ [الْبَابُ] الْأَوَّلُ: فِي أَحْكَامِ الصَّدَاقِ الصَّحِيحِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ.

[الْحُكْمُ] الْأَوَّلُ: فِي أَنَّ الصَّدَاقَ فِي يَدِ الزَّوْجِ، كَيْفَ يُضْمَنُ؟ فَإِذَا أَصْدَقَهَا عَيْنًا، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا. وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: ضَمَانُ الْعَقْدِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ. وَالْقَدِيمُ: ضَمَانُ الْيَدِ كَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَامِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَسَائِلُ: [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى: إِذَا بَاعَتِ الصَّدَاقَ قَبْلَ قَبْضِهِ، إِنْ قُلْنَا: ضَمَانُ يَدٍ، جَازَ وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا فَاعْتَاضَتْ عَنْهُ، جَازَ إِنْ قُلْنَا: ضَمَانُ يَدٍ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ كَالثَّمَنِ. أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» : لَوْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ أَوْ صَنْعَةً، لَمْ يَجُزِ الِاعْتِيَاضُ عَلَى قَوْلِ ضَمَانِ الْعَقْدِ كَالْمُسَلَّمِ فِيهِ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: تَلِفَ الصَّدَاقُ الْمُعَيَّنُ فِي يَدِهِ، فَعَلَى ضَمَانِ الْعَقْدِ يَنْفَسِخُ عَقْدُ الصَّدَاقِ، وَيُقَدَّرُ عَوْدُ الْمِلْكِ إِلَيْهِ قُبَيْلَ التَّلَفِ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا كَانَ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ كَالْعَبْدِ الْمَبِيعِ يُتْلَفُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانُ الْيَدِ، تَلِفَ عَلَى مِلْكِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا، فَعَلَيْهَا تَجْهِيزُهُ. وَلَا يَنْفَسِخُ الصَّدَاقُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ بَدَلُ مَا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَيَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ مِثْلُ الصَّدَاقِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتُهُ إِنْ كَانَ مُتَقَوَّمًا. وَرَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وُجُوبَ الْبَدَلِ، وَالْجُمْهُورُ رَجَّحُوا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ. فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ، فَهَلْ يَجِبُ أَقْصَى الْقِيمَةِ مِنْ يَوْمِ الصَّدَاقِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ ; لِأَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَمْ يَوْمَ التَّلَفِ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا؟ أَمْ يَوْمَ الصَّدَاقِ؟ أَمِ الْأَقَلُّ مِنْ يَوْمِ الصَّدَاقِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ طَالَبَتْهُ بِالتَّسْلِيمِ فَامْتَنَعَ، تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يَجِبُ أَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ وَقْتِ الْمُطَالَبَةِ إِلَى التَّلَفِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا. وَلَوْ طَالَبَهَا

الزَّوْجُ بِالْقَبْضِ فَامْتَنَعَتْ، فَفِي بَقَاءِ الصَّدَاقِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَجْهَانِ، نَقَلَهُمَا أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ، الصَّحِيحُ الضَّمَانُ، كَمَا أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْمَبِيعِ بِهَذَا الْقَدْرِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا تَلِفَ الصَّدَاقُ بِنَفْسِهِ. أَمَّا لَوْ أُتْلِفَ، فَيُنْظَرُ، إِنْ أَتْلَفَتْهُ الزَّوْجَةُ، صَارَتْ قَابِضَةً وَبَرِئَ الزَّوْجُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ وَجْهًا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا أَتْلَفَ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، لَمْ يَصِرْ قَابِضًا بَلْ يُغَرَّمُ الْقِيمَةَ لِلْبَائِعِ، وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ. فَعَلَى قِيَاسِهِ، تُغَرَّمُ لَهُ الصَّدَاقَ وَتَأْخُذُ مَهْرَ الْمِثْلِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، فَإِنْ قُلْنَا: إِتْلَافُ الْأَجْنَبِيِّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَالْحُكْمُ مَا سَبَقَ، وَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ، فَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَتْ فَسَخَتِ الصَّدَاقَ، وَحِينَئِذٍ تَأْخُذُ مِنَ الزَّوْجِ مَهْرَ الْمِثْلِ إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْعَقْدِ، وَمِثْلَ الصَّدَاقِ أَوْ قِيمَتَهُ إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، وَيَأْخُذُ الزَّوْجُ الْغُرْمَ مِنَ الْمُتْلِفِ. وَإِنْ أَجَازَتْ تَأْخُذُ مِنَ الْمُتْلِفِ الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ، وَلَهَا أَنْ تُطَالِبَ الزَّوْجَ بِالْغُرْمِ، فَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمُتْلَفِ إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ. وَإِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْعَقْدِ، فَلَيْسَ لَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ، هَكَذَا رَتَّبَ الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَأَثْبَتُوا لَهَا الْخِيَارَ عَلَى قَوْلَيْ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَالْيَدِ، ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَيْهِمَا. وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ عَلَى قَوْلِ ضَمَانِ الْعَقْدِ. فَأَمَّا عَلَى ضَمَانِ الْيَدِ، فَلَا خِيَارَ، وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا طَلَبُ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ، كَمَا إِذَا أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ الْمُسْتَعَارَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ الزَّوْجُ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ إِتْلَافَ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، أَوْ كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ؟ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الصَّدَاقِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: حَدَثَ فِي الصَّدَاقِ نَقْصٌ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَهُوَ نَقْصُ جُزْءٍ أَوْ صِفَةٍ، فَنَقْصُ الْجُزْءِ مِثْلُ أَنْ أَصْدَقَهَا عَبْدَيْنِ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا فِي يَدِهِ، فَيَنْفَسِخُ عَقْدُ الصَّدَاقِ فِيهِ، وَلَا يَنْفَسِخُ فِي الْبَاقِي عَلَى الْمَذْهَبِ، لَكِنَّ لَهَا الْخِيَارَ. فَإِنْ فَسَخَتْ، رَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى قَوْلِ ضَمَانِ الْعَقْدِ، وَعَلَى

ضَمَانِ الْيَدِ تَأْخُذُ قِيمَةَ الْعَبْدَيْنِ. وَإِنْ أَجَازَتْ فِي الْبَاقِي، رَجَعَتْ لِلتَّالِفِ إِلَى حِصَّةِ قِيمَتِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى قَوْلِ ضَمَانِ الْعَقْدِ، وَإِلَى قِيمَةِ التَّالِفِ عَلَى ضَمَانِ الْيَدِ. وَإِنْ تَلِفَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ بِإِتْلَافٍ، نُظِرَ، إِنْ أَتْلَفَتْهُ الْمَرْأَةُ، جُعِلَتْ قَابِضَةً لِقِسْطِهِ مِنَ الصَّدَاقِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، فَلَهَا الْخِيَارُ. فَإِنْ فَسَخَتْ أَخَذَتِ الْبَاقِي، وَقِسْطَ قِيمَةِ التَّالِفِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْعَقْدِ، وَقِيمَتَهُ إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ. وَإِنْ أَجَازَتْ، أَخَذَتْ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ الضَّمَانَ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ الزَّوْجُ، فَهُوَ كَالتَّلَفِ بِآفَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا نَقْصُ الصِّفَةِ، فَهُوَ الْعَيْبُ، كَعَمَى الْعَبْدِ أَوْ نِسْيَانِهِ الْحِرْفَةَ وَنَحْوِهِمَا، وَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ. وَفِي «الْوَسِيطِ» أَنَّ أَبَا حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ قَالَ: لَا خِيَارَ عَلَى قَوْلِ ضَمَانِ الْعَقْدِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. فَإِنْ فَسَخَتِ الصَّدَاقَ، أَخَذَتْ مِنَ الزَّوْجِ مَهْرَ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبَذَلَ الصَّدَاقَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَإِنْ أَجَازَتْ، فَعَلَى الْأَظْهَرِ: لَا شَيْءَ لَهَا كَمَا لَوْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبِ الْمَبِيعِ، وَعَلَى ضَمَانِ الْيَدِ لَهَا عَلَيْهِ أَرْشُ النَّقْصِ. وَإِنِ اطَّلَعَتْ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ، فَلَهَا الْخِيَارُ، [فَإِنْ] فَسَخَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ إِلَى قِيمَةِ الْعَيْنِ سَالِمَةً. وَإِنْ أَجَازَتْ وَقُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، فَلَهَا الْأَرْشُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ ; لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْعَيْنِ. وَإِنْ حَصَلَ التَّعْيِيبُ بِجِنَايَةٍ، نُظِرَ، إِنْ حَصَلَ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ، جُعِلَتْ قَابِضَةً لِقَدْرِ النَّقْصِ، وَتَأْخُذُ الْبَاقِيَ وَلَا خِيَارَ. وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ التَّعْيِيبِ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَلَهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ حِصَّةُ قِيمَةِ الْبَاقِي عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيمَةُ الْبَاقِي عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي. وَإِنْ

حَصَلَ التَّعْيِيبُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، فَلَهَا الْخِيَارُ، فَإِنْ فَسَخَتْ، أَخَذَتْ مَهْرَ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ وَقِيمَتَهُ سَلِيمًا فِي الثَّانِي، وَيَأْخُذُ الزَّوْجُ الْغُرْمَ مِنَ الْجَانِي. وَإِنْ أَجَازَتْ، غُرِّمَتْ لِلْجَانِي. وَلَيْسَ لَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْعَقْدِ. وَإِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، فَلَهَا مُطَالَبَتُهُ، فَيُنْظَرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْجِنَايَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، أَوْ كَانَ أَرْشُ النَّقْصِ أَكْثَرَ، رَجَعَتْ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا، وَالْقَرَارُ عَلَى الْجَانِي. وَإِنْ كَانَ الْمُقَدَّرُ أَقَلَّ، طَالَبَتْ بِالْمُقَدَّرِ مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا، وَالْقَرَارُ عَلَى الْجَانِي، وَأَخَذَتْ قِيمَةَ الْأَرْشِ مِنَ الزَّوْجِ. وَإِنْ حَصَلَ التَّعْيِيبُ بِجِنَايَةِ الزَّوْجِ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ جِنَايَةَ الْبَائِعِ كَآفَةٍ أَوْ كَجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَقُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ. فَإِنْ كَانَ لِلْجِنَايَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كَقَطْعِ الْيَدِ، فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَأَرْشِ النَّقْصِ. فَرْعَانِ الْأَوَّلُ: أَصْدَقَهَا دَارًا فَانْهَدَمَتْ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَتْلَفْ مِنَ النَّقْصِ شَيْءٌ، فَالْحَاصِلُ نُقْصَانُ صِفَةٍ. وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ بِاحْتِرَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْحَاصِلُ هَلْ هُوَ نُقْصَانُ نِصْفِهِ كَطَرَفِ الْعَبْدِ أَمْ [نُقْصَانُ] جُزْءٍ كَأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَقَدْ سَبَقَا فِي الْبَيْعِ. الثَّانِي: أَصْدَقَهَا نَخْلًا ثُمَّ جَعَلَ ثَمَرَهُ فِي قَارُورَةٍ، وَصَبَّ عَلَيْهِ صَقْرًا مِنْ ذَلِكَ النَّخْلِ وَهُوَ بَعْدُ فِي يَدِهِ، وَالَصَّقْرُ: هُوَ السَّائِلُ مِنَ الرُّطَبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْرَضَ

عَلَى النَّارِ. فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ صَدَاقًا مَعَ النَّخْلِ، بِأَنْ أَصْدَقَهَا نَخْلَةً مُطْلِعَةً. وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ. الْحَالَةُ الْأُولَى: إِذَا كَانَتْ صَدَاقًا، يُنْظَرُ إِنْ لَمْ يَدْخُلِ الثَّمَرَةَ وَالصَّقْرَ نَقْصٌ لَا بِتَقْدِيرِ النَّزْعِ مِنَ الْقَارُورَةِ، وَلَا بِتَقْدِيرِ التَّرْكِ فِيهَا، فَتَأْخُذُهُمَا الْمَرْأَةُ وَلَا خِيَارَ لَهَا، بَلِ الزَّوْجُ كَفَاهَا مُؤْنَةَ الْجِدَادِ. وَإِنْ حَدَثَ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا نَقْصٌ، فَهُوَ إِمَّا نَقْصُ عَيْنٍ، وَإِمَّا نَقْصُ صِفَةٍ. أَمَّا نَقْصُ الْعَيْنِ، فَمِثْلُ أَنْ صَبَّ عَلَيْهَا مِكْيَلَتَيْنِ مِنَ الصَّقْرِ فَشَرِبَ الرُّطَبُ مِكْيَلَةً، فَلَا يُجْبَرُ نَقْصُ عَيْنِ الصَّقْرِ بِزِيَادَةِ قِيمَةِ الرُّطَبِ، ثُمَّ إِنْ جَعْلَنَا الصَّدَاقَ مَضْمُونًا ضَمَانَ عَقْدٍ، انْفَسَخَ الصَّدَاقُ فِي قَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الصَّقْرِ إِنْ قُلْنَا: جِنَايَةٌ كَالْآفَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَلَا يَنْفَسِخُ فِي الْبَاقِي، وَلَهَا الْخِيَارُ. إِنْ فَسَخَتْ، رَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ أَجَازَتْ فِي الْبَاقِي أَخَذَتْ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الصَّقْرِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: جِنَايَةٌ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ، لَمْ يَنْفَسِخِ الصَّدَاقُ فِي شَيْءٍ، وَلَهَا الْخِيَارُ، إِنْ فَسَخَتْ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ أَجَازَتْ، أَخَذَتِ النَّخْلَ وَالرُّطَبَ، وَمِثْلَ مَا ذَهَبَ مِنَ الصَّقْرِ. وَإِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، تَخَيَّرَتْ أَيْضًا. فَإِنْ فَسَخَتْ، فَلَهَا قِيمَةُ النَّخْلِ مِثْلُ الصَّقْرِ وَقِيمَةُ الرُّطَبِ أَوْ مِثْلُهُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي «كِتَابِ الْغَصْبِ» أَنَّهُ مِثْلِيٌّ أَوْ مُتَقَوَّمٌ. وَإِنْ أَرَادَتْ أَخْذَ النَّخْلِ وَرَدَّ الثَّمَرَةِ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَإِنْ أَجَازَتْ، فَلَهَا مَا بَقِيَ وَمِثْلُ الذَّاهِبِ مِنَ الصَّقْرِ. وَأَمَّا نُقْصَانُ الصِّفَةِ، فَإِذَا نَقَصَتْ قِيمَةُ الصَّقْرِ وَالْمِكْيَلَتَانِ بِحَالِهِمَا، أَوْ قِيمَةُ الرُّطَبِ، فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ حَاصِلًا، سَوَاءٌ تُرِكَ الرُّطَبَ فِي الْقَارُورَةِ أَوْ نُزِعَ، فَلَهَا الْخِيَارُ. فَإِنْ فَسَخَتْ، فَعَلَى قَوْلِ ضَمَانِ الْعَقْدِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَعَلَى ضَمَانِ الْيَدِ لَهَا بَدَلُ النَّخْلِ وَالرُّطَبِ وَالصَّقْرِ. وَإِنْ أَجَازَتْ، فَإِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْعَقْدِ وَجَعَلْنَا جِنَايَتَهُ كَالْآفَةِ، أَخَذَتْهَا بِلَا أَرْشٍ. وَإِنْ جَعَلْنَاهَا كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ، أَوْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ النُّقْصَانِ وَإِنْ كَانَ الرُّطَبُ يَتَعَيَّبُ لَوْ نُزِعَ مِنَ الْقَارُورَةِ. وَلَوْ

تُرِكَ لَا يَتَعَيَّبُ، فَلَا يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى التَّبَرُّعِ بِالْقَارُورَةِ، لَكِنْ إِنْ تَبَرَّعَ بِهَا أُجْبِرَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْقَبُولِ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ، وَيَسْقُطُ خِيَارُهَا. وَقِيلَ: لَا تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَهَلْ يَمْلِكُ الْقَارُورَةَ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ الزَّوْجُ مِنَ الرُّجُوعِ؟ وَإِذَا نَزَعَتْ مَا فِيهَا لَمْ يَجِبْ رَدُّ الْقَارُورَةِ، أَمْ لَا تَمْلِكُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ قَطْعُ الْخُصُومَةِ فَيَتَمَكَّنُ مِنَ الرُّجُوعِ وَإِذَا رَجَعَ يَعُودُ خِيَارُهَا فَيَجِبُ رَدُّ الْقَارُورَةِ إِذَا نَزَعَتْ مَا فِيهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ فِي مَسْأَلَةِ النَّعْلِ وَالْأَحْجَارِ الْمَدْفُونَةِ. وَإِنْ كَانَ الرُّطَبُ لَا يَتَعَيَّبُ بِالنَّزْعِ، وَيَتَعَيَّبُ بِالتَّرْكِ، فَلَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالنَّزْعِ، وَلَا خِيَارَ. وَلَوْ تَبَرَّعَ هُوَ بِالْقَارُورَةِ، لَمْ تُجْبَرْ هِيَ عَلَى الْقَبُولِ ; لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تَكُونَ الثِّمَارُ صَدَاقًا بِأَنْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْإِصْدَاقِ فِي يَدِ الزَّوْجِ. فَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ نَقْصٌ أَوْ زَادَتِ الْقِيمَةُ، فَالْكُلُّ لَهَا. وَإِنْ حَدَثَ نَقْصٌ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، فَلَا خِيَارَ لَهَا ; لِأَنَّ مَا حَدَثَ فِيهِ النَّقْصُ لَيْسَ بِصَدَاقٍ، وَلَهَا الْأَرْشُ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ وَهُوَ غَلَطٌ. وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِحَيْثُ لَا يَقِفُ وَيَزْدَادُ إِلَى الْفَسَادِ، فَهَلْ تَأْخُذُ الْحَاصِلَ وَأَرْشَ النَّقْصِ، أَمْ تَتَخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ تُطَالِبَهُ بِغُرْمِ الْجَمِيعِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي «الْغَصْبِ» ، فِيمَا إِذَا بَلَّ الْحِنْطَةَ فَعَفِنَتْ. وَفِي «الْعُدَّةِ» أَنَّهَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، تَأْخُذُ أَرْشَ النَّقْصِ فِي الْحَالِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ النَّقْصُ، طَالَبَتْ بِالْأَرْشِ. وَلَوْ كَانَ الرُّطَبُ يَتَعَيَّبُ بِالنَّزْعِ مِنَ الْقَارُورَةِ، وَلَا يَتَعَيَّبُ بِالتَّرْكِ فَتَبَرَّعَ الزَّوْجُ بِالْقَارُورَةِ لَمْ تُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ ; لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ هُنَا، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الصَّقْرُ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الصَّقْرُ لِلزَّوْجِ وَالثَّمَرَةُ مِنَ الصَّدَاقِ، فَالنَّظَرُ هُنَاكَ إِلَى نُقْصَانِ الرُّطَبِ وَحْدَهُ، إِنْ نَقَصَ فَلَهَا

الْخِيَارُ. وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْ بِالنَّزْعِ، فَلَا خِيَارَ، فَتَأْخُذُ الْمَرْأَةُ الرُّطَبَ وَالزَّوْجُ الصَّقْرَ، وَلَا شَيْءَ لِمَا تَشَرَّبَهُ الرُّطَبُ. وَإِنْ كَانَ يَنْقُصُ بِالنَّزْعِ، فَلَهَا الْخِيَارُ. فَإِنْ تَبَرَّعَ الزَّوْجُ بِالصَّقْرِ وَالْقَارُورَةِ، سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْقَبُولُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَجِيءُ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي التَّبَرُّعِ بِالْقَارُورَةِ. فَرْعٌ إِذَا زَادَ الصَّدَاقُ فِي يَدِ الزَّوْجِ، إِنْ كَانَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ، وَتَعَلُّمِ الصَّنْعَةِ، فَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً، كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ وَكَسْبِ الرَّقِيقِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، فَهِيَ لِلْمَرْأَةِ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي زَوَائِدِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ وَلِلْمَرْأَةِ هُنَا. فَإِنْ قُلْنَا: لِلْمَرْأَةِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ، أَوْ زَالَتِ الْمُتَّصِلَةُ بَعْدَ حُصُولِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الزَّوْجِ إِلَّا إِذَا قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ وَقُلْنَا: يُضْمَنُ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ، وَإِلَّا إِذَا طَالَبَتْهُ بِالتَّسْلِيمِ فَامْتَنَعَ. وَفِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ مَا يُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ الْوَجْهَيْنِ، فِي أَنَّ الزَّوَائِدَ لِمَنْ هِيَ بِمَا إِذَا هَلَكَ الْأَصْلُ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَبَقِيَتِ الزَّوَائِدُ أَوْ رَدَّتِ الْأَصْلَ بِعَيْبٍ، أَمَّا إِذَا اسْتَمَرَّ الْعَقْدُ وَقَبَضَتِ الْأَصْلَ، فَالزَّوَائِدُ لَهَا قَطْعًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَنَافِعُ الْفَائِتَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْعَقْدِ، وَإِنْ طَالَبَتْهُ بِالتَّسْلِيمِ فَامْتَنَعَ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ وَقْتِ الِامْتِنَاعِ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا بِرُكُوبٍ أَوْ لُبْسٍ، أَوِ

فصل

اسْتِخْدَامٍ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَضْمَنُهَا عَلَى قَوْلِ ضَمَانِ الْعَقْدِ، إِنْ قُلْنَا: جِنَايَةُ الْبَائِعِ كَآفَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ كَجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، ضَمِنَهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَرْعٌ قَالَ الْأَصْحَابُ: الْقَوْلَانِ فِي ضَمَانِ الْعَقْدِ وَالْيَدِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ نِحْلَةٌ وَعَطِيَّةٌ، أَمْ عِوَضٌ كَالْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ؟ وَرُبَّمَا رَدُّوا الْقَوْلَيْنِ إِلَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ شِبْهُ النِّحْلَةِ أَمِ الْعِوَضُ؟ وَدَلِيلُ النِّحْلَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاءِ: 3] ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِهِ، وَلَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ. وَدَلِيلُ الْعِوَضِ، أَنَّ قَوْلَهُ: زَوَّجْتُكِ بِكَذَا، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكِ بِكَذَا، أَوْ لِأَنَّهَا تَتَمَكَّنُ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلِأَنَّهَا تَحْبِسُ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَائِهِ [وَ] لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِيهِ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ بِجَوَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنِّحْلَةِ: الدِّينُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْتَحِلُ كَذَا، فَالْمَعْنَى: آتُوهُنَّ صَدُقَاتِهِنَّ تَدَيُّنًا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: عَطِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُنَّ. وَإِنَّمَا لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ بِفَسَادِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ، مَعَ أَنَّهُ حُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّهُ يَفْسُدُ النِّكَاحُ بِفَسَادِ الصَّدَاقِ. فَصْلٌ إِذَا فَسَدَ الصَّدَاقُ بِأَنْ أَصْدَقَهَا حُرًّا، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَجِبُ مَهْرُ

الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: قِيمَتُهُ بِتَقْدِيرِ الرِّقِّ، وَيُنْسَبُ هَذَا إِلَى الْقَدِيمِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ: قَوْلَانِ فِيمَا إِذَا قَالَ: أَصْدَقْتُكِ هَذَا الْعَبْدَ وَهُوَ عَالِمٌ بِحُرِّيَّتِهِ، أَوْ جَاهِلٌ. أَمَّا لَوْ قَالَ: أَصْدَقْتُكِ هَذَا الْحُرَّ، فَالْعِبَارَةُ فَاسِدَةٌ، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَطْعًا. وَحَكَى الْمُتَوَلِّي طَرِيقَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَصْدَقْتُكِ هَذَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَلَا خَلَلَ فِي الْعِبَارَةِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. وَلَوْ ذَكَرَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ مَيْتَةً، فَقِيلَ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَطْعًا. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَعَلَى هَذَا يَعُودُ النَّظَرُ فِي عِبَارَتِهِ، إِنْ قَالَ: أَصْدَقْتُكِ هَذَا الْخَمْرَ أَوِ الْخِنْزِيرَ، فَالْعِبَارَةُ فَاسِدَةٌ. وَإِنْ قَالَ: هَذَا الْعَصِيرَ أَوِ النَّعْجَةَ، فَهُوَ مَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَى هَذَا عَلَى قَوْلِ الرُّجُوعِ إِلَى بَدَلِ الصَّدَاقِ، يُقَدَّرُ الْخَمْرُ عَصِيرًا وَيَجِبُ مِثْلُهُ، وَقَدْ حَكَيْنَا فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ، فِيمَا إِذَا جَرَى قَبْضُهُمْ فِي خَمْرٍ وَجْهًا أَنَّهَا تُقَدَّرُ خَلًّا، وَلَمْ يَذْكُرُوا هُنَاكَ تَقْدِيرَ الْعَصِيرِ، وَالْوَجْهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا. وَحَكَيْنَا وَجْهًا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْخَمْرِ عَنْ مَنْ يَرَى لَهَا قِيمَةً، فَلَا يَبْعُدُ مَجِيئُهُ هُنَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ كَمَا سَبَقَ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَالْخِنْزِيرُ يُقَدَّرُ بَقَرَةً، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ. وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ فِي «كِتَابِ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ» وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يُقَدَّرُ شَاةً، وَالْمَيْتَةُ تُقَدَّرُ مُذَكَّاةً، ثُمَّ الْوَاجِبُ فِيهَا وَفِي الْخِنْزِيرِ الْقِيمَةُ. هَذَا الِاضْطِرَابُ لِلْأَصْحَابِ يَزِيدُ الْقَوْلَ الْأَظْهَرَ الْقُوَّةَ، وَهُوَ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ.

الْحُكْمُ الثَّانِي: تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ. فَلَوْ أَخَّرَ تَسْلِيمَهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَطَلَبَ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا، فَلَهَا الِامْتِنَاعُ [حَتَّى يُسَلِّمَ جَمِيعَ الصَّدَاقِ إِنْ كَانَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا حَالًّا، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا، فَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ، فَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا فَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ] أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَصْحَابُهُ، وَالْبَغَوِيُّ، وَالْمُتَوَلِّي، وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَقِيلَ: لَهَا، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَاخْتَارَهُ الْحَنَّاطِيُّ وَالرُّويَانِيُّ ; لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْآنَ الْمُطَالَبَةَ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً، فَلِوَلِيِّهَا حَبْسُهَا حَتَّى تَقْبِضَ الصَّدَاقَ الْحَالَّ. فَلَوْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي التَّسْلِيمِ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ، فَقَالَ: لَا أُسَلِّمُ الصَّدَاقَ حَتَّى تُسَلِّمِي نَفْسَكِ، وَقَالَتْ: لَا أُسَلِّمُهَا حَتَّى تُسَلِّمَهُ، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: يُجْبَرَانِ، بِأَنْ يُؤْمَرَ بِوَضْعِ الصَّدَاقِ عِنْدَ عَدْلٍ، وَتُؤْمَرَ بِالتَّمْكِينِ. فَإِذَا مَكَّنَتْ، سَلَّمَ الْعَدْلُ الصَّدَاقَ إِلَيْهَا. وَالثَّانِي: لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، بَلْ إِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمَا فَسَلَّمَ، أُجْبِرَ الْآخَرُ. وَالثَّالِثُ: يُجْبَرُ الزَّوْجُ أَوَّلًا، فَإِذَا سَلَّمَ، سَلَّمَتْ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ إِلَى إِنْكَارِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّالِثِ. وَمَنْ أَثْبَتَهُ قَالَ: مَوْضِعُهُ مَا إِذَا كَانَتْ مُتَهَيِّئَةً لِلِاسْتِمْتَاعِ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً بِحَبْسٍ أَوْ مَرَضٍ، فَلَا يَلْزَمُ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ. وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا تَصْلُحُ لِلْجِمَاعِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ؟ قَوْلَانِ. وَلَوْ سُلِّمَتْ مِثْلُ هَذِهِ الصَّغِيرَةِ إِلَى زَوْجِهَا، هَلْ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ؟ قَوْلَانِ كَالنَّفَقَةِ. أَظْهَرُهُمَا: الْمَنْعُ. وَقِيلَ بِالْمَنْعِ قَطْعًا ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَبْسِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَالْمَهْرُ لِلِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ. وَقِيلَ بِالْإِيجَابِ قَطْعًا ; لِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ بُضْعٍ وَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي الْحَالِ، وَالنَّفَقَةُ لِلتَّمْكِينِ وَهُوَ مَفْقُودٌ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي مُطَالَبَةِ الْوَلِيِّ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا وَهِيَ كَبِيرَةً، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهَا طَلَبَ الْمَهْرِ كَالنَّفَقَةِ. وَإِذَا قُلْنَا: يُبْدَأُ بِالزَّوْجِ أَوْ

يُجْبَرَانِ، فَقَالَتْ: سَلِّمِ الْمَهْرَ لِأُسَلِّمَ نَفْسِي، لَزِمَهُ النَّفَقَةُ مِنْ حِينِئِذٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تُمَكِّنَ. فَرْعٌ إِذَا بَادَرَتْ فَمَكَّنَتْ، فَلَهَا طَلَبُ الصَّدَاقِ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَجْرِ وَطْءٌ، فَلَهَا الْعَوْدُ إِلَى الِامْتِنَاعِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا قَبْلَ التَّمْكِينِ. وَإِنْ وَطِئَ، فَلَيْسَ لَهَا بَعْدَهُ الِامْتِنَاعُ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ الْبَائِعُ فَسَلَّمَ الْمَبِيعَ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ وَحَبْسُهُ. وَلَوْ وَطِئَهَا مُكْرَهَةً، فَلَهَا الِامْتِنَاعُ بَعْدَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ، فِيمَا لَوْ سَلَّمَ الْوَلِيُّ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً قَبْلَ قَبْضِ صَدَاقِهَا إِذَا بَلَغَتْ أَوْ أَفَاقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَوْ بَلَغَتْ أَوْ أَفَاقَتْ قَبْلَهُ، فَلَهَا الِامْتِنَاعُ قَطْعًا. وَلَوْ بَادَرَ الزَّوْجُ فَسَلَّمَ الصَّدَاقَ، لَزِمَهَا التَّمْكِينُ إِذَا طَلَبَهَا. وَكَذَا لَوْ كَانَ الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا فَإِنِ امْتَنَعَتْ بِلَا عُذْرٍ، فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ وَإِنْ قُلْنَا: يُجْبَرُ أَوَّلًا ; لِأَنَّ الْإِجْبَارَ بِشَرْطِ التَّمْكِينِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُجْبَرُ، فَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْمُبَادَرَةِ كَمُعَجَّلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ. وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ لِعَدَمِ حُصُولِ الْغَرَضِ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنْ كَانَتْ مَعْذُورَةً حِينَ سَلَّمَ، فَزَالَ الْعُذْرُ وَامْتَنَعَتِ، اسْتُرِدَّ ; لِأَنَّهُ سَلَّمَ رَاجِيًا التَّمْكِينَ، فَيُشْبِهُ هَذَا الْخِلَافُ وَجْهَيْنِ ذُكِرَا فِيمَا لَوْ سَلَّمَ مَهْرَ صَغِيرَةٍ لَا تَصْلُحُ لِلْجِمَاعِ عَالِمًا بِحَالِهَا أَوْ جَاهِلًا وَقُلْنَا بِالْأَظْهَرِ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ مَهْرِهَا، هَلْ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ؟ فَرْعٌ إِذَا اسْتُمْهِلَتْ بَعْدَ تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ، أُمْهِلَتْ لِتَتَهَيَّأَ بِالتَّنْظِيفِ وَالِاسْتِحْدَادِ، وَإِزَالَةِ

الْأَوْسَاخِ عَلَى مَا يَرَاهُ الْقَاضِي مِنْ يَوْمٍ وَيَوْمَيْنِ، وَغَايَةُ الْمُهْلَةِ ثَلَاثَةٌ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ، إِثْبَاتُ خِلَافٍ فِي أَنَّ الْمُهْلَةَ بِقَدْرِ مَا تَتَهَيَّأُ، أَمْ تُقَدَّرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؟ وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ، أَنَّهُ يَجِبُ الْإِمْهَالُ إِذَا اسْتَمْهَلَتْ فِي الْعِدَّةِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَعَنْ نَصِّهِ فِي الْإِمْلَاءِ قَوْلٌ: إِنَّهُ لَا إِمْهَالَ أَصْلًا. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلَا تُمْهَلُ لِتَهْيِئَةِ الْجِهَازِ، وَلَا لِانْتِظَارِ السِّمَنِ وَنَحْوَهِمَا، وَلَا بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، بَلْ تُسَلِّمُ لِسَائِرِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ كَالرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ، أَوْ كَانَ بِهَا مَرَضٌ أَوْ هُزَالٌ تَتَضَرَّرُ بِالْوَطْءِ مَعَهُ، أَمُهِلَتْ إِلَى زَوَالِ الْمَانِعِ. وَيُكَرَهُ لِلْوَلِيِّ تَسْلِيمُ هَذِهِ الصَّغِيرَةِ، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا إِلَى أَنْ تَصِيرَ مُحْتَمِلَةً. وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: سَلِّمُوا إِلَيَّ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْمَرِيضَةَ وَلَا أَقْرَبُهَا إِلَى أَنْ يَزُولَ مَا بِهَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُجَابُ فِي الْمَرِيضَةِ دُونَ الصَّغِيرَةِ ; لِأَنَّ الْأَقَارِبَ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ وَفِي «الْوَسِيطِ» أَنَّهُ لَا يُجَابُ فِي الصُّورَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَطِئَ فَتَتَضَرَّرَانِ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ، فَإِنَّهَا لَا تَتَضَرَّرُ لَوْ وَطِئَ. وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسَلُّمِ الصَّغِيرَةِ ; لِأَنَّهُ نَكَحَ لِلِاسْتِمْتَاعِ لَا لِلْحَضَانَةِ. وَفِي الْمَرِيضَةِ وَجْهَانِ. قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : الْأَقْيَسُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهِ إِذَا مَرِضَتْ. وَإِذَا تَسَلَّمَ الْمَرِيضَةَ، فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ لَا كَالصَّغِيرَةِ ; لِأَنَّ الْمَرَضَ عَارِضٌ مُتَوَقَّعُ الزَّوَالِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ نَحِيفَةً بِالْجِبِلَّةِ، فَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ بِهَذَا الْعُذْرِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَقَّعِ الزَّوَالِ كَالرَّتْقَاءِ. ثُمَّ إِنْ خَافَتِ الْإِفْضَاءَ لَوْ وُطِئَتْ لِعَبَالَةِ الزَّوْجِ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ مِنَ الْوَطْءِ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ، بِخِلَافِ الرَّتْقِ ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْوَطْءَ مُطْلَقًا، وَالنَّحَافَةُ لَا تَمْنَعُ وَطْءَ نَحِيفٍ مِثْلِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ أَيْضًا. وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فَأَفْضَاهَا، فَلَيْسَ لَهُ الْعَوْدُ إِلَى وَطْئِهَا حَتَّى تَبْرَأَ الْبُرْءَ الَّذِي لَوْ عَادَ

لَمْ يَخْدَشْهَا، هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي حُصُولِ الْبُرْءِ، فَأَنْكَرَتْهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا قَالَ الْمُتَوَلِّي: الْمُرَادُ بِالنَّصِّ إِذَا ادَّعَتْ بَقَاءَ أَلَمٍ بَعْدَ الِانْدِمَالِ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْهَا. أَمَّا إِذَا ادَّعَتْ بَقَاءَ الْجَرْحِ، وَأَنْكَرَتْ أَصْلَ الِانْدِمَالِ، فَتُعْرَضُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ، وَيُعْمَلُ بِقَوْلِهِنَّ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ النَّصَّ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَمْضِ مِنَ الزَّمَانِ مَا يَغْلِبُ فِيهِ الْبُرْءُ، فَإِنْ مَضَى رَاجَعْنَا النِّسْوَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِمُرَاجَعَتِهِنَّ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ. وَعَلَى هَذَا، فَالنَّصُّ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ نِسْوَةٌ ثِقَاتٌ. فَرْعٌ مَسَائِلُ عَنْ مُجَرَّدِ الْحَنَّاطِيِّ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَأَبُو الزَّوْجَةِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هِيَ صَغِيرَةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ، وَقَالَ الْآخَرُ: تَحْتَمِلُهُ. فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكِرِ الِاحْتِمَالِ، أَمْ تُعْرَضُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، أَوْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمَحَارِمِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: زَوْجَتِي حَيَّةٌ فَسَلِّمَهَا وَقَالَ: لَا بَلْ مَاتَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِبَغْدَادَ امْرَأَةً بِالْكُوفَةِ، وَجَرَى الْعَقْدُ بِبَغْدَادَ، فَالِاعْتِبَارُ بِمَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَتُسَلِّمُ نَفْسَهَا بِبَغْدَادَ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ بِبَغْدَادَ. وَلَوْ خَرَجَ الزَّوْجُ إِلَى الْمَوْصِلِ وَبَعَثَ إِلَيْهَا مَنْ يَحْمِلُهَا مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَنَفَقَتُهَا مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ عَلَى الزَّوْجِ.

فصل

الْحُكْمُ الثَّالِثُ: التَّقْرِيرُ، فَالْمَهْرُ الْوَاجِبُ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِالْفَرْضِ، يَسْتَقِرُّ بِطَرِيقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْوَطْءُ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِوُقُوعِهِ فِي الْحَيْضِ أَوِ الْإِحْرَامِ ; لِأَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ يُوجِبُ الْمَهْرَ ابْتِدَاءً، فَذَا أَوْلَى بِالتَّقْرِيرِ، وَيَسْتَقِرُّ بِوَطْأَةٍ وَاحِدَةٍ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: مَوْتُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَالْمَوْتُ وَإِنْ أَطْلَقُوا أَنَّهُ مُقَرَّرٌ، فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ إِذَا قَتَلَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ مَهْرُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ غَيْرَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الْحَادِي عَشَرَ. فَصْلٌ الْخَلْوَةُ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ عَلَى الْجَدِيدِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَعَلَى هَذَا، لَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْخَلْوَةِ وَادَّعَتِ الْإِصَابَةَ، لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُهَا، بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. وَفِي الْقَدِيمِ، الْخَلْوَةُ مُؤَثِّرَةٌ، وَفِي أَثَرِهَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَثَرُهَا تَصْدِيقُ الْمَرْأَةِ إِذَا ادَّعَتِ الْإِصَابَةَ، وَلَا يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ بِمُجَرَّدِهَا، سَوَاءٌ طَالَ زَمَنُهَا أَمْ قَصُرَ. وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا كَالْوَطْءِ فِي تَقْرِيرِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ. وَعَلَى هَذَا، تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ عَلَى الْقَدِيمِ فِي تَقَرُّرِ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ كَحَيْضٍ وَإِحْرَامٍ وَصَوْمٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعٌ حِسِّيٌّ، كَرَتْقٍ أَوْ قَرَنٍ فِيهَا، أَوْ جَبٍّ أَوْ عُنَّةٍ فِيهِ قَطْعًا. وَإِذَا قُلْنَا: مُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ لَا تُقَرِّرُ، فَفِي الْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَجْهَانِ، كَثُبُوتِ الْمُصَاهَرَةِ. السَّبَبُ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ مَالًا

الْبَابُ الثَّانِي فِي الصَّدَاقِ الْفَاسِدِ لِفَسَادِهِ سِتَّةُ أَسْبَابٍ. [السَّبَبُ] الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ مَالًا، بِأَنْ سَمَّيَا خَمْرًا، وَقَدِ انْدَرَجَ هَذَا فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ أَصْدَقَهَا شَيْئًا فَخَرَجَ مَغْصُوبًا، فَهَلْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَمْ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا الْأَوَّلُ. وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدَيْنِ، فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا، بَطَلَ الصَّدَاقُ فِيهِ. وَفِي آخَرَ قَوْلُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ أَبْطَلْنَا فِيهِ أَيْضًا، فَهَلْ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ أَمْ قِيمَتُهُمَا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ وَإِنْ صَحَّحْنَا، فَلَهَا الْخِيَارُ. فَإِنْ فَسَخَتْ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ أَجَازَتْ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: تَأْخُذُ الْبَاقِيَ وَلَا شَيْءَ لَهَا غَيْرُهُ، وَأَظْهَرُهُمَا: تَأْخُذُ مَعَهُ حِصَّةَ الْمَغْصُوبِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا وَزَّعْنَاهُ عَلَى الْقِيمَتَيْنِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَعَلَى الثَّانِي: تَأْخُذُ قِيمَتَهُ. فَرْعٌ أَصْدَقَهَا عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا غَيْرَ مَوْصُوفٍ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَطْعًا. وَإِنْ وَصَفَ الْعَبْدَ وَالثَّوْبَ، وَجَبَ الْمُسَمَّى، وَحَيْثُ جَرَتْ تَسْمِيَةٌ فَاسِدَةٌ، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. السَّبَبُ الثَّانِي: الشَّرْطُ فِي النِّكَاحِ، إِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ غَرَضٌ، فَهُوَ لَغْوٌ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ لَكِنْ لَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى النِّكَاحِ بِأَنْ شَرَطَ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا أَوْ يَقْسِمَ لَهَا، أَوْ يَتَسَرَّى، أَوْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ، أَوْ يُسَافِرَ بِهَا، أَوْ لَا تَخْرُجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ وَلَا فِي الصَّدَاقِ.

وَإِنْ شَرَطَ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ، فَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنَ النِّكَاحِ، فَيَفْسُدُ الشَّرْطُ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا، بِأَنْ شَرَطَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يَتَسَرَّى، أَوْ يُطَلِّقَهَا، أَوْ لَا يُسَافِرَ بِهَا، أَوْ أَنْ تَخْرُجَ مَتَى شَاءَتْ، أَوْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا. أَوْ كَانَ عَلَيْهَا، بِأَنْ شَرَطَ أَنْ لَا يَقْسِمَ لَهَا، أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَ ضَرَّاتِهَا وَبَيْنَهَا فِي مَسْكَنٍ، أَوْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا. ثُمَّ فَسَادُ الشَّرْطِ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ: يَبْطُلُ النِّكَاحُ. وَأَمَّا الصَّدَاقُ فَيَفْسُدُ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ سَوَاءٌ زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى أَمْ نَقَصَ أَمْ سَاوَاهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَعَنِ ابْنِ خَيْرَانِ: إِنْ زَادَ وَالشَّرْطُ لَهَا، فَالْوَاجِبُ الْمُسَمَّى، وَكَذَا إِنْ نَقَصَ وَالشَّرْطُ عَلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذَا قَوْلًا مُخَرَّجًا. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ. وَوَجْهًا: أَنَّ الشَّرْطَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّدَاقِ، كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ النِّكَاحِ كَشَرْطِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا، أَوْ لَا يَطَأَهَا، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الصُّورَتَيْنِ فِي فَصْلِ التَّحْلِيلِ. فَإِنْ صَحَّحْنَا النِّكَاحَ، أَثَّرَ الشَّرْطُ فِي الصَّدَاقِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. فَرْعٌ نَكَحَهَا عَلَى أَلْفٍ إِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنَ الْبَلَدِ، وَعَلَى أَلْفَيْنِ إِنْ أَخْرَجَهَا، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَذَكَرَ الْحَنَّاطِيُّ أَنَّهُ لَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ لَا يَرِثَهَا أَوْ لَا تَرِثَهُ، أَوْ لَا يَتَوَارَثَا،

فصل

أَوْ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ، بَطَلَ النِّكَاحُ. وَفِي قَوْلٍ: يَصِحُّ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَ غَيْرِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا أَوْلَادَ بَيْنَ السَّيِّدَيْنِ، صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» . وَفِي قَوْلٍ: يَبْطُلُ النِّكَاحُ. فَصْلٌ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ يُبْطِلُ النِّكَاحَ. وَلَوْ شُرِطَ الْخِيَارُ فِي الصَّدَاقِ، فَهَلْ يَبْطُلُ النِّكَاحُ، أَمْ يَصِحُّ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى، أَمْ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَفْسُدُ الْمُسَمَّى وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: الثَّالِثُ. وَإِذَا صَحَّحْنَا الصَّدَاقَ، ثَبَتَ الْخِيَارُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا حُكِيَ عَنْ نَصِّهِ، أَنَّهُ لَوْ أَصْدَقَهَا عَيْنًا غَائِبَةً، صَحَّ وَلَهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ أَجَازَتْ فَذَاكَ، وَإِنْ فَسَخَتْ، رَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِذَا أَثْبَتْنَا خِيَارَ الشَّرْطِ، فَفِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ. فَصْلٌ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» أَنَّهُ لَوْ نَكَحَهَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِابْنِهَا أَلْفًا، فَسَدَ الصَّدَاقُ، وَأَنَّهُ لَوْ نَكَحَهَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا، كَانَ الصَّدَاقُ جَائِزًا. وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ. الْمَذْهَبُ مِنْهَا فَسَادُ الصَّدَاقِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَوُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِيهِمَا. وَعَلَى هَذَا، مِنْهُمْ مَنْ غَلَّطَ الْمُزَنِيَّ فِي نَقْلِهِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فَسَادُ الصَّدَاقِ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ عَمَلًا بِالنَّصَّيْنِ. وَالثَّالِثُ: طَرْدُ قَوْلَيْنِ فِيهِمَا. وَنَسَبَ الْعِرَاقِيُّونَ الصِّحَّةَ إِلَى الْقَدِيمِ. وَقِيلَ:

إِنْ شَرَطَ الزَّوْجُ، فَسَدَ، وَإِنْ شَرَطَتْ، فَلَا، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَإِذَا صَحَّحْنَا، فَالْمَهْرُ فِي الصُّورَتَيْنِ أَلْفَانِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ. فَإِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا عَلَى أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهِ مِائَةٌ أَوْ أَلْفَانِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ وَمَلِّكْنِي كَذَا مِنْ مَالِهَا بِوِلَايَةٍ أَوْ وِكَالَةٍ بِهَذَا الْعَبْدِ، فَيُجِيبُهُ [إِلَيْهِ] أَوْ يَقُولُ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَمَلَّكْتُكَ كَذَا مِنْ مَالِهَا بِهَذَا الْعَبْدِ، فَيَقْبَلُ الزَّوْجُ، فَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ فِي صَفْقَةٍ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعَبْدِ صَدَاقٌ وَبَعْضَهُ مَبِيعٌ. وَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالصَّدَاقِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الصِّحَّةُ. وَيَصِحُّ النِّكَاحُ قَطْعًا إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ السَّابِقِ أَنَّ النِّكَاحَ يَفْسُدُ بِفَسَادِ الصَّدَاقِ. فَإِذَا أَبْطَلْنَا الْبَيْعَ وَالصَّدَاقَ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِذَا صَحَّحْنَاهُمَا، وَزَّعَنَا الْعَبْدَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَعَلَى الثَّمَنِ. فَإِذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَالثَّمَنُ أَلْفًا، وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ، فَنِصْفُهُ مَبِيعٌ وَنِصْفُهُ صَدَاقٌ. فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ إِلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَهُوَ رُبْعُ الْعَبْدِ. وَإِنْ فَسَخَ النِّكَاحَ بِعَيْبٍ وَنَحْوِهِ، رَجَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ. وَلَوْ تَلِفَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ، اسْتَرَدَّتِ الْأَلْفَ، وَلَهَا بَدَلُ الصَّدَاقِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَنِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الثَّانِي. وَلَوْ وَجَدَ الزَّوْجُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ عَيْبًا وَرَدَّهُ، اسْتَرَدَّ الْمَبِيعَ وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَيَبْقَى لَهَا النِّصْفُ الْآخَرُ. وَلَوْ وَجَدَتِ الْعَبْدَ مَعِيبًا فَرَدَّتْهُ، اسْتَرَدَّتِ الثَّمَنَ، وَتَرْجِعُ فِي الصَّدَاقِ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَنِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى الثَّانِي. وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ

فصل

تَرُدُّ أَحَدَ النِّصْفَيْنِ وَحْدَهُ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ لِتَعَدُّدِ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ لِتَضَرُّرِ التَّبْعِيضِ. وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي أَوْ جَارِيَتِي، وَبِعْتُكَ عَبْدَهَا أَوْ عَبْدِي بِكَذَا، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالصَّدَاقِ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ صَحَّحْنَاهُمَا، وُزِّعَ الْعِوَضُ الْمَذْكُورُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ، فَمَا خَصَّ مَهْرُ الْمِثْلِ فَهُوَ صَدَاقٌ. وَإِذَا وَجَدَ الزَّوْجُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا، اسْتَرَدَّ الثَّمَنَ وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ رَدُّ الْبَاقِي وَالرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ; لِأَنَّ الْمُسَمَّى صَحِيحٌ. وَإِنْ رَدَّ الْعَبْدَ بِعَيْبٍ، أَوْ فَسَخَ النِّكَاحَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِعَيْبٍ، رَجَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْعِوَضِ الْمَذْكُورِ. وَإِنْ خَرَجَ الْعِوَضُ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا، رَدَّ الْعَبْدَ وَرَجَعَتْ لِلصَّدَاقِ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي: إِلَى حِصَّةِ الصَّدَاقِ مِنْهُ. فَرْعٌ لِبِنْتِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَمَلَّكْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِهَاتَيْنِ الْمِائَتَيْنِ لَكَ، فَالْبَيْعُ وَالصَّدَاقُ بَاطِلَانِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» لِأَنَّهُ رِبًا، فَإِنَّهُ مَسْأَلَةُ مَدِّ عَجْوَةٍ. فَلَوْ كَانَ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دَنَانِيرُ، كَانَ جَمْعًا بَيْنَ صَدَاقٍ وَصَرْفٍ، وَفِيهِ الْقَوْلَانِ. فَصْلٌ جَمَعَ نِسْوَةً فِي عَقْدٍ بِصَدَاقٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْوَلِيِّ، بِأَنْ يَكُونَ

لَهُ بَنَاتٌ بَنِينَ، أَوْ إِخْوَةٌ، أَوْ أَعْمَامٌ، أَوْ مُعَتَقَاتٌ. وَيُتَصَوَّرُ مَعَ تَعَدُّدِ الْوَلِيِّ، بِأَنْ وَكَلَّ أَوْلِيَاءُ نِسْوَةٍ رَجُلًا، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ. وَفِي الصَّدَاقِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِفَسَادِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: فَسَادُهُ. وَيَجْرِي الطَّرِيقَانِ فِيمَا لَوْ خَالَعَ نِسْوَةً عَلَى عِوَضٍ وَاحِدٍ، هَلْ يَفْسُدُ الْعِوَضُ؟ وَأَمَّا الْبَيْنُونَةُ، فَتَحْصُلُ قَطْعًا. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى عَبِيدًا لِمُلَّاكِ صَفْقَةٍ مِنَ الْمَالِكَيْنِ، أَوْ وَكِيلِهِمْ، بَطَلَ الْبَيْعُ. وَلَوْ كَانَتْ عَبِيدًا بِعِوَضٍ وَاحِدٍ، صَحَّتِ الْكِتَابَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ، الَّذِينَ قَالُوا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ قَوْلَانِ، عَلَى أَرْبَعِ طُرُقٍ. أَحَدُهَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا. وَالثَّانِي: يَفْسُدُ الْبَيْعُ. وَفِي الْكِتَابَةِ قَوْلَانِ. وَالثَّالِثُ: تَصِحُّ الْكِتَابَةُ. وَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ. وَالرَّابِعُ: تَصِحُّ الْكِتَابَةُ وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ وَإِنْ أَفْرَدَتْ. قُلْتُ: فِي الْبَيْعِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْفَسَادِ، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ. وَفِي الْكِتَابَةِ، طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: قَوْلَانِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ. وَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى، وُزِّعَ الْمُسَمَّى عَلَى نِسْبَةِ مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ ضَعِيفٍ: يُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ. وَإِذَا قُلْنَا بِفَسَادِ الصَّدَاقِ، فَفِيمَ يَجِبُ لَهُنَّ قَوْلَانِ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا خَمْرًا. أَظْهَرُهُمَا: يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَالثَّانِي: يُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَا يَقْتَضِيهِ التَّوْزِيعُ، وَيَكُونُ الْحَاصِلُ لَهُنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَالْمُسَمَّى إِذَا قُلْنَا بِصِحَّتِهِ. وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَيْهِ بِعَبْدٍ عَلَى صَدَاقٍ وَاحِدٍ، صَحَّ الصَّدَاقُ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ وَاحِدٌ كَبَيْعِ عَبْدَيْنِ بِثَمَنٍ. وَلَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ بَنَاتٍ، وَلِآخَرَ أَرْبَعُ بَنِينَ، فَزَوَّجَهُنَّ بِهِمْ صَفْقَةً بِمَهْرٍ وَاحِدٍ بِأَنْ قَالَ: زَوَّجْتُ بِنْتِيِ فُلَانَةً ابْنَكَ فَلَانًا،

وَفُلَانَةً فَلَانًا بِأَلْفٍ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي. أَحَدُهُمَا: فِي صِحَّةِ الصَّدَاقِ الْقَوْلَانِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِبُطْلَانِهِ لِتَعَدُّدِ الْمَعْقُودِ لَهُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَضَمَّنَ إِثْبَاتُ الصَّدَاقِ رَفْعُهُ. نُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَبَ إِذَا زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ أَوِ الْمَجْنُونَ، فَإِمَّا أَنْ يُصْدِقَ مِنْ مَالِ الِابْنِ، وَإِمَّا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. فَإِنْ أَصْدَقَ مِنْ مَالِ الِابْنِ، فَالْكَلَامُ فِي أَنَّهُ [هَلْ] يَصِيرُ ضَامِنًا لِلصَّدَاقِ إِذَا كَانَ دَيْنًا؟ وَهَلْ يَرْجِعُ إِذَا غُرِّمَ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الطَّرَفِ السَّادِسِ مِنْ بَابِ بَيَانِ الْأَوْلِيَاءِ؟ فَإِنْ تَطَوَّعَ وَأَدَّاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ثُمَّ بَلَغَ الِابْنُ وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهَلْ يُرْجَعُ النِّصْفُ إِلَى الْأَبِ أَمْ إِلَى الِابْنِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ الدَّارَكِيُّ: إِنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ عَلَى الزَّوْجِ بِأَدَاءِ الصَّدَاقِ ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، هَلْ يَعُودُ النِّصْفُ إِلَى الزَّوْجِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْهُ، أَمْ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ الْمُتَبَرِّعِ؟ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الِابْنِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ، بِأَنَّ الْأَبَ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَمْلِيكِ الِابْنِ فَيَكُونُ مُوجِبًا قَابِلًا قَابِضًا مُقْبِضًا، فَإِذَا حَصَلَ الْمِلْكُ، ثُمَّ صَارَ لِلْمَرْأَةِ عَادَ إِلَيْهِ بِالطَّلَاقِ، وَالْأَجْنَبِيُّ بِخِلَافِهِ. فَإِنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا، وَأَدَّى الْأَبُ عَنْهُ، فَكَالْأَجْنَبِيِّ. وَالْأَصَحُّ فِي صُورَةِ الْأَجْنَبِيِّ، عَوْدُ النِّصْفُ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ، قَالَهُ الْإِمَامُ: فَإِذَا قُلْنَا: يَعُودُ إِلَى الِابْنِ الَّذِي طَلَّقَ، فَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَهُ بِالطَّلَاقِ بَدَلَ مَا أَخَذَتْهُ، فَلَا رُجُوعَ لِلْأَبِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنَ الْمَأْخُوذِ، فَقِيلَ: لَا رُجُوعَ قَطْعًا. وَقِيلَ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ وَهَبَ لِابْنِهِ عَيْنًا فَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا ثُمَّ عَادَ، وَالْمَذْهَبُ الْمَنْعُ. فَإِنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا، فَقِيلَ: كَالصَّغِيرِ. وَقِيلَ بِالْمَنْعِ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ [لَيْسَ] لِلْأَبِ تَمْلِيكُهُ،

فَالْأَدَاءُ عَنْهُ مَحْضُ إِسْقَاطٍ. أَمَّا إِذَا أَصْدَقَهَا الْأَبُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَيَجُوزُ وَيَكُونُ تَبَرُّعًا مِنْهُ عَلَى الِابْنِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا. ثُمَّ لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، عَادَ الْخِلَافُ فِيمَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ النِّصْفُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ وَهُوَ الْعَوْدُ إِلَى الِابْنِ، فَإِنْ كَانَ أَصْدَقَهَا عَيْنًا وَبَقِيتْ بِحَالِهَا فَرَجَعَ النِّصْفُ إِلَيْهِ، فَهَلْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا إِذَا زَالَ مِلْكُ الِابْنِ عَنِ الْمَوْهُوبِ ثُمَّ عَادَ. وَإِنْ أَصْدَقَهَا دَيْنًا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: فَلَا رُجُوعَ فِيمَا حَصَلَ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لِابْنِهِ الصَّغِيرِ شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ أَدَّاهُ مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ وَجَدَ الِابْنُ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَرَدَّهُ، يَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ وَلَا يَرْجِعُ الْأَبُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا يَعُودُ الثَّمَنُ إِلَى الْأَبِ ; لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ. وَلَوِ ارْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَالْقَوْلُ فِيمَنْ يَعُودُ إِلَيْهِ كُلُّ الصَّدَاقِ وَفِي رُجُوعِ الْأَبِ فِيهِ إِذَا عَادَ إِلَى الِابْنِ، كَالْقَوْلِ فِي النِّصْفِ عِنْدِ الطَّلَاقِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، فَمِنْ مُفْسِدَاتِ الصَّدَاقِ أَنْ يَلْزَمَ مِنْ إِثْبَاتِهِ رَفْعُهُ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَوَسُّطِ تَأْثِيرِهِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ، وَإِمَّا بِغَيْرِ هَذَا التَّوَسُّطِ. مِثَالُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، أَذِنَ لِعَبْدِهِ أَنْ يَنْكِحَ حُرَّةً وَيَجْعَلَ رَقَبَتَهُ صَدَاقًا لَهَا فَفَعَلَ، لَا يَصِحُّ الصَّدَاقُ ; لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَلَكَتْ زَوْجَهَا وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَارْتَفَعَ الصَّدَاقُ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا النِّكَاحُ ; لِأَنَّهُ قَارَنَهُ مَا يُضَادُّهُ، وَفِي صِحَّتِهِ احْتِمَالٌ لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ. قُلْتُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ قَالَا: وَلَكِنْ لَا صَائِرَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» ذَكَرَهُ فِي آخِرِ «بَابِ الشِّغَارِ» ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، الْجَزْمُ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي نِكَاحِ أَمَةٍ، وَيَجْعَلُ رَقَبَتَهُ صَدَاقَهَا، فَفَعَلَ، صَحَّ النِّكَاحُ وَالصَّدَاقُ ; لِأَنَّ الْمَهْرَ لِلسَّيِّدِ لَا لَهَا. فَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، بُنِيَ عَلَى مَا إِذَا بَاعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ

بَعْدَمَا نَكَحَ بِإِذْنِهِ ثُمَّ طَلَّقَ الْعَبْدُ الْمَنْكُوحَةَ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَهْرِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ، إِلَى مَنْ يَعُودُ النِّصْفُ؟ وَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: إِلَى الْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ أَدَّاهُ الْبَائِعُ مِنْ مَالَ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ، قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَهُ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي النِّصْفِ إِنَّمَا حَصَلَ بِالطَّلَاقِ، وَالطَّلَاقُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْإِكْسَابِ. وَالثَّانِي: يَعُودُ إِلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ حَالٍ. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَدَّاهُ الْبَائِعُ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ أَدَّى مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْبَيْعِ، عَادَ إِلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ، عَادَ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا النِّكَاحَ بِعَيْبٍ، أَوِ ارْتَدَّتْ، أَوْ عَتَقَتْ وَفَسَخَتْ، جَرَتْ الْأَوْجُهُ فِي أَنَّ كُلَّ الصَّدَاقِ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ وَلَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ حَدَثَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ، فَحَيْثُ نَقُولُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْبَائِعِ، يَعُودُ هُنَا إِلَى الْمُعْتِقِ، وَحَيْثُ جَعَلْنَاهُ لِلْمُشْتَرِي، يَكُونُ هُنَا لِلْعَتِيقِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ وَهُوَ الْعَوْدُ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَفِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي كُنَّا فِيهَا تَبْقَى رَقَبَةُ الْعَبْدِ كُلُّهَا لِمَالِكِ الْأَمَةِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْعَوْدِ إِلَى الْبَائِعِ، فَكَذَا هُنَا يَعُودُ النِّصْفُ إِلَى السَّيِّدِ الْمُصْدِقِ فِي صُورَةِ الطَّلَاقِ، وَلَوِ ارْتَدَّتْ أَوْ فَسَخَتْ بِعَيْبٍ، عَادَ الْكُلُّ إِلَيْهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ مَالِكُ الْأَمَةِ الْعَبْدَ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ فَسَخَتْ أَوِ ارْتَدَّتْ، فَعَلَى الْمُعَتِقِ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي صُورَةِ الطَّلَاقِ، وَجَمِيعُهَا فِي الْفَسْخِ [وَ] الرِّدَّةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ الْعَتِيقِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلِسَيِّدِهِ الْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَلَوْ قَبِلَ نِكَاحَ أَمَةٍ لِعَبْدِهِ الرَّضِيعِ عَلَى قَوْلِنَا: يَجُوزُ إِجْبَارُ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ عَلَى النِّكَاحِ وَجَعْلِهِ صَدَاقَهَا، فَأَرْضَعَتِ الْأَمَةُ زَوْجَهَا وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، فَالْعَبْدُ يَبْقَى لِمَالِكِ الْأَمَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ: يَعُودُ إِلَى سَيِّدِهِ الْأَوَّلِ. وَلَوِ ارْتَضَعَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ كَالطَّلَاقِ قَبْلَ

الدُّخُولِ. وَلَوْ بَاعَ مَالِكُ الْأَمَةِ الْعَبْدَ ثُمَّ طَلَّقَ الْعَبْدُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَحَصَلَتْ رِدَّةٌ، أَوْ فَسَخَتْ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْمُقَابِلِ لِلْأَصَحِّ: يَجِبُ عَلَيْهِ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ الْأَوَّلِ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي صُورَةِ الطَّلَاقِ، وَجَمِيعُ قِيمَتِهِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَصَحِّ، فَقَدْ أَطْلَقَ فِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يَرْجِعُ مُشْتَرِي الْعَبْدِ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ بِجَمِيعِهَا ; لِأَنَّ الصَّدَاقَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ أَبَدًا لِمَنْ لَهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الطَّلَاقِ أَوِ الْفَسْخِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَلِيُتَأَوَّلَ مَا فِي «التَّهْذِيبِ» عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلسَّيِّدِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ بَاعَ الْأَمَةَ ثُمَّ طَلَّقَ، أَوْ فَسَخَتْ، فَعَلَى الْأَصَحِّ يَبْقَى الْعَبْدُ لَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْآخَرِ يَعُودُ نِصْفُهُ أَوْ كُلُّهُ إِلَى السَّيِّدِ الْأَوَّلِ. مِثَالُ الْقِسْمِ الثَّانِي: كَانَتْ أُمَّ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي مِلْكِهِ، بِأَنِ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ، ثُمَّ مَلَكَهَا هِيَ وَوَلَدَهَا، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ دُونَهَا. فَلَوْ قَبِلَ لِابْنِهِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَصْدَقَهَا أَمَةً، لَمْ يَصِحَّ الصَّدَاقُ ; لِأَنَّ مَا يَجْعَلُهُ صَدَاقًا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الِابْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَلَوْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، لَعَتَقَتْ عَلَيْهِ وَامْتَنَعَ انْتِقَالُهَا إِلَى الزَّوْجَةِ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَفْسُدُ الصَّدَاقُ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَمْ قِيمَتُهَا؟ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا خِلَافًا فِيمَا إِذَا أَصْدَقَ الْأَبُ مِنْ مَالِهِ عَنِ الصَّغِيرِ، ثُمَّ بَلَغَ وَطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ ; لِأَنَّ النِّصْفَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَبِ أَوْ إِلَى الِابْنِ. فَمَنْ قَالَ: إِلَى الْأَبِ، فَقَدْ يُنَازِعُ فِي قَوْلِهِمْ: لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهَا حَتَّى يَدْخُلَ فِي مِلْكِ الِابْنِ. السَّبَبُ الْخَامِسُ: تَفْرِيطُ الْوَلِيِّ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ. فَإِذَا قَبِلَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ

فصل

الْمَجْنُونِ نِكَاحًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ دُونَهُ، أَوْ بِعَيْنٍ مِنْ أَمْوَالِهِ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ دُونَهُ، صَحَّ. وَإِنْ قَبِلَهُ بِأَكْثَرِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَالصَّدَاقُ فَاسِدٌ. وَكَذَا لَوْ زَوَّجَ بِنْتَهُ الْمَجْنُونَةَ أَوِ الْبِكْرَ، أَوِ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْكَبِيرَةَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَسَدَ الصَّدَاقُ. وَفِي النِّكَاحِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: صِحَّتُهُ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَفِيمَا إِذَا أَصْدَقَهَا عَيْنًا وَجْهٌ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ ; لِأَنَّهُ تَرَكَ مَصْلَحَةَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَصَارَ كَتَرْكِ الْكَفَاءَةِ. وَلَوْ أَصْدَقَ عَنِ ابْنِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ. أَحَدُهُمَا: يَفْسُدُ الْمُسَمَّى ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ دُخُولَهُ فِي مِلْكِ الِابْنِ، ثُمَّ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالزِّيَادَةِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَتَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ الْمُسَمَّى ; لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الِابْنِ، بَلْ إِذَا لَمْ نُصَحِّحْهُ أَضْرَرْنَا بِهِ، فَإِنَّهُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي مَالِهِ، وَبِهَذَا الثَّانِي قَطَعَ الْغَزَالَيُّ وَالْبَغَوِيُّ، وَرَجَّحَ الْمُتَوَلِّي وَالسَّرَخْسِيُّ فِي «الْأَمَالِي» الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، وَيَتَأَيَّدُ بِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ الصَّبِيَّ كَفَّارَةُ قَتْلٍ فَأَعْتَقَ الْوَلِيُّ عَنْهُ عَبْدًا لِنَفْسِهِ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ دُخُولَهُ فِي مِلْكِهِ وَإِعْتَاقِهِ عَنْهُ، وَإِعْتَاقُ عَبْدِ الطِّفْلِ لَا يَجُوزُ. فَصْلٌ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى مَهْرٍ فِي السِّرِّ وَأَعْلَنُوا بِأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، فَعَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ: الْمَهْرُ مَهْرُ السِّرِّ، وَفِي مَوْضِعٍ: الْعَلَانِيَةُ. وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ قَوْلَيْنِ: وَفِي مَوْضِعِهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَوْضِعُهُمَا إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَلْفٍ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُعَبِّرُوا عَنِ الْأَلْفِ فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ. أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ وُجُوبُ أَلْفَيْنِ بِجَرَيَانِ

اللَّفْظِ الصَّرِيحِ بِهِمَا. وَالثَّانِي: الْوَاجِبُ أَلْفٌ عَمَلًا بِاصْطِلَاحِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِثْبَاتُ قَوْلَيْنِ مَهْمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَلْفٍ وَجَرَى الْعَقْدُ بِأَلْفَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلتَّعْبِيرِ عَنْ أَلْفٍ بِأَلْفَيْنِ اكْتِفَاءً بِقَصْدِهِمْ. قَالَ الْإِمَامُ: وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَجْرِي الْأَحْكَامُ الْمُتَلَقَّاةُ مِنَ الْأَلْفَاظِ. فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: إِذَا قُلْتُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، لَمْ أُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنَّمَا غَرَضِي أَنْ تَقُومِي وَتَقْعُدِي، وَأُرِيدُ بِالثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ. وَفِي وَجْهٍ: الِاعْتِبَارُ بِمَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ. ثُمَّ مَا الْمَعْنَى بِمَا أَطْلَقْنَاهُ فِي الْوَجْهَيْنِ مِنْ الِاتِّفَاقِ فِي السِّرِّ، أَهْوَ مُجَرَّدُ التَّرَاضِي وَالتَّوَاعُدِ؟ أَمِ الْمُرَادُ مَا إِذَا جَرَى الْعَقْدُ بِأَلْفٍ فِي السِّرِّ ثُمَّ عَقَدُوا بِأَلْفَيْنِ فِي الْعَلَانِيَةِ؟ مِنْهُمْ مَنْ يُشْعِرُ كَلَامُهُ بِالْأَوَّلِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ إِثْبَاتُ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ جَرَى الْعَقْدَانِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا، أَنَّ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا التَّخْرِيجِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ: تَنْزِيلُ النَّصَّيْنِ عَلَى حَالَيْنِ، فَحَيْثُ قَالَ: الْمَهْرُ مَهْرُ السِّرِّ، أَرَادَ إِذَا عَقَدَ فِي السِّرِّ بِأَلْفٍ، ثُمَّ أَتَوْا بِلَفْظِ الْعَقْدِ فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ تَحَمُّلًا وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى بَقَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ. وَحَيْثُ قَالَ: الْمَهْرُ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ، أَرَادَ إِذَا تَوَاعَدُوا أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَلْفًا، وَلَمْ يُعْقَدْ فِي السِّرِّ ثُمَّ عَقَدُوا فِي الْعَلَانِيَةِ، فَالْمَهْرُ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ لِأَنَّهُ الْعَقْدُ. وَنَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصًّا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَيَفْسُدُ الْمُسَمَّى، وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا إِذَا جَرَى الْعَقْدُ بِأَلْفَيْنِ عَلَى أَنْ يُكْتَفَى بِأَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إِلَّا أَدَاءُ أَلْفٍ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ تُوَافُقُ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ، وَقَدْ يُحْتَاجُ إِلَى مُسَاعَدَةِ الْمَرْأَةِ.

السَّبَبُ السَّادِسُ: مُخَالَفَةُ الْآمِرِ لَا يُشْتَرَطُ فِي إِذْنِ الْمَرْأَةِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ إِذْنُهَا تَقْدِيرُ الْمَهْرِ، وَلَا ذِكْرُهُ. لَكِنْ لَوْ قَدَّرَتْ فَقَالَتْ: زَوِّجْنِي بِأَلْفٍ مَثَلًا، فَزَوَّجَهَا الْوَلِيُّ أَوْ وَكِيلُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَأَلْحَقَ الْبَغَوِيُّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ مَا إِذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِلَا مَهْرٍ أَوْ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فِي صُورَةِ الْوَلِيِّ قَوْلَانِ. وَلَوْ قَالَتْ لِوَكِيلِ الْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْمَهْرِ، فَزَوَّجَهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَسَدَ النِّكَاحُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَفْسُدُ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فِيمَا لَوْ وَكَّلَ الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ مُطْلَقًا، فَزَوَّجَ الْوَكِيلُ وَنَقْصَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْوَكِيلِ إِذَا نَقَصَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَوْ أَطْلَقَ التَّزْوِيجَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَهْرِ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي ذِكْرَ الْمَهْرِ عُرْفًا. وَأَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ مَهْرُ الْمِثْلِ ; لِأَنَّ فِعْلَهُ مُطَابِقٌ لِلْإِذْنِ. وَلَوْ أَذِنَتْ لِلْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ مُطْلَقًا، فَزَوَّجَ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِلَا مَهْرٍ، فَهَلْ يَبْطُلُ النِّكَاحُ أَمْ يَصِحُّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي السَّبَبِ الْخَامِسِ. أَظْهَرُهُمَا: الصِّحَّةُ. وَقِيلَ: يَفْسُدُ قَطْعًا كَالْوَكِيلِ. وَلَوْ قَالَتْ لِلْوَلِيِّ أَوْ لِلْوَكِيلِ: زَوِّجْنِي بِمَا شَاءَ الْخَاطِبُ، فَقَالَ الْمَأْذُونُ لَهُ لِلْخَاطِبِ: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا شِئْتَ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا شَاءَ الْخَاطِبُ، فَقَدْ زَوَّجَهَا بِمَجْهُولٍ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ عَرَفَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: صِحَّةُ الْمُسَمَّى لِعِلْمِهَا بِهِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ لِإِبْهَامِ اللَّفْظِ. قُلْتُ: هَذَا الْمَذْكُورُ فِي هَذَا السَّبَبِ، هُوَ طَرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ. وَأَمَّا الْعِرَاقِيُّونَ فَقَطَعُوا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ فِي كُلِّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : إِذَا أَذِنَتْ

فِي التَّزْوِيجِ، فَزَوَّجَهَا وَلَيُّهَا بِلَا مَهْرٍ، أَوْ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ بِدُونِ مَا أَذِنَتْ فِيهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ زَوَّجَ الْأَبُ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْكَبِيرَةَ بِلَا مَهْرٍ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، أَوْ وَكَلَّ بَعْلًا فَزَوَّجَهَا بِلَا مَهْرٍ، أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا الْبَغْدَادِيُّونَ: يَصِحُّ النِّكَاحُ فِي كُلِّ الصُّوَرِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ قَوْلَيْنِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ الْوَلِيُّ لِلْوَكِيلِ: زَوِّجْهَا مَنْ شَاءَتْ بِكَمْ شَاءَتْ، فَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، صَحَّ. وَلَوْ قَالَ: زَوِّجْهَا بِأَلْفٍ فَزَوَّجَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ بِرِضَاهَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: الصَّحِيحُ صِحَّةُ النِّكَاحِ ; لِأَنَّ الْمَهْرَ حَقُّهَا. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ بَاشَرَ غَيْرَ مَا وُكِّلَ فِيهِ. فَرْعٌ جَاءَ رَجُلٌ وَقَالَ: أَنَا وَكِيلُ فُلَانٍ فِي قَبُولِ نِكَاحِ فُلَانَةٍ بِكَذَا، فَصَدَّقَهُ الْوَلِيُّ وَالْمَرْأَةُ، وَجَرَى النِّكَاحُ، وَضَمِنَ الْوَكِيلُ الصَّدَاقَ، ثُمَّ إِنَّ فُلَانًا أَنْكَرَهُ وَصَدَّقْنَاهُ بِالْيَمِينِ، فَهَلْ يُطَالَبُ الْوَكِيلُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّدَاقِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا ; لِأَنَّ مُطَالَبَةَ الْأَصْلِ سَقَطَتْ وَالضَّامِنُ فَرْعُهُ. وَأَصَحُّهُمَا وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» :

أَنَّهُ يُطَالَبُ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ ; لِأَنَّ الْمَالَ ثَابِتٌ عَلَيْهِمَا بِزَعْمِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو أَلْفٌ وَأَنَا ضَامِنُهُ، فَأَنْكَرَ عَمْرٌو، يَجُوزُ لِزَيْدٍ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ. فَرْعٌ فِي «فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ» أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْوَلِيُّ لِلْوَكِيلِ: لَا تُزَوِّجْهَا إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ تَرْهَنَ بِالصَّدَاقِ فُلَانًا، أَوْ يَتَكَفَّلُهُ فُلَانٌ، صَحَّ وَعَلَى الْوَكِيلِ الِاشْتِرَاطُ. فَإِنْ أَهْمَلَهُ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ. وَلَوْ قَالَ: زَوِّجْهَا بِكَذَا وَخُذْ بِهِ كَفِيلًا، فَزَوَّجَهَا بِلَا شَرْطٍ، صَحَّ النِّكَاحُ ; لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَمْرَيْنِ امْتَثَلَ أَحَدُهُمَا. وَإِنْ قَالَ: لَا تُزَوِّجْهَا إِذَا لَمْ يَتَكَفَّلْ فُلَانٌ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ ; لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَتَأَخَّرُ عَنِ النِّكَاحِ، وَقَدْ مَنَعَ الْعَقْدَ إِلَّا بِهَا، وَأَنَّهُ إِذَا قَالَ لِلْوَكِيلِ: زَوِّجْهَا بِأَلْفٍ وَجَارِيَةٍ وَلَمْ يَصِفِ الْجَارِيَةَ، فَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ بِأَلْفٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ قَالَ: زَوِّجْهَا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَجْهُولٍ، فَزَوَّجَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَقْدَ الْبَلَدِ وَقَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ أَكْثَرَ، صَحَّ النِّكَاحُ وَالْمُسَمَّى، وَإِلَّا فَلَا. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي التَّفْوِيضِ وَحُكْمِ الْمُفَوِّضَةِ التَّفْوِيضُ: أَنْ تَجْعَلَ الْأَمْرَ إِلَى غَيْرِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ الْإِهْمَالُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى. . . وَسُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ مُفَوِّضَةً لِتَفْوِيضِهَا أَمْرَهَا إِلَى الزَّوْجِ أَوِ الْوَلِيِّ بِلَا مَهْرٍ، أَوْ لِأَنَّهَا أَمْهَلَتِ الْمَهْرَ. وَمُفَوَّضَةٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ فَوَّضَ أَمْرَهَا إِلَى الزَّوْجِ. وَفِي الْبَابِ طَرَفَانِ. أَحَدُهُمَا: فِي صُورَةِ التَّفْوِيضِ. وَالثَّانِي: فِي حُكْمِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالتَّفْوِيضُ ضَرْبَانِ. تَفْوِيضُ مَهْرٍ وَتَفْوِيضُ بُضْعٍ. فَتَفْوِيضُ الْمَهْرِ أَنْ تَقُولَ لِوَلِيِّهَا: زَوِّجْنِي عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ مَا شِئْتَ أَوْ مَا شِئْتُ أَنَا، أَوْ مَا شَاءَ الْخَاطِبُ، أَوْ فُلَانٌ، فَإِنْ زَوَّجَهَا عَلَى مَا ذَكَرَتْ مِنَ الْإِبْهَامِ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي آخِرِ الْبَابِ السَّابِقِ. وَإِنْ زَوَّجَهَا بِمَا عَيَّنَ الْمَذْكُورُ مَشِيئَتَهُ، صَحَّ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ زَوَّجَهَا بِلَا مَهْرٍ، فَهَلْ يَبْطُلُ النِّكَاحُ، أَمْ يَصِحُّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي آخِرِ الْبَابِ السَّابِقِ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَتِ الْإِذْنَ وَزَوَّجَ الْوَلِيُّ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَيْسَ النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ خَالِيًا عَنِ الْمَهْرِ، وَلَيْسَ هَذَا التَّفْوِيضُ بِالتَّفْوِيضِ الَّذِي عَقَدْنَا لَهُ الْبَابَ. وَأَمَّا تَفْوِيضُ الْبُضْعِ، فَالْمُرَادُ بِهِ: إِخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ إِذَا صَدَرَ مِنْ مُسْتَحِقِّ الْمَهْرِ بِأَنْ تَقُولَ الْبَالِغَةُ الرَّشِيدَةُ، ثَيِّبًا كَانَتْ أَوْ بِكْرًا: زَوَّجْنِي بِلَا مَهْرٍ أَوْ عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ، فَيُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ وَيَنْفِي الْمَهْرَ، أَوْ يَسْكُتُ عَنْهُ. وَلَوْ قَالَتْ: زَوِّجْنِي وَسَكَتَتْ عَنِ الْمَهْرِ، فَالَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَفْوِيضٍ ;

لِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ غَالِبًا بِمَهْرٍ، فَيُحْمَلُ الْإِذْنُ عَلَى الْعَادَةِ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: زَوِّجْنِي بِمَهْرٍ، وَيُوَافِقُ هَذَا مَا سَبَقَ. وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ مَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَفْوِيضًا. وَمِنَ التَّفْوِيضِ الصَّحِيحِ أَنْ يَقُولَ سَيِّدُ الْأَمَةِ: زَوَّجْتُهَا بِلَا مَهْرٍ، أَوْ زَوَّجَهَا سَاكِتًا عَنِ الْمَهْرِ. وَلَوْ أَذِنَتِ الْحُرَّةُ لِوَلِيِّهَا فِي التَّزْوِيجِ، عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا فِي الْحَالِ وَلَا عِنْدَ الدُّخُولِ وَلَا غَيْرِهِ، وَزَوَّجَهَا الْوَلِيُّ كَذَلِكَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُ النِّكَاحِ. وَأَصَحُّهُمَا: صِحَّتُهُ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ هُوَ تَفْوِيضٌ فَاسِدٌ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَمْ يُلْغَى النَّفْيُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَكُونُ تَفْوِيضًا صَحِيحًا؟ وَجْهَانِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ ; لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي النِّكَاحِ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ. وَلَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ وَنَفَى الْمَهْرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْضَى هِيَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَقَصَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. فَإِنْ كَانَ مُجْبَرًا، فَهَلْ يَبْطُلُ النِّكَاحُ، أَمْ يَصِحُّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؟ قَوْلَانِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُجْبَرٍ، فَهَلْ يُبْطُلُ قَطْعًا أَمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، وَقَدْ سَبَقَ جَمِيعُ هَذَا. فَرْعٌ لَا يَصِحُّ تَفْوِيضُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِسَفَهٍ، وَلَا الصَّبِيَّةِ الْمُمَيِّزَةِ. وَإِذَا قَالَتِ السَّفِيهَةُ: زَوِّجْنِي بِلَا مَهْرٍ، اسْتَفَادَ بِهِ الْوَلِيُّ الْإِذْنَ فِي النِّكَاحِ وَلَغَا التَّفْوِيضَ. فَرْعٌ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا وَتُعْطِي زَوْجَهَا أَلْفًا، فَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّفْوِيضِ. وَلَوْ قَالَتْ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي بِلَا مَهْرٍ، فَزَوَّجَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ

مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ، صَحَّ الْمُسَمَّى. وَإِنْ زَوَّجَهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُسَمَّى، وَكَانَ كَمَا لَوْ نَكَحَهَا تَفْوِيضًا. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي حُكْمِ التَّفْوِيضِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: هَلْ تَسْتَحِقُّ الْمُفَوِّضَةُ مَهْرَ الْمِثْلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، أَمْ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي. فَعَلَى هَذَا، إِذَا وَطِئَهَا، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ تَخْرِيجُ وَجْهٍ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، خَرَّجَهُ مِنْ وَطْءِ الْمُرْتَهِنِ الْمَرْهُونَةَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، ظَانًّا الْإِبَاحَةَ، وَالْجَامِعُ حُصُولُ الْإِذْنِ مِنْ مَالِكِ الْبُضْعِ، وَمَوْضِعُ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ مَنْ نَقَلَهُ مَا إِذَا جَدَّدَتْ إِذْنًا فِي الْوَطْءِ وَصَرَّحَتْ بِنَفْيِ الْمَهْرِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ تَجْدِيدُ الْإِذْنِ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْمَجْمُوعَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ وَأَوْجَبْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ، فَهَلْ تُعْتَبَرُ حَالَةُ الْوَطْءِ، أَمْ يَجِبُ أَكْثَرُ مَهْرٍ مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ إِلَى الْوَطْءِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي. الثَّانِيَةُ: مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمَسِيسِ، فَهَلْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَمْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى حَدِيثِ بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، أَنَّهَا نُكِحَتْ بِلَا مَهْرٍ، فَمَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا، فَقَضَى لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَهْرِ نِسَائِهَا وَالْمِيرَاثِ، فَقِيلَ إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ، وَجَبَ الْمَهْرُ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَثْبُتْ، فَلَا مَهْرَ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: إِنْ ثَبَتَ، وَجَبَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَهُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ (الْمُخْتَصَرِ) . وَقِيلَ: قَوْلَانِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْحَلِيمِيُّ،

وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَظْهَرِ مِنْهُمَا، فَرَجَّحَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَالْمُتَوَلِّي، الْوُجُوبَ. وَرَجَّحَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ تَرْجِيحُ الْوُجُوبِ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا قِيلَ فِي إِسْنَادِهِ، وَقِيَاسًا عَلَى الدُّخُولِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ مُقَرَّرٌ كَالدُّخُولِ، وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ مَعَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِاعْتِبَارِ يَوْمِ الْعَقْدِ، أَمْ يَوْمِ الْمَوْتِ، أَمْ أَكْثَرِهِمَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْحَنَّاطِيُّ. الثَّالِثَةُ: طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، إِنْ كَانَ فَرَضَ لَهَا، تَشْطُرُ الْمَفْرُوضَ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْضَ لَهَا، فَلَا يُشْطَرُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَالْمُتَوَلِّي، خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ أَمْ لَا؟ قَالَ الْإِمَامُ: لَا يُعْتَدُّ بِهَذَا، وَلَا يَلْتَحِقُ بِالْوُجُوهِ الضَّعِيفَةِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ الْمَهْرُ لِلْمُفَوِّضَةِ بِالْعَقْدِ، فَلَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِفَرْضِ مَهْرٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ بِالْعَقْدِ، فَمَنْ قَالَ: يُشْطَرُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، قَالَ: لَيْسَ لَهَا طَلَبُ الْفَرْضِ، لَكِنْ لَهَا طَلَبُ الْمَهْرِ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، تُطَالِبُ بِهِ لَا بِالْفَرْضِ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَتَشَطَّرُ. قَالَ: لَهَا طَلَبُ الْفَرْضِ لِيَتَقَرَّرَ الشَّطْرُ فَلَا يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَلَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا لِلْفَرْضِ،

وَهَلْ لَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا لِتَسْلِيمِ الْمَفْرُوضِ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: نَعَمْ كَالْمُسَمَّى: وَحَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ الْمَنْعَ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ لِأَنَّهَا سَامَحَتْ بِالْمَهْرِ، فَكَيْفَ تُضَايِقُ فِي تَقْدِيمِهِ. فَرْعٌ الْفَرْضُ يُوجَدُ مِنَ الزَّوْجِ، أَوِ الْقَاضِي، أَوْ أَجْنَبِيٍّ. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: إِذَا فَرَضَ الزَّوْجُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ تَرْضَ بِهِ الْمَرْأَةُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ وَفِيمَا عُلِّقَ عَنِ الْإِمَامِ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ مِنْهَا، بَلْ يَكْفِي طَلَبُهَا وَإِسْعَافُهُ، وَلْيَكُنْ هَذَا فِيمَا إِذَا طَلَبَتْ عَيْنًا أَوْ مُقَدَّرًا فَأَجَابَهَا، أَمَّا إِذَا أَطْلَقَتِ الطَّلَبَ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ رَاضِيَةً بِمَا يُعَيِّنُهُ أَوْ يُقَدِّرُهُ. أَمَّا إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى مَهْرٍ، فَيُنْظَرُ، إِنْ جَهِلَا قُدِّرَ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَوْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا، فَفِي صِحَّةِ الْفَرْضِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: صِحَّتُهُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْإِمْلَاءِ» وَالْقَدِيمِ. وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِهِ، صَحَّ مَا فَرَضَاهُ. وَيَجُوزُ إِثْبَاتُ الْأَجَلِ فِي الْمَفْرُوضِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ مِنْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: فَرَضَ الْقَاضِي وَذَلِكَ إِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنَ الْفَرْضِ، أَوْ تَنَازَعَا فِي قَدْرِ الْمَفْرُوضِ، فَيَفْرِضُهُ، وَلَا يَفْرِضُ إِلَّا مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ حَالًّا. وَلَوْ رَضِيَتْ بِالْأَجَلِ، لَمْ يُؤَجِّلْ، بَلْ تُؤَخِّرُ هِيَ إِنْ شَاءَتْ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا يَنْقُصُ، كَمَا فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. وَلَكِنَّ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ الْيَسِيرَ الَّذِي يَقَعُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، لَا اعْتِبَارَ

بِهِ، وَيُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ: وَإِذَا فَرَضَ، لَمْ يَتَوَقَّفْ لُزُومُهُ عَلَى رِضَاهُمَا ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْهُ، وَحُكْمُ الْقَاضِي لَا يَفْتَقِرُ لُزُومُهُ إِلَى رِضَى الْخَصْمَيْنِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فَرْضُ الْأَجْنَبِيِّ. فَإِذَا فَرَضَ أَجْنَبِيٌّ لِلْمُفَوِّضَةِ مَهْرًا يُعْطِيهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِرِضَاهَا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، طَالَبَتِ الْأَجْنَبِيَّ بِالْمَفْرُوضِ، وَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ عَنِ الزَّوْجِ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَنَصِفُ الْمَفْرُوضِ يَعُودُ إِلَى الزَّوْجِ أَمْ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا إِذَا تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِأَدَاءِ الْمُسَمَّى ثُمَّ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا لَوْ أَصْدَقَ عَنِ ابْنِهِ. فَرْعٌ أَبْرَأَتِ الْمُفَوِّضَةُ عَنِ الْمَهْرِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمَسِيسِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ، صَحَّ الْإِبْرَاءُ إِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَإِنْ جَهِلَتْهُ، فَفِي صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْمَجْهُولِ قَوْلَانِ سَبَقَا فِي «الضَّمَانِ» . أَظْهَرُهُمَا: الْمَنْعُ. فَإِنْ مَنَعْنَا، فَذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ. وَفِيمَا اسْتَيْقَنَتْهُ وَجْهَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ، فَهُوَ إِبْرَاءٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَجَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ. وَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ كَالْقَوْلَيْنِ فِي ضَمَانِهِ. أَظْهَرُهُمَا: فَسَادُهُ، فَحَصَلَ أَنَّ الْمَذْهَبَ فَسَادُ إِبْرَائِهَا. وَلَوْ أَسْقَطَتْ حَقَّ الْفَرْضِ، لَمْ يَسْقُطْ كَإِسْقَاطِ زَوْجَةِ الْمُوَلِّي، وَلَوْ أَبْرَأَتْ عَنِ الْمُتْعَةِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَهُوَ إِبْرَاءٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ. وَإِنْ أَبْرَأَتْ بَعْدُ، فَإِبْرَاءٌ عَنْ مَجْهُولٍ. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَأَبْرَأَتْهُ عَنِ الْمُسَمَّى، فَهُوَ لَغْوٌ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُهُ. وَإِنْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهِيَ عَالِمَةٌ بِهِ، صَحَّ.

فَرْعٌ لِزَوْجَتِهِ عَلَيْهِ مَهْرٌ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عَنْ أَلْفٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ إِلَى أَلْفَيْنِ، وَرَغِبَا فِي الْبَرَاءَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُبَرِّئَهُ عَنْ أَلْفَيْنِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ قَبَضَتْ أَلْفًا، وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ أَلْفٍ إِلَى أَلْفَيْنِ، فَإِنْ بَانَ أَنَّ مَهْرَهَا أَلْفٌ أَوْ فَوْقَ الْأَلْفِ إِلَى أَلْفَيْنِ، فَالْبَرَاءَةُ حَاصِلَةٌ، وَإِنْ بَانَ فَوْقَ الْأَلْفَيْنِ فَعَلَيْهِ الزِّيَادَةُ، وَحَصَلَتِ الْبَرَاءَةُ مِنْ أَلْفَيْنِ، وَالْقَوْلُ بِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ إِذَا بَانَ فَوْقَ أَلْفٍ إِلَى أَلْفَيْنِ، تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ: ضَمِنْتُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَشْرَةٍ، أَوْ أَبْرَأْتُ، صَحَّ الضَّمَانُ وَالْإِبْرَاءُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَلَوْ دَفَعَ الزَّوْجُ إِلَيْهَا أَلْفَيْنِ، وَحَلَّلَ لَهَا مَا بَيْنَ أَلْفٍ وَأَلْفَيْنِ، حَلَّ لَهَا ذَلِكَ إِنْ بَانَ فَوْقَ أَلْفٍ إِلَى أَلْفَيْنِ. وَإِنْ بَانَ دُونَ أَلْفٍ، فَعَلَيْهَا رَدُّ قَدْرِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ مَهْرِهَا وَبَيْنَ الْأَلْفِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّحْلِيلِ، وَيَحْصُلُ الْفَرْضُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ بِلَفْظِ التَّحْلِيلِ وَالْإِبْرَاءِ، أَوِ الْإِسْقَاطِ وَالْعَفْوِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَيُشْتَرَطُ لَفْظٌ صَالِحٌ لِتَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ. فَإِنْ تَصَرَّفَتْ فِي الْمَدْفُوعِ وَصَارَ دَيْنًا، جَرَتْ فِيهِ الْأَلْفَاظُ. فَرْعٌ قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ وَقْتَ الْإِبْرَاءِ أَنَّهُ كَانَ لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ، لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الظَّاهِرِ. وَفِي الْبَاطِنِ وَجْهَانِ. قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَحَلِّ حَقِّهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقْبَلُ، وَالْخِلَافُ مَأْخُوذٌ مِمَّا إِذَا بَاعَ مَالَ أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ فَبَانَ مَيِّتًا.

فصل

فَصْلٌ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ فَرْضًا صَحِيحًا، كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، حَتَّى يَتَشَطَّرَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَلَوْ فَرَضَ فَاسِدًا كَخَمْرٍ، لَغَا، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَشَطُّرِ مَهْرِ الْمِثْلِ، بِخِلَافِ التَّسْمِيَةِ الْفَاسِدَةِ فِي الْعَقْدِ، فَإِنَّهَا تَشْطُرُهُ. فَرْعٌ نَكَحَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ، وَتَرَافَعَا إِلَيْنَا، حَكَمْنَا بِحُكْمِنَا فِي الْمُسْلِمِينَ. فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَيُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ. مِنْهَا: الْمُفَوَّضَةُ، وَفِي التَّفْوِيضِ الْفَاسِدِ، وَفِي التَّسْمِيَةِ الْفَاسِدَةِ، وَفِيمَا إِذَا نَكَحَ نِسْوَةً بِمَهْرٍ وَاحِدٍ وَقُلْنَا يُوَزَّعُ عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ، وَفِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: مَهْرُ الْمِثْلِ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَرْغَبُ بِهِ فِي أَمْثَالِهَا، وَالرُّكْنُ الْأَعْظَمُ فِي الْبَابِ النَّسَبُ، وَيَنْظَرُ إِلَى نِسَاءِ عَصِبَاتِهَا، وَهُنَّ الْمُنْتَسِبَاتُ إِلَى مَنْ تُنْسَبُ هَذِهِ إِلَيْهِ كَالْأُخْتِ وَبِنْتِ الْأُخْتِ، وَالْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْعَمِّ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ، وَيُرَاعَى فِي نِسَاءِ الْعَصَبَةِ قُرْبُ الدَّرَجَةِ، وَأَقْرَبُهُنَّ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ مِنْ

الْأَبِ، ثُمَّ بَنَاتُ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ الْعَمَّاتُ كَذَلِكَ، ثُمَّ بَنَاتُ الْأَعْمَامِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ نِسَاءِ الْعَصَبَةِ، اعْتُبِرَ بِذَوَاتِ الْأَرْحَامِ كَالْجَدَّاتِ وَالْخَالَاتِ، وَتُقَدَّمُ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى مِنَ الْجِهَاتِ، وَكَذَا تُقَدَّمَ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى مِنَ الْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ كَالْجَدَّاتِ. وَلَا يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ نِسَاءِ الْعَصَبَةِ بِمَوْتِهِنَّ، بَلْ يُعْتَبَرُ بَعْدَ مَوْتِهِنَّ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ بِفَقْدِهِنَّ مِنَ الْأَصْلِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِ مُهُورِهِنَّ، أَوْ لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَنْكِحْنَ. فَإِنْ تَعَذَّرَتْ ذَوَاتُ الْأَرْحَامِ، اعْتُبِرَتْ بِمِثْلِهَا مِنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ نَسَبُهَا مَعْلُومًا، وَتُعْتَبَرُ الْعَرَبِيَّةُ بِعَرَبِيَّةٍ مِثْلِهَا، وَالْأَمَةُ بِأَمَةٍ مِثْلِهَا، وَيُنْظَرُ إِلَى شَرَفِ سَيِّدِهَا وَخِسَّتِهِ، وَمَهْرُ الْمُعَتَقَةِ بِمُعَتَقَةٍ مِثْلِهَا. وَفِي وَجْهٍ: تُعْتَبَرُ الْمُعَتَقَةُ بِنِسَاءِ الْمَوَالِي. الثَّانِيَةُ: يُعْتَبَرُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ الْبَلَدُ. فَإِذَا كَانَ نِسَاءُ عَصِبَاتِهَا بِبَلْدَتَيْنِ هِيَ فِي إِحْدَاهُمَا، اعْتُبِرَ بِعَصِبَاتِ بَلَدِهَا. فَإِنْ كُنَّ كُلُّهُنَّ بِبَلْدَةٍ أُخْرَى، فَالِاعْتِبَارُ بِهِنَّ لَا بِأَجْنَبِيَّاتِ بَلَدِهَا، وَتُعْتَبَرُ الْمُشَارَكَةُ فِي الصِّفَاتِ الْمُرَغِّبَةِ، كَالْعِفَّةِ، وَالْجَمَالِ، وَالسِّنِّ، وَالْعَقْلِ، وَالْيَسَارِ، وَالْبَكَارَةِ، وَالْعِلْمِ، وَالْفَصَاحَةِ، وَالصَّرَاحَةِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةَ الْأَبَوَيْنِ، وَسَائِرُ الصِّفَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا الْأَغْرَاضُ. وَفِي وَجْهٍ: لَا اعْتِبَارَ بِالْيَسَارِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَمَتَى اخْتَصَّتْ بِصِفَةٍ مُرَغِّبَةٍ، زِيدَ فِي مَهْرِهَا. وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَقْصٌ لَيْسَ فِي النِّسْوَةِ الْمُعْتَبَرَاتِ مِثْلُهُ، نَقَصَ مِنَ الْمَهْرِ بِقَدْرِ مَا يَلِيقُ بِهِ. الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَبَرُ غَالِبُ عَادَةِ النِّسَاءِ الْمُعْتَبَرَاتِ. فَلَوْ سَامَحَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، لَمْ يَلْزَمِ الْبَاقِيَاتُ الْمُسَامَحَةُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِنَقْصٍ دَخَلَ النَّسَبَ وَفَتَرَتِ الرَّغَبَاتُ. الرَّابِعَةُ: مَهْرُ الْمِثْلِ يَجِبُ حَالًّا مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ، كَقِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ. وَإِنْ رَضِيَتْ بِالتَّأْجِيلِ، لَا يُوجِبُهُ الْحَاكِمُ مُؤَجَّلًا، لَكِنْ لَهَا أَنْ تُسَامِحَ بِالْإِنْظَارِ. فَإِنْ كَانَتِ النِّسْوَةُ الْمُعْتَبَرَاتُ يَنْكِحْنَ بِمُؤَجَّلٍ أَوْ بِصَدَاقٍ بَعْضُهُ مُؤَجَّلٌ، لَمْ يُؤَجِّلِ الْحَاكِمُ أَيْضًا

لَكِنْ يُنْقِصُ مَا يَلِيقُ بِالْأَجَلِ. وَإِنْ جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِمُسَامَحَةِ الْعَشِيرَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، خَفَّفْنَا مَهْرَ هَذِهِ فِي حَقِّ الْعَشِيرَةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَكَذَا لَوْ كُنَّ يُخَفِّفْنَ، إِذَا كَانَ الزَّوْجُ شَرِيفًا، خَفَّفَ فِي حَقِّ الشَّرِيفِ دُونَ غَيْرِهِ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّخْفِيفُ فِي حَقِّ الْعَشِيرَةِ وَالشَّرِيفِ. وَقِيلَ: مَهْرُ الْمِثْلِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ دُونَ الْوَاجِبِ بِالْإِتْلَافِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ تَقَادُمُ الْعَهْدِ لَا يُسْقِطُ مَهْرَ الْمِثْلِ عِنْدَنَا. فَرْعٌ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ بِاعْتِبَارِ يَوْمِ الْوَطْءِ كَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ يَوْمَ الْعَقْدِ، إِذْ لَا حُرْمَةَ لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ. فَرْعٌ إِذَا وَطِئَ مِرَارًا بِشُبْهَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ، فَزَالَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ، ثُمَّ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ أُخْرَى، وَجَبَ مَهْرَانِ. وَلَوْ أَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَا، وَجَبَ بِكُلِّ وَطْأَةٍ مَهْرٌ ; لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَا بِالْإِتْلَافِ، وَقَدْ تَعَدَّدَ وَلَوْ وَطِئَ الْأَبُ جَارِيَةَ الِابْنِ مِرَارًا مِنْ غَيْرِ إِحْبَالٍ، فَقِيلَ: يَجِبُ بِكُلِّ وَطْءٍ مَهْرٌ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ شُبْهَةَ الْإِعْفَافِ تَعُمُّ الْوَطَآتِ، وَخَصَّصَ الْبَغَوِيُّ الْوَجْهَيْنِ بِمَا إِذَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَجَزَمَ بِالتَّكْرَارِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ. وَوَطْءُ الشَّرِيكِ الْمُشْتَرَكَةَ، وَالسَّيِّدِ الْمُكَاتَبَةَ مِرَارًا، كَوَطَآتِ جَارِيَةِ الِابْنِ. وَإِذَا وَجَبَ مُهْرٌ وَاحِدٌ بِوَطَآتٍ، اعْتُبِرَ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ.

الْبَابُ الرَّابِعُ فِي تَشَطُّرِ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يُشَطَّرُ الصَّدَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي الْبَابِ أَطْرَافٌ. [الطَّرَفُ] الْأَوَّلُ: فِي مَوْضِعِ التَّشَطُّرِ وَكَيْفِيَّتِهِ. أَمَّا مَوْضِعُهُ، فَيَتَشَطَّرُ الصَّدَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ. وَفِيمَا إِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بِتَفْوِيضِهِ إِلَيْهَا، أَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِدُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَتْ، أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ بِطَلَبِهَا، وَبِكُلِّ فُرْقَةٍ تَحْصُلُ لَا بِسَبَبٍ مِنَ الْمَرْأَةِ، بِأَنْ أَسْلَمَ أَوِ ارْتَدَّ أَوْ أَرْضَعَتْ أُمُّ الزَّوْجَةِ الزَّوْجَ وَهُوَ صَغِيرٌ، أَوْ أُمُّ الزَّوْجِ أَوِ ابْنَةُ الزَّوْجَةِ الصَّغِيرَةِ، أَوْ وَطِئَهَا أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ بِشُبْهَةٍ وَهِيَ تَظُنُّهُ زَوْجَهَا، أَوْ قَذَفَهَا وَلَاعَنَ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنْهَا أَوْ بِسَبَبٍ فِيهَا، بِأَنْ أَسْلَمَتْ أَوِ ارْتَدَّتْ، أَوْ فَسَخَتِ النِّكَاحَ بِعِتْقٍ أَوْ عَيْبٍ، أَوْ أَرْضَعَتْ زَوْجَةٌ أُخْرَى لَهُ صَغِيرَةً، أَوْ فَسَخَ النِّكَاحَ بِعَيْبِهَا، فَيَسْقُطُ جَمِيعُ الْمَهْرِ، وَشِرَاؤُهَا زَوْجَهَا يُسْقِطُ الْجَمِيعَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَشِرَاؤُهُ زَوْجَتَهُ يُشَطَّرُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ إِذَا طَلَّقَ الْمُفَوَّضَةَ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالدُّخُولِ، فَالْقَوْلُ فِي التَّشَطُّرِ سَبَقَ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُفَوَّضَةِ، فَكُلُّ صَدَاقٍ وَاجِبٍ وَرَدَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ شَطَرَهُ، سَوَاءٌ فِيهِ

فصل

الْمُسَمَّى الصَّحِيحُ فِي الْعَقْدِ، وَالْمَفْرُوضُ بَعْدَهُ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ إِذَا جَرَتْ تَسْمِيَةٌ فَاسِدَةٌ فِي الْعَقْدِ. فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّشَطُّرِ، فَفِيهَا أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ بِنَفْسِ الْفِرَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفِرَاقَ يُثْبِتُ لَهُ خِيَارُ الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ، فَإِنْ شَاءَ يَمْلِكُهُ وَإِلَّا فَيَتْرُكْهُ كَالشُّفْعَةِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ إِلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَحَكَى الْعَبَّادِيُّ، أَنَّ أَبَا الْفَضْلِ الْقَاشَانِيَّ الزَّاهِدَ، حَكَى الثَّالِثَ قَوْلًا قَدِيمًا. وَأَنْكَرَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ كَوْنَهُ قَوْلًا أَوْ وَجْهًا، فَإِذَا قُلْنَا: يَثْبِتُ الْمِلْكُ بِالِاخْتِيَارِ، فَطَلَّقَهَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهَا كُلَّ الصَّدَاقِ، وَهَذَا إِعْرَاضٌ مِنْهُ وَرِضًى بِسُقُوطِ حَقِّهِ، فَيُسَلِّمُ لَهَا جَمِيعَهُ. وَعَلَى الصَّحِيحِ يَلْغُو قَوْلُهُ، وَيَتَشَطَّرُ الْمَهْرُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ وَنَفَى الْوَلَاءَ. وَلَوْ طَلَّقَ ثُمَّ قَالَ: أَسْقَطْتُ خِيَارِي، وَقُلْنَا: الطَّلَاقُ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، فَقَدْ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ إِلَى احْتِمَالَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ كَخِيَارِ الْبَيْعِ. وَأَرْجَحُهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الْوَاهِبُ خِيَارَ الرُّجُوعِ، وَلَمْ يَجْرِ هَذَا التَّرَدُّدِ فِيمَا لَوْ طَلَّقَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهَا كُلَّ الصَّدَاقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ. وَلَوْ حَدَثَتْ زِيَادَةٌ فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: الصَّحِيحُ نِصْفُهَا لِلزَّوْجِ، وَعَلَى الثَّانِي: إِنْ حَدَثَتْ قَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فَالْجَمِيعُ لِلزَّوْجَةِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً وَقُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَالنِّصْفُ بِزِيَادَتِهِ لِلزَّوْجِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: يُمْنَعُ الرُّجُوعَ إِلَّا بِرِضَاهَا. وَإِنْ حَدَثَ نَقْصٌ، فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالِاخْتِيَارِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ نَاقِصًا بِلَا أَرْشٍ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَأَخَذَ نِصْفَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ

وَجَدَ مِنْهَا تَعَدٍّ، بِأَنْ طَالَبَهَا بِرَدِّ النِّصْفِ، فَامْتَنَعَتْ، فَلَهُ النِّصْفُ مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ وَإِنْ تَلِفَ الْكُلُّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَعَلَيْهَا الضَّمَانُ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ تَعَدٍّ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ: أَنَّهَا تُغَرَّمُ أَرْشَ النَّقْصِ. وَإِنْ تَلِفَ، غُرِّمَتِ الْبَدَلَ ; لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ مُعَاوَضَةٍ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْإِقَالَةِ. وَفِي «الْأُمِّ» نَصٌّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ، وَبِهِ قَالَ الْمَرَاوِزَةُ ; لِأَنَّهُ فِي يَدِهَا بِلَا تَعَدٍّ، فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: حَدَثَ النَّقْصُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَعَلَيْكِ الضَّمَانُ، وَقَالَتْ: قَبْلَهُ وَلَا ضَمَانَ، فَأَيُّهُمَا الْمُصَدَّقُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَرْأَةُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ. وَلَوْ رَجَعَ كُلُّ الصَّدَاقِ إِلَيْهِ بِرِدَّتِهَا، أَوْ فَسَخَ وَتَلِفَ فِي يَدِهَا، فَمَضْمُونٌ عَلَيْهَا كَالْبَيْعِ يَنْفَسِخُ بِإِقَالَةٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَحُكْمُ النِّصْفِ عِنْدِ رِدَّتِهِ كَالطَّلَاقِ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالِاخْتِيَارِ، فَهَلْ تَمْلِكُ الزَّوْجَةُ التَّصَرُّفَ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ. قَالَ: الْقِيَاسُ أَنَّهَا تَمْلِكُ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَكَمَا يَمْلِكُ الْمُتَّهِبُ قَبْلَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا، سَقَطَ نِصْفُهُ بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعِنْدَ الِاخْتِيَارِ: عَلَى الثَّانِي، وَلَوْ أَدَّى الدَّيْنَ وَالْمُؤَدَّى بَاقٍ، فَهَلْ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِهِ؟ أَمْ يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِيهِ لِتَعَيُّنِهِ بِالدَّفْعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الثَّانِي.

الطَّرَفُ الثَّانِي فِي تَغَيُّرِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ. إِذَا أَصْدَقَهَا عَيْنًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً، رَجَعَ بِنِصْفِ مِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، أَوْ نِصْفِ قِيمَتِهَا إِنْ كَانَتْ مُتَقَوَّمَةً. وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، فَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا تُغَيِّرٌ، رَجَعَ فِي نِصْفِهَا كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ حَدَثَ تُغَيِّرٌ وَهُوَ مَقْصُودُ الْفَصْلِ، فَهُوَ نَقْصٌ أَوْ زِيَادَةٌ أَوْ كِلَاهُمَا، فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: نَقْصٌ مَحْضٌ وَهُوَ نَوْعَانِ، نَقْصُ صِفَةٍ وَنَقْصُ جُزْءٍ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: نَقْصُ الصِّفَةِ كَالْعَمَى وَالْعَوَرِ، وَنِسْيَانِ الصَّنْعَةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ. حَادِثٌ فِي يَدِهَا، وَحَادِثٌ فِي يَدِهِ. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَحْدُثَ فِي يَدِهَا، فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ رَجَعَ إِلَى نِصْفِ قِيمَةِ الصَّدَاقِ سَلِيمًا، وَإِنْ شَاءَ قَنِعَ بِنِصْفِ النَّاقِصِ بِلَا أَرْشٍ. هَذَا قَوْلُ الْأَصْحَابِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ: يَجِبُ الْأَرْشُ، وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَجْهَانِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحْدُثَ فِي يَدِهِ قَبْلَ قَبْضِهَا وَأَجَازَتْ، فَلَهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ نِصْفُهَا نَاقِصًا، وَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَا أَرْشَ ; لِأَنَّهُ نَقَصَ وَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ، لَكِنْ لَوْ حَدَثَ النَّقْصُ بِجِنَايَةٍ وَأَخَذَتِ الْأَرْشَ، فَهَلْ لَهُ نِصْفُ الْأَرْشِ ; لِأَنَّهُ بَدَلُ الْفَائِتِ أَمْ لَا شَيْءَ [لَهُ] مِنَ الْأَرْشِ كَزِيَادَةٍ مُنْفَصِلَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. النَّوْعُ الثَّانِي: نَقْصُ جُزْءٍ، بِأَنْ أَصْدَقَهَا عَبْدَيْنِ وَقَبَضَهُمَا، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا فِي يَدِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: يَرْجِعُ إِلَى نِصْفِ الْبَاقِي وَنِصْفِ قِيمَةِ التَّالِفِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِحَقِّهِ إِنِ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمَا. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْبَاقِي وَنِصْفَ قِيمَةِ التَّالِفِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ وَهِيَ صِنْفَانِ، مُنْفَصِلَةٌ وَمُتَّصِلَةٌ. أَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ، كَاللَّبَنِ، وَالْوَلَدِ، وَالْكَسْبِ، فَيُسَلَّمُ لِلْمَرْأَةِ - سَوَاءٌ حَصَلَتْ فِي يَدِهَا أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَيَخْتَصُّ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ. ثُمَّ فِي «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» : إِنَّ قَوْلَنَا: يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ وَيَبْقَى الْوَلَدُ لَهَا، مَفْرُوضٌ فِي غَيْرِ الْجَوَارِي، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِ الْجَارِيَةِ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيمَةِ. فَإِنْ وَافَقَتْهُ الزَّوْجَةُ وَرَضِيَتْ بِرُجُوعِهِ إِلَى نِصْفِ الْأُمِّ، فَهُوَ كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ بِالْبَيْعِ. الصِّنْفُ الثَّانِي: الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ، كَالسَّمِنِ، وَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، فَلَا يَسْتَقِلُّ الزَّوْجُ بِالرُّجُوعِ إِلَى عَيْنِ النِّصْفِ، بَلْ يُخَيِّرُ الزَّوْجَةَ. فَإِنْ أَبَتْ، رَجَعَ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ بِغَيْرِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ. وَإِنْ سَمَحَتْ، أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَلَبُ الْقِيمَةِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ لِلْمِنَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا تَمْنَعُ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الِاسْتِقْلَالَ بِالرُّجُوعِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأُصُولِ، كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُفْلِسِ، وَالْمَوْهُوبِ فِي يَدِ الْوَلَدِ، وَالْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ، فَلَا تَمْنَعُ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الرُّجُوعَ، بَلْ يَسْتَقِلُّونَ بِالرُّجُوعِ مَعَهَا، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْفَسْخِ، وَهُوَ رَفْعُ الْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ حِينِهِ. فَإِنْ رُفِعَ مِنْ أَصْلِهِ، فَكَأَنَّهُ لَا عَقْدَ. وَإِنْ رُفِعَ مِنْ حِينِهِ، فَالْفَسْخُ مُشَبَّهٌ بِالْعَقْدِ، وَالزِّيَادَةُ تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ، فَكَذَا فِي الْفَسْخِ، وَعَوْدُ الشَّطْرِ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ فَسْخًا، وَلِهَذَا لَوْ سَلَّمَ الْعَبْدُ الصَّدَاقَ مِنْ كَسْبِهِ ثُمَّ عَتَقَ وَطَلَّقَ، عَادَ النِّصْفُ إِلَيْهِ لَا إِلَى السَّيِّدِ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءُ مِلْكٍ يَثْبُتُ فِيمَا فَرَضَ صَدَاقًا. وَفَرَّقَ أَبُو إِسْحَاقَ

بَيْنَ الصَّدَاقِ وَصُورَةِ الْإِفْلَاسِ، بِأَنَّ غَرِيمَ الْمُفْلِسِ لَوْ مَنَعْنَاهُ الرُّجُوعَ إِلَى الْعَيْنِ، لَمْ يَتِمَّ لَهُ الثَّمَنُ لِمُزَاحَمَةِ الْغُرَمَاءِ، وَهُنَا إِذَا لَمْ تُسَلِّمِ الْعَيْنَ، سَلَّمَتِ الْقِيمَةَ بِتَمَامِهَا، فَلَا ضَرَرَ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا بِفَلَسٍ عِنْدَ الطَّلَاقِ وَلَوْ تَرَكَ الْعَيْنَ لَاحْتَاجَ إِلَى الْمُضَارَبَةِ، قَالَ: يَرْجِعُ إِلَى الْعَيْنِ بِزِيَادَتِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا. وَعَوَّلَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى الْفَرْقِ الْأَوَّلِ، وَمَنَعُوا اسْتِقْلَالَهُ بِالرُّجُوعِ وَإِنْ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا، وَاعْتَبَرُوا فِي الرُّجُوعِ حِينَئِذٍ رِضَاهَا وَرِضَى الْغُرَمَاءِ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّ كَوْنَهَا مَحْجُورًا عَلَيْهَا، يَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةً، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ قَبْلَ ثُبُوتِ الرُّجُوعِ، وَالزَّوَائِدُ الْمُنْفَصِلَةُ وَالْمُتَّصِلَةُ فِيمَا سِوَى الطَّلَاقِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُشَطِّرَةِ كَهِيَ فِي الطَّلَاقِ. وَأَمَّا مَا يُوجِبُ عَوْدَ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إِلَى الزَّوْجِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ، إِنْ كَانَ سَبَبُهُ عَارِضًا كَالرَّضَاعِ وَرِدَّتِهَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ. وَفِي رِدَّتِهَا وَجْهٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَقِلُّ بِالرُّجُوعِ فِي الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ. وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُقَارِنًا كَالْفَسْخِ بِعَيْبِهِ أَوْ عَيْبِهَا، فَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَعُودُ بِزِيَادَتِهِ إِلَى الزَّوْجِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى رِضَاهَا كَفَسْخِ الْبَيْعِ بِالْعَيْبِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ قُلْنَا فِي الْفَسْخِ بَعْدَ الدُّخُولِ: يَبْقَى الْمُسَمَّى لَهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ السَّبَبُ عَارِضًا. وَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَهَلْ يَسْتَنِدُ الْفَسْخُ إِلَى أَصْلِ الْعَقْدِ وَيَرْفَعُ أَصْلَهُ، أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ. إِنْ قُلْنَا: لَا، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، عَادَ الصَّدَاقُ إِلَيْهِ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ.

فَرْعٌ إِذَا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ إِلَى نِصْفِ عَيْنِ الصَّدَاقِ، رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَلَا يُقَالُ: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ النِّصْفِ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ بِقِيمَةِ النِّصْفِ، وَهُوَ تَسَاهُلٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ التَّشْقِيصَ عَيْبٌ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِذَا تَغَيَّرَ الصَّدَاقُ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ مَعًا، إِمَّا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا صَغِيرًا فَكَبِرَ، فَإِنَّهُ نَقْصٌ بِسَبَبِ نَقْصِ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَا يَعْرِفُ الْغَوَائِلَ، وَيَقْبَلُ التَّأْدِيبَ وَالرِّيَاضَةَ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ بِقُوَّتِهِ عَلَى الشَّدَائِدِ وَالْأَسْفَارِ، وَحِفْظِ مَا يَسْتَحْفِظُهُ. وَكَمَا إِذَا أَصْدَقَهَا شَجَرَةً فَكَبِرَتْ فَقَلَّ ثَمَرُهَا وَزَادَ حَطَبُهَا. وَإِمَّا بِسَبَبَيْنِ، بِأَنْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَاعْوَرَّ، فَيَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارُ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْعَيْنَ لِنَقْصِهَا، وَيَعْدِلَ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَلَهَا أَنْ لَا تَبْذُلَهَا لِزِيَادَتِهَا وَتَدْفَعَ نِصْفَ الْقِيمَةِ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى رَدِّ الْعَيْنِ، جَازَ، وَلَا شَيْءَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَلَيْسَ الِاعْتِبَارُ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ، بَلْ كُلُّ مَا حَدَثَ وَفِيهِ فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَهُوَ زِيَادَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَإِنْ نَقَصَتِ الْقِيمَةُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِبَرِ الْعَبْدِ. فَرْعٌ أَصْدَقَهَا جَارِيَةً حَائِلًا، فَحَبِلَتْ فِي يَدِهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهُوَ زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَنَقْصٌ مِنْ وَجْهٍ، لِلضَّعْفِ فِي الْحَالِ، وَلِخَطَرِ الْوِلَادَةِ. فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى نِصْفِ الْجَارِيَةِ،

فَالْمَعْدُولُ إِلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا إِجْبَارُ الْآخَرِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا، أَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ إِذَا رَضِيَتْ بِرُجُوعِهِ إِلَى نِصْفِ الْجَارِيَةِ حَامِلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ لَا يُعْرَفُ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ تُجْبَرَ هِيَ أَيْضًا إِذَا رَغِبَ الزَّوْجُ فِي نِصْفِهَا حَامِلًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْحَمْلُ فِي الْبَهِيمَةِ، فَكَالْجَارِيَةِ. وَقِيلَ: زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ، إِذْ لَا خَطَرَ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا حَامِلًا مَا يَحْمِلُ حَائِلًا، وَلِأَنَّ لَحْمَ الْحَامِلِ أَرْدَأُ. فَرْعٌ أَصْدَقَهَا أَرْضًا فَحَرَثَتْهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ مُعَدَّةً لِلزِّرَاعَةِ، فَزِيَادَةٌ مَحْضَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ مُعَدَّةً لِلْبِنَاءِ، فَنَقْصٌ مَحْضٌ، فَحِينَئِذٍ إِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى نِصْفِ عَيْنِهَا، مَكَّنَ، وَإِنْ أَبَى، رَجَعَ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ بِلَا حِرَاثَةٍ. وَإِنْ زَرَعَتْهَا، فَنَقْصٌ مَحْضٌ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى نِصْفِ الْعَيْنِ وَتَرْكِ الزَّرْعِ إِلَى الْحَصَادِ، فَذَاكَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَعَلَيْهِ إِبْقَاؤُهُ بِلَا أُجْرَةٍ ; لِأَنَّهَا زَرَعَتْ مِلْكَهَا الْخَالِصَ. وَإِنْ رَغِبَ فِيهَا الزَّوْجُ وَامْتَنَعَتْ، أُجْبِرَتْ. وَإِنْ رَغِبَتْ هِيَ، فَلَهُ الِامْتِنَاعُ، وَيَأْخُذُ نِصْفَ قِيمَةِ الْأَرْضِ. فَإِنْ قَالَتْ: خُذْ نِصْفَ الْأَرْضِ مَعَ نِصْفِ الزَّرْعِ، فَفِي إِجْبَارِهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: وَجْهَانِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الثِّمَارِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ ; لِأَنَّ الزَّرْعَ لَيْسَ مِنْ عَيْنِ الصَّدَاقِ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ، وَالْمَذْهَبُ الْمَنْعُ كَيْفَ كَانَ. وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْحَصَادِ، وَبَقِيَ فِي الْأَرْضِ أَثَرُ الْعِمَارَةِ، وَكَانَتْ تَصْلُحُ لِمَا لَا تَصْلُحُ لَهُ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ وَلَوْ غَرَسَتْهَا، فَكَمَا لَوْ زَرَعَتْهَا. لَكِنْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْأَرْضِ وَيَتْرُكَ الْغِرَاسَ، فَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ ; لِأَنَّ الْغِرَاسَ لِلتَّأْبِيدِ. وَفِي إِبْقَائِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ضَرَرٌ. وَلَوْ طَلَّقَهَا وَالْأَرْضُ مَزْرُوعَةٌ أَوْ مَغْرُوسَةٌ،

فصل

فَبَادَرَتْ بِالْقَلْعِ، نُظِرَ، إِنْ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ نَقْصٌ لِضَعْفِهَا بِهِمَا وَهُوَ الْغَالِبُ، فَهُوَ عَلَى خِيرَتِهِ، وَإِلَّا انْحَصَرَ حَقُّهُ فِي الْأَرْضِ. فَصْلٌ أَصْدَقَهَا نَخِيلًا حَوَائِلَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَهِيَ مُطْلِعَةٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ نِصْفِ الطَّلْعِ قَهْرًا، وَلَا نِصْفِ الْعَيْنِ قَهْرًا ; لِأَنَّ الطَّلْعَ كَزِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ فَيُمْنَعُ الرُّجُوعَ قَهْرًا. فَإِنْ رَضِيَتْ بِأَخْذِهِ نِصْفَ النَّخْلِ وَالطَّلْعِ، أُجْبِرَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ كَالثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ، أَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا وَعَلَيْهَا ثِمَارٌ مُؤَبَّرَةٌ، فَفِيهَا مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: لَيْسَ لَهُ تَكْلِيفُهَا قَطْعَ الثَّمَرَةِ لِيَرْجِعَ إِلَى نِصْفِ الْعَيْنِ. فَلَوْ بَادَرَتْ بِقَطْعِهَا، أَوْ قَالَتْ: اقْطَعْهَا لِيَرْجِعَ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ إِلَّا الرُّجُوعُ إِلَى نِصْفِ الشَّجَرِ إِذَا لَمْ يَمْتَدَّ زَمَنُ الْقَطْعِ وَلَمْ يَحْدُثْ بِهِ نَقْصٌ فِي الشَّجَرِ بِانْكِسَارِ سَعَفٍ وَأَغْصَانٍ. الثَّانِيَةُ: أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي نِصْفِ النَّخْلِ وَتَرْكِ الثِّمَارِ إِلَى الْجِدَادِ فَأَبَتْ، أُجْبِرَتْ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ ; لِأَنَّ الْأَشْجَارَ فِي يَدِهَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ. وَرَجَّحَ الْمُتَوَلِّي مَنَعَ الْإِجْبَارِ، وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِهِ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ ; لِأَنَّهَا قَدْ [لَا] تَرْضَى بِيَدِهِ وَدُخُولِهِ الْبُسْتَانَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْمِيَةِ الثِّمَارِ بِالسَّقْيِ، وَلَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُهَا السَّقْيَ ; لِأَنَّ نَفْعَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالثَّمَرِ، بَلْ يُنْفَعُ بِهِ الشَّجَرُ أَيْضًا، وَلَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُهَا تَرْكَ السَّقْيِ لِتَضَرُّرِ الثَّمَرِ

وَالشَّجَرِ. وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ: حُكْمُ السَّقْيِ هُنَا حُكْمُهُ فِيمَا إِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي الشَّجَرِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالثَّمَرِ فِي غَيْرِ الصَّدَاقِ. الثَّالِثَةُ: أَرَادَتْ رُجُوعَهُ فِي نِصْفِ الشَّجَرِ وَتَرْكَ ثَمَرِهَا إِلَى الْجِدَادِ، فَلَهُ الِامْتِنَاعُ وَطَلَبُ الْقِيمَةِ ; لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الشَّجَرِ خَالِيَةً، وَلَيْسَ لَهَا تَكْلِيفُهُ تَأْخِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجِدَادِ ; لِأَنَّ حَقَّهُ نَاجِزٌ فِي الْعَيْنِ أَوِ الْقِيمَةِ. وَلَوْ قَالَ: أُؤَخِّرُ الرُّجُوعَ إِلَى الْجِدَادِ، فَلَهَا الِامْتِنَاعُ لِأَنَّ نَصِيبَهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهَا، كَذَا وَجَّهُوهُ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ النِّصْفَ الرَّاجِعَ إِلَيْهِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهَا، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. وَلَوْ قَالَ: أَرْجِعُ وَيَكُونُ نَصِيبِي وَدِيعَةً عِنْدَكِ وَقَدْ أَبْرَأْتُكِ عَنْ ضَمَانِهِ، فَوَجْهَانِ لَهُمَا الْتِفَاتٌ إِلَى إِبْرَاءِ الْغَاصِبِ مَعَ بَقَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِ. وَزَادَ مَنْ نَظَرَ إِلَى السَّقْيِ، فَقَالَ: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَقُولَ: ارْجِعْ وَاسْقِ ; لِأَنَّ فَائِدَةَ السَّقْيِ تَعُودُ إِلَى نَصِيبِهَا مِنَ الشَّجَرِ وَإِلَى الثِّمَارِ وَهِيَ خَالِصَةٌ لَهَا، وَلَا أَنْ تَقُولَ: ارْجِعْ وَلَا تَسْقِ ; لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ. وَلَوْ قَالَتْ: ارْجِعْ وَأَنَا لَا أَسْقِي وَإِلَيْكَ الْخِيرَةُ فِي السَّقْيِ وَتَرَكِهِ، أَوْ قَالَ: ارْجِعِ وَلَا أَسْقِي وَلَكِ الْخِيَارُ فِي السَّقْيِ وَتَرْكِهِ، لَمْ يَلْزَمِ الْآخَرُ الْإِجَابَةَ ; لِأَنَّهُ إِنْ تَرَكَ السَّقْيَ تَضَرَّرَ، وَإِنْ سَقَى اخْتَصَّ بِالْمُؤْنَةِ دُونَ الْفَائِدَةِ. وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: ارْجِعِ إِلَى النِّصْفِ وَاسْقِ وَالْتَزِمِ الْمُؤْنَةَ، أَوْ قَالَتْ: ارْجِعْ وَأَنَا أَسْقِي، فَهَلْ يَلْزَمُ الْآخَرُ الْإِجَابَةَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ وَعْدٌ وَقَدْ لَا يَفِي بِهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْإِجَابَةِ، فَبَدَا لِلْمُلْتَزِمِ وَامْتَنَعَ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الزَّوْجِ، وَكَأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ، وَأَلْحَقُوا بِهَذِهِ الصُّورَةِ مَا إِذَا أَصْدَقَهَا جَارِيَةً فَوَلَدَتْ فِي يَدِهَا وَلَدًا مَمْلُوكًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَالَ: أَرْجِعُ إِلَى نِصْفِ الْجَارِيَةِ وَأَرْضَى

أَنْ تُرْضِعَ الْوَلَدَ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجَابُ. وَلَوْ قَالَ: أَرْجِعُ وَأَمْنَعُهَا الْإِرْضَاعَ، لَمْ تُجَبْ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَرَاءَ الْإِرْضَاعِ وَمُضِيَّ زَمَانِهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» فِيهِ. الرَّابِعَةُ: وَهَبَتْ لَهُ نِصْفَ الثِّمَارِ لِيَشْتَرِكَا فِي الثَّمَرِ وَالشَّجَرِ، فَهَلْ يَجِبُ الْقَبُولُ لِأَنَّ الثَّمَرَ مُتَّصِلٌ كَالسَّمِنِ، أَمْ لَا ; لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ كَالْمُنْفَصِلَةِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ مِلْكِ الْغَيْرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. الْخَامِسَةُ: تَرَاضَيَا عَلَى الرُّجُوعِ فِي نِصْفِ الشَّجَرِ فِي الْحَالِ، أَوْ عَلَى تَأْخِيرِ الرُّجُوعِ إِلَى الْجِدَادِ، مَكَّنَا مِنْهُ. وَإِذَا بَدَا لِأَحَدِهِمَا فِي التَّأْخِيرِ، مَكَّنَ مِنَ الرُّجُوعِ عَنْهُ. وَقَالَ الْمُعَلِّلُونَ بِالسَّقْيِ: إِنْ رَضِيَا بِالرُّجُوعِ فِي الْحَالِ عَلَى أَنْ يَسْقِيَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعًا، أَوْ عَلَى أَنْ يَتْرُكَا أَوْ أَحَدُهُمَا السَّقْيَ، فَمَنِ الْتَزَمَ السَّقْيَ، فَهُوَ وَعْدٌ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَفِ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَعُدْ إِلَى الزَّوْجِ. وَمَنْ تَرَكَ السَّقْيَ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهِ. هَذَا حَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ أَرَ تَعَرُّضًا لِلسَّقْيِ إِلَّا لِلْإِمَامِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ. فَرْعٌ ظُهُورُ النَّوَرِ فِي سَائِرِ الْأَشْجَارِ كَبُدُوِّ الطَّلْعِ فِي النَّخْلِ، وَانْعِقَادِ الثِّمَارِ مَعَ تَنَاثُرِ النَّوَرِ، كَالتَّأْبِيرِ فِي النَّخْلِ.

فَرْعٌ أَصْدَقَهَا نَخْلَةً عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ مُؤَبَّرَةٌ، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهُ نِصْفُ الثَّمَرَةِ مَعَ نِصْفِ النَّخْلَةِ، سَوَاءٌ جَدَّتِ الثَّمَرَةُ أَمْ لَا. وَإِنْ أَصْدَقَهَا وَالثَّمَرَةُ مُطْلِعَةٌ، وَطَلَّقَهَا وَهِيَ بَعْدُ مُطْلِعَةٌ، أَخَذَ نَصِفَهَا مَعَ الطَّلْعِ. وَنَقَلَ الْمُتَوَلِّي وَجْهًا أَنَّهُ إِذَا امْتَدَّ الزَّمَانُ بِحَيْثُ يَزْدَادُ فِي مِثْلِهِ الطَّلْعُ، لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، هَذَا لَفْظُهُ. وَلَوْ قَالَ: لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ بِغَيْرِ رِضَاهَا، لَكَانَ أَحْسَنَ. فَلَوْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً عِنْدَ الطَّلَاقِ، فَهَلْ لَهُ فِي الثَّمَرَةِ حَقٌّ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا إِذَا أَصْدَقَهَا جَارِيَةً حَامِلًا فَوَلَدَتْ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي الثَّمَرَةِ لِأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ، وَيَجُوزُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ الْحَمْلِ. فَإِنْ أَثْبَتْنَا لَهُ حَقًّا فِي الثَّمَرَةِ، لَمْ يَأْخُذْ إِلَّا بِرِضَاهَا ; لِأَنَّهَا زَادَتْ. فَإِنْ لَمْ تَرْضَ، أَخَذَ نِصْفَ الشَّجَرِ مَعَ نِصْفِ قِيمَةِ الطَّلْعِ. فَرْعٌ أَصْدَقَهَا جَارِيَةً حَامِلًا فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، نُظِرَ، إِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ بَعْدُ حَامِلٌ، فَلَهُ نِصْفُهَا حَامِلًا، وَيَجِيءُ عِنْدَ امْتِدَادِ الزَّمَانِ الْوَجْهُ الَّذِي حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي فِي الْفَرْعِ قَبْلَ هَذَا. وَإِنْ طَلَّقَهَا وَقَدْ وَلَدَتْ، فَالْكَلَامُ فِي الْأُمِّ ثُمَّ الْوَلَدِ، أَمَّا الْأُمُّ، فَلَا يَأْخُذُ نِصْفَهَا إِنْ كَانَ الْوَلَدُ رَضِيعًا لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ، لَكِنْ يَرْجِعُ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ فَطِيمًا، فَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِ التَّفْرِيقِ الْمُحَرَّمِ، فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِلَّا فَلَهُ نِصْفُهَا. وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِالْوِلَادَةِ، نُظِرَ، إِنْ وَلَدَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِ النَّقْصِ فِي يَدِ الزَّوْجِ. وَإِنْ وَلَدَتْ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ، فَلَهُ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ. وَأَمَّا الْوَلَدُ، فَهَلْ

لِلزَّوْجِ حَقٌّ فِي نِصْفِهِ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ لَهُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ سَبَقَا فِي مَوَاضِعَ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ حَادِثٌ فِي مِلْكِهَا، وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ فِيهِ حَقٌّ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا عَيْنَيْنِ، لَكِنَّ الْوَلَدَ زَادَ بِالْوِلَادَةِ، فَلَهَا الْخِيَارُ. فَإِنْ رَضِيَتْ بِرُجُوعِ الزَّوْجِ فِي نِصْفِهِ وَنِصْفِ الْأُمِّ، أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِ. وَإِنْ أَبَتْ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَرْجِعُ فِي نِصْفِ الْجَارِيَةِ لِلتَّفْرِيقِ، لَكِنْ يَرْجِعُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا وَنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ انْفِصَالِهِ. وَالثَّانِي: لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ الْمُصْدَقَةُ حَائِلًا، وَطَلَّقَهَا حَامِلًا، فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. فَإِنْ وَلَدَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَالْوَلَدُ لَهَا، وَالْقَوْلُ فِي الْأُمِّ كَمَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا يَوْمَ الْإِصْدَاقِ وَوَلَدَتْ وَطَلَّقَهَا، وَإِنْ حَبَلَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَوَلَدَتْ فِي يَدِهَا، فَهَلِ النَّقْصُ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَهَا الْخِيَارُ ; لِأَنَّ السَّبَبَ وُجِدَ فِي يَدِهِ، أَمْ مِنْ ضَمَانِهَا وَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ النَّقْصَ حَصَلَ عِنْدَهَا؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ أَصْدَقَهَا حُلِيًّا فَكَسَرَتْهُ، أَوِ انْكَسَرَ فِي يَدِهَا وَبَطَلَتْ صَنْعَتُهُ، ثُمَّ أَعَادَتِ الْمُنْكَسِرَ حُلِيًّا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، نُظِرَ، إِنْ صَاغَتْهُ عَلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى، فَالْحَاصِلُ زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَنَقْصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى نِصْفِهِ، جَازَ. وَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا، تَعَيَّنَ نِصْفُ الْقِيمَةِ. وَإِنْ عَادَتِ الصَّنْعَةُ بِحَالِهَا، فَهَلْ يَرْجِعُ فِي نِصْفِ الْعَيْنِ بِغَيْرِ رِضَاهَا، أَمْ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَبِهِ قَالَ

ابْنُ الْحَدَّادِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ أَصْدَقَهَا جَارِيَةً فَهَزُلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ، وَفِيمَا لَوْ نَسِيَ الْعَبْدُ الصَّنْعَةَ ثُمَّ تَعَلَّمَهَا. وَلَوْ طَرَأَتْ عَلَى عَيْنِ الْعَبْدِ غِشَاوَةٌ وَكَانَ لَا يُبْصِرُ شَيْئًا، ثُمَّ زَالَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَفِيمَا عُلِّقَ عَنِ الْإِمَامِ، أَنَّ الزَّوْجَ يَرْجِعُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوْ حَدَثَ فِي يَدِهَا عَيْبٌ فَزَالَ ثُمَّ طَلَّقَهَا. وَإِذَا قُلْنَا فِي الْحُلِيِّ: يُعْتَبَرُ رِضَاهَا فَفِيمَا يُرْجَعُ بِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نِصْفُ قِيمَةِ الْحُلِيِّ بِهَيْأَتِهِ الَّتِي كَانَتْ. وَالثَّانِي: مِثْلُ نِصْفِهِ بِالْوَزْنِ تِبْرًا، وَإِلَّا نَصِفُ أُجْرَتِهِ مِثْلُ الصَّنْعَةِ وَهِيَ قِيمَتُهَا، فَعَلَى الْأَوَّلِ، فِيمَا يُقَوَّمُ بِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: بِغَيْرِ جِنْسِهِ، فَالْمُذَهَّبُ بِفِضَّةٍ، وَكَذَا الْعَكْسُ. وَالثَّانِي: يُقَوَّمُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي قِيمَةِ الصَّنْعَةِ، فَفِي وَجْهٍ: يُقَوَّمُ بِغَيْرِ جِنْسِ الْحُلِيِّ، وَفِي وَجْهٍ: بِنَقْدِ الْبَلَدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا سَبَقَ فِي الْغَصْبِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فِي إِنَاءٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، بُنِيَ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِهِ. وَهَلْ لِصَنْعَتِهِ قِيمَةٌ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَلِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ عَادَتِ الصَّنْعَةُ الْأُولَى أَمْ غَيْرُهَا، إِذْ لَا زِيَادَةَ. وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَكَالْحُلِّيِ. وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً فَنَسِيَتْ عِنْدَهُ الْأَلْحَانَ، هَلْ يَرُدُّ مَعَهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا بِنِسْيَانِ الْأَلْحَانِ، أَمْ لَا ; لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَلَا عِبْرَةَ بِفَوَاتِهِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اشْتَرَى مُغَنِّيَةً بِأَلْفَيْنِ، وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا بِلَا غِنَاءٍ، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. أَحَدُهَا: الْبُطْلَانُ ; لِأَنَّهُ بَذْلٌ فِي مُقَابَلَةِ حَرَامٍ، وَبِهِ

فصل

أَفْتَى الْمَحْمُودِيُّ. وَالثَّانِي قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ: إِنْ قَصَدَ بِالشِّرَاءِ الْغَنَاءَ، بَطَلَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّالِثُ: صِحَّةُ الْبَيْعِ قَالَهُ الْأَوْدَنِيُّ، قَالَ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ اسْتِحْسَانٌ. قُلْتُ: وَاخْتَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الصِّحَّةَ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَلَوْ بِيعَتْ بِأَلْفٍ، فَالْبَيْعُ صَحِيحُ بِلَا خِلَافٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ أَصْدَقَ ذِمِّيٌّ خَمْرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا وَتَرَافَعَا إِلَيْنَا، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ، لَمْ نَحْكُمْ لَهَا بِشَيْءٍ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ، حَكَمْنَا بِوُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَلَوْ صَارَتِ الْخَمْرَةُ الْمُصْدَقَةُ فِي يَدِهِ خَلًّا، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدَهُمَا، فَوَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا شَيْءَ لَهَا إِلَّا الْخَلَّ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ; لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَصْلُحُ صَدَاقًا، وَلَا عِبْرَةً بِذِكْرِهَا إِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا قَبَضٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَصِيرًا، فَتَخَمَّرَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ عَادَ خَلًّا، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا، لَزِمَهُ قِيمَةُ الْعَصِيرِ. وَلَوْ قَبَضَتِ الذِّمِّيَّةُ الْخَمْرَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا، فَلَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ وَمَنْعِ إِمْسَاكِ الْخَمْرِ. وَلَوْ صَارَتْ خَلًّا عِنْدَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهَلْ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ إِلَى نِصْفِهِ لِكَوْنِ الْعَيْنِ بَاقِيَةً وَإِنَّمَا تَغَيَّرَتْ صِفَتُهَا، أَمْ لَا تَرْجِعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ مَالًا، وَهُنَا حَدَثَتِ الْمَالِيَّةُ فِي يَدِهَا فَهُوَ كَزِيَادَةٍ مُنْفَصِلَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ تَلِفَ الْخَلُّ أَوْ أَتْلَفَتْهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَوَجْهَانِ. أَصَحَّهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْخِضْرِيِّ: يَرْجِعُ بِمِثْلِ نِصْفِ الْخَلِّ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِيهِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْإِصْدَاقِ وَالْقَبْضِ،

فصل

وَلَا قِيمَةَ لِهَذَا يَوْمَ الْإِصْدَاقِ وَالْقَبْضِ. وَلَوْ أَصْدَقَهَا جِلْدَ مَيْتَةٍ، فَقَبَضَتْهُ وَدَبَغَتْهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَفِي رُجُوعِهِ فِي نِصْفِهِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى تَخَلُّلِ الْخَمْرِ، وَأَوْلَى بِعَدَمِ الرُّجُوعِ ; لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَدَثَتْ بِفِعْلِهَا وَمَعَ التَّرْتِيبِ، فَالْأَصَحُّ الرُّجُوعُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. فَعَلَى هَذَا: إِنْ هَلَكَ الْجِلْدُ عِنْدَهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يَرْجِعُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ هُنَا بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ الْخَلِّ ; لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ وَالْجِلْدُ مُتَقَوَّمٌ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُتَقَوَّمِ إِلَى وَقْتِ الْإِصْدَاقِ وَالْإِقْبَاضِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ حِينَئِذٍ. وَلَوِ ارْتَدَّتْ وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَالْقَوْلُ فِي كُلِّ الْخَلِّ وَكُلِّ الْجِلْدِ، كَالْقَوْلِ فِي النِّصْفِ عِنْدِ الطَّلَاقِ. فَصْلٌ كُلُّ عَمَلٍ جَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، جَازَ جَعْلُهُ صَدَاقًا، وَذَلِكَ كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالصَّنَائِعِ، وَكَالْخِيَاطَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: يُشْتَرَطُ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لِيَصِحَّ صَدَاقًا شَرْطَانِ. أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِالْمَشْرُوطِ، تَعْلِيمُهُ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ. الْأَوَّلُ: بَيَانُ الْقَدْرِ الَّذِي يَعْلَمُهُ بِأَنْ يَقُولَ: كُلُّ الْقُرْآنِ أَوِ السُّبْعُ الْأَوَّلُ أَوِ الْأَخِيرُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ السُّبْعِ. فَإِنْ عُيِّنَ بِالسُّورِ وَالْآيَاتِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجَارَةِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الْخِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا. وَقَطَعَ ابْنُ كَجٍّ هُنَا بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ قَالَ: فَلَوْ شَرَطَ حَرْفَ أَبِي عَمْرٍو، عَلَّمَهَا بِحَرْفِهِ، فَإِنْ عَلَّمَهَا بِحَرْفِ الْكِسَائِيِّ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، أَمْ لَا شَيْءَ لَهُ؟ وَجْهَانِ. وَحَكَى قَوْلَيْنِ فِي أَنَّهَا تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، أَمْ بِقَدَرِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ بِالْحَرْفِ الْمَشْرُوطِ وَالْآخَرِ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَفَاوُتٌ،

لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ثُمَّ قَالَ: وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الِاخْتِلَافِ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: يُعَلِّمُهَا بِحَرْفِ أَبِي عَمْرٍو وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِمَا عَلِمَ. ثُمَّ الْعِلْمُ بِهَذَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا قَدْرَ السُّوَرِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْآيَاتِ، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ: الطَّرِيقُ التَّوْكِيلُ، وَإِلَّا فَيُرَى الْمُصْحَفُ، وَيُقَالُ: تَعَلَّمْ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى هَذَا، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لَا يَكْفِي هَذَا، إِذْ لَا يُعْرَفُ بِهِ صُعُوبَتُهُ وَسُهُولَتُهُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا تَكْفِي الْإِشَارَةُ إِذَا لَمْ يُعَلِّمْهَا فَيَتَعَيَّنُ التَّوْكِيلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: تَقْدِيرُهَا بِالزَّمَانِ، بِأَنْ يَصْدُقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ شَهْرًا، وَيُعَلِّمُهَا فِيهِ مَا شَاءَتْ، كَمَا يَخِيطُ الْأَجِيرُ لِلْخِيَاطَةِ مَا شَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ. فَلَوْ جَمَعَ الطَّرِيقَيْنِ فَقَالَ: تُعَلِّمُهَا فِي شَهْرٍ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْإِجَارَةِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَى تَعْلِيمِهِ قَدْرًا فِي تَعْلِيمِهِ كُلْفَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، بِأَنْ شُرِطَ تَعْلِيمُ لَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ، أَوْ قَدْرٍ يَسِيرٍ وَإِنْ كَانَ آيَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نَظَرَ لَمْ يَصِحَّ الْإِصْدَاقُ وَهُوَ كَبَيْعِ حَبَّةِ حِنْطَةٍ. الثَّانِيَةُ: أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ لِلتَّعْلِيمِ، فَفِي صِحَّةِ الْإِصْدَاقِ وَجْهَانِ، كَنَظِيرِهِ فِي الْإِجَارَةِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ. وَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَدَاءِ شَهَادَةٍ لَهَا عِنْدَهُ، أَوْ نَكَحَ كِتَابِيَّةً عَلَى أَنْ يُلَقِّنَهَا كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ، لَمْ يَصِحَّ الصَّدَاقُ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ.

الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ لَا يُحْسِنُ مَا شُرِطَ تَعْلِيمُهُ، فَإِنِ الْتَزَمَ التَّعْلِيمَ فِي الذِّمَّةِ، جَازَ ثُمَّ يُأْمَرُ بِتَعْلِيمِهَا أَوْ يَتَعَلَّمُ وَيُعَلِّمُهَا. وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ أَنْ يُعْلِمَهَا بِنَفْسِهِ، فَهَلْ يَصِحُّ ثُمَّ يَتَعَلَّمُ وَيُعَلِّمُهَا، أَمْ لَا يَصِحُّ لِعَجْزِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَتَعَلَّمَ ثُمَّ يُعَلِّمَهَا، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْعَمَلَ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِهِ، وَالْأَعْيَانُ لَا تَقْبَلُ التَّأْجِيلَ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ صَحَّحْنَا فَأَمْهَلَتْهُ لِيَتَعَلَّمَ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَهُوَ مُعْسِرٌ بِالصَّدَاقِ. وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ يُعَلِّمُهَا، جَازَ إِنْ كَانَ الْتَزَمَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تُقِيمَ غَيْرَهَا مُتَعَلِّمًا، فَهَلْ يُجْبَرُ الزَّوْجُ كَالْمُسْتَأْجِرِ لِلرُّكُوبِ يَرْكَبُ غَيْرُهُ، أَمْ لَا لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْفَهْمِ وَالْحِفْظِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الثَّانِي، وَخَالَفَهُمُ الْإِمَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ الْإِبْدَالِ مَعَ التَّرَاضِي. وَلَوْ فُرِضَ عَقْدٌ مُجَدِّدٌ، فَأَبْدَلَتْ مَنْفَعَةً بِمَنْفَعَةٍ، جَازَ قَطْعًا. الرَّابِعَةُ: أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ وَلَدِهَا، لَمْ يَصِحَّ الصَّدَاقُ كَمَا لَوْ شَرَطَ الصَّدَاقَ لِوَلَدِهَا. وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ غُلَامِهَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا يَصِحُّ كَالْوَلَدِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يَصِحُّ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا تَعْلِيمُ الْوَلَدِ أَوْ خِتَانِ الْعَبْدِ، فَشَرَطَتْهُ صَدَاقًا، جَازَ. الْخَامِسَةُ: لَوْ تَعَذَّرَ التَّعْلِيمُ، بِأَنْ تَعَلَّمَتْ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ كَانَتْ بَلِيدَةً لَا تَتَعَلَّمُ، أَوْ لَا تَتَعَلَّمُ إِلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ وَيَذْهَبُ الْوَقْتُ فِي تَعْلِيمِهَا فَوْقَ الْعَادَةِ، أَوْ مَاتَتْ أَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَالشَّرْطُ أَنْ يُعَلِّمَ بِنَفْسِهِ، فَفِي الْوَاجِبِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا لَوْ تَلِفَ الصَّدَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ. فَعَلَى الْأَظْهَرِ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَعَلَى الْآخَرِ: أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ. السَّادِسَةُ: قَالَ: عَلَّمْتُكِ وَأَنْكَرَتْ، فَإِذَا لَمْ تُحْسِنْهُ، صَدَقَتْ، وَإِنْ أَحْسَنَتْهُ

وَادَّعَتِ التَّعَلُّمَ مِنْ غَيْرِهِ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ وَجْهَانِ لِتَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ، أَصَحُّهُمَا: هِيَ. السَّابِعَةُ: أَصْدَقَهَا تَعَلُّمَ سُورَةٍ، فَعَلَمَّهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ التَّعْلِيمِ، فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ التَّعْلِيمِ إِنْ دَخَلَ، وَإِلَّا، فَتَعْلِيمُ النِّصْفِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُعَلِّمُهَا وَرَاءَ حِجَابٍ بِغَيْرِ خَلْوَةٍ. وَأَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : أَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ التَّعْلِيمُ ; لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً، وَلَا تُؤْمَنُ مُفْسِدَةٌ. فَعَلَى هَذَا: تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ إِنْ دَخَلَ، وَإِلَّا فَنَصِفُهُ، وَعَلَى الْآخَرِ: تَرْجِعُ بِأُجْرَةِ التَّعْلِيمِ أَوْ نِصْفِهَا. الثَّامِنَةُ: نَكَحَ كِتَابِيَّةً عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ تَوَقَّعَ إِسْلَامَهَا، صَحَّ الصَّدَاقُ، وَإِلَّا فَسَدَ، وَمَالَ جَمَاعَةٌ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا. وَلَوْ نَكَحَ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً عَلَى تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ لِتَبْدِيلِهِ، وَالْوَاجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ قَطْعًا، إِذْ لَا قِيمَةَ لِلْمُسَمَّى. وَلَوْ نَكَحَ ذِمِّيٌّ عَلَى تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ تَرَافَعَا بَعْدَ التَّعْلِيمِ، لَمْ نُوجِبْ شَيْئًا آخَرَ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيمِ، أَوْجَبْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ كَمَا فِي الْخَمْرِ. التَّاسِعَةُ: أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ فِقْهٍ، أَوْ أَدَبٍ أَوْ طِبٍّ أَوْ شِعْرٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، صَحَّ الصَّدَاقُ. وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا كَالْهَجْوِ وَالْفُحْشِ، لَمْ يَصِحَّ. الْعَاشِرَةُ: نَكَحَهَا عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَبْدَهَا الْآبِقَ، أَوْ جَمَلَهَا التَّائِهَ وَكَانَ الْمَوْضِعُ مَعْلُومًا، صَحَّ. وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ كَالْجَعَالَةِ. وَالْمَشْهُورُ: الْمَنْعُ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، بِخِلَافِ الْجَعَالَةِ، فَإِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ احْتُمِلَتِ الْجَهَالَةُ فِيهَا لِلْحَاجَةِ.

فَإِنْ رَدَّهُ، فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ الرَّدِّ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِذَا صَحَّ الصَّدَاقُ، فَطَلَّقَهَا بَعْدَ رَدِّ الْعَبْدِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ، اسْتَرَدَّ مِنْهَا نِصْفَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الرَّدِّ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَعَلَيْهِ الرَّدُّ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَعَلَيْهِ الرَّدُّ إِلَى نِصْفِ الطَّرِيقِ، ثُمَّ يُسَلِّمُهُ إِلَى الْحَاكِمِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا يُمْكِنُ تَرْكُهُ فِيهِ، وَلَمْ يَتَبَرَّعْ بِالرَّدِّ إِلَيْهَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا، وَلَهُ عَلَيْهَا نِصْفُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَلَوْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِرَدِّ غَيْرِهِ، أَوْ رُجُوعُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَوْتِهِ، فَقَدْ فَاتَ الصَّدَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَتَرْجِعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَعَلَى الْآخَرِ: إِلَى أُجْرَةِ الرَّدِّ. الْحَادِيَةُ عَشْرَةُ: نَكَحَهَا عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ مَعْلُومٍ، جَازَ، وَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخِيَاطَةِ إِنِ الْتَزَمَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ نَكَحَ عَلَى أَنْ يَخِيطَ بِنَفْسِهِ، فَعَجَزَ بِأَنْ سَقَطَتْ يَدُهُ أَوْ مَاتَ، فَفِيمَا عَلَيْهِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: أُجْرَةُ الْخِيَاطَةِ. وَلَوْ تَلِفَ ذَلِكَ الثَّوْبُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تَلَفُ الصَّدَاقِ فَيَعُودُ الْقَوْلَانِ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ وَالْأُجْرَةِ. وَالثَّانِي: تَأْتِي بِثَوْبٍ مِثْلِهِ لِيَخِيطَهُ. وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْخِيَاطَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهُ عَلَيْهَا نِصْفُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْخِيَاطَةِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَعَلَيْهِ الْخِيَاطَةُ، وَإِلَّا خَاطَ نِصْفَهُ. فَإِنْ تَعَذَّرَ الضَّبْطُ، عَادَ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَمِ الْأُجْرَةُ؟ الثَّانِيَةُ عَشْرَةُ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا قِصَاصٌ فَنَكَحَهَا، وَجَعَلَ النُّزُولَ عَنِ الْقِصَاصِ صَدَاقًا، جَازَ. وَلَوْ جَعَلَ النُّزُولَ عَنِ الشُّفْعَةِ، أَوْ حَدِّ الْقَذْفِ صَدَاقًا، لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَابَلُ بِمَالٍ، وَلَا يَجُوزُ جَعْلُ طَلَاقِ امْرَأَةٍ صَدَاقًا لِأُخْرَى، وَلَا بُضْعِ أَمَتِهِ صَدَاقُ الْمَنْكُوحَةِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الصَّدَاقِ، أَوْ لَهُ بِنَقْصِهِ، أَوْ لَهُمَا بِهِمَا، لَمْ يَمْلِكِ الزَّوْجُ النِّصْفَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ الرُّجُوعَ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا، وَقَبْلَ أَنْ يَتَوَافَقَا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا وَإِنْ قُلْنَا: الطَّلَاقُ يَشْطُرُ الصَّدَاقَ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهَا الْخِيَارُ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ هُوَ كَخِيَارِ الرُّجُوعِ عَلَى الْهِبَةِ، لَكِنْ إِذَا تَوَجَّهَتْ مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ، لَا تُمَكَّنُ هِيَ مِنَ التَّأْخِيرِ، بَلْ تُكَلَّفُ اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا. وَإِذَا طَلَبَ الزَّوْجُ، فَلَا يُعَيِّنُ فِي طَلَبِهِ الْعَيْنَ وَلَا الْقِيمَةَ ; لِأَنَّ التَّعْيِينَ يُنَاقِضُ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَيْهَا، لَكِنْ يُطَالِبُهَا بِحَقِّهِ عِنْدَهَا، فَإِنِ امْتَنَعَتْ، قَالَ الْإِمَامُ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِحَبْسِهَا لِبَذْلِ الْعَيْنِ أَوِ الْقِيمَةِ، بَلْ يَحْبِسُ الْعَيْنَ عَنْهَا إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَيَمْنَعُهَا مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا ; لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الزَّوْجِ بِالصَّدَاقِ فَوْقَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْمَرْهُونِ وَالْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ. فَإِنْ أَصَرَّتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْقِيمَةِ الْوَاجِبَةِ دُونَ نِصْفِ الْعَيْنِ لِلزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ، بَاعَ مَا يَفِي بِالْوَاجِبِ مِنَ الْقِيمَةِ. فَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي شِرَاءِ الْبَعْضِ، بَاعَ الْكُلَّ وَصَرَفَ الْفَاضِلَ عَنِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبَةِ إِلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ مِثْلَ نِصْفِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبَةِ، وَلَمْ تُؤَثِّرِ الزِّيَادَةُ فِي الْقِيمَةِ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ: تُسَلِّمُ نِصْفَ الْعَيْنِ إِلَيْهِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا سُلِّمَ إِلَيْهِ، أَفَادَ قَضَاؤُهُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ. وَالثَّانِي: لَا تُسَلِّمُ إِلَيْهِ الْعَيْنَ، بَلْ يَبِيعُهُ، فَلَعَلَّهُ يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِيهِ بِزِيَادَةٍ.

فَرْعٌ إِذَا وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْقِيمَةِ بِهَلَاكِ الصَّدَاقِ، أَوْ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهَا، أَوْ زِيَادَةٍ فِيهِ أَوْ نَقْصٍ، فَالْمُعْتَبَرُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ يَوْمِ الْإِصْدَاقِ، وَيَوْمِ الْقَبْضِ. لَكِنْ لَوْ تَلِفَ الصَّدَاقُ فِي يَدِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَقُلْنَا: إِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهَا، اعْتُبِرَتْ قِيمَةُ يَوْمِ التَّلَفِ ; لِأَنَّهُ تَلِفَ مِلْكُهُ تَحْتَ يَدٍ مُضَمَّنَةٍ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّشَطُّرِ بَعْدَ تَصَرُّفِهَا فِي الصَّدَاقِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: إِذَا زَالَ مِلْكُهَا عَنْهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ مَقْبُوضَةٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ نَقْصُ تَصَرُّفِهَا لِطَلَاقِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ، بَلْ زَوَالُ مِلْكِهَا كَالْهَلَاكِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ إِلَى نِصْفٍ بَدَلُهُ وَهُوَ الْمِثْلُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلَّا فَالْقِيمَةُ. وَإِنْ لَمْ يَزُلِ الْمِلْكُ، بَلْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ، بِأَنْ أَوْصَتْ بِهِ، أَوْ وَهَبَتْهُ، أَوْ رَهَنَتْهُ وَلَمْ يَقْبِضْ، فَلِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِهِ. وَفِي «الشَّامِلِ» وَغَيْرِهِ، نَقْلُ قَوْلٍ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي نِصْفِ الْمَوْهُوبِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ، لِئَلَّا يُبْطِلَ تَصَرُّفَهَا فِي مِلْكِهَا، وَحُقُّ هَذَا أَنْ يَطَّرِدَ فِي الرَّهْنِ وَالْوَصِيَّةِ. وَإِنْ بَاعَتْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَطَلَّقَهَا فِي مُدَّتِهِ، فَإِنْ جَعْلَنَا الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ، فَهُوَ كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا رُجُوعَ فِي الْعَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَازِمًا، بِأَنْ رَهَنَتْهُ وَأَقْبَضَتْهُ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى نِصْفِهِ. وَإِنْ أَجَّرَتْهُ، فَقَدْ نَقَصَ الصَّدَاقُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْفَعِتِهِ، فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ رَجَعَ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ إِلَى نِصْفِ الْعَيْنِ مَسْلُوبَةَ

الْمَنْفَعَةِ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ. فَلَوْ قَالَ: أَنَا أَصْبِرُ إِلَى انْفِكَاكِ الرَّهْنِ وَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: أَتَسَلَّمُهُ ثُمَّ أُسَلِّمُهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَتَسَلَّمُهُ وَأَصْبِرُ، فَلَهَا الِامْتِنَاعُ، وَتَدْفَعُ إِلَيْهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ لِمَا عَلَيْهَا مِنْ خَطَرِ الضَّمَانِ، هَذَا إِنْ قُلْنَا: الصَّدَاقُ فِي يَدِهَا مَضْمُونٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا ضَمَانَ أَوْ أَبْرَأَهَا عَنِ الضَّمَانِ وَصَحَّحْنَا الْإِبْرَاءَ، فَهَلْ عَلَيْهَا الْإِجَابَةُ، أَمْ لَا لِأَنَّهُ قَدْ يَبْدُو لَهُ فَيُطَالِبُهَا بِالْقِيمَةِ وَتَخْلُو يَدُهَا عَنْهَا؟ وَجْهَانِ، فَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْإِجَابَةَ وَلَمْ نُطَالِبْهَا حَتَّى انْفَكَّ الرَّهْنُ، وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِالْعَيْنِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، أَمْ تَتَعَيَّنُ الْقِيمَةُ ; لِأَنَّ الْمَانِعَ نَقَلَ حَقَّهُ إِلَيْهَا؟ وَجْهَانِ. وَتَزْوِيجُ جَارِيَةِ الصَّدَاقِ كَالْإِجَارَةِ. وَلَوْ زَالَ مِلْكُهَا وَعَادَ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِالْعَيْنِ أَمْ بِالْقِيمَةِ؟ وَجْهَانِ سَبَقَتْ نَظَائِرُهُمَا فِي الْفَلَسِ وَالْهِبَةِ. أَصَحُّهُمَا هُنَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: التَّعَلُّقُ بِالْعَيْنِ ; لِأَنَّ حَقَّهُ يَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ، فَالْعَيْنُ الْعَائِدَةُ أَوْلَى مِنَ الْبَدَلِ، هَذَا إِذَا زَالَ الْمِلْكُ بِجِهَةٍ لَازِمَةٍ، فَإِنْ زَالَ بِغَيْرٍ لَا زِمٍ، بِأَنْ بَاعَ بِالْخِيَارِ، وَقُلْنَا: يَزُولُ الْمِلْكُ وَفُسِخَ الْبَيْعُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَالْخِلَافُ مُرَتَّبٌ فِي التَّعَلُّقِ بِالْعَيْنِ، وَأَوْلَى بِالثُّبُوتِ. وَلَوْ كَاتَبَتْ عِنْدَ الصَّدَاقِ وَعَجَزَ نَفْسُهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ إِجْرَاؤُهُ مَجْرَى الزَّوَالِ اللَّازِمِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: هَذَا أَوْلَى بِالثُّبُوتِ ; لِأَنَّ الْمَكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُرُوضَ الرَّهْنِ وَزَوَالَهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ لَا يُؤَثِّرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَدَبَّرَتْهُ، ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» أَيْضًا سِوَى جَعْلِ التَّدْبِيرِ وَصِيَّةَ الْأُمِّ تَعْلِيقًا بِصِفَةٍ ; لِأَنَّ التَّدْبِيرَ قُرْبَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ لَا يَتَقَاعَدُ عَنِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ فِي الْقِيمَةِ. وَقِيلَ: فِي الرُّجُوعِ قَوْلَانِ، إِنْ قُلْنَا:

التَّدْبِيرُ وَصِيَّةٌ، رَجَعَ، وَإِلَّا فَلَا. وَقِيلَ: يَرْجِعُ قَطْعًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ مُوسِرَةً تَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْقِيمَةِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ، رَجَعَ إِلَى نِصْفِ الْعَبْدِ قَطْعًا. وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْخِلَافِ فُرُوعٌ. [الْفَرْعُ] الْأَوَّلُ: إِنْ قُلْنَا بِالرُّجُوعِ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَقِلُّ بِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقَدُّمِ رُجُوعِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ الْحَنَّاطِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الرُّجُوعِ وَإِعْطَاءِ الزَّوْجِ النِّصْفَ. فَإِنِ امْتَنَعَتْ، قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهَا فَفَسَخَهُ. الثَّانِي: لَوْ رَجَعَتْ عَنِ التَّدْبِيرِ بِالْقَوْلِ وَجَوَّزْنَاهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَقُلْنَا: التَّدْبِيرُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِتَمَكُّنِهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى نِصْفِهِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَمَا لَوْ دَبَّرَتْهُ ثُمَّ بَاعَتْهُ ثُمَّ مَلَكَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَيَعُودُ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي عَوْدِ الْمِلْكِ بَعْدَ زَوَالِهِ. أَصَحُّهُمَا: التَّمَكُّنُ، وَمَعَ هَذَا التَّمَكُّنِ لَوْ تَرَكَهُ وَطَلَبَ نِصْفَ الْقِيمَةِ، أُجِيبَ إِلَيْهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَقْضِيَ قَاضٍ بِبُطْلَانِ الرُّجُوعِ وَالْبَيْعِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا وَهُوَ مُدَبَّرٌ، وَقُلْنَا: حَقُّ الزَّوْجِ فِي الْقِيمَةِ، فَرَجَعَتْ عَنِ التَّدْبِيرِ بِاللَّفْظِ وَجَوَّزْنَاهُ، أَوْ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ، فَفِي الرُّجُوعِ إِلَى نِصْفِ الْعَبْدِ وَجْهَانِ يَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ طَلَّقَهَا كَالصَّدَاقِ نَاقِصٌ، ثُمَّ زَالَ نَقْصُهُ قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ، وَفِيمَا إِذَا طَلَّقَهَا وَمِلْكُهَا زَائِلٌ عَنِ الصَّدَاقِ، ثُمَّ عَادَ قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ. الثَّالِثُ: لَوْ عَلَّقَتْ عِتْقَ الْعَبْدِ عَلَى صِفَةٍ، فَهَلْ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ؟ قِيلَ: إِنْ قُلْنَا: التَّدْبِيرُ يَمْنَعُ، فَالتَّعْلِيقُ أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ لِقُوَّةِ التَّعْلِيقِ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَمْنَعِ

التَّدْبِيرُ، فَالتَّعْلِيقُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ ; لِأَنَّ التَّدْبِيرَ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ، وَالتَّعْلِيقُ يُرَادُ بِهِ مَنْعٌ أَوْ حَثٌّ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَقَالَ: الْمَذْهَبُ مَنْعُ الرُّجُوعِ. وَلَوْ أَوْصَتْ لِلْعَبْدِ بِعِتْقِهِ، فَهَلْ هُوَ كَالتَّدْبِيرِ فِي مَنْعِ الرُّجُوعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. الرَّابِعُ: إِذَا جَوَّزْنَا لِلزَّوْجِ الرُّجُوعَ فِي النِّصْفِ، فَرَجَعَ، بَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ مُدَبَّرًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ يَنْتَقِضُ التَّدْبِيرُ فِي جَمِيعِهِ. الْخَامِسُ: إِذَا قُلْنَا: التَّدْبِيرُ يَمْنَعُ التَّشَطُّرَ، فَهَلْ يَمْنَعُ رُجُوعَ الْبَائِعِ فِيمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِثَوْبٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ دَبَّرَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بِالثَّوْبِ عَيْبًا؟ وَكَذَا هَلْ يَمْنَعُ رُجُوعَ الْوَاهِبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا بَلْ يَرْجِعُ وَيَنْقَضُّ التَّدْبِيرُ لِقُوَّةِ الْفَسْخِ، وَلِهَذَا الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ تَمْنَعُ التَّشَطُّرَ دُونَ الْفَسْخِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سَبَقَ فِي «كِتَابِ الْحَجِّ» خِلَافٌ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ هَلْ يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ؟ وَهَلْ يَزُولُ مِلْكُهُ إِذَا أَحْرَمَ عَنْ صَيْدِهِ؟ وَهَلْ يَمْلِكُهُ بِالْإِرْثِ؟ فَلَوْ أَصْدَقَهَا صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّتْ، عَادَ الصَّيْدُ إِلَى مِلْكِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ الْوَجْهُ الضَّعِيفُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِرْثِ ; لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ النِّصْفَ يَعُودُ إِلَيْهِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ أَمْ بِاخْتِيَارِهِ؟ إِنْ قُلْنَا: بِاخْتِيَارِهِ فَلَيْسَ لَهُ الِاخْتِيَارُ مَا دَامَ مُحْرِمًا، فَإِنْ فَعَلَ، كَانَ كَشِرَائِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، فَفِي عَوْدِ النِّصْفِ إِلَيْهِ فِي الْإِحْرَامِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا. وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ ; لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِاخْتِيَارِهِ، وَالطَّلَاقُ بِاخْتِيَارِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْعَوْدُ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَنْشَأُ لِاجْتِلَابِ الْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ الْإِرْثَ، ثُمَّ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ الْكُلُّ بِالرِّدَّةِ، لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ ; لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ إِمْسَاكِ الصَّيْدِ، كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ ذَكَرْنَاهُ فِي «الْحَجِّ» ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَرِثُ الصَّيْدَ،

وَحَكَيْنَا عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ الْإِرْثِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ. وَإِذَا عَادَ النِّصْفُ بِالطَّلَاقِ، وَقُلْنَا: يَجِبُ الْإِرْسَالُ وَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ، فَلَا يُمْكِنُ إِرْسَالُ النِّصْفِ إِلَّا بِإِرْسَالِ الْكُلِّ، فَخَرَّجَ مُخَرِّجُونَ وُجُوبَ الْإِرْسَالِ عَلَى الْأَقْوَالِ فِي ازْدِحَامِ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَحَقِّ الْآدَمِيِّ. إِنْ قَدَّمْنَا حَقَّ اللَّهِ، تَعَالَى، لَزِمَهُ الْإِرْسَالُ وَغُرِّمَ لَهَا نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَإِنْ قَدَّمْنَا حَقَّ الْآدَمِيِّ، لَمْ يَجِبِ الْإِرْسَالُ. فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ أَوْ يَدِهَا، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْجَزَاءِ. وَإِنْ سَوَّيْنَا، فَالْخِيرَةُ إِلَيْهِمَا. فَإِنِ اخْتَارَ الْإِرْسَالَ، غُرِّمَ لَهَا النِّصْفَ، وَإِلَّا بَقِيَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا وَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ الْجَزَاءِ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الِازْدِحَامِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، كَالتَّرِكَةِ إِذَا ازْدَحَمَ فِيهَا دَيْنٌ وَزَكَاةٌ، وَنَصِيبُ الْمَرْأَةِ لَا ازْدِحَامَ فِيهِ. وَإِذَا تَضَمَّنَ إِرْسَالُ الْمُحْرِمِ فَوَاتَ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَعَلَى التَّخْرِيجِ يَنْبَغِي أَنْ يَخُصَّ وُجُوبَ الْإِرْسَالِ بِالْمُوسِرِ كَسَرَايَةِ الْعِتْقِ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِيمَا إِذَا وَهَبَتْهُ الصَّدَاقَ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَنُصَدِّرُهُ بِقَاعِدَتَيْنِ مُسْتَمَدَّتَيْنِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ، تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [الْبَقَرَةِ: 237] . وَمَعْنَى الْآيَةِ، أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُنَصِّفُ الصَّدَاقَ، إِلَّا أَنْ تَعْفُوَ الزَّوْجَةُ وَتَتَبَرَّعَ بِحَقِّهَا، فَيَعُودُ جَمِيعُ الصَّدَاقِ إِلَى الزَّوْجِ. وَفِيمَنْ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: أَنَّهُ الْوَلِيُّ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تَعْفُوَ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ هِيَ أَهْلًا لِلْعَفْوِ. وَالْجَدِيدُ: أَنَّهُ الزَّوْجُ، وَالْمَعْنَى: أَنْ يَعْفُوَ الزَّوْجُ عَنْ حَقِّهِ فَيَخْلُصَ لَهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ. الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: فِي أَلْفَاظِ التَّبَرُّعِ. فَالْوَاجِبُ عِنْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، دَيْنٌ أَوْ عَيْنٌ، وَالدَّيْنُ قَدْ يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي ذِمَّتِهَا بِأَنْ قَبَضَتْهُ وَتَلِفَ

عِنْدَهَا، فَيُنْظَرُ، إِنْ تَبَرَّعَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ بِإِسْقَاطِهِ، نُفِّذَ بِلَفْظِ الْعَفْوِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْإِسْقَاطِ وَالتَّرْكِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ لَفْظَ التَّرْكِ، صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ؟ وَلَا حَاجَةَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِلَى قَبُولِ مَنْ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُنَفَّذُ أَيْضًا بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَفِيهِمَا وَجْهٌ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَهَلْ يَفْتَقِرُ اللَّفْظَانِ إِلَى الْقَبُولِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ اعْتِمَادًا عَلَى حَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْإِسْقَاطُ. أَمَّا إِذَا تَبَرَّعَ مَنْ فِي ذِمَّتِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ، فَالطَّرِيقُ أَنْ يَنْقِلَ وَيَمْلِكَهُ وَيَقْبَلَهُ صَاحِبُهُ وَيَقْبِضَهُ، فَإِنَّهُ ابْتِدَاءُ هِبَةٍ، وَلَا يَنْتَظِمُ لَفْظُ الْعَفْوِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْ جِهَتِهِ. لَكِنْ لَوْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَقُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ، فَقَالَ: عَفَوْتُ، سَقَطَ اخْتِيَارُهُ كَعَفْوِهِ عَنِ الشُّفْعَةِ، وَيَبْقَى جَمِيعُ الصَّدَاقِ لَهَا فِي ذِمَّتِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ عَيْنًا، فَالتَّبَرُّعُ فِيهَا هِبَةٌ. فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُتَبَرِّعِ، اشْتُرِطَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَالْقَبْضُ. وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْآخَرِ، فَهُوَ هِبَةٌ لِمَنِ الْمَالُ فِي يَدِهِ، فَتُعْتَبَرُ مُدَّةُ إِمْكَانِ الْقَبْضِ. وَفِي افْتِقَارِهِ إِلَى إِذْنٍ جَدِيدٍ، فِي الْقَبْضِ بِهَذِهِ الْجِهَةِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي (كِتَابِ الرَّهْنِ) . وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ عِنْدَ الطَّلَاقِ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ قَبْضِهَا، وَقَدْ يَكُونُ بِاسْتِمْرَارِ يَدِهِ السَّابِقَةِ قَبْلَ الْإِصْدَاقِ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي، يَزِيدُ النَّظَرُ فِي أَنَّ تَبَرُّعَهَا كَهِبَةِ الْمَبِيعِ لِلْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا قُلْنَا: الصَّدَاقُ فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ ضَمَانَ الْعُقُودِ، ثُمَّ التَّبَرُّعُ فِي الْعَيْنِ يُنَفَّذُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَلَا يُنَفَّذُ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَالْإِسْقَاطِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِيهِمَا وَجْهَيْنِ. وَيُنَفَّذُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ عَلَى الْأَصَحِّ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، هَذَا فِي تَبَرُّعِهَا وَتَبَرُّعِهِ

فصل

إِذَا مَلَّكْنَاهُ بِنِصْفِ الطَّلَاقِ، فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَهُ خِيَارُ التَّمَلُّكِ، فَيُعْتَبَرُ لَفْظُ الْعَفْوِ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَيَبْقَى الْجَمِيعُ لَهَا. الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ لِلْوَلِيِّ الْعَفُوُّ عَنْ صَدَاقِهَا؟ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ؟ الْجَدِيدُ: الْمَنْعُ، وَالْقَدِيمُ: الْجَوَازُ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ. أَنْ يَكُونَ أَبًا أَوْ جَدًّا، وَأَنْ تَكُونَ بِكْرًا عَاقِلَةً صَغِيرَةً، وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ دَيْنًا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَدِيمِ. وَفِي وَجْهٍ: لَهُ الْعَفْوُ فِي الثَّيِّبِ وَالْمَجْنُونَةِ وَالْبَالِغَةِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهَا وَالرَّشِيدَةِ، وَقَبْلَ الطَّلَاقِ إِذَا رَآهُ مَصْلَحَةً، وَعَنِ الْعَيْنِ أَيْضًا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ زَوَّجَهَا الْأَبُ وَمَاتَ، فَفِي صِحَّةِ عَفْوِ الْجَدِّ وَجْهَانِ ; لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ لَكِنَّهُ وَلِيٌّ. وَلَوْ خَلَعَهَا الْوَلِيُّ عَلَى نِصْفِ الصَّدَاقِ وَجَوَّزْنَا الْعَفْوَ، صَحَّتِ الْمُخَالَعَةُ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ. وَفِي الْوَسِيطِ فِي صِحَّةِ الْخُلْعِ مَعَ صِحَّةِ الْعَفْوِ وَجْهَانِ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. فَصْلٌ وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا الصَّدَاقَ الْمُعَيَّنَ، فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَدِيمُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْجَدِيدِ وَالرَّاجِحُ [عِنْدَ الْبَغَوِيِّ] أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالْإِمَامُ، وَالرُّويَانِيُّ: يَرْجِعُ بِنِصْفِ بَدَلِهِ الْمِثْلِ [أَ] وَالْقِيمَةِ. وَقِيلَ: إِنْ وَهَبَتْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، لَمْ

يَرْجِعْ قَطْعًا. وَالْمَذْهَبُ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ، سَوَاءٌ قَبَضَتْهُ أَمْ لَا. وَلَوْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا فَأَبْرَأَتْهُ مِنْهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ وَهَبَتْ لَهُ الدَّيْنَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَالْإِبْرَاءِ. وَقِيلَ: كَهِبَةِ الْعَيْنِ. وَلَوْ قَبَضَتْ مِنْهُ الدَّيْنَ ثُمَّ وَهَبَتْهُ لَهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَكَهِبَةِ الْعَيْنِ. وَقِيلَ: لَهُ الرُّجُوعُ قَطْعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيمَا دُفِعَ عَنِ الدَّيْنِ لَوْ طَلَّقَهَا وَهُوَ بَاقٍ عِنْدَهَا. وَلَوْ وَهَبَتِ الصَّدَاقَ، ثُمَّ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا بِعَيْبٍ، فَفِي الرُّجُوعِ بِالْجَمِيعِ مِثْلُ الْخِلَافِ فِي النِّصْفِ إِذَا طَلَّقَ. وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ، وَوَهَبَ الْجَارِيَةَ لِبَائِعِهَا، ثُمَّ وَجَدَ بَائِعُهَا بِالْعَبْدِ [عَيْبًا] فَأَرَادَ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَفِي تَمَكُّنِهِ مِنْهُ وَمِنَ الْمُطَالَبَةِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَجْهَانِ مَأْخُوذَانِ مِنْ هِبَةِ الصَّدَاقِ، وَيَجْرِيَانِ فِي تَمَكُّنِهِ [مِنْ] طَلَبِ الْأَرْشِ لَوْ رَأَى عَيْبًا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ، أَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الرَّدَّ. وَفِيمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَكَاتَبُ عَنِ النُّجُومِ وَعَتَقَ، هَلْ [لَهُ] مُطَالَبَةُ السَّيِّدِ بِالْإِيتَاءِ؟ وَلَوْ وَهَبَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ، ثُمَّ أَفْلَسَ بِالثَّمَنِ، فَلِلْبَائِعِ الْمُضَارَبَةُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ الثَّمَنُ. وَفِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، الْمَوْهُوبُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ، فَالْهِبَةُ تَعْجِيلٌ عَلَى قَوْلٍ. وَطَرَدَ الْحَنَّاطِيُّ الْخِلَافَ فِي مَسْأَلَةِ الْفَلَسِ. وَلَوِ ادَّعَى عَيْنًا وَأَخَذَهَا بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ وَهَبَهَا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ وَقُلْنَا بِتَغْرِيمِ شُهُودِ الْمَالِ، فَهَلْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَغْرِيمُ الشُّهُودِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ أَخْذًا مِنْ هِبَةِ الصَّدَاقِ. وَالثَّانِي:

الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ ; لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَقُولُ بِحُصُولِ الْمِلْكِ بِالْهِبَةِ، بَلْ يَزْعُمُ دَوَامَ الْمِلْكِ السَّابِقِ، وَفِي الصَّدَاقِ زَالَ الْمِلْكُ حَقِيقَةً وَعَادَ بِالْهِبَةِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ وَهَبَتِ الصَّدَاقَ لِلزَّوْجِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَهَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ مُسْتَحَقِّهِ بِالطَّلَاقِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: فَسَادُ الْهِبَةِ وَيَبْقَى الصَّدَاقُ مِلْكًا لَهَا. فَإِنْ طَلَّقَ، تَشَطَّرَ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَلَا رُجُوعَ بِالطَّلَاقِ، كَمَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ، وَلْيَكُنِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَيْنِ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ الْمُطْلَقَةَ هَلْ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ؟ إِنْ قُلْنَا: تَمْنَعُ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضَاهَا، فَيَصِحُّ وَلَا رُجُوعَ، وَإِلَّا فَتَفْسَدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ. فَرْعٌ وَهَبَتْهُ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَإِنْ قُلْنَا: هِبَةُ الْكُلِّ لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فَهُنَا أَوْلَى وَإِلَى مَاذَا يَرْجِعُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: إِلَى نِصْفِ الْبَاقِي وَرُبْعِ بَدَلِ الْجُمْلَةِ. وَالثَّانِي: إِلَى نِصْفِ الْبَاقِي. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ بَدَلَ نِصْفِ الْجُمْلَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْبَاقِي وَرُبْعَ بَدَلِ الْجُمْلَةِ. وَإِنْ قُلْنَا:

فصل

هِبَةُ الْكُلِّ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي، أَمْ بِنِصْفِ الْبَاقِي، أَمْ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: الثَّالِثُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي (الْمُخْتَصَرِ) ، فَحَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ. وَلَوْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ نِصْفِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ قُلْنَا: لَوْ أَبْرَأَتْ عَنِ الْجَمِيعِ يَرْجِعُ، فَهُنَا يَسْقُطُ عَنْهُ النِّصْفُ الْبَاقِي. وَ [أَيْضًا] إِنْ قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، فَهُنَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُحْسَبُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يَسْقُطُ عَنْهُ النِّصْفُ الْبَاقِي. وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي عَنْ نِصْفِ الثَّمَنِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا وَأَرَادَ رَدَّهُ، فَحُكْمُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ. وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ عُشْرِ الثَّمَنِ، وَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ، وَحَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ، وَأَرْشُ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ الْعُشْرُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُطَالِبُ بِالْأَرْشِ. فَصْلٌ خَالَعَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِ الصَّدَاقِ، فَلَهُ الْمُسَمَّى وَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى جَمِيعِ الصَّدَاقِ، فَقَدْ خَالَعَ عَلَى مَالِهِ وَمَالِهَا، لِعَوْدِ النِّصْفِ إِلَيْهِ بِالْخُلْعِ، فَتَقَعُ الْبَيْنُونَةُ وَتَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ فِي نَصِيبِهِ، وَفِي نَصِيبِهَا قَوْلًا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ. إِنْ لَمْ نُصَحِّحْ، بَقِيَ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ. وَفِيمَا لَهُ عَلَيْهَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: مِثْلُ الصَّدَاقِ أَوْ قِيمَتُهُ. وَإِنْ صَحَّحْنَا التَّسْمِيَةَ فِي نَصِيبِهَا، قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ إِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّشْطِيرِ وَالتَّفْرِيقِ. فَإِنْ فَسَخَ، عَادَ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَمْ بَدَلِ الْمُسَمَّى. وَإِنْ جَازَ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ

الْمَذْكُورِينَ فِي الْبَيْعِ، أَنْ يُجْبِرَ مَا صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ، أَمْ بِالْقِسْطِ إِنْ قُلْنَا: بِالْكُلِّ، فَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى النِّصْفِ الَّذِي صَحَّ الْخُلْعُ فِيهِ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالْقِسْطِ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَعَلَى الْآخَرِ: بِمِثْلِ نِصْفِ الصَّدَاقِ أَوْ قِيمَتِهِ. وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى نِصْفِ الصَّدَاقِ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: بِالنِّصْفِ الْبَاقِي لَكِ بَعْدَ الْفِرَاقِ، صَحَّ وَبَرِئَ عَنْ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إِنْ كَانَ دَيْنًا، وَيَعُودُ إِلَيْهِ الْمِلْكُ فِي جَمِيعِهِ إِنْ كَانَ عَيْنًا. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي النِّصْفِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ نِصْفَيْنِ، هَلْ يُنَزَّلُ عَلَى النِّصْفِ الَّذِي لَهُ، أَمْ يَشِيعُ أَحَدُهُمَا يُنَزَّلُ عَلَى نَصِيبِهِمَا وَيَكُونُ كَمَا لَوْ قَيَّدَ بِنِصْفِهَا؟ وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يَشِيعُ لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَكَأَنَّهُ خَالَعَ عَلَى نِصْفِ نَصِيبِهَا وَنِصْفِ نَصِيبِهِ، فَيَبْطُلُ فِي نِصْفِ نَصِيبِهِ، وَفِي نَصِيبِهَا الْقَوْلَانِ. إِنْ لَمْ يَصِحَّ، بَقِيَ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَمِثْلُ نِصْفِ الصَّدَاقِ أَوْ قِيمَتِهِ فِي الْآخَرِ. وَإِنْ صَحَّ فِي نِصْفِ نَصِيبِهَا، فَلَهَا عَلَيْهِ رُبْعُ الصَّدَاقِ وَيَسْقُطُ الْبَاقِي بِحُكْمِ التَّشَطُّرِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ، ثُمَّ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ لِعِوَضِ الْخُلْعَ إِلَّا الرُّبْعَ الَّذِي صَحَّ الْخُلْعُ فِيهِ. وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّ لَهُ مَعَ ذَلِكَ نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَرُبْعَ مِثْلِ الصَّدَاقِ أَوْ قِيمَتِهِ عَلَى قَوْلٍ. وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يَقُولُ: كُلُّ الصَّدَاقِ لَهَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَيَصِحُّ أَنْ نَجْعَلَهُ أَوْ بَعْضَهُ عِوَضًا، ثُمَّ إِذَا تَفَرَّقَا بِالْخُلْعِ، سَقَطَ النِّصْفُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَيْنٍ وَتَلِفَ نِصْفُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي قَوْلٍ، وَبَدَلِ التَّالِفِ فِي قَوْلٍ.

فَرْعٌ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى أَنْ لَا تَبِعَةَ لَكَ عَلَيَّ فِي الْمَهْرِ صَحَّ. وَمَعْنَاهُ: عَلَى مَا سَلَّمَ [لِي] مِنَ الْمَهْرِ. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْمُتْعَةِ. هِيَ اسْمٌ لِلْمَالِ الَّذِي يَدْفَعُهُ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ لِمُفَارَقَتِهِ إِيَّاهَا، وَالْفُرْقَةُ ضَرْبَانِ. فُرْقَةٌ تَحْصُلُ بِالْمَوْتِ، فَلَا تُوجِبُ مُتْعَةً بِالْإِجْمَاعِ، وَفُرْقَةٌ تَحْصُلُ فِي الْحَيَاةِ كَالطَّلَاقِ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَشْطُرِ الْمَهْرَ، فَلَهَا الْمُتْعَةُ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْمُتْعَةُ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ. وَكُلُّ فُرْقَةٍ مِنَ الزَّوْجِ لَا بِسَبَبٍ فِيهَا، أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، فَكَالطَّلَاقِ، مِثْلَ إِنِ ارْتَدَّ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ لَاعَنَ، أَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَفَارَقَ بَعْضَهُنَّ، أَوْ وَطِئَ أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ زَوْجَتَهُ بِشُبْهَةٍ، أَوْ أَرْضَعَتْ أَمُّهُ أَوْ بِنْتُهُ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ، وَالْخُلْعُ كَالطَّلَاقِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ فَوَّضَ الطَّلَاقَ إِلَيْهَا فَطَلَّقَتْ فَكَتَطْلِيقِهِ. وَلَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِهَا، فَفَعَلَتْ، أَوْ آلَى مِنْهَا، ثُمَّ طَلَّقَ بَعْدَ الْمُدَّةِ بِطَلَبِهَا، فَكَالطَّلَاقِ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: وَيَجِيءُ هَذَا الْوَجْهُ فِي تَطْلِيقِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

وَلَوِ ارْتَدَّا مَعًا، فَلَا مُتْعَةَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَكُلُّ فُرْقَةٍ مِنْهَا أَوْ لِسَبَبٍ فِيهَا، لَا مُتْعَةَ فِيهَا، كَرِدَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا، وَفَسْخِهَا بِإِعْسَارِهِ، أَوْ عِتْقِهَا، أَوْ تَغْرِيرِهِ، أَوْ عَيْبِهِ، أَوْ فَسْخِهِ بِعَيْبِهَا. وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ إِثْبَاتَ الْمُتْعَةِ إِذَا فَسَخَتْ بِالتَّعْيِينِ، فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا آخَرَ، وَأَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ. وَلَوْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً صَغِيرَةً تَحْتَ ذِمِّيٍّ، فَأَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهَا وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، فَلَا مُتْعَةَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ بِنَفْسِهَا. وَلَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ، فَلَا مُتْعَةَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنِ اسْتَدْعَاهُ الزَّوْجُ، وَجَبَ، وَإِنِ اسْتَدْعَاهُ السَّيِّدُ فَلَا. فَرْعٌ يُسَوَّى فِي الْمُتْعَةِ، الْمُسْلِمُ، وَالذِّمِّيُّ، وَالْحُرُّ، وَالْعَبْدُ، وَالْحُرَّةُ، وَالذِّمِّيَّةُ، وَهِيَ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ، وَلِسَيِّدِ الْأَمَةِ كَالْمَهْرِ. فَصْلٌ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُمَتِّعَهَا ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَفِي الْقَدِيمِ: ثَوْبًا قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا. وَفِي نَصٍّ آخَرَ: يُمَتِّعُهَا خَادِمًا، وَإِلَّا فَمِقْنَعَةً، وَإِلَّا فَبِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَلَيْسَ هُوَ اخْتِلَافًا، بَلْ نَزَّلَهَا الْأَصْحَابُ عَلَى دَرَجَاتِ الِاسْتِحْبَابِ وَقَالُوا: أَقَلُّ الْمُسْتَحَبِّ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا. وَفِي نَصٍّ آخَرَ: يُمَتِّعُهَا بِخَادِمٍ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَبِمِقْنَعَةٍ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا. وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا، فَبِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا. وَأَمَّا الْوَاجِبُ، فَإِنْ تَرَاضَيَا بِشَيْءٍ، فَذَاكَ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُحَلِّلَ كُلٌّ مِنْهُمَا

صَاحِبَهُ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَا، لَمْ يَبْرَأِ الزَّوْجُ، وَلَهَا رَفْعُ الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي لِيُقَدِّرَهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ تَنَازَعَا، فَهَلْ يَكْفِي أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ، أَمْ يُقَدِّرُهُ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الثَّانِي. وَهَلْ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِ، أَمْ بِحَالِهَا، أَمْ بِحَالِهِمَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تُزَادَ الْمُتْعَةُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِهَا، أَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا تَزِيدَ، أَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا تَبْلُغَ نِصْفَهُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ، لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. الْبَابُ السَّادِسُ فِي النِّزَاعِ فِي الصَّدَاقِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ أَوْ صِفَتِهِ، كَالصِّحَّةِ وَالتَّكَسُّرِ، وَالْأَجَلِ وَقَدْرِهِ، تَحَالَفَا كَالْبَيْعِ، سَوَاءٌ اخْتَلَفَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوِ اخْتَلَفَ وَارِثَاهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا وَوَارِثُ الْآخَرِ، وَيَحْلِفُ الزَّوْجَانِ عَلَى الْبَتِّ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَيَحْلِفُ الْوَارِثُ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى الْبَتِّ، وَفِي النَّفْيِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: يَحْلِفُ فِيهِ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّ النِّكَاحَ جَرَى بِخَمْسِمِائَةٍ، فَهُوَ قَاطِعٌ بِأَنَّهُ مَا جَرَى بِأَلْفٍ. فَإِذَا ثَبَتَ جَرَيَانُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: لَا أَعْلَمُهُ نَكَحَ بِأَلْفٍ. وَكَيْفِيَّةُ الْيَمِينِ وَمَنْ يَبْدَأُ بِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ. فَإِذَا تَحَالَفَا، فُسِخَ الصَّدَاقُ وَرَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَيْعِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ، فَلْيَجِئْ هُنَا مِثْلُهُ، وَلْيَكُنْ

الْقَوْلُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْفَسْخَ وَفِي الِانْفِسَاخِ بَاطِنًا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِجَمِيعِ هَذَا الْحَنَّاطِيُّ، وَسَوَاءٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، زَادَ عَلَى مَا تَدَّعِيهِ الْمَرْأَةُ أَمْ لَا. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ وَابْنُ الْوَكِيلِ: إِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ زَائِدًا فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا مَا ادَّعَتْهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. هَذَا فِي الظَّاهِرِ، أَمَّا فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، لَمْ يَخْفَ مَا يَحِلُّ لَهَا. الثَّانِيَةُ: ادَّعَتْ مُسَمًّى، فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ أَصْلَ التَّسْمِيَةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَتَحَالَفَانِ لِأَنْ يَقُولَ: الْوَاجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهِيَ تَدَّعِي الْمُسَمَّى، فَحَاصِلُهُ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ، فَيَتَحَالَفَانِ. وَإِنَّمَا يَحْسُنُ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ إِذَا كَانَ مَا تَدَّعِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَلَوْ أَنْكَرَتْ تَسْمِيَةَ مَهْرٍ وَادَّعَاهَا الزَّوْجُ، فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُهَا، أَمْ يَتَحَالَفَانِ؟ الْقِيَاسُ مَجِيءُ الْوَجْهَيْنِ. وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّفْوِيضَ، وَالْآخَرُ التَّسْمِيَةَ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْمَهْرَ فِي التَّفْوِيضِ بِالْعَقْدِ، فَهُوَ كَمَا لَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا السُّكُوتَ، وَالْآخَرُ التَّسْمِيَةَ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّسْمِيَةِ مِنْ جَانِبٍ، وَعَدَمُ التَّفْوِيضِ مِنْ جَانِبٍ. وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّفْوِيضَ وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلْمَهْرِ ذِكْرٌ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الثَّانِي. الثَّالِثَةُ: إِذَا حَكَمْنَا بِالتَّحَالُفِ، فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ، حَكَمْنَا لِلْحَالِفِ. وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً، حَكَمْنَا بِهَا. وَلَوْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِبَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الزِّيَادَةِ. وَالثَّانِي: يَتَعَارَضَانِ إِذَا قُلْنَا بِالتَّسَاقُطِ، فَكَأَنَّ لَا بَيِّنَةَ، فَيَتَحَالَفَانِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْقُرْعَةِ، فَهَلْ يَحْتَاجُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ إِلَى الْيَمِينِ؟ وَجْهَانِ. الرَّابِعَةُ: ادَّعَتِ النِّكَاحَ وَمَهْرَ الْمِثْلِ، وَاعْتَرَفَ الزَّوْجُ بِالنِّكَاحِ وَأَنْكَرَ الْمَهْرَ، أَوْ سَكَتَ عَنْهُ وَلَمْ يَدَّعِ التَّفْوِيضَ وَلَا إِخْلَاءَ النِّكَاحِ عَنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ، حَكَى

الْغَزَالِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا وَيُنْسَبُ إِلَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ: يَثْبُتُ لَهَا الْمَهْرُ إِذَا حَلَفَتْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا، فَإِنَّ النِّكَاحَ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَةٌ صَحِيحَةٌ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَهْرُ مِثْلِهَا بِيَمِينِهَا، بَلْ يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْكِحُهَا بِأَقَلِّ مَا يُتَمَوَّلُ، وَهَذَا الَّذِي فَرَضَهُ لَا يَكَادُ يُتَصَوَّرُ، فَإِنَّ التَّحَالُفَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى إِثْبَاتِ مَا يَزْعُمُهُ، وَنَفْيِ مَا زَعَمَهُ صَاحِبُهُ. وَالْمَفْرُوضُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ إِنْكَارٌ مُطْلَقٌ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَالُفِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الرُّويَانِيُّ الْخِلَافَ هَكَذَا، بَلْ قَالَ: قَالَ مَشَايِخُ طَبَرِسْتَانَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ إِنْكَارُهُ لِاعْتِرَافِهِ بِمَا يَقْتَضِي الْمَهْرَ، وَلَكِنْ يُكَلَّفُ الْبَيَانَ. فَإِنْ ذَكَرَ قَدْرًا وَادَّعَتْ زِيَادَةً، تَحَالَفَا. وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْإِنْكَارِ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا وَقُضِيَ لَهَا بِهَا. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُحَقِّقِينَ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ يُفْتُونَ بِهَذَا، وَهُوَ الْقَدِيمُ. وَلَوِ ادَّعَتْ زَوْجِيَّةً وَمَهْرًا مُسَمًّى يُسَاوِي مَهْرَ الْمِثْلِ، وَقَالَ الزَّوْجُ: لَا أَدْرِي، أَوْ سَكَتَ، قَالَ الْإِمَامُ: ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا لِمَا سَبَقَ أَنَّ النِّكَاحَ اقْتَضَى مَهْرَ الْمِثْلِ. قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، أَنَّ دَعْوَاهَا مُتَوَجِّهَةٌ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ التَّرَدُّدُ، بَلْ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ مَا تَدَّعِيهِ. فَإِنْ نَكَلَ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا وَقُضِيَ بِيَمِينِهَا. ثُمَّ حُكِيَ عَنِ الْقَاضِي عَلَى قِيَاسِ الْوَجْهِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذَا ابْنِي مِنْ فُلَانَةَ، اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ مَهْرَ الْمِثْلِ إِذَا حَلَفَتْ؛ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِالْوَطْءِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ اسْتِدْخَالَ الْمَاءِ بَعِيدٌ، وَالْوَطْءَ الْمُحَرَّمَ [هُوَ] الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُ الْوَلَدُ النَّسِيبُ ظَاهِرًا، وَهُوَ يَقْتَضِي الْمَهْرَ. وَقِيَاسُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ إِذَا أَنْكَرَ مَا ادَّعَتْهُ. فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْإِنْكَارِ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا.

فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَادَّعَتْ عَلَى الْوَارِثِ أَنَّ الزَّوْجَ سَمَّى لَهَا أَلْفًا، فَقَالَ الْوَارِثُ: لَا أَعْلَمُ كَمْ سَمَّى، لَمْ يَتَحَالَفَا، بَلْ يَحْلِفُ الْوَارِثُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. فَإِذَا حَلَفَ، قُضِيَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ مُشْكِلٌ عَلَى قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، قَالَ: وَالْقِيَاسُ أَنْ يُحْكَمَ بِانْقِطَاعِ الْخُصُومَةِ، يَحْلِفُ الْوَارِثُ، وَالْقَدْرُ الثَّابِتُ عَلَى قَطْعٍ هُوَ أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ، وَالْمُخْتَارُ بَلِ الصَّوَابُ قَوْلُ الْمُتَوَلِّي وَالْقَاضِي، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ قَبْلَهُمَا الْقَفَّالُ شَيْخُ طَرِيقَةِ خُرَاسَانَ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ «الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ» ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَصْحَابِ خِلَافًا، وَدَلِيلُهُ أَنَّ تَعَذُّرَ مُعَرَّفَةِ الْمُسَمَّى، كَعَدَمِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَلِهَذَا نُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ فِي التَّحَالُفِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَوَلِيُّ الصَّغِيرَةِ أَوِ الْمَجْنُونَةِ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَهَا بِأَلْفَيْنِ، فَقَالَ: بَلْ بِأَلْفٍ. فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ: يَتَحَالَفَانِ. وَالثَّانِي: لَا، فَعَلَى هَذَا تُوقَفُ إِلَى بُلُوغِهَا فَيَتَحَالَفَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ الزَّوْجُ، وَيُوقَفَ يَمِينُهَا إِلَى بُلُوغِهَا. وَإِذْ قُلْنَا: يَحْلِفُ الْوَلِيُّ، فَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالزَّوْجُ مُعْتَرِفٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَأَمَّا إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ نِكَاحَهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلَا تَحَالُفَ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ نَقَصَ الْوَلِيُّ. وَلَوْ ذَكَرَ الزَّوْجُ قَدْرًا يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَادَّعَى الْوَلِيُّ زِيَادَةً عَلَيْهِ، لَمْ يَتَحَالَفَا كَيْلَا يَرْجِعَ الْوَاجِبُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، بَلْ يَأْخُذُ الْوَلِيُّ مَا يَقُولُهُ الزَّوْجُ. وَلَوِ ادَّعَى الْوَلِيُّ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ

أَكْثَرَ، وَذَكَرَ الزَّوْجُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَهَلْ يَتَحَالَفَانِ، أَمْ يُؤْخَذُ بِمَا قَالَهُ الزَّوْجُ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ، وَهَذَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجِ وَوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ، يَجْرِي فِي اخْتِلَافِ الْمَرْأَةِ وَوَلِيِّ الزَّوْجِ الصَّغِيرِ، وَفِيمَا إِذَا اخْتَلَفَ وَلِيَّا الزَّوْجَيْنِ الصَّغِيرَيْنِ. وَلَوْ بَلَغَتِ الصَّغِيرَةُ قَبْلَ التَّحَالُفِ، حَلَفَتْ هِيَ وَلَا يَحْلِفُ الْوَلِيُّ. وَادَّعَى الْبَغَوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. وَلَوِ اخْتَلَفَ وَلِيُّ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ وَزَوْجُهَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحْلِفُ. وَقِيلَ: يَحْلِفُ الْوَلِيُّ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا لَا يُسَلِّمُ فِي الصَّغِيرَةِ إِذَا بَلَغَتْ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهَا. وَالْخِلَافُ فِي حَلِفِ الْوَلِيِّ يَجْرِي فِي الْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ، وَفِي وَكِيلِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي، وَوَكِيلِ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ، وَفِي وَكِيلَيْهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَتَّبَ وَقَالَ: إِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْوَلِيُّ، فَالْوَكِيلُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ لِقُوَّةِ الْوِلَايَةِ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: يَحْلِفُ الْوَلِيُّ فَنَكَلَ، فَهَلْ يُقْضَى بِيَمِينِ صَاحِبِهِ، أَمْ يُوقَفُ حَتَّى تَبْلُغَ الصَّبِيَّةُ وَتَفِيقَ الْمَجْنُونَةُ فَلَعَلَّهَا تَحْلِفُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا الْحَنَّاطِيُّ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِنْشَاءِ الْوَلِيِّ، أَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، بِأَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ الطِّفْلِ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَنَكَلَ، فَهَلْ يَحْلِفُ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ إِتْمَامًا لِلْخُصُومَةِ وَاسْتِخْلَاصًا لِحَقِّ الصَّبِيِّ، أَمْ لَا لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِإِنْشَائِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَعَلَى هَذَا لَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ. وَفِي وَجْهٍ: لَا تُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيُتَوَقَّفُ فِي أَصْلِ

الْخُصُومَةِ. وَأَفْتَى الْقَفَّالُ فِيمَا إِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا وَرِثَهُ الصَّبِيُّ وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ: كُنْتُ قَضَيْتُهُ، أَوْ أَبْرَأَنِي مُوَرِّثُهُ، أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْوَلِيُّ، بَلْ يَحْلِفُ الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ. وَلَوْ أَقَرَّ الْقَيِّمُ بِمَا قَالَهُ الْخَصْمُ، انْعَزَلَ وَأَقَامَ الْقَاضِي غَيْرَهُ. وَلَوِ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الْقَيِّمَ قَبَضَهُ وَأَنْكَرَ، حَلَفَ. السَّادِسَةُ: ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ نَكَحَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ بِأَلْفٍ، وَنَكَحَهَا يَوْمَ السَّبْتِ بِأَلْفٍ، وَطَلَبَتِ الْأَلْفَيْنِ، سُمِعَتْ دَعْوَاهَا لِإِمْكَانِ ثُبُوتِ الْأَلْفَيْنِ بِأَنْ يَطَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَخْلَعَهَا ثُمَّ يَنْكِحَهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْعَقْدَانِ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِيَمِينِهَا بَعْدَ نُكُولِهِ، لَزِمَهُ الْأَلْفَانِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعَرُّضِ لِتَخَلُّلِ الْفُرْقَةِ، وَلَا لِحُصُولِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِقْدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ مُسَمَّاهُ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ. فَإِنِ ادَّعَى أَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ كَانَ إِظْهَارًا لِلْأَوَّلِ لَا إِنْشَاءً، لَمْ يُقْبَلْ. وَهَلْ لَهُ تَحْلِيفُ الْمَرْأَةِ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْعُدَّةِ» أَصَحُّهُمَا: لَهُ. فَإِنِ ادَّعَى عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَلَا يُطَالَبُ مِنَ الْمَهْرِ الْأَوَّلِ إِلَّا بِالنِّصْفِ، وَتَكُونُ مَعَهُ بِطَلْقَتَيْنِ. وَلَوِ ادَّعَى فِي النِّكَاحِ الثَّانِي الطَّلَاقَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، صُدِّقَ بِيَمِينٍ، وَقُنِعَ مِنْهُ بِنِصْفِ الْمَهْرِ الثَّانِي أَيْضًا. وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ كَذَا يَوْمَ الْخَمِيسِ بِأَلْفٍ، ثُمَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِأَلْفٍ، وَطَالَبَهُ بِالثَّمَنَيْنِ، لَزِمَهُ الثَّمَنَانِ إِذَا ثَبَتَ الْعَقْدَانِ كَمَا فِي الْمَهْرَيْنِ. السَّابِعَةُ: رَجُلٌ يَمْلِكُ أَبَوَيْ حُرَّةٍ، فَنَكَحَهَا عَلَى أَحَدِهِمَا مُعَيِّنًا، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ:

أَصْدَقْتُكِ أَبَاكِ فَقَالَتْ: بَلْ أُمِّي، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَتَحَالَفَانِ. وَالثَّانِي: يُصَدَّقُ الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَصْدُقْهَا أُمَّهَا، وَتَحْلِفُ هِيَ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُقْهَا الْأَبَ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَيُعْتَقُ الْأَبُ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ أَنَّهُ أَصْدَقَهَا الْأَبَ لِتَضَمُّنِهِ الْإِقْرَارَ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهَا وَلَا غُرْمَ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُفَوِّتْ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْتُكَ أَبَاكَ فَأَنْكَرَ، عَتَقَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ. إِنْ قُلْنَا بِالتَّحَالُفِ فَحَلَفَا، عَتَقَ الْأَبُ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا قِيمَةُ الْأَبِ، وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقُولُ: هُوَ لَهَا، وَهِيَ تُنْكِرُهُ. وَإِنْ حَلَفَتْ دُونَهُ، عَتَقَ الْأَبَوَانِ. أَمَّا الْأَبُ، فَبِإِقْرَارِهِ، وَأَمَّا الْأُمُّ، فَلِأَنَّا حَكَمْنَا بِكَوْنِهَا صَدَاقًا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا. وَإِنْ حَلَفَ دُونَهَا، رَقَّتِ الْأُمُّ، وَعَتَقَ الْأَبُ، وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، عَتَقَ الْأَبُ، وَلَا تَتَمَكَّنُ هِيَ مِنْ طَلَبِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ بَعْدَ الرَّدِّ، كَانَ كَمَنْ لَمْ يَدَّعِ شَيْئًا. وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَصْدَقْتُكِ أَبَاكِ وَنِصْفَ أُمِّكِ وَقَالَتْ: بَلْ أَصْدَقْتَنِي كِلَيْهِمَا، تَحَالَفَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ. فَإِذَا حَلَفَا، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَتُعْتِقُ، وَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ لِاتِّفَاقِهِمَا أَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهَا بِحُكْمِ الصَّدَاقِ، فَلَمَّا تَحَالَفَا بَطَلَ الصَّدَاقُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّ الْعِتْقِ فَوَجَبَتِ الْقِيمَةُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَتَحَالَفَا. وَأَمَّا الْأُمُّ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهَا نِصْفُهَا. فَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً، عَتَقَ الْبَاقِي بِالسِّرَايَةِ وَعَلَيْهَا قِيمَةُ مَا يُعْتَقُ مِنْهَا، وَيَجِيءُ التَّقَاصُّ. وَلَوْ حَلَفَ الزَّوْجُ دُونَهَا، عَتَقَ الْأَبُ وَنِصْفُ الْأُمِّ، وَلَا سِرَايَةَ إِنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً، وَلَا شَيْءَ لَهَا وَلَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِيَمِينِهِ أَنَّ الصَّدَاقَ هُوَ الْأَبُ وَنِصْفُ الْأُمِّ. وَلَوْ حَلَفَتْ دُونَهُ، حُكِمَ بِكَوْنِهِمَا صَدَاقًا وَعِتْقًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا. وَلَوْ قَالَتْ: أَصْدَقْتَنِي الْأُمَّ وَنِصْفَ الْأَبِ، فَقَالَ: لَا بَلِ الْأَبَ وَنِصْفَ الْأُمِّ، تَحَالَفَا. فَإِذَا حَلَفَا،

فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَيُعْتَقُ مِنَ الْأَبِ نِصْفُهُ لِاتِّفَاقِهِمَا، وَنِصْفُهُ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ وَعَلَيْهَا قِيمَةُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْأُمُّ، فَيُعْتَقُ نِصْفُهَا بِاتِّفَاقِهِمَا، وَيَسْرِي إِلَى الْبَاقِي إِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً، وَعَلَيْهَا قِيمَةُ مَا عَتَقَ مِنْهَا. الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَا فِي أَدَاءِ الْمَهْرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا، سَوَاءٌ اخْتَلَفَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. فَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى قَبْضِ مَالٍ، فَقَالَ: دَفَعْتُهُ صَدَاقًا وَقَالَتْ: بَلْ هَدِيَّةٌ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ تَلَفَّظَ وَاخْتَلَفَا، هَلْ قَالَ: خُذِي هَذَا صَدَاقًا أَمْ قَالَ: هَدِيَّةٌ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. وَإِنِ اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَفْظٌ، وَاخْتَلَفَا فِيمَا نَوَى، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ أَيْضًا. وَقِيلَ: بِلَا يَمِينٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ جِنْسِ الصَّدَاقِ أَمْ غَيْرِهِ، طَعَامًا أَمْ غَيْرَهُ. فَإِذَا حَلَفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ جِنْسِ الصَّدَاقِ، وَقَعَ عَنْهُ، وَإِلَّا فَإِنْ رَضِيَا بِبَيْعِهِ بِالصَّدَاقِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا اسْتَرَدْهُ وَأَدَّى الصَّدَاقَ. فَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَلَهُ الْبَدَلُ عَلَيْهَا وَقَدْ يَقَعُ فِي التَّقَاصِّ. [وَلَوْ] بَعَثَ إِلَى بَيْتِ مَنْ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: بَعَثْتُهُ بِعِوَضٍ، وَأَنْكَرَ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ. التَّاسِعَةُ: ادَّعَى دَفْعَ الصَّدَاقِ إِلَى وَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، أَوِ السَّفِيهَةِ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ. وَإِنِ ادَّعَى دَفْعَهُ إِلَى وَلِيِّ الْبَالِغَةِ الرَّاشِدَةِ، لَمْ يُسْمَعِ الدَّعْوَى عَلَيْهَا، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ إِذْنَهَا، وَسَوَاءٌ الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ. وَفِي الْبِكْرِ وَجْهٌ، [وَ] الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ، هَلْ يَمْلِكُ قَبْضَ مَهْرِ الْبِكْرِ الرَّشِيدَةِ؟ وَالْمَذْهَبُ مَنْعُهُ. وَفِيهِ قَوْلٌ أَوْ وَجْهٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ وَقَطَعَ بِالْأَوَّلِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَاسْتَأْذَنَهَا

فصل

فَسَكَتَتْ، لَمْ يَسْتَفِدْ بِسُكُوتِهَا الْإِذْنَ فِي الْقَبْضِ، وَقِيَاسُ الْقَوْلِ أَوِ الْوَجْهِ الضَّعِيفِ، أَنْ يَسْتَفِيدَهُ وَإِنْ نَهَتْ عَنْهُ كَتَزْوِيجِهَا. الْعَاشِرَةُ: وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي غَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ، فَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي عَقْدَيْنِ، الْقَوْلُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قَوْلُ النَّافِي. وَإِنْ قَالَ: نَكَحْتُ هَاتَيْنِ بِأَلْفٍ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا أَوْ وَلِيُهِمَّا: بَلْ نَكَحْتَ هَذِهِ فَقَطْ بِأَلْفٍ، فَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى نِكَاحِهَا. وَأَمَّا الْأُخْرَى، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ الصَّدَاقِ. أَصْدَقَهَا جَارِيَةً، ثُمَّ وَطِئَ الْجَارِيَةَ عَالِمًا بِالْحَالِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا مَلَكَتْهَا بِالدُّخُولِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا حَدَّ. وَعَلَّلُوهُ بِشَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى مِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَنِ الْعَوَامِّ. وَالثَّانِي: اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا تَمْلِكُ قَبْلَ الدُّخُولِ إِلَّا نِصْفَ الصَّدَاقِ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهَا تَمْلِكُ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ، فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ يُحَدُّ. وَعَلَى الثَّانِي، لَا وَحَيْثُ قُلْنَا: يُحَدُّ، فَأَوْلَدَهَا، فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يُحَدُّ، فَالْوَلَدُ نَسِيبٌ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ سُقُوطِهِ.

باب الوليمة.

فَصْلٌ خَالَعَ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُولَ بِهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، يَتَشَطَّرُ الْمَهْرُ عِنْدَنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَجِبُ جَمِيعُهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. بَابُ الْوَلِيمَةِ. هِيَ عَامَّةٌ عَلَى مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، تَقَعُ عَلَى كُلِّ دَعْوَةٍ تُتَّخَذُ بِسُرُورٍ حَادِثٍ، مِنْ نِكَاحٍ أَوْ خِتَانٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. لَكِنَّ الْأَشْهَرَ اسْتِعْمَالُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي النِّكَاحِ، وَتُقَيَّدُ فِي غَيْرِهِ، فَيُقَالُ: وَلِيمَةُ الْخِتَانِ وَغَيْرِهِ، وَيُقَالُ لِدَعْوَةِ الْخِتَانِ: إِعْذَارٌ، وَلِدَعْوَةِ الْوِلَادَةِ: عَقِيقَةٌ، وَلِسَلَامَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الطَّلْقِ: خُرْسٌ. وَقِيلَ: الْخُرْسُ لِطَعَامِ الْوِلَادَةِ، وَلِقُدُومِ الْمُسَافِرِ: نَقِيعَةٌ، وَلِإِحْدَاثِ الْبِنَاءِ: وَكِيرَةٌ، وَلِمَا يُتَّخَذُ لِلْمُصِيبَةِ: وَضِيمَةٌ، وَلِمَا يُتَّخَذُ بِلَا سَبَبٍ: مَأْدُبَةٌ. قُلْتُ: الْإِعْذَارُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. وَالْخُرْسُ، بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَيُقَالُ: بِالصَّادِ. الْمَأْدُبَةُ، بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا. وَالْوَضِيمَةُ، بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ: النَّقِيعَةُ لِقُدُومِ الْمُسَافِرِ، لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَنْ يَتَّخِذُهَا أَهْوَ الْقَادِمُ أَوِ الْمَقْدُومُ عَلَيْهِمْ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ لِأَهْلِ اللُّغَةِ. فَنَقَلَ الْأَزْهَرِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ، أَنَّهُ الْقَادِمُ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُحْكَمِ» : هُوَ طَعَامٌ يُصْنَعُ لِلْقَادِمِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ قَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ كَالْأُضْحِيَةِ وَسَائِرِ الْوَلَائِمِ، وَالْحَدِيثُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَقَطَعَ الْقَفَّالُ بِالِاسْتِحْبَابِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْوَلَائِمِ، فَمُسْتَحَبَّةٌ، لَيْسَ بِوَاجِبَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَلَا يَتَأَكَّدُ تَأَكُّدَ وَلِيمَةِ النِّكَاحِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ فِي وُجُوبِ سَائِرِ الْوَلَائِمِ قَوْلًا؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهَا: وَلَا أُرَخِّصُ فِي تَرْكِهَا. فَرْعٌ أَقَلُّ الْوَلِيمَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، لِلْمُتَمَكِّنِ شَاةٌ وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ، اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَرْعٌ وَأَمَّا الْإِجَابَةُ إِلَى الدَّعْوَةِ، فَفِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِنْ أَوْجَبْنَا الْوَلِيمَةَ، وَكَذَا إِنْ لَمْ نُوجِبْهَا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: عَلَى الْأَصَحِّ، صَحَّحَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ «مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا» . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ. وَأَمَّا غَيْرُ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْإِجَابَةَ فِيهَا مُسْتَحَبَّةٌ. وَقِيلَ: بِطَرْدِ الْخِلَافِ فِي الْوُجُوبِ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْإِجَابَةَ، فَهِيَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: فَرْضُ كِفَايَةٍ. ثُمَّ إِنَّمَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ أَوْ تُسْتَحَبُّ بِشُرُوطٍ. مِنْهَا: أَنْ يَعُمَّ عَشِيرَتَهُ أَوْ جِيرَانَهُ، أَوْ أَهْلَ حِرْفَتِهِ، أَغْنِيَاءَهُمْ وَفُقَرَاءَهُمْ، دُونَ مَا إِذَا خَصَّ الْأَغْنِيَاءَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَخُصَّهُ بِالدَّعْوَةِ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ شَخْصًا. فَأَمَّا إِذَا فَتَحَ بَابَ دَارِهِ وَقَالَ: لِيَحْضُرْ مَنْ أَرَادَ، أَوْ بَعَثَ شَخْصًا لِيُحْضِرَ مَنْ شَاءَ، أَوْ قَالَ لِشَخْصٍ: احْضَرْ وَأَحْضِرْ

مَعَكَ مَنْ شِئْتَ، فَقَالَ لِغَيْرِهِ: احْضَرْ، فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ وَلَا تُسْتَحَبُّ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ إِحْضَارُهُ لِخَوْفٍ مِنْهُ، أَوْ طَمَعٍ فِي جَاهِهِ، أَوْ لِيُعَاوِنَهُ عَلَى بَاطِلٍ، بَلْ تَكُونُ لِلتَّقَرُّبِ، أَوِ التَّوَدُّدِ. وَمِنْهَا، أَنْ يَدْعُوَهُ مُسْلِمٌ. فَإِنْ دَعَاهُ ذِمِّيٌّ فَهَلْ هُوَ كَالْمُسْلِمِ أَمْ لَا تَجِبُ قَطْعًا؟ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَلَا يَكُونُ الِاسْتِحْبَابُ فِي إِجَابَتِهِ كَالِاسْتِحْبَابِ فِي دَعْوَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْغَبُ عَنْ طَعَامِهِ لِنَجَاسَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ الْفَاسِدِ، وَتُكْرَهُ مُخَالَطَةُ الذِّمِّيِّ وَمُوَادَّتُهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَدْعُوَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. فَلَوْ أَوْلَمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَالْإِجَابَةُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَكْرُوهَةٌ، وَفِي الثَّانِي لَا تَجِبُ قَطْعًا، وَلَا يَكُونُ اسْتِحْبَابُهَا كَالِاسْتِحْبَابِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. فَرْعٌ إِذَا اعْتَذَرَ الْمَدْعُوُّ إِلَى صَاحِبِ الدَّعْوَةِ، فَرَضِيَ بِتَخَلُّفِهِ، زَالَ الْوُجُوبُ وَارْتَفَعَتْ كَرَاهَةُ التَّخَلُّفِ. فَرْعٌ دَعَاهُ جَمَاعَةٌ، أَجَابَ الْأَسْبَقَ، فَإِنْ جَاءَا مَعًا، أَجَابَ الْأَقْرَبَ رَحِمًا، ثُمَّ الْأَقْرَبَ دَارًا كَالصَّدَقَةِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يَتَأَذَّى بِحُضُورِهِ، وَلَا يَلِيقُ بِهِ مُجَالَسَتُهُ. فَإِنْ كَانَ، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي التَّخَلُّفِ. وَأَشَارَ فِي «الْوَسِيطِ» إِلَى وَجْهٍ فِيهِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مُنْكَرٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمَلَاهِي. فَإِنْ كَانَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الشَّخْصُ مِمَّنْ إِذَا حَضَرَ رُفِعَ الْمُنْكَرُ، فَلْيَحْضُرْ إِجَابَةً لِلدَّعْوَةِ وَإِزَالَةً لِلْمُنْكَرِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْأَوْلَى أَنْ لَا يَحْضُرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ وَلَا يَسْتَمِعْ وَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ يُضْرَبُ الْمُنْكَرُ فِي جِوَارِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ التَّحَوُّلُ وَإِنْ

بَلَغَهُ الصَّوْتُ، وَعَلَى هَذَا جَرَى الْعِرَاقِيُّونَ. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ: يَحْرُمُ الْحُضُورُ لِأَنَّهُ كَالرِّضَى بِالْمُنْكَرِ وَإِقْرَارِهِ. قُلْتُ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ غَلَطٌ، وَلَا يَثْبُتُ عَنْ كُلِّ الْعِرَاقِيِّينَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ خَطَأٌ، وَلَا يُغْتَرُّ بِجَلَالَةِ صَاحِبِ «التَّنْبِيهِ» وَنَحْوِهِ مِمَّنْ ذَكَرَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِذَا قُلْنَا بِالثَّانِي، فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى حَضَرَ، نَهَاهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا، فَلْيَخْرُجْ. وَفِي جَوَازِ الْقُعُودِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ، بِأَنْ كَانَ فِي اللَّيْلِ وَيَخَافُ مِنَ الْخُرُوجِ، قَعَدَ كَارِهًا وَلَا يَسْتَمِعُ. وَلَوْ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِي إِبَاحَتِهِ، لَمْ يُنْكِرْهُ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ حَاضِرُهُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، فَكَالْمُنْكَرِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَقِيلَ: لَا. فَرْعٌ وَمِنَ الْمُنْكَرَاتِ، فَرْشُ الْحَرِيرِ وَصُوَرُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى السُّقُوفِ وَالْجُدْرَانِ، وَالثِّيَابِ الْمَلْبُوسَةِ، وَالسُّتُورِ الْمُعَلَّقَةِ، وَالْوَسَائِدِ الْكِبَارِ الْمَنْصُوبَةِ، وَلَا بَأْسَ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ، وَالْبِسَاطِ الَّذِي يُدَاسُ، وَالْمَخَادِّ الَّتِي يُتَّكَأُ عَلَيْهَا، وَلْيَكُنْ فِي مَعْنَاهَا الطَّبَقُ وَالْخُوَانُ، وَالْقَصْعَةُ. وَلَا بَأْسَ بِصُوَرِ الْأَشْجَارِ، وَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ. وَفِي وَجْهٍ: يُكْرَهُ صُورَةُ الشَّجَرِ. وَلَوْ كَانَتْ صُوَرُ الْحَيَوَانَاتِ مَقْطُوعَةَ الرُّءُوسِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَنَعَهُ الْمُتَوَلِّي. وَهَلْ دُخُولُ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ الْمَمْنُوعَةُ حَرَامٌ

فصل

أَمْ مَكْرُوهٌ؟ وَجْهَانِ. وَبِالتَّحْرِيمِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَبِالْكَرَاهَةِ قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَالصَّيْدَلَانِيُّ، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» . وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ فِي الْمَمَرِّ دُونَ مَوْضِعِ الْجُلُوسِ، فَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ وَالْجُلُوسِ، وَلَا يَتْرُكُ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ بِهَذَا السَّبَبِ. وَكَذَا لَا بَأْسَ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ الَّذِي عَلَى بَابِهِ صُوَرٌ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. فَرْعٌ يَحْرُمُ عَلَى الْمُصَوِّرِ التَّصْوِيرَ عَلَى الْحِيطَانِ وَالسُّقُوفِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً. وَفِي نَسْجِ الثِّيَابِ الْمُصَوَّرَةِ وَجْهَانِ، جَوَّزَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا قَدْ لَا تُلْبَسُ، وَرَجَّحَ الْمَنْعَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ تَمَسُّكًا بِالْحَدِيثِ لَعَنَ اللَّهُ الْمُصَوِّرِينَ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ التَّحْرِيمُ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَطَرَدَ الْمُتَوَلِّي الْوَجْهَيْنِ فِي التَّصْوِيرِ عَلَى الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا، وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ. قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَوِّرَ، لَكِنْ إِنِ اتَّفَقَ يُسَامَحُ بِهِ وَلَا يَجِبُ طَمْسُهُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ تَحْرِيمُ التَّصْوِيرِ عَلَى الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الصَّوْمُ لَيْسَ عُذْرًا فِي تَرْكِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ. فَإِذَا حَضَرَ الصَّائِمُ، إِنْ كَانَ صَوْمَ

فصل

فَرْضٍ مُضَيَّقَ الْوَقْتِ، حَرُمَ الْفِطْرُ. وَإِنْ كَانَ مُوَسَّعًا كَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزِ الْخُرُوجَ مِنْهُ، حَرُمَ الْفِطْرُ، وَإِلَّا [فَقِيلَ] هُوَ كَصَوْمِ النَّفْلِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ كَرَاهَةُ الْخُرُوجِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ مَشْغُولَةٌ. وَإِنْ كَانَ صَوْمَ نَفْلٍ، فَإِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَى صَاحِبِ الدَّعْوَةِ إِمْسَاكُهُ، اسْتُحِبَّ إِتْمَامُ صَوْمِهِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ، اسْتُحِبَّ الْفِطْرُ. أَمَّا الْمُفْطِرُ، فَفِي أَكْلِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجِبُ وَأَقَلُّهُ لُقْمَةٌ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. فَصْلٌ دَعَاهُ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ، كُرِهَتْ إِجَابَتُهُ كَمَا تُكْرَهُ مُعَامَلَتُهُ. فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ عَيْنَ الطَّعَامِ حَرَامٌ، حَرُمَتْ إِجَابَتُهُ. فَصْلٌ الْمَرْأَةُ إِذَا دَعَتِ النِّسَاءَ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الرِّجَالِ. فَإِنْ دَعَتْ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا، وَجَبَتِ الْإِجَابَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَلْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ. قُلْتُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ: لَوْ دَعَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَحْرَمٌ لَهُ وَلَا لَهَا، وَلَمْ يُخْلَ بِهِ، بَلْ جَلَسَتْ فِي بَيْتٍ، وَبَعَثَتِ الطَّعَامَ مَعَ خَادِمٍ إِلَيْهِ إِلَى بَيْتٍ آخَرَ مِنْ دَارِهَا، لَمْ يُجِبْهَا مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالضِّيَافَةِ. إِحْدَاهَا: لِلضَّيْفِ أَنْ يَأْكُلَ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ صَاحِبُ الطَّعَامِ لَفْظًا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَنْتَظِرُ حُضُورَ غَيْرِهِ، فَلَا يَأْكُلْ حَتَّى يَحْضُرَ أَوْ يَأْذَنَ الْمُضِيفُ لَفْظًا. وَفِي «الْوَسِيطِ» أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ الِاكْتِفَاءُ بِقَرِينَةِ التَّقْدِيمِ، وَلِلْقَرِينَةِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الشُّرْبُ مِنَ الْحَبَابِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الطُّرُقِ، وَكَانَ السَّلَفُ يَأْكُلُونَ مِنْ بُيُوتِ إِخْوَانِهِمْ لِلِانْبِسَاطِ وَهُمْ غُيَّبٌ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: تَقْدِيمُ الطَّعَامِ، إِنَّمَا يَكْفِي إِذَا دَعَاهُ إِلَى بَيْتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ دَعْوَةً، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ لَفْظًا، إِلَّا إِذَا جَعَلْنَا الْمُعَاطَاةَ بَيْعًا، وَقَرِينَةُ التَّقْدِيمِ لَا تَخْتَلِفُ لِسَبْقِ الدَّعْوَةِ وَعَدَمِهِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ بِتَقْدِيمِ الطَّعَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَكْلُ بِلَا لَفْظٍ، سَوَاءٌ دَعَاهُ أَمْ لَا، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مُنْتَظِرًا غَيْرَهُ كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ بَيْتِ الصَّدِيقِ وَبُسْتَانِهِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَجَائِزٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: هَلْ يَمْلِكُ الضَّيْفُ مَا يَأْكُلُهُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْقَفَّالُ: لَا بَلْ هُوَ إِتْلَافٌ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَأْكُلْ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَعَمْ. وَبِمَ يَمْلِكُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. قِيلَ: بِالْوَضْعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقِيلَ: بِالْأَخْذِ، وَقِيلَ: بِوَضْعِهِ

فِي الْفَمِ، وَقِيلَ: بِالِازْدِرَادِ يَتَبَيَّنُ حُصُولُ الْمِلْكِ قُبَيْلَهُ. وَضَعَّفَ الْمُتَوَلِّي مَا سِوَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ. وَعَلَى الْأَوْجُهِ يَنْبَنِي التَّمَكُّنُ مِنَ الرُّجُوعِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : إِذَا قُلْنَا: يَمْلِكُهُ بِالْأَخْذِ أَوْ بِالْوَضْعِ فِي الْفَمِ، فَهَلْ لِلْآخِذِ إِبَاحَتُهُ لِغَيْرِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ [وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ] لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يُعِيرُ الْمُسْتَعَارَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ مِنَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هَذَا لَا يَجِيءُ عَلَى أَصْلِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: لَيْسَ لِلضَّيْفِ التَّصَرُّفُ فِي الطَّعَامِ بِمَا سِوَى الْأَكْلِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْئًا، إِلَّا إِذَا أَخَذَ مَا يَعْلَمُ رِضَى الْمَالِكِ بِهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِقَدْرِ الْمَأْخُوذِ وَجِنْسِهِ، وَبِحَالِ الْمُضِيفِ وَالدَّعْوَةِ. فَإِنْ شَكَّ فِي وُقُوعِهِ فِي مَحَلِّ الْمُسَامَحَةِ، فَالصَّحِيحُ التَّحْرِيمُ، وَلَيْسَ لِلضَّيْفِ إِطْعَامُ السَّائِلِ وَالْهِرَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُلْقِمَ الْأَضْيَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِلَّا إِذَا فَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الطَّعَامِ، فَلَيْسَ لِمَنْ خُصَّ بِنَوْعٍ أَنْ يُطْعِمُوا مِنْهُ غَيْرَهُمْ، وَيُكْرَهَ لِلْمُضِيفِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. الرَّابِعَةُ: يَحْرُمُ التَّطَفُّلُ، وَاسْتَثْنَى الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ فِي الدَّارِ ضِيَافَةٌ، جَازَ لِمَنْ بَيْنُهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الطَّعَامِ انْبِسَاطٌ أَنْ يَدْخُلَ وَيَأْكُلَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ.

فصل

فَصْلٌ فِي آدَابِ الْأَكْلِ مِنْهَا: أَنْ يَقُولَ أَوَّلًا: بِاسْمِ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ قَالَ إِذَا تَذَكَّرَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَأَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ قَبْلَ الْأَكْلِ وَبَعْدَهُ، وَأَنْ يَأْكُلَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ، وَأَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ إِنْ كَانَ ضَيْفًا، وَيَقُولَ: «أَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَأَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ. وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ» وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ مُتَّكِئًا، وَأَنْ يَأْكُلَ مِمَّا يَلِي آكِلِيهِ، وَأَنْ يَأْكُلَ مِنْ وَسَطِ الْقَصْعَةِ وَأَعْلَى الثَّرِيدِ وَنَحْوَهُ، وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْفَوَاكِهِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَعِيبَ الطَّعَامَ، وَأَنْ يَقْرِنَ بَيْنَ تَمْرَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَنْ يَأْكُلَ بِشِمَالِهِ، وَأَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ، وَأَنْ يَنْفُخَ فِيهِ. وَلَا يُكْرَهُ الشُّرْبُ قَائِمًا، وَحَمَلُوا النَّهْيَ الْوَارِدَ عَلَى حَالَةِ السَّيْرِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ تَأْوِيلِ النَّهْيِ عَلَى حَالَةِ السَّيْرِ، قَدْ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالْمُتَوَلِّي، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ آخَرُونَ بِخِلَافِ هَذَا. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا بِلَا عُذْرٍ خِلَافَ الْأَوْلَى، لِلْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» . وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ الصَّحِيحَانِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ قَائِمًا، فَمَحْمُولَانِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى أَحَادِيثِ النَّهْيِ بِأَشْيَاءَ بَاطِلَةٍ، أَوْضَحْتُ جَوَابَهَا فِي شَرْحِ «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» . وَيُكْرَهُ الشُّرْبَ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ. وَمِنْ آدَابِ الْأَكْلِ: حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آخِرِهِ. وَكَذَلِكَ فِي آخِرِ الشُّرْبِ فَيَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ وَلَا مُوَدَّعٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا» . ثَبَتَ ذَلِكَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذَا أَذْكَارٌ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ جَمَعْتُ

مَقَاصِدَهَا فِي كِتَابِ أَذْكَارِ الطَّعَامِ مِنْ كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» ، وَشَرَحْتُ فِيهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ أَحْسَنَ شَرْحٍ وَأَوْجَزَهُ، مَعَ جُمَلٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَطْعِمَةِ. وَقَوْلُهُ: رَبَّنَا، يَجُوزُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوِ النِّدَاءِ، وَبِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَإِذَا أَكَلَ جَمَاعَةٌ، فَمِنَ الْأَدَبِ أَنْ يَتَحَدَّثُوا عَلَى طَعَامِهِمْ بِمَا لَا إِثْمَ فِيهِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَمَخَّطَ وَيَبْصُقَ فِي حَالِ أَكْلِهِمْ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَرِّبَ فَمَهُ مِنَ الْقَصْعَةِ بِحَيْثُ يَرْجِعُ مِنْ فَمِهِ إِلَيْهَا شَيْءٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلْعَقَ الْقَصْعَةَ، وَأَنْ يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ، وَأَنْ يَأْكُلَ اللُّقْمَةَ السَّاقِطَةَ مَا لَمْ تَتَنَجَّسْ وَيَتَعَذَّرْ تَطْهِيرُهَا؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْكُلَ الشَّخْصُ وَحْدَهُ، وَأَنْ لَا يَرْتَفِعَ عَنْ مُؤَاكَلَةِ الْغُلَامِ وَالصِّبْيَانِ وَالزَّوْجَةِ، وَأَنْ لَا يَتَمَيَّزَ عَلَى جُلَسَائِهِ بِنَوْعٍ إِلَّا لِحَاجَةٍ، كَدَوَاءٍ، وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يَمُدَّ الْأَكْلَ مَعَ رُفْقَتِهِ مَا دَامَ يَظُنُّ لَهُمْ حَاجَةً إِلَى الْأَكْلِ، وَأَنْ يُؤْثِرَهُمْ بِفَاخِرِ الطَّعَامِ، كَقِطْعَةِ لَحْمٍ وَخُبْزٍ لَيِّنٍ، أَوْ طَيِّبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ اسْتِحْبَابُ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِ الطَّعَامِ، وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ لِكُلِّ آكِلٍ، حَتَّى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْهَرَ بِهَا جَهْرًا يَسْمَعُهُ رُفْقَتُهُ سَمَاعًا مُحَقَّقًا؛ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهَا، وَلِيَتَنَبَّهَ غَيْرُهُ لَهَا وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَنْ يُسَمِّيَ. فَإِنْ سَمَّى وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ، أَجَزَأَ عَنِ الْبَاقِينَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» وَفِي «طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ» فِي تَرْجَمَةِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي قَوْلُ أَحَدِ الْجَمَاعَةِ. وَمَنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ لِعَارِضٍ آخَرَ، ثُمَّ تَمَكَّنَ فِي أَثْنَاءِ أَكْلِهِ، سَمَّى، كَمَا لَوْ نَسِيَهَا، وَسَبَقَ مِثْلُهُ فِي الْوُضُوءِ، وَالتَّسْمِيَةِ فِي الْمَشْرُوبِ كَالْمَأْكُولِ. وَلَا بَأْسَ

فصل

بِقَوْلِهِ: لَا أَشْتَهِي هَذَا الطَّعَامَ، أَوْ مَا اعْتَدْتُ أَكْلَهُ، لِحَدِيثِ الضَّبِّ. وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَضَرَ وَهُوَ صَائِمٌ وَلَمْ يَأْكُلْ أَنْ يَدْعُوَ لِأَهْلِ الطَّعَامِ، وَيُسْتَحَبُّ التَّرْحِيبُ بِالضَّيْفِ وَحَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حُصُولِهِ ضَيْفًا عِنْدَهُ، وَسُرُورُهُ بِهِ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ لِجَعْلِهِ أَهْلًا لِتَضْيِيفِهِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ يَجُوزُ نَثْرُ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالتَّمْرِ وَالسُّكَّرِ وَنَحْوِهَا فِي الْإِمْلَاكَاتِ. وَهَلْ يُكْرَهُ أَمْ يُسْتَحَبُّ، أَمْ لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يُكْرَهُ، بَلْ تَرْكُهُ أَوْلَى؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا الثَّالِثُ. وَالْتِقَاطُ النِّثَارِ جَائِزٌ، لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ، إِلَّا إِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّاثِرَ لَا يُؤْثِرُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَقْدَحِ الِالْتِقَاطُ فِي مُرُوءَتِهِ، ثُمَّ مَنِ الْتَقَطَ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ. وَهَلْ يَمْلِكُهُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُ تَمْلِيكٍ لِمُعَيَّنٍ وَالثَّانِي: يَمْلِكُ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ، وَالْأَئِمَّةُ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَمْيَلُ، وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ أَكْثَرِهِمْ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، لِلنَّاثِرِ الِاسْتِرْجَاعُ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَهُ الِاسْتِرْجَاعُ مَا لَمْ يَخْرُجِ الْمُلْتَقِطُ مِنَ الدَّارِ، وَعَلَيْهِ الْغُرْمُ إِنْ أَتَلَفَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ فَهَلْ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ النَّاثِرِ بِالنَّثْرِ، أَمْ بِأَخْذِ الْمُلْتَقِطِ، أَمْ بِإِتْلَافِهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْأَخْذِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمَنْ وَقَعَ فِي حَجْرِهِ شَيْءٌ مِنَ النِّثَارِ، فَإِنْ بَسَطَهُ لِذَلِكَ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ. فَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ بِنَفْسِ الْوُقُوعِ، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيُمْنَعُ غَيْرُهُ مِنْ أَخْذِهِ. وَإِنْ لَمْ يَبْسُطْهُ لَهُ، لَمْ يَمْلِكْهُ، لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَالْفِعْلِ. فَإِنْ نَفَضَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أَوَّلًا، وَإِلَّا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ، فَفِي مِلْكِهِ وَجْهَانِ جَارِيَانِ، فِيمَا لَوْ عَشَّشَ طَائِرٌ فِي مِلْكِهِ فَأَخَذَ فَرْخَهُ غَيْرُهُ. وَفِيمَا إِذَا دَخَلَ السَّمَكُ مَعَ الْمَاءِ حَوْضَهُ، وَفِيمَا إِذَا وَقَعَ الثَّلْجُ فِي مِلْكِهِ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ، وَفِيمَا إِذَا أَحْيَا مَا يَحْجُرُهُ غَيْرُهُ. لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْمُحْيِيَ يَمْلِكُ. وَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ مَيْلُهُمْ إِلَى الْمَنْعِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ الْمُتَحَجِّرَ غَيْرُ مَالِكٍ فَلَيْسَ الْإِحْيَاءُ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَوْ سَقَطَ مِنْ حَجْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْصِدَ أَخْذَهُ، أَوْ قَامَ فَسَقَطَ، بَطَلَ اخْتِصَاصُهُ، كَمَا لَوْ طَارَ الْفَرْخُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْأَرْضِ أَخْذُهُ بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ اخْتِصَاصُ مَنْ وَقَعَ فِي حَجْرِهِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ هُوَ مِمَّنْ يَأْخُذُهُ. أَمَّا مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ وَلَا يَرْغَبُ فِيهِ، فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِهِ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ مِنْ حَجْرِهِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيُكْرَهُ أَخْذُ النِّثَارِ مِنَ الْهَوَاءِ بِالْمُلَاءَةِ وَالْأُزُرِ الْمَرْبُوطَةِ بِرُءُوسِ الْخَشَبِ. فَإِنْ أُخِذَ كَذَلِكَ اسْتَحَقَّهُ؛ وَنَثْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، كَنَثْرِ السُّكَّرِ ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيُّ. قُلْتُ: وَلَوِ الْتَقَطَ النِّثَارَ صَبِيٌّ مَلَكَهُ، وَلَوِ الْتَقَطَهُ عَبَدٌ مَلَكَهُ سَيِّدُهُ، ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ، وَالْخِتَانُ فِي هَذَا كَإِمْلَاكٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب عشرة النساء.

كِتَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ. وَالْقَسْمِ وَالشِّقَاقِ. فِيهِ بَابَانِ. الْأَوَّلُ: فِي عِشْرَتِهِنَّ وَالْقَسْمِ. النِّكَاحُ مَنَاطُ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، كَالطَّاعَةِ وَمُلَازَمَةِ الْمَسْكَنِ. وَحُقُوقِهَا عَلَيْهِ، كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْكُسْوَةِ، وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [الْبَقَرَةِ: 228] وَالْمُرَادُ تَمَاثُلُهَا فِي وُجُوبِ الْآدَابِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاءِ: 18] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: جِمَاعُ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، الْكَفُّ عَنِ الْمَكْرُوهِ، وَإِعْفَاءُ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي طَلَبِهِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ كَرَاهَتِهِ فِي تَأْدِيَتِهِ. فَأَيُّهُمَا مَطَلَ بِتَأْخِيرِهِ، فَمَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، قَالَ الْأَصْحَابُ: أَرَادَ بِالْكَفِّ عَنِ الْمَكْرُوهِ الِامْتِنَاعَ عَمَّا يَكَرَهُهُ صَاحِبُهُ، وَبِإِعْفَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي طَلَبِهِ أَنْ لَا يُحْوِجَهُ فِي أَدَاءِ الْحَقِّ إِلَى كُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ. وَبِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ كَرَاهَةٍ، أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَقَّ رَاضِيًا طَلْقَ الْوَجْهِ. وَمِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ: الْقَسْمُ. وَفَائِدَتُهُ: الْعَدْلُ وَالتَّحَرُّزُ عَنِ الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ بِتَرْجِيحِ الْبَعْضِ، وَقَدْ يَعْرِضُ مَا يَقْتَضِي التَّفْضِيلَ. وَيَتَضَمَّنُ الْبَابُ خَمْسَةَ أَطْرَافٍ. الْأَوَّلُ: فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ. مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَطِّلَهَا، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا وَيُحَصِّنَهَا، وَأَدْنَى الدَّرَجَاتِ أَنْ [لَا] يُخَلِّيَ أَرْبَعَ لَيَالٍ عَنْ

فصل

لَيْلَةٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ تَرْكُهُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ مُسْتَوْلَدَاتٌ أَوْ إِمَاءٌ، فَلَا قَسْمَ لَهُنَّ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُعَطِّلَهُنَّ، وَأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ. وَلَوْ كَانَ مَعَهُنَّ نِسَاءٌ، فَلَا قَسْمَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النِّسَاءِ. حَتَّى لَوْ بَاتَ عِنْدَ الْمَنْكُوحَاتِ أَوْ عِنْدَ الْإِمَاءِ، فَلَا قَسْمَ لِلْأُخْرَيَاتِ. وَإِذَا كَانَ تَحْتَهُ زَوْجَتَانِ فَأَكْثَرُ، فَالْإِعْرَاضُ عَنْ جُمْلَتِهِنَّ كَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْوَاحِدَةِ الْمُنْفَرِدَةِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَجْهًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ، وَيَحْرُمُ إِعْرَاضُهُ عَنْهُنَّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ مِثْلُهُ فِي الْوَاحِدَةِ. وَلَوْ بَاتَ عِنْدَ بَعْضِهِنَّ، لَزِمَهُ مِثْلُهُ لِلْبَاقِيَاتِ. وَإِذَا سَوَّى بَيْنَهُنَّ فِي الظَّاهِرِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِزِيَادَةِ مَيْلِ قَلْبِهِ إِلَى بَعْضِهِنَّ، وَلَا تَجُبِ التَّسْوِيَةُ فِي الْجِمَاعِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ التَّسْوِيَةُ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ. وَلَوْ قَسَمَ بَيْنَهُنَّ مُدَّةً وَسَوَّى ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُنَّ، جَازَ كَالِابْتِدَاءِ. فَصْلٌ فِيمَنْ تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ. فِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: تَسْتَحِقُّهُ الْمَرِيضَةُ، وَالرَّتْقَاءُ، وَالْقَرْنَاءُ، وَالْحَائِضُ، وَالنُّفَسَاءُ، وَالْمُحَرَّمَةُ، وَالْمُؤْلَى مِنْهَا، وَالْمُظَاهَرُ مِنْهَا، وَالْمُرَاهِقَةُ، وَالْمَجْنُونَةُ الَّتِي لَا يُخَافُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْأُنْسُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لَا قَسْمَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِهَا.

الثَّانِيَةُ: إِذَا نَشَزَتْ عَنْ زَوْجِهَا، بِأَنْ خَرَجَتْ مِنْ مَسْكَنِهِ، أَوْ أَرَادَ الدُّخُولَ عَلَيْهَا فَأَغْلَقَتِ الْبَابَ وَمَنَعَتْهُ، أَوِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ، أَوْ مَنَعَتِ التَّمْكِينَ، فَلَا قَسْمَ لَهَا كَمَا لَا نَفَقَةَ. وَإِذَا عَادَتْ إِلَى الطَّاعَةِ، لَمْ تَسْتَحِقَّ الْقَضَاءَ، وَامْتِنَاعُ الْمَجْنُونَةِ كَامْتِنَاعِ الْعَاقِلَةِ، لَكِنْ لَا تَأْثَمُ. الثَّالِثَةُ: إِنْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِمَسْكَنٍ وَطَافَ عَلَيْهِنَّ فِي مَسَاكِنِهِنَّ، فَذَاكَ، وَإِنِ انْفَرَدَ، فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْمُضِيِّ إِلَيْهِنَّ وَدُعَائِهِنَّ إِلَى مَسْكَنِهِ فِي نَوْبَتِهِنَّ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ دَعَاهُنَّ، لَزِمَهُنَّ الْإِجَابَةُ. وَمَنِ امْتَنَعَتْ، فَهِيَ نَاشِزَةٌ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بَعْضَهُنَّ إِلَى مَسْكَنِهِ وَيَمْضِيَ إِلَى مَسْكَنِ بَعْضِهِنَّ؟ وَجْهَانِ. وَقَالَ الْحَنَّاطِيُّ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا. فَإِنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ لِيَدْعُوَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا إِلَى مَنْزِلِهِ، فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، كَالْمُسَافِرَةِ بِبَعْضِهِنَّ بِالْقُرْعَةِ. ثُمَّ الْوَجْهَانِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ التَّخْصِيصُ بِعُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ بِأَنْ كَانَ مَسْكَنُ إِحْدَاهُمَا قَرِيبًا إِلَيْهِ، فَمَضَى إِلَيْهَا وَدَعَا الْأُخْرَى لِتَخِفَّ عَنْهُ مُؤْنَةُ السَّيْرِ، لَزِمَهَا الْإِجَابَةُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ تَحْتَهُ عَجُوزٌ وَشَابَّةٌ، فَحَضَرَ بَيْتَ الشَّابَّةِ لِكَرَاهَةِ خُرُوجِهَا وَدَعَا الْعَجُوزَ، فَلَزِمَهَا الْإِجَابَةُ، فَإِنْ أَبَتْ، بَطَلَ حَقُّهَا. وَإِذَا كَانَ يَدْعُوهُنَّ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَمَنَعَ بَعْضَهُنَّ شُغْلٌ لَهَا، بَطَلَ حَقُّهَا. وَإِنْ مَنَعَهَا مِنَ الْإِجَابَةِ مَرَضٌ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهَا مَنْ يَحْمِلُهَا إِلَيْهِ. وَلَوْ أَقَامَ عِنْدَهُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، وَدَعَا الْبَاقِيَاتِ إِلَى بَيْتِهَا، لَمْ تَلْزَمْهُنَّ الْإِجَابَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ.

فصل

الرَّابِعَةُ: إِنْ سَافَرَتْ مَعَهُ، فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَهِيَ نَاشِزَةٌ. وَإِنْ أَذِنَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ السَّفَرُ لِغَرَضِهِ، بَقِيَ حَقُّهَا فَيَقْضِيهِ مِنْ حَقِّ الْبَاقِيَاتِ. وَإِنْ كَانَ لِغَرَضِهَا كَحَجٍّ وَتِجَارَةٍ، سَقَطَ حَقُّهَا عَلَى الْجَدِيدِ، فَلَا قَضَاءَ لَهَا. وَقِيلَ بِالسُّقُوطِ قَطْعًا، وَفَائِدَةُ الْإِذْنِ دَفْعُ الْإِثْمِ. فَصْلٌ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْقَسْمُ. هُوَ كُلُّ زَوْجٍ عَاقِلٍ، وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا أَوْ سَفِيهًا. فَإِنْ جَازَ الْمُرَاهِقُ، فَالْإِثْمُ عَلَى وَلِيِّهِ، وَإِنْ جَازَ السَّفِيهُ، فَعَلَى نَفْسِهِ، [وَ] أَمَّا الْمَجْنُونُ، فَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ ضَرَرٌ، فَلَا قَسْمَ، وَإِنْ أُمِنَ، فَإِنْ كَانَ قَسَمَ لِبَعْضِهِنَّ ثُمَّ جُنَّ، فَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَطُوفَ بِهِ عَلَى الْبَاقِيَاتِ قَضَاءً لِحُقُوقِهِنَّ، كَقَضَاءِ الدُّيُونِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَذَلِكَ إِذَا طَلَبْنَ. فَإِنْ أَرَدْنَ التَّأْخِيرَ إِلَى إِفَاقَتِهِ لِتَتِمَّ الْمُؤَانَسَةُ، فَلَهُنَّ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْقَسْمِ، فَإِنْ رَأَى مِنْهُ مَيْلًا إِلَى النِّسَاءِ، وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: يَنْفَعُهُ غِشْيَانُهُنُّ، لَزِمَ الْوَلِيَّ أَنْ يَطُوفَ بِهِ عَلَيْهِنَّ، أَوْ يَدْعُوَهُنَّ إِلَى مَنْزِلِهِ، أَوْ يَطُوفَ بِهِ عَلَى بَعْضِهِنَّ، وَيَدْعُوَ بَعْضَهُنَّ كَمَا يَرَى. وَإِنْ لَمْ يَرَ مِنْهُ مَيْلًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الطَّوَافُ بِهِ. وَحَكَى الْفُورَانِيُّ وَجْهًا، أَنَّ حَقَّ الْقَسْمِ يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ، وَلَا يُطَالَبُ الْوَلِيُّ بِرِعَايَتِهِ بِحَالٍ، وَلَا يَجْرِي الْوَجْهُ فِيمَا إِذَا قِيلَ: يَنْفَعُهُ الْغِشْيَانُ. وَلَوْ قِيلَ: يَضُرُّهُ، لَزِمَهُ مَنْعُهُ عَنْهُنَّ. أَمَّا مَنْ بِهِ جُنُونٌ مُنْقَطِعٌ، فَإِنْ ضُبِطَ، كَيَوْمٍ وَيَوْمٍ، جُعِلَتْ أَيَّامُ الْجُنُونِ

كَالْغَيْبِهِ، وَيَقْسِمُ فِي إِفَاقَتِهِ. وَلَوْ أَقَامَ فِي الْجُنُونِ عِنْدَ وَاحِدَةٍ، فَلَا قَضَاءَ وَلَا اعْتِدَادَ بِهِ، كَذَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَقْسِمُ أَيَّامَ جُنُونِهِ. وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ وَجْهًا، أَنَّهُ إِذَا أَقَامَ فِي الْجُنُونِ عِنْدَ وَاحِدَةٍ، قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يُرَاعِي الْقَسْمَ فِي أَيَّامِ الْإِفَاقَةِ، وَيُرَاعِيهِ الْوَلِيُّ فِي الْجُنُونِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ نَوْبَةٌ مِنْ هَذَا، وَنَوْبَةٌ مِنْ هَذَا، وَهَذَا حَسَنٌ. وَإِنْ لَمْ تَنْضَبِطِ الْإِفَاقَةُ، وَقَسَمَ الْوَلِيُّ لِوَاحِدَةٍ فِي الْجُنُونِ، وَأَفَاقَ فِي نَوْبَةِ الْأُخْرَى، قَالَ الْغَزَالِيُّ: يَقْضِي مَا جَرَى فِي الْجُنُونِ لِنَقْصِهِ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي مَكَانِ الْقَسْمِ وَزَمَانِهِ، فِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ زَوْجَتَيْنِ، أَوْ زَوْجَاتٍ فِي مَسْكَنٍ وَلَوْ لَيْلَةً وَاحِدَةً إِلَّا بِرِضَاهُنَّ. وَالْمُرَادُ بِالْمَسْكَنِ: مَا يَلِيقُ بِامْرَأَةٍ مِنْ دَارٍ وَحُجْرَةِ بَيْتٍ مُفْرَدٍ. فَاللَّوَاتِي تَلِيقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَيْتٌ أَوْ دَارٌ أَوْ حُجْرَةٌ، لَا يَجْمَعُ بَيْنَهُنَّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَلَا حُجْرَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي الدَّارِ حُجَرٌ مُفْرَدَةُ الْمَرَافِقِ، فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهُنَّ فِيهَا. وَكَذَا لَوْ أَسْكَنَ وَاحِدَةً فِي الْعُلُوِّ وَالْأُخْرَى فِي السُّفْلِ، وَالْمَرَافِقُ مُتَمَيَّزَةٌ، وَاللَّوَاتِي يَلِيقُ بِهِنَّ الْبُيُوتُ الْفَرْدَةُ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَيْتًا مِنْ خَانٍ وَاحِدٍ، أَوْ دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُنَّ فِي بَيْتٍ إِلَّا بِالرِّضَى. وَإِذَا جَمَعَهُمَا فِي مَسْكَنٍ بِالرِّضَى، كُرِهَ وَطْءُ إِحْدَاهُمَا بِحَضْرَةِ الْأُخْرَى. وَلَوْ طَلَبَ، لَمْ تَلْزَمْهَا الْإِجَابَةُ، وَلَا تَصِيرُ بِالِامْتِنَاعِ نَاشِزَةً. الثَّانِيَةُ: عِمَادُ الْقَسْمِ اللَّيْلُ، وَالنَّهَارُ تَابِعٌ، وَلَهُ أَنْ يُرَتِّبَ الْقَسْمَ عَلَى اللَّيْلَةِ وَالْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهَا، أَوِ الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهَا، هَذَا حُكْمُ عَامَّةِ النَّاسِ. وَأَمَّا مَنْ يَعْمَلُ لَيْلًا وَيَسْكُنُ نَهَارًا، كَالْأَتُّونِيِّ وَالْحَارِسِ، فَعِمَادُ قَسْمِهِ النَّهَارُ، وَاللَّيْلُ تَابِعٌ، وَعِمَادُ قَسْمِ الْمُسَافِرِ وَقْتُ نُزُولِهِ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا.

الثَّالِثَةُ: مَنْ عِمَادُ قَسْمِهِ اللَّيْلُ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ فِي نَوْبَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْأُخْرَى لَيْلًا وَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ كَعِيَادَةٍ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيَجُوزُ الدُّخُولُ لِلضَّرُورَةِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : هِيَ مِثْلُ أَنْ تَمُوتَ أَوْ يَكُونَ مَنْزُولًا بِهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ كَالْمَرَضِ الشَّدِيدِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: هِيَ كَالْمَرَضِ الْمَخُوفِ. قَالَ: وَكَذَا الْمَرَضُ الَّذِي يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ مَخُوفًا، فَيَدْخُلُ لِتَبْيِينِ الْحَالِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَدْخُلُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ مَخُوفٌ. ثُمَّ إِذَا دَخَلَ عَلَى الضَّرَّةِ لِضَرُورَةٍ، أَوْ مَكَثَ سَاعَةً طَوِيلَةً، قَضَى لِصَاحِبَةِ النَّوْبَةِ مِثْلَ ذَلِكَ فِي نَوْبَةِ الْمَدْخُولِ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لَحْظَةٌ يَسِيرَةٌ، فَلَا قَضَاءَ. وَلَوْ تَعَدَّى بِالدُّخُولِ، إِنْ طَالَ الزَّمَانُ، قَضَى، وَإِلَّا فَلَا، لَكِنْ يَعْصِي. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ تَقْدِيرُ الْقَدْرِ الْمُقْتَضِي بِثُلُثِ اللَّيْلِ. وَالصَّحِيحُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ. هَذَا إِذَا لَمْ يُجَامِعِ الْمَدْخُولَ عَلَيْهَا، فَإِنْ جَامَعَهَا، عَصَى. وَفِي الْقَضَاءِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَفْسَدَ اللَّيْلَةَ، فَلَا تُحْسَبُ عَلَى صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: يَقْضِي الْجِمَاعَ فِي نَوْبَةِ الَّتِي جَامَعَهَا. وَأَصَحُّهَا: يَقْضِي مِنْ نَوْبَتِهَا مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَا يُكَلَّفُ الْجِمَاعَ. فَإِنْ فُرِضَ الْجِمَاعُ فِي لَحْظَةٍ يَسِيرَةٍ، فَلَا قَضَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَيَبْقَى الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ. فَرْعٌ وَأَمَّا النَّهَارُ، فَلَا تَجُبِ التَّسْوِيَةُ فِيهِ بَيْنَ النِّسْوَةِ فِي قَدْرِ إِقَامَتِهِ فِي الْبَيْتِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِقَامَتُهُ فِي بَيْتِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ إِنْ أَقَامَ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى

غَيْرِهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ، كَعِيَادَةٍ، وَتَعَرُّفِ خَبَرٍ، وَتَسْلِيمِ نَفَقَةٍ، وَوَضْعِ مَتَاعِ وَاحِدَةٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُطِيلَ الْمُقَامَ، وَلَا يَعْتَادَ الدُّخُولَ عَلَى وَاحِدَةٍ فِي نَوْبَةِ الْأُخْرَيَاتِ، وَلَا فِي نَوْبَةِ وَاحِدَةٍ الدُّخُولَ عَلَى غَيْرِهَا. وَإِذَا دَخَلَ عَلَى وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَفِي «التَّجْرِيدِ» لِلْمَحَامِلِيِّ: أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَحَكَاهُ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» . وَإِنْ دَخَلَ لِحَاجَةٍ، فَلَا قَضَاءَ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهَارَ كَاللَّيْلِ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْإِطْلَاقِ، أَنْ لَا يَدْخُلَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَأَنَّهُ يَقْضِي إِذَا دَخَلَ مُتَعَدِّيًا. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ حَكَى فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَوْلًا. وَالثَّانِي: لَا حَجْرَ بِالنَّهَارِ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَدْخُلَ وَيَخْرُجَ كَيْفَ شَاءَ بِلَا قَضَاءٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي دُخُولِ الْحَاجَةِ أَنْ يُجَامِعَ. وَفِي سَائِرِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجِمَاعُ وَهُوَ شَاذٌّ. فَرْعٌ مَنْ عِمَادُ قَسْمِهِ النَّهَارُ، فَلَيْلُهُ كَنَهَارِ غَيْرِهِ، وَنَهَارُهُ كَلَيْلِ غَيْرِهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. فَرْعٌ نَقَلَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهَا إِذَا مَرِضَتْ، أَوْ طَرَأَ بِهَا الطَّلْقُ، فَإِنْ كَانَ لَهَا مُتَعَهِّدٌ، لَمْ يَبِتْ عِنْدَهَا إِلَّا فِي نَوْبَتِهَا، وَيُرَاعِي الْقَسْمَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَهِّدٌ، بَاتَ عِنْدَهَا لَيَالِيَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَيَقْضِي لِلْبَاقِيَاتِ إِنْ بَرَأَتْ. وَإِنْ مَاتَتْ، تَعَذَّرَ

الْقَضَاءُ. وَفِي الْقَضَاءِ لَا يَبِيتُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْرَيَاتِ جَمِيعَ تِلْكَ اللَّيَالِي وَلَاءً، بَلْ [لَا] يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَهَكَذَا يَدُورُ حَتَّى يَتِمَّ الْقَضَاءُ. وَلَوْ مَرِضَتْ ثِنْتَانِ وَلَا مُتَعَهِّدَ، فَقَدْ يُقَالُ: يَقْسِمُ اللَّيَالِيَ عَلَيْهِمَا، وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي التَّمْرِيضِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا يُسَافِرُ بِهَا بِالْقُرْعَةِ. قُلْتُ: الْقَسْمُ أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ كَانَ يَعْمَلُ تَارَةً بِاللَّيْلِ، وَيَسْتَرِيحُ بِالنَّهَارِ، وَتَارَةً عَكْسُهُ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ، بِأَنْ يَكُونَ لِوَاحِدَةٍ لَيْلَةٌ تَابِعَةٌ وَنَهَارٌ مَتْبُوعٌ، وَلِلْأُخْرَى لَيْلَةٌ مَتْبُوعَةٌ وَنَهَارٌ تَابِعٌ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْمَنْعُ لِتَفَاوُتِ الْغَرَضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: أَقَلُّ نُوَبِ الْقَسَمِ لَيْلَةً لَيْلَةً، وَلَا يَجُوزُ بِبَعْضِ اللَّيْلَةِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْضًا مِنْ لَيْلَةٍ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لَيْلَةً وَنِصْفًا، وَلَا يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْضُ لَيْلَةٍ. وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا. وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى لَيْلَةٍ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِيَقْرُبَ عَهْدُهُ بِهِنَّ كُلِّهِنَّ. وَلَوْ قَسَمَ لَيْلَتَيْنِ لَيْلَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، جَازَ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَفِي وَجْهٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى لَيْلَةٍ إِلَّا بِرِضَاهُنَّ.

وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا بِرِضَاهُنَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ. فَإِنْ جَوَّزْنَا الزِّيَادَةَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» : لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى سَبْعَةٍ. وَالثَّانِي عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مَا لَمْ تَبْلُغْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مُدَّةَ تَرَبُّصِ الْمُؤْلِي. الْخَامِسَةُ: إِذَا أَرَادَ الِابْتِدَاءَ بِالْقَسْمِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْدَأُ بِمَنْ شَاءَ. وَالصَّحِيحُ يَلْزَمُهُ الْقُرْعَةُ، فَيَبْدَأُ بِالْقَارِعَةِ. فَإِذَا مَضَتْ نَوْبَتُهَا، أَقْرَعَ بَيْنَ الْبَاقِيَاتِ. ثُمَّ بَيْنَ الْآخِرَتَيْنِ، فَإِذَا تَمَّتِ النُّوَبُ، رَاعَى التَّرْتِيبَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَةِ الْقُرْعَةِ. وَلَوْ بَدَأَ بِلَا قُرْعَةٍ، فَقَدْ ظَلَمَ، وَيَقْرَعُ بَيْنَ الثَّلَاثِ. فَإِذَا تَمَّتِ النُّوَبُ، أَقْرَعَ لِلِابْتِدَاءِ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي التَّسَاوِي وَبَيَانِ مَحَلِّ التَّفَاضُلِ. الْقَسْمُ الْمَشْرُوعُ لِلْعَدْلِ، فَيَحْرُمُ التَّفْضِيلُ وَإِنْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَاهُمَا بِشَرَفٍ وَغَيْرِهِ، فَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ التَّفْضِيلُ إِلَّا بِشَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْحُرِّيَّةُ، فَلِلْحُرَّةِ ضِعْفُ مَا لِلْأَمَةِ، فَدَوْرُهُمَا أَثْلَاثٌ. فَلَوْ طَرَأَ عِتْقُ الْأَمَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِالْحُرَّةِ، وَإِمَّا بِالْأَمَةِ. الْحَالَةُ الْأُولَى: بِالْحُرَّةِ. فَإِمَّا أَنْ تُعْتَقَ فِي نَوْبَةِ الْحُرَّةِ، وَإِمَّا فِي نَوْبَتِهَا. الْقَسْمُ الْأَوَّلُ: فِي نَوْبَةِ الْحُرَّةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْتِقَ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، بِأَنْ عَتَقَتْ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ لَيْلَتَيِ الْحُرَّةِ، فَيُتِمُّ اللَّيْلَةَ وَيَبِيتُ اللَّيْلَةَ الْأُخْرَى عِنْدَ الْعَتِيقَةِ لِيُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: عَتَقَتْ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ الْحُرَّةِ بَقِيَّةَ اللَّيْلِ، لَكِنْ يَبِيتُ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَتِيقَةِ لَيْلَتَيْنِ. فَلَوْ خَرَجَ فِي الْحَالِ، وَكَانَ بَقِيَّةَ اللَّيْلَةِ فِي مَسْجِدٍ أَوْ بَيْتِ صَدِيقٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَإِنْ خَرَجَ بَقِيَّةَ اللَّيْلَةِ إِلَى الْعَتِيقَةِ، فَقَدْ أَحْسَنَ.

الْقَسْمُ الثَّانِي: تُعْتَقُ فِي نَوْبَةِ نَفْسِهَا، فَإِنْ عَتَقَتْ قَبْلَ تَمَامِ لَيْلَتِهَا، كَمَّلَ لَهَا لَيْلَتَيْنِ لِالْتِحَاقِهَا بِالْحُرَّةِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَغَيْرُهُ وَجْهًا، أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا لَيْلَةً، نَظَرًا إِلَى الِابْتِدَاءِ. وَإِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ تَمَامِ لَيْلَتِهَا، لَمْ تَسْتَحِقَّ إِكْمَالَ لَيْلَتَيْنِ، بَلْ يَقْتَصِرُ فِي تِلْكَ النَّوْبَةِ عَلَى تِلْكَ اللَّيْلَةِ، ثُمَّ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا. وَهَلِ الْعِتْقُ فِي يَوْمِهَا التَّالِي لَيْلَتَهَا كَعِتْقِهَا فِي لَيْلَتِهَا؟ حُكِيَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ الْجُمْهُورِ: الْمَنْعُ لِأَنَّهُ تَابِعٌ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: بَدَأَ بِالْأَمَةِ فَعَتَقَتْ فِي نَوْبَتِهَا، صَارَتْ كَالْحُرَّةِ فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا وَإِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ تَمَامِ نَوْبَتِهَا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبِيتُ عِنْدَ الْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَوِّي بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْإِمَامُ، وَالْمُتَوَلِّي، وَالْغَزَالِيُّ، وَالسَّرَخْسِيُّ، وَمَنَعَ الْبَغَوِيُّ تَكْمِيلَ اللَّيْلَتَيْنِ وَقَالَ: إِنْ عَتَقَتْ فِي الْأُولَى مِنْ لَيْلَتَيِ الْحُرَّةِ، أَتَمَّهَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا، وَإِنْ عَتَقَتْ فِي الثَّانِيَةِ، خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فِي الْحَالِ. وَعَلَى نَحْوِ هَذَا جَرَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَصْحَابُهُ وَصَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» . فَرْعٌ ذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ الْأَمَةَ إِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ إِذَا اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ [وَ] فِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي «كِتَابِ النِّكَاحِ» مَتَى تَجِبُ نَفَقَتُهَا. فَرْعٌ إِسْقَاطُ حَقِّ الْقَسْمِ بِهِبَتِهِ لِلزَّوْجِ، أَوْ لِضَرَّةِ الْأَمَةِ لَا لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْحَظِّ فِي الْقَسْمِ لَهَا، كَمَا أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لَهَا لَا لَهُ.

فَرْعٌ ذَكَرَ الْمُتَوَلِّي، أَنَّهُ إِذَا قَسَمَ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ سَافَرَ السَّيِّدُ بِالْأَمَةِ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ، بَلْ عَلَى الزَّوْجِ قَضَاءُ مَا فَاتَ عِنْدَ التَّمَكُّنِ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ حَصَلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا فَعُذِرَتْ. السَّبَبُ الثَّانِي: تَجَدُّدُ النِّكَاحِ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْجَدِيدَةِ بِزِيَادَةِ مَبِيتٍ عِنْدَ الزِّفَافِ، وَهِيَ سَبْعُ لَيَالٍ لِلْبِكْرِ، وَثَلَاثٌ لِلثَّيِّبِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ، وَلِتَزُولَ الْحِشْمَةُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا التَّخْصِيصُ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِي وُجُوبِهِ قَوْلَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، حَتَّى قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ خَرَجَ بَعْضَ تِلْكَ اللَّيَالِي بِعُذْرٍ، أَوْ أُخْرِجَ، قَضَى عِنْدَ التَّمَكُّنِ. وَتَجِبُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ السَّبْعِ وَالثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْحِشْمَةَ لَا تَزُولُ بِالْمُفَرَّقِ. فَلَوْ فَرَّقَ، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ الْمَنْعُ، وَذَكَرَ الزَّازُ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ، أَنَّهُ يُوَفِّيهَا حَقَّهَا مُتَوَالِيًا، وَيَقْضِي مَا فَرَّقَ لِلْأُخْرَيَاتِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ ثُيُوبَةُ الْجَدِيدَةِ بِنِكَاحٍ أَوْ زِنًا أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. وَلَوْ حَصَلَتْ بِمَرَضٍ أَوْ وَثْبَةٍ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي اسْتِئْذَانِهَا نُطْقًا فِي النِّكَاحِ. وَلَوْ كَانَتِ الْجَدِيدَةُ أَمَةً - وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْعَبْدِ، فَإِنَّ لَهُ نِكَاحَ أَمَةٍ عَلَى حُرَّةٍ - فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا كَالْحُرَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّبْعِ وَالثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ زَوَالُ الْحِشْمَةِ، وَالْأَمَةُ كَالْحُرَّةِ فِيهِ. وَالثَّانِي: لَهَا نِصْفُ مَا لِلْحُرَّةِ كَالْقَسْمِ. وَعَلَى هَذَا فِي صِفَةِ التَّنْصِيفِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَجْبُرُ الْكَسْرَ، فَلِلْبِكْرِ أَرْبَعٌ، وَلِلثَّيِّبِ لَيْلَتَانِ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ: لِلْبِكْرِ ثَلَاثٌ

وَنِصْفٌ، وَلِلثَّيِّبِ لَيْلَةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الزِّفَافِ. فَلَوْ نَكَحَهَا وَهِيَ أَمَةٌ، وَزُفَّتْ إِلَيْهِ وَهِيَ حُرَّةٌ، فَلَهَا حَقُّ الْحَرَائِرِ قَطْعًا. وَإِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ الزِّفَافِ، فَلَهَا حَقُّ الْإِمَاءِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَهَا حَقُّ الْحَرَائِرِ إِذَا عَتَقَتْ فِي الْمُدَّةِ. فَرْعٌ إِذَا وَفَّى حَقَّ الزِّفَافِ مِنَ الثَّلَاثِ أَوِ السَّبْعِ، لَمْ يَقْضِ لِلْبَاقِيَاتِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَيِّرَ الثَّيِّبَ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا بِلَا قَضَاءٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَيَقْضِيَهُنَّ لِلْبَاقِيَاتِ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. فَإِنِ اخْتَارَتِ السَّبْعَ فَأَجَابَهَا، قَضَى السَّبْعَ لِلْبَاقِيَاتِ. وَإِنْ أَقَامَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا، لَمْ يَقْضِ إِلَّا الْأَرْبَعَ الزَّائِدَةَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَحُكِيَ فِي «الْمُهَذَّبِ» فِيمَا إِذَا أَقَامَ سَبْعًا، وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ يَقْضِي السَّبْعَ، أَوْ أَرْبَعًا، هَكَذَا أَطْلَقَهُ. فَإِنْ أَرَادَ: إِذَا الْتَمَسَتْهُ، حَصَلَ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَى خِلَافِ الْمَذْهَبِ. وَإِنْ أَرَادَ: إِذَا لَمْ تَلْتَمِسْهُ، أَوْ كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ، حَصَلَ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ عَلَى خِلَافِ الْمَذْهَبِ. وَلَوِ الْتَمَسَتْ أَرْبَعًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سِتًّا، لَمْ يَقْضِ إِلَّا مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ. وَلَوِ الْتَمَسَتِ الْبِكْرُ عَشْرًا، لَمْ يُجْبِرْ إِجَابَتَهَا. فَإِنْ أَجَابَهَا، لَمْ يَقْضِ إِلَّا مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِ. فَرْعٌ لَوْ وَفَّى حَقَّ جَدِيدَةٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ رَاجَعَهَا، فَلَيْسَ لَهَا حَقُّ الزِّفَافِ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَقَدْ وَفَّى حَقَّهُ. وَإِنْ أَبَانَهَا ثُمَّ جَدَّدَ نِكَاحَهَا، فَقَوْلَانِ أَوْ

وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: تَجَدُّدُ الْحَقِّ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ مُسْتَوْلَدَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ الَّتِي هِيَ فِرَاشُهُ ثُمَّ نَكَحَهَا. أَمَّا لَوْ أَبَانَهَا قَبْلَ تَوْفِيَةِ حَقِّهَا ثُمَّ نَكَحَهَا، فَيَلْزَمُهُ التَّوْفِيَةُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ أَقَامَ عِنْدَ الْبِكْرِ ثَلَاثًا وَافْتَضَّهَا، ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ نَكَحَهَا، فَإِنْ قُلْنَا: يَتَجَدَّدُ حَقُّ الزِّفَافِ، بَاتَ عِنْدَهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ لِأَنَّهُ حَقُّ زِفَافِ الثَّيِّبِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَجَدَّدُ، بَاتَ أَرْبَعًا تَتْمِيمًا لِلزِّفَافِ الْأَوَّلِ. فَرْعٌ نَكَحَ جَدِيدَتَيْنِ، وَفَّى لَهُمَا حَقَّ الزِّفَافِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهُمَا. ثُمَّ إِنْ زُفَّتَا عَلَى التَّرْتِيبِ، أَدَّى حَقَّ الْأُولَى أَوَّلًا. وَإِنْ زُفَّتَا مَعًا وَهُوَ مَكْرُوهٌ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا لِلِابْتِدَاءِ، فَإِذَا خَرَجَتْ قُرْعَةُ إِحْدَاهُمَا، قَدَّمَ الْجَمِيعَ السَّبْعَ أَوِ الثَّلَاثَ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ يُقَدِّمُهَا بِلَيْلَةٍ ثُمَّ يَبِيتُ عِنْدَ الْأُخْرَى لَيْلَةً، وَهَكَذَا يَفْعَلُ إِلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ. وَحَكَى الْبَغَوِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» وَجْهًا، أَنَّهُمَا إِذَا كَانَتَا بِكْرَيْنِ أَوْ ثَيِّبَيْنِ، فَلَيْسَ لَهُمَا حَقُّ الزِّفَافِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهُمَا. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهُمَا، لَزِمَهُ التَّسْوِيَةُ. وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِكْرًا وَالْأُخْرَى ثَيِّبًا، خَصَّ الْبِكْرَ بِأَرْبَعٍ، ثُمَّ يُسَوِّي، وَهَذَا ضَعِيفٌ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ، أَنَّ حَقَّ الزِّفَافِ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا كَانَ فِي نِكَاحِهِ أُخْرَى.

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ، أَوْ كَانَتْ وَكَانَ لَا يَبِيتُ عِنْدَهَا، لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الزِّفَافِ لِلْجَدِيدَةِ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ ابْتِدَاءً. فَرْعٌ إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ نِسْوَةٌ فَزُفَّتْ إِلَيْهِ الْجَدِيدَةُ بَعْدَمَا سَوَّى بَيْنَهُنَّ، فَيُوَفِّيهَا حَقَّهَا، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْقَسْمُ بَيْنَ الْجَمِيعِ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ زَوْجَتَانِ فَزُفَّتِ الْجَدِيدَةُ بَعْدَمَا قَسَمَ لِإِحْدَاهُمَا لَيْلَةً، وَفَّى حَقَّ الزِّفَافِ، ثُمَّ يَقْسِمُ لِلْقَدِيمَةِ الْأُخْرَى لَيْلَةً، وَيَبِيتُ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ نِصْفَ لَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ ثُلُثَ الْقَسْمِ، ثُمَّ يَخْرُجُ بَقِيَّةَ اللَّيْلَةِ إِلَى مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْقَسْمَ بَيْنَ الثَّلَاثِ بِالسَّوِيَّةِ. فَرْعٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ بِسَبَبِ حَقِّ الزِّفَافِ عَنِ الْجَمَاعَاتِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي كَانَ يَقُومُ بِهَا. هَذَا فِي النَّهَارِ، وَأَمَّا فِي اللَّيْلِ، فَقَالُوا: لَا يَخْرُجُ لِأَنَّ هَذِهِ مَنْدُوبَاتٌ، وَالْمُقَامُ عِنْدَهَا وَاجِبٌ. قَالُوا: وَفِي دَوَامِ الْقَسْمِ، يَجِبُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ، بِأَنْ يَخْرُجَ فِي لَيْلَةِ الْجَمِيعِ، أَوْ لَا يَخْرُجَ أَصْلًا. فَلَوْ خَرَجَ فِي لَيْلَةِ بَعْضِهِنَّ فَقَطْ، فَحَرَامٌ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي الظُّلْمِ وَالْقَضَاءِ، فِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: تَحْتَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، بَاتَ عِنْدَ ثِنْتَيْنِ عِشْرِينَ لَيْلَةً، إِمَّا عَشْرًا عِنْدَ هَذِهِ ثُمَّ عَشْرًا عِنْدَ هَذِهِ، وَإِمَّا لَيْلَةً لَيْلَهً، فَتَسْتَحِقُّ الثَّالِثَةُ عَشْرَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَةٍ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا. فَلَوْ نَكَحَ جَدِيدَةً عُقْبَى الْعِشْرِينَ، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الْعَشْرِ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لِلْجَدِيدَةِ،

بَلْ يُوَفِّيهَا أَوَّلًا حَقَّ الزِّفَافِ، ثُمَّ يَقْسِمُ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْمَظْلُومَةِ، وَيَجْعَلُ لِلْمَظْلُومَةِ لَيْلَتَهَا وَلَيْلَتَيِ الْآخِرَتَيْنِ، فَيَبِيتُ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ لَيْلَةً، وَعِنْدَ الْمَظْلُومَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. فَإِذَا دَارَ هَكَذَا ثَلَاثَ نُوَبٍ، فَقَدْ وَفَّاهَا تِسْعًا وَبَقِيَتْ لَيْلَةٌ. فَإِنْ كَانَ بَدَأَ بِالْمَظْلُومَةِ، فَإِذَا تَمَّتِ التِّسْعُ لَهَا، بَاتَ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ لَيْلَتَهَا لِتَمَامِ الْقَسْمِ، ثُمَّ يَبِيتُ عِنْدَ الْمَظْلُومَةِ لَيْلَةً لِتَمَامِ الْعَشْرِ، وَيَبِيتُ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ بِهَذِهِ اللَّيْلَةِ ثُلُثَ لَيْلَةٍ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى مَوْضِعٍ خَالٍ عَنْ زَوْجَاتِهِ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْقَسْمَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْأَرْبَعِ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ لَا يَبِيتُ ثُلُثَ اللَّيْلَةِ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ، وَيُعْذَرُ فِيهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ بَدَأَ بِالْجَدِيدَةِ، فَإِذَا تَمَّتِ التِّسْعُ لِلْمَظْلُومَةِ، بَاتَ ثُلُثَ لَيْلَةٍ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ وَخَرَجَ، ثُمَّ يَبِيتُ لَيْلَةً عِنْدَ الْمَظْلُومَةِ، ثُمَّ يَقْسِمُ بَيْنَ كُلِّهِنَّ بِالسَّوِيَّةِ، وَالْقَسَمُ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْمَظْلُومَةِ بِالْقُرْعَةِ كَغَيْرِهَا. الثَّانِيَةُ: تَحْتَهُ أَرْبَعٌ، ثَلَاثٌ حَاضِرَاتٌ، وَوَاحِدَةٌ غَائِبَةٌ، فَظَلَمَ وَاحِدَةً مِنَ الْحَاضِرَاتِ بِالْآخِرَتَيْنِ، ثُمَّ حَضَرَتِ الْغَائِبَةُ، فَيَقْضِي لِلْمَظْلُومَةِ مَعَ رِعَايَةِ حَقِّ الَّتِي حَضَرَتْ، فَيَقْسِمُ لَهَا لَيْلَةً، وَلِلْمَظْلُومَةِ ثَلَاثًا، وَقَدْ يَحْتَاجُ آخِرًا إِلَى تَبْعِيضِ لَيْلَةٍ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَكَذَا لَوْ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَخَرَجَ فِي نَوْبَةٍ وَاحِدَةٍ، لِضَرُورَةٍ، بِأَنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ، فَيَقْضِي لَهَا مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مِثْلَ مَا خَرَجَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَاعِيَ الْوَقْتَ، فَيَقْضِي لِأُولَى اللَّيْلَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلِآخِرَةٍ مِنْ آخِرِهِ، وَيَكُونُ بَاقِي اللَّيْلِ فِي مَوْضِعٍ خَالٍ عَنْهُنَّ، وَيُسْتَثْنَى مَا إِذَا كَانَ يَخَافُ الْعَسَسَ أَوِ اللُّصُوصَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَوْ خَرَجَ، فَيُعْذَرُ فِي الْإِقَامَةِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَمْتِعَ بِهَا فِيمَا وَرَاءَ زَمَانِ الْقَضَاءِ.

فَرْعٌ قَالَ فِي «الْأُمِّ» : لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعٌ، فَتَرَكَ الْقَسْمَ لِإِحْدَاهُنَّ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، قَسَمَ لَهَا عَشْرًا. قَالَ الْأَصْحَابُ: صُورَتُهُ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ الثَّلَاثِ عَشْرًا عَشْرًا، وَيُعَطِّلُ عَشْرَ الرَّابِعَةِ، فَلَا يَبِيتُ عِنْدَ وَاحِدَةٍ فِيهَا. أَمَّا إِذَا وَزَّعَ الْأَرْبَعِينَ عَلَى الثَّلَاثِ بِالسَّوِيَّةِ، فَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَثُلُثٌ، فَيَقْسِمُ لِلرَّابِعَةِ مِثْلَ ذَلِكَ. الثَّالِثَةُ: لَوْ وَهَبَتْ وَاحِدَةٌ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ، لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَ الْقَبُولُ، فَلَهُ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا فِي نَوْبَتِهَا. فَإِنْ رَضِيَ بِالْهِبَةِ، نُظِرَ، إِنْ وَهَبَتْ لِمُعَيَّنَةٍ، جَازَ وَيَبِيتُ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهَا لَيْلَتَيْنِ. فَإِنْ كَانَتْ نَوْبَةُ الْوَاهِبَةِ مُتَّصِلَةً بِنَوْبَةِ الْمَوْهُوبِ لَهَا، بَاتَ لَيْلَتَيْنِ وَلَاءً، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا انْتَهَتِ النَّوْبَةُ إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهَا، بَاتَ عِنْدَهَا لَيْلَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَيْهِ وَالْمِقْدَارُ لَا يَخْتَلِفُ. وَقِيَاسُ هَذَا، أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْوَاهِبَةِ أَسْبَقَ، وَبَاتَ فِيهَا عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهَا، يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ لَهَا لَيْلَتَهَا وَيَبِيتَهَا مُتَّصِلَةً بِهَا، وَأَصَحُّهُمَا: لَا تَجُوزُ الْمُوَالَاةُ، بَلْ يَبِيتُ اللَّيْلَتَيْنِ مُنْفَصِلَتَيْنِ. وَلَوْ طَلَّقَ الْوَاهِبَةَ، لَمْ يَبِتْ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا لَيْلَتَهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْهِبَةِ رِضَى الْمَوْهُوبِ لَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ وَهَبَتْ حَقَّهَا لِلزَّوْجِ، فَهَلْ لَهُ تَخْصِيصُ وَاحِدَةٍ بِنَوْبَةِ الْوَاهِبَةِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْأَكْثَرِينَ. فَعَلَى هَذَا، يُنْظَرُ هَلِ اللَّيْلَتَانِ مُتَّصِلَتَانِ أَمْ لَا؟ وَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، فَتُجْعَلُ الْوَاهِبَةُ كَالْمَعْدُومَةِ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الْبَاقِيَاتِ. وَلَوْ أَبْقَى الدَّوْرَ بِحَالِهِ، وَبَاتَ لَيْلَةَ الْوَاهِبَةِ فِي كُلِّ دَوْرٍ عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَاقِيَاتِ، فَلَا تَفْضِيلَ وَلَا مَيْلَ، فَلَا يَبْعُدُ تَجْوِيزُهُ. فَإِنْ جَازَ، فَقِيَاسُهُ أَنْ يَجُوزَ وَضْعُ الدَّوْرِ فِي الِابْتِدَاءِ كَذَلِكَ، بِأَنْ تُجْعَلَ لَيْلَةٌ بَيْنَ لَيَالِيهِنَّ دَائِرَةً بَيْنَهُنَّ. وَلَوْ وَهَبَتْ حَقَّهَا لِجَمِيعِ الضَّرَّاتِ، أَوْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مُطْلَقًا، وَجَبَتِ التَّسْوِيَةُ فِيهِ بَيْنَ الْبَاقِيَاتِ بِلَا خِلَافٍ.

فَرْعٌ لِلْوَاهِبَةِ أَنْ تَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ مَتَى شَاءَتْ، وَيَعُودُ حَقُّهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ. حَتَّى لَوْ رَجَعَتْ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِ الْمَوْهُوبِ لَهَا. وَأَمَّا مَا مَضَى، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّجُوعُ. وَكَذَا مَا فَاتَ قَبْلَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِالرُّجُوعِ، لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّجُوعُ فَلَا يَقْضِيهِ. وَخَرَجَ فِي قَضَائِهِ وَجْهٌ مِنْ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بَعْدَ الْعَزْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَشَبَّهَهُ الْغَزَالِيُّ بِمَا إِذَا أَبَاحَهُ ثَمَرَةَ بُسْتَانِهِ ثُمَّ رَجَعَ وَتَنَاوَلَ الْمُبَاحُ لَهُ بَعْضَهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالرُّجُوعِ. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ طَرِيقَانِ مَحْكِيَّانِ فِيمَا عُلِّقَ عَنِ الْإِمَامِ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، فِي وُجُوبِ الْغُرْمِ قَوْلَانِ، كَمَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ. وَعَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ الْقَطْعُ بِالْغُرْمِ وَمَالَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ الْغَرَامَاتِ يَسْتَوِي فِيهَا الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ أَنْ تَأْخُذَ عَنْ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ عِوَضًا، لَا مِنَ الزَّوْجِ وَلَا مِنَ الضَّرَّةِ. فَإِنْ أَخَذَتْ، لَزِمَهَا رَدُّهُ، وَيَسْتَحِقُّ الْقَضَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا الْعِوَضَ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا قَضَاءَ. فَرْعٌ بَاتَ فِي نَوْبَتِهَا عِنْدَ غَيْرِهَا، وَادَّعَى أَنَّهَا وَهَبَتْهَا وَأَنْكَرَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَا تُقْبَلُ إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ.

الرَّابِعَةُ: إِذَا ظَلَمَ وَاحِدَةً، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ إِذَا كَانَتِ الْمَظْلُومَةُ وَالْمَظْلُومُ بِسَبَبِهَا فِي نِكَاحِهِ، فَإِنْ فَارَقَ الْمَظْلُومَةَ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَدْ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ، وَبَقِيَتِ الظُّلَامَةُ فِي ذِمَّتِهِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ قَسَمَ لِوَاحِدَةٍ، فَلَمَّا جَاءَتْ نَوْبَةُ الْأُخْرَى، طَلَّقَهَا قَبْلَ تَوْفِيَةِ حَقِّهَا، عَصَى؛ لِأَنَّهُ مَنَعَهَا حَقَّهَا بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ لِكَوْنِ الطَّلَاقِ بِدْعِيًّا. قُلْتُ: هَذَا النَّقْلُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْمُتَوَلِّي، بَلْ هُوَ مَشْهُورٌ حَتَّى فِي التَّنْبِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِذَا عَادَتِ الْمَظْلُومَةُ إِلَيْهِ بِنِكَاحٍ أَوْ رَجْعَةٍ، وَالَّتِي ظَلَمَ بِسَبَبِهَا فِي نِكَاحِهِ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِتَمَكُّنِهِ، وَقِيلَ: إِنْ عَادَتْ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَضَاءُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ عَوْدِ الْحِنْثِ. فَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي نِكَاحِهِ الَّتِي ظَلَمَ بِسَبَبِهَا حِينَ عَادَتِ الْمَظْلُومَةُ، بَلْ نَكَحَ جَدِيدَاتٍ، فَقَدْ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْضِي مِنْ نَوْبَةِ الَّتِي ظَلَمَ بِسَبَبِهَا. وَلَوْ لَمْ يُفَارِقِ الْمَظْلُومَةَ وَفَارَقَ الَّتِي ظَلَمَ بِسَبَبِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى نِكَاحِهِ، أَوْ فَارَقَهُمَا ثُمَّ عَادَتَا، وَجَبَ الْقَضَاءُ، وَلَا يُحْسَبُ مِنَ الْقَضَاءِ مَا بَاتَ عِنْدَهَا فِي مُفَارَقَةِ الظَّالِمَةِ، وَيَجِيءُ فِي عَوْدِ النِّكَاحِ الْجَدِيدِ الْوَجْهُ السَّابِقُ. فَرْعٌ فِي نِكَاحِهِ ثَلَاثٌ، فَبَاتَ عِنْدَ ثِنْتَيْنِ عِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ فَارَقَ إِحْدَاهُمَا، يَبِيتُ عِنْدَ الْمَظْلُومَةِ عَشْرًا تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْبَاقِيَةِ - كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَقَالَ

الْمُتَوَلِّي: يَقْضِي خَمْسًا فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْضِي الْعَشْرَ مِنْ حَقِّهِمَا وَقَدْ بَطَلَ حَقُّ إِحْدَاهُمَا. فَرْعٌ تَحْتَهُ زَوْجَتَانِ، ظَلَمَ إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ نَكَحَ ثَالِثَةً، لَمْ يَتَعَذَّرِ الْقَضَاءُ، بَلْ يَقْضِي لِلْمَظْلُومَةِ مِنْ نَوْبَةِ الْمَظْلُومِ بِسَبَبِهَا كَمَا سَبَقَ. الطَّرَفُ الْخَامِسُ: فِي الْمُسَافَرَةِ بِهِنَّ. إِذَا أَرَادَ الْمُسَافَرَةَ بِبَعْضِ زَوْجَاتِهِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ، فَيُسَافِرُ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا، وَلَا يَقْضِي مُدَّةَ السَّفَرِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِشُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَقْرَعَ، فَإِنْ لَمْ يَقْرَعْ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِلْمُخَلَّفَاتِ. وَهَلْ يَقْضِي جَمِيعَ مَا بَيْنَ إِنْشَاءِ السَّفَرِ إِلَى رُجُوعِهِ إِلَيْهِنَّ، أَمْ تُسْتَثْنَى مُدَّةُ الرُّجُوعِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، أَمْ يَسْقُطُ قَضَاءُ مَا بَعْدَ الْعَزْمِ عَلَى الرُّجُوعِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُسَافَرَةِ بِبَعْضِهِنَّ بِلَا قُرْعَةٍ، سَوَاءٌ فِيهِ كَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ أَمْ لَا. وَأَشَارَ الْحَنَّاطِيُّ إِلَى خِلَافٍ فِي اخْتِصَاصِهِ بِمَنْ كَانَ يَقْسِمُ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِوَاحِدَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَافِرَ بِغَيْرِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَلِّفَهَا مَعَ الْبَاقِيَاتِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِسَفَرِهِ النُّقْلَةَ، وَأَمَّا سَفَرُ النُّقْلَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ فِيهِ بَعْضَهُنَّ دُونَ بَعْضٍ، بِقُرْعَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا. فَلَوْ فَعَلَ، قَضَى لِلْمُخَلَّفَاتِ. وَقِيلَ: لَا يَقْضِي مُدَّةَ السَّفَرِ إِنْ أَقْرَعَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ نَقَلَ بَعْضَهُنَّ بِنَفْسِهِ، وَبَعْضَهُنَّ بِوَكِيلِهِ بِلَا قُرْعَةٍ، قَضَى لِمَنْ مَعَ الْوَكِيلِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِالْقُرْعَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. قُلْتُ: وَفِي الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهَانِ فِي «التَّنْبِيهِ» وَغَيْرِهِ، أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ لِاشْتِرَاكِهِنَّ فِي السَّفَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا أَخَذَ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِنَّ بَعْدَ تَخْصِيصِ وَاحِدَةٍ بِالنَّقْلِ، فَفِي قَضَاءِ مُدَّةِ الرُّجُوعِ الْوَجْهَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ سَفَرَ نُقْلَةٍ وَيُخَلِّفَ نِسَاءَهُ، بَلْ يَنْقُلُهُنَّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ، أَوْ يُطَلِّقُهُنَّ لِمَا فِي تَخْلِيفِهِنَّ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْغَزَالِيُّ قَالَ: وَإِنَّمَا لَا يُكَلَّفُ فِي الْحَضَرِ الْبَيْتُوتَةَ اكْتِفَاءً بِدَاعِيَتِهِ. وَفِي مَا عُلِّقَ عَنِ الْإِمَامِ، أَنَّ ذَلِكَ أَدَبٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ طَوِيلًا. فَإِنْ كَانَ قَصِيرًا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ كَالطَّوِيلِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَهُنَّ فِيهِ بِقُرْعَةٍ، وَلَوْ فَعَلَ قَضَى. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَى الْإِقَامَةِ، فَلَا يَقْضِي مُدَّةَ السَّفَرِ. وَأَمَّا إِذَا صَارَ مُقِيمًا، فَيَنْظُرُ، إِنِ انْتَهَى إِلَى مَقْصِدِهِ الَّذِي نَوَى إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَأَكْثَرَ فِيهِ، أَوْ نَوَاهَا عِنْدَ دُخُولِهِ، قَضَى مُدَّةَ إِقَامَتِهِ، وَفِي مُدَّةِ الرُّجُوعِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَقْضِي كَمُدَّةِ الذَّهَابِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ وَأَقَامَ، فَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: إِنْ أَقَامَ يَوْمًا، لَمْ يَقْضِهِ، وَالْأَقْرَبُ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ: إِنْ زَادَ مُقَامُهُ فِي بَلَدٍ عَلَى مُقَامِ الْمُسَافِرِينَ، وَجَبَ قَضَاءُ الزَّائِدِ. وَلَوْ أَقَامَ لِشُغْلٍ يَنْتَظِرُهُ، فَفِي الْقَضَاءِ خِلَافٌ كَالْخِلَافِ فِي التَّرَخُّصِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ قُلْنَا: يَتَرَخَّصُ، لَمْ يَقْضِ، وَإِلَّا فَيَقْضِي مَا زَادَ عَلَى مُدَّةِ الْمُسَافِرِينَ، وَالْقِيَاسُ فِي مُدَّةِ الرُّجُوعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ لَمْ نُوجِبِ الْقَضَاءَ مُدَّةَ هَذِهِ الْإِقَامَةِ، لَمْ يَقْضِ مُدَّةَ الرُّجُوعِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ مِنَ الْخِلَافِ فِي التَّرَخُّصِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَتَوَقَّعُ تَنْجِيزَ شُغْلِهِ سَاعَةً سَاعَةً، تَرَخَّصُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُنْجِزُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَا يَتَرَخَّصُ أَصْلًا.

فصل

فَرْعٌ قَالَ الْغَزَالِيُّ: شَرْطُ عَدَمِ الْقَضَاءِ، أَنْ يَكُونَ سَفَرًا طَوِيلًا مُرَخَّصًا، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ. فَرْعٌ اسْتَصْحَبَ وَاحِدَةً بِقُرْعَةٍ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي بَلَدٍ، وَكَتَبَ إِلَى الْبَاقِيَاتِ يَسْتَحْضِرُهُنُّ، فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ وَقْتِ كِتَابَتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ. وَفِي فَتَاوِيهِ، أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْمُقَامَ فِي بَلَدٍ قَبْلَ وُصُولِهِ مَقْصِدَهُ، يَقْضِي مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهِ، وَهَلْ يَقْضِي مُدَّةَ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَقْصِدِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي مُدَّةِ الرُّجُوعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: يَقْضِي قَطْعًا. وَأَنَّهُ إِذَا اسْتَصْحَبَ وَاحِدَةً بِلَا قُرْعَةٍ قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ جَمِيعَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَبِيتُ مَعَهَا، إِلَّا إِذَا تَرَكَهَا فِي بَلَدٍ وَفَارَقَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقْضِي إِلَّا مَا بَاتَ عِنْدَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: يَقْضِي وَإِنْ خَلَّفَهَا فِي بَلَدٍ. وَفِيمَا عُلِّقَ عَنِ الْإِمَامِ ذَكَرَ وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوِ اسْتَصْحَبَ وَاحِدَةً بِقُرْعَةٍ فِي سَفَرِ نُقْلَةٍ وَأَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ، هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الظُّلْمِ بِتَغَيُّرِ عَزْمِ النُّقْلَةِ، أَمْ يَسْتَمِرُّ حُكْمُهُ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمُخَلَّفَاتِ. فَصْلٌ إِذَا سَافَرَ بِزَوْجَتَيْنِ بِقُرْعَةٍ، عَدَلَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ ظَلَمَ إِحْدَاهُمَا، قَضَى لَهَا بِالسَّفَرِ،

فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ، قَضَى فِي الْحَضَرِ مِنْ نَوْبَةِ الَّتِي ظَلَمَهَا بِهَا. وَلَوِ اسْتَصْحَبَ وَاحِدَةً بِقُرْعَةٍ، وَأُخْرَى بِلَا قُرْعَةٍ، عَدَلَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا. ثُمَّ إِذَا رَجَعَ، قَضَى لِلْمُخَلَّفَةِ مِنْ نَوْبَةِ الْمُسْتَصْحَبَةِ بِلَا قُرْعَةٍ، وَلَا تُخَصُّ مُدَّةُ السَّفَرِ بِمَنِ اسْتَصْحَبَهَا بِالْقُرْعَةِ، إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا غَيْرُهَا. وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَى الْمُسْتَصْحَبَتَيْنِ جَدِيدَةً لَمْ يَكُنْ قَضَى حَقَّ زِفَافِهَا، فَيَقْضِيهِ، ثُمَّ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا. وَلَوْ أَرَادَ تَخْلِيفَ إِحْدَاهُمَا فِي بَلَدٍ، فَلَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ تَكُونُ بِالْقُرْعَةِ. وَلَوْ نَكَحَ فِي الطَّرِيقِ جَدِيدَةً، قَضَى حَقَّ زِفَافِهَا ثُمَّ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُسْتَصْحَبَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ لِلْمُخَلَّفَاتِ. وَلَوْ خَرَجَ وَحْدَهُ، وَنَكَحَ فِي الطَّرِيقِ، فَكَذَلِكَ، وَلَا يَقْضِي لِلْمُخَلَّفَاتِ هَذَا فِي مُدَّةِ السَّفَرِ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعٍ أَوْ أَقَامَ أَيَّامًا، فَيَقْضِي فِي الصُّورَتَيْنِ مَا وَرَاءَ أَيَّامِ الزِّفَافِ، وَفِي مُدَّةِ الرُّجُوعِ الْوَجْهَانِ. فَرْعٌ تَحْتَهُ زَوْجَتَانِ، ثُمَّ نَكَحَ جَدِيدَتَيْنِ وَسَافَرَ بِإِحْدَاهُمَا بِقُرْعَةٍ انْدَرَجَ حَقُّ زِفَافِهَا فِي أَيَّامِ السَّفَرِ. فَإِذَا عَادَ، فَهَلْ يُوَفِّي حَقَّ الْأُخْرَى بِسَبْعٍ أَوْ ثَلَاثٍ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ قَبْلَ السَّفَرِ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَسَمَ لِبَعْضِهِنَّ وَسَافَرَ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بَعْدَ الرُّجُوعِ لِمَنْ لَمْ يَقْسِمْ لَهَا. وَالثَّانِي: لَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، كَمَا لَوْ سَافَرَ بِإِحْدَى الْقَدِيمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي لِلْأُخْرَى، وَلِأَنَّ حَقَّ الْجَدِيدَةِ عَقِيبَ الزِّفَافِ وَقَدْ مَضَى. وَلَوْ نَكَحَ ثِنْتَيْنِ وَزُفَّتَا إِلَيْهِ مَعًا، فَسَافَرَ بِإِحْدَاهُمَا بِقُرْعَةٍ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، فَلَوْ كَانَتَا بِكْرَيْنِ فَرَجَعَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ:

عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُتِمُّ لَهَا السَّبْعَ، ثُمَّ يُوَفِّي الْأُخْرَى سَبْعًا. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ: يُتِمُّ لَهَا السَّبْعَ، وَيَبِيتُ عِنْدَ الْأُخْرَى أَرْبَعًا، وَيَبْطُلُ مَا جَرَى فِي السَّفَرِ. وَلَوْ نَكَحَ جَدِيدَةً عَلَى قَدِيمَةٍ، وَسَافَرَ قَبْلَ تَوْفِيَةِ الزِّفَافِ بِإِحْدَاهُمَا بِقُرْعَةٍ، فَإِنْ سَافَرَ بِالْقَدِيمَةِ، وَفَّى حَقَّ الْجَدِيدَةِ إِذَا رَجَعَ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ الْآخَرُ. وَإِنْ سَافَرَ بِالْجَدِيدَةِ، انْدَرَجَ حَقُّ الزِّفَافِ فِي أَيَّامِ السَّفَرِ. فَرْعٌ تَحْتَهُ نِسْوَةٌ وَلَهُ إِمَاءٌ، هَلْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِأَمَةٍ بِلَا قُرْعَةٍ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ، وَنَسَبَ الْمَنْعَ إِلَى ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْجَوَازَ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ، وَهُوَ قِيَاسُ أَصْلِ الْقَسْمِ. قُلْتُ: الْجَوَازُ هُوَ الصَّحِيحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ، أَنَّهُ لَوْ سَافَرَ بِإِحْدَى زَوْجَاتِهِ الثَّلَاثِ بِالْقُرْعَةِ، ثُمَّ نَكَحَ فِي السَّفَرِ جَدِيدَةً، وَمَنَعَهَا حَقَّ الزِّفَافِ ظُلْمًا، وَبَاتَ عِنْدَ الْقَدِيمَةِ سَبْعًا، وَعَادَ إِلَى الْبَلَدِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ لِلْجَدِيدَةِ حَقَّ الزِّفَافِ، وَفَّاهَا حَقَّ الزِّفَافِ، ثُمَّ يَدُورُ عَلَى الْمُخَلَّفَاتِ وَالْجَدِيدَةِ، فَيَقْضِي لَهَا مِنْ نَوْبَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، بِأَنْ يَبِيتَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُخَلَّفَتَيْنِ لَيْلَةً، وَعِنْدَ الْجَدِيدَةِ لَيْلَتَيْنِ، وَهَكَذَا حَتَّى يُتِمَّ لَهَا السَّبْعَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ تَحْتَهُ ثَلَاثٌ وَنَكَحَ جَدِيدَةً وَلَمْ يُوَفِّهَا حَقَّ الزِّفَافِ، بَلْ بَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ عَشْرًا ظُلْمًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَ حَقَّ الْجَدِيدَةِ ثُمَّ يَدُورُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْمَظْلُومَتَيْنِ، حَتَّى يُتِمَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرًا.

الْبَابُ الثَّانِي فِي الشِّقَاقِ. الْوَحْشَةُ وَالشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَظْهَرُ سَبَبُهُ بِأَنْ تَنْشُزَ أَوْ يَتَعَدَّى هُوَ عَلَيْهَا، وَقَدْ لَا يَظْهَرُ وَيُشْكِلُ الْحَالُ فِي أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ أَيُّهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ تَتَعَدَّى هِيَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ. [النِّسَاءِ: 33] وَالْمُرَادُ بِالْوَعْظِ، أَنْ يَقُولَ: اتَّقِي اللَّهَ فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْكِ، وَاحْذَرِي الْعُقُوبَةَ، وَيُبَيِّنُ لَهَا أَنَّ النُّشُوزَ يُسْقِطُ النَّفَقَةَ وَالْقَسْمَ، وَأَمَّا الْهِجْرَانُ، فَهَجْرُهَا فِي الْمَضْجَعِ، وَأَمَّا الْهِجْرَانُ فِي الْكَلَامِ، فَمَمْنُوعٌ. وَفِيمَا عُلِّقَ عَنِ الْإِمَامِ، حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَمْ مَكْرُوهٌ؟ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ تَرْكُ الْكَلَامِ أَبَدًا، لَكِنْ إِذَا كَلَّمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ، وَهُوَ كَابْتِدَاءِ السَّلَامِ وَجَوَابِهِ، وَلِمَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّحْرِيمِ أَنْ يَقُولَ: لَا مَنْعَ مِنْ تَرْكِ الْكَلَامِ بِلَا قَصْدٍ، فَأَمَّا بِقَصْدِ الْهِجْرَانِ، فَحَرَامٌ، كَمَا أَنَّ الطِّيبَ وَنَحْوَهُ إِذَا تَرَكَهُ الْإِنْسَانُ بِلَا قَصْدٍ لَا يَأْثَمُ. وَلَوْ قَصَدَ بِتَرْكِهِ الْإِحْدَادَ أَثِمَ، وَحُكِيَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَوْ هَجَرَهَا بِالْكَلَامِ، لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ زَادَ أَثِمَ. قُلْتُ: الصَّوَابُ، الْجَزْمُ بِتَحْرِيمِ الْهِجْرَانِ فِيمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ فِي الثَّلَاثَةِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ» . قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: هَذَا فِي الْهِجْرَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ، بِأَنْ كَانَ الْمَهْجُورُ مَذْمُومَ الْحَالِ لِبِدْعَةٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَوْ كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لِدِينِ الْهَاجِرِ أَوِ الْمَهْجُورِ، فَلَا تَحْرِيمَ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا ثَبَتَ مِنْ هَجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ

مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ، وَنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةَ عَنْ كَلَامِهِمْ، وَكَذَا مَا جَاءَ مِنْ هِجْرَانِ السَّلَفِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الضَّرْبُ، فَهُوَ ضَرْبُ تَأْدِيبٍ وَتَعْزِيرٍ، وَقَدْرُهُ نَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مُدْمِيًا، وَلَا مُبَرِّحًا، وَلَا عَلَى الْوَجْهِ وَالْمَهَالِكِ. فَإِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفٍ، وَجَبَ الْغُرْمُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ إِتْلَافٌ لَا إِصْلَاحٌ، ثُمَّ الزَّوْجُ وَإِنْ جَازَ لَهُ الضَّرْبُ، فَالْأَوْلَى لَهُ الْعَفْوُ، بِخِلَافِ الْوَلِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَتْرُكُ ضَرْبَ التَّأْدِيبِ لِلصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ لِلصَّبِيِّ، وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ. وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى تَأْوِيلَيْنِ لَهُ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْآيَةِ أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ بِضَرْبِهِنَّ. وَالثَّانِي: حُمِلَ النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، أَوْ تَرْكِ الْأَوْلَى، وَقَدْ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى الْحَالِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِيهِ السَّبَبُ الْمُجَوِّزُ لِلضَّرْبِ. قُلْتُ: هَذَا التَّأْوِيلُ الْأَخِيرُ هُوَ الْمُخْتَارُ، فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ وَعَلِمْنَا التَّارِيخَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَلِتَعَدِّي الْمَرْأَةِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ. إِحْدَاهَا: أَنْ يُوجَدَ مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، بِأَنْ تُجِيبَهُ بِكَلَامٍ خَشِنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَيِّنًا، أَوْ يَجِدَ مِنْهَا إِعْرَاضًا وَعُبُوسًا بَعْدَ طَلَاقَةٍ وَلُطْفٍ، فَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، يَعِظُهَا وَلَا يَضْرِبُهَا وَلَا يَهْجُرُهَا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَحَقَّقَ نُشُوزُهَا، لَكِنْ لَا يَتَكَرَّرُ، وَلَا يَظْهَرُ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ، فَيَعِظُهَا وَيَهْجُرُهَا. وَفِي جَوَازِ الضَّرْبِ قَوْلَانِ، رَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ الْمَنْعَ، وَصَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «الشَّامِلِ» الْجَوَازَ. قُلْتُ: رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» الْمَنْعَ، وَالْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْجَوَازُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَكَرَّرَ وَتُصِرَّ عَلَيْهِ، فَلَهُ الْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ بِلَا خِلَافٍ، هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا فِي جَوَازِ الْهِجْرَانِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِي حَالَةِ ظُهُورِ النُّشُوزِ، ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: لَهُ الْوَعْظُ وَالْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ. وَالثَّانِي: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهَا وَلَا يَجْمَعُ. وَالثَّالِثُ: يَعِظُهَا. فَإِنْ لَمْ تَتَّعِظْ هَجَرَهَا، فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ ضَرَبَهَا. فَرْعٌ فِيمَا تَصِيرُ بِهِ نَاشِزَةً. فَمِنْهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْكَنِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ مُسَاكَنَتِهِ، وَمَنْعُ الِاسْتِمْتَاعِ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ فِي رَدِّهَا إِلَى الطَّاعَةِ إِلَى تَعَبٍ، وَلَا أَثَرَ لِامْتِنَاعِ الدَّلَالِ، وَلَيْسَ مِنَ النُّشُوزِ الشَّتْمُ وَبَذَاءُ اللِّسَانِ، لَكِنَّهَا تَأْثَمُ بِإِيذَائِهِ، وَتَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ، وَهَلْ يُؤَدِّبُهَا الزَّوْجُ، أَمْ يَرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي لِيُؤَدِّبَهَا؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ مَكَّنَتْ مِنَ الْجِمَاعِ وَمَنَعَتْ مِنْ سَائِرِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ، فَهَلْ هُوَ نُشُوزٌ يُسْقِطُ النَّفَقَةَ؟ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا نَعَمْ. وَالْأَصَحُّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي تَأْدِيبِهَا، أَنَّهُ يُؤَدِّبُهَا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ فِي رَفْعِهَا إِلَى الْقَاضِي مَشَقَّةً وَعَارًا وَتَنْكِيدًا لِلِاسْتِمْتَاعِ فِيمَا بَعْدُ، وَتَوْحِيشًا لِلْقُلُوبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَتَمَتْ أَجْنَبِيًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَدَّى الرَّجُلُ، فَيُنْظَرُ، إِنْ مَنَعَهَا حَقًّا كَنَفَقَةٍ أَوْ قَسْمٍ، أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ تَوْفِيَةَ حَقِّهَا. وَلَوْ كَانَ يَسِيءُ خُلُقُهُ وَيُؤْذِيهَا وَيَضْرِبُهَا بِلَا سَبَبٍ، فَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْهَاهُ. فَإِنْ عَادَ، عَزَّرَهُ. وَفِي «الشَّامِلِ» وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ يُسْكِنُهُمَا بِجَنْبِ ثِقَةٍ يَنْظُرُهُمَا، وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّعَدِّي، وَالنَّقْلَانِ مُتَقَارِبَانِ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّعَدِّي مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْحَاكِمُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْحَيْلُولَةِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يُحَالُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَعُودَا إِلَى الْعَدْلِ. قَالَ: وَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ فِي الْعَدْلِ، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهَا وَشَهَادَةُ الْقَرَائِنِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُهَا حَقًّا، وَلَا يُؤْذِيهَا بِضَرْبٍ وَنَحْوِهِ، لَكِنْ يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ، وَلَا يَدْعُوهَا إِلَى فِرَاشِهِ، أَوْ يَهُمُّ بِطَلَاقِهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَسْتَرْضِيَهُ بِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا مِنْ قَسْمٍ أَوْ نَفَقَةٍ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ هِيَ تَشْكُوهُ وَتَكْرَهُ صُحْبَتَهُ، فَيَحْسُنُ أَنْ يَبَرَّهَا وَيَسْتَمِيلَ قَلْبَهَا بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: إِذَا نَسَبَ كُلُّ وَاحِدٍ الْآخَرَ إِلَى التَّعَدِّي، وَسُوءِ الْخُلُقِ، وَقُبْحِ السِّيرَةِ، وَلَمْ يَعْرِفِ الْحَاكِمُ الْمُتَعَدِّيَ مِنْهُمَا، يَعْرِفُ حَالَهُمَا مِنْ ثِقَةٍ فِي جِوَارِهِمَا خَبِيرٍ بِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَسْكَنَهُمَا بِجَنْبِ ثِقَةٍ يَبْحَثُ عَنْ حَالِهِمَا وَيُنْهِيهَا إِلَيْهِ. فَإِنْ عَلِمَ الظَّالِمَ، مَنَعَهُ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَظَاهِرُهُ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ عَدْلٍ، وَلَا يَخْلُو عَنِ احْتِمَالٍ. وَإِذَا اشْتَدَّ شُقَاقُهُمَا، وَدَامَا عَلَى السِّبَابِ الْفَاحِشِ وَالتَّضَارُبِ، بَعَثَ الْقَاضِي

حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا لِيَنْظُرَا فِي أَمْرِهِمَا وَيُصْلِحَا بَيْنَهُمَا، أَوْ يُفَرِّقَا إِنْ عَسُرَ الْإِصْلَاحُ. وَهَلْ بَعْثُ الْحَكَمَيْنِ وَاجِبٌ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ: عَلَيْهِ بَعْثُهُمَا، وَظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ، وَحُجَّتُهُ الْآيَةُ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: يُسْتَحَبُّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ: الْوُجُوبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْمَبْعُوثَانِ، وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ أَمْ حَاكِمَانِ مُوَلَّيَانِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: وَكِيلَانِ، فَعَلَى هَذَا يُوَكِّلُ الزَّوْجُ حَكَمَهُ فِي التَّطْلِيقِ عَلَيْهِ وَقَبُولِ الْخُلْعِ، وَالْمَرْأَةُ حَكَمَهَا بِبَذْلِ الْعِوَضِ وَقَبُولِ الطَّلَاقِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْثُهُمَا إِلَّا بِرِضَاهُمَا. فَإِنْ لَمْ يَرْضَيَا وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ، أَدَّبَ الْقَاضِي الظَّالِمَ، وَاسْتَوْفَى حَقَّ الْمَظْلُومِ. وَإِذَا قُلْنَا: هُمَا حَكَمَانِ، لَمْ يُشْتَرَطْ رِضَى الزَّوْجَيْنِ فِي بَعْثِهِمَا. وَإِذَا رَأَى حَكَمُ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ، اسْتَقَلَّ بِهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى طَلْقَةٍ، لَكِنْ إِنْ رَاجَعَهَا الزَّوْجُ وَدَامَا عَلَى الشِّقَاقِ، طَلَّقَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً. وَإِنْ رَأَى الْخُلْعَ وَوَافَقَهُ حَكَمُهَا، تَخَالَعَا وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ. وَلَوْ رَأَى الْحَكَمَانِ أَنْ تَتْرُكَ الْمَرْأَةُ بَعْضَ حَقِّهَا مِنْ قَسْمٍ وَنَفَقَةٍ، أَوْ أَنْ لَا يَتَسَرَّى أَوْ لَا يَنْكِحَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَالٌ مُتَعَلِّقٌ بِالنِّكَاحِ، أَوْ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ، لَمْ يَجُزْ لِلْحَكَمِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَى صَاحِبِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَبْعُوثَيْنِ التَّكْلِيفُ قَطْعًا، وَيُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيُشْتَرَطُ الِاهْتِدَاءُ إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثِهِمَا. وَأَشَارَ الْغَزَالِيُّ إِلَى خِلَافٍ فِيهِ. وَيُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ إِنْ قُلْنَا: حَكَمَانِ، وَإِنْ قُلْنَا:

وَكِيلَانِ، قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ فِي وَكِيلِهَا، وَفِي وَكِيلِهِ وَجْهَانِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الِاجْتِهَادُ وَإِنْ قُلْنَا: حَكَمَانِ، وَلَا كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ، لَكِنَّ أَهْلَهُمَا أَوْلَى. وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ أَحَدِهِمَا، فَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِنَفْسِهِ، وَفِيمَا عُلِّقَ عَنِ الْإِمَامِ اشْتِرَاطُ كَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِهِمَا، وَ [لَا] يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَكَمٍ وَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْلُوَ حَكَمُهُ بِهِ وَحَكَمُهَا بِهَا، فَيَعْرِفَا مَا عِنْدَهُمَا، وَمَا فِيهِ رَغْبَتُهُمَا، فَإِذَا اجْتَمَعَا، لَمْ يُخْفِ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ شَيْئًا، وَعَمِلَا مَا رَأَيَاهُ صَوَابًا. وَلَوِ اخْتَلَفَ رَأْيُ الْحَكَمَيْنِ، بَعَثَ آخَرَيْنِ حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى شَيْءٍ، ذَكَرَهُ الْحَنَّاطِيُّ. وَلَوْ جُنَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ بَعْثُهُمَا بَعْدَهُ، وَإِنْ جُنَّ بَعْدَ اسْتِعْلَامِ الْحَكَمَيْنِ رَأْيَهُ، لَمْ يَجُزْ تَنْفِيذُ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: حَاكِمَانِ، لَمْ يُؤَثِّرْ جُنُونُ أَحَدِهِمَا، قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ. وَقِيلَ: الْإِغْمَاءُ لَا يُؤَثِّرُ إِنْ قُلْنَا: وَكِيلَانِ كَالنَّوْمِ، حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِي كُلِّ وَكَالَةٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ غَابَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، نُفِّذَ الْأَمْرُ إِنْ قُلْنَا: وَكِيلَانِ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ ذَكَرَ الْحَنَّاطِيُّ، أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحَ، وَالْآخَرُ التَّفْرِيقَ فَفَرَّقَ، نُفِّذَ التَّفْرِيقُ إِنْ جَوَّزْنَا الِاقْتِصَارَ عَلَى حَكَمٍ وَاحِدٍ.

فَرْعٌ وَكَّلَ رَجُلًا فَقَالَ: إِذَا أَخَذْتَ مَالِي مِنْهَا فَطَلِّقْهَا، أَوْ خَالِعْهَا، أَوْ خُذْ مَالِي ثُمَّ طَلِّقْهَا، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الطَّلَاقِ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: خَالِعْهَا عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مَالِي مِنْهَا. وَلَوْ قَالَ: خُذْ مَالِي وَطَلِّقْهَا، فَهَلْ يُشْتَرَطُ تَقْدِيمُ أَخْذِ الْمَالِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: نَعَمْ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقْهَا ثُمَّ خُذْ، جَازَ تَقْدِيمُ أَخْذِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ خَيْرٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الخلع.

كِتَابُ الْخُلْعِ. هُوَ الْفُرْقَةُ بِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ، وَأَصْلُ الْخُلْعِ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهِ، وَسَوَاءٌ فِي جَوَازِهِ خَالَعَ عَلَى الصَّدَاقِ أَوْ بَعْضِهِ، أَوْ مَالٍ آخَرَ أَقَلَّ مِنَ الصَّدَاقِ، أَوْ أَكْثَرَ، وَيَصِحُّ فِي حَالَتَيِ الشِّقَاقِ وَالْوِفَاقِ، وَخَصَّهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِالشِّقَاقِ، ثُمَّ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ إِنْ جَرَى فِي حَالِ الشِّقَاقِ، أَوْ كَانَتْ تَكْرَهُ صُحْبَتَهُ لِسُوءِ خُلُقِهِ أَوْ دِينِهِ، أَوْ تَحَرَّجَتْ مِنَ الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ حُقُوقِهِ، أَوْ ضَرَبَهَا تَأْدِيبًا فَافْتَدَتْ. وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِهِ مَا إِذَا مَنَعَهَا نَفَقَةً أَوْ غَيْرَهَا فَافْتَدَتْ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا، فَأَسَاءَ عِشْرَتَهَا، وَمَنَعَهَا بَعْضَ حَقِّهَا حَتَّى ضَجِرَتْ وَافْتَدَتْ، كُرِهَ الْخُلْعُ وَإِنْ كَانَ نَافِذًا، وَيَأْثَمُ الزَّوْجُ بِفِعْلِهِ. وَفِي وَجْهٍ، مَنْعُهُ حَقَّهَا كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْخُلْعِ بِالضَّرْبِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَإِذَا أَكْرَهَهَا بِالضَّرْبِ وَنَحْوِهِ فَاخْتَلَعَتْ، فَقَالَتْ مُبْتَدِئَةً: خَالِعْنِي عَلَى كَذَا فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ الْخُلْعُ، وَيَكُونُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا إِنْ لَمْ يُسَمِّ مَالًا. وَإِنْ سَمَّاهُ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْبَلْ مُخْتَارَةً، وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَالَ. وَلَوِ ابْتَدَأَ وَقَالَ: طَلَّقْتُكِ عَلَى كَذَا وَأَكْرَهَهَا بِالضَّرْبِ عَلَى الْقَبُولِ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَإِذَا ادَّعَتْ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا عَلَى بَذْلِ مَالٍ عِوَضًا عَنِ الطَّلَاقِ وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً، فَالْمَالُ مَرْدُودٌ إِلَيْهَا، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ، نَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: مَوْضِعُ الرَّجْعَةِ مَا إِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْخُلْعِ، بَلْ أَنْكَرَ الْمَالَ أَوْ سَكَتَ. فَأَمَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِالْخُلْعِ وَأَنْكَرَ الْإِكْرَاهَ، فَالطَّلَاقُ بَائِنٌ

فصل

بِقَوْلِهِ، وَلَا رَجْعَةَ. وَلَوْ زَنَتْ فَمَنَعَهَا بَعْضَ حَقِّهَا فَافْتَدَتْ بِمَالٍ، صَحَّ الْخُلْعُ، وَحَلَّ لَهُ أَخْذُهُ. وَعَلَى هَذَا حُمِلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: «وَلَا تَعْضُلُوهُنُّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» [النِّسَاءِ: 19] وَمَنْ جَعَلَ مَنْعَ الْحَقِّ كَالْإِكْرَاهِ بِالضَّرْبِ قَالَ: لَا يَحِلُّ الْأَخْذُ. وَلَوْ أَمْسَكَهَا عِنْدَهُ وَحَبَسَهَا لِيَرِثَهَا فَمَاتَتْ، وَرِثَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَالْحَنَّاطِيُّ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَرِثُهَا. فَصْلٌ يَشْتَمِلُ هَذَا الْكِتَابُ عَلَى خَمْسَةِ أَبْوَابٍ. الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَةِ الْخُلْعِ، فَإِنْ فَارَقَهَا عَلَى عِوَضٍ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَهُوَ طَلَاقٌ سَوَاءٌ فِيهِ صَرِيحُ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتُهُ. وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إِلَّا لَفْظُ الْخُلْعِ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ، أَنَّهُ طَلَاقٌ يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ، وَإِذَا خَالَعَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَمْ يَنْكِحْهَا إِلَّا بِمُحَلِّلٍ، وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ فَسْخٌ لَا يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ. وَيَجُوزُ تَجْدِيدُ نِكَاحِهَا بَعْدَ الْخُلْعِ بِلَا حَصْرٍ، وَالْجَدِيدُ هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ. وَرَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَأَبُو مَخْلَدٍ الْبَصْرِيُّ الْقَدِيمَ، فَإِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ، فَلَفْظُ الْخُلْعِ صَرِيحٌ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: فَسَخْتُ نِكَاحَكِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ، أَوْ قَالَ: فَادَيْتُكِ بِأَلْفٍ فَقَالَتْ: قَبِلْتُ أَوِ افْتَدَيْتُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ صَرِيحٌ. وَالثَّانِي: كِنَايَةٌ. فَعَلَى هَذَا فِي انْعِقَادِ الْخُلْعِ بِهِمَا خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ إِذَا جَعَلْنَاهُ فَسْخًا، وَلَوْ نَوَى بِالْخُلْعِ الطَّلَاقَ وَالتَّفْرِيعَ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ، فَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا أَمْ فَسْخًا لِكَوْنِهِ صَرِيحًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، اخْتِيَارُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الْفَسْخَ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْغَزَالِيُّ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: فَسَخْتُ نِكَاحَكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْفَسْخِ بِعَيْبِهَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَلَاقٌ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَقِيلَ: فَسْخٌ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْخُلْعُ طَلَاقٌ، فَلَفْظُ الْفَسْخِ كِنَايَةٌ فِيهِ، وَلَفْظُ الْخُلْعِ فِيهِ قَوْلَانِ. قَالَ فِي «الْأُمِّ» :

كِنَايَةٌ وَفِي «الْإِمْلَاءِ» : صَرِيحٌ. قَالَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ: الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ الثَّانِيَ، وَلَفْظُ الْمُفَادَاةِ كَلَفْظِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: كِنَايَةٌ قَطْعًا. وَإِذَا قُلْنَا: لَفْظُ الْخُلْعِ صَرِيحٌ، فَذَاكَ إِذَا ذَكَرَ الْمَالَ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَكِنَايَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَهَلْ يَقْتَضِي الْخُلْعُ الْمُطْلَقُ الْجَارِي بِغَيْرِ ذِكْرِ الْمَالِ ثُبُوتَ الْمَالِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ وَالرُّويَانِيِّ: نَعَمْ لِلْعُرْفِ، وَكَالْخُلْعِ عَلَى خَمْرٍ، وَالثَّانِي: لَا لِعَدَمِ الِالْتِزَامِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْمَالَ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ فَسْخًا أَوْ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَةً وَنَوَى، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَحَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كِنَايَةً وَلَمْ يَنْوِ، لَغَا، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتِ الْمَالَ عِنْدَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ فَسْخًا، لَغَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي لَا يَكُونُ إِلَّا بِعِوَضٍ، هَكَذَا حَكَاهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ عَنِ الْأَصْحَابِ، وَذَكَرُوا أَنَّ مَسَاقَ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ نَفَى الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ، لَمْ يَصِحَّ الْخُلْعُ عَلَى قَوْلِ الْفَسْخِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْقِيَاسُ الْحَقُّ صِحَّتُهُ بِلَا عِوَضٍ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ طَلَاقًا إِمَّا صَرِيحًا وَإِمَّا كِنَايَةً وَنَوَى، فَهُوَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ، وَفِي افْتِقَارِهِ إِلَى قَبُولِهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَفْتَقِرُ، صَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَقَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيُّ لِاسْتِقْلَالِ الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَالْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا قَالَ: خَالَعْتُكِ وَأَضْمَرَ الْتِمَاسَ جَوَابِهَا وَانْتَظَرَ قَبُولَهَا. أَمَّا لَوْ قَالَ: خَلَعْتُ أَوْ خَالَعْتُ، وَلَمْ يُضْمِرِ الْتِمَاسَ الْجَوَابِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْجَوَابِ قَطْعًا، كَمَا لَوْ قَالَ: فَارَقْتُكِ. وَلَوْ نَوَى الْمَالَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ وَقُلْنَا: مُطْلَقُهُ لَا يَقْتَضِي مَالًا، فَهَلْ تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي ثُبُوتِ الْمَالِ؟ وَجْهَانِ يَقْرُبَانِ مِنِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ بِالْكِنَايَاتِ. فَإِنْ قُلْنَا: تُؤَثِّرُ، ثَبَتَ الْمَالُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّتِهَا أَيْضًا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُؤَثِّرُ، فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيُلْغَى مِنْهُ الْمَالُ، أَمْ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ لَا مُطْلَقًا؟ وَجْهَانِ. وَفِي «فَتَاوَى

الْبَغَوِيِّ» وَجْهَانِ فِيمَا لَوِ اخْتَلَعَتْ نَفْسَهَا عَلَى بَقِيَّةِ صَدَاقِهَا، فَخَالَعَهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهَا شَيْءٌ عَلَيْهِ، فَهَلْ تَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؟ وَرَجَّحَ الْحُصُولَ. فَرْعٌ يَصِحُّ الْخُلْعُ بِجَمِيعِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ مَعَ النِّيَّةِ إِنْ جَعَلْنَاهُ طَلَاقًا، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ فَسْخًا، فَهَلْ لِلْكِنَايَاتِ فِيهِ مَدْخَلٌ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ، أَوِ الْفَسْخَ، كَانَ مَا نَوَى. وَإِنْ نَوَى الْخُلْعَ، عَادَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ فَسْخٌ أَمْ طَلَاقٌ؟ وَلَوْ قَالَ: خَالَعْتُ نِصْفَكِ أَوْ يَدَكِ عَلَى كَذَا، أَوْ خَالَعْتُكِ شَهْرًا عَلَى كَذَا، نَفَذَ إِنْ جَعَلْنَاهُ طَلَاقًا، وَالْقَوْلُ فِي الْمَالِ الْوَاجِبِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَنْفُذُ إِنْ جَعَلْنَاهُ فَسْخًا. فَرْعٌ تَرْجَمَةُ الْخُلْعِ بِسَائِرِ اللُّغَاتِ، كَلَفْظَةِ الْعَرَبِيِّ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي النِّكَاحِ. فَرْعٌ لَفْظُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كِنَايَةٌ فِي الْخُلْعِ، سَوَاءٌ جُعِلَ فَسْخًا أَمْ طَلَاقًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكِ نَفْسَكِ بِكَذَا، فَتَقُولُ: اشْتَرَيْتُ أَوْ قَبِلْتُ، وَلَفْظُ الْإِقَالَةِ كِنَايَةٌ أَيْضًا فِيهِ، وَبَيْعُ الطَّلَاقِ بِالْمَهْرِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، وَبَيْعُ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ مِنْ جِهَتِهَا

يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْخُلْعِ، وَلِيَكُونَا كِنَايَتَيْنِ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكِ نَفْسَكِ. وَفِي «الزِّيَادَاتِ» لِأَبِي عَاصِمٍ: إِنَّ بَيْعَ الطَّلَاقِ مَعَ ذِكْرِ الْعِوَضِ صَرِيحٌ. وَرَأَى إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، أَنْ يُنَزَّلَ قَوْلُهُ: بِعْتُكِ طَلَاقَكِ بِكَذَا مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: مَلَّكْتُكِ طَلَاقَكِ بِكَذَا، حَتَّى إِذَا طُلِّقَتْ فِي الْمَجْلِسِ، لَزِمَ الْمَالُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ. وَإِنْ نَوَيَا مُجَرَّدَ بَيْعِ الطَّلَاقِ وَشِرَائِهِ مِنْ غَيْرِ إِيقَاعِ طَلَاقٍ مِنْهَا، وَبِغَيْرِ نِيَّةِ طَلَاقٍ مِنْهُ، فَهَذَا التَّصَرُّفُ فَاسِدٌ، وَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ. وَإِسْمَاعِيلُ هَذَا إِمَامٌ غَوَّاصٌ مُتَأَخِّرٌ لَقِيَهُ مَنْ لَقِينَاهُ. فَرْعٌ قَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى كَذَا فَقَالَ: خَالَعْتُكِ، فَإِنْ جَعْلَنَا الْخُلْعَ فَسْخًا، لَمْ يَنْفُذْ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْهَا، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ، أَوْ كِنَايَةً وَنَوَى، حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ وَلَزِمَ الْمَالُ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَلَوْ قَالَتْ: خَالِعْنِي عَلَى كَذَا فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْخُلْعُ فَسْخٌ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ فُرْقَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْهَا. وَقِيلَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهَا فُرْقَةً أَقْوَى مِمَّا طَلَبَتْ، فَكَأَنَّهُ زَادَ، كَمَنْ سَأَلَتْهُ طَلْقَةً فَطَلَّقَ طَلْقَتَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: طَلَّقْتُكِ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُسِمِّ الْمَالَ، وَقَعَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ، وَإِنْ سَمَّاهُ، لَمْ يَقَعْ مَا لَمْ يَقْبَلْ. وَإِنْ قُلْنَا: الْخُلْعُ طَلَاقٌ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً وَنَوَتْ، حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ وَلَزِمَ الْمَالُ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ اللَّفْظِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كِنَايَةً وَلَمْ يَنْوِ، فَقَوْلُهَا لَغْوٌ. وَالزَّوْجُ مُبْتَدِئٌ بِالطَّلَاقِ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي طَلَاقِهَا فَخَالَعَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْخُلْعُ فَسْخٌ،

فصل

لَمْ يَنْفُذْ. وَإِنْ قُلْنَا: طَلَاقٌ، قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: الَّذِي يَجِيءُ عَلَى أَصْلِنَا، أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ الرَّجْعَةَ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ. قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ عَلَى مَالٍ، إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ الرَّجْعَةُ، لَمْ يَنْفُذْ، وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ بِأَنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ لَهُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ، فَذَكَرَ فِي نُفُوذِهِ احْتِمَالَيْنِ لِأَنَّهُ حَصَلَ غَرَضُهُ مَعَ فَائِدَةٍ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ بِالتَّوْكِيلِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ حُكْمًا وَدَلِيلًا. فَرْعٌ تَخَالَعَا هَازِلَيْنِ، نَفَذَ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ طَلَاقٌ، وَإِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْهَازِلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. فَرْعٌ التَّعْلِيقُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخُلْعِ إِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ، وَإِنْ قُلْنَا: طَلَاقٌ، فَلَا. فَصْلٌ فِيمَا يُلْحَقُ بِهِ الْخُلْعُ مِنَ الْأُصُولِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنْ جَعَلْنَا الْخُلْعَ فَسْخًا، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لَا مَدْخَلَ لِلتَّعْلِيقِ فِيهِ، بَلْ هُوَ كَابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ. فَلَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ بِمِائَةٍ فَقَبِلَتْ بِخَمْسِينَ، أَوْ قَالَتْ: خَالِعْنِي بِمِائَةٍ فَخَالَعَهَا بِخَمْسِينَ، أَوْ قَالَتْ: بِخَمْسِينَ فَخَالَعَهَا

بِمِائَةٍ، لَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ طَلَاقًا، أَوْ جَرَى لَفْظُ الطَّلَاقِ صَرِيحًا، نُظِرَ هَلْ بَدَأَ الزَّوْجُ بِالْإِيقَاعِ، أَمْ بَدَأَتْ بِسُؤَالِهِ؟ . الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِنْ بَدَأَ هُوَ بِطَلَاقِهَا وَذَكَرَ الْعِوَضَ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ فِيهَا شَوْبُ تَعْلِيقٍ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالًا فِي مُقَابَلَةِ مَا يُزِيلُهُ، وَالشَّوْبُ فِيهِ لِكَوْنِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَى قَبُولِ الْمَالِ كَتَرَتُّبِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ، ثُمَّ تَارَةً تَغْلُبُ الْمُعَاوَضَةُ، وَتَارَةً التَّعْلِيقُ، وَتَارَةً يُرَاعَى الْمَعْنَيَانِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالصِّيَغِ الْمَأْتِيِّ بِهَا. فَإِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُعَاوَضَةِ وَصُورَتِهَا فَقَالَ: خَالَعْتُكِ بِكَذَا، أَوْ عَلَى كَذَا، أَوْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى كَذَا، غَلَبَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَيَثْبُتُ أَحْكَامُهَا، فَيَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ قَبُولِهَا، وَيَلْغُو قَبُولُهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَيُشْتَرَطُ قَبُولُهَا بِاللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ كَالْبَيْعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ. فَلَوْ تَخَلَّلَ زَمَنٌ طَوِيلٌ، أَوِ اشْتَغَلَتْ بِكَلَامٍ آخَرَ ثُمَّ قَبِلَتْ، لَمْ يَنْفُذْ. وَلَوِ اخْتَلَفَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، بِأَنْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ بِأَلْفَيْنِ، أَوْ بِخَمْسِمِائَةٍ، لَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي «الشَّامِلِ» ، أَنَّهَا إِذَا قَبِلَتْ بِأَلْفَيْنِ، صَحَّ وَلَا يَلْزَمُهَا الْأَلْفُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ إِلَّا أَلْفًا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَقَبِلَتْ وَاحِدَةً بِثُلُثِ الْأَلْفِ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ قَبِلَتْ وَاحِدَةً بِالْأَلْفِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا يَقَعُ شَيْءٌ كَالْبَيْعِ، وَالثَّانِي: يَقَعُ طَلْقَةً؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالطَّلَاقِ، وَأَصَحُّهَا: يَقَعُ الثَّلَاثُ، صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْغَزَالِيُّ، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمَالِ، وَأَصْلُ الطَّلَاقِ وَعَدَدُهُ يَسْتَقِلُّ بِهِ الزَّوْجُ. وَإِذَا قُلْنَا: يَقَعُ الثَّلَاثُ أَوْ وَاحِدَةٌ، فَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَلْفُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ

الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ تَعَلَّقَا بِهِ. وَالثَّانِي عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِاخْتِلَافِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. وَإِنْ أَتَى الزَّوْجُ بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي، أَوْ مَتَى مَا، أَوْ أَيَّ وَقْتٍ، أَوْ حِينٍ، أَوْ زَمَانٍ، غَلَبَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ وَثَبَتَتْ أَحْكَامُهُ، وَجُعِلَ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الْأَوْصَافِ، حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى قَبُولٍ بِاللَّفْظِ، وَلَا يُشْتَرَطَ الْإِعْطَاءُ فِي الْمَجْلِسِ، بَلْ مَتَى وُجِدَ الْإِعْطَاءُ طُلِّقَتْ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْإِعْطَاءِ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي، أَوْ إِذَا أَعْطَيْتِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَهُ بَعْضُ أَحْكَامِ التَّعْلِيقِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ لَفْظًا، وَلَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ قَبْلَ الْإِعْطَاءِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْإِعْطَاءِ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ سَلَمَةَ، أَنَّ الزَّوْجَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْأَلْفَ الَّذِي أَحْضَرَتْهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَهُ بَعْضُ أَحْكَامِ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْإِعْطَاءِ فِي الْمَجْلِسِ. وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ إِلْحَاقَ «إِذَا» بِـ «مَتَى» ، وَأَلْحَقَهَا الْجُمْهُورُ بِـ «أَنْ» كَمَا ذَكَرْنَا. وَحُكِيَ وَجْهٌ، أَنَّ كَلِمَةَ «إِنْ» كَـ «مَتَى» فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْجِيلُ الْإِعْطَاءِ وَهُوَ شَاذٌّ. ثُمَّ قَالَ الْمُتَوَلِّي: اشْتِرَاطُ الْإِعْطَاءِ عَلَى الْفَوْرِ مَخْصُوصٌ بِالزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ فَإِنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَعَ الطَّلَاقُ مَتَى أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِعْطَاءِ فِي الْمَجْلِسِ غَالِبًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي زِقَّ خَمْرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ وَإِنْ لَمْ تَمْلِكِ الْخَمْرَ؛ لِأَنَّ يَدَهَا قَدْ تَشْمَلُ عَلَى خَمْرٍ. قَالَ: وَلَوْ أَعْطَتْهُ الْأَمَةُ أَلْفًا مِنْ كَسْبِهَا، حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ لِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَالِ إِلَى سَيِّدِهَا وَيُطَالِبُهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا عَتَقَتْ. فَرْعٌ الْمُرَادُ بِالْمَجْلِسِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعْطَاءُ مَجْلِسُ التَّوَاجُبِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَا نُظِرَ إِلَى مَكَانِ الْعَقْدِ. وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ

ابْنُ كَجٍّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ إِذَا أَعْطَتْهُ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمَا وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: إِذَا بَدَأَتْ بِسُؤَالِ الطَّلَاقِ فَأَجَابَهَا، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ فِيهَا شَوْبُ جَعَالَةٍ. وَالصَّحِيحُ لَهَا الرُّجُوعُ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ وَالْجَعَالَةِ، وَسَوَاءٌ أَتَتْ بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهَا: إِنْ طَلَّقْتَنِي أَوْ مَتَى طَلَّقْتَنِي فَلَكَ كَذَا، أَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى كَذَا، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ، سَوَاءٌ فِيهِ صِيغَةُ الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّعَلُّقِ، وَسَوَاءٌ عُلِّقَتْ بِـ «إِنْ» أَوْ بِـ «مَتَى» . فَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، كَانَ طَلَاقًا مُبْتَدَأً. وَلَوْ قَالَتْ، طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً عَلَى ثُلُثِ الْأَلْفِ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً، وَقَعَتِ الْوَاحِدَةُ وَاسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْأَلْفِ. كَمَا لَوْ قَالَ: رُدَّ عَبِيدِي وَلَكَ أَلْفٌ، فَرَدَّ أَحَدَهُمْ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَغَلَطَ قَائِلُهُ. فَرْعٌ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: خَالَعْتُكُمَا أَوْ طَلَّقْتُكُمَا، أَوْ أَنْتُمَا طَالِقَانِ بِأَلْفٍ، فَقَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ. وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي حَقِّ الْقَائِلَةِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُ إِحْدَاكُمَا بِأَلْفٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ فَقَالَتَا: قَبِلْنَا، لَمْ يَصِحَّ ذَكَرُهُ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ وَضَرَّتَكِ بِأَلْفٍ. فَقَالَتْ: قَبِلْتُ، صَحَّ الْخُلْعُ، وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَهَا وَحْدَهَا وَهِيَ مُخْتَلِعَةٌ لِنَفْسِهَا، وَقَابِلَةٌ لِضَرَّتِهَا كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ قَالَتَا لَهُ: طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَ إِحْدَاهُمَا، طُلِّقَتْ دُونَ الْأُخْرَى. وَهَلْ يَلْزَمُهَا مَهْرُ الْمِثْلِ أَمْ حِصَّتُهَا مِنَ الْمُسَمَّى إِذَا وُزِّعَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهِمَا، أَمْ نِصْفُ الْمُسَمَّى؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَتَجْرِي الْأَقْوَالُ فِي الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ إِذَا طَلَّقَهُمَا.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَالْخِلَافُ مَخْصُوصٌ بِصُورَةِ الْإِطْلَاقِ. أَمَّا لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكُمَا عَلَى أَلْفٍ مُنَاصَفَةً، أَوْ قَالَتَا: طَلِّقْنَا عَلَى أَلْفٍ مُنَاصَفَةً، فَهُوَ مُنَاصَفَةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ بِخَمْسِمِائَةٍ، بَانَتْ وَاسْتَحَقَّ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لَا تُطَلَّقُ تَغْلِيبًا لِلْمُعَاوَضَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَرْكَانِ الْخُلْعِ. وَهِيَ خَمْسَةٌ. الْأَوَّلُ: الزَّوْجُ، فَيُوجِبُ ابْتِدَاءً أَوْ يُجِيبُ سُؤَالَهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُنْفُذُ طَلَاقُهُ، فَلَا يَصِحُّ خُلْعُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَيَصِحُّ خُلْعُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ أَوْ سَفَهٍ، سَوَاءٌ أَذِنَ الْوَلِيُّ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ دُونَهُ؛ لِأَنَّ طَلَاقَهَا مَجَّانًا نَافِذٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُخْتَلِعِ تَسْلِيمُ الْمَالِ إِلَى السَّفِيهِ، بَلْ يُسَلِّمُهُ إِلَى الْوَلِيِّ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى السَّفِيهِ وَكَانَ الْخُلْعُ عَلَى عَيْنِ مَالٍ، أَخَذَهَا الْوَلِيُّ مِنْ يَدِهِ. فَإِنْ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ حَتَّى تَلِفَتْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْحَالِ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَلِيِّ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ. وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ السَّفِيهِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَلِيُّ بِالتَّسْلِيمِ، رَجَعَ عَلَى الْمُخْتَلِعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِقِيمَةِ الْعَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ الْخُلْعُ عَلَى دَيْنٍ، رَجَعَ الْوَلِيُّ عَلَى الْمُخْتَلِعِ بِالْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ قَبْضٌ صَحِيحٌ تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ، وَيَسْتَرِدُّ الْمُخْتَلِعُ مِنَ السَّفِيهِ مَا سَلَّمَهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ السَّفِيهِ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ مَالَهُ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى السَّفِيهِ، كَمَنْ بَاعَهُ شَيْئًا وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ وَتَلِفَ عِنْدَهُ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّسْلِيمُ

إِلَى السَّفِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَفِي الِاعْتِدَادِ بِقَبْضِهِ وَجْهَانِ عَنِ الدَّارَكِيِّ، وَرَجَّحَ الْحَنَّاطِيُّ الِاعْتِدَادَ. فَرْعٌ يَصِحُّ خُلْعُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَبِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَدْخُلُ الْمَهْرُ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ قَهْرًا كَأَكْسَابِهِ، وَلَا يُسَلِّمُ الْمُخْتَلِعُ الْمَالَ إِلَيْهِ بَلْ إِلَى السَّيِّدِ. فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي السَّفِيهِ، إِلَّا أَنَّ مَا يَتْلَفُ فِي يَدِ الْعَبْدِ يُطَالِبُهُ الْمُخْتَلِعُ بِضَمَانِهِ إِذَا عَتَقَ، وَمَا يَتْلَفُ فِي يَدِ السَّفِيهِ لَا يُطَالِبُهُ بِهِ، لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الرُّشْدِ، وَخُلْعُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ بَعْضُهُ كَالْقِنِّ. فَإِنْ جَرَتْ مُهَايَأَةٌ بَيْنَ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلْيَكُنْ عِوَضُ الْخُلْعِ مِنَ الْأَكْسَابِ النَّادِرَةِ، وَلْيَجِئْ فِيهِ الْخِلَافُ. وَالْمُكَاتَبُ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ عِوَضُ الْخُلْعِ لِصِحَّةِ يَدِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُخْتَلِعُ يُشْتَرَطُ فِي قَابِلِ الْخُلْعِ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيِّ، أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، صَحِيحَ الِالْتِزَامِ. وَلِلْحَجْرِ أَسْبَابٌ. أَحَدُهَا: الرِّقُّ. فَإِنِ اخْتَلَعَتِ الْأَمَةُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا، نُظِرَ إِنِ اخْتَلَعَتْ بِعَيْنِ مَالِهِ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا كَالسَّفِيهَةِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا كَالْخُلْعِ عَلَى خَمْرٍ، وَهَلِ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ أَمْ بَدَلُ الْعَيْنِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. وَإِنِ اخْتَلَعَتْ عَلَى دَيْنٍ، بَانَتْ. وَهَلْ عَلَيْهَا الْمُسَمَّى أَمْ مَهْرُ الْمِثْلِ؟ وَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ

الْعِرَاقِيُّونَ، وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، ثُمَّ مَا ثَبَتَ عَلَيْهَا بِاخْتِلَاعِهَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهَا تُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا فِي الْحَالِ. أَمَّا إِذَا اخْتَلَعَتْ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا، فَإِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْعِوَضَ، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ. فَإِنْ بَيَّنَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ مَالِهِ، نَفَذَ الْخُلْعُ، وَاسْتَحَقَّ الزَّوْجُ تِلْكَ الْعَيْنَ، وَإِنْ قَدَّرَ دَيْنًا، بِأَنْ قَالَ: اخْتَلِعِي بِأَلْفٍ فَفَعَلَتْ، تَعَلَّقَ الْأَلْفُ بِكَسْبِهَا كَمَهْرِ زَوْجَةِ الْعَبْدِ. وَإِنْ زَادَتْ عَلَى مَا قَدَّرَ، فَالزِّيَادَةُ فِي ذِمَّتِهَا. وَإِنْ قَالَ: اخْتَلِعِي بِمَا شِئْتِ، اخْتَلَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَبِالزِّيَادَةِ إِنْ شَاءَتْ، وَتَعَلَّقَ الْجَمِيعُ بِكَسْبِهَا، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْإِذْنَ، اقْتَضَى مَهْرَ الْمِثْلِ. فَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَيْهِ، فَفِي كَسْبِهَا، وَإِلَّا فَالزِّيَادَةُ فِي ذِمَّتِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهَا مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ إِنْ كَانَتْ مَأْذُونًا لَهَا. وَإِنْ جَرَى الْخُلْعُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَالْعِوَضُ دَيْنٌ، فَفِي كَوْنِ السَّيِّدِ ضَامِنًا لَهُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي مَهْرِ زَوْجَةِ الْعَبْدِ. فَرْعٌ [اخْتِلَاعُ الْمُكَاتَبَةِ] بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا، كَاخْتِلَاعِ الْأَمَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَإِنِ اخْتَلَعَتْ بِإِذْنِهِ، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ هُنَا أَنَّهُ كَاخْتِلَاعِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَقِيلَ: كَاخْتِلَاعِ الْأَمَةِ بِالْإِذْنِ، وَلَا يَكُونُ السَّيِّدُ هُنَا ضَامِنًا بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ اخْتِلَاعُ السَّيِّدِ أَمَتَهُ الَّتِي هِيَ تَحْتَ حُرٍّ، أَوْ مَكَاتَبٍ عَلَى رَقَبَتِهَا، قَالَ إِسْمَاعِيلُ

الْبُوشَنْجِيُّ: تَحَصَّلْتُ فِيهِ بَعْدَ إِمْعَانِ النَّظَرِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ أَصْلًا. السَّبَبُ الثَّانِي: الْحَجْرُ بِالسَّفَهِ. فَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِسَفَهٍ: خَالَعْتُكِ أَوْ طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ، وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، سَوَاءٌ فَعَلَتْ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ أَمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ صَرْفُ مَالِهَا فِي الْخُلْعِ. فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ تَقْتَضِي الْقَبُولَ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ عَلَى صِفَةٍ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ [فَقَالَتْ عَلَى الِاتِّصَالِ: شِئْتُ] وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا. وَلَوْ بَدَأَتْ فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى كَذَا فَأَجَابَهَا، وَقَعَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ أَيْضًا. فَرْعٌ لَهُ زَوْجَتَانِ: رَشِيدَةٌ وَمَحْجُورٌ عَلَيْهَا بِسَفَهٍ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكُمَا عَلَى كَذَا، فَقَبِلَتَا، طُلِّقَتِ الرَّشِيدَةُ بَائِنًا، وَعَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَطُلِّقَتِ السَّفِيهَةُ رَجْعِيًّا، وَإِنْ قَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ. وَلَوْ كَانَتَا سَفِيهَتَيْنِ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكُمَا عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا رَجْعِيًّا. وَإِنْ قَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ. وَلَوْ بَدَأَتَا فَقَالَتَا: طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهُمَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى السَّفِيهَةِ رَجْعِيًّا، وَعَلَى الرَّشِيدَةِ بَائِنًا. وَإِنْ أَجَابَ السَّفِيهَةَ، وَقَعَ عَلَيْهَا رَجْعِيًّا، وَإِنْ أَجَابَ الرَّشِيدَةَ، وَقَعَ بَائِنًا. وَقَوْلُهُ: أَنْتُمَا طَالِقَانِ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتُمَا، كَقَوْلِهِ: طَلَّقْتُكُمَا عَلَى أَلْفٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْجُنُونُ وَالصِّغَرُ، فَقَبُولُ مَجْنُونَةٍ وَصَغِيرَةٍ لَا تَمْيِيزَ لَهُمَا لَغْوٌ

وَقَوْلُ الزَّوْجِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى كَذَا لَغْوٌ. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِصَغِيرَةٍ مُمَيِّزَةٍ فَقَبِلَتْ، فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ أَمْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؟ وَجْهَانِ. رَجَّحَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ الْمَنْعَ، وَالْبَغَوِيُّ الْوُقُوعَ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: الْمَرَضُ. فَإِذَا اخْتَلَعَتْ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، نَفَذَ وَلَمْ يُعْتَبَرْ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ، فَالزِّيَادَةُ كَالْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجِ، فَيُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ وَلَا يَكُونُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ لِخُرُوجِهِ بِالْخُلْعِ عَنِ الْإِرْثِ. وَلَوِ اخْتَلَعَتْ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ، فَقَدْ حَابَتْ بِنِصْفِ الْعَبْدِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ خَرَجَتِ الْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَالْعَبْدُ كُلُّهُ لِلزَّوْجِ عِوَضًا وَوَصِيَّةً. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجْهًا، أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِيهِ وَيَرْجِعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ [الْعَبْدُ] كُلُّهُ عِوَضًا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، إِذْ لَا نَقْصَ وَلَا تَشْقِيصَ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، بِأَنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، لَمْ تَصِحَّ الْمُحَابَاةُ، وَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ نِصْفَ الْعَبْدِ وَهُوَ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَرْضَى بِالتَّشْقِيصِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُسَمَّى وَيُضَارِبَ الْغُرَمَاءَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ لَهَا وَصَايَا أُخَرُ، فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ وَضَارَبَ أَصْحَابَ الْوَصَايَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ. وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْمُسَمَّى وَتَقَدَّمَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى أَصْحَابِ الْوَصَايَا، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْمُعَاوَضَةِ وَقَدِ ارْتَفَعَتْ بِالْفَسْخِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ وَلَا وَصِيَّةٌ وَلَا شَيْءَ لَهَا سِوَى ذَلِكَ الْعَبْدِ، فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيِ الْعَبْدِ، نَصِفُهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَسُدُسُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ.

فَرْعٌ مَرَضُ الزَّوْجِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْخُلْعِ، فَيَصِحُّ خُلْعُهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يَبْقَى لِلْوَارِثِ لَوْ لَمْ يُخَالِعْ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ مُسْتَوْلَدَتَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ بِلَا عِوَضٍ لَمْ يُعْتَبَرْ قِيمَةُ الْبُضْعِ مِنَ الثُّلُثِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُعَوَّضُ وَهُوَ الْبُضْعُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ. فَأَمَّا الْبَائِنَةُ بِخُلْعٍ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَصِحُّ خُلْعُهَا، وَيَصِحُّ خُلْعُ الرَّجْعِيَّةِ عَلَى الْأَظْهَرِ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ. وَالثَّانِي: لَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الِافْتِدَاءِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ خُلْعُهَا بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ دُونَ الثَّانِيَةِ لِتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ، فَنَقَلَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا إِذَا قَبِلَتْ كَالسَّفِيهَةِ. فَرْعٌ خَالَعَ مُرْتَدَّةً مَدْخُولًا بِهَا، تَوَقَّفَ، فَإِنْ عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، تَبَيَّنَّا صِحَّةَ الْخُلْعِ وَلُزُومَ الْمَالِ الْمُسَمَّى، وَإِلَّا تَبَيَّنَّا بُطْلَانَ الْخُلْعِ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالرِّدَّةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوِ ارْتَدَّ الزَّوْجُ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوِ ارْتَدَّا مَعًا، ثُمَّ جَرَى الْخُلْعُ، وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ، ثُمَّ تَخَالَعَا، وَأَطْلَقَ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ بَعْدَ تَبْدِيلِ الدِّينِ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَالزَّائِلِ.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْعِوَضُ هُوَ كَالصَّدَاقِ، فَيَجُوزُ قَلِيلًا وَكَثِيرًا، عَيْنًا وَدَيْنًا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مُتَمَوَّلًا مَعَ سَائِرِ شُرُوطِ الْأَعْوَاضِ، كَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَفْصِيلُهُ بِصُوَرٍ. إِحْدَاهَا: لَوْ خَالَعَ عَلَى مَجْهُولٍ كَثَوْبٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ وَرَجَعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمِنَ الْمَجْهُولِ حَمْلُ الْبَهِيمَةِ وَالْجَارِيَةِ، سَوَاءٌ قَالَ: خَالَعْتُكِ بِمَا فِي بَطْنِهَا أَوْ عَلَى حَمْلِهَا. وَلَوْ خَالَعَ بِأَلْفٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، أَوْ خَالَعَ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ كَشَرْطِ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَامِلٌ، أَوْ لَا سُكْنَى لَهَا، أَوْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، أَوْ أَنْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا، بَانَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَحَكَى الْمُتَوَلِّي وَجْهًا، أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ فِي صُورَةِ الْجَهْلِ وَسَائِرِ صُوَرِ فَسَادِ الْعِوَضِ، وَكَذَا لَوْ خَالَعَ وَلَمْ يَذْكُرْ عِوَضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ خَالَعَهَا عَلَى مَا فِي كَفِّهَا وَلَمْ يَعْلَمْهُ، أَوْ عَلِمَهُ وَلَمْ نُصَحِّحْ بَيْعَ الْغَائِبِ، بَانَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ عَلِمَ وَصَحَّحْنَاهُ، بَانَتْ بِالْمُسَمَّى. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهَا شَيْءٌ، فَفِي «الْوَسِيطِ» أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَالَّذِي نَقَلَهُ غَيْرُهُ وُقُوعُهُ بَائِنًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ فِيمَا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ، وَالثَّانِي فِيمَا إِذَا ظَنَّ فِي كَفِّهَا شَيْئًا. قُلْتُ: الْمَعْرُوفُ الَّذِي أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ، كَأَصْحَابِ «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» وَ «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» وَ «الْبَيَانِ» وَغَيْرِهِمْ، وُقُوعُهُ بَائِنًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: خَالَعَهَا عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَخَمْرٍ أَوْ حُرٍّ، بَانَتْ. وَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، أَمْ بِبَدَلِ الْمَذْكُورِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ خَالَعَ عَلَى مَغْصُوبٍ، فَكَذَلِكَ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَبَانَ حُرًّا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الْحُرِّ فِي أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ، كَمَا سَبَقَ فِي الصَّدَاقِ حَتَّى يَقْطَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، لِفَسَادِ الصِّيغَةِ، وَكَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَبَانَ مُسْتَحَقًّا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الْمَغْصُوبِ حَتَّى يَقْطَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَجْهٌ فِيمَا إِذَا خَالَعَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ مَغْصُوبٍ: وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا يَظْهَرُ طَمَعُهُ فِي شَيْءٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَلَوْ خَالَعَ عَلَى دَمٍ، وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِحَالٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَطْمَعْ فِي شَيْءٍ. وَالْخُلْعُ عَلَى الْمَيْتَةِ، كَالْخَمْرِ لَا كَالدَّمِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُقْصَدُ لِلضَّرُورَةِ وَلِلْجَوَارِحِ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْخُلْعُ عَلَى مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ مَلِكُهُ عَلَيْهِ، كَالْخُلْعِ عَلَى خَمْرٍ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالْبَدَلِ. وَلَوْ خَالَعَ عَلَى عَيْنٍ فَتَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، أَوْ مَعِيبَةً فَرَدَّهَا أَوْ فَاتَتْ مِنْهَا صِفَةٌ مَشْرُوطَةٌ فَرَدَّهَا، فَفِيمَ يَرْجِعُ بِهِ الْقَوْلَانِ. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ فِي الذِّمَّةِ وَوَصَفَهُ كَمَا يَنْبَغِي، فَأَعْطَتْهُ ثَوْبًا بِالصِّفَةِ فَبَانَ مَعِيبًا، فَلَهُ رَدُّهُ وَيُطَالِبُ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا كَمَا فِي السَّلَمِ. وَإِنْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا بِصِفَةِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ ثَوْبًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ، طُلِّقَتْ. فَإِنْ خَرَجَ مَعِيبًا فَرَدَّهُ، عَادَ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَمْ بِقِيمَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ سَلِيمًا؟ .

الرَّابِعَةُ: التَّوْكِيلُ بِالْخُلْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ جَائِزٌ. فَأَمَّا وَكِيلُ الزَّوْجِ، فَإِنْ قَدَّرَ لَهُ مَالًا بِأَنْ قَالَ: خَالِعْهَا بِمِائَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَالِعَ بِالْمِائَةِ فَأَكْثَرَ، وَلَا يَنْقُصَ. فَإِنْ خَالَعَ بِمِائَةٍ وَثَوْبٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدِي بِمِائَةٍ فَبَاعَهُ بِمِائَةٍ وَثَوْبٍ وَقَدْ سَبَقَ. وَإِنْ أَطْلَقَ التَّوْكِيلَ فِي الْخُلْعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَالِعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَأَكْثَرَ، وَلَا يَنْقُصَ. وَصُورَةُ إِطْلَاقِ التَّوْكِيلِ أَنْ يَقُولَ: وَكَّلْتُكَ فِي خُلْعِ زَوْجَتِي، أَوْ خَالِعْهَا وَلَا يَذْكُرُ مَالًا، وَيَكْفِي هَذَا فِي التَّصْوِيرِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ مُطْلَقَ الْخُلْعِ يَقْتَضِي مَالًا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَقْتَضِيهِ، اشْتُرِطَ أَنْ يَقُولَ: خَالِعْهَا بِمَالٍ. فَإِنْ نَقَصَ الْوَكِيلُ عَنِ الْمِائَةِ فِي صُورَةِ التَّقْدِيرِ، فَالنَّصُّ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي صُورَةِ الْإِطْلَاقِ، فَالنَّصُّ وُقُوعُهُ. وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ طُرُقٌ، مَجْمُوعُهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي صُورَةِ الْإِطْلَاقِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ، وَلَا يَقَعُ فِي صُورَةِ التَّقْدِيرِ عَمَلًا بِالنَّصَّيْنِ، لِتَصْرِيحِ الْمُخَالَفَةِ فِي صُورَةِ التَّقْدِيرِ. وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ فِيهِمَا كَالْمُخَالِفَةِ فِي الْبَيْعِ. وَالثَّالِثُ: يَتَحَتَّمُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بَائِنًا فِيهِمَا، وَيَتَخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالرَّابِعُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ تَرْكِ الْعِوَضِ، وَجَعْلِ الطَّلَاقِ رَجْعِيًّا. وَالْخَامِسُ: إِنْ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَا طَلَاقَ. وَخُلْعُ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسَمَّى، وَبِالْمُؤَجَّلِ، كَخُلْعِهِ بِدُونِ الْمُقَدَّرِ أَوْ دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَأَمَّا وَكِيلُ الزَّوْجَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ الْعِوَضُ، وَإِمَّا لَا. الْحَالَةُ الْأُولَى: قَدَّرَتْ فَقَالَتْ: اخْتَلِعْنِي بِمِائَةٍ، فَإِنِ اخْتَلَعَهَا بِهَا أَوْ بِمَا دُونَهَا

بِالْوَكَالَةِ عَنْهَا، نَفَذَ. وَالْقَوْلُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُطَالِبُهُ الزَّوْجُ يَأْتِي فِي فَصْلِ خُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنِ اخْتَلَعَ بِأَكْثَرِ مِنْ مِائَةٍ وَأَضَافَ إِلَيْهَا فَقَالَ: اخْتَلِعْهَا بِكَذَا مِنْ مَالِهَا بِوِكَالَتِهَا، فَالْمَنْصُوصُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بَائِنًا. وَخَرَّجَ الْمُزَنِيُّ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَنَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ قَوْلًا، أَنَّهُ يَقَعُ وَلَا يَلْزَمُهَا وَلَا الْوَكِيلَ شَيْءٌ. وَالْمَشْهُورُ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ. فَعَلَى هَذَا، يَلْزَمُهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْإِمْلَاءِ» . وَنَصَّ فِي «الْأُمِّ» ، أَنَّهُ يَلْزَمُهَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا سَمَّتْهُ هِيَ، وَمِنْ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمَا سَمَّاهُ الْوَكِيلُ. فَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ زَائِدًا عَلَى مَا سَمَّاهُ الْوَكِيلُ، لَمْ تَجِبِ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا سَمَّاهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَا سَمَّاهُ الْوَكِيلُ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، لَمْ تَجِبِ الزِّيَادَةُ. فَلَوْ سَمَّتْ مِائَةً وَسَمَّى الْوَكِيلُ مِائَتَيْنِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ تِسْعُونَ، فَالْوَاجِبُ تِسْعُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَمِائَةٌ عَلَى الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِائَةً وَخَمْسِينَ، فَالْوَاجِبُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ ثَلَاثَمِائَةٍ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي إِلَّا مِائَتَانِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ ثَالِثٌ، أَنَّهَا بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ أَجَازَتْ بِمُسَمَّى الْوَكِيلِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَدَّتْ وَعَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَأَمَّا مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِمَا عَلَيْهَا، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يُطَالِبُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: إِنِّي ضَامِنٌ فَيُطَالِبُ بِمَا سَمَّى، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ فِي طُرُقِهِمْ، وَفِي «الْمُخْتَصَرِ» تَعْرِضُ لِمِثْلِهِ، وَفِي «الْمُجَرَّدِ» لِلْحَنَّاطِيِّ قَوْلٌ شَاذٌّ، أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِهَذَا الضَّمَانِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَثَرُ الضَّمَانِ فِي مُطَالَبَتِهِ بِمَا تُطَالِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ، وَلَا تُطَالِبْ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ.

ثُمَّ إِذَا غَرِمَ الْوَكِيلُ لِلزَّوْجِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إِلَّا بِمَا سَمَّتْ، وَيَجِيءُ فِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهَا وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إِذَا اخْتَلَعَ وَلَمْ يُضِفْ إِلَيْهَا. أَمَّا إِذَا اخْتَلَعَ وَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ اخْتِلَاعُ أَجْنَبِيٍّ وَالْمَالُ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُضِفْ إِلَيْهَا وَلَا إِلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ، فَعَلَى الْوَكِيلِ مَا سَمَّاهُ، وَفِيمَا عَلَيْهَا مِنْهُ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: عَلَيْهَا مَا سَمَّتْ وَالْبَاقِي عَلَى الْوَكِيلِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ طَالَبَ الزَّوْجُ الْوَكِيلَ بِهِ، رَجَعَ عَلَى الزَّوْجَةِ بِمَا سَمَّتْ. وَالثَّانِي: عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ، مَهْرُ الْمِثْلِ وَمَا سَمَّتْ. فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِمَّا [سَمَّى] فَعَلَى الْوَكِيلِ. وَإِنْ زَادَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى مَا سَمَّى الْوَكِيلُ، لَمْ تَجِبْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ رَضِيَ بِمَا سَمَّى الْوَكِيلُ. وَلَوْ أَضَافَ مَا سَمَّتْهُ إِلَيْهَا وَالزِّيَادَةَ إِلَى نَفْسِهِ، ثَبَتَ الْمَالُ كَذَلِكَ. وَلَوْ خَالَفَ الْوَكِيلُ فِي جِنْسِ الْعِوَضِ بِأَنْ قَالَتْ: خَالِعْ عَلَى دَرَاهِمَ، فَخَالَعَ بِدَنَانِيرَ أَوْ ثَوْبٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: يَنْصَرِفُ الِاخْتِلَاعُ عَنْهَا فَيَلْغُو إِنْ أَضَافَ إِلَيْهَا، وَيَقَعُ عَنِ الْوَكِيلِ إِنْ أَطْلَقَ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، تَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ، ثُمَّ يُنْظَرُ، إِنْ أَضَافَ الْخُلْعَ إِلَى مَالِهَا. وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنَا ضَامِنٌ، فَالرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِأَكْثَرِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَبَدَلِ مَا سَمَّتْ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي. وَإِنْ قَالَ: وَأَنَا ضَامِنٌ أَوْ لَمْ يُضِفِ الْعَقْدَ إِلَيْهَا، لَمْ يَرْجِعْ إِلَّا بِبَدَلِ مَا سَمَّتْ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا أَطْلَقَتِ التَّوْكِيلَ، فَمُقْتَضَاهُ الِاخْتِلَاعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. فَإِنْ نَقَصَ

عَنْهُ أَوْ ذَكَرَ فِيهِ أَجَلًا، فَقَدْ زَادَهَا خَيْرًا، وَإِنْ زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَدَّرَتْ فَزَادَ عَلَى الْمُقَدَّرِ، وَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ، لَكِنْ لَا يَجِيءُ قَوْلُ وُجُوبِ أَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ. فَرْعٌ اخْتَلَعَهَا وَكِيلُهَا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، بَانَتْ وَلَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، سَوَاءٌ أَطْلَقَتِ التَّوْكِيلَ، أَوْ سَمَّتِ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ إِذَا سَمَّتِ الْخَمْرَ، وَلَا يَنْفُذُ مَعَهُ خُلْعُ الْوَكِيلِ. وَلَوْ خَالَعَ وَكِيلُ الزَّوْجِ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَكَانَ قَدْ وَكَّلَهُ بِذَلِكَ، فَقَدْ طَرَدَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ فِيهِ مَذْهَبَنَا وَمَذْهَبَ الْمُزَنِيِّ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ. قَالَتْ لِوَكِيلِهَا: اخْتَلِعْنِي بِطَلْقَةٍ عَلَى أَلْفٍ، فَاخْتَلَعَهَا بِثَلَاثِ طَلَقَاتٍ عَلَى أَلْفٍ، فَإِنْ أَضَافَ إِلَيْهَا، لَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلْقَةٌ، وَإِلَّا وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَحْصُلْ مَسْأَلَتُهَا إِلَّا بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَعَلَى الْوَكِيلِ الْبَقِيَّةُ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَقَعَ الثَّلَاثُ وَاحِدَةً مِنْهَا بِالْأَلْفِ، وَفِيهَا أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ: اخْتَلِعْنِي مِنْ زَوْجِي بِثَلَاثٍ عَلَى أَلْفٍ، فَاخْتَلَعَهَا وَاحِدَةً عَلَى أَلْفٍ، فَإِنْ أَضَافَ إِلَيْهَا، لَمْ يَقَعْ، وَإِلَّا وَقَعَ وَعَلَى الْوَكِيلِ مَا سَمَّاهُ. وَأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: خَالِعْهَا ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَخَالَعَ وَاحِدَةً عَلَى أَلْفٍ، وَقَعَ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا. وَأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِتَطْلِيقِهَا بِأَلْفٍ، وَوَكَّلَ آخَرَ بِتَطْلِيقِهَا بِأَلْفَيْنِ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِمَا سَمَّى. وَإِنْ أَوْجَبَا مَعًا، فَقَالَتْ: قَبِلْتُ مِنْكُمَا، أَوْ كَانَتْ وَكَّلَتْ

فصل

وَكِيلَيْنِ أَيْضًا، فَقَبِلَ وَكِيلَاهَا مِنْ وَكِيلِهِ مَعًا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفٍ، وَآخَرَ بِبَيْعِهِ بِأَلْفَيْنِ فَعَقَدَا مَعًا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ، أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِتَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ ثَلَاثًا، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، وَقَعَتْ رَجْعِيَّةً وَلَا يَثْبُتُ الْمَالُ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، لَا يَثْبُتُ الْمَالُ أَيْضًا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: يَثْبُتُ الْمَالُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الزَّوْجُ لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ: خَالِعْهَا بِمِائَةٍ فَخَالَعَ بِأَكْثَرَ. الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الصِّيغَةُ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ، فَإِنْ تَخَلَّلَ كَلَامٌ كَثِيرٌ، بَطَلَ الِارْتِبَاطُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَخَلَّلَ كَلَامٌ يَسِيرٌ، لَمْ يَضُرَّ عَلَى الصَّحِيحِ. فَصْلٌ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا بِعِوَضٍ، وَارْتَدَّتْ عَقِبَ السُّؤَالِ ثُمَّ أَجَابَهَا، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، تَنَجَّزَتِ الْفُرْقَةُ بِالرِّدَّةِ فَلَا مَالَ عَلَيْهَا وَلَا طَلَاقَ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالطَّلَاقُ مَوْقُوفٌ. فَإِنْ أَصَرَّتْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَلَا مَالَ وَلَا طَلَاقَ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهَا، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَلَزِمَهَا الْمَالُ، وَحُسِبَتِ الْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتَاهُ: طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ، ثُمَّ ارْتَدَّتَا ثُمَّ أَجَابَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِمَا، لَغَا الطَّلَاقُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ دَخَلَ بِهِمَا وَأَصَرَّتَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ. وَإِنْ أَسْلَمَتَا قَبْلَهَا، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا.

وَهَلِ الْعِوَضُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَمْ نِصْفُ الْمُسَمَّى، أَمْ حِصَّتُهَا مِنْهُ إِذَا وُزِّعَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهِمَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: الْأَوَّلُ. وَإِنْ أَصَرَّتْ إِحْدَاهُمَا وَأَسْلَمَتِ الْأُخْرَى، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ عَلَى الْمُصِرَّةِ، وَيَقَعُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، وَفِيمَا يَلْزَمُهَا الْأَقْوَالُ. وَفِي وَجْهٍ يَلْزَمُهَا كُلُّ الْمُسَمَّى، حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ. وَلَوِ ارْتَدَّتْ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ أَجَابَهُمَا وَكَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ وَأَصَرَّتْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، طُلِّقَتِ الْمُسْلِمَةُ دُونَ الْمُرْتَدَّةِ. وَلَوِ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ طَلَّقْتُكُمَا بِأَلْفٍ، فَارْتَدَّتَا، ثُمَّ قَبِلَتَا، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا، أَوْ دَخَلَ وَأَصَرَّتَا، لَغَا الْخُلْعُ. وَإِنْ دَخَلَ بِهِمَا وَأَسْلَمَتَا فِي الْعِدَّةِ، طُلِّقَتَا، وَإِنْ أَسْلَمَتْ إِحْدَاهُمَا وَأَصَرَّتِ الْأُخْرَى، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ قَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالْإِيجَابِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِمَا بِخِلَافِ مَا إِذَا ابْتَدَأَتَا. وَلَوْ خَاطَبَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا وَارْتَدَّتْ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ قَبِلَتَا، فَإِنْ كَانَتِ الْمُرْتَدَّةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، أَوْ مَدْخُولًا بِهَا وَأَصَرَّتْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَلَا طَلَاقَ فِيهِمَا. وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ، طُلِّقَتَا. وَلَوِ ارْتَدَّتَا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ قَالَتَا: طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ فَأَجَابَهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَتَا، طُلِّقَتَا. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ خِلَافًا، فِي أَنَّهُ يَقَعُ رَجْعِيًّا أَمْ بِبَدَلٍ، وَهَذَا الْخِلَافُ عَجِيبٌ. قُلْتُ: الصَّوَابُ وُقُوعُهُ بَائِنًا بِبَدَلٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ قَالَ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَتْ: قَبِلْتُ الْأَلْفَ، فَفِي «فَتَاوَى الْقَفَّالِ» أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ الْأَلْفُ وَإِنْ لَمْ تَقُلْ: اخْتَلَعْتُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ: خَالَعْتُ زَوْجَتِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَبِلْتُهُ. وَإِنَّ أَبَا يَعْقُوبَ غَلِطَ فَقَالَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: يُشْتَرَطُ قَوْلُهَا: اخْتَلَعْتُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَجْنَبِيِّ. فَصْلٌ قَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ، كَفَى وَإِنْ لَمْ يُسِمِّ الْمَالَ، كَذَا أَطْلَقُوهُ، وَيُمْكِنُ جَرْيُ خِلَافٍ فِيهِ. وَلَوْ قَالَ الْمُتَوَسِّطَ لَهَا: اخْتَلَعْتُ نَفْسَكِ مِنْهُ بِكَذَا؟ فَقَالَتْ: اخْتَلَعْتُ، ثُمَّ قَالَ لِلزَّوْجِ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ: خَالَعْتُهَا؟ فَقَالَ: خَالَعْتُ، صَحَّ الْخُلْعُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. [قَالَ الْبَغَوِيُّ:] وَلَوْ لَمْ تَسْمَعِ الْمَرْأَةُ قَوْلَ الزَّوْجِ، وَسَمِعَ السَّفِيرُ كَلَامَهُمَا، كَفَى، وَالْإِسْمَاعُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا خَاطَبَ أَصَمَّ فَأَسْمَعَهُ غَيْرُ الْمُخَاطِبِ وَقَبِلَ، صَحَّ الْعَقْدُ. فَصْلٌ إِذَا طَلَّقَهَا عَلَى عِوَضٍ أَوْ خَالَعَهَا، فَلَا رَجْعَةَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ صَحِيحًا، أَوْ

فصل

فَاسِدًا، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْخُلْعُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ. فَلَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ أَوْ طَلَّقْتُكِ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ عَلَيْكِ الرَّجْعَةَ، فَنَقَلَ الرَّبِيعُ وَالْمُزَنِيُّ، أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَا مَالَ. وَخَرَّجَ الْمُزَنِيُّ وَنَقَلَ الرَّبِيعُ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ يَلْغُو شَرْطُ الرَّجْعَةِ، وَتَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. فَقَالَ ابْنُ سَلَمَةَ وَابْنُ الْوَكِيلِ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ، وَرَجَّحَا الْبَيْنُونَةَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ إِلَى الْقَطْعِ بِوُقُوعِهِ رَجْعِيًّا بِلَا مَالٍ. وَلَوْ خَالَعَهَا بِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَتَى شَاءَ رَدَّ الْمِائَةَ، وَكَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَفْسُدُ الشَّرْطُ، وَتَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ. وَقِيلَ بِالْجَزْمِ بِالْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ الرَّجْعَةِ هُنَا، وَمَتَى سَقَطَتْ لَا تَعُودُ. فَصْلٌ لَوْ وَكَّلَ امْرَأَةً بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ أَوْ خُلْعِهَا، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ. وَلَوْ وَكَّلَتِ الزَّوْجَةُ امْرَأَةً بِاخْتِلَاعِهَا، جَازَ بِلَا خِلَافٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلُ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخَالِعُ الْمُسْلِمَةَ وَيُطَلِّقُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ وَتَخَلَّفَ، فَخَالَعَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ، حُكِمَ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجُ بِالْخُلْعِ الْعَبْدَ وَالْمَكَاتَبَ، وَالسَّفِيهَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ إِذْنُ السَّيِّدِ وَالْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ فِي الْخُلْعِ عُهْدَةُ تَوْكِيلِ الزَّوْجِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكَّلَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فِي الْقَبْضِ. فَإِنْ فَعَلَ وَقَبَضَ، فَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّ الْمُخْتَلِعَ يَبْرَأُ، وَيَكُونُ الزَّوْجُ مُضَيِّعًا لِمَالِهِ. وَلَوْ وَكَّلَتِ الْمَرْأَةُ فِي الِاخْتِلَاعِ عَبْدًا، جَازَ سَوَاءٌ أَذِنَ السَّيِّدُ أَمْ لَا. فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَاعُ عَلَى عَيْنِ مَالِهَا، فَذَاكَ. وَإِنْ كَانَ عَلَى

فصل

مَالٍ فِي الذِّمَّةِ، نُظِرَ، إِنْ أَضَافَهُ إِلَيْهَا، فَهِيَ الْمُطَالَبَةُ. وَإِنْ لَمْ يُضِفْ بَلْ أَطْلَقَ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ السَّيِّدُ فِي الْوَكَالَةِ، جَازَ لِلزَّوْجِ مُطَالَبَتُهُ بِالْمَالِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَإِذَا غَرِمَ، رَجَعَ عَلَى الزَّوْجَةِ إِذَا قَصَدَ الرُّجُوعَ. وَإِنْ أَذِنَ فِي الْوَكَالَةِ، تَعَلَّقَ الْمَالُ بِكَسْبِهِ، كَمَا لَوِ اخْتَلَعَتِ الْأَمَةُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ. وَإِذَا أَدَّى فِي كَسْبِهِ، ثَبَتَ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُوَكِّلَةِ. وَلَوْ وَكَّلَتْ فِي الِاخْتِلَاعِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا يَصِحُّ. وَإِنْ أَذِنَ الْوَلِيُّ، فَلَوْ فَعَلَ وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، كَاخْتِلَاعِ السَّفِيهَةِ، وَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ. وَأَمَّا إِذَا أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهَا، فَتَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَى السَّفِيهِ. فَرْعٌ الْوَاحِدُ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْخُلْعِ بِالْوَكَالَةِ، كَالْبَيْعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ. فَلَوْ وَكَّلَ الزَّوْجَانِ رَجُلًا تَوَلَّى مَا شَاءَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعَ الزَّوْجِ الْآخَرِ أَوْ وَكِيلِهِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْخُلْعِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ يَكْفِي فِيهِ اللَّفْظُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْإِعْطَاءُ مِنْ جَانِبٍ. وَعَلَى هَذَا، فَفِي الِاكْتِفَاءِ بِأَحَدِ شِقَّيِ الْعَقْدِ خِلَافٌ، كَبَيْعِ الْأَبِ مَالَهُ لِوَلَدِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَصْلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضُ الْخُلْعِ مَنْفَعَةً، وَيَصِحُّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا. فَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى إِرْضَاعِ وَلَدِهِ أَوْ حَضَانَتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاسْتِتْبَاعُ أَحَدِهِمَا إِذَا أَفْرَدَ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْإِجَارَةِ. وَفِي إِبْدَالِ الصَّبِيِّ الْمُعَيَّنِ وَانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِمَوْتِهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْإِجَارَةِ.

وَالْمَذْهَبُ الِانْفِسَاخُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَأَكْثَرِ الْكُتُبِ وَرَجَّحَهُ الْجُمْهُورُ. وَامْتِنَاعُ الصَّبِيِّ مِنَ الِارْتِضَاعِ وَالْتِقَامِ الثَّدْيِ، كَالْمَوْتِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالِانْفِسَاخِ، فَذَلِكَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، وَلَا يَنْفَسِخُ فِي الْمَاضِي عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنِ انْفَسَخَ فِيمَا مَضَى رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْإِرْضَاعِ تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَعَلَى الزَّوْجِ لَهَا أُجْرَةُ الْإِرْضَاعِ فِي الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ. وَإِنْ لَمْ تَنْفَسِخْ فِي الْمَاضِي، فَعَلَى الْأَظْهَرِ يَرْجِعُ بِقِسْطِ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا وُزِّعَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْمُدَّتَيْنِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ مِثْلِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، فَإِنْ أَتَى بِصَبِيٍّ مِثْلِهِ لِتُرْضِعَهُ، فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ حَقُّهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْتَفِعِ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ قَبْضِهِ الْعَيْنَ، تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهَا قِسْطُ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا وُزِّعَ عَلَى الْمُدَّتَيْنِ، كَمَا إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، يَكُونُ مِنْ ضَمَانِهِ وَإِنْ تَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْقَبْضِ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْبَغَوِيِّ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْوَجْهُ الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِصَبِيٍّ آخَرَ لِعَجْزِهِ، فَقَدْ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، بِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ [كَمَا] إِذَا حَكَمْنَا بِالِانْفِسَاخِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَطَّرِدَ فِيهِ الْخِلَافُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَجْزِ وَعَدَمِهِ كَمَا سَبَقَ فِي «الْإِجَارَةِ» فِيمَا لَوْ تَلِفَ الثَّوْبُ الْمُعَيَّنُ لِلْخِيَاطَةِ وَقُلْنَا: لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ، فَلَمْ يَأْتِ الْمُسْتَأْجِرُ بِثَوْبٍ مِثْلِهِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ فِي اسْتِقْرَارِ الْأُجْرَةِ وَجْهَيْنِ، سَوَاءٌ امْتَنَعَ مِنَ الْإِبْدَالِ لِعَجْزِهِ أَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ.

قُلْتُ: الصَّحِيحُ، مَا جَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَمُوَافِقُوهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ أَضَافَ إِلَى الْإِرْضَاعِ وَالْحَضَانَةِ نَفَقَتَهُ مُدَّةً، بِأَنْ خَالَعَهَا عَلَى كَفَالَةِ وَلَدِهِ عَشْرَ سِنِينَ، تُرْضِعُهُ مِنْهَا سَنَتَيْنِ، وَتُنْفِقُ عَلَيْهِ تَمَامَ الْعَشْرِ وَتَحْضُنُهُ، نُظِرَ، إِنْ بَيَّنَ النَّفَقَةَ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ كَالزَّيْتِ وَاللَّحْمِ، وَكِسْوَتَهُ كُلَّ فَصْلٍ أَوْ سَنَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَوَصَفَهُ بِالْأَوْصَافِ الْمَشْرُوطَةِ فِي السَّلَمِ، فَفِي صِحَّةِ الْخُلْعِ بِمَا سَمَّى طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْكَفَالَةُ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَابِعَةٌ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ - لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، وَلِأَنَّهُ سَلَمٌ فِي أَجْنَاسٍ -. أَظْهَرُهُمَا: الصِّحَّةُ أَيْضًا. فَإِنْ أَبْطَلْنَاهُ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَمْ بِبَدَلِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إِلَى بَدَلِ الْأَشْيَاءِ لَأَثْبَتْنَاهَا. وَإِنْ صَحَّحْنَا، فَهُوَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ وَيَصْرِفَهُ إِلَى الْوَلَدِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهَا بِالصَّرْفِ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، فِيمَا إِذَا أَذِنَ الْحَاكِمُ لِلْمُلْتَقِطِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى اللَّقِيطِ مِنْ مَالِهِ، بِشَرْطِ الرُّجُوعِ. قُلْتُ: لَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ، بَلْ يَجُوزُ هَذَا قَطْعًا وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ إِنْ عَاشَ الْوَلَدُ حَتَّى اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ وَالْعَيْنَ، فَذَاكَ، فَإِنْ خَرَجَ زَهِيدًا وَفَضَلَ مِنَ الْمُقَدَّرِ شَيْءٌ، فَهُوَ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ رَغِيبًا وَاحْتَاجَ إِلَى زِيَادَةٍ، فَهِيَ عَلَى الزَّوْجِ. وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْإِرْضَاعِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، وَجَوَازِ الْإِبْدَالِ، فَإِنْ حَكَمْنَا بِالِانْفِسَاخِ، وَمَنَعْنَا الْإِبْدَالَ، انْفَسَخَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، وَفِي انْفِسَاخِهِ فِيمَا مَضَى وَفِي الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ خِلَافُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ الِانْفِسَاخِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، اسْتَوْفَى الزَّوْجُ الطَّعَامَ وَالْكُسْوَةَ، وَيَرْجِعُ بِمَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ مِنَ الْمُدَّةِ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي قَوْلٍ، وَإِلَى حِصَّتِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبَيَانُ الْحِصَّةِ بِأَنْ يُقَوَّمَ الطَّعَامُ وَالْأُدْمُ وَالْكُسْوَةُ، وَمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ، وَمَا بَقِيَ، وَيُعْرَفُ نِسْبَةُ قِيمَةِ الْبَاقِي مِنَ الْمُدَّةِ مِنَ الْجَمِيعِ، فَيَجِبُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَتَعَدَّى الِانْفِسَاخُ إِلَى الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ وَالنَّفَقَةِ، رَجَعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِلَى بَدَلِ الْجَمِيعِ عَلَى الثَّانِي، وَتَرْجِعُ الزَّوْجَةُ بِأُجْرَةِ مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ الْإِرْضَاعِ، وَقَدْ يَقَعُ التَّقَاصُّ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، أَنَّ الْوَاجِبَ قِسْطُ مَا سِوَى الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَتَسْقُطُ حِصَّتُهَا وَتُجْعَلُ مَنْفَعَتُهَا مُسْتَوْفَاةً. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ ارْتِضَاعِهِ الْمُدَّةَ بِكَمَالِهَا، فَيَبْقَى اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَهَلْ يَتَعَجَّلُ الِاسْتِحْقَاقَ أَمْ يَبْقَى مُنَجَّمًا كَمَا كَانَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَلَوِ انْقَطَعَ جِنْسُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي انْقِطَاعِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ. أَحَدُهُمَا: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ. فَعَلَى هَذَا يَنْفَسِخُ فِي الْمُنْقَطِعِ، وَلَا يَنْفَسِخُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَقْبُوضَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا وَتَلِفَ الْآخَرُ

وَلَا فِي الْحَضَانَةِ وَالْإِرْضَاعِ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ حُكِمَ بِالِانْفِسَاخِ فِي الْجَمِيعِ غَرِمَ لَهَا بَدَلَ مَا اسْتَوْفَى مِنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَفِي قَوْلٍ: بَدَلُ الْمُسَمَّى. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ إِلَّا فِي الْمُنْقَطِعِ، رَجَعَ إِلَى حِصَّتِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِلَى بَدَلِ الْمُنْقَطِعِ فِي قَوْلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَنَّ انْقِطَاعَ الْمُسَلَّمِ فِيهِ لَا يَقْتَضِي الِانْفِسَاخَ، لَكِنْ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ، فَلَهُ الْفَسْخُ فِي الْجَمِيعِ. وَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ فِي الْمُنْقَطِعِ وَحْدَهُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا مَعِيبًا وَأَرَادَ إِفْرَادَهُ بِالرَّدِّ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَهُ الْفَسْخُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَنَافِعِ عَلَى الْمَذْهَبِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا جِنْسًا وَعَقْدًا. وَإِذَا أَفْرَدَ الْمُنْقَطِعَ بِالرَّدِّ وَجَوَّزْنَاهُ، فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الْقَوْلَانِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْمَذْكُورُ مِمَّا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَوُصِفَ بِالصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تُوصَفْ، أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَالثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ، وَالْمَحْشُوَّةِ، وَالْمَطْبُوخِ وَالْمَشْوِيِّ مِنَ الطَّعَامِ، فَالْمُسَمَّى فَاسِدٌ، وَالرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بِلَا خِلَافٍ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الْمُلْزِمَةِ وَمُقْتَضَاهَا. فِيهِ أَطْرَافٌ. الْأَوَّلُ: فِي الْأَلْفَاظِ الْمُلْزِمَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: صِيغَةُ الْمُعَاوَضَةِ مُلْزِمَةٌ، فَإِذَا قَالَ: طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ، فَقَبِلَتْ، صَحَّ الْخُلْعُ وَلَزِمَ الْأَلْفُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ، أَوْ لِي

عَلَيْكِ أَلْفٌ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَسْبِقْهُ اسْتِيجَابٌ بَلِ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِهِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا قَبِلَتْ أَمْ لَا، وَلَا مَالَ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا: طَلِّقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ فَأَجَابَهَا فَإِنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهَا مِنْ عَقْدِ الْخُلْعِ الِالْتِزَامُ، فَيُحْمَلُ لَفْظُهَا عَلَيْهِ، وَالزَّوْجُ يَنْفَرِدُ بِالطَّلَاقِ. فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِصِيغَةِ الْمُعَاوَضَةِ، حُمِلَ عَلَى مَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَصِيغَتُهُ خَبَرٌ. فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: وَعَلَيْكِ أَلْفٌ الْإِلْزَامَ وَقَصَدْتُ مَا يَقْصِدُهُ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ، لَمْ يُصَدَّقْ. فَإِنْ وَافَقَتْهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُؤَثِّرُ تَوَافُقُهُمَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ. وَأَصَحُّهُمَا: يُؤَثِّرُ فَتَبِينُ بِالْأَلْفِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ إِذَا أَنْكَرَتْ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَدَّقَتْهُ لَمْ تُؤَثِّرْ. وَعَلَى الثَّانِي، يَحْلِفُ. وَمُقْتَضَى الثَّانِي انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ: بِعْتُكَ وَلِي عَلَيْكَ [كَذَا] ، تَفْرِيعًا عَلَى انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِالْكِنَايَةِ، أَمَّا إِذَا سَبَقَ اسْتِيجَابٌ، فَإِنْ لَمْ تَذْكُرْ عِوَضًا بِأَنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي، فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ لَمْ تَطْلُبْ. وَإِنْ ذَكَرَتْهُ مُبْهَمًا بِأَنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِبَدَلٍ، فَإِنْ عَيَّنَ الزَّوْجُ الْبَدَلَ فِي الْجَوَابِ فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ، فَهُوَ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ، فَإِنْ قَبِلَتْ، بَانَتْ بِالْأَلْفِ، وَإِلَّا فَلَا طَلَاقَ. وَإِنْ أَبْهَمَ الْجَوَابَ فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ بِالْبَدَلِ، أَوْ طَلَّقْتُكِ، بَانَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ عَيَّنَتِ الْبَدَلَ، فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ، بَانَتْ بِالْأَلْفِ وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا طَلَبٌ، وَشَاعَ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي طَلَبِ الْعِوَضِ وَإِلْزَامِهِ، كَانَ كَقَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ. وَلَوِ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: طَلَبْتِ مِنِّي الطَّلَاقَ بِبَدَلٍ. فَقُلْتَ فِي جَوَابِكِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ، فَقَالَتْ: بَلِ ابْتَدَأْتَ فَلَا شَيْءَ لَكَ، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا فِي نَفْيِ الْعِوَضِ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ لِقَوْلِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُكِ عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْكِ أَلْفًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ. فَإِذَا قَبِلَتْ، بَانَتْ وَلَزِمَهَا الْمَالُ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمُعْتَمَدُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» وَفِي «عُيُونِ الْمَسَائِلِ» ، وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ. وَمُقْتَضَاهُ انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ: بِعْتُكِ هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِي عَلَيْكِ أَلْفٌ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِهِ أَنْ يُجْعَلَ كِنَايَةً فِي الْبَيْعِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَا مَالَ. قَالَ: فَإِنْ فُسِّرَ بِالْإِلْزَامِ، فَفِي قَبُولِهِ وَجْهَانِ. قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : لَا، وَغَيْرُهُ: نَعَمْ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا، أَوْ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ فِي مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ: ضَمِنْتُ، طُلِّقَتْ وَلَزِمَهَا أَلْفٌ. وَلَوْ قَالَ: مَتَى ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يُعْتَبَرِ الْمَجْلِسُ بَلْ مَتَى ضَمِنَتْ طُلِّقَتْ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ قَبْلَ الضَّمَانِ. وَلَوْ أَعْطَتْهُ الْمَالَ وَلَمْ يَقُلْ: ضَمِنْتِ أَوْ قَالَ: شِئْتِ بَدَلَ ضَمِنْتِ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَلَوْ ضَمِنَتْ أَلْفَيْنِ، طُلِّقَتْ لِوُجُودِ الصِّفَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا مَعَ زِيَادَةٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَتْ: قَبِلْتُ بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ صِيغَةُ مُعَاوَضَةٍ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا تَوَافُقُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. فَرْعٌ قَالَ الزَّوْجُ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَوْ جَعَلْتُ أَمْرَ الطَّلَاقِ إِلَيْكِ، فَطَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا، فَقَالَتْ: ضَمِنْتُ وَطَلَّقْتُ نَفْسِي، أَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ وَضَمِنْتُ، بَانَتْ بِالْأَلْفِ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ وَالطَّلَاقُ مُقْتَرِنَيْنِ، سَوَاءٌ قَدَّمَتْ لَفْظَ الطَّلَاقِ، أَوِ الضَّمَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا، فَقَالَتْ: ضَمِنْتُ، يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَثْبُتُ الْمَالُ مُقْتَرِنَيْنِ، وَإِنْ تَعَاقَبَ اللَّفْظَانِ، فَلَوْ ضُمِّنَتْ وَلَمْ تُطَلَّقْ، أَوْ طُلِّقَتْ

وَلَمْ تُضَمَّنْ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ. وَإِذَا جَمَعَتْهُمَا، اشْتُرِطَ كَوْنُ الضَّمَانِ فِي الْمَجْلِسِ قَطْعًا، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ التَّطْلِيقِ فِي الْمَجْلِسِ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا يُشْتَرَطُ إِعْطَاءُ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ قَطْعًا. وَهَلِ الْمُرَادُ بِالْمَجْلِسِ مَجْلِسُ التَّوَاجُبِ، أَمْ مَجْلِسُ الْقُعُودِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَقَدْ سَبَقَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْقَبُولُ وَالِالْتِزَامُ دُونَ الضَّمَانِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى أَصِيلٍ. الرَّابِعَةُ: سَبَقَ أَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْإِعْطَاءِ، لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْإِعْطَاءِ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الصَّحِيحِ، إِلَّا إِذَا كَانَ بِصِيغَةِ «مَتَى» وَمَا فِي مَعْنَاهَا، فَلَا تَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَارٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَقْبَضْتِينِي كَذَا، أَوْ أَدَّيْتِ إِلَيَّ كَذَا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ، اشْتُرِطَ وُجُودُ مَشِيئَتِهَا فِي مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ، بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْعَاءٌ لِجَوَابِهَا وَاسْتِبَانَةُ رَغْبَتِهَا. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْمَجْلِسُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ مَتَى شَاءَتْ، كَسَائِرِ التَّعْلِيقِ، وَالْمَجْلِسُ مَجْلِسُ التَّوَاجُبِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَبَقَ. وَإِذَا قَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ: شِئْتُ وَقَبِلْتُ، فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ فَتُطَلَّقُ وَيَلْزَمُ الْمَالُ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ. وَإِنِ اقْتَصَرَتْ عَلَى قَوْلِهَا: شِئْتُ، أَوْ قَبِلْتُ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: يَكْفِي؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُشْعِرُ بِالرِّضَى وَالِالْتِزَامِ، وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ. وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ [كَانَ جَوَابُهَا قَبِلْتُ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ] إِنْ شِئْتِ، كَانَ جَوَابُهَا شِئْتُ، فَإِذَا جَمَعَهُمَا، اشْتُرِطَ جَمْعُهُمَا فِي الْجَوَابِ. وَالثَّالِثُ: يَكْفِي قَوْلُهَا: شِئْتُ،

وَلَا يَكْفِي قَوْلُهَا: قَبِلْتُ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ لَيْسَ مَشِيئَةً، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ، فَقَالَتْ: قَبِلْتُ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فِيمَا حَكَى عَنْهُ الْمُعَلِّقُ. قُلْتُ: هَذَا الثَّالِثُ، هُوَ الْأَصَحُّ بَلِ الصَّحِيحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلَى الثَّالِثِ: لَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ عَلَى قَاعِدَةِ التَّعْلِيقَاتِ، وَعَلَى الثَّانِي: فِي جَوَازِ رُجُوعِهِ وَجْهَانِ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالْمُعَاوَضَةِ. وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالْمَشِيئَةِ بِصِيغَةِ «مَتَى» طُلِّقَتْ مَتَى شَاءَتْ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ. وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ، فَلَيْسَ بِجَوَابٍ لَهَا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْلِيقِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَشِيئَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ. وَلَوْ نَكَّرَ فَقَالَ: عَلَى أَلْفٍ وَنَوَى مَا ذَكَرَتْ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ. وَإِنْ نَوَى غَيْرَ الدَّرَاهِمِ، فَقَدْ نَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ أَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ وَلَا بَدَلَ، وَخَرَّجَ مِنْ عِنْدِهِ أَنَّهُ لَا طَلَاقَ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِ الْقَبُولُ وَالْمَشِيئَةُ، كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْحَقُّ. وَلَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَقَدْ حَكَى وَجْهَيْنِ فِي وُقُوعِهِ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا، وَوَجْهَيْنِ إِنْ وَقَعَ بَائِنًا فِي أَنَّ الْوَاجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَمِ الْمُسَمَّى؟ وَمُقْتَضَى جَعْلِهِ مُبْتَدَأً أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ إِلَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ قَبُولٌ وَمَشِيئَةٌ. الْخَامِسَةُ: فِي حَقِيقَةِ الْإِعْطَاءِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ. فَإِنْ سَلَّمَتِ الْمَالَ إِلَيْهِ فَقَبَضَهُ، فَذَاكَ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَفَى وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهَا أَعْطَتْهُ وَهُوَ يُفَوِّتُ حَقَّهُ. وَقِيلَ: لَا يَكْفِي الْوَضْعُ، فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ. فَإِذَا أَعْطَتْهُ، دَخَلَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَقِيلَ: لَا بَلْ يَرُدُّهُ، وَيَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَجْرِي هَذَا الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: ضَمِنْتُ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْمَالِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا بَعِيدٌ، كَدُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِعْطَاءِ. وَإِذَا قَالَ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَبَعَثَتْهُ عَلَى يَدِ وَكِيلِهَا، فَقَبَضَهُ الزَّوْجُ، لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُعْطِ هِيَ، وَكَذَا لَوْ أَعْطَتْهُ عَنِ الْأَلْفِ عِوَضًا، أَوْ كَانَ لَهَا عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَتَقَاصَّا، لَمْ تُطَلَّقْ. وَلَوْ حَضَرَتْ وَقَالَتْ لِوَكِيلِهَا الْحَافِظِ لِمَالِهَا: سَلِّمْ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَهُ، طُلِّقَتْ وَكَانَ تَمْكِينُهَا الزَّوْجَ مِنَ الْمَالِ الْمَقْصُودِ إِعْطَاءً، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. وَلَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْإِقْبَاضِ فَقَالَ: إِنْ أَقْبَضْتِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي: أَنَّهُ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْبَاضَ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، بِخِلَافِ الْإِعْطَاءِ. فَعَلَى هَذَا، لَا يُمَلَّكُ الْمَقْبُوضُ وَلَيْسَ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، بَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا. وَلَا يَخْتَصُّ الْإِقْبَاضُ بِالْمَجْلِسِ كَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِقْبَاضَ كَالْإِعْطَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيهِ. وَلَوْ قَالَتْ: إِنْ قَبَضْتُ مِنْكَ كَذَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ أَقْبَضْتِنِي، وَيُعْتَبَرُ فِي الْقَبْضِ الْأَخْذُ بِالْيَدِ، وَلَا يَكْفِي الْوَضْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى قَبْضًا، وَلَوْ بَعَثَتْهُ مَعَ وَكِيلِهَا، لَمْ يَكْفِ. وَلَوْ قَبَضَ مِنْهَا مُكْرَهَةً، طُلِّقَتْ لِوُجُودِ الصِّفَةِ. وَفِي التَّعْلِيقِ بِالْإِعْطَاءِ، لَوْ أَخَذَ مِنْهَا كُرْهًا، لَمْ تُطَلَّقْ لِأَنَّهَا لَمْ تُعْطِهِ. وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي، أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّعْلِيقِ بِالْإِقْبَاضِ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِيَاضِ بِأَنْ يَقُولَ: إِنْ أَقْبَضْتِنِي كَذَا وَجَعَلْتِهِ لِي أَوْ لِأَصْرِفَهُ فِي حَاجَتِي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي مُتَعَيِّنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْأَدَاءُ وَالدَّفْعُ وَالتَّسْلِيمُ، كَالْإِقْبَاضِ.

فَرْعٌ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْ أَلْفَيْنِ، طُلِّقَتْ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ هُنَا بِحُكْمِ التَّعْلِيقِ، وَإِعْطَاءُ الْأَلْفَيْنِ يَشْتَمِلُ عَلَى إِعْطَاءِ الْأَلْفِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا فَضَمِنَتْ أَلْفَيْنِ، وَيَلْغُو ضَمَانُ الزِّيَادَةِ عَلَى أَلْفٍ. وَإِذَا قَبَضَ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمُعَلَّقِ بِهِ، كَانَتْ أَمَانَةً عِنْدَهُ، وَيُخَالِفُ هَذَا قَوْلَهُ: خَالَعْتُكِ بِأَلْفٍ فَقَالَتْ: قَبِلْتُ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنَّهَا لَا تُطَلَّقُ لِعَدَمِ مُوَافَقَةِ الْإِيجَابِ. السَّادِسَةُ: فِي بَيَانِ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الدِّرْهَمُ. إِذَا عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِإِعْطَائِهِ، وَمَا يَقْبَلُ تَفْسِيرَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي «الزَّكَاةِ وَالْإِقْرَارِ» قَدْرُ الدِّرْهَمِ الْإِسْلَامِيِّ، وَاسْمُ الدِّرْهَمِ هُنَا يَقَعُ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ الْمَضْرُوبَةِ، سَوَاءٌ كَانَ نَوْعُهُ جَيِّدًا، أَوْ رَدِيئًا، لِسَوَادٍ أَوْ خُشُونَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. فَإِذَا قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ بِأَيِّ نَوْعٍ أَعْطَتْهُ. لَكِنْ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ غَالِبٌ، فَأَتَتْ بِغَيْرِهِ، طُولِبَتْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ تُنَزَّلُ عَلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ، وَالْخُلْعُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ كَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ. وَفِي قَوْلٍ: يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، فَالْمُعْطَى غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْغَالِبِ، فَالْمُعْطَى مَمْلُوكٌ لِلزَّوْجِ، وَلَهُ رَدُّهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْغَالِبِ. وَذَكَرَ فِي «الْوَسِيطِ» : أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَيَجِبُ الْإِبْدَالُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ، إِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَرَغْبَةِ النَّاسِ فِيمَا يَرُوجُ هُنَاكَ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِقْرَارِ وَالتَّعْلِيقِ، بَلْ يَبْقَى اللَّفْظُ عَلَى عُمُومِهِ فِيهِمَا. أَمَّا فِي التَّعْلِيقِ، فَلِقِلَّةِ وُقُوعِهِ، وَأَمَّا

فِي الْإِقْرَارِ، فَلِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ وُجُوبٍ سَابِقٍ، وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ الْوُجُوبُ عَلَى الضَّرْبِ الْغَالِبِ، أَوْ وُجُوبٌ فِي بُقْعَةٍ أُخْرَى. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ، فَهَذَا لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ، فَيُنَزَّلُ عَلَى الْغَالِبِ عَلَى قَاعِدَةِ الْمُعَامَلَاتِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الْبَلَدِ دَرَاهِمَ عَدَدِيَّةً نَاقِصَةَ الْوَزْنِ أَوْ زَائِدَتَهُ، لَمْ يَنْزِلِ الْإِقْرَارُ وَالتَّعْلِيقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِمَا، وَاللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي الْوَازِنَةِ، وَفِي تَنْزِيلِ الْبَيْعِ وَالْمُعَامَلَاتِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ، وَالْعُرْفُ لَا يُغَيِّرُ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ يَخُصُّ بَعْضَ الْأَنْوَاعِ. وَأَصَحُّهُمَا: التَّنْزِيلُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُقْصَدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبَلْدَةِ. وَفِي قَبُولِ تَفْسِيرِ الْمُقِرِّ بِالنَّاقِصِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ. وَلَوْ فُسِّرَ الْمُعَلَّقُ بِالدَّرَاهِمِ الْمُعْتَادَةِ، فَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً، قُبِلَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً، قُبِلَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ تَوْسِيعٌ لِبَابِ الطَّلَاقِ. فَرْعٌ لَوْ أَتَتْ بِدَرَاهِمَ مَغْشُوشَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الْبَلَدِ الْمَغْشُوشَةَ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا يُنَزَّلُ اللَّفْظُ عَلَيْهَا، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا إِذَا أَعْطَتْهُ الْخَالِصَةَ، لَكِنْ تَسْتَرِدُّ مَا أَعْطَتْهُ وَتُعْطِيهِ مَغْشُوشَةً. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ: التَّفْسِيرُ بِالْمَغْشُوشَةِ كَالتَّفْسِيرِ بِالنَّاقِصَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: التَّفْسِيرُ بِهِمَا، فَهَلْ تُرَاجِعُهُ لِيُعَبِّرَ عَنْ مَقْصُودِهِ، أَمْ تَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يُفَسَّرَ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ فِي «الْبَسِيطِ» .

قُلْتُ: أَفْقَهُهُمَا: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ، بِأَنَّ اللَّفْظَ يُنَزَّلُ عَلَى الْمَغْشُوشَةِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ إِذَا أَعْطَتْ مَغْشُوشَةً، وَهَلْ تُسَلَّمُ لَهُ الدَّرَاهِمُ بِذَلِكَ؟ قَالَ الْمُتَوَلِّي: يُبْنَى عَلَى جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ. إِنْ لَمْ نُجَوِّزْهَا، رَدَّ الدَّرَاهِمَ وَلَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِلَّا سُلِّمَتْ لَهُ الدَّرَاهِمُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ أَصَحَّ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَالِبُ فِي الْبَلَدِ الدَّرَاهِمَ الْخَالِصَةَ، فَلَا تُطَلَّقُ إِلَّا إِذَا أَعْطَتْ مَا تَبْلُغُ نُقْرَتُهُ أَلْفًا. وَفِي وَجْهٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ بَلَغَتْهُ، كَمَا لَوْ أَعْطَتْهُ سَبِيكَةً. فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ وَهُوَ الْوُقُوعُ، فَهَلْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ الْمَدْفُوعَ إِلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ تُنَزَّلُ عَلَى الْغَالِبِ. وَالثَّانِي: [نَعَمْ] ؛ لِأَنَّ قَبْضَهَا اعْتُبِرَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَكَذَا فِي إِفَادَةِ الْمِلْكِ، لَكِنْ لَهُ الرَّدُّ بِسَبَبِ الْعَيْبِ. فَإِذَا رَدَّ، رَجَعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِلَى أَلْفٍ خَالِصَةٍ فِي قَوْلٍ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَ الْغِشَّ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَلَغَتِ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ أَلْفًا، بَقِيَ الْغِشُّ شَيْئًا آخَرَ مَضْمُومًا، فَلَا يَمْلِكُهُ كَمَا لَوْ ضَمَّتْ إِلَى الْأَلْفِ ثَوْبًا. قُلْتُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَائِلِ بِالْمِلْكِ، أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَى الْغِشِّ لِحَقَارَتِهِ فِي جَنْبِ الْفِضَّةِ، وَيَكُونُ تَابِعًا كَمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ نَعْلِ الدَّابَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُعَامَلَةُ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ، فَذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابَيِ الزَّكَاةِ وَالْبَيْعِ، وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ.

السَّابِعَةُ: قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَوَصَفَهُ بِمَا يُعْتَبَرُ فِي السَّلَمِ، فَأَتَتْ بِهِ بِالصِّفَةِ، طُلِّقَتْ، وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ كَمَا قُلْنَا فِي الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ، لَمْ تُطَلَّقْ وَلَا يَمْلِكُهُ. فَلَوْ كَانَ بِالصِّفَةِ لَكِنَّهُ مَعِيبٌ، فَلَهُ الْخِيَارُ. فَإِنْ رَدَّهُ، رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِقِيمَتِهِ سَلِيمًا فِي قَوْلٍ، وَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِسَلِيمٍ بِالصِّفَةِ، وَفِي كِتَابِ الْحَنَّاطِيِّ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْعَبْدَ، بَلْ يَأْخُذُ أَرْشَ الْعَيْبِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. أَمَّا إِذَا قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا وَلَمْ يَصِفْ، فَأَعْطَتْهُ عَبْدًا لَهَا، طُلِّقَتْ لِوُجُودِ الصِّفَةِ وَلَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يَكُونُ مُعَاوَضَةً، وَالْمَجْهُولُ لَا يَكُونُ عِوَضًا، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَطْعًا. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَالْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهَا الْعِوَضُ إِذَا ابْتَدَأَتْ فَسَأَلَتْ طَلَاقًا بِعِوَضٍ، فَقَالَ فِي جَوَابِهَا: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَسَوَاءٌ إِنْ أَعْطَتْ سَلِيمًا أَوْ مَعِيبًا، أَوْ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُعَلَّقًا عِتْقُهُ عَلَى صِفَةٍ، لِوُقُوعِ اسْمِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، وَإِمْكَانِ نَقْلِهِ وَتَمْلِيكِهِ. فَإِنْ أَعْطَتْهُ مُكَاتَبًا، لَمْ تُطَلَّقْ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي أَمَةً، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، فَأَعْطَاهُ أُمَّ وَلَدِهِ. وَأُشِيرَ فِي الْمَكَاتَبِ إِلَى وَجْهٍ. وَلَوْ وَصَفَ الْعَبْدَ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ صِفَاتِهِ، فَهُوَ كَعَدَمِ الْوَصْفِ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، لَكِنْ لَوْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا بِغَيْرِ الصِّفَةِ، لَمْ تُطَلَّقْ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا تُرْكِيًّا، فَأَعْطَتْهُ هِنْدِيًّا. وَلَوْ أَتَتْ بِعَبْدٍ مَغْصُوبٍ، أَوْ مُشْتَرَكٍ لَهَا وَلِغَيْرِهَا، أَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَتَتْ بِدَرَاهِمَ مَغْصُوبَةٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى إِعْطَاءً، وَطُرِدَ الْخِلَافُ فِي الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ. قُلْتُ: يَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْمُسْتَأْجَرِ إِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ كَغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ فَأَعْطَتْهُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ، وَقِيلَ: يَقَعُ رَجْعِيًّا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي زِقَّ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا إِذَا أَتَتْ بِهِ، بَانَتْ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ. فَإِنْ أَتَتْ بِخَمْرٍ مَغْصُوبَةٍ، بِأَنْ كَانَتْ مُحْتَرَمَةً أَوْ لِذِمِّيٍّ، فَإِنْ قُلْنَا فِي الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ: يَقَعُ الطَّلَاقُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوُقُوعُ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ هُنَا مُضَافٌ إِلَى مَا يَتَأَتَّى تَمَلُّكُهُ. وَالثَّانِي، الْمَنْعُ وَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ يَدًا، كَمَا حُمِلَ لَفْظُ الْعَبْدِ عَلَى مَا اخْتَصَّتْ بِهِ مِلْكًا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْحُرَّ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ. وَالثَّالِثُ: يَقَعُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِحَالٍ، فَالزَّوْجُ لَمْ يَطْمَعْ بِشَيْءٍ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ أَوِ الثَّوْبَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ، طُلِّقَتْ وَمَلَكَهُ، فَإِنْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا أَوْ مُكَاتَبًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَأَصَحُّهُمَا: وُقُوعُهُ لِلْإِشَارَةِ، وَيَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِقِيمَتِهِ فِي قَوْلٍ. وَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا، فَلَهُ رَدُّهُ، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الْقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: قِيمَتُهُ سَلِيمًا. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بَلْ يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ، لَمْ تُطَلَّقْ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْهُ فَإِنْ قَالَ: هَذَا الثَّوْبُ فَأَعْطَتْهُ طُلِّقَتْ، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الْقَوْلَانِ. وَهَذَا تَفْرِيعٌ مِنْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي الثَّوْبِ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ، وَلَا يَخْفَى مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِعْطَاءَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِي الْمَجْلِسِ. الثَّامِنَةُ: قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ هَرَوِيٌّ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ وَبَانَ مَرَوِيًّا، لَمْ تُطَلَّقْ. وَإِنْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ فَبَانَ مَرَوِيًّا

أَوْ بِالْعَكْسِ، طُلِّقَتْ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صِيغَةَ شَرْطٍ بَلْ أَخْطَأَ فِي الْوَصْفِ. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَوَصَفَهُ كَمَا يَنْبَغِي، فَأَعْطَتْهُ ثَوْبًا بِالصِّفَةِ، فَبَانَ مَرَوِيًّا، رَدَّهُ وَطَالَبَهَا بِهَرَوِيٍّ بِالصِّفَةِ. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌّ فَبَانَ مَرَوِيًّا، وَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ، وَإِخْلَافُ الصِّفَةِ كَعَيْبٍ، فَلَهُ خِيَارُ الْخُلْفِ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ عَنِ الْهَرَوِيِّ، فَلَا خِيَارَ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَلَا نَقْصَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَإِنَّ رَدَّ، رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِقِيمَةِ هَرَوِيٍّ فِي الثَّانِي. فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا بَعْدَ تَلَفِهِ أَوْ تَعَيُّبِهِ فِي يَدِهِ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ، رَجَعَ بِقَدْرِ النَّقْصِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ فِي الثَّانِي، وَلَيْسَ لَهُ هُنَا طَلَبُ هَرَوِيٍّ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ هُنَا بِالْعَقْدِ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ: وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَةِ لَيْسَ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، كَمَا سَبَقَ فِي النِّكَاحِ. فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ، فَالْعِوَضُ فَاسِدٌ فَلَيْسَ لَهُ إِمْسَاكُهُ، وَيَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، أَوْ قِيمَةِ الثَّوْبِ مَرَوِيًّا عَلَى قَوْلٍ. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ، عَلَى أَنَّهُ كَتَّانٌ فَخَرَجَ قُطْنًا أَوْ بِالْعَكْسِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ كَاخْتِلَافِ الصِّفَةِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي خُرُوجِهِ مَرَوِيًّا. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّ الْعِوَضَ فَاسِدٌ وَتَقَعُ الْبَيْنُونَةُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِقِيمَةِ ثَوْبِ كَتَّانٍ فِي قَوْلٍ، وَلَيْسَ لَهُ إِمْسَاكُهُ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَوْ بَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ كَتَّانٌ فَبَانَ قُطْنًا، بَطَلَ الْبَيْعُ. وَلَوْ قَالَتْ: خَالِعْنِي عَلَى هَذَا الثَّوْبِ فَإِنَّهُ هَرَوِيٌّ، فَخَالَعَهَا عَلَيْهِ فَبَانَ مَرَوِيًّا، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌّ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ قَالَتْ: هَذَا الثَّوْبُ هَرَوِيٌّ فَقَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الثَّوْبَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ فَبَانَ مَرَوِيًّا، بُنِيَ عَلَى الْمُتَوَاطَأِ عَلَيْهِ

قَبْلَ الْعَقْدِ، كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا، نَعَمْ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِلَّا وَقَعَ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ الثَّوْبُ. وَلَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ وَهُوَ هَرَوِيٌّ فَبَانَ خِلَافُهُ، فَلَا رَدَّ لِأَنَّهُ لَا تَغْرِيرَ مِنْ جِهَتِهِمَا، وَلَا اشْتِرَاطَ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَهُوَ هَرَوِيٌّ أَفَادَ الِاشْتِرَاطَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ هَرَوِيٌّ، حَتَّى لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هَرَوِيًّا، فَلِمَ لَمْ يُفِدِ الِاشْتِرَاطُ فِي قَوْلِهِ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ وَهُوَ هَرَوِيٌّ، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الرَّدِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ هَرَوِيًّا كَمَا لَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌّ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ هَرَوِيٌّ دَخَلَ هُنَاكَ عَلَى كَلَامٍ غَيْرِ مُسْتَقِلٍّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الثَّوْبَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ، فَيَتَقَيَّدُ بِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَتَمَامُهُ بِالْفَرَاغِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ، فَكَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ، فَجُعِلَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَهُوَ هَرَوِيٌّ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً، وَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِهَا الْأَوَّلُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي سُؤَالِ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ بِمَالٍ، بِاخْتِلَاعِ الْأَجْنَبِيِّ. فِيهِ أَطْرَافٌ. الْأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِهَا وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: إِذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِكَذَا، أَوْ عَلَى كَذَا، أَوْ عَلَى أَنَّ عَلَيَّ كَذَا، أَوْ عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ كَذَا، أَوْ أَنْ أَضْمَنَ لَكَ، أَوْ إِنْ طَلَّقْتَنِي، أَوْ إِذَا طَلَّقْتَنِي، أَوْ مَتَى طَلَّقْتَنِي، فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، فَهَذِهِ كُلُّهَا صِيَغٌ صَحِيحَةٌ فِي الِالْتِزَامِ، وَيَخْتَصُّ الْجَوَابُ فِي

الْمَجْلِسِ بِلَا خِلَافٍ، فِي «مَتَى» وَغَيْرِهَا، بِخِلَافِ قَوْلِ الرَّجُلِ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي، وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ. الثَّانِيَةُ: قَالَتْ: إِنْ طَلَّقْتَنِي فَابْرَأْ مِنْ صَدَاقِي، أَوْ فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَمْ يَبْرَأْ مِنَ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، وَطَلَاقُ الزَّوْجِ طَمَعًا فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ صَحِيحٌ فِي الِالْتِزَامِ لَا يُوجِبُ عِوَضًا، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْجَدِيدِ، الْأَظْهَرُ أَنَّ تَعْلِيقَ الْإِبْرَاءِ لَا يَصِحُّ، وَكَانَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: طَلَّقَ طَمَعًا فِي عِوَضٍ، وَرَغِبَتْ هِيَ فِي الطَّلَاقِ بِالْبَرَاءَةِ فَيَكُونُ فَاسِدًا كَالْخَمْرِ. الثَّالِثَةُ: قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، فَقَالَ طَلَّقْتُكِ، بَانَتْ وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ؛ لِأَنَّهَا صِيغَةُ الْتِزَامٍ. وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ الْعِوَضُ، بَلْ إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ، وَقَعَ رَجْعِيًّا، وَإِنْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ، احْتَاجَ إِلَى قَبُولِهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُهَا: طَلِّقْنِي وَأَضْمَنُ لَكَ أَلْفًا. وَلَوْ قَالَتْ: وَأُعْطِيكَ أَلْفًا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا مُطْلَقًا، وَقَعَ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ لَفْظَ الضَّمَانِ يُشْعِرُ بِالِالْتِزَامِ، بِخِلَافِ الْإِعْطَاءِ وَلَمْ يَطَّرِدُوا الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ هُنَا فِي الْجَعَالَةِ، بَلْ لَوْ قَالَ: رُدَّ عَبْدِي وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، فَرَدَّهُ، لَزِمَ الْمَالُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِيَ: بِعْنِي هَذَا وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، فَقَالَ: بِعْتُ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْعَقِدُ كَالِاخْتِلَاعِ وَالْجَعَالَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ فِيهَا مَا لَا يَحْتَمِلُ فِي الْبَيْعِ، كَالتَّعْلِيقِ، وَفِيمَا عُلِّقَ عَنِ الْإِمَامِ، أَنَّ هَذَا أَصَحُّ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ صَرِيحٌ؟ فَأَمَّا كَوْنُهُ كِنَايَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. الرَّابِعَةُ: قَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ، أَوْ أَتَتْ بِصِيغَةٍ أُخْرَى صَرِيحَةٍ فِي الِالْتِزَامِ،

فَإِنْ أَجَابَهَا وَأَعَادَ ذِكْرَ الْمَالِ، فَذَاكَ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ، كَفَى وَانْصَرَفَ إِلَى السُّؤَالِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَا مَالَ. وَلَوْ قَالَ: قَصَدْتُ الِابْتِدَاءَ دُونَ الْجَوَابِ، قُبِلَ وَكَانَ رَجْعِيًّا، فَإِنِ اتَّهَمَتْهُ، حَلَّفَتْهُ. الْخَامِسَةُ: اللَّفْظُ الدَّائِرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِنْ كَانَ صَرِيحًا مِنْهُمَا، فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُمَا كِنَايَةً، بِأَنْ قَالَتْ: أَبِنِّي، قَالَ: أَبَنْتُكِ، فَإِنْ نَوَيَا الطَّلَاقَ، نَفَذَ وَلَزِمَ الْمَالُ إِنْ ذَكَرَا مَالًا. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ، فَلَا فُرْقَةَ، وَإِنْ نَوَى دُونَهَا، نُظِرَ، إِنْ جَرَى ذِكْرُ الْمَالِ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ رَبَطَ الطَّلَاقَ بِالْمَالِ وَهِيَ لَمْ تَسْأَلِ الْفِرَاقَ، وَلَمْ تَلْتَزِمِ الْمَالَ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ الْمَالِ فِي الطَّرَفَيْنِ وَقَعَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ، وَإِنْ ذَكَرَ هُوَ الْمَالَ دُونَهَا، فَلَا طَلَاقَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْأَلْ فُرْقَةً، وَهُوَ إِنْشَاءُ فُرْقَةٍ عَلَى مَالٍ، وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَبُولٌ. وَإِنْ ذَكَرَتْ هِيَ الْمَالَ، فَقَالَتْ: أَبِنِّي عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَ: أَبَنْتُكِ، فَلَا طَلَاقَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ الْمَالَ. وَقِيلَ: يَقَعُ رَجْعِيًّا كَمَا لَوْ قَالَ: قَصَدْتُ الِابْتِدَاءَ دُونَ الْجَوَابِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ رَجْعِيًّا قَطْعًا. أَمَّا إِذَا كَانَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا صَرِيحًا وَالْآخَرُ كِنَايَةً، فَالْكِنَايَةُ مَعَ النِّيَّةِ كَالصَّرِيحِ، وَدُونَ النِّيَّةِ لَغْوٌ. وَعَنِ ابْنِ خَيْرَانَ، أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي فَقَالَ: أَبَنْتُكِ وَنَوَى، لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَقْوَى، فَالْمَأْتِيُّ بِهِ غَيْرُ الْمَسْئُولِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي سُؤَالِهَا عَدَدًا، فِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَلْفٍ، أَوْ وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، أَوْ إِنْ طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا، فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَةً بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ طَلَاقٌ. وَالثَّالِثُ: يَقَعُ طَلْقَةً بِمَهْرِ

الْمِثْلِ، وَالرَّابِعُ: طَلْقَةٌ بِثُلُثِ مَهْرِ الْمِثْلِ. حَكَى الْحَنَّاطِيُّ الْأَخِيرَيْنِ. فَعَلَى الصَّحِيحِ لَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ، اسْتَحَقَّ ثُلُثَيِ الْأَلْفِ. وَإِنْ طَلَّقَ طَلْقَةً وَنِصْفًا، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ ثُلُثَيِ الْأَلْفِ، أَمْ نِصْفَهُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الثَّانِي أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا طَلْقَةً، فَطَلَّقَهَا تِلْكَ الطَّلْقَةَ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ مَقْصُودُ الثَّلَاثِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى. وَلِلْأَصْحَابِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الْقَفَّالِ وَالشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَكِبَارِ الْأَصْحَابِ وَأَكْثَرِهِمْ: وُجُوبُ جَمِيعِ الْأَلْفِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ عَلِمَتْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا طَلْقَةٌ أَمْ ظَنَّتْ بَقَاءَ الثَّلَاثِ، وَالثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا ثُلُثَ الْأَلْفِ فِي الْحَالَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ، وَالثَّالِثُ: إِنْ عَلِمَتِ اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ، وَإِلَّا فَثُلُثَهُ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ. وَالرَّابِعُ: يَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ، قَالَهُ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» . وَالْخَامِسُ: لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ كَمَا سَأَلَتْ، حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ. وَلَوْ سَأَلَتِ الثَّلَاثَ بِأَلْفٍ وَلَا يَمْلِكُ إِلَّا طَلْقَتَيْنِ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَكَذَا عَلَى الثَّانِي، وَلَهُ النِّصْفُ عَلَى الثَّالِثِ إِنْ عَلِمَتْ، وَإِلَّا فَالثُّلُثُ. وَإِنْ طَلَّقَهَا الطَّلْقَتَيْنِ، فَعَلَى النَّصِّ لَهُ الْأَلْفُ، وَعَلَى الثَّانِي ثُلُثَاهُ، وَعَلَى الثَّالِثِ إِنْ عَلِمَتْ، فَالْأَلْفُ، وَإِلَّا فَثُلُثَاهُ، وَزَادَ الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا رَابِعًا، وَهُوَ الرُّجُوعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَخَامِسًا: وَهُوَ ثُلُثَا مَهْرِ الْمِثْلِ، وَسَادِسًا: وَهُوَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ. وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي عَشْرًا بِأَلْفٍ، فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الثَّلَاثَ، فَالْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ الْجَارِي عَلَى قِيَاسِ النَّصِّ، أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْوَاحِدَةِ عُشُرَ الْأَلْفِ، وَبِالثِّنْتَيْنِ عُشُرَيْهِ، وَبِالثَّلَاثِ جَمِيعَ

الْأَلْفِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ التَّوْزِيعُ عَلَى الثَّلَاثِ وَالزِّيَادَةُ لَغْوٌ، فَيَسْتَحِقُّ بِالْوَاحِدَةِ الثُّلُثَ، وَبِالطَّلْقَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَطُرِدَ الْوَجْهَانِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْمُزَنِيِّ. فَعَلَى الْأَشْهَرِ تَسْتَحِقُّ بِالثَّلَاثِ ثَلَاثَةَ أَعْشَارِ الْأَلْفِ. وَعَلَى الثَّانِي تَسْتَحِقُّ الْجَمِيعَ تَوْزِيعًا عَلَى الْعَدَدِ الشَّرْعِيِّ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، تَسْتَحِقُّ بِالثَّلَاثِ الْجَمِيعَ، وَبِالْوَاحِدَةِ الثُّلُثَ، وَبِالثِّنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثٍ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ لَغْوٌ. فَإِنْ ظَنَّتْ أَنَّهُ يَمْلِكُ عَشْرًا، بِأَنْ كَانَتْ قَرِيبَةَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَالْقِيَاسُ عَوْدُ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الْأَلْفِ أَمِ الْجَمِيعُ؟ وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا طَلْقَتَيْنِ فَسَأَلَتْهُ عَشْرًا، فَعَلَى قِيَاسِ النَّصِّ، إِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، اسْتَحَقَّ عُشُرَ الْأَلْفِ أَوِ الثُّلُثَ. وَإِنْ طَلَّقَ ثِنْتَيْنِ، فَتَمَامُ الْأَلْفِ. وَعَلَى قِيَاسِ الْمُزَنِيِّ، الْمُسْتَحَقُّ الْعُشُرُ أَوِ الْعُشُرَانِ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَالثُّلُثُ أَوِ الثُّلُثَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَعَلَى قَوْلِ الْفَارِقِ إِنْ عَلِمَتْ، فَلَهُ بِالْوَاحِدَةِ النِّصْفُ، وَبِالثِّنْتَيْنِ الْجَمِيعُ. وَإِنْ ظَنَّتْ أَنَّهُ يَمْلِكُ الثَّلَاثَ، فَبِالْوَاحِدَةِ الثُّلُثُ، وَبِالثِّنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَالضَّابِطُ عَلَى النَّصِّ، أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ مَلَكَ الْعَدَدَ الْمَسْئُولَ كُلَّهُ فَأَجَابَهَا، فَلَهُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ أَجَابَهَا بِبَعْضِهِ، فَلَهُ قِسْطُهُ بِالتَّوْزِيعِ. وَإِنْ مَلَكَ بَعْضَ الْمَسْئُولِ، فَإِنْ تَلَفَّظَ بِالْمَسْئُولِ أَوْ حَصَلَ مَقْصُودُهَا بِمَا أَوْقَعَ، فَلَهُ الْمُسَمَّى، وَإِلَّا فَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى الْعَدَدِ الْمَسْئُولِ عَلَى الْأَشْهَرِ. وَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ، التَّوْزِيعُ عَلَى الْمَسْئُولِ أَبَدًا، وَكَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْوَجْهِ الْفَارِقِ إِنْ جَهِلَتْ. فَإِنْ عَلِمَتْ، فَالتَّوْزِيعُ عَلَى الْمَمْلُوكِ دُونَ الْمَسْئُولِ، فَلَوْ مَلَكَ الثَّلَاثَ فَسَأَلَتْهُ سِتًّا بِأَلْفٍ، فَعَلَى النَّصِّ وَقَوْلِ الْمُزَنِيِّ: لَهُ بِالْوَاحِدَةِ السُّدُسُ، وَبِالثِّنْتَيْنِ الثُّلُثُ. فَإِنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا، فَعَلَى النَّصِّ: لَهُ الْجَمِيعُ، وَعِنْدَ الْمُزَنِيِّ: لَهُ النِّصْفُ وَعَلَى الْوَجْهِ: لَهُ بِالْوَاحِدَةِ الثُّلُثُ، وَبِالثِّنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَبِالثَّلَاثِ الْجَمِيعُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَهُوَ يَمْلِكُ الثَّلَاثَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ بِأَلْفٍ وَثِنْتَيْنِ مَجَّانًا، فَنَقَلَ الْفُورَانِيُّ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُمْ، أَنَّ الْأُولَى تَقَعُ بِثُلُثِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِوَاحِدَةٍ إِلَّا بِثُلُثِ الْأَلْفِ كَالْجَعَالَةِ، وَلَا يَقَعُ الْأُخْرَيَانِ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى. وَقَالَ الْإِمَامُ: الْقِيَاسُ الْحَقُّ، أَنْ لَا تَجْعَلَ كَلَامَهُ جَوَابًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثُلُثِ الْأَلْفِ وَهُوَ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِالْأَلْفِ، وَإِذَا لَمْ يُوَافِقْ كَلَامُهُ سُؤَالَهَا، كَانَ مُبْتَدِئًا، فَإِذَا لَمْ تَقْبَلْ، لَا تَقَعُ الطَّلْقَةُ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِثُلُثِ أَلْفٍ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، لَا يَقَعُ. وَإِذَا لَمْ تَقَعِ الْوَاحِدَةُ، وَقَعَ الْأُخْرَيَانِ رَجْعِيَّتَيْنِ، وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى مَا قَالَ، وَهُوَ حَسَنٌ مُتَّجِهٌ، وَالْأَوَّلُ بَعِيدٌ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَا فِي «التَّهْذِيبِ» ، أَنَّهُ تَقَعُ الْوَاحِدَةُ بِالْأَلْفِ، وَلَا تَقَعُ الْأُخْرَيَانِ، وَلَعَلَّهُ غَلَطٌ مِنَ النَّاسِخِ. وَلَوْ سَأَلَتْهُ الثَّلَاثَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَثِنْتَيْنِ مَجَّانًا، فَقَدْ وَافَقَ كَلَامُهُ مَا اقْتَضَاهُ السُّؤَالُ مِنَ التَّوْزِيعِ، وَزَالَ الْإِشْكَالُ، فَتَبِينُ بِالْأُولَى، وَلَا تَقَعُ الْأُخْرَيَانِ، وَنَقَلَ الْأَئِمَّةُ: إِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فَلْيَفْعَلْ. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ ثِنْتَيْنِ بِأَلْفٍ وَوَاحِدَةً مَجَّانًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ: تَقَعُ الثِّنْتَانِ بِثُلُثَيِ الْأَلْفِ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَقَعَانِ. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً مَجَّانًا وَثِنْتَيْنِ بِثُلُثَيِ الْأَلْفِ، أَوْ ثِنْتَيْنِ مَجَّانًا وَوَاحِدَةً بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَقَعَ مَا أَوْقَعَهُ مَجَّانًا، وَيُبْنَى مَا بَعْدَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الرَّجْعِيَّةِ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَالْجَدِيدُ صِحَّتُهُ. فَعَلَى هَذَا: تَقَعُ الثِّنْتَانِ بِثُلُثَيِ الْأَلْفِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ: يَقَعَانِ بِلَا عِوَضٍ لِمَا سَبَقَ أَنَّ خُلْعَ الرَّجْعِيَّةِ عَلَى هَذَا كَالسَّفِيهَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا، بَانَتْ بِمَا أَوْقَعَهُ مَجَّانًا، فَلَا يَقَعُ مَا بَعْدَهُ.

وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً مَجَّانًا وَثِنْتَيْنِ بِالْأَلْفِ، فَفِي «التَّهْذِيبِ أَنَّهُ» إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقَعَتِ الْأُولَى مَجَّانًا وَالثِّنْتَانِ بِثُلُثَيِ الْأَلْفِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ تَمَامَ الْأَلْفِ وَإِنْ حَصَلَ غَرَضُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا وَقَعَ الْمَمْلُوكُ مِنَ الطَّلَاقِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَالِ، وَهُنَا أَوْقَعَ بَعْضَ الْمَمْلُوكِ مَجَّانًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِشْكَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ يَعُودُ هُنَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِالطَّلْقَتَيْنِ إِلَّا بِثُلُثَيِ الْأَلْفِ وَقَدْ أَوْقَعَهُمَا بِأَلْفٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامًا مُبْتَدَأً. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَبُولٌ، لَغَا. وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا، وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، وَقَعَ الثَّلَاثُ وَاسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْأَلْفِ، وَيَعُودُ فِيهِ الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَقَعَ الثَّلَاثُ وَاسْتَحَقَّ الْأَلْفَ. وَهَلِ الْأَلْفُ فِي مُقَابَلَةِ الثَّلَاثِ أَمِ الْوَاحِدَةِ؟ وَجْهَانِ. ظَاهِرُ النَّصِّ: ثَانِيهِمَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ فَائِدَةٌ حِكَمِيَّةٌ. وَلَوْ قَالَ: بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: بِعْتَكَهُ مَعَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ بِخِلَافِ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ كَالْجَعَالَةِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي الْعَبْدِ الْمَسْئُولِ خَاصَّةً. وَلَوْ أَعَادَ فِي الْجَوَابِ ذِكْرَ الْأَلْفِ. فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَهَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ بِأَلْفٍ، أَمِ الثَّلَاثُ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، أَمْ وَاحِدَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ وَلَا يَقَعُ الْأُخْرَيَانِ أَمْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ أَصْلًا؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَطَّرِدَ هَذِهِ الْأَوْجُهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُعِدْ ذِكْرَ الْأَلْفِ. وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، فَقِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَقَعُ الطَّلْقَتَانِ وَيَسْتَحِقُّ الْأَلْفَ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، إِذْ لَمْ تَحْصُلِ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا لِأَنَّهُ خَالَفَ وَلَمْ تَحْصُلِ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى.

الرَّابِعَةُ: قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِخَمْسِمِائَةٍ أَمْ بِأَلْفٍ وَيُلْغَى قَوْلُهُ: بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِقَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ وَاسْتَحَقَّ الْأَلْفَ، أَمْ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ لِلْمُخَالَفَةِ كَمَا لَوْ خَالَفَتْ فِي قَبُولِهَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: بِعْتُكَ بِخَمْسِمِائَةٍ، لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ. وَقِيلَ: يَصِحُّ بِخَمْسِمِائَةٍ. الْخَامِسَةُ: قَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى كَذَا دِرْهَمًا، فَطَلَّقَهَا عَلَى دَنَانِيرَ، كَانَ مُبْتَدِئًا بِكَلَامِهِ، فَيُنْظَرُ، أَيَتَّصِلُ بِهِ قَبُولٌ أَمْ لَا؟ . وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، سُئِلَ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ مُقَابَلَةَ الْأُولَى بِالْأَلْفِ، وَقَعَتِ الْأُولَى بِالْأَلْفِ وَلَمْ تَقَعِ الْأُخْرَيَانِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الثَّانِيَةَ بِالْأَلْفِ، وَقَعَتِ الْأُولَى رَجْعِيَّةً، وَيَجِيءُ فِي الثَّانِيَةِ الْقَوْلَانِ فِي خُلْعِ الرَّجْعِيَّةِ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، لَغَتِ الثَّالِثَةُ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الثَّالِثَةَ، وَقَعَتِ الْأُولَيَانِ بِلَا عِوَضٍ، وَفِي الثَّالِثَةِ الْخِلَافُ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ مُقَابَلَةَ الْجَمِيعِ بِالْأَلْفِ، وَقَعَتِ الْأُولَى بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَلَغَتِ الْأُخْرَيَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: بَانَتِ الْأُولَى بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهَا، وَلَغَتِ الْأُخْرَيَانِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» مِثْلَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِيمَا إِذَا ابْتَدَأَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ بِأَلْفٍ، وَلْيُشْتَرَطْ فِيهِ مُطَابَقَةُ الْقَبُولِ لِلْإِيجَابِ. وَلَوْ قَالَ فِي جَوَابِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ بِأَلْفٍ، انْقَطَعَ احْتِمَالُ مُقَابَلَةِ الْجَمِيعِ بِالْأَلْفِ، وَالْبَاقِي كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

هَذَا إِذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ، وَأَرَادَ مُقَابَلَةَ غَيْرِ الْأُولَى بِالْأَلْفِ، بَانَتِ الْأُولَى، وَلَغَا مَا بَعْدَهَا. وَلَوْ قَالَتْ لَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا طَلْقَةً: طَلِّقْنِي طَلْقَتَيْنِ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ طَلْقَتَيْنِ، الْأُولَى مِنْهُمَا بِأَلْفٍ، وَالثَّانِيَةُ مَجَّانًا، اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ. وَإِنْ قَالَ: الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ، وَقَعَتِ الْأُولَى بِلَا عِوَضٍ وَلَغَتِ الثَّانِيَةُ. وَإِنْ قَالَ: إِحْدَاهُمَا بِأَلْفٍ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ طَلْقَتَيْنِ، سُئِلَ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ شَيْئًا، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ الْمَالَ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ لِمُطَابَقَةِ الْجَوَابِ السُّؤَالَ. وَلَوْ أَعَادَ ذِكْرَ الْمَالِ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ طَلْقَتَيْنِ بِأَلْفٍ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ خَمْسَمِائَةٍ عَمَلًا بِالتَّوْزِيعِ، أَمْ أَلْفًا لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَبِهِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا طَلْقَةً، فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، طَلْقَةً أُحَرَّمُ بِهَا فِي الْحَالِ، وَطَلْقَتَيْنِ يَقَعَانِ عَلَيَّ إِذَا نَكَحْتَنِي بَعْدَ زَوْجٍ، أَوْ تَكُونَانِ فِي ذِمَّتِكَ تُنْجِزُهُمَا حِينَئِذٍ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَقَعَتِ الْوَاحِدَةُ، وَلَغَا كَلَامُهُمَا فِي الْأُخْرَتَيْنِ. ثُمَّ النَّصُّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : أَنَّ لِلزَّوْجِ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَأَصَحُّهُمَا عَلَى قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مَمْلُوكٍ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ أَبْطَلْنَا، فَلَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ صَحَّحْنَا، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْعِوَضِ لِتَبْعِيضِ مَقْصُودِهَا، فَإِنْ فَسَخَتْ، فَلَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ أَجَازَتْ، فَهَلْ يُجِيزُ بِكُلِّ الْأَلْفِ، أَمْ بِثُلُثِهِ عَمَلًا بِالتَّقْسِيطِ؟ قَوْلَانِ كَالْبَيْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ هُنَا بِالتَّقْسِيطِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْفَسْخِ

يَدْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالطَّلَاقُ هُنَا لَا مَدْفَعَ لَهُ، فَيَبْعُدُ إِلْزَامُهَا بِوَاحِدَةٍ مَا الْتَزَمَتْهُ لِلثَّلَاثِ. السَّادِسَةُ: قَالَتْ: طَلِّقْنِي نِصْفَ طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ، أَوْ طَلِّقْ نِصْفِي، أَوْ يَدِي، أَوْ رِجْلِي بِأَلْفٍ، فَأَجَابَهَا بِذَلِكَ، أَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: طَلَّقْتُكِ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ طَلَّقْتُ نِصْفَكِ بِأَلْفٍ، فَقَبِلَتْ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مُكَمَّلًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَجَعَلْنَاهُ طَلَاقًا. ثُمَّ الْوَاجِبُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الصَّحِيحِ لِفَسَادِ صِيغَةِ الْمُعَاوَضَةِ. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا نِصْفَ بَيْعَةٍ، أَوْ بِعْتُهُ لِنِصْفِكَ أَوْ لِيَدِكَ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ. وَإِذَا فَسَدَتِ الصِّيغَةُ، تَعَيَّنَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الْخِلَافُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَبَدَلِ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ الْفَسَادُ فِي الْمُسَمَّى. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا وَاخْتَارَهُ: أَنَّهُ يَجِبُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ كَمَّلَ ذَلِكَ الْمُبَعَّضَ فَصَارَ كَتَكْمِيلِهَا. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي تَعْلِيقِهَا بِزَمَانٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: قَالَتْ: طَلِّقْنِي غَدًا وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، أَوْ إِنْ طَلَّقْتَنِي غَدًا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، أَوْ قَالَتْ: خُذْ هَذَا الْأَلْفَ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَنِي غَدًا فَأَخَذَهُ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَلْزَمِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ فِي الطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. ثُمَّ إِنْ طَلَّقَهَا فِي الْغَدِ أَوْ قَبْلَهُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَلَزِمَهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ طَلَّقَ فِي الْغَدِ، فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهَا. وَإِنَّ طَلَّقَ قَبْلَهُ، فَقَدْ زَادَهَا كَمَا لَوْ سَأَلَتْ طَلْقَةً فَطَلَّقَ ثَلَاثًا. فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ الِابْتِدَاءَ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ، وَفِي الْمَالِ الْوَاجِبِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: قَوْلَانِ. ثَانِيهِمَا: الْمُسَمَّى.

وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَالِمًا بِبُطْلَانِ مَا جَرَى، وَبَيْنَ تَطْلِيقِهَا جَاهِلًا بِبُطْلَانِهِ؟ قَالَ الْقَاضِيَ حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: يُفَرَّقُ وَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ إِذَا طَلَّقَهَا عَالِمًا، بَلْ يَقَعُ رَجْعِيًّا، وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ، وَاسْتَشْهَدَ بِالْخُلْعِ عَلَى الْخَمْرِ وَسَائِرِ الْأَعْوَاضِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْمَالِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْغَدِ، نَفَذَ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ قَوْلَهَا، فَكَانَ مُبْتَدِئًا، فَإِنْ ذَكَرَ مَالًا، اشْتُرِطَ فِي وُقُوعِهِ الْقَبُولُ. الثَّانِيَةُ: قَالَتْ: لَكَ أَلْفٌ إِنْ طَلَّقْتَنِي فِي هَذَا الشَّهْرِ وَلَمْ تُؤَخِّرْ تَطْلِيقِي عَنْهُ، أَوْ قَالَتْ: خُذْ هَذَا الْأَلْفَ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَنِي فِي هَذَا الشَّهْرِ مَتَى شِئْتَ، فَهُوَ بَاطِلٌ وَأَوْلَى بِالْبُطْلَانِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْغَدِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ كَانَ مُبْتَدِئًا، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الشَّهْرِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا. وَفِي الْمَالِ الْوَاجِبِ الطَّرِيقَانِ. وَلَا يُشْتَرَطُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَفِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، أَنَّهَا إِذَا قَالَتْ: مَتَى طَلَّقْتَنِي فَلَكَ أَلْفٌ يُشْتَرَطُ التَّطْلِيقُ فِي الْمَجْلِسِ. وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا، وَالْمَذْهَبُ: الْفَرْقُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ «مَتَى» ظَاهِرٌ فِي جَوَازِ التَّأَخُّرِ، لَكِنَّ قَرِينَةَ الْعِوَضِ خَصَّتْهَا بِالْمَجْلِسِ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهُنَا صَرَّحَتْ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ، فَضَعُفَتِ الْقَرِينَةُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الصَّرِيحِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّسْوِيَةِ: هِيَ اشْتِرَاطُ الْمَجْلِسِ وَعَدَمِهِ، وَالْمُسَمَّى صَحِيحٌ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ بِلَا خِلَافٍ. الثَّالِثَةُ: قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ طَلَاقًا يَمْتَدُّ تَحْرِيمُهُ إِلَى شَهْرٍ، ثُمَّ أَكُونُ فِي نِكَاحِكَ حَلَالًا لَكَ، فَطَلَّقَهَا كَذَلِكَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ مُؤَبَّدًا، وَفِي قَدْرِ الْمَالِ الْوَاجِبِ

الطَّرِيقَانِ، وَطَرِيقَةُ الْقَطْعِ هُنَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَا لَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَفَسَادُ الشَّرْطِ يُوجِبُ الْجَهْلَ بِالْعِوَضِ، فَيَتَعَيَّنُ مَهْرُ الْمِثْلِ. الرَّابِعَةُ: عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِصِفَةٍ وَذَكَرَ عِوَضًا فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ إِذَا جَاءَ غَدٌ، أَوْ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوْ دَخَلْتِ الدَّارَ عَلَى أَلْفٍ، فَقَبِلَتْ، أَوْ سَأَلَتْهُ، فَقَالَتْ: عَلِّقْ طَلَاقِي بِرَأْسِ الشَّهْرِ، أَوْ بِدُخُولِ الدَّارِ عَلَى أَلْفٍ فَعَلَّقَ، فَالصَّحِيحُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ عَلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيقِ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْمَالِ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ، لَمْ تُطَلَّقْ لِارْتِبَاطِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، اشْتُرِطَ الْقَبُولُ عَلَى الِاتِّصَالِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا تُخَيَّرُ بَيْنَ الْقَبُولِ فِي الْحَالِ، أَوْ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ الْوَاجِبُ الْمُسَمَّى أَمْ مَهْرُ الْمِثْلِ؟ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْأَوَّلُ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا قَالَتْ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ وَطَلَّقْتَنِي، فَلَكَ أَلْفٌ فَطَلَّقَهَا عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ إِجَابَةً لَهَا. وَقِيلَ: إِنِ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالتَّعْلِيقِ، وَجَبَ الْمُسَمَّى، وَإِنِ ابْتَدَأَتْ بِالسُّؤَالِ، فَمَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْمُسَمَّى، فَمَتَى يَجِبُ وَيَلْزَمُ تَسْلِيمُهُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: فِي الْحَالِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ؛ لِأَنَّ الْأَعْوَاضَ الْمُطْلَقَةَ يَلْزَمُ تَسْلِيمُهَا فِي الْحَالِ، وَالْمُعَوَّضُ تَأَخَّرَ بِالتَّرَاضِي. فَإِنْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُعَوَّضِ، بِأَنْ فَارَقَهَا قَبْلَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، لَزِمَ رَدُّ الْعِوَضِ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ فِي الْحَالِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ تَسْلِيمُهُ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ لِتَأَخُّرِ الْمُعَوَّضِ.

وَالثَّالِثُ: لَا يُجِبْ إِلَّا عِنْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهَا قَبْلَ الْقَبُولِ. فَأَمَّا إِذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي غَدًا وَلَكَ أَلْفٌ، أَوْ إِنْ طَلَّقْتَنِي غَدًا، فَلَكَ أَلْفٌ، وَهُمَا الصُّورَتَانِ السَّابِقَتَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَلَهَا الرُّجُوعُ قَبْلَ التَّطْلِيقِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ بِهِ يَحْصُلُ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ هُنَاكَ يَسْتَحِقُّهُ عِنْدَ التَّطْلِيقِ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي اخْتِلَاعِ الْأَجْنَبِيِّ، فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: يَصِحُّ الْخُلْعُ مِنَ الزَّوْجِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَلْزَمُ الْأَجْنَبِيَّ الْمَالُ، هَذَا إِذَا قُلْنَا: الْخُلْعُ طَلَاقٌ. قَالَ الْأَصْحَابُ: فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ فَسْخٌ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ بِلَا سَبَبٍ، وَلَا يَجِيءُ هَذَا الْخِلَافُ إِذَا سَأَلَهُ الْأَجْنَبِيُّ الطَّلَاقَ فَأَجَابَهُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ الْحَاصِلَةَ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الطَّلَاقِ طَلَاقٌ بِلَا خِلَافٍ. الثَّانِيَةُ: الْخُلْعُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، كَهُوَ مَعَ الزَّوْجَةِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُوَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ مُعَاوَضَةٌ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَمِنْ جَانِبِ الْأَجْنَبِيِّ مُعَاوَضَةٌ فِيهَا ثُبُوتُ جَعَالَةٍ. فَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: طَلِّقِ امْرَأَتِي وَعَلَيْكَ كَذَا، طُلِّقَتْ رَجْعِيًّا وَلَا مَالَ، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: طَلِّقْهَا وَعَلَيَّ أَلْفٌ، أَوْ لَكَ أَلْفٌ فَطَلَّقَ، وَقَعَ بَائِنًا وَلَزِمَهُ الْمَالُ. وَلَوِ اخْتَلَعَهَا عَبْدٌ، كَانَ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَوِ اخْتَلَعَتْ أَمَةٌ نَفْسَهَا. وَلَوِ اخْتَلَعَهَا سَفِيهٌ، وَقَعَ رَجْعِيًّا كَمَا لَوِ اخْتَلَعَتْ سَفِيهَةٌ نَفْسَهَا. الثَّالِثَةُ: لَوْ وَكَّلَتِ الزَّوْجَةُ مَنْ يَخْلَعُهَا، فَلَهُ أَنْ يَخْتَلِعَهَا اسْتِقْلَالًا وَبِالْوَكَالَةِ. فَإِنْ صَرَّحَ بِالِاسْتِقْلَالِ، فَذَاكَ، وَإِنْ صَرَّحَ بِالْوَكَالَةِ، فَالزَّوْجُ يُطَالِبُ الزَّوْجَةَ بِالْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ وَنَوَى الْوَكَالَةَ، فَالْخُلْعُ لَهَا لَكِنْ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْعُهْدَةُ فَيُطَالَبُ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ وَلَا نَوَى شَيْئًا أَصْلًا، فَالْخُلْعُ لَهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَهَا بِخِلَافِ نَظِيرِهِ مِنَ الْوَكَالَةِ فِي الشِّرَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ الْأَجْنَبِيُّ الزَّوْجَةَ لِتَخْتَلِعَ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ تَتَخَيَّرُ الزَّوْجَةُ بَيْنَ أَنْ تَخْتَلِعَ اسْتِقْلَالًا أَوْ بِالْوَكَالَةِ.

وَقَوْلُ الزَّوْجَةِ لِأَجْنَبِيٍّ: سَلْ زَوْجِي تَطْلِيقِي عَلَى أَلْفٍ، تَوْكِيلٌ، سَوَاءٌ قَالَتْ: عَلَيَّ أَمْ لَا. وَقَوْلُ الْأَجْنَبِيِّ لَهَا: سَلِي زَوْجَكِ يُطَلِّقُكِ عَلَى كَذَا، إِنْ لَمْ يَقُلْ: عَلَيَّ، فَلَيْسَ بِتَوْكِيلٍ. فَلَوِ اخْتَلَعَتْ، فَالْمَالُ عَلَيْهَا. وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ، كَانَ تَوْكِيلًا. فَإِنْ أَضَافَتْ إِلَيْهِ أَوْ نَوَتْهُ، فَالْمَالُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ. وَقَوْلُ الْأَجْنَبِيِّ لِلْأَجْنَبِيِّ: سَلْ فُلَانًا يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ عَلَى أَلْفٍ، كَقَوْلِهِ لِلزَّوْجَةِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَلَيَّ، وَعَدَمِهِ. وَلَوِ اخْتَلَعَ الْأَجْنَبِيُّ، وَأَضَافَ إِلَيْهَا مُصَرِّحًا بِالْوَكَالَةِ، ثُمَّ بَانَ كَذِبُهُ، لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّهُ مَرْبُوطٌ بِالْمَالِ وَهُوَ لَمْ يَلْتَزِمْ فِي نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ إِذَا خَاطَبَهَا وَلَمْ تَقْبَلْ. فَرْعٌ قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْ عَبْدَكَ لِفُلَانٍ بِكَذَا وَعَلَيَّ أَلْفٌ، فَبَاعَهُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَى الْقَائِلِ شَيْئًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَقَالَ الدَّارَكِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَلْفَ كَالْتِمَاسِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ عِنْدَكَ بِأَلْفٍ فِي مَالِي، لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَى الْقَائِلِ شَيْئًا. الرَّابِعَةُ: أَبُو الزَّوْجَةِ فِي اخْتِلَاعِهَا كَالْأَجْنَبِيِّ، فَإِنِ اخْتَلَعَ بِمَالِ نَفْسِهِ، فَذَاكَ، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ بَالِغَةً، وَإِنِ اخْتَلَعَ بِمَالِهَا وَصَرَّحَ بِالنِّيَابَةِ أَوِ الْوِلَايَةِ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ بَانَ كَذِبُ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ فِي الِاخْتِلَاعِ. وَإِنِ اخْتَلَعَ بِمَالِهَا مُصَرِّحًا بِالِاسْتِقْلَالِ، فَهُوَ كَالِاخْتِلَاعِ بِمَغْصُوبٍ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِبَدَلِ الْمُسَمَّى فِي قَوْلٍ. وَلَوِ اخْتَلَعَ بِعَبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ مَالِهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِنِيَابَةٍ وَلَا اسْتِقْلَالٍ، وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا كَمُخَالَعَةِ السَّفِيهَةِ، صَغِيرَةً كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمْ كَبِيرَةً، بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا.

وَكَذَا لَوْ قَالَ لِلْأَجْنَبِيِّ: خَالِعْهَا عَلَى عَبْدِهَا هَذَا، أَوْ صَدَاقِهَا، وَذَكَرَا فِي تَشْبِيهِهِ بِالسَّفِيهَةِ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْقَبُولِ، لَكِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَالِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْمَغْصُوبِ، وَلِهَذَا خَرَّجَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ هُنَا وَجْهًا أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَيَعُودُ الْقَوْلَانِ فِي قَدْرِ الْمَالِ الْوَاجِبِ. وَالْمَذْهَبُ الْفَرْقُ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ مُتَبَرِّعٌ بِمَا يَبْذُلُهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ فَائِدَةٌ إِذَا أَضَافَ إِلَى مَالِهَا، فَقَدْ صَرَّحَ بِتَرْكِ التَّبَرُّعِ بِخِلَافِ اخْتِلَاعِهَا نَفْسَهَا بِمَغْصُوبٍ. وَبَنَى الْبَغَوِيُّ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ: طَلِّقْهَا عَلَى هَذَا الْمَغْصُوبِ، أَوْ عَلَى هَذَا الْخَمْرِ، أَوْ عَلَى عَبْدِ زِيدٍ هَذَا، فَطَلَّقَ، وَقَعَ رَجْعِيًّا وَلَا مَالَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا الْتَمَسَتِ الْمَرْأَةُ هَكَذَا. وَلَوِ اخْتَلَعَ الْأَبُ أَوِ الْأَجْنَبِيُّ بِعَبْدِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ مِنْ مَالِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجُ كَوْنَهُ عَبْدَهَا، فَكَالْمَغْصُوبِ، فَيَقَعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِنْ عَلِمَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَالَّذِي لَمْ يَعْلَمْ. وَقِيلَ: الْمَعْلُومُ كَالْمَذْكُورِ فَيَقَعُ رَجْعِيًّا، هَذَا كُلُّهُ إِذَا اخْتَلَعَ الْأَبُ بِغَيْرِ صَدَاقِهَا، فَإِنِ اخْتَلَعَ بِهِ أَوْ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِهَا، أَوْ قَالَ: طَلِّقْهَا وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِهَا أَوْ عَلَى أَنَّكَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِهَا، فَالْمَنْصُوصُ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَا يَبْرَأَ عَنْ صَدَاقِهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَبِ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ تَخْرِيجَهُ عَلَى عَفْوِ الْأَبِ عَنْ صَدَاقِ الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، صَحَّ الْخُلْعُ، وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ وُقُوعُهُ رَجْعِيًّا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ كَاخْتِلَاعِ السَّفِيهَةِ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَصْلًا كَالْوَكِيلِ الْكَاذِبِ. فَإِذَا صَحَّحْنَا عَفْوَ الْوَلِيِّ، فَشَرْطُهُ كَوْنُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَحِينَئِذٍ يَتَشَطَّرُ الْمَهْرُ فَيَكُونُ الْعِوَضُ أَحَدَ الشَّطْرَيْنِ. وَلَوِ اخْتَلَعَا بِالْبَرَاءَةِ عَنْ صَدَاقِهَا وَضَمِنَ لَهُ الدَّرَكَ، فَالَّذِي أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ مِنَ

الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ فِي نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ الِاخْتِلَاعَ بِمَغْصُوبٍ. فَعَلَى هَذَا، هَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ أَمْ بَدَلُ الصَّدَاقِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَعْرُوفَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا قَالَ الْأَبُ أَوِ الْأَجْنَبِيُّ: طَلِّقْهَا عَلَى عَبْدِهَا هَذَا وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ. فَعَلَى الْأَظْهَرِ: يَلْزَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَعَلَى الثَّانِي: قِيمَةُ الْعَبْدِ. وَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، هُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالضَّمَانِ. وَحَكَى الْإِمَامُ، أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِهَذَا الضَّمَانِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا كَمَا لَوْ قَالَ: طَلِّقْهَا وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنَ الصَّدَاقِ. وَوَجْهًا أَنَّهُ [إِنْ] قَالَ: طَلِّقْهَا وَأَنَا ضَامِنٌ بَرَاءَتَكَ، لَغَا وَوَقَعَ رَجْعِيًّا إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: وَأَنَا ضَامِنٌ لِلصَّدَاقِ، إِنْ طُولِبْتَ بِهِ أَدَّيْتُهُ عَنْكَ، وَقَعَ بَائِنًا لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْمَقْصُودِ، إِلَّا أَنَّهُ الْتِزَامٌ فَاسِدٌ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ هَذَا. وَلَفْظُ الضَّمَانِ هُنَا، كَهُوَ فِي قَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ الِالْتِزَامُ دُونَ الضَّمَانِ الْمَشْهُورِ. وَلَوِ الْتَمَسَ الطَّلَاقَ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ، وَضَمِنَ الدَّرَكَ، فَقَالَ الزَّوْجُ فِي جَوَابِهِ: إِنْ بَرِئْتُ مِنْ صَدَاقِهَا، فَهِيَ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهَا لَمْ تُوجَدْ. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الِاخْتِلَافِ. فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: قَالَتْ: خَالِعْنِي عَلَى كَذَا، فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَلَوْ كَانَ

لَهُ زَوْجَتَانِ تُسَمَّيَانِ بِاسْمٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: خَالَعْتُ فُلَانَةَ بِكَذَا، فَقَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: أَرَدْتُ الْأُخْرَى، وَقَالَتِ الْقَائِلَةُ: بَلْ أَرَدْتَنِي، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ وَلَا فُرْقَةَ. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ، فَقَالَتْ: بِلَا عِوَضٍ، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا فِي نَفْيِ الْعِوَضِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِ سُكْنَاهَا وَنَفَقَتِهَا، وَتَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ بِقَوْلِهِ. وَلَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ بِالْعِوَضِ الَّذِي سَأَلْتِ، فَأَنْكَرَتْ أَصْلَ السُّؤَالِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ. وَإِنْ قَالَتْ: طَلَّقْتَنِي بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ، وَقَالَ: بَلْ فِي الْحَالِ، فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ فِي نَفْيِ الْمَالِ أَيْضًا. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ وَلَمْ تَقْبَلِي فَلِيَ الرَّجْعَةُ، وَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقْتَنِي مُتَّصِلًا بِسُؤَالِي، فَلَا رَجْعَةَ لَكَ، فَالْمُصَدَّقُ الزَّوْجُ. الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ وَاخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْعِوَضِ أَوْ قَدْرِهِ أَوْ صِفَتِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالتَّكَسُّرِ وَالْأَجَلِ، وَلَا بَيِّنَةَ، تَحَالَفَا وَحَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ، وَإِنَّمَا أَثَّرَ التَّحَالُفِ فِي الْعِوَضِ. وَالْقَوْلُ فِي أَنَّهُ هَلْ تَنْفَسِخُ التَّسْمِيَةُ، أَمْ تُفْسَخُ إِنْ أَصَرَّا عَلَى النِّزَاعِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَمَنْ يَبْدَأُ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَيْعِ وَفِي الرُّجُوعِ بَعْدَ الْفَسْخِ أَوِ الِانْفِسَاخِ إِلَى مَهْرٍ كَتَحَالُفِهِمَا فِي الصَّدَاقِ؟ وَقِيلَ: يَرْجِعُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَمَا ادَّعَاهُ. وَقِيلَ: بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى الَّذِي ادَّعَتْهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، فَهَلْ تَتَسَاقَطَانِ، أَمْ يُقْرَعُ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، هَلْ يَحْلِفُ؟ وَجْهَانِ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، أَنَّهُ يَعْمَلُ بِأَكْثَرِ الْبَيِّنَتَيْنِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ، أَنَّهُمَا يَسْقُطَانِ وَلَا تَرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ خَالَعَ أَجْنَبِيًّا وَاخْتَلَفَا، تَحَالَفَا وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ مَهْرُ الْمِثْلِ.

الثَّالِثَةُ: سَبَقَ أَنَّهُ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَفِي الْبَلَدِ نَقْدٌ غَالِبٌ نَزَلَ عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ، بَطَلَتِ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ نَوَيَا نَوْعًا، فَالصَّحِيحُ الِاكْتِفَاءُ بِالنِّيَّةِ وَلُزُومُ ذَلِكَ النَّوْعِ. وَقِيلَ: تَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَنَظِيرِهِ فِي الْبَيْعِ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ هُنَا مَا لَا يَحْتَمِلُ فِي الْبَيْعِ. وَلَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ جِنْسًا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَإِبْهَامِ النَّوْعِ، فَإِنْ نَوَيَا جِنْسًا، تَعَيَّنَ. وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ هُنَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِكَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَجْنَاسِ. وَلَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ شَيْءٍ فَقَبِلَتْ، وَنَوَيَا شَيْئًا مُعَيَّنًا، قَالَ الْقَاضِيَ حُسَيْنٌ: التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ لِشِدَّةِ الْإِجْمَالِ، فَيُرْجَعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُنَازِعَهُ غَيْرُهُ. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: إِنَّمَا يُؤَثِّرُ التَّعْيِينُ بِالنِّيَّةِ إِذَا تَوَاطَآ قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى مَا يَقْصِدَانِهِ وَلَا أَثَرَ لِلتَّوَافُقِ بِلَا مُوَاطَأَةٍ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ آخَرُونَ ذَلِكَ، بَلِ اعْتَبَرُوا مُجَرَّدَ التَّوَافُقِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ. وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ هُنَا ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، فَلَوْ تَخَالَعَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَطْلَقَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: أَرَدْنَا بِالدَّرَاهِمِ النُّقْرَةَ، فَقَالَتْ: بَلْ أَرَدْنَا بِهَا الْفُلُوسَ أَوْ عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَ: أَرَدْنَا الدَّنَانِيرَ أَوِ الدَّرَاهِمَ فَقَالَتْ: أَرَدْنَا الْفُلُوسَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ. وَقِيلَ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِلَا تَحَالُفٍ. فَلَوْ تَوَافَقَا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ النُّقْرَةَ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا أَرَادَتِ الْفُلُوسَ وَقَالَ: بَلْ أَرَدْتُ النُّقْرَةَ أَيْضًا، حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ لِانْتِظَامِ الصِّيغَةِ وَمُؤَاخَذَةً لَهَا، وَتَصَدَّقُ هِيَ بِيَمِينِهَا. فَإِذَا حَلَفَتْ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا نَفَتْ بِيَمِينِهَا النُّقْرَةَ، وَنَفَى هُوَ الْفُلُوسَ. وَلَوْ تَوَافَقَا أَنَّهَا أَرَادَتِ الْفُلُوسَ، وَقَالَ هُوَ: أَنَا أَرَدْتُ النُّقْرَةَ، وَلَا فُرْقَةَ لِلْمُخَالَفَةِ، فَقَالَتْ:

بَلْ أَرَدْتُ الْفُلُوسَ أَيْضًا وَبِنْتُ مِنْكَ، حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ ظَاهِرًا لِاتِّفَاقِ اللَّفْظَيْنِ. وَهَلْ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: نَعَمْ لِلْبَيْنُونَةِ ظَاهِرًا، وَالَّذِي اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ: لَا، لِإِنْكَارِهِ الْبَيْنُونَةَ وَعِوَضَهَا. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ. قَالَ الْإِمَامُ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَدَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي اتِّفَاقِ النِّيَّةِ، قُلْنَا: إِذْ ذَاكَ يُطَالِبُهَا بِالْمُسَمَّى الْمُعَيَّنِ لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الصُّورَةِ مَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الدَّرَاهِمَ، وَزَعَمَ أَنَّهَا أَرَادَتِ الْفُلُوسَ، وَلَا فُرْقَةَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ الدَّرَاهِمَ وَبِنْتُ، فَالْفُرْقَةُ حَاصِلَةٌ، وَيَعُودُ الْوَجْهَانِ فِي ثُبُوتِ شَيْءٍ لِلزَّوْجِ، وَبِالثُّبُوتِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَقَالَ: لَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بَاطِنًا إِنْ كَانَ صَادِقًا. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ النُّقْرَةَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِجَانِبِهَا، وَقَالَتْ: أَرَدْتُ الْفُلُوسَ وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِجَانِبِهِ، حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ. ثُمَّ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ. وَفِي «الْبَسِيطِ» أَنَّ الْوَجْهَ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي عَلَيْهَا مُعَيَّنًا حَتَّى تَحْلِفَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ بِلَا تَحَالُفٍ. وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مُخَالَفَةَ الْقَاضِي فِي التَّحَالُفِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الْمُتَخَالِعَيْنِ: أَطْلَقْنَا الدَّرَاهِمَ. وَقَالَ الْآخَرُ: عَيَّنَّا نَوْعًا تَحَالَفَا. الرَّابِعَةُ: قَالَتْ: سَأَلْتُكَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ بِأَلْفٍ فَأَجَبْتَنِي، فَقَالَ: بَلْ سَأَلْتِ وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَأَجَبْتُكِ، فَالْأَلْفُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمُعَوَّضِ فَيَتَحَالَفَانِ، فَإِذَا تَحَالَفَا، فَعَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالْقَوْلُ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. قَالَ

الْحَنَّاطِيُّ: وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً عَلَى قَوْلِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَ تَارِيخُ الْبَيِّنَتَيْنِ، تَحَالَفَا وَإِلَّا فَالْأَسْبَقُ تَارِيخًا مُقَدَّمَةٌ. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ وَحْدَكِ بِأَلْفٍ، فَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقْتَنِي وَضَرَّتِي، تَحَالَفَا وَعَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَلَوْ قَالَتْ: سَأَلْتُكَ وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، فَأَجَبْتَنِي فَقَالَ: بَلْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، وَقَعَ الثَّلَاثُ وَوَجَبَ الْأَلْفُ، وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الِاخْتِلَافِ. وَلَوْ قَالَتْ: سَأَلْتُكَ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقْتَنِي طَلْقَةً، فَلَكَ الثُّلُثُ فَقَالَ: بَلْ ثَلَاثًا فَلِيَ الْأَلْفُ، فَإِنْ لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ، وَإِنْ طَالَ وَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ جَوَابًا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا بِإِقْرَارِهِ وَتَحَالَفَا لِلْعِوَضِ، وَعَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ. وَفِيمَا نَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ فِي «عُيُونِ الْمَسَائِلِ» وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ، فَأَخَذَتْ طَائِفَةٌ بِالنَّصِّ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَتَحَالَفَانِ وَلَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طُولِ الْفَصْلِ وَعَدَمِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: النَّصُّ مُشْكِلٌ فِي حَالَتَيِ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ. قَالَ الْإِمَامُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي حَالَةِ الِاتِّصَالِ، إِنْ قَالَ الزَّوْجُ: مَا طَلَّقْتُكِ مِنْ قَبْلُ، وَالْآنَ أُطَلِّقُكِ ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ، تَقَعُ الثَّلَاثُ وَيَجِبُ الْأَلْفُ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ الْجَوَابِ. وَإِنْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ مِنْ قَبْلُ ثَلَاثًا تَعَذَّرَ جَعْلُ هَذَا إِنْشَاءً؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ قَبْلَهُ، فَيَقَعُ الثَّلَاثُ بِإِقْرَارِهِ، وَلَا يَلْزَمُهَا إِلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ رَدَدْتَ أَعْبُدِي الثَّلَاثَةَ، فَلَكَ الْأَلْفُ، فَقَالَ: رَدَدْتُهُمْ وَقَالَ: مَا رَدَدْتَ إِلَّا وَاحِدًا. وَأَمَّا فِي حَالِ الِانْفِصَالِ، فَيُحْكَمُ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ بِإِقْرَارِهِ وَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّحَالُفِ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ أَوِ الْعِوَضِ، [وَهُمَا] هُنَا مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْمَسْئُولَ ثَلَاثٌ، وَأَنَّ الْعِوَضَ أَلْفٌ،

وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّفَهَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ أَنَّهُ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَهَذَا صَحِيحٌ وَلْيُتَأَوَّلِ النَّصَّ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَرْعٌ قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: قَالَتْ: طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَالَ: بَلْ طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً بِأَلْفَيْنِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً بِقَوْلِهِ، وَاتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ إِلَّا مَرَّةً، تَحَالَفَا وَلَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ. الْخَامِسَةُ: تَخَالَعَا بِأَلْفٍ فَطَالَبَهَا بِهِ، فَقَالَتْ: ضَمِنَهُ زَيْدٌ، لَمْ يَنْفَعْهَا هَذَا الْجَوَابُ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَقْطَعُ الطَّلَبَ عَنْهَا، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: قَبِلْتُ الْخُلْعَ عَلَى أَنْ يَزِنَ زَيْدٌ عَنِّي الْأَلْفَ، وَهِيَ فِي الصُّورَتَيْنِ مُقِرَّةٌ بِالْأَلْفِ. وَلَوْ قَالَتْ: قَبِلْتُ الْخُلْعَ بِأَلْفٍ لِي فِي ذِمَّةِ زَيْدٍ، فَفِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى بَيْعِ الدَّيْنِ، وَحَاصِلُهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهُمَا: التَّحَالُفُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الدَّيْنِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِلَا تَحَالُفٍ، بِنَاءً عَلَى مَنْعِهِ، وَالثَّالِثُ: تُصَدَّقُ هِيَ بِيَمِينِهَا، وَالرَّابِعُ: هُوَ بِيَمِينِهِ، نَقَلَهُمَا الْمُتَوَلِّي بِنَاءً عَلَى مَنْعِهِ، وَهُمَا الْوَجْهَانِ فِي الِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ. فَرْعٌ قَالَ: خَالَعْتُكِ، فَقَالَتْ: اخْتَلَعَنِي أَجْنَبِيٌّ لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ، بَانَتْ بِاعْتِرَافِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَلَعْتُ بِوَكَالَةِ زَيْدٍ وَأُضِفْتُ إِلَيْهِ، فَهَلْ يَتَحَالَفَانِ أَمْ تُصَدَّقُ هِيَ أَمْ هُوَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَتْ: لَمْ أُضَفْ وَلَكِنْ نَوَيْتُ الِاخْتِلَاعَ لِزَيْدٍ، فَإِنْ قُلْنَا: تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْوَكِيلِ،

فصل

لَمْ يَنْقَطِعْ طَلَبُ الزَّوْجِ بِقَوْلِهَا، وَكَذَا لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْوَكَالَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُطَالَبُ، فَهَلْ يَتَحَالَفَانِ، أَمْ تُصَدَّقُ هِيَ، أَمْ هُوَ؟ فِيهِ الْأَوْجُهُ. السَّادِسَةُ: طَلَّقَهَا بِأَلْفٍ وَأَرْضَعَتْ بِنْتُهَا زَوْجَةً أُخْرَى لَهُ صَغِيرَةً وَاخْتَلَفَ الْمُتَخَالِعَانِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: سَبَقَ الْخُلْعُ فَعَلَيْكِ الْمَالُ، وَقَالَتْ: بَلْ سَبَقَ الْإِرْضَاعُ، فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ وَالْخُلْعُ لَغْوٌ، نُظِرَ إِنِ اتَّفَقَا عَلَى جَرَيَانِ الْإِرْضَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا وَادَّعَى تَقَدُّمَ الْخُلْعِ، وَادَّعَتْ تَأَخُّرَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى جَرَيَانِ الْخُلْعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَادَّعَى تَأَخُّرَ الْإِرْضَاعِ، وَادَّعَتْ تَقَدُّمَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِمْرَارُ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ اشْتِغَالَهُمَا بِالْخُلْعِ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ، كَمَا لَوْ تَخَالَعَا، ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْخُلْعِ ثَلَاثًا، أَوِ ادَّعَتْ إِقْرَارَهُ بِفَسَادِ النِّكَاحِ فَأَنْكَرَ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ وَتَسْتَمِرُّ صِحَّةُ الْخُلْعِ. السَّابِعَةُ: تَخَالَعَا ثُمَّ قَالَ هُوَ: كُنْتِ مُكْرَهَةً، فَلِي الرَّجْعَةُ فَأَنْكَرَتِ الْإِكْرَاهَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَالِ لِاعْتِرَافِهِ. وَلَوِ ادَّعَتِ الْإِكْرَاهَ، فَأَنْكَرَ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَلَزِمَهَا الْمَالُ. فَلَوْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً بِالْإِكْرَاهِ، لَزِمَهُ رَدُّ الْمَالِ وَلَا رَجْعَةَ لِاعْتِرَافِهِ بِالْبَيْنُونَةِ، فَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِنْكَارِ، أَوْ سَكَتَ، أَوْ كَانَتِ الْخُصُومَةُ مَعَ وَكِيلِهِ، فَلَهُ الرَّجْعَةُ، إِذْ أَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْخُلْعِ. لَيْسَ لَهُ خُلْعُ زَوْجَةِ وَلَدِهِ الطِّفْلِ، وَالْخُلْعُ عَلَى غَيْرِ الصَّدَاقِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا مِنْهُ، وَبَعْدَ قَبْضِهِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الزَّوْجِ مِنْ نِصْفِهِ عِنْدَنَا. وَلَوْ خَالَعَ حَامِلًا بِنَفَقَةِ عِدَّتْهَا بَانَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَفِي «فَتَاوَى

الْقَفَّالِ» : لَوْ خَالَعَهَا بِمَهْرِهَا بَعْدَ أَنْ أَبْرَأَتْهُ مِنْهُ، فَإِنْ جَهِلَتِ الْحَالَ، فَهَلْ يَلْزَمُهَا مَهْرُ الْمِثْلِ أَمْ بَدَلُ الْمُسَمَّى؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَإِنْ عَلِمَتْ، نُظِرَ إِنْ جَرَى بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، كَقَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ عَلَى صَدَاقِكِ، فَهَلْ يَقَعُ بَائِنًا وَيَعُودُ الْخِلَافُ فِيمَا يَلْزَمُهَا، أَمْ يَقَعُ رَجْعِيًّا؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ جَرَى بِلَفْظِ الْخُلْعِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْمَالَ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ هَلْ يَقْتَضِي ثُبُوتَ مَالٍ؟ وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ، أَنَّهُ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَالِهَا فِي ذِمَّتِهِ وَعَلَى أَلْفٍ آخَرَ فِي ذِمَّتِهَا، وَعَلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا إِلَى مُدَّةِ كَذَا، فَهُوَ فَاسِدٌ لِشَرْطِ الْإِنْفَاقِ، وَتَبِينُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَأَنَّهُ لَوْ خَالَعَهَا بِأَلْفٍ وَعَلَى حَضَانَةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ سَنَةً، فَتَزَوَّجَتْ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ، لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ انْتِزَاعُ الْوَلَدِ مِنْهَا بِتَزَوُّجِهَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَأَنَّهَا لَوْ قَالَتْ: إِنْ طَلَّقْتَنِي أَبْرَأْتُكَ عَنِ الصَّدَاقِ، أَوْ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهُ فَطَلَّقَ، لَا يَحْصُلُ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَهُ بَاطِلٌ وَيَلْزَمُهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ مَجَّانًا. فَلَوْ قَالَتْ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ صَدَاقِي فَطَلِّقْنِي، بَرِئَ الزَّوْجُ وَلَهُ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ طَلَّقَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُطَلِّقْ. وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ، لَوْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَقَبِلَتْ، ثُمَّ أَعْطَتْهُ مَرَوِيًّا فَرَضِيَهُ وَأَرَادَ إِمْسَاكَهُ، يُنْظَرُ إِنْ وَصَفَهُ بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ بُنِيَ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الزَّبِيبِ الْأَبْيَضِ عَنِ الْأَسْوَدِ. إِنْ جَوَّزْنَا فَكَذَا هُنَا، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الْإِمْسَاكُ هُنَا بِلَا مُعَاقَدَةٍ. فَإِنْ تَعَاقَدَا، فَقَالَتْ: جَعَلْتُهُ بَدَلًا عَمَّا عَلَيَّ وَقَبِلَهُ الزَّوْجُ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ ضَمَانَ الْيَدِ، أَمِ الْعَقْدِ، إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، جَازَ، أَوْ بِالثَّانِي، فَقَوْلَانِ كَالِاسْتِبْدَالِ عَنِ الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ، فَالْوَاجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلَا يَجُوزُ إِمْسَاكُهُ إِلَّا بِمُعَاقَدَةٍ، وَأَنَّهَا لَوْ قَالَتْ: اخْتَلَعْتُ نَفْسِي بِالصَّدَاقِ الَّذِي فِي ذِمَّتِكَ وَأَنْكَرَ

فصل

وَحَلَفَ، فَلَا رُجُوعَ لَهَا عَلَيْهِ بِالصَّدَاقِ وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ دَارَكَ بِهِ وَقَبَضْتُهُ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ، يَجُوزُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخُلْعَ يَقْتَضِي الْيَأْسَ مِنَ الصَّدَاقِ وَسُقُوطَهُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الزَّوْجِ إِذَا بَرِئَتْ مِنْهُ لَا يُتَصَوَّرُ اشْتِغَالُهَا بِهِ. وَفِي صُورَةِ الْبَيْعِ لَا يَحْصُلُ الْيَأْسُ عَنِ الدَّيْنِ، لِاحْتِمَالِ تَلَفِ الدَّارِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ خُرُوجِهَا مُسْتَحَقَّةً، أَوْ رَدِّهَا بِعَيْبٍ، وَإِنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ وَأَنْكَرَتْ وَحَلَفَتْ ثُمَّ وَطِئَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الظَّاهِرِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّهَا فِي نِكَاحِهِ. وَأَمَّا الْبَاطِنُ، فَإِنْ صَدَقَ، حُدَّ، وَإِنْ كَذَبَ، فَلَا. وَقِيلَ: دَعْوَاهُ تَكُونُ طَلَاقًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ، وَأَنَّهَا لَوْ قَالَتْ: اخْتَلَعْتُ بِثَلَاثِ طَلَقَاتٍ عَلَى مَا لِيَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ، فَقَالَ: خَالَعْتُكِ بِطَلْقَةٍ، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ ثُلُثُ مَهْرِ الْمِثْلِ. فَصْلٌ لِابْنِ الْحَدَّادِ. قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا بِأَلْفٍ، فَالْمُقَابَلَةُ بِالْأَلْفِ لَا تَقَعُ إِلَّا بِقَبُولِهَا. وَفِي الْأُخْرَى وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلْقَتَيْنِ بِالْقَبُولِ، وَلِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأُخْرَى، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ: يَقَعُ بِلَا قَبُولٍ لِخُلُوِّهَا عَنِ الْعِوَضِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا بِأَلْفٍ، وَالْأُخْرَى بِغَيْرِ شَيْءٍ وَقَعَتِ الْوَاحِدَةُ بِلَا قَبُولٍ، فَكَذَا هَذَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَبْعُدُ طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ هُنَا، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَإِذَا قَبِلَتْ، وَقَعَتِ الطَّلْقَتَانِ وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ. وَهَلِ الْأَلْفُ فِي مُقَابَلَةِ إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، أَمْ فِي مُقَابَلَتِهِمَا مَعًا وَإِحْدَاهُمَا تَابِعَةٌ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ ذُكِرَا وَوَجْهٌ

الثَّانِي: أَنَّهُ لَوِ اخْتَصَّ الْمَالُ بِإِحْدَاهُمَا، لَمَا تَوَقَّفَتِ الْأُخْرَى عَلَى الْقَبُولِ، وَلَا قُرِنَتْ طَلْقَتَانِ بَائِنَةٌ وَرَجْعِيَّةٌ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَقَعَتِ الْوَاحِدَةُ عِنْدَ تَمَامِ لَفْظِهِ وَبَانَتْ، فَلَا تَقَعُ الْأُخْرَى، وَلَوْ قَبِلَتْ. وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، فَالْوَاقِعَةُ رَجْعِيَّةٌ، فَإِذَا قَبِلَتْ، فَهُوَ مُخَالَعَةٌ وَفِيهَا الْقَوْلَانِ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهَا، وَقَعَتِ الثَّانِيَةُ بِالْأَلْفِ، وَإِلَّا، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ. أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ بِشَرْطِ قَبُولِهَا، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمِ الْمَالُ، فَلَا مَعْنَى لِلْقَبُولِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ الْمَالُ بِمُخَالَعَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الطلاق

كِتَابُ الطَّلَاقِ فِيهِ سِتَّةُ أَبْوَابٍ الْأَوَّلُ: فِي الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَفِيهِ طَرَفَانِ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ الْبِدْعِيِّ وَالسُّنِّيِّ لَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَصِفُونَ الطَّلَاقَ بِالْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةِ. وَفِي مَعْنَاهُمَا اصْطِلَاحَانِ: أَحَدُهُمَا: السُّنِّيُّ مَا لَا يَحْرُمُ إِيقَاعُهُ، وَالْبِدْعِيُّ: مَا يَحْرُمُ. وَعَلَى هَذَا فَلَا قِسْمَ سِوَاهُمَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمُتَدَاوَلُ، أَنَّ السُّنِّيَّ طَلَاقُ مَدْخُولٍ بِهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ، وَلَا صَغِيرَةٍ وَلَا آيِسَةٍ. وَالْبِدْعِيَّ: طَلَاقُ مَدْخُولٍ بِهَا فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، أَوْ طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ وَلَمْ يَبِنْ حَمْلُهَا، وَعَلَى هَذَا يَسْتَمِرُّ مَا اشْتُهِرَ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ غَيْرَ الْمَمْسُوسَةِ لَا سُنَّةَ وَلَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِهَا، وَكَذَا مَنْ فِي مَعْنَاهَا. وَعَلَى هَذَا، الطَّلَاقُ سُنِّيٌّ وَبِدْعِيٌّ وَغَيْرُهُمَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّ مَا لَا يُحَرَّمُ مِنَ الطَّلَاقِ: وَاجِبٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَمَكْرُوهٌ. فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّ الْمُؤْلِي، إِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ، يُؤْمَرُ أَنْ يَفِيَ أَوْ يُطَلِّقَ، وَعِنْدَ الشِّقَاقِ إِذَا رَأَى الْحَكَمَانِ التَّفْرِيقَ وَجَبَ. وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ، فَهُوَ إِذَا كَانَ يُقَصِّرُ فِي حَقِّهَا لِبُغْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ عَفِيفَةٍ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ، فَهُوَ الطَّلَاقُ عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَالِ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ، فَلِتَحْرِيمِهِ سَبَبَانِ.

أَحَدُهُمَا: إِيقَاعُهُ فِي الْحَيْضِ إِذَا كَانَتْ مَمْسُوسَةً، تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ فَطَلَّقَهَا بِلَا عِوَضٍ. فَإِنْ خَالَعَ الْحَائِضَ، أَوْ طَلَّقَهَا بَعِوَضٍ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ. وَلَوْ سَأَلَتِ الطَّلَاقَ وَرَضِيَتْ بِهِ بِلَا عِوَضٍ فِي الْحَيْضِ، أَوِ اخْتَلَعَهَا أَجْنَبِيٌّ فِي الْحَيْضِ، فَحَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ طُولِبَ الْمُؤْلِي بِالطَّلَاقِ، فَطَلَّقَ فِي الْحَيْضِ، فَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا: لَيْسَ بِحَرَامٍ لِأَنَّهَا طَالِبَةٌ رَاضِيَةٌ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: حَرَامٌ لِأَنَّهُ أَحْوَجَهَا بِالْإِيذَاءِ إِلَى الطَّلَبِ وَهُوَ غَيْرُ مُلْجَأٍ إِلَى الطَّلَاقِ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْفَيْئَةِ. وَلَوْ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، إِذَا قُلْنَا بِهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ فِي الْحَيْضِ. وَلَوْ رَأَى الْحَكَمَانِ فِي صُورَةِ الشِّقَاقِ الطَّلَاقَ، فَطَلَّقَا فِي الْحَيْضِ، فَفِي شَرْحِ «مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ» أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، لِلْحَاجَةِ إِلَى قَطْعِ الشَّرِّ. فَرْعٌ إِذَا طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ طَلَاقًا مُحَرَّمًا، اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَإِنْ رَاجَعَ، فَهَلْ لَهُ تَطْلِيقُهَا فِي الطُّهْرِ التَّالِي لِتِلْكَ الْحَيْضَةِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَأَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ: هَلْ يَتَأَدَّى بِهِ الِاسْتِحْبَابُ بِتَمَامِهِ. فَأَمَّا أَصْلُ الْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْصُلَ بِلَا خِلَافٍ لِانْدِفَاعِ ضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ. قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، بِأَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي الِاسْتِحْبَابِ. قَالَ الْإِمَامُ: قَالَ الْجُمْهُورُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فِيهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا بَأْسَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي «الْوَسِيطِ» : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي هَذَا الطُّهْرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: فَشَاذٌّ أَوْ مُؤَوَّلٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ بِظَاهِرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجَامِعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لِيَظْهَرَ مَقْصُودُ الرَّجْعَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: الِاكْتِفَاءُ بِإِمْكَانِ الِاسْتِمْتَاعِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْمُرَاجَعَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً، فَلَا نَقُولُ تَرْكُهَا مَكْرُوهٌ. قُلْتُ: فِي هَذَا نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: تَرْكُهَا مَكْرُوهٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْوَارِدِ فِيهَا، وَلِدَفْعِ الْإِيذَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا أُخْرَى فِي الْحَيْضِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ إِذَا طُلِّقَتْ، أَمْ تَبْنِي؟ إِنْ قُلْنَا: تَسْتَأْنِفُ، فَبِدْعِيٌّ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ لِعَدَمِ التَّطْوِيلِ وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ بِدْعِيًّا، ثُمَّ طَلَّقَهَا أُخْرَى فِي تِلْكَ الْحَيْضَةِ أَوْ فِي أُخْرَى، فَفِي كَوْنِ الثَّانِيَةِ بِدْعِيَّةً الْوَجْهَانِ. فَرْعٌ الطَّلَاقُ فِي النِّفَاسِ بِدْعِيٌّ كَالْحَيْضِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُحَرِّمَ شَامِلٌ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ آخِرِ حَيْضِكِ، أَوْ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيْضِكِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ سُنِّيٌّ لِاسْتِعْقَابِهِ الشُّرُوعَ فِي الْعِدَّةِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الطُّهْرِ وَلَمْ يَطَأْهَا، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ بِدْعِيٌّ. وَلَوْ قَالَ فِي الصُّورَتَيْنِ بَدَلَ «مَعَ» : فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ كَذَا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: فِي كَ «مَعَ» عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ قَالَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الْحَيْضِ، فَبِدْعِيٌّ قَطْعًا، أَوْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الطُّهْرِ، فَسُنِّيٌّ قَطْعًا.

فَرْعٌ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالدُّخُولِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، لَيْسَ بِبِدْعِيٍّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَيْضِ وَلَكِنْ إِنْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ فِي الطُّهْرِ، نَفَذَ سُنِّيًّا، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي الْحَيْضِ، نَفَذَ بِدْعِيًّا فَتُسْتَحَبُّ الْمُرَاجَعَةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ بِاخْتِيَارِهِ، أَثِمَ بِإِيقَاعِهِ فِي الْحَيْضِ. وَعَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّ نَفْسَ التَّعْلِيقِ بِدْعَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي الْحَالَ وَقْتَ الْوُقُوعِ، فَلْتَحْتَرِزْ عَمَّا قَدْ يَضُرُّهَا وَلَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ أَوَّلًا: وَإِنْ وُجِدَتْ فِي الْحَيْضِ نَفَذَ بِدْعِيًّا، مَعْنَاهُ يُسَمَّى بِدْعِيًّا وَتُرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْبِدْعِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا إِثْمَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ فِي كُلِّ الطُّرُقِ، إِلَّا مَا حَكَاهُ عَنِ الْقَفَّالِ: وَقَدْ أَطْنَبَ الْإِمَامُ فِي تَغْلِيطِ الْقَفَّالِ فِي هَذَا وَقَالَ: هَذَا فِي حُكْمِ الْهُجُومِ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ، فَلَمْ يُحَرِّمْ أَحَدٌ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ لِذَاتِ الْأَقْرَاءِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَوْ إِنْ قَدِمَ فُلَانٌ لِلسُّنَّةِ، أَوْ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَهِيَ فِي حَالِ السُّنَّةِ، طُلِّقَتْ. وَإِنْ وُجِدَ وَهِيَ فِي حَالِ الْبِدْعَةِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَالِ السُّنَّةِ، فَحِينَئِذٍ تُطَلَّقُ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِأَمْرَيْنِ، فَاشْتُرِطَ حُصُولُهُمَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِي حَالِ الْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي حَالِ السُّنَّةِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْبِدْعَةِ. وَلَوْ قَالَ لِمَنْ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ كَغَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ لِلسُّنَّةِ، فَصَارَتْ ذَاتَ سُنَّةٍ وَبِدْعَةٍ، ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، فَإِنْ وُجِدَ فِي حَالِ السُّنَّةِ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ وُجِدَ فِي حَالِ الْبِدْعَةِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَالِ السُّنَّةِ. وَلَوْ وُجِدَ الشَّرْطُ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهَا. طُلِّقَتْ لِأَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا.

فصل

فَرْعٌ إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهَا، فَفَعَلَتْهُ مُخْتَارَةً، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بِسُؤَالِهَا. السَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يُجَامِعَهَا فِي طُهْرٍ وَهِيَ مِمَّنْ تَحْبَلُ وَلَمْ يَظْهَرْ حَمْلُهَا، فَيَحْرُمُ طَلَاقُهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، وَاسْتِدْخَالُهَا مَاءَهُ كَالْوَطْءِ، وَكَذَا وَطْؤُهَا فِي الدُّبُرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْحَيْضِ فَطَهُرَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، حَرُمَ عَلَى الْأَصَحِّ لِاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ. وَأَمَّا إِذَا ظَهَرَ بِهَا الْحَمْلُ، فَلَا يَحْرُمُ طَلَاقُهَا بِحَالٍ. وَلَوْ خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ، قَبْلَ ظُهُورِ الْحَبْلِ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمُخَالَعَتِهَا فِي الْحَيْضِ. وَقِيلَ: يَحْرُمُ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا رِعَايَةٌ لِحَقِّ الْوَلَدِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ رِضَاهَا، وَهُنَاكَ لِضَرَرِهَا بِطُولِ الْعِدَّةِ، وَتُسْتَحَبُّ الْمُرَاجِعَةُ هُنَا كَمَا فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ إِنْ رَاجَعَهَا وَوَطِئَهَا فِي بَقِيَّةِ الطُّهْرِ، ثُمَّ حَاضَتْ وَطَهُرَتْ، فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَى ذَلِكَ الطُّهْرُ، ثُمَّ رَاجَعَهَا، أَوْ رَاجَعَهَا وَلَمْ يَطَأْهَا، اسْتُحِبَّ أَنْ لَا يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي، لِئَلَّا تَكُونَ الرَّجْعَةُ لِلطَّلَاقِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا تُسْتَحَبُّ الرَّجْعَةُ هُنَا، وَلَا يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهَا تَأَكُّدَهُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ. فَصْلٌ الْآيِسَةُ وَالصَّغِيرَةُ، وَالَّتِي ظَهَرَ حَمْلُهَا وَغَيْرُ الْمَمْسُوسَةِ، لَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِهِنَّ،

وَلَا سُنَّةَ؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَطْوِيلُ عِدَّةٍ، وَلَا نَدَمٌ بِسَبَبِ وَلَدٍ. فَلَوْ كَانَتِ الْحَامِلُ تَرَى الدَّمَ وَقُلْنَا: هُوَ حَيْضٌ، فَطَلَّقَهَا فِيهِ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَحْرُمُ. وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْأَرْبَعَ الْمَذْكُورَاتِ لَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِهِنَّ، وَلَا سُنَّةَ، وَذَلِكَ لِلْعِبَارَاتِ السَّابِقَةِ فِي تَفْسِيرِ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ. وَرُبَّمَا أَفْهَمَ كَلَامُهُمْ، أَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُنَّ لَا يَجْتَمِعُ لَهُنَّ حَالَتَا سُنَّةٍ وَبِدْعَةٍ، بَلْ لَا يَكُونُ طَلَاقُهُنَّ إِلَّا سُنِّيًّا، وَهَذَا يَسْتَمِرُّ عَلَى تَفْسِيرِ السُّنِّيِّ بِالْجَائِزِ، وَالْبِدْعِيِّ بِالْمُحَرَّمِ، وَقَدْ يُغْنِي عَنِ التَّفَاسِيرِ الطَّوِيلَةِ. فَرْعٌ نَكَحَ حَامِلًا مِنَ الزِّنَى وَوَطِئَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَغَيْرُهُ: يَكُونُ الطَّلَاقُ بِدْعِيًّا، لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَكُونُ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ وَانْقِضَاءِ النِّفَاسِ. وَلَوْ وُطِئَتْ مَنْكُوحَةٌ بِشُبْهَةٍ فَحَبِلَتْ، فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ طَاهِرٌ، فَهُوَ حَرَامٌ لِأَنَّهَا لَا تَشْرَعُ عَقِبَهُ فِي الْعِدَّةِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ تَحْبَلْ، فَشَرَعَتْ فِي عِدَّةِ الشُّبْهَةِ فَطَلَّقَهَا، وَقَدَّمْنَا عِدَّةَ الشُّبْهَةِ. وَقِيلَ: لَا يَحْرُمُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِضْرَارٌ. وَرَجَّحَ الْمُتَوَلِّي التَّحْرِيمَ، إِذَا حَبِلَتْ، وَعَدَمَهُ إِذَا لَمْ تَحْبَلْ، وَالْأَصَحُّ، التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا. فَرْعٌ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ ثُمَّ رَاجَعَهَا، فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَجْهًا ضَعِيفًا: أَنَّهُ يَحْرُمُ طَلَاقُهَا كَيْلَا تَكُونَ الرَّجْعَةُ لِلطَّلَاقِ، وَهَذَا سَبَبٌ ثَالِثٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.

فصل

فَرْعٌ لَا تَنْقَسِمُ الْفُسُوخُ إِلَى سُنَّةٍ وَبِدْعَةٍ، لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ مَضَارٍّ نَادِرَةٍ، فَلَا يَلِيقُ بِهَا تَكْلِيفُ مُرَاقَبَةِ الْأَوْقَاتِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ، أَوْ أَمَتَهُ الْمَوْطُوءَةَ فِي الْحَيْضِ، لَا يَكُونُ بِدْعِيًّا، وَإِنْ طَالَ زَمَنُ الِاسْتِبْرَاءِ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ تَنْجِيزِ الْعِتْقِ أَعْظَمُ، ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ. وَلَوْ قَسَمَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، ثُمَّ طَلَّقَ الْأُخْرَى قَبْلَ قَسْمِهَا، أَثِمَ وَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ لِتَحْرِيمِ الطَّلَاقِ، وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْقَسْمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَا بِدْعَةَ فِي جَمْعِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ تَفْرِيقُهُنَّ عَلَى الْأَقْرَاءِ، أَوِ الْأَشْهُرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ أَقْرَاءٍ، لِتَتَمَكَّنَ مِنَ الرَّجْعَةِ أَوِ التَّجْدِيدِ إِنْ نَدِمَ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ فِي قُرْءٍ عَلَى طَلْقَةٍ، فَرَّقَ عَلَى الْأَيَّامِ. وَقِيلَ: التَّفْرِيقُ سُنَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجَمْعُ بِدْعَةً، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا وَأَرَادَ تَطْلِيقَهَا ثَلَاثًا، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْبَيَانِ» أَحَدُهُمَا: يُطَلِّقُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ طَلْقَةً. وَالثَّانِي، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يُطَلِّقُهَا فِي الْحَالِ طَلْقَةً وَيُرَاجِعُ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنَ النِّفَاسِ، طَلَّقَهَا ثَانِيَةً، ثُمَّ إِذَا طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ طَلَّقَهَا ثَالِثَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي إِضَافَةِ الطَّلَاقِ إِلَى السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا، وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: قَالَ لِحَائِضٍ أَوْ نُفَسَاءَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قَالَ لِلسُّنَّةِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَشْرَعَ فِي الطُّهْرِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاغْتِسَالِ، وَلَوْ وَطِئَهَا فِي آخِرِ الْحَيْضِ

وَاسْتَدَامَ حَتَّى انْقَطَعَ الْحَيْضُ، لَمْ تُطَلَّقْ لِاقْتِرَانِ الطُّهْرِ بِالْجِمَاعِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَسْتَدِمْ إِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ أَنَّهُ إِذَا وَطِئَ فِي الْحَيْضِ ثُمَّ طَلَّقَ فِي الطُّهْرِ يَكُونُ بِدْعِيًّا. الثَّانِيَةُ: قَالَ لِطَاهِرٍ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَامَعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَإِنْ جَامَعَهَا فِيهِ، لَمْ يَقَعْ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ، فَإِنْ كَانَ جَامَعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَإِلَّا فَعِنْدَ الْحَيْضِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِظُهُورِ أَوَّلِ الدَّمِ. فَإِنِ انْقَطَعَ لِدُونِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بَانَ أَنَّهَا لَمْ تُطَلَّقْ وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنَّهَا هَلْ تُطَلَّقُ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ أَمْ بِمُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟ وَلَوْ جَامَعَهَا قَبْلَ الْحَيْضِ، فَبِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ تُطَلَّقُ، فَعَلَيْهِ النَّزْعُ، فَإِنْ نَزَعَ وَعَادَ، فَهُوَ كَابْتِدَاءِ الْوَطْءِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَإِنِ اسْتَدَامَ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَلَا حَدَّ وَإِنْ كَانَ ثَلَاثًا، فَلَا حَدَّ أَيْضًا، لِأَنَّ أَوَّلَهُ مُبَاحٌ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، حُدَّ، وَهَلْ يَجِبُ الْمَهْرُ؟ حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَغَيَّبَ الْحَشَفَةَ ثُمَّ اسْتَدَامَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الصُّورَةَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَذْهَبَ فِيهَا أَنَّهُ لَا مَهْرَ، لِأَنَّ النِّكَاحَ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْوَطْآتِ، وَادَّعَى صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» أَنَّ الْمَذْهَبَ هُنَا الْوُجُوبُ. فَرْعٌ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ، تُحْمَلُ عَلَى التَّوْقِيتِ، فَلَا تُطَلَّقُ إِلَّا فِي حَالِ السُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ، لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ مُنْتَظَرَتَانِ تَتَعَاقَبَانِ تَعَاقُبَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَتَتَكَرَّرَانِ تَكَرُّرَ الشُّهُورِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لِرَمَضَانَ مَعْنَاهُ: إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَمَّا اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى مَا لَا يَتَكَرَّرُ مَجِيئُهُ وَذَهَابُهُ، فَلِلتَّعْلِيلِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِفُلَانٍ، أَوْ لِرِضَى فُلَانٍ، فَتُطَلَّقُ فِي الْحَالِ، رَضِيَ أَمْ سَخِطَ

وَالْمَعْنَى: فَعَلْتُ هَذَا لِتَرْضَى، وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْحَالِ إِذَا نَوَى التَّعْلِيلَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَرْضَى، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، وَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ قَوْلِ السَّيِّدِ: أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. وَحَيْثُ يُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيلِ، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ التَّوْقِيتَ، قُبِلَ بَاطِنًا، وَلَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِقُدُومِ زَيْدٍ أَوْ بِرِضَاهُ، فَهُوَ تَعْلِيقٌ، كَقَوْلِهِ: إِنْ قَدِمَ أَوْ رَضِيَ، وَحَيْثُ حَمَلْنَا قَوْلَهُ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ عَلَى الْحَالَةِ الْمُنْتَظَرَةِ، فَقَالَ: أَرَدْتُ الْإِيقَاعَ فِي الْحَالِ، قُبِلَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ. فَرْعٌ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا لِلسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ: لِلْبِدْعَةِ، وَقَوْلُهُ: لَا لِلْبِدْعَةِ، كَقَوْلِهِ لِلسُّنَّةِ، وَقَوْلُهُ: سُنَّةُ الطَّلَاقِ، أَوْ طَلْقَةٌ سُنِّيَّةٌ، كَقَوْلِهِ لِلسُّنَّةِ، وَقَوْلُهُ: بِدْعَةُ الطَّلَاقِ، أَوْ طَلْقَةٌ بِدْعِيَّةٌ، كَقَوْلِهِ لِلْبِدْعَةِ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَيْكِ فِي هَذَا الْوَقْتِ طَلَاقُ السُّنَّةِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَتْ فِي حَالِ السُّنَّةِ، طُلِّقَتْ، وَإِلَّا فَلَا تُطَلَّقُ، لَا فِي الْحَالِ، وَلَا إِذَا صَارَتْ فِي حَالِ السُّنَّةِ، لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إِنْ قَدِمَ فُلَانٌ وَأَنْتِ طَاهِرٌ، فَإِنْ قَدِمَ وَهِيَ طَاهِرٌ، طُلِّقَتْ لِلسُّنَّةِ، وَإِلَّا فَلَا تُطَلَّقُ لَا فِي الْحَالِ، وَلَا إِذَا طَهُرَتْ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا، إِنْ كَانَتِ الْمُخَاطَبَةُ بِالسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ ذَاتَ سُنَّةٍ وَبِدْعَةٍ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ لِصَغِيرَةٍ مَمْسُوسَةٍ، أَوْ لِصَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ غَيْرِ مَمْسُوسَةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ،

فَيَقَعُ فِي الْحَالِ، وَاللَّامُ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ، لِعَدَمِ تَعَاقُبِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ: لِرِضَى زَيْدٍ. وَلَوْ قَالَ: لِلْبِدْعَةِ، وَقَعَ فِي الْحَالِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِمَا ذَكَرْنَا. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهًا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى التَّوْقِيتِ، وَيُنْتَظَرُ زَمَنُ الْبِدْعَةِ، بِأَنْ تَحِيضَ الصَّغِيرَةُ، وَيَدْخُلَ بِالْكَبِيرَةِ أَوْ تَحِيضَ. وَعَنِ ابْنِ الْوَكِيلِ، أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ مُطْلَقًا لِتَعْلِيقِهِ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ، كَقَوْلِهِ: إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ، وَهَذَا يَطَّرِدُ فِي قَوْلِهِ: لِلسُّنَّةِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِالْوَقْتِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِوَقْتِ السُّنَّةِ، أَوْ لِوَقْتِ الْبِدْعَةِ، قَالَ فِي «الْبَسِيطِ» : إِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَالظَّاهِرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ التَّوْقِيتَ بِمُنْتَظَرٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْبَلَ لِتَصْرِيحِهِ بِالْوَقْتِ وَلَا نَقْلَ فِيهِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا لِلسُّنَّةِ وَلَا لِلْبِدْعَةِ، وَقَعَ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ سُنَّةٍ وَبِدْعَةٍ، أَمْ لَا، لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ، فَحَالُهَا مَا ذُكِرَ، وَإِنْ كَانَتْ، فَالْوَصْفَانِ مُتَنَافِيَانِ فَسَقَطَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: طَلْقَةً سُنِّيَّةً بِدْعِيَّةً. فَرْعٌ قَالَ لِذَاتِ سُنَّةٍ وَبِدْعَةٍ فِي حَالِ الْبِدْعَةِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا سُنِّيًّا، أَوْ فِي حَالِ السُّنَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا بِدْعِيًّا، وَنَوَى الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تَعْمَلُ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، لَا فِيمَا يُخَالِفُ صَرِيحًا، وَإِذَا تَنَافَيَا، لَغَتِ النِّيَّةُ، وَعُمِلَ بِاللَّفْظِ لِأَنَّهُ أَقْوَى. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْآنَ سُنِّيًّا وَهُوَ فِي زَمَنِ بِدْعَةٍ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ عَمَلًا بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْوَقْتِ، وَيَلْغُو اللَّفْظُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ لِذَاتِ الْأَقْرَاءِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، بَعْضُهُنَّ لِلسُّنَّةِ وَبَعْضُهُنَّ لِلْبِدْعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْحَالِ طَلْقَتَانِ، فَإِذَا صَارَتْ

فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى، وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ، لِأَنَّ التَّبْعِيضَ يَقْتَضِي التَّشْطِيرَ، ثُمَّ يَسْرِي كَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ بَعْضُهَا لِزَيْدٍ وَبَعْضُهَا لِعَمْرٍو، يُحْمَلُ عَلَى التَّشْطِيرِ إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ. وَقِيلَ: تَقَعُ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَمَنْ قَالَ بِهِ لَا يَكَادُ يُسَلِّمُ مَسْأَلَةَ الْإِقْرَارِ، وَيَقُولُ: هُوَ مُجْمَلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِيهِ. وَنَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْحَالِ الثَّلَاثُ. أَمَّا إِذَا قَالَ: أَرَدْتُ إِيقَاعَ بَعْضٍ مِنْ كُلِّ طَلْقَةٍ فِي الْحَالِ، فَتَقَعُ الثَّلَاثُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ فِي الْحَالِ طَلْقَتَيْنِ أَوْ طَلْقَةً وَنِصْفًا، وَقَعَ طَلْقَتَانِ فِي الْحَالِ قَطْعًا، وَتَقَعُ الثَّالِثَةُ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ فِي الْحَالِ طَلْقَةً، وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ طَلْقَتَيْنِ، دُيِّنَ فِيهِ قَطْعًا، وَتُقْبَلُ أَيْضًا فِي الظَّاهِرِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تُقْبَلُ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ، أَنَّهُ لَوْ نَدِمَ فَأَرَادَ أَنْ يُخَالِعَهَا حَتَّى تَصِيرَ إِلَى الْحَالَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ بَائِنٌ، فَتَنْحَلَّ الْيَمِينُ، ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا. وَقُلْنَا: الْخُلْعُ طَلَاقٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاقِعُ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ، أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، بَعْضُهُنَّ لِلسُّنَّةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ فِي حَالِ السُّنَّةِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: تَجِيءُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ إِلَّا طَلْقَةٌ، لِأَنَّ الْبَعْضَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ النِّصْفِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى عَلَى التَّشْطِيرِ لِإِضَافَتِهِ الْبَعْضَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا، بَعْضُهُنَّ لِلسُّنَّةِ، وَبَعْضُهُنَّ لِلْبِدْعَةِ، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، بَنَى عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ، فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَلْفُوظَ بِهَا تُلْغَى أَمْ تُعْتَبَرُ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَقَعَ فِي الْحَالِ طَلْقَتَانِ، وَفِي الثَّانِي، طَلْقَةٌ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَعَ الثَّلَاثُ فِي الْحَالِ بِالتَّشْطِيرِ وَالتَّكْمِيلِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ: طَلْقَةٌ لِلسُّنَّةِ وَطَلْقَةٌ لِلْبِدْعَةِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لِلسُّنَّةِ وَطَلْقَةً لِلْبِدْعَةِ، وَقَعَ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ، وَفِي الِاسْتِقْبَالِ الْأُخْرَى. وَلَوْ قَالَ:

طَلْقَتَيْنِ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، فَهَلْ يَقَعُ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ، وَفِي الِاسْتِقْبَالِ الْأُخْرَى، أَمْ يَقَعَانِ فِي الْحَالِ؟ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي كَمَا لَوْ قَالَ: ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَلِلْبِدْعَةِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ فِي الْحَالِ. فَرْعٌ قَالَ لِمَنْ لَا سُنَّةَ لَهَا وَلَا بِدْعَةَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَعْضُهُنَّ لِلسُّنَّةِ وَبَعْضُهُنَّ لِلْبِدْعَةِ، أَوْ طَلْقَةٌ لِلسُّنَّةِ، وَطَلْقَةٌ لِلْبِدْعَةِ، وَقَعَ الْجَمِيعُ فِي الْحَالِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا وَصَفَ الطَّلَاقَ بِصِفَةِ مَدْحٍ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَجْمَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَفْضَلَهُ، أَوْ أَحْسَنَهُ، أَوْ أَعْدَلَهُ، أَوْ أَكْمَلَهُ، أَوْ أَتَمَّهُ، أَوْ أَجْوَدَهُ، أَوْ خَيْرَ الطَّلَاقِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ لِلطَّاعَةِ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، فَلَا يَقَعُ إِنْ كَانَ الْحَالُ بِدْعَةً حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَالِ السُّنَّةِ. وَإِنْ نَوَى شَيْئًا، نُظِرَ إِنْ نَوَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ، فَذَاكَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ، لِأَنَّهُ فِي حَقِّهَا أَحْسَنُ مِنْ جِهَةِ سُوءِ خُلُقِهَا، فَإِنْ كَانَتْ فِي حَالِ بِدْعَةٍ، قُبِلَ لِأَنَّهُ غَلَّظَ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي حَالِ سُنَّةٍ، دُيِّنَ وَلَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا، وَقَدْ يَجِيءُ خِلَافٌ فِي الظَّاهِرِ. وَإِنْ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِصِفَةِ ذَمٍّ كَقَوْلِهِ: أَقْبَحَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَسْمَجَهُ، أَوْ أَفْضَحَهُ، أَوْ أَفْظَعَهُ، أَوْ أَرْدَأَهُ، أَوْ أَفْحَشَهُ، أَوْ أَنْتَنَهُ، أَوْ شَرَّ الطَّلَاقِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لِلْبِدْعَةِ، فَلَا يَقَعُ إِنْ كَانَتْ فِي حَالِ سُنَّةٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْبِدْعَةِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ قُبْحَهُ لِحُسْنِ عِشْرَتِهَا، أَوْ أَرَدْتُ أَنَّ أَقْبَحَ أَحْوَالِهَا أَنْ تَبِينَ مِنِّي، وَقَعَ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ غَلَّظَ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ طَلَاقَ مِثْلِ هَذِهِ السُّنَّةِ أَقْبَحُ، فَقَصَدْتُ الطَّلَاقَ فِي حَالِ السُّنَّةِ دُيِّنَ، وَلَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا. وَلَوْ

قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْجَرْحِ، أَوْ طَلَاقَ الْجَرْحِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ لِلْبِدْعَةِ. وَلَوْ خَاطَبَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَنْ لَا سُنَّةَ لَهَا وَلَا بِدْعَةَ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ، كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ جَمَعَ صِفَتَيِ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً حَسَنَةً قَبِيحَةً أَوْ جَمِيلَةً فَاحِشَةً، أَوْ سُنِّيَّةً بِدْعِيَّةً، أَوْ لِلْجَرْحِ وَالْعَدْلِ، وَالْمُخَاطَبَةُ ذَاتُ أَقْرَاءٍ، وَقَعَتْ فِي الْحَالِ. قَالَ السَّرَخْسِيُّ فِي «الْأَمَالِي» : فَإِنْ فَسَّرَ كُلَّ صِفَةٍ بِمَعْنًى، فَقَالَ: أَرَدْتُ كَوْنَهَا حَسَنَةً مِنْ حَيْثُ الْوَقْتِ، وَقَبِيحَةً مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِ حَتَّى تَقَعَ الثَّلَاثُ أَوْ بِالْعَكْسِ، قُبِلَ مِنْهُ. وَإِنْ تَأَخَّرَ الْوُقُوعُ، لِأَنَّ ضَرَرَ وُقُوعِ الْعَدَدِ أَكْثَرُ مِنْ فَائِدَةِ تَأْخِيرِ الْوُقُوعِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً، فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حَائِلًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَهِيَ إِمَّا غَيْرُ مَمْسُوسَةٍ، وَإِمَّا مَمْسُوسَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَمْسُوسَةٍ، نُظِرَ إِنْ كَانَتْ حَائِضًا، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: تَقَعُ طَلْقَةٌ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِالْعِدَّةِ، فَحَيْضُهَا كَطُهْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً وَبَانَتْ، فَلَا تَلْحَقُهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا قَبْلَ الطُّهْرِ الثَّانِي، فَفِي وُقُوعِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ قَوْلَا عَوْدِ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ. وَإِنْ جَدَّدَ النِّكَاحَ بَعْدَ الطُّهْرَيْنِ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْسُوسَةً، وَقَعَ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةٌ، سَوَاءٌ جَامَعَهَا فِيهِ أَمْ لَا، وَتَكُونُ الطَّلْقَةُ سُنِّيَّةً إِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، وَبِدْعِيَّةً إِنْ جَامَعَهَا، وَتَشْرَعُ فِي الْعِدَّةِ بِالطَّلْقَةِ الْأُولَى. وَهَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ لِلثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ؟ قَوْلَانِ مَذْكُورَانِ فِي الْعِدَّةِ أَظْهَرُهُمَا الْوُجُوبُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَإِنْ كَانَتْ لَا تَرَى الدَّمَ، وَقَعَتْ فِي الْحَالِ

طَلْقَةٌ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَلَوْ لَمْ تَحِضْ قَطُّ وَبَلَغَتْ بِالْحَمْلِ مَثَلًا، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ بَيْنَ دَمَيْنِ أَوِ الِانْتِقَالُ مِنْ نَقَاءٍ إِلَى دَمٍ، إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَضَعَ وَتَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقَعَ. وَإِذَا وَقَعَتِ الطَّلْقَةُ، فَإِنْ رَاجَعَهَا قَبْلَ الْوَضْعِ، وَقَعَتْ أُخْرَى إِذَا طَهُرَتْ مِنَ النِّفَاسِ، وَعَلَيْهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ أَمْ لَا، بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوَضْعِ بِأَنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا قَبْلَ تَمَامِ الْأَقْرَاءِ، عَادَ قَوْلَا عَوْدِ الْحِنْثِ. وَإِنْ كَانَتْ تَرَى الدَّمَ عَلَى الْحَمْلِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ تَرَهُ، فَتُطَلَّقُ فِي الْحَالِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا، أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ. إِنْ وَافَقَ قَوْلُهُ وَقْتَ الدَّمِ حَتَّى تَطْهُرَ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ حَيْضًا وَوَافَقَ قَوْلُهُ النَّقَاءَ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ طَلْقَةً، وَإِنْ وَافَقَ الدَّمَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَصَحَّحَهُ الْعِرَاقِيُّونَ: تُطَلَّقُ أَيْضًا، لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ كَالْقُرْءِ الْوَاحِدِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْحَنَّاطِيُّ، وَرَجَّحَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: لَا تُطَلَّقُ حَتَّى تَطْهُرَ. وَإِذَا وَقَعَتْ طَلْقَةٌ فِي الْحَيْضِ أَوِ الطُّهْرِ، فَهَلْ يَتَكَرَّرُ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ الْقُرْءَ مَا دَلَّ عَلَى الْبَرَاءَةِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ طُهْرٌ يَحْتَوِشُهُ دَمَانِ، أَمْ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ نَقَاءٍ إِلَى حَيْضٍ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، وَلَا يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِاجْتِنَابِهَا فِي الْحَالِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَالَّذِي أَطْلَقَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ، أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي وَالسَّرَخْسِيُّ: يُؤْمَرُ بِاجْتِنَابِهَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تَرَى الدَّمَ، فَإِنْ رَأَتْهُ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَوْمَ اللَّفْظِ، وَإِنْ

مَاتَتْ قَبْلَ رُؤْيَةِ الدَّمِ، مَاتَتْ عَلَى النِّكَاحِ فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ لَمْ تَحِضْ وَلَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ، فَإِنْ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَرَأَتِ الدَّمَ، عَادَ الْخِلَافُ فِي عَوْدِ الْحِنْثِ، وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، تَكَرَّرَ الطَّلَاقُ بِتَكَرُّرِ الْأَطْهَارِ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» وَجْهٌ غَرِيبٌ، أَنَّ الْأَقْرَاءَ فِي الصَّغِيرَةِ تُحْمَلُ عَلَى الْأَشْهُرِ، وَالْآيِسَةُ الَّتِي انْقَطَعَ حَيْضُهَا كَالصَّغِيرَةِ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا الْخِلَافُ. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: إِنْ قُلْنَا: الْقُرْءُ: هُوَ الِانْتِقَالُ، وَقَعَ فِي الْحَالِ وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ حَاضَتْ بَعْدُ، تَبَيَّنَّا الْوُقُوعَ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، الْوُقُوعُ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً لِلسُّنَّةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْ لِلسُّنَّةِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ وَالْأَحْوَالِ، لَكِنَّ ذَاتَ الْأَقْرَاءِ إِذَا كَانَتْ طَاهِرًا، أَوْ كَانَ جَامَعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، يَتَأَخَّرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ إِلَى أَنْ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً وَكَانَتْ حَامِلًا لَا تَرَى دَمًا، أَوْ تَرَاهُ وَلَمْ نَجْعَلْهُ حَيْضًا، وَقَعَ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ تَرَى الَّذِي فِي ذَلِكَ الْحَالِ أَمْ لَا، وَلَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الِانْقِطَاعَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا، فَإِنْ كَانَتْ فِي حَالِ رُؤْيَةِ الدَّمِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَطْهُرَ، وَإِلَّا وَقَعَ فِي الْحَالِ وَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الْأَطْهَارِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: نَوَيْتُ تَفْرِيقَهَا عَلَى الْأَقْرَاءِ لَمْ يُقْبَلْ فِي الظَّاهِرِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ بِتَحْرِيمِ جَمْعِ الثَّلَاثِ فِي قُرْءٍ، فَيُقْبَلُ فِي الظَّاهِرِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا فِي الْقَبُولِ مُطْلَقًا،

وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، هُوَ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَلَمْ يَقُلْ لِلسُّنَّةِ، ثُمَّ فَسَّرَ بِالتَّفْرِيقِ عَلَى الْأَقْرَاءِ، لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا، وَهَلْ يُدَيَّنُ فِي الصُّورَتَيْنِ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، نَعَمْ. وَمَعْنَى التَّدْيِينِ مَعَ نَفْيِ الْقَبُولِ ظَاهِرًا، أَنْ يُقَالَ لِلْمَرْأَةِ: أَنْتِ بَائِنٌ مِنْهُ بِثَلَاثٍ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ لَكِ تَمْكِينُهُ إِلَّا إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكِ صِدْقُهُ بِقَرِينَةٍ، وَيُقَالُ لِلزَّوْجِ: لَا نُمَكِّنُكَ مِنْ تَتَبُّعِهَا، وَلَكَ أَنْ تَتَبَّعَهَا، وَالطَّلَبُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، وَتَحِلُّ لَكَ إِذَا رَاجَعْتَهَا. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ حُكِمَ بِالْقَبُولِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فِيمَا إِذَا قَالَ لِصَغِيرَةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ إِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ، وَفِيمَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ، أَوْ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ. وَأَلْحَقَ الْقَفَّالُ وَالْغَزَالِيُّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ مَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ كُلَّمَا أُحْوِجَ إِلَى تَقْيِيدِ الْمَلْفُوظِ بِهِ بِقَيْدٍ زَائِدٍ. وَالصَّحِيحُ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ لَا يُدَيَّنُ فِي قَوْلِهِ: أَرَدْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُدَيَّنُ فِي قَوْلِهِ: أَرَدْتُ عَنْ وِثَاقٍ، أَوْ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ أَوْ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ. وَفَرَّقُوا بَيْنَ قَوْلِهِ: أَرَدْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَيْنَ سَائِرِ الصُّوَرِ بِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَرْفَعُ حُكْمَ الطَّلَاقِ جُمْلَةً، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اللَّفْظِ وَالتَّعْلِيقُ بِالدُّخُولِ، وَمَشِيئَةِ زَيْدٍ، لَا يَرْفَعُهُ، لَكِنْ يُخَصِّصُهُ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ. وَقَوْلُهُ: مِنْ وِثَاقٍ، تَأْوِيلٌ وَصَرْفٌ لِلَّفْظِ مِنْ مَعْنًى إِلَى مَعْنًى، فَكَيْفَ فِيهِ النِّيَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً، وَشَبَّهُوهُ بِالنَّسْخِ، لَمَّا كَانَ رَفْعًا لِلْحُكْمِ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِاللَّفْظِ، وَالتَّخْصِيصُ يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ.

وَأَمَّا إِذَا أَتَى بِلَفْظٍ عَامٍّ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بَعْضَ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي، فَهِيَ طَالِقٌ، وَعَزَلَ بَعْضَهُنَّ بِالنِّيَّةِ، لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ ابْنُ الْوَكِيلِ وَغَيْرُهُ: يُقْبَلُ ظَاهِرًا سَوَاءٌ كَانَتْ قَرِينَةٌ تَصْدُقُهُ - بِأَنْ خَاصَمَتْهُ، وَقَالَتْ: تَزَوَّجْتَ عَلَيَّ، فَقَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ غَيْرَ الْمُخَاصِمَةِ - أَمْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْقَفَّالِ وَالْمُعْتَبَرِينَ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا بِغَيْرِ قَرِينَةٍ وَيُقْبَلُ بِهَا، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، أَنَّهُ إِنْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ، ثُمَّ عَزَلَ بَعْضَهُنَّ بِالنِّيَّةِ، لَا يُقْبَلُ، وَإِنْ قَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَقَالَ: عَزَلْتُ وَاحِدَةً، قُبِلَ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ عَزَلَ اثْنَتَيْنِ، فَفِي الْقَبُولِ وَجْهَانِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْقَبُولِ ظَاهِرًا فِيمَا لَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ خُبْزًا أَوْ تَمْرًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ فَسَّرَ بِنَوْعٍ خَاصٍّ، وَطَرَدَهُمَا الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ فِيمَا إِذَا كَانَ يَحُلُّ وِثَاقًا عَنْهَا، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ الْإِطْلَاقَ عَنِ الْوِثَاقِ، وَقَالَ: الْأَصَحُّ الْقَبُولُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ التَّكْلِيمَ شَهْرًا، فَيُقْبَلُ. كَذَا حُكِيَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمُرَادُ عَلَى مَا نَقَلَ الْغَزَالِيُّ، الْقَبُولُ بَاطِنًا فَلَا تُطَلَّقُ إِذَا كَلَّمَ بَعْدَ شَهْرٍ. فَرْعٌ فِي ضَبْطِ مَا يُدَيَّنُ فِيهِ، وَمَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لِمَا يَدَّعِيهِ الشَّخْصُ مِنَ النِّيَّةِ مَعَ مَا أَطْلَقَهُ مِنَ اللَّفْظِ، أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَرْفَعَ مَا صَرَّحَ بِهِ، بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ طَلَاقًا لَا يَقَعُ عَلَيْكِ، أَوْ لَمْ أُرِدْ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ، فَلَا تُؤَثِّرُ دَعْوَاهُ ظَاهِرًا، وَلَا يُدَيَّنُ بَاطِنًا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِيهِ مُقَيِّدًا لِمَا تَلَفَّظَ بِهِ مُطْلَقًا، بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ، فَلَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا، وَفِي التَّدْيِينِ الْخِلَافُ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرْجِعَ مَا يَدَّعِيهِ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومٍ، فَيُدَيَّنُ، وَفِي الْقَبُولِ، ظَاهِرُ الْخِلَافِ. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ وَظُهُورٍ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تَقَعُ الْكِنَايَاتُ وَيُعْمَلُ فِيهَا بِالنِّيَّةِ. وَضَبَطَ الْأَصْحَابُ بِضَبْطٍ آخَرَ، فَقَالُوا: يُنْظَرُ فِي التَّفْسِيرِ بِخِلَافِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، إِنْ كَانَ لَوْ وَصَلَ بِاللَّفْظِ لَا يُنَظَّمُ، لَمْ يُقْبَلْ وَلَمْ يُدَيَّنْ، وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا وَيُدَيَّنُ. مِثَالُ الْأَوَّلِ، قَالَ: أَرَدْتُ طَلَاقًا لَا يَقَعُ. مِثَالُ الثَّانِي: أَرَدْتُ طَلَاقًا عَنْ وِثَاقٍ، أَوْ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا نِيَّةَ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالُوا: لَا يُدَيَّنُ فِيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، أَوْ قَالَ: أَرَبْعُكُنَّ طَوَالِقُ، ثُمَّ قَالَ: نَوَيْتُ بِقَلْبِي إِلَّا فُلَانَةً، لَمْ يُدَيَّنْ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ نَصَّ فِي الْعَدَدِ. وَلَوْ قَالَ: فُلَانَةٌ وَفُلَانَةٌ وَفُلَانَةٌ طَوَالِقُ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَثْنَيْتُ بِقَلْبِي فُلَانَةً، لَمْ يُدَيَّنْ قَطْعًا لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ، لَا تَخْصِيصُ عُمُومٍ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ لِمَمْسُوسَةٍ: كُلَّمَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا وَبَقِيَ آخَرُ فِي بَطْنِهَا، وَقَعَ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ طَلْقَةٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ إِذَا عُلِّقَ بِأَمْرٍ اعْتُبِرَتِ الصِّفَةُ عِنْدَ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَإِنْ وُجِدَتْ وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا حَتَّى يُوجَدَ كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ

فِي حَالِ سُنَّةٍ طُلِّقَتْ، وَإِلَّا فَلَا تُطَلَّقُ حَتَّى يَجِيءَ حَالَ السُّنَّةِ، وَكَأَنَّهُ يُخَاطِبُهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ عِنْدَ وِلَادَةِ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَامِلٌ بِآخَرَ. وَلَوْ قَالَ لِحَامِلٍ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَقَعَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ إِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَهَلْ يَقَعُ طَلْقَةٌ أُخْرَى، لِأَنَّهُ يُقَارِنُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي فِي نَظَائِرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، الْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ فِي بَطْنِهَا آخَرُ، فَإِنَّمَا تُطَلَّقُ إِذَا طَهُرَتْ مِنَ النِّفَاسِ، طَلْقَتَيْنِ لِأَنَّهَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ، وَ «كُلَّمَا» تَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ وَفِي بَطْنِهَا ثَالِثٌ، طُلِّقَتْ. وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا وَقَعَتْ أُخْرَى بِوِلَادَةِ الثَّانِي، رَاجَعَهَا أَمْ لَا هَكَذَا ذَكَرُوهُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ رَاجَعَهَا فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، وَإِلَّا فَهَذَا طَلَاقٌ يُقَارِنُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَنَكَحَهَا، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ، فَفِي وُقُوعِ أُخْرَى قَوْلَا عَوْدِ الْحِنْثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: نَكَحَ حَامِلًا مِنَ الزِّنَى، وَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَضَعَ، وَتَطْهُرَ مِنَ النِّفَاسِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ كَالْعَدَمِ وَإِلَّا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، هَذَا إِذَا كَانَتْ لَا تَرَى دَمًا أَوْ تَرَاهُ وَلَمْ نَجْعَلْهُ حَيْضًا، فَإِنْ رَأَتْهُ وَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا، فَإِنْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ فِي حَالِ رُؤْيَةِ الدَّمِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَطْهُرَ كَالْحَامِلِ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَهِيَ حَائِضٌ بِخِلَافِ الْحَامِلِ مِنَ الزَّوْجِ حَيْثُ يَقَعُ طَلَاقُهَا فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَتْ تَرَى الدَّمَ، وَجَعَلْنَاهُ أَيْضًا حَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ مِنَ الزَّوْجِ لَا سُنَّةَ وَلَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِهَا، وَهَذِهِ كَالْحَامِلِ إِذْ لَا حُرْمَةَ لِحَمْلِهَا.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ لَا تُطَلَّقُ حَتَّى تَنْتَقِلَ مِنَ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا إِلَى الْحَالَةِ الْأُخْرَى، لِأَنَّ الْيَقِينَ حِينَئِذٍ يَحْصُلُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا لَا تُطَلَّقُ حَتَّى يَجِيءَ الْغَدُ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً حَسَنَةً فِي دُخُولِ الدَّارِ أَوْ طَلْقَةً سُنِّيَّةً، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنْ تُطَلَّقَ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ طَلْقَةً سُنِّيَّةً حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تُطَلَّقْ مَا لَمْ تَطْهُرْ. وَلَوْ كَانَتْ طَاهِرًا لَمْ يُجَامِعْهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ جَامَعَهَا فِيهِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: قَالَ لَهَا وَهِيَ طَاهِرٌ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ: جَامَعْتُكِ فِي هَذَا الطُّهْرِ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ فِي الْحَالِ، وَقَالَتْ: لَمْ تُجَامِعْنِي وَقَدْ وَقَعَ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ الْمُؤْلِي وَالْعِنِّينُ: وَطِئْتُ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَالثَّلْجِ، أَوْ كَالنَّارِ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَلَغَا التَّشْبِيهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ قَصَدَ التَّشْبِيهَ بِالثَّلْجِ فِي الْبَيَاضِ، وَالنَّارِ بِالْإِضَاءَةِ، طُلِّقَتْ سُنِّيًّا، وَإِنْ قَصَدَ التَّشْبِيهَ بِالثَّلْجِ فِي الْبُرُودَةِ، وَبِالنَّارِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْإِحْرَاقِ، طُلِّقَتْ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَرْكَانِ الطَّلَاقِ هِيَ خَمْسَةٌ: [الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ: الْمُطَلِّقُ، وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ، فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ،

لَا تَنْجِيزًا وَلَا تَعْلِيقًا. فَلَوْ قَالَ مُرَاهِقٌ: إِذَا بَلَغْتُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَبَلَغَ، أَوْ قَالَ مَجْنُونٌ: إِذَا أَفَقْتُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ أَفَاقَ، أَوْ قَالَا: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا فَبَلَغَ وَأَفَاقَ قَبْلَ الْغَدِ فَلَا طَلَاقَ. قُلْتُ: هَكَذَا اقْتَصَرَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ فِي شَرْطِ الْمُطَلِّقِ عَلَى كَوْنِهِ مُكَلَّفًا، وَقَدْ يُورَدُ عَلَيْهِ السَّكْرَانُ، فَإِنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَيْسَ مُكَلَّفًا كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ مُرَادَ أَهْلِ الْأُصُولِ، أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ حَالَ السُّكَّرِ، وَمُرَادُنَا هُنَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الثَّانِي: اللَّفْظُ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ: أَحَدُهَا فِي اللَّفْظِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَالثَّانِي، فِي الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ مَقَامَهُ. وَالثَّالِثُ فِي تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّوْجَةِ وَأَحْكَامِ تَفْوِيضِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ، فَاللَّفْظُ: صَرِيحٌ وَهُوَ مَا لَا يَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ عَلَى نِيَّةٍ، وَكِنَايَةٌ وَهُوَ مَا تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّةٍ، أَمَّا الصَّرِيحُ، فَلَفْظُ الطَّلَاقِ وَالسَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ، أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَزَّازَ نَقَلَ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّ السَّرَاحَ وَالْفِرَاقَ كِنَايَتَانِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، فَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مُطَلَّقَةٌ، أَوْ يَا طَالِقُ أَوْ يَا مُطَلَّقَةُ، صَرِيحٌ. وَقِيلَ: يَا مُطَلَّقَةُ وَأَنْتِ مُطَلَّقَةٌ كِنَايَةٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْمُشْتَقُّ مِنَ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِإِسْكَانِ الطَّاءِ أَوْ يَا مُطْلَقَةُ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ عَلَى الصَّحِيحِ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّطْلِيقُ مُتَقَارِبَيْنِ. وَفِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَلَاقٌ، أَوِ الطَّلَاقُ، أَوْ طَلْقَةٌ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كِنَايَةٌ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ نِصْفُ طَلْقَةٍ، فَكِنَايَةٌ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ كُلُّ طَلْقَةٍ أَوْ نِصْفُ طَالِقٍ، فَصَرِيحٌ، كَقَوْلِهِ: نِصْفُكِ طَالِقٌ. وَنَقَلَ الْعَبَّادِيُّ خِلَافًا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ نِصْفُ طَلْقَةٍ، وَيَجُوزُ أَنَّ يَجِيءَ هَذَا الْخِلَافُ

فِي قَوْلِهِ نِصْفُ طَالِقٍ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ وَالطَّلَاقُ أَوْ أَنْتِ وَطَلْقَةٌ، فَكِنَايَةٌ، أَيْ: قَرَنْتُ بَيْنَكِ وَبَيْنَهَا. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ فِي لَفْظَيِ السَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ، فَقَوْلُهُ: فَارَقْتُكِ وَسَرَّحْتُكِ صَرِيحَانِ، وَفِي الِاسْمِ مِنْهُمَا وَهُوَ مُفَارَقَةٌ وَمُسَرَّحَةٌ وَجْهَانِ، سَوَاءٌ الْوَصْفُ، كَقَوْلِهِ أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ أَوْ مُفَارَقَةٌ، وَالنِّدَاءُ كَقَوْلِهِ: يَا مُسَرَّحَةُ أَوْ يَا مُفَارَقَةُ، أَصَحُّهُمَا صَرِيحَانِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: أَنْتِ السَّرَاحُ، أَوْ أَنْتِ الْفِرَاقُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي: أَنْتِ الطَّلَاقُ. فَرْعٌ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: طَالِقٌ، إِطْلَاقَهَا مِنَ الْوِثَاقِ، وَبِالْفِرَاقِ الْمُفَارَقَةَ فِي الْمَنْزِلِ، وَبِالسَّرَاحِ إِلَى مَنْزِلِ أَهْلِهَا، أَوْ قَالَ: أَرَدْتُ خِطَابَ غَيْرِهَا فَسَبَقَ لِسَانِي إِلَيْهَا، دُيِّنَ وَلَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا، فَلَوْ صَرَّحَ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وِثَاقٍ، أَوْ سَرَّحْتُكِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ فَارَقْتُكِ فِي الْمَنْزِلِ، خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ صَرِيحًا وَصَارَ كِنَايَةً. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِذَا كَانَ عَلَى عَزْمِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِهِ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَصَلَ بِهِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ فِي الْبَاطِنِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَازِمًا عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَوَّلًا ثُمَّ نَوَاهَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، فَوَجْهَانِ سَيَأْتِي نَظِيرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ التَّدْيِينُ إِذَا لَمْ يَتَلَفَّظُ بِالزِّيَادَةِ، وَقَالَ: نَوَيْتُهَا، إِنَّمَا يُدَيَّنُ إِذَا كَانَ نَاوِيًا مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، فَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكَلَامِ، فَلَا، وَإِنْ حَدَثَتْ فِي أَثْنَائِهِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. فَرْعٌ قَوْلُهُ: أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ طَلَاقِي، صَرِيحٌ ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ. وَلَوْ قَالَ: لَكِ طَلْقَةٌ، أَوْ وَضَعْتُ عَلَيْكِ طَلْقَةً، فَوَجْهَانِ.

فَرْعٌ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةٌ: الطَّلَاقُ، وَالسَّرَاحُ، وَالْفِرَاقُ، وَأَهْمَلُوا ذِكْرَ شَيْئَيْنِ هُنَا أَحَدُهُمَا: لَفْظُ الْخُلْعِ، وَفِي كَوْنِهِ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ خِلَافٌ سَبَقَ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ الْحَلَّالُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَفِي كَوْنِهِ صَرِيحًا خِلَافٌ نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا. فَرْعٌ تَرْجَمَةُ لَفْظِ الطَّلَاقِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَسَائِرِ اللُّغَاتِ، صَرِيحٌ عَلَى الْمَذْهَبِ لِشُهْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي مَعْنَاهَا عِنْدَ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَاتِ، كَشُهْرَةِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَقِيلَ: وَجْهَانِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهَا كِنَايَةٌ، وَتَرْجَمَةُ السَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ فِيهَا الْخِلَافُ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا أَنَّهَا كِنَايَةٌ، قَالَهُ الْإِمَامُ وَالرُّويَانِيُّ، لِأَنَّ تَرْجَمَتَهُمَا بَعِيدَةٌ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ. فَرْعٌ إِذَا اشْتُهِرَ فِي الطَّلَاقِ لَفْظٌ سِوَى الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ الصَّرِيحَةِ، كَحَلَّالِ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوِ الْحَلَالُ أَوِ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَفِي الْتِحَاقِهِ بِالصَّرِيحِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: نَعَمْ لِحُصُولِ التَّفَاهُمِ، وَغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَعَلَيْهِ تَنْطَبِقُ فَتَاوَى الْقَفَّالِ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَالثَّانِي: لَا، وَرَجَّحَهُ الْمُتَوَلِّي. وَالثَّالِثُ، حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّهُ إِنْ نَوَى شَيْئًا آخَرَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا طَلَاقَ. وَإِذَا ادَّعَاهُ، صُدِّقَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ فَقِيهًا يَعْلَمُ أَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تَعْمَلُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا سَأَلْنَاهُ عَمَّا يَفْهَمُ إِذَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ قَالَ: يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِي مِنْهُ الطَّلَاقُ، حُمِلَ عَلَى مَا يَفْهَمُ،

فصل

وَالَّذِي حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي عَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّهُ إِنْ نَوَى غَيْرَ الزَّوْجَةِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْعُرْفِ. قُلْتُ: الْأَرْحَجُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْمُتَقَدِّمُونَ، أَنَّهُ كِنَايَةٌ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي لَا يُشْتَهَرُ فِيهَا هَذَا اللَّفْظُ لِلطَّلَاقِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ فِي حَقِّ أَهْلِهَا بِلَا خِلَافٍ. وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَقَالَ: حَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَدَخَلَ، تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةً، وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» أَنَّهُ لَوْ قَالَ: حَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِعْضَهُنَّ، لَكِنْ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَهُ امْرَأَتَانِ فَفَعَلَ، طُلِّقَتْ إِحْدَاهُمَا، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَيُؤْمَرُ بِالتَّعْيِينِ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ فَحَصَلَ تَرَدُّدٌ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ، أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْوِهِمَا، لَا تُطَلَّقُ إِلَّا إِحْدَاهُمَا، أَوْ إِحْدَاهُنَّ، لِأَنَّ الِاسْمَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا إِذَا نَوَى بِ: حَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ الطَّلَاقَ، وَجَعَلْنَاهُ صَرِيحًا فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْكِنَايَةُ، فَيَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ مَعَ النِّيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَقَعُ بِلَا نِيَّةٍ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ، وَبَتَّةٌ وَبَتْلَةٌ، وَبَائِنٌ وَحَرَامٌ، وَحُرَّةٌ، وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ، وَاعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَلَا أَنْدَهُ سِرْبَكِ، أَيْ: لَا أَزْجُرُ إِبِلَكِ، وَمَعْنَاهُ: لَا أَهْتَمُّ بِشَأْنِكِ، وَاغْرُبِي وَاعْزُبِي، وَاخْرُجِي وَاذْهَبِي، وَسَافِرِي وَتَجَنَّبِي، وَتَجَرَّدِي وَتَقَنَّعِي، وَتَسَتَّرِي، وَالْزَمِي الطَّرِيقَ، وَبِينِي

وَأَبْعِدِي وَوَدِّعِينِي وَدَعِينِي، وَبَرِئْتُ مِنْكِ، وَلَا حَاجَةَ لِي فِيكِ، وَأَنْتِ وَشَأْنُكِ، وَأَنْتِ مُطْلَقَةٌ وَمُنْطَلِقَةٌ، وَتَجَرَّعِي وَذُوقِي، وَتَزَوَّدِي وَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: اشْرَبِي، وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ، كِنَايَةٌ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ كِنَايَةً، بَلْ هُوَ لَغْوٌ، وَكُلِي، كَاشْرَبِي كِنَايَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: لَيْسَ كِنَايَةً قَطْعًا. وَفِي قَوْلِهِ: أَغْنَاكِ اللَّهُ، وَقَوْلِهِ: قُومِي، وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَيْسَ كِنَايَةً. وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ مُتَعَسِّفٍ، فَلَا أَثَرَ لَهَا، فَلَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَى، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ، وَأَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَكِ، وَمَا أَحْسَنَ وَجْهَكِ، وَتَعَالِي وَاقْرُبِي وَاغْزِلِي وَاسْقِينِي، وَأَطْعِمِينِي وَزَوِّدِينِي، وَاقْعُدِي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَحُكِيَ وَجْهٌ فِي: اقْعُدِي وَأَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَكِ، وَزَوِّدِينِي وَنَحْوِهَا، أَنَّهَا كِنَايَةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ مُعْتَقَةٌ، أَوْ أَعْتَقْتُكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ، طُلِّقَتْ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: طَلَّقْتُكَ وَنَوَى الْعِتْقَ، عَتَقَ. وَلِلْمُنَاسِبَةِ وَالْمُشَارِكَةِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ يَصْلُحُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كِنَايَةً فِي الْآخَرِ، وَكَمَا أَنَّ صَرِيحَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كِنَايَةٌ فِي الْآخَرِ، فَكِنَايَاتُهَا مُشْتَرَكَةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا بِالنِّيَّةِ، لَكِنْ لَوْ قَالَ لِلْعَبْدِ: اعْتَدَّ أَوِ اسْتَبْرِئْ رَحِمَكَ وَنَوَى الْعِتْقَ، لَمْ يَنْفُذْ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَمَتِهِ وَنَوَى الْعِتْقَ، أَوْ لِزَوْجَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَنَوَى الطَّلَاقَ، نَفَذَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالظِّهَارُ وَالطَّلَاقُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا كِنَايَةً فِي الْآخَرِ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى الْعِتْقَ عَتَقَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لَا لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ.

فصل

فَصْلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ حُرَّمْتُكِ، بِأَنْ نَوَى الطَّلَاقَ، نَفَذَ رَجْعِيًّا، فَإِنْ نَوَى عَدَدًا وَقَعَ مَا نَوَى. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ صَرِيحٌ فِي اقْتِضَاءِ الْكَفَّارَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا وَهَذَا وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا، فَفِيهِ وَفَاءٌ بِالْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ: أَنَّ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ إِذَا وَجَدَ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ، لَا يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ، فَهُوَ ظِهَارٌ، وَإِنْ نَوَاهُمَا مَعًا، فَهَلْ يَكُونُ ظِهَارًا أَمْ طَلَاقًا أَمْ تَخَيَّرَ؟ فَمَا اخْتَارَهُ مِنْهُمَا، ثَبَتَ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا الثَّالِثُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَلَا يَنْعَقِدُ الِاثْنَانِ مَعًا قَطْعًا. وَلَوْ نَوَى أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: إِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ ثُمَّ أَرَادَ الطَّلَاقَ، صَحَّا جَمِيعًا، وَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ أَوَّلًا، فَإِذَا كَانَ بَائِنًا، فَلَا مَعْنَى لِلظِّهَارِ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا كَانَ الظِّهَارُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ رَاجَعَهَا، فَهُوَ صَحِيحٌ وَالرَّجْعَةُ عَوْدٌ وَإِلَّا فَهُوَ لَغْوٌ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا التَّفْصِيلُ فَاسِدٌ عِنْدِي، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّصَرُّفَانِ لَمْ يَخْتَلِفِ الْحُكْمُ بِإِرَادَتِهِمَا مَعًا، أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا أَوْ فَرْجِهَا أَوْ وَطْئِهَا، لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَمَتِهِ. وَفِي وَقْتِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ إِلَّا عِنْدَ الْوَطْءِ، وَيَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مَعَ نِيَّةِ التَّحْرِيمِ، كَالْيَمِينِ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مُؤْلِيًا بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَطَؤُكِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي الْحَالِ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ، وَهِيَ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَلَيْسَتْ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَرَدْتُ الْحَلِفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الصَّحِيحِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ

وَيَنْعَقِدُ يَمِينًا، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَصِيرُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ يَمِينًا بِالنِّيَّةِ فِي غَيْرِ الزَّوْجَاتِ وَالْإِمَاءِ كَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِمَا، أَمْ يَخْتَصُّ بِالْأَبْضَاعِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا يَخْتَصُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ أَطْلَقَ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَقَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، صَرِيحٌ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ، وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهَذَا اللَّفْظُ كِنَايَةٌ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ مُسْتَمِرٌّ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فِي بِلَادٍ لَمْ يُشْتَهَرْ فِيهَا لَفْظُ الْحَرَامِ فِي الطَّلَاقِ، وَفِيمَنْ قَالَهُ فِي بِلَادٍ اشْتُهِرَ فِيهَا لِلطَّلَاقِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الشُّيُوعَ وَالِاشْتِهَارَ لَا يَجْعَلُهُ صَرِيحًا، فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ صَرِيحًا فَمُقْتَضَى مَا فِي «التَّهْذِيبِ» ، أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لِلطَّلَاقِ وَلَا تَفْصِيلَ، وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صَرْفُ النِّيَّةِ إِلَى التَّحْرِيمِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ، كَمَا أَنَّا وَإِنْ جَعَلْنَاهُ صَرِيحًا فِي الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَجُوزُ صَرْفُهُ بِالنِّيَّةِ إِلَى الطَّلَاقِ قَالَ: وَإِذَا أَطْلَقَ وَجَعَلْنَاهُ صَرِيحًا فِي الْكَفَّارَةِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الصَّرَائِحَ تُؤْخَذُ مِنَ الشُّيُوعِ فَقَطْ، أَمْ مِنْهُ وَمِنْ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ؟ إِنْ قُلْنَا [بِالْأَوَّلِ حُمِلَ عَلَى الْغَالِبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَإِنْ قُلْنَا] بِالثَّانِي فَهَلْ يَثْبُتُ الطَّلَاقُ لِقُوَّتِهِ، أَمْ يَتَدَافَعَانِ؟ فِيهِ رَأْيَانِ. فَرْعٌ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي «الْوَسِيطِ» : إِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ كَانَ يَمِينًا، هَذَا غَلَطٌ، بَلِ الصَّوَابُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، لَكِنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. فَرْعٌ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَرَّمْتُكِ، فَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ عَتَقَتْ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا، فَهُوَ لَغْوٌ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَعِنْدِي أَنَّ نِيَّةَ الظِّهَارِ كَنِيَّةِ التَّحْرِيمِ.

وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا، لَمْ تَحْرُمْ وَيَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَمَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ وَنَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهُ صَدَقَ فِي وَصْفِهَا، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِوَصْفِهِ الْحَلَالَ بِالْحُرْمَةِ. وَلَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ مُعْتَدَّةً، أَوْ مُرْتَدَّةً، أَوْ مَجُوسِيَّةً، أَوْ مُزَوَّجَةً، أَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُحَرَّمَةً، أَوْ مُعْتَدَّةً عَنْ شُبْهَةٍ، فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لِاسْتِبَاحَةٍ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ صَائِمَةً، وَجَبَتْ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهَا عَوَارِضُ. وَلَوْ خَاطَبَ بِهِ الرَّجْعِيَّةَ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَنَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ فِيهِ خِلَافًا. فَرْعٌ قَالَ: هَذَا الثَّوْبُ، أَوِ الْعَبْدُ، أَوِ الطَّعَامُ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَهُوَ لَغْوٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ وَلَا غَيْرُهَا. فَرْعٌ قَالَ: كُلُّ مَا أَمْلِكُهُ حَرَامٌ عَلَيَّ وَلَهُ زَوْجَاتٌ وَإِمَاءٌ، وَنَوَى تَحْرِيمَهُنَّ، أَوْ أَطْلَقَ وَجَعَلْنَاهُ صَرِيحًا، أَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ أَنْتُنَّ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَهَلْ تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ، أَمْ تَكْفِي كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ؟ فِيهِ خِلَافٌ، الْمَذْهَبُ الِاكْتِفَاءُ فِي الْجَمِيعِ، وَقِيلَ: تَتَعَدَّدُ بِالْأَشْخَاصِ، وَقِيلَ: لِلزَّوْجَاتِ كَفَّارَةٌ وَالْإِمَاءِ أُخْرَى، وَقِيلَ: وَلِلْمَالِ أُخْرَى حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ. قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى التَّحْرِيمَ، أَوْ جَعَلْنَاهُ صَرِيحًا فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ، أَوْ قَالَهُ فِي مَجَالِسَ وَنَوَى التَّأْكِيدَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ قَالَهُ فِي مَجَالِسَ وَنَوَى الِاسْتِئْنَافَ، تَعَدَّدَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَقِيلَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَقَطْ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَوْلَانِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ حَرَامٌ وَلَمْ يَقُلْ: عَلَيَّ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَالْخَمْرِ، أَوِ الْخِنْزِيرِ وَقَالَ: أَرَدْتُ الطَّلَاقَ، أَوِ الظِّهَارَ نَفَذَ، وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّهُ كَالْحَرَامِ فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ. وَعَلَى هَذَا جَرَى الْإِمَامُ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: الْخِلَافُ هُنَا مُرَتَّبٌ عَلَى لَفْظِ الْحَرَامِ، وَهُنَا أَوْلَى بِأَنْ لَا يَكُونَ صَرِيحًا، وَحَكَى قَوْلًا شَاذًّا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَلَوْ قَالَ أَرَدْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ صَرِيحًا، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْكِنَايَةِ كِنَايَةٌ، وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ، وَلَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ هَذَا التَّصْوِيرُ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا كَالْمَيْتَةِ فِي الِاسْتِقْذَارِ، صُدِّقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: إِنَّمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيَّ إِذَا نَوَى حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ، وَقَصَدَ إِيقَاعَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْوِ كَذَلِكَ، فَلَا يَقَعُ وَإِنِ اعْتَقَدَ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مُوقِعًا، وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ طَلَاقُهُ. فَرْعٌ قَالَ: مَتَى قُلْتُ لِامْرَأَتِي: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنِّي أُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ ثُمَّ قَالَ لَهَا بَعْدَ مُدَّةٍ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ، أَمْ يَكُونُ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ بِهِ؟ وَجْهَانِ خَرَّجَهُمَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ: تَكَرَّرَ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ، أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ صَرِيحٌ فِي الْكَفَّارَةِ، أَمْ كِنَايَةٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ مَعْنَى اللَّفْظَةِ حَتَّى يُقَالَ: صَرِيحٌ فِيهِ، أَمْ كِنَايَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ رَتَّبَهُ الشَّرْعُ عَلَى التَّلَفُّظِ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةِ التَّحْرِيمِ أَمْ لَا؟ فَتَوَسَّعُوا بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ. فَصْلٌ الْكِنَايَةُ لَا تَعْمَلُ بِنَفْسِهَا، بَلْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَتَقْتَرِنُ النِّيَّةُ بِاللَّفْظِ فَلَوْ تَقَدَّمَتْ، ثُمَّ تَلَفَّظَ بِلَا نِيَّةٍ، أَوْ فَرَغَ مِنَ اللَّفْظِ ثُمَّ نَوَى، لَمْ تُطَلَّقْ، فَلَوِ اقْتَرَنَتْ بِأَوَّلِ اللَّفْظِ دُونَ آخِرِهِ، أَوْ عَكْسُهُ، طُلِّقَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا تَلْتَحِقُ الْكِنَايَةُ بِالصَّرِيحِ بِسُؤَالِ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ، وَلَا بِقَرِينَةِ الْغَضَبِ وَاللِّجَاجِ، وَمَتَى تَلَفَّظَ بِكِنَايَةٍ، وَقَالَ: مَا نَوَيْتُ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ، وَحُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَرُبَّمَا اعْتَمَدَتْ قَرَائِنُ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِمِثْلِهَا. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ فِي «الزِّيَادَاتِ» لِأَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُكِ طَلَاقَكِ، فَقَالَتْ: اشْتَرَيْتُ وَلَمْ يَذْكُرَا عِوَضًا، لَا يَحْصُلُ فُرْقَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ نِيَّةٌ، وَقِيلَ: تَقَعُ طَلْقَةٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَمْ يَبْقَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ شَيْءٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَفِي هَذَا تَوَقُّفٌ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَفْظٌ صَالِحٌ وَمَعَهُ نِيَّةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بَرِئْتُ مِنْ نِكَاحِكِ وَنَوَى، طُلِّقَتْ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بَرِئْتُ مِنْ طَلَاقِكِ وَنَوَى، لَمْ تُطَلَّقْ، وَلَوْ قَالَ: بَرِئْتُ إِلَيْكِ مِنْ طَلَاقِكِ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ

الْبُوشَنْجِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ: تَبَرَّأْتُ مِنْكِ بِوَسَاطَةِ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْكِ. وَلَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكِ، أَوْ عَفَوْتُ عَنْكِ، فَكِنَايَةٌ، لِإِشْعَارِهِ بِالْإِسْقَاطِ، وَلَهُ عَلَيْهَا حُقُوقُ النِّكَاحِ، وَتَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: طَلَّقَكِ اللَّهُ، أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَعْتَقَكِ اللَّهُ، طُلِّقْتِ وَعَتَقْتِ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا صَرِيحَانِ، وَرَأَى الْبُوشَنْجِيُّ أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ لِاحْتِمَالِهِ الْإِنْشَاءَ وَالدُّعَاءَ. وَقَوْلُ مُسْتَحِقِّ الدَّيْنِ لِلْغَرِيمِ: أَبْرَأَكَ اللَّهُ، كَقَوْلِ الزَّوْجِ: طَلَّقَكِ اللَّهُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِ وَتَرَكَ الْقَافَ، طُلِّقَتْ حَمْلًا عَلَى التَّرْخِيمِ. قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ وَإِنْ نَوَى، فَإِنْ قَالَ: يَا طَالِ، وَنَوَى، وَقَعَ، لِأَنَّ التَّرْخِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النِّدَاءِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ النِّدَاءِ، فَلَا يَقَعُ إِلَّا نَادِرًا فِي الشِّعْرِ، وَأَنَّهُ إِذَا قَالَ: الطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي، أَوْ وَاجِبٌ عَلَيَّ، طُلِّقَتْ لِلْعُرْفِ. وَلَوْ قَالَ: فَرْضٌ عَلَيَّ، لَمْ تُطَلَّقْ لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِيهِ. وَرَأَى الْبُوشَنْجِيُّ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كِنَايَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: طَلَاقُكِ عَلَيَّ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَنَوَى، وَقَعَ، فَوَصَفَهُ بِوَاجِبٍ أَوْ فَرْضٍ يَزِيدُهُ تَأْكِيدًا. وَحَكَى صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» الْخِلَافَ فَقَالَ: لَوْ قَالَ طَلَاقُكِ لَازِمٌ لِي، فَوَجْهَانِ. قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: هُوَ صَرِيحٌ. وَلَوْ قَالَ: لَسْتِ بِزَوْجَةٍ لِي، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ. وَقِيلَ: لَغْوٌ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ أَبَوَيَّ وَنَوَى الطَّلَاقَ، إِنْ نَوَاهُ بِقَوْلِهِ: اذْهَبِي، وَقَعَ، وَإِنْ نَوَاهُ بِمَجْمُوعِ اللَّفْظَيْنِ، لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى بَيْتِ أَبَوَيَّ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، بَلْ هُوَ لِاسْتِدْرَاكِ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: اذْهَبِي. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقَانِ أَوْ طَوَالِقُ، لَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلْقَةٌ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ إِلَّا عَمْرَةَ، وَلَا امْرَأَةَ لَهُ سِوَاهَا، طُلِّقَتْ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُسْتَغْرِقٌ فَبَطَلَ. وَلَوْ قَالَ: النِّسَاءُ طَوَالِقُ إِلَّا عَمْرَةَ، وَلَا زَوْجَةَ لَهُ سِوَاهَا، لَمْ تُطَلَّقْ. وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ فِي نِسْوَةٍ، فَقَالَ: طَلَّقْتُ هَؤُلَاءِ إِلَّا هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى زَوْجَتِهِ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ

لِامْرَأَتِهِ يَا بِنْتِي، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ احْتِمَالِ السِّنِّ، كَمَا لَوْ قَالَهُ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَادَةِ لِلْمُلَاطَفَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ تُنْسَبُ إِلَى زَوْجِ أُمِّهَا، فَقَالَ: بِنْتُ فُلَانٍ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ حَقِيقَةً، وَلِغَيْرِهِ فِي هَذَا احْتِمَالٌ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ نَوَاهَا طُلِّقَتْ، وَلَا يَضُرُّ الْغَلَطُ فِي نَسَبِهَا، كَنَظِيرِهِ فِي النِّكَاحِ وَإِلَّا فَلَا، وَمُرَادُ الْقَفَّالِ بِقَوْلِهِ: لَمْ تُطَلَّقْ، أَيْ: فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْبَاطِنُ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ كَمَا ذَكَرْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ طَوَالِقُ، لَمْ تُطَلَّقِ امْرَأَتُهُ. وَعَنْ غَيْرِهِ: أَنَّهَا تُطَلَّقُ، وَبُنِيَ الْخِلَافُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ؟ قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْأُصُولِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ، وَكَذَا هُنَا: الْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بَانَتْ مِنِّي امْرَأَتِي، أَوْ حَرُمَتْ عَلَيَّ، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مُدَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثَلَاثًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِالْبَائِنِ الطَّلَاقَ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَى الثَّلَاثِ لِمُصَادَفَتِهَا الْبَيْنُونَةَ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِطَلَاقِكِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُحْلَفُ بِهِ.

وَأَنَّهُ لَوْ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ: طَلِّقْنِي، فَقَالَ: طَلَّقْتُ فَاطِمَةَ، ثُمَّ قَالَ: نَوَيْتُ فَاطِمَةَ أُخْرَى، طُلِّقَتْ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِدَلَالَةِ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: طُلِّقَتْ فَاطِمَةُ، ثُمَّ قَالَ: نَوَيْتُ أُخْرَى. وَقَدْ يُشْكِلُ هَذَا بِمَا سَبَقَ، أَنَّ السُّؤَالَ لَا يُلْحِقُ الْكِنَايَةَ بِالصَّرِيحِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ نَوَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلْمَرْأَةِ ذِكْرٌ وَلَا دَلَالَةٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: امْرَأَتِي وَنَوَى الطَّلَاقَ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَلِيِّ امْرَأَتِهِ: زَوِّجْهَا، كَانَ إِقْرَارًا بِالْفِرَاقِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: انْكَحِي، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا، لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ أَنْ تَنْكِحَ، وَلَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) . قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ إِذَا خَاطَبَهَا بِهِ، بِخِلَافِ الْوَلِيِّ، لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا نُقِلَ مِنْ مُعَلَّقَاتِ الْقَاضِي شُرَيْحٍ الرُّويَانِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ، مَا حَكَاهُ عَنْ جَدِّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَحْلَلْتُكِ وَنَوَى طَلَاقَهَا، هَلْ هُوَ كِنَايَةٌ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ وَطَالِقٌ، يُرْجَعُ إِلَى نِيَّتِهِ فِي «بَائِنٍ» ، وَلَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ: «وَطَالِقٌ» تَفْسِيرًا لَهُ. وَأَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ كِنَايَةً، كَقَوْلِهِ: اعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي، وَنَوَى الطَّلَاقَ، فَإِنْ نَوَى التَّأْكِيدَ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ، فَثَلَاثٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، فَقَوْلَانِ. وَلَوْ كَانَتِ الْأَلْفَاظُ مُخْتَلِفَةً، وَنَوَى بِهَا الطَّلَاقَ، وَقَعَ بِكُلِّ لَفْظَةٍ طَلْقَةٌ. وَإِنَّ الْقَفَّالَ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: طُلِّقَتْ، وَنَوَى امْرَأَتَهُ، لَمْ تُطَلَّقْ لِعَدَمِ الْإِشَارَةِ وَالِاسْمِ.

وَلَوْ قِيلَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِهَذِهِ الزَّوْجَةِ؟ طَلِّقْهَا، فَقَالَ: طَلَّقْتُ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى السُّؤَالِ وَالتَّفْوِيضِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ بِطَلْقَةٍ، وَنَوَى، لَمْ تُطَلَّقْ. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ، إِحْدَاهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَالْأُخْرَى فَاطِمَةُ بِنْتُ رَجُلٍ سَمَّاهُ أَبَوَاهُ أَيْضًا مُحَمَّدًا، إِلَّا أَنَّهُ اشْتُهِرَ فِي النَّاسِ بِزَيْدٍ، وَبِهِ يَدْعُونَهُ، فَقَالَ الزَّوْجُ: زَوْجَتِي فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ طَالِقٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِنْتَ الَّذِي يَدْعُونَهُ زَيْدًا، قَالَ جَدِّي: يُقْبَلُ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِتَسْمِيَةِ أَبَوَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلرَّجُلِ اسْمَانِ، وَأَكْثَرُ، وَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ بِالِاسْمِ الْمَشْهُورِ فِي النَّاسِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتِي هَذِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ لَا تَحِلُّ لِي أَبَدًا، قَالَ جَدِّي: لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ يُظَنُّ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ بِالْيَمِينِ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ، وَقِيلَ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْبَيْنُونَةِ لِمُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ، وَأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ زَيْدٌ: يَا زَيْدُ، فَقَالَ: امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ، قَالَ جَدِّي: تُطَلَّقُ امْرَأَتُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا تُطَلَّقُ حَتَّى يُرِيدَ نَفْسَهُ لِجَوَازِ إِرَادَةِ زَيْدٍ آخَرَ. وَلْيَجِئْ هَذَا الْوَجْهُ، فِيمَا إِذَا قَالَ: فَاطِمَةُ طَالِقٌ وَاسْمُ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَصَحَّ لِيَكُونَ قَاصِدًا تَطْلِيقَ زَوْجَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: طُلِّقَتِ امْرَأَتُكَ، فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا تَقُولُهُ، فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إِقْرَارًا بِالطَّلَاقِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا جَدِّي، أَصَحُّهُمَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَعْلَمَ، وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْعِلْمُ، وَأَنَّهَا لَوِ ادَّعَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَأَنْكَرَ، ثُمَّ قَالَ لِفَقِيهٍ: اكْتُبْ لَهَا ثَلَاثًا، قَالَ جَدِّي: يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ كِنَايَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتِي الَّتِي فِي هَذِهِ الدَّارِ طَالِقٌ، وَلَمْ تَكُنِ امْرَأَتُهُ فِيهَا، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: رَدَدْتُ عَلَيْكِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ، وَنَوَى، وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَعَنَى نَفْسَهُ، قَالَ جَدِّي: يُحْتَمَلُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ عَدَمُهُ.

قُلْتُ: الْوُقُوعُ أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِابْنِهِ: قُلْ لِأُمِّكَ أَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ جَدِّي: إِنْ أَرَادَ التَّوْكِيلَ، فَإِذَا قَالَهُ لَهَا الِابْنُ، طُلِّقَتْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ وَيَكُونُ الِابْنُ مُخْبِرًا لَهَا بِالْحَالِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ فِي السِّكَّةِ طَالِقٌ، وَزَوْجَتُهُ فِي السِّكَّةِ، طُلِّقَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ فِي طَلَاقِهَا، فَقَالَ الْوَكِيلُ: طُلِّقَتْ مَنْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِلَفْظِي، هَلْ تُطَلَّقُ الَّتِي وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِهَا؟ أَوْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يَنْوِ عِنْدَ الطَّلَاقِ أَنْ يُطَلِّقَ لِمُوَكِّلِهِ، فَفِي الْوُقُوعِ وَجْهَانِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ، أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: فَعَلْتَ كَذَا، فَأَنْكَرَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَامْرَأَتُكَ طَالِقٌ، قَالَ نَعَمْ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعْهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فِيمَنْ قِيلَ لَهُ: طَلَّقْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْإِمَامِ إِسْمَاعِيلَ الْبُوشَنْجِيِّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ، أَوْ لِأَبِيكِ أَوْ لِلْأَزْوَاجِ أَوْ لِلْأَجَانِبِ، وَنَوَى الطَّلَاقَ، طُلِّقَتْ، كَقَوْلِهِ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ كَذَا وَنَوَى الطَّلَاقَ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَكَذَا لَوْ عَلَّقَ بِصِفَةٍ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ أَدْخُلِ الدَّارَ، فَأَنْتِ كَذَا، وَنَوَى، لَمْ تُطَلَّقْ لِأَنَّهُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْفُرْقَةِ، فَأَشْبَهَ إِذَا قَالَ: إِنْ لَمْ أَدْخُلِ الدَّارَ فَأَنْتِ كَمَا أُضْمِرُ، وَنَوَى الطَّلَاقَ، فَإِنَّهَا لَا تُطَلَّقُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَرْبَعُ طُرُقٍ عَلَيْكِ مَفْتُوحَةٌ، فَخُذِي أَيَّهَا شِئْتِ، أَوْ لَمْ يَقُلْ: خُذِي أَيَّهَا شِئْتِ، أَوْ قَالَ: فَتَحْتُ عَلَيْكِ طَرِيقَكِ، فَكِنَايَةٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ: إِذَا لَمْ يَقُلْ: خُذِي أَيَّهَا شِئْتِ، فَلَيْسَ كِنَايَةً، وَوَافَقَ فِي قَوْلِهِ: فَتَحْتُ عَلَيْكِ طَرِيقَكِ

أَنَّهُ كِنَايَةٌ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: خُذِي طَلَاقَكِ، فَقَالَتْ: أَخَذْتُ، لَمْ تُطَلَّقْ مَا لَمْ تُوجَدْ نِيَّةُ الْإِيقَاعِ مِنَ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ: خُذِي أَوْ مِنَ الْمَرْأَةِ إِنْ حَمَلَ قَوْلَهُ عَلَى تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ إِلَيْهَا. وَفِي «الْإِقْنَاعِ» لِأَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيِّ، أَنَّ قَوْلَهُ: لَعَلَّ اللَّهَ يَسُوقُ إِلَيْكِ خَيْرًا كِنَايَةٌ، وَذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكِ، كِنَايَةٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ. وَفِي «فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ» : إِذَا كَتَبَ الشُّرُوطِيُّ إِقْرَارَ رَجُلٍ بِالطَّلَاقِ، فَقَالَ لَهُ الشُّهُودُ: نَشْهَدُ عَلَيْكَ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: اشْهَدُوا، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ لَوْ قَالَ: اشْهَدُوا عَلَى أَنِّي طَلَّقْتُهَا أَمْسِ، وَهُوَ كَاذِبٌ، لَمْ يَقَعْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِائَةَ طَلْقَةٍ، فَقَالَتْ: تَكْفِينِي ثَلَاثٌ، فَقَالَ: الْبَاقِي عَلَى صَوَاحِبِكِ، لَا يَقَعُ عَلَى صَوَاحِبِهَا طَلَاقٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهُنَّ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا لَاغِيًا، فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، كَانَ طَلَاقًا وَكَانَ التَّقْدِيرُ: أَنْتِ طَالِقٌ بِثَلَاثٍ، وَهُنَّ طَوَالِقُ بِالْبَاقِي وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَأَنْتِ يَا أُمِّ أَوْلَادِي، قَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ: لَا تُطَلَّقُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: نِسَاءُ الْعَالَمِينَ طَوَالِقُ وَأَنْتِ يَا فَاطِمَةُ، لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَى نِسْوَةٍ لَمْ يُطَلَّقْنَ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ رِجْلٌ: فَعَلْتَ كَذَا فَأَنْكَرَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: الْحِلُّ عَلَيْكَ حَرَامٌ، وَالنِّيَّةُ نِيَّتِي أَنَّكَ مَا فَعَلْتَ، فَقَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَالنِّيَّةُ نِيَّتُكَ مَا فَعَلْتَهُ، لَغَا قَوْلُهُ: النِّيَّةُ نِيَّتُكَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ تَلَفَّظَ بِهَذَا اللَّفْظِ ابْتِدَاءً. وَلَوْ قَالَ لَهُ لَمَّا أَنْكَرَ: امْرَأَتُكَ طَالِقٌ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَقَالَ: طَالِقٌ، وَقَالَ: مَا أَرَدْتُ طَلَاقَ امْرَأَتِي، يُقْبَلُ ; لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ إِشَارَةٌ إِلَيْهَا وَلَا تَسْمِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ إِرَادَةَ غَيْرِهَا، حُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ لَا، بِإِسْكَانِ الْوَاوِ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: كَمَا لَوْ قَالَ: هَلْ أَنْتِ طَالِقٌ؟ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلًا بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُوَ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، طُلِّقَتْ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ اللَّفْظِ: الْإِشَارَةُ وَالْكُتُبُ يَدُلَّانِ عَلَى الطَّلَاقِ، فَأَمَّا الْإِشَارَةُ، فَمُعْتَبَرَةٌ مِنَ الْأَخْرَسِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَتَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ وَالْأَقَارِيرِ وَالدَّعَاوَى، لَكِنْ فِي شَهَادَتِهِ خِلَافٌ. وَإِذَا أَشَارَ فِي صَلَاتِهِ بِطَلَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، صَحَّ الْعَقْدُ قَطْعًا وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَدَارَ الْحُكْمَ عَلَى إِشَارَتِهِ الْمَفْهُومَةِ، وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِهَا، نَوَى أَمْ لَمْ يَنْوِ، وَكَذَا فَصَلَ الْبَغَوِيُّ. وَقَالَ الْإِمَامُ وَآخَرُونَ: إِشَارَتُهُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى صَرِيحَةٍ مُغْنِيَةٍ عَنِ النِّيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي يَفْهَمُ مِنْهَا الطَّلَاقَ كُلُّ وَاقِفٍ عَلَيْهَا، وَإِلَى كِنَايَةٍ مُفْتَقِرَةٍ إِلَى النِّيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي يَفْهَمُ الطَّلَاقَ بِهَا الْمَخْصُوصُ بِالْفِطْنَةِ وَالذَّكَاءِ. وَلَوْ بَالَغَ فِي الْإِشَارَةِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الطَّلَاقَ وَأَفْهَمَ هَذِهِ الدَّعْوَى. قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ كَمَا لَوْ فَسَّرَ اللَّفْظَةَ الشَّائِعَةَ فِي الطَّلَاقِ بِغَيْرِهِ. فَرْعٌ سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، قَدَرَ عَلَى الْكِتَابَةِ أَمْ لَا، هَكَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَيُوَافِقُهُ إِطْلَاقُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنَّمَا تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى

فصل

كِتَابَةٍ مُفْهِمَةٍ. فَالْكِتَابَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ، لِأَنَّهَا أَضْبَطُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ مَعَ ذَلِكَ: إِنِّي قَصَدْتُ الطَّلَاقَ. فَرْعٌ إِذَا كَتَبَ الْأَخْرَسُ الطَّلَاقَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ إِذَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ يُشِرْ مَعَهَا، وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ، وَالثَّالِثُ: هُوَ صَرِيحٌ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. فَصْلٌ الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ، إِشَارَتُهُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً، وَإِنْ أَفْهَمَ بِهَا كُلَّ أَحَدٍ، وَلَيْسَتْ كِنَايَةً أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ، فَفِي افْتِقَارِ طَلَاقِ الثَّانِيَةِ إِلَى نِيَّةٍ، وَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ، وَأَشَارَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ الْأُخْرَى، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ، بَلْ تُطَلَّقَانِ جَمِيعًا. فَصْلٌ إِذَا كَتَبَ الْقَادِرُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ، نُظِرَ، إِنْ قَرَأَ مَا كَتَبَهُ وَتَلَفَّظَ بِهِ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ، أَوْ بَعْدَهَا، طُلِّقَتْ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَنْوِ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: تُطَلَّقُ وَتَكُونُ الْكِتَابَةُ صَرِيحًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَإِنْ نَوَى، فَفِيهِ أَقْوَالٌ وَأَوْجُهٌ وَطُرُقٌ، مُخْتَصَرُهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: تُطَلَّقُ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: تُطَلَّقُ إِنْ كَانَتْ غَائِبَةً عَنِ الْمَجْلِسِ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا الْخِلَافُ جَارٍ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَبُولٍ كَالْإِعْتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهَا بِلَا فَرْقٍ.

وَأَمَّا مَا يُحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، فَهُوَ نِكَاحٌ وَغَيْرُهُ، أَمَّا غَيْرُهُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ، فَفِي انْعِقَادِهَا بِالْكَتْبِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الطَّلَاقِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ، إِنْ لَمْ يُعْتَبَرِ الْكَتْبُ هُنَاكَ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، لِلْخِلَافِ فِي انْعِقَادِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِنَايَاتِ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ فِيهَا شَرْطٌ فَيَتَأَخَّرُ عَنِ الْإِيجَابِ، وَالْأَشْبَهُ الِانْعِقَادُ. وَمَنْ قَالَ بِهِ، جَعَلَ تَمَامَ الْإِيجَابِ بِوُصُولِ الْكِتَابِ، حَتَّى يُشْتَرَطَ اتِّصَالُ الْقَبُولِ بِهِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، بَلْ يُرَاعَى التَّوَاصُلُ اللَّائِقُ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا كُلِّهِ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ، وَذَكَرْنَا عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ قَبِلَ بِالْقَوْلِ، كَانَ أَقْوَى مِنْ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ. وَأَمَّا النِّكَاحُ، فَفِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ، وَالْمَذْهَبُ مَنْعُهُ بِسَبَبِ الشَّهَادَةِ، فَلَا اطِّلَاعَ لِلشُّهُودِ عَلَى النِّيَّةِ. وَلَوْ قَالَا بَعْدَ الْمُكَاتَبَةِ: نَوَيْنَا، كَانَ شَهَادَةً عَلَى إِقْرَارِهِمَا لَا عَلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، وَمَنْ جَوَّزَ اعْتَمَدَ الْحَاجَةَ. وَإِذَا قُلْنَا: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ بِالْمُكَاتَبَةِ، فَذَلِكَ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْحُضُورِ، فَخِلَافٌ مُرَتَّبٌ. وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِالْمُكَاتَبَةِ يَكْتُبُ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، وَيَحْضُرُ الْكِتَابَ عَدْلَانِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْضُرَهُمَا، وَلَا أَنْ يَقُولَ: اشْهَدَا. فَإِذَا بَلَغَهُ، فَيَقْبَلُ لَفْظًا. أَوْ يَكْتُبُ الْقَبُولَ، وَيَحْضُرُ الْقَبُولَ شَاهِدَا الْإِيجَابِ، فَإِنْ شَهِدَهُ آخَرَانِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَمَنْ جَوَّزَهُ، احْتَمَلَهُ كَمَا احْتَمَلَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. ثُمَّ إِذَا قَبِلَ لَفْظًا أَوْ كِتَابَةً، يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ سَبَقَ. فَرْعٌ كَتَبَ إِلَيْهِ: وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ كَذَا مِنْ مَالِي، أَوْ إِعْتَاقِ عَبْدِي، فَإِنْ قُلْنَا: الْوِكَالَةُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، فَهُوَ كَكَتْبِ الطَّلَاقِ، وَإِلَّا فَكَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.

فَرْعٌ كَتَبَ: زَوْجَتِي طَالِقٌ، أَوْ يَا فُلَانَةُ أَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ كُلُّ زَوْجَةٍ لِي فَهِيَ طَالِقٌ، فَإِنْ قَرَأَ مَا كَتَبَهُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا تُطَلَّقُ. فَلَوْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ، وَإِنَّمَا قَصَدْتُ قِرَاءَةَ مَا كَتَبْتُهُ وَحِكَايَتَهُ، فَفِي قَبُولِهِ ظَاهِرًا وَجْهَانِ مُشَبَّهَانِ بِالْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ حَلَّ الْوِثَاقَ، وَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ، إِنَّمَا تَظْهَرُ إِذَا لَمْ يَجْعَلِ الْكَتْبَ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، أَوْ قُلْنَا: كِنَايَةً، وَأَنْكَرَ اقْتِرَانَ النِّيَّةِ. فَرْعٌ إِذَا أَوْقَعْنَا الطَّلَاقَ بِالْمُكَاتَبَةِ، نُظِرَ فِي صُورَةِ الْمَكْتُوبِ، إِنْ كَتَبَ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ وَصَلَهَا الْكِتَابُ أَمْ ضَاعَ. وَإِنْ كَتَبَ: إِذَا قَرَأْتِ كِتَابِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَقَعْ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ، بَلْ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ. فَإِنْ كَانَتْ تُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، طُلِّقَتْ إِذَا قَرَأَتْهُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْمُعْتَبَرُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَى مَا فِيهِ. وَاتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهَا إِذَا طَالَعَتْهُ وَفَهِمَتْ مَا فِيهِ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ لَمْ تَتَلَفَّظْ بِشَيْءٍ. فَلَوْ قَرَأَهُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا، فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اطِّلَاعُهَا، أَمْ لَا لِعَدَمِ قِرَاءَتِهَا مَعَ الْإِمْكَانِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَإِنْ كَانَتْ لَا تُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، طُلِّقَتْ إِذَا قَرَأَهُ عَلَيْهَا شَخْصٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا تُطَلَّقُ أَصْلًا. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَا يَعْلَمُ، أَهِيَ قَارِئَةٌ أَمْ لَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ التَّعْلِيقُ عَلَى قِرَاءَتِهَا بِنَفْسِهَا، نَظَرًا إِلَى حَقِيقَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى الْفَهْمِ وَالِاطِّلَاعِ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ. أَمَّا إِذَا كَتَبَ:

إِذَا أَتَاكِ كِتَابِي، أَوْ بَلَغَكِ، أَوْ وَصَلَ إِلَيْكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهَا فَإِنِ انْمَحَى جَمِيعُ الْمَكْتُوبِ، فَبَلَغَهَا الْقِرْطَاسُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ قِرَاءَتُهُ، لَمْ تُطَلَّقْ كَمَا لَوْ ضَاعَ. وَقِيلَ: تُطَلَّقُ، إِذْ يُقَالُ: أَتَى كِتَابُهُ وَقَدِ انْمَحَى، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ بَقِيَ أَثَرٌ، وَأَمْكَنَتْ قِرَاءَتَهُ، طُلِّقَتْ، كَمَا لَوْ وَصَلَ بِحَالِهِ، وَإِنْ وَصَلَهَا بَعْضُ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضِهِ، فَخَرْمُ الْكِتَابِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَوْضِعُ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الضَّائِعَ، أَوِ انْمَحَى مَا فِيهِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: لَا تُطَلَّقُ، وَالثَّانِي: تُطَلَّقُ، وَالثَّالِثُ: إِنْ قَالَ: إِذَا جَاءَكِ كِتَابِي، وَقَعَ. وَإِنْ قَالَ: إِذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا أَوِ الْكِتَابُ، فَلَا. الثَّانِي: مَوْضِعُ سَائِرِ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ، وَمِنْهُ مَا يَعْتَذِرُ بِهِ عَنِ الطَّلَاقِ وَيُوَبِّخُهَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الْخَلَلُ فِيهِ بِالتَّخَرُّقِ وَالِانْمِحَاءِ، وَبَقِيَ مَوْضِعُ الطَّلَاقِ وَغَيْرُهُ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ، وَالْوُقُوعُ هُنَا أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، لِوُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَيَحْسُنُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ فِي الصُّورَتَيْنِ. الثَّالِثُ: مَوْضِعُ السَّوَابِقِ وَاللَّوَاحِقِ، كَالتَّسْمِيَةِ، وَصَدْرِ الْكِتَابِ، وَالْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ. فَإِذَا كَانَ الْخَلَلُ فِيهِ وَالْمَقَاصِدُ بَاقِيَةً، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا، الْوُقُوعُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَكُنْتُ أَوَدُّ أَنْ يُفَرَّقَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ بَيْنَ أَنْ يَبْقَى مُعْظَمُ الْكِتَابِ، أَمْ يَخْتَلَّ؟ فَإِنَّ لِلْمُعْظَمِ أَثَرًا فِي بَقَاءِ الِاسْمِ وَعَدِمِهِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ، هُوَ وَجْهٌ ذَكَرَهُ فِي «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» لَكِنَّهُ لَمْ يَطْرُدْهُ فِيمَا إِذَا انْمَحَى مَوْضِعُ الطَّلَاقِ، لَمْ يَقَعْ عِنْدَهُ. وَعِنْدَ سَائِرِ الْعِرَاقِيِّينَ قَطْعًا، وَلَفْظُهُ: وَقِيلَ: إِنْ وُجِدَ أَكْثَرُ الْكِتَابِ، طُلِّقَتْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الرَّابِعُ: الْبَيَاضُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَآخِرِهِ. الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ. بِزَوَالِهِ. وَقِيلَ: يَطَّرِدُ الْخِلَافُ. أَمَّا إِذَا كَتَبَ: إِذَا بَلَغَكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ بَلَغَ مَوْضِعُ الطَّلَاقِ وَقَعَ بِلَا تَفْصِيلٍ وَلَا خِلَافٍ، وَإِنْ بَلَغَ مَا سِوَاهُ وَبَطَلَ مَوْضِعُ الطَّلَاقِ، لَمْ تُطَلَّقْ. فَرْعٌ كَتَبَ: إِذَا بَلَغَكِ كِتَابِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَتَبَ أَيْضًا: إِذَا وَصَلَ إِلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَبَلَغَهَا، وَقَعَتْ طَلْقَتَانِ لِلصِّفَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِقِرَاءَتِهَا، فَقَرَأَتْ بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي وُصُولِ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ. فَرْعٌ كَتَبَ كِتَابَهُ وَنَوَى، فَكَكَتْبِ الصَّرِيحِ. وَلَوْ أَمَرَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا، فَكَتَبَ وَنَوَى الزَّوْجُ، لَمْ تُطَلَّقْ كَمَا لَوْ قَالَ لِلْأَجْنَبِيِّ: قُلْ لِزَوْجَتِي: أَنْتِ بَائِنٌ وَنَوَى الزَّوْجُ، لَا تُطَلَّقُ. فَرْعٌ كَتَبَ: إِذَا بَلَغَكِ نِصْفُ كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَبَلَغَهَا كُلُّهُ، فَهَلْ يَقَعُ لِاشْتِمَالِ الْكُلِّ عَلَى النِّصْفِ، أَمْ لَا لِأَنَّ النِّصْفَ فِي مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهِ الْمُنْفَرِدُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْوُقُوعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ الْكَتْبُ عَلَى الْكَاغِدِ، وَالرَّقِّ، وَاللَّوْحِ، وَالنَّقْرِ فِي الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ، سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ، وَلَا عِبْرَةَ بِرَسْمِ الْحُرُوفِ عَلَى الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَلْحَقَ هَذَا بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَلَكَ أَنْ تَمْنَعَهُ، لِأَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحُرُوفِ لَا إِلَى مَعْنَى الطَّلَاقِ وَهُوَ الْإِبْعَادُ. قُلْتُ: وَلَوْ خَطَّ عَلَى الْأَرْضِ وَأَفْهَمَ، فَكَالْخَطِّ عَلَى الْوَرَقِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَتْ: أَتَانِي كِتَابُ الطَّلَاقِ، فَأَنْكَرَ أَنَّهُ كَتَبَهُ، أَوْ أَنَّهُ نَوَى، صُدِّقَ، فَلَوْ شَهِدَ شُهُودٌ أَنَّهُ خَطُّهُ، لَمْ تُطَلَّقْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، بَلْ يُحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى إِثْبَاتِ قِرَاءَتِهِ أَوْ نِيَّتِهِ. فَرْعٌ كَتَبَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ اسْتَمَدَّ فَكَتَبَ: إِذَا أَتَاكِ كِتَابِي، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِمْدَادِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَبْلُغَهَا الْكِتَابُ، وَإِلَّا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ. فَرْعٌ حَرَّكَ لِسَانَهُ بِكَلِمَةِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ قَدْرًا يُسْمِعُ نَفْسَهُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: حَكَى الزُّجَاجِيُّ، أَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ فِيهِ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ، لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْكَتْبِ مَعَ النِّيَّةِ. وَالثَّانِي: لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ.

قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: الثَّانِي، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، بِخِلَافِ الْكَتْبِ، فَإِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ حُصُولُ الْإِفْهَامِ وَلَمْ يَحْصُلْ هُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي التَّفْوِيضِ: يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ إِلَى زَوْجَتِهِ طَلَاقَ نَفْسِهَا، فَإِذَا فَوَّضَ فَقَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ شِئْتِ، فَهَلْ هُوَ تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ، أَمْ تَوْكِيلٌ بِهِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: تَمْلِيكٌ وَهُوَ الْجَدِيدُ، فَعَلَى هَذَا، تَطْلِيقُهَا يَتَضَمَّنُ الْقَبُولَ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا تَأْخِيرُهُ، فَلَوْ أَخَّرَتْ بِقَدْرِ مَا يَنْقَطِعُ الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ ثُمَّ طَلَّقَتْ، لَمْ يَقَعْ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ: لَا يَضُرُّ التَّأْخِيرُ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ مَتَى شَاءَتْ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ بِأَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ فَطَلَّقَتْ، وَقَعَ بَائِنًا، وَهَذَا تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ. وَإِذَا لَمْ يَجْرِ عِوَضٌ، فَهُوَ كَالْهِبَةِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: كَيْفَ يَكُونُ تَطْلِيقِي لِنَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: طُلِّقْتِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَدْرُ قَاطِعًا، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْيَسِيرَ لَا يَضُرُّ تَخَلُّلُهُ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: التَّفْوِيضُ تَوْكِيلٌ، فَفِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي سَائِرِ الْوِكَالَاتِ، وَيَجِيءُ الْوَجْهُ الْفَارِقُ بَيْنَ صِيغَةِ الْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ. وَصِيغَةُ الْعَقْدِ، كَقَوْلِهِ: وَكَّلْتُكِ فِي طَلَاقِ نَفْسِكِ. وَهَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُ التَّطْلِيقِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، فَتُطَلِّقُ مَتَى شَاءَتْ كَتَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيِّ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: لَا، وَطَرَدَهُ الْقَاضِي فِيمَا لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكِ فِي طَلَاقِ نَفْسِكِ. أَمَّا إِذَا قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ مَتَى شِئْتِ، فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ قَطْعًا، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ

فِيهِ قَبْلَ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا إِنْ جَعَلْنَاهُ تَوْكِيلًا، وَكَذَا إِنْ جَعَلْنَاهُ تَمْلِيكًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَنَعَهُ ابْنُ خَيْرَانَ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَطَلِّقِي نَفْسَكِ، فَإِنْ قُلْنَا: تَمْلِيكٌ، لَغَا، وَلَيْسَ لَهَا التَّطْلِيقُ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ. . وَإِنْ قُلْنَا: تَوْكِيلٌ، جَازَ كَتَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيِّ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَطَلِّقِي نَفْسَكِ، إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا، أَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا بَعْدَ شَهْرٍ، فَإِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عَلَى أَلْفٍ بَعْدِ مُضِيِّ الشَّهْرِ، طُلِّقَتْ وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَأَمْرُ امْرَأَتِي بِيَدِكَ، فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ إِطْلَاقَ الطَّلَاقِ لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ، فَلَهُ التَّطْلِيقُ بَعْدَ أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، إِلَّا أَنْ يَطْرَأَ مَنْعٌ، وَإِنْ أَرَادَ تَقْيِيدَ الْأَمْرِ بِرَأْسِ الشَّهْرِ، تَقَيَّدَ الطَّلَاقُ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّطْلِيقُ بَعْدَهُ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا مَضَى هَذَا الشَّهْرُ فَأَمْرُهَا بِيَدِكَ، فَمُقْتَضَاهُ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ بَعْدَهُ، فَيُطَلِّقُهَا بَعْدَهُ مَتَى شَاءَ وَلَوْ قَالَ: أَمْرُهَا بِيَدِكَ إِلَى شَهْرٍ أَوْ شَهْرًا، فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِلَى شَهْرٍ، وَلَيْسَ لَهُ تَطْلِيقُهَا بَعْدَهُ. وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ، كَهِيَ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ إِذَا جَعَلْنَا التَّفْوِيضَ إِلَيْهَا تَوْكِيلًا. فَرْعٌ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي أَوْ أَنَا طَالِقٌ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ إِذَا قَدِمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهَا التَّعْلِيقَ، وَكَذَا حُكْمُ الْأَجْنَبِيِّ، وَفِيهَا وَجْهٌ حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ.

فصل

وَلَوْ قَالَ لَهَا: عَلِّقِي طَلَاقَكِ، فَفَعَلَتْ، أَوْ قَالَهُ لِأَجْنَبِيٍّ، فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ يَجْرِي مَجْرَى الْأَيْمَانِ، فَلَا يَدْخُلُهُ نِيَابَةً، وَقِيلَ: يَصِحُّ، وَقِيلَ: إِنْ عَلَّقَ عَلَى صِفَةٍ تُوجَدُ لَا مَحَالَةَ، كَطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَرَأْسِ الشَّهْرِ، صَحَّ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْلِيقِ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمَلَةَ الْوُجُودِ كَدُخُولِ الدَّارِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَمِينٌ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ تَفْوِيضُ الْإِعْتَاقِ إِلَى الْعَبْدِ، كَتَفْوِيضِ التَّطْلِيقِ إِلَى الزَّوْجَةِ فِي الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ. فَصْلٌ كَمَا يَجُوزُ التَّفْوِيضُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَيُعْتَدُّ مِنَ الْمُفَوَّضِ إِلَيْهَا بِالصَّرِيحِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ التَّفْوِيضُ بِالْكِنَايَاتِ مَعَ النِّيَّةِ، وَيُعْتَدُّ مِنْهَا بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَوَافُقُ لَفْظَيْهِمَا، إِلَّا أَنْ يُقَيَّدَ التَّفْوِيضُ. فَإِذَا قَالَ: أَبِينِي نَفْسَكِ، أَوْ بِتِّي، فَقَالَتْ: أَبَنْتُ، أَوْ بَتَتُّ، وَنَوَيَا، طُلِّقَتْ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ أَحَدُهُمَا، لَمْ تُطَلَّقْ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي، أَوْ أَنَا خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ، وَنَوَتْ، طُلِّقَتْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ، وَأَبُو عَبِيدِ بْنُ خَرْبَوَيْهِ: لَا تُطَلَّقُ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ لِلزَّوْجِ: طَلَّقْتُكَ، فَفِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي عَكْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ: أَبِينِي نَفْسَكِ، أَوْ فَوَّضْتُ إِلَيْكِ أَمْرَكِ، أَوْ مَلَّكْتُكِ نَفْسَكِ، أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَيَنْوِي، فَتَقُولُ: طَلَّقْتُ نَفْسِي، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ: وَيَجْرِي فِيمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: طَلِّقْهَا، فَقَالَ: أَبَنْتُهَا، وَنَوَى، أَوْ قَالَ: أَبِنْهَا وَنَوَى، فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا.

وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَبِينِي نَفْسَكِ وَنَوَى، فَقَالَتْ: أَنَا خَلِيَّةٌ وَنَوَتْ، فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، طُلِّقَتْ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تُطَلَّقُ، لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ هُنَا عَلَى النِّيَّةِ، وَاللَّفْظُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ، بِخِلَافِ اخْتِلَافِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، أَوْ قَالَ: بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ، فَعَدَلَ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ، لَمْ تُطَلَّقْ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: سَرَّحْتُ نَفْسِي، طُلِّقَتْ بِلَا خِلَافٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الصَّرَاحَةِ. فَرْعٌ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ وَنَوَى تَفْوِيضَ الطَّلَاقِ، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي، أَوِ اخْتَرْتُ وَنَوَتْ، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ. وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي وَلَمْ يَقُلْ: نَفْسَكِ، وَنَوَى تَفْوِيضَ الطَّلَاقِ، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى تَقُولَ: اخْتَرْتُ نَفْسِي، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَتْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ وَلَا كَلَامِهَا مَا يُشْعِرُ بِالْفِرَاقِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ، فَانْصَرَفَ كَلَامُهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: إِذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ، ثُمَّ قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ: أَرَدْتُ: اخْتَرْتُ نَفْسِي وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ. وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي وَنَوَتْ، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ، وَتَكُونُ رَجْعِيَّةً إِنْ كَانَتْ مَحَلًّا لِلرَّجْعَةِ. وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ زَوْجِي أَوِ النِّكَاحَ لَمْ تُطَلَّقْ. وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ الْأَزْوَاجَ، أَوِ اخْتَرْتُ أَبَوَيَّ، أَوْ أَخِي، أَوْ عَمِّي، طُلِّقَتْ عَلَى الْأَصَحِّ سَوَاءٌ قَالَ: اخْتَارِي نَفْسَكِ أَوِ اخْتَارِي فَقَطْ. فَرْعٌ مَتَّى كَانَ التَّفْوِيضُ وَتَطْلِيقُهَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِكِنَايَةٍ فَتَنَازَعَا فِي النِّيَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ النَّاوِي، سَوَاءٌ أَثْبَتَهَا أَمْ نَفَاهَا. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا نَوَتْ فَأَنْكَرَ

صُدِّقَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنَ النَّاوِي. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ التَّخْيِيرِ، فَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ، أَوْ قَالَ: خَيَّرْتُكِ فَلَمْ تَخْتَارِي فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، وَقَالَتْ: اخْتَرْتُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِلْأَصْلِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَلَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا إِلَى وَكِيلٍ، فَقَالَ لَهَا الْوَكِيلُ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَزَعَمَ أَنَّهُ نَوَى الطَّلَاقَ، وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ، وَكَذَّبَهُ الزَّوْجُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ أَمِينُهُ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِلْأَصْلِ. وَلَوْ تَوَافَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى تَكْذِيبِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْوَكِيلِ. فَرْعٌ الْقَوْلُ فِي اشْتِرَاطِ الْفَوْرِ فِي قَبُولِهَا إِذَا فَوَّضَ بِكِنَايَةٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا فَوَّضَ بِصَرِيحٍ. فَرْعٌ قَالَ: اخْتَارِي مِنْ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ مَا شِئْتِ، أَوْ طَلِّقِي نَفْسَكِ مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْتِ، فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، وَلَا تَمْلِكُ الثَّلَاثَ. فَرْعٌ خَيَّرَ صَبِيَّةً، فَاخْتَارَتْ، لَمْ تُطَلَّقْ. فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: اخْتَارِي، وَقَالَ: أَرَدْتُ وَاحِدَةً، لَمْ يَقَعْ إِلَّا وَاحِدَةٌ.

فَرْعٌ ذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: اخْتَارِي نَفْسَكِ، أَوْ طَلِّقِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: أَخْتَارُ أَوْ أُطَلِّقُ، فَمُطَلَّقَةٌ لِلِاسْتِقْبَالِ، فَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ شَيْءٌ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الْإِنْشَاءَ، وَقَعَ فِي الْحَالِ. قُلْتُ: هَذَا كَمَا قَالَ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا قَوْلَ النَّحْوِيِّينَ، أَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ إِذَا تَجَرَّدَ، فَالْحَالُ أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْحَالِ، وَعَارَضَهُ أَصْلُ بَقَاءِ النِّكَاحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ ذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ أَنَّهُ لَوْ خَيَّرَهَا وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، فَاخْتَارَتِ اتِّفَاقًا، خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ فَكَانَ مَيِّتًا، وَالطَّلَاقُ أَوْلَى بِالنُّفُوذِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَمْرُ امْرَأَتِي بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِيَدِكَ، يُسْأَلُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِالطَّلَاقِ، قُبِلَ قَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالَّذِي أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِي جَعَلْتُهُ فِي يَدِكَ، قُبِلَ وَاسْتَقَلَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ أَمْرٍ لِي عَلَيْكِ قَدْ جَعَلْتُهُ بِيَدِكِ، فَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَفْوِيضٍ صَرِيحٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا مَا لَمْ يَنْوِ هُوَ الثَّلَاثَ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ، فَالْمُضَافُ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ، فِي أَنَّ التَّفْوِيضَ عَلَيْكَ أَمْ تَوْكِيلٌ؟ إِنْ قُلْنَا: تَمْلِيكٌ، لَمْ يَحْتَمِلِ التَّرَاخِيَ كَالْبَيْعِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَتَوْكِيلِهِ بِالْبَيْعِ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ، فَعَلَى هَذَا، لَهُ الرَّدُّ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ دُونَ بَعْضٍ.

فصل

فَصْلٌ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَنَوَى الثَّلَاثَ، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي وَنَوَتِ الثَّلَاثَ، وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَإِنْ لَمْ تَنْوِ هِيَ الْعَدَدَ، فَهَلْ يَقَعُ وَاحِدَةٌ أَمِ الثَّلَاثُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: وَاحِدَةٌ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ أَوْ طَلَّقْتُ نَفَسِي وَلَمْ تَلَفَّظْ بِالْعَدَدِ وَلَا نَوَتْهُ، وَقَعَ الثَّلَاثُ، لِأَنَّ قَوْلَهَا هُنَا جَوَابٌ لِكَلَامِهِ، فَهُوَ كَالْمَعَادِ فِي الْجَوَابِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَتَلَفَّظْ هُوَ بِالثَّلَاثِ وَنَوَتْهَا، لِأَنَّ الْمَنَوِيَّ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ عَوْدِهِ فِي الْجَوَابِ، فَإِنَّ التَّخَاطُبَ بِاللَّفْظِ لَا بِالنِّيَّةِ. وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ. وَلَوْ فَوَّضَ بِكِنَايَةٍ وَنَوَى عَدَدًا وَطَلَّقَتْ هِيَ بِالْكِنَايَةِ وَنَوَتِ الْعَدَدَ، وَقَعَ مَا نَوَيَاهُ. فَلَوْ نَوَى أَحَدُهُمَا عَدَدًا، وَالْآخِرُ عَدَدًا آخَرَ، وَقَعَ الْأَقَلُّ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا، فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ، وَقَعَ مَا أَوْقَعَتْهُ. ثُمَّ إِنْ أَوْقَعَتْ وَاحِدَةً فَرَاجَعَهَا فِي الْحَالِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي الْفَتَاوَى: لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُطَلِّقَ الثَّلَاثَ دُفْعَةً، وَبَيْنَ قَوْلِهَا: طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً، فَلَا يَقْدَحُ تَخَلُّلُ الرَّجْعَةِ بَيْنَ الطَّلْقَتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي وَاحِدَةً، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ ثَلَاثًا أَوْ ثِنْتَيْنِ، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَالْحُكْمُ فِي الطَّرَفَيْنِ فِي تَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا. قُلْتُ: وَحَكَى صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرُهُ وَجْهًا فِي الْوَكِيلِ: إِذَا زَادَ أَوْ نَقَصَ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ وَلَمْ يُؤْذَنْ فِي هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا إِنْ شِئْتِ، فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً، أَوْ قَالَ: وَاحِدَةً إِنْ شِئْتِ، فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْ: إِنْ شِئْتِ. وَلَوْ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَشِيئَةِ عَلَى الْعَدَدِ فَقَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ شِئْتِ ثَلَاثًا، فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً، أَوْ

قَالَ: طَلِّقِي إِنْ شِئْتِ وَاحِدَةً، فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا. قَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ: لَا يَقَعُ، لِأَنَّ مَشِيئَةَ ذَلِكَ الْعَدَدِ صَارَتْ شَرْطًا فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْقَصْدُ إِلَى الطَّلَاقِ: فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِحُرُوفِ الطَّلَاقِ بِمَعْنَى الطَّلَاقِ، وَلَا يَكْفِي الْقَصْدُ إِلَى حُرُوفِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَعْنَاهُ، وَيَخْتَلُّ الْقَصْدُ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ اللَّفْظَ، كَالنَّائِمِ تَجْرِي كَلِمَةُ الطَّلَاقِ عَلَى لِسَانِهِ. وَلَوِ اسْتَيْقَظَ نَائِمٌ، وَقَدْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَفْظُ الطَّلَاقِ فَقَالَ: أَجَزْتُ ذَلِكَ الطَّلَاقَ أَوْ أَوْقَعْتُهُ، فَهُوَ لَغْوٌ. فَرْعٌ مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى لَفْظِ الطَّلَاقِ فِي مُحَاوَرَتِهِ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لَكِنْ لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ سَبْقَ اللِّسَانِ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا إِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ. فَإِذَا قَالَ: طَلَّقْتُكِ، ثُمَّ قَالَ: سَبَقَ لِسَانِي وَإِنَّمَا أَرَدْتُ: طَلَبْتُكِ، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ لَا يَسَعُ امْرَأَتَهُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ عَنْ صَاحِبِ «الْحَاوِي» وَغَيْرِهِ: أَنَّ هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُتَّهَمًا. فَأَمَّا إِنْ ظَنَّتْ صِدْقَهُ بِأَمَارَةٍ، فَلَهَا أَنْ تَقْبَلَ قَوْلَهُ وَلَا تُخَاصِمَهُ. وَأَنَّ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ إِذَا عَرَفَ الْحَالَ، يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَ قَوْلَهُ وَلَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ. وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ تُسَمَّى طَالِقًا، وَعَبَدُهُ يُسَمَّى حُرًّا، فَقَالَ لَهَا: يَا طَالِقُ، وَلَهُ: يَا حُرُّ، فَإِنْ قَصَدَ النِّدَاءَ، فَلَا طَلَاقَ وَلَا عِتْقَ. وَإِنْ قَصَدَ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ، حَصَلَا. وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى النِّدَاءِ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ كَانَ حُرُوفُ اسْمِ امْرَأَتِهِ تُقَارِبُ حُرُوفَ طَالِقٍ، كَطَالِعٍ وَطَالِبٍ، وَطَارِقٍ، فَقَالَ: يَا طَالِقُ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: يَا طَارِقُ، أَوْ يَا طَالِعُ فَالْتَفَّ الْحَرْفُ بِلِسَانِي، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الظَّاهِرِ لِظُهُورِ الْقَرِينَةِ.

فصل

وَمَنْ صَوَّرَ سَبْقَ اللِّسَانِ، مَا إِذَا طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ أَوْ ظَنَّ طُهْرَهَا، فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ الْآنَ طَاهِرَةٌ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ، فَقَالَ: أَنْتِ الْآنَ طَالِقَةٌ. فَرْعٌ الْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ كَالنَّائِمِ. فَرْعٌ الْحَاكِي لِطَلَاقِ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: قَالَ فُلَانٌ: زَوْجَتِي طَالِقٌ. وَالْفَقِيهُ إِذَا كَرَّرَ لَفَظَ الطَّلَاقِ فِي تَصْوِيرِهِ وَتَدْرِيسِهِ وَتَكْرَارِهِ، لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَنِ الْعَمَلِ. قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا. فَصْلٌ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ يَنْفُذَانِ مِنَ الْهَازِلِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَلَا تَدْيِينَ فِيهِمَا، وَيَنْفُذُ أَيْضًا النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ الْهَزْلِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَصُورَةُ الْهَزْلِ أَنْ يُلَاعِبَهَا بِالطَّلَاقِ بِأَنْ تَقُولَ فِي مَعْرِضِ الدَّلَالِ وَالِاسْتِهْزَاءِ: طَلِّقْنِي، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ، فَتُطَلَّقُ، لِأَنَّهُ خَاطَبَهَا قَاصِدًا مُخْتَارًا، وَلَمْ يَصْرِفِ اللَّفْظَ إِلَى تَأْوِيلٍ، فَلَمَّ تُدَيَّنْ، بِخِلَافِ مَنْ قَالَ: أَرَدْتُ طَالِقٌ مِنْ وِثَاقٍ. فَصْلٌ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِالطَّلَاقِ فِي ظُلْمَةٍ أَوْ حِجَابٍ وَنَحْوِهِمَا وَهُوَ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً، تُطَلَّقُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ.

وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» أَنَّ بَعْضَ الْوُعَّاظِ طَلَبَ مِنَ الْحَاضِرِينَ شَيْئًا فَلَمْ يُعْطُوهُ، فَقَالَ مُتَضَجِّرًا مِنْهُمْ: طَلَّقْتُكُمْ ثَلَاثًا، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ فِيهِمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَأَفْتَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ. قَالَ: وَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تُطَلَّقَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: طَلَّقْتُكُمْ لَفْظٌ عَامٌّ وَهُوَ يَقْبَلُ الِاسْتِثْنَاءَ بِالنِّيَّةِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى زَيْدٍ، فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ وَاسْتَثْنَاهُ بِقَلْبِهِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ زَوْجَتَهُ فِي الْقَوْمِ، كَانَ مَقْصُودُهُ غَيْرَهَا. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ، كِلَاهُمَا عَجَبٌ مِنْهُمَا، أَمَّا الْعَجَبُ مِنَ الرَّافِعِيِّ، فَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ كَمَسْأَلَةِ السَّلَامِ عَلَى زَيْدٍ، لِأَنَّهُ هُنَاكَ عَلِمَ بِهِ وَاسْتَثْنَاهُ، وَهُنَا لَمْ يَعْلَمْ بِهَا وَلَمْ يَسْتَثْنِهَا، وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي الْجَمِيعَ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهَا. وَأَمَّا الْعَجَبُ مِنَ الْإِمَامِ، فَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الرُّكْنِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ قَصْدُ لَفْظِ الطَّلَاقِ بِمَعْنَى الطَّلَاقِ، وَلَا يَكْفِي قَصْدُ لَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَعْنَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْوَاعِظَ لَمْ يَقْصِدْ مَعْنَى الطَّلَاقِ، وَأَيْضًا فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا أَوْ جُمْهُورِهِمْ، أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَدْخُلْنَ فِي خِطَابِ الرِّجَالِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَوْلُهُ: طَلَّقْتُكُمْ خِطَابُ رِجَالٍ، فَلَا تَدْخُلُ امْرَأَتُهُ فِيهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُطَلَّقَ لِمَا ذَكَرْتُهُ، لَا لِمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ، فَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ الْأَدِلَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ نَسِيَ أَنَّ لَهُ زَوْجَةً، أَوْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ فِي صِغَرِهِ، أَوْ وَكِيلُهُ فِي كِبْرِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي فَقَالَ: زَوْجَتِي طَالِقٌ، أَوْ خَاطَبَهَا بِالطَّلَاقِ، طُلِّقَتْ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا فِي الظَّاهِرِ. وَفِي نُفُوذِهِ بَاطِنًا وَجْهَانِ بَنَاهُمَا الْمُتَوَلِّي عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنِ الْمَجْهُولِ. إِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ، لَمْ تُطَلَّقْ بَاطِنًا.

فصل

فَرْعٌ إِذَا لُقِّنَ كَلِمَةَ الطَّلَاقِ بِلُغَةٍ لَا يَعْرِفُهَا، فَقَالَهَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ أَهْلِ ذَلِكَ اللِّسَانِ اخْتِلَاطٌ. فَإِنْ كَانَ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْحُكْمِ وَيُدَيَّنُ بَاطِنًا. وَإِذَا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ فَقَالَ: أَرَدْتُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ مَعْنَاهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، لَمْ يَقَعْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ مَعْنَاهَا قَطْعُ النِّكَاحِ، وَلَكِنْ نَوَيْتُ بِهَا الطَّلَاقَ، وَقَصَدْتُ قَطْعَ النِّكَاحِ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ خَاطَبَهَا بِكَلِمَةٍ لَا مَعْنًى لَهَا، وَقَالَ: أَرَدْتُ الطَّلَاقَ. السَّبَبُ الثَّانِي: الْإِكْرَاهُ. التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا بِالْإِكْرَاهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ الرِّدَّةُ وَالْبَيْعُ، وَسَائِرُ الْمُعَامَلَاتِ وَالنِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ وَالْإِعْتَاقُ وَغَيْرُهَا، وَأَمَّا مَا حُمِلَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ، فَهُوَ صَحِيحٌ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ إِسْلَامَ الْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ مَعَ الْإِكْرَاهِ، صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ بِحَقٍّ، وَلَا يَصِحُّ إِسْلَامُ الذِّمِّيِّ مُكْرَهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْمُؤْلِي بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ إِذَا أَطْلَقَ بِإِكْرَاهِ الْقَاضِي، نَفَذَ لِأَنَّهُ بِحَقٍّ، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقَةِ إِكْرَاهٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَمَّا إِذَا أَكْرَهَهُ الْإِمَامُ عَلَى ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ فَتَلَفَّظَ بِهَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَلَغَتِ الزِّيَادَةُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَنْعَزِلُ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ غَيْرُهُ، وَثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَفِي امْتِنَاعِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ بِالْإِكْرَاهِ خِلَافٌ فِي مَوْضِعِهِ. فَصْلٌ إِنَّمَا يَنْدَفِعُ الطَّلَاقُ بِالْإِكْرَاهِ، إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ. فَإِنْ ظَهَرَ بِأَنْ خَالَفَ الْمُكْرَهَ، وَأَتَى بِغَيْرِ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ، حُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلِذَلِكَ

صُوَرٌ مِنْهَا أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى طَلْقَةٍ فَيُطَلِّقُ ثَلَاثًا، أَوْ عَلَى ثَلَاثٍ، فَيُطَلِّقُ وَاحِدَةً، أَوْ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتَيْنِ، فَيُطَلِّقُ إِحْدَاهُمَا، أَوْ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ بِصَرِيحٍ، فَطَلَّقَ بِكِنَايَةٍ أَوْ بِصَرِيحٍ آخَرَ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ عَلَى تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ فَعَلَّقَهُ، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَلَا عِبْرَةَ بِالْإِكْرَاهِ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَيَقَعُ مَا أَتَى بِهِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى طَلَاقِ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، فَطَلَّقَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، وَقَعَ عَلَى الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي تَعْيِينِهَا وَحَكَى الْمُتَوَلِّي فِيهِ خِلَافًا، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَةٍ فَطَلَّقَ زَوْجَتَيْنِ، نُظِرَ إِنْ قَالَ لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتَكَ حَفْصَةَ، فَقَالَ لَهَا وَلِضَرَّتِهَا عَمْرَةَ: طَلَّقْتُكُمَا، طُلِّقَتَا، لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ كَلِمَةِ الْإِكْرَاهِ. وَإِنْ قَالَ: طَلَّقْتُ حَفْصَةَ وَعَمْرَةَ، أَوْ: وَطَلَّقْتُ عَمْرَةَ، أَوْ حَفْصَةُ طَالِقٌ وَعَمْرَةُ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ عَمْرَةُ وَلَمْ تُطَلَّقْ حَفْصَةُ، هَكَذَا فَصَّلَهُ الْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُفَصِّلِ الْإِمَامُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، بَلْ أَطْلَقَ عَنِ الْأَصْحَابِ الْحُكْمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الضَّرَّتَيْنِ. قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِي طَلَاقِ عَمْرَةَ. فَرْعٌ الْإِكْرَاهُ عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ، يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ، كَمَا يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّنْجِيزِ. فَرْعٌ إِنْ وَرَّى الْمُكْرَهُ بِأَنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: طَلَّقْتُ فَاطِمَةَ غَيْرَ زَوْجَتِي، أَوْ نَوَى الطَّلَاقَ مِنْ وَثَاقٍ، أَوْ قَالَ فِي نَفْسِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ. وَإِذَا ادَّعَى التَّوْرِيَةَ، صُدِّقَ ظَاهِرًا فِي كُلِّ مَا كَانَ يُدَيَّنُ فِيهِ عِنْدَ الطَّوَاعِيَةِ. وَإِنْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ غَبِيًّا لَا يُحْسِنُ التَّوْرِيَةَ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا وَأَصَابَتْهُ دَهْشَةٌ بِالْإِكْرَاهِ وَسَلِّ السَّيْفِ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ تُصِبْهُ

فصل

دَهْشَةٌ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَالْغَزَالِيِّ، لِإِشْعَارِهِ بِالِاخْتِيَارِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى اللَّفْظِ. وَلَا نِيَّةَ تُشْعِرُ بِالِاخْتِيَارِ. وَلَوْ قَصَدَ الْمُكْرَهُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ سَاقِطٌ بِالْإِكْرَاهِ، وَالنِّيَّةُ لَا تَعْمَلُ وَحْدَهَا. وَأَصَحُّهُمَا: يَقَعُ لِقَصْدِهِ بِلَفْظِهِ. وَعَلَى هَذَا، فَصَرِيحُ لَفْظِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، كِنَايَةٌ، إِنْ نَوَى وَقَعَ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ قَالَ: طَلِّقْ زَوْجَتِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَطَلَّقَهَا وَقَعَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِذْنِ، وَقِيلَ: لَا يَقَعُ لِسُقُوطِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِالْإِكْرَاهِ. كَمَا لَوْ قَالَ لِمَجْنُونٍ: طَلِّقْهَا فَطَلَّقَ. فَرْعٌ الْوَكِيلُ فِي الطَّلَاقِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَقَعُ لِحُصُولِ اخْتِيَارِ الْمَالِكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَقَعَ، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ. قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ. فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْإِكْرَاهِ يُشْتَرَطُ فِيهِ كَوْنُ الْمُكْرِهِ غَالِبًا قَادِرًا عَلَى تَحْقِيقِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ، بِوِلَايَةٍ، أَوْ تَغَلُّبٍ، وَفَرْطِ هُجُومٍ، وَكَوْنُ الْمُكْرَهِ مَغْلُوبًا عَاجِزًا عَنِ الدَّفْعِ بِفِرَارٍ أَوْ مُقَاوَمَةٍ، أَوِ اسْتِعَانَةٍ بِغَيْرِهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنِ امْتَنَعَ مِمَّا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ، أَوْقَعَ بِهِ الْمَكْرُوهَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا إِكْرَاهَ إِلَّا بِأَنْ يُنَالَ بِالضَّرْبِ.

وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، عَدَمُ اشْتِرَاطِ تَنْجِيزِ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ بَلْ يَكْفِي التَّوَعُّدُ. وَفِيمَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِهِ إِكْرَاهًا، سَبْعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: الْقَتْلُ فَقَطْ. حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَالْإِمَامُ. وَالثَّانِي: الْقَتْلُ، أَوْ قَطْعُ طَرَفٍ، أَوْ ضَرْبٌ يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَالثَّالِثُ: قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَثِيرُونَ: أَنَّهُ يُلْحَقُ بِمَا سَبَقَ أَيْضًا الضَّرْبُ الشَّدِيدُ، وَالْحَبْسُ، وَأَخْذُ الْمَالِ، وَإِتْلَافُهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي «الْإِفْصَاحِ» وَزَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَوْ تَوَعَّدَهُ بِنَوْعِ اسْتِخْفَافٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ وَجِيهًا يَغُضُّ ذَلِكَ مِنْهُ، فَهُوَ إِكْرَاهٌ. قَالَ هَؤُلَاءِ: فَالضَّرْبُ وَالْحَبْسُ وَالِاسْتِخْفَافُ، يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ. وَالتَّخْوِيفُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَأَخْذِ الْمَالِ، لَا يَخْتَلِفُ. وَقَالَ الْمَاسَرْجِسِيُّ: يَخْتَلِفُ بِأَخْذِ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ تَخْوِيفُ الْمُوسِرِ بِأَخْذِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْهُ إِكْرَاهًا، قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ، فَهَذِهِ الْأَوْجُهُ هِيَ الْمَوْجُودَةُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَأَصَحُّهَا: الثَّالِثُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا خَوَّفَهُ بِمَا يَسْلُبُ الِاخْتِيَارَ، وَيَجْعَلُهُ كَالْهَارِبِ مِنَ الْأَسَدِ الَّذِي يَتَخَطَّى النَّارَ وَالشَّوْكَ، وَلَا يُبَالِي، فَعَلَى هَذَا الْحَبْسُ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ. وَكَذَا التَّخْوِيفُ بِالْإِيلَامِ الشَّدِيدِ. قَالَ الْإِمَامُ: لَكِنْ لَوْ فُوتِحَ بِهِ، احْتُمِلَ جَعْلُهُ إِكْرَاهًا. وَالْخَامِسُ: لَا يُشْتَرَطُ سُقُوطُ الِاخْتِيَارِ، بَلْ إِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى فِعْلٍ يُؤْثِرُ الْعَاقِلُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ حَذَرًا مِمَّا تَهَدَّدَهُ بِهِ، حَصَلَ الْإِكْرَاهُ. فَعَلَى هَذَا، يُنْظَرُ فِيمَا طَلَبَهُ مِنْهُ وَمَا هَدَّدَهُ بِهِ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ إِكْرَاهًا فِي مَطْلُوبٍ دُونَ مَطْلُوبٍ، وَفِي شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ. فَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الطَّلَاقِ، حَصَلَ بِالْقَطْعِ وَبِالتَّخْوِيفِ

بِالْحَبْسِ الطَّوِيلِ، وَبِتَخْوِيفِ ذَوِي الْمُرُوءَةِ بِالصَّفْعِ فِي الْمَلَأِ، وَتَسْوِيدِ الْوَجْهِ وَالطَّوْفِ بِهِ فِي السُّوقِ. وَقِيلَ: لَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِالْحَبْسِ وَمَا بَعْدَهُ إِكْرَاهًا، وَطُرِدَ هَذَا الْخِلَافُ فِي التَّخْوِيفِ بِقَتْلِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَالصَّحِيحُ فِي الْجَمِيعِ، أَنَّهُ إِكْرَاهٌ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّخْوِيفَ بِإِتْلَافِ الْمَالِ لَيْسَ إِكْرَاهًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى قَتْلٍ فَالتَّخْوِيفُ بِالْحَبْسِ، وَقَتْلِ الْوَلَدِ، وَإِتْلَافِ الْمَالِ لَيْسَ إِكْرَاهًا. وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى إِتْلَافِ مَالٍ، فَالتَّخْوِيفُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ إِكْرَاهًا. وَقِيلَ: لَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِإِتْلَافِ الْمَالِ إِكْرَاهًا فِي إِتْلَافِ الْمَالِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ الْإِكْرَاهَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّخْوِيفِ بِعُقُوبَةٍ تَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ الْمُكْرَهِ، بِحَيْثُ لَوْ حَقَّقَهَا تَعَلَّقَ بِهِ قِصَاصٌ، فَيَخْرُجُ عَنْهُ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ، كَأَخْذِ الْمَالِ وَقَتْلِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَالزَّوْجَةِ، وَالضَّرْبِ الْخَفِيفِ، وَالْحَبْسِ الْمُؤَبَّدِ، إِلَّا أَنْ يُخَوِّفَهُ بِحَبْسٍ فِي قَعْرِ بِئْرٍ يَغْلِبُ مِنْهُ الْمَوْتُ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ هَذَا. الْوَجْهُ السَّابِعُ: لَا يَحْصُلُ الْإِكْرَاهُ إِلَّا بِعُقُوبَةٍ شَدِيدَةٍ تَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ، وَالضَّرْبُ الشَّدِيدُ، وَالتَّجْوِيعُ وَالتَّعْطِيشُ، وَالْحَبْسُ الطَّوِيلُ، وَيَخْرُجُ مَا خَرَجَ عَنِ الْوَجْهِ السَّادِسِ، وَيَخْرُجُ عَنْهُ التَّخْوِيفُ بِالِاسْتِخْفَافِ بِإِلْقَاءِ الْعِمَامَةِ وَالصَّفْعِ، وَمَا يُخِلُّ بِالْجَاهِ. وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، دُخُولَ الْحَبْسِ وَخُرُوجَ قَتْلِ الْوَلَدِ، وَأَمَّا التَّخْوِيفُ بِالنَّفْيِ عَنِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، فَكَالْحَبْسِ الدَّائِمِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: إِكْرَاهٌ، لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ شَدِيدَةٌ، وَلِهَذَا جُعِلَتْ عُقُوبَةً لِلزَّانِي، وَجَعَلَ الْبَغْوَيُّ التَّخْوِيفَ بِاللِّوَاطِ، كَالتَّخْوِيفِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ، وَتَسْوِيدِ الْوَجْهِ. وَقَالَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِكْرَاهًا عَلَى الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ. وَفِي كَوْنِهِ إِكْرَاهًا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَإِتْلَافِ الْمَالِ، وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ الْمُنْتَشِرِ، هُوَ الْوَجْهُ الْخَامِسُ، لَكِنْ فِي بَعْضِ

تَفْصِيلِهِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ. فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يُقَالَ: الْإِكْرَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَا يَحْصُلُ الْإِكْرَاهُ بِالتَّخْوِيفِ بِعُقُوبَةٍ آجِلَةٍ كَقَوْلِهِ: لَأَقْتُلَنَّكَ غَدًا، وَلَا بِأَنْ يَقُولَ: طَلِّقِ امْرَأَتَكَ وَإِلَّا قَتَلْتُ نَفْسِي، أَوْ كَفَرْتُ، أَوْ أَبْطَلْتُ صَوْمِي أَوْ صَلَاتِي. وَلَا بِأَنْ يَقُولَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ: طَلِّقِ امْرَأَتَكَ، وَإِلَّا اقْتَصَصْتُ مِنْكَ. فَرْعٌ لَوْ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ الظَّالِمُ بِسَبَبِ غَيْرِهِ وَطَالَبَهُ بِهِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ مَوْضِعَهُ، أَوْ طَالَبَهُ بِمَالِهِ فَقَالَ: لَا شَيْءَ لَهُ عِنْدِي، فَلَمْ يُخَلِّهِ حَتَّى يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ فَحَلَفَ بِهِ كَاذِبًا، وَقَعَ طَلَاقُهُ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا تَوَصَّلَ بِالْحَلِفِ إِلَى تَرْكِ الْمُطَالَبَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ لَهُ اللُّصُوصُ: لَا نُخَلِّيكَ حَتَّى تَحْلِفَ أَنْ لَا تَذْكُرَ مَا جَرَى، فَحَلَفَ، لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ إِذَا ذَكَرَهُ، لِأَنَّهُمْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ هُنَا. فَرْعٌ تَلَفَّظَ بِطَلَاقٍ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهَا وَأَنْكَرْتُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا، أَوْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةً أُخْرَى. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُ وَأَنَا صَبِيٌّ، أَوْ نَائِمٌ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ: يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ. قَالَ: وَلَوْ طَلَّقَ فِي الْمَرَضِ، وَقَالَ: كُنْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي النَّائِمِ، فِيهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

السَّبَبُ الثَّالِثُ: اخْتِلَالُ الْعَقْلِ: فَمَنْ طَلَّقَ وَهُوَ زَائِلُ الْعَقْلِ بِسَبَبٍ غَيْرِ مُتَعَدٍّ فِيهِ، كَجُنُونٍ أَوْ إِغْمَاءٍ، أَوْ أُوجِرَ خَمْرًا، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمَشْرُوبَ مِنْ جِنْسِ مَا يُسْكِرُ، أَوْ شَرِبَ دَوَاءً يُزِيلُ الْعَقْلَ بِقَصْدِ التَّدَاوِي وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ. وَلَوْ تَعَدَّى بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَسَكِرَ، أَوْ بِشُرْبِ دَوَاءٍ يُجَنِّنُ لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ فَزَالَ عَقْلُهُ فَطَلَّقَ، وَقَعَ طَلَاقُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ، فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَمَنَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَمِمَّنْ قَالَ: لَا يَقَعُ: الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ، وَابْنُهُ سَهْلٌ، وَأَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادَيُّ، وَقِيلَ: لَا يَقَعُ فِي شُرْبِ الدَّوَاءِ الْمَذْكُورِ. وَإِنْ وَقَعَ فِي السُّكْرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ جَارِيَانِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كُلِّهَا، مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا فِي أَقْوَالِهِ كُلِّهَا، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ، وَالْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ، وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا أَفْعَالُهُ، كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَغَيْرِهِمَا، فَكَأَفْعَالِ الصَّاحِي قَطْعًا لِقُوَّةِ الْأَفْعَالِ. وَقِيلَ: هُمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْجِنَايَاتِ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ قَطْعًا، لِأَنَّ الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ. وَقِيلَ: هُمَا فِيمَا هُوَ لَهُ كَالنِّكَاحِ وَالْإِسْلَامِ، أَمَّا مَا عَلَيْهِ كَالطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَالضَّمَانِ، أَوْ لَهُ وَعَلَيْهِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَيَصِحُّ قَطْعًا تَغْلِيظًا عَلَيْهِ. فَرْعٌ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ فِي حَدِّ السَّكْرَانِ، فَعَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَّ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ. وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ. وَعَنِ الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ الَّذِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَبَيْنَ أُمِّهِ وَامْرَأَتِهِ. وَقِيلَ: الَّذِي يُفْصِحُ بِمَا كَانَ يَحْتَشِمُ مِنْهُ.

وَقِيلَ: الَّذِي يَتَمَايَلُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَهْذِي فِي كَلَامِهِ. وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَهُوَ الْأَقْرَبُ: أَنَّ الرُّجُوعَ فِيهِ إِلَى الْعَادَةِ. فَإِذَا انْتَهَى تَغَيُّرُهُ إِلَى حَالِهِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ السُّكْرِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِالسَّكْرَانِ. وَلَمْ يَرْضَ الْإِمَامُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ. قَالَ: وَلَكِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ تَعْتَرِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. إِحْدَاهَا: هِزَّةٌ وَنَشَاطٌ يَأْخُذُهُ إِذَا دَبَّتِ الْخَمْرَةُ فِيهِ وَلَمْ تَسْتَوْلِ بَعْدُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزُولُ الْعَقْلُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَرُبَّمَا احْتُدَّ. وَالثَّانِيَةُ: نِهَايَةُ السُّكْرِ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ طَافِحًا، وَيَسْقُطَ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ، لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَكَادُ يَتَحَرَّكُ. وَالثَّالِثَةُ: حَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا. وَهِيَ أَنْ تَخْتَلِطَ أَحْوَالُهُ، فَلَا تَنْتَظِمُ أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ، وَيَبْقَى تَمْيِيزُ وَفَهْمُ كَلَامٍ، فَهَذِهِ الثَّالِثَةُ سُكْرٌ. وَفِيِ نُفُوذِ الطَّلَاقِ فِيهَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى، فَيَنْفُذُ طَلَاقُهُ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ، لِبَقَاءِ الْعَقْلِ وَانْتِظَامِ الْقَصْدِ وَالْكَلَامِ. وَأَمَّاِ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ، أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ طَلَاقُهُ إِذْ لَا قَصْدَ لَهُ، وَلَفْظُهُ كَلَفْظِ النَّائِمِ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ جَعَلَهُ عَلَى الْخِلَافِ، لِتَعَدِّيهِ بِالتَّسَبُّبِ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذَا أَوْفَقُ لِإِطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَحَلُّ وَهُوَ الْمَرْأَةُ. فَإِنْ أَضَافَ إِلَى كُلِّهَا فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ، فَذَاكَ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: جِسْمُكِ، أَوْ جَسَدُكِ، أَوْ شَخْصُكِ، أَوْ نَفْسُكِ، أَوْ جُثَّتُكِ، أَوْ ذَاتُكِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ. وَلَوْ أَضَافَ إِلَى بَعْضِهَا شَائِعًا، طُلِّقَتْ أَيْضًا، سَوَاءٌ أَبْهَمَ فَقَالَ: بَعْضُكِ أَوْ جُزْءُكِ طَالِقٌ، أَوْ نَصَّ عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ كَالنِّصْفِ وَالرُّبْعِ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْعِتْقِ، فَقَدْ وَرَدَ فِيهِ «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا. . .» . وَلَوْ أَضَافَ إِلَى عِوَضٍ مُعَيَّنٍ، طُلِّقَتْ سَوَاءٌ كَانَ عُضْوًا بَاطِنًا كَالْكَبِدِ وَالْقَلْبِ

وَالطِّحَالِ، أَوْ ظَاهِرًا كَالْيَدِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُفْصَلُ فِي الْحَيَاةِ كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ، أَمْ لَا كَالْأُصْبُعِ، وَالْأَصْبُعُ الزَّائِدَةُ كَالْأَصْلِيَّةِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ قَوْلًا ضَعِيفًا فِي الشَّعْرِ، كَمَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلَا شَكَّ فِي اطِّرَادِهِ فِي السِّنِّ وَالظُّفْرِ. قُلْتُ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ اتِّصَالَ السِّنِّ آكَدُ مِنَ الشَّعْرِ. وَأَمَّا اشْتِرَاكُهُمَا فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِهِ، فَلِعَدَمِ الْإِحْسَاسِ، وَلِأَنَّهُمَا جُزْءَانِ، فَأَشْبَهَا الْيَدَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ أَضَافَ إِلَى فَضَلَاتِ الْبَدَنِ كَالرِّيقِ، وَالْعَرَقِ، وَالْمُخَاطِ، وَالْبَوْلِ، أَوْ إِلَى الْأَخْلَاطِ كَالْبَلْغَمِ، وَالْمِرَّتَيْنِ لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَالْإِمَامُ وَجْهًا: وَإِنْ أَضَافَ إِلَى اللَّبَنِ وَالْمَنِيِّ، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُمَا مُتَهَيِّئَانِ لِلْخُرُوجِ كَالْبَوْلِ. وَلَوْ قَالَ: جَنِينُكِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ فِي قَوْلِهِ: الْمَاءُ أَوِ الطَّعَامُ الَّذِي فِي جَوْفِكِ طَالِقٌ. وَلَوْ أَضَافَ إِلَى الشَّحْمِ، طُلِّقَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِلَى الدَّمِ، تُطَلَّقُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ أَضَافَ إِلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِالذَّاتِ، كَالسِّمْنِ وَالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ وَالْمَلَاحَةِ، وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَالْكَلَامِ وَالضَّحِكِ، وَالْبُكَاءِ وَالْغَمِّ، وَالْفَرَحِ، وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا فِي الْحُسْنِ وَالْحَرَكَةِ، وَالسُّكُونِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، ثُمَّ الْوَجْهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ سَائِرِ الصِّفَاتِ. وَلَوْ قَالَ: ظِلُّكِ، أَوْ طَرِيقُكِ، أَوْ صُحْبَتُكِ، أَوْ نَفَسُكِ بِفَتْحِ الْفَاءِ،

أَوِ اسْمُكِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالِاسْمِ ذَاتَهَا وَوُجُودَهَا، فَتُطَلَّقُ. وَلَوْ قَالَ: رُوحُكِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ فِيهِ خِلَافًا مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ أَوْ عَرَضٌ. وَلَوْ قَالَ: حَيَاتُكِ طَالِقٌ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: تُطَلَّقُ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ أَرَادَ الرُّوحَ، طُلِّقَتْ، وَهَذَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ [إِنْ] أَرَادَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالْحَيِّ، لَا تُطَلَّقُ كَسَائِرِ الْمَعَانِي، وَبِهَذَا قَطَعَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ عَدَمَ الْوُقُوعِ. فَرْعٌ إِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى جُزْءٍ أَوْ عُضْوٍ مُعَيَّنٍ، فَفِي كَيْفِيَّةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَقَعُ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَسْرِي إِلَى بَاقِي الْبَدَنِ، كَمَا يَسْرِي الْعِتْقُ. وَالثَّانِي: يَجْعَلُ الْمُضَافَ إِلَيْهِ عِبَارَةً عَنِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الطَّلَاقُ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، جَعَلَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ طَلْقَةٍ. وَلَا يُقَالُ: يَقَعُ نِصْفُ طَلْقَةٍ ثُمَّ يَسْرِي، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحَّ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي صُوَرٍ. مِنْهَا: إِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَيَمِينُكِ طَالِقٌ، فَقَطَعَتْ يَمِينَهَا، ثُمَّ دَخَلَتْ، إِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، طُلِّقَتْ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ قَالَ لِمَنْ لَا يَمِينَ لَهَا: يَمِينُكِ طَالِقٌ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: التَّخْرِيجُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الطَّلَاقِ. وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْإِمَامُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ جَعَلَ الْبَعْضَ عِبَارَةً عَنِ الْكُلِّ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِتَنْتَظِمَ الْإِضَافَةُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ، لَغَتِ الْإِضَافَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: لِحْيَتُكِ أَوْ ذَكَرُكِ طَالِقٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ.

وَمِنْهَا: قَالَ الْمُتَوَلِّي: الْقَوْلُ بِعَدَمِ الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ: حُسْنُكِ أَوْ بَيَاضُكِ طَالِقٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِالسِّرَايَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الصِّفَاتِ. أَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْبَعْضَ عِبَارَةً عَنِ الْجُمْلَةِ، فَيَجْعَلُ الصِّفَةَ عِبَارَةً عَنِ الْمَوْصُوفِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيفٌ، مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ وَلِإِطْلَاقِ الْأَصْحَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: يَدُكِ أُمُّ وَلَدِي، أَوْ قَالَ لِطِفْلٍ الْتَقَطَهُ: يَدُكِ ابْنِي، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ جَعَلْنَا الْبَعْضَ عِبَارَةً عَنِ الْجُمْلَةِ، كَانَ إِقْرَارًا بِالِاسْتِيلَادِ أَوِ النَّسَبِ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ لَوْ أَضَافَ الْعِتْقَ إِلَى يَدِ عَبْدِهِ أَوْ رَأْسِهِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى جُزْءٍ شَائِعٍ، قَالَ الْإِمَامُ: الْمَذْهَبُ تَقَدُّمُ السِّرَايَةِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ يُمْكِنُ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ فِيهِ، وَوُقُوعُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ، لِأَنَّ إِعْتَاقَهُ بَعْضَ عَبْدِهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. قُلْتُ: يُتَصَوَّرُ فِيمَا إِذَا أَعْتَقَ عَبَدَهُ الْمَرْهُونَ وَهُوَ مُوسِرٌ بِقِيمَةِ بَعْضِهِ وَقُلْنَا بِالْأَظْهَرِ: إِنَّهُ يَنْفُذُ، عِتْقُ الْمُوسِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ أَشَارَ إِلَى عُضْوٍ مُبَانٍ، وَوَصَفَهُ بِالطَّلَاقِ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَلَوْ فُصِلَتْ أُذُنُهَا

فصل

ثُمَّ أُلْصِقَتْ فَالْتَحَمَتْ، أَوْ سَقَطَتْ شَعْرَةٌ ثُمَّ ثَبَتَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَنَمَتْ، فَأَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَيْهَا، لَمْ تُطَلَّقِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: قَوْلُهُ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ اتَّبَعَ فِيهِ الْغَزَالِيَّ وَلَيْسَ هُوَ شَرْطًا، فَلَوْ ثَبَتَتْ فِي مَوْضِعِهَا، كَانَ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ مَسْأَلَةَ الشَّعْرَةِ قَلَّ أَنْ تُوجَدَ فِي غَيْرِ «الْوَسِيطِ» بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْأُذُنِ، فَإِنَّهَا مَشْهُورَةٌ بِالْوَجْهَيْنِ، لَكِنْ أَنْكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَصَوُّرَهَا فِي الْعَادَةِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ، وَنَوَى إِيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، طُلِّقَتْ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إِيقَاعَهُ عَلَيْهَا، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ، وَقِيلَ: تُطَلَّقُ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. فَعَلَى هَذَا، لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ أَصِلِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ اللَّفْظَ كِنَايَةٌ لِكَوْنِهِ أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ، فَمَتَى نَوَى إِيقَاعَهُ عَلَيْهَا، كَانَ نَاوِيًا أَصْلَ الطَّلَاقِ. وَلَوْ جَرَّدَ الْقَصْدَ إِلَى تَطْلِيقِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى نِيَّةِ أَصِلِ الطَّلَاقِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ قَطْعًا. وَقِيلَ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْكِ بَائِنٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ أَصِلِ الطَّلَاقِ. وَفِي نِيَّةِ الْإِضَافَةِ إِلَيْهَا، الْوَجْهَانِ. وَإِذَا نَوَاهَا، وَقَعَ، وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْكِنَايَاتِ، كَقَوْلِهِ: أَنَا مِنْكِ خَلِيٌّ أَوْ بَرِيٌّ. وَلَوْ قَالَ: أَسْتَبْرِئُ رَحِمِي مِنْكِ، أَوْ أَنَا مُعْتَدٌّ مِنْكِ، أَوْ مُسْتَبْرِئٌ رَحِمِي وَنَوَى تَطْلِيقَهَا، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنَا مِنْكَ حُرٌّ، أَوْ أَعْتَقْتُ نَفْسِي مِنْكَ وَنَوَى إِعْتَاقَ الْعَبْدِ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَشْمَلُ الْجَانِبَيْنِ، وَالرِّقَّ مُخْتَصٌّ بِالْعَبْدِ.

فَرْعٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُكَ أَوْ أَنْتَ طَالِقٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ لَهَا: أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ، وَكَذَا إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتِقْ نَفْسَكَ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُكَ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ، فَهُوَ كَقَوْلِ السَّيِّدِ: أَنَا مِنْكَ حُرٌّ. الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَحَلِّ، فَلَوْ قَالَ لِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ فِي عِدَّتِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ. طُلِّقَتْ. وَالْمُخْتَلِعَةُ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، لَا فِي عِدَّتِهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إِذَا نَكَحْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَنْكِحُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَنَكَحَ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: فِي الْوُقُوعِ قَوْلَانِ، حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَتَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ، كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ بِلَا فَرْقٍ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ وَهُوَ لِأَجْنَبِيٍّ، فَهُوَ لَغْوٌ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَهُ إِنْ مَلَكْتُهُ، فَوَجْهَانِ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ فِي الذِّمَّةِ، لَكِنْ مُتَعَلِّقٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ. وَأَجْرَى الْوَجْهَانِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا مَلَكْتُ عَبْدَ فُلَانٍ، فَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِزَيْدٍ. وَلَوْ أَرْسَلَ الْوَصِيَّةَ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، صَحَّتْ عَلَى الصَّحِيحِ كَالنَّذْرِ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهًا، أَنَّهَا لَا تَصِحُّ. فَرْعٌ لَوْ عَلَّقَ الْعَبْدُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ إِمَّا مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَعَتَقَ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ، وَإِمَّا مُقَيَّدٌ بِحَالَةِ مِلْكِ الثَّالِثَةِ بِأَنْ قَالَ: إِذَا عَتَقْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَفِي صِحَّةِ تَعْلِيقِ الثَّالِثَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ وَبِهِ

فصل

قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَيُحْكَمُ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَصْلَ النِّكَاحِ، وَهُوَ يُفِيدُ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ بِشَرْطِ الْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ وَجَدَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فِي حَالِ الْبِدْعَةِ طَلَاقَ السُّنَّةِ، وَيَمْلِكُ تَعْلِيقَهُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي قَوْلِهِ لِأَمَتِهِ: إِذَا وَلَدْتِ فَوَلَدُكِ حُرٌّ وَكَانَتْ حَائِلًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ. فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا حِينَئِذٍ، عَتَقَ قَطْعًا. فَصْلٌ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِصِفَةٍ كَدُخُولِ الدَّارِ، ثُمَّ أَبَانَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ بِعِوَضٍ أَوْ بِالثَّلَاثِ، وَوُجِدَتِ الصِّفَةُ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ ثُمَّ نَكَحَهَا، ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ ثَانِيًا، أَوِ ارْتَدَّ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَنَكَحَهَا، فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ ثَانِيًا، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ. كَمَا لَوْ لَمْ تُوجَدِ الصِّفَةُ حَالَ الْبَيْنُونَةِ، وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِصِفَةٍ، ثُمَّ أَزَالَ مِلْكَهُ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ، لَمْ يُؤَثِّرْ وُجُودُ الصِّفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ التَّعْلِيقُ بِصِيغَةِ «كُلَّمَا» فَإِنْ كَانَ بِهَا كَقَوْلِهِ: كُلَّمَا دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ: فَإِذَا وُجِدَتِ الصِّفَةُ فِي الْبَيْنُونَةِ، ثُمَّ جَدَّدَ نِكَاحَهَا، فَفِي عَوْدِ الصِّفَةِ الْقَوْلَانِ. أَمَّا إِذَا لَمْ تُوجَدِ الصِّفَةُ حَالَ الْبَيْنُونَةِ، ثُمَّ وُجِدَتْ بَعْدَمَا جَدَّدَ نِكَاحَهَا، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: لَا يَقَعُ. وَالثَّانِي: يَقَعُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا. وَتَجْرِي الْأَقْوَالُ فِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَكَانَتِ الصِّفَةُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُهُ فِي الْبَيْنُونَةِ كَقَوْلِهِ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، تَخَلَّصَ مِنْهَا إِذَا أَبَانَهَا ثُمَّ نَكَحَهَا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، وَبِهِ أَجَابَ الْقَاضِي الرُّويَانِيُّ، وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِذَا بِنْتِ

مِنِّي وَنَكَحْتُكِ، وَدَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ بَعْدَمَا بِنْتِ مِنِّي وَنَكَحْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَالْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ وَالْمُعْتَبَرُونَ: لَا تُطَلَّقُ بِالدُّخُولِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَغَلَّطُوا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. فَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ قَبْلَ أَنْ أَبِينَكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ دَخَلْتِهَا بَعْدَمَا أَبَنْتُكِ وَنَكَحْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، صَحَّ التَّعْلِيقُ الْأَوَّلُ، وَبَطَلَ الثَّانِي. وَلَوْ عَلَّقَ عَلَى صِفَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا رَجْعِيَّةً فَرَاجَعَهَا، ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ، طُلِّقَتْ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ نِكَاحًا مُجَدَّدًا وَلَمْ تَحْدُثْ حَالَةٌ تَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ. وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدٍ بِصِفَةٍ، ثُمَّ أَزَالَ مِلْكَهُ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ مَلَكَهُ، ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ، فَفِي نُفُوذِ الْعِتْقِ الْخِلَافُ فِي عَوْدِ الْيَمِينِ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ كَالْإِبَانَةِ بِالثَّلَاثِ، لِأَنَّ الْعَائِدَ مِلْكٌ جَدِيدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَوَّلِ، كَالنِّكَاحِ بَعْدَ الثَّلَاثِ. وَقِيلَ: هُوَ كَالْإِبَانَةِ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالصِّفَةِ حَالَةٌ تَمْنَعُ مِلْكَهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ هُنَاكَ حَالَةٌ تَمْنَعُ نِكَاحَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَالْإِبَانَةِ بِالثَّلَاثِ إِذَا عَلَّقَ ذِمِّيٌّ عِتْقَ عَبْدِهِ الذِّمِّيِّ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فَنَقَضَ الْعَهْدَ، وَالْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، فَمَلَكَهُ سَيِّدُهُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ حَالَةٌ يَمْتَنِعُ فِيهَا الْمِلْكُ وَهِيَ حَالَةُ الْحَرْبِ. فَرْعٌ الْخِلَافُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخِلَافِ فِي عَوْدِ الْحِنْثِ وَبِالْخِلَافِ فِي عَوْدِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ عَلَى قَوْلٍ لَا يَتَنَاوَلُ الْيَمِينُ النِّكَاحَ الثَّانِي، وَلَا يَحْصُلُ الْحِنْثُ فِيهِ. وَعَلَى قَوْلٍ يَتَنَاوَلُهُ وَيَحْصُلُ الْحِنْثُ. فَرْعٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا رَاجَعَ الرَّجْعِيَّةَ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ هِيَ أَوْ غَيْرُهَا بِطَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ، ثُمَّ جَدَّدَ نِكَاحَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ، أَوْ بَعْدَ نِكَاحِ وَوَطْءِ الزَّوْجِ الثَّانِي، عَادَتْ إِلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ. وَلَوْ بَانَتْ بِالثَّلَاثِ فَنَكَحَهَا آخَرُ وَوَطِئَهَا وَفَارَقَهَا، فَنَكَحَهَا الْأَوَّلُ، عَادَتْ إِلَيْهِ بِالثَّلَاثِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، لِاسْتِغْرَاقِ الْأَوَّلِ. فَصْلٌ الْحُرُّ يَمْلِكُ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ عَلَى زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا طَلْقَتَيْنِ عَلَى الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَالْمُدَبَّرُ وَالْمَكَاتَبُ وَمَنْ بَعْضَهُ حُرٌّ، كَالْقِنِّ. وَمَتَى طَلَّقَ الْحُرُّ أَوِ الْعَبْدُ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمُطَلَّقَةُ حَتَّى يَنْكِحَ زَوْجًا آخَرَ، وَيَطَأَهَا وَيُفَارِقَهَا كَمَا سَبَقَ. فَرْعٌ طَلَّقَ ذِمِّيٌّ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً، ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، وَنَكَحَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ، مَلَكَ عَلَيْهَا طَلْقَةً فَقَطْ. وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ وَأَرَادَ نِكَاحَهَا بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: تَحِلُّ لَهُ وَيَمْلِكُ عَلَيْهَا طَلْقَةً، لِأَنَّهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بِالطَّلْقَتَيْنِ، فِطَرَيَانُ الرِّقِّ لَا يَرْفَعُ الْحِلَّ الثَّابِتَ. وَقِيلَ: لَا تَحِلُّ لَهُ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ وَقَدْ طَلَّقَ طَلْقَتَيْنِ. وَلَوْ طَلَّقَ الْعَبْدُ طَلْقَةً ثُمَّ عَتَقَ فَرَاجَعَهَا، أَوْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، مَلَكَ عَلَيْهَا طَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، لِأَنَّهُ عَتَقَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ عَدَدِ الرَّقِيقِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ، ثُمَّ عَتَقَ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ طَلَّقَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ طَلْقَتَيْنِ، وَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ عَتَقَ أَوَّلًا،

فصل

فَلَهُ رَجْعَتُهَا وَتَجْدِيدُ نِكَاحِهَا. وَإِنْ طَلَّقَ أَوَّلًا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِمُحَلِّلٍ. فَلَوْ أَشْكَلَ السَّابِقُ وَاعْتَرَفَ الزَّوْجَانِ بِالْإِشْكَالِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْأَكْثَرُونَ: لَيْسَ لَهُ رَجْعَتُهَا وَلَا نِكَاحُهَا إِلَّا بِمُحَلِّلٍ. وَقِيلَ: تَحِلُّ رَجْعَتُهَا وَالتَّجْدِيدُ إِنْ بَانَتْ، وَلَا يُفْتَقَرُ إِلَى مُحَلِّلٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا تَحْرِيمَ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي السَّابِقِ، نُظِرَ إِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ كَيَوْمِ الْجُمْعَةِ، وَقَالَ: عَتَقْتُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقَالَتْ: بَلْ يَوْمَ السَّبْتِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَإِنِ اتَّفَقَا أَنَّ الْعِتْقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَقَالَتْ: طُلِّقْتُ يَوْمَ السَّبْتِ فَقَالَ: بَلْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ أَحَدِهِمَا وَقَالَ: طَلَّقْتُكِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَقَالَتْ: قَبْلَهُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِوَقْتِ الطَّلَاقِ. فَرْعٌ سَبَقَ فِي التَّحْلِيلِ لَوْ قَالَتِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا: نَكَحَنِي زَوْجٌ وَأَصَابَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي مِنْهُ وَلَمْ يَظُنَّ، صَدَّقَهَا لِأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْكِحَهَا. وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنِ الْحَالِ؟ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجِبُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: أَنَا أَقُولُ: يَجِبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. فَصْلٌ طَلَاقُ الْمَرِيضِ فِي الْوُقُوعِ، كَطَلَاقِ الصَّحِيحِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، بَقِيَ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا. فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا وَرِثَهُ الْآخَرُ، وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا، لَا يَرِثُهُ. وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ طَلَاقًا بَائِنًا، فَفِي كَوْنِهِ قَاطِعًا لِلْمِيرَاثِ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: يَقْطَعُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَالْقَدِيمُ، لَا يَقْطَعُ، وَحُجَّةُ الْجَدِيدِ انْقِطَاعُ الزَّوْجِيَّةِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا بِالِاتِّفَاقِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَلَا إِشْكَالَ وَلَا تَفْرِيعَ لِوُضُوحِ أَحْكَامِهِ. وَأَمَّا الْقَدِيمُ، فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ. مِنْهَا: هَلْ تَرِثُ

مَا لَمْ تَنَقَضِ عِدَّتُهَا، أَمْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، أَمْ أَبَدًا؟ فِيهِ أَقْوَالٌ. فَإِنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَجَرَى الْآخَرَانِ. وَلَوْ أَبَانَ فِي مَرَضِهِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، وَنَكَحَ أَرْبَعًا، ثُمَّ مَاتَ، فَهَلْ يَكُونُ الْإِرْثُ لِلْأُولَيَّاتِ لِسَبْقِهِنَّ، أَمْ لِلْأُخْرَيَاتِ لِأَنَّ هُنَّ الزَّوْجَاتُ، أَمْ يَشْتَرِكُ الثَّمَانِ؟ فِيهِ أَوْجُهُ. أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: وَسَبَبُ الْخِلَافِ مَا فِي تَوْرِيثِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ مِنْ الِاسْتِبْعَادِ. فَلَوْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ وَنَكَحَ أُخْرَى، فَلَا وَجْهَ إِلَّا تَوْرِيثَهُمَا. وَلَوْ أَبَانَ وَاحِدَةً وَنَكَحَ أَرْبَعًا أَوْ بِالْعَكْسِ، جَرَى الْخِلَافُ، وَإِنَّمَا تَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ عَلَى الْقَدِيمِ إِذَا طَلَّقَهَا لَا بِسُؤَالِهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا بِسُؤَالِهَا، أَوِ اخْتَلَعَتْ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ، فَشَاءَتْ، لَمْ تَرِثْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: تَرِثُ وَإِنْ طَلَّقَ بِسُؤَالِهَا. وَلَوْ سَأَلَتْهُ فَلَمْ تُطَلَّقْ فِي الْحَالِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ سَأَلَتْهُ رَجْعِيًّا فَأَبَانَهَا، وَرِثَتْ لِأَنَّهُ فَارٌّ. وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا فِي الْمَرَضِ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ، أَوْ فِعْلِ نَفْسِهِ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ، فَهُوَ فَارٌّ وَفِي الْأَجْنَبِيِّ وَجْهٌ. وَإِنْ عَلَّقَ بِفِعْلِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ، كَالنَّوْمِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ الْمَفْرُوضَيْنِ، فَفَارٌّ. قُلْتُ: وَهَذَا فِي الْأَكْلِ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَإِنْ أَكَلَتْ مُتَلَذِّذَةً، أَكْلًا يَضُرُّهَا فَلَيْسَ بِفَارٍّ. قَالَهُ الْإِمَامُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ، فَفَارٌّ إِنْ لَمْ تَعْلَمِ التَّعْلِيقَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ عَلِمَتْ ثُمَّ نَسِيَتْ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ فَارٌّ. وَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا فِي الصِّحَّةِ بِصِفَةٍ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِي الْمَرَضِ كَقَوْلِهِ: إِذَا مَرِضْتُ مَرَضَ الْمَوْتِ، أَوْ وَقَعْتُ فِي النَّزْعِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَفَارٌّ: وَإِنِ احْتَمَلَ وَجُودَهَا

فِي الْمَرَضِ وَقَبْلَهُ، كَقَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ غَدٌ، أَوْ قَدِمَ زَيْدٌ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَجَاءَ أَوْ قَدِمَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَيْسَ بِفَارٍّ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ فَسَخَ النِّكَاحَ بِعَيْنِهَا أَوْ لَاعَنَهَا، فَلَيْسَ بِفَارٍّ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْقَذْفُ فِي الْمَرَضِ، فَفَارٌّ. قُلْتُ: وَقِيلَ: إِنَّ الْفَاسِخَ فَارٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ طَلَّقَ الْعَبْدُ امْرَأَتَهُ، أَوِ الْحَرُّ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ، أَوِ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً، ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ، أَوْ أَسْلَمَتِ الذِّمِّيَّةُ فِي الْعِدَّةِ، فَلَا إِرْثَ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً يَوْمَ الطَّلَاقِ، فَلَا تُهْمَةَ. وَكَذَا لَوْ أَبَانَهَا فِي مَرَضِهِ بَعْدَمَا ارْتَدَّ، أَوِ ارْتَدَّتْ ثُمَّ جَمَعَهُمَا الْإِسْلَامُ فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً يَوْمَئِذٍ. وَلَوِ ارْتَدَّتْ بَعْدَمَا أَبَانَهَا فِي الْمَرَضِ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَهُوَ فَارٌّ لِلتُّهْمَةِ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا، فَعَتَقَتْ قَبْلَ الْغَدِ، أَوْ طَلَّقَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا عَتَقَتْ، فَلَيْسَ بِفَارٍّ، وَكَذَا لَوِ ارْتَدَّ فِي الْمَرَضِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ وَأَصَرَّ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمَاتَ، لَمْ يَكُنْ فَارًّا عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِتَبْدِيلِ الدِّينِ حِرْمَانَهَا الْإِرْثَ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ بِطَرْدِهِ فِيمَا لَوِ ارْتَدَّتْ هِيَ حَتَّى تُجْعَلَ فَارَّةً، فَيَرِثُهَا الزَّوْجُ. وَلَوْ أَبَانَ مُسْلِمَةً فِي الْمَرَضِ، وَارْتَدَّتْ وَعَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي الْعِدَّةِ، وَرِثَتْ لِأَنَّهَا بِصِفَةِ الْوَارِثِينَ يَوْمَيِ الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ، وَكَذَا لَوْ عَادَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ، إِنْ قُلْنَا: الْمَبْتُوتَةُ تَرِثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَلَوْ طَلَّقَ الْأَمَةَ فِي الْمَرَضِ، وَعَتَقَتْ وَاخْتَلَفَا فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِرْثٌ، وَقَالَ الْوَارِثُ: بَلْ قَبْلَهُ فَلَا إِرْثَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الرِّقِّ.

وَلَوْ أَرْضَعَتْ زَوْجَهَا الصَّغِيرَ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا، فَقِيلَ: تُجْعَلُ فَارَّةً فَيَرِثُهَا الزَّوْجُ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضٍ، بِأَنَّهُ أَبَانَهَا فِي الصِّحَّةِ، لَمْ يُجْعَلْ فَارًّا وَيُصَدَّقْ فِيمَا قَالَهُ، وَتُحْسَبُ الْعِدَّةُ مِنْ يَوْمَئِذٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ لِلتُّهْمَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ، ثُمَّ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَالَ: عَنَيْتُ هَذِهِ، قَبْلَ قَوْلِهِ، وَلَمْ تَرِثْ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبْهَمَ، فَعَيَّنَ فِي الْمَرَضِ وَاحِدَةً، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: يَخْرُجُ عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ إِيقَاعٌ لِلطَّلَاقِ فِي الْمُعَيَّنَةِ، أَمْ بَيَانٌ لِمَحَلِّ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ؟ إِنْ قُلْنَا: بِالثَّانِي، لَمْ تَرِثْ. وَإِلَّا فَعَلَى قَوْلَيْ تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ. قُلْتُ: إِنَّمَا تَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ عَلَى الْقَدِيمِ إِذَا أَنْشَأَ تَنْجِيزَ طَلَاقِ زَوْجَتِهِ الْوَارِثَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا فِي مَرَضٍ مُخَوِّفٍ، وَاتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ وَمَاتَ بِسَبَبِهِ. فَإِنْ بَرِأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، ثُمَّ مَاتَ، لَمْ تَرِثْ قَطْعًا. وَلَوْ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ، أَوْ قُتِلَ: فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ، فَقَطَعَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرُهُ، بِأَنَّهَا لَا تَرِثُ عَلَى الْقَدِيمِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» : تَرِثُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي تَعَدُّدِ الطَّلَاقِ فِيهِ أَطْرَافٌ. [الطَّرَفُ] الْأَوَّلُ: فِي نِيَّةِ الْعَدَدِ. فَإِذَا قَالَ: طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى طَلْقَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، وَقَعَ مَا نَوَى وَكَذَا حُكْمُ الْكِنَايَةِ. قُلْتُ: وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بِالنَّصْبِ، وَنَوَى طَلْقَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يَقَعُ مَا نَوَى، صَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ. وَالثَّالِثُ قَالَهُ الْقَفَّالُ: إِنْ بَسَطَ نِيَّةَ الثَّلَاثِ عَلَى جَمِيعِ اللَّفْظِ، لَمْ تَقَعِ الثَّلَاثُ. وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَعَ الثَّلَاثُ وَلَغَا ذِكْرُ وَاحِدَةٍ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ طَلْقَةً مُلَفَّقَةً مِنْ أَجْزَاءِ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ: وَقَعَ الثَّلَاثُ قَطْعًا. وَحَكَى الْإِمَامُ طَرْدَ وَجْهٍ فِيهِ، لِبُعْدِ اللَّفْظِ وَالْفَهْمِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ بِالرَّفْعِ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ، بِحَذْفِ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَنَوَى الثَّلَاثَ، وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: وُقُوعُ مَا نَوَاهُ. وَالثَّانِي: تَقَعُ وَاحِدَةٌ فَقَطْ. فَرْعٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ بِاثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، وَنَوَى الطَّلَاقَ، وَقَعَ. ثُمَّ إِنْ نَوَى طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، وَقَعَ الْمَلْفُوظُ بِهِ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ صَرِيحٌ فِي الْعَدَدِ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ. فَإِذَا نَوَى أَصْلَ الطَّلَاقِ، وَقَعَ الْعَدَدُ الْمُصَرَّحُ بِهِ. وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَقَعُ مَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ. فَرْعٌ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَاتَتْ قَبْلَ تَمَامِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ تَمَامِهِ قَبْلَ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا، فَهَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ أَمْ وَاحِدَةٌ، أَمْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؟ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَصَحُّهَا الْأَوَّلُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفَتْوَى، أَنَّهُ إِنْ نَوَى الثَّلَاثَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ

فصل

وَكَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُحَقِّقَهُ بِاللَّفْظِ، وَقَعَ الثَّلَاثُ وَإِلَّا فَوَاحِدَةٌ، وَهَكَذَا قَالَ الْمُتَوَلِّي فِي تَعْبِيرِهِ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَرِدَّتُهَا وَإِسْلَامُهَا، إِذَا لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا قَبْلَ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا، كَمَوْتِهَا، وَكَذَا لَوْ أَخَذَ شَخْصٌ عَلَى فَمِهِ وَمَنَعَهُ أَنْ يَقُولَ: ثَلَاثًا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى عَزْمِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، فَمَاتَتْ فَقَالَ: ثَلَاثًا، قَالَ الْإِمَامُ: لَا شَكَّ أَنَّ الثَّلَاثَ لَا تَقَعُ، وَتَقَعُ الْوَاحِدَةُ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، كَيْفَ سَبِيلُهُ؟ فَقِيلَ: قَوْلُهُ: ثَلَاثًا مَنْصُوبٌ بِالتَّفْسِيرِ وَالتَّمْيِيزِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا جَهْلٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: طَالِقٌ طَلَاقًا ثَلَاثًا. كَقَوْلِهِ: ضَرَبْتُ زَيْدًا شَدِيدًا، أَيْ: ضَرْبًا شَدِيدًا. فَصْلٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الْبَيْتِ أَوِ الْبَلَدِ أَوِ السَّمَاءِ أَوِ الْأَرْضِ، أَوْ مِثْلَ الْجَبَلِ، أَوْ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، أَوْ أَكْبَرَ الطَّلَاقِ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، أَوْ أَعْظَمَهُ، أَوْ أَشَدَّهُ، أَوْ أَطْوَلَهُ، أَوْ أَعْرَضَهُ، أَوْ طَلْقَةً كَبِيرَةً، أَوْ عَظِيمَةً، لَمْ يَقَعْ بِاللَّفْظِ إِلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ الطَّلَاقِ أَوْ أَكْثَرَهُ، وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَلَوْ قَالَ: عَدَدَ التُّرَابِ، قَالَ الْإِمَامُ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: عِنْدِي يَقَعُ الثَّلَاثُ كَمَا لَوْ قَالَ: عَدَدَ أَنْوَاعِ التُّرَابِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَزْنَ دِرْهَمٍ، أَوْ دِرْهَمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا لَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلْقَةٌ. وَلَوْ قَالَ: يَا مِائَةَ طَالِقٍ، أَوْ أَنْتِ مِائَةُ طَالِقٍ، نَقَلَ الْبَغَوِيُّ، وَالْمُتَوَلِّي: أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِائَةً. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ كَمِائَةِ طَالِقٍ فَهَلْ تَقَعُ وَاحِدَةٌ أَمْ ثَلَاثٌ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا، لَمْ يَقَعْ إِلَّا وَاحِدَةٌ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي.

فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: يُنْظَرُ إِنْ قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ أَوِ التَّعْلِيقَ، فَلَمْ يُتِمَّهُ، فَلَا أَرَى أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهُ، وَيُصَدَّقُ إِذَا فَسَّرَ بِهِ لِلْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَا التَّعْلِيقَ، وَقَعَ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالِاسْتِثْنَاءِ بِلَا نِيَّةٍ، لَمْ يَقَعْ، فَهُنَا أَوْلَى. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي التَّكْرَارِ: فِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، نُظِرَ إِنْ سَكَتَ بَيْنَهُمَا سَكْتَةً فَوْقَ سَكْتَةِ التَّنَفُّسِ وَنَحْوِهِ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ التَّأْكِيدَ، لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا وَيُدَيَّنُ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُتْ وَقَصَدَ التَّأْكِيدَ قُبِلَ وَلَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلْقَةٌ، وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِئْنَافَ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَكَذَا إِنْ أَطْلَقَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ، فَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: يَقَعُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ طَلْقَةٌ قَطْعًا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. وَلَوْ كَرَّرَ اللَّفْظَةَ ثَلَاثًا، وَأَرَادَ بِالْآخِرَتَيْنِ تَأْكِيدَ الْأُولَى لَمْ يَقَعْ إِلَّا وَاحِدَةٌ وَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِئْنَافَ، وَقَعَ الثَّلَاثُ وَإِنْ أَطْلَقَ فَكَذَا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ قَالَ: قَصَدْتُ بِالثَّالِثَةِ تَأْكِيدَ الثَّانِيَةِ، وَبِالثَّانِيَةِ تَأْكِيدَ الْأُولَى، وَبِالثَّالِثَةِ الِاسْتِئْنَافَ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ. وَلَوْ قَصَدَ بِالثَّالِثَةِ تَأْكِيدَ الْأُولَى، وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: طَلْقَتَانِ، وَلَا يَقْدَحُ هَذَا الْفَصْلُ الْيَسِيرِ. وَإِنْ قَصَدَ بِالثَّانِيَةِ الِاسْتِئْنَافَ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِالثَّالِثَةِ شَيْئًا أَوْ بِالثَّالِثَةِ الِاسْتِئْنَافَ وَلَمْ يَقْصِدْ بِالثَّانِيَةِ شَيْئًا، وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ طَلْقَتَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ، أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ، أَنْتِ مُفَارَقَةٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: تَقَعُ هُنَا الثَّلَاثُ قَطْعًا، حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَقَالَ: قَصَدْتُ بِالثَّانِي تَأْكِيدَ الْأَوَّلِ، لَمْ يُقْبَلْ فِي الظَّاهِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ بِالثَّالِثِ تَأْكِيدَ الثَّانِي لِتَسَاوِيهِمَا،

وَيَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الِاسْتِئْنَافَ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: قَصَدْتُ بِالثَّالِثِ تَأْكِيدَ الْأَوَّلِ، لَمْ يُقْبَلْ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَطَالِقٌ، فَطَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَطَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، بَلْ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، فَطَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، تَعَيَّنَ الثَّلَاثُ وَلَا مَدْخَلَ لِلتَّأْكِيدِ لِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ. وَنَصَّ فِي «الْإِمْلَاءِ» ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَطَالِقٌ، لَا بَلْ طَالِقٌ. وَقَالَ: شَكَكْتُ فِي الثَّانِيَةِ، فَاسْتَدْرَكْتُ بِقَوْلِي: لَا بَلْ طَالِقٌ لِأُحَقِّقَ إِيقَاعَ الثَّانِيَةِ قُبِلَ وَلَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلْقَتَانِ، فَجَعَلَ الْأَصْحَابُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْمُخْتَصَرِ: لَا يُقْبَلُ وَيَقَعُ الثَّلَاثُ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَغَايِرَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، بَلْ طَالِقٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ «لَا» ، فَالْمَذْهَبُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ قَطْعًا كَمَا سَبَقَ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ. فَرْعٌ قَالَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ فَطَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ وَطَالِقٌ. . لَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلْقَةٌ لِأَنَّهَا تَبِينُ بِهَا، فَلَا يَقَعُ مَا بَعْدَهَا. وَحُكِيَ وَجْهٌ وَقَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّهُ كَمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ لِمَدْخُولٍ بِهَا عَلَى مَا سَبَقَ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ فَأَشْبَهُ قَوْلَهُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ثَلَاثًا، بَيَانٌ لِلْأَوَّلِ بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. فَرْعٌ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، أَوْ قَالَ:

أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَدَخَلَتْ، وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَإِنْ قَالَهُ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: تَقَعُ الثَّلَاثُ أَيْضًا إِذَا دَخَلَتْ. وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ. وَالثَّالِثُ: إِنْ قَدَّمَ الْجَزَاءَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَإِنْ عَكَسَ فَوَاحِدَةٌ. وَإِنْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ، فَإِنْ قَصَدَ التَّأْكِيدَ، وَقَعَ طَلْقَةٌ. وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِئْنَافَ، وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ حَنِثَ فِي أَيْمَانٍ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، هَلْ تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ؟ وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ فَصْلٌ، أَوْ حَصَلَ وَاتَّحَدَ الْمَجْلِسُ. فَإِنِ اخْتَلَفَ فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ وَجْهَانِ. وَإِذَا حُمِلَ عَلَى التَّأْكِيدِ، فَيَقَعُ عِنْدَ الدُّخُولِ طَلْقَةٌ أَمْ يَتَعَدَّدُ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، وَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْأَصْحَابُ: تُطَلَّقُ بِالدُّخُولِ ثَلَاثًا سَوَاءٌ كَانَ مَدْخُولًا بِهَا أَمْ غَيْرِهَا لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَقَعُ دُفْعَةً. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَكَذَا فِي الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعَدُّدِ يَقَعُ الْجَمِيعُ حَالَ الدُّخُولِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، لَمْ يَقَعْ بِالدُّخُولِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إِلَّا طَلْقَةٌ لِأَنَّ «ثُمَّ» لِلتَّرَاخِي. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَكَذَا لَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً فَطَلْقَةً، أَوْ طَالِقٌ فَطَالِقٌ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَلَوْ قَالَ: طَلْقَةً بَلْ طَلْقَتَيْنِ، وَقَعَ الثَّلَاثُ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَقَعِ الزِّيَادَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَةٌ، أَوْ مَعَ

طَلْقَةٍ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ. وَهَلْ يَقَعَانِ مَعًا بِتَمَامِ الْكَلَامِ، أَمْ مُتَعَاقِبَيْنِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، طُلِّقَتْ عَلَى الْأَوَّلِ طَلْقَتَيْنِ، وَعَلَى الثَّانِي طَلْقَةً. وَلَوْ قَالَ: طَلْقَةً تَحْتَ طَلْقَةٍ، أَوْ تَحْتَهَا طَلْقَةٌ، أَوْ فَوْقَ طَلْقَةٍ، أَوْ فَوْقَهَا طَلْقَةٌ، فَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: حُكْمُهَا حُكْمُ «مَعَ» ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي كَلَامًا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إِلَّا طَلْقَةٌ، لِأَنَّ وَصْفَ الطَّلَاقِ بِالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ مُحَالٌ، فَيَلْغُو وَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ: طَالِقٌ طَالِقٌ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، كَمَا لَا يَلْزَمُ فِي الْإِقْرَارِ إِلَّا دِرْهَمٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالْحَنَّاطِيُّ. وَلَوْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَ طَلْقَةٍ، أَوْ بَعْدَهَا طَلْقَةٌ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ. إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى. وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَبَانَتْ. وَلَوْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَعْدَ طَلْقَةٍ، أَوْ قَبْلَهَا طَلْقَةٌ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ مُتَعَاقِبَتَانِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَبْلَهَا طَلْقَةٌ مَمْلُوكَةٌ أَوْ ثَابِتَةٌ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ ذَلِكَ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ لَا مَحَالَةَ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ تَعَاقُبِهِمَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَقَعُ أَوَّلًا الْمُنَجَّزَةُ، ثُمَّ الْمُضَمَّنَةُ، وَيَلْغُو قَوْلُهُ: قَبْلَهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ، يَقَعُ فِي الْحَالِ، وَيَلْغُو قَوْلُهُ: أَمْسِ. وَأَصَحُّهُمَا: تَقَعُ أَوَّلًا الْمُضَمَّنَةُ، ثُمَّ الْمُنَجَّزَةُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُضَمَّنَةَ تَقَعُ قَبْلَ تَمَامِ اللَّفْظِ، بَلْ يَقَعَانِ بَعْدَ تَمَامِ اللَّفْظِ، فَتَقَعُ الْمُضَمَّنَةُ عَقِبَ اللَّفْظِ، ثُمَّ الْمُنَجَّزَةُ فِي لَحْظَةٍ عَقِبَهَا. فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَقَعُ وَاحِدَةٌ. وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَالثَّالِثُ: يَقَعُ طَلْقَتَانِ، وَيَلْغُو قَوْلُهُ: قَبْلَهَا، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: طَلْقَتَيْنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ قَالَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ

طَالِقٌ طَلْقَةً، قَبْلَهَا طَلْقَةٌ وَبَعْدَهَا طَلْقَةٌ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا. وَلَوْ قَالَ: قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا طَلْقَةٌ، وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: طَلْقَتَانِ، وَيَلْغُو قَوْلُهُ: قَبْلَهَا. وَلَوْ خَاطَبَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا بِأَحَدِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، فَهَلْ يَقَعُ وَاحِدَةٌ أَمْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَمَتَى قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: بَعْدَهَا طَلْقَةٌ، أَيْ سَأُطَلِّقُهَا بَعْدَ هَذَا طَلْقَةً، لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا وَيُدَيَّنُ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: قَبْلَهَا أَنَّ زَوْجًا آخَرَ طَلَّقَهَا فِي نِكَاحٍ آخَرَ، فَعَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِيمَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، وَفُسِّرَ بِهَذَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَالصَّحِيحُ وُقُوعُ ثَلَاثٍ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا. وَقِيلَ: ثِنْتَيْنِ بِالْفَرَاغِ [مِنْ] وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَقِيَاسُ مَنْ قَالَ: يَقَعُ طَلْقَةٌ، إِذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَمَاتَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا: أَنْ يَقَعَ هُنَا طَلْقَةٌ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَيَتِمُّ الثَّلَاثُ بِقَوْلِهِ: ثَلَاثًا، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ مُرَتَّبَةً. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا، أَوْ قَالَ: إِحْدَى عَشْرَةَ، وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: وَاحِدَةً وَمِائَةً، لَمْ يَقَعْ إِلَّا وَاحِدَةٌ. وَلَوْ قَالَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَهَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ أَمْ وَاحِدَةٌ؟ وَجْهَانِ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، أَنَّهُ تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ كَقَوْلِهِ: وَاحِدَةٌ وَمِائَةٌ، بِخِلَافِ إِحْدَى عَشْرَةَ، فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُفْرَدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ قَالَ: طَلْقَةً وَنِصْفًا، لَمْ يَقَعْ إِلَّا وَاحِدَةٌ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، بَلْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَقَعَ ثَلَاثٌ، وَإِلَّا فَوَاحِدَةٌ. وَلَوْ قَالَ: ثِنْتَيْنِ بَلْ وَاحِدَةً، طُلِّقَتِ الْمَدْخُولُ بِهَا ثَلَاثًا، وَغَيْرُهَا طَلْقَتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثَلَاثًا إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يَقَعُ وَاحِدَةٌ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَيَتَعَلَّقُ طَلْقَتَانِ بِدُخُولِ الدَّارِ. وَالثَّانِي: يَتَعَلَّقُ الثَّلَاثُ بِالدُّخُولِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ تَخْصِيصَ الشَّرْطِ بِقَوْلِي: بَلْ ثَلَاثًا. فَإِنْ قَالَهُ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَبَيَّنَ بِالْوَاحِدَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَدَخَلَتْ، فَقِيلَ فِيهِ قَوْلَا عَوْدِ الْحِنْثِ، وَالْمَذْهَبُ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ قَطْعًا، لِأَنَّهَا إِذَا بَانَتْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِالدُّخُولِ وَاقِعًا فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، فَيَلْغُو. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَتَعَلَّقُ الثَّلَاثُ بِالدُّخُولِ، فَإِذَا دَخَلَتْ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فِيمَا إِذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، فَعَلَى وَجْهٍ: لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَعَلَى الْأَصَحِّ: يَقَعُ الثَّلَاثُ. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، بَلْ ثَلَاثًا إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: يَقَعُ طَلْقَتَانِ فِي الْحَالِ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الثَّالِثَةِ. وَعَلَى الثَّانِي تَتَعَلَّقُ الثَّلَاثُ بِالدُّخُولِ، فَإِذَا دَخَلَتْ، فَفِي وَجْهٍ يَقَعُ طَلْقَةٌ، وَعَلَى الْأَصَحِّ ثَلَاثٌ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً، قَبْلَهَا كُلُّ تَطْلِيقَةٍ، أَوْ بَعْدَهَا كُلُّ تَطْلِيقَةٍ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَقَعَ الثَّلَاثُ مَعَ تَرْتِيبٍ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَبَاقِي الثَّلَاثِ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَقَعُ وَاحِدَةٌ. وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ.

فَرْعٌ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ، فَإِنْ نَوَى عَدَدًا، وَقَعَ، وَإِلَّا فَوَاحِدَةٌ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حَتَّى تَتِمَّ ثَلَاثٌ، فَهَلْ تَقَعُ ثَلَاثٌ، أَمْ تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ، فَوَاحِدَةٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حَتَّى أُكْمِلَ ثَلَاثًا، أَوْ أُوقِعَ عَلَيْكِ ثَلَاثًا، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْوَانًا مِنَ الطَّلَاقِ، تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ، فَوَاحِدَةٌ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: يَا مُطَلَّقَةُ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَكَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرَدْتُ تِلْكَ الطَّلْقَةَ، فَهَلْ يُقْبَلُ أَمْ يَقَعُ أُخْرَى؟ وَجْهَانِ. ذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: أَنَّهُ لَوْ قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي وَطَلِّقْنِي وَطَلِّقْنِي، أَوْ طَلِّقْنِي طَلِّقْنِي طَلِّقْنِي، أَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ، أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنْ نَوَى عَدَدًا، وَقَعَ، وَإِلَّا فَوَاحِدَةٌ، وَأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ثُمَّ قَالَ: جَعَلْتُهَا ثَلَاثًا، فَهُوَ لَغْوٌ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي الْحِسَابِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. الْأَوَّلُ: فِي حِسَابِ الضَّرْبِ، فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي وَاحِدَةٍ، أَوْ طَلْقَةً فِي طَلْقَةٍ، سُئِلَ عَنْ مُرَادِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ طَلْقَةً مَعَ طَلْقَةٍ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الظَّرْفَ أَوِ الْحِسَابَ، أَوْ لَمْ أُرِدْ شَيْئًا، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً فِي طَلْقَتَيْنِ، أَوْ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ، وَأَرَادَ مَعَ اثْنَتَيْنِ، وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَإِنْ أَرَادَ الْحِسَابَ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَإِنْ جَهِلَهُ وَقَالَ: أَرَدْتُ مَا يَزِيدُهُ الْحِسَابُ، فَطَلْقَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: طَلْقَتَانِ.

وَأَجْرَى الْوَجْهَانِ فِي قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ مِثْلَ مَا طَلَّقَ زَيْدٌ وَهُوَ لَا يَدْرِي كَمْ طَلَّقَ زَيْدٌ. وَكَذَا لَوْ نَوَى عَدَدَ طَلَاقِ زَيْدٍ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ، وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ الْحِسَابَ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَطَلْقَةٌ، وَكَذَا إِنْ عَرَفَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَفِي قَوْلٍ: طَلْقَتَانِ. وَفِي قَوْلٍ غَرِيبٍ ضَعِيفٍ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ: يَقَعُ ثَلَاثُ طَلَقَاتٍ لِتَلَفُّظِهِ بِهِنَّ، وَيَجِيءُ هَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ لَا يَعْرِفُ الْحِسَابَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي ثَلَاثٍ، فَإِنْ قَصَدَ الْحِسَابَ، وَقَعَ الثَّلَاثُ إِنْ عَرَفَهُ، وَإِلَّا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا، فَعَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فِي ثِنْتَيْنِ، فَإِنْ قَصَدَ الْحِسَابَ وَهُوَ يَعْرِفُهُ، وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا، فَهَلْ يَقَعُ ثِنْتَانِ، أَمْ ثَلَاثٌ؟ فِيهِ الْخِلَافُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ فِي نِصْفِ طَلْقَةٍ، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ، سَوَاءٌ أَرَادَ الْحِسَابَ أَمِ الظَّرْفَ أَمِ الْمَعِيَّةَ، أَمْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا. وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً فِي نِصْفٍ، فَكَذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْمَعِيَّةَ، فَيَقَعُ طَلْقَتَانِ، وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً وَرُبُعًا، أَوْ نِصْفًا فِي وَاحِدَةٍ وَرُبُعٍ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْمَعِيَّةَ، فَتَقَعُ ثَلَاثٌ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى ثَلَاثٍ، فَهَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ، أَمْ ثِنْتَانِ، أَمْ وَاحِدَةٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: الْأَوَّلُ، وَلَوْ قَالَ: مَا بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيَجِيءُ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي نَظِيرِهِ مِنَ الْإِقْرَارِ. النَّوْعُ الثَّانِي: فِي تَجْزِئَةِ الطَّلَاقِ. اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ، بَلْ ذِكْرُ بَعْضِهِ كَذِكْرِ كُلِّهِ لِقُوَّتِهِ، سَوَاءٌ أَبْهَمَ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ طَلْقَةٍ، أَوْ جُزْءًا، أَوْ سَهْمًا مِنْ طَلْقَةٍ، أَوْ بَيَّنَ فَقَالَ: نِصْفَ طَلْقَةٍ أَوْ رُبُعَ طَلْقَةٍ، قَالَ الْإِمَامُ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ هُنَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْبِيرِ بِالْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ، وَلَا يُتَخَيَّلُ هُنَا

السِّرَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: بَعْضُكِ طَالِقٌ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُحَقَّقٌ. وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُلْغَى قَوْلُهُ: نِصْفَ طَلْقَةٍ، وَيُعْمَلُ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ. فَرْعٌ إِذَا زَادَ فِي الْأَجْزَاءِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةَ أَثْلَاثِ طَلْقَةٍ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: طَلْقَةٌ. وَقِيلَ: ثَلَاثُ طَلَقَاتٍ، حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، قَوْلُهُ: خَمْسَةُ أَرْبَاعِ طَلْقَةٍ، أَوْ نِصْفٌ وَثُلُثَيْ طَلْقَةٍ. قُلْتُ: هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا زَادَتِ الْأَجْزَاءُ عَلَى طَلْقَةٍ، وَلَمْ يُجَاوِزْ طَلْقَتَيْنِ، فَإِنْ جَاوَزَتْ كَقَوْلِهِ: خَمْسَةَ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ، أَوْ سَبْعَةَ أَثْلَاثِ طَلْقَةٍ وَأَشْبَاهِهِ، كَانَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَةٌ أَمْ ثَلَاثٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ ثَلَاثَةُ أَنْصَافِ دِرْهَمٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ، لَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلْقَةٌ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ نِصْفًا مِنْ طَلْقَةٍ، وَنِصْفًا مِنْ أُخْرَى وَكَذَا لَوْ قَالَ: رُبُعَيْ طَلْقَةٍ، أَوْ ثُلُثَيْ طَلْقَةٍ، وَأَشَارَ فِي «الْوَسِيطِ» إِلَى الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَةٌ، وَالْكُتُبُ سَاكِتَةٌ عَنِ الْخِلَافِ، لَكِنَّهُ جَارٍ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْحَنَّاطِيُّ. قُلْتُ: قَدْ حَكَى الْوَجْهَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْوَسِيطِ» عَنْ «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ قَالَ: نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ، أَوْ ثُلُثَ طَلْقَتَيْنِ، وَقَعَ طَلْقَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: طَلْقَتَانِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَرَدْتُ طَلْقَةً، دُيِّنَ، وَفِي قَبُولِهِ ظَاهِرًا وَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ نِصْفُ دِرْهَمَيْنِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَلْزَمُ إِلَّا دِرْهَمٌ بِإِجْمَاعِ الْأَصْحَابِ لِعَدَمِ التَّكْمِيلِ. وَلَوْ قَالَ: ثُلُثُ دِرْهَمَيْنِ، فَعَلَيْهِ ثُلُثَا دِرْهَمٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَوْ قَالَ: نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثُلُثَيْ طَلْقَتَيْنِ. وَقَعَ طَلْقَتَانِ. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَتَيْنِ، فَهَلْ يَقَعُ طَلْقَتَانِ أَمْ ثَلَاثٌ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةُ أَنْصَافِ دِرْهَمَيْنِ، فَفِيمَا يَلْزَمُهُ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَنْصَافِ الطَّلَاقِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَقَعُ ثَلَاثُ طَلَقَاتٍ، وَيَنْصَرِفُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِلَى الْجِنْسِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: يَقَعُ ثَلَاثٌ، وَالثَّانِي: طَلْقَةٌ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ ثُلُثَ وَرُبُعَ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ، لَا يَقَعُ إِلَّا طَلْقَةٌ، وَلَوْ كَرَّرَ لَفْظَةَ الطَّلْقَةِ فَقَالَ: ثُلُثَ طَلْقَةٍ، وَرُبُعَ طَلْقَةِ، وَسُدُسَ طَلْقَةٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْغَزَالِيُّ، وَإِنَّمَا نَقَلَ الْإِمَامُ هَذَا الْوَجْهَ، فِيمَا إِذَا نَوَى صَرْفَ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ إِلَى طَلْقَةٍ وَفَسَّرَ كَلَامَهُ بِهِ. وَلَوْ لَمْ يُدْخِلِ الْوَاوَ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ، رُبُعَ طَلْقَةٍ، سُدُسَ طَلْقَةٍ، لَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلْقَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُدْخِلِ الْوَاوَ، كَانَ الْجَمِيعُ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ، لَمْ تَقَعْ إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَطَالِقٌ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ.

لَوْ زَادَتِ الْأَجْزَاءُ وَلَمْ يُدْخِلِ الْوَاوَ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، ثُلُثَ طَلْقَةٍ، رُبُعَ طَلْقَةٍ، فَفِي «أَمَالِي أَبِي الْفَرَجِ» : أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ. وَلَوْ لَمْ تَتَغَايَرِ الْأَجْزَاءُ وَتَكَرَّرَتِ الْوَاوُ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، وَنِصْفَ طَلْقَةٍ، وَنِصْفَ طَلْقَةٍ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَيُرْجَعُ فِي اللَّفْظِ الثَّالِثِ إِلَيْهِ، أَقَصَدَ التَّأْكِيدَ أَمْ الِاسْتِئْنَافَ كَمَا لَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ ثُلُثَ طَلْقَةٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ الطَّلَاقُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ ثُلُثٍ سُدُسٍ، وَلَمْ يَقُلْ: طَلْقَةٍ، وَقَعَ طَلْقَةٌ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ، لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْشَاءِ، فَيَخْتَارُ مَا شَاءَ مِنْ وَاحِدَةٍ، أَوِ اثْنَتَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ هَذَا أَوْ هَذَيْنِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: فِي التَّشْرِيكِ، فَإِذَا قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: أَوْقَعْتُ عَلَيْكُنَّ طَلْقَةً، وَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ [فَقَطْ] وَلَوْ قَالَ: طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، وَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ فَقَطْ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ تَوْزِيعَ كُلِّ طَلْقَةٍ عَلَيْهِنَّ، فَيَقَعُ فِي طَلْقَتَيْنِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَانِ، وَفِي ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ، ثَلَاثٌ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: يُحْمَلُ عَلَى التَّوْزِيعِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُ عَلَيْكُنَّ خَمْسَ طَلَقَاتٍ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَيْنِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّوْزِيعَ، وَكَذَلِكَ فِي السِّتِّ، وَالسُّبُعِ، وَالثَّمَانِ. وَإِنْ أَوْقَعَ تِسْعًا، طُلِّقَتْ

كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا. وَإِنْ قَالَ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بَعْضَهُنَّ دُونَ بَعْضٍ، دُيِّنَ وَلَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ. قَالَ الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْوَجْهَانِ مَخْصُوصَانِ بِقَوْلِهِ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ. أَمَّا قَوْلُهُ: عَلَيْكُنَّ، فَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ هَذَا قَطْعًا، بَلْ يَعُمُّهُنَّ الطَّلَاقُ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ عَنِ ابْنِ الْوَكِيلِ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ يُقْبَلُ تَخْصِيصُهُ بَعْضَهُنَّ، وَذَلِكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ هُنَا لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ قَوْلُ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ هُنَاكَ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يُقْبَلُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَكُنَّ، فَذَلِكَ إِذَا أَخْرَجَ بَعْضَهُنَّ عَنِ الطَّلَاقِ، وَعَطَّلَ بَعْضَ الطَّلَاقِ، فَأَمَّا إِذَا فَضَّلَ بَعْضَهُنَّ كَقَوْلِهِ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ طَلْقَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ، وَتَوْزِيعَ الثَّالِثَةِ عَلَى الْبَاقِيَاتِ، فَيُقْبَلُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. وَالثَّانِي حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ: يُشْتَرَطُ اسْتِوَاؤُهُنَّ، وَحُكِيَ وَجْهٌ، أَنَّهُ يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ وَإِنْ تَعَطَّلَ بَعْضُ الطَّلَاقِ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ أَرْبَعَ طَلَقَاتٍ، ثُمَّ خَصَّصَهَا بِامْرَأَةٍ قُبِلَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يُقْبَلُ، فَذَلِكَ فِي نَفْيِ الطَّلَاقِ عَمَّنْ نَفَاهُ عَنْهَا أَمَّا إِثْبَاتُهُ عَلَى مَنْ أَثْبَتَهُ عَلَيْهَا، فَيَثْبُتُ قَطْعًا مُؤَاخَذَةً لَهُ. وَلَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ خَمْسَ طَلَقَاتٍ، لِبَعْضِكُنَّ أَكْثَرُ مِمَّا لِبَعْضٍ، فَيُصَدَّقُ فِي التَّفْصِيلِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي تَصْدِيقِهِ فِي إِخْرَاجِ بِعْضِهِنَّ الْخِلَافُ. وَلَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُ عَلَيْكُنَّ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ ثُلُثَهَا، وَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ. وَلَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ ثُلُثَ طَلْقَةٍ، وَخُمُسَ طَلْقَةٍ، وَسُدُسَ طَلْقَةٍ، بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِيمَا إِذَا خَاطَبَ بِهِ وَاحِدَةً. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَقَعُ بِهِ إِلَّا وَاحِدَةٌ، فَكَذَا هُنَا، فَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً، وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: وَهُوَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا، لِأَنَّ تَغَايُرَ الْأَجْزَاءِ وَعَطْفَهَا، يُشْعِرُ بِقِسْمَةِ كُلِّ جُزْءٍ بَيْنَهُنَّ.

وَقَالَ الْإِمَامُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُجْعَلَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ، فَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً. وَلَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً وَطَلْقَةً وَطَلْقَةً، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ، تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا لِإِشْعَارِهِ بِقِسْمَةِ كُلِّ طَلْقَةٍ. فَرْعٌ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى: أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا، أَوْ جَعَلْتُكِ شَرِيكَتَهَا، أَوْ أَنْتِ كَهِيَ، أَوْ مِثْلَهَا، وَنَوَى طَلَاقَهَا، طُلِّقَتْ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا لَوْ طَلَّقَ رِجْلٌ امْرَأَتَهُ فَقَالَ آخَرُ لِامْرَأَتِهِ: أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا، أَوْ أَنْتِ كَهِيَ، وَنَوَى، طُلِّقَتْ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعٌ، فَقَالَ لِثَلَاثٍ مِنْهُنَّ: أَوْقَعْتُ عَلَيْكُنَّ أَوْ بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً، فَطُلِّقْنَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَ لِلرَّابِعَةِ: أَشْرَكْتُكِ مَعَهُنَّ وَنَوَى الطَّلَاقَ، نُظِرَ إِنْ أَرَادَ طَلْقَةً وَاحِدَةً لِتَكُونَ كَوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، طُلِّقَتْ طَلْقَةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا تُشَارِكُ كُلَّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَهَا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا. وَإِنْ أَطْلَقَ نِيَّةَ الطَّلَاقِ وَلَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً وَلَا عَدَدًا، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، وَقَالَ الْقَفَّالُ: طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ التَّشْرِيكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا نِصْفُ مَا عَلَيْهِنَّ وَهُوَ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، فَتُكَمَّلُ. وَلَوْ قِيلَ عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ: تُطَلَّقُ ثَلَاثًا مِثْلَهُنَّ، لَمْ يَكُنْ بِأَبْعَدَ مِنْهُ، وَلَوْ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَيَيْنِ: أَشْرَكْتُكُمَا مَعَهُمَا وَنَوَى الطَّلَاقَ، فَإِنْ نَوَى كَوْنَ كُلِّ مِنْهُمَا كَوَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةً، وَإِنْ نَوَى كَوْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ كَالْأُولَيَيْنِ مَعًا فِي الطَّلَاقِ أَوْ أَنْ تُشَارِكَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَيَيْنِ فِي طَلْقَتَيْهِمَا، طُلِّقَتَا طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً عَلَى قَوْلَيِ الْقَفَّالِ وَأَبِي عَلِيٍّ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْقَفَّالَ يُشْرِكُهُمَا فَيَجْعَلُ لَهُمَا نِصْفَ مَا لِلْأُولَيَيْنِ، وَهُوَ طَلْقَةٌ فَتُقَسَّمُ وَتُكَمَّلُ.

فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا، فَقَالَتْ: تَكْفِينِي ثَلَاثٌ، فَقَالَ: الْبَاقِي لِضَرَّتِكِ، لَا يَقَعُ عَلَى الضَّرَّةِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ لَغْوٌ. وَلَوْ قَالَتْ: تَكْفِينِي وَاحِدَةٌ فَقَالَ: الْبَاقِي لِضَرَّتِكِ، وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثٌ، وَعَلَى الضَّرَّةِ طَلْقَتَانِ إِذَا نَوَى، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ لِلثَّانِيَةِ: أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا، قَالَ الشَّاشِيُّ: يَقَعُ عَلَى الثَّانِيَةِ طَلْقَةٌ، وَتَرَدَّدَ الْبُوشَنْجِيُّ فِي طَلْقَةٍ أَمْ ثَلَاثٍ. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ مَعْهُودٌ، وَفِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَوْجُودٌ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، طُلِّقَتْ طَلْقَةً. وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ شَيْئَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِاللَّفْظِ، فَإِنِ انْفَصَلَ، فَهُوَ لَغْوٌ، وَسَكْتَةُ التَّنَفُّسِ وَالْعِيِّ لَا تَمْنَعُ الِاتِّصَالَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالِاتِّصَالُ الْمَشْرُوطُ هُنَا أَبْلَغُ مِمَّا يُشْتَرَطُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ بَيْنَ كَلَامِ الشَّخْصَيْنِ مَا لَا يَحْتَمِلُ بَيْنَ كَلَامِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِتَخَلُّلِ كَلَامٍ يَسِيرٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَنْقَطِعُ الِاسْتِثْنَاءُ بِذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَوَّلِ اللَّفْظِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، بَلْ لَوْ بَدَا لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ تَمَامِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَاسْتَثْنَى، حُكِمَ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ هَذَا الْوَجْهَ عَنِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَصَحُّهُمَا وَادَّعَى أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِشَرْطِ وُجُودِ النِّيَّةِ قَبْلَ فَرَاغِ الْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يُقَارِنْ أَوَّلَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اتِّصَالِ اللَّفْظِ وَاقْتِرَانِ الْقَصْدِ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ، يَجْرِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِ «إِلَّا» وَأَخَوَاتِهَا، وَفِي التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ لَا يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَغْرِقًا، فَإِنِ اسْتَغْرَقَ، فَهُوَ بَاطِلٌ وَيَقَعُ الْجَمِيعُ. فَصْلٌ الِاسْتِثْنَاءُ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: اسْتِثْنَاءٌ بِ «إِلَّا» وَأَخَوَاتِهَا، وَالثَّانِي: تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ، وَغَيْرِهِمَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَبْعُدُ عَنِ اللُّغَةِ تَسْمِيَةُ كُلِّ تَعْلِيقٍ اسْتِثْنَاءً، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَنْتِ طَالِقٌ، يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ قَيْدٍ، فَإِذَا عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ، فَقَدْ ثَنَّاهُ عَنْ مُقْتَضَى إِطْلَاقِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا طَلْقَةً، يُثَنِّي اللَّفْظَ عَنْ مُقْتَضَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ اشْتُهِرَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ تَسْمِيَةُ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً اسْتِثْنَاءً. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: فِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ لِاسْتِغْرَاقِهِ. الثَّانِيَةُ: إِذَا عَطَفَ بَعْضَ الْعَدَدِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمُسْتَثْنَى أَوِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوْ فِيهِمَا، فَهَلْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يُجْمَعُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَلَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً، أَوْ إِلَّا اثْنَتَيْنِ وَإِلَّا وَاحِدَةً، فَعَلَى الْجَمْعِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَغْرِقًا فَيَقَعُ الثَّلَاثُ، وَعَلَى الْفَصْلِ، يَخْتَصُّ الْبُطْلَانُ بِالْوَاحِدَةِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الِاسْتِغْرَاقُ، فَتَقَعُ طَلْقَةٌ. وَلَوْ قَالَ: إِلَّا وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ، فَعَلَى الْجَمْعِ يَقَعُ ثَلَاثٌ، وَعَلَى الْفَصْلِ يَخْتَصُّ الْبَطَلَانُ بِالثِّنْتَيْنِ، فَيَقَعُ طَلْقَتَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَوَاحِدَةً إِلَّا وَاحِدَةً، فَعَلَى الْجَمْعِ تَكُونُ الْوَاحِدَةُ

مُسْتَثْنَاةً، فَيَقَعُ طَلْقَتَانِ، وَعَلَى الْفَصْلِ، لَا يُجْمَعُ فَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ وَاحِدَةٍ، فَيَقَعُ الثَّلَاثُ. وَقِيلَ: تَقَعُ الثَّلَاثُ هُنَا قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً، فَعَلَى الْجَمْعِ، يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَعَلَى الْفَصْلِ، يَقَعُ اسْتِثْنَاءُ اثْنَتَيْنِ دُونَ الثَّالِثَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً إِلَّا وَاحِدَةً، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، وَطَلْقَةً، وَطَلْقَةً إِلَّا طَلْقَةً، فَعَلَى الْجَمْعِ يَقَعُ طَلْقَتَانِ. كَأَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً، وَعَلَى الْفَصْلِ، يَقَعُ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنْ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً، إِلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً، بَلْ وَاحِدَةً، ثُمَّ وَاحِدَةً إِلَّا وَاحِدَةً، فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ، وَلَا جَمْعَ لِتَغَايُرِ الْأَلْفَاظِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ؛ حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيَصِحَّانِ وَلَا يَقَعُ إِلَّا مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ وَهُوَ طَلْقَةٌ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، ثَانِيهُمَا: يَقَعُ ثَلَاثٌ، وَيُجْعَلُ قَوْلُهُ: وَوَاحِدَةً عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: ثَلَاثًا كَأَنَّهُ قَالَ: اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ خَطَأٌ ظَاهِرٌ، وَتَعْلِيلُهُ أَفْسَدُ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَعَنِ الْحَنَّاطِيِّ احْتِمَالٌ؛ أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: إِلَّا ثِنْتَيْنِ وَوَاحِدَةً، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً، فَهَلْ يَقَعُ وَاحِدَةٌ، أَمِ اثْنَتَانِ، أَمْ ثَلَاثٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ، وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ، لَكِنَّ

الْأَصَحَّ هُنَا: يَقَعُ طَلْقَتَانِ. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، إِلَّا اثْنَتَيْنِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ قَطْعًا، وَلَغَا الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً إِلَّا وَاحِدَةً، فَهَلْ يَقَعُ اثْنَتَانِ أَمْ ثَلَاثٌ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَنَّاطِيُّ، وَلَوْ قَالَ: اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً إِلَّا وَاحِدَةً، فَقِيلَ: اثْنَتَانِ، وَقِيلَ: وَاحِدَةً. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقِيلَ اثْنَتَانِ. وَقِيلَ: وَاحِدَةً، قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: وَيُحْتَمَلُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا زَادَ عَلَى الْعَدَدِ الشَّرْعِيِّ، فَهَلْ يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الْمَلْفُوظِ بِهِ، أَمْ إِلَى الْمَمْلُوكِ وَهُوَ الثَّلَاثُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: إِلَى الْمَلْفُوظِ بِهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَابْنُ الْقَاصِّ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرِيُّ: إِلَى الْمَمْلُوكِ. فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلَّا ثَلَاثًا، وَقَعَ طَلْقَتَانِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَثَلَاثٌ عَلَى الثَّانِي. وَلَوْ قَالَ: خَمْسًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، وَقَعَ ثَلَاثٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَوَاحِدَةٌ عَلَى الثَّانِي. وَلَوْ قَالَ: أَرْبَعًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، وَقَعَ اثْنَتَانِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَوَاحِدَةٌ عَلَى الثَّانِي، وَلَوْ قَالَ: أَرْبَعًا إِلَّا وَاحِدَةً، وَقَعَ ثَلَاثٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَاثْنَتَانِ عَلَى الثَّانِي، وَلَوْ قَالَ: أَرْبَعًا إِلَّا ثَلَاثًا، وَقَعَ عَلَى الْأَوَّلِ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي ثَلَاثٌ، وَلَوْ قَالَ: سِتًّا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا ثَلَاثًا، وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: سِتًّا إِلَّا أَرْبَعًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَقَعُ طَلْقَتَانِ، وَعَلَى الثَّانِي: ثَلَاثٌ. وَلَوْ قَالَ: أَرْبَعًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَقَعُ ثَلَاثٌ، وَعَلَى الثَّانِي: هُوَ كَقَوْلِهِ: ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: خَمْسًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَقَعُ ثَلَاثٌ، وَعَلَى الثَّانِي طَلْقَتَانِ كَقَوْلِهِ: ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إِلَّا أَرْبَعًا،

فَإِنْ جَمَعْنَا بَيْنَ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ وَاعْتَبَرْنَا الْمَلْفُوظَ، فَكَقَوْلِهِ: سِتًّا إِلَّا أَرْبَعًا، وَإِلَّا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ إِلَّا بَائِنًا وَنَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ الثَّلَاثَ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ وَنَوَى الثَّلَاثَ، هَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ أَمْ وَاحِدَةٌ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ؟ فَإِنْ غَلَّبْنَا اللَّفْظَ، بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً. وَإِنْ غَلَّبْنَا النِّيَّةَ، صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَوَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ وَنَصَرَهُ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ غَلَطٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ وَنَوَى الثَّلَاثَ، وَقَعَ الثَّلَاثُ، فَكَيْفَ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ؟ ! . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الصُّورَةِ قَوْلُهُ: أَنْتِ بَائِنٌ إِلَّا طَالِقًا وَنَوَى بِقَوْلِهِ: بَائِنٌ الثَّلَاثَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا طَالِقًا، صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ كَقَوْلِهِ: ثَلَاثًا إِلَّا طَلْقَةً، وَكَذَا لَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إِلَّا طَالِقًا وَنَوَى التَّكْرَارَ فِيهِ احْتِمَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَوْ قَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَقَالَ: أَنْتِ إِلَّا وَاحِدَةً طَالِقٌ ثَلَاثًا، حَكَى صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَقَعُ الثَّلَاثُ، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَصِحُّ فَيَقَعُ طَلْقَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا نِصْفَ طَلْقَةٍ، وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: طَلْقَتَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا طَلْقَةً وَنِصْفًا، فَعَلَى الصَّحِيحِ طَلْقَتَانِ، وَعَلَى الثَّانِي طَلْقَةٌ. وَلَوْ قَالَ: إِلَّا نِصْفًا وَقَعَ طَلْقَةٌ قَطْعًا، وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثَةً إِلَّا طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفًا، فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً، وَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَهَلْ يَقَعُ ثَلَاثٌ أَمْ وَاحِدَةٌ، فِيهِ

احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا طَلْقَتَيْنِ إِلَّا نِصْفَ طَلْقَةٍ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ. وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً وَنِصْفًا إِلَّا وَاحِدَةً، نَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ وُقُوعَ طَلْقَةٍ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ وُقُوعُ طَلْقَتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا نِصْفًا، قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: يُرَاجَعُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ: إِلَّا نَصْفَهَا، وَقَعَ طَلْقَتَانِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ إِلَّا نِصْفَ طَلْقَةٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ الضَّعِيفُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ فَطَلْقَتَانِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، التَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ: فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، نُظِرَ إِنْ سَبَقَتِ الْكَلِمَةُ إِلَى لِسَانِهِ لِتَعَوُّدِهِ لَهَا كَمَا هُوَ الْأَدَبُ، أَوْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَقْصِدْ تَعْلِيقًا مُحَقَّقًا، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ. وَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ حَقِيقَةً، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى قَوْلًا آخَرَ، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَكَذَا يَمْنَعُ الِاسْتِثْنَاءُ انْعِقَادَ التَّعْلِيقِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِذَا شَاءَ اللَّهُ، وَيَمْنَعُ أَيْضًا الْعِتْقَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَمْنَعُ انْعِقَادَ النَّذْرِ وَالْيَمِينِ، وَصِحَّةَ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، وَالْبَيْعَ وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ. وَسَوَاءٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مَتَى شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِذَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَكَذَا قَوْلُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ، وَفِي هَذِهِ الصِّيغَةِ وَجْهٌ حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شَاءَ اللَّهُ [أَوْ أَنْ شَاءَ اللَّهُ] بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِذَا شَاءَ زَيْدٌ، أَوْ أَنْ شَاءَ زَيْدٌ، وَنَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا، فِي أَنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَثَالِثُهَا أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ عَارِفِ النَّحْوِ وَغَيْرِهِ. وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ هَذَا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ

مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: وَقَعَتْ طَلْقَةٌ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ ثَلَاثًا وَوَاحِدَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَالْوَجْهُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الْجُمْلَتَيْنِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمَا، أَمْ إِلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ؟ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عَوْدُهُ إِلَى الْأَخِيرَةِ، وَيُوَافِقُ هَذَا الْبِنَاءَ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ طَالِقَتَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهَلْ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى عَمْرَةَ فَقَطْ أَمْ إِلَيْهِمَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، إِنْ جَمَعْنَا الْمُفَرَّقَ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَفِي مَعْنَاهُ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَصَدَ التَّأْكِيدَ. فَرْعٌ قَالَ: يَا طَالِقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ: يَا طَالِقُ، أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ بِقَوْلِهِ: يَا طَالِقُ فَقَطْ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا طَالِقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهَلْ يَقَعُ طَلْقَةٌ بِقَوْلِهِ: يَا طَالِقُ، أَمْ ثَلَاثٌ أَمْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَظْهَرَ. وَحَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْقَاضِي وَالْأَصْحَابِ الثَّالِثَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ، أَنَّ الْبَغَوِيَّ وَغَيْرَهُ: ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، رَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الطَّلَاقِ، وَوَجَبَ حَدُّ الْقَذْفِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ هُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدْ قَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ غَيْرُ الْمُتَوَلِّي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ، أَوْ إِذَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ، أَوْ مَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الصَّحِيحِ بِاتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» : تُطَلَّقُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تُطَلَّقُ، وَالثَّانِي: تُطَلَّقُ، وَبِالثَّانِي قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَرَجَّحَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ، صَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ، وَنَقَلَهُ عَنْ [نَصِّ] الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. فَرْعٌ إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ يَشَأْ زَيْدٌ، أَوْ إِنْ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، أَوْ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا، نُظِرَ، إِنْ وُجِدَ مِنْهُ الْمَشِيئَةُ أَوْ غَيْرُهَا مِمَّا عَلَّقَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ حَتَّى مَاتَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ قَبْلَ ذَلِكَ مَانِعٌ، فَإِنْ حَصَلَ مَانِعٌ تَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْمَشِيئَةُ، كَجُنُونٍ وَنَحْوِهِ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ قُبَيْلَ حُدُوثِ الْمَانِعِ، وَإِنْ مَاتَ وَشَكَكْنَا فِي أَنَّهُ هَلْ وُجِدَ مِنْهُ الصِّفَةُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهَا، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الصِّيغَةُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ زَيْدٌ، أَوْ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ، وَالْوُقُوعُ فِي الثَّانِيَةِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْأُولَى. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ، أَوْ إِلَّا أَنْ تَدْخُلَ الدَّارَ، فَالْيَوْمُ هُنَا كَالْعُمْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا بِالْوُقُوعِ فِيمَا إِذَا شَكَكْنَا فِي الْفِعْلِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ عَدَمَ الْوُقُوعِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَهُوَ أَوْجَهُ وَأَقْوَى. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عَدَمُ الْوُقُوعِ، لِلشَّكِّ فِي الصِّفَةِ الْمُوجِبَةِ لِلطَّلَاقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ : قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ، مَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ. كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مَعْنَاهُ: إِنْ شَاءَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، فَالطَّلَاقُ مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ الطَّلَاقِ، لَا بِمَشِيئَةِ عَدَمِ الطَّلَاقِ، وَعَدَمُ مَشِيئَةِ الطَّلَاقِ تَحْصُلُ بِأَنْ يَشَاءَ عَدَمَ الطَّلَاقِ، أَوْ بِأَنْ لَا يَشَاءَ شَيْئًا أَصْلًا، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَقَعُ، وَإِنَّمَا لَا يَقَعُ إِذَا شَاءَ زَيْدٌ أَنْ يَقَعَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ أَنْ لَا تُطَلَّقِي، وَعَلَى هَذَا، إِنْ شَاءَ أَنْ تُطَلَّقَ، طُلِّقَتْ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ إِذَا شَكَّ، هَلْ طَلَّقَ؟ لَمْ يُحْكَمْ بِوُقُوعِهِ، وَكَذَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى صِفَةٍ وَشَكَّ فِي حُصُولِهَا، كَقَوْلِهِ: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَشَكَّ فِي كَوْنِهِ غُرَابًا، أَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ غُرَابًا فَزَيْنَبُ طَالِقٌ، وَإِنْ كَانَ حَمَامَةً، فَعَمْرَةُ طَالِقٌ، وَشَكَّ هَلْ كَانَ غُرَابًا أَمْ حَمَامَةً أَمْ غَيْرَهُمَا فَلَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ. وَلَوْ تَيَقَّنَ أَصْلَ الطَّلَاقِ، وَشَكَّ فِي عَدَدِهِ، أَخَذَ بِالْأَقَلِّ، وَيُسْتَحَبُّ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ، فَإِنْ شَكَّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ، رَاجَعَهَا لِيَتَيَقَّنَ الْحِلَّ، وَإِنْ زَهِدَ فِيهَا، طَلَّقَهَا لِتَحِلَّ لِغَيْرِهِ يَقِينًا، وَإِنْ شَكَّ فِي أَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَمِ اثْنَتَيْنِ؟ لَمْ يَنْكِحْهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَمْ لَمْ يُطَلِّقْ شَيْئًا؟ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا. فَصْلٌ تَحْتَهُ زَيْنَبُ وَعَمْرَةُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا، فَزَيْنَبُ طَالِقٌ، وَإِلَّا فَعَمْرَةُ طَالِقٌ، وَأَشْكَلَ حَالُهُ، طُلِّقَتْ إِحْدَاهُمَا، وَعَلَيْهِ اعْتِزَالُهُمَا جَمِيعًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَالَ،

وَعَلَيْهِ الْبَحْثُ وَالْبَيَانُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ غُرَابًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، لَمْ يُحْكَمْ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا، فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَالَ آخَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا، فَعَبْدِي حُرٌّ، وَأَشْكَلَ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفُ فِي عَبْدِهِ، فَإِنْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا عَبْدَ الْآخِرِ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ الْعَبْدَانِ، مُنِعَ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا وَيُؤْمَرُ بِتَعْيِينِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ كَانَا فِي مِلْكِهِ وَعَلَّقَ التَّعْلِيقَيْنِ، وَعَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ طَرِيقِ الْبَيَانِ، وَفِي وَجْهٍ: إِنَّمَا يَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فِي الَّذِي اشْتَرَاهُ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ حَتَّى يَحْصُلَ الْبَيَانُ، وَلَا يَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَوَّلِ. قُلْتُ: هَذَانِ الْوَجْهَانِ نَقَلَهُمَا الْإِمَامُ وَآخَرُونَ، وَرَجَّحُوا الْأَوَّلَ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، لَكِنْ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ، أَوْ جَمَاهِيرُهُمْ، بِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى، وَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ إِذَا تَمَّ تَمَلُّكُهُ ظَاهِرًا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَفْقَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا عَبَدَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدَ صَاحِبِهِ، قَالَ فِي «الْبَسِيطِ» : لَمْ أَرَهُ مَسْطُورًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، لِأَنَّ بَيْعَ الْأَوَّلِ لِوَاقِعَةٍ انْقَضَتْ، وَتَصَرُّفَهُ فِي الثَّانِي وَاقِعَةٌ أُخْرَى، كَمَا لَوْ صَلَّى إِلَى جِهَتَيْنِ بِاجْتِهَادَيْنِ. قُلْتُ: أَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْعِرَاقِيِّينَ الَّتِي نَقَلْتُهَا، فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ الثَّانِيَ بِلَا شَكٍّ، وَأَمَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى، فَيُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ فِي «الْبَسِيطِ» ، وَيُحْتَمَلُ بَقَاءُ الْحَجْرِ فِي الثَّانِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَالُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا اشْتَبَهَ إِنَاءَانِ

فَانْصَبَّ أَحَدُهُمَا، هَلْ يَجْتَهِدُ فِي الثَّانِي، أَمْ يَأْخُذُ بِطَهَارَتِهِ، أَمْ يُعْرِضُ عَنْهُ، وَالْأَقْيَسُ بَقَاءُ الْحَجْرِ احْتِيَاطًا لِلْعِتْقِ، وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ وَغَرَامَاتِهَا أَشَدُّ مِنَ الْقِبْلَةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَلِهَذَا لَا يُعْذَرُ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ فِي الْغَرَامَاتِ، وَيُعْذَرُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ أَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ كَالْمُصَرِّحِ بِأَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْ، وَأَنَّ الَّذِي عَتَقَ هُوَ عَبْدُ الْآخِرِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ، عَتَقَ عَلَيْهِ عَبْدَ صَاحِبِهِ إِذَا مَلَكَهُ قَطْعًا، وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» : احْتِمَالَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ فِي «الْبَسِيطِ» . وَالثَّانِي: خِلَافُهُ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ غَيْرُ التَّعْلِيقِ السَّابِقِ، فَإِنْ قَالَ لِلْآخَرِ: حَنِثْتَ فِي يَمِينِكَ، فَقَالَ: لَمْ أَحْنَثْ، ثُمَّ مَلَكَ عَبْدَهُ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ قَطْعًا لِإِقْرَارِهِ بِحُرِّيَّتِهِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالثَّمَنِ إِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ. وَلَوْ صَدَرَ هَذَانِ التَّعْلِيقَانِ مِنْ شَرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ، فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي «كِتَابِ الْعِتْقِ» . فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِعَدَدِ كُلِّ شَعْرَةٍ عَلَى جَسَدِ إِبْلِيسَ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: قِيَاسُ مَذْهَبِنَا: أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ أَصْلًا، لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَعَلَيْهِ شَعْرٌ أَمْ لَا؟ وَالْأَصْلُ الْعَدَمُ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ. قُلْتُ: الْقِيَاسُ وُقُوعُ طَلْقَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا تَعْلِيقًا عَلَى صِفَةٍ، فَيُقَالُ: شَكَكْنَا فِيهَا بَلْ هُوَ تَنْجِيزُ طَلَاقٍ، وَرَبْطٌ لِعَدَدِهِ بِشَيْءٍ شَكَكْنَا فِيهِ، فَنُوقِعُ أَصْلَ الطَّلَاقِ، وَنُلْغِي الْعَدَدَ، فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ بِعَدَدٍ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْعَدَدِ اثْنَانِ، فَالْمُخْتَارُ وُقُوعُ طَلْقَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا، حَرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ، فَإِنْ صَدَّقْنَاهُ فِي النِّسْيَانِ، فَلَا مُطَالَبَةَ بِالْبَيَانِ، وَإِنْ كَذَّبْنَاهُ وَبَادَرَتْ وَاحِدَةٌ وَقَالَتْ: أَنَا الْمُطَلَّقَةُ، لَمْ يُقْنَعْ مِنْهُ فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: نَسِيتُ، أَوْ لَا أَدْرِي، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مُحْتَمَلًا، بَلْ يُطَالِبُ بِيَمِينٍ جَازِمَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ وَقُضِيَ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ. فَصْلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَقَالَ: نَوَيْتُ الْأَجْنَبِيَّةَ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ فِي «الْإِمْلَاءِ» ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: تُطَلَّقُ زَوْجَتُهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : لَوْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ بِقَلْبِي وَاحِدَةً، طُلِّقَتِ امْرَأَتُهُ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ عَنْهَا بِالنِّيَّةِ، وَلَوْ حَضَرَتَا، فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: طَلِّقْنِي، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ الْأَجْنَبِيَّةَ، لَمْ يُقْبَلْ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَأَمَتُهُ مَعَ زَوْجَتِهِ، كَالْأَجْنَبِيَّةِ مَعَ الزَّوْجَةِ. وَلَوْ كَانَ مَعَهَا رَجُلٌ أَوْ دَابَّةٌ، فَقَالَ: أَرَدْتُ الرَّجُلَ، أَوِ الدَّابَّةَ، لَمْ يُقْبَلْ. وَلَوْ كَانَ اسْمُ زَوْجَتِهِ زَيْنَبَ، فَقَالَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ جَارَتِي زَيْنَبَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، فَتُطَلَّقُ زَوْجَتُهُ ظَاهِرًا وَيُدَيَّنُ، وَقِيلَ: يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالثَّالِثُ، قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: إِنْ قَالَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ الْأَجْنَبِيَّةَ، قُبِلَ، وَإِنْ قَالَ: طَلَّقْتُ زَيْنَبَ، لَمْ يُقْبَلْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا، وَأُخْرَى نِكَاحًا فَاسِدًا، فَقَالَ لَهُمَا: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ فَاسِدَةَ النِّكَاحِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قَبِلْنَا التَّفْسِيرَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، فَهَذِهِ أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ.

فصل

فَصْلٌ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَإِنْ قَصَدَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، فَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ، فَعَلَيْهِ بَيَانُهَا. وَإِنْ أَرْسَلَ اللَّفْظَ وَلَمْ يَقْصِدْ مُعَيَّنَةً، طُلِّقَتْ إِحْدَاهُمَا مُبْهَمًا وَيُعَيِّنُهَا الزَّوْجُ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي أَحْكَامٍ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَحْكَامٍ، ثُمَّ تَارَةً يُفَصَّلُ حُكْمُهُمَا فِي الْحَيَاةِ، وَتَارَةً بَعْدَ الْمَوْتِ. الْحَالَةُ الْأُولَى: حَالَةُ الْحَيَاةِ، وَفِيهَا مَسَائِلُ: الْأُولَى: يُلْزَمُ الزَّوْجُ بِالتَّبْيِينِ إِذَا نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، وَبِالتَّعْيِينِ إِذَا لَمْ يَنْوِ، وَيُمْنَعْ مِنْ قُرْبَانِهِمَا حَتَّى يُبَيِّنَ، أَوْ يُعَيِّنَ، وَذَلِكَ بِالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، وَيَلْزَمُهُ التَّبْيِينُ وَالتَّعْيِينُ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ أَخَّرَ، عَصَى، فَإِنِ امْتَنَعَ، حُبِسَ وَعُزِّرَ، وَلَا يُقْنَعُ بِقَوْلِهِ: نَسِيتُ الْمُعَيَّنَةَ، وَإِذَا بَيَّنَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَلِلْأُخْرَى أَنْ تَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّكَ نَوَيْتَنِي وَتُحَلِّفَهُ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ وَطُلِّقَتَا، وَإِذَا عَيَّنَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَا دَعْوَى لَهَا، لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ يُنْشِئُهُ، هَذَا كُلُّهُ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، فَلَوْ أَبْهَمَ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً بَيْنَهُمَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَوْ يُعَيِّنَ فِي الْحَالِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِحُصُولِ التَّحْرِيمِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمَا إِلَى الْبَيَانِ وَالتَّعْيِينِ، وَإِذَا بَيَّنَ أَوْ عَيَّنَ، لَا يُسْتَرَدُّ الْمَصْرُوفُ إِلَى الْمُطَلَّقَةِ، لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عِنْدَهُ حَبْسَ الزَّوْجَةِ. الثَّالِثَةُ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيمَا إِذَا نَوَى مُعَيَّنَةً يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَيَحْتَسِبُ عِدَّةَ مَنْ بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِيهَا مِنْ حِينِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ: أَنَّهَا مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْوِ مُعَيَّنَةً، ثُمَّ عَيَّنَ، فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ حِينِ قَالَ: إِحْدَاكُمَا

طَالِقٌ، أَمْ مِنْ حِينِ التَّعْيِينِ؟ وَجْهَانِ، رَجَّحَتْ طَائِفَةٌ الثَّانِيَ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَرَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَآخَرُونَ الْأَوَّلَ. قَالُوا: وَلَوْلَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ، لَمَا مُنِعَ مِنْهُمَا، وَهَذَا أَقْرَبُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ وَمُوَافِقُوهُ، هُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالتَّعْيِينِ، فَمِنْهُ الْعِدَّةُ، وَإِنْ قُلْنَا: بِاللَّفْظِ، فَهَلِ الْعِدَّةُ مِنْهُ، أَمْ مِنَ التَّعْيِينِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، فِيمَا إِذَا نَوَى مُعَيَّنَةً. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الرَّاجِحَ، احْتِسَابُ الْعِدَّةِ مِنَ التَّعْيِينِ كَيْفَ قُدِّرَ الْبِنَاءُ، هَذَا كُلُّهُ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُمَا إِذَا مَاتَتَا أَوْ إِحْدَاهُمَا تَبْقَى الْمُطَالَبَةُ بِالتَّعْيِينِ لِبَيَانِ حُكْمِ الْمِيرَاثِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ أَوْقَعْنَا الطَّلَاقَ بِاللَّفْظِ، فَذَاكَ، وَإِنْ أَوْقَعْنَاهُ بِالتَّعْيِينِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِيقَاعِ طَلَاقٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِسْنَادِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَإِلَى مَا يُسْنَدُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: إِلَى وَقْتِ اللَّفْظِ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، وَأَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: إِلَى قُبَيْلِ الْمَوْتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ وَطِئَ إِحْدَاهُمَا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ نَوَى مُعَيَّنَةً، فَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ، وَلَا يَكُونُ الْوَطْءُ بَيَانًا، بَلْ تَبْقَى الْمُطَالَبَةُ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي الْمَوْطُوءَةِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَيَلْزَمُهُ الْمَهْرُ لِجَهْلِهَا كَوْنَهَا الْمُطَلَّقَةَ، وَإِنْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ، قُبِلَ، فَإِنِ ادَّعَتِ الْمَوْطُوءَةُ أَنَّهُ أَرَادَهَا، حَلَفَ، فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَتْ، طُلِّقَتَا وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَلَا حَدَّ لِلشُّبْهَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى مُعَيَّنَةً، فَهَلْ يَكُونُ الْوَطْءُ تَعْيِينًا؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو الْحَسَنِ الْمَاسَرْجِسِيُّ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَالثَّانِي: لَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَجَّحَهُ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» .

قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي، هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ فِي «الْمُحَرَّرِ» ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا قَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، مُنِعَ مِنْهُمَا، وَمَنْ يَقُولُ: الْوَطْءُ تَعْيِينٌ، لَا يَمْنَعُهُ وَطْءَ أَيِّهِمَا شَاءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ جَعَلْنَا الْوَطْءَ تَعْيِينًا لِلطَّلَاقِ، فَفِي كَوْنِ سَائِرِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ تَعْيِينًا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ بِذَلِكَ، وَإِذَا جَعَلْنَا الْوَطْءَ تَعْيِينًا لِلطَّلَاقِ فِي الْأُخْرَى، فَلَا مَهْرَ لِلْمَوْطُوءَةِ وَلَا مُطَالَبَةَ، وَإِلَّا فَتُطَالِبُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِنْ عَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي الْمَوْطُوءَةِ، فَلَهَا الْمَهْرُ إِنْ قُلْنَا: يَقَعُ الطَّلَاقُ بِاللَّفْظِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّعْيِينِ، فَحَكَى الْفُورَانِيُّ أَنَّهُ لَا مَهْرَ، وَذَكَرَ فِيهِ احْتِمَالًا، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ تَعْيِينٌ: أَنَّ الزَّوْجَ لَا يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْهُمَا إِذَا لَمْ يَجْعَلِ الْوَطْءَ تَعْيِينًا، وَلَمَّا أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ الْمَنْعَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، أَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَهُمْ، أَنَّهُ لَيْسَ بِتَعْيِينٍ. الْخَامِسَةُ: فِي أَلْفَاظِ الْبَيَانِ وَالتَّعْيِينِ، فَإِنْ نَوَى مُعَيَّنَةً، حَصَلَ الْبَيَانُ بِأَنْ يَقُولَ مُشِيرًا إِلَى وَاحِدَةٍ: الْمُطَلَّقَةُ هَذِهِ، وَلَوْ قَالَ: الزَّوْجَةُ هَذِهِ، بِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْأُخْرَى، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَمْ أُطَلِّقْ هَذِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ، أَوْ قَالَ: هَذِهِ وَهَذِهِ، أَوْ هَذِهِ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمَا، أَوْ هَذِهِ مَعَ هَذِهِ، طُلِّقَتَا، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ الْحُكْمِ، فَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ، فَالْمُطَلَّقَةُ هِيَ الْمَنَوِيَّةُ فَقَطْ، حَتَّى لَوْ قَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَنَوَاهُمَا، فَالْوَجْهُ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا لَا تُطَلَّقَانِ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَنَوَى ثَلَاثًا، لِأَنَّ حَمْلَ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ عَلَيْهِمَا لَا وَجْهَ لَهُ، وَهُنَاكَ يَتَطَرَّقُ إِلَى الْكَلَامِ تَأْوِيلٌ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ هَذِهِ ثُمَّ هَذِهِ، أَوْ هَذِهِ فَهَذِهِ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبَاهُ

الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ: تُطَلَّقُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ لِاقْتِضَاءِ الْحَرْفَيْنِ التَّرْتِيبَ. وَحَكَى الْإِمَامُ هَذَا عَنِ الْقَاضِي، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِطَلَاقِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا، فَلْيَكُنْ كَقَوْلِهِ: هَذِهِ وَهَذِهِ، وَالْحَقُّ هُوَ الِاعْتِرَاضُ. قُلْتُ: قَوْلُ الْقَاضِي أَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ هَذِهِ بَعْدَ هَذِهِ، فَقِيَاسُ الْأَوَّلِ أَنْ تُطَلَّقَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بَائِنًا وَحْدَهَا. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ قَبْلَ هَذِهِ، أَوْ بَعْدَهَا هَذِهِ، فَقِيَاسُ الْأَوَّلِ أَنْ تُطَلَّقَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا أَوَّلًا وَحْدَهَا، وَقِيَاسُ الِاعْتِرَاضِ، الْحُكْمُ بِطَلَاقِهِمَا فِي الصُّورَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ، اسْتَمَرَّ الْإِبْهَامُ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْبَيَانِ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعٌ، فَقَالَ: إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، وَنَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ، طُلِّقْنَ جَمِيعًا، وَكَذَا لَوْ عَطَفَ [بِالْوَاوِ فَلَوْ عَطَفَ] بِالْفَاءِ أَوْ بِثُمَّ، عَادَ قَوْلُ الْقَاضِي وَالِاعْتِرَاضُ. وَلَوْ قَالَ وَهُنَّ ثَلَاثٌ: أَرَدْتُ أَوْ طَلَّقْتُ هَذِهِ، بَلْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ، طُلِّقَتِ الْأُولَى وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ، وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ. وَإِنْ قَالَ: هَذِهِ أَوْ هَذِهِ، بَلْ هَذِهِ، طُلِّقَتِ الْأَخِيرَةُ وَإِحْدَى الْأُولَيَيْنِ، وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ وَهَذِهِ أَوْ هَذِهِ، نُظِرَ إِنْ فَصَلَ الثَّالِثَةَ عَنِ الْأُولَيَيْنِ بِوَقْفَةٍ أَوْ بِنَغَمَةٍ، أَوْ أَدَاءٍ، فَالطَّلَاقُ مُرَدَّدٌ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ وَبَيْنَ الثَّالِثَةِ وَحْدَهَا، وَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، فَإِنْ بَيَّنَ فِي الثَّالِثَةِ، طُلِّقَتْ وَحْدَهَا، وَإِنْ بَيَّنَ فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، طُلِّقَتَا، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، فَلَا يَفْتَرِقَانِ. وَإِنْ فَصَلَ الثَّانِيَةَ عَنِ الْأُولَى، تَرَدَّدَ الطَّلَاقُ بَيْنَ الْأُولَى وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ،

فَإِنْ بَيَّنَ فِي الْأُولَى، طُلِّقَتْ وَحْدَهَا. وَإِنْ بَيَّنَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، طُلِّقَتَا جَمِيعًا، وَإِنْ سَرَدَ الْكَلَامَ وَلَمْ يَفْصِلْ، احْتُمِلَ كَوْنُ الثَّالِثَةِ مَفْصُولَةً عَنْهُمَا، وَاحْتُمِلَ كَوْنُهَا مَضْمُومَةً إِلَى الثَّانِيَةِ مَفْصُولَةً عَنِ الْأُولَى، فَيُسْأَلُ وَيُعْمَلُ بِمَا أَظْهَرَ إِرَادَتَهُ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ، فَإِنْ فَصَلَ الثَّالِثَةَ عَنِ الْأُولَيَيْنِ، تَرَدَّدَ الطَّلَاقُ بَيْنَ إِحْدَى الْأُولَيَيْنِ، وَالْأُخْرَى مُطَلَّقَةٌ وَحْدَهَا. وَإِنْ فَصَلَ الْأُخْرَيَيْنِ عَنِ الْأُولَى، فَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ الْأُولَى وَحْدَهَا، وَبَيْنَ الْأُخْرَيَيْنِ مَعًا، وَإِنْ سَرَدَ الْكَلَامَ وَلَمْ يَفْصِلْ، فَهُمَا مُحْتَمَلَانِ وَلَوْ قَالَ وَهُنَّ أَرْبَعٌ وَقَدْ طَلَّقَ وَاحِدَةً: أَرَدْتُ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ [لَا] ، بَلْ هَذِهِ وَهَذِهِ، طُلِّقَتِ الْأُخْرَيَانِ وَإِحْدَى الْأُولَيَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ وَهَذِهِ، بَلْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ، طُلِّقَتِ الْأُولَيَّانِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ وَهَذِهِ وَهَذِهِ أَوْ هَذِهِ، فَإِنْ فَصَلَ الْأَخِيرَةَ عَنِ الثَّلَاثِ، تَرَدَّدَ الطَّلَاقُ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالرَّابِعَةِ. وَإِنْ فَصَلَ الثَّالِثَةَ عَمَّا قَبْلَهَا، طُلِّقَتِ الْأُولَيَّانِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ فَصَلَ الثَّانِيَةَ عَنِ الْأُولَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: تُطَلَّقُ الْأُولَى، وَيَتَرَدَّدُ الطَّلَاقُ بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مَعًا، وَبَيْنَ الرَّابِعَةِ وَحْدَهَا، فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. وَإِنْ سَرَدَ الْكَلَامَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: تُطَلَّقُ الثَّلَاثُ أَوِ الرَّابِعَةُ، وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ. فَإِنْ بَيَّنَ فِي الثَّلَاثِ أَوْ بَعْضِهِنَّ، طُلِّقْنَ جَمِيعًا، وَإِنْ بَيَّنَ فِي الرَّابِعَةِ، طُلِّقَتْ وَحْدَهَا. وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: صُورَةُ السَّرْدِ تَحْتَمِلُ احْتِمَالَاتِ الثَّلَاثِ، فَيُرَاجَعُ وَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ وَهَذِهِ، أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ، فَقَدْ يَفْصِلُ الْأُولَى عَنِ الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ، وَيَضُمُّ بَعْضَهُنَّ إِلَى بَعْضٍ، فَتُطَلَّقُ الْأُولَى وَيَتَرَدَّدُ بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَحْدَهَا، وَبَيْنَ الْأُخْرَيَيْنِ مَعًا. وَقَدْ يَفْرِضُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ وَالْأُخْرَيَيْنِ، وَالضَّمَّ فِيهِمَا، فَتُطَلَّقُ الْأُولَيَّانِ وَالْأُخْرَيَانِ. وَقَدْ يَفْرِضُ فَصْلَ الرَّابِعَةِ عَمَّا قَبْلَهَا فَتُطَلَّقُ الرَّابِعَةُ، وَيَتَرَدَّدُ الطَّلَاقُ بَيْنَ الثَّالِثَةِ وَحْدَهَا وَبَيْنَ الْأُولَيَيْنِ مَعًا. وَمَتَى قَالَ: هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَدْرِي أَهِيَ

هَذِهِ أَمْ غَيْرُهَا؟ فَتِلْكَ طَالِقٌ بِكُلِّ حَالٍ وَتُوقَفُ الْبَاقِيَاتُ، فَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: تَحَقَّقْتُ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْأُولَى، قُبِلَ مِنْهُ، وَلَمْ تُطَلَّقْ غَيْرُهَا. وَإِنْ عَيَّنَ أُخْرَى، حُكِمَ بِطَلَاقِهَا، وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنِ الْأُولَى. وَالْوَقْفَةُ الَّتِي جَعَلْنَاهَا فَاصِلَةً بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مَعَ إِعْمَالِ اللَّفْظَيْنِ، هِيَ الْوَقْفَةُ الْيَسِيرَةُ، فَأَمَّا إِذَا طَالَتْ، فَقَطَعَتْ نَظْمَ الْكَلَامِ بِأَنْ قَالَ: أَرَدْتُ هَذِهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ: أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ، فَهَذَا الْكَلَامُ الثَّانِي لَغْوٌ إِذْ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْإِفَادَةِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا نَوَى عِنْدَ اللَّفْظِ الْمُبْهَمِ وَاحِدَةً مُعَيَّنَةً. أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْوِ فَطُولِبَ بِالتَّعْيِينِ، فَقَالَ مُشِيرًا إِلَى وَاحِدَةٍ: هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ، تَعَيَّنَتْ وَلَغَا ذِكْرُ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ عَطَفَ غَيْرَهَا بِالْفَاءِ وَثُمَّ، أَوْ بِالْوَاوِ أَوْ بِ «بَلْ» ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ هُنَا لَيْسَ إِخْبَارًا عَنْ سَابِقٍ، بَلْ هُوَ إِنْشَاءُ اخْتِيَارٍ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا اخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالتَّعْيِينِ أَوْ بِاللَّفْظِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَوِ ادَّعَتِ الَّتِي عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِكَوْنِ الطَّائِرِ غُرَابًا أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، لَزِمَهُ أَنْ يَحْلِفَ جَزْمًا عَلَى نَفْيِ الطَّلَاقِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى نِسْيَانَ الْمُطَلَّقَةِ. وَلَوِ ادَّعَتْ أَنَّهُ كَانَ غُرَابًا وَأَنَّهَا طُلِّقَتْ، لَزِمَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْجَزْمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا، وَلَا يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ: لَا أَعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ غُرَابًا أَوْ نَسِيتُ الْحَالَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ وَأَنْكَرَ حُصُولَهُ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالدُّخُولِ، لِأَنَّ الْحَلِفَ هُنَاكَ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ. وَأَمَّا نَفْيُ الْغُرَابِيَّةِ، فَهُوَ نَفْيُ صِفَةٍ فِي الْغَيْرِ، وَنَفْيُ الصِّفَةِ كَثُبُوتِهَا فِي إِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : فِي الْقَلْبِ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ شَيْءٌ، فَلْيُتَأَمَّلْ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ الْغُرَابِيَّةِ إِذَا تَعَرَّضَ لَهَا فِي الْجَوَابِ. أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَسْتِ بِمُطَلَّقَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى مِنْهُ بِذَلِكَ كَنَظَائِرِهِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا طَرَأَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْبَيَانِ أَوِ التَّعْيِينِ، فَفِيهِ صُورَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَمُوتَ الزَّوْجَتَانِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَيَبْقَى الزَّوْجُ، فَتَبْقَى الْمُطَالَبَةُ بِالْبَيَانِ أَوِ التَّعْيِينِ. وَقِيلَ: إِذَا مَاتَتَا، سَقَطَ التَّعْيِينُ، وَإِنْ مَاتَتْ إِحْدَاهُمَا، تَعَيَّنَ الطَّلَاقُ فِي الْأُخْرَى، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ، وَيُوقَفُ لَهُ مِنْ تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِيرَاثُ زَوْجٍ، حَتَّى يُبَيِّنَ أَوْ يُعَيِّنَ، فَإِذَا بَيَّنَ أَوْ عَيَّنَ، لَمْ يَرِثْ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، سَوَاءٌ قُلْنَا: يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ اللَّفْظِ أَوْ عِنْدَ التَّعْيِينِ، وَيَرِثُ مِنَ الْأُخْرَى، ثُمَّ إِنْ نَوَى مُعَيَّنَةً، فَبَيَّنَ، وَقَالَ وَرَثَةُ الْأُخْرَى: هِيَ الَّتِي أَرَدْتَهَا، فَلَهُمْ تَحْلِيفُهُ، فَإِنْ حَلَفَ فَذَاكَ، وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفُوا وَمُنِعَ مِيرَاثَهَا أَيْضًا. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مُعَيَّنَةً، وَعَيَّنَ، لَمْ يَتَوَجَّهْ لِوَرَثَةِ الْأُخْرَى دَعْوَى، لِأَنَّ التَّعْيِينَ إِلَى اخْتِيَارِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ تَفْرِيعًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ: يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِيرَاثَ زَوْجٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَإِذَا حَلَّفَهُ وَرَثَةُ الْأُخْرَى الَّتِي عَيَّنَهَا لِلنِّكَاحِ، أَخَذُوا جَمِيعَ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِلَّا أَخَذُوا نِصْفَهُ وَفِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَأْخُذُونَهُ أَيْضًا عَمَلًا بِتَصْدِيقِهِ، وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ بِزَعْمِهِمْ، وَلَوْ كَذَّبَهُ وَرَثَةُ الَّتِي عَيَّنَهَا لِلطَّلَاقِ وَغَرَضُهُمُ اسْتِقْرَارُ جَمِيعِ الْمَهْرِ إِذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهُمْ تَحْلِيفُهُ وَهُمْ مُقِرُّونَ لَهُ بِإِرْثٍ لَا يَدَّعِيهِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْبَيَانِ أَوِ التَّعْيِينِ، فَفِي قِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَهُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّعْيِينِ قَوْلَانِ، وَقِيلَ: يَقُومُ فِي الْبَيَانِ قَطْعًا، وَالْقَوْلَانِ فِي التَّعْيِينِ، وَقِيلَ: لَا يَقُومُ فِي التَّعْيِينِ وَالْقَوْلَانِ فِي الْبَيَانِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ التَّعْيِينِ، فَإِنَّهُ اخْتِيَارُ شَهْوَةٍ، فَلَا يُحَلِّفُهُ الْوَارِثُ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَمَاتَ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنْ مَاتَ وَالزَّوْجَتَانِ حَيَّتَانِ، لَمْ يَقُمِ الْوَارِثُ قَطْعًا لَا فِي الْبَيَانِ وَلَا فِي التَّعْيِينِ، إِذْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِرْثَ لَا يَخْتَلِفُ بِزَوْجَةٍ وَزَوْجَتَيْنِ، وَإِنْ مَاتَتْ إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ الزَّوْجُ، ثُمَّ الْأُخْرَى، وَعَيَّنَ

الْوَارِثُ الْأُولَى لِلطَّلَاقِ، قُبِلَ قَوْلُهُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ يَضُرُّ نَفْسَهُ، وَإِنْ عَيَّنَ الْأُولَى لِلنِّكَاحِ، أَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَقَدْ مَاتَتَا، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، ثُمَّ يَعُودُ التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّعْيِينِ، وَالْأَظْهَرُ حَيْثُ ثَبَتَ قَوْلَانِ: أَنَّهُ يَقُومُ، وَحَيْثُ اخْتُلِفَ فِي إِثْبَاتِ الْقَوْلَيْنِ، الْمَنْعُ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَقُومُ، أَوْ قُلْنَا: يَقُومُ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ، فَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَهُمَا، وُقِفَ مِيرَاثُ زَوْجَةٍ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَوْ يَصْطَلِحَ وَرَثَتُهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَإِنْ مَاتَتَا قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ، وُقِفَ مِنْ تَرِكَتِهِمَا مِيرَاثُ زَوْجٍ، وَإِنْ تَوَسَّطَ مَوْتُهُ بَيْنَهُمْ، وُقِفَ مِنْ تَرِكَةِ الْأُولَى مِيرَاثُ زَوْجٍ، وَمِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجِ مِيرَاثُ زَوْجَةٍ، حَتَّى يَحْصُلَ الِاصْطِلَاحُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَقُومُ، أَوْ قُلْنَا: يَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَهُ، فَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَهُمَا، فَتَعَيُّنُ الْوَارِثِ كَتَعَيُّنِهِ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُمَا، فَإِذَا بَيَّنَ الْوَارِثُ وَاحِدَةً، فَلِوَرَثَةِ الْأُخْرَى تَحْلِيفُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَ مُوَرِّثَتَهُمْ، وَإِنْ تَوَسَّطَ مَوْتُهُ بَيْنَهُمَا، فَبَيَّنَ الْوَارِثُ الطَّلَاقَ فِي الْأُولَى قَبِلْنَاهُ، وَلَمْ نُحَلِّفْهُ لِأَنَّهُ ضَرَّ نَفْسَهُ، وَإِنْ بَيَّنَ فِي الْمُتَأَخِّرَةِ، فَلِوَرَثَةِ الْأُولَى تَحْلِيفُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مُورِثَهُ طَلَّقَهَا، وَلِوَرَثَةِ الثَّانِيَةِ تَحْلِيفُهُ عَلَى الْبَتِّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا. فَرْعٌ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ وَرَثَةِ الزَّوْجِ، أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ فُلَانَةٌ، فَيُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الزَّوْجَتَيْنِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَلَا يُقْبَلُ إِنْ مَاتَتَا قَبْلَهُ، وَإِنْ تَوَسَّطَ مَوْتُهُ، نُظِرَ إِنْ شَهِدَا بِالطَّلَاقِ لِلْأُولَى قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا.

فصل

فَصْلٌ قَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا، فَعَبْدِي حُرٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، أَوْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ زَيْدٌ، فَعَبْدِي حُرٌّ، وَإِلَّا فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، وَأَشْكَلَ الْحَالُ، فَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ: يُقْرَعُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالزَّوْجَةِ، كَمَا إِذَا مَاتَ الْحَالِفُ، فَإِنْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ الْعَبْدِ، ثُمَّ قَالَ: تَبَيَّنْتُ أَنَّ الْحِنْثَ كَانَ فِي الزَّوْجَةِ، لَمْ يُنْقَضِ الْعِتْقُ، وَحُكِمَ بِالطَّلَاقِ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، أَنَّهُ لَا يُقْرَعُ مَا دَامَ الْحَالِفُ حَيًّا لِتَوَقُّعِ الْبَيَانِ، لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ، وَاسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ إِلَى الْبَيَانِ، وَكَذَا نَفَقَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُؤَجِّرُهُ الْحَاكِمُ، وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ. فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، حَفِظَهُ حَتَّى يُبَيِّنَ الْحَالَ. وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ: حَنِثْتُ فِي الطَّلَاقِ، طُلِّقَتْ. فَإِنْ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ، فَذَاكَ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ يَحْلِفُ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى الْعِتْقَ، صُدِّقَ السَّيِّدُ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْعَبْدُ، وَحُكِمَ بِعِتْقِهِ، وَإِنْ قَالَ: حَنِثْتُ فِي الْعِتْقِ، عَتَقَ الْعَبْدُ، ثُمَّ إِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَلَا يَمِينَ، وَفِيهِ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ، حَلَفَ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ وَحُكِمَ بِطَلَاقِهَا. وَقَوْلُهُ: لَمْ أَحْنَثْ فِي يَمِينِ الْعَبْدِ، فِي جَوَابِ دَعْوَاهُ، وَفِي غَيْرِ الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ: حَنِثْتُ فِي يَمِينِ الْعَبْدِ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِي أَيِّهِمَا حَنِثْتُ، فَفِي «الشَّامِلِ» وَغَيْرِهِ، أَنَّهُمَا إِنْ صَدَّقَاهُ، بَقِيَ الْأَمْرُ مَوْقُوفًا، وَإِنْ كَذَّبَاهُ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِنْ حَلَفَ، فَالْأَمْرُ مَوْقُوفٌ، وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا وَقَضَى بِمَا ادَّعَاهُ. وَإِنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، فَقَالَ فِي جَوَابِهِ: لَا أَدْرِي، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِالْحِنْثِ فِي الْآخَرِ، فَإِنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ عَلَى نَفْيِ مَا يَدَّعِيهِ، كَانَ مُقِرًّا بِالْحِنْثِ فِي الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ لِطَلَاقِ نِسْوَةٍ، وَادَّعَيْنَ الْحِنْثَ

وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، فَحَلَفَ بِعْضُهُنَّ دُونَ بَعْضٍ، حُكِمَ بِطَلَاقِ مَنْ حَلَفَ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ. وَلَوِ ادَّعَتْ وَاحِدَةٌ، وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، فَحَلَفَتْ، حُكِمَ بِطَلَاقِهَا، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا ادَّعَتْ أُخْرَى، وَلَا يُجْعَلُ نُكُولُهُ فِي وَاحِدَةٍ نُكُولًا فِي غَيْرِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْبَيَانِ أَوِ التَّعْيِينِ، وَالْحَبْسِ وَالتَّعْزِيرِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ، قَدْ أَشَارُوا إِلَى مِثْلِهِ هُنَا، لَكِنْ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ إِذَا قَالَ: لَا أَدْرِي، يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيَقْنَعُ مِنْهُ بِذَلِكَ، يَكُونُ التَّضْيِيقُ إِلَى أَنْ يُبَيِّنَ أَوْ يَقُولَ: لَا أَدْرِي، وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي إِبْهَامِ الطَّلَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ. فَرْعٌ إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَفِي قِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَهُ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَقُومُ، لِلتُّهْمَةِ فِي إِخْبَارِهِ بِالْحِنْثِ فِي الطَّلَاقِ لِيُرَقَّ الْعَبْدُ وَيَسْقُطَ إِرْثُ الزَّوْجَةِ، وَلِأَنَّ لِلْقُرْعَةِ مَدْخَلًا فِي الْعِتْقِ، وَسَوَاءٌ ثَبَتَ الْخِلَافُ أَمْ لَا، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَقُومُ. قَالَ السَّرَخْسِيُّ فِي «الْأَمَالِي» : هَذَا الْخِلَافُ إِذَا قَالَ الْوَارِثُ: حَنِثْتُ فِي الزَّوْجَةِ، فَإِنْ عَكَسَ، قُبِلَ قَطْعًا لِإِضْرَارِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا حَسَنٌ. قُلْتُ: قَدْ قَالَهُ أَيْضًا غَيْرُ السَّرَخْسِيِّ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُ الْوَارِثِ، أَوْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ، أَقْرَعْنَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الْعَبْدِ، عَتَقَ وَيَكُونُ عِتْقُهُ مِنَ الثُّلُثِ إِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَتَرِثُ الْمَرْأَةُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ قَدِ ادَّعَتِ الْحِنْثَ فِي يَمِينِهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا. وَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ، لَمْ تُطَلَّقْ، لَكِنَّ الْوَرِعَ أَنْ تَتْرُكَ الْمِيرَاثَ،

فصل

وَهَلْ يُرَقُّ الْعَبْدُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْوَارِثُ كَيْفَ شَاءَ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيمَا خَرَجَتْ عَلَيْهِ، فَغَيْرُهُ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا، يَبْقَى الْإِبْهَامُ كَمَا كَانَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا نَزَالُ نُعِيدُ الْقُرْعَةَ حَتَّى تَخْرُجَ عَلَى الْعَبْدِ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ يَجِبُ إِخْرَاجُ قَائِلِهِ مِنْ أَحْزَابِ الْفُقَهَاءِ، وَيَنْبَغِي لِقَائِلِهِ أَنْ يَقْطَعَ بِعِتْقِ الْعَبْدِ، وَيَتْرُكَ تَضْيِيعَ الزَّمَانِ بِالْقُرْعَةِ. فَالصَّوَابُ بَقَاءُ الْإِبْهَامِ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا قَوْلَ الْوَارِثِ فَقَالَ: الْحِنْثُ فِي الْعَبْدِ، عَتَقَ وَوَرِثَتِ الزَّوْجَةُ، وَإِنْ عَكَسَ، فَلِلْمَرْأَةِ تَحْلِيفُهُ عَلَى الْبَتِّ، وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَدَّعِيَ الْعِتْقَ، وَيُحَلِّفَهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حِنْثَ مُورِثُهُ فِيهِ. وَنَقَلَ الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُبَيِّنِ الْوَرَثَةُ وُقِفَ حَتَّى يَمُوتُوا، وَيَخْلُفُهُمْ آخَرُونَ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَحْصُلَ بَيَانٌ، وَوَجْهًا، أَنَّ الْوَارِثَ إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَهَذَانِ ضَعِيفَانِ، وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْإِقْرَاعُ إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ ذَكَرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُنَا مَسَائِلَ مَنْثُورَةً تَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ الطَّلَاقِ، نَقَلْتُهَا إِلَى مَوْضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا، وَمِمَّا لَمْ أَنْقُلْهُ مَسَائِلُ، مِنْهَا عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ: لَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَقَالَ مُشِيرًا إِلَى إِحْدَاهُمَا: امْرَأَتِي طَالِقٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ الْأُخْرَى، فَهَلْ تُطَلَّقُ الْأُخْرَى، وَتَبْطُلُ الْإِشَارَةُ، أَمْ تُطَلَّقَانِ مَعًا؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِإِحْدَى نِسَائِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَفُلَانَةٌ أَوْ فُلَانَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ ضَمَّ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى، فَهُمَا حِزْبٌ، وَالثَّالِثَةُ

حِزْبٌ، وَالطَّلَاقُ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ وَالثَّالِثَةِ، فَإِنْ عَيَّنَ الثَّالِثَةَ، طُلِّقَتْ وَحْدَهَا، وَإِنْ عَيَّنَ الْأُولَيَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، طُلِّقَتَا، وَإِنْ ضَمَّ الثَّانِيَةَ إِلَى الثَّالِثَةِ وَجَعَلَهُمَا حِزْبًا وَالْأُولَى حِزْبًا، طُلِّقَتِ الْأُولَى وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ، وَالتَّعْيِينُ إِلَيْهِ، وَهَذَا الضَّمُّ وَالتَّحْزِيبُ يُعْرَفُ مِنْ قَرِينَةِ الْوَقْفَةِ، وَالنَّغَمَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا فِي صِيَغِ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ، قَالَ: فَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَمُقْتَضَى الْوَاوِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِي الْحُكْمِ، فَيُجْعَلَانِ حِزْبًا، وَالثَّالِثَةُ حِزْبًا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهَا، طُلِّقَتِ الْأُولَى بِيَقِينٍ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْأُخْرَيَيْنِ. وَأَنَّهُ لَوْ جَلَسَتْ نِسْوَتُهُ الْأَرْبَعُ صَفًّا، فَقَالَ: الْوُسْطَى مِنْكُنَّ طَالِقٌ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ شَيْءٌ إِذْ لَا وُسْطَى، وَالثَّانِي: يَقَعُ عَلَى الْوَسَطِيَّيْنِ، لِأَنَّ الِاتِّحَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي وُقُوعِ اسْمِ الْوُسْطَى. قُلْتُ: كِلَا الْوَجْهَيْنِ ضَعِيفٌ، وَالْمُخْتَارُ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يُطَلَّقَ وَاحِدَةٌ مِنَ الْوَسَطِيَّيْنِ، يُعَيِّنُهَا الزَّوْجُ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْوُسْطَى لِوَاحِدَةٍ. فَلَا يُزَادُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ الْمَدْخُولِ بِهِمَا: أَنْتُمَا طَالِقَانِ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ الْمُرَاجَعَةِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا وَلَمْ يَنْوِ مُعَيَّنَةً، ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّةُ إِحْدَاهُمَا، فَإِنْ عَيَّنَ فِي الْبَاقِيَةِ، فَذَاكَ، وَإِنْ عَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، أَمْ إِيقَاعٌ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْمَذْهَبِ. وَلَوِ انْقَضَتْ عَدَّتُهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّزَوُّجُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَبْلَ التَّعْيِينِ، وَإِلَّا إِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا آخَرَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ السَّادِسُ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَهُوَ جَائِزٌ قِيَاسًا عَلَى الْعِتْقِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَعْلِيقِهِ فِي التَّدْبِيرِ.

وَإِنْ عَلَّقَهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَسَوَاءٌ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ مَعْلُومِ الْحُصُولِ، أَوْ مُحْتَمِلِهِ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا بِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي النَّوْعَيْنِ. وَلَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَإِذَا عَلَّقَ بِصِفَةٍ، ثُمَّ قَالَ: عَجَّلْتُ تِلْكَ الطَّلْقَةَ الْمُعَلَّقَةَ، لَمْ تَتَعَجَّلْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ وَجْهًا، أَنَّهَا تُعَجَّلُ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ فَأَطْلَقَ وَقَالَ: عَجَّلْتُ لَكَ الطَّلَاقَ، سَأَلْنَاهُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ تِلْكَ الطَّلْقَةَ، صَدَّقْنَاهُ بِيَمِينِهِ وَلَمْ يَتَعَجَّلْ شَيْءٌ، وَإِنْ أَرَادَ طَلَاقًا مُبْتَدَءًا، وَقَعَ طَلْقَةٌ فِي الْحَالِ. قُلْتُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، لَمْ يَقَعْ فِي الْحَالِ شَيْءٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ عَقَّبَ لَفْظَ الطَّلَاقِ بِحَرْفِ شَرْطٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ، فَمَنَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ بِأَنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُعَلِّقَ عَلَى شَرْطِ كَذَا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِنَّمَا حَلَّفْنَاهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْلِيقَ عَلَى شَيْءٍ حَاصِلٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا وَقَدْ فَعَلَهُ. وَلَوْ قَطَعَ الْكَلَامَ مُخْتَارًا حُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ ذَكَرَ حَرْفَ الْجَزَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَرْطًا، بِأَنْ قَالَ: فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ ذِكْرَ صِفَةٍ فَسَبَقَ لِسَانِي إِلَى الْجَزَاءِ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يُقْبَلُ فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَقَدْ خَاطَبَهَا بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَحَرْفُ الْفَاءِ، قَدْ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الشَّرْطِ، رُبَّمَا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ بِحَذْفِ الْفَاءِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ تَعْلِيقٌ، وَقَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: يُسْأَلُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ التَّنْجِيزَ، حُكِمَ بِهِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ التَّعْلِيقَ، أَوْ تَعَذَّرَتِ الْمُرَاجَعَةُ، حُمِلَ عَلَى التَّعْلِيقِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. وَأَنْتِ طَالِقٌ بِالْوَاوِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ قَالَ: أَرَدْتُ التَّعْلِيقَ، قُبِلَ، أَوِ التَّنْجِيزَ، وَقَعَ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ جَعْلَ الدُّخُولِ،

فصل

وَطَلَاقِهَا شَرْطَيْنِ لِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ، قُبِلَ، قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَأُلْغِيَتِ الْوَاوُ، كَمَا لَوْ قَالَ ابْتِدَاءًا: وَأَنْتِ طَالِقٌ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبُوشَنْجِيُّ فَاسِدٌ حُكْمًا وَدَلِيلًا، وَلَيْسَ كَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَارُ، أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَعْلِيقٌ بِدُخُولِ الدَّارِ، إِنْ كَانَ قَائِلُهُ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، وَإِنْ عَرَفَهَا، فَلَا يَكُونُ تَعْلِيقًا وَلَا غَيْرَهُ إِلَّا بِنِيَّةٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْعَامِّيُّ، فَيُطْلِقُهُ لِلتَّعْلِيقِ، وَيَفْهَمُ مِنْهُ التَّعْلِيقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ فِي «أَنْتِ» . فَرْعٌ إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ الْإِيقَاعَ فِي الْحَالِ، فَسَبَقَ لِسَانِي إِلَى الشَّرْطِ، وَقَعَ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ غَلَّظَ عَلَى نَفْسِهِ. فَصْلٌ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ وَاسِعٌ جِدًّا وَيَتَلَخَّصُ لِمَقْصُودِهِ فِي أَطْرَافٍ. الْأَوَّلُ: فِي التَّعْلِيقِ بِالْأَوْقَاتِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ كَذَا، أَوْ غُرَّةَ شَهْرِ كَذَا، أَوْ أَوَّلَهُ، أَوْ رَأْسَ الشَّهْرِ، أَوِ ابْتِدَاءَهُ، أَوْ دُخُولَهُ، أَوِ اسْتِقْبَالَهُ، أَوْ إِذَا جَاءَ شَهْرُ كَذَا، طُلِّقَتْ عِنْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، فَلَوْ رَأَوُا الْهِلَالَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَغْرُبَ. وَلَوْ قَالَ: فِي نَهَارِ شَهْرِ كَذَا أَوْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ، طُلِّقَتْ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي يَوْمِ كَذَا، طُلِّقَتْ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ

مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ قَوْلًا، أَنَّهَا تُطَلَّقُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَطَرَدَهُ فِي الشَّهْرِ أَيْضًا، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا مَا لَوْ قَالَ: فِي وَقْتِ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: فِي شَهْرِ كَذَا أَوْ فِي يَوْمِ كَذَا وَسَطَهُ أَوْ آخِرَهُ، لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَغَيْرُهُ فِي قَبُولِهِ وَجْهًا، وَيُدَيَّنُ قَطْعًا. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: فِي غُرَّتِهِ الْيَوْمَ الثَّانِيَ أَوِ الثَّالِثَ، فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُولَى تُسَمَّى غُرَرًا، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الْمُنْتَصَفَ، لَمْ يُدَيَّنْ، لِأَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى، وَكَذَا لَوْ قَالَ: فِي رَأْسِ الشَّهْرِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ السَّادِسَ عَشَرَ. الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي رَمَضَانَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي رَمَضَانَ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَلَوْ قَالَ: فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ، وَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، وَقَعَ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ الْقَابِلِ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، فَهَلْ يَقَعُ فِي جُزْءٍ مِنَ الشَّهْرِ، أَمْ أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَةِ السَّادِسَ عَشَرَ، أَمْ أَوَّلَ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْهُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا الْأَوَّلُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ السَّنَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَقَعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ، وَعَلَى الثَّانِي فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ السَّابِعِ. وَلَوْ قَالَ: فِي آخِرِ طُهْرِكِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَقَعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الطُّهْرِ، وَعَلَى الثَّانِي، فِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الطُّهْرِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ آخِرِ الشَّهْرِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: يَقَعُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: فِي أَوَّلِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ، وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ أَوْ غَيْرُهُ: فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَوَّلِ الشَّهْرِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: يَقَعُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، يَقَعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الْخَامِسَ عَشَرَ. وَقِيلَ: عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي بَدَلًا عَنِ الْأَوَّلِ.

فَقَالَ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أُخَرَ أَوَّلِ آخِرِ الشَّهْرِ، فَمَنْ جَعَلَ آخِرَ الشَّهْرِ الْيَوْمَ الْأَخِيرَ، قَالَ: تُطَلَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ آخِرُ الشَّهْرِ، وَأَوَّلَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَآخِرَ أَوَّلِهِ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَمَنْ جَعَلَ الْآخَرَ عَلَى النِّصْفِ الثَّانِي، فَأَوَّلُهُ لَيْلَةُ السَّادِسَ عَشَرَ، فَتُطَلَّقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. الرَّابِعَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي سَلْخِ الشَّهْرِ، فَأَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَرَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ: يَقَعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الشَّهْرِ. وَالثَّانِي: وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ: يَقَعُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ. وَالثَّالِثُ: فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِنَّ الِانْسِلَاخَ يَأْخُذُ مِنْ حِينَئِذٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ: اسْمُ السَّلْخِ يَقَعُ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الشَّهْرِ، فَتُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَمَا سِوَاهُ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ انْتِصَافِ الشَّهْرِ، يَقَعُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْ مُطْلِقِهِ، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي. وَلَوْ قَالَ: نِصْفَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ، طُلِّقَتْ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ الثَّامِنِ. وَلَوْ قَالَ: نِصْفَ يَوْمِ كَذَا، طُلِّقَتْ عِنْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ يُحْسَبُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ شَرْعًا، وَيَكُونُ نِصْفُهُ الْأَوَّلُ أَطْوَلَ.

السَّادِسَةُ: إِذَا قَالَ: إِذَا مَضَى يَوْمٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، نُظِرَ إِنْ قَالَهُ بِاللَّيْلِ، طُلِّقَتْ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْغَدِ، وَإِنْ قَالَهُ بِالنَّهَارِ، طُلِّقَتْ إِذَا جَاءَ مِثْلُ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَلَوْ فُرِضَ انْطِبَاقُ التَّعْلِيقِ عَلَى أَوَّلِ نَهَارٍ، طُلِّقَتْ عِنْدَ غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا مَضَى الْيَوْمُ، نُظِرَ، إِنْ قَالَهُ نَهَارًا، طُلِّقَتْ عِنْدَ غُرُوبِ شَمْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ يَسِيرًا، وَإِنْ قَالَهُ لَيْلًا، كَانَ لَغْوًا، إِذْ لَا نَهَارَ، وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى الْجِنْسِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ نَهَارًا كَانَ أَوْ لَيْلًا، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي، وَيَلْغُو قَوْلُهُ: الْيَوْمَ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَ وَسَمَّى الْوَقْتَ بِغَيْرِ اسْمِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الشَّهْرَ، أَوِ السَّنَةَ، وَقَعَ فِي الْحَالِ. السَّابِعَةُ: قَالَ: إِذَا مَضَى شَهْرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَمْضِيَ شَهْرٌ كَامِلٌ. فَإِنِ اتَّفَقَ قَوْلُهُ فِي ابْتِدَاءِ الْهِلَالِ، طُلِّقَتْ بِمُضِيِّهِ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، وَإِلَّا فَإِنْ قَالَهُ لَيْلًا، طُلِّقَتْ إِذَا مَضَى ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَمِنْ لَيْلَةِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ تُقُدِّرَ مَا كَانَ سَبَقَ مِنْ لَيْلَةِ التَّعْلِيقِ، وَإِنْ قَالَهُ: نَهَارًا كُمِّلَ مِنَ الْيَوْمِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ بَعْدَ التَّعْلِيقِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا مَضَى الشَّهْرُ، طُلِّقَتْ إِذَا انْقَضَى الشَّهْرُ الْهِلَالِيُّ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِذَا مَضَتِ السَّنَةُ، طُلِّقَتْ بِمُضِيِّ بَقِيَّةِ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً، وَإِنْ قَالَ: إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ بِالتَّنْكِيرِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَمْضِيَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَنْكَسِرِ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ، طُلِّقَتْ بِمُضِيِّ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، وَإِنِ انْكَسَرَ بِهِ الْأَوَّلُ، حُسِبَ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بَعْدَهُ بِالْأَهِلَّةِ، وَكُمِّلَتْ بَقِيَّةُ الْأَوَّلِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنَ الثَّالِثَ عَشَرَ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّهُ إِذَا انْكَسَرَ شَهْرٌ، انْكَسَرَ جَمِيعُ الشُّهُورِ، وَاعْتُبِرَتْ سَنَةً بِالْعَدَدِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ فِي السَّلَمِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ شَكَّ فِيمَا كَانَ مَضَى مِنْ شَهْرِ التَّعْلِيقِ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَذَكَرَ الْحَنَّاطِيُّ فِي حَلِّ الْوَطْءِ فِي حَالِ التَّرَدُّدِ وَجْهَيْنِ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الْحَلُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالسَّنَةِ، السَّنَةَ الْفَارِسِيَّةَ أَوِ الرُّومِيَّةَ، دُيِّنَ وَلَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: السَّنَةَ سَنَةً كَامِلَةً، دُيِّنَ وَلَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي سَنَةَ بَقِيَّةَ السَّنَةِ، فَقَدْ غَلِطَ عَلَى نَفْسِهِ. الثَّامِنَةُ: إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ عُرْفًا، كَقَوْلِهِ: إِنْ طِرْتِ أَوْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ، أَوْ إِنْ حَمَلْتِ الْجَبَلَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ عَقْلًا كَقَوْلِهِ: إِنْ أَحْيَيْتِ مَيِّتًا، أَوْ إِنِ اجْتَمَعَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ، فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا، أَمْ يَقَعُ فِي الْعَقْلِيِّ دُونَ الْعُرْفِيِّ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: لَا يَقَعُ، أَمَّا فِي الْعُرْفِيِّ، فَبِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَأَمَّا فِي الْعَقْلِيِّ، فَعِنْدَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةٍ خِلَافًا لِلْمُتَوَلِّيِّ، وَالْمُسْتَحِيلُ شَرْعًا كَالْمُسْتَحِيلِ عَقْلًا، كَقَوْلِهِ: إِنْ نُسِخَ صَوْمُ رَمَضَانَ. أَمَّا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ أَوِ الشَّهْرَ الْمَاضِي، أَوْ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ، أَنْ يَقَعَ فِي الْحَالِ طَلَاقٌ، يَسْتَنِدُ إِلَى أَمْسِ أَوْ إِلَى الشَّهْرِ الْمَاضِي، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ، لَكِنْ يَقَعُ فِي الْحَالِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ أَصْلًا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: لَمْ أُوقِعْ فِي الْحَالِ، بَلْ أَرَدْتُ إِيقَاعَهُ فِي الْمَاضِي، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ ثَانِيهُمَا: لَا يَقَعُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: لَمْ أُرِدْ إِيقَاعَهُ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَاضِي، بَلْ أَرَدْتُ أَنِّي طَلَّقْتُهَا فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي فِي هَذَا النِّكَاحِ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ أَوْ بَائِنٌ الْآنَ،

فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَتَكُونُ عِدَّتُهَا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ إِنْ صَدَّقَتْهُ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُهَا أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ، فَالْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهَا إِنْ صَدَّقَتْهُ، قُبِلَ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي أَنَّهُ أَنْشَأَ الطَّلَاقَ، وَحِينَئِذٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِطَلَاقَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. الْحَالُ الرَّابِعُ: قَالَ: أَرَدْتُ أَنِّي طَلَّقْتُهَا فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي وَبَانَتْ، ثُمَّ جَدَّدْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ أَنَّ زَوْجًا آخَرَ طَلَّقَهَا فِي نِكَاحٍ سَابِقٍ، قَالَ الْأَصْحَابُ: يُنْظَرُ، إِنْ عُرِفَ نِكَاحٌ سَابِقٌ، فَطَلَاقٌ فِيهِ، أَوْ أَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي إِرَادَتِهِ، فَذَاكَ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ وَقَالَتْ: إِنَّمَا أَرَدْتُ إِنْشَاءَ طَلَاقٍ الْآنَ، حَلَفَ. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ نِكَاحٌ سَابِقٌ، وَطَلَاقٌ فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ، وَكَانَ مُحْتَمَلًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ التَّفْسِيرُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً، وَإِلَّا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ ابْتِدَاءًا: طَلَّقَكِ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي زَوْجٌ غَيْرِي، لَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَذَبَ. الْحَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يَقُولَ: لَمْ أُرِدْ شَيْئًا أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُفَسِّرْ، أَوْ جُنَّ، أَوْ خَرِسَ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ التَّفْهِيمِ بِالْإِشَارَةِ، فَالصَّحِيحُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلشَّهْرِ الْمَاضِي، فَفِي «الْمُجَرَّدِ» لِلْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِرِضَى فُلَانٍ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّارِيخِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ: إِذَا مَاتَ أَوْ إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَضْرِبَكِ بِشَهْرٍ، نُظِرَ إِنْ مَاتَ فُلَانٌ أَوْ قَدِمَ، أَوْ ضَرَبَهَا قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِ التَّعْلِيقِ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ. وَقِيلَ: يَقَعُ عِنْدَ الضَّرْبِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ. حَتَّى لَوْ ضَرَبَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ مَضَى شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَلِلْإِمَامِ احْتِمَالُ أَنَّهُ لَا تَنْحَلُّ لِكَوْنِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ لَيْسَ هُوَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ. وَإِنْ مَاتَ أَوْ قَدِمَ أَوْ ضَرَبَ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِ التَّعْلِيقِ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ، وَتُحْسَبُ الْعِدَّةُ مِنْ يَوْمَئِذٍ.

وَلَوْ مَاتَتْ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقُدُومِ [دُونَ] شَهْرٍ. لَا يَرِثُهَا الزَّوْجُ، وَلَوْ خَالَعَهَا قَبْلَ الْقُدُومِ أَوِ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْخُلْعِ وَقُدُومِ فُلَانٍ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ، وَقَعَ الْخُلْعُ صَحِيحًا، وَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا دُونَ شَهْرٍ وَالطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ ثَلَاثٌ، فَالْخُلْعُ فَاسِدٌ وَالْمَالُ مَرْدُودٌ. وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ كَذَلِكَ ثُمَّ بَاعَهُ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَمَوْتِ فُلَانٍ، أَوْ قُدُومِهِ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَلَمْ يَحْصُلِ الْعِتْقُ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدَ أَمْسِ، أَوْ أَمْسِ غَدٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْيَوْمِ لِأَنَّهُ غَدُ أَمْسِ وَأَمْسِ غَدٍ. وَلَوْ قَالَ: أَمْسِ غَدًا، أَوْ غَدًا أَمْسِ لَا بِالْإِضَافَةِ، طُلِّقَتْ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنَ الْغَدِ، وَيَلْغُو ذِكْرُ الْأَمْسِ. هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْبَغَوِيُّ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ مِثْلَهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ غَدًا، وَأَبْدَى فِيهِ تَوَقُّفًا، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ: أَنْتِ طَالِقٌ الشَّهْرَ الْمَاضِيَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا، وَقَعَ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ، وَلَا يَقَعُ فِي الْغَدِ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ الْيَوْمَ طَلْقَةً وَغَدًا أُخْرَى، طُلِّقَتْ كَذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ إِيقَاعَ نِصْفِ طَلْقَةٍ الْيَوْمَ وَنِصْفِ طَلْقَةٍ غَدًا، فَكَذَلِكَ تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ نِصْفَ طَلْقَةٍ الْيَوْمَ وَنِصْفَهَا الْآخَرَ غَدًا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَقَعُ طَلْقَتَانِ أَيْضًا، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي أَخَّرَهُ تَعَجَّلَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدَ الْيَوْمِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَقَعُ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ، وَلَا يَقَعُ فِي غَدٍ شَيْءٌ، كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ غَدًا، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَاصِمٍ: لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ شَيْءٌ، وَيَقَعُ فِي غَدٍ طَلْقَةٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَعَلَّقَ بِالْغَدِ، وَقَوْلُهُ: بَعْدَهُ الْيَوْمَ، كَتَعْجِيلِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ، فَلَا يَتَعَجَّلُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَغَدًا، وَبَعْدَ غَدٍ، يَقَعُ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ، وَلَا يَقَعُ

فِي الْغَدِ وَلَا بَعْدَهُ شَيْءٌ آخَرُ، لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي وَقْتٍ مُطَلَّقَةٌ فِيمَا بَعْدَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، وَإِذَا جَاءَ الْغَدُ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: يُسْأَلُ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ طَلْقَةً الْيَوْمَ وَتَبْقَى بِهَا مُطَلَّقَةً غَدًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، لَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلْقَةٌ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ طَلْقَةً الْيَوْمَ وَطَلْقَةً غَدًا، أَوْقَعْنَاهُ كَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَرَأْسَ الشَّهْرِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: الْيَوْمَ وَغَدًا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَفِي الْغَدِ، وَفِيمَا بَعْدَ غَدٍ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَقَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلْقَةٌ. قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فِي اللَّيْلِ وَفِي النَّهَارِ، لِأَنَّ الْمَظْرُوفَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الظَّرْفِ، وَلَيْسَ هَذَا الدَّلِيلُ بِوَاضِحٍ فَقَدْ يَتَّحِدُ الْمَظْرُوفُ، وَيَخْتَلِفُ الظَّرْفُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا، فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْغَدِ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ. وَالثَّانِي: يَقَعُ فِي الْحَالِ تَغْلِيبًا لِلْإِيقَاعِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، أَوْ إِذَا جَاءَ الْغَدُ أَوْ بَعْدَ غَدٍ، قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: لَا تُطَلَّقُ فِي الْغَدِ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ رَأْيُ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ بِبَغْدَادَ، وَهَذَا يُوَافِقُ الصَّحِيحَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَصَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» : لَا تُطَلَّقُ أَصْلًا، لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِمَجِيءِ الْغَدِ، فَلَا يَقَعُ قَبْلَهُ، وَإِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَقَدْ مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي جَعَلَهُ مَحَلًّا لِلْإِيقَاعِ. وَالثَّانِي: إِذَا جَاءَ الْغَدُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ مُسْتَنِدًا إِلَى الْيَوْمِ، وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ، فَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ لَا تُطَلَّقُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِالتَّعْلِيقِ بِمُحَالٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ، قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إِذَا جَاءَ الْغَدُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فِي كُلِّ سَنَةٍ طَلْقَةٌ، وَقَعَ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ السِّنِينَ الْعَرَبِيَّةَ، وَقَعَتْ أُخْرَى فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَأُخْرَى فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ طَلْقَتَيْنِ سَنَةً، وَقَعَتِ الثَّانِيَةُ عِنْدَ انْقِضَاءِهِ سَنَةً كَامِلَةً مِنْ وَقْتِ التَّعْلِيقِ، وَالثَّالِثَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ سَنَةٍ كَامِلَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا امْتَدَّتِ الْعِدَّةُ أَوْ رَاجَعَهَا، فَلَوْ بَانَتْ وَجَدَّدَ نِكَاحَهَا وَهَذِهِ الْمُدَّةُ بَاقِيَةٌ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَوْلَا عَوْدِ الْحِنْثِ فَإِنْ قُلْنَا: يَعُودُ وَكَانَ التَّجْدِيدُ فِي خِلَالِ السَّنَةِ، تُطَلَّقُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ أَطْلَقَ السِّنِينَ، فَهَلْ يَنْزِلُ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ أَمْ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلْقَةٌ، فَإِنْ قَالَهَا بِالنَّهَارِ، وَقَعَ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ، وَبِطُلُوعِ الْفَجْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أُخْرَى، وَبِطُلُوعِهِ فِي الثَّالِثِ أُخْرَى. فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ طَلْقَتَيْنِ يَوْمٌ دُيِّنَ، وَفِي قَبُولِهِ ظَاهِرًا وَجْهَانِ، أَقْيَسُهُمَا: الْقَبُولُ، وَإِنْ قَالَهُ بِاللَّيْلِ، وَقَعَ ثَلَاثُ طَلَقَاتٍ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ التَّالِيَةِ لِلتَّعْلِيقِ. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ الْيَوْمَ، فَمَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، فَوَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: لَا طَلَاقَ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: تَقَعُ فِي آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْيَوْمِ، وَهُوَ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْيَوْمِ زَمَنٌ لَا يَسَعُ التَّطْلِيقَ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي: أَفْقَهُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ، طُلِّقَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَلَوْ قَالَ: أَفْضَلِ الْأَيَّامِ، طُلِّقَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَفِي وَجْهٍ: يَوْمَ الْجُمْعَةَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فِي «الْفَتَاوَى» . قُلْتُ: تَخْصِيصُهُ بِ «عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ، لِأَنَّ الْيَوْمَ يَتَحَقَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ تَخَيَّلَ مُتَخَيِّلٌ أَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ، قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا آخِرُ النَّهَارِ، فَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ، مِنْ حِينِ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ بِأَفْضَلِ أَوْقَاتِ الْيَوْمِ، بَلِ الْيَوْمِ الْأَفْضَلِ، وَاسْمُ الْيَوْمِ الْأَفْضَلِ يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي «فَتَاوَى الْقَفَّالِ» . لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَا تُطَلَّقُ مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ. قُلْتُ: هَذَا إِذَا كَانَ نَهَارًا، فَإِنْ عَلَّقَ لَيْلًا، طُلِّقَتْ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ. لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قَالَ: قُبَيْلَ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ أَوْ قُبَيْلَ بِزِيَادَةِ يَاءٍ، لَا تُطَلَّقُ إِلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ. وَلَوْ قَالَ: بَعْدَ قَبْلَ مَوْتِي، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَقَعَ، لِأَنَّ جَمِيعَ عُمْرِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ أَضْرِبَكِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ بِوُجُودِهِ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ، كَقَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِي أَوْ مَوْتِ فُلَانٍ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَقَعُ حَتَّى يُوجَدَ ذَلِكَ الْفِعْلُ، فَحِينَئِذٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ مُسْتَنِدًا إِلَى حَالِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ الصِّيغَةَ تَقْتَضِي وُجُودَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَرُبَّمَا لَا يُوجَدُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً قَبْلَهَا يَوْمُ الْأَضْحَى، سَأَلْنَاهُ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَضْحَى الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْأَضْحَى وَيَنْقَرِضَ، لِيَكُونَ

قَبْلَ التَّطْلِيقَةِ، وَإِنْ أَرَادَ الْأَضْحَى الْمَاضِي طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ: يَوْمَ السَّبْتِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا يَوْمُ الْجُمْعَةِ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، لَمْ يَقَعْ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَضْحَى الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِشَهْرٍ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ شَهْرٍ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَأَخَّرَ مَوْتُ الْآخَرِ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ مَوْتِهِمَا بِشَهْرٍ، وَالثَّانِي: لَا تُطَلَّقُ أَصْلًا، لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ لَا يُقَالُ: طُلِّقَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، إِلَّا إِذَا لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، وَهَذَا الثَّانِي خَرَّجَهُ الْبُوشَنْجِيُّ، وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ، قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ عِيدَيِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى بِشَهْرٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تُطَلَّقُ أَوَّلَ رَمَضَانَ، وَعَلَى الثَّانِي، لَا تُطَلَّقُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي غَلَطٌ، وَلَا أُطْلِقُ عَلَيْهِ اسْمَ الضَّعِيفِ، وَعَجَبٌ مِمَّنْ يُخَرِّجُ مِثْلَ هَذَا أَوْ يَحْكِيهِ وَيَسْكُتُ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَا بَعْدَهُ رَمَضَانُ، وَأَرَادَ الشَّهْرَ، طُلِّقَتْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ رَجَبٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْيَوْمَ بِلَيْلَتِهِ، فَفِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَإِنْ أَرَادَ مُجَرَّدَ الْيَوْمِ، فَقُبَيْلِ فَجْرِ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَإِنْ قَالَ: بَعْدَ مَا قَبْلَهُ رَمَضَانُ وَأَرَادَ الشَّهْرَ، طُلِّقَتْ عِنْدَ اسْتِهْلَالِ ذِي الْقِعْدَةِ، وَإِنْ أَرَادَ الْأَيَّامَ، فَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْعَبَّاسِ

الرُّويَانِيُّ، أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ كُلَّ يَوْمٍ طَلْقَةً، حَتَّى يَكْمُلَ الثَّلَاثُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، وَقَعَ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ وُقُوعُ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ آخِرُهُنَّ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ طَلْقَةً، يَثْبُتُ حُكْمُهَا فِي يَوْمٍ دُونَ يَوْمٍ، أَوْ تَقَعُ فِي يَوْمٍ دُونَ يَوْمٍ، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى شَهْرٍ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: يَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ، وَيَتَأَبَّدُ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ تَنْجِيزَ الطَّلَاقِ وَتَوْقِيتَهُ، فَيَقَعُ فِي الْحَالِ مُؤَبَّدًا، قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَالِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. قُلْتُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا، أَوْ عَبْدِي حُرٌّ بَعْدَ غَدٍ، قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: يُؤْمَرُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِذَا عَيَّنَ الطَّلَاقَ أَوِ الْعِتْقَ، يُعَيِّنُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي ذَكَرَهُ. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ، كَانَ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْأَمْسِ. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، لَا تَقَعُ عَلَيْكِ إِلَّا غَدًا، طُلِّقَتْ بِمَجِيءِ الْغَدِ، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلْقَةً تَقَعُ عَلَيْكِ غَدًا. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، وَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ.

فصل

الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي التَّعْلِيقِ بِالتَّطْلِيقِ، وَنَفْيِهِ وَنَحْوِهِمَا. قَالَ الْأَصْحَابُ: الْأَلْفَاظُ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَاتِ «مَنْ» ، وَ «إِنْ» ، وَ «إِذَا» ، وَ «مَتَى» ، وَ «مَتَى مَا» ، وَ «مَهْمَا» ، وَ «كُلَّمَا» ، وَ «أَيُّ» . كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَتْ مِنْكُنَّ، أَوْ إِنْ دَخَلْتِ، أَوْ إِذَا دَخَلْتِ، أَوْ مَتَى، أَوْ مَتَى مَا، أَوْ مَهْمَا، أَوْ كُلَّمَا، أَوْ أَيَّ وَقْتٍ، أَيَّ زَمَانٍ دَخَلْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ إِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِإِثْبَاتِ فِعْلٍ، لَمْ يَقْتَضِ شَيْءٌ مِنْهَا الْفَوْرَ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ وُجُودُ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ، إِلَّا إِذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِتَحْصِيلِ مَالٍ، بِأَنْ يَقُولَ: إِنْ ضَمِنْتِ لِي، أَوْ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ فِي الضَّمَانِ وَالْإِعْطَاءِ فِي بَعْضِ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْخُلْعِ، وَإِلَّا إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى مَشِيئَتِهَا فَإِنَّهُ تُعْتَبَرُ مَشِيئَتُهَا عَلَى الْفَوْرِ كَمَا سَبَقَ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَقْتَضِي شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ تَعَدُّدَ الطَّلَاقِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ، بَلْ إِذَا وُجِدَ الْفِعْلُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مَرَّةً، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ وَلَمْ يُؤَثِّرْ وُجُودُهُ ثَانِيًا إِلَّا «كُلَّمَا» فَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِالْوَضْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا، أَنَّ «مَتَى» ، وَ «مَتَى مَا» يَقْتَضِيَانِ التَّكْرَارَ، وَوَجْهًا أَنَّ «مَتَى مَا» تَقْتَضِيهِ دُونَ «مَتَى» ، وَهُمَا شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ. فَصْلٌ إِذَا قَالَ: إِنْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ إِذَا طَلَّقْتُكِ، أَوْ مَتَى طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، نُظِرَ إِنْ كَانَ مَدْخُولًا بِهَا، وَقَعَ طَلْقَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: الْمُنَجَّزَةُ، وَالْأُخْرَى الْمُعَلَّقَةُ سَوَاءٌ طَلَّقَ بِصَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ وَقَعَ ثَلَاثٌ، الثَّالِثَةُ بِالتَّعْلِيقِ، وَلَوْ قَالَ: لَمْ أُرِدِ التَّعْلِيقَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنِّي إِذَا طَلَّقْتُهَا تَكُونُ مُطَلَّقَةً بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ، دُيِّنَ وَلَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا. وَلَوْ وَكَّلَ فَطَلَّقَهَا وَكِيلُهُ، وَقَعَتِ الْمُنَجَّزَةُ فَقَطْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا هُوَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا، فَيَقَعُ مَا نَجَّزَهُ وَتَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ، فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ آخَرُ،

وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، فَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَطَلَّقَهَا، لَمْ يَجِئِ الْخِلَافُ فِي عَوْدِ الْحِنْثِ. وَلَوْ خَالَعَهَا وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا، أَوْ غَيْرُهَا، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بِالْخُلْعِ، ثُمَّ إِنْ جَعَلْنَا الْخُلْعَ طَلَاقًا، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ فَسْخًا، لَمْ تَنْحَلَّ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ يَقَعُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَفِي الْخُلْعِ طَلْقَتَانِ، وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ الطَّلْقَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِصِفَةٍ، هَلْ تَقَعُ مَعَ الصِّفَةِ مُقْتَرِنَةً بِهَا، أَمْ تَقَعُ مُتَرَتِّبَةً عَلَى الصِّفَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَالْمَرَضِيُّ عِنْدَ الْإِمَامِ وَقَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهَا مَعَهَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ عِلَّةٌ وَضْعِيَّةٌ، وَالطَّلَاقَ مَعْلُولُهَا فَيَتَقَارَبَانِ فِي الْوُجُودِ، كَالْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ مَعَ مَعْلُولِهَا. فَمَنْ قَالَ بِالتَّرْتِيبِ قَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَقَعْ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، لِكَوْنِهَا بَانَتْ بِالْمُنَجَّزَةِ. وَمَنْ قَالَ بِالْأَصَحِّ وَهُوَ الْمُقَارَنَةُ، قَالَ: إِنَّمَا لَمْ تَقَعْ فِي الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، مَعْنَاهُ: إِنْ صِرْتِ مُطَلَّقَةً، وَبِمُجَرَّدِ مَصِيرِهَا مُطَلَّقَةً، بَانَتْ. فَرْعٌ كَمَا أَنَّ تَنْجِيزَ الطَّلَاقِ تَطْلِيقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلْقَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِالتَّطْلِيقِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، فَكَذَا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ مَعَ وُجُودِ الصِّفَةِ تَطْلِيقٌ. فَإِذَا قَالَ: إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَكَمَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالصِّفَةِ مَعَ الصِّفَةِ تَطْلِيقٌ، فَالتَّعْلِيقُ مَعَ الصِّفَةِ إِيقَاعٌ لِلطَّلَاقِ. فَإِذَا قَالَ: إِذَا أَوْقَعْتِ عَلَيْكِ الطَّلَاقَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا يَقَعُ إِلَّا طَلْقَةٌ، وَحَكَاهُ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ»

وَ «التَّهْذِيبِ» ، وَزَعَمَ قَائِلُهُ أَنَّ لَفْظَ الْإِيقَاعِ يَقْتَضِي طَلَاقًا يُبَاشِرُهُ بِخِلَافِ التَّطْلِيقِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ الصِّفَةِ، فَلَيْسَ بِتَطْلِيقٍ وَلَا إِيقَاعٍ، لَكِنَّهُ وُقُوعٌ، فَإِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ إِذَا أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ الطَّلَاقَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ، لَا يَقَعُ الْمُعَلَّقُ بِالتَّطْلِيقِ أَوِ الْإِيقَاعِ، بَلْ يَقَعُ طَلْقَةٌ بِالدُّخُولِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَتَطْلِيقُ الْوَكِيلِ وُقُوعٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ التَّعْلِيقِ، فَلَيْسَ بِتَطْلِيقٍ وَلَا إِيقَاعٍ وَلَا وُقُوعٍ. وَإِذَا قَالَ: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَقَعَ ثَلَاثُ طَلَقَاتٍ، فَيَقَعُ بِوُقُوعِ الْأُولَى ثَانِيَةٌ، وَبِوُقُوعِ الثَّانِيَةِ ثَالِثَةٌ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَقَعَ طَلْقَتَانِ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمَشْهُورِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ وُقُوعَ ثَلَاثٍ، وَجَعَلَهُ الْحَنَّاطِيُّ قَوْلًا مَنْسُوبًا إِلَى كِتَابِ الْبُوَيْطِيِّ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ: لَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ التَّكْرَارَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَكِنْ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ هُنَا، لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا أُخْرَى، كَانَ بِالْمُنَجَّزَةِ مُسْتَوْفِيًا لِلثَّلَاثِ، وَلَا تَعُودُ الْيَمِينُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الثَّلَاثِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ طَلَاقِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا. فَرْعٌ قَالَ لَهَا: إِذَا أَعْتَقْتُ عَبْدِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لِلْعَبْدِ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ دَخَلَ، عَتَقَ وَطُلِّقَتْ، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ مَعَ الدُّخُولِ إِعْتَاقٌ كَمَا أَنَّهُ

تَطْلِيقٌ، وَلَوْ قَدَّمَ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ فَقَالَ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ أَعْتَقْتُ عَبْدِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ دَخَلَ الْعَبْدُ، عَتَقَ وَلَمْ تُطَلَّقِ الْمَرْأَةُ، فَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِذَا عَتَقَ أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ دَخَلَ، عَتَقَ وَطُلِّقَتْ. فَرْعٌ تَحْتَهُ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ، فَقَالَ لِحَفْصَةَ: إِذَا طَلَّقْتُ عَمْرَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ، طُلِّقَتَا جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ لِعَمْرَةَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لِحَفْصَةَ: إِنْ طَلَّقْتُ عَمْرَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ دَخَلَتْ عَمْرَةُ، طُلِّقَتْ وَلَمْ تُطَلَّقْ حَفْصَةُ. وَلَوْ قَالَ لِحَفْصَةَ: مَتَى وَقَعَ طَلَاقِي عَلَى عَمْرَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَّقَ طَلَاقَ عَمْرَةَ بِدُخُولِ الدَّارِ قَبْلَ تَعْلِيقِ حَفْصَةَ أَوْ بَعْدَهُ، ثُمَّ دَخَلَتْ عَمْرَةُ، طُلِّقَتَا. وَلَوْ قَالَ لِحَفْصَةَ: إِنْ طَلَّقْتُ عَمْرَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ: إِنْ طَلَّقْتُ حَفْصَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَ حَفْصَةَ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ طَلْقَتَيْنِ، وَعَمْرَةُ طَلْقَةً. وَلَوْ طَلَّقَ عَمْرَةَ بَدَلَ حَفْصَةَ، طُلِّقَتَا طَلْقَةً طَلْقَةً فَقَطْ. وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقَيْنِ بِصِيغَةِ «إِذَا» أَوْ «مَتَى» أَوْ «مَهْمَا» أَوْ «كُلَّمَا» فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَمْ يَتَكَرَّرْ، وَلَا مَزِيَّةَ لِكُلَّمَا. وَلَوْ قَالَ لِحَفْصَةَ: إِنْ وَقَعَ طَلَاقِي عَلَى عَمْرَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ: إِنْ وَقَعَ طَلَاقِي عَلَى حَفْصَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا، طُلِّقَتْ طَلْقَةً مُنَجَّزَةً وَتَقَعُ عَلَى صَاحِبَتِهَا طَلْقَةٌ بِالصِّفَةِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْمُنْجَزِ طَلَاقُهَا طَلْقَةٌ أُخْرَى بِالْوُقُوعِ

عَلَى صَاحِبَتِهَا، وَلَوْ عَلَّقَ هَكَذَا بِصِيغَةِ «كُلَّمَا» ، ثُمَّ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا، طُلِّقَتَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا. وَلَوْ قَالَ لِحَفْصَةَ: إِذَا طَلَّقْتُكِ، فَعَمْرَةُ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ: إِذَا طَلَّقْتُكِ، فَحَفْصَةُ طَالِقٌ، فَقَدْ عَلَّقَ بِطَلَاقِ الْمُخَاطَبَةِ طَلَاقَ صَاحِبَتِهَا بِخِلَافِ الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَحُكْمُ هَذِهِ أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ حَفْصَةَ، طُلِّقَتْ طَلْقَةً فَقَطْ، وَطُلِّقَتْ عَمْرَةُ بِالصِّفَةِ، وَلَمْ تَعُدْ إِلَى حَفْصَةَ طَلْقَةٌ أُخْرَى، لِأَنَّ طَلَاقَهَا مُعَلَّقٌ بِتَطْلِيقِ عَمْرَةَ، وَلَمْ يُطَلِّقْ عَمْرَةَ بَعْدَ مَا عَلَّقَ طَلَاقَ حَفْصَةَ تَنْجِيزًا، وَلَا أَحْدَثَ تَعْلِيقًا. وَلَوْ طَلَّقَ عَمْرَةَ أَوَّلًا، طُلِّقَتْ طَلْقَةً مُنَجَّزَةً، وَطُلِّقَتْ حَفْصَةُ طَلْقَةً بِالصِّفَةِ، وَعَادَ بِطَلَاقِهَا إِلَى عَمْرَةَ طَلْقَةٌ أُخْرَى. فَرْعٌ تَحْتَهُ أَرْبَعٌ، فَقَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ، فَالْأُخْرَيَاتُ طَوَالِقُ، ثُمَّ طَلَّقَ وَاحِدَةً، طُلِّقْنَ طَلْقَةً طَلْقَةً، فَإِنْ طَلَّقَ أُخْرَى، طُلِّقْنَ أُخْرَى أُخْرَى، فَإِنْ طَلَّقَ ثَالِثَةً، طُلِّقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ، فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ، ثُمَّ طَلَّقَ إِحْدَاهُنَّ، طُلِّقَتْ هِيَ طَلْقَتَيْنِ، وَالْبَاقِيَاتُ طَلْقَةً طَلْقَةً، فَإِنْ طَلَّقَ ثَانِيَةً، تَمَّ لَهَا وَلِلْأُولَى ثَلَاثٌ ثَلَاثٌ، وَلِلثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، طَلْقَتَانِ طَلْقَتَانِ، فَإِنْ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا، تَمَّ لَهُمَا أَيْضًا الثَّلَاثُ. فَرْعٌ لَهُ نِسْوَةٌ نَكَحَهُنَّ مُرَتَّبًا، فَقَالَ: إِنْ طَلَّقْتُ الْأُولَى، فَالثَّانِيَةُ طَالِقٌ، وَإِنْ طَلَّقْتُ الثَّانِيَةَ، فَالثَّالِثَةُ طَالِقٌ، وَإِنْ طَلَّقْتُ الثَّالِثَةَ فَالْأُولَى طَالِقٌ، فَإِنْ طَلَّقَ الْأُولَى طُلِّقَتْ هِيَ وَالثَّانِيَةُ دُونَ الثَّالِثَةِ، وَإِنْ طَلَّقَ الثَّانِيَةَ، طُلِّقَتْ هِيَ وَالثَّالِثَةُ دُونَ الْأُولَى، وَإِنْ طُلِّقَتِ الثَّالِثَةُ، طُلِّقَتْ هِيَ وَالْأَوْلَى وَالثَّانِيَةُ، وَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً لَا بِعَيْنِهَا وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَاطِعًا لِلْإِرْثِ، لِكَوْنِهِ

فصل

ثَلَاثًا، أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَيْسَ لِلثَّانِيَةِ الْمُخَاصَمَةُ لِلْمِيرَاثِ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلِلْأُولَى وَالثَّالِثَةُ الْمُخَاصَمَةُ، لِأَنَّ احْتِمَالَ عَدَمِ الطَّلَاقِ قَائِمٌ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَيُوقَفُ الْأَمْرُ إِلَى الِاصْطِلَاحِ. فَصْلٌ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَعَبِيدٌ، فَقَالَ: إِنْ طَلَّقْتُ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِي، فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، وَإِنْ طَلَّقْتُ ثِنْتَيْنِ، فَعَبْدَانِ حُرَّانِ، وَإِنْ طَلَّقْتُ ثَلَاثًا، فَثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ أَحْرَارٌ، وَإِنْ طَلَّقْتُ أَرْبَعًا، فَأَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ أَحْرَارٌ، ثُمَّ طَلَّقَهُنَّ مَعًا، أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ، عَتَقَ عَشَرَةُ أَعْبُدٍ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا عَلَّقَ بِصِيغَةِ «إِذَا» أَوْ «مَتَى» أَوْ «مَهْمَا» ، وَمَا لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، أَمَّا إِذَا عَلَّقَ هَذِهِ التَّعْلِيقَاتِ بِلَفْظِ «كُلَّمَا» ثُمَّ طَلَّقَهُنَّ مَعًا، أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَعْتِقُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَبْدًا، وَقِيلَ: عَشَرَةٌ، وَقِيلَ: سَبْعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: عِشْرُونَ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ عَشَرَ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ «الْمُجَرَّدِ» ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى تَضْعِيفِ مَا سِوَاهُ، وَالرُّجُوعِ فِي تَعْيِينِ الْعَبِيدِ إِلَيْهِ. فَصْلٌ فِي التَّعْلِيقِ بِنَفْيِ التَّطْلِيقِ وَفِي مَعْنَاهُ التَّعْلِيقُ بِنَفْيِ دُخُولِ الدَّارِ وَالضَّرْبِ، وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، فَإِذَا قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ حَتَّى يَحْصُلَ الْيَأْسُ مِنَ التَّطْلِيقِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُهُ أَنَّ يُطَلِّقَ فِيهِ، فَلَمْ يُطَلِّقْ، طُلِّقَتْ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَقِيلَ:

قَوْلَانِ فِيهِمَا بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَلَوْ قَالَ: مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ «مَهْمَا» ، أَوْ أَيَّ حِينٍ، أَوْ كُلَّمَا لَمْ أَفْعَلْ، أَوْ تَفْعَلِي كَذَا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَضَى زَمَنٌ يَسَعُ الْفِعْلَ وَلَمْ يَفْعَلْ، طُلِّقَتْ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَلَفْظِ إِذَا، وَأَشَارَ الْحَنَّاطِيُّ إِلَى خِلَافٍ، وَضَبَطَ الْأَصْحَابُ هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى الْمَذْهَبِ، بِأَنَّ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ كُلَّهَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ فِي طَرَفِ النَّفْيِ، إِلَّا لَفْظَةَ «إِنْ» ، فَإِنَّهَا لِلتَّرَاخِي، وَفِي تَسْمِيَةِ هَذَا فَوْرًا وَتَرَاخِيًا، نَوْعُ تَوَسُّعٍ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ، وَلَوْ عَلَّقَ النَّفْيَ بِلَفْظَةِ «إِنْ» ، وَقَيَّدَ بِزَمَانٍ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ الْيَوْمَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يُطَلِّقْ، حُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِحُصُولِ الْيَأْسِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ تَرَكْتُ طَلَاقَكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ فَلَمْ يُطَلِّقْ، طُلِّقَتْ، بِخِلَافِ طَرَفِ النَّفْيِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الْحَالِ وَاحِدَةً ثُمَّ سَكَتَ، لَمْ يَقَعْ أُخْرَى لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ طَلَاقَهَا. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ سَكَتُّ عَنْ طَلَاقِكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا فِي الْحَالِ، وَقَعَ طَلْقَةٌ، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَالِ ثُمَّ سَكَتَ، وَقَعَتْ أُخْرَى بِالسُّكُوتِ، وَلَا تُطَلَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ. فَرْعٌ قَالَ: كُلَّمَا سَكَتُّ عَنْ طَلَاقِكِ، أَوْ كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمَضَتْ ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ تَسَعُ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ بِلَا تَطْلِيقٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَهَذِهِ الصُّوَرُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، فَلَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمَضَتْ لَحْظَةٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا، بَانَتْ وَلَا تَلْحَقْهَا الثَّانِيَةُ، فَلَوْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا وَقُلْنَا: يَعُودُ الْحِنْثُ، فَمَضَتْ لَحْظَةٌ، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ أُخْرَى، وَلَوْ قَالَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا عَقِبَ هَذَا التَّعْلِيقِ بِكُلَّمَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ، فَقَبِلَتْ، بَانَتْ وَلَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ، فَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا، عَادَ قَوْلَا عَوْدِ الْحِنْثِ.

فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ «إِنْ» وَ «إِذَا» فَقَالَ: أَرَدْتُ بِإِذَا مَعْنَى إِنْ، دُيِّنَ، وَيُقْبَلُ أَيْضًا ظَاهِرًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَحَيْثُ قُلْنَا: فِي «إِنْ» أَوْ «إِذَا» إِنَّهُ إِذَا مَضَى زَمَنٌ يَسَعُ التَّطْلِيقَ فَلَمْ يُطَلِّقْ يَقَعُ، فَأَمْسَكَ رَجُلٌ فَمَهُ، أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ التَّطْلِيقِ، قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي حِنْثِ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ، وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْيَأْسُ مِنَ التَّطْلِيقِ. وَلِلْيَأْسِ طُرُقٌ، أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ التَّطْلِيقِ، فَيُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ. وَالثَّانِي: إِذَا جُنَّ الزَّوْجُ، لَا يَحْصُلُ الْيَأْسُ لِاحْتِمَالِ الْإِفَاقَةِ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ، تَبَيَّنَّا حُصُولَ الْيَأْسِ مِنْ وَقْتِ الْجُنُونِ، فَيُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قُبَيْلَ الْجُنُونِ. الثَّالِثُ: إِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ بِسَبَبٍ، لَمْ يَحْصُلِ الْيَأْسُ، لِاحْتِمَالِ التَّجْدِيدِ، لِأَنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ لَا يَخْتَصُّ بِحَالِ النِّكَاحِ، وَلِذَلِكَ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي الْبَيْنُونَةِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ التَّجْدِيدِ وَالتَّطْلِيقِ، حُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قُبَيْلَ الِانْفِسَاخِ، هَكَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، لِيُمْكِنَ اجْتِمَاعُهُ هُوَ وَالِانْفِسَاخُ، فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لِكَوْنِهِ ثَلَاثًا، أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ يُمْكِنْ إِيقَاعُهُ قَبْلَ الِانْفِسَاخِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّوْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَمَا حَصَلَ الِانْفِسَاخُ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ الِانْفِسَاخُ لَمْ يَحْصُلِ الْيَأْسُ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْيَأْسُ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، فَيَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِهِ عَدَمُ وُقُوعِهِ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الدَّوْرِ الْحُكْمِيِّ، وَأَمَّا إِذَا جَدَّدَ نِكَاحَهَا بَعْدَ الِانْفِسَاخِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، لَمْ يَفُتِ التَّطْلِيقُ، بَلْ قَدْ حَصَلَ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا، بُنِيَ عَلَى قَوْلَيْ عَوْدِ الْحِنْثِ، إِنْ قُلْنَا: يَعُودُ، طُلِّقَتْ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي قَبْلَ الْمَوْتِ، وَبَنَيْنَا النِّكَاحَ عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ قُلْنَا:

فصل

لَا يَعُودُ الْحِنْثُ، لَمْ يُمْكِنْ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ، فَيُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قُبَيْلَ الِانْفِسَاخِ كَمَا سَبَقَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ الثَّلَاثَةَ، هِيَ فِيمَا إِذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِنَفْيِ التَّطْلِيقِ، أَمَّا إِذَا عُلِّقَ بِنَفْيِ الضَّرْبِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، فَالْجُنُونُ لَا يُوجِبُ الْيَأْسَ، وَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: لِأَنَّ ضَرْبَ الْمَجْنُونِ فِي تَحْقِيقِ الصِّفَةِ وَنَفْيِهَا، كَضَرْبِ الْعَاقِلِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ أَبَانَهَا وَدَامَتِ الْبَيْنُونَةُ إِلَى الْمَوْتِ، وَلَمْ يَتَّفِقِ الضَّرْبُ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ وَلَا يُحْكَمْ بِوُقُوعِهِ قُبَيْلَ الْبَيْنُونَةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ، لِأَنَّ الضَّرْبَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مُمْكِنٌ، وَالطَّلَاقَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِنَفْيِ الضَّرْبِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَعُرُوضُ الطَّلَاقِ كَعُرُوضِ الْفَسْخِ وَالِانْفِسَاخِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى مِنَ الطَّلَاقِ عَدَدٌ يُمْكِنُ فَرْضُهُ، مُسْتَنِدًا إِلَى قُبَيْلِ الطَّلَاقِ، فَأَمَّا فِي التَّعْلِيقِ بِنَفْيِ التَّطْلِيقِ، فَإِنَّمَا تُفْرَضُ الْبَيْنُونَةُ بِالِانْفِسَاخِ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بَطَلَتِ الصِّفَةُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ تُفْرَضَ فِي طَلَاقِ الْوَكِيلِ، فَإِنَّهُ لَا تَفُوتُ الصِّفَةُ. فَصْلٌ «إِنِ» الشَّرْطِيَّةُ هِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَإِنْ فُتِحَتْ، صَارَتْ لِلتَّعْلِيلِ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، ثُمَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، إِنَّ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ وَإِنْ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ، فَهُوَ لِلتَّعْلِيقِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ وَلَا يُمَيِّزُ، وَقَالَ: قَصَدْتُ التَّعْلِيقَ، فَيُصَدَّقُ، وَهَذَا أَشْبَهُ، وَإِلَى تَرْجِيحِهِ ذَهَبَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي.

قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ طُرُقُ الْإِثْبَاتِ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، وَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَخَلَتِ الدَّارَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ طَلَّقْتُكِ، حُكِمَ بِوُقُوعِ طَلْقَتَيْنِ، وَاحِدَةٌ بِإِقْرَارِهِ، وَأُخْرَى بِإِيقَاعِهِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنِّي طَلَّقْتُكِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذْ دَخَلْتِ الدَّارَ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ «إِذْ» لِلتَّعْلِيلِ أَيْضًا. فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ «إِذْ» وَ «إِذَا» ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ إِنْ وَأَنْ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ: لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ شَيْءٌ، لَكِنْ إِذَا طَلَّقَهَا وَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا صِرْتِ مُطَلَّقَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَهَذَا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ طَالِقًا، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ طَالِقًا، وَقَعَتِ الْمُعَلَّقَةُ إِذَا لَمْ تَحْصُلِ الْبَيْنُونَةُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ دَخَلَتْ غَيْرَ طَالِقٍ، لَمْ تَقَعْ تِلْكَ الْمُعَلَّقَةُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ طَالِقًا، فَهَذَا تَعْلِيقُ طَلْقَتَيْنِ بِدُخُولِهَا الدَّارَ طَالِقًا، فَإِنْ دَخَلَتْ طَالِقًا، وَقَعَ طَلْقَتَانِ بِالتَّعْلِيقِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ طَالِقًا، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ قَالَ: نَصَبْتُ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ أُتِمَّ الْكَلَامَ، قُبِلَ مِنْهُ، وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَإِنْ أَرَادَ مَا يُرَادُ عِنْدَ الرَّفْعِ وَلَحَنَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ إِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ. فَرْعٌ قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حِينَ لَا أُطَلِّقُكِ، أَوْ حَيْثُ

لَا أُطَلِّقُكِ، وَلَمْ يُطَلِّقْهَا عَقِبَهُ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِنَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: حِينَ لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ حَيْثُ لَمْ أُطَلِّقْ، أَوْ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ أَضْرِبْكِ، أَوْ إِنْ لَمْ أَضْرِبْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ وَقْتًا، دُيِّنَ، سَوَاءٌ عَيَّنَ السَّاعَةَ أَوْ وَقْتًا قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، وَهَكَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي التَّعْلِيقِ بِنَفْيِ الطَّلَاقِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي التَّعْلِيقِ بِالْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: إِذَا قَالَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ بِهَا ظَاهِرًا، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَإِلَّا فَلَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ الشَّكِّ، ثُمَّ يُنْظَرُ، إِنْ وَلَدَتْ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَكَوْنَهَا كَانَتْ حَامِلًا حِينَئِذٍ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، تَحَقَّقْنَا أَنَّهَا كَانَتْ حَائِلًا يَوْمَئِذٍ، فَلَا طَلَاقَ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ، وَلِأَرْبَعِ سِنِينَ فَأَقَلَّ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الزَّوْجُ يَطَؤُهَا، وَكَانَ بَيْنَ الْوَضْعِ وَالْوَطْءِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ التَّعْلِيقِ أَوْ وَطْئِهَا وَكَانَ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالْوَضْعِ دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: وُقُوعُ الطَّلَاقِ لِتَبَيُّنِ الْحَمْلِ ظَاهِرًا، وَلِهَذَا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ. وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَمْلُ ظَاهِرًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا، وَلْيَمْتَنِعَ الزَّوْجُ مِنْ وَطْئِهَا، وَهَلِ التَّفْرِيقُ وَاجِبٌ وَالِاسْتِمْتَاعُ حَرَامٌ أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ فِي مَوْضِعِ التَّرَدُّدِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَجَمَاعَةٌ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، وَلَكِنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَمْلِ وَبَقَاءُ النِّكَاحِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ الطَّائِرُ غُرَابًا، وَهَذَا هُوَ نَصُّهُ فِي

«الْإِمْلَاءِ» وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَقَطَعَ بِهِ الْحَنَّاطِيُّ. وَبِمَاذَا يَسْتَبْرِئُهَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهُمَا: بِحَيْضَةٍ، وَالثَّانِي: بِطُهْرٍ، وَالثَّالِثُ: بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، وَتَفْصِيلُهُ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي «كِتَابِ الِاسْتِبْرَاءِ» . وَلَوْ جَرَى هَذَا التَّعْلِيقُ فِي مُرَاهَقَةٍ لَمْ تَحِضْ بَعْدُ، وَأَمْكَنَ كَوْنُهَا حَامِلًا، فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا: الِاسْتِبْرَاءُ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، فَفِي حَقِّهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَإِنْ قُلْنَا: بِقُرْءٍ، فَهَلْ يَكْفِي فِي حَقِّهَا شَهْرٌ، أَمْ يَشْتَرِطُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، فِيهِ خِلَافٌ كَاسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ، وَالْأَصَحُّ هُنَاكَ الِاكْتِفَاءُ بِشَهْرٍ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ هُنَا عَنِ الْقَفَّالِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَظْهَرُ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَأَمَّا الْآيِسَةُ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهَا مُضِيُّ مُدَّةٍ كَالْعِدَّةِ، أَمْ يُكْتَفَى بِدَلَالَةِ الْيَأْسِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ظُهُورُ الْحَالِ. وَلَوْ كَانَ قَدِ اسْتَبْرَأَ زَوْجَتَهُ قَبْلَ التَّعْلِيقِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُكْتَفَى بِهِ كَمَا لَا يُكْتَفَى بِمُدَّةِ الْعِدَّةِ وَاسْتِبْرَاءِ الرَّقِيقَةِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَالْمِلْكِ، وَأَصَحُّهُمَا: يُكْتَفَى بِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ حَالِهَا فِي الْحَمْلِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ وَاسْتِبْرَاءِ الْمَمْلُوكَةِ، ثُمَّ إِذَا جَرَى الِاسْتِبْرَاءُ، لَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ بَعْدَهُ، فَلَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ وَاقْتَضَى الْحَالُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، أَوْقَعْنَاهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْوَطْءُ وَطْءَ شُبْهَةٍ، يَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ دُونَ الْحَدِّ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ أَحْبَلْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَتْ حَامِلًا لَمْ تُطَلَّقْ، بَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ حَمْلًا حَادِثًا مِنْهُ، فَإِنْ وَضَعَتْ، أَوْ كَانَتْ حَائِلًا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْوَطْءِ، فَإِذَا وَطِئَهَا مَرَّةً، مُنِعَ حَتَّى تَحِيضَ.

فَرْعٌ نَصَّ فِي «الْإِمْلَاءِ» أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَهِيَ حَامِلٌ فِي غَالِبِ الظَّنِّ، طُلِّقَتْ إِذَا أَعْطَتْهُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِفَسَادِ الْمُسَمَّى. وَوَجْهُ فَسَادِ الْمُسَمَّى، بِأَنَّ الْحَمْلَ مَجْهُولٌ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ، فَأَشْبَهَ إِذَا جَعَلَهُ عِوَضًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُونِي حَامِلًا، فَيُنْظَرُ، إِنْ عَلِمَ أَنَّهَا حَامِلٌ بِأَنْ كَانَتْ فِي سِنٍّ لَا يَحْتَمِلُ الْحَمْلَ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَإِلَّا فَلَا يُحْكَمُ فِي الْحَالِ بِالطَّلَاقِ، بَلْ يُنْظَرُ، إِنْ وَلَدَتْ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ التَّعْلِيقِ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، حَكَمْنَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ التَّعْلِيقِ وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ وَلِأَرْبَعِ سِنِينَ فَأَقَلَّ، فَإِنْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ وَكَانَ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالْوِلَادَةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ طُلِّقَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةٍ أَوْ لَمْ يَطَأْ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، وَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَحْرُمُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَطَأَ. وَالْقَوْلُ فِيمَا يَجِبُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِالِاسْتِبْرَاءِ السَّابِقِ، عَلَى ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَقِيلَ الِاسْتِبْرَاءُ هُنَا بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ قَطْعًا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: وَإِذَا اسْتِبْرَأَ حَكَمْنَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الظَّاهِرِ الْحَالِ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِبْرَاءُ بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ كَانَ بِقُرْءٍ تَمَّمَتِ الْعِدَّةَ، فَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ حَمْلٌ وَوَضْعٌ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ. وَأَبْدَى الْإِمَامُ وَشَيْخُهُ احْتِمَالًا، أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِالِاسْتِبْرَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَالصِّفَاتُ الْمُعَلِّقُ بِهَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَقِينُ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا اسْتَيْقَنْتِ بَرَاءَةَ رَحِمِكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَكَذَا هُنَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا بِذَكَرٍ، أَوْ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ ذَكَرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، وَإِنْ كُنْتِ حَامِلًا بِأُنْثَى، أَوْ كَانَ فِي بَطْنِكِ أُنْثَى، فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، فَإِنْ وَلَدَتْ أَحَدَهُمَا، وَقَعَ مَا عَلَّقَهُ، وَإِنْ وَلَدَتْ خُنْثَى، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ، وَتُوقَفُ الْأُخْرَى، حَتَّى يُبَيَّنَ حَالُهُ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ، وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْوِلَادَةِ، وَيَكُونُ الْوُقُوعُ عِنْدَ اللَّفْظِ. وَإِنْ قَالَ: إِنْ كَانَ حَمْلُكِ، أَوْ إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَطَلْقَتَيْنِ، فَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا فَقَطْ أَوْ أُنْثَى فَقَطْ، وَقَعَ مَا عَلَّقَ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَقَعُ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَّاطِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: مَا فِي الْبَطْنِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْإِمَامِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى التَّنْكِيرِ التَّوْحِيدُ، هَذَا عِنْدَ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ الْحَصْرَ فِي الْجِنْسِ، قُبِلَ وَحُكِمَ بِالطَّلَاقِ قَطْعًا، وَلَوْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَخُنْثَى، أَوْ أُنْثَى وَخُنْثَى، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: لَا طَلَاقَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: إِنْ بَانَ الْخُنْثَى الْمَوْلُودُ مَعَ الذَّكَرِ ذَكَرًا، وَقَعَ طَلْقَةٌ، وَإِنْ بَانَ أُنْثَى، لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَإِنْ بَانَ الْخُنْثَى الْمَوْلُودُ مَعَ الْأُنْثَى ذَكَرًا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَإِنْ بَانَ أُنْثَى، وَقَعَ طَلْقَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: إِذَا وَلَدْتِ أَوْ إِنْ وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، طُلِّقَتْ إِذَا انْفَصَلَ الْوَلَدُ بِكَمَالِهِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَلَوْ أَسْقَطَتْ مَا بَانَ فِيهِ خَلْقُ آدَمِيٍّ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ لَمْ يَبِنْ فِيهِ خَلْقُ الْآدَمِيِّ بِتَمَامِهِ لَمْ تُطَلَّقْ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ، طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ. ثُمَّ إِنْ كَانَا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي، وَلَا يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَا مِنْ بَطْنَيْنِ، فَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالثَّانِي يُبْنَى

عَلَى لُحُوقِهِ بِالزَّوْجِ، وَهُوَ لَاحِقٌ إِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَهَلْ تَحْسُبُ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؟ قَوْلَانِ مَذْكُورَانِ فِي الْعِدَّةِ فَإِنْ أَلْحَقَ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهَذَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَإِنْ وَلَدَتْ أَوْلَادًا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً وَانْفَصَلُوا مُتَعَاقِبَيْنِ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا بِوِلَادَةِ ثَلَاثَةٍ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الرَّابِعِ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً، طُلِّقَتْ بِالْأُولَيَيْنِ طَلْقَتَيْنِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ، وَلَا تُطَلَّقُ بِوِلَادَتِهِ طَلْقَةً ثَالِثَةً، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» وَعَامَّةِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ فِي «الْإِمْلَاءِ» : يَقَعُ بِالثَّالِثِ طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ، وَتَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَقْرَاءِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي عِدَّةِ الطَّلْقَتَيْنِ، وَوَقْتُ انْفِصَالِ الثَّالِثِ هُوَ وَقْتُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَبَرَاءَةِ الرَّحِمِ. وَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لَوَقَعَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، لِمَا سَبَقَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالْوِلَادَةِ يَقَعُ عِنْدَ الِانْفِصَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ فِي حَالِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْبَيْنُونَةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ إِذَا مَاتَ، لِأَنَّهُ وَقْتَ انْتِهَاءِ النِّكَاحِ. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَطَلَّقَهَا، لَمْ يَقَعْ أُخْرَى لِمُصَادَفَتِهَا الْبَيْنُونَةَ، وَأَمَّا نَصُّهُ فِي «الْإِمْلَاءِ» ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: تَسْلِيمُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَوَجَّهُوهُ بِشَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنِ الْعِدَّةِ، بَلْ يُقَارِنُ آخِرَهَا، وَإِذَا تَقَارَنَ الْوُقُوعُ وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ كَفَى، وَحُكِمَ بِالْوُقُوعِ تَغْلِيبًا لِلطَّلَاقِ وَلِقُوَّتِهِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَوْ قَالَ لِلرَّجْعِيَّةِ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ، فَفِي الْوُقُوعِ الْقَوْلَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ. وَعَنِ الْخِضْرِيِّ وَغَيْرِهِ تَخْرِيجُ قَوْلٍ فِيمَا إِذَا قَالَ: مَعَ مَوْتِي: أَنَّهَا تُطَلَّقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ. الشَّيْءُ الثَّانِي عَنِ الْخِضْرِيِّ وَالْقَفَّالِ، بِنَاءُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فِي أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ إِذَا طُلِّقَتْ، هَلْ تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، لَمْ تُطَلَّقْ هُنَا وَلَمْ تَلْزَمِ الْعِدَّةُ،

وَإِنْ قُلْنَا نَعَمْ، فَبِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ارْتَفَعَتِ الْعِدَّةُ، وَلَزِمَتْ عِدَّةٌ أُخْرَى هُنَاكَ، فَكَذَا هُنَا. وَعَلَى هَذَا حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَهِيَ فِي بَقِيَّةٍ مِنَ الْعِدَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَلَا بِوُقُوعِهِ فِي مُفْتَتَحِ الْعِدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، لَكِنْ يَقَعُ عَلَى مُنْفَصِلِ الِانْقِطَاعِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَقَعُ لَا فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَا مِنَ النَّهَارِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا مَعْنَى لِلْمُنْفَصِلِ، وَلَيْسَ بَيْنَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الْأُولَى وَافْتِتَاحِ الثَّانِيَةِ لَوْ قَدَّرْنَاهَا زَمَانٌ، وَالْحُكْمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي غَيْرِ زَمَانٍ مُحَالٌ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ، لِتَكُونَ مُتَّصِفَةً بِالطَّلَاقِ فِي مُنْقَطَعِ النَّهَارِ، وَمُبْتَدَأِ اللَّيْلِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُعْتَبَرِينَ: الْقَطْعُ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ إِثْبَاتِ نَصِّ «الْإِمْلَاءِ» قَوْلًا، وَأَوَّلُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا وَلَدَتْهُمْ دُفْعَةً فِي مَشِيمَةٍ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَقَعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ طَلْقَةٌ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَامِلًا وَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَالثَّانِي: حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًا، وَوَطِئَهَا الزَّوْجُ، يَقَعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ طَلْقَةٌ، وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوِلَادَتِهِمْ. أَمَّا إِذَا أَتَتْ بِوَلَدَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ فِي بَطْنٍ، وَالتَّعْلِيقُ بِصِيغَةِ «كُلَّمَا» فَهَلْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالثَّانِي وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ أُخْرَى، أَمْ تَقَعُ أُخْرَى؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ السَّابِقُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، وَإِنْ وَلَدْتِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، وَإِنْ وَلَدْتِ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا، طُلِّقَتْ طَلْقَةً وَشَرَعَتْ فِي الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ وَاعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، نُظِرَ، إِنْ وَلَدَتْهُمَا مَعًا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ مَعًا وَهِيَ زَوْجَةٌ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، وَإِنْ وَلَدَتِ الذَّكَرَ ثُمَّ الْأُنْثَى، طُلِّقَتْ طَلْقَةً بِالذَّكَرِ، وَلَا يَقَعُ بِالْأُنْثَى شَيْءٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَتَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ. وَعَلَى نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» ، تُطَلَّقُ بِالْأُنْثَى طَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، وَإِنْ وَلَدَتِ

الْأُنْثَى أَوَّلًا طُلِّقَتْ بِهَا طَلْقَتَيْنِ، وَهَلْ يَقَعُ بِالذَّكَرِ شَيْءٌ؟ فِيهِ الْخِلَافُ فَإِنْ أَشْكَلَ الْحَالُ، فَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ وَلَدَتْهُمَا، أَوْ عَلِمَ التَّرْتِيبَ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُتَقَدِّمَ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ: يُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ، وَالْوَرَعُ تَرْكُهَا عِنْدَ احْتِمَالِ الْمَعِيَّةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَعَلَى نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» : تُطَلَّقُ ثَلَاثًا كَيْفَ كَانَ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ. وَلَوْ وَلَدَتْ ذَكَرَيْنِ وَأُنْثَى، نُظِرَ، إِنْ وَلَدَتْهُمْ مَعًا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ وَلَدَتِ الذَّكَرَيْنِ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ، ثُمَّ وَلَدَتِ الْأُنْثَى، طُلِّقَتْ بِالْوَلَدَيْنِ أَوْ بِأَوَّلِهِمَا طَلْقَةً، وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوِلَادَةِ الْأُنْثَى عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا يَقَعُ بِهَا شَيْءٌ آخَرُ. وَإِنْ وَلَدَتِ الْأُنْثَى ثُمَّ الذَّكَرَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ، طُلِّقَتْ بِالْأُنْثَى طَلْقَتَيْنِ، وَبِالذَّكَرِ الْأَوَّلِ طَلْقَةً أُخْرَى، وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوِلَادَةِ الثَّانِي، وَإِنْ وَلَدَتْهَا ثُمَّ وَلَدَتْهُمَا مَعًا، طُلِّقَتْ بِهَا طَلْقَتَيْنِ، وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالذَّكَرَيْنِ، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ آخَرُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ وَلَدَتْ ذَكَرًا، ثُمَّ أُنْثَى، ثُمَّ ذَكَرًا، طُلِّقَتْ طَلْقَةً ثُمَّ طَلْقَتَيْنِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالذَّكَرِ الْأَخِيرِ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا بِذَكَرٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، وَإِنْ وَلَدْتِ أُنْثَى، فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، فَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا، تَبَيَّنَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ عِنْدَ اللَّفْظِ، وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِالْوِلَادَةِ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى، وَقَعَ بِالْوِلَادَةِ طَلْقَتَانِ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، نُظِرَ، إِنْ وَلَدَتِ الْأُنْثَى أَوَّلًا، وَقَعَ بِوِلَادَتِهَا طَلْقَتَانِ، وَبِوِلَادَتِهِ نَتَبَيَّنُ وُقُوعَ طَلْقَةٍ أَوَّلًا لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَامِلًا بِذَكَرٍ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا عَنِ الثَّلَاثِ بِوِلَادَةِ الذَّكَرِ، وَإِنْ وَلَدَتِ الذَّكَرَ أَوَّلًا، تَبَيَّنَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ، وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوِلَادَةِ الْأُنْثَى، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ آخَرُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُمَا مَعًا، فَكَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ وُقُوعُ طَلْقَةٍ، وَلَا يَقَعُ بِالْوِلَادَةِ شَيْءٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ حَوَامِلَ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ، فَصَاحِبَاتُهَا طَوَالِقُ، فَوَلَدْنَ جَمِيعًا. فَلَهُنَّ أَحْوَالٌ، إِحْدَاهَا: أَنْ يَلِدْنَ مَعًا، فَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا وَعِدَّةُ جَمِيعِهِنَّ بِالْأَقْرَاءِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَلِدْنَ مُرَتَّبًا، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: أَنَّهُ إِذَا وَلَدَتِ الْأُولَى، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَاقِيَاتِ طَلْقَةً، فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَةُ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَبَانَتْ، وَتَقَعُ عَلَى الْأُولَى بِوِلَادَةِ هَذِهِ طَلْقَةٌ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ طَلْقَةٌ أُخْرَى إِنْ بَقِيَتْ عِدَّتُهُمَا، فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّالِثَةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا عَنْ طَلْقَتَيْنِ، وَوَقَعَ عَلَى الْأُولَى طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ إِنْ بَقِيَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَعَلَى الرَّابِعَةِ طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ، فَإِذَا وَلَدَتِ الرَّابِعَةُ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا عَنْ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ، وَوَقَعَتْ ثَالِثَةٌ عَلَى الْأُولَى، وَعِدَّةُ الْأُولَى بِالْأَقْرَاءِ، وَفِي اسْتِئْنَافِهَا الْعِدَّةَ لِلطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، الْخِلَافُ فِي طَلَاقِ الرَّجْعِيَّةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، أَنَّ الْأُولَى لَا تُطَلَّقُ أَصْلًا، وَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْرَيَاتِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَنْقَضِي عِدَدُهُنَّ بِوِلَادَتِهِنَّ، لِأَنَّ الثَّلَاثَ فِي وَقْتِ وِلَادَةِ الْأُولَى صَوَاحِبُهَا، لِأَنَّ الْجَمِيعَ زَوْجَاتُهُ، فَيُطَلَّقْنَ طَلْقَةً طَلْقَةً، فَإِذَا طُلِّقْنَ، خَرَجْنَ عَنْ كَوْنِهِنَّ صَوَاحِبَ لِلْأُولَى، وَكَوْنِ الْأُولَى صَاحِبَةً لَهُنَّ، فَلَا تُؤَثِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ وِلَادَتُهُنَّ فِي حَقِّهَا، وَلَا فِي حَقِّ بِعْضِهِنَّ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ، قَالَ: مَا دُمْنَ فِي الْعِدَّةِ فَهُنَّ زَوْجَاتٌ وَصَوَاحِبُ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ بِطَلَاقِ زَوْجَاتِهِ، دَخَلَتِ الرَّجْعِيَّةُ فِيهِ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَلِدَ ثِنْتَانِ مَعًا [ثُمَّ ثِنْتَانِ مَعًا] . فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَيَيْنِ بِوِلَادَةِ الْأُخْرَى طَلْقَةً، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ بِوِلَادَةِ الْأُولَيَيْنِ طَلْقَتَيْنِ، فَإِذَا وَلَدَتِ الْأُخْرَيَانِ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَيَيْنِ طَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَلَا يَقَعُ عَلَى الْأُخْرَيَيْنِ شَيْءٌ آخَرُ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهُمَا بِوِلَادَتِهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَعَلَى نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» : يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ وَتَعْتَدَّانِ بِالْأَقْرَاءِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاصِّ: تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَيَيْنِ طَلْقَةً، وَكُلُّ

وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ طَلْقَتَيْنِ فَقَطْ، وَتَنْقَضِي عِدَّةُ الْأُخْرَيَيْنِ بِالْوِلَادَةِ، وَتَعْتَدُّ الْأُولَيَانِ بِالْإِقْرَارِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَلِدَ ثَلَاثٌ مِنْهُنَّ مَعًا، ثُمَّ الرَّابِعَةُ، فَيَقَعُ عَلَى الرَّابِعَةِ ثَلَاثُ طَلَقَاتٍ بِلَا خِلَافٍ، وَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَيَاتِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ ثَلَاثًا، مِنْهَا طَلْقَتَانِ بِوِلَادَةِ اللَّتَيْنِ وَلَدَتَا مَعَهَا، وَثَالِثَةٌ بِوِلَادَةِ الرَّابِعَةِ إِنْ بَقِينَ فِي الْعِدَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاصِّ: لَا تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ إِلَّا طَلْقَتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ وَلَدَتِ الثَّلَاثُ مَعًا، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ طَلْقَةً بِوِلَادَةِ الْأُولَى، ثُمَّ تَنْقَضِي عِدَّتُهُنَّ بِوِلَادَتِهِنَّ، فَلَا يَقَعُ عَلَيْهِنَّ شَيْءٌ آخَرُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَعَلَى نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» : يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَانِ أُخْرَيَانِ، وَيَعْتَدِدْنَ بِالْأَقْرَاءِ، وَالْأُولَى تُطَلَّقُ بِوِلَادَتِهِنَّ ثَلَاثًا. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاصِّ: لَا يَقَعُ عَلَى الْأُولَى شَيْءٌ، وَيَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَاقِيَاتِ طَلْقَةٌ فَقَطْ. الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ تَلِدَ ثِنْتَانِ عَلَى التَّرْتِيبِ، ثُمَّ ثِنْتَانِ مَعًا فَيَقَعُ عَلَى الْأُولَى ثَلَاثٌ بِوِلَادَتِهِنَّ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَاقِيَاتِ طَلْقَةٌ بِوِلَادَةِ الْأُولَى. فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَةُ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَوَقَعَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ طَلْقَةٌ أُخْرَى، فَإِذَا وَلَدَتِ الْأُخْرَيَانِ، انْقَضَتْ عِدَّتُهُمَا بِوِلَادَتِهِمَا، وَلَا يَقَعُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ بِوِلَادَةِ صَاحِبَتِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، هَذَا قِيَاسُ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاصِّ: لَا يَقَعُ عَلَى الْأُولَى شَيْءٌ، وَلَا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَاقِيَاتِ إِلَّا طَلْقَةٌ، وَلَوْ وَلَدَتْ ثَنَتَانِ مَعًا، ثُمَّ ثِنْتَانِ مُرَتَّبًا، فَعَلَى قِيَاسِ ابْنِ الْحَدَّادِ: تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ

مِنَ الْأُولَيَيْنِ بِوِلَادَتِهِمَا طَلْقَةً، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ طَلْقَتَيْنِ. فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّالِثَةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَيَيْنِ طَلْقَةً أُخْرَى إِنْ بَقِيَتَا فِي الْعِدَّةِ، وَطُلِّقَتِ الرَّابِعَةُ طَلْقَةً ثَالِثَةً، فَإِذَا وَلَدَتْ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَيَيْنِ طَلْقَةً ثَالِثَةً إِنْ بَقِيَتَا فِي الْعِدَّةِ، وَعَلَى قِيَاسِ ابْنِ الْقَاصِّ: لَا تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَيَيْنِ إِلَّا طَلْقَةً، وَلَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ إِلَّا طَلْقَتَيْنِ. فَرْعٌ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: وَلَوْ قَالَ لِلْأَرْبَعِ: كُلَّمَا وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ فَصَوَاحِبُهَا طَوَالِقُ، ثُمَّ طَلَّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً مُنَجَّزَةً، ثُمَّ وَلَدْنَ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَالْأُولَى مُطَلَّقَةٌ بِالتَّنْجِيزِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوِلَادَتِهَا، وَيَقَعُ عَلَى الثَّانِيَةِ بِوِلَادَةِ الْأُولَى طَلْقَةٌ، وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ بِالتَّنْجِيزِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا عَنْ طَلْقَتَيْنِ بِوِلَادَتِهَا، وَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ثَلَاثًا، وَاحِدَةٌ بِالتَّنْجِيزِ، وَاثْنَتَانِ بِوِلَادَةِ الْأُولَيَيْنِ، وَعَلَى قِيَاسِ ابْنِ الْقَاضِي: لَا يَقَعُ عَلَى الْجَمِيعِ إِلَّا الْمُنَجَّزَةُ. فَرْعٌ قَالَ لِلْأَرْبَعِ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ، فَقَدْ عَلَّقَ بِوِلَادَةِ كُلٍّ مِنْهُنَّ طَلَاقَ الْوَالِدَةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ وَلَدْنَ مَعًا طُلِّقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَإِنْ وَلَدْنَ مُرَتَّبًا، طُلِّقَتِ الْأُولَى ثَلَاثًا، طَلْقَةً بِوِلَادَةِ نَفْسِهَا، وَثَانِيَةً بِوِلَادَةِ الثَّانِيَةِ، وَثَالِثَةً بِوِلَادَةِ الثَّالِثَةِ إِنْ بَقِيَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ وَتُطَلَّقُ الثَّانِيَةُ بِوِلَادَةِ الْأُولَى، وَلَا تُطَلَّقُ بِوِلَادَةِ نَفْسِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وَعَلَى نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» : تُطَلَّقُ أُخْرَى وَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، وَتُطَلَّقُ الثَّالِثَةُ بِوِلَادَةِ الْأُولَيَيْنِ، وَهَلْ تُطَلَّقُ بِوِلَادَةِ نَفْسِهَا ثَالِثَةً؟ فِيهِ الْخِلَافُ، وَالرَّابِعَةُ تُطَلَّقُ بِوِلَادَةِ الْأُولَيَاتِ ثَلَاثًا، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوِلَادَتِهَا، وَلَا يَقَعُ بِوِلَادَتِهَا شَيْءٌ عَلَى الْأُولَيَاتِ لِبَيْنُونَتِهِنَّ.

فَرْعٌ قَالَ لِلْأَرْبَعِ: كُلَّمَا وَلَدَتْ ثِنْتَانِ مِنْكُنَّ، فَالْأُخْرَيَانِ طَالِقَانِ، فَوَلَدْنَ مُرَتَّبًا، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ بِوِلَادَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِوِلَادَةِ ثِنْتَيْنِ، فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَةُ، طُلِّقَتِ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ طَلْقَةً طَلْقَةً، وَلَا يَقَعُ عَلَى الْأُولَيَيْنِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِهِ طَلَاقُ ثِنْتَيْنِ بِوِلَادَةِ أُخْرَيَيْنِ. وَإِذَا وَلَدَتِ الثَّالِثَةُ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا تُضَمُّ الثَّالِثَةُ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَلَا يَقَعُ بِوِلَادَتِهَا طَلَاقٌ حَتَّى تَلِدَ الرَّابِعَةُ، فَإِذَا وَلَدَتْ، فَعَلَى قِيَاسِ ابْنِ الْحَدَّادِ: تُطَلَّقُ الْأُولَيَانِ طَلْقَةً طَلْقَةً، وَيَعْتَدَّانِ بِالْأَقْرَاءِ، وَتَنْقَضِي عِدَّةُ الْأُخْرَيَيْنِ بِوِلَادَتِهِمَا، وَعَلَى قِيَاسِ ابْنِ الْقَاصِّ: لَا تُطَلَّقُ الْأُولَيَانِ بِوِلَادَةِ الْأُخْرَيَيْنِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّ الثَّالِثَةَ تُضَمُّ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَتُطَلَّقُ بِوِلَادَتِهِمَا الْأُولَى طَلْقَةً، وَالرَّابِعَةُ طَلْقَةً ثَانِيَةً، ثُمَّ إِذَا وَلَدَتِ الرَّابِعَةُ، طُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ، وَطُلِّقَتِ الْأُولَى طَلْقَةً ثَانِيَةً. فَرْعٌ تَحْتَهُ امْرَأَتَانِ فَقَالَ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، فَوَلَدَتَا مُرَتَّبًا، وَقَعَ بِوِلَادَةِ الْأُولَى عَلَيْهَا طَلْقَةٌ، وَعَلَى الْأُخْرَى طَلْقَةٌ، فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَةُ، وَقَعَ عَلَى الْأُولَى طَلْقَةٌ أُخْرَى إِنْ بَقِيَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَتَنْقَضِي عِدَّةُ الثَّانِيَةِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ آخَرُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ وَلَدَتْ مِنْهُمَا زَيْنَبُ يَوْمَ الْخَمِيسَ، وَعَمْرَةُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، ثُمَّ زَيْنَبُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَعَمْرَةُ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَقَعَ بِوِلَادَةِ يَوْمَيِ الْخَمِيسِ وَالْجُمْعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَانِ، وَتَنْقَضِي عِدَّةُ زَيْنَبَ بِوِلَادَتِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ آخَرُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيَقَعُ عَلَى عَمْرَةَ طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوِلَادَتِهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، فَوَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بَطْنٍ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ كَذَلِكَ، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا بِوِلَادَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِوِلَادَتِهِمَا جَمِيعًا، فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَةُ وَلَدًا، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً، فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً ثَانِيَةً، فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّالِثَ، طُلِّقَتِ الْأُولَى طَلْقَةً ثَالِثَةً، وَلَا تُطَلَّقُ

الثَّانِيَةُ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا عَنْ طَلْقَتَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ نَصُّهُ فِي «الْإِمْلَاءِ» . وَلَوْ وَلَدَتْ أَحَدُهُمَا وَلَدًا، ثُمَّ الْأُخْرَى وَلَدًا ثُمَّ الْأُولَى وَلَدًا، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةً فِي بَطْنٍ، فَبِوِلَادَةِ الثَّانِيَةِ وَلَدَهَا الْأَوَّلَ، يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ، وَبِوِلَادَتِهَا الثَّانِيَ، يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ، ثُمَّ إِذَا وَلَدَتِ الْأُولَى الْوَلَدَ الثَّالِثَ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَةُ الْوَلَدَ الثَّالِثَ، هَلْ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ، أَمْ لَا وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا؟ فِيهِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ وَ «الْإِمْلَاءِ» ، وَلَوْ وَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا وَلَدًا، ثُمَّ الثَّانِيَةُ ثَلَاثَةً عَلَى التَّرْتِيبِ، ثُمَّ الْأُولَى وَلَدَيْنِ، فَبِوِلَادَةِ الثَّانِيَةِ الْوَلَدَ الْأَوَّلَ، يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ، وَلَا يَقَعُ بِوِلَادَتِهَا الْوَلَدَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ شَيْءٌ، وَتَنْقَضِي بِالثَّالِثِ عِدَّتُهَا، فَإِذَا وَلَدَتِ الْأُولَى الْوَلَدَ الثَّانِيَ، انْضَمَّتْ وِلَادَتُهَا إِلَى وِلَادَةِ الثَّانِيَةِ الْوَلَدَ الثَّانِيَ، فَيَقَعُ عَلَى الْأُولَى طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ، فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّالِثَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ آخَرُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَعَلَى نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» : يَقَعُ ثَالِثَةٌ بِضَمِّ هَذِهِ الْوِلَادَةِ إِلَى وِلَادَةِ الثَّانِيَةِ الْوَلَدَ الثَّالِثَ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالْوِلَادَةِ، إِنَّمَا يَقَعُ إِذَا انْفَصَلَ الْوَلَدُ بِتَمَامِهِ، فَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ وَمَاتَ الزَّوْجُ أَوِ الْمَرْأَةُ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَوَرِثَ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ، فَعَبْدِي حُرٌّ، فَخَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ، وَبَاعَ الْعَبْدَ حِينَئِذٍ وَتَخَايَرَا، ثُمَّ وَلَدَتْ، لَمْ يَعْتِقِ الْعَبْدُ، وَلَوِ انْفَصَلَ الْوَلَدُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، عَتَقَ الْعَبْدُ، لِأَنَّهُ لَهُ الْعِتْقُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ. الثَّامِنَةُ: فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: أَنَا حَامِلٌ، فَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ، حُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَذَّبَهَا، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَلِدَ، فَإِنْ لَمَسَهَا النِّسَاءُ، فَقَالَ أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ فَصَاعِدًا: إِنَّهَا حَامِلٌ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِقَوْلِ النِّسْوَةِ. وَلَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْوِلَادَةِ، فَشَهِدَ بِهَا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ وَإِنْ ثَبَتَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ، لِأَنَّهُمَا مِنْ تَوَابِعِ الْوِلَادَةِ وَضَرُورَاتِهَا، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ.

التَّاسِعَةُ: قَالَ: إِنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ مِنْ هَذَا الْحَمْلِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ أَوَّلًا أَنْ تَلِدَ بَعْدَهُ آخَرَ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» : وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي آخَرَ، كَمَا يَقْتَضِي الْآخَرُ أَوَّلًا. قُلْتُ: الصَّوَابُ مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى) . وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ كَانُوا يَقُولُونَ: لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا مَوْتَةٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الزُّجَاجُ: مَعْنَى الْأُولَى فِي اللُّغَةِ: ابْتِدَاءُ الشَّيْءِ، قَالَ: ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ، وَقَدْ بَسَطْتُ أَنَا الْكَلَامَ فِي إِيضَاحِ هَذَا بِدَلَائِلِهِ فِي «تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ ذَكَرًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَطَالِقٌ ثَلَاثًا، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، نُظِرَ، إِنْ وَلَدَتِ الذَّكَرَ أَوَّلًا، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْأُنْثَى، وَإِنْ وَلَدَتِ الْأُنْثَى أَوَّلًا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالذَّكَرِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُمَا مَعًا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْأَوَّلِيَّةِ، وَلِهَذَا لَوْ أَخْرَجَ رَجُلٌ دِينَارًا بَيْنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ، وَقَالَ: مَنْ جَاءَ مِنْكُمَا أَوَّلًا، فَهُوَ لَهُ، فَجَاءَا مَعًا، لَمْ يَسْتَحِقَّا شَيْئًا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُطَلَّقَ ثَلَاثًا، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ أَوَّلُ وَلَدٍ إِذَا لَمْ تَلِدْ قَبْلَهُ غَيْرَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ رَدَّ آبِقِي، فَلَهُ دِينَارٌ، [فَرَدَّهُ اثْنَانِ] اسْتَحَقَّا الدِّينَارَ. قَالَ: وَعَرَضْتُهُ عَلَى الشَّيْخِ يَعْنِي الْقَفَّالَ، فَلَمْ يَسْتَبْعِدْهُ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ، أَوَلَدَتْهُمَا مَعًا، أَوْ مُرَتَّبًا، لَمْ تُطَلَّقْ

لِاحْتِمَالِ الْمَعِيَّةِ، وَلَوْ عُلِمَ التَّرْتِيبُ وَلَمْ يُعْلَمِ السَّابِقُ، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَضَرَّتُكِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْهُمَا مُرَتَّبًا، وَلَمْ يُعْلَمِ السَّابِقُ، فَقَدْ طُلِّقَتْ إِحْدَاهُمَا، فَيُوقَفُ عَنْهُمَا، وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهِمَا حَتَّى تَبِينَ الْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى، فَعَبْدِي حُرٌّ، فَوَلَدَتْهُمَا مُرَتَّبًا، وَلَمْ يُعْلَمِ السَّابِقُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يُقْرَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، فَإِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى الْعَبْدِ، عَتَقَ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الْمَرْأَةِ، لَمْ تُطَلَّقْ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، وَإِنْ وَلَدْتِ أُنْثَى فَطَلْقَتَيْنِ، فَوَلَدَتْ مَيِّتًا وَدُفِنَ وَلَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ، فَهَلْ يُنْبَشُ لِيُعْرَفَ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ النَّبْشُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي التَّعْلِيقِ بِالْحَيْضِ. قَالَ: إِذَا حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ سُنِّيًّا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، لَمْ يُعْتَبَرْ تَمَامُ الْحَيْضَةِ، وَمَتَى يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يَقَعُ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ، فَإِنِ انْقَطَعَ قَبْلَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي، عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَمْضِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَحِينَئِذٍ تَبَيَّنَ وُقُوعُهُ مِنْ حِينِ رَأَتِ الدَّمَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَعَلَى هَذَا هَلْ يُحَرَّمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا

نَاجِزًا؟ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَدْ سَبَقَ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ طَهُرْتِ، أَوْ إِذَا طَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا طَهُرْتِ طُهْرًا وَاحِدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: تُطَلَّقُ إِذَا انْقَضَى الطُّهْرُ وَدَخَلَتْ فِي الدَّمِ، وَحَكَى وَجْهًا: أَنَّهَا تُطَلَّقُ إِذَا مَضَى جُزْءٌ مِنَ الطُّهْرِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: إِنْ حِضْتِ، أَوْ إِذَا حِضْتِ، يَقْتَضِي حَيْضًا مُسْتَقْبَلًا، فَلَوْ كَانَتْ فِي الْحَالِ حَائِضًا، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ. وَلَوْ قَالَ وَالثِّمَارُ مُدْرَكَةٌ: إِذَا أَدْرَكْتِ الثِّمَارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِالْإِدْرَاكِ الْمُسْتَأْنَفِ فِي الْعَامِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ سَائِرِ الْأَوْصَافِ، إِلَّا أَنَّهُ سَيَأْتِي فِي «كِتَابِ الْأَيْمَانِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَنَّ اسْتِدَامَةَ الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ لُبْسٌ وَرُكُوَبٌ، فَلْيَكُنِ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ. وَفِي «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ: أَنَّهُ إِذَا اسْتَمَرَّ الْحَيْضُ بَعْدَ التَّعْلِيقِ بِسَاعَةٍ، طُلِّقَتْ، وَيَكُونُ دَوَامُ الْحَيْضِ حَيْضًا، وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ. فَرْعٌ قَالَ: كُلَّمَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا فِي أَوَّلِ ثَلَاثِ حِيَضٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، وَيَكُونُ الطَّلَاقُ بِدْعِيًّا. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا فِي انْتِهَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، وَيَكُونُ طَلَاقَ سُنَّةٍ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ حِضْتِ حَيْضَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ حِضْتِ حَيْضَتَانِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا حَاضَتْ حَيْضَةً، وَقَعَ طَلْقَةٌ، فَإِذَا حَاضَتْ أُخْرَى، طُلِّقَتْ ثَانِيَةً، وَلَوْ قَالَ: إِنْ حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ إِنْ حِضْتِ حَيْضَتَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّمَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ إِذَا حَاضَتْ بَعْدَ الْأُولَى حَيْضَتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا حِضْتِ حَيْضَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكُلَّمَا حِضْتِ حَيْضَتَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَحَاضَتْ مَرَّةً، طُلِّقَتْ طَلْقَةً، وَإِذَا حَاضَتْ أُخْرَى، طُلِّقَتْ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً.

فصل

فَرْعٌ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إِنْ حِضْتُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: يُلْغَى قَوْلُهُ: حَيْضَةً، فَإِذَا ابْتَدَأَ بِهِمَا الدَّمُ، طُلِّقَتَا. وَالثَّانِي: إِذَا تَمَّتِ الْحَيْضَتَانِ، طُلِّقَتَا، وَهَذَا احْتِمَالٌ رَآهُ الْإِمَامُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَغْوٌ وَلَا تُطَلَّقَانِ وَإِنْ حَاضَتَا، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ وَلَدْتُمَا وَلَدًا، فَعَنِ ابْنِ الْقَاصِّ: أَنَّهُ لَغْوٌ، وَعَنْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: إِذَا وَلَدْتُمَا. قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: فَإِنْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتُمَا وَلَدًا وَاحِدًا، فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، فَإِنَّهُ مُحَالٌ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ: يَقَعُ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى مُحَالٍ، يَقَعُ هُنَا فِي الْحَالِ وَإِنْ لَمْ تَلِدَا. فَصْلٌ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى حَيْضِهَا، فَقَالَتْ: حِضْتُ، فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْهَا، كَقَوْلِهِ: إِنْ أَضْمَرْتِ بُغْضِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: أَضْمَرْتُهُ، تُصَدَّقُ بِيَمِينِهَا، وَيُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ عَلَّقَ بِزِنَاهَا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُصَدَّقُ فِيهِ، لِأَنَّهُ خَفِيٌّ تَنْدُرَ مَعْرِفَتُهُ، فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَآخَرِينَ: لَا تُصَدَّقُ كَالتَّعْلِيقِ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ مُمْكِنَةٌ، وَالْأَصْلُ النِّكَاحُ، وَطُرِدَ الْخِلَافُ فِي الْأَفْعَالِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا يَكَادُ يُطَّلَعُ عَلَيْهِمَا. وَلَوْ عَلَّقَ بِالْوِلَادَةِ، فَادَّعَتْهَا، فَأَنْكَرَ وَقَالَ: هَذَا الْوَلَدُ مُسْتَعَارٌ، لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَتُطَالِبُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ. وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ غَيْرِهَا بِحَيْضِهَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِيهِ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا حِضْتِ، فَأَنْتِ وَضَرَّتُكِ طَالِقَانِ، فَقَالَتْ: حِضْتُ وَكَذَّبَهَا فَحَلَفَتْ، طُلِّقَتْ وَلَمْ تُطَلَّقِ الضَّرَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَنْ صَاحِبِ

«التَّقْرِيبِ» : طَلَاقُ الضَّرَّةِ أَيْضًا. وَلَوْ قَالَ لَهُمَا: إِنْ حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، فَهُوَ تَعْلِيقٌ لِطَلَاقِهِمَا عَلَى حَيْضِهِمَا جَمِيعًا، فَإِنْ حَاضَتَا مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا، طُلِّقَتَا، فَإِنْ كَذَّبَهُمَا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَلَمْ تُطَلَّقَا، وَإِنْ صَدَّقَ إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، طُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ بِيَمِينِهَا عَلَى حَيْضِهَا، وَلَا تُطَلَّقُ الْمُصَدَّقَةُ. وَعَلَى قَوْلِ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» : تُطَلَّقَانِ. وَلَوْ قَالَ لِحَفْصَةَ: إِنْ حِضْتِ فَعَمْرَةُ طَالِقٌ، وَقَالَ لِعَمْرَةَ: إِنْ حِضْتِ فَحَفْصَةُ طَالِقٌ، فَقَالَتَا: حِضْنَا، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا، طُلِّقَتَا، وَإِنْ كَذَّبَهُمَا، لَمْ تُطَلَّقَا، وَإِنْ كَذَّبَ إِحْدَاهُمَا، طُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ دُونَ الْمُصَدَّقَةِ. فَرْعٌ تَحْتَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ: إِذَا حِضْتُنَّ فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ، فَقُلْنَ: حِضْنَا، وَصَدَّقَهُنَّ، طُلِّقْنَ، وَإِنْ كَذَّبَهُنَّ أَوْ كَذَّبَ ثِنْتَيْنِ، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَإِنْ كَذَّبَ وَاحِدَةً فَقَطْ، طُلِّقَتْ فَقَطْ. فَرْعٌ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: إِنْ حِضْتُنَّ، فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ، فَقُلْنَ: حِضْنَا، وَصَدَّقَهُنَّ، طُلِّقْنَ، وَإِنْ كَذَّبَهُنَّ، أَوْ كَذَّبَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَحَلَفَ، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَإِنْ كَذَّبَ وَاحِدَةً فَقَطْ، طُلِّقَتْ فَقَطْ، وَعَلَى قِيَاسِ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» : تُطَلَّقْنَ، وَكَذَا فِي صُورَةِ الثَّلَاثِ. فَرْعٌ قَالَ لِأَرْبَعٍ: كُلَّمَا حَاضَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ، فَإِذَا حَاضَ ثَلَاثٌ مِنْهُنَّ، طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ ثَلَاثًا [ثَلَاثًا] وَإِنْ قُلْنَ: حِضْنَا، فَكَذَّبَهُنَّ وَحَلَفَ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً، لِأَنَّ يَمِينَهُ تَكْفِي فِي حَيْضِهَا. وَلَوْ صَدَّقَ وَاحِدَةً فَقَطْ، طُلِّقَتْ

طَلْقَةً، وَطُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَاتُ طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ. وَلَوْ صَدَّقَ ثِنْتَيْنِ، طُلِّقَتَا طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ، وَطُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَتَانِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَلَوْ صَدَّقَ ثَلَاثًا، طُلِّقَ الْجَمِيعُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. فَرْعٌ قَالَ: كُلَّمَا حَاضَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَصَوَاحِبُهَا طَوَالِقُ، فَقُلْنَ: حِضْنَا، وَصَدَّقَهُنَّ، طُلِّقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَإِنْ كَذَّبَهُنَّ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَطُلِّقَتِ الْبَاقِيَاتُ طَلْقَةً طَلْقَةً، وَإِنْ صَدَّقَ ثِنْتَيْنِ، طُلِّقَتَا طَلْقَةً طَلْقَةً، وَطُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَاتُ طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ، وَإِنْ صَدَّقَ ثَلَاثًا، طُلِّقْنَ طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ، وَطُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ ثَلَاثًا. فَرْعٌ قَالَ: إِذَا رَأَيْتِ الدَّمَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَعَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ، وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: حَمْلُهُ عَلَى دَمِ الْحَيْضِ، لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ. وَالثَّانِي: عَلَى كُلِّ دَمٍ، فَعَلَى الْأُولَى: لَا تُعْتَبَرُ رُؤْيَتُهَا حَقِيقَةً، بَلِ الْمُعْتَبَرُ الْعِلْمُ كَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ. فَرْعٌ ذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فِي كُلِّ حَيْضٍ طَلْقَةٌ، وَهِيَ حَائِضٌ فِي الْحَالِ، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وُقُوعُ طَلْقَةٍ فِي الْحَالِ، وَثَانِيَةٍ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ الثَّانِي، وَثَالِثَةٍ فِي أَوَّلِ الثَّالِثِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِذَا حِضْتِ نِصْفَ حَيْضَةٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَعَادَتُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ مَثَلًا، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، حُكِمَ بِالطَّلَاقِ. فَرْعٌ ذَكَرَ الْإِمَامُ إِشْكَالًا عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ لَهَا، وَقَالَ: بِمَ يَعْرِفُ

الزَّوْجُ صِدْقَهَا؟ وَكَيْفَ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ: صَدَّقْتُ وَلَيْسَ هُوَ إِقْرَارًا، فَيُؤَاخَذُ بِهِ؟ وَغَايَتُهُ أَنْ يَظُنَّ صِدْقَهَا بِقَرَائِنَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: حِضْتُ وَأَنَا أُجَوِّزُ كَذِبَهَا وَأَظُنُّ صِدْقَهَا، لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ إِذَا أُطْلِقَ التَّصْدِيقُ، إِذْ لَا سَنَدَ لَهُ إِلَّا هَذَا. قَالَ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَكَابِرِ الْعِرَاقِ يَحْكِي عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، تَرَدُّدًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلِهَذَا الْإِشْكَالِ قَالَ: وَسَبِيلُ الْجَوَابِ عَمَّا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالْيَمِينِ، وَالْيَمِينُ يَسْتَنِدُ إِلَى قَرَائِنَ يُفِيدُ الظَّنَّ الْقَوِيَّ، كَمَا تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ عَلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ فِي الْكِنَايَاتِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَسْتَنِدَ الْإِقْرَارُ إِلَيْهَا، فَلْيُحْكَمْ بِهِ. فَرْعٌ إِذَا صَدَّقْنَاهَا فِي الْوِلَادَةِ، فَإِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي حَقِّهَا دُونَ غَيْرِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الْحَيْضِ. فَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ، فَقَالَتْ: وَلَدْتُ وَحَلَفْتُ، طُلِّقَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَعْتِقِ الْعَبْدُ قَطْعًا، وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إِذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ، فَقَالَتْ: وَلَدْتُ، عَتَقَتْ وَلَمْ تُطَلَّقِ الزَّوْجَةُ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا وَلَدْتِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَوَلَدُكِ حُرٌّ، وَكَانَتْ حَامِلًا بِمَمْلُوكٍ لَهُ، لَمْ تُطَلَّقِ الزَّوْجَةُ وَلَمْ يَعْتِقِ الْوَلَدُ بِقَوْلِهَا: وَلَدْتُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَقِّهَا. فَرْعٌ ذَكَرَ الْقَفَّالُ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا: زَنَيْتُ، إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِزِنَاهَا، وَبِهِ أَجَابَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا تَحْلِيفُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا زَنَتْ، وَلَكِنْ إِنِ ادَّعَتْ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ، حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ تَقَعْ فُرْقَةٌ، وَكَذَا فِي التَّعْلِيقِ بِالدُّخُولِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ.

فصل

الطَّرَفُ الْخَامِسُ: فِي التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ. أَمَّا تَعْلِيقُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَبَقَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ الزَّوْجَةِ مُخَاطَبَةً، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ، اشْتُرِطَ مَشِيئَتُهَا فِي مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ، كَمَا سَبَقَ فِي «كِتَابِ الْخُلْعِ» ، فَإِنْ أَخَّرَتْ، لَمْ تَقَعْ، وَفِيهِ قَوْلٌ شَاذٌّ ذَكَرْنَاهُ فِي «كِتَابِ الْخُلْعِ» . وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: إِنْ شِئْتَ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَشِيئَتُهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَقِيلَ: كَالزَّوْجَةِ، وَرَجَّحَهُ الْمُتَوَلِّي. وَلَوْ عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا لَا مُخَاطَبَةً، فَقَالَ: زَوْجَتِي طَالِقٌ إِنْ شَاءَتْ، لَمْ تُشْتَرَطِ الْمَشِيئَةُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ قَوْلُهَا: شِئْتُ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً، فَتُبَادِرُ بِهَا إِذَا بَلَغَهَا الْخَبَرُ. وَلَوْ قَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ إِذَا شَاءَ زَيْدٌ، لَمْ يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ شِئْتِ وَشَاءَ فُلَانٌ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، اشْتُرِطَ مَشِيئَتُهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَفِي مَشِيئَةِ فُلَانٍ الْوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ. فَصْلٌ عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا أَوْ مَشِيئَةِ غَيْرِهَا، فَقَالَ الْمُعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ الزَّوْجِ: شِئْتُ إِنْ شِئْتِ، أَوْ إِنْ شَاءَ فُلَانٌ، فَقَالَ الزَّوْجُ أَوْ فُلَانٌ: شِئْتُ، أَوْ قَالَ: شِئْتُ غَدًا، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَى مَشِيئَةِ مَجْزُومٍ بِهَا، وَلَمْ تَحْصُلْ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْمَشِيئَةِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ إِذَا قَالَ الزَّوْجُ: شِئْتُ، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. وَلَوْ شَاءَ الْمُعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ بِلِسَانِهِ وَهُوَ كَارِهٌ بِقَلْبِهِ، طُلِّقَتْ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الْبَاطِنِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْأَبِيوَرْدِيُّ: لَا يَقَعُ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَتْ بِالْحَيْضِ كَاذِبَةً، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَقَعُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ فِي الْحَقِيقَةِ بِلَفْظِ الْمَشِيئَةِ. قُلْتُ: قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» : الْأَصَحُّ الْوُقُوعُ بَاطِنًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ وُجِدَتِ الْإِرَادَةُ دُونَ اللَّفْظِ، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى قَوْلِ الْقَفَّالِ، وَعَلَى قَوْلِ الْأَبِيوَرْدِيِّ وَجْهَانِ. فَرْعٌ عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا وَهِيَ صَبِيَّةٌ، أَوْ بِمَشِيئَةِ صَبِيٍّ، فَقَالَتْ: شِئْتُ، أَوْ قَالَ: شِئْتُ، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: تُطَلَّقُ إِنْ شَاءَتْ وَهِيَ مُمَيِّزَةٌ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ قُلْتِ: شِئْتُ، أَمَّا لَوْ عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا وَهِيَ مَجْنُونَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ لَا تُمَيِّزُ، أَوْ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهَا، وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَالَتْ: شِئْتُ، فَلَا تَقَعُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَالَ الْمُعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ: شِئْتُ وَهُوَ سَكْرَانٌ، خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ كَالصَّاحِي أَوِ الْمَجْنُونِ، وَلَوْ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ أَخْرَسَ، فَقَالَ بِالْإِشَارَةِ: شِئْتُ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ نَاطِقٍ، فَخَرِسَ، وَأَشَارَ بِالْمَشِيئَةِ، طُلِّقَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ شِئْتِ، وَإِنْ قَالَ: مَتَى شِئْتِ، طُلِّقَتْ مَتَى شَاءَتْ، وَإِنْ فَارَقَتِ الْمَجْلِسَ. فَرْعٌ إِذَا عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ مَشِيئَتِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ لَهُمْ مَشِيئَةً، وَحُصُولُهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ الْحِمَارُ، فَكَقَوْلِهِ: إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ شِئْتُ أَنَا، فَمَتَى شَاءَ وَقَعَ.

فصل

فَرْعٌ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إِنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، فَشَاءَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلَاقَ نَفْسِهَا دُونَ ضَرَّتِهَا، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: الْقِيَاسُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ تَعْلِيقُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَشِيئَتِهَا، وَفِي «التَّتِمَّةِ» مَا يَقْتَضِي تَعْلِيقَ طَلَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِالْمَشِيئَتَيْنِ. فَرْعٌ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَالْقَفَّالُ: تُطَلَّقُ شَاءَتْ أَمْ لَمْ تَشَأْ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَا تُطَلَّقُ حَتَّى تُوجَدَ مَشِيئَةٌ فِي الْمَجْلِسِ، إِمَّا مَشِيئَةُ أَنْ تُطَلَّقَ، وَإِمَّا مَشِيئَةُ أَنْ لَا تُطَلَّقَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَكَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شِئْتِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ أَوْ أَبَيْتِ، فَمُقْتَضَى اللَّفْظِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: الْمَشِيئَةُ أَوِ الْإِبَاءُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ قُمْتِ أَوْ قَعَدْتِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، شِئْتِ أَوْ أَبَيْتِ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، إِذْ لَا تَعْلِيقَ فِي هَذَا. فَصْلٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَبُوكِ أَوْ فُلَانٌ وَاحِدَةً، فَشَاءَ وَاحِدَةً، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لَا يَقَعُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ أَبُوكِ الدَّارَ، فَدَخَلَ. وَعَلَى هَذَا لَوْ شَاءَ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ شَاءَ وَاحِدَةً وَزَادَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا شَاءَ وَاحِدَةً وَقَعَتْ، وَالثَّالِثُ، يَقَعُ طَلْقَتَانِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَبُوكِ أَنْ لَا يَقَعَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، فَلَا يَقَعُ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَقَالَ: أَرَدْتُ الْمُرَادَ بِالثَّانِي، قُبِلَ، وَإِنْ قُلْنَا: بِالثَّانِي، فَقَالَ: أَرَدْتُ

مَعْنَى الْأَوَّلِ، قُبِلَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَبُوكِ، أَوْ إِلَّا أَنْ تَشَائِي ثَلَاثًا، فَإِنْ شَاءَ أَوْ شَاءَتْ ثَلَاثًا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ لَمْ يَشَأْ شَيْئًا، أَوْ شَاءَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ شِئْتِ فَقَالَتْ: شِئْتُ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إِنْ شِئْتِ، فَقَالَتْ: شِئْتُ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَقَعَتِ الْوَاحِدَةُ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا أَبُوكِ، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا أَبَوَاكِ لَطَلَّقْتُكِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْلَا حُرْمَةُ أَبِيهَا لَطَلَّقَهَا، وَأَكَّدَ هَذَا الْخَبَرَ بِالْحَلِفِ بِطَلَاقِهَا، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَبُوكِ لَطَلَّقْتُكِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنَّمَا لَا تُطَلَّقُ إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي خَبَرِهِ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، طُلِّقَتْ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا، طُلِّقَتْ فِي الظَّاهِرِ أَيْضًا. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَوْ يَبْدُوَ لِي، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَقَعُ فِي الْحَالِ. فَرْعٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوْ قَالَ لَهَا: أَحَبِّي الطَّلَاقَ، أَوِ اهْوِي، أَوْ أَرَيْدِي، أَوِ ارْضِي، وَأَرَادَ تَمْلِيكَهَا الطَّلَاقَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: شَائِي أَوِ اخْتَارِي، فَإِذَا رَضِيَتْ أَوْ أَحَبَّتْ، أَوْ أَرَادَتْ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، هَذَا لَفْظُهُ. وَقَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: إِذَا قَالَ: شَائِي الطَّلَاقَ، وَنَوَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا فَقَالَتْ: شِئْتُ، لَا تُطَلَّقُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَحَبِّي

أَوْ أَرِيدِي، لِأَنَّهُ اسْتَدْعَى مِنْهَا الْمَشِيئَةَ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَلَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا، وَلَا فَوَّضَهُ إِلَيْهَا، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ تَفْوِيضٌ، فَقَوْلُهَا: شِئْتُ لَيْسَ بِتَطْلِيقٍ، وَهَذَا أَقْوَى. وَلَوْ قَالَ: إِذَا رَضِيتِ أَوْ أَحْبَبْتِ أَوْ أَرَدْتِ الطَّلَاقَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: رَضِيتُ أَوْ أَحْبَبْتُ أَوْ أَرَدْتُ، طُلِّقَتْ. وَلَوْ قَالَتْ: شِئْتُ، قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ شِئْتِ، فَقَالَتْ: أَحْبَبْتُ أَوْ هَوِيتُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ لَفْظَيِ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ يَقْتَضِي مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ. وَلِهَذَا يُقَالُ: الْإِنْسَانُ يَشَاءُ دُخُولَ الدَّارِ، وَلَا يُقَالُ: يُحِبُّهُ، وَيُحِبُّ وَلَدَهُ، وَلَا يَسُوغُ لَفْظُ الْمَشِيئَةِ فِيهِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَرَى فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَوْ يُرِيدَ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ إِلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِفُلَانٍ غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ، بَلْ يَقِفُ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَبْدُو مِنْ فُلَانٍ، وَلَا يَخْتَصُّ مَا يَبْدُو مِنْهُ بِالْمَجْلِسِ. وَلَوْ مَاتَ فُلَانٌ وَفَاتَ مَا جَعَلَهُ مَانِعًا مِنَ الْوُقُوعِ، تَبَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ قُبَيْلَ مَوْتِهِ. فَرْعٌ ذَكَرَ الْبُوشَنْجِيُّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ يَشَأْ فُلَانٌ، فَقَالَ فُلَانٌ: لَمْ أَشَأْ، وَقَعَ الطَّلَاقُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ يَشَأْ فُلَانٌ طَلَاقَكِ الْيَوْمَ، فَقَالَ فُلَانٌ فِي الْيَوْمِ: لَا أَشَاءُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَقِيَاسُ التَّعْلِيقِ يَنْفِي الدُّخُولَ وَسَائِرَ الصِّفَاتِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فِي الْحَالِ، فَقَدْ يَشَاءُ بَعْدُ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الْيَأْسُ، وَفَاتَتِ الْمَشِيئَةُ. وَفِي صُورَةِ التَّقْيِيدِ بِالْيَوْمِ، لَا يَقَعُ إِلَّا إِذَا مَضَى الْيَوْمُ خَالِيًا عَنِ الْمَشِيئَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَجِّهَ مَا ذَكَرَهُ الْبُوشَنْجِيُّ بِأَنَّ كَلَامَ الْمُعَلِّقِ مَحْمُولٌ عَلَى تَلَفُّظِهِ بِعَدَمِ الْمَشِيئَةِ، فَإِذَا قَالَ: لَمْ أَشَأْ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْوَصْفُ.

الطَّرَفُ السَّادِسُ: فِي مَسَائِلِ الدَّوْرِ: فَإِذَا قَالَ لَهَا: إِذَا طَلَّقْتُكِ، أَوْ إِنْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ مَتَى طَلَّقْتُكِ، أَوْ مَهْمَا طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ أَصْلًا، عَمَلًا بِالدَّوْرِ وَتَصْحِيحًا لَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْمُنْجَزُ لَوَقَعَ قَبْلَهُ ثَلَاثٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَقَعُ الْمُنْجَزُ لِلْبَيْنُونَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَقَعُ الثَّلَاثُ، لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّطْلِيقُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَقَعُ الْمُنْجَزُ فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، الْمُنْجَزَةُ، وَطَلْقَتَانِ مِنَ الْمُعَلَّقِ. وَقِيلَ عَلَى هَذَا: يَقَعُ الْمُعَلَّقَاتُ دُونَ الْمُنْجَزَةِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ بَعِيدٌ، ثُمَّ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ يَجْرِيَانِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ، فَمُخْتَصٌّ بِالْمَدْخُولِ بِهَا، فَإِنَّ غَيْرَهَا لَا يَتَعَاقَبُ عَلَيْهَا طَلَاقَانِ. وَلَوْ قَالَ لِرَقِيقٍ: إِنْ أَعْتِقْكَ، فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ، عَتَقَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَهُ بِيَوْمٍ، وَأَمْهَلَ يَوْمًا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَفِيهِ الْخِلَافُ، وَلَوْ طَلَّقَ قَبْلَ تَمَامِ يَوْمٍ مِنْ وَقْتِ التَّعْلِيقِ، وَقَعَ الْمُنْجَزُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنَ الْمُعَلَّقِ، لِأَنَّ الْوُقُوعَ لَا يَسْبِقُ اللَّفْظَ. وَلَوْ قَالَ: مَتَى طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِشَهْرَيْنِ أَوْ بِسَنَةٍ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَقَعَ الْمُنْجَزُ فَقَطْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ مَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لَوْ أَوْقَعْنَا طَلْقَةً مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنْقَضِيَةً، وَقَعَ عَلَيْهَا طَلْقَتَانِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: إِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا، وَقَعَ مَا نَجَزَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَكَانَتْ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْقَضِيَةٍ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ ثَلَاثًا إِنْ طَلَّقْتُكِ غَدًا وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا غَدًا وَاحِدَةً، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ، وَإِذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِالتَّطْلِيقِ كَمَا صَوَّرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ قَبْلَ التَّعْلِيقِ بِالتَّطْلِيقِ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ، يَقَعُ الْمُعَلَّقُ بِالدُّخُولِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَطْلِيقٍ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِتَطْلِيقِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلِّقْهَا الزَّوْجُ، إِنَّمَا وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ.

أَمَّا إِذَا قَالَ: إِنْ وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، فَسَوَاءٌ طَلَّقَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْمُتَوَلِّي، وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِدُخُولِ الدَّارِ، ثُمَّ قَالَ: مَتَى وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، أَوْ قَالَ: إِنْ حَنِثْتُ فِي يَمِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ، فَهَلْ يَقَعُ الْمُعَلَّقُ بِالدُّخُولِ إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لِأَنَّهَا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ قَبْلَ الدَّوْرِ، فَلَا يَمْلِكُ إِبْطَالَهَا، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِيَانِ، أَبُو الطِّيبِ وَالرُّويَانِيُّ لِلدَّوْرِ، وَيُتَصَوَّرُ حَلُّ الْيَمِينِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، كَانَ لَهُ إِسْقَاطُهُ، بِأَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ بِيَوْمٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، هَذَا الطَّرِيقُ أَسْهَلُ فِي دَفْعِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنَ الْخُلْعِ وَإِيقَاعِ الصِّفَةِ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ أُطَلِّقَكِ وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَكَذَا لَوْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ لِاشْتِمَالِ الْعَدَدِ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا، يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَوْتِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: يَقَعُ الْمُنْجَزُ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهَا طَلْقَةً، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَعَلَى الثَّانِي: يَقَعُ الثَّلَاثُ. وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ، وَقَعَ الْمُنْجَزُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ طَلْقَتَيْنِ، وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، فَطَلَّقَهَا، لَمْ يَقَعْ عَلَى الْأَوَّلِ شَيْءٌ، وَعَلَى الثَّانِي: يَقَعُ الْمُنْجَزُ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَقَعَ طَلْقَتَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ آلَيْتُ مِنْكِ، أَوْ ظَاهَرْتُ مِنْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، فَإِذَا آلَى أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا، لَمْ تَقَعِ الثَّلَاثُ قَبْلَهُ، وَفِي صِحَّةِ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ الْوَجْهَانِ، إِنْ صَحَّحْنَا الدَّوْرَ، لَمْ يَصِحَّا، وَإِنْ أَوْقَعْنَا الطَّلَاقَ الْمُنْجَزَ صَحَّا، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ «غَايَةِ الْغَوْرِ فِي دِرَايَةِ الدَّوْرِ» الْقَطْعَ بِالصِّحَّةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَالَ: إِنْ لَاعَنْتُكِ، أَوْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، أَوْ قَالَ لِلرَّجْعِيَّةِ: إِنْ

رَاجَعْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ قَالَ: إِنْ فَسَخْتُ النِّكَاحَ بِعَيْبِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، وَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ التَّصَرُّفُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، فَفِي نُفُوذِهِ الْوَجْهَانِ. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْأَصْحَابُ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَسَخْتُ النِّكَاحَ بِعَيْبِي أَوْ بِعَيْبِكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، أَوْ قَالَ: إِنِ اسْتَحْقَقْتِ الْفَسْخَ بِذَلِكَ أَوْ بِالْإِعْسَارِ، أَوْ إِنِ اسْتَقَرَّ مَهْرُكِ بِالْوَطْءِ، أَوْ إِنِ اسْتَحْقَقْتِ النَّفَقَةَ، أَوِ الْقَسَمَ، أَوْ طَلَبَ الطَّلَاقِ فِي الْإِيلَاءِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ فَسَخْتَ، أَوْ وَجَدْتَ الْأَسْبَابَ الْمُثْبِتَةَ لِهَذِهِ الِاسْتِحْقَاقَاتِ، نَفَذَ الْفَسْخُ وَتَبَيَّنَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَلَا نَقُولُ بِإِبْطَالِهَا لِلدَّوْرِ، وَإِنْ أَلْغَيْنَا الطَّلَاقَ الْمُنْجَزَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ هَذِهِ فُسُوخٌ وَحُقُوقٌ، ثَبَتَتْ عَلَيْهِ قَهْرًا، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمُبَاشَرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَصْلُحُ تَصَرُّفُهُ دَافِعًا لَهَا وَمُبْطِلًا لِحَقِّ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ: إِنِ انْفَسَخَ نِكَاحُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ ارْتَدَّ أَوِ اشْتَرَاهَا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ قَطْعًا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُ وَطْئًا مُبَاحًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ، ثُمَّ وَطِئَهَا، لَمْ تُطَلَّقْ قَبْلَهُ، إِذْ لَوْ طُلِّقَتْ لَمْ يَكُنِ الْوَطْءُ مُبَاحًا، وَسَوَاءٌ ذَكَرَ الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَمْ لَا. قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ مَوْضِعُ الْخِلَافِ إِذَا انْحَسَمَ بِتَصْحِيحِ الْيَمِينِ الدَّائِرَةِ بَابُ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُنَا لَا تَنْحَسِمُ وَلَوْ قَالَ: إِنْ طَلَّقْتُكِ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهَا ثَلَاثًا أَوْ طَلْقَتَيْنِ، فَطَلَّقَهَا، فَفِيهِ الْخِلَافُ. وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَالَعَهَا، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، أَوْ ثِنْتَيْنِ، وَقَعَ الْمُنْجَزُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا عَلَّقَ الثَّلَاثَ بِالطَّلْقَةِ الرَّجْعِيَّةِ. وَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ مَا نَجْزُهُ لَيْسَ بِرَجْعِيٍّ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ طَلَّقْتُكِ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ وَاحِدَةً وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا، فَلَا دَوْرَ، فَإِذَا طَلَّقَهَا، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا:

مَتَّى طَلَّقْتُكِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَقُلْ: قَبْلَهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَقَعَ الثَّلَاثُ وَلَا دَوْرَ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ نَاقِلٍ أَوْ نَاسِخٍ، وَابْنُ سُرَيْجٍ أَجْلُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ هَذَا، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْمَحْكِيُّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، مُتَّجَهٌ عِنْدِي. وَلَوْ قَالَ: إِذَا طَلَّقْتُكِ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ مَعَهَا ثَلَاثًا، فَإِذَا طَلَّقَهَا، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَةٌ، هَلْ يَقَعُ طَلْقَتَانِ أَمْ طَلْقَةٌ؟ إِنْ قُلْنَا: طَلْقَتَانِ مَعًا، فَهُنَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ، بِنَاءً عَلَى تَصْحِيحِ الدَّوْرِ، وَإِنْ قُلْنَا هُنَاكَ: لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَقَعَ هُنَا الثَّلَاثُ كَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْ: مَعَهَا. فَرْعٌ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي الرَّاجِحِ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فِي الدَّوْرِ، فَالْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَبِهِ اشْتُهِرَتِ الْمَسْأَلَةُ بِالسُّرَيْجِيَّةِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْقَفَّالَانِ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَصَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» ، وَالْغَزَالِيُّ، وَعَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْمَنْثُورِ، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ التَّعَالِيقِ، أَنَّ صَاحِبَ «الْإِفْصَاحِ» حَكَاهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَهُوَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ إِذَا نَجَزَ وَاحِدَةً، وَذَهَبَ إِلَى وُقُوعِ الْمُنْجَزَةِ فَقَطِ: ابْنُ الْقَاصِّ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي، وَالشَّرِيفُ نَاصِرٌ الْعُمَرِيُّ، وَلِلْغَزَّالِيِّ تَصْنِيفَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ، مُطَوَّلٌ فِي تَصْحِيحِ الدَّوْرِ، سَمَّاهُ «غَايَةَ الْغَوْرِ فِي دِرَايَةِ الدَّوْرِ» ، وَمُخْتَصَرٌ فِي إِبْطَالِهِ سَمَّاهُ «الْغَوْرَ فِي الدَّوْرِ» ، رَجَعَ فِيهِ عَنْ تَصْحِيحِهِ، وَاعْتَذَرَ فِيهِ عَمَّا سَبَقَ مِنْهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْفَتْوَى بِهِ أَوْلَى. وَذَكَرَ

فصل

الرُّويَانِيُّ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ تَصْحِيحَ الدَّوْرِ، أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَعْلِيمِ الْعَوَامِّ الْمَسْأَلَةَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ. قُلْتُ: قَدْ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُجَرَّدِ بِتَرْجِيحِ وُقُوعِ الْمُنْجَزَةِ فَقَطْ، كَمَا أَشَارَ هُنَا إِلَى اخْتِيَارِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا صَحَّحْنَا الدَّوْرَ، فَقَالَ: مَتَى وَقَعَ طَلَاقِي عَلَى حَفْصَةَ، فَعَمْرَةُ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، وَمَتَى وَقَعَ طَلَاقِي عَلَى عَمْرَةَ، فَحَفْصَةُ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا، لَمْ تُطَلَّقْ هِيَ وَلَا صَاحِبَتُهَا، فَلَوْ مَاتَتْ عَمْرَةُ ثُمَّ طُلِّقَتْ حَفْصَةُ، طُلِّقَتْ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الطَّلَاقِ نَفْيُهُ، وَلَوْ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو: مَتَى وَقَعَ طَلَاقُكَ عَلَى زَوْجَتِكَ، فَزَوْجَتِي طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، وَقَالَ عَمْرٌو لِزَيْدٍ مِثْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى زَوْجَتِهِ، مَا دَامَتْ زَوْجَةُ الْآخَرِ فِي نِكَاحِهِ، وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: مَتَى دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَنْتِ زَوْجَتِي، فَعَبْدِي حُرٌّ قَبْلَهُ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ: مَتَى دَخَلْتَ الدَّارَ وَأَنْتَ عَبْدِي، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ دَخَلَا الدَّارَ مَعًا، لَمْ يُعْتَقِ الْعَبْدُ، وَلَا تُطَلَّقُ هِيَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يُخَالِفُ أَبُو زَيْدٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا سَدُّ بَابِ التَّصَرُّفِ، فَلَوْ دَخَلَتِ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْعَبْدُ، عَتَقَ وَلَمْ تُطَلَّقْ هِيَ لِأَنَّهُ حِينَ دَخَلَتْ لَمْ يَكُنْ عَبْدًا لَهُ، فَلَمْ تَحْصُلْ صِفَةُ طَلَاقِهَا. وَلَوْ دَخَلَ الْعَبْدُ أَوَّلًا ثُمَّ دَخَلَتْ، طُلِّقَتْ وَلَمْ يُعْتَقْ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: مَتَى دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَنْتِ زَوْجَتِي، فَعَبْدِي حُرٌّ. وَقَالَ لَهُ: مَتَى دَخَلْتَ الدَّارَ وَأَنْتَ عَبْدِي، فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، وَلَمْ يَقُلْ فِي الطَّرَفَيْنِ: قَبْلَهُ، فَدَخَلَا مَعًا، عَتَقَ وَطُلِّقَتْ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِنْدَ الدُّخُولِ بِالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ. وَلَوْ دَخَلَ ثُمَّ دَخَلَتْ أَوْ عَكْسُهُ، فَالْحُكْمُ كَمَا فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ بِلَا فَرْقٍ.

فَرْعٌ قَالَ لَهَا: مَتَى أَعْتَقْتُ أَمَتِي هَذِهِ وَأَنْتِ زَوْجَتِي، فَهِيَ حُرَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: مَتَى أَعْتَقْتِهَا، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ إِعْتَاقِكِ إِيَّاهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَعْتَقَتْهَا الْمَرْأَةُ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، عَتَقَتِ الْأَمَةُ لِأَنَّهَا أَعْتَقَتْهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ، وَلَا تُطَلَّقُ الْمَرْأَةُ، لِأَنَّهَا لَوْ طُلِّقَتْ، لَطُلِّقَتْ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الطَّلَاقُ مُتَقَدِّمًا عَلَى اللَّفْظِ، وَذَلِكَ مُمْتَنَعٌ. فَلَوْ أَمْهَلَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَعْتَقَهَا، لَمْ تُعْتَقْ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ لَهَا فِي الْإِعْتَاقِ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ، وَلَا تُطَلَّقُ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالْعِتْقِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ. الطَّرَفُ السَّابِعُ: فِي أَنْوَاعٍ [مِنَ] التَّعْلِيقِ وَنَحْوِهِ: فَمِنْ ذَلِكَ التَّعْلِيقُ بِالْحَلْفِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَتَابَعَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: الْحَلِفُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مَنْعٌ مِنَ الْفِعْلِ، أَوْ حَثٌّ عَلَيْهِ، أَوْ تَحْقِيقُ خَيْرٍ وَجَلْبُ تَصْدِيقٍ، فَإِذَا قَالَ: إِذَا حَلَفْتَ، أَوْ إِنْ حَلَفْتَ بِطَلَاقِكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، أَوْ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا التَّعْلِيقِ مَنْعٌ، وَلَا حَثٌّ، وَلَا غَرَضُ تَحْقِيقٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِذَا حِضْتِ، أَوْ إِذَا طَهُرْتِ، أَوْ إِذَا شِئْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ، وَحَكَى الْفُورَانِيُّ وَجْهًا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يُسَمَّى حَلْفًا، وَهَذَا شَاذٌّ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ التَّعْلِيقِ بِالْحَلْفِ: إِنْ ضَرَبْتُكِ، أَوْ إِنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا، أَوْ إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ، أَوْ إِنْ لَمْ تَخْرُجِي، أَوْ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا، أَوْ إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا كَمَا قُلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَعَ فِي الْحَالِ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِالْحَلْفِ، لِأَنَّ هَذَا حَلْفٌ، ثُمَّ إِذَا وُجِدَ الضَّرْبُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا عُلِّقَ عَلَيْهِ، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ أُخْرَى إِنْ بَقِيَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَصَدَ مَنْعَهُ وَهُوَ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. وَكَذَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَكَذَّبَتْهُ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَطْلُعْ

فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ حَلْفٌ، لِأَنَّ غَرَضَهُ التَّحْقِيقُ، وَحَمَلَهَا عَلَى التَّصْدِيقِ، وَإِنْ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: إِنْ قَدِمَ فُلَانٌ، التَّوْقِيتَ، أَوْ كَانَ فُلَانٌ مِمَّنْ لَا يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُهُ كَالسُّلْطَانِ، أَوْ قَالَ: إِذَا قَدِمَ الْحَجِيجُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَيْسَ هَذَا حَلْفًا، وَمَا جَعَلْنَا التَّعْلِيقَ بِهِ حَلْفًا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِصِيغَةِ (إِنْ) أَوْ صِيغَةِ (إِذَا) ، اعْتِبَارًا بِأَنَّهُ مَوْضِعُ مَنْعٍ وَحَثٍّ وَتَصْدِيقٍ وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بِصِيغَةِ إِذَا فَهُوَ تَوْقِيتٌ وَلَيْسَ بِحَلْفٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَمَا لَمْ يُجْعَلِ التَّعْلِيقُ بِهِ حَلْفًا كَطُلُوعِ الشَّمْسِ وَقُدُومِ الْحَجِيجِ، فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ صِيغَةِ «إِنْ» وَ «إِذَا» . وَقِيلَ: إِنْ عَلَّقَهُ بِصِيغَةِ (إِنْ) كَانَ حَلْفًا لِأَنَّهُ صَرَفَهُ عَنِ التَّوْقِيتِ بِالْعُدُولِ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْقِيتِ، وَهِيَ إِذَا، فَإِنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ أَقْسَمْتُ بِطَلَاقِكِ، أَوْ عَقَدْتُ يَمِينِي بِطَلَاقِكِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَحْلِفْ بِطَلَاقِكِ، أَوْ إِذَا لَمْ أَحْلِفْ بِطَلَاقِكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَحُكْمُهُ كَمَا سَبَقَ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ لَفْظَةَ «إِنْ» لَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ وَالْبِدَارَ إِلَى الْحَلْفِ، وَلَفْظَةُ «إِذَا» تَقْتَضِيهِ. فَإِذَا قَالَ: إِذَا لَمْ أَحْلِفْ بِطَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، نُظِرَ إِنْ فَصَلَ بَيْنَ الْمَرَّاتِ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْحَلْفُ بِطَلَاقِهَا وَسَكَتَ فِيهِ وَلَمْ يَحْلِفْ عُقَيْبَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَقَعَ الطَّلَقَاتُ الثَّلَاثُ، وَإِنْ وَصَلَ الْكَلِمَاتِ، لَمْ يَقَعْ بِالْأُولَى وَلَا بِالثَّانِيَةِ شَيْءٌ، وَيَقَعُ بِالثَّالِثَةِ طَلْقَةٌ، إِذَا لَمْ يَحْلِفْ بِطَلَاقِهَا. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا لَمْ أَحْلِفْ بِطَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمَضَى زَمَانٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ فِيهِ فَلَمْ يَحْلِفْ، طُلِّقَتْ طَلْقَةً. فَإِذَا مَضَى مِثْلُ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْلِفْ وَقَعَتْ ثَانِيَةٌ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ أَعَادَ هَذَا الْقَوْلَ مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً، فَإِنْ كَانَتْ

الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا، وَقَعَ بِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةٌ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ الْأُولَى، ثُمَّ يَقَعُ بِالثَّالِثَةِ طَلْقَةٌ بِحُكْمِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ وَتَنْحَلُّ، وَيَقَعُ بِالرَّابِعَةِ طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ بِحُكْمِ الْيَمِينِ الثَّالِثَةِ وَتَنْحَلُّ الثَّالِثَةُ، وَتَكُونُ الرَّابِعَةُ يَمِينًا مُنْعَقِدَةً، حَتَّى يَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ إِذَا حَلَفَ بِطَلَاقِهَا فِي نِكَاحٍ آخَرَ، إِنْ قُلْنَا: يَعُودُ الْحِنْثُ بَعْدَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا، وَقَعَ طَلْقَةٌ بِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَبَانَتْ بِهَا، تَنْحَلُّ الْيَمِينُ الْأُولَى، وَتَبْقَى الثَّانِيَةُ مُنْعَقِدَةً، وَفِي ظُهُورِ أَثَرِهَا فِي النِّكَاحِ الْمُجَدَّدِ، الْخِلَافُ فِي عَوْدِ الْحِنْثِ، وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَاقِعَتَانِ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، فَلَا تَنْعَقِدَانِ، وَلَا يَنْحَلُّ بِهِمَا شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: إِذَا كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَعَادَ ذَلِكَ مِرَارًا، وَقَعَ بِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةٌ، وَهِيَ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، وَتَنْحَلُّ بِالثَّالِثَةِ، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ هُنَا بِالْكَلَامِ، وَالْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَيْنُونَةِ، وَهُنَاكَ التَّعْلِيقُ بِالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، وَقَالَ سَهْلٌ الصُّعْلُوكِيُّ: لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ الثَّانِيَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهَا تُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كَلَّمْتُكِ، فَيَقَعُ قَوْلُهُ: فَأَنْتِ طَالِقٌ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، وَتَلْغُو الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، كَلَامٌ وَاحِدٌ. فَرْعٌ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إِذَا حَلَفْتُ بِطَلَاقِكُمَا، فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، وَأَعَادَ هَذَا الْقَوْلَ مِرَارًا، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِمَا، طُلِّقَتَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، طُلِّقَتَا طَلْقَةً، وَبَانَتَا، وَفِي عَوْدِ الْحِنْثِ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ الْخِلَافُ، وَإِنْ دَخَلَ بِإِحْدَاهُمَا، طُلِّقَتَا جَمِيعًا بِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَبَانَتْ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَبِالْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ لَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ الْحَلْفُ بِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ الْحَلْفُ بِالْبَائِنِ. فَإِنْ نَكَحَ الَّتِي بَانَتْ، وَحَلَفَ بِطَلَاقِهَا وَحْدَهَا، طُلِّقَتِ الْمَدْخُولُ بِهَا إِنْ رَاجَعَهَا، أَوْ كَانَتْ بَعْدُ فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ حَصَلَ الشَّرْطُ وَهُوَ الْحَلْفُ بِطَلَاقِهَا. وَفِي طَلَاقِ هَذِهِ الْمُجَدَّدَةِ الْخِلَافُ فِي عَوْدِ الْحِنْثِ.

فصل

فَرْعٌ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكُمَا، فَعَمْرَةُ مِنْكُمَا طَالِقٌ، وَأَعَادَ هَذَا مِرَارًا، لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ، لِأَنَّ طَلَاقَهَا مُعَلَّقٌ بِالْحَلْفِ بِطَلَاقِهِمَا مَعًا، وَهَذَا حَلْفٌ بِطَلَاقِهَا وَحْدَهَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ بَعْدَ التَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ: إِذَا دَخَلْتُمَا الدَّارَ فَعَمْرَةُ طَالِقٌ، وَإِنَّمَا تُطَلَّقُ عَمْرَةُ إِذَا حَلَفَ بِطَلَاقِهِمَا جَمِيعًا، إِمَّا فِي يَمِينٍ أَوْ يَمِينَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكُمَا، فَإِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَأَعَادَ ذَلِكَ مِرَارًا، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا. فَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِهَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، طُلِّقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالتَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ إِحْدَاكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، وَأَعَادَ مَرَّةً ثَانِيَةً، طُلِّقَتَا جَمِيعًا. فَرْعٌ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ لَمْ أَحْلِفْ بِطَلَاقِهَا مِنْكُمَا، فَصَاحِبَتُهَا طَالِقٌ. قَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» : إِذَا سَكَتَ سَاعَةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ فِيهَا بِطَلَاقِهِمَا، طُلِّقَتَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: عَرَضْتُ قَوْلَهُ عَلَى الْقَفَّالِ وَشَارِحِي «التَّلْخِيصِ» فَصَوَّبُوهُ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالسُّكُوتِ، إِلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ الْيَأْسُ عَنِ الْحَلْفِ بِمَوْتِهِ أَوْ مَوْتِهَا، إِذْ لَيْسَ فِي عِبَارَتِهِ تَعَرُّضٌ لِلْوَقْتِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مَتَى لَمْ أَحْلِفْ. وَتَابَعَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ عَلَى قَوْلِهِ، وَاسْتَبْعَدُوا كَلَامَ صَاحِبِ «التَّلْخِيصِ» . فَصْلٌ قَالَ: إِنْ أَكَلْتِ رُمَّانَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ أَكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَكَلَتْ رُمَّانَةً، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِصِيغَةِ (كُلَّمَا) طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، لِأَنَّهَا أَكَلَتْ رُمَّانَةً وَنِصْفَ رُمَّانَةٍ مَرَّتَيْنِ.

فصل

فَصْلٌ تَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ: مَنْ بَشَّرَتْنِي مِنْكُنَّ بِكَذَا، فَهِيَ طَالِقٌ، فَبَشَّرَتْهُ وَاحِدَةٌ بَعْدَ أُخْرَى، طُلِّقَتِ الْأُولَى فَقَطْ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ شَاهَدَ هُوَ الْحَالَ قَبْلَ أَنْ تُخْبِرَهُ، فَاتَتِ الْبِشَارَةُ، وَلَوْ بَشَّرَهُ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ ذَكَرَتْهُ لَهُ إِحْدَاهُنَّ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَحَكَى الْفُورَانِيُّ وَجْهًا، أَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ، بَلْ هِيَ كَقَوْلِهِ: مَنْ أَخْبَرَتْنِي بِكَذَا، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ بَشَّرَتْهُ امْرَأَتَانِ مَعًا، فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُمَا تُطَلَّقَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ أَكَلَتْ مِنْكُمَا هَذَا الرَّغِيفَ، فَهِيَ طَالِقٌ فَأَكَلَتَاهُ، لَمْ تُطَلَّقَا. قُلْتُ: الصَّوَابُ، أَنَّهُمَا تُطَلَّقَانِ، وَلَيْسَ كَمَسْأَلَةِ الرَّغِيفِ، لِأَنَّهُ لَمْ تَأْكُلْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْبِشَارَةُ، فَلَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، لَا يَنْحَصِرُ فِي وَاحِدَةٍ، فَإِذَا بَشَّرَتَاهُ مَعًا، صَدَقَ اسْمُ الْبِشَارَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ، فَطُلِّقَتَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْبِشَارَةِ الصِّدْقُ، فَلَوْ قَالَتْ وَاحِدَةٌ: كَانَ كَذَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ، [ثُمَّ] ذَكَرَتْهُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ صَادِقَةٌ، طُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ دُونَ الْأُولَى، وَتَحْصُلُ الْبِشَارَةُ بِالْمُكَاتَبَةِ، كَمَا تَحْصُلُ بِاللَّفْظِ، وَلَوْ أَرْسَلَتْ رَسُولًا، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الْمُبَشِّرَ هُوَ الرَّسُولُ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَتْنِي مِنْكُمَا بِكَذَا، فَهِيَ طَالِقٌ، فَلَفْظُ الْخَبَرِ يَقَعُ عَلَى الْكَذِبِ وَالصِّدْقِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا أَخْبَرَتَاهُ صَادِقَتَيْنِ أَوْ كَاذِبَتَيْنِ مَعًا، أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ، طُلِّقَتَا جَمِيعًا، وَسَوَاءٌ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَتْنِي مِنْكُمَا بِقُدُومِ زَيْدٍ، أَوْ مَنْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ زَيْدًا قَدِمَ، أَوْ بِأَنَّ زِيدًا قَدِمَ، وَحُكِيَ وَجْهٌ، فِيمَا إِذَا قَالَ:

فصل

مَنْ أَخْبَرَنِي بِقُدُومِ زَيْدٍ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِذَا أَخْبَرَتْهُ كَاذِبَةً، لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، فَصَارَ فِي مَعْنَى شَرْطِ الْقُدُومِ فِي الْإِخْبَارِ، وَبِهَذَا قَالَ الْفُورَانِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَصْلٌ تَحْتَهُ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ، فَقَالَ: يَا عَمْرَةُ، فَأَجَابَتْهُ حَفْصَةُ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ الْمُجِيبَةَ عَمْرَةَ، لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهَا بِالطَّلَاقِ، بَلْ ظَنَّ ذَلِكَ، وَظَنُّ الْخِطَابِ بِالطَّلَاقِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ الْأُخْرَى، طُلِّقَتِ الْمُخَاطَبَةُ دُونَ الْمَظْنُونَةِ، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَأَمَّا حَفْصَةُ الْمُخَاطَبَةُ، فَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْوُقُوعِ بَاطِنًا، وَأَنَّهَا تُطَلَّقُ ظَاهِرًا بِلَا خِلَافٍ، هَذَا تَرْتِيبُ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَوْ قِيلَ: تُطَلَّقُ حَفْصَةُ ظَاهِرًا قَطْعًا، وَفِي عَمْرَةَ وَجْهَانِ، لَكَانَ مُحْتَمَلًا، وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّ الَّتِي أَجَابَتْنِي حَفْصَةُ، سُئِلَ، فَإِنْ قَالَ: قَصَدْتُ طَلَاقَ حَفْصَةَ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ دُونَ عَمْرَةَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مُحْتَمَلٌ، وَإِنْ قَالَ: قَصَدْتُ طَلَاقَ عَمْرَةَ دُونَ حَفْصَةَ الْمُجِيبَةِ، طُلِّقَتْ عَمْرَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيُدَيَّنُ فِي حَفْصَةَ، وَيَقَعُ طَلَاقُهَا ظَاهِرًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانَ النِّدَاءُ وَالْجَوَابُ كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ قَالَ بَعْدَ جَوَابِ حَفْصَةَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ لِامْرَأَةٍ لَهُ ثَالِثَةٍ، طُلِّقَتْ زَيْنَبُ دُونَ حَفْصَةَ وَعَمْرَةَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ وَزَيْنَبُ طَالِقَانِ، طُلِّقَتْ زَيْنَبُ، ثُمَّ يُسْأَلُ؟ فَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ الْمُجِيبَةَ عَمْرَةَ، لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ، وَتُطَلَّقْ حَفْصَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّ الْمُجِيبَةَ حَفْصَةُ، وَقَصَدْتُ طَلَاقَهَا، طُلِّقَتْ دُونَ عَمْرَةَ، وَإِنْ قَالَ: قَصَدْتُ طَلَاقَ عَمْرَةَ، طُلِّقَتْ عَمْرَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَطُلِّقَتْ حَفْصَةُ ظَاهِرًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ التَّعْلِيقِ فِي شَيْءٍ، لَكِنَّ الْتِزَامَ تَرْتِيبِ الْكِتَابِ اقْتَضَى جَعْلَهَا هُنَا.

فصل

فَصْلٌ قَالَ الْعَبْدُ لِزَوْجَتِهِ: إِذَا مَاتَ سَيِّدِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، وَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: إِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَاتَ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ الثُّلُثُ جَمِيعَ الْعَبْدِ رُقَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَمَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ كَالْقِنِّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ، فَتَقَعُ الطَّلْقَتَانِ، وَلَيْسَ لَهُ رَجْعَتُهَا وَلَا نِكَاحُهَا إِلَّا بِمُحَلِّلٍ، وَإِنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ عَتَقَ، وَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا تَحِلُّ إِلَّا بِمُحَلِّلٍ، وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا تَحْرُمُ، فَلَهُ رَجْعَتُهَا، وَلَهُ تَجْدِيدُ نِكَاحِهَا بِلَا مُحَلِّلٍ، لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَقَعَا مَعًا، فَلَمْ يَكُنْ رَقِيقًا حَالَ الطَّلَاقِ حَتَّى يَفْتَقِرَ إِلَى مُحَلِّلٍ، وَلَا تَخْتَصُّ الْمَسْأَلَةُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، بَلْ يَجْرِي الْخِلَافُ فِي كُلِّ صُورَةٍ تُعَلِّقُ عِتْقَ الْعَبْدِ، وَوُقُوعَ طَلْقَتَيْنِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ: إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، وَقَالَ السَّيِّدُ: إِذَا جَاءَ الْغَدُ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ، إِذَا عَتَقْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، وَقَالَ السَّيِّدُ: إِذَا جَاءَ الْغَدُ فَأَنْتَ حُرٌّ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: إِذَا جَاءَ الْغَدُ، عَتَقَ وَطُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الْعِتْقَ سَبَقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَلَوْ عَلَّقَ السَّيِّدُ عِتْقَهُ بِمَوْتِهِ، وَعَلَّقَ الْعَبْدُ الطَّلْقَتَيْنِ بِآخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاةِ السَّيِّدِ، انْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ، وَاشْتُرِطَ الْمُحَلِّلُ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ صَادَفَ الرِّقَّ. فَرْعٌ مَنْ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، نَكَحَ أَمَةَ مُورِثِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِذَا مَاتَ سَيِّدُكِ؟ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَاتَ السَّيِّدُ وَوَرِثَهُ الزَّوْجُ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يَقَعُ سَوَاءً كَانَ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أَمْ لَا، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، نَفَذَ الطَّلَاقُ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ إِلَى الْوَارِثِ، فَعَلَى هَذَا، إِذَا قُضِيَ الدَّيْنُ، بَانَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إِلَيْهِ، وَصَارَ الدَّيْنُ كَالْمَعْدُومِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ عَلَّقَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ السَّيِّدُ: إِذَا مِتُّ، فَأَنْتِ حُرَّةٌ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ، عَتَقَتْ وَطُلِّقَتْ، وَإِلَّا عَادَ الْخِلَافُ فِي نُفُوذِ الطَّلَاقِ،

فَلَوْ أَجَازَ الزَّوْجُ عِتْقَهَا وَكَانَ حَائِزًا لِلْإِرْثِ، أَوْ أَجَازَ مَعَهُ بَاقِي الْوَرَثَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِجَازَةُ تَنْفِيذٌ، طُلِّقَتْ، لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ، وَإِنْ قُلْنَا: عَطِيَّةٌ مِنَ الْوَارِثِ، فَقَدْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، وَيَكُونُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَوْ كَاتَبَهَا السَّيِّدُ وَمَاتَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْخِلَافُ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يُورَثُ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ وَبِنْتُهُ تَحْتَ مُكَاتَبِهِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، لِأَنَّهَا وَرِثَتْ بَعْضَ زَوْجِهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ وَارِثًا لِسَبَبٍ، وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالِانْفِسَاخُ قَطْعًا. فَرْعٌ قَالَ الْحُرُّ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ: إِنِ اشْتَرَيْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ سَيِّدُهَا: إِنْ بِعْتُكِ، فَأَنْتِ حُرَّةٌ، فَبَاعَهَا لِزَوْجِهَا، عَتَقَتْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ مَوْقُوفٌ، فَالْجَارِيَةُ مِلْكُهُ، وَقَدْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، فَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ، وَإِعْتَاقُهُ فَسْخٌ، فَتَعُودُ الْجَارِيَةُ بِالْإِعْتَاقِ إِلَى مِلْكِهِ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ، فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الْحَدَّادِ: أَنَّهُ يَقَعُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَاقٍ، وَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الطَّلَاقِ، فَيَقَعُ، وَكَذَا الْحُكْمُ عَلَى قَوْلِنَا: مَوْقُوفٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ، كَالْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ فِي الْفَرْعِ السَّابِقِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ مَلَكْتُكِ بَدَلَ اشْتَرَيْتُكِ، لَمْ يَجِئْ فِيهِ إِلَّا هَذَا الْخِلَافُ الْأَخِيرُ، وَلَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ وَطَلَّقَهَا فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، نَفَذَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، فَلَا، وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ، طُلِّقَتْ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَمَتَى وَقَعَ الطَّلَاقُ ثُمَّ تَمَّ الْبَيْعُ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَلَهُ الْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَا يَلْزَمُ الصَّبْرُ إِلَى

فصل

انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا عِدَّتُهُ، كَمَا لَهُ نِكَاحُ مُخْتَلِعَتِهِ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِالثَّلَاثِ، فَلَيْسَ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ قَبْلَ مُحَلِّلٍ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ، فَقَدِمَ نَهَارًا، طُلِّقَتْ، وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَقِبَ الْقُدُومِ، أَمْ نَتَبَيَّنُ وُقُوعَهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الثَّانِي، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُضَافٌ إِلَى يَوْمِ الْقُدُومِ، فَأَشْبَهَ قَوْلُهُ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَوْ مَاتَتْ، ثُمَّ قَدِمَ زَيْدٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، مَاتَتْ مُطَلَّقَةً، فَلَا يَرِثُهَا الزَّوْجُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَقَدِمَ زَيْدٌ فِي يَوْمِهِ، لَمْ تَرِثْ هِيَ مِنْهُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثَبَتَ الْإِرْثُ، وَلَوْ خَالَعَهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ قَدِمَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْخُلْعُ صَحِيحٌ، وَلَا تُطَلَّقُ بِالْقُدُومِ، وَعَلَى الثَّانِي، الْخُلْعُ بَاطِلٌ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بَائِنًا، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي خُلْعِ الرَّجْعِيَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ طَاهِرًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَحَاضَتْ، ثُمَّ قَدِمَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، تُحْسَبُ بَقِيَّةُ ذَلِكَ الطُّهْرِ قُرْءًا، وَعَلَى الْأَوَّلِ بِخِلَافِهِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ، فَبَاعَهُ، ثُمَّ قَدِمَ زَيْدٌ فِي يَوْمِ الْبَيْعِ، هَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ أَمْ لَا؟ وَلَوْ قَدِمَ زَيْدٌ لَيْلًا، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ. فَصْلٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعٍ، طُلِّقَتْ طَلْقَةً، وَإِنْ أَشَارَ بِإِصْبَعَيْنِ، فَطَلْقَتَيْنِ، أَوْ بِثَلَاثٍ فَثَلَاثًا، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا إِذَا أَشَارَ إِشَارَةً مُفْهِمَةً لِلطَّلْقَتَيْنِ أَوْ

الثَّلَاثِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْإِشَارَةُ الْمُعْتَبَرَةُ، فَقَالَ: أَرَدْتُ الْإِشَارَةَ بِالْإِصْبَعَيْنِ الْمَقْبُوضَتَيْنِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ لِلِاحْتِمَالِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ وَاحِدَةً، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : يُقْبَلُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَشَارَ بِالْأَصَابِعِ وَلَمْ يَقُلْ: هَكَذَا، لَمْ يُحْكَمْ بِوُقُوعِ الْعَدَدِ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الثَّلَاثِ، فَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ إِنْ نَوَى الطَّلَاقَ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَإِلَّا فَلَا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ ثَلَاثًا وَلَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تُطَلَّقَ وَإِنْ نَوَى، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُشْعِرُ بِطَلَاقٍ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ، وَيُوَافِقُهُ مَا قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» فَقَالَ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ، وَنَوَى الطَّلَاقَ، لَا يَقَعُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ طَلَاقٍ، وَالنِّيَّةُ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَوْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَوْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، طُلِّقَتْ بِأَيِّهِمَا وُجِدَ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، فَلَا يَقَعُ بِالصِّفَةِ الْأُخْرَى شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، وَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، وَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، أَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ، وَإِنْ دَخَلْتِ الْأُخْرَى، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ دَخَلْتِ الْأُخْرَى، وَقَعَ بِالصِّفَتَيْنِ طَلْقَتَانِ، وَبِإِحْدَاهُمَا طَلْقَةٌ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ وَكَلَّمْتِ زَيْدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا، وَتَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الدُّخُولِ أَوْ تَأَخَّرَ، وَأَشَارَ فِي «التَّتِمَّةِ» ، إِلَى وَجْهٍ فِي اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِ الدُّخُولِ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ.

وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَكَلَّمْتِ زَيْدًا، أَوْ ثُمَّ كَلَّمْتِ زَيْدًا، فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا، وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الدُّخُولِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ، إِنْ كَلَّمْتِ، فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا، وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الْمَذْكُورِ آخِرًا عَلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، وَيُسَمَّى هَذَا اعْتِرَاضَ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْكَلَامَ شَرْطًا لِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالدُّخُولِ، وَالتَّعْلِيقُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، كَمَا أَنَّ التَّنْجِيزَ يَقْبَلُهُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هُودٌ: 34] وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، فَإِنْ قَدَّمَتِ الثَّانِيَ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. وَمَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ بِالتَّرْتِيبِ، وَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِحُصُولِهِمَا كَيْفَ كَانَ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ، هُوَ الْأَوَّلُ، قَالُوا: فَإِذَا كَلَّمَتْهُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ دَخَلَتْ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ دَخَلَتْ ثُمَّ كَلَّمَتْهُ، لَمْ تُطَلَّقْ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، فَلَوْ كَلَّمَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ دَخَلَتْ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَسَوَاءٌ كَانَتْ صِيغَةُ الشَّرْطِ فِي الصِّفَتَيْنِ إِنْ أَوْ غَيْرَهَا، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَتِ الصِّيغَةُ أَمْ لَا، حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا دَخَلْتِ، إِذَا كَلَّمْتِ، أَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ إِنْ كَلَّمْتِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ قَالَ: مَتَى كَلَّمْتِ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتُكِ، إِنْ وَعَدْتُكِ، إِنْ سَأَلْتِنِي فَأَنْتَ طَالِقٌ، اشْتَرَطَ وُجُودَ السُّؤَالِ، ثُمَّ الْوَعْدِ، ثُمَّ الْعَطِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ سَأَلْتِنِي فَوَعَدْتُكِ فَأَعْطَيْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، [وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ سَأَلْتِنِي إِنْ أَعْطَيْتُكِ إِنْ وَعَدْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ] اشْتَرَطَ السُّؤَالَ، ثُمَّ الْوَعْدَ، ثُمَّ الْعَطِيَّةَ، لَكِنَّ مُقْتَضَى مَا تُمَهَّلُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْوَعْدِ، ثُمَّ الْعَطِيَّةِ، ثُمَّ السُّؤَالِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ

سَأَلْتِنِي وَأَعْطَيْتُكِ إِنْ وَعَدْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَأَنَّهُ صَوَّرَ رُجُوعَ الْكُلِّ إِلَى مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَرَ لِلْوَعْدِ مَعْنًى بَعْدَ الْعَطِيَّةِ، وَلَا لِلسُّؤَالِ مَعْنًى بَعْدَ الْوَعْدِ وَالْعَطِيَّةِ، فَحَمَلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، فَقَدْ يُرِيدُ إِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ تَعَلَّقَ طَلَاقُهَا بِالْكَلَامِ، وَقَدْ يُرِيدُ إِذَا كَلَّمَتْهُ تَعَلَّقَ طَلَاقُهَا بِالدُّخُولِ، فَيُرَاجَعُ، وَيُعْمَلُ بِتَفْسِيرِهِ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا وَعَمْرًا، أَوْ بَكْرًا مَعَ عَمْرٍو، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّمَا تُطَلَّقُ إِذَا كَلَّمَتْ زَيْدًا وَعَمْرًا، وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ كَوْنِ بَكْرٍ مَعَ عَمْرٍو وَقْتَ تَكْلِيمِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا وَهُوَ رَاكِبٌ. فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: عَادَةُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ تَعْلِيقًا بِالدُّخُولِ يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا دَخَلْتِ، كَمَا يَقُولُ الْحَالِفُ، وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ، وَالْمَعْنَى: إِنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَى هَذِهِ الْعَادَةِ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا كَلَّمْتِ زَيْدًا وَعَمْرًا وَبَكْرًا، فَكَلَّمَتْهُمْ، طُلِّقَتْ وَإِنْ كَلَّمَتْ بَعْضَهُمْ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَلَوْ قَالَ: لَا كَلَّمْتِ زَيْدًا وَعَمْرًا وَلَا بَكْرًا، فَأَيُّهُمْ كَلَّمَتْهُ طُلِّقَتْ. فَرْعٌ ذَكَرَ ابْنُ سُرَيْجٍ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا حَتَّى يَدْخُلَ عَمْرٌو

فصل

الدَّارَ، أَوْ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ، فَالْغَايَةُ تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، لَا بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، وَالْمَعْنَى: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا قَبْلَ دُخُولِ عَمْرٍو الدَّارَ. فَصْلٌ قَالَ لِنِسْوَتِهِ الْأَرْبَعِ: أَرَبْعُكُنَّ طَوَالِقُ إِلَّا فُلَانَةً، أَوْ إِلَّا وَاحِدَةً، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي: لَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَيُطَلَّقْنَ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْأَرْبَعَ لَيْسَتْ صِيغَةَ عُمُومٍ، وَإِنَّمَا هِيَ اسْمٌ خَاصٌّ لِعَدَدٍ مَعْلُومٍ خَاصٍّ، فَقَوْلُهُ: إِلَّا فُلَانَةً، رَفْعٌ لِلطَّلَاقِ عَنْهَا بَعْدَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: طَالِقٌ طَلَاقًا لَا يَقَعُ. وَمُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَعْدَادِ فِي الْأَقْرَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ وَجَّهَهُ، بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْمُعَيَّنِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَهَذَا يَضْعُفُ بِأَنَّ الْإِمَامَ حَكَى عَنِ الْقَاضِي، أَنَّهُ قَالَ: أَرَبْعُكُنَّ إِلَّا فُلَانَةً طَوَالِقُ، صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَادَّعَى أَنَّ هَذَا مَعْهُودٌ دُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا كَلَامٌ كَمَا تَرَاهُ. وَقَدْ حَكَيْنَا فِي الْإِقْرَارِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ مِنَ الْمُعَيَّنَاتِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَسْتَوِي فِي الْوَجْهَيْنِ الْإِقْرَارُ وَالطَّلَاقُ. فَصْلٌ قِيلَ لَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْبَارِ: أَطَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ، أَوْ فَارَقْتَهَا، أَوْ زَوْجَتُكَ طَالِقٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَهَذَا إِقْرَارٌ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهِيَ زَوْجَتُهُ فِي الْبَاطِنِ. فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ الْإِقْرَارَ بِطَلَاقٍ سَابِقٍ وَقَدْ رَاجَعْتُهَا، صُدِّقَ. وَإِنْ قَالَ: أَبَنْتُهَا وَجَدَّدْتُ النِّكَاحَ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، وَفُسِّرَ بِذَلِكَ. وَلَوْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْتِمَاسِ الْإِنْشَاءِ، فَإِنْ قَالَ فِي الْجَوَابِ: نَعَمْ، طُلِّقَتْ، وَلَا إِشْكَالَ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: نَعَمْ، فَهَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَمْ كِنَايَةٌ؟ قَوْلَانِ. قَالَ

ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ صَرِيحٌ، وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ إِطْلَاقُ الْخِلَافِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الِالْتِمَاسِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ. وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ قِيلَ لَهُ: طَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ، فَقَالَ: طَلَّقْتُ، فَقَدْ قِيلَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: نَعَمْ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِصَرِيحٍ قَطْعًا، لِأَنَّ (نَعَمْ) مُتَعَيِّنٌ لِلْجَوَابِ، وَقَوْلُهُ: طَلَّقْتُ، مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ ابْتِدَاءً: طَلَّقْتُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَلَا طَلَاقَ. فَرْعٌ قِيلَ لَهُ: أَلَكَ زَوْجَةٌ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَدْ نُصَّ فِي «الْإِمْلَاءِ» أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَى، لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ إِنْشَاءً، وَلَا بَأْسَ لَوْ فَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِ السَّائِلِ مُسْتَخْبِرًا أَوْ مُلْتَمِسًا الْإِنْشَاءَ، كَمَا قَدْ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ، لِأَنَّا ذَكَرْنَا فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ مُبْتَدِئًا: لَسْتِ بِزَوْجَةٍ لِي، كَانَ كِنَايَةً عَلَى الْأَصَحِّ، وَذَكَرُوا وَجْهَيْنِ، فِي أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْإِقْرَارِ، أَمْ كِنَايَةٌ؟ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: هُوَ صَرِيحٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يُرِيدُ نَفْيَ فَائِدَةِ الزَّوْجَاتِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَلَهَا تَحْلِيفُهُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ طَلَاقَهَا. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ زَوْجَتُكَ مُشِيرًا إِلَيْهَا؟ فَقَالَ: لَا، فَهَذَا أَظْهَرُ فِي كَوْنِهِ إِقْرَارًا بِالطَّلَاقِ. فَرْعٌ قِيلَ: أَطَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِالطَّلَاقِ، لِاحْتِمَالِ التَّعْلِيقِ، أَوِ الْوَعْدِ بِالطَّلَاقِ، أَوْ خُصُومَةٍ تَئُولُ إِلَيْهِ، وَلَوْ فُسِّرَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، قُبِلَ. وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنْ ثَلَاثٍ، فَفُسِّرَ بِوَاحِدَةٍ قُبِلَ، وَإِنْ لَمْ يُفَسَّرْ بِشَيْءٍ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنْ ثَلَاثٍ، لَزِمَهُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَ عَنْ وَاحِدَةٍ، فَلَا، لِأَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا طَلَاقَ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ نَظَرٌ.

فصل

قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ، إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ بِهِ، سَوَاءٌ سُئِلَ عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ مُطْلَقًا، لِلِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ الْأَصْلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ أَكَلَ الزَّوْجَانِ تَمْرًا، وَخَلَطَا النَّوَى، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تُمَيِّزِي نَوَى مَا أَكَلْتِ عَنْ نَوَايِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوِ اخْتَلَطَتْ دَرَاهِمُهَا بِدَرَاهِمِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: تَخَلَّصَ مِنَ الْحِنْثِ بِأَنْ يُفَرِّقَهَا، بِحَيْثُ لَا يَلْتَقِي مِنْهَا نَوَاتَانِ، فَإِنْ أَرَادَ التَّمْيِيزَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّعْيِينُ، لَمْ يَتَخَلَّصْ بِذَلِكَ. وَفِي صُورَةِ الْإِطْلَاقِ، احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ تَعُدِّي الْجَوْزَ الَّذِي فِي هَذَا الْبَيْتِ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَ الْإِمَامُ: فِي طَرِيقِ الْبِرِّ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَأْخُذُ مِنْ عَدَدٍ تَسْتَيْقِنُهُ، وَتَزِيدُ وَاحِدًا حَتَّى تَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِهِ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُ أَنْ تَبْتَدِئَ مِنَ الْوَاحِدِ، وَتَزِيدَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الِاسْتِيقَانِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَاكْتَفَوْا عَلَى الْوَجْهَيْنِ بِذِكْرِ اللِّسَانِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا تَوَلِّيَ الْعَدِّ فِعْلًا، قَالَ: وَلَسْتُ أَرَى الْأَمْرَ كَذَلِكَ. فَرْعٌ فِي فَمِهَا تَمْرَةٌ، فَقَالَ: إِنِ ابْتَلَعْتِهَا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ قَذَفْتِهَا، فَأَنْتَ طَالِقٌ، وَإِنْ أَمْسَكْتِهَا، فَأَنْتَ طَالِقٌ، فَتَخَلَّصَ مِنَ الْحِنْثِ أَنْ تَأْكُلَ بَعْضَهَا، وَتَقْذِفَ بَعْضَهَا، هَذَا إِذَا وَقَعَ التَّعْلِيقُ بِالْإِمْسَاكِ، آخِرًا كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ اتَّصَلَ أَكْلُ الْبَعْضِ بِآخِرِ التَّعْلِيقِ، فَلَوْ وُجِدَ مَكَثٌ، فَقَدْ حَصَلَ الْإِمْسَاكُ، وَلَوْ عَلَّقَ بِالْإِمْسَاكِ أَوَّلًا، وَأَكَلَتِ الْبَعْضَ بَعْدَ تَمَامِ الْأَيْمَانِ، كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِ الْإِمْسَاكِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتِهَا

، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ لَمْ تَأْكُلِيهَا [فَأَنْتِ طَالِقٌ] فَلَا خَلَاصَ بِأَكْلِ الْبَعْضِ، فَإِنْ فَعَلَتْهُ، حَنِثَ فِي يَمِينِ عَدَمِ الْأَكْلِ، وَلَوْ عَلَّقَ عَلَى الْأَكْلِ، فَابْتَلَعَتْ، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: ابْتَلَعَ، وَلَمْ يَأْكُلْ، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي. فَرْعٌ كَانَتْ تَصْعَدُ سُلَّمًا، فَقَالَ: إِنْ نَزَلْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ صَعِدْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ مَكَثْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَيَحْصُلُ الْخَلَاصُ بِالطَّفْرَةِ إِنْ أَمْكَنَتْهَا، وَبِأَنْ تُحْمَلَ فَيُصْعَدَ بِهَا أَوْ تَنْزِلَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ بِغَيْرِ أَمْرِهَا، وَتَتَخَلَّصُ أَيْضًا بِأَنْ تُضْجِعَ السُّلَّمَ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ عَلَيْهِ، وَتَقُومُ مِنْ مَوْضِعِهَا، وَبِأَنْ يَكُونَ بِجَنْبِهِ سُلَّمٌ آخَرُ فَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، فَإِنْ مَضَى فِي نَصْبِ سُلَّمٍ آخَرَ زَمَانٌ، حَنِثَ فِي يَمِينِ الْوُقُوفِ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ أَكَلْتِ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ، أَوْ إِنْ أَكَلْتِ رُمَّانَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَكَلَتْهَا إِلَّا حَبَّةً، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: أَكَلَ رُمَّانَةً، فَيُقَالُ أَيْضًا: لَمْ يَأْكُلْ كُلَّ الرُّمَّانَةِ، وَلَوْ عَلَّقَ بِأَكْلِ رَغِيفٍ، فَأَكَلَتْهُ إِلَّا فُتَاتًا، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يَحْنَثُ كَحَبَّةِ الرُّمَّانِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ بَقِيَ قِطْعَةٌ تُحَسُّ، وَيُجْعَلُ لَهَا مَوْقِعٌ، لَمْ يَحْنَثْ، وَرُبَّمَا ضَبَطَ ذَلِكَ بِأَنْ يُسَمَّى قِطْعَةَ خُبْزٍ، وَإِنْ دُقَّ مُدْرَكُهُ، لَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ فِي بِرٍّ وَلَا حِنْثٍ، قَالَ: وَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ عِنْدِي فِي حُكْمِ الْعُرْفِ، وَالْوَجْهُ: تَنْزِيلُ إِطْلَاقِ الْقَاضِي عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.

فَرْعٌ قَالَ: إِنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ حَبَّاتِ هَذِهِ الرُّمَّانَةِ قَبْلَ كَسْرِهَا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ مَا فِي هَذَا الْبَيْتِ مِنَ الْجَوْزِ الْيَوْمَ، أَوْ إِنْ لَمْ تَذْكُرِي لِي ذَلِكَ، فَأَنْتَ طَالِقٌ، قَالَ الْأَصْحَابُ: يَتَخَلَّصُ بِأَنْ تَبْتَدِئَ مِنْ عَدَدٍ تَسْتَيْقِنُ أَنَّ الْحَبَّاتَ أَوِ الْجَوْزَ لَا تَنْقُصُ عَنْهُ، وَتَذْكُرُ الْأَعْدَادَ بَعْدُ مُتَوَالِيَةً بِأَنْ تَقُولَ: مِائَةٌ، مِائَةٌ وَوَاحِدٌ، مِائَةٌ وَاثْنَانِ، وَهَكَذَا [إِلَى أَنْ] تَنْتَهِيَ إِلَى عَدَدٍ تَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَتَكُونُ مُخْبِرَةً عَنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ وَذَاكِرَةً لَهُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَقْصِدُ التَّعْيِينَ وَالتَّعْرِيفَ، وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ كَمَا سَبَقَ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الصُّورَةِ، مَا إِذَا أَكَلَ تَمْرًا، وَقَالَ: إِنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ مَا أَكَلْتُ، فَأَنْتَ طَالِقٌ. وَمَا إِذَا اتَّهَمَهَا بِسَرِقَةٍ، وَقَالَ: إِنْ لَمْ تَصْدُقِينِي أَسَرَقْتِ أَمْ لَا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَتَقُولُ: سَرَقْتُ وَمَا سَرَقْتُ. فَرْعٌ وَقَعَ حَجَرٌ مِنْ سَطْحٍ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تُخْبِرِينِي السَّاعَةَ مَنْ رَمَاهُ، فَأَنْتَ طَالِقٌ، فَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهَا إِنْ قَالَتْ: رَمَاهُ مَخْلُوقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ قَالَتْ: رَمَاهُ آدَمِيٌّ، طُلِّقَتْ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَمَاهُ كَلْبٌ أَوِ الرِّيحُ، لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْحِنْثِ، وَشَكَكْنَا فِي الْمَانِعِ، وَشَبَّهَهُ بِمَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ الْيَوْمَ، فَمَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يَعْرِفْ مَشِيئَتَهُ، فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ سَبَقَ.

فَرْعٌ قَالَ لِثَلَاثِ نِسْوَةٍ: مَنْ لَمْ تُخْبِرْنِي مِنْكُنَّ بِعَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَهِيَ طَالِقٌ، فَقَالَتْ وَاحِدَةٌ: سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقَالَتْ أُخْرَى: خَمْسَ عَشْرَةَ، وَثَالِثَةٌ: إِحْدَى عَشْرَةَ، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، فَالْأَوَّلُ مَعْرُوفٌ، وَالثَّانِي يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالثَّالِثُ فِي السَّفَرِ، قَالَهُ الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي. فَرْعٌ قَالَ: كُلُّ كَلِمَةٍ كَلَّمْتِينِي بِهَا إِنْ لَمْ أَقُلْ مِثْلَهَا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ تَقُولِينَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ تَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا مِنْ وِثَاقٍ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَوْ قَالَتْ لَهُ: إِذَا قُلْتُ لَكَ: طَلِّقْنِي مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: أَقُولُ: طَلَّقَتُكِ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَمَّا يَفْعَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَرْعٌ فِي يَدِهَا كُوزُ مَاءٍ، فَقَالَ: إِنْ قَلَبْتِ هَذَا الْمَاءَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ تَرَكْتِيهِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ شَرِبْتِيهِ أَنْتِ أَوْ غَيْرُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَلَاصُهَا بِأَنْ تَضَعَ فِيهِ خِرْقَةً فَتَبُلُّهَا بِهِ. فَرْعٌ قَالَ لَهَا وَهِيَ فِي مَاءٍ جَارٍ: إِنْ خَرَجْتِ مِنْهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ مَكَثْتِ فِيهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا تُطَلَّقُ خَرَجَتْ أَمْ مَكَثَتْ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ فَارَقَهَا

فصل

بِجَرَيَانِهِ، وَفِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ بِسَبَبِ الْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ رَاكِدًا، فَالطَّرِيقُ أَنْ يَحْمِلَهَا إِنْسَانٌ فِي الْحَالِ. فَرْعٌ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّعْلِيقَاتِ إِلَى وَضْعِ اللِّسَانِ، وَإِلَى مَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ فِي الْعُرْفِ الْغَالِبِ، فَإِنْ تَطَابَقَ الْعُرْفُ وَالْوَضْعُ، فَذَاكَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا، فَكَلَامُ الْأَصْحَابِ يَمِيلُ إِلَى اعْتِبَارِ الْوَضْعِ، وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ يَرَيَانِ اتِّبَاعَ الْعُرْفِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ أَمْثِلَةُ هَذَا. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَجْرِي فِي مُخَاصَمَةِ الزَّوْجَيْنِ وَمُشَاتَمَتِهِمَا وَأَغْلَبُ مَا تَقَعُ إِذَا وَاجَهَتْ زَوْجَهَا بِمَكْرُوهٍ، فَيَقُولُ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَافَأَةِ: إِنْ كُنْتِ كَذَلِكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، يُرِيدُ أَنْ يَغِيظَهَا بِالطَّلَاقِ كَمَا غَاظَتْهُ بِالشَّتْمِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: تَزْعُمِينَ أَنِّي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا قَالَتْ لَهُ: يَا خَسِيسُ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ كَذَلِكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، نُظِرَ، إِنْ أَرَادَ الْمُكَافَأَةَ كَمَا ذَكَرْنَا، طُلِّقَتْ، سَوَاءٌ كَانَ خَسِيسًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِوُجُودِ الْخِسَّةِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ: الْخَسِيسُ: مَنْ بَاعَ دِينَهُ بِدُنْيَاهُ، وَأَخَسُّ الْأَخِسَّاءِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: الْخَسِيسُ: مَنْ يَتَعَاطَى فِي الْعُرْفِ مَا لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ لِشِدَّةِ بُخْلِهِ، فَإِنْ شَكَّ فِي وُجُودِ الصِّفَةِ - وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي مَسَائِلِ الشَّتْمِ وَالْإِيذَاءِ - فَالْأَصْلُ أَنْ لَا طَلَاقَ، وَإِنْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ وَلَمْ يَقْصَدِ الْمُكَافَأَةَ، وَلَا حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، فَهُوَ لِلتَّعْلِيقِ. فَإِنْ عَمَّ الْعُرْفُ بِالْمُكَافَأَةِ، كَانَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي أَنَّهُ يُرَاعِي الْوَضْعَ أَوِ الْعُرْفَ، وَالْأَصَحُّ وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ، فَإِنَّ الْعُرْفَ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَأَجَابَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِمُقْتَضَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَلَوْ قَالَتْ: يَا سَفِيهُ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ كَذَلِكَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ قَصَدَ الْمُكَافَأَةَ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ، طُلِّقَتْ إِنْ كَانَ سَفِيهًا، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى الْخِلَافِ،

وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ السَّفَهُ عَلَى مَا يُوجِبُ الْحَجْرَ، وَعَلَى هَذَا نَظَائِرُ مَا يَقَعُ بِهِ الشَّتْمُ وَالْإِيذَاءُ. وَتَكَلَّمُوا فِي كَلِمَاتٍ يَدْخُلُ بَعْضُهَا فِي حَدِّ الْإِفْحَاشِ، فَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّ الْقَوَّادَ: مَنْ يَحْمِلُ الرِّجَالَ إِلَى أَهْلِهِ وَيُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَهْلِ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِالْأَهْلِ، بَلْ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْحَرَامِ، وَأَنَّ الْقَرْطَبَانَ: الَّذِي يَعْرِفُ مَنْ يَزْنِي بِزَوْجَتِهِ وَيَسْكُتُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قَلِيلَ الْحَمِيَّةِ: مَنْ لَا يَغَارُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَحَارِمِهِ، وَأَنَّ الْقَلَّاشَ: الذَّوَّاقُ، وَهُوَ مَنْ يُوهِمُ أَنَّهُ يَشْتَرِي الطَّعَامَ لِيَذُوقَهُ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ، وَأَنَّ الدَّيُّوثَ: مَنْ لَا يَمْنَعُ النَّاسَ الدُّخُولَ عَلَى زَوْجَتِهِ. وَفِي «الرَّقْمِ» لِلْعَبَّادِيِّ: أَنَّهُ الَّذِي يَشْتَرِي جَارِيَةً تُغَنِّي لِلنَّاسِ، وَأَنَّ الْبَخِيلَ: مَنْ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَلَا يَقْرِي الضَّيْفَ فِيمَا قِيلَ، وَأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: يَا زَوْجَ الْقَحْبَةِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ زَوْجَتِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهِيَ طَالِقٌ، فَإِنْ قَصَدَ التَّخَلُّصَ مِنْ عَارِهَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ قَصَدَ الْمُكَافَأَةَ، وَإِلَّا فَهُوَ تَعْلِيقٌ، فَيُنْظَرُ: هَلْ هِيَ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمْ لَا؟ قُلْتُ: الْقَحْبَةُ: هِيَ الْبَغِيُّ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا فِي الْخُصُومَةِ: إِيشْ تَكُونِينَ أَنْتِ، فَقَالَتْ: وَإِيشْ تَكُونُ أَنْتَ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ أَكُنْ مِنْكِ بِسَبِيلٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَهُوَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ، وَإِنْ قَصَدَ الْمُغَايَظَةَ وَالْمُكَافَأَةَ، طُلِّقَتْ. وَالْمَقْصُودُ إِيقَاعُ الْفُرْقَةِ وَقَطْعِ مَا بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهَا لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يُحْكَمْ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا طُلِّقَتْ فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، تَبَيَّنَّا

أَنَّهَا لَمْ تُطَلَّقْ. وَلَوْ قَالَتْ: يَا سَفِلَةُ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ كَذَلِكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ: الْأَوْلَى أَنَّهُ الَّذِي يَتَعَاطَى الْأَفْعَالَ الدَّنِيئَةَ وَيَعْتَادُهَا، وَلَا يَقَعُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَتَّفِقُ مِنْهُ نَادِرًا، كَاسْمِ الْكَرِيمِ، وَالسَّيِّدِ فِي نَقِيضِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّظَرَ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى التَّعْلِيقِ، فَأَمَّا إِذَا حُمِلَ عَلَى الْمُكَافَأَةِ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ. فَرْعٌ الْكَوْسَجُ: مَنْ قَلَّ شَعْرُ وَجْهِهِ مَعَ انْحِسَارِ الشَّعْرِ عَنْ عَارِضَيْهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ الَّذِي عَدَدُ أَسْنَانِهِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ. فَرْعٌ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ: الْغَوْغَاءُ: مَنْ يُخَالِطُ الْمُفْسِدِينَ وَالْمُنْحَرِفِينَ، وَيُخَاصِمُ النَّاسَ بِلَا حَاجَةٍ. قَالَ: وَالْأَحْمَقُ: مَنْ نَقَصَتْ مَرْتَبَةُ أُمُورِهِ وَأَحْوَالِهِ عَنْ مَرَاتِبِ أَمْثَالِهِ نَقْصًا بَيِّنًا بِلَا مَرَضٍ وَلَا سَبَبٍ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» فِي بَابِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: الْأَحْمَقُ: مَنْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِقُبْحِهِ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَ «الْبَيَانِ» أَنَّهُ مَنْ يَعْمَلُ مَا يَضُرُّهُ مَعَ عِلْمِهِ بِقُبْحِهِ. وَفِي «الْحَاوِي» : أَنَّهُ مَنْ يَضَعُ كَلَامَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَيَأْتِي بِالْحَسَنِ فِي مَوْضِعِ الْقَبِيحِ، وَعَكْسُهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ: الْأَحْمَقُ: مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَتْ: يَا جَهُودَرْوِيُّ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ كَذَلِكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَصَدَ التَّعْلِيقَ، قَالَ

فصل

الْإِمَامُ: وَقَعَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْفَتَاوَى، وَأَكْثَرُوا فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَقِيلَ: هِيَ صُفْرَةُ الْوَجْهِ، وَقِيلَ: الذِّلَّةُ وَالْخَسَاسَةُ، وَكَانَ جَوَابُنَا فِيهِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : وَفِيهِ نَظَرٌ. فَرْعٌ لَوْ تَخَاصَمَ الزَّوْجَانِ، فَقَالَ أَبُوهَا لِلزَّوْجِ: لِمَ تُحَرِّكُ لِحْيَتَكَ فَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَهَا كَثِيرًا؟ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذِهِ اللِّحْيَةِ كَثِيرًا، فَابْنَتُكَ طَالِقٌ، فَهَذِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الرُّجُولِيَّةِ وَالْفُتُوَّةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى الْمُكَافَأَةِ، طُلِّقَتْ، وَإِلَّا فَلَا لِكَثْرَةِ الْأَمْثَالِ. فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ نُسِبَ إِلَى فِعْلٍ سَيِّئٍ كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ، فَقَالَ: مَنْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَكَانَ ذَلِكَ فِعْلَهُ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعْ طَلَاقًا، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ ذَمُّ مَنْ يَفْعَلُهُ، وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: سَرَقْتِ أَوْ زَنَيْتِ، فَقَالَتْ: لَمْ أَفْعَلْ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتِ سَرَقْتِ أَوْ زَنَيْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، حُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ بِإِقْرَارِهِ السَّابِقِ. فَصْلٌ قَالَ: إِنْ خَالَفْتِ أَمْرِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُكَلِّمِي زَيْدًا، فَكَلَّمَتْهُ، قَالُوا: لَا تُطَلَّقُ لِأَنَّهَا خَالَفَتِ النَّهْيَ دُونَ الْأَمْرِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ خَالَفْتِ نَهْيِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: قُومِي، فَقَعَدَتْ، وَقَعَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ [عَنْ] أَضْدَادِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ، إِذْ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ فِيمَا يَخْتَارُهُ. وَإِنْ كَانَ، فَالْيَمِينُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى اللُّغَةِ أَوِ الْعُرْفِ، لَكِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى نَظَرٌ بِسَبَبِ الْعُرْفِ.

فصل

فَصْلٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى حِينٍ أَوْ زَمَانٍ، أَوْ بَعْدَ حِينٍ، طُلِّقَتْ بِمُضِيِّ لَحْظَةٍ؟ وَلَوْ قَالَ: إِذَا مَضَى حُقْبٌ أَوْ عَصْرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ الْأَصْحَابُ: يَقَعُ بِمُضِيِّ لَحْظَةٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ لَا وَجْهَ لَهُ. فَصْلٌ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالضَّرْبِ، طُلِّقَتْ إِذَا حَصَلَ الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ أَوِ الْوَكْزِ أَوِ اللَّكْزِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ حَائِلٌ، وَيُشْتَرَطُ الْإِيلَامُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ، بَلْ تَكْفِي الصَّدْمَةُ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْإِمَامُ، وَقَالَ: الْإِيلَامُ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي، فَإِنَّهُ لَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ حَجَرًا ثَقِيلًا، فَانْصَدَمَ تَحْتَهُ، لَمْ يَكُنْ ضَرْبًا وَإِنْ آلَمَ. قَالَ: وَالصَّدْمُ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي، فَإِنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِأُنْمُلَةٍ، لَا يُقَالُ: ضَرَبَهُ، وَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الضَّرْبِ الصَّدْمَ بِمَا يُؤْلِمُ، أَوْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ إِيلَامٌ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ مَيِّتًا، وَشَذَّ الرُّويَانِيُّ فَحَكَى فِيهِ خِلَافًا، وَالْعَضُّ وَقَطْعُ الشَّعْرِ لَا يُسَمَّى ضَرْبًا، فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَتَوَقَّفَ الْمُزَنِيُّ فِي الْعَضِّ. فَصْلٌ عَلَّقَ بِالْمَسِّ، طُلِّقَتْ بِمَسِّ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا بِلَا حَائِلٍ، وَلَا يَقَعُ بِمَسِّ الظُّفْرِ وَالشَّعْرِ. قَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ الْقَطْعُ بِهَذَا وَإِنْ أَثْبَتْنَا خِلَافًا فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ، وَالْأَشْبَهُ مَجِيءُ الْخِلَافِ. فَصْلٌ عَلَّقَ بِقُدُومِ زَيْدٍ، طُلِّقَتْ إِذَا قَدِمَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا، وَإِنْ قُدِمَ بِهِ مَيِّتًا لَمْ

فصل

تُطَلَّقُ، وَإِنْ حُمِلَ وَقُدِمَ بِهِ حَيًّا، إِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ، طُلِّقَتْ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْمَذْهَبِ. فَصْلٌ عَلَّقَ بِقَذْفِ زِيدٍ، طُلِّقَتْ بِقَذْفِهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، فَلَوْ قَالَ: إِنْ قَذَفْتِ فُلَانًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَالْمُعْتَبَرُ كَوْنُ الْقَاذِفِ فِي الْمَسْجِدِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ قَتَلْتِهِ فِي الْمَسْجِدِ، اشْتَرَطَ كَوْنَ الْمَقْتُولِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِامْتِنَاعُ مِمَّا يَهْتِكُ [حُرْمَةَ] الْمَسْجِدِ، وَهَتْكُ الْحُرْمَةِ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا كَانَ الْقَاذِفُ وَالْمَقْتُولُ فِيهِ دُونَ عَكْسِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الْعَكْسَ، قُبِلَ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ قَذَفْتِ أَوْ قَتَلْتِ فُلَانًا فِي الدَّارِ، سُئِلَ عَمَّا أَرَادَ. فَصْلٌ قَالَ: إِنْ رَأَيْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَرَأَتْهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا أَوْ نَائِمًا، طُلِّقَتْ وَإِنْ كَانَ الرَّائِي أَوِ الْمَرْئِيُّ مَجْنُونًا أَوْ سَكْرَانَ، ثُمَّ يَكْفِي رُؤْيَةُ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ وَإِنْ قَلَّ، وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ الْوَجْهُ. وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ مَسْتُورًا بِثَوْبٍ، أَوْ رَأَتْهُ فِي الْمَنَامِ لَمْ تُطَلَّقْ، وَلَوْ رَأَتْهُ وَهُوَ فِي مَاءٍ صَافٍ لَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ أَوْ مِنْ وَرَاءِ زُجَاجٍ شَفَّافٍ، طُلِّقَتْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ نَظَرَتْ فِي الْمِرْآةِ أَوْ فِي الْمَاءِ فَرَأَتْ صُورَتَهُ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ لِلْإِمَامِ. وَلَوْ قَالَ لِلْعَمْيَاءِ: إِنْ رَأَيْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ الْإِمَامُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِمُسْتَحِيلٍ، فَلَا يَقَعُ، وَفِي وَجْهٍ: يُحْمَلُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِي مَجْلِسٍ، لِأَنَّ الْأَعْمَى يَقُولُ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ زَيْدًا، وَيُرِيدُ الْحُضُورَ عِنْدَهُ. فَرْعٌ عَلَّقَ بِرُؤْيَتِهِ أَوْ رُؤْيَتِهَا الْهِلَالَ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعِلْمِ، فَرُؤْيَةُ غَيْرِ الْمُعَلَّقِ بِرُؤْيَتِهِ [كَرُؤْيَتِهِ] وَتَمَامُ الْعَدَدِ كَرُؤْيَتِهِ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُرَ الْهِلَالُ.

فصل

وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُعَايَنَةَ، دُيِّنَ وَيُقْبَلُ أَيْضًا ظَاهِرًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِرُؤْيَتِهِ أَعْمَى، لَمْ يُقْبَلِ التَّفْسِيرُ بِالْمُعَايَنَةِ فِي الظَّاهِرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا قَوْلَيْنِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِرُؤْيَةِ الْغَيْرِ، هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ عَلَّقَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَوْ عَلَّقَ بِالْعَجَمِيَّةِ، فَعَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُعَايَنَةِ، سَوَاءٌ فِيهِ الْبَصِيرُ وَالْأَعْمَى، وَادَّعَى أَنَّ الْعُرْفَ الشَّرْعِيَّ فِي حَمْلِ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْعِلْمِ، لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمَنَعَ الْإِمَامُ الْفَرْقَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَجْهٌ: أَنَّهُ يُحْمَلُ فِي حَقِّ الْأَعْمَى عَلَى الْعِلْمِ. وَإِذَا أَطْلَقَ التَّعْلِيقَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، حُمِلَ عَلَى أَوَّلِ شَهْرٍ يَسْتَقْبِلُهُ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَرَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا صُرِّحَ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ فُسِّرَ بِهَا وَقَبِلْنَاهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالرُّؤْيَةُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، كَهِيَ فِي الْأُولَى، وَلَا أَثَرَ لَهَا بَعْدَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى هِلَالًا بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَفِي «الْمُهَذَّبِ» : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرَهُ حَتَّى صَارَ قَمَرًا، لَمْ تُطَلَّقْ، وَحَكَى خِلَافًا فِيمَا يَصِيرُ بِهِ قَمَرًا، هَلْ هُوَ بِاسْتِدَارَتِهِ، أَمْ بِأَنْ يَبْهَرَ ضَوْءُهُ؟ قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ «الْمُهَذَّبِ» ، مَذْكُورٌ فِي «الْحَاوِي» ، وَفِيمَا تَفَرَّعَ عَنْهُ، وَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُعْتَبَرُ الرُّؤْيَةُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَا أَثَرَ لِلرُّؤْيَةِ قَبْلَهُ. فَصْلٌ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَكَلَّمَتْهُ وَهُوَ سَكْرَانُ أَوْ مَجْنُونٌ طُلِّقَتْ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ السَّكْرَانُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ وَيُكَلِّمُ، وَإِنْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ هَذَتْ بِكَلَامِهِ فِي نَوْمِهَا وَإِغْمَائِهَا لَمْ تُطَلَّقْ. وَلَوْ كَلَّمَتْهُ

فصل

وَهِيَ مَجْنُونَةٌ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَا تُطَلَّقُ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ. وَالظَّاهِرُ تَخْرِيجُهُ عَلَى حِنْثِ النَّاسِي وَأَمَّا كَلَامُهَا فِي سُكْرِهَا، فَتُطَلَّقُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، إِلَّا إِذَا انْتَهَتْ إِلَى السَّكْرَانِ الطَّافِحِ. وَلَوْ خَفَضَتْ صَوْتَهَا بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ وَهُوَ الْهَمْسُ، لَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ وَقَعَ فِي سَمْعِهِ شَيْءٌ وَفَهِمَ الْمَقْصُودَ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: كَلَّمَتْهُ، وَلَوْ نَادَتْهُ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ لَا يُسْمَعُ مِنْهَا الصَّوْتُ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَلَوْ حَمَلَتِ الرِّيحُ كَلَامَهَا وَوَقَعَ فِي سَمْعِهِ، فَقَدْ أَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى تَرَدُّدٍ فِيهِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ. وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بِحَيْثُ يُسْمَعُ فِيهَا الصَّوْتُ، فَلَمْ يَسْمَعْ لِذُهُولٍ أَوْ شَغْلٍ طُلِّقَتْ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ لِعَارِضِ لَغَطٍ أَوْ رِيحٍ، أَوْ لِصَمَمٍ بِهِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ، وَبِهِ أَجَابَ الرُّويَانِيُّ، وَكَذَا الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي صُورَةِ اللَّغَطِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: لَا طَلَاقَ حَتَّى يَرْتَفِعَ الصَّوْتُ بِقَدْرِ مَا يَسْمَعُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ مَعَ ذَلِكَ الْعَارِضِ، فَحِينَئِذٍ يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَرَأَى الْإِمَامُ الْقَطْعَ بِالْوُقُوعِ إِذَا كَانَ اللَّغَطُ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ مَعَهُ الْإِصْغَاءُ لَأَمْكَنَ السَّمَاعُ، وَكَذَا فِي تَكْلِيمِ الْأَصَمِّ إِذَا كَانَ وَجَّهَهُ إِلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُكَلِّمُهُ، وَقَطَعَ الْحَنَّاطِيُّ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ إِذَا كَانَ الصُّمُّ بِحَيْثُ يَمْنَعُ السَّمَاعَ، وَحَكَى قَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ كَلَّمَتْ نَائِمًا أَوْ غَائِبًا عَنِ الْبَلَدِ، هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي التَّعْلِيقِ بِالْمُسْتَحِيلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا تُطَلَّقُ حَتَّى تُخَاطِبَهُ مُخَاطَبَةَ الْمُكَلِّمِينَ، وَبِنَحْوٍ مِنْهُ أَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ كَلَّمَتْ مَيِّتًا أَوْ حِمَارًا. فَصْلٌ إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِ شَيْءٍ، فَفَعَلَهُ وَهُوَ مُكْرَهٌ، أَوْ نَاسٍ لِلتَّعْلِيقِ، أَوْ جَاهِلٌ بِهِ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَوْلَانِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْأَيْمَانِ، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ

مِثْلَهُ. وَقَطَعَ الْقَفَّالُ بِأَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْأَيْمَانِ، لِأَنَّ التَّعْوِيلَ فِي الْأَيْمَانِ عَلَى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحِنْثُ هَتْكُ حُرْمَةٍ، وَالنَّاسِي وَالْمَكْرُوهُ غَيْرُ مُنْتَهِكٍ، وَالطَّلَاقُ تَعْلِيقٌ بِصِفَةٍ، وَقَدْ وُجِدَتْ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. قُلْتُ: قَدْ رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُحَرَّرِ أَيْضًا عَدَمَ الْحِنْثِ فِي الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْحَدِيثِ الْحَسَنِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ عَامٌّ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِهِ، إِلَّا فِيمَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ، كَغَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ عُلِّقَ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُعَلَّقِ بِفِعْلِهِ شُعُورٌ بِالتَّعْلِيقِ، وَلَمْ يَقْصِدِ الزَّوْجُ إِعْلَامَهُ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُبَالِي بِتَعْلِيقِهِ، بِأَنْ عَلَّقَ بِقُدُومِ الْحَجِيجِ أَوِ السُّلْطَانِ، طُلِّقَتْ بِفِعْلِهِ فِي حَالَتَيِ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: إِنْ فَعَلَهُ مُكْرَهًا، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، فَكَأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِفِعْلِهِ عَالِمًا بِالتَّعْلِيقِ، وَهُوَ مِمَّنْ يُبَالِي بِتَعْلِيقِهِ، وَقَصَدَ الْمُعَلِّقُ بِالتَّعْلِيقِ مَنْعَهُ، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ جَاهِلًا، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. وَلَوْ قَصَدَ مَنْعَهَا مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَنَسِيَتْ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا تُطَلَّقُ قَطْعًا لِعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُرَاعَى مَعْنَى التَّعْلِيقِ وَيُطْرَدَ الْخِلَافُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ عَكْسُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَمْدًا وَلَا نَاسِيًا، فَدَخَلَ نَاسِيًا، فَنَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: أَنَّهُ يَحْنَثُ بِلَا خِلَافٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ عَلَّقَ بِدُخُولِ طِفْلٍ أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ سِنَّوْرٍ، فَدَخَلَ، طُلِّقَتْ، قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: وَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ، وَإِنْ حَصَلَ دُخُولُهُمْ كُرْهًا، لَمْ تُطَلَّقْ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ الْوُقُوعُ، إِذْ لَا قَصْدَ لَهُمْ، فَلَا أَثَرَ لِإِكْرَاهِهِمْ.

فصل

قُلْتُ: ذَكَرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مُتَعَلِّقَةٌ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، فَقَدَّمْتُ مِنْهَا جُمَلًا وَفَرَّقْتُهَا عَلَى مَوَاضِعَ تَلِيقُ بِهَا مِمَّا سَبَقَ، وَأَذْكُرُ هُنَا بَاقِيَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: إِنْ لَمْ أَطَأْ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ الْيَوْمَ، فَصَوَاحِبُهَا طَوَالِقُ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةً طَلْقَةً. وَإِنْ قَالَ: أَيَّتُكُنَّ لَمْ أَطَأْهَا الْيَوْمَ، فَإِنَّ الْأُخْرَيَاتِ طَوَالِقُ، فَمَضَى الْيَوْمَ، وَلَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً، طُلِّقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً فَقَطْ، طُلِّقَتْ هِيَ ثَلَاثًا، لِأَنَّ لَهَا ثَلَاثَ صَوَاحِبَ لَمْ يَطَأْهُنَّ، وَطُلِّقَتِ الْبَاقِيَاتُ طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ لَهَا صَاحِبَتَيْنِ لَمْ يَطَأْهُمَا، وَلَوْ وَطِئَ امْرَأَتَيْنِ، طُلِّقَتَا طَلْقَتَيْنِ، وَطُلِّقَتِ الْأُخْرَيَانِ طَلْقَةً طَلْقَةً. وَلَوْ وَطِئَ ثَلَاثًا طُلِّقْنَ طَلْقَةً طَلْقَةً، وَلَمْ تُطَلَّقِ الرَّابِعَةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا صَاحِبَةٌ غَيْرُ مَوْطُوءَةٍ. وَلَوْ قَالَ: أَيَّتُكُنَّ لَمْ أَطَأْهَا فَالْأُخْرَيَاتُ طَوَالِقُ، وَلَمْ يُقَيِّدْ بِوَقْتٍ، فَجَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتٌ لَهُ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ مُتْنَ قَبْلَ الْوَطْءِ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا قُبَيْلَ الْمَوْتِ، وَإِنْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ وَالزَّوْجُ حَيٌّ، لَمْ يُحْكَمْ بِطَلَاقِ الْمَيِّتَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَطَأُ الْبَاقِيَاتِ وَيُطَلِّقُ الْبَاقِيَاتِ طَلْقَةً طَلْقَةً. فَلَوْ مَاتَتْ ثَانِيَةٌ قَبْلَ الْوَطْءِ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ طَلْقَةٍ عَلَى الْأُولَى قُبَيْلَ مَوْتِهَا، وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَاقِيَتَيْنِ طَلْقَةً أُخْرَى إِنْ بَقِيَتَا فِي الْعِدَّةِ. فَإِنْ مَاتَتِ الثَّالِثَةُ قَبْلَ الْوَطْءِ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ طَلْقَتَيْنِ عَلَى الْأُولَيَيْنِ قُبَيْلَ مَوْتِهِمَا، وَطُلِّقَتِ الْبَاقِيَةُ طَلْقَةً ثَالِثَةً، فَإِنْ مَاتَتِ الرَّابِعَةُ قَبْلَ الْوَطْءِ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الثَّلَاثِ عَلَى الْجَمِيعِ. فَصْلٌ قَالَ: إِنْ سَرَقْتِ مِنِّي شَيْئًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَفَعَ إِلَيْهَا كِيسًا، فَأَخَذَتْ مِنْهُ شَيْئًا، لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّهُ خِيَانَةٌ لَا سَرِقَةٌ.

فَرْعٌ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ أَعَادَ مَرَّةً أُخْرَى، طُلِّقَتْ. وَإِنْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَاعْلَمِي، طُلِّقَتْ بِقَوْلِهِ: فَاعْلَمِي وَقِيلَ: إِنْ وَصَلَهُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهُ تَتِمَّتُهُ. وَإِنْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَالتَّعْلِيقُ الثَّانِي تَكْلِيمٌ، فَتُطَلَّقُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ بَدَأْتُكِ بِالْكَلَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: إِنْ بَدَأْتُكَ بِالْكَلَامِ فَعَبْدِي حُرٌّ، ثُمَّ كَلَّمَهَا، ثُمَّ كَلَّمَتْهُ، فَلَا طَلَاقَ، وَلَا عِتْقَ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: إِنْ بَدَأْتُكَ بِالسَّلَامِ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ بَدَأْتُكَ بِالسَّلَامِ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَسَلَّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لَمْ يُعْتَقْ عَبْدٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِعَدَمِ ابْتِدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، فَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْ عَبْدَيْهِمَا، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ. فَرْعٌ قَالَ الْمَدِينُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ: إِنْ أَخَذْتَ مَالَكَ عَلَيَّ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، فَأَخَذَهُ مُخْتَارًا، طُلِّقَتِ امْرَأَةُ الْمَدِينِ، سَوَاءٌ كَانَ مُخْتَارًا فِي الْإِعْطَاءِ أَوْ مُكْرَهًا، وَسَوَاءٌ أَعْطَى بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ، أَوِ اسْتَلَبَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَكَذَا لَوْ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ وَدَفَعَهُ إِلَيْهِ. وَفِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِذَا أَخَذَهُ السُّلْطَانُ وَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَهُ السُّلْطَانُ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَدِينِ، وَصَارَ الْمَأْخُوذُ حَقًّا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَلَا يَبْقَى لَهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِيرُ بِأَخْذِهِ مِنَ السُّلْطَانِ آخِذًا حَقَّهُ مِنَ الْمَدِينِ، وَلَوْ قَضَى عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ. قَالَ الدَّارَكِيُّ: لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ لَاحَقَهُ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَخَذْتَ حَقَّكَ مِنِّي، لَمْ تُطَلَّقْ بِإِعْطَاءِ وَكِيلِهِ، وَلَا بِإِعْطَاءِ السُّلْطَانِ مِنْ مَالِهِ.

فَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ حَتَّى أَعْطَى بِنَفْسِهِ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُكْرَهِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ، فَأَعْطَاهُ بِاخْتِيَارِهِ، طُلِّقَتْ، سَوَاءٌ كَانَ الْآخِذُ مُخْتَارًا فِي الْأَخْذِ أَمْ لَا، وَلَا تُطَلَّقُ بِإِعْطَاءِ الْوَكِيلِ وَالسُّلْطَانِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَرِيضَةً، بِالنَّصْبِ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا فِي حَالِ الْمَرَضِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَرِيضَةٌ، بِالرَّفْعِ، فَقِيلَ: تُطَلَّقُ فِي الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: مَرِيضَةٌ، صِفَةٌ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ الصَّبَّاغِ الْحَمْلَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَرَضِ حَمْلًا عَلَى الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ لَحْنًا فِي الْإِعْرَابِ. فَرْعٌ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إِنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، فَدَخَلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِحْدَى الدَّارَيْنِ، فَهَلْ تُطَلَّقَانِ، أَمْ لَا تُطَلَّقَانِ؟ وَجْهَانِ [وَإِنْ قَالَ] : إِنْ أَكَلْتُمَا هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ، وَأَكَلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَغِيفًا، تُطَلَّقَانِ، لِأَنَّهُمَا أَكْلَتَاهُمَا، وَلَا يُمْكِنُ أَكْلُ وَاحِدَةٍ مِنَ الرَّغِيفَيْنِ، بِخِلَافِ دُخُولِ الدَّارَيْنِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ فِي مَسْأَلَةِ الدَّارَيْنِ عَدَمُ الطَّلَاقِ، صَحَّحَهُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرُهُ، وَالْمَذْهَبُ فِي الرَّغِيفَيْنِ الْوُقُوعُ، وَطَرَدَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» فِيهِ الْوَجْهَيْنِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ تَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ أَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَانَ يَمْلِكُ خَمْسِينَ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ: لَا أَمْلِكُ زِيَادَةً

فصل

عَلَى مِائَةٍ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنِّي أَمْلِكُ مِائَةً بِلَا زِيَادَةٍ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ لَا تُطَلَّقُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ قَالَ: إِنْ كُنْتُ أَمْلِكُ إِلَّا مِائَةً، وَكَانَ يَمْلِكُ خَمْسِينَ، فَقَدْ قِيلَ: تُطَلَّقُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي بِفُرُوعِهَا فِي «كِتَابِ الْإِيمَانِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ إِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ إِلَى الْحَمَّامِ، ثُمَّ قَضَتْ حَاجَةً أُخْرَى، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ عَدَلَتْ إِلَى الْحَمَّامِ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ خَرَجَتْ إِلَى الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْوُقُوعُ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الشَّاشِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ خَرَجَتْ إِلَى دَارِ أَبِيهَا، فَقَالَ: إِنْ رَدَدْتُهَا إِلَى دَارِي أَوْ رَدَّهَا أَحَدٌ فَهِيَ طَالِقٌ، فَاكْتَرَتْ بَهِيمَةً وَعَادَتْ إِلَى دَارِهِ مَعَ الْمُكَارِي، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الْمُكَارِيَ لَمْ يَرُدَّهَا، بَلْ صَحِبَهَا. وَلَوْ عَادَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ فَرَدَّهَا الزَّوْجُ، لَمْ تُطَلَّقْ، إِذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. فَصْلٌ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي تَدْخُلُ الدَّارَ مِنْ نِسَائِي طَالِقٌ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ قَبْلَ

فصل

الدُّخُولِ. فَلَوْ أَشَارَ إِلَى وَاحِدَةٍ وَقَالَ: هَذِهِ الَّتِي تَدْخُلُ الدَّارَ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ، وَأَنَّهُ لَوِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَكَحَهَا فَأَنْكَرَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ، وَلَا يُجْعَلُ إِنْكَارُهُ طَلَاقًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: نَكَحْتُهَا وَأَنَا أَجِدُ طُولَ حُرَّةٍ، يُجْعَلُ ذَلِكَ فُرْقَةً بِطَلْقَةٍ، لِأَنَّ هُنَاكَ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ وَادَّعَى مُفْسِدًا. وَقِيلَ: يَتَلَطَّفُ بِهِ الْحَاكِمُ حَتَّى يَقُولَ: إِنْ كُنْتُ نَكَحْتُهَا فَقَدْ طَلَّقْتُهَا، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: حَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ، كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَدَاةُ تَعْلِيقٍ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ أَنْ لَا تَخَرُجِي، ثُمَّ قَالَ: مَا حَلَفْتُ، بَلْ قَصَدْتُ تَفْرِيعَهَا، لَا تُقْبَلُ ظَاهِرًا وَيُدَيَّنِ، وَأَنَّهَا لَوْ قَالَتِ: اجْعَلْ أَمْرَ طَلَاقِي بِيَدِي، فَقَالَ: إِنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَجْعَلُ أَمْرَ طَلَاقِكِ إِلَيْكِ، فَقَالَتْ: أَخْرُجُ. فَقَالَ: جَعَلْتُ أَمْرَكِ بِيَدِكِ، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الْقَرْيَةِ، صُدِّقَ، وَإِلَّا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ أَبْرَأْتِنِي مِنْ دَيْنِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَبْرَأَتْهُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَبْرَأْتِ فُلَانًا فَأَبْرَأَتْهُ، وَقَعَ رَجْعِيًّا. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَأُمِّ امْرَأَتِهِ: بِنْتُكِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ الْبِنْتَ الَّتِي لَيْسَتْ زَوْجَتِي، صُدِّقَ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتِ مَا لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ رِضًى فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَتَرَكَتْ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً، يَنْبَغِي أَنْ لَا تُطَلَّقَ، لِأَنَّهُ تَرْكٌ وَلَيْسَ بِفِعْلٍ، فَلَوْ سَرَقَتْ أَوْ زَنَتْ، طُلِّقَتْ. فَصْلٌ

فصل

عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، يَا طَالِقُ، لَا طَلَّقْتُكِ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ وَطَأْتُ أَمَتِي بِغَيْرِ إِذْنِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَاسْتَأْذَنَهَا، فَقَالَتْ: طَأْهَا فِي عَيْنِهَا، لَا يَكُونُ إِذْنًا. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَمَةٌ وَزَوْجَةٌ حُرَّةٌ، فَدَعَا الْأَمَةَ إِلَى فِرَاشِهِ، فَحَضَرَتِ الْحُرَّةُ، فَوَطِئَهَا، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَكُونِي أَحْلَى مِنَ الْحُرَّةِ فَهِيَ طَالِقٌ وَهُوَ يَظُنُّهَا الْأَمَةَ، فَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ: تُطَلَّقُ، لِأَنَّهَا هِيَ الْحُرَّةُ، فَلَا تَكُونُ أَحْلَى مِنَ الْحُرَّةِ، وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ وَجْهًا أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ يُخَاطِبُ غَيْرَهَا، وَهَذَا أَصَحُّ، وَبِهِ أَفْتَى الْحَنَّاطِيُّ. فَصْلٌ سُئِلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَقْرَأَنَّ عَشْرًا مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِلَا زِيَادَةٍ، وَيَقِفُ، وَلِلْقُرَّاءِ اخْتِلَافٌ فِي رَأْسِ الْعَشْرِ، فَقَالَ: مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ الْمُفْتِي أَخَذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي. وَعَنِ امْرَأَةٍ صَعِدَتْ بِالْمِفْتَاحِ السَّطْحَ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تُلْقِي الْمِفْتَاحَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَمْ تُلْقِهِ وَنَزَلَتْ، قَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: إِنْ لَمْ تُلْقِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ صَدِيقُهُ فَقَالَ: تَغَدَّ مَعِي، فَامْتَنَعَ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَتَغَدَّ مَعِي فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، فَلَمْ يَفْعَلْ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَوْ تَغَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ مَعَهُ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ. فَإِنْ نَوَى أَنْ يَتَغَدَّى مَعَهُ فِي الْحَالِ، فَامْتَنَعَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَرَأَى الْبَغَوِيُّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْحَالِ لِلْعَادَةِ.

فصل

وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ تَبِيعِي هَذِهِ الدَّجَاجَاتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَتَلَتْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، طُلِّقَتْ لِتَعَذُّرِ الْبَيْعِ، وَإِنْ جَرَحَتْهَا ثُمَّ بَاعَتْهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ ذُبِحَتْ لَمْ تَحِلَّ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِلَّا فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ قَرَأْتُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ فَسَدَتْ صِلَاتُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ يَفْسُدُ أَوَّلُهَا بِفَسَادِ آخِرِهَا. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَهْمَا قَبَّلْتُكِ فَضَرَّتُكِ طَالِقٌ، فَقَبَّلَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، لَمْ تُطَلَّقِ الضَّرَّةُ، وَلَوْ قَالَ لِوَالِدَتِهِ: مَتَى قَبَّلْتُكِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، فَقَبَّلَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، طُلِّقَتِ امْرَأَتُهُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ قُبْلَةَ الْمَرْأَةِ قُبْلَةٌ بِشَهْوَةٍ، وَلَا شَهْوَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقُبْلَةُ الْأُمِّ قُبْلَةُ كَرَامَةٍ، فَيَسْتَوِي فِيهَا الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ غَسَلْتِ ثَوْبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَغَسَلَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ، ثُمَّ غَمَسَتْهُ الْمَحْلُوفُ بِطَلَاقِهَا فِي الْمَاءِ تَنْظِيفًا لَهُ، لَمْ تُطَلَّقْ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي مِثْلِ هَذَا يَغْلِبُ. وَالْمُرَادُ فِي الْعُرْفِ، الْغَسْلُ بِالصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِزَالَةُ الْوَسَخِ. وَقَالَ غَيْرُ الْقَاضِي: إِنْ أَرَادَ الْغَسْلَ مِنَ الْوَسَخِ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ أَرَادَ التَّنْظِيفَ، فَلَا، فَإِنْ أَطْلَقَ قَالَ: لَا أُجِيبُ فِيهِ. فَصْلٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ حَرَّمْتُهَا عَلَى نَفْسِي قَبْلَ الطَّلَاقِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنِ ابْتَلَعْتِ شَيْئًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَابْتَلَعَتْ رِيقَهَا، طُلِّقَتْ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ غَيْرَ الرِّيقِ، صُدِّقَ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ قَالَ: إِنِ ابْتَلَعَتِ الرِّيقَ،

فصل

طُلِّقَتْ بِابْتِلَاعِ رِيقِهَا وَبِرِيقِ غَيْرِهَا. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ رِيقَكِ خَاصَّةً، قُبِلَ فِي الْحُكْمِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ رِيقَ غَيْرِكِ، دُيِّنَ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ ضَرَبْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَصَدَ بِالضَّرْبِ غَيْرَهَا، فَأَصَابَهَا، طُلِّقَتْ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الضَّرْبَ يَقِينٌ وَيُحْتَمَلُ. وَأَنَّهُ لَوْ نَادَى أُمَّهُ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تُجِبْنِي أُمِّي فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، فَإِنْ رَفَعَتِ الْأُمُّ صَوْتَهَا فِي الْجَوَابِ [بِحَيْثُ] يُسْمَعُ فِي تِلْكَ الْمَسَافَةِ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِلَّا فَتُطَلَّقُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتُ عَلَى فُلَانٍ دَارَهُ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، فَجَاءَ فُلَانٌ وَأَخَذَ بِيَدِهِ وَأَدْخَلَهُ الدَّارَ، فَإِنْ دَخَلَا مَعًا، لَمْ تُطَلَّقْ. وَإِنْ دَخَلَ فُلَانٌ أَوَّلًا، طُلِّقَتْ. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَلَدِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَ فُلَانٍ بِالْعَمَلِ، فَعَمِلَ لَهُ بِبَعْضِ دَيْنِهِ وَقَضَى الْبَاقِيَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ ثُمَّ خَرَجَ، طُلِّقَتْ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنِّي لَا أَخْرُجُ حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ وَأَقْضِيَ حَقَّهُ، قَبْلَ قَوْلِهِ فِي الْحُكْمِ. فَصْلٌ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ؟ فَقَالَ: طَلْقَةً وَاحِدَةً، يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: طَلَّقْتُهَا، صَالِحٌ لِلِابْتِدَاءِ، غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِلْجَوَابِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ سَرَقْتِ ذَهَبًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَسَرَقَتْ ذَهَبًا مَغْشُوشًا، طُلِّقَتْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ أَجَبْتِنِي عَنْ خِطَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ خَاطَبَهَا، فَقَرَأَتْ آيَةً تَتَضَمَّنُ جَوَابَهُ، فَإِنْ قَالَتْ: قَصَدْتُ بِقِرَاءَتِهَا جَوَابَهُ، طُلِّقَتْ. وَإِنْ قَالَتْ: قَصَدْتُ الْقِرَاءَةَ أَوْ لَمْ تُبَيِّنْ قَصْدَهَا، فَلَا طَلَاقَ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ تَسْتَوْفِي حَقَّكِ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيكِ تَامًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَانَ إِخْوَتُهَا قَدْ أَتْلَفُوا بَعْضَ التَّرِكَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِيفَاءِ حِصَّتِهَا مِنَ الْبَاقِي وَضَمَانِ التَّالِفِ، وَلَا يَكْفِي الْإِبْرَاءُ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِالِاسْتِيفَاءِ، إِلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ. وَأَنَّهُ لَوْ أَشَارَ إِلَى ذَهَبٍ وَحَلَفَ

بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ فُلَانٍ، وَشَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ الذَّهَبُ، طُلِّقَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةً عَلَى النَّفْيِ، إِلَّا أَنَّهُ نَفْيٌ يُحِيطُ الْعِلْمُ بِهِ. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ كَذَا، فَشَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَهُ أَنَّهُ فَعَلَهَ، وَظُنَّ صِدْقُهُمَا، لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِالطَّلَاقِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ نِسْوَةٌ فَفَتَحَتْ إِحْدَاهُنَّ بَابًا، فَقَالَ: مَنْ فَتَحَتْهُ مِنْكُنَّ فَهِيَ طَالِقٌ. فَقَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ: أَنَا فَتَحْتُهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُنَّ لِإِمْكَانِ الْبَيِّنَةِ. فَإِنِ اعْتَرَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْفَاتِحَةَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّعْيِينُ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى تَعْيِينِهِ إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ مُبْهَمًا. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ بَعَثَ فُلَانًا إِلَى بَيْتِ فُلَانٍ، وَعَلِمَ أَنَّ الْمَبْعُوثَ لَمْ يَمْضِ، فَقِيلَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ هُنَاكَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا طَلَاقَ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ أَنْ يُقَالَ: بَعَثْتُهُ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ تُطِيعِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: لَا أُطِيعُكَ. فَقِيلَ: تُطَلَّقُ فِي الْحَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ حَتَّى يَأْمُرَهَا بِشَيْءٍ فَتَمْتَنِعُ، أَوْ يَنْهَاهَا عَنْهُ فَتَفْعَلُهُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتُ دَارَهَا [وَلَا دَارَ لَهَا] وَقْتَ الْحَلْفِ، ثُمَّ مَلَكَتْ دَارًا، فَدَخَلَهَا، طُلِّقَتْ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ تَكُونِي اللَّيْلَةَ فِي دَارِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَا دَارَ لَهُ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتِي هَذِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ، لَا تَحِلُّ لِي أَبَدًا، فَلَا طَلَاقَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَظُنُّ تَحْرِيمَهَا بِالْيَمِينِ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ، وَلَيْسَ اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ. وَقِيلَ: يُحْكَمُ بِالْبَيْنُونَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِمَنْ يُسَمَّى زَيْدًا: يَا زَيْدُ، فَقَالَ: امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ، طُلِّقَتِ امْرَأَتُهُ. وَقِيلَ: لَا تُطَلَّقُ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ نَفْسَهُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ أَجَبْتِ كَلَامِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ خَاطَبَ الزَّوْجُ غَيْرَهَا، فَأَجَابَتْهُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ بِغَيْرِ إِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَخْرَجَهَا هُوَ، هَلْ يَكُونُ إِذْنًا؟ وَجْهَانِ، الْقِيَاسُ الْمَنْعُ. وَأَنَّهُ لَوْ عُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ، فَقَالَ: امْرَأَةُ الْقَاضِي طَالِقٌ، فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ وَجْهَانِ. وَأَنَّهُ لَوْ قِيلَ:

طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ، فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا تَقُولُهُ، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِالطَّلَاقِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَنَّهُ جَلَسَ مَعَ جَمَاعَةٍ فَقَامَ وَلَبِسَ خُفَّ غَيْرِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: اسْتَبْدَلْتَ بِخُفِّكَ وَلَبِسْتَ خُفَّ غَيْرِكَ، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ بَعْدَ خُرُوجِ الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ إِلَّا مَا لَبِسَهُ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْدِلْ، بَلِ اسْتَبْدَلَ الْخَارِجُونَ قَبْلَهُ، وَإِنْ بَقِيَ غَيْرُهُ، طُلِّقَتْ. قُلْتُ: هَذَا الْكَلَامُ ضَعِيفٌ فِي الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا، بَلْ صَوَابُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ بَعْدَ خُرُوجِ الْجَمِيعِ، نُظِرَ، إِنْ قَصَدَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ بَدَلَهُ، كَانَ كَاذِبًا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ أَخَذَ بَدَلَهُ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا، فَعَلَى قَوْلَيْ طَلَاقِ النَّاسِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَ، خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، فِي أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِالْوَضْعِ وَالْعُرْفِ، عَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ لِأَنَّ هَذَا يُسَمَّى اسْتِبْدَالًا فِي الْعُرْفِ. وَأَمَّا إِنْ خَرَجَ وَقَدْ بَقِيَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ خُفَّهُ مَعَ الْخَارِجِينَ قَبْلَهُ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ شَكَّ، فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي تَعَارُضِ الْوَضْعِ وَالْعُرْفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ رَأَى امْرَأَتَهُ تَنْحِتُ خَشَبَةً، فَقَالَ: إِنْ عُدْتِ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَنَحَتَتْ خَشَبَةً مِنْ شَجَرَةٍ أُخْرَى، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ [وَجْهَانِ] لِأَنَّ النَّحْتَ كَالنَّحْتِ، لَكِنَّ الْمَنْحُوتَ غَيْرُهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْوُقُوعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ تَخْرُجِي اللَّيْلَةَ مِنْ دَارِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَلَعَهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ فِي اللَّيْلِ وَجَدَّدَ نِكَاحَهَا وَلَمْ تَخْرُجْ، لَمْ تُطَلَّقْ.

وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَلَدِ إِلَّا مَعَهَا، فَخَرَجَا، وَتَقَدَّمَ مَعَهَا بِخُطُوَاتٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ لِلْعُرْفِ. وَالثَّانِي: يَحْنَثُ، وَلَا يَحْصُلُ الْبِرُّ إِلَّا بِخُرُوجِهِمَا مَعًا بِلَا تَقَدُّمٍ، وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَضْرِبَهَا إِلَّا بِالْوَاجِبِ، فَشَتَمَتْهُ، فَضَرَبَهَا بِالْخَشَبِ، طُلِّقَتْ لَأَنَّ الشَّتْمَ لَا يُوجِبُ الضَّرْبَ بِالْخَشَبِ، وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ بِهِ التَّعْزِيرَ، وَقِيلَ خِلَافُهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ، لَا تُطَلَّقُ هُنَا، وَلَا مَسْأَلَةَ التَّقَدُّمِ بِخُطُوَاتٍ يَسِيرَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ عَلِمْتِ مِنْ أُخْتِي شَيْئًا فَلَمْ تَقُولِيهِ لِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، انْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى مَا يُوجِبُ رِيبَةً وَيُوهِمُ فَاحِشَةً، دُونَ مَا لَا يُقْصَدُ الْعِلْمُ بِهِ، كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَقُولَهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَنَّهَا لَوْ سَرَقَتْ مِنْهُ دِينَارًا فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَتَرُدِّينَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ قَدْ أَنْفَقَتْهُ، لَا تُطَلَّقُ حَتَّى يَحْصُلَ الْيَأْسُ مِنْ رَدِّهِ بِالْمَوْتِ، فَإِنْ تَلِفَ الدِّينَارُ وَهُمَا حَيَّانِ، فَوُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحِنْثِ بِفِعْلِ الْمُكْرَهِ. قُلْتُ: إِنْ تَلِفَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّدِّ، طُلِّقَتْ عَلَى الْمَذْهَبِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ سَمِعَ لَفْظَ رَجُلٍ بِالطَّلَاقِ، وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمُطْلَقِ الطَّلَاقِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ رَأَيْتُ الدَّمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى دَمِ الْحَيْضِ. وَقِيلَ: يَتَنَاوَلُ كُلَّ دَمٍ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَشَارَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الدَّارِ، فَدَخَلَتْ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الدَّارِ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الْوُقُوعُ ظَاهِرًا، لَكِنَّهُ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، دُيِّنَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ امْرَأَتِي فِي الْمَأْتَمِ، فَأَمَتِي حُرَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَتِي فِي الْحَمَّامِ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَكَانَتَا عِنْدَ التَّعْلِيقَيْنِ كَمَا ذَكَرَ، عَتَقَتِ الْأَمَةُ، وَلَمْ تُطَلَّقِ الزَّوْجَةُ، لِأَنَّ الْأَمَةَ عَتَقَتْ عِنْدَ تَمَامِ التَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ، وَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا أَمَتَهُ، فَلَا يَحْصُلُ شَرْطُ الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَمَةِ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ أَمَتِي فِي الْمَأْتَمِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتِي فِي الْحَمَّامِ، فَأَمَتِي حُرَّةٌ، فَكَانَتَا كَمَا ذَكَرَ، طُلِّقَتِ الزَّوْجَةُ. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، عَتَقَتِ الْأَمَةُ أَيْضًا، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ فِي الْمَأْتَمِ، وَهَذِهِ فِي الْحَمَّامِ، فَهَذِهِ حُرَّةٌ، وَهَذِهِ طَالِقٌ، وَكَانَتَا، حَصَلَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا مِلْكِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ وَكَّلَ مَنْ يَبِيعُهُ، هَلْ يَكُونُ إِقْرَارًا [بِأَنَّهُ مِلْكُهُ؟] وَجْهَانِ، وَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ التَّوْكِيلُ عَلَى التَّعْلِيقِ. قُلْتُ: إِذَا تَقَدَّمَ التَّوْكِيلُ، يَبْعُدُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ حَالَ التَّعْلِيقِ وَلَا بَعْدَهُ مَا يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ، وَالْمُخْتَارُ فِي الْحَالَتَيْنِ أَنَّهُ لَا طَلَاقَ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي التَّوْكِيلِ بِبَيْعِهِ، أَوْ كَانَ لِغَيْرِهِ وَلَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، فَيَبِيعُهُ لِيَتَمَلَّكَ ثَمَنَهُ، أَوْ بَاعَهُ غَصْبًا، أَوْ بَاعَهُ بِوِلَايَةٍ كَالْوَالِدِ وَالْوَصِيِّ وَالنَّاظِرِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ تُفَّاحَتَانِ، فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ لَمْ تَأْكُلِي هَذِهِ التُّفَّاحَةَ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ لِأَمَتِهِ: إِنْ لَمْ تَأْكُلِي الْأُخْرَى الْيَوْمَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ، وَاشْتَبَهَتِ التُّفَّاحَتَانِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّرِيقَ أَنْ تَأْكُلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُفَّاحَةً، فَلَا يَقَعُ عِتْقٌ وَلَا طَلَاقٌ لِلشَّكِّ، وَالثَّانِي: تَأْكُلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مَا ظَنَّتْ هِيَ وَالزَّوْجُ أَنَّهَا تُفَّاحَتُهَا. وَلَوْ خَالَعَ الزَّوْجَ وَبَاعَ الْأَمَةَ فِي يَوْمِهِ، ثُمَّ جَدَّدَ النِّكَاحَ وَالشِّرَاءَ، تَخَلَّصَ

مِنَ الْحِنْثِ. وَقِيلَ: يَبِيعُ الْأَمَةَ لِلْمَرْأَةِ فِي يَوْمِهِ، وَتَأْكُلُ الْمَرْأَةُ التُّفَّاحَتَيْنِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: كُلَّمَا كَلَّمْتُ رَجُلًا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: اخْرُجَا، طُلِّقَتَا. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا كَلَّمْتُ رَجُلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَكَلَّمَ رَجُلَيْنِ بِكَلِمَةٍ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: طَلْقَةً. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ تَزَوَّجْتُ النِّسَاءَ، أَوِ اشْتَرَيْتُ الْعَبِيدَ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا إِذَا تَزَوَّجَ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ، أَوِ اشْتَرَى ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الدَّارِ، فَتَعَلَّقَ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ فِي الدَّارِ، وَالْغُصْنُ خَارِجٌ، حَنِثَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ تَصُومِي غَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَحَاضَتْ، فَوُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُكْرَهِ. وَأَنْ لَوْ قَالَ لِنِسْوَتِهِ الْأَرْبَعِ: مَنْ حَمَلَ مِنْكُنَّ هَذِهِ الْخَشَبَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَحَمَلَهَا ثَلَاثٌ مِنْهُنَّ، فَإِنْ كَانَتْ خَشَبَةً ثَقِيلَةً لَا تَسْتَقِلُّ بِحَمْلِهَا وَاحِدَةٌ، طُلِّقْنَ. وَإِنِ اسْتُقِلَّتْ، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ. وَقِيلَ: يُطَلَّقْنَ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ أَطَأْكِ اللَّيْلَةَ، فَوَجَدَهَا حَائِضًا أَوْ مُحْرِمَةً، فَعَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا طَلَاقَ، فَاعْتَرَضَ وَقَالَ: يَقَعُ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْيَمِينِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى، فَلَمْ يَعْصِ، حَنِثَ. وَقِيلَ مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ هُوَ الْمَذْهَبُ، وَاخْتِيَارُ الْقَفَّالِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ، كَفَوَاتِ الْبِرِّ بِالْإِكْرَاهِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أُشْبِعْكِ مِنَ الْجِمَاعِ اللَّيْلَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقِيلَ: يَحْصُلُ الْبِرُّ إِذَا جَامَعَهَا وَأَقَرَّتْ أَنَّهَا أَنْزَلَتْ. وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: لَا أُرِيدُ الْجِمَاعَ ثَانِيًا، فَإِنْ كَانَتْ لَا تُنْزِلُ، فَيُجَامِعُهَا إِلَى أَنْ تَسْكُنَ لِذَاتُهَا، وَإِنْ لَمْ تَشْتَهِ الْجِمَاعَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ. وَأَنَّ الْوَكِيلَ بِالطَّلَاقِ إِذَا طَلَّقَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَنْ مُوَكِّلِهِ فِي الْأَصَحِّ. وَأَنَّهُ إِنْ قَالَ: إِنْ بِتُّ عِنْدَكِ اللَّيْلَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَبَاتَ فِي مَسْكَنِهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَصْطَدْ ذَلِكَ الطَّائِرَ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَاصْطَادَ طَائِرًا، وَادَّعَى أَنَّهُ ذَلِكَ الطَّائِرُ،

فصل

قُبِلَ، لِلِاحْتِمَالِ، وَالْأَصْلُ النِّكَاحُ. فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ: لَا أَعْرِفُ الْحَالَ وَاحْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَعَدَمُهُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ عَدَمُهُ كَمَا سَبَقَ فِي آخِرِ الْبَابِ الرَّابِعِ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ زَيْدٌ الْيَوْمَ الدَّارَ وَجُهِلَ دُخُولُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلْقَةَ الرَّابِعَةَ، فَهَلْ تُطَلَّقُ؟ وَجْهَانِ يَقْرُبَانِ مِنَ الْخِلَافِ فِي التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ. فَصْلٌ ذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا تُسَاكِنُهُ شَهْرَ رَمَضَانَ، تَعَلَّقَ الْحِنْثُ بِمُسَاكَنَةِ جَمِيعِ الشَّهْرِ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَعْضِهِ، وَبِهَذَا قَالَ إِمَامُ الْعِرَاقِيِّينَ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى: يَحْنَثُ بِمُسَاكَنَةِ سَاعَةٍ مِنْهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرَ رَمَضَانَ، يَحْنَثُ بِتَكْلِيمِهِ مَرَّةً. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ إِنْ أَفْطَرْتُ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ بِالْكُوفَةِ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، فَمُقْتَضَى الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّ الْإِفْطَارَ مَحْمُولٌ عَلَى تَنَاوُلِ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يُعَيِّدُ بِالْكُوفَةِ، فَأَقَامَ مَعَهَا يَوْمَ الْعِيدِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْعِيدِ، حَنِثَ وَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتِ الْيَوْمَ إِلَّا رَغِيفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَكَلَتْ رَغِيفًا ثُمَّ فَاكِهَةً، طُلِّقَتْ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتِ أَكْثَرَ مِنْ رَغِيفٍ، فَأَكَلَتْ خُبْزًا بِإِدَامٍ، طُلِّقَتْ أَيْضًا. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ أَدْرَكْتُ الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَدْرَكَهُ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِنَا، لِأَنَّ الظُّهْرَ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّكَعَاتِ الْأَرْبَعِ، وَلَمْ يُدْرِكْهَا. قُلْتُ: هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ، وَأَدْرَكَ صَلَاةَ الْإِمَامِ، وَلَكِنَّ

الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إِدْرَاكُ الْجَمِيعِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ نِسْوَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ أُرَاجِعُهَا فَهِيَ طَالِقٌ كُلَّمَا كَلَّمْتُ فُلَانًا، فَرَاجَعَ امْرَأَةً، ثُمَّ كَلَّمَ فُلَانًا، ثُمَّ رَاجَعَ أُخْرَى، طُلِّقَتِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ الْمُرَاجَعَةُ قَبْلَ الْكَلَامِ، فَإِنْ كَلَّمَهُ مَرَّةً أُخْرَى، طُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ أَيْضًا. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: آخِرُ امْرَأَةٍ أُرَاجِعُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَرَاجَعَ نِسْوَةً، وَمَاتَ، يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى آخِرِهِنَّ مُرَاجَعَةً بِالْيَقِينِ. حَتَّى لَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَمْ تَرِثْهُ. وَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا، فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَأَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى النِّكَاحِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ، إِلَّا إِذَا نَوَى. وَأَنَّهُ لَوْ تَخَاصَمَ الزَّوْجَانِ فِي الْمُرَاوَدَةِ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَجِيئِي إِلَى الْفِرَاشِ السَّاعَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالَتِ الْخُصُومَةُ حَتَّى مَضَتِ السَّاعَةُ، ثُمَّ جَاءَتْ إِلَى الْفِرَاشِ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهَا طُلِّقَتْ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ بَنِي آدَمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِكَلَامِ وَاحِدٍ وَلَا اثْنَيْنِ، إِلَّا إِذَا أَعْطَيْنَاهُمَا حُكْمَ الْجَمْعِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، سَأَلْنَاهُ لِنَتَبَيَّنَ أَيَّ الْيَمِينَيْنِ أَرَادَ مِنْهُمَا، فَمَا أَرَادَ تَقَرَّرَ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ، فَمُطْلَقُ هَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِذَا دَخَلَتْ هِيَ الدَّارَ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ مَلَكْتُمَا عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَشَرْطُ الْحِنْثِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ، أَنْ يَمْلِكَاهُ مَعًا، حَتَّى لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا ثُمَّ بَاعَهُ لِصَاحِبِهِ، لَا يَحْنَثُ.

وَلَوْ قَالَ: إِنْ لَبِسْتِ قَمِيصَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَبِسَتْهُمَا مُتَوَالِيَيْنِ، طُلِّقَتْ عَلَى قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنِ اغْتَسَلْتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَاغْتَسَلَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ جَنَابَةٍ، وَقَالَ: قَصَدْتُ بِيَمِينِي غُسْلَ الْجَنَابَةِ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يُدَيَّنُ وَلَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا، وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيهِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُكَلِّمَهُ فِي بَقِيَّةِ اللَّيْلِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ عَشْرًا، فَهُوَ مُجْمَلٌ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، صُدِّقَ، فَإِنِ اتُّهِمَ، حَلَفَ، وَإِنْ أَرَادَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَلُغَتِ الزِّيَادَةُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلِلدَّارِ بُسْتَانٌ بَابُهُ مَفْتُوحٌ إِلَيْهَا، فَخَرَجَتْ إِلَى الْبُسْتَانِ، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُعَدُّ مِنْ جُمْلَةِ الدَّارِ وَمَرَافِقِهَا لَا تُطَلَّقُ، وَإِلَّا فَتُطَلَّقُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِأَبَوَيْهِ: إِنْ تَزَوَّجْتُ مَا دُمْتُمَا حَيَّيْنِ، فَامْرَأَتِي هَذِهِ طَالِقٌ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، فَتَزَوَّجَ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَطْعَنُهُ بِنَصْلِ هَذَا الرُّمْحِ أَوِ السَّهْمِ، فَنَزَعَ النَّصْلَ، وَجَعَلَهُ فِي رُمْحٍ آخَرَ وَطَعَنَهُ بِهِ، حَنِثَ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ شَتَمْتِنِي وَلَعَنْتِنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَعَنَتْهُ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهُ عُلِّقَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. وَأَنَّهَا لَوْ خَرَجَتْ إِلَى قَرْيَةٍ لِلضِّيَافَةِ، فَقَالَ: إِنْ مَكَثْتِ هُنَاكَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَوْ قَبْلَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُطَلَّقَ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ نِصْفَ اللَّيْلِ، إِنْ بِتُّ مَعَ فُلَانٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَبَاتَ مَعَهُ بَقِيَّةَ اللَّيْلِ، طُلِّقَتْ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبِيتَ جَمِيعَ اللَّيْلِ وَلَا أَكْثَرَهُ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ، أَنَّ الْمَبِيتَ يُحْمَلُ مُطْلَقُهُ عَلَى أَكْثَرِ اللَّيْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَرِينَةٌ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَبِيتِ بِمِنًى، لَكِنَّ الظَّاهِرَ الْحِنْثُ هُنَا لِوُجُودِ الْقَرِينَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ حَلَفَ أَنَّهُ مَا يَعْرِفُ فُلَانًا، وَقَدْ عَرَفَهُ بِوَجْهِهِ، وَطَالَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ، حَنِثَ عَلَى قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ سَعْدٌ الِاسْتِرَابَادِيُّ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: آخِرُ امْرَأَةٍ أُرَاجِعُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَرَاجَعَ حَفْصَةَ ثُمَّ عَمْرَةَ، ثُمَّ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا، فَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ حَفْصَةَ تُطَلَّقُ لِأَنَّهَا صَارَتْ آخِرًا بَعْدَمَا كَانَتْ أَوَّلًا. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ نِمْتُ عَلَى ثَوْبٍ لَكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى مِرْفَقَةٍ لَهَا، لَا تُطَلَّقُ، كَمَا لَوْ وَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ، فَنَثَرَ مَأْكُولًا فَالْتَقَطَهُ وَأَكَلَهُ، حَنِثَ، وَكَذَا لَوْ تَنَاهَدَا فَأَكَلَ مِنْ طَعَامِهِ. قُلْتُ: الصُّورَتَانِ مُشْكِلَتَانِ، وَالْمُخْتَارُ فِي مَسْأَلَةِ النِّثَارِ، بِنَاؤُهُ عَلَى الْخِلَافِ، فِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ الْآخِذُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّهُ يَمْلِكُهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِلَّا فَيَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الضَّيْفِ وَنَحْوِهِ، أَنَّهُ هَلْ يَمْلِكُ الطَّعَامَ الْمُقَدَّمَ إِلَيْهِ وَمَتَى يَمْلِكُهُ؟ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُنَاهَدَةِ وَهِيَ خَلْطُ الْمُسَافِرِينَ نَفَقَتَهُمْ وَاشْتِرَاكُهُمْ فِي الْأَكْلِ مِنَ الْمُخْتَلَطِ، فَفِيهَا نَظَرٌ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةُ، وَإِلَّا فَيَخْرُجُ عَلَى مَسْأَلَةِ الضَّيْفِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ مَا دَامَ فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَتَحَوَّلَ فُلَانٌ مِنْهَا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا، فَدَخَلَتْهَا، لَا تُطَلَّقُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَضَرَبَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَمَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الضَّرْبِ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ الْفِعْلُ الْمُفَوِّتُ لِلرُّوحِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ أَغْضَبْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَضَرَبَ ابْنَهَا، طُلِّقَتْ وَإِنْ كَانَ ضَرْبَ تَأْدِيبٍ. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيَصُومُنَّ [زَمَانًا، أَنَّهُ يَحْنَثُ بِصَوْمِ بَعْضِ يَوْمٍ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَصُومُنَّ، أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيَصُومُنَّ] أَزْمِنَةً، بَرَّ بِصَوْمِ يَوْمٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَزْمِنَةٍ. وَلَوْ حَلَفَ لَيَصُومُنَّ الْأَيَّامَ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَيَّامِ الْعُمُرِ، أَوْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ الْأَوْلَى. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُعَذِّبُ الْمَوْجُودِينَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ.

فصل

قُلْتُ: هَذَا إِذَا قَصَدَ إِنْ كَانَ يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْهُمْ، فَإِنْ قَصَدَ إِنْ كَانَ يُعَذِّبُهُمْ كُلَّهُمْ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا، لَمْ تُطَلَّقْ لِأَنَّ التَّعْذِيبَ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِهِمْ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوِ اتَّهَمَتْهُ امْرَأَتُهُ بِالْغِلْمَانِ، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَأْتِي حَرَامًا، ثُمَّ قَبَّلَ غُلَامًا، أَوْ لَمَسَهُ، يَحْنَثُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَخْرُجِينَ مِنَ الصُّفَّةِ أَيْضًا، فَخَرَجَتْ مِنَ الصُّفَّةِ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: «وَلَا تَخْرُجِينَ» كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ تَعْلِيقٍ وَلَا عَطْفٍ. فَصْلٌ عَنِ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي مَكَّةَ، أَوْ فِي الْبَحْرِ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ إِذَا حَصَلَتْ هُنَاكَ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: فِي الظِّلِّ وَهُمَا فِي الشَّمْسِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مُنْتَظَرًا غَيْرَ حَاصِلٍ، كَقَوْلِهِ: فِي الشِّتَاءِ وَهُمَا فِي الصَّيْفِ، لَا يَقَعُ حَتَّى يَجِيءَ الشِّتَاءُ. فَصْلٌ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ مِنَ الَّذِي طَبَخَتْهُ هِيَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَوَضَعَتِ الْقِدْرَ عَلَى الْكَانُونِ، وَأَوْقَدَتْ غَيْرُهَا، لَمْ تُطَلَّقْ، وَكَذَا لَوْ سَجَرَ التَّنُّورَ غَيْرُهَا وَوَضَعَتِ الْقِدْرَ فِيهِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَيْتِي نَارٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَفِيهِ سِرَاجٌ، طُلِّقَتْ وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ دَقِيقًا لِيَخْبِزَهُ لَهُ فَخَبَزَهُ بِخَمِيرَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ. وَأَنَّهَا لَوْ قَالَتْ: لَا طَاقَةَ لِي بِالْجُوعِ مَعَكَ، فَقَالَ: إِنْ جُعْتِ يَوْمًا فِي بَيْتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُجَازَاةَ، تُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الصِّفَةِ، وَلَا تُطَلَّقُ بِالْجُوعِ فِي أَيَّامِ الصَّوْمِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتُ دَارَكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَبَاعَتْهَا وَدَخَلَهَا، لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ

فصل

قَالَ: إِنْ لَمْ تَكُونِي أَحْسَنَ مِنَ الْقَمَرِ، أَوْ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَجْهُكِ أَحْسَنَ مِنَ الْقَمَرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الزَّجَّاجِيُّ وَالْقَفَّالُ وَغَيْرُهُمَا: لَا تُطَلَّقُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّينِ: 4] . قُلْتُ: هَذَا الْحُكْمُ وَالِاسْتِشْهَادُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ ذَكَرْتُ النَّصَّ فِي تَرْجَمَةِ الشَّافِعِيِّ مِنْ كِتَابِ «الطَّبَقَاتِ» . قَالَ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَكُنْ أَحْسَنَ مِنَ الْقَمَرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا تُطَلَّقُ، وَإِنْ كَانَ زِنْجِيًّا أَسْوَدَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي فَتَاوَى الْحَنَّاطِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ قَصَدْتُكِ بِالْجِمَاعِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَصَدَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَجَامَعَهَا، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ قَصَدْتُ جِمَاعَكِ، طُلِّقَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. فَصْلٌ حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا: اصْنَعْ لِي ثَوْبًا لِيَكُنْ لَكَ فِيهِ أَجْرٌ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ لِي فِيهِ أَجْرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتِ: اسْتَفْتَيْتُ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ يُوسُفَ الْعَالِمَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَالِمًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَاسْتَفْتَى إِبْرَاهِيمَ بْنَ يُوسُفَ فَقَالَ: لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ، وَالْمُبَاحُ لَا أَجْرَ لَهُ فِيهِ، وَيَحْنَثُ فِي الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ النَّاسَ يُسَمُّونَنِي عَالِمًا. وَقِيلَ: يَحْنَثُ فِي الْأُولَى أَيْضًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤْجَرُ فِي ذَلِكَ إِذَا قَصَدَ الْبِرَّ، وَحَكَى الْوَجْهَيْنِ الْقَاضِي الرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِهِ «التَّجْزِئَةِ» وَقَالَ: الصَّحِيحُ الثَّانِي. قُلْتُ: لَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ فِي مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّهُ إِنْ قَصَدَ الطَّاعَةَ كَانَ فِيهِ أَجْرٌ وَيَحْنَثُ، وَإِلَّا فَلَا، وَمُقْتَضَى الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَنْ لَا يَحْنَثَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِعْلُ نِيَّةِ الطَّاعَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ

قَالَ شَافِعِيٌّ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّافِعِيُّ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَقَالَ حَنَفِيٌّ: إِنْ لَمْ يَكُنْ أَبُو حَنِيفَةَ أَفْضَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، لَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَشَبَّهُوهُ بِمَسْأَلَةِ الْغُرَابِ. وَعَنِ الْقَفَّالِ: لَا يُفْتَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الْمَرُّوذِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ السُّنِّيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: إِنْ كَانَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، أَوْ قَالَ السُّنِّيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، فَقَالَ الرَّافِضِيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَقَعَ طَلَاقُ الْمُعْتَزِلِيِّ وَالرَّافِضِيِّ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَفْرِغِي الْبَيْتَ مِنْ قُمَاشِكِ، فَإِنْ دَخَلْتُ وَوَجَدْتُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ قُمَاشِكِ وَلَمْ أَكْسِرْهُ عَلَى رَأْسِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ فِي الْبَيْتِ هَاوُنًا لَهَا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تُطَلَّقُ، لِلِاسْتِحَالَةِ، وَالثَّانِي: تُطَلَّقُ عِنْدَ الْيَأْسِ قُبَيْلَ مَوْتِهَا أَوْ مَوْتِهِ. وَأَنَّهُ لَوْ تَخَاصَمَ الزَّوْجَانِ فَخَرَجَتْ مَكْشُوفَةَ الْوَجْهِ، فَعَدَا خَلْفَهَا وَقَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي خَرَجَتْ مِنَ الدَّارِ مَكْشُوفَةً لِيَقَعَ نَظَرُ الْأَجَانِبِ عَلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَسَمِعَتْ قَوْلَهُ فَرَجَعَتْ وَلَمْ يُبْصِرْهَا أَجْنَبِيٌّ، طُلِّقَتْ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي خَرَجَتْ مَكْشُوفَةً وَيَقَعُ نَظَرُ الْأَجَانِبِ عَلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ وَلَمْ يُبْصِرْهَا أَجْنَبِيٌّ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ مُعَلَّقٌ عَلَى صِفَتَيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا إِحْدَاهُمَا، وَفِي الْأُولَى عَلَى صِفَةٍ فَقَطْ وَقَدْ وُجِدَتْ. قُلْتُ: هَكَذَا صَوَابُ صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَذَا حَقِيقَتُهَا مِنْ كِتَابِ إِبْرَاهِيمَ الْمَرُّوذِيِّ، وَوَقَعَتْ فِي نُسَخٍ مِنْ كِتَابِ الرَّافِعِيِّ مُغَيَّرَةً. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الرجعة

كِتَابُ الرَّجْعَةِ هِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ فِيهِ أَفْصَحُ، وَفِيهِ بَابَانِ. الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: سَبَبُهَا، وَالْمُطَلَّقَاتُ قِسْمَانِ. الْأَوَّلُ: مَنْ لَمْ يَسْتَوْفِ زَوْجُهَا عَدَدَ طَلَاقِهَا، وَهِيَ نَوْعَانِ، بَائِنٌ وَرَجْعِيَّةٌ، فَالْبَائِنُ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بِعِوَضٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَالرَّجْعِيَّةُ، هِيَ الْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِلَا عِوَضٍ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مُطَلَّقَةٌ اسْتَوْفَى عَدَدَ طَلَاقِهَا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ بِرَجْعَةٍ وَلَا بِنِكَاحٍ إِلَّا بَعْدَ مُحَلِّلٍ، وَإِنْ شِئْتَ اخْتَصَرْتَ، فَقُلْتَ: الرَّجْعِيَّةُ مُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ [بِلَا عِوَضٍ] وَلَا اسْتِيفَاءِ عَدَدٍ. فَرْعٌ سَوَاءٌ فِي ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ طَلَّقَ بِصَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ، وَلَوْ طَلَّقَ ثُمَّ قَالَ: أَسْقَطْتُ حَقَّ الرَّجْعَةِ، أَوْ طَلَّقَ بِشَرْطِ أَنْ لَا رَجْعَةَ، لَمْ يَسْقُطْ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّجْعَةِ فِي الْفُسُوخِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الزَّوْجُ الْمُرْتَجِعُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ النِّكَاحِ، وَالِاسْتِحْلَالُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، فَلَا رَجْعَةَ لِمُرْتَدٍّ، وَلَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ فَجُنَّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِوَلِيِّهِ

الْمُرَاجَعَةُ حَيْثُ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ، هَذَا إِذَا جَوَّزْنَا التَّوْكِيلَ فِي الرَّجْعَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلِلْعَبْدِ الْمُرَاجَعَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الصِّيغَةُ، فَتَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِقَوْلِهِ: رَجَعْتُكِ أَوْ رَاجَعْتُكِ أَوِ ارْتَجَعْتُكِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ صَرِيحَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُضِيفَ إِلَى النِّكَاحِ أَوِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ نَفْسِهِ، فَيَقُولُ: رَجَعْتُكِ إِلَى نِكَاحِي أَوْ زَوْجِيَّتِي أَوْ إِلَيَّ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِضَافَةِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِلَى مُظْهَرٍ أَوْ مُضْمَرٍ، كَقَوْلِهِ: رَاجَعْتُ فُلَانَةً أَوْ رَاجَعْتُكِ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ رَاجَعْتُ وَارْتَجَعْتُ، فَلَا يَنْفَعُ. وَلَوْ قَالَ: رَاجَعْتُكِ لِلْمَحَبَّةِ أَوْ لِلْإِهَانَةِ أَوْ لِلْأَذَى، وَقَالَ: أَرَدْتُ لِمَحَبَّتِي إِيَّاكِ، أَوْ لِأُهِينَكِ، أَوْ أُوذِيَكِ، قُبِلَ وَحَصَلَتِ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنِّي كُنْتُ أُحِبُّهَا أَوْ أُهِينُهَا قَبْلَ النِّكَاحِ، فَرَدَدْتُهَا إِلَى ذَلِكَ، قُبِلَ وَلَمْ تَحْصُلِ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ سُؤَالُهُ بِمَوْتِهِ، أَوْ أَطْلَقَ، حَصَلَتِ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ وَظَاهِرُهُ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَأُشِيرَ فِيهِ إِلَى احْتِمَالٍ، وَلَوْ قَالَ: رَدَدْتُهَا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ صَرِيحٌ، فَعَلَى هَذَا، فِي اشْتِرَاطِهِ قَوْلَهُ: إِلَيَّ أَوْ إِلَى نِكَاحِي، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُشْتَرَطُ، وَلَوْ قَالَ: أَمْسَكْتُكِ، فَهَلْ هُوَ كِنَايَةٌ أَمْ صَرِيحٌ أَمْ لَغْوٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ: كِنَايَةٌ، وَصَحَّحَ الْبَغَوِيُّ كَوْنَهُ صَرِيحًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سَلَمَةَ وَالِاصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ الْقَاصِّ. قُلْتُ: صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» أَنَّهُ صَرِيحٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا: صَرِيحٌ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِي اشْتِرَاطِ الْإِضَافَةِ وَجْهَانِ، كَالرَّدِّ. وَجَزَمَ الْبَغَوِيُّ بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ، وَأَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَلَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ أَوْ نَكَحْتُكِ، فَهَلْ هُوَ كِنَايَةٌ أَمْ صَرِيحٌ، أَمْ لَغْوٌ؟ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي

وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ جَرَى الْعَقْدُ عَلَى صُوَرِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: الْأَصَحُّ هُنَا الصِّحَّةُ، لِأَنَّهُ آكَدُ فِي الْإِبَاحَةِ. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ: اخْتَرْتُ رَجْعَتَكِ وَنَوَى الرَّجْعَةَ، فَفِي حُصُولِهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّاشِيُّ، الْأَصَحُّ الْحُصُولُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْعَجَمِيَّةِ، سَوَاءٌ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا، وَقِيلَ: لَا، وَقِيلَ: بِالْفَرْقِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ هَلْ صَرَائِحُ الرَّجْعَةِ مُنْحَصِرَةٌ، أَمْ كُلُّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَى الصَّرِيحِ صَرِيحٌ، كَقَوْلِهِ: رَفَعْتُ تَحْرِيمَكِ وَأَعَدْتُ حِلَّكِ وَنَحْوِهِمَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الِانْحِصَارُ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ صَرَائِحُهُ مَحْصُورَةٌ، فَالرَّجْعَةُ الَّتِي هِيَ تَحْصِيلُ إِبَاحَةٍ أَوْلَى. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَعَلَى هَذَا، تَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ لَا تَقْبَلُ الرَّجْعَةُ التَّعْلِيقَ، فَلَوْ قَالَ: رَاجَعْتُكِ إِنْ شِئْتِ، فَقَالَتْ: شِئْتُ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ قَالَ: إِذْ شِئْتِ، أَوْ أَنْ شِئْتِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، صَحَّ. وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ مُبْهَمًا، ثُمَّ قَالَ: رَاجَعْتُ الْمُطَلَّقَةَ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ لِرَجْعِيَّةٍ: مَتَى رَاجَعْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ لِمَنْ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ: مَتَّى طَلَّقْتُكِ

فصل

وَرَاجَعْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَرَاجَعَهَا فَهَلْ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ وَتُطَلَّقُ، أَمْ لَا تَصِحُّ أَصْلًا، أَمْ تَصِحُّ وَلَا تُطَلَّقُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ لَا تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ وَالتَّقْبِيلِ وَشِبْهِهِمَا. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَحَلُّ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَاهَا، وَلَا رِضَا سَيِّدِ الْأَمَةِ، وَيُسْتَحَبُّ إِعْلَامُهُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا بَقَاؤُهَا فِي الْعِدَّةِ، وَكَوْنُهَا قَابِلَةً لِلْحَلِّ، فَلَوِ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ، فَرَاجَعَهَا فِي حَالِ الرِّدَّةِ، لَمْ يَصِحَّ، وَإِذَا أَسْلَمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِئْنَافِ الرَّجْعَةِ، نُصَّ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: الرَّجْعَةُ مَوْقُوفَةٌ. فَإِذَا أَسْلَمَا فِي الْعِدَّةِ، تَبَيَّنَّا صِحَّتَهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا لَهُ وَجْهٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلًا مُخَرَّجًا، فَعَلَى النَّصِّ، لَوِ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ رَاجَعَهَا، فَالطَّلَاقُ مَوْقُوفٌ، إِنْ جَمَعَهُمَا الْإِسْلَامُ فِي الْعِدَّةِ، تَبَيَّنَّا نُفُوذَهُ، وَالرَّجْعَةُ بَاطِلَةٌ، وَلَوْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ فَأَسْلَمَتْ فَرَاجَعَهَا وَتَخَلَّفَ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ، احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِئْنَافِ. فَرْعٌ إِذَا أَثْبَتْنَا الْعِدَّةَ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ، أَوْ بِالْخَلْوَةِ، ثَبَتَتِ الرَّجْعَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالرُّكْنِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: لَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ، فَطَلَّقَ الْأَمَةَ رَجْعِيَّةً، فَلَهُ رَجْعَتُهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الْعِدَّةُ تَكُونُ بِالْحَمْلِ أَوِ الْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ، فَلَوِ ادَّعَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِالْأَشْهُرِ انْقِضَاءَهَا،

وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي وَقْتِ طَلَاقِهِ. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَتْ: بَلْ فِي شَوَّالٍ، فَقَدْ غَلِطَتْ عَلَى نَفْسِهَا فَتُؤَاخَذُ بِقَوْلِهَا. وَأَمَّا عِدَّةُ الْحَامِلِ، فَتَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ التَّامِّ الْمُدَّةِ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا أَوْ نَاقِصَ الْأَعْضَاءِ، وَبِإِسْقَاطِ مَا ظَهَرَ فِيهِ صُورَةُ الْآدَمِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ، فَقَوْلَانِ مَشْرُوحَانِ فِي كِتَابِ «الْعُدَّةِ» . وَمَتَى ادَّعَتْ وَضْعَ حَمْلٍ أَوْ سَقْطٍ [أَوْ] مُضْغَةٍ، إِذَا اكْتَفَيْنَا بِهَا، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا. وَقِيلَ: لَا تُصَدَّقُ مُطْلَقًا، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ، وَقِيلَ: لَا تُصَدَّقُ فِي الْوَلَدِ الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ. وَقِيلَ: وَلَا فِي الْوَلَدِ الْكَامِلِ. وَقِيلَ: وَلَا فِي السَّقْطِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَإِنَّمَا يُصَدِّقُهَا فِيمَا يَرْجِعُ فِي الْعِدَّةِ بِشَرْطَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ تَحِيضُ، فَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ آيِسَةً، لَمْ تُصَدَّقْ. وَالثَّانِي: أَنْ تَدَّعِيَ الْوَضْعَ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ، وَيَخْتَلِفُ الْإِمْكَانُ بِحَسَبِ دَعْوَاهَا. فَإِنِ ادَّعَتْ وِلَادَةَ وَلَدٍ تَامٍّ، فَأَقَلُّ مُدَّةٍ تُصَدَّقُ فِيهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَلَحْظَتَانِ مِنْ حِينِ إِمْكَانِ اجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَحْظَةٌ لِإِمْكَانِ الْوَطْءِ، وَلَحْظَةٌ لِلْوِلَادَةِ، فَإِنِ ادَّعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ تُصَدَّقْ، وَكَانَ لِلزَّوْجِ رَجْعَتُهَا. وَإِنِ ادَّعَتْ إِسْقَاطَ سَقْطٍ ظَهَرَتْ فِيهِ الصُّورَةُ، فَأَقَلُّ مُدَّةِ إِمْكَانِهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَحْظَتَانِ مِنْ يَوْمِ إِمْكَانِ الِاجْتِمَاعِ، وَإِنِ ادَّعَتْ إِلْقَاءَ مُضْغَةٍ لَا صُورَةَ فِيهَا، فَأَقَلُّ مُدَّةِ إِمْكَانِهَا ثَمَانُونَ يَوْمًا، وَلَحْظَتَانِ مِنْ يَوْمِ إِمْكَانِ الِاجْتِمَاعِ. وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الطُّهْرِ حُسِبَ بَقِيَّةُ الطُّهْرِ قُرْءًا، وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ، اشْتُرِطَ مُضِيُّ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَامِلَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْعِدَدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَقَلُّ مُدَّةٍ تُمْكِنُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فِيهَا إِذَا طُلِّقَتْ فِي الطُّهْرِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُطَلَّقَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ لَحْظَةٌ، ثُمَّ تَحِيضُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ تَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَحِيضُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَتَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَطْعَنُ فِي الْحَيْضِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ اللَّحْظَةُ الْأُولَى تَفْرِيعًا عَلَى

أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، فَإِذَا صَادَفَ الطَّلَاقُ آخِرَ جُزْءٍ مِنَ الطُّهْرِ، حُسِبَ ذَلِكَ قُرْءًا، وَيَظْهَرُ تَصْوِيرُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِآخَرَ. وَفِي قَوْلٍ: لَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِمُجَرَّدِ الطَّعْنِ فِي الدَّمِ آخِرًا، بَلْ يُشْتَرَطُ مُضِيُّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هَلِ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ عَلَى هَذَا، أَوِ اللَّحْظَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ مِنْ نَفْسِ الْعِدَّةِ، أَمْ لَيْسَ مِنْهَا وَإِنَّمَا هُوَ لِاسْتِيقَانِ انْقِضَاءِ الْأَقْرَاءِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا فِي ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، نَقَصَ زَمَنُ الْإِمْكَانِ عَنِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، هَذَا كُلُّهُ فِي طُهْرِ غَيْرِ الْمُبْتَدَأَةِ، أَمَّا إِذَا طُلِّقَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ، ثُمَّ حَاضَتْ، فَيُبْنَى أَمْرُهَا عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ طُهْرٌ مُحْتَوِشٌ بِدَمَيْنِ، أَمْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الِاحْتِوَاشُ؟ فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، فَحُكْمُهَا فِي مُدَّةِ الْإِمْكَانِ حُكْمُ غَيْرِهَا، وَإِنْ شَرَطْنَاهُ، فَأَقَلُّ مُدَّةِ إِمْكَانِهَا ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ. أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فِي حَيْضٍ، فَأَقَلُّ مُدَّةِ إِمْكَانِهَا سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ، بِأَنْ تُطَلَّقَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الْحَيْضِ، وَيَظْهَرُ تَصْوِيرُهُ فِيمَا إِذَا عُلِّقَ طَلَاقُهَا بِآخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيْضِهَا، ثُمَّ تَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ تَحِيضُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَتَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَحِيضُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَتَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَتَطْعَنُ فِي الْحَيْضِ، وَفِي لَحْظَةِ الطَّعْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُطَلَّقَةِ فِي الطُّهْرِ، وَلَا تَحْتَاجُ هُنَا إِلَى تَقْدِيرِ لَحْظَةٍ فِي الْأَوَّلِ، لِأَنَّ اللَّحْظَةَ هُنَاكَ تُحْسَبُ قُرْءًا، هَذَا حُكْمُ الْحُرَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَةُ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ، فَأَقَلُّ مُدَّةِ إِمْكَانِهَا سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ وَلَمْ تَحِضْ قَطُّ، ثُمَّ ظَهَرَ الدَّمُ وَشَرْطُنَا فِي الْقُرْءِ الِاحْتِوَاشُ، فَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِمْكَانِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ، وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ، فَالْأَقَلُّ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ. إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُطَلَّقَةِ عَادَةٌ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ مُسْتَقِيمَةٌ، بِأَنْ لَمْ تَكُنْ حَاضَتْ ثُمَّ طَرَأَ حَيْضُهَا، وَكَانَ لَهَا عَادَاتٌ مُضْطَرِبَةٌ، أَوْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ دَائِرَةٌ عَلَى الْأَقَلِّ حَيْضًا وَطُهْرًا، صَدَقَتْ بِيَمِينِهَا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ الْأَقْرَاءِ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ

نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ، حَلَفَ الزَّوْجُ وَكَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ، فَإِنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ دَائِرَةٌ عَلَى مَا فَوْقَ الْأَقَلِّ، صُدِّقَتْ فِي دَعْوَى انْقِضَائِهَا عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ، وَهَلْ تُصَدَّقُ فِيمَا دُونِهَا مَعَ الْإِمْكَانِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: تُصَدَّقُ بِيَمِينِهَا، لِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ تُغَيَّرُ، وَالثَّانِي: لَا لِلتُّهْمَةِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هُوَ الِاخْتِيَارُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. قَالَ: وَإِذَا قَالَتْ لَنَا امْرَأَةٌ انْقَضَتْ عِدَّتِي، وَجَبَ أَنْ نَسْأَلَهَا عَنْ حَالِهَا، كَيْفَ الطُّهْرُ وَالْحَيْضُ؟ وَنُحَلِّفُهَا عِنْدَ التُّهْمَةِ لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ، هَذَا لَفْظُهُ. فَرْعٌ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لِدُونِ الْإِمْكَانِ، وَرَدَدْنَا قَوْلَهَا، فَجَاءَ زَمَنُ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ كَذَّبَتْ نَفْسَهَا، أَوْ قَالَتْ: غَلِطْتُ وَابْتَدَأْتُ الْآنَ دَعْوَى الِانْقِضَاءِ، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا، وَإِنْ أَصَرَّتْ عَلَى الدَّعْوَى الْأُولَى، صَدَّقْنَاهَا الْآنَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ إِصْرَارَهَا يَتَضَمَّنُ دَعْوَى الِانْقِضَاءِ الْآنَ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَطُلِّقَتْ بِالْوِلَادَةِ، فَأَقَلُّ زَمَنٍ يُمْكِنُ انْقِضَاءُ إِقْرَائِهَا فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الدَّمَ تَرَاهُ فِي السِّتِّينَ، هَلْ يُجْعَلُ حَيْضًا، فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. فَإِنْ جَعَلْنَاهُ حَيْضًا وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَأَقَلُّ زَمَنٍ تُصَدَّقُ فِيهِ سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ، كَمَا لَوْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ، فَتُقَدِّرُ أَنَّهَا وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ دَمًا، وَيُعْتَبَرُ مُضِيُّ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَثَلَاثِ حِيَضٍ، وَالطَّعْنُ فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، وَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ حَيْضًا لَمْ تُصَدَّقْ فِيمَا دُونَ اثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ يَوْمًا وَلَحْظَةٍ، مِنْهَا سِتُّونَ لِلنِّفَاسِ، وَيُحْسَبُ ذَلِكَ قُرْءًا، وَبَعْدَهَا مُدَّةُ حَيْضَتَيْنِ وَطُهْرَيْنِ، وَاللَّحْظَةُ لِلطَّعْنِ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَلَمْ يَعْتَدَّ الْمُتَوَلِّي بِالنِّفَاسِ قُرْءًا، وَاعْتَبَرَ مُضِيَّ مِائَةٍ وَسَبْعَةِ أَيَّامٍ وَلَحْظَةٍ، وَهِيَ مُدَّةُ النِّفَاسِ، وَمُدَّةُ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَحَيْضَتَيْنِ، وَاللَّحْظَةُ لِلطَّعْنِ.

فصل

فَصْلٌ الرَّجْعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِعِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَلَوْ وَطِئَ الزَّوْجُ الرَّجْعِيَّةَ فِي الْعِدَّةِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ إِلَّا فِيمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلَهُ تَجْدِيدُ النِّكَاحِ فِيمَا زَادَ بِسَبَبِ الْوَطْءِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَلَوْ أَحْبَلَهَا بِالْوَطْءِ، اعْتَدَّتْ بِالْوَضْعِ عَنِ الْوَطْءِ. وَفِي دُخُولِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَدْخُلُ، فَعَلَى هَذَا، لَهُ الرَّجْعَةُ فِي عِدَّةِ الْحَمْلِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ وَجْهًا، أَنَّ الرَّجْعَةَ تَنْقَطِعُ عَلَى هَذَا بِالْحَمْلِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَدْخُلُ، فَإِذَا وَضَعَتْ، رَجَعَتْ إِلَى بَقِيَّةِ الْأَقْرَاءِ، وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ فِي الْبَقِيَّةِ الَّتِي تَعُودُ إِلَيْهَا بَعْدَ الْوَضْعِ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ أَيْضًا قَبْلَ الْوَضْعِ عَلَى الْأَصَحِّ. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الرَّجْعِيَّةِ وَالرَّجْعَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: يَحْرُمُ وَطْءُ الرَّجْعِيَّةِ وَلَمْسُهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا، وَسَائِرُ الِاسْتِمْتَاعَاتِ. فَإِنْ وَطِئَ، فَلَا حَدَّ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي إِبَاحَتِهِ، وَفِي الْعَالِمِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَلَا تَعْزِيرَ أَيْضًا إِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ يَعْتَقِدُ الْإِبَاحَةَ، وَإِلَّا فَيَجِبُ. وَإِذَا وَطِئَ وَلَمْ يُرَاجِعْ، لَزِمَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ رَاجَعَهَا، فَالنَّصُّ وُجُوبُ الْمَهْرِ أَيْضًا، وَنُصَّ فِيمَا لَوِ ارْتَدَّتْ فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فِيهَا، فَلَا مَهْرَ. وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْمَجُوسِيِّينَ أَوِ الْوَثَنِيِّينَ وَوَطْئِهَا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُتَخَلِّفُ فِي الْعِدَّةِ، فَقَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: فِي الْجَمِيعِ قَوْلَانِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ، أَنَّهُ وَجَدَهُمَا مَنْصُوصَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لِأَنَّ أَثَرَ الطَّلَاقِ لَا يَرْتَفِعُ

بِالرَّجْعَةِ، بَلْ يَبْقَى نُقْصَانُ الْعِدَّةِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ كَعَقْدَيْنِ، وَأَمَّا أَثَرُ الرِّدَّةِ وَتَبْدِيلِ الدِّينِ، فَيَرْتَفِعُ بِالْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ الْوَطْءُ مُصَادِفًا لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ. الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ خُلْعُ الرَّجْعِيَّةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَيَصِحُّ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ عَنْهَا، وَاللَّعَانُ، وَيَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ. وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ، وَرِثَهُ الْآخَرُ، وَيَجِبُ نَفَقَتُهَا، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مَذْكُورَةٌ فِي أَبْوَابِهَا، وَلَوْ قَالَ: نِسَائِي أَوْ زَوْجَاتِي طَوَالِقُ، دَخَلَتِ الرَّجْعِيَّةُ فِيهِنَّ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. الثَّالِثَةُ: طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الرَّقِيقَةَ رَجْعِيَّةً، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، وَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالطَّلَاقِ. فَإِنْ بَقِيَتْ فِي الْعِدَّةِ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ، كَفَتْ، وَإِنْ بَقِيَتْ بَقِيَّةُ الطُّهْرِ، فَقِيلَ: يَكْفِي، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ، هَذَا إِذَا قُلْنَا: الِاسْتِبْرَاءُ بِالْحَيْضِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، فَإِنْ قُلْنَا: بِالطُّهْرِ، قُلْنَا: بَقِيَّةُ الطُّهْرِ كَافِيَةٌ لِلِاسْتِبْرَاءِ، حَصَلَ الْغَرَضُ بِهَا. فَرْعٌ لَمَّا نَظَرَ الْأَصْحَابُ فِي الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، اسْتَنْبَطُوا مِنْهَا أَقْوَالًا فِي أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ يَقْطَعُ النِّكَاحَ وَيُزِيلُ الْمِلْكَ، أَمْ لَا؟ أَحَدُهَا: نَعَمْ، بِدَلِيلِ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَمَنْعِ الْخُلْعِ عَلَى قَوْلٍ. وَالثَّانِي: لَا، لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ الْحَدِّ، وَصِحَّةِ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَاللَّعَانِ، وَثُبُوتِ الْإِرْثِ وَصِحَّةِ الْخُلْعِ، وَعَدَمِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْأَظْهَرِ فِيهِمَا. وَاشْتُهِرَ عَنْ لَفْظِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ فِي خَمْسِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَرَادَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، تَبَيَّنَّا زَوَالَ الْمِلْكِ بِالطَّلَاقِ. وَإِنْ رَاجَعَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ، وَرَجَّحَ الْغَزَالِيُّ

فصل

الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَالْإِمَامُ الثَّانِي. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ تَرْجِيحُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اخْتِلَافِ التَّرْجِيحِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ مَا اخْتَارَهُ الرَّافِعِيُّ، أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ تَرْجِيحٌ، وَنَظِيرُهُ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّ النَّذْرَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ، أَمْ جَائِزِهِ، وَأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ أَمْ تَمْلِيكٌ؟ وَيَخْتَلِفُ الرَّاجِحُ بِحَسَبِ الْمَسَائِلِ، لِظُهُورِ دَلِيلِ الطَّرَفَيْنِ فِي بَعْضِهَا، وَعَكْسُهُ فِي بَعْضٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ، وَأَنْكَرَتْ، فَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا، وَإِمَّا بَعْدَهُ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: قَبْلَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ مُنْقَضِيَةً، وَإِمَّا بَاقِيَةً. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مُنْقَضِيَةٌ وَادَّعَى سَبْقَ الرَّجْعَةِ، وَادَّعَتْ سَبْقَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلِهَذَا الِاخْتِلَافِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ: رَاجَعْتُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقَالَتْ: بَلْ يَوْمَ السَّبْتِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُهُ رَاجَعَ يَوْمَ الْخَمِيسِ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. وَالثَّالِثُ: قَالَتْ: أَوَّلًا انْقَضَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَصَدَّقَهَا، وَقَالَ: رَاجَعْتُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ. وَإِنْ قَالَ هُوَ أَوَّلًا: رَاجَعْتُكِ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ لِاسْتِقْلَالِهِ بِالرَّجْعَةِ، وَالرَّجْعَةُ تَقْطَعُ الْعِدَّةَ. فَإِنِ اقْتَرَنَ دَعَوَاهُمَا، سَقَطَ هَذَا الْوَجْهُ، وَبَقِيَ الْوَجْهُ الْآخَرُ، وَبَقِيَ الْأَوَّلَانِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الرَّجْعَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَتِ: انْقَضَتْ يَوْمَ الْخَمِيسِ

، وَقَالَ: بَلْ يَوْمَ السَّبْتِ، فَهَلْ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ أَمْ هِيَ، أَمِ السَّابِقُ بِالدَّعْوَى؟ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَتَّفِقَا، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى تَقَدُّمِ الرَّجْعَةِ، وَهِيَ عَلَى تَأَخُّرِهَا، فَفِيهِ طُرُقٌ ذَكَرْنَاهَا فِي آخِرِ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ، وَهُنَا خِلَافٌ آخَرُ حَاصِلُهُ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: تَصْدِيقُ مَنْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى، فَلَوْ وَقَعَ كَلَامُهُمَا مَعًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَالثَّانِي: تَصْدِيقُهَا مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: تَصْدِيقُهُ، وَالرَّابِعُ: يُقْرَعُ وَيُقَدَّمُ قَوْلُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْخَامِسُ: يُسْأَلُ الزَّوْجُ عَنْ وَقْتِ الرَّجْعَةِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ وَصَدَّقَتْهُ، وَإِلَّا ثَبَتَ بِيَمِينِهِ، وَتُسْأَلُ عَنْ وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ صَدَّقَهَا وَإِلَّا ثَبَتَ بِيَمِينِهَا، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ وَقْتَيْهِمَا، وَيُحْكَمُ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا، وَلَوْ قَالَ: لَا نَعْلَمُ حُصُولَ الْأَمْرَيْنِ مُرَتَّبًا، وَلَا نَعْلَمُ السَّابِقَ، فَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِدَّةِ وَوِلَايَةِ الرَّجْعَةِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ بَاقِيَةً، وَاخْتَلَفَا فِي الرَّجْعَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: قَوْلُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرَّجْعَةِ، فَإِنْ أَرَادَهَا، فَلْيُنْشِئْهَا. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ، أَنَّ إِقْرَارَهُ وَدَعْوَاهُ، يَكُونُ إِنْشَاءً، وَحَكَى ذَلِكَ عَنِ الْقَفَّالِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَمَنْ قَالَ بِهِ، يَجْعَلُ الْإِقْرَارَ بِالطَّلَاقِ إِنْشَاءً أَيْضًا، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْشَاءَ يَتَنَافَيَانِ، فَذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ، وَهَذَا إِحْدَاثٌ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. فَرْعٌ قَالَ: رَاجَعْتُكِ الْيَوْمَ، فَقَالَتِ: انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ، صَدَقَتْ هِيَ، نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: الْمُرَادُ إِذَا اتَّصَلَ كَلَامُهَا بِكَلَامِهِ، قَالُوا: وَقَوْلُهُ

«رَاجَعْتُ» إِنْشَاءٌ، وَقَوْلُهَا: «انْقَضَتْ عِدَّتِي» إِخْبَارٌ، فَيَكُونُ الِانْقِضَاءُ سَابِقًا عَلَى قَوْلِهَا. الْقِسْمُ الثَّانِي: إِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا بَعْدَ الْعِدَّةِ، فَجَاءَ الْأَوَّلُ وَادَّعَى الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً، فَهِيَ زَوْجَتُهُ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَمْ لَا، فَإِنْ دَخَلَ، فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَأَرَادَ تَحْلِيفَهَا، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَلَوِ ادَّعَى عَلَى الزَّوْجِ، فَفِي سَمَاعِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: لَا، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَيْسَتْ فِي يَدِهِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّهَا فِي حِبَالَتِهِ وَفِرَاشِهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ. فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهَا، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِالرَّجْعَةِ، لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهَا عَلَى الثَّانِي، بِخِلَافِ مَا لَوِ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ فِي حِبَالِ رَجُلٍ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَقَالَتْ: كُنْتُ زَوْجَتُكَ فَطَلَّقْتَنِي، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِقْرَارًا لَهُ، وَتُجْعَلُ زَوْجَةً لَهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا، لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَحْصُلِ الِاتِّفَاقُ عَلَى الطَّلَاقِ، وَهُنَا حَصَلَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الرَّجْعَةِ، وَتَغْرَمُ الْمَرْأَةُ لِلْأَوَّلِ مَهْرَ مِثْلِهَا، لِأَنَّهَا فَوَّتَتِ الْبُضْعَ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الثَّانِي. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا غُرْمَ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا أَوِ ارْتَدَّتْ، وَإِنْ أَنْكَرَتْ، فَهَلْ تَحْلِفُ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ هَلْ تَغْرَمُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَإِقْرَارُهَا بِالرَّجْعَةِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَا مُؤَثِّرٌ فِي الْغُرْمِ، فَلَا تَحْلِفُ، وَالْأَصَحُّ التَّحْلِيفُ، فَإِنْ حَلَفَتْ، سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ وَغَرَّمَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَلَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الثَّانِي وَإِنْ جَعَلْنَا الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْبَيِّنَةِ عَلَى قَوْلٍ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الثَّانِي إِذَا قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، وَإِذَا قَبِلْنَا الدَّعْوَى عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي، نُظِرَ، إِنْ بَدَأَ بِالدَّعْوَى عَلَى الزَّوْجَةِ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ إِذَا انْقَضَتْ خُصُومَتُهُمَا، بَقِيَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ بَدَأَ بِالدَّعْوَى عَلَى الثَّانِي، فَإِنْ أَنْكَرَ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ نَكَلَ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ، حُكِمَ بِارْتِفَاعِ نِكَاحِ الثَّانِي، وَلَا تَصِيرُ

الْمَرْأَةُ لِلْأَوَّلِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْبَيِّنَةِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي نِكَاحٌ، وَلَا شَيْءَ لَهَا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ دَخَلَ بِهَا، فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَلَهَا عَلَيْهِ كَمَالِ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفُهُ إِنْ كَانَ قَبْلَهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي، أَنَّهَا وَإِنْ جُعِلَتْ كَالْبَيِّنَةِ لَا تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ حَقِّهَا مِنَ الْمُسَمَّى، بَلْ يَخْتَصُّ أَثَرُ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ بِالْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا، فَلَهُ الدَّعْوَى عَلَى الْمَرْأَةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ بَقِيَ النِّكَاحُ الثَّانِي، بِأَنْ حَلَفَ، فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا بَدَأَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ، بِأَنْ أَقَرَّ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ بِالرَّجْعَةِ، أَوْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْأَوَّلُ، فَإِنْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ بِالْيَمِينِ، فَإِنْ نَكَلَتْ فَحَلَفَ الْأَوَّلُ، سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَلَهَا عَلَى الثَّانِي مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ جَرَى دُخُولٌ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ بِالرَّجْعَةِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: لَا تُسَلَّمُ إِلَى الْأَوَّلِ، لِحَقِّ الثَّانِي، وَذَلِكَ عِنْدَ إِقْرَارِهَا، أَوْ نُكُولِهَا، وَيَمِينِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا زَالَ حَقُّ الثَّانِي بِمَوْتٍ وَغَيْرِهِ، سُلِّمَتْ إِلَى الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُرِّيَّتِهِ. فَرْعٌ إِذَا أَنْكَرَتِ الرَّجْعَةَ، وَاقْتَضَى الْحَالُ تَصْدِيقَهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، صَدَقَتْ فِي الرُّجُوعِ، وَقُبِلَ إِقْرَارُهَا، نَصَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّتْ أَنَّهَا بِنْتُ زَيْدٍ مِنَ النَّسَبِ، أَوِ الرَّضَاعِ، ثُمَّ رَجَعَتْ وَكَذَّبَتْ نَفْسَهَا، لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهَا، وَلَوْ زُوِّجَتْ وَهِيَ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا، فَقَالَتْ: لَمْ أَرْضَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَقَالَتْ: رَضِيتُ وَكُنْتُ نَسِيتُهُ، فَهَلْ يُقْبَلُ رُجُوعُهَا أَمْ لَا وَلَا تَحِلُّ إِلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ؟ وَجْهَانِ: الْمَنْصُوصُ الثَّانِي، نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَرَجَّحَ الْغَزَالِيُّ الْأَوَّلَ.

فَرْعٌ طَلَّقَهَا طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ، وَقَالَ: طَلَّقْتُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلِيَ الرَّجْعَةُ، فَأَنْكَرَتِ الدُّخُولَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا. فَإِذَا حَلَفَتْ، فَلَا رَجْعَةَ، وَلَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةَ، وَلَا عِدَّةَ، وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي الْحَالِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَهَا، وَلَا أَرْبَعًا سِوَاهَا، حَتَّى يَمْضِيَ زَمَنُ عِدَّتِهَا، ثُمَّ هُوَ مُقِرٌّ لَهَا بِكَمَالِ الْمَهْرِ، وَهِيَ لَا تَدَّعِي إِلَّا نِصْفَهُ، فَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتِ الْجَمِيعَ، فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهَا بِشَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْهُ، فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا أَخْذُ النِّصْفِ، فَإِذَا أَخَذَتْهُ ثُمَّ عَادَتْ وَاعْتَرَفَتْ بِالدُّخُولِ، فَهَلْ لَهَا أَخْذُ النِّصْفِ الْآخَرِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إِقْرَارٍ مُسْتَأْنَفٍ مِنَ الزَّوْجِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ. وَفِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ لِأَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قَبَضَتِ الْمَهْرَ وَهُوَ عَيْنٌ، وَامْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ قَبُولِ النِّصْفِ، فَيُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَقْبَلَ النِّصْفَ، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَهَا مِنْهُ. وَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُصَدَّقَةُ فِي يَدِهِ، وَامْتَنَعَتْ مِنْ أَخْذِ الْجَمِيعِ، أَخَذَهُ الْحَاكِمُ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، قَالَ لَهَا: إِمَّا أَنْ تُبْرِئِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تَقْبَلِيهِ. فَرْعٌ ادَّعَتِ الدُّخُولَ، فَأَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِذَا حَلَفَ، فَلَا رَجْعَةَ وَلَا نَفَقَةَ، وَلَا سُكْنَى، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَإِنْ كَذَّبَتْ نَفْسَهَا، لَمْ تَسْقُطِ الْعِدَّةُ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي الدُّخُولِ قَبْلَ الْخَلْوَةِ أَمْ بَعْدَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَيْنَا فِي آخِرِ فَصْلِ التَّعْيِينِ قَوْلًا أَنَّ الْخَلْوَةَ تُرَجِّحُ جَانِبَ مُدَّعِي الدُّخُولِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِيَمِينِهِ.

فَرْعٌ نَصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ رَاجَعَهَا مُكَذِّبًا لَهَا، ثُمَّ قَالَتْ: مَا كَانَتْ عِدَّتِي انْقَضَتْ وَكَذَّبَتْ نَفْسَهَا، فَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَلْ حَكَى عَنْهَا. فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ، وَاخْتَلَفَا فِي الرَّجْعَةِ، فَحَيْثُ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ إِذَا كَانَتْ حُرَّةً، فَكَذَا هُنَا، وَحَيْثُ قُلْنَا: قَوْلُ الزَّوْجَةِ، فَهُنَا الْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِ السَّيِّدِ. قُلْتُ: وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي، وَهُوَ قَوِيٌّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الإيلاء

كِتَابُ الْإِيلَاءِ فِيهِ بَابَانِ. الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: الْحَالِفُ وَلَهُ شُرُوطٌ. الْأَوَّلُ: كَوْنُهُ زَوْجًا، فَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: وَاللَّهِ لَا أَطَؤُكِ تَمْحَضُ يَمِينًا، فَلَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَهُ، لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ، حَتَّى لَوْ نَكَحَهَا لَا تَضْرِبُ الْمُدَّةَ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ أَنَّهُ إِذَا نَكَحَهَا، صَارَ مُؤْلِيًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ، وَالضَّرَرُ حَاصِلٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ، فَهُوَ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْمِلْكِ، وَيَصِحُّ الْإِيلَاءُ مِنَ الرَّجْعِيَّةِ، وَلَا تُحْسَبُ الْمَدَّةُ عَنِ الْإِيلَاءِ، فَإِذَا رَجَعَ، ضُرِبَتِ الْمُدَّةُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: تَصَوُّرُ الْجِمَاعِ، فَمَنْ جُبَّ ذَكَرُهُ، لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَمَنْ آلَى ثُمَّ جُبَّ، لَا يَبْطُلُ إِيلَاؤُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ شُلَّ ذَكَرُهُ، أَوْ قُطِعَ بَعْضُهُ، وَبَقِيَ دُونَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ، فَهُوَ كَجَبِّ جَمِيعِهِ، وَالْإِيلَاءُ فِي الرَّتْقَاءِ، وَالْقَرْنَاءِ، كَإِيلَاءِ الْمَجْبُوبِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَكِنْ إِذَا صَحَّحْنَاهُ، لَا تُضْرَبُ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ تَسَبَّبَ مِنْ جِهَتِهَا، كَمَا لَوْ آلَى مِنْ صَغِيرَةٍ، لَا تُضْرَبُ الْمُدَّةُ حَتَّى تُدْرِكَ، وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِيلَاءُ مِنَ الصَّغِيرَةِ وَالْمَرِيضَةِ الْمُضْنَاةِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ.

فصل

فَرْعٌ سَوَاءٌ فِي صِحَّةِ الْإِيلَاءِ، الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، وَالْكَافِرُ وَأَضْدَادُهُمْ، وَلَا يَنْحَلُّ الْإِيلَاءُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ، وَإِذَا تَرَافَعَ إِلَيْنَا ذِمِّيَّانِ وَقَدْ آلَى، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ، حُكِمَ بِشَرْعِنَا، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، لَمْ يَجْبُرِ الْحَاكِمُ الزَّوْجَ عَلَى الْفَيْئَةِ، وَلَا الطَّلَاقِ، وَلَمْ تُطَلَّقْ عَلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا يَجُوزُ بِرِضَاهُمَا، فَإِذَا لَمْ يَرْضَيَا، رَدَدْنَاهُمَا إِلَى حَاكِمِهِمْ. فَرْعٌ يَصِحُّ إِيلَاءُ الْمَرِيضِ وَالْخَصِيِّ، وَمَنْ بَقِيَ مِنْ ذَكَرِهِ قَدْرُ الْحَشَفَةِ، وَالْعَرَبِيِّ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَعَكْسِهِ، إِذَا عَرَفَ مَعْنَى اللَّفْظِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَحْلُوفُ بِهِ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْوَطْءِ بِلَا يَمِينٍ، لَا يُثْبِتُ حَكَمَ الْإِيلَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ أَمْ لَا، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَطَؤُهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ طَالَبَتْهُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَوَطِئَ، لَزِمَهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْجَدِيدُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ. وَالثَّانِي: لَا كَفَّارَةَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الْبَقَرَةِ: 227] . فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَقِيلَ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ حَنِثَ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ. وَقِيلَ: بِطَرْدِ الْخِلَافِ، لِأَنَّهُ بَادَرَ إِلَى مَا يُطَالِبُ بِهِ. وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَهَا، ثُمَّ وَطِئَ، لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْلٍ، وَقِيلَ: بِطَرْدِ الْخِلَافِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. فَصْلٌ هَلْ يَخْتَصُّ الْإِيلَاءُ بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: نَعَمْ. وَالْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: لَا، بَلْ إِذَا قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَعَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ حَجٌّ، أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ فَضَرَّتُكِ طَالِقٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كَانَ

مُؤْلِيًا، وَشَرْطُ انْعِقَادِهِ بِهَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ لَوْ وَطِئَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَوْ كَانَتِ الْيَمِينُ تَنْحَلُّ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لَمْ تَنْعَقِدْ. فَلَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَعَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ هَذَا الشَّهْرَ أَوْ أَصُومَهُ أَوْ أَصُومَ الشَّهْرَ الْفُلَانِيَّ، وَهُوَ يَنْقَضِي قَبْلَ مُجَاوَزَةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْيَمِينِ، لَمْ يَنْعَقِدِ الْإِيلَاءُ، فَلَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، أَوِ الشَّهْرِ الْفُلَانِيِّ، وَهُوَ يَتَأَخَّرُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَهُوَ مُؤْلٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَعَلَيَّ صَوْمُ الشَّهْرِ الَّذِي أَطَأُ فِيهِ، وَيَلْزَمُهُ صَوْمُ بَقِيَّةِ ذَلِكَ الشَّهْرِ إِنْ أَوْجَبْنَا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ الْوَفَاءَ بِالْمُلْتَزَمِ. وَفِي قَضَاءِ الْيَوْمِ الَّذِي وَطِئَ فِيهِ، وَجْهَانِ مَأْخُوذَانِ مِنَ الْخِلَافِ، فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدُمُ فِيهِ زِيدٌ. وَلَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ، فَهُوَ مُؤْلٍ إِنْ بَقِيَ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَكُلُّ عَبْدٍ يَدْخُلُ فِي مِلْكِي حُرٌّ، فَهُوَ لَغْوٌ، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ لَغْوٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَكِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ بَعْدَ سَنَةٍ، فَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: هُوَ مُؤْلٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْإِمَامُ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ أَصَبْتُكِ، فَوَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ، فَيَكُونُ الرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا أَوْجَهُ. فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ تَتَفَرَّعُ عَلَى الْجَدِيدِ إِحْدَاهَا: قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَعَبْدِي حُرٌّ، فَمَاتَ الْعَبْدُ أَوْ أَعْتَقَهُ، انْحَلَّ الْإِيلَاءُ، فَإِنْ زَالَ مِلْكُهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَكَذَلِكَ، فَإِنْ مَلَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَفِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ قَوْلَا عَوْدِ الْحِنْثِ، وَلَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ، لَمْ يَنْحَلَّ الْإِيلَاءُ، لِأَنَّهُ يُعْتَقُ لَوْ وَطِئَهَا، وَكَذَا لَوْ عَلَّقَ بِالْوَطْءِ عِتْقَ جَارِيَةٍ ثُمَّ اسْتَوْلَدَهَا. الثَّانِيَةُ: قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَعَبْدِي حُرٌّ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ، فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤْلِيًا إِذَا

مَضَى شَهْرٌ مِنْ وَقْتِ تَلَفُّظِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ تَمَامِ شَهْرٍ، لَمْ يُعْتَقْ، وَيَنْحَلُّ الْإِيلَاءُ بِذَلِكَ الْوَطْءِ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَلَمْ يَطَأْ، ضُرِبَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، وَيُطَالَبْ فِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ، هَكَذَا قَالُوهُ، وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ قَبْلَ الشَّهْرِ عَتَقَ كَمَا سَبَقَ فِي نَطِيرِهِ مِنَ الطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَوَطِئَ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَوْ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، حُكِمَ بِعِتْقِ الْعَبْدِ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ، وَإِنْ طَلَّقَهَا حِينَ طُولِبَ، ثُمَّ رَاجَعَهَا، ضُرِبَتِ الْمُدَّةُ مَرَّةً أُخْرَى. وَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، فَفِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ قَوْلَا عَوْدِ الْحِنْثِ، وَإِذَا وَطِئَهَا، حُكِمَ بِعِتْقِ الْعَبْدِ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ وَقَعَ الْوَطْءُ عَلَى صُورَةِ الزِّنَا، وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ، فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ تَمَامِ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ، تَبَيَّنَّا حُصُولَ الْعِتْقِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَإِنْ تَمَّ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ شَهْرٌ وَلَمْ يَطَأِ ارْتَفَعَ الْإِيلَاءُ، لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَحْصُلِ الْعِتْقُ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ لِتَقَدُّمِ الْبَيْعِ عَلَى شَهْرٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَجْهًا أَنَّهُ يُطَالَبُ بَعْدَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُطَلِّقُهَا، وَالطَّلَاقُ لَا يَسْتَنِدُ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَعَبْدِي حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، فَإِنْ كَانَ قَدْ ظَاهَرَ، صَارَ مُؤْلِيًا، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، فَعِتْقُ ذَلِكَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، وَتَعْجِيلُ الْإِعْتَاقِ عَنِ الظِّهَارِ زِيَادَةٌ الْتَزَمَهَا بِالْوَطْءِ، ثُمَّ إِذَا وَطِئَ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَوْ بَعْدَهَا، فَهَلْ يُعْتَقُ الْعَبْدُ عَنِ الظِّهَارِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَطَرَدَ الْخِلَافَ فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهَرَ، فَلَا إِيلَاءَ وَلَا ظِهَارَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالظِّهَارِ، فَيُحْكَمُ فِي الظَّاهِرِ بِأَنَّهُ مُظَاهِرٌ وَمُؤْلٍ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، وَإِذَا وَطِئَ عَادَ فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ عَنِ الظِّهَارِ فِي الظَّاهِرِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَعَبْدِي حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي إِنْ ظَاهَرْتُ، لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ،

فَإِنْ ظَاهَرَ، صَارَ مُؤْلِيًا، لِأَنَّ الْعِتْقَ يَحْصُلُ حِينَئِذٍ لَوْ وَطِئَ. وَقِيلَ: فِي كَوْنِهِ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ قَوْلَانِ، لِقُرْبِهِ مِنَ الْحِنْثِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِنِسْوَةٍ: وَاللَّهِ لَا جَامَعْتُكُنَّ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَعَبْدِي حُرٌّ إِنْ ظَاهَرْتُ، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ ظِهَارِي، كَانَ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُؤْلِيًا إِلَّا إِذَا ظَاهَرَ، فَوَطِئَ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَوْ بَعْدَهَا، حَصَلَ الْعِتْقُ لِوُجُودِ الظِّهَارِ، وَالْوَطْءُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَلَا يَقَعُ هَذَا الْعِتْقُ عَنِ الظِّهَارِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَلِمَ لَا يَقَعُ؟ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ سَبَقَ الظِّهَارَ، وَالْعِتْقُ لَا يَقَعُ عَنِ الظِّهَارِ إِلَّا بِلَفْظٍ يُوجَدُ بَعْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ خَالِصًا عَنِ الظِّهَارِ، لِتَأَدِّي حَقِّ الْحِنْثِ بِهِ، فَأَشْبَهَ عِتْقَ الْقَرِيبِ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، وَبَنُوا عَلَى التَّعْلِيلَيْنِ مَا لَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَعَبْدِي حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي إِنْ ظَاهَرْتُ، وَكَانَ ظَاهَرَ وَنَسِيَ، فَيَكُونُ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، وَإِذَا وَطِئَ، عَتَقَ الْعَبْدُ عَنِ الظِّهَارِ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي هَذَا عَنْ ظِهَارِي، وَكَانَ ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَوَجَدَ الْعَوْدَ، فَهَلْ يَكُونُ مُؤْلِيًا؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ مَنْ فِي ذِمَّتِهِ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ فَنَذَرَ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّرِ أَنْ يَعْتِقَ الْعَبْدَ الْفُلَانِيَّ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، هَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْعَبْدُ أَمْ لَا؟ النَّصُّ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: يَتَعَيَّنُ، وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ، وَخَرَّجَهُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَدَّ الْإِمَامُ هَذَا قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ وَقَالَ: تَخْرِيجُهُ أَوْلَى مِنْ تَخْرِيجِ غَيْرِهِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ أَنَّ الْقَاضِيَ حُسَيْنًا قَالَ: لَوْ نَذَرَ صَرْفَ زَكَاتِهِ إِلَى مُعَيَّنَيْنِ مِنَ الْأَصْنَافِ، تَعَيَّنُوا، وَأَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا: لَا يَتَعَيَّنُونَ، وَفَرَّقُوا بِقُوَّةِ الْعِتْقِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَيَّنُ الْعَبْدُ الْمُعَيَّنُ لِلْإِعْتَاقِ، صَارَ

مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ مُؤْلِيًا، فَإِنْ صَحَّحْنَا الْإِيلَاءَ، فَطَلَّقَ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ الْإِيلَاءِ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيُعْتَقُ عَنْهَا ذَلِكَ الْعَبْدُ أَوْ غَيْرُهُ. وَإِنْ وَطِئَ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَوْ بَعْدَهَا، لَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ، فَإِنْ قُلْنَا: كَفَّارَةُ يَمِينٍ، نُظِرَ، إِنْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا، فَعَلَيْهِ الْإِعْتَاقُ عَنِ الظِّهَارِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَوْ عَبْدًا آخَرَ عَنِ الْيَمِينِ، فَعَلَيْهِ أَيْضًا الْإِعْتَاقُ عَنِ الظِّهَارِ. وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى، أَوْ خَيَّرْنَاهُ فَاخْتَارَ الْوَفَاءَ وَأَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ عَنْ ظِهَارِهِ، خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْيَمِينِ. وَفِي إِجْزَائِهِ عَنِ الظِّهَارِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْإِجْزَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ فَأَنْتِ ثَلَاثًا، فَيُطَالَبُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَفِيمَا يُطَالَبُ بِهِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: يُطَالَبُ بِالطَّلَاقِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَيُمْنَعُ الْوَطْءَ، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: يُطَالَبُ بِالْفَيْأَةِ، أَوِ الطَّلَاقِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ، وَيُقَالُ لَهُ: عَلَيْكَ النَّزْعُ بِمُجَرَّدِ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ، فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَنَزَعَ بِمُجَرَّدِ تَغَيُّبِ الْحَشَفَةِ، فَذَاكَ، وَإِنْ مَكَثَ، فَلَا حَدَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْوَطْءِ مُبَاحٌ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ وَجْهًا، أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ إِذَا عَلِمَ تَحْرِيمَهُ، وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. وَإِنْ نَزَعَ ثُمَّ أَوْلَجَ، فَلَا حَدَّ إِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، وَحُكْمُ الْمَهْرِ كَمَا سَبَقَ فِي الرَّجْعِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ عَلَّقَ بِهِ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ، فَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ، بِأَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِاسْتِيعَابِ الْوَطْءِ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَا حَدَّ لِلشُّبْهَةِ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِدَّةُ. وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ الْحَدُّ، وَلَا مَهْرَ وَلَا نَسَبَ وَلَا عِدَّةَ. وَالثَّانِي: عَكْسُهُ. وَإِنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَجَهِلَتْهُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا الْمَهْرُ، وَكَذَا لَوْ عَلِمَتْ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الزَّوْجِ، وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ الْوَجْهَانِ، وَإِنْ جَهِلَ هُوَ التَّحْرِيمَ وَعَلِمَتْهُ وَقَدَرَتْ عَلَى الدَّفْعِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الْحَدُّ وَلَا مَهْرَ لَهَا.

فَرْعٌ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَعَ بِالْوَطْءِ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِالصِّفَةِ يَقَعُ بَعْدَهَا أَمْ مَعَهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَضَرَّتُكِ طَالِقٌ، فَهُوَ مُؤْلٍ عَنِ الْمُخَاطَبِ، وَمُعَلِّقٌ طَلَاقَ الضَّرَّةِ، فَإِنْ وَطِئَ الْمُخَاطَبَةَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، طُلِّقَتِ الضَّرَّةُ، وَانْحَلَّ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ وَلَمْ يَطَأْهَا، سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ وَلَمْ يَطَأْهَا، وَخَرَجَ عَنْ مُوجَبِ الْإِيلَاءِ، فَإِنْ رَاجَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَادَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَهَذَا حُكْمُ كُلِّ إِيلَاءٍ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ بَانَتْ فَجَدَّدَ نِكَاحَهَا، فَفِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ أَقْوَالُ عَوْدِ الْحِنْثِ، وَهَذَا يَشْمَلُ كُلَّ إِيلَاءٍ، فَإِنْ قُلْنَا: يَعُودُ، اسْتُؤْنِفَتِ الْمُدَّةُ مِنْ يَوْمِ النِّكَاحِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ. وَسَوَاءٌ قُلْنَا: يَعُودُ الْإِيلَاءُ أَمْ لَا، فَطَلَاقُ الضَّرَّةِ يَبْقَى مُعَلَّقًا بِوَطْءِ الْمُخَاطَبَةِ، حَتَّى لَوْ وَطِئَ الْمُخَاطَبَةَ بَعْدَ الرَّجْعَةِ أَوِ التَّجْدِيدِ، وَقَعَ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا لَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ بَائِنٌ زَانِيًا، وَلَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ لَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِوَطْءِ الزِّنَا. وَلَوْ مَاتَتِ الضَّرَّةُ، انْحَلَّ الْإِيلَاءُ، وَلَوْ طَلَّقَهَا، لَمْ يَرْتَفِعِ الْإِيلَاءُ وَلَا الْمُطَالَبَةُ مَا دَامَتْ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ الْمُخَاطَبَةَ لَطُلِّقَتْ، فَإِذَا انْقَضَتْ أَوْ أَبَانَ الضَّرَّةَ، ابْتَدَأَ بِخُلْعٍ أَوِ اسْتِيفَاءِ عِدَدٍ أَوْ طَلَاقٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، ارْتَفَعَ الْإِيلَاءُ وَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ. ثُمَّ إِنْ وَطِئَ الْمُخَاطَبَةَ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ، وَلَا يَعُودُ إِيلَاؤُهَا لَوْ نَكَحَ الضَّرَّةَ، وَإِنْ نَكَحَ الضَّرَّةَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي عَوْدِ الْحِنْثِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَعُودُ، لَمْ يَعُدِ الْإِيلَاءُ، وَإِلَّا فَيَعُودُ، وَإِذَا أَعَدْنَاهُ، فَهَلْ يَسْتَأْنِفُ الْمُدَّةَ، أَمْ يَبْنِي؟ وَجْهَانِ، اخْتَارَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ الْبِنَاءَ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ بِالِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ أَصَحُّ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إِنْ وَطِئْتُ إِحْدَاكُمَا، فَالْأُخْرَى طَالِقٌ،

فَإِمَّا أَنْ يُعَيِّنَ بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً، وَإِمَّا لَا، فَإِنْ عَيَّنَ، فَهُوَ مُؤْلٍ مِنْهَا وَحْدَهَا، لَكِنَّ الْأَمْرَ فِي الظَّاهِرِ مُبْهَمٌ، فَيُقَالُ لَهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ: بَيِّنِ الَّتِي أَرَدْتَهَا، فَإِنْ بَيَّنَ، فَلَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَطَالَبَتَاهُ جَمِيعًا، قَالَ لَهُ الْقَاضِي: فِئْ إِلَى الَّتِي آلَيْتَ مِنْهَا، أَوْ طَلِّقْهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ، طَلَّقَ الْقَاضِي إِحْدَاهُمَا عَلَى الْإِبْهَامِ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُطَلِّقُ عَلَى الْمُؤْلِي إِذَا امْتَنَعَ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَفَّالُ، قَالَ: لَا يُطَلِّقُ الْقَاضِي إِحْدَاهُمَا مُبْهَمَةً، لِأَنَّهُمَا مُعْتَرِفَتَانِ بِالْإِشْكَالِ، فَدَعْوَاهُمَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، كَمَا لَوْ حَضَرَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَالَ: لِأَحَدِنَا عَلَى هَذَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَزَادَ الْمُتَوَلِّي فَقَالَ: هَذَا إِذَا جَاءَتَا مَعًا وَادَّعَتَا كَذَلِكَ، فَلَوِ انْفَرَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ، وَقَالَتْ: آلَى مِنِّي، فَإِنْ أَقَرَّ بِمَا قَالَتَا، أَخَذَ بِمُوجِبِ إِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَذَّبَ الْأُولَى، تَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ: قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ صَحِيحٌ، لِحُصُولِ الضَّرَرِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِ الْوَاقِعَةِ، وَلَا إِلَى طَلَاقِ مُعَيَّنَةٍ، فَعَلَى هَذَا، إِذَا طَلَّقَ الْقَاضِي، فَقَالَ الزَّوْجُ: رَاجَعْتُ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، فَفِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي الرَّجْعَةِ، وَبِالصِّحَّةِ أَجَابَ ابْنُ الْحَدَّادِ، فَعَلَى هَذَا تُضْرَبُ الْمُدَّةُ مَرَّةً أُخْرَى، وَيُطَلِّقُ الْقَاضِي مَرَّةً أُخْرَى عَلَى الْإِبْهَامِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّلَاثَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَصِحُّ عَلَى الْإِبْهَامِ، بَلْ تُبَيَّنُ الْمُطَلَّقَةُ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا إِنْ شَاءَ. فَلَوْ وَطِئَ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يُحْكَمُ بِطَلَاقِ الْأُخْرَى، لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ الَّتِي نَوَاهَا هِيَ الْمَوْطُوءَةُ أَمِ الْأُخْرَى، وَيَبْقَى الْأَمْرُ بِالْبَيَانِ كَمَا كَانَ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الْأُخْرَى، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَتُطَالِبْهُ الْأُخْرَى بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ. فَإِنْ وَطِئَهَا، طُلِّقَتِ الْمَوْطُوءَةُ الْأُولَى، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الْإِيلَاءَ مِنَ الْمَوْطُوءَةِ، طُلِّقَتِ الْأُخْرَى، وَخَرَجَ عَنْ مُوجَبِ الْإِيلَاءِ، هَذَا إِذَا عَيَّنَ بِقَلْبِهِ إِحْدَاهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ مُعَيَّنَةً، فَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْبَغَوِيُّ،

أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْلِيًا مِنْهُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ أَيَّةَ وَاحِدَةٍ وَطْئِهَا طُلِّقَتِ الْأُخْرَى، وَلَحِقَهُ الضَّرَرُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: تَكُونُ مُؤْلِيًا مِنْ وَاحِدَةٍ، وَيُؤْمَرُ بِالتَّعْيِينِ. كَمَا فِي الطَّلَاقِ، وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَوْ قَالَ لِنِسْوَةٍ: لَا جَامَعْتُ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ، وَلَمْ يَنْوِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ بِنَاءً عَلَى جَوَابِهِ، أَنَّهُ إِذَا طُولِبَ بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَوَطِئَ إِحْدَاهُمَا، طُلِّقَتِ الْأُخْرَى وَتَخَلَّصَ مِنَ الْإِيلَائَيْنِ، وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا، لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ بِالْوَطْءِ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَلَا تَنْحَلُّ بِالطَّلَاقِ. حَتَّى لَوْ وَطِئَ الَّتِي لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ أُخْرَى عَلَى الَّتِي طَلَّقَهَا إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةِ الرَّجْعَةِ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا وَطِئْتُ إِحْدَاكُمَا، فَالْأُخْرَى طَالِقٌ، وَوَطِئَ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ إِحْدَاهُمَا، طُلِّقَتِ الْأُخْرَى وَتَخَلَّصَ عَنِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْمَوْطُوءَةِ، وَلَا يَتَخَلَّصُ بِالْكُلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْأُخْرَى وَإِنْ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ فِي الْحَالِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَإِذَا رَاجَعَهَا، عَادَ فِيهَا الْإِيلَاءُ. وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ كَلَامَ ابْنِ الْحَدَّادِ ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: يَكُونُ مُؤْلِيًا مِنْهُمَا جَمِيعًا، قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا إِذَا عَيَّنَ وَاحِدَةً بِقَلْبِهِ، وَمَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ، وَلَا وَجْهَ لِكَوْنِهِ مُؤْلِيًا مِنْهُمَا مَعَ تَعْيِينِ وَاحِدَةٍ بِقَلْبِهِ بِحَالٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: سَبَقَ أَنَّ الْمُؤْلِيَ مَنْ عَلَّقَ بِالْوَطْءِ مَانِعًا مِنْهُ، مَنْ حَنِثَ فِي يَمِينٍ، أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ وَنَحْوِهَا، فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْحِنْثُ بِالْوَطْءِ، بَلْ كَانَ مُقَرَّبًا مِنْهُ، فَقَوْلَانِ، الْمَشْهُورُ وَهُوَ الْجَدِيدُ، وَأُخْرَى قَوْلَيِ الْقَدِيمِ: لَا يَكُونُ مُؤْلِيًا. وَالثَّانِي مِنْ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ: يَكُونُ مُؤْلِيًا، فَإِذَا قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكُنَّ، لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِجِمَاعِهِنَّ كُلِّهِنَّ، وَإِذَا وَطَأْهُنَّ، لَزِمَهُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ الْيَمِينَ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ مَاتَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَ الْوَطْءِ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ، لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ امْتِنَاعُ الْحِنْثِ، وَلَا نَظَرَ إِلَى تَصَوُّرِ الْإِيلَاجِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّ اسْمَ الْوَطْءِ يَقَعُ

مُطْلَقُهُ عَلَى مَا فِي الْحَيَاةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ، يَتَعَلَّقَانِ بِوَطْءِ الْمَيِّتَةِ. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهٍ فَارِقٍ بَيْنَ مَا قَبْلَ الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ، وَلَا أَثَرَ لِمَوْتِ بَعْضِهِنَّ بَعْدَ الْوَطْءِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ كَهُوَ فِي الْقُبُلِ فِي حُصُولِ الْحِنْثِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» وَ «الْبَيَانِ» عَنِ الْأَصْحَابِ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا، أَنَّ الْأَصْحَابَ قَالُوا: الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ كَهُوَ فِي الْقُبُلِ، إِلَّا فِي سَبْعَةِ أَحْكَامٍ أَوْ خَمْسَةٍ، لَيْسَتِ الْيَمِينُ مِنْهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ طَلَّقَهُنَّ أَوْ بَعْضَهُنَّ قَبْلَ الْوَطْءِ، لَمْ تَنْحَلَّ الْيَمِينُ، بَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَإِنْ كَانَ زِنًا، هَذَا حُكْمُ الْيَمِينِ، وَأَمَّا الْإِيلَاءُ، فَفِيهِ طُرُقٌ، الْمَذْهَبُ مِنْهَا: لَا يَكُونُ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، فَإِنْ وَطِئَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ، صَارَ مُؤْلِيًا مِنَ الرَّابِعَةِ. وَفِي قَوْلٍ: يَكُونُ مُؤْلِيًا مِنَ الْجَمِيعِ فِي الْحَالِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَوْ مَاتَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَ الْوَطْءِ، ارْتَفَعَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِحُصُولِ الْيَأْسِ مِنَ الْحِنْثِ. وَلَوْ مَاتَ بَعْضُهُنَّ بَعْدَ الْوَطْءِ، لَمْ يَرْتَفِعْ، وَلَوْ طَلَّقَ بَعْضَهُنَّ قَبْلَ الْوَطْءِ أَوْ بَعْدَهُ، فَكَذَلِكَ، حَتَّى لَوْ أَبَانَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ وَوَطَأَهُنَّ فِي الْبَيْنُونَةِ زَانِيًا، صَارَ مُؤْلِيًا مِنَ الْبَاقِيَةِ. وَلَوْ أَبَانَ وَاحِدَةً قَبْلَ الْوَطْءِ، وَوَطِئَ الثَّلَاثَ فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ نَكَحَ الْمُطَلَّقَةَ، فَفِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ قَوْلَا عَوْدِ الْحِنْثِ، وَحُكْمُ الْيَمِينِ بَاقٍ قَطْعًا، حَتَّى لَوْ وَطِئَهَا، لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالضَّعِيفِ: إِنَّهُ مُؤْلٍ فِي الْحَالِ، ضَرَبْنَا الْمُدَّةَ، وَلِجَمِيعِهِنَّ الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ الْمُدَّةِ. فَإِنْ وَطَأَهُنَّ أَوْ طَلَّقَهُنَّ، تَخَلَّصَ مِنَ الْإِيلَاءِ، وَإِنْ وَطِئَ بَعْضَهُنَّ، ارْتَفَعَ الْإِيلَاءُ فِي حَقِّ مَنْ وَطِئَهَا، وَلَا يَرْتَفِعُ فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَةِ، بَلْ إِذَا رَاجَعَهَا ضُرِبَتِ الْمُدَّةُ ثَانِيًا.

فَرْعٌ قَالَ لِلنِّسْوَةِ الْأَرْبَعِ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ، قَالَ الْأَصْحَابُ: يَكُونُ مُؤْلِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ الْحِنْثُ وَلُزُومُ الْكَفَّارَةِ، قَالُوا: تُضْرَبُ الْمُدَّةُ فِي الْحَالِ، فَإِذَا مَضَتْ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ الْمُطَالَبَةُ بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَهُنَّ، سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ، فَإِنْ رَاجَعَهُنَّ، ضُرِبَتِ الْمُدَّةُ ثَانِيًا، وَإِنَّ طَلَّقَ بَعْضَهُنَّ، فَالْبَاقِيَاتُ عَلَى مُطَالَبَتِهِنَّ. وَإِنْ وَطِئَ إِحْدَاهُنَّ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ فِي حَقِّ الْبَاقِيَاتِ، وَارْتَفَعَ الْإِيلَاءُ فِيهِنَّ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَقِيلَ: لَا تَنْحَلُّ وَلَا تَرْتَفِعُ، وَجَعَلُوا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَنَظَائِرِهِ، هَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا أُجَامِعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَخْصِيصَ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِالْإِيلَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِصَوَاحِبِهَا، فَالْوَجْهُ بَقَاءُ الْإِيلَاءِ فِي الْبَاقِيَاتِ، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذِهِ الصُّورَةِ حُكْمَ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكُنَّ عَلَى مَا سَبَقَ. فَرْعٌ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ الِامْتِنَاعَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ، فَيَكُونُ مُؤْلِيًا مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ، وَلَهُنَّ الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ طَلَّقَ بَعْضَهُنَّ، بَقِيَ الْإِيلَاءُ فِي حَقِّ الْبَاقِيَاتِ، وَإِنْ وَطِئَ بَعْضَهُنَّ، حَصَلَ الْحِنْثُ، لِأَنَّهُ خَالَفَ قَوْلَهُ: لَا أَطَأُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَيَرْتَفِعُ الْإِيلَاءُ فِي حَقِّ الْبَاقِيَاتِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ الِامْتِنَاعَ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَا غَيْرَ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا يُقْبَلُ، لِلتُّهْمَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ قَدْ يُرِيدُ مُعَيَّنَةً، وَقَدْ يُرِيدُ مُبْهَمَةً، فَإِنْ أَرَادَ مُعَيَّنَةً، فَهُوَ مُؤْلٍ مِنْهَا، وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ، فَإِذَا بَيَّنَ، وَصَدَّقَهُ الْبَاقِيَاتُ، فَذَاكَ، فَإِنِ ادَّعَتْ غَيْرُ

الْمُعَيَّنَةِ أَنَّهُ أَرَادَهَا، وَأَنْكَرَ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتِ الْمُدَّعِيَةُ، وَحُكِمَ بِأَنَّهُ مُؤْلٍ مِنْهَا أَيْضًا، فَلَوْ أَقَرَّ فِي جَوَابِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ نَوَاهَا، وَأَخَذْنَاهُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارَيْنِ، وَطَالَبْنَاهُ بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنِ الْأُولَى، وَإِذَا وَطَأَهُمَا فِي صُورَةِ إِقْرَارِهِ، تَعَدَّدَتِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ وَطَأَهُمَا فِي صُورَةِ نُكُولِهِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِيَةِ لَمْ تَتَعَدَّدِ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ يَمِينَهَا لَا تَصْلُحُ لِإِلْزَامِهِ الْكَفَّارَةُ. وَلَوِ ادَّعَتْ وَاحِدَةٌ أَوَّلًا، أَنَّكَ أَرَدْتَنِي، فَقَالَ: مَا أَرَدْتُكِ أَوْ مَا آلَيْتُ مِنْكِ، وَأَجَابَ بِمِثْلِهِ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، تَعَيَّنَتِ الرَّابِعَةُ لِلْإِيلَاءِ، وَإِنْ أَرَادَ وَاحِدَةً مُبْهَمَةً، أُمِرَ بِالتَّعْيِينِ. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَيَكُونُ مُؤْلِيًا مِنْ إِحْدَاهُنَّ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، فَإِذَا عَيَّنَ وَاحِدَةً، لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهَا الْمُنَازَعَةُ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ إِذَا عَيَّنَهُ، هَلْ يَقَعُ مِنَ اللَّفْظِ أَمْ مِنَ التَّعْيِينِ؟ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَقَالُوا: تُطَالِبُ إِذَا طَلَبْنَ بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ طَلَبُهُنَّ كُلِّهِنَّ لِيَكُونَ طَلَبُ الْمُؤْلِي مِنْهَا حَاصِلًا، فَإِنِ امْتَنَعَ، طَلَّقَ الْقَاضِي وَاحِدَةً عَلَى الْإِبْهَامِ، وَمُنِعَ مِنْهُنَّ إِلَى أَنْ يُعَيِّنَ الْمُطَلَّقَةَ، وَإِنْ فَاءَ إِلَى وَاحِدَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ طَلَّقَ، لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مُوجَبِ الْإِيلَاءِ. وَإِنْ قَالَ: طَلَّقْتُ الَّتِي آلَيْتُ مِنْهَا، خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ الْإِيلَاءِ، لَكِنَّ الْمُطَلَّقَةَ مُبْهَمَةٌ، فَعَلَيْهِ التَّعْيِينُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي الْحَالِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَوَرَاءَهُ شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا: قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِذَا قَالَ: أَرَدْتُ مُبْهَمَةً، قَالَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ: تُضْرَبُ الْمُدَّةُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، فَإِذَا مَضَتْ، ضُيِّقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ مَنْ طَالَبَ مِنْهُنَّ، لِأَنَّهُ مَا مِنَ امْرَأَةٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يُعَيَّنَ الْإِيلَاءُ فِيهَا، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُؤْلٍ مِنْ جَمِيعِهِنَّ، وَهُوَ بَعِيدٌ. الثَّانِي: حَكَى الْغَزَالِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْلِيًا مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى يُبَيِّنَ إِنْ أَرَادَ مُعَيَّنَةً، أَوْ يُعَيِّنَ إِنْ أَرَادَ مُبْهَمَةً، لِأَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ. وَحَكَى الْإِمَامُ هَذَا الْوَجْهَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَقَالَ: رَوَى وَجْهًا: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَرَدْتُ وَاحِدَةً، لَا يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ، وَلَا بِالتَّعْيِينِ، بِخِلَافِ إِبْهَامِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ خَارِجَةٌ عَنِ النِّكَاحِ، فَإِمْسَاكُهَا مُنْكَرٌ، بِخِلَافِ الْإِيلَاءِ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَطْلُقَ اللَّفْظَ، فَلَا يَنْوِي تَعْمِيمًا وَلَا تَخْصِيصًا، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّعْمِيمِ، أَمْ عَلَى التَّخْصِيصِ بِوَاحِدَةٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ سَنَةً إِلَّا مَرَّةً، فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ: لَا يَكُونُ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ، فَإِنْ وَطِئَهَا، نُظِرَ، إِنْ بَقِيَ مِن َ السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَهُوَ مُؤْلٍ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَإِنْ بَقِيَ أَرْبَعَةٌ فَأَقَلُّ، فَهُوَ حَالِفٌ وَلَيْسَ بِمُؤْلٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُونُ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، فَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. فَإِنْ وَطِئَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَطْأَةَ الْأُولَى مُسْتَثْنَاةٌ، وَتُضْرَبُ الْمُدَّةُ ثَانِيًا إِنْ بَقِيَ مِنَ السَّنَةِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ إِلَّا عَشْرَ مَرَّاتٍ، أَوْ عَدَدًا آخَرَ، فَعَلَى الْأَظْهَرِ: لَا يَكُونُ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُؤْلِيًا إِذَا وَطِئَ ذَلِكَ الْعَدَدَ وَبَقِيَ مِنَ السَّنَةِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، وَعَلَى الضَّعِيفِ: يَكُونُ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَصَبْتُكِ، فَوَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ، فَقِيلَ: بِإِجْرَاءِ الْقَوْلَيْنِ فِي كَوْنِهِ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ عَقَدَ الْيَمِينَ فِي الْحَالِ، وَاسْتَثْنَى وَطْأَةً، وَهُنَا الْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ إِذَا أَصَابَهَا، وَإِثْبَاتُ الْإِيلَاءِ قَبْلَ الْيَمِينِ مُمْتَنِعٌ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَوَاللَّهِ لَا دَخَلْتِ الدَّارَ. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ سَنَةً إِلَّا يَوْمًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِلَّا مَرَّةً. وَلَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً، فَتَعْرِيفُ السَّنَةِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَقْتَضِي السَّنَةَ الْعَرَبِيَّةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهَا مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ: سَنَةً، وَإِلَّا فَلَا إِيلَاءَ قَطْعًا.

فصل

فَرْعٌ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ سَنَةً إِلَّا مَرَّةً، فَمَضَتْ سَنَةٌ وَلَمْ يَطَأْ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ الْوَطْءَ، أَمْ لَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْعُ الزِّيَادَةِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا كَفَّارَةَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ وَطِئَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَنَزَعَ، ثُمَّ أَوْلَجَ ثَانِيًا، لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ بِالْإِيلَاجِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ وَطْءٌ جَدِيدٌ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي وَجْهٍ: لَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّهُ وَطْءٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ. فَصْلٌ قَالَ: وَاللَّهِ لَا جَامَعَتُكِ، ثُمَّ قَالَ لِضَرَّتِهَا: أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا، أَوْ أَنْتِ شَرِيكَتُهَا أَوْ مِثْلُهَا، وَنَوَى الْإِيلَاءَ، لَمْ يَصِرْ مُؤْلِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَكُونُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَتِهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ بِهِ: لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِاللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ لِلضَّرَّةِ: أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا، صَارَ مُظَاهِرًا مِنَ الثَّانِيَةِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ آلَى مِنْهَا بِالْتِزَامِ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ، وَقَالَ لِلضَّرَّةِ: أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا، سَأَلْنَاهُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ الْأُولَى لَا تُطَلَّقُ إِلَّا إِذَا أَصَبْتُ الثَّانِيَةَ مَعَ إِصَابَةِ الْأُولَى وَجَعَلْتُهَا شَرِيكَتَهَا فِي كَوْنِ إِصَابَتِهَا شَرْطًا لِطَلَاقِ الْأُولَى، لَمْ يُقْبَلْ. وَإِذَا وَطِئَ الْأُولَى، طُلِّقَتْ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنِّي إِذَا أَصَبْتُ الْأُولَى طَلَّقْتُ الثَّانِيَةَ أَيْضًا، قُبِلَ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ، فَإِذَا وَطِئَ الْأُولَى، طُلِّقَتَا، وَفِي الْحَالَتَيْنِ لَا يَكُونُ مُؤْلِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ تَعْلِيقَ طَلَاقِ الثَّانِيَةِ بِوَطْئِهَا بِنَفْسِهَا، كَمَا عَلَّقْتُ طَلَاقَ الْأُولَى بِوَطْئِهَا، فَفِي صِحَّةِ هَذَا التَّشْرِيكِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمَا، فَعَلَى هَذَا، يَكُونُ مُؤْلِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ، إِذَا قُلْنَا: يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجْرِي

فصل

هَذَا التَّفْصِيلُ، فِيمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَةٍ بِدُخُولِ الدَّارِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى: أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا، وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا بَلْ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى امْرَأَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ قَصَدَ أَنْ يُطَلِّقَ الثَّانِيَةَ إِذَا دَخَلَتِ الْأُولَى الدَّارَ، طُلِّقَتَا جَمِيعًا بِدُخُولِ الْأُولَى، سَوَاءٌ قَصَدَ ضَمَّ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى، أَوْ قَصَدَ طَلَاقَ الثَّانِيَةِ عِنْدَ دُخُولِ الْأُولَى. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ تَعْلِيقَ طَلَاقِ الثَّانِيَةِ بِدُخُولِ نَفْسِهَا، فَفِي قَبُولِهِ وَجْهَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي لَفْظِ الْإِشْرَاكَ فِي الْيَمِينِ. وَاخْتَارَ الْقَفَّالُ مِنْهُمَا: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَيُحْمَلُ عَلَى تَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِدُخُولِ الْأُولَى، حَتَّى إِذَا دَخَلَتْ، طُلِّقَتَا جَمِيعًا. قَالَ: وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ وَاحِدَةٍ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَقَالَ لِأُخْرَى: أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا، وَقُلْنَا: لَا يَصِحُّ التَّشْرِيكُ، لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِ الدَّارِ. فَرْعٌ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: يَمِينِي فِي يَمِينِكِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ الْآخَرُ صِرْتُ حَالِفًا، لَمْ يَصِرْ حَالِفًا بِحَلْفِ الْآخَرِ، سَوَاءٌ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَمْ بِالطَّلَاقِ. وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ قَدْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، أَوْ حَنِثَ فِي يَمِينِ الطَّلَاقِ، فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ امْرَأَتِي طَالِقٌ كَامْرَأَتِهِ، طُلِّقَتْ: وَإِنْ أَرَادَ مَتَى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَّقْتُ امْرَأَتِي، فَإِذَا طَلَّقَ الْآخَرُ، طُلِّقَتْ هَذِهِ. فَصْلٌ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَنَوَى الطَّلَاقَ، أَوِ الظِّهَارَ، وَقَعَ مَا نَوَى، وَأَنَّهُ لَوْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا، لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَأَنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ فِي الْحَالِ. وَفِي وَجْهٍ: إِنَّمَا يَجِبُ إِذَا وَطِئَهَا، وَأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مُؤْلِيًا، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْوَطْءِ، فَفِي قَبُولِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَكُونُ مُؤْلِيًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِاسْمٍ مُعْظَّمٍ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ

فصل

فِي الْحَالِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ مُطْلَقَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ يُوجِبُهَا. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ وَطِئْتُكِ، فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَأْخِيرَ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي وُجُوبَهَا فِي الْحَالِ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ، فَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْأَمْرُ بِإِخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ. وَرَأَى صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» ، أَنْ يُؤَاخَذَ بِمُوجَبِ الْإِيلَاءِ لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ مُؤْلٍ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ جَامَعْتُكِ، فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ أَوِ الظِّهَارَ، كَانَ مُؤْلِيًا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْجَدِيدِ، وَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَ عَيْنِهَا، أَوْ طَلَّقَ وَقُلْنَا: مُطْلَقُهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَمُؤْلٍ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُوجِبُهَا، فَلَا. فَصْلٌ الْإِيلَاءُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، فَإِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَوَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ، صَارَ مُؤْلِيًا عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ إِنْ شِئْتِ، وَأَرَادَ تَعْلِيقَ الْإِيلَاءِ بِمَشِيئَتِهَا، اشْتُرِطَ فِي كَوْنِهِ مُؤْلِيًا مَشِيئَتُهَا، وَتُعْتَبَرُ مَشِيئَتُهَا عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الطَّلَاقِ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي مَعْنَى التَّمْلِيكِ، فَتَأَكَّدَ اشْتِرَاطُ الْفَوْرِ كَالْبَيْعِ، وَلَوْ عَلَّقَ لَا عَلَى سَبِيلِ خِطَابِهَا، بِأَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُ زَوْجَتِي إِنْ شَاءَتْ، أَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُ زَوْجَتِي إِنْ شِئْتَ، لَمْ يُعْتَبَرِ الْفَوْرُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ فُلَانٌ، أَوْ قَالَ لَهَا: مَتَى شِئْتِ، لَمْ يُعْتَبَرِ الْفَوْرُ قَطْعًا، وَكُلُّ هَذَا كَمَا سَبَقَ فِي الطَّلَاقِ. فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ تَعْلِيقَ فِعْلِ الْوَطْءِ بِمَشِيئَتِهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ إِنْ شِئْتِ أَنْ لَا أُجَامِعَكِ، فَلَا يَكُونُ مُؤْلِيًا، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ إِلَّا بِرِضَاكِ، لِأَنَّهَا مَتَى رَغِبَتْ فَوَطِئَهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ مَتَى شِئْتِ،

فصل

وَأَرَادَ أَنِّي أُجَامِعُكِ إِذَا أَرَدْتُ أَنَا، لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا، لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ، قَالَ: فَإِنْ أَطْلَقَ، فَفِي تَنْزِيلِهِ عَلَى تَعْلِيقِ الْإِيلَاءِ وَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ إِلَّا أَنْ تَشَائِي، أَوْ مَا لَمْ تَشَائِي، وَأَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ عَنِ الْيَمِينِ، أَوْ تَعْلِيقَهَا، فَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْلِيًا، لِأَنَّهُ حَلَفَ وَعَلَّقَ رَفْعَ الْيَمِينِ بِالْمَشِيئَةِ. فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ يُجَامِعَهَا عَلَى الْفَوْرِ، ارْتَفَعَ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ أَوْ شَاءَتْ بَعْدَ وَقْتِ الْمَشِيئَةِ، فَالْإِيلَاءُ بِحَالِهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ حَتَّى يَشَاءَ زَيْدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُجَامِعَهَا قَبْلَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَوْ بَعْدَهَا، ارْتَفَعَتِ الْيَمِينُ، وَإِنْ لَمْ يَشَأِ الْمُجَامَعَةَ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، سَوَاءٌ شَاءَ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا، أَمْ لَمْ يَشَأْ شَيْئًا، فَهَلْ يَكُونُ مُؤْلِيًا لِحُصُولِ الْإِضْرَارِ فِي الْمُدَّةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَيَأْتِيَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَظَائِرِهَا. وَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ، صَارَ مُؤْلِيًا، ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: فِي حَالِ حَيَاتِهِ إِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ بِلَا مَشِيئَةٍ يُجْعَلُ مُؤْلِيًا، فَهُنَا تُحْسَبُ الْمَدَّةُ مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ، فَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ بَعْدَ تَمَامِهَا، تَوَجَّهَتِ الْمُطَالَبَةُ فِي الْحَلَالِ. وَإِنْ قُلْنَا هُنَاكَ: لَا يُجْعَلُ مُؤْلِيًا، ضُرِبَتِ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ إِنْ شِئْتِ أَنْ أُجَامِعَكِ، فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤْلِيًا إِذَا شَاءَتْ أَنْ يُجَامِعَهَا. وَفِي اعْتِبَارِ الْفَوْرِ، مَا سَبَقَ، وَإِذَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ: إِنْ شِئْتِ، حَمَلْنَاهُ عَلَى عَدَمِ مَشِيئَتِهِ الْمُجَامَعَةَ، كَمَا سَبَقَ، لِأَنَّهُ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ. فَصْلٌ سَوَاءٌ فِي الْإِيلَاءِ حَالَةُ الرِّضَى وَالْغَضَبِ. فَصْلٌ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنَا زَانٍ، أَوْ فَأَنْتِ زَانِيَةٌ، لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا، وَلَا يَصِيرُ بِوَطْئِهَا قَاذِفًا. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَيَلْزَمُهُ التَّعْزِيرُ، كَمَا لَوْ قَالَ: الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ زُنَاةٌ، وَلُزُومُ التَّعْزِيرِ لَا يَجْعَلُهُ مُؤْلِيًا، لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُدَّةُ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى الِامْتِنَاعِ أَبَدًا، أَوْ أَطْلَقَ، فَهُوَ مُؤْلٍ، وَإِنْ قَيَّدَ بِزَمَانٍ، فَهُوَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدَّرَ الزَّمَانُ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَهَا، فَلَيْسَ بِمُؤْلٍ، وَالَّذِي جَرَى مِنْهُ يَمِينٌ أَوْ تَعْلِيقٌ كَمَا يَجْرِي فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَانَ مُؤْلِيًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَكْفِي فِي كَوْنِهِ مُؤْلِيًا أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَقَلَّ قَلِيلٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ بِحَيْثُ تَتَأَتَّى بِالْمُطَالَبَةِ فِي مِثْلِهَا. فَإِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَحْظَةً لَطِيفَةً، لَمْ تَتَأَتَّ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّهَا إِذَا مَضَتْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَلَا مُطَالَبَةَ بَعْدَ انْحِلَالِ الْيَمِينِ. وَفَائِدَةُ كَوْنِهِ مُؤْلِيًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، أَنَّهُ يَأْثَمُ لِإِيذَائِهَا، وَقَطْعُ طَمَعِهَا فِي الْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُجَامِعُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أَعَادَ الْيَمِينَ بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَهَكَذَا مَرَّاتٍ، فَلَا يَكُونُ مُؤْلِيًا قَطْعًا. وَلَوْ وَصَلَ الْيَمِينَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَهَكَذَا مِرَارًا، فَلَيْسَ بِمُؤْلٍ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَلْ يَأْثَمُ الْمُوَالِي بَيْنَ هَذِهِ الْأَيْمَانِ كَمَا ذَكَرْنَا، فِيمَا إِذَا زَادَتِ الْيَمِينُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِلَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ، يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَأْثَمَ لِعَدَمِ الْإِيلَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَأْثَمَ إِثْمَ الْإِيذَاءِ وَالْإِضْرَارِ، لَا إِثْمَ الْمُؤْلِينَ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ تَأْثِيمُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ، فَوَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ سَنَةً، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِمُوجِبِ الْيَمِينِ الْأُولَى، فَإِنْ أَخَّرَتِ الْمُطَالَبَةَ حَتَّى يَمْضِيَ الشَّهْرُ الْخَامِسُ، فَلَا مُطَالَبَةَ بِمُوجِبِ تِلْكَ الْيَمِينِ، لِانْحِلَالِهَا، وَإِنْ طَالَبَتْهُ فِي الْخَامِسِ، فَفَاءَ إِلَيْهَا، خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا مَضَى الْخَامِسُ،

اسْتُحِقَّتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ الثَّانِي. وَإِنْ طَلَّقَ، سَقَطَتْ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ، لَمْ تُضْرَبِ الْمُدَّةُ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْيَمِينِ الْأُولَى قَلِيلٌ، فَإِذَا انْقَضَى الْخَامِسُ، ضُرِبَتِ الْمُدَّةُ لِلْإِيلَاءِ الثَّانِي. وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ فِي بَاقِي الشَّهْرِ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُؤْلِيَ إِذَا فَاءَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَاجَعَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ الْخَامِسِ، نُظِرَ، إِنْ رَاجَعَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ مُضِيِّ الْخَامِسِ، فَلَا إِيلَاءَ، لِانْقِضَاءِ الْمُدَّتَيْنِ وَانْحِلَالِ الْيَمِينِ، وَإِنْ رَاجَعَ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ، فَإِنْ بَقِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَقَلُّ، فَلَا إِيلَاءَ، وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ، عَادَ الْإِيلَاءُ، وَضُرِبَتِ الْمُدَّةُ فِي الْحَالِ. وَلَوْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، فَفِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ حِنْثٌ يَعُودُ لَوْ رَاجَعَهَا، خِلَافَ عَوْدِ الْحِنْثِ، وَتَبْقَى الْيَمِينُ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدِ الْإِيلَاءُ، حَتَّى لَوْ رَاجَعَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ السَّنَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَوَطِئَهَا فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ، لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى مُدَّتَيْنِ تَدْخُلُ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى بِأَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ سَنَةً، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ، فَإِنْ فَاءَ انْحَلَّتِ الْيَمِينَانِ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ، فَالْوَاجِبُ كَفَّارَةٌ، أَمْ كَفَّارَتَانِ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَجْرِي فِي كُلِّ يَمِينَيْنِ يَحْنَثُ الْحَالِفُ فِيهِمَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا، وَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ زَيْدٍ، فَأَكَلَ خُبْزَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا، أَوْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ السَّنَةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَقَلُّ، لَمْ يَعُدِ الْإِيلَاءُ، وَتَبْقَى الْيَمِينُ. وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، عَادَ الْإِيلَاءُ فِي الرَّجْعِيَّةِ، وَفِي التَّجْدِيدِ خِلَافُ عَوْدِ الْحِنْثِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّ السَّنَةَ تُحْسَبُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ الْخَمْسَةِ، فَيَكُونُ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا مَضَتْ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ، فَوَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ، كَانَ مُؤْلِيًا بَعْدَ مُضِيِّ الْخَمْسَةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُقَيَّدَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْوَطْءِ بِمُسْتَقْبَلٍ لَا يَتَعَيَّنُ وَقْتُهُ، فَيُنْظَرُ، إِنْ

كَانَ الْمُعَلِّقُ بِهِ مُسْتَحِيلًا، كَقَوْلِهِ: حَتَّى تَصْعَدِي السَّمَاءَ، أَوْ تَطِيرِي، أَوْ كَانَ أَمْرًا يُسْتَبْعَدُ فِي الِاعْتِقَادَاتِ حُصُولُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا كَقَوْلِهِ: حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ، أَوْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، أَوْ تَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوْ بِأَمْرٍ يُعْلَمُ تَأَخُّرُهُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَقَوْلِهِ: حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ، أَوْ أَدْخُلَ مَكَّةَ، وَالْمَسَافَةُ بَعِيدَةٌ لَا تُقْطَعُ، فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَهُوَ مُؤْلٍ. فَلَوْ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْقُدُومِ: ظَنَنْتُ الْمَسَافَةَ قَرِيبَةً، فَهَلْ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ؟ ذَكَرَ فِيهِ الْإِمَامُ احْتِمَالَيْنِ، وَالْأَقْرَبُ تَصْدِيقُهُ. وَفِي شَرْحِ «مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ» لِلْمُوَفَّقِ بْنِ طَاهِرٍ، أَنَّ فِي التَّعْلِيقِ بِنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا فِي مَعْنَاهُ، لَا يُقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ يُنْتَظَرُ، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يُوجَدِ الْمُعَلَّقُ بِهِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مُؤْلِيًا وَمَكَّنَّاهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِهِ مِمَّا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَذُبُولِ الْبَقْلِ وَجَفَافِ الثَّوْبِ، وَتَمَامِ الشَّهْرِ، أَوْ يُظَنُّ، كَمَجِيءِ الْمَطَرِ فِي وَقْتِ غَلَبَةِ الْأَمْطَارِ، وَمَجِيءِ زَيْدٍ مِنَ الْقَرْيَةِ، وَعَادَتُهُ الْمَجِيءُ لِلْجُمُعَةِ، أَوْ مَجِيءِ الْقَافِلَةِ، وَعَادَتُهَا غَالِبًا الْمَجِيءُ كُلَّ شَهْرٍ، فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَقْدُ يَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِهِ مِمَّا لَا يُسْتَبْعَدُ حُصُولُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يُظَنُّ، كَقَوْلِهِ: حَتَّى يَدْخُلَ زَيْدٌ الدَّارَ، أَوْ أَمْرَضُ، أَوْ يَمْرَضُ فُلَانٌ، أَوْ يَقْدَمُ وَهُوَ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَقَدْ لَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ مُؤْلِيًا فِي الْحَالِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يُوجَدِ الْمُعَلَّقُ بِهِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: ثَبَتَ الْإِيلَاءُ، وَتُطَالِبُهُ، لِحُصُولِ الضَّرَرِ، وَتَبَيُّنِ طُولِ الْمُدَّةِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ قَصْدُ الْمُضَارَّةِ أَوَّلًا، وَأَحْكَامُ الْإِيلَاءِ مَنُوطَةٌ بِهِ لَا بِمُجَرَّدِ الضَّرَرِ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْوَطْءِ، وَلِهَذَا لَوِ امْتَنَعَ بِلَا يَمِينٍ، لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا. وَلَوْ وَطِئَ قَبْلَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ بِهِ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ وُجِدَ الْمُعَلَّقُ بِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ، ارْتَفَعَتِ الْيَمِينُ بِلَا خِلَافٍ.

فَرْعٌ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ حَتَّى أَمُوتَ، أَوْ تَمُوتِي، أَوْ قَالَ: عُمْرِي أَوْ عُمْرُكِ، فَهُوَ مُؤْلٍ لِحُصُولِ الْيَأْسِ مُدَّةَ الْعُمُرِ. وَلَوْ قَالَ: حَتَّى يَمُوتَ فُلَانٌ، فَمُؤْلٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. فَرْعٌ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ حَتَّى تَفْطِمِي وَلَدَكِ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: يَكُونُ مُؤْلِيًا، قَالَ: وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَكُونُ مُؤْلِيًا، وَاخْتَارَهُ، فَأُوهِمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ إِنْ أَرَادَ وَقْتَ الْفِطَامِ، فَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَى تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ، فَمُؤْلٍ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ أَرَادَ فِعْلَ الْفِطَامِ، فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِصِغَرٍ أَوْ ضَعْفِ بِنْيَةٍ، فَمُؤْلٍ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُهُ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَمَا دُونِهَا، فَهُوَ كَالتَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ، وَالنَّصَّانِ مَحْمُولَانِ عَلَى الْحَالَيْنِ. فَرْعٌ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ حَتَّى تَحْبَلِي، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ آيِسَةً، فَهُوَ مُؤْلٍ، وَإِلَّا فَكَالتَّعْلِيقِ بِالْقُدُومِ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ وَدُخُولِ الدَّارِ. فَرْعٌ إِذَا عَلَّقَ بِالْقُدُومِ أَوِ الْفِطَامِ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِكَوْنِهِ مُؤْلِيًا، فَمَاتَ الْمُعَلِّقُ بِقُدُومِهِ قَبْلَ الْقُدُومِ، أَوِ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْفِطَامِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: حَتَّى يَشَاءَ فُلَانٌ فَمَاتَ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. فَرْعٌ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ شَهْرًا، دُيِّنَ، وَلَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَرْكُ الْجِمَاعِ، فَالْحَلِفُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ سَائِرِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ، لَيْسَ بِإِيلَاءٍ، وَالْأَلْفَاظُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الْجِمَاعِ ضَرْبَانِ، صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ، فَمِنَ الصَّرِيحِ لَفْظُ النَّيْكِ، وَقَوْلُهُ: لَا أُغَيِّبُ فِي فَرْجِكِ ذَكَرِي، أَوْ حَشَفَتِي، أَوْ لَا أُدْخِلُ، أَوْ أَوْلِجُ ذَكَرِي فِي فَرْجِكِ، أَوْ أُجَامِعُكِ بِذَكَرِي، وَلِلْبِكْرِ: لَا أَفْتَضُّكِ بِذَكَرِي. فَلَوْ قَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا أَرَدْتُ غَيْرَ الْجِمَاعِ، لَمْ يُدَيَّنْ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، وَلَفْظُ الْجِمَاعِ وَالْوَطْءِ أَيْضًا صَرِيحَانِ، لَكِنْ لَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْجِمَاعِ الِاجْتِمَاعَ، وَبِالْوَطْءِ الْوَطْءَ بِالْقَدَمِ، دُيِّنَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا كِنَايَتَانِ، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ. وَلَوْ قَالَ لِلْبِكْرِ: لَا أَفْتَضُّكِ وَلَمْ يَقُلْ: بِذَكَرِي، فَهُوَ صَرِيحٌ، فَإِنْ قَالَ: لَمْ أُرِدِ الْجِمَاعَ، لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا وَهَلْ يُدَيَّنُ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: نَعَمْ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الضَّمَّ وَالِالْتِزَامَ، لَمْ يُدَيَّنْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْمُبَاشِرَةُ، وَالْمُضَاجَعَةُ، وَالْمُلَامَسَةُ، وَالْمَسُّ، وَالْإِفْضَاءُ، وَالْمُبَاعَلَةُ، وَالِافْتِرَاشُ، وَالدُّخُولُ بِهَا، وَالْمُضِيُّ إِلَيْهَا، كِنَايَاتٌ عَلَى الْجَدِيدِ، وَصَرَائِحُ فِي الْقَدِيمِ، وَالْغَشَيَانُ، وَالْقُرْبَانُ، وَالْإِتْيَانُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: كِنَايَاتٌ قَطْعًا. وَالْإِصَابَةُ صَرِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَكِ وِسَادٌ، أَوْ لَا يَجْتَمِعَانِ تَحْتَ سَقْفٍ كِنَايَةٌ قَطْعًا. وَقَوْلُهُ: لَأَبْعُدَنَّ عَنْكِ، كِنَايَةٌ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ نِيَّةُ الْجِمَاعِ وَالْمُدَّةُ جَمِيعًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لَأَسُوءَنَّكِ، وَلَأَغِيظَنَّكِ، أَوْ لَتَطُولَنَّ غَيْبَتِي عَنْكِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ فِي الْجِمَاعِ وَالْمُدَّةِ. وَلَوْ قَالَ: لَيَطُولَنَّ تَرْكِي لِجِمَاعِكِ، أَوْ لَأَسُوءَنَّكِ فِي الْجِمَاعِ، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْجِمَاعِ كِنَايَةٌ فِي الْمُدَّةِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَغْتَسِلُ عَنْكِ، سَأَلْنَاهُ؟ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ لَا أُجَامِعُهَا، فَمُؤْلٍ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْغُسْلِ، أَوْ أَرَدْتُ أَنِّي لَا أَمْكُثُ حَتَّى أُنْزِلَ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْجِمَاعَ بِلَا إِنْزَالٍ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ. أَوْ أَنِّي أُقَدِّمُ عَلَى وَطْئِهَا وَطْءَ غَيْرِهَا فَيَكُونُ الْغُسْلُ عَنِ الْأُولَى لِحُصُولِ الْجَنَابَةِ بِهَا، قَبِلْنَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا. وَلَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ فِي الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ، أَوِ

فصل

الدُّبُرِ، فَلَيْسَ بِمُؤْلٍ، بَلْ هُوَ مُحْسِنٌ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ إِلَّا فِي الدُّبُرِ، فَمُؤْلٍ، وَلَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ إِلَّا فِي الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَا يَكُونُ مُؤْلِيًا، لِأَنَّهُ لَوْ جَامَعَ فِيهِ حَصَلَتِ الْفِتْنَةُ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي الْفَتَاوِي: هُوَ مُؤْلٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِلَّا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَوْ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ. وَلَوْ قَالَ: لَا جَامَعْتُكِ جِمَاعَ سُوءٍ، فَلَيْسَ بِمُؤْلٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا جَامَعْتُكِ فِي هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ لَا جَامَعْتُكِ مِنَ الْقُبُلِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُكِ إِلَّا جِمَاعَ سُوءٍ، فَإِنْ أَرَادَ: لَا أُجَامِعُهَا إِلَّا فِي الدُّبُرِ، أَوْ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ لَا أُغَيِّبُ جَمِيعَ الْحَشَفَةِ، فَمُؤْلٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْجِمَاعَ الضَّعِيفَ، فَلَيْسَ بِمُؤْلٍ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُجَامِعُ بَعْضَهَا، فَكَمَا سَيَأْتِي فِي الظِّهَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْإِيلَاءِ وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَطْرَافٍ. الْأَوَّلُ: فِي ضَرْبِ الْمُدَّةِ، فَالْإِيلَاءُ يَقْتَضِي ضَرْبَ الْمُدَّةِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَهِيَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ، كَالْأَجَلِ حَقٌّ لِلْمَدِينِ، وَتُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ الْإِيلَاءِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ الْقَاضِي، وَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ، أَوْ رَقِيقَيْنِ، أَوْ حُرًّا وَرَقِيقًا. فَصْلٌ فِيمَا يَمْنَعُ احْتِسَابَ الْمُدَّةِ ابْتِدَاءً أَوْ دَوَامًا قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ إِذَا آلَى مِنْ رَجْعِيَّةٍ، صَحَّ، وَتُحْسَبُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ الرَّجْعَةِ، لَا مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ، وَلَوْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا، انْقَضَتِ الْمُدَّةُ لِجَرَيَانِهَا إِلَى الْبَيْنُونَةِ، فَلَوْ رَاجَعَهَا

اسْتُؤْنِفَتِ الْمُدَّةُ، لِأَنَّ الْإِضْرَارَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالِامْتِنَاعِ الْمُتَوَالِي فِي نِكَاحٍ سَلِيمٍ، وَحَكَى الْمُتَوَلِّي وَجْهًا أَنَّهُ يُبْنَى عَلَيْهَا تَخْرِيجًا مِمَّا إِذَا رَاجَعَ الْمُطَلَّقَةَ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ وَطْءٍ، فَإِنَّهَا تُبْنَى عَلَى قَوْلٍ. وَلَوِ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْمُدَّةِ، انْقَطَعَتِ الْمُدَّةُ، وَلَا يُحْتَسَبُ زَمَانُ الرِّدَّةِ مِنْهَا، لِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي قَطْعِ النِّكَاحِ كَالطَّلَاقِ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا، اسْتُؤْنِفَتِ الْمُدَّةُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ. وَفِي رِدَّةِ الزَّوْجِ وَجْهٌ أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ، يَبْنِي، وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ، أَنَّ رِدَّتَهُ لَا تَمْنَعُ الِاحْتِسَابَ، كَمَرَضِهِ وَسَائِرِ الْأَعْذَارِ. وَلَوْ وُجِدَ النِّكَاحُ بَعْدَ أَنْ بَانَتِ الرَّجْعِيَّةُ، أَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، أَوْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالرِّدَّةِ وَالْإِضْرَارِ، أَوْ بِرِدَّةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقُلْنَا: يَعُودُ الْإِيلَاءُ، اسْتُؤْنِفَتِ الْمُدَّةُ. وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً بِمُطَالَبَتِهَا، أَوِ ابْتِدَاءً ثُمَّ رَاجَعَهَا، عَادَ الْإِيلَاءُ، وَتُسْتَأْنَفُ الْمُدَّةُ إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى التَّأْبِيدِ، أَوْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ. وَلَوِ ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، عَادَ الْإِيلَاءُ، وَتُسْتَأْنَفُ الْمُدَّةُ أَيْضًا، وَأَلْحَقَ الْبَغَوِيُّ الْعِدَّةَ عَنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ بِالطَّلَاقِ بِالرَّجْعِيِّ، وَبِالرِّدَّةِ فِي مَنْعِ الِاحْتِسَابِ وَوُجُوبِ الِاسْتِئْنَافِ عِنْدَ انْقِضَائِهَا. فَرْعٌ مَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَحِلَّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ، إِنْ وُجِدَ فِي الزَّوْجِ، لَمْ يَمْنَعِ احْتِسَابَ الْمُدَّةِ، بَلْ تُضْرَبُ الْمُدَّةُ مَعَ اقْتِرَانِ الْمَانِعِ بِالْإِيلَاءِ. وَلَوْ طَرَأَ فِي الْمُدَّةِ، لَمْ يَقْطَعْهَا، بَلْ تُطَالِبُ بِالْفَيْأَةِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِذَا كَانَ الْعُذْرُ إِيلَاءً يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ، كَالصَّوْمِ، وَالِاعْتِكَافِ، وَالْإِحْرَامِ، وَالْحِسِّيُّ، كَالْمَرَضِ، وَالْحَبْسِ، وَالْجُنُونِ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ فِيهَا، فَقَدْ يَكُونُ حِسِّيًّا وَشَرْعِيًّا، فَالْحِسِّيُّ، كَالنُّشُوزِ وَالصِّغَرِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ الْوَطْءُ، وَالْمَرَضُ الْمُضْنِي

الْمَانِعُ مِنَ الْوَطْءِ، فَإِنْ قَارَنَ ابْتِدَاءَ الْإِيلَاءِ، لَمْ تَبْتَدِئِ الْمُدَّةُ حَتَّى تَزُولَ، وَإِنْ طَرَأَ فِي الْمُدَّةِ، قَطَعَهَا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَحَكَى الْمُزَنِيُّ قَوْلًا فِي حَبْسِهِ: أَنَّهُ يَمْنَعُ احْتِسَابَ الْمُدَّةِ، فَغَلَّطَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ فِي النَّقْلِ، وَصَدَّقَهُ بَعْضُهُمْ، وَحَمَلَهُ عَلَى مَا إِذَا حَبَسَتْهُ هِيَ. وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا حُبِسَ ظُلْمًا، وَحَقُّ هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَطْرُدَهُ فِي الْمَرَضِ، وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ، وَقَدْ مَالَ الْإِمَامُ إِلَى هَذَا فَقَالَ: كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُصَدَّقَ الْمُزَنِيُّ فِي النَّقْلِ، وَيُقَالَ فِيهِ وَفِي نَصِّ الْمَرَضِ: إِنَّهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» أَنَّ الْبُوَيْطِيَّ حَكَى قَوْلًا أَنَّ الْمَوَانِعَ الطَّارِئَةَ فِيهَا لَا تَمْنَعُ الِاحْتِسَابَ لِحُصُولِ قَصْدِ الْمُضَارَّةِ ابْتِدَاءً. فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَطَرَأَ فِيهَا مَانِعٌ فِي الْمُدَّةِ، ثُمَّ زَالَ، اسْتَأْنَفَتِ الْمُدَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: تَبْنِي. وَلَوْ طَرَأَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ بَعْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ، وَقَبْلَ الْمُطَالَبَةِ، وَزَالَتْ بَعْدُ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ، وَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّهُ وُجِدَتِ الْمُضَارَّةُ فِي الْمُدَّةِ عَلَى التَّوَالِي، وَقِيلَ: تَسْتَأْنِفُ وَهُوَ غَلَطٌ، نَسَبَهُ الْإِمَامُ إِلَى بَعْضِ الضَّعَفَةِ، وَجُنُونُهَا يَمْنَعُ احْتِسَابَ الْمُدَّةِ إِنْ كَانَتْ تَمْنَعُ التَّمْكِينَ، وَإِلَّا فَلَا. أَمَّا الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ صَوْمًا أَوِ اعْتِكَافًا مَفْرُوضَيْنِ، يَمْنَعُ الِاحْتِسَابَ، وَيَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ إِذَا زَالَ، وَإِنْ كَانَا تَطَوُّعَيْنِ، لَمْ يَمْنَعَا الِاحْتِسَابَ، لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ وَطْئِهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي الطُّرُقِ، وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، أَنَّ الْعُذْرَ الشَّرْعِيَّ لَا يَمْنَعُ الِاحْتِسَابَ، وَلَا يَقْطَعُ الْمُدَّةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْحَيْضُ لَا يَمْنَعُ الِاحْتِسَابَ قَطْعًا، وَكَذَا النِّفَاسُ عَلَى الْأَصَحِّ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الْمُطَالَبَةِ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِأَنْ يُفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ، وَمَا لَمْ تَطْلُبْ، لَا يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِشَيْءٍ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا بِالتَّأْخِيرِ. وَلَوْ تَرَكَتْ حَقَّهَا وَرَضِيَتْ، ثُمَّ بَدَا لَهَا، فَلَهَا الْعَوْدُ إِلَى الْمُطَالَبَةِ مَا لَمْ تَنْقَضِ مُدَّةُ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الضَّرَرَ مُتَجَدِّدٌ

وَتَخْتَصُّ الْمُطَالَبَةُ بِالزَّوْجَةِ، فَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْمُرَاهِقَةِ وَالْمَجْنُونَةِ الْمُطَالَبَةُ، وَحَسُنَ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ لِلزَّوْجِ: اتَّقِ اللَّهَ بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَتْ أَوْ أَفَاقَتْ وَطَلَبَتْ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ أَيْضًا مُطَالَبَةٌ، لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ حَقُّهَا. فَرْعٌ إِذَا وُجِدَ مَانِعٌ مِنَ الْجِمَاعِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمَحْسُوبَةِ، نُظِرَ أَهْوَ فِيهَا، أَمْ فِي الزَّوْجِ؟ فَإِنْ كَانَ فِيهَا، بِأَنْ كَانَتْ مَرِيضَةً لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، أَوْ مَحْبُوسَةً لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا، أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ، أَوْ مُحْرِمَةً، أَوْ صَائِمَةً، أَوْ مُعْتَكِفَةً عَنْ فَرْضٍ، لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفَيْأَةِ لَا فِعْلًا وَلَا قَوْلًا، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ فِيهِ، فَهُوَ طَبْعِيٌّ وَشَرْعِيٌّ، فَالطَّبْعِيُّ بِأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ، أَوْ يُخَافَ مِنْهُ زِيَادَةُ الْعِلَّةِ، أَوْ بُطْءُ الْبُرْءِ، فَيُطَالَبُ بِالْفَيْأَةِ بِاللِّسَانِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ إِنْ لَمْ يَفِئْ، وَالْفَيْأَةُ بِاللِّسَانِ أَنْ يَقُولَ: إِذَا قَدِرْتُ فِئْتُ. وَاعْتَبَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: نَدِمْتُ عَلَى مَا فَعَلْتُ، وَإِذَا اسْتَمْهَلَ الْفَيْأَةَ بِاللِّسَانِ، لَمْ يُمْهِلْهُ بِحَالٍ، فَإِنَّ الْوَعْدَ هَيِّنٌ مُتَيَسِّرٌ، ثُمَّ إِذَا زَالَ الْمَانِعُ، يُطَالَبُ [بِالْفَيْأَةِ] بِالْوَطْءِ أَوْ بِالطَّلَاقِ، تَحْقِيقًا لِفِيَأَةِ اللِّسَانِ، وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا الطَّلَبُ إِلَى اسْتِئْنَافِ مُدَّةٍ، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا ظُلْمًا، فَكَالْمَرِيضِ، وَإِنْ حُبِسَ فِي دَيْنٍ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ، أُمِرَ بِالْأَدَاءِ أَوِ الْفَيْأَةِ بِالْوَطْءِ، أَوِ الطَّلَاقِ، وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ، فَكَالصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَالظِّهَارِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ مِنْهُمَا، أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَرَادَ وَطْئَهَا وَهُنَاكَ مَانَعٌ شَرْعِيٌّ، هَلْ يَلْزَمُهَا التَّمْكِينُ؟ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ حَاصِلُهُ [أَنَّهُ] إِنْ كَانَ الْمَانِعُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، أَوْ يَخْتَصُّ بِهَا كَالْحَيْضِ وَالصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ، لَمْ يَلْزَمْهَا، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ، وَإِنِ اخْتَصَّ بِهِ كَصَوْمِهِ وَإِحْرَامِهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهَا التَّمْكِينُ، لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهَا مَنْعُ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ مُوَافَقَةٌ عَلَى الْحَرَامِ وَإِعَانَةٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ بِسَبَبِ الظِّهَارِ، فَهَلْ هُوَ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، أَمْ كَصَوْمِهِ؟ وَجْهَانِ. فَإِذَا قُلْنَا: يَجُوزُ التَّمْكِينُ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ

بِالْوَطْءِ أَوِ الطَّلَاقِ. فَإِنْ أَرَادَ الْوَطْءَ فَامْتَنَعَتْ، سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الطَّلَبِ، وَإِنْ قُلْنَا: بِالْمَنْعِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُقْنَعُ مِنْهُ بِفَيْأَةِ اللِّسَانِ، وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يُطَالَبُ بِالطَّلَاقِ إِزَالَةً لِلضَّرَرِ عَنْهَا، بِخِلَافِ الْمَانِعِ الطَّبْعِيِّ، لِأَنَّ الْوَطْءَ هُنَاكَ مُتَعَذِّرٌ، وَهُنَا مُمْكِنٌ، وَهُوَ الْمُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لَهُ: وَرَّطْتَ نَفْسَكَ بِالْإِيلَاءِ، فَإِنْ وَطِئْتَ عَصَيْتَ وَفَسَدَتْ عِبَادَتُكَ، وَإِنْ لَمْ تَطَأْ، وَلَمْ تُطَلِّقْ، طَلَّقْنَاهَا عَلَيْكَ، كَمَنْ غَصَبَ دَجَاجَةً وَلُؤْلُؤَةً فَابْتَلَعَتْهَا، يُقَالُ لَهُ: إِنْ ذَبَحْتَهَا غَرِمْتَهَا، وَإِلَّا غَرِمْتَ اللُّؤْلُؤَةَ. وَلَوْ قَالَ فِي صُورَةِ الظِّهَارِ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أُكَفِّرَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ، لَمْ يُمْهَلْ، وَإِنْ كَانَ بِالْعِتْقِ وَالطَّعَامِ، فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» : يَوْمًا أَوْ نِصْفَ يَوْمٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ تَيَسُّرِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَطُلْ مُدَّةُ الْإِمْهَالِ. فَإِنْ طَالَتْ لِفَقْدِ الرَّقَبَةِ أَوْ مَصْرِفِ الطَّعَامِ، لَمْ يُمْهَلْ، كَذَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، لَوْ وَطِئَ مَعَ التَّحْرِيمِ، خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ الْإِيلَاءِ، وَانْدَفَعَتِ الْمُطَالَبَةُ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: مَا بِهِ الْمُطَالَبَةُ. قَدْ تَكَرَّرَ أَنَّ الْمُؤْلِيَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، يُطَالَبُ بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَالْمَقْصُودُ الْفَيْأَةُ، لَكِنَّهُ يُطَالَبُ بِالطَّلَاقِ إِنْ لَمْ يَفِئْ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُوَجِّهَ الطَّلَبَ نَحْوَ الْفَيْأَةِ وَحْدَهَا، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ مُتَرَدِّدَةً، فَإِنْ لَمْ يَفِئْ وَأَبَى أَنْ يُطَلِّقَ، فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا الْقَاضِي طَلْقَةً. وَالثَّانِي، لَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ، بَلْ يَحْبِسُهُ وَيُعَزِّرُهُ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ. وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالِامْتِنَاعِ، بَلِ اسْتَمْهَلَ لِيَفِيءَ، أُمْهِلَ بِلَا خِلَافٍ قَدْرَ مَا يَتَهَيَّأُ لِذَلِكَ الشُّغْلِ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا، أُمْهِلَ حَتَّى يُفْطِرَ، أَوْ جَائِعًا، فَحَتَّى يَشْبَعَ، أَوْ ثَقِيلًا مِنَ الشِّبَعِ، فَحَتَّى يَخِفَّ، أَوْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ، فَحَتَّى يَزُولَ. وَيَحْصُلُ التَّهَيُّؤُ وَالِاسْتِعْدَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ

بِقَدْرِ يَوْمٍ فَمَا دُونَهُ. وَهَلْ يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا. وَإِذَا أُمْهِلَ، فَطَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْإِمْهَالِ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ إِنْ وُجِدَتِ الْفَيْأَةُ فِي مُدَّةِ الْمُهْلَةِ، وَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ بِلَا فَيْأَةٍ، لَمْ يَقَعْ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ ذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ، أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، فَبَانَ أَنَّهُ وَطِئَ أَوْ طَلَّقَ قَبْلَ تَطْلِيقِ الْقَاضِي، لَمْ يُنَفَّذْ طَلَاقُ الْقَاضِي. وَلَوْ وَقَعَ طَلَاقُ الزَّوْجِ وَالْقَاضِي مَعًا، نُفِّذَ الطَّلَاقَانِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فَعَلَ مَالَهُ فِعْلُهُ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ تَطْلِيقُ الْقَاضِي. فَرْعٌ آلَى ثُمَّ غَابَ، أَوْ آلَى وَهُوَ غَائِبٌ، تُحْسَبُ الْمُدَّةُ، وَلَهَا أَنْ تُوَكِّلَ مَنْ يُطَالِبُهُ. فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ، رَفَعَهُ وَكِيلُهَا إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الزَّوْجُ وَطَالَبَهُ وَيَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِالْفَيْأَةِ بِاللِّسَانِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ الْمَانِعَ حِسِّيٌّ وَبِالْمَسِيرِ، أَوْ يَحْمِلُهَا إِلَيْهِ، أَوِ الطَّلَاقِ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَفِئْ بِاللِّسَانِ، أَوْ فَاءَ بِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهَا، وَلَا حَمَلَهَا إِلَيْهِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ الْآنَ، لَمْ يُمْكِنْ، وَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْقَاضِي إِذَا طَلَبَ وَكِيلُهَا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ: يَحْبِسُهُ لِيُطَلِّقَ، وَيُعْذَرُ فِي التَّأْخِيرِ لِتَهْيِئَةِ أُهْبَةِ السَّفَرِ، وَلِخَوْفِ الطَّرِيقِ إِلَى أَنْ يَزُولَ الْخَوْفُ. وَلَوْ غَابَ عَنْهَا بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، لَمْ يُرْضَ مِنْهُ بِفِيَأَةِ اللِّسَانِ، وَلَا يُمْهَلْ. ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ. فَرْعٌ لَوْ طُولِبَ فَادَّعَى التَّعْيِينَ وَالْعَجْزَ عَنِ الْفَيْأَةِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي ذَلِكَ

النِّكَاحِ، سَوَاءٌ كَانَتْ ثَيِّبًا أَوْ بِكْرًا، أَوِ ادَّعَى الْعَجْزَ عَنِ الِافْتِضَاضِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَبِهِ قُطِعَ فِي «الْوَجِيزِ» : إِذَا صَدَّقَتْهُ أَوْ كَذَّبَتْهُ فَحَلَفَ عَلَى الْعَجْزِ، لَا يُطَالَبُ بِالْوَطْءِ، بَلْ يُطَالَبُ بِفِيَأَةِ اللِّسَانِ، فَإِنْ فَاءَ، ضُرِبَتْ مُدَّةُ التَّعْنِينِ إِنْ طَلَبَتْهَا. فَإِنْ وَطِئَ فِي الْمُدَّةِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا أَمْضَى حُكْمَ التَّعْنِينِ. وَالثَّانِي: يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي تَأْخِيرِ حَقِّهَا وَضَرَرِهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ، لَمْ تَسْقُطِ الْمُطَالَبَةُ، لِأَنَّ التَّعْنِينَ بَعْدَ الْوَطْءِ لَا يُعْتَبَرُ، فَتَظْهَرُ تُهْمَتُهُ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِيمَا تَحْصُلُ بِهِ الْفَيْأَةُ، وَهُوَ تَغَيُّبُ الْحَشَفَةِ فِي الْقُبُلِ خَاصَّةً، فَلَوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ، لَمْ تَنْحَلَّ يَمِينُهُ. فَلَوْ وَطِئَ بَعْدَهُ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. وَهَلْ تَحْصُلُ بِهِ الْفَيْأَةُ وَيَرْتَفِعُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ، وَلَوْ وَطِئَهَا مُكْرَهًا، فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا. فَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ وَارْتَفَعَ الْإِيلَاءُ، وَإِلَّا فَفِي انْحِلَالِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ يَجْرِيَانِ فِي كُلِّ يَمِينٍ وُجِدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِإِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ، أَصَحُّهُمَا: عَدَمُ الِانْحِلَالِ، وَهُوَ الْأَوْفَقُ لِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، لِاخْتِلَالِ الْفِعْلِ. فَإِنْ حَكَمْنَا بِالِانْحِلَالِ، حَصَلَتِ الْفَيْأَةُ وَارْتَفَعَ الْإِيلَاءُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: كَذَلِكَ، وَبِهِ أَجَابَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْمَسْأَلَةُ مُفَرَّعَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ إِكْرَاهُهُ عَلَى الْوَطْءِ وَهُوَ الرَّاجِحُ. فَرْعٌ لَوْ وَطِئَهَا الْمُؤْلِي فِي الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا وَهُوَ مَجْنُونٌ، فَطَرِيقَانِ. قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ

فصل

بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَلَا كَفَّارَةَ، وَالثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ: أَنَّ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَوْلَيْنِ كَالنَّاسِي، لِأَنَّ الْمَجْنُونَ مُلْحَقٌ بِالْمُخْطِئِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَكَذَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ، وَإِلَّا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُكْرَهِ، فَكَيْفَ كَانَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَلَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْفَيْأَةِ بِالْوَطْءِ فِي الْجُنُونِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، بَلْ تُطَالِبُهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ مُدَّةٍ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنَ اسْتِئْنَافِهَا بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَى حَقِّهَا، كَمَا لَوْ رَدَّ الْمَجْنُونُ الْوَدِيعَةَ إِلَى صَاحِبِهَا، وَلِأَنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونِ كَوَطْءِ الْعَاقِلِ فِي تَقْرِيرِ الْمَهْرِ وَالتَّحْلِيلِ، وَتَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. فَرْعٌ لَوْ آلَى مِنْ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِعَيْنِهَا، وَوَطِئَهَا وَهُوَ يَظُنُّهَا الْأُخْرَى، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَخْرُجُ عَنِ الْإِيلَاءِ، وَفِي الْكَفَّارَةِ الْقَوْلَانِ فِي النَّاسِي. فَصْلٌ سَبَقَ فِي فَصْلِ التَّعْنِينِ، أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْوَطْءِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ النَّافِي إِلَّا فِي مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: إِذَا ادَّعَى الْعَنِينُ الْوَطْءَ بَعْدَ الْمُدَّةِ أَوْ فِيهَا. الثَّانِي: إِذَا ادَّعَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَإِذَا حَلَفَ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَالَ: هَذَا طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ [فَلِيَ الرَّجْعَةُ] وَهِيَ عَلَى إِنْكَارِ الْوَطْءِ وَالْعِدَّةِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْجُمْهُورُ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الرَّجْعَةِ عَمَلًا بِقِيَاسِ الْخُصُومَاتِ، وَإِنَّمَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ فِي الْوَطْءِ لِلضَّرُورَةِ، وَتَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ. وَقِيلَ: لَهُ الرَّجْعَةُ. الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَوَلَدَتْ وَلَدًا يَلْحَقُهُ ظَاهِرًا، وَقَالَتْ: وَطِئْتَنِي فَلِي كُلُّ الْمَهْرِ، فَقَالَ: لَمْ أَطَأْ، فَلَكِ نِصْفُهُ، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ،

فصل

أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا. وَنَقَلَ الرَّبِيعُ قَوْلًا آخَرَ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَقِيلَ: بِالْأَوَّلِ قَطْعًا، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ مِنْ كِيسِهِ، وَقِيلَ: إِنِ اخْتَلَفَا قَبْلَ ظُهُورِ الْوَلَدِ وَحَكَمْنَا بِالنِّصْفِ، لَمْ يُعْتَبَرِ الْحُكْمُ بِالْوَلَدِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ ظُهُورِهِ وَمَاتَ الزَّوْجُ، أَوْجَبْنَا جَمِيعَ الْمَهْرِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ. فَرْعٌ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْإِيلَاءِ وَفِي انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَلَوِ اعْتَرَفَتْ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الْمُدَّةِ وَأَنْكَرَ، فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا، فَلَوْ رَجَعَتْ وَقَالَتْ: لَمْ يَطَأْنِي، لَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهَا، لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِوُصُولِ حَقِّهَا إِلَيْهَا، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهَا، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي. فَصْلٌ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، نُظِرَ، إِنْ أَطْلَقَ فِي الْمَرَّتَيْنِ، أَوْ قَيَّدَ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ كَسَنَةٍ وَسَنَةٍ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالثَّانِي تَأْكِيدَ الْأَوَّلِ، قُبِلَ، وَكَانَتِ الْيَمِينُ وَاحِدَةً، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَمْ تَعَدَّدَ، طَالَ الْفَصْلُ أَمْ لَا، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: إِذَا طَالَ الْفَصْلُ، لَا يُقْبَلُ، وَيَكُونُ يَمِينًا أُخْرَى، وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ كَرَّرَ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِصِفَةٍ، وَالصَّحِيحُ قَبُولُ التَّأْكِيدِ أَيْضًا. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الِاسْتِئْنَافَ، فَهُمَا يَمِينَانِ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ، أَمِ الِاسْتِئْنَافِ؟ قَوْلَانِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، فَالْأَظْهَرُ يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ، وَإِنْ تَعَدَّدَ، فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِبُعْدِ التَّأْكِيدِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ. وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْمُدَّةُ الْمُقَيَّدُ بِهَا، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ سَنَةً، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَاتِّحَادِهَا. وَقِيلَ: يَمِينَانِ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِذَا لَمْ نَحْكُمْ بِالتَّعَدُّدِ، لَمْ يَجِبِ الْوَطْءُ إِلَّا كَفَّارَةً، وَإِذَا حَكَمْنَا بِالتَّعَدُّدِ، تَخَلَّصَ بِالطَّلَاقِ عَنِ الْأَيْمَانِ كُلِّهَا، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِوَطْأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا يَجِبُ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالثَّانِي، تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْأَيْمَانِ، وَقِيلَ: تَتَّحِدُ قَطْعًا، وَقِيلَ: تَتَعَدَّدُ قَطْعًا.

فصل

فَصْلٌ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ الرَّقِيقَةِ، ثُمَّ مَلَكَهَا، ثُمَّ بَاعَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا، فَفِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ الْخِلَافُ فِي عَوْدِ الْحِنْثِ، وَكَذَا لَوْ آلَى عَبْدٌ مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ مَلَكَتْهُ وَأَعْتَقَتْهُ وَنَكَحَتْهُ، فَعَلَى الْخِلَافِ. وَهَلِ الْخِلَافُ الْعَائِدُ كَالْبَيْنُونَةِ بِالثَّلَاثِ أَمْ بِمَا دُونِهَا؟ وَجْهَانِ. فَصْلٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ، أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا طَالَبَ الْمُؤْلِيَ بِالْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَامْتَنَعَ مِنْهُمَا، وَطَلَبَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ، لَمْ يُشْتَرَطْ حُضُورُهُ فِي تَطْلِيقِ الْقَاضِي. وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّ زَيْدًا آلَى، وَمَضَتِ الْمُدَّةُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنَ الْفَيْأَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، لَمْ يُطَلَّقْ عَلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِامْتِنَاعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا فِي الْعَضْلِ، فَلَوْ تَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ بِتَمَرُّدٍ أَوْ تَوَارٍ أَوْ غَيْبَةٍ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْعَضْلِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الظهار

كِتَابُ الظِّهَارِ صُورَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. قَالَ الْأَصْحَابُ: الظِّهَارُ حَرَامٌ، قَالُوا: وَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، لَيْسَ بِحَرَامٍ، بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّ الظِّهَارَ عُلِّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى، وَإِنَّمَا عُلِّقَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَالْيَمِينُ وَالْحِنْثُ لَيْسَا بِمُحَرَّمَيْنِ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ مَعَ الزَّوْجِيَّةِ قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي التَّحْرِيمِ، كَتَحْرِيمِ الْأُمِّ مَعَ الزَّوْجِيَّةِ لَا يَجْتَمِعَانِ. فَصْلٌ هَذَا الْكِتَابُ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا فِي أَرْكَانِهِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الزَّوْجَانِ، فَيَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ مُكَلَّفٍ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ سَلِيمًا. وَظِهَارُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بَاطِلٌ، وَظِهَارُ السَّكْرَانِ كَطَلَاقِهِ. وَمَنْ لَحِقَهَا الطَّلَاقُ، صَحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا، سَوَاءٌ فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ، وَالصَّغِيرَةُ وَالْمَجْنُونَةُ، وَالذِّمِّيَّةُ وَالرَّتْقَاءُ، وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ شُبْهَةٍ، وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ وَغَيْرُهُنَّ. وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إِذَا نَكَحْتُكِ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَمْ يَصِحَّ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْقَوْلُ الشَّاذُّ فِي مِثْلِهِ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْأَمَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ.

فَرْعٌ يُتَصَوَّرُ مِنَ الذِّمِّيِّ الْإِعْتَاقُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، بِأَنْ يَرِثَ عَبْدًا مُسْلِمًا، أَوْ يَكُونَ لَهُ عَبْدٌ كَافِرٌ فَيَسْلِمُ، أَوْ يَقُولَ لِمُسْلِمٍ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ الْمُسْلِمَ عَنْ كَفَّارَتِي، فَيُجِيبُهُ، أَوْ يَشْتَرِي عَبْدًا مُسْلِمًا إِنْ جَوَّزْنَاهُمَا، فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزِ الشِّرَاءَ وَتَعَذَّرَ تَحْصِيلُهُ، فَمَا دَامَ مُوسِرًا لَا يُبَاحُ لَهُ الْوَطْءُ. وَيُقَالُ لَهُ: إِنْ أَرَدْتَ الْوَطْءَ، فَأَسْلِمْ وَأَعْتِقْ، لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مَوْجُودَةٌ وَالتَّعَذُّرُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الصَّوْمِ، لَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ، لِأَنَّهُ يُمَكِنُهُ أَنْ يُسْلِمَ وَيَصُومَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ لِمَرَضٍ أَوْ هَرَمٍ، فَحِينَئِذٍ يُطْعِمُ فِي كُفْرِهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحَبَا «التَّهْذِيبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» ، وَحَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الْقَاضِي، وَتَرَدَّدَ فِيهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الذِّمِّيَّ مُقِرٌّ عَلَى دِينِهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعِيدٌ، وَجَوَابُهُ، أَنَّا لَا نَحْمِلُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَلْ نَقُولُ: لَا نُمَكِّنُكَ مِنَ الْوَطْءِ إِلَّا هَكَذَا، فَإِمَّا أَنْ تَتْرُكَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَسْلُكَ طَرِيقَ الْحِلِّ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الصِّيغَةُ، فَصَرِيحُ الظِّهَارِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَفِي مَعْنَاهُ سَائِرُ الصِّلَاتِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ مَعِي أَوْ عِنْدِي، أَوْ مِنِّي أَوْ لِي كَظَهْرِ أُمِّي. وَكَذَا لَوْ تَرَكَ الصِّلَةَ فَقَالَ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، وَعَنِ الدَّارَكِيِّ: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الصِّلَةَ، كَانَ كِنَايَةً، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يُرِيدُ: أَنْتِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى غَيْرِي، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: «أَنْتِ طَالِقٌ» صَرِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: مِنِّي، وَمَتَى أَتَى بِصَرِيحِ الظِّهَارِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ غَيْرَهُ، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَادَّعَى غَيْرَهُ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. فَرْعٌ قَوْلُهُ: جُمْلَتُكِ، أَوْ نَفْسُكِ، أَوْ ذَاتُكِ، أَوْ جِسْمُكِ، أَوْ بَدَنُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَبَدَنِ أُمِّي أَوْ جِسْمِهَا، أَوْ ذَاتِهَا، لِدُخُولِ الظَّهْرِ فِيهَا.

فَرْعٌ إِذَا شَبَّهَهَا بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْأُمِّ غَيْرِ الظَّهْرِ نُظِرَ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ الْكَرَامَةِ وَالْإِعْزَازِ، كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَالصَّدْرِ وَالْبَطْنِ، وَالْفَرْجِ وَالشَّعْرِ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ: أَنَّهُ ظِهَارٌ. وَقِيلَ: ظِهَارٌ قَطْعًا، وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ بِالْفَرْجِ ظِهَارٌ قَطْعًا، وَالْبَاقِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ الْإِعْزَازِ وَالْإِكْرَامِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَعَيْنِ أُمِّي، فَإِنْ أَرَادَ الْكَرَامَةَ، فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، وَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ، فَظِهَارٌ [قَطْعًا] تَفْرِيعًا عَلَى الْجَدِيدِ فِي قَوْلِهِ: كَصَدْرِ أُمِّي، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ وَجْهَانِ. اخْتَارَ الْقَفَّالُ الْإِكْرَامَ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، أَنَّهُ ظِهَارٌ، وَأَشَارَ الْبَغَوِيُّ إِلَى تَرْجِيحِهِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَلَوْ قَالَ: كَرُوحِ أُمِّي، فَكَقَوْلِهِ: كَعَيْنِ أُمِّي، قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ وَلَا كِنَايَةٍ، وَالتَّشْبِيهُ بِرَأْسِ الْأُمِّ كَهُوَ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ، وَقِيلَ: كَالْعَيْنِ، وَبِهِ أَجَابَ السَّرَخْسِيُّ، وَهُوَ أَقْرَبُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي، أَوْ مِثْلُ أُمِّي، فَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ، فَظِهَارٌ، وَإِنْ أَرَادَ الْكَرَامَةَ، فَلَا، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَلَيْسَ بِظِهَارٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ. فَرْعٌ لَوْ شَبَّهَ بَعْضَ الزَّوْجَةِ فَقَالَ: رَأْسُكِ أَوْ يَدُكِ، أَوْ ظَهْرُكِ، أَوْ فَرْجُكِ، أَوْ جِلْدُكِ، أَوْ شَعْرُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ نِصْفُكِ، أَمْ رُبْعُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ ظِهَارٌ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ، وَلَوْ شَبَّهَ بَعْضَهَا بِبَعْضِهَا فَقَالَ: رَأْسُكِ عَلَيَّ كَيْدِ أُمِّي، فَهُوَ ظِهَارٌ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْقَدِيمُ. فَرْعٌ قَالَ الْأَصْحَابُ: مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى بَعْضِ مَحَلِّ

ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَمَا لَا يَقْبَلُهُ، لَا تَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى بَعْضِ الْمَحَلِّ، كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ. وَأَمَّا الْإِيلَاءُ، فَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى الْفَرْجِ فَقَالَ: لَا أُجَامِعُ فَرْجَكِ، كَانَ مُؤْلِيًا، وَإِنْ أَضَافَ إِلَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ غَيْرَ الْفَرْجِ، لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا، وَإِنْ قَالَ: لَا أُجَامِعُ بَعْضَكِ، لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْبَعْضِ الْفَرْجَ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُجَامِعُ نِصْفَكِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْلٍ قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، فَظَاهِرٌ، أَمَّا إِذَا نَوَى، فَفِيهِ احْتِمَالٌ، لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ تَرْكِ الْجِمَاعِ فِي النِّصْفِ تَرْكَهُ فِي الْجَمِيعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ: لَا أُجَامِعُ نِصْفَكِ الْأَسْفَلَ، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِيلَاءِ، ذَكَرَهُ فِي «الْوَسِيطِ» . وَالْمُرَادُ بِالْفَرْجِ الْمَذْكُورِ، الْقُبُلُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُشَبَّهُ بِهِ أَصْلُ الظِّهَارِ، تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِظَهْرِ الْأُمِّ، وَلَوْ شَبَّهَهَا بِجَدَّةٍ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، فَهُوَ ظِهَارٌ قَطْعًا، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: فِيهِ خِلَافٌ كَالتَّشْبِيهِ بِالْبِنْتِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ مِنَ الْمَحَارِمِ، فَقِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مُحَرَّمَاتٌ بِالنَّسَبِ، كَالْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْعَمَّاتِ، وَالْخَالَاتِ، وَبَنَاتِ الْأُخْتِ. فَإِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِظَهْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَقَوْلَانِ، الْجَدِيدُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ: أَنَّهُ ظِهَارٌ، وَالثَّانِي: لَا، لِلْعُدُولِ عَنِ الْمَعْهُودِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُحَرَّمَاتُ بِالسَّبَبِ، وَهُنَّ ضَرْبَانِ، مُحَرَّمَاتٌ بِالرَّضَاعِ، وَمُحَرَّمَاتٌ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَفِيهِنَّ خِلَافٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَقْوَالٍ، وَطُرُقٍ، وَأَوْجُهٍ، وَالْمَذْهَبُ مِنْهَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ: أَنَّ التَّشْبِيهَ بِمَنْ لَمْ تَزَلْ مِنْهُنَّ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ ظِهَارٌ، وَبِمَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُ ثُمَّ حُرِّمَتْ، لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَإِذَا اخْتَصَرْتُ الْخِلَافَ فِي الْجَمِيعِ، جَاءَ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ وَأَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: اقْتِصَارُ الظِّهَارُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْأُمِّ. وَالثَّانِي: إِلْحَاقُ الْجَدَّاتِ

فصل

بِهَا فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: إِلْحَاقُ مَحَارِمِ النَّسَبِ. وَالرَّابِعُ: إِلْحَاقُ مَحَارِمِ الرَّضَاعِ أَيْضًا إِذَا لَمْ يُعْهَدْنَ مُحَلَّلَاتٍ. الْخَامِسُ: إِلْحَاقُهُنَّ بِحَذْفِ هَذَا الشَّرْطِ. وَالسَّادِسُ: إِلْحَاقُ مَحَارِمِ الْمُصَاهَرَةِ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ. السَّابِعُ: إِلْحَاقُهُنَّ بِحَذْفِ الشَّرْطِ. وَالْمَذْهَبُ: إِلْحَاقُ كُلِّ مَنْ لَمْ تَزَلْ مُحَرَّمَةً مِنَ الْجَمِيعِ فَقَطْ. وَلَوْ شَبَّهَ بِمَنْ لَا تَحْرُمُ مُؤَبَّدًا كَأَجْنَبِيَّةٍ، وَمُطَلَّقَةٍ، وَمُعْتَدَّةٍ، وَمَجُوسِيَّةٍ، وَمُرْتَدَّةٍ، وَأُخْتِ امْرَأَتِهِ، فَلَيْسَ بِظِهَارٍ قَطْعًا، سَوَاءٌ طَرَأَ مَا يُؤَيِّدُ التَّحْرِيمَ، بِأَنْ نَكَحَ بِنْتَ الْأَجْنَبِيَّةِ، أَوْ وَطِئَ أُمَّهَا وَطْئًا مُحَرَّمًا، أَمْ لَمْ يَطْرَأْ. وَلَوْ شَبَّهَ بِمُلَاعَنَتِهِ، فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لَيْسَ لِلْمَحْرَمِيَّةِ وَالْوَصْلَةِ، وَلَوْ شَبَّهَهَا بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ قَالَتْ: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ ابْنِي، أَوْ أَبِي، أَوْ غُلَامِي، فَلَيْسَ بِظِهَارٍ. فَرْعٌ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ أَنَا عَلَيْكَ كَظَهْرِ أُمِّكَ، فَلَا يَلْزَمُ بِهِ شَيْءٌ، بَلْ يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ [كَالطَّلَاقِ] فَصْلٌ تَعْلِيقُ الظِّهَارِ صَحِيحٌ، فَإِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، وَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، صَارَ مُظَاهِرًا مِنْهَا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ ظَاهَرْتُ مِنْ حَفْصَةَ، فَعَمْرَةُ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَهُمَا فِي نِكَاحِهِ، ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْ حَفْصَةَ صَارَ مُظَاهِرًا مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ ظَاهَرْتُ مِنْ إِحْدَاكُمَا، أَوْ أَيِّكُمَا ظَاهَرْتُ مِنْهَا، فَالْأُخْرَى عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْ إِحْدَاهُمَا، صَارَ مُظَاهِرًا مِنَ الْأُخْرَى أَيْضًا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ ظَاهَرْتُ مِنْ فُلَانَةٍ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَكَانَتْ فُلَانَةٌ أَجْنَبِيَّةً، فَخَاطَبَهَا بِلَفْظِ الظِّهَارِ، لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ، لِأَنَّ الظِّهَارَ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ لَا يَنْعَقِدُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّلَفُّظَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ، فَيَصِيرُ بِالتَّلَفُّظِ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ. وَلَوْ نَكَحَ فُلَانَةً ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا، صَارَ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ

فصل

الْأُولَى. وَلَوْ قَالَ: إِنْ ظَاهَرْتُ مِنْ فُلَانَةٍ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِنْ خَاطَبَهَا بِلَفْظِ الظِّهَارِ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ. فَإِنْ نَكَحَهَا ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا، فَهَلْ يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنَ الزَّوْجَةِ الْأُولَى؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَيَكُونُ لَفْظُ الْأَجْنَبِيَّةِ تَعْرِيفًا لَا شَرْطًا، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ هَذِهِ، فَبَاعَهَا، ثُمَّ دَخَلَهَا، حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ ظَاهَرْتُ مِنْ فُلَانَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَسَوَاءٌ خَاطَبَهَا بِلَفْظِ الظِّهَارِ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَهَا، أَوْ نَكَحَهَا، وَظَاهَرَ مِنْهَا، لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنَ الْمُعَلَّقِ ظِهَارُهَا، لِأَنَّهُ شَرْطُ الْمُظَاهَرَةِ مِنْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، وَلَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ بِعْتُ الْخَمْرَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ كَظَهْرِ أُمِّي، فَأَتَى بِلَفْظِ الْبَيْعِ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا الظِّهَارُ، تَنْزِيلًا لِلَفْظِ الْعُقُودِ عَلَى الصِّحَّةِ. وَعِنْدَ الْمُزَنِيِّ، يَنْزِلُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى صُورَةِ الْعَقْدِ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ وَافَقَهُ، فَصَحَّحَ الظِّهَارَ هُنَا. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَدَخَلْتِ الدَّارَ وَهُوَ مَجْنُونٌ، أَوْ نَاسٍ، فَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ: أَنَّ فِي حُصُولِ الْعَوْدِ وَلُزُومِ الْكَفَّارَةِ قَوْلَيْنِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَعِنْدِي أَنَّهَا تَلْزَمُ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالدُّخُولِ، فَدَخَلَتْ وَهُوَ مَجْنُونٌ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ النِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ، فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى فِعْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. فَصْلٌ سَبَقَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ لَفْظَيِ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ كِنَايَةً عَنِ الْآخَرِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، يَصِحُّ كِنَايَةً عَنِ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ. فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي، فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَنْوِيَ شَيْئًا، فَتُطَلَّقُ، وَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ.

الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِكُلِّ كَلَامِهِ الطَّلَاقَ وَحْدَهُ وَأَكَّدَهُ بِلَفْظِ الظِّهَارِ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا ظِهَارَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ بِالْجَمْعِ الظِّهَارَ، فَتُطَلَّقُ، وَلَا ظِهَارَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَالْبَاقِي لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الظِّهَارِ، لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ، وَلَمْ يَنْوِ بِهِ الظِّهَارَ، وَإِنَّمَا نَوَاهُ بِالْمَجْمُوعِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَقْصِدَ الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ، فَيُنْظَرُ، إِنْ قَصَدَهُمَا بِمَجْمُوعِ كَلَامِهِ، حَصَلَ الطَّلَاقُ وَلَا يَحْصُلُ الظِّهَارُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يَحْصُلُ لِإِقْرَارِهِ بِهِ، وَإِنْ قَصَدَ الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَالظِّهَارَ بِقَوْلِهِ: كَظَهْرِ أُمِّي، طُلِّقَتْ، فَإِنْ كَانَتْ تَبِينُ بِالطَّلَاقِ، لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ، وَإِلَّا فَيَصِحُّ الظِّهَارُ مَعَ الطَّلَاقِ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: «أَنْتِ طَالِقٌ» الظِّهَارَ، وَبِقَوْلِي: كَظَهْرِ أُمِّي الطَّلَاقَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ وَحْدَهُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي طَالِقٌ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: إِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ وَالطَّلَاقَ، حَصَلَا، وَلَا يَكُونُ عَائِدًا، لِأَنَّهُ عَقَّبَ الظِّهَارَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ رَاجَعَ، كَانَ عَائِدًا، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا، صَحَّ الظِّهَارُ. وَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِنْ نَوَى بِكَلَامِهِ الطَّلَاقَ فَقَطْ، فَهُوَ طَلَاقٌ عَلَى الْأَظْهَرِ الْأَشْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: ظِهَارٌ، وَقِيلَ: طَلَاقٌ قَطْعًا، وَقِيلَ: طَلَاقٌ وَظِهَارٌ، حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ. وَإِنْ نَوَى بِكَلَامِهِ الظِّهَارَ، فَظِهَارٌ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ جَمِيعًا، نُظِرَ، إِنْ أَرَادَهُمَا بِمَجْمُوعِ الْكَلَامِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، لَمْ يُثْبَتَا مَعًا، وَأَيُّهُمَا يَثْبُتُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: الطَّلَاقُ، وَالثَّانِي: الظِّهَارُ، وَالثَّالِثُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْجُمْهُورُ: يُخَيَّرُ فَيَثْبُتُ مَا اخْتَارَهُ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: «أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ» الطَّلَاقَ، وَبِقَوْلِهِ: «كَظَهْرِ أُمِّي» الظِّهَارَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ وَحَصَلَ الظِّهَارُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا، فَلَا. وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: «أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الظِّهَارَ» ، وَبِقَوْلِهِ: «كَظَهْرِ

أُمِّي الطَّلَاقَ» ، حَصَلَ الظِّهَارُ قَطْعًا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: «أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ» تَحْرِيمَ ذَاتِهَا الَّذِي مُقْتَضَاهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، قُبِلَ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ وَيَكُونُ مُظَاهِرًا، لِأَنَّهُ وَصَفَ التَّحْرِيمَ بِمَا يَقْتَضِي الْكَفَّارَةَ الْعُظْمَى، فَلَا يُقْبَلُ رَدُّهُ إِلَى الصُّغْرَى، فَعَلَى الْأَوَّلِ، إِنْ لَمْ يَنْوِ بِقَوْلِهِ: «كَظَهْرِ أُمِّي» الظِّهَارَ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ سِوَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: كَظَهْرِ أُمِّي تَأْكِيدًا لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ، لَزِمَهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَكَانَ مُظَاهِرًا. وَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، فَلَا طَلَاقَ لِعَدَمِ الصَّرِيحِ وَالنِّيَّةِ، وَفِي كَوْنِهِ ظِهَارًا وَجْهَانِ. الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ ظِهَارٌ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَرَامٌ، كَانَ مُظَاهِرًا، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِقَوْلِهِ: «حَرَامٌ» شَيْئًا، كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا، فَكَذَلِكَ، وَيَدْخُلُ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى، فِي مُقْتَضَى الظِّهَارِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى، وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، فَقَدْ عَقَّبَ الظِّهَارَ بِالطَّلَاقِ، فَلَا عَوْدَ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ مِثْلُ أُمِّي وَنَوَى الطَّلَاقَ، كَانَ طَلَاقًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: كَرُوحِ أُمِّي وَعَيْنِهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الظِّهَارِ لَهُ حُكْمَانِ. أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الْوَطْءِ إِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ إِلَى أَنْ يُكَفِّرَ، فَلَوْ وَطِئَ

قَبْلَ التَّكْفِيرِ، عَصَى، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ ثَانِيًا، سَوَاءٌ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ وَغَيْرِهِ. وَفِي تَحْرِيمِ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ، وَسَائِرِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ، قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْجَوَازُ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْجَدِيدِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ طَرِيقًا قَاطِعًا بِهِ، وَقَالَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) مَحْمُولٌ عَلَى الْجِمَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) . فَرْعٌ عَدَّ الْإِمَامُ الصُّوَرَ الَّتِي تَحْرُمُ فِيهَا الْقُبْلَةُ وَسَائِرُ الِاسْتِمْتَاعَاتِ مَعَ الْوَطْءِ، وَالَّتِي تَخْتَصُّ بِالتَّحْرِيمِ بِالْوَطْءِ، فَقَالَ: مَا حَرَّمَ الْوَطْءَ لِتَأْثِيرِهِ فِي الْمِلْكِ، كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالرِّدَّةِ أَوْ لِحِلِّهَا لِغَيْرِهِ كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ، أَوْ حَرَّمَهَا لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ عَنْ غَيْرِهِ، كَزَوْجَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ، وَكَالْمُسْتَبْرَأَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِشِرَاءٍ وَنَحْوِهِ، فَكُلُّ هَذَا يَحْرُمُ فِيهِ الِاسْتِمْتَاعَاتُ كُلُّهَا، وَمَا حَرَّمَ الْوَطْءَ بِسَبَبِ الْأَذَى، لَا يُحَرِّمُ الِاسْتِمْتَاعَ. وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمُحَرِّمَةُ لِلْوَطْءِ، فَالْإِحْرَامُ يُحَرِّمُ كُلَّ اسْتِمْتَاعٍ تَعَبُّدًا، وَالصَّوْمُ وَالِاعْتِكَافُ يُحَرِّمَانِ كُلَّ مَا يُخْشَى مِنْهُ الْإِنْزَالُ لِتَأَثُّرِهِمَا بِالْإِنْزَالِ. وَإِذَا قُلْنَا فِي الظِّهَارِ: لَا تَحْرُمُ الْقُبْلَةُ وَاللَّمْسُ، فَفِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ احْتِمَالَانِ، لِأَنَّهُ يَحُومُ حَوْلَ الْحِمَى، هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِمْتَاعُ بِزَوْجَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ شُبْهَةٍ وَغَيْرِهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَرْهُونَةِ خِلَافٌ. قُلْتُ: الْوَجْهُ الْجَزْمُ بِجَوَازِهِ فِي مَرْهُونَتِهِ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الِاسْتِبْرَاءِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا لَمْ يَحْرُمِ الِاسْتِمْتَاعُ، فَلَا بَأْسَ بِالتَّلَذُّذِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى الْإِنْزَالِ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ: الْإِحْرَامُ يَحَرِّمُ كُلَّ اسْتِمْتَاعٍ، الصَّوَابُ، حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ

بِشَهْوَةٍ، فَأَمَّا اللَّمْسُ وَنَحْوَهُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَجِّ. وَالْأَمَةُ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسِيَّةُ وَالْمُرْتَدَّةُ، يَحْرُمُ فِيهَا كُلُّ اسْتِمْتَاعٍ، وَكَذَا الْمُشْرِكَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَمَنْ بَعْضُهَا حُرٌّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحُكْمُ الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْعَوْدِ، وَالْعَوْدُ هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا فِي النِّكَاحِ زَمَنًا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهَا فِيهِ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ عَنِ الْقَدِيمِ قَوْلًا: أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْوَطْءُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ إِذَا ظَاهَرَ وَعَادَ، لَكِنْ هَلْ سَبَبُ الْوُجُوبِ الْعَوْدُ فَقَطْ، أَمِ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ مَعًا، أَمِ الظِّهَارُ فَقَطْ وَالْعَوْدُ شَرْطٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عُقَيْبَ الظِّهَارِ، أَوْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا النِّكَاحَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ، أَوْ جُنَّ الزَّوْجُ، أَوْ طَلَّقَهَا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا وَلَمْ يُرَاجِعْ، فَلَا عَوْدَ وَلَا كَفَّارَةَ، فَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاشْتَرَاهَا مُتَّصِلًا بِالظِّهَارِ، فَلَيْسَ بِعَائِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ قَطَعَ النِّكَاحَ. وَلَوِ اشْتَغَلَ بِأَسْبَابِ الشِّرَاءِ كَالْمُسَاوَمَةِ وَتَقْرِيرِ الثَّمَنِ، كَانَ عَائِدًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَرَجَّحَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الْخِلَافُ إِذَا كَانَ الشِّرَاءُ مُتَيَسِّرًا، فَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا، فَالِاشْتِغَالُ بِتَسْهِيلِهِ لَا يُنَافِي الْعَوْدَ عِنْدِي. فَرْعٌ لَاعَنَهَا عَقِبَ الظِّهَارِ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَيْسَ عَائِدًا، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّصِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: وَالْمُرَادُ بِهِ مَا إِذَا سَبَقَ الْقَذْفُ وَالْمُرَافَعَةُ إِلَى الْحَاكِمِ، أَوْ أَتَى بِمَا قَبْلَ الْخَامِسَةِ مِنْ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ، ثُمَّ ظَاهَرَ وَعَقَّبَهُ بِالْكَلِمَةِ الْخَامِسَةِ، وَإِلَّا فَعَائِدٌ، وَأَصَحُّهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ الْوَكِيلِ: يُشْتَرَطُ سَبْقُ الْقَذْفِ وَالْمُرَافَعَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ شَيْءٍ مِنْ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ، بَلْ إِذَا وَصَلَهَا بِالظِّهَارِ، لَمْ يَكُنْ عَائِدًا. وَالثَّالِثُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ، وَحُكِيَ

فصل

عَنِ الْمُزَنِيِّ فِي «الْجَامِعِ الْكَبِيرِ» : لَا يُشْتَرَطُ سَبْقُ الْقَذْفِ أَيْضًا، فَلَوْ ظَاهَرَ وَقَذَفَ مُتَّصِلًا، وَاشْتَغَلَ بِالْمُرَافَعَةِ وَأَسْبَابِ اللِّعَانِ، لَمْ يَكُنْ عَائِدًا وَإِنْ بَقِيَ أَيَّامًا فِيهِ، وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِمَا لَوْ قَالَ عَقِبَ الظِّهَارِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ تَقْبَلْ، فَقَالَ عَقِبَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ بِلَا عِوَضٍ، لَا يَكُونُ عَائِدًا لِاشْتِغَالِهِ بِسَبَبِ الْفِرَاقِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ، فَوَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: هُوَ عَائِدٌ، لِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا حَالَةَ الْقَذْفِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا صَحِيحٌ إِنْ لَمْ يُلَاعِنْ بَعْدَهُ، أَوْ لَاعَنَ وَشَرَطْنَا سَبْقَ الْقَذْفِ، فَإِنْ لَمْ نَشْرُطْهُ، فَلَيْسَ بِعَائِدٍ. وَالثَّانِي، لَا يَكُونُ عَائِدًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ كَقَوْلِهِ: يَا زَنَيْتِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَنْعِ الْعَوْدِ، وَتَرَدَّدَ الْإِمَامُ، فِي أَنَّ ابْنَ الْحَدَّادِ يُسَلِّمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. قُلْتُ: تَرَدَّدَ الْإِمَامُ ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ التَّسْلِيمُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَقِبَ الظِّهَارِ. كَانَ عَائِدًا. وَلَوْ عَلَّقَ بِدُخُولِهِ الدَّارَ، ثُمَّ ظَاهَرَ وَبَادَرَ بِالدُّخُولِ عَقِبَ الظِّهَارِ، فَلَا عَوْدَ. فَصْلٌ إِذَا ظَاهَرَ ثُمَّ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا عَقِبَهُ، ثُمَّ رَاجَعَهَا، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَعُودُ الظِّهَارُ وَأَحْكَامُهُ. وَلَوْ طَلَّقَهَا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا وَتَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ، ثُمَّ نَكَحَهَا، فَفِي عَوْدِ الظِّهَارِ الْخِلَافُ فِي عَوْدِ الْحِنْثِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ كَانَتْ رَقِيقَةً فَاشْتَرَاهَا عَقِبَ الظِّهَارِ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَوْ بَاعَهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا. وَهَلْ عَوْدُ النِّكَاحِ بَعْدَ الِانْفِسَاخِ بِالْمِلْكِ كَعَوْدِهِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالثَّلَاثِ، أَمْ كَالْبَيْنُونَةِ بِدُونِ الثَّلَاثَةِ؟ وَجْهَانِ سَبَقَ نَظِيرُهُمَا. وَلَوِ ارْتَدَّ عَقِبَ الظِّهَارِ، ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ، عَادَ الظِّهَارُ بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ

فصل

هَلْ تَكُونُ الرَّجْعَةُ وَتَجْدِيدُ النِّكَاحِ وَالْإِسْلَامُ بِمُجَرَّدِهَا عَوْدًا، أَمْ لَا يَكُونُ إِلَّا أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ زَمَنًا يُمْكِنُهُ فِيهِ الْفُرْقَةُ؟ فِيهِ طُرُقٌ. الْمَذْهَبُ: أَنَّ الرَّجْعَةَ عَوْدٌ، بِخِلَافِ التَّجْدِيدِ وَالْإِسْلَامِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْ رَجْعِيَّةٍ ثُمَّ رَاجَعَهَا، وَلَا يَكُونُ عَائِدًا قَبْلَ الرَّجْعَةِ بِحَالٍ، وَلَوِ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا عَقِبَ الظِّهَارِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا عَوْدَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَأَصَرَّ الْمُرْتَدُّ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ. وَلَوْ ظَاهَرَ كَافِرٌ مِنْ كَافِرَةٍ، فَأَسْلَمَا مَعًا فِي الْحَالِ، أَوْ أَسْلَمَ وَهِيَ كِتَابِيَّةٌ، فَالنِّكَاحُ دَائِمٌ، وَهُوَ عَائِدٌ، وَإِنْ أَسْلَمَ وَهِيَ وَثَنِيَّةٌ، أَوْ أَسَلَمَتْ وَتَخَلَّفَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا عَوْدَ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَلَا عَوْدَ فِي الْحَالِ، وَلَا إِذَا أَصَرَّ، فَإِنْ جَدَّدَ النِّكَاحَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، فَفِي عَوْدِ الظِّهَارِ خِلَافُ عَوْدِ الْحِنْثِ. وَإِنْ أَسْلَمَ الْمُتَخَلِّفُ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ، فَهَلْ يَكُونُ نَفْسُ الْإِسْلَامِ عَوْدًا، أَمْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِمْسَاكِ بَعْدَهُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ، فَنَفْسُ إِسْلَامِهَا لَيْسَ بِعَوْدٍ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ عَائِدًا إِذَا أَمْسَكَهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِإِسْلَامِهَا زَمَنًا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهَا. فَرْعٌ لَوْ جُنَّ عَقِبَ الظِّهَارِ ثُمَّ أَفَاقَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: جَعَلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ الْإِفَاقَةِ عَوْدًا عَلَى الْخِلَافِ فِي الرَّجْعَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ. قُلْتُ: نَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ جُنَّ عَقِبَ الظِّهَارِ، فَلَيْسَ بِعَائِدٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُمْسِكْهَا مُخْتَارًا، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : لَوْ تَعَقَّبَ الظِّهَارَ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ، صَارَ عَائِدًا، لَأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُحَرِّمُهَا، بِخِلَافِ الرِّدَّةِ، وَالْقَصْدُ فِي الْعَوْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا، فَالصَّحِيحُ مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ سَبَقَ أَنَّ تَعْلِيقَ الظِّهَارِ صَحِيحٌ، فَلَوْ عَلَّقَهُ وَوَجَدَ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ وَأَمْسَكَهَا جَاهِلًا،

فصل

نُظِرَ، إِنْ عَلَّقَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ بِعَائِدٍ حَتَّى يُمْسِكَهَا بَعْدَ عِلْمِهِ، وَإِنْ عَلَّقَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَنَسِيَ، فَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ عَائِدٌ، وَرَأَى الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ تَخْرِيجَ الْمَسْأَلَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ عَلَى حِنْثِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ، وَهَذَا أَحْسَنُ، وَبِهِ قَالَ الْمُتَوَلِّي. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَ الْمُتَوَلِّي، أَنَّهُ إِنْ عَلَّقَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، فَفِي مَصِيرِهِ عَائِدًا الْخِلَافُ فِي حِنْثِ النَّاسِي، وَإِنْ عَلَّقَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، لَمْ يَصِرْ عَائِدًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يَخْرُجُ عَلَى النَّاسِي، قَالَ: وَالْفَرْقُ أَنَّهُ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ فِعْلُ غَيْرِهِ، وَقَلَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِذَا عَلَّقَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَفَعَلَ، صَارَ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالْفِعْلِ، كَأَنَّهُ الْآنَ تَلَفَّظَ بِالظِّهَارِ، فَإِنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَهُ، فَعَائِدٌ، وَإِلَّا فَلَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ مَتَّى عَادَ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ فُسِخَ النِّكَاحُ، لَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَةُ. وَإِذَا جَدَّدَ النِّكَاحَ، اسْتَمَرَّ التَّحْرِيمُ إِلَى أَنْ يُكَفِّرَ، سَوَاءٌ حَكَمْنَا بِعَوْدِ الْحِنْثِ، أَمْ لَا، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ حَصَلَ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وَلَوْ كَانَتْ رَقِيقَةً وَحَصَلَ الْعَوْدُ ثُمَّ اشْتَرَاهَا، فَهَلْ تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. فَصْلٌ إِذَا وَقَّتَ الظِّهَارَ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ إِلَى شَهْرٍ، أَوْ إِلَى سَنَةٍ، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: صِحَّتُهُ مُؤَقَّتًا عَمَلًا بِلَفْظِهِ، وَتَغْلِيبًا لِشِبْهِ الْيَمِينِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ مُؤَبَّدًا، تَغْلِيبًا لِشِبْهِ الطَّلَاقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَغْوٌ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ مُؤَبَّدًا، فَالْعَوْدُ فِيهِ كَالْعَوْدِ فِي الظِّهَارِ الْمُطْلَقِ. وَإِنْ صَحَّحْنَاهُ مُؤَقَّتًا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْعَوْدُ فِيهِ كَالْعُودِ فِي الْمُطْلَقِ، وَبِهِ قَالَ

الْمُزَنِيُّ، وَأَصَحُّهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْإِمْسَاكِ عَائِدًا، وَلَا يَحْصُلُ الْعَوْدُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَهُوَ مُؤْلٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ حَالِفًا. وَإِذَا وَطِئَ فَمَتَى يَصِيرُ عَائِدًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْوَطْءِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ، لَكِنْ إِذَا غَابَتِ الْحَشَفَةُ، لَزِمَهُ النَّزْعُ كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ وَجْهًا أَنَّهُ يَحْرُمُ الْوَطْءُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا شَكَّ فِي جَرَيَانِهِ هُنَا. وَالثَّانِي، قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: نَتَبَيَّنُ بِالْوَطْءِ كَوْنَهُ عَائِدًا بِالْإِمْسَاكِ عَقِبَ الظِّهَارِ، فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ ابْتِدَاءُ الْوَطْءِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَطْءِ حَتَّى يَكَفِّرَ أَوْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الظِّهَارِ، فَإِذَا مَضَتْ، حَلَّ الْوَطْءُ لِارْتِفَاعِ الظِّهَارِ، وَبَقِيَتِ الْكَفَّارَةُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَتَرَدَّدَ الْإِمَامُ فِي أَنَّهُ لَوْ ظَاهَرَ ظِهَارًا مُطْلَقًا وَعَادَ، هَلْ يَحْصُلُ التَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ فَقَطْ، أَمْ بِهِ وَبِالْعَوْدِ؟ قَالَ: وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُرَتَّبَةٌ عَلَيْهِمَا، وَالتَّحْرِيمُ مُرَتَّبٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ التَّرَدُّدِ فِي لَمْسِهِ وَقُبْلَتِهِ بِغَرَضٍ عَقِبَ الظِّهَارِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ زَمَنُ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا حَصَلَ الْعَوْدُ فِي الظِّهَارِ الْمُؤَقَّتِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ، فَالْوَاجِبُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَيْهِ تَتَفَرَّعُ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ، وَفِي وَجْهٍ: الْوَاجِبُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَيَنْزِلُ لَفْظُ الظِّهَارِ مَنْزِلَةَ لَفْظِ التَّحْرِيمِ. وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْوَطْءُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَنَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا، أَوْ أَطْلَقَ، وَقُلْنَا:

فصل

مُطْلَقُهُ يُوجِبُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، فَهَلْ يَصِحُّ وَيُوجِبُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، أَمْ يَلْغُو؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، كَالظِّهَارِ الْمُؤَقَّتِ، أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ. فَصْلٌ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، صَارَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ، فَإِنْ طَلَّقَهُنَّ، فَلَا كَفَّارَةَ، وَإِنْ أَمْسَكَهُنَّ، فَالْجَدِيدُ: وُجُوبُ أَرْبَعِ كَفَّارَاتٍ، وَالْقَدِيمُ: كَفَّارَةٌ فَقَطْ، فَعَلَى الْجَدِيدِ: لَوِ امْتَنَعَ الْعَوْدُ فِي بَعْضِهِنَّ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِعَدَدِ مَنْ عَادَ فِيهِنَّ، وَعَلَى الْقَدِيمِ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لَوْ عَادَ فِي بَعْضِهِنَّ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» ، أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي بَعْضِهِنَّ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ جَمَاعَةً، فَكَلَّمَ بَعْضَهُمْ. وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يُوَالِهَا، لَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ، وَإِنْ وَالَاهَا، صَارَ بِظِهَارِ الثَّانِيَةِ عَائِدًا فِي الْأُولَى، وَبِظِهَارِ الثَّالِثَةِ عَائِدًا فِي الثَّانِيَةِ، وَبِظِهَارِ الرَّابِعَةِ عَائِدًا فِي الثَّالِثَةِ، فَإِنْ فَارَقَ الرَّابِعَةَ عَقِبَ ظِهَارِهَا، فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، وَإِلَّا فَأَرْبَعٌ. فَرْعٌ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى تَحْرِيمَ أَعْيَانِهِنَّ، فَالْقَوْلُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ وَاتِّحَادِهَا كَمَا فِي الظِّهَارِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ. فَرْعٌ كَرَّرَ لَفْظَ الظِّهَارِ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ أَتَى بِالْأَلْفَاظِ مُتَوَالِيَةً، نُظِرَ، إِنْ أَرَادَ بِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا التَّأْكِيدَ، فَالْجَمِيعُ ظِهَارٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ الْمَرَّاتِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ فَارَقَهَا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِتُمَكِّنَهُ مِنَ الْفِرَاقِ بَدَلًا مِنَ التَّأْكِيدِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الْمُؤَكَّدَ بِهَا

فصل

كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ظِهَارًا آخَرَ، تَعَذَّرَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْجَدِيدِ، وَاتَّحَدَتْ عَلَى الْقَدِيمِ. وَقِيلَ: تَتَعَدَّدُ قَطْعًا، فَإِنْ عَدَدْنَا، فَفَارَقَ عَقِبَ الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ الْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ، بِخِلَافِ التَّأْكِيدِ، وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَهَلْ تَتَّحِدُ، أَمْ تَتَعَدَّدُ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الِاتِّحَادُ، وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وِ «التَّتِمَّةِ» . وَأَمَّا إِذَا تَفَاصَلَتِ الْمَرَّاتُ، وَقَصَدَ بِكُلِّ مَرَّةٍ، ظِهَارًا، أَوْ أَطْلَقَ، فَكُلُّ مَرَّةٍ ظِهَارٌ مُسْتَقِلٌّ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ: لَا يَكُونُ الثَّانِي ظِهَارًا مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إِعَادَةَ الظِّهَارِ الْأَوَّلِ، فَعَنِ الْقَفَّالِ: اخْتِلَافُ جَوَابٍ فِي قَبُولِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي الظِّهَارِ شِبْهُ الْيَمِينِ، أَمِ الطَّلَاقِ؟ إِنْ غَلَّبْنَا الطَّلَاقَ، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ قَبُولُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِيلَاءِ، وَالْأَصَحُّ تَغْلِيبُ شِبْهِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِرَادَتُهُ التَّأْكِيدَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: نَقَلَ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنِ الْبَغْدَادِيِّينَ، يَعْنِي بِهِمُ الْعِرَاقِيِّينَ، الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَجَزَمَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» بِالْقَبُولِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظَ ثَلَاثًا، فَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ، صَارَ مُظَاهِرًا، فَإِنْ قَصَدَ التَّأْكِيدَ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَإِنْ قَالَهَا فِي مَجَالِسَ، وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِئْنَافَ، تَعَدَّدَتِ الْكَفَّارَةُ، وَيَجِبُ الْجَمِيعُ بِعَوْدٍ وَاحِدٍ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا عَقِبَ الدُّخُولِ، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ، أَمِ الِاسْتِئْنَافِ؟ قَوْلَانِ. فَصْلٌ قَالَ: إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِنْ تَزَوَّجَ، أَوْ لَمْ

فصل

يَتَمَكَّنْ مِنْهُ بِأَنْ مَاتَ، أَوْ مَاتَتْ عَقِبَ الظِّهَارِ، فَلَا عَوْدَ وَلَا ظِهَارَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا إِذْ فَاتَ التَّزْوِيجُ عَلَيْهَا مَعَ إِمْكَانِهِ، وَحَصَلَ الْيَأْسُ مِنْهُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَحِينَئِذٍ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ كَانَ مُظَاهِرًا قُبَيْلَ الْمَوْتِ، وَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ وَحُصُولِ الْعَوْدِ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يَلْزَمُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَلْزَمُ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى تَقْدِيرِ حُصُولِ الْعَوْدِ عَقِبَ الظِّهَارِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَلَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا مَعَ الْإِمْكَانِ حَتَّى جُنَّ، فَإِنْ أَفَاقَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ التَّزْوِيجِ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ، وَإِنِ اتَّصَلَ الْمَوْتُ بِالْجُنُونِ، تَبَيَّنَّا مَصِيرَهُ ظَاهِرًا قُبَيْلَ الْجُنُونِ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِمَصِيرِهِ مُظَاهِرًا إِلَّا قُبَيْلَ الْمَوْتِ، وَيَجِيءُ مَثَلُهُ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ. قَالَ الشَّيْخُ: وَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الظِّهَارِ إِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ إِنِ اخْتَلَفَ حَالُهُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِذَا مَضَى عَقِبَ التَّعْلِيقِ زَمَانُ إِمْكَانِ التَّزَوُّجِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ، صَارَ مُظَاهِرًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِنْ وَإِذَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ خَرَجَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ إِلَى الْأُخْرَى، وَهُوَ جَارٍ هُنَا. فَصْلٌ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، ثُمَّ دَخَلَتْ، فَهَلْ يُجْزِئُهُ إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ؟ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: نَعَمْ، كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا، لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ عَلَى السَّبَبَيْنِ جَمِيعًا، فَلَمْ يَصِحَّ كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ وَالنِّصَابِ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْيَمِينِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ، لَوْ أَطْعَمَ عَنِ الظِّهَارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ، وَلَا يَجْرِي فِي الصَّوْمِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْوَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي تَعْلِيقِ الْإِيلَاءِ. فَإِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ

الدَّارَ فَوَاللَّهِ لَا أَطَؤُكِ، ثُمَّ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ، جَوَّزَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَقَالَ: مَتَى دَخَلْتِ، فَعَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، فَدَخَلَتْ، فَعَلَى رَأْيِ ابْنِ الْحَدَّادِ يَصِيرُ مُظَاهِرًا، وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ عَنِ الظِّهَارِ، وَعَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ إِعْتَاقِهِ عَنِ الظِّهَارِ، وَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَ عَنِ الظِّهَارِ بَعْدَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ، فَيُجْزِئُهُ قَطْعًا، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَعْتَقْتُ هَذَا عَنْ كَفَّارَتِي، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَسَالِمٌ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، فَهَذَا إِعْتَاقٌ مَعَ الْعَوْدِ، وَيُجْزِئُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ التَّأَخُّرُ عَنِ الظِّهَارِ. فَرْعٌ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ، وَعَادَ ثُمَّ قَالَ لِمَالِكِهَا: أَعْتَقْتُهَا عَنْ ظِهَارِي، فَفَعَلَ، وَقَعَ عِتْقُهَا عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهَا عَنْهُ بِاسْتِدْعَائِهِ عَنْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى، وَلَوْ مَلَكَهَا بَعْدَمَا ظَاهَرَ، وَعَادَ فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا عَنْ ظِهَارِهِ مِنْهَا، أَجْزَأَهُ. وَلَوْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ، وَوَطِئَهَا وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فَقَالَ لِسَيِّدِهَا: أَعْتِقُهَا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي، فَفَعَلَ، أَجْزَأَهُ وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلَوْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ الذِّمِّيَّةِ، ثُمَّ وَطِئَهَا، أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا وَعَادَ، ثُمَّ نَقَضَتِ الْعَهْدَ، فَاسْتَرَقَتْ، فَمَلَكَهَا الزَّوْجُ فَأَسْلَمَتْ، فَأَعْتَقَهَا عَنْ كَفَّارَةِ ظِهَارِهِ، أَجْزَأَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الكفارات

كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ هِيَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَدْخُلُهُ الْإِعْتَاقُ، كَالْوَاجِبَاتِ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَسَبَقَ بَيَانُهَا فِي الْحَجِّ. وَالثَّانِي: يَدْخُلُهُ الْإِعْتَاقُ، وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: تَتَرَتَّبُ فِيهِ خِصَالُ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ الظِّهَارُ وَالْجِمَاعُ فِي نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْقَتْلُ. وَالثَّانِي: لِلتَّخْيِيرِ، وَهِيَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَمُعْظَمُ الْمَقْصُودِ هُنَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا أَشْيَاءُ مِنْ غَيْرِهَا، وَالْبَاقِي مُوَضَّحَةٌ فِي أَبْوَابِهَا. فَصْلٌ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَيَكْفِيهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّقْيِيدُ بِالْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا وَاجِبَةً، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ، وَلَا تَكْفِيهِ نِيَّةُ الْعِتْقِ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ يَجِبُ بِالنَّذْرِ فَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ الْوَاجِبَ بِالظِّهَارِ، أَوِ الْقَتْلِ مَثَلًا، كَفَى، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ، فَيَنْوِي مِنَ اللَّيْلِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الِإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّكَاةِ،

وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا عُلِّقَ الْعِتْقُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى شَرْطٍ، لَمْ يَجُزْ تَأَخُّرُ النِّيَّةِ عَنِ التَّعْلِيقِ، بَلْ يُشْتَرَطُ الْمُقَارَنَةُ لِلتَّعْلِيقِ إِنْ شَرَطْنَاهَا فِي التَّنْجِيزِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ: يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ لَا يَجِبُ فِي النِّيَّةِ تَعْيِينُ الْكَفَّارَةِ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَا ظِهَارٍ وَقَتْلٍ، فَأَعْتَقَ عَبْدَيْنِ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، أَجْزَاهُ عَنْهُمَا. وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ، فَأَعْتَقَ رَقَبَةً بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، وَقَعَتْ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، سَوَاءٌ اتَّفَقَ جِنْسُهَا أَوِ اخْتَلَفَ، وَكَذَا الصَّوْمُ وَالْإِطْعَامُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَنَسِيَ سَبَبَهَا فَأَعْتَقَ وَنَوَى عَلَيْهِ، أَجْزَأَهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، فَأَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ أَعْسَرَ وَصَامَ شَهْرَيْنِ عَنْ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ عَجَزَ فَأَطْعَمَ عَنِ الثَّالِثَةِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا، أَجْزَأَهُ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ، فَنَوَى كَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الظِّهَارِ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ الْمُطْلَقَةِ، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى وَاحِدَةٍ مُعَيَّنَةٍ، تَعَيَّنَ الْعِتْقُ لَهَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ بَعْدَهُ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ عَيَّنَ فِي الِابْتِدَاءِ. فَرْعٌ إِذَا ظَاهَرَ الذِّمِّيُّ وَعَادَ، يُكَفِّرُ بِالْإِعْتَاقِ أَوِ الْإِطْعَامِ دُونَ الصِّيَامِ، وَلَوِ ارْتَدَّ مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ، لَمْ يَصِحَّ تَكْفِيرُهُ بِالصَّوْمِ. وَهَلْ يَكَفِّرُ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِالْإِطْعَامِ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِعْتَاقِ وَالصَّوْمِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. مِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ بِالْإِجْزَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى زَوَالِ مِلْكِهِ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُكَفِّرُ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَكَانَ كَالدُّيُونِ. وَعَنِ الِاصْطَخْرِيِّ: أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُقْضَى أَيْضًا إِنْ قُلْنَا بِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يُقْضَى، وَيُشْتَرَطُ أَنْ

فصل

يَنْوِيَ الْكَفَّارَةَ بِالْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ نِيَّةَ التَّمْيِيزِ دُونَ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ، وَإِذَا أَخْرَجَ الْكَفَّارَةَ مِنْ مَالِهِ فِي الرِّدَّةِ، لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْكَفَّارَةِ الْمُخَيَّرَةِ أَدْنَى الدَّرَجَاتِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِذَا كَفَرَ فِيهَا ثُمَّ أَسْلَمَ، حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ. فَصْلٌ خِصَالُ الْكَفَّارَةِ ثَلَاثٌ. الْأُولَى: الْعِتْقُ. وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّقَبَةِ لِتُجْزِئَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: الْإِسْلَامُ، وَالسَّلَامَةُ، وَكَمَالُ الرِّقِّ، وَالْخُلُوُّ عَنِ الْعِوَضِ. الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ، فَلَا تُجْزِئُ كَافِرَةٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ، وَيُجْزِئُ إِعْتَاقُ الصَّغِيرِ إِذَا كَانَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا، أَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ انْعِقَادِهِ، وَلَا يُجْزِئُ إِذَا كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ، لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ سَبَقَ فِيهِ فِي كِتَابِ «اللَّقِيطِ» ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: يَصِحُّ إِسْلَامُ الْمُمَيِّزِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَوْقُوفٌ، إِنْ بَلَغَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ، تَبَيَّنَّا صِحَّةَ إِسْلَامِهِ، وَإِلَّا فَلَا، فَعَلَى قَوْلِ الِاصْطَخْرِيِّ، يُجْزِئُ إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَعَلَى الْوَقْفِ: إِنْ بَلَغَ وَثَبَتَ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ. وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَهُوَ صَغِيرٌ أَوْ جَنِينٌ، أَجْزَأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِنْ مَاتَ فِي صِغَرِهِ، أَوْ بَعْدَ بُلُوغِهِ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنَ اللَّفْظِ بِالْإِسْلَامِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي اللَّقِيطِ، أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَبِهَذَا يُقَاسُ مَنْ أَسْلَمَ بِتَبَعِيَّةِ السَّابِي، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي «اللَّقِيطِ» . وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَوْ سَبَا الصَّغِيرَ سَابٍ، وَسَبَا أَحَدَ أَبَوَيْهِ آخَرُ، فَإِنْ كَانَا فِي عَسْكَرٍ وَاحِدٍ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ، وَإِنْ كَانَا فِي عَسْكَرَيْنِ، كَانَا تَبَعًا لِلسَّابِي، وَأَنَّ حُكْمَ الْمَجْنُونِ فِي تَبَعِيَّةِ الْوَالِدَيْنِ وَالدَّارِ حُكْمُ الصَّبِيِّ، وَإِذَا أَفَاقَ وَصَرَّحَ بِالْكُفْرِ، فَهَلْ هُوَ مُرْتَدٌّ، أَمْ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ وَصَرَّحَ بِالْكُفْرِ، وَأَنَّهُ هَلْ يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: لَوْ صَرَّحَ بِالْكُفْرِ كَانَ مُرْتَدًّا، لَمْ يَجِبْ، لِأَنَّهُ

مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُجْعَلُ مُرْتَدًّا، وَجَبَ، حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ التَّلَفُّظِ، مَاتَ كَافِرًا. فَرْعٌ يَصِحُّ إِسْلَامُ الْكَافِرِ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ. فَلَوْ لُقِّنَ الْعَجَمِيُّ الشَّهَادَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَتَلَفَّظَ بِهَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، وَإِذَا تَلَفَّظَ الْعَبْدُ بِالْإِسْلَامِ بِلُغَتِهِ، وَسَيِّدُهُ لَا يَعْرِفُ لُغَتَهُ، فَلَا بُدَّ مِمَّنْ يُعَرِّفُهُ بِلُغَتِهِ لِيَعْتِقَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ. قُلْتُ: إِسْلَامُهُ بِالْعَجَمِيَّةِ صَحِيحٌ، إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ أَحْسَنَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْوَجْهُ بِالْمَنْعِ مَشْهُورٌ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرِهِ، وَيَكْفِي السَّيِّدَ فِي مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْعَبْدِ قَوْلُ ثِقَةٍ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ، كَمَا يَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ قَوْلِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ يَصِحُّ إِسْلَامُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ. وَقِيلَ: لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا إِذَا صَلَّى بَعْدَ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْأُمِّ وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ، وَحَمَلَ النَّصَّ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْإِشَارَةُ مُفْهَمَةً. فَرْعٌ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي «الْمُخْتَصَرِ» فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَبْرَأُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَاقْتَصَرَ فِي مَوَاضِعَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْبَرَاءَةَ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ، بَلْ إِنْ كَانَ الْكَافِرُ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِأَصْلِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ يَقُولُونَ: مُرْسَلٌ إِلَى الْعَرَبِ فَقَطْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَرَاءَةِ، وَإِنْ

كَانَ يُنْكِرُ أَصْلَ الرِّسَالَةِ كَالْوَثَنِيِّ، كَفَى فِي إِسْلَامِهِ الشَّهَادَتَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَقَدْ رَأَيْتُ هَذَا التَّفْصِيلَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ «قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ» ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ خِلَافًا لِلْأَصْحَابِ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ قَالَ: وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ. قُلْتُ: فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، حَكَاهَا صَاحِبُ «الْحَاوِي» . وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ، وَالثَّانِي: أَنَّ التَّبَرُّؤَ شَرْطٌ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مُطْلَقًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، أَنَّ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَتَيْنِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا، وَلَا يَحْصُلُ الْإِسْلَامُ إِلَّا بِهِمَا، وَحَكَى الْإِمَامُ مَعَ ذَلِكَ طَرِيقَةً أُخْرَى مَنْسُوبَةً إِلَى الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّ مَنْ أَتَى مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ بِكَلِمَةٍ تُخَالِفُ مُعْتَقَدَهُ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ أَتَى مِنْهُمَا بِمَا يُوَافِقُهُ، لَمْ يُحْكَمْ، فَإِذَا وَحَّدَ الثَّنَوِيُّ، أَوْ قَالَ الْمُعَطِّلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، جُعِلَ مُسْلِمًا، وَعُرِضَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الرِّسَالَةِ، فَإِنْ أَنْكَرَ، صَارَ مُرْتَدًّا. وَالْيَهُودِيُّ إِذَا قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَحَكَى عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ خِلَافًا فِي أَنَّ الْيَهُودِيَّ أَوِ النَّصْرَانِيَّ إِذَا اعْتَرَفَ بِصَلَاةٍ تُوَافِقُ مِلَّتَنَا، أَوْ حُكْمٍ يَخْتَصُّ بِشَرِيعَتِنَا، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِسْلَامًا؟ وَقَالَ: مَيْلُ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى كَوْنِهِ إِسْلَامًا، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ فِي ضَبْطِهِ، أَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا كَفَرَ الْمُسْلِمُ بِجَحْدِهِ، صَارَ الْكَافِرُ الْمُخَالِفُ لَهُ مُسْلِمًا بِعَقْدِهِ. ثُمَّ إِنْ كَذَّبَ غَيْرَ مَا صَدَّقَ بِهِ، كَانَ مُرْتَدًّا، وَالْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ مَا قَدَّمْنَاهُ. فَرْعٌ اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُمْتَحَنَ الْكَافِرُ عِنْدَ إِسْلَامِهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: السَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ يُضِرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا، فَلَا يُجْزِئُ الزَّمِنُ، وَلَا مَنْ يُجَنُّ أَكْثَرَ الْأَوْقَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ إِفَاقَتُهُ أَكْثَرَ، أَجْزَأَ، وَكَذَا إِنِ اسْتَوَيَا عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ، هُوَ الْمَذْهَبُ. وَفِي «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ وَإِنْ كَانَتْ إِفَاقَتُهُ أَكْثَرَ، وَهُوَ غَلَطٌ مُخَالِفٌ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ وَالدَّلِيلِ. وَاخْتَارَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» طَرِيقَةً حَسَنَةً فَقَالَ: إِنْ كَانَ زَمَنُ الْجُنُونِ أَكْثَرَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِفَاقَةُ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْحَالِ، أَجْزَأَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ، لَمْ يُجْزِئْ. قَالَ: وَيُجْزِئُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ زَوَالَهُ مَرْجُوٌّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يُجْزِئُ مَرِيضٌ لَا يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، كَصَاحِبِ السُّلِّ، فَإِنْ رُجِيَ، أَجْزَأَ، فَلَوْ أَعْتَقَ مَنْ لَا يُرْجَى، فَزَالَ مَرَضُهُ، أَوْ مَنْ يُرْجَى فَمَاتَ وَلَمْ يَزُلْ، أَجْزَأَهُ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا، وَلَوْ أَعْتَقَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلٌ، قَالَ الْقَفَّالُ: إِنْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُقَدَّمَ لِلْقَتْلِ، أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا فَلَا، كَمَرِيضٍ لَا يُرْجَى، وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَلَا مَقْطُوعُ أُنْمُلَةٍ مِنْ إِبْهَامِ الْيَدِ، وَيُجْزِئُ مَقْطُوعُ أُنْمُلَةٍ مِنْ غَيْرِهَا، حَتَّى لَوْ قُطِعَ أَنَامِلُهُ الْعُلْيَا مِنْ أَصَابِعِهِ الْأَرْبَعِ، أَجْزَأَهُ، وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ أُنْمُلَتَيْنِ مِنَ السَّبَّابَةِ، أَوِ الْوُسْطَى، وَيُجُزِئُ مَقْطُوعُ جَمِيعِ الْخِنْصِرِ مِنْ يَدٍ، وَالْبِنْصِرِ مِنَ الْيَدِ الْأُخْرَى، وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُهُمَا مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، وَيُجْزِئُ مَقْطُوعُ جَمِيعِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هُوَ كَقَطْعِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ، وَالْأَشَلُّ كَالْأَقْطَعِ. قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي طَرِيقَةِ

الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَخَالَفَهُمْ صَاحِبُ «الْحَاوِي» ، فَجَزَمَ بِأَنَّهُ إِذَا قُطِعَ أُصْبُعَانِ مِنْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، أَوِ الْإِبْهَامُ وَحْدَهَا مِنْ رِجْلٍ، لَمْ يُجْزِئْ، وَإِلَّا فَيُجْزِئُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ يُجْزِئُ نِضْوُ الْخَلْقِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْأَحْمَقُ، وَهُوَ مَنْ يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِقُبْحِهِ، وَيُجْزِئُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، إِلَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنِ الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ. وَفِي «التَّجْرِبَةِ» لِلرُّويَانِيِّ، أَنَّ الْأَصْحَابَ قَالُوا: يُجْزِئُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَمَنَعَهُ الْقَفَّالُ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَفِي هَذَا إِثْبَاتُ خِلَافٍ فِي الشَّيْخِ الْعَاجِزِ، وَيُجْزِئُ الْأَعْرَجُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَرَجُ شَدِيدًا يَمْنَعُ مُتَابَعَةَ الْمَشْيِ، وَيُجْزِئُ الْأَعْوَرُ دُونَ الْأَعْمَى. قُلْتُ: الْمُرَادُ أَعْوَرُ لَمْ يَضْعُفْ نَظَرُ عَيْنِهِ السَّلِيمَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْأُمِّ» : فَإِنْ ضَعُفَ بَصَرُهَا، فَأَضَرَّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا، لَمْ يُجْزِئْهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنْ كَانَ ضَعْفُ الْبَصَرِ يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ الْخَطِّ وَإِثْبَاتَ الْوُجُوهِ الْقَرِيبَةِ مُنِعَ، وَإِلَّا فَلَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُجْزِئُ الْأَصَمُّ، وَحُكِيَ فِيهِ قَوْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ، وَحُمِلَ مَا نُقِلَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ لَا يَسْمَعُ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، وَيُجْزِئُ الْأَخْرَسُ الَّذِي يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ. وَعَنِ الْقَدِيمِ مَنْعُهُ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا عَلَى حَالَيْنِ، فَالْإِجْزَاءُ فِيمَنْ يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ، وَالْمَنْعُ فِيمَنْ لَا يَفْهَمُهَا. وَقِيلَ: الْإِجْزَاءُ إِذَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْخَرَسِ صَمَمٌ، وَالْمَنْعُ إِذَا انْضَمَّ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ الْوَكِيلِ الْقَطْعَ بِالْمَنْعِ إِذَا انْضَمَّ، وَقَوْلَيْنِ إِذَا تَجَرَّدَ الْخَرَسُ. وَيُجْزِئُ الْأَقْرَعُ، وَمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ، وَالْأَخْشَمُ، وَمَقْطُوعُ الْأَنْفِ، وَالْأَبْرَصُ، وَالْمَجْذُومُ، وَالْخَصِيُّ، وَالْمَجْبُوبُ، وَالْأَمَةُ، وَالرَّتْقَاءُ، وَالْقُرَنَاءُ، وَمَفْقُودُ الْأَسْنَانِ، وَوَلَدُ

الزِّنَا، وَضَعِيفُ الْبَطْشِ، وَالصَّغِيرُ، وَلَا يُجْزِئُ الْجَنِينُ وَإِنِ انْفَصَلَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْإِعْتَاقِ، وَقِيلَ: إِنِ انْفَصَلَ لِذَلِكَ، تَبَيَّنَّا الْإِجْزَاءَ، وَلَا يُحْكَمُ فِي الْحَالِ بِالْإِجْزَاءِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : يُجْزِئُ عِتْقُ مَنْ لَا يُحْسِنُ صَنْعَةً، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يُؤَثِّرُ ضَعِيفُ الرَّأْيِ وَالْخَرِقُ، وَالْكَوَعُ وَالْوَكَعُ، وَيُجْزِئُ الْفَاسِقُ. قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : وَأَمَّا شِجَاجُ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ مُنْدَمِلَةً مَعَ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ، لَمْ تَضُرَّ وَإِنْ شَانَتْهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْدَمِلَةٍ، أَجْزَأَ مِنْهَا مَا كَانَ دُونَ مَأْمُومَةِ الرَّأْسِ وَجَائِفَةِ الْبَدَنِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَخُوفَةٍ، وَلَا يُجْزِئَانِ لِأَنَّهُمَا مَخُوفَتَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: كَمَالُ الرِّقِّ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: لَا يُجْزِئُ إِعْتَاقُ الْمُسْتَوْلَدَةِ وَلَا الْمُكَاتَبِ، سَوَاءٌ أَدَّى شَيْئًا مِنَ النُّجُومِ، أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً، أَجْزَأَ إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ قَالَ لِلْمُكَاتَبِ: إِذَا عَجَزْتَ عَنِ النُّجُومِ فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَتِي، فَعَجَزَ، عَتَقَ، وَلَمْ يُجْزِئْ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ حِينَ عَلَّقَ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الْإِجْزَاءِ. كَذَا وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ: إِذَا أَسْلَمْتَ، فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَتِي، فَأَسْلَمَ، أَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجَ الْجَنِينُ سَلِيمًا، فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَتِي، فَخَرَجَ سَلِيمًا. وَلَوْ عَلَّقَ الْعِتْقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِدُخُولِ الدَّارِ، ثُمَّ كَاتَبَ الْعَبْدَ، ثُمَّ دَخَلَ، فَهَلْ يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ التَّعْلِيقِ، أَمْ لَا، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْعِتْقِ عَنِ الْكِتَابَةِ وَقْتَ الْحُصُولِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ فِي جَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ، أَجْزَأَ إِعْتَاقُهَا عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَأَعْتَقَهَا عَنِ الْكَفَّارَةِ، لَا يُجْزِئُهُ، وَيَقَعُ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا، وَلَا يُرِيدَ عِتْقَهَا، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ

الْكَفَّارَةِ، عَتَقَ وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْهَا، سَوَاءٌ جَوَّزْنَا بَيْعَهُ أَمْ لَا، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ عَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ، لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ يَنْقَطِعُ أَثَرُهَا بِالْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَدَّى النُّجُومَ إِلَى الْمُشْتَرِي عَتَقَ، ثُمَّ إِذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، تَبِعَهُ أَوْلَادُهُ وَأَكْسَابُهُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تُسْتَتْبَعُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُتْبِعُونَهَا فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَلَمْ يَحْصُلْ، وَأَوْلَادُ الْمُكَاتَبِ يَتْبَعُونَهُ إِذَا عَتَقَ بِأَدَاءِ النُّجُومِ أَوِ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَنَوَى كَوْنَ الْعِتْقِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، فَعَنِ الْأَوْدَنِيِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، وَكَذَا لَوْ وُهِبَ لَهُ، فَقَبِلَهُ، أَوْ أُوصَى لَهُ بِهِ، فَقَبِلَ وَقُلْنَا: تُمْلَكُ الْوَصِيَّةُ بِالْقَبُولِ، وَنَوَى الْعِتْقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَا لَوْ وَرِثَهُ أَوْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ، ثُمَّ عَجَّزَهُ السَّيِّدُ، وَنَوَى عِتْقَ قَرِيبِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُسْتَحَقٌّ بِجِهَةِ الْقَرَابَةِ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ. الثَّالِثَةُ: لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْعِتْقِ، فَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا أَعْتَقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ مَرْهُونًا، بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِي نُفُوذِ عِتْقِهِ، إِنْ نَفَّذْنَاهُ، أَجْزَأَ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِذَا نَوَاهَا، وَكَذَا إِنْ لَمْ نُنَفِّذْهُ فِي الْحَالِ وَنَفَّذْنَاهُ بَعْدَ الِانْفِكَاكِ بِاللَّفْظِ السَّابِقِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِشَرْطٍ. وَإِعْتَاقُ الْجَانِي عَنِ الْكَفَّارَةِ يُبْنَى عَلَى نُفُوذِ إِعْتَاقِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَيْعِ. وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ الْمَرْهُونُ وَالْجَانِي عَنِ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ قُلْنَا بِنُفُوذِ الْعِتْقِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِمَا، وَنُقْصَانِ التَّصَرُّفَاتِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إِذَا نَفَّذْنَاهُ رَفَعَ حَقَّ تَعَلُّقِ الْغَيْرِ، وَرَجَعَ إِلَى الْفِدَاءِ، وَالْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ لَا يُجْزِئُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالْمُسْتَأْجَرُ إِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ عَلَى السَّيِّدِ بِأُجْرَةِ مَنَافِعِهِ، أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا فَلَا، لِنُقْصَانِ مَنَافِعِهِ.

قُلْتُ: وَلَوْ أَعْتَقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ مَنْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فِي الْمُحَارَبَةِ، أَجْزَأَهُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ التَّعْلِيقِ أَنْ يَجْعَلَ الْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ عِنْدَ حُصُولِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ. مِثَالُهُ: قَالَ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ دَخَلْتَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَتِي، فَيُعْتَقُ بِالدُّخُولِ وَلَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ بِالتَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ. السَّادِسَةُ: أَعْتَقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ حَامِلًا، أَجْزَأَهُ، وَعَتَقَ الْحَمْلُ تَبَعًا، وَلَوِ اسْتَثْنَى الْحَمْلَ، عَتَقَا، وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَأَجْزَأَهُ عِتْقُهَا عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى الْمُتَوَلِّي قَوْلًا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ الْعِتْقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّغْلِيبِ، فَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ، بِخِلَافِ مُطْلَقِ الْعِتْقِ. السَّابِعَةُ: مَلَكَ نِصْفَ عَبْدٍ، فَأَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، ثُمَّ مَلَكَ بَاقِيَهُ فَأَعْتَقَهُ عَنْ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ، أَجْزَاهُ كَمَا لَوْ أَطْعَمَ فِي أَوْقَاتٍ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ إِعْتَاقِ بَاقِيهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُجْزِئُهُ كَمَا لَوْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ، وَجَوَّزْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ. وَلَوْ مَلَكَ نِصْفًا مِنْ عَبْدٍ، وَنِصْفًا مِنْ آخَرَ، فَأَعْتَقَ النِّصْفَيْنِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا يُجْزِئُهُ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ خَيْرَانَ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَكَمَا لَا يُجْزِئُ شِقْصَانِ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ، وَأَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ بَاقِيهِمَا حُرًّا، وَإِلَّا فَلَا. وَتَجْرِي الْأَوْجُهُ فِي ثُلُثِ أَحَدِهِمَا، وَثُلُثَيِ الْآخَرِ وَنَظَائِرِهِمَا. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ عَنْ ظِهَارَيْنِ، أَوْ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ، فَأَعْتَقَ عَبْدَيْنِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفًا مِنْ هَذَا، وَنِصْفًا مِنْ هَذَا، أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

وَقِيلَ: فِيهِ خِلَافٌ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ، اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يُعْتِقُ نِصْفَ كُلِّ عَبْدٍ عَنْ كَفَّارَةٍ كَمَا أَوْقَعَهُ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ خَيْرَانَ: يَقَعُ عَبْدٌ عَنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ، وَعَبْدٌ عَنْ هَذِهِ، وَيَلْغُو تَعَرُّضُهُ لِلتَّنْصِيفِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَتَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهٌ: يُعْتَدُّ بِهِ وَعَلَيْهِ إِتْمَامُ كُلِّ وَاحِدَةٍ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. فَرْعٌ إِذَا أَعْتَقَ مُوسِرٌ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ، سَرَى إِلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَهَلْ تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، أَمْ عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، أَمْ مَوْقُوفٌ؟ فَإِذَا أَدَّى تَبَيَّنَّا حُصُولَ الْعِتْقِ بِاللَّفْظِ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَلَوْ أَعْتَقَ جَمِيعَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، فَمَتَى يُعْتَقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ؟ فِيهِ الْأَقْوَالُ، فَإِنْ قُلْنَا: يُعْتَقُ بِاللَّفْظِ، فَهَلْ نَقُولُ: عَتَقَ الْجَمِيعُ دُفْعَةً، أَمْ يُعْتَقُ نَصِيبُهُ ثُمَّ يَسْرِي؟ وَجْهَانِ. وَكُلُّ هَذَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى [فِي كِتَابِ الْعِتْقِ] مَبْسُوطًا. وَغَرَضُنَا هُنَا أَنَّ إِعْتَاقَ الْمُشْرِكِ عَنِ الْكَفَّارَةِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ وَجَّهَ الْعِتْقَ إِلَى جُمْلَتِهِ، أَمْ إِلَى نَصِيبِهِ فَقَطْ لِحُصُولِ الْعِتْقِ بِالسِّرَايَةِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ الْكَفَّارَةِ إِذَا وَجَّهَ الْعِتْقَ إِلَى نَصِيبِهِ فَقَطْ، لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ عَتَقَ بِالشَّرْعِ، لَا بِإِعْتَاقِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ يَنْظُرُ، فَإِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَنَوَى عِتْقَ الْجَمِيعِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، أَجْزَاهُ عَنْهَا إِنْ قُلْنَا: يَسْرِي عِنْدَ اللَّفْظِ، أَوْ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ قُلْنَا: يَسْرِي عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَهَلْ تَكْفِيهِ هَذِهِ النِّيَّةُ لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ، أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تَكْفِي لِاقْتِرَانِهَا بِالْعِتْقِ، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ مُرَتَّبًا. وَلَوْ نَوَى فِي الْحَالِ صَرْفَ الْعِتْقِ فِي نَصِيبِهِ إِلَى الْكَفَّارَةِ، وَنَوَى عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ صَرْفَ الْعِتْقِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ إِلَيْهَا، أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمِيعَ فِي الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّ

سَبَبَ عِتْقِ الْجَمِيعِ لَفْظُهُ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِدُخُولِ الدَّارِ، يُشْتَرَطُ فِي الْإِجْزَاءِ عَنِ الْكَفَّارَةِ نِيَّتُهَا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، وَلَا يَكْفِي اقْتِرَانُهَا بِالدُّخُولِ، فَحَصَلَ أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ بَيْنَ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عِنْدَ اللَّفْظِ وَتَأْخِيرِهَا إِلَى الْأَدَاءِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا نَوَى عِتْقَ الْجَمِيعِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَوَجَّهَ الْعِتْقَ إِلَى نَصِيبِهِ. أَمَّا إِذَا وَجَّهَ الْعِتْقَ إِلَى [نَصِيبِهِ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، وَلَمْ يَنْوِ الْبَاقِيَ، فَلَا يَنْصَرِفُ الْبَاقِي إِلَيْهَا وَإِنْ حَكَمْنَا بِعِتْقِهِ فِي الْحَالِ، وَيَجِيءُ فِي وُقُوعِ نَصِيبِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْخِلَافُ] السَّابِقُ فِي إِعْتَاقِ بَعْضِ رَقَبَةٍ، وَحَكَى صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ وَجْهًا أَنَّ الْبَاقِيَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَفَّارَةِ [تَبَعًا لِنَصِيبِهِ كَمَا تَبِعَهُ فِي أَصْلِ الْعِتْقِ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْجَمِيعَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ] وَقُلْنَا: يَسْرِي عِنْدَ اللَّفْظِ أَوْ مَوْقُوفٌ، أَجْزَأَهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِحُصُولِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» الْقَطْعُ بِالْإِجْزَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَعُودَ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا إِذَا وَجَّهَ الْعِتْقَ إِلَى نَصِيبِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْعَبْدُ الْغَائِبُ، إِنْ عَلِمَ حَيَاتَهُ، أَجْزَأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَإِنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، فَلَوْ أَعْتَقَهُ عَنْهَا، ثُمَّ تَوَاصَلَتْ أَخْبَارُ حَيَاتِهِ، تَبَيَّنَّا إِجْزَاءَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِحُصُولِ الْعِتْقِ فِي مِلْكٍ تَامٍّ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ. وَالْآبِقُ وَالْمَغْصُوبُ يُجْزِئَانِ إِذَا عُلِمَ حَيَاتُهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ لِكَمَالِ الرِّقِّ. قُلْتُ: الصَّوَابُ مَا قَطَعَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ الْآبِقَ يُجْزِئُ قَطْعًا لِاسْتِقْلَالِهِ بِمَنَافِعِهِ كَالْغَائِبِ. وَأَمَّا الْمَغْصُوبُ، فَأَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ: عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ قَطْعًا، لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ كَالزَّمِنِ، وَجُمْهُورُ الْخُرَاسَانِيِّينَ عَلَى الْإِجْزَاءِ لِتَمَامِ الْمِلْكِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ

ثَالِثٌ قَالَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنْ قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ غَاصِبِهِ بِهَرَبٍ إِلَى سَيِّدِهِ، أَجْزَأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ، فَالْإِجْزَاءُ مَوْقُوفٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِتْقُهُ مَوْقُوفًا كَالْغَائِبِ إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَوِيٌّ جِدًّا، وَحَيْثُ صَحَّحْنَا عِتْقَ الْغَائِبِ، وَالْآبِقِ، وَالْمَغْصُوبِ، أَجْزَأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْعَبْدُ بِالْعِتْقِ أَمْ لَا، لِأَنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ، فَكَذَا فِي الْإِجْزَاءِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: خُلُوُّ الْإِعْتَاقِ عَنْ شَوْبِ الْعِوَضِ، فَلَوْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَةٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ دِينَارًا مَثَلًا، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَجْهًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَاصِلٌ، وَيَسْقُطُ الْعِوَضُ، كَمَا لَوْ قَالَ: صَلِّ الظُّهْرَ لِنَفْسِكَ وَلَكَ دِينَارٌ، فَصَلَّى، أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَوْ شَرَطَ عِوَضًا عَلَى غَيْرِ الْعَبْدِ، فَلَوْ قَالَ الْإِنْسَانُ: أَعْتَقْتُ عَبْدِي هَذَا عَنْ كَفَّارَتِي بِأَلْفٍ عَلَيْكَ، فَقَبِلَ، أَوْ قَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: أَعْتِقْهُ عَنْ كَفَّارَتِكَ، وَعَلَيَّ كَذَا، فَفَعَلَ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَسَوَاءٌ قَدَّمَ فِي الْجَوَابِ ذِكْرَ الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَتِي بِأَلْفٍ عَلَيْكَ، أَوْ عَكَسَ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْكَ أَلْفًا عَنْ كَفَّارَتِي. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَجْهٌ أَنَّهُ إِذَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْكَفَّارَةِ، أَجْزَأَهُ وَسَقَطَ الْعِوَضُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَسَوَاءٌ قَالَ فِي الْجَوَابِ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَتِي، عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْكَ كَذَا، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَتِي، فَإِنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْخِطَابِ وَالِالْتِمَاسِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ الْعِوَضُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ وَجْهَانِ سَنَذْكُرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَخْتَصَّانِ بِمَا إِذَا قَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَتِكَ، بَلْ يُجْزِئَانِ فِيمَا إِذَا الْتَمَسَ مِنْهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ عَنْ نَفْسِهِ مُطْلَقًا بَعِوَضٍ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا وَقَعَ الْعِتْقُ، وَلَهُ الْوَلَاءُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْتَحِقُّ عِوَضًا، فَعَمَّنْ يَقَعُ الْعِتْقُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: عَنْ بَاذِلِ الْعِوَضِ، وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ.

فصل

وَأَصَحُّهُمَا: عَنِ الْمُعْتِقِ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُ عَنِ الْبَاذِلِ، وَلَا هُوَ اسْتَدْعَاهُ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ الْمُعْتِقُ: أَرُدُّ الْعِوَضَ لِيَكُونَ الْعِتْقُ مُجْزِئًا عَنْ كَفَّارَتِي، لَمْ يَنْقَلِبْ مُجْزِئًا، فَلَوْ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ عَقِبَ الِالْتِمَاسِ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَتِي لَا عَلَى الْأَلْفِ، كَانَ رَدًّا لِكَلَامِهِ، وَأَجْزَأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ. فَصْلٌ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، فَهُوَ مِنْ جَانِبِ الْمَالِكِ مُعَاوَضَةٌ فِيهَا شِبْهُ التَّعْلِيقِ، وَمِنْ جَانِبِ الْمُسْتَدْعِي مُعَاوَضَةٌ فِيهَا شِبْهُ الْجَعَالَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْخُلْعِ. فَإِذَا قَالَ: أَعْتِقْ مُسْتَوْلَدَتَكَ عَلَى أَلْفٍ، فَأَعْتَقَهَا، نَفَذَ الْعِتْقُ، وَثَبَتَ الْأَلْفُ، وَكَانَ ذَلِكَ افْتِدَاءً مِنَ الْمُسْتَدْعِي، كَاخْتِلَاعِ الْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُهَا عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، أَوْ وَعَلَيَّ أَلْفٌ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُهَا عَنْكَ، نَفَذَ الْعِتْقُ، وَلَغَا قَوْلُهُ: عَنِّي، وَقَوْلُ الْمُعْتِقِ: عَنْكَ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَدَةَ لَا تَنْتَقِلُ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ، ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْعِوَضَ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ الْعِتْقُ عَنْهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ. وَقِيلَ: يُسْتَحَقُّ وَيُلْغَى قَوْلُهُ: عَنِّي، وَيُجْعَلُ بَاقِي الْكَلَامِ افْتِدَاءً. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقْ زَوْجَتَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، فَطَلَّقَ، قَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ إِثْبَاتُ الْعِوَضِ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنْ نَفْسِكَ وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، أَوْ وَعَلَيَّ كَذَا، فَفَعَلَ، فَهَلْ يُسْتَحَقُّ الْعِوَضُ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ كَالْمُسْتَوْلَدَةِ وَمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ. وَالثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخُضَرِيِّ، لَا لِإِمْكَانِ تَمَلُّكِهِ بِالشِّرَاءِ، بِخِلَافِهِمَا، وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي، فَفَعَلَ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: مَجَّانًا، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَدْعِي، وَإِنْ ذَكَرَ عِوَضًا

، لَزِمَهُ الْعِوَضُ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَبْدِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ: اقْضِ دَيْنِي وَلَمْ يُشْتَرَطِ الرُّجُوعُ، وَخَصَّ الْإِمَامُ وَالسَّرْخَسِيُّ هَذَا الْبِنَاءَ بِمَا إِذَا قَالَ: أَعْتِقُهُ عَنْ كَفَّارَتِي، فَإِنَّ الْعِتْقَ حَقٌّ ثَابِتٌ عَلَيْهِ كَالدَّيْنِ، فَأَمَّا إِذَا [قَالَ] : أَعْتِقُهُ عَنِّي وَلَا عِتْقَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَهُ عَنْهُ، فَقَدْ أَطْلَقَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَرَأَى الْإِمَامُ تَخْرِيجَهُ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ هَلْ تَقْتَضِي الثَّوَابَ؟ ثُمَّ سَوَاءٌ نَفَى الْعِوَضَ أَمْ أَثْبَتَهُ، يَقَعُ الْعِتْقُ عَلَى الْمُسْتَدْعِي. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي مَجَّانًا، فَفَعَلَ، لَا يَقَعُ عَلَى الْمُسْتَدْعِي، وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَنْهُ، فَصَارَ كَذِكْرِ الْعِوَضِ. وَقَالُوا: الْعِتْقُ بِعِوَضٍ صَارَ كَالْمَبِيعِ الْمَقْبُوضِ حَتَّى [اسْتَقَرَّ] عِوَضُهُ، فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ عِنْدَ عَدَمِ الْعِوَضِ، كَالْمَوْهُوبِ الْمَقْبُوضِ، وَيُجْعَلُ الْقَبْضُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْعِتْقِ لِقُوَّتِهِ، وَذَكَرُوا بِنَاءً عَلَى هَذَا، أَنَّ إِعْتَاقَ الْمَوْهُوبِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ جَائِزٌ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنْ كَفَّارَتِي، أَوْ عَنِّي، وَنَوَى الْكَفَّارَةَ، فَأَجَابَهُ، أَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ نَفْسِكَ، وَلَا عَنِّي، فَهَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: عَنِّي لِقَرِينَتِهِ الْعِوَضَ، أَمْ كَقَوْلِهِ: عَنْكَ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي وَلَكَ أَلْفٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَكَ، فَفَعَلَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي فِي بَابِ «الْخُلْعِ» : الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَفْسُدُ، وَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنِ الْمُسْتَدْعِي، وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ. وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَنِ الْمَالِكِ، وَلَهُ الْوَلَاءُ. وَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، وَالْعَبْدُ مُسْتَأْجَرٌ أَوْ مَغْصُوبٌ، فَأَعْتَقَهُ، جَازَ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ مَغْصُوبًا. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ عَنْهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ، وَلَا يَخْرُجُ فِي الْمُسْتَأْجِرِ وَلَيْسَ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِهِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْصُلُ فِي ضِمْنِ الْإِعْتَاقِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الضِّمْنِيَّاتِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَقَاصِدِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِ ابْنِي الصَّغِيرِ، فَفَعَلَ،

جَازَ، وَكَانَ اكْتِسَابُ وَلَاءٍ لَهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ، وَلَيْسَ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ رَقِيقٌ فَأَرَادَ الْأَبُ إِعْتَاقَهُ. وَأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ عَبْدًا لَهُ لِإِنْسَانٍ، فَقَبِلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْوَاهِبِ: أَعْتِقْهُ عَنِ ابْنِي وَهُوَ صَغِيرٌ، فَأَعْتَقَهُ عَنْهُ، جَازَ وَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى ابْنِهِ، وَنَابَ عَنْهُ فِي الْإِعْتَاقِ لِلِابْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي صُوَرِ الِاسْتِدْعَاءِ، إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُسْتَدْعِي، وَالْعِوَضُ إِنَّمَا يَجِبُ إِذَا اتَّصَلَ الْجَوَابُ بِالْخِطَابِ، فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ وَقَعَ الْعِتْقُ عَنِ الْمَالِكِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَدْعِي. فَرْعٌ قَالَ: إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَأَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ، فَصَبَرَ حَتَّى جَاءَ الْغَدُ، فَأَعْتَقَهُ عَنْهُ، حَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَنْفُذُ الْعِتْقُ عَنْهُ، وَيَثْبُتُ الْمُسَمَّى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمَالِكُ لِغَيْرِهِ: عَبْدِي عَنْكَ حُرٌّ بِأَلْفٍ إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَقَالَ الْمُخَاطَبُ: قَبِلْتُ، فَهُوَ كَتَعْلِيقِ الْخُلْعِ فِي قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَقَالَتْ: قَبِلْتُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ وَجْهَيْنِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ مَجِيءِ الْغَدِ، أَصَحُّهُمَا: الْوُقُوعُ، وَوَجْهَيْنِ إِذَا وَقَعَ، أَنَّ الْوَاجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَمِ الْمُسَمَّى؟ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، فَكَذَا يَجِيءُ هُنَا الْخِلَافُ فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ عَنِ الْمُخَاطَبِ، وَإِذَا وَقَعَ، فَفِي صِحَّةِ الْمُسَمَّى وَفَسَادِهِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْأُولَى تَعْلِيقُ الْعِتْقِ، وَيُحْتَمَلُ مَجِيءُ وَجْهٍ فِي الْأُولَى أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ قِيمَةُ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى، وَأَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» ، وَاسْتَصْوَبَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ. فَرْعٌ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى خَمْرٍ، أَوْ مَغْصُوبٍ، فَفَعَلَ، نَفَذَ الْعِتْقُ عَنِ الْمُسْتَدْعِي، وَلَزِمَهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ، كَمَا فِي الْخُلْعِ.

فَرْعٌ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُعْتَقَ عَنِ الْمُسْتَدْعِي يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ إِذْ لَا عِتْقَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَمَتَى يَدْخُلُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا يَمْلِكُهُ بِالِاسْتِدْعَاءِ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ إِذَا تَلَفَّظَ الْمَالِكُ بِالْإِعْتَاقِ، وَالثَّانِي: يُمْلَكُ بِالشُّرُوعِ فِي لَفْظِ الْإِعْتَاقِ، وَيُعْتَقُ إِذَا تَمَّ اللَّفْظُ. وَالثَّالِثُ: يَحْصُلُ الْمِلْكُ وَالْعِتْقُ مَعًا عِنْدَ تَمَامِ اللَّفْظِ. وَأَصَحُّهَا: أَنَّ الْعِتْقَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمِلْكِ فِي لَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ، وَأَنَّ حُصُولَ الْمِلْكِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى آخِرِ لَفْظِ الْإِعْتَاقِ. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَأَكْثَرُ الَّذِينَ اخْتَارُوا هَذَا الْوَجْهَ: إِنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ عَقِبَ الْفَرَاغِ مِنْ لَفْظِ الْإِعْتَاقِ عَلَى الِاتِّصَالِ، وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّفْظِ. وَجَعَلَ الْإِمَامُ اخْتِلَافَ عِبَارَةِ الشَّيْخَيْنِ رَاجِعًا إِلَى اخْتِلَافِ الْأَصْحَابِ، فِي أَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ، يَثْبُتُ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّفْظِ، أَمْ بَعْدَ تَمَامِ أَجْزَائِهِ عَلَى الِاتِّصَالِ؟ فَعِبَارَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَبِي حَامِدٍ، عَلَى الثَّانِي، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْوَجْهِ الرَّابِعِ إِشْكَالٌ سِوَى تَأَخُّرِ الْعِتْقِ عَنِ الْإِعْتَاقِ بِقَدْرِ تَوَسُّطِ الْمِلْكِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَسَبَبُ تَأَخُّرِهِ، أَنَّهُ إِعْتَاقٌ عَنِ الْغَيْرِ، وَمَعْنَى الْإِعْتَاقِ عَنِ الْغَيْرِ، انْتِقَالُ الْمِلْكِ إِلَيْهِ، وَإِيقَاعُ الْعِتْقِ بَعْدَهُ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ الْعِتْقُ عَنِ الْإِعْتَاقِ بِأَسْبَابٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ عَبْدِي عَنْكَ بِكَذَا، لَا يُعْتَقُ حَتَّى يُوجَدَ الْقَبُولُ. فَرْعٌ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى كَذَا، فَفَعَلَ، ثُمَّ ظَهَرَ بِالْعَبْدِ عَيْبٌ، لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ، بَلْ يَرْجِعُ الْمُسْتَدْعِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ عَيْبًا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْكَفَّارَةُ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَنْكَ مَجَّانًا، عَتَقَ عَنِ الْمُعْتِقِ دُونَ الْمُسْتَدْعِي.

الْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: الصِّيَامُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ مُرَتَّبَةٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) الْآيَةَ. فَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ عَبْدٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، فَوَاجِبُهُ الْإِعْتَاقُ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى خِدْمَتِهِ، لِزَمَانَتِهِ، أَوْ مَرَضِهِ، أَوْ كِبَرِهِ، أَوْ ضَخَامَتِهِ الْمَانِعَةِ مَنْ خِدْمَتِهِ نَفْسَهُ، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ وَمَنْصِبُهُ يَأْبَى أَنْ يَخْدِمَ نَفْسَهُ وَأَنْ يُبَاشِرَ الْأَعْمَالَ الَّتِي يُسْتَخْدَمُ فِيهَا الْمَمَالِيكُ، لَمْ يُكَلَّفْ صَرْفَهُ إِلَى الْكَفَّارَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ، لَزِمَهُ الْإِعْتَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ عَبْدٌ وَوَجَدَ ثَمَنَهُ، لَزِمَهُ تَحْصِيلُهُ وَالْإِعْتَاقُ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، لِنَفَقَتِهِ وَكُسْوَتِهِ، وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ وَكُسْوَتِهِمْ، وَعَنِ الْمَسْكَنِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْأَثَاثِ، وَلَمْ يُقَدِّرِ الْأَصْحَابُ لِلنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ مُدَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ كِفَايَةَ الْعُمُرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ سَنَةً، لِأَنَّ الْمُؤْنَاتِ تَتَكَرَّرُ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبَغَوِيَّ قَالَ: يَتْرُكُ لَهُ ثَوْبَ الشِّتَاءِ، وَثَوْبَ الصَّيْفِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي، هُوَ الصَّوَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ مَلَكَ دَارًا وَاسِعَةً يَفْضُلُ بَعْضُهَا عَنْ حَاجَتِهِ، وَأَمْكَنَ بَيْعُ الْفَاضِلِ، لَزِمَهُ بَيْعُهُ وَتَحْصِيلُ رَقَبَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ دَارًا نَفِيسَةً يَجِدُ بِثَمَنِهَا مَسْكَنًا يَكْفِيهِ وَيَفْضُلُ ثَمَنُ رَقَبَةٍ، أَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ نَفِيسٌ يَجِدُ بِثَمَنِهِ عَبْدًا يَخْدِمُهُ، وَآخَرَ يُعْتِقُهُ، لَزِمَهُ الْبَيْعُ وَالْإِعْتَاقُ إِنْ لَمْ يَكُونَا مَأْلُوفَيْنِ، وَإِلَّا أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ نَفِيسٌ يَجِدُ بِثَمَنِهِ ثَوْبًا يَلِيقُ بِهِ، وَعَبْدًا يُعْتِقُهُ، لَزِمَهُ الْإِعْتَاقُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ. قُلْتُ: قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ أَوْ جُمْهُورُهُمْ، بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ فِي الْعَبْدِ النَّفِيسِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» عَنِ الْأَصْحَابِ، وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ لَوْ كَانَ لَهُ ضَيْعَةٌ أَوْ رَأْسُ مَالٍ يَتَّجِرُ فِيهِ، وَكَانَ يَحْصُلُ مِنْهُمَا كِفَايَتُهُ بِلَا مَزِيدٍ، وَلَوْ بَالتاعَهُمَا لِتَحْصِيلِ رَقَبَةٍ لَصَارَ فِي حَدِّ الْمَسَاكِينِ، لَمْ يُكَلَّفْ بَيْعَهُمَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ تَحْلِبُ، فَهِيَ كَالضَّيْعَةِ إِنْ كَانَ لَا تَزِيدُ غَلَّتُهَا عَلَى كِفَايَتِهِ، لَمْ يُكَلَّفْ بَيْعَهَا، وَإِنْ زَادَتْ، لَزِمَهُ بَيْعُ الزَّائِدِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» قَالَ: فَلَوْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ بِصِنَاعَةٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْرَ الْكِفَايَةِ، فَلَهُ الصَّوْمُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، نُظِرَ، فَإِنْ قُلْتُ: الزِّيَادَةُ بِحَيْثُ لَا تَجْتَمِعُ فَتَبْلُغُ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ إِلَّا فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ يُنْسَبُ فِيهِ إِلَى تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ جَمْعُهَا لِلْعِتْقِ، فَجَازَ لَهُ الصَّوْمُ. وَإِنْ كَانَتْ إِذَا جُمِعَتْ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، لَا يُنْسَبُ فِيهِ إِلَى تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ، بَلَغَتْ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ كَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمَا قَارَبَهَا، فَفِي وُجُوبِ جَمْعِهَا لِلتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ، وَجْهَانِ. أَشْبَهُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ، بَلْ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ، فَعَلَى هَذَا، لَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّوْمِ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهَا قِيمَةُ الرَّقَبَةِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ، أَمْ لَهُ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِالْوُجُوبِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا، لَكِنْ لَمْ يَجِدِ الرَّقَبَةَ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ إِلَى الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْيَمِينِ وَالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يَجِدَ الرَّقَبَةَ، أَوْ يَصِلَ الْمَالُ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى التَّرَاخِي، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَمُوتَ، لَا يَفُوتُ، بَلْ تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ، بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْ ثَمَنِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ لَوْ مَاتَ. وَفِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَجْهَانِ لِتَضَرُّرِهِ بِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَشَارَ الْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي إِلَى تَرْجِيحِ وُجُوبِ الصَّبْرِ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ كَانَتِ الرَّقَبَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِثَمَنٍ غَالٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهَا. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَلْزَمُهُ إِذَا وَجَدَ الثَّمَنَ الْغَالِيَ. قُلْتُ: إِنَّمَا قَالَ الْبَغَوِيُّ هَذَا اخْتِيَارًا لِنَفْسِهِ، فَقَالَ حِكَايَةً لِلْمَذْهَبِ: لَا يَلْزَمُهُ، وَرَأَيْتُ أَنْ يَلْزَمَهُ، وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ بِيعَتْ نَسِيئَةٌ وَمَالُهُ غَائِبٌ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي شِرَاءِ الْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ. وَلَوْ وُهِبَ لَهُ عَبْدٌ وَثَمَنُهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. فَرْعٌ ذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حُكْمَ الْمَسْكَنِ وَالْعَبْدِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِمَا فِي الْكَفَّارَةِ وَالْحَجِّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَمْلِكُهُمَا نِكَاحُ الْأَمَةِ، أَمْ بَيْعُهُمَا لِطُولِ الْحُرَّةِ، وَوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُمَا يُبَاعَانِ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا أَعْتَقَ شُرَكَاءُ لَهُ فِي عَبْدٍ، وَإِنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ قَالَ: لَا يَلْزَمُ الْعُرْيَانَ بَيْعُهُمَا؟ قَالَ: وَعِنْدِي يَلْزَمُهُ، وَالَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ. فَصْلٌ الْمُوسِرُ الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الْإِعْتَاقِ، يُعْتِقُ، وَمِنْ تَعَسَّرَ عَلَيْهِ الْإِعْتَاقُ، كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، وَهَلِ الِاعْتِبَارُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ، أَمْ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ، أَمْ بِأَغْلَظِ الْحَالَيْنِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، فَعَلَى هَذَا قَالَ الْإِمَامُ: فِي الْعِبَارَةِ عَنِ الْوَاجِبِ قَبْلَ الْأَدَاءِ غُمُوضٌ، وَلَا يَتَّجِهُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْوَاجِبُ أَصْلُ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يُعَيَّنُ خَصْلَةٌ، أَوْ يُقَالُ: يَجِبُ مَا يَقْتَضِيهِ حَالَةُ الْوُجُوبِ، ثُمَّ إِذَا تَبَدَّلَ

الْحَالُ، تَبَدَّلَ الْوَاجِبُ، كَمَا يَلْزَمُ الْقَادِرُ صَلَاةَ الْقَادِرِينَ، ثُمَّ إِذَا عَجَزَ، تَبَدَّلَتْ صِفَةُ الصَّلَاةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ وَجْهَانِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُعْتَبَرُ أَغْلَظُ أَحْوَالِهِ مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، إِلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فِي حَالٍ مَا، لَزِمَهُ الْإِعْتَاقُ. وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ الْأَغْلَظُ مِنْ حَالَتَيِ الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ دُونَ مَا بَيْنَهُمَا، صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ، وَأَشَارَ إِلَى دَعْوَى اتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ. فَإِذَا قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ، فَكَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ، فَفَرْضُهُ الْإِعْتَاقُ وَإِنْ أَعْسَرَ بَعْدَهُ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِذَا أَعْسَرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، أَنْ يَصُومَ لِيَكُونَ آتِيًا بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ إِنْ مَاتَ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يَوْمَئِذٍ، فَفَرْضُهُ الصِّيَامُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَهُ، لَكِنْ يُجْزِئُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ أَعْلَى مِنَ الصَّوْمِ، وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُهُ لِتَعَيُّنِ الصَّوْمِ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْأَدَاءِ، فَكَانَ مُوسِرًا يَوْمَئِذٍ، فَفَرْضُهُ الْإِعْتَاقُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَالصَّوْمُ. وَلَوْ تَكَلَّفَ الْمُعْسِرُ الْإِعْتَاقَ بِاسْتِقْرَاضٍ وَغَيْرِهِ، أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى عَبْدٍ، فَعَتَقَ، وَأَيْسَرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَإِنْ قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ، فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ، وَيُجُزِئُهُ الْإِعْتَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ أَوِ الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهُ أَعْلَى. وَقِيلَ: لَا، لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْلَكُ، وَإِنْ قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْأَدَاءِ، لَزِمَهُ الْإِعْتَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ أَوِ الْأَظْهَرِ. فَرْعٌ لَوْ شَرَعَ الْمُعْسِرُ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ، كَانَ لَهُ الْمُضِيُّ فِي الصَّوْمِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ. فَإِنْ أَعْتَقَ، كَانَ أَفْضَلَ، وَوَقَعَ مَا مَضَى مِنْ صَوْمِهِ تَطَوُّعًا، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَجْهًا، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ، الْأَوَّلُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فَرْضُهُ الْإِطْعَامَ فَأَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ، لَا يَلْزَمُهُ الْعُدُولُ إِلَيْهِ.

فصل

وَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنَ الصَّوْمِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْإِعْتَاقِ قَطْعًا. وَلَوْ كَانَ وَقْتَ الْوُجُوبِ عَاجِزًا عَنِ الْإِعْتَاقِ وَالصَّوْمِ، فَأَيْسَرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا حَالَةَ الْوُجُوبِ، فَفَرْضُهُ الْإِطْعَامُ، وَإِلَّا فَالْإِعْتَاقُ. فَصْلٌ الْعَبْدُ لَا يُمَلَّكُ بِغَيْرِ تَمْلِيكِ سَيِّدِهِ قَطْعًا، وَلَا بِتَمْلِيكِهِ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ، فَمَلَّكَهُ طَعَامًا لِيُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، جَازَ، وَعَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِمَا مَلَكَهُ، وَإِنْ مَلَّكَهُ عَبْدًا لِيُعْتِقَهُ عَنْهَا، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْقِبُ الْوَلَاءَ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ إِثْبَاتِ الْوَلَاءِ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» أَنَّهُ يَصِحُّ إِعْتَاقُهُ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ. وَعَنِ الْقَفَّالِ تَخْرِيجُ قَوْلِ: أَنَّهُ يَصِحُّ إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ، إِنْ عَتَقَ، فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ دَامَ رِقُّهُ، فَلِسَيِّدِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَأَمَّا تَكْفِيرُهُ بِالصَّوْمِ، فَإِنْ جَرَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، بِأَنْ حَلَفَ وَحَنِثَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَمْ يَصُمْ إِلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَى التَّرَاخِي، بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَإِنْ شَرَعَ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، كَانَ لَهُ تَحْلِيلُهُ، وَإِنْ جَرَى بِإِذْنِهِ بِأَنْ حَلَفَ بِإِذْنِهِ وَحَنِثَ بِإِذْنِهِ، صَامَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِذْنِهِ. وَإِنْ حَلَفَ بِإِذْنِهِ وَحَنِثَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَمْ يَسْتَقِلَّ بِالصَّوْمِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي عَكْسِهِ يَسْتَقِلُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَيْثُ قُلْنَا: يَسْتَقِلُّ، فَسَوَاءٌ طَوِيلُ النَّهَارِ وَقَصِيرُهُ، وَالْحَرُّ الشَّدِيدُ وَغَيْرُهُ، وَحَيْثُ قُلْنَا: يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ، فَذَلِكَ فِي صَوْمٍ يُوجِبُ ضَعْفًا لِشِدَّةِ حَرٍّ وَطُولِ نَهَارٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَفِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي «كِتَابِ الْأَيْمَانِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْأَصَحُّ، أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ الْمَنْعُ، هَذَا حُكْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : وَمَنْعُهُ مِنْ صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَبْدِ بِدَوَامِ التَّحْرِيمِ. قُلْتُ: وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَصُومُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَخَالَفَ وَصَامَ، أَثِمَ وَأَجْزَأَهُ.

فصل

وَلَوْ أَرَادَ الْعَبْدُ صَوْمَ تَطَوُّعٍ فِي وَقْتٍ يَضُرُّ بِالسَّيِّدِ، فَلَهُ مَنْعُهُ، وَفِي غَيْرِهِ، لَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ، حَكَاهُ الْمُحَامِلِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَهَا مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ الْوَطْءَ، وَحَكَى فِي الْبَيَانِ، أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْ صَلَاةِ النَّفْلِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْخِدْمَةِ، إِذْ لَا ضَرَرَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، كَالْحُرِّ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ كَلَامٌ آخَرُ، وَتَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ فِيهِ مَسَائِلُ إِحْدَاهَا: يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ الْكَفَّارَةِ فِي اللَّيْلِ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَلَا يَجِبُ تَعْيِينُ جِهَةِ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يَجِبُ نِيَّةُ التَّتَابُعِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: تَجِبُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ فَقَطْ، وَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ بِاللَّيْلِ قَبْلَ طَلَبِ الرَّقَبَةِ، ثُمَّ طَلَبَ فَلَمْ يَجِدْهَا، لَمْ يُجْزِئْهُ صَوْمُهُ إِلَّا أَنْ يُجَدِّدَ النِّيَّةَ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ الْفَقْدِ، لِأَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ تَقَدَّمَتْ عَلَى وَقْتِ جَوَازِ الصَّوْمِ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ فِي «التَّجْرِبَةِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ كَفَّارَةٍ، فَهَلْ يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، سَبَقَا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ. الثَّالِثَةُ: إِنِ ابْتَدَأَ بِالصَّوْمِ لِأَوَّلِ شَهْرٍ هِلَالِيٍّ، صَامَ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ، وَلَا يَضُرُّ نَقْصُهُمَا، وَإِنِ ابْتَدَأَ فِي خِلَالِ شَهْرٍ، صَامَ بَقِيَّتَهُ، ثُمَّ صَامَ الَّذِي يَلِيهِ بِالْهِلَالِ، وَلَا يَضُرُّ نَقْصُهُ، ثُمَّ يُتِمُّ الْأَوَّلَ مِنَ الثَّالِثِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ، إِذَا ابْتَدَأَ فِي خِلَالِ شَهْرٍ، لَزِمَهُ سِتُّونَ يَوْمًا.

الرَّابِعَةُ: التَّتَابُعُ فِي الصَّوْمِ وَاجِبٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَلَوْ وَطِئَ الْمَظَاهِرُ بِاللَّيْلِ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ، عَصَى بِتَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ، وَلَكِنْ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ. وَلَوْ أَفْسَدَ صَوْمَ الْيَوْمِ الْآخَرِ أَوْ غَيْرِهِ، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الشَّهْرَيْنِ. وَهَلْ يُحْكَمُ بِفَسَادِ مَا مَضَى، أَمْ يَنْقَلِبُ نَفْلًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِيمَا إِذَا نَوَى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَظَائِرِهِ. وَالْحَيْضُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْوِقَاعِ فِي رَمَضَانَ إِنْ لَزِمَتْهَا كَفَّارَةٌ، فَتَبْنِي إِذَا طَهُرَتْ، وَالنِّفَاسُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عَلَى الصَّحِيحِ، كَالْحَيْضِ. وَقِيلَ: يَقْطَعُهُ لِنُدْرَتِهِ، حَكَاهُ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ. وَالْفِطْرُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَهُوَ الْجَدِيدُ، لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَإِنَّمَا قَطَعَهُ بِفِعْلِهِ، بِخِلَافِ الْحَيْضِ، وَالْجُنُونُ كَالْحَيْضِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: كَالْمَرَضِ، وَالْإِغْمَاءُ كَالْجُنُونِ. وَقِيلَ: كَالْمَرَضِ. وَأَمَّا الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ، وَفِطْرُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ، فَقِيلَ: كَالْمَرَضِ. وَقِيلَ: يَقْطَعُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ. قُلْتُ: أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي، أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فِي الطُّهْرِ تَمْتَدُّ شَهْرَيْنِ، فَشَرَعَتْ فِي الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ يَتَخَلَّلُهُ الْحَيْضُ، انْقَطَعَ، وَلَوْ أَفْطَرَتِ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ خَوْفًا فِي نَفْسَيْهِمَا، فَقَالَ الْمُحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ، وَصَاحِبَا «الْحَاوِي» وَ «الشَّامِلِ» وَالْأَكْثَرُونَ: هُوَ كَالْمَرَضِ. وَفِي تَجْرِيدِ الْمُحَامِلِيِّ: أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ قَطْعًا، وَلَوْ غَلَبَهُ الْجُوعُ فَأَفْطَرَ، بَطَلَ التَّتَابُعُ. وَقِيلَ: كَالْمَرَضِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ نِسْيَانُ النِّيَّةِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَتَرْكِهَا عَمْدًا، وَلَا يُجْعَلُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ. قُلْتُ: لَوْ صَامَ أَيَّامًا مِنَ الشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ شَكَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ، هَلْ نَوَى

فِيهِ، أَمْ لَا؟ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِئْنَافُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا أَثَرَ لِلشَّكِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْيَوْمِ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فِي مَسَائِلِ الْمُتَحَيِّرَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ فَأَكَلَ، وَقُلْنَا: يَبْطُلُ صَوْمُهُ، انْقَطَعَ تَتَابُعُهُ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ نَادِرٌ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَجَعَلَهُمَا ابْنُ كَجٍّ كَالْمَرَضِ، قَالَ: وَلَوِ اسْتَنْشَقَ، فَوَصْلَ الْمَاءُ إِلَى دِمَاغِهِ، وَقُلْنَا: يُفْطِرُ، فَفِي انْقِطَاعِ التَّتَابُعِ الْخِلَافُ. قُلْتُ: لَوْ أُوجِرَ الطَّعَامَ مُكْرَهًا، لَمْ يُفْطِرْ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهُ، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي كُلِّ الطُّرُقِ، وَشَذَّ الْمُحَامِلِيُّ فَحَكَى فِي التَّجْرِيدِ وَجْهًا أَنَّهُ يُفْطِرُ وَيَنْقَطِعُ تَتَابُعُهُ، وَهَذَا غَلَطٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوِ ابْتَدَأَ بِالصَّوْمِ فِي وَقْتٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِ رَمَضَانُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ، أَوْ يَدْخُلُ يَوْمَ النَّحْرِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَعُودُ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّهُ يَبْطُلُ أَمْ يَقَعُ نَفْلًا. فَرْعٌ لَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ نَوَاهُمَا، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَيْضًا. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ، أَنَّهُ يُجُزِئُهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَغَلَّطَهُ فِيهِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ، أَنَّ الْأَسِيرَ إِذَا صَامَ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِالِاجْتِهَادِ، فَغَلِطَ فَجَاءَ رَمَضَانُ أَوْ يَوْمُ النَّحْرِ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ، فَفِي انْقِطَاعِ التَّتَابُعِ الْخِلَافُ فِي انْقِطَاعِهِ بِإِفْطَارِ الْمَرِيضِ. فَرْعٌ إِذَا أَوْجَبْنَا التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَحَاضَتْ فِي خِلَالِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، فَقِيلَ:

فِيهِ قَوْلَانِ، كَالْفِطْرِ بِالْمَرَضِ فِي الشَّهْرَيْنِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ طَرِيقٌ جَازِمٌ، بِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ. قُلْتُ: صَرَّحَ بِالطَّرِيقَةِ الْجَازِمَةِ، الدَّارِمِيُّ وَصَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» فَقَالَا: الْمَذْهَبُ انْقِطَاعُهُ، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَفِيهِ طَرِيقٌ ثَالِثٌ، أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ قَطْعًا، لِأَنَّ وُجُوبَ التَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ، وَالْمَرَضُ لَا يَقْطَعُ عَلَى الْقَدِيمِ، ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبَا الْإِبَانَةِ وَالْعُدَّةِ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهَا الِاحْتِرَازُ بِالثَّلَاثَةِ عَنِ الْحَيْضِ دُونَ الْمَرَضِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ وَيَسْتَأْنِفَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرُوا فِي جَوَازِهِ احْتِمَالَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِبْطَالُ عِبَادَةٍ، فَكُلُّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يُبْطِلُ صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ، وَيَجْرِي الِاحْتِمَالَانِ فِي الْحَائِضِ وَغَيْرِهَا، فِيمَنْ شَرَعَ فِي الشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ عَرَضَ فِطْرٌ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، ثُمَّ زَالَ فَأَرَادَ الْفِطْرَ بِلَا عُذْرٍ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ، ثُمَّ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الشَّهْرَيْنِ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ، كَصَوْمِ يَوْمٍ، فَيَكُونُ قَطْعُهُ كَقَطْعِ فَرِيضَةٍ شَرَعَ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا حَسَنٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَنْوِ صَوْمَ الْغَدِ، وَقَالَ: الْإِفْطَارُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ لِبُعْدِ التَّسْلِيطِ عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِطْعَامُ، فِيهَا مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: فِي قَدْرِ الطَّعَامِ، وَهُوَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ، وَالْقَتْلِ إِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فِيهَا سِتُّونَ مُدًّا لِسِتِّينَ مِسْكِينًا، وَالْمُدُّ: رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ،

وَهُوَ مُدُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَدْرِ الْفِطْرَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَنَحْوِهِمَا نَوْعُ إِشْكَالٍ، لِأَنَّ الصَّيْدَلَانِيَّ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْكَيْلُ دُونَ الْوَزْنِ، لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَكِيلِ فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ، فَالْبُرُّ أَثْقَلُ مِنَ الشَّعِيرِ، وَأَنْوَاعُ الْبُرِّ تَخْتَلِفُ، فَالْوَاجِبُ مَا حَوَاهُ الْمِكْيَالُ بَالِغًا وَزْنُهُ مَا بَلَغَ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ فِي وَزْنِ الْمُدِّ، اعْتُبِرَ فِيهِ الْبُرُّ أَوِ التَّمْرُ، وَمُقْتَضَى هَذَا، أَنْ يُجْزِئَ مِنَ الشَّعِيرِ مِلْءُ الصَّاعِ وَالْمُدِّ، وَإِنْ نَقَصَ وَزْنُهُ، لَكِنِ اشْتُهِرَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، ثُمَّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، أَنَّ دِرْهَمَ الشَّرِيعَةِ خَمْسُونَ حَبَّةً وَخُمُسَا حَبَّةٍ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ: دِرْهَمَ الْكَيْلِ، لِأَنَّ الرِّطْلَ الشَّرْعِيَّ مِنْهُ يُرَكَّبُ، وَيُرَكَّبُ مِنَ الرِّطْلِ الْمُدُّ وَالصَّاعُ. وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، أَنَّ الْحَبَّةَ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الدِّرْهَمُ، هِيَ حَبَّةُ الشَّعِيرِ الْمُتَوَسِّطَةُ الَّتِي لَمْ تُقَشَّرْ وَقُطِعَ مِنْ طَرَفَيْهَا مَا امْتَدَّ. وَمُقْتَضَى هَذَا، أَنْ يَحْوِيَ الصَّاعُ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الشَّعِيرِ، وَحِينَئِذٍ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْوَزْنَ لَمْ يَمْلَأِ الْبُرُّ بِهَذَا الْوَزْنِ الصَّاعَ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْكَيْلَ، كَانَ الْمُجْزِئُ مِنَ الْبُرِّ أَكْثَرَ مِنَ الشَّعِيرِ وَزْنًا. قُلْتُ: هَذَا الْإِشْكَالُ وَجَوَابُهُ، قَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي «بَابِ زَكَاةِ الْمُعْشِرَاتِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَجِبُ الصَّرْفُ إِلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَلَوْ صَرَفَ إِلَى وَاحِدٍ سِتِّينَ مُدًّا فِي سِتِّينَ يَوْمًا، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَوْ جَمَعَ سِتِّينَ، وَوَضَعَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ سِتِّينَ مُدًّا، وَقَالَ: مَلَّكْتُكُمْ هَذَا وَأَطْلَقَ، أَوْ قَالَ: بِالسَّوِيَّةِ فَقَبِلُوهُ، أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ، وَلَوْ قَالَ: خُذُوا وَنَوَى الْكَفَّارَةَ، فَأَخَذُوا بِالسَّوِيَّةِ، أَجْزَأَهُ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا، لَمْ يُجْزِئْهُ إِلَّا وَاحِدٌ، لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَخَذَ مُدًّا، فَإِنْ تَيَقَّنَّا أَنَّ عَشَرَةً أَوْ عِشْرِينَ أَوْ غَيْرَهُمْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُدًّا فَأَكْثَرَ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ الْعَدَدُ، وَلَزِمَهُ الْبَاقِي، وَلَوْ صَرَفَ السِّتِّينَ إِلَى ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، أَجْزَأَهُ

ثَلَاثُونَ مُدًّا، وَيَصْرِفُ إِلَى ثَلَاثِينَ غَيْرَهُمْ ثَلَاثِينَ مُدًّا، وَيَسْتَرِدُّ الْأَمْدَادَ الزَّائِدَةَ مِنَ الْأَوَّلِينَ إِنْ شَرَطَ كَوْنَهَا كَفَّارَةً، وَإِلَّا فَلَا يَسْتَرِدُّ. وَلَوْ صَرَفَ سِتِّينَ مُدًّا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِسْكِينًا، أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ مُدًّا، وَيَصْرِفُ ثَلَاثِينَ مُدًّا إِلَى سِتِّينَ مِنْهُمْ، وَالِاسْتِرْدَادُ مِنَ الْبَاقِينَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. وَيَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى كَافِرٍ، وَلَا إِلَى هَاشِمِيٍّ وَمَطَّلِبِيٍّ، وَلَا إِلَى مَنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَزَوْجَةٍ وَقَرِيبٍ، وَلَا إِلَى عَبْدٍ، وَلَا إِلَى مُكَاتَبٍ. وَلَوْ صَرَفَ إِلَى عَبْدٍ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَالسَّيِّدُ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، جَازَ، لِأَنَّهُ صَرَفَ إِلَى السَّيِّدِ. وَلَوْ صَرَفَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، بُنِيَ عَلَى قَبُولِهِ الْوَصِيَّةَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ لِلْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ إِلَى وَلِيِّهِمَا. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الصَّغِيرُ رَضِيعًا، لَمْ يَصِحَّ الصَّرْفُ لَهُ، لِأَنَّ طَعَامَهُ اللَّبَنُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ فِيمَا لَوْ دَفَعَهُ إِلَى الصَّغِيرِ فَبَلَّغَهُ الصَّغِيرُ وَلَيَّهُ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ مَدِينٍ عَنْ كَفَّارَتَيْنِ، وَلَوْ دَفَعَ مُدًّا إِلَى مِسْكِينٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَدَفَعَهُ إِلَى آخَرَ، وَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ بِهِ هَكَذَا حَتَّى اسْتَوْعَبَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، أَجْزَأَهُ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ. فَرْعٌ لَوْ وَطِئَ الْمُظَاهِرُ مِنْهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ، لَمْ يَجِبِ الِاسْتِئْنَافُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ بِاللَّيْلِ. فَرْعٌ أَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ، لَا يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ.

فَرْعٌ ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ فِي التَّجْرِبَةِ، أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ الطَّعَامَ إِلَى الْإِمَامِ، فَتَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ تَفْرِقَتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، لَا يُجْزِئُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَدَ لَهُ عَلَى الْكَفَّارَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جِنْسُ طَعَامِ الْكَفَّارَةِ، كَالْفِطْرَةِ، وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ الْأُرْزُ، وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ إِذَا نُحِّيَتْ عَنْهُ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا، لِأَنَّ ادِّخَارَهُ فِيهَا، وَالصَّحِيحُ الْإِجْزَاءُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا، أَخْرَجَ قَدْرًا يُعْلَمُ اشْتِمَالُهُ عَلَى مُدٍّ مِنَ الْحَبِّ، وَلَمْ يَجْرِ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْفِطْرَةِ. وَجَرَى ذِكْرُ قَوْلٍ فِي الْعَدَسِ وَالْحِمَّصِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِي كُلِّ بَابٍ مَا نُقِلَ فِي الْآخَرِ، وَفِي الْأَقِطِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْإِجْزَاءِ، فَيَخُصُّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ، أَمْ يَعُمُّ الْحَاضِرَ وَالْبَادِيَ؟ حَكَى ابْنُ كَجٍّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. وَفِي اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْأَقِطِ، وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ، ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِغَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ مِنَ الْأَقْوَاتِ الْمُجْزِئَةِ، أَمْ بِغَالِبِ قُوتِهِ، أَمْ يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ: فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِمَّا لَا يُجْزِئُ كَاللَّحْمِ، اعْتُبِرَ الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ، وَلَا يُجْزِئُ الدَّقِيقُ وَلَا السَّوِيقُ، وَلَا الْخُبْزُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَلَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ قَطْعًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُشْتَرَطُ تَمْلِيكُ الْمُسْتَحِقِّينَ وَتَسْلِيطُهُمُ التَّامُّ، فَلَا تَكْفِي التَّغْذِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ بِالتَّمْرِ وَنَحْوِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ بِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ لَحِقَهُ مِنَ الصَّوْمِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، أَوْ خَافَ زِيَادَةً فِي الْمَرَضِ، فَلَهُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَوْ كَانَ الْمَرَضُ يَدُومُ شَهْرَيْنِ فِي غَالِبِ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْعَادَةِ فِي مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ، فَلَهُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَلَا يَنْتَظِرُ زَوَالَهُ لِيَصُومَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا، فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُهُ لِلْعِتْقِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِيهِ: لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً، وَيُقَالُ لِلْعَاجِزِ بِالْمَرَضِ النَّاجِزِ لَا يَسْتَطِيعُ

الصَّوْمَ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ بِهَذَا الْمَرَضِ، بَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، وَصَرَّحَ الْمُتَوَلِّي [بِأَنَّ الْمَرَضَ] الْمَرْجُوَّ الزَّوَالِ كَالْمَالِ الْغَالِبِ، فَلَا يَعْدِلُ بِسَبَبِهِ إِلَى الْإِطْعَامِ فِي غَيْرِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَفِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الْإِطْعَامَ مَعَ رَجَاءِ الزَّوَالِ، فَأَطْعَمَ ثُمَّ زَالَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ إِلَى الصِّيَامِ. وَإِنِ اعْتَبَرْنَا كَوْنَهُ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، فَكَانَ كَذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ زَوَالُهُ نَادِرًا، فَيُشْبِهُ أَنْ يَلْتَحِقَ بِمَا إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَا يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ فَزَالَ. قُلْتُ: صَرَّحَ كَثِيرُونَ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَرَضِ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ آخَرُونَ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنْ كَانَ عَجْزُهُ بِهَرَمٍ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ مُتَأَبِّدٌ، فَلَهُ الْإِطْعَامُ، وَالْأَوْلَى تَقْدِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْعَجْزِ بِالْمَرَضِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَعْجِيلِ الْإِطْعَامِ وَبَيْنَ انْتِظَارِ الْبِرِّ لِلتَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَجْزُهُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ أَوْ يَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ غَالِبَةٌ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَلَهُ فِي الْحَالَيْنِ الْإِطْعَامُ، وَكَذَا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ، قَالَ: وَلَوْ قَدَرَ عَلَى صَوْمِ شَهْرٍ فَقَطْ، أَوْ عَلَى صَوْمِ شَهْرَيْنِ بِلَا تَتَابُعٍ، فَلَهُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ» : لَوْ عَجَزَ عَنِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ وَلَمْ يَمْلِكْ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا ثَلَاثِينَ مُدًّا، أَوْ مُدًّا وَاحِدًا، لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ بِلَا خِلَافٍ، إِذْ لَا بُدَّ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَ مُدٍّ، فَفِيهِ احْتِمَالٌ، هَذَا كَلَامُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْزِمَ بِوُجُوبِ بَعْضِ الْمُدِّ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُدِّ. قَالَ الدَّارِمِيُّ فِي «كِتَابِ الصِّيَامِ» : إِذَا قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْإِطْعَامِ، وَقُلْنَا: يَسْقُطُ عَنِ الْعَاجِزِ، فَفِي سُقُوطِهَا عَنْ هَذَا وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَسْقُطُ، أَخْرَجَ الْمَوْجُودَ، وَفِي ثُبُوتِ الْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ وَجْهَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَرْعٌ السَّفَرُ الَّذِي يُجَوِّزُ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ، لَا يُجَوِّزُ الْعُدُولَ إِلَى الْإِطْعَامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ جَوَازُهُ. فَرْعٌ فِي جَوَازِ الْعُدُولِ إِلَى الْإِطْعَامِ بِعُذْرِ الشَّبَقِ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: الْمَنْعُ، وَمَالَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى التَّجْوِيزِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ غَيْرَهُ، بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِهَذَا، لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ. قُلْتُ: وَلِأَنَّ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ يُمْكِنُ الْجِمَاعُ لَيْلًا، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَوْ كَانَ يَغْلِبُهُ الْجُوعُ وَيَعْجَزُ عَنِ الصَّوْمِ، قَالَ الْقَفَّالُ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، بَلْ يَشْرَعُ، فَإِذَا عَجَزَ، أَفْطَرَ، بِخِلَافِ الشَّبَقِ، فَإِنَّ لَهُ تَرْكَ الشُّرُوعِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّوْمِ يُبَاحُ بِفَرْطِ الْجُوعِ دُونَ فَرْطِ الشَّبَقِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَوْ عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَقَدْ سَبَقَ فِي «كِتَابِ الصِّيَامِ» ، وَقَدْ بُنِيَ الْخِلَافُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْوُجُوبِ، أَمِ الْأَدَاءِ؟ إِنِ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْوُجُوبِ، لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَكَانَ لِلْمُظَاهِرِ أَنْ يَطَأَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْخِصَالِ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْأَدَاءَ، لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَا يَطَأَ الْمُظَاهِرُ حَتَّى يُكَفِّرَ

فصل

، وَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ رَقَبَةٍ فَقَطْ، فَكَعَادِمِهَا، فَيَصُومُ، فَإِنْ عَجَزَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - عَنِ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، فَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ تَخْرِيجُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: يُخْرِجُ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ. وَالثَّانِي: يُخْرِجُهُ وَبَاقِي الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ. وَالثَّالِثُ: لَا يُخْرِجُهُ أَيْضًا. فَصْلٌ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُ كَفَّارَةٍ، بِأَنْ يُعْتِقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ، وَيَصُومَ شَهْرًا، أَوْ يَصُومَ شَهْرًا، وَيُطْعِمَ ثَلَاثِينَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب اللعان والقذف

كِتَابُ اللَّعَانِ وَالْقَذْفِ فِيهِ أَبْوَابٌ. الْأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِ الْقَذْفِ وَأَحْكَامِهِ الْعَامَّةِ، وَفِيهِ طَرَفَانِ. الْأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِهِ وَهِيَ، صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ، وَتَعْرِيضٌ. الْأَوَّلُ: الصَّرِيحُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: لَفْظُ الزِّنَا صَرِيحٌ كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ، أَوْ يَا زَانٍ، أَوْ يَقُولُ لِلْمَرْأَةِ: زَنَيْتِ، أَوْ يَا زَانِيَةُ. وَالنَّيْكُ وَإِيلَاجُ الْحَشَفَةِ أَوِ الذَّكَرِ صَرِيحَانِ مَعَ الْوَصْفِ بِالْحَرَامِ، لِأَنَّ مُطْلَقَهُمَا يَقَعُ عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي «بَابِ الْإِيلَاءِ» فِي الْجِمَاعِ وَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ، هَلْ هِيَ صَرِيحَةٌ يَعُودُ هُنَا فَمَا كَانَ صَرِيحًا وَانْضَمَّ إِلَيْهِ الْوَصْفُ بِالتَّحْرِيمِ، كَانَ قَذْفًا. وَلَوْ قَالَ: عَلَوْتِ عَلَى رَجُلٍ حَتَّى دَخَلَ ذَكَرُهُ فِي فَرْجِكِ، فَهُوَ قَذْفٌ. الثَّانِيَةُ: إِذَا رَمَى بِالْإِصَابَةِ فِي الدُّبُرِ، كَقَوْلِهِ: لُطْتِ أَوْ لَاطَ بِكِ فُلَانٌ، فَهُوَ قَذْفٌ، سَوَاءٌ خُوطِبَ بِهِ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ. وَلَوْ قَالَ: يَا لُوطِيُّ، فَهُوَ كِنَايَةٌ. قُلْتُ: قَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعُرْفِ، لِإِرَادَةِ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ، بَلْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا هَذَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ، وَإِلَّا فَيَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ، فِيمَا إِذَا شَاعَ لَفْظٌ فِي الْعُرْفِ، كَقَوْلِهِ: الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ وَشَبَهُهُ، هَلْ هُوَ صَرِيحٌ، أَمْ كِنَايَةٌ؟

وَأَمَّا احْتِمَالُ كَوْنِهِ أَرَادَ عَلَى دِينِ قَوْمِ لُوطٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يَفْهَمُهُ الْعَوَامُّ أَصْلًا، وَلَا يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِ غَيْرِهِمْ، فَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ، وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ كِنَايَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: أَتَيْتَ بَهِيمَةً، وَقُلْنَا: يُوجِبُ الْحَدَّ، فَهُوَ قَذْفٌ. أَمَّا الْكِنَايَةُ، فَكَقَوْلِهِ لِلْقُرَشِيِّ: يَا نَبَطِيُّ، وَلِلرَّجُلِ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا خَبِيثُ، وَلِلْمَرْأَةِ: يَا خَبِيثَةُ، يَا شَبِقَةُ، وَأَنْتِ تُحِبِّينَ الْخَلْوَةَ، وَفُلَانَةٌ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامَسٍ وَشَبَهُهَا، فَإِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَا، فَقَذْفٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِذَا أَنْكَرَ الْإِرَادَةَ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَلَيْسَ لَهُ الْحَلْفُ كَاذِبًا دَفْعًا لِلْحَدِّ، أَوْ تَحَرُّزًا عَنْ تَمَامِ الْإِيذَاءِ. وَلَوْ خَلَّى وَلَمْ يَحْلِفْ، فَالْمَحْكِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِظْهَارُ لِيُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَدُّ، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ، كَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا فِي خُفْيَةٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ لِيُقْتَصَّ مِنْهُ، أَوْ يُعْفَى عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِظْهَارُ، لِأَنَّهُ إِيذَاءٌ، فَيَبْعُدُ إِيجَابُهُ، وَعَلَى هَذَا لَا يُحْكَمُ بِوُجُوبِ الْحَدِّ مَا لَمْ يُوجَدِ الْإِيذَاءُ التَّامُّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: لَمْ أَجِدْكِ عَذْرَاءَ، أَوْ وَجَدْتُ مَعَكِ رَجُلًا، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَحُكِيَ عَنِ الْقَدِيمِ أَنَّهُ صَرِيحٌ، وَلَوْ قَالَهُ لِأَجْنَبِيَّةٍ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ قَطْعًا، لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ زَوْجَهَا. وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتِ مَعَ فُلَانٍ، فَصَرِيحٌ فِي حَقِّهَا دُونَهُ. وَأَمَّا التَّعْرِيضُ، فَكَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلَالِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَمَا أَحْسَنَ اسْمَكِ فِي الْجِيرَانِ وَشَبَهِهَا، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ، لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ الْمَنَوِيَّ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ هُنَا فِي اللَّفْظِ، وَلَا احْتِمَالَ، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.

فصل

وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ لِحُصُولِ الْفَهْمِ وَالْإِيذَاءِ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَجَمَاعَةٌ، وَسَوَاءٌ عِنْدَنَا حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرُهَا. فَرْعٌ النِّسْبَةُ إِلَى سَائِرِ الْكَبَائِرِ غَيْرَ الزِّنَا وَالْإِيذَاءِ، وَبِسَائِرِ الْوُجُوهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَدٌّ، وَيَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ. وَكَذَا لَوْ قَرْطَبَهُ أَوْ دَيَّثَهُ، أَوْ قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ بِفُلَانَةٍ، أَوْ زَنَتْ بِكِ، أَوْ أَصَابَتْكِ فُلَانَةٌ، وَنَسَبَهَا إِلَى إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ. فَصْلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ، أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ: زَنَيْتُ بِكِ، فَهُوَ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، وَقَاذِفٌ لَهَا، فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ، وَيُقَدَّمُ حَدُّ الْقَذْفِ، فَإِنْ رَجَعَ، سَقَطَ حَدُّ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ. وَلَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا، أَوْ أَجْنَبِيٍّ: زَنَيْتُ بِكَ، فَكَذَلِكَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا، وَحَدُّ قَذْفِهِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ. وَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ لَا يُجْعَلَ هَذَا صَرِيحًا، لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ مُكْرَهًا، وَهَذَا أَقْوَى وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ مَعَ فُلَانٍ، كَانَ قَذْفًا لَهَا دُونَ فُلَانٍ. فَرْعٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: زَنَيْتِ، فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ، أَوْ بِكَ زَنَيْتُ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهَا وَهِيَ لَيْسَتْ مُصَرِّحَةً بِقَذْفٍ، فَإِنْ أَرَادَتْ حَقِيقَةَ الزِّنَا، وَأَنَّهُمَا زَنَيَا قَبْلَ النِّكَاحِ، فَهِيَ مُقِرَّةٌ بِالزِّنَا وَقَاذِفَةٌ لَهُ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الْقَذْفِ عَنْهُ لِإِقْرَارِهَا، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ، كَذَا حَكَاهُ الصَّيْدَلَانِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ، وَإِنْ أَرَادَتْ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي زَنَتْ وَهُوَ لَمْ يَزْنِ، كَأَنَّهَا قَالَتْ: زَنَيْتُ بِهِ قَبْلَ النِّكَاحِ وَهُوَ مَجْنُونٌ أَوْ نَائِمٌ، أَوْ وَطِئَنِي بِشُبْهَةٍ وَأَنَا عَالِمَةٌ،

سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَثَبَتَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا لِإِقْرَارِهَا، وَلَا تَكُونُ قَاذِفَةً لَهُ، فَإِنْ كَذَّبَهَا وَقَالَ: بَلْ أَرَدْتِ قَذْفِي، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ فَحَلَفَتْ، فَلَهُ حَدُّ الْقَذْفِ، فَإِنْ قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنِّي لَمْ أَزْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْنِي غَيْرُهُ، وَلَا جَامَعَنِي هُوَ إِلَّا فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ زِنًا، فَهُوَ زَانٍ أَيْضًا، أَوْ قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنِّي لَمْ أَزْنِ، كَمَا لَمْ يَزْنِ هُوَ، فَلَيْسَتْ قَاذِفَةً فَتُصَدَّقُ بِيَمِينِهَا، فَإِذَا حَلَفَتْ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، وَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: يَا زَانِي، فَقَالَ: زَنَيْتُ بِكِ، فَفِي جَوَابِهِ مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: يَا زَانِيَةُ، أَوْ أَنْتِ زَانِيَةٌ، فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنْهَا بِالزِّنَا، وَقَذْفٌ لَهُ. وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ نَفْيِ الزِّنَا عَنْهُ وَعَنْهَا، أَنْ تَكُونَ الْأَجْنَبِيَّةُ كَالزَّوْجَةِ. فَرْعٌ قَالَ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، لَمْ تَكُنْ قَاذِفَةً لَهُ، إِلَّا أَنْ تُرِيدَ الْقَذْفَ، فَلَوْ قَالَتْ: زَنَيْتُ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، أَوْ قَالَتِ ابْتِدَاءً: أَنَا زَانِيَةٌ، وَأَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، فَهِيَ قَاذِفَةٌ لَهُ وَمُقِرَّةٌ بِالزِّنَا، وَيَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الرَّجُلِ. وَلَوْ قَالَتِ ابْتِدَاءً: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، فَفِي كَوْنِهَا قَاذِفَةً وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. فَرْعٌ قَالَ لَهُ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، أَوْ أَزْنَى مِنَ النَّاسِ، أَوْ يَا أَزْنَى النَّاسِ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ. قُلْتُ: هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وَخَالَفَهُمْ صَاحِبُ «الْحَاوِي» فَقَالَ بَعْدَ حِكَايَتِهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ قَذْفٌ صَرِيحٌ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ لَهُ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: هَذَا ظَاهِرُهُ نِسْبَةُ النَّاسِ كُلِّهِمْ إِلَى الزِّنَا، وَأَنَّهُ أَكْثَرُ زِنًا

مِنْهُمْ، وَهَذَا مُتَيَقَّنٌ بُطْلَانُهُ، قَالُوا: وَلَوْ فَسَّرَ وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ زُنَاةٌ، وَهُوَ أَزْنَى مِنْهُمْ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ لِتَحَقُّقِ كَذِبِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ أَزْنَى مِنْ زُنَاتِهِمْ، فَهُوَ قَذْفٌ لَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ. وَعَنِ الدَّارِكِيِّ أَنَّهُ قَذْفٌ لَهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ: زَنَا فُلَانٌ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنْهُ، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي قَذْفِهِمَا. وَعَنِ ابْنِ سَلَمَةَ وَابْنِ الْقَطَّانِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ لِلْمُخَاطَبِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: فِي النَّاسِ زُنَاةٌ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنْهُمْ، أَوْ أَنْتَ أَزْنَى زُنَاةِ النَّاسِ. وَلَوْ قَالَ: النَّاسُ كُلُّهُمْ زُنَاةٌ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنْهُمْ، قَالَ الْأَئِمَّةُ: لَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ لِعِلْمِنَا بِكَذِبِهِ. قَالُوا: وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ، أَنْتَ أَزْنَى مِنْ زُنَاةِ أَهْلِ بَغْدَادَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي لَفْظِهِ بِزِنَا فُلَانٍ، لَكِنَّهُ كَانَ ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ جَاهِلًا بِهِ، فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ، وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي كَوْنِهِ جَاهِلًا، وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهُ الدَّارِكِيِّ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهُمَا جَمِيعًا، فَيُحَدُّ لِلْمُخَاطَبِ، وَيُعَزَّرُ لِفُلَانٍ، وَيَجِيءُ فِي قَذْفِ الْمُخَاطَبِ وَجْهُ ابْنِ سَلَمَةَ وَابْنِ الْقَطَّانِ. فَرْعٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: بَلْ أَنْتَ زَانٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ قَاذِفٌ لِصَاحِبِهِ، وَيَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهُ بِاللِّعَانِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا إِلَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ. وَإِذَا تَقَاذَفَ شَخْصَانِ، حُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَلَا يَتَقَاصَّانِ، لِأَنَّ التَّقَاصَّ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا اتَّحَدَتِ الصِّفَاتُ، وَأَلَمُ الضَّرَبَاتِ يَخْتَلِفُ. فَرْعٌ قَالَ لِرَجُلٍ: زَنَيْتِ بِكَسْرِ التَّاءِ، أَوْ لِلْمَرْأَةِ: زَنَيْتَ بِفَتْحِهَا، فَهُوَ قَذْفٌ.

وَلَوْ قَالَ لَهُ: يَا زَانِيَةُ، أَوْ لَهَا: يَا زَانٍ، أَوْ يَا زَانِي، فَهُوَ قَذْفٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ. فَرْعٌ قَالَ: زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ بِالْهَمْزِ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الصُّعُودُ، وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَذْفَ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَاسْتَحَقَّ حَدَّ الْقَذْفِ. وَلَوْ قَالَ: زَنَأْتَ فِي الْبَيْتِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَذْفٌ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الصُّعُودِ فِي الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ. قُلْتُ: هَذِهِ عِبَارَةُ الْبَغَوِيِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَيْتِ دَرَجٌ يَصْعَدُ إِلَيْهِ فِيهَا، فَقَذْفٌ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ، فَوَجْهَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: زَنَأْتَ، أَوْ يَا زَانِئُ بِالْهَمْزِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَذْفٌ. وَعَنِ الدَّارِكِيِّ أَنَّ أَبَا أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيَّ نَسَبَهُ إِلَى نَصِّهِ فِي «الْجَامِعِ الْكَبِيرِ» . وَالثَّالِثُ: إِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ بِلَا نِيَّةٍ، وَإِلَّا فَقَذْفٌ. وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتَ فِي الْجَبَلِ وَصَرَّحَ بِالْيَاءِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَذْفٌ. وَقِيلَ: لَا، وَقِيلَ: قَذْفٌ مِنْ عَارِفِ اللُّغَةِ دُونَ غَيْرِهِ. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ فِي الْجَبَلِ بِالْيَاءِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «كِتَابِ اللِّعَانِ» مِنْ «الْأُمِّ» ، أَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي «التَّلْخِيصِ» وَنَقَلَ الْفُورَانِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَّ أَنَّهُ قَذْفٌ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» وَصَاحِبُ «الْعُدَّةِ» ، وَلَمْ أَرَ هَذَا النَّقْلَ لِغَيْرِ الْفُورَانِيِّ وَمُتَابِعِيهِ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَلْيَعْتَمِدْ مَا رَأَيْتُهُ فِي «الْأُمِّ» ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا، كَانَ قَوْلًا آخَرَ، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» ، أَنَّ قَوْلَهُ: زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ، صَرِيحٌ مِنْ جَاهِلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ مِنْ صَرَائِحِ الْقَذْفِ أَنْ يَقُولَ: زَنَا فَرْجُكَ، أَوْ ذَكَرُكَ، أَوْ قُبُلُكَ، أَوْ دُبُرُكَ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ فِي قُبُلِكِ، فَقَذْفٌ. وَإِنْ قَالَهُ لِرَجُلٍ، فَكِنَايَةٌ، لِأَنَّ زِنَاهُ بِقُبُلِهِ لَا فِيهِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ قَالَ: زَنَى يَدُكَ، أَوْ رِجْلُكَ، أَوْ عَيْنُكَ، أَوْ يَدَاكَ، أَوْ عَيْنَاكَ، فَكِنَايَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ صَرِيحٌ. وَقِيلَ: إِنْ قَالَ: يَدَاكَ أَوْ عَيْنَاكَ، فَكِنَايَةٌ قَطْعًا لِمُطَابَقَةِ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: زَنَا بَدَنُكَ، فَصَرِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ. قُلْتُ: قَالَ فِي الْبَيَانِ: لَوْ قَالَ لِلْخُنْثَى: زَنَا ذَكَرُكِ وَفَرْجُكِ، فَصَرِيحٌ، وَإِنْ ذَكَرَ أَحَدَهَمَا، فَالَّذِي يَقْتَضِي الْمَذْهَبَ أَنَّهُ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الْيَدِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: وَطِئَكِ رَجُلَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : يُعَزَّرُ، وَلَا حَدَّ لِاسْتِحَالَتِهِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْقَذْفِ إِلَى الْكَذِبِ الصَّرِيحِ، فَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى وَلَا يُلَاعَنُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَالَ لِابْنِهِ اللَّاحِقِ بِهِ ظَاهِرًا: لَسْتَ ابْنِي، أَوْ لَسْتَ مِنِّي، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَيْسَ قَاذِفًا لِأُمِّهِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْقَذْفَ. وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ، وَفِيهِ طُرُقٌ، الْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، لِأَنَّ الْأَبَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْدِيبِهِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَالثَّانِي: فِيهِمَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: صَرِيحٌ فِيهِمَا. وَالثَّانِي وَأَقْيَسُهُمَا: كِنَايَةٌ. وَالثَّالِثُ قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِمَا قَطْعًا، وَتَأْوِيلُ النَّصِّ عَلَى مَا إِذَا نَوَاهُ. وَالرَّابِعُ قَالَهُ ابْنُ الْوَكِيلِ:

صَرِيحٌ فِيهِمَا قَطْعًا، وَتَأَوَّلَ مَا ذَكَرَهُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ، إِذْ قَالَ: لَسْتَ ابْنِي، نَسْتَفْسِرُهُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مِنْ زِنًا، فَقَاذِفٌ، وَإِنْ قَالَ: لَا يُشْبِهُنِي خُلُقًا وَخَلْقًا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ إِنْ طَلَبَتْهَا، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ وَاسْتَحَقَّتْ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَهُ أَنْ يُلَاعَنَ لِإِسْقَاطِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا يُلَاعَنُ لِإِنْكَارِهِ الْقَذْفَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَلَا قَذْفَ، فَإِنِ ادَّعَتْ إِرَادَتَهُ الْقَذْفَ، حَلَفَ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ إِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْوَطْءَ بِالشُّبْهَةِ، أَوْ عَيَّنَهُ وَلَمْ تُصَدِّقْهُ وَلَمْ يَقْبَلِ الْوَلَدَ، وَإِنْ صَدَقَ وَادَّعَى الْوَلَدَ، عَرَضَ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ لَحِقَهُ، وَإِلَّا لَحِقَ بِالزَّوْجِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلِي، فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ، سَوَاءٌ عُرِفَ لَهَا زَوْجٌ أَمْ لَا، كَذَا قَالَهُ السَّرَخْسِيُّ. وَأَمَّا الْوَلَدُ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، بَلْ يَلْحَقُهُ، وَإِنْ عُرِفَ، فَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي «كِتَابِ الْعُدَّةِ» ، أَنَّ الْوَلَدَ بِمَنْ يَلْحَقُ؟ فَإِذَا لَحِقَهُ، فَإِنَّمَا يُنْفَى عَنْهُ بِاللِّعَانِ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفُ وَقْتُ نِكَاحِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَالْإِمْكَانَ لَمْ يَتَحَقَّقْ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بِنِيَّةِ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي نِكَاحِهِ لِزَمَانِ الْإِمْكَانِ، وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُتَمَحِّضَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنِيَّةٍ، فَلَهَا تَحْلِيفُهُ، فَإِنْ نَكَلَ، فَعَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ، بَلْ هُوَ لَقِيطٌ أَوْ مُسْتَعَارٌ، فَلَا قَذْفَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نَفْيِ الْوِلَادَةِ، وَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَهَلْ يُعْرَضُ مَعَهَا عَلَى

الْقَائِفِ؟ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي مَوْضِعِهِمَا، فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِهَا، لَحِقَ بِالزَّوْجِ وَاحْتَاجَ فِي النَّفْيِ إِلَى اللِّعَانِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْرَضُ، أَوْ لَمْ يُلْحِقْهُ بِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، حَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ. فَإِنْ حَلَفَ، انْتَفَى، وَفِي لُحُوقِهِ بِهَا الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ، فِي أَنَّ ذَاتَ الزَّوْجِ، هَلْ يَلْحَقُهَا الْوَلَدُ بِالِاسْتِلْحَاقِ؟ وَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهَا، وَنَصَّ فِيمَا إِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَادَّعَتْ أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ رَاجَعَهَا أَوْ وَطِئَهَا بِالشُّبْهَةِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ وَأَنْكَرَ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، أَنَّهُ لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ جَعَلَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ النَّصَّيْنِ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَيَقْوَى بِهِ جَانِبُهَا، وَالْمَذْهَبُ هُنَا، ثُبُوتُ الرَّدِّ، فَإِذَا قُلْنَا بِهِ فَحَلَفَتْ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَإِنْ نَكَلَتْ، فَهَلْ تُوقَفُ الْيَمِينُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيَحْلِفَ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: تُوقَفُ فَحَلَفَ بَعْدَ بُلُوغِهِ، لَحِقَ بِهِ، وَإِنْ نَكَلَ أَوْ قُلْنَا: لَا تُوقَفُ، انْتَفَى عَنْهُ، وَفِي لُحُوقِهِ بِهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ. فَرْعٌ قَالَ لِمَنْفِيٍّ بِاللِّعَانِ: لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ، يَعْنِي الْمُلَاعَنَ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي قَذْفِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ، فَيُسْأَلُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ تَصْدِيقَ الْمُلَاعِنِ فِي أَنَّ أُمَّهُ زَانِيَةٌ، فَهُوَ قَاذِفٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُلَاعِنَ نَفَاهُ، أَوْ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا، أَوْ لَا يُشْبِهُهُ خُلُقًا وَخَلْقًا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ، وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتِ الْأُمُّ أَنَّهُ أَرَادَ قَذْفَهَا، وَاسْتَحَقَّتِ الْحَدَّ عَلَيْهِ. قُلْتُ: قَدْ قَالَهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ غَيْرَ الْقَفَّالِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اسْتَلْحَقَهُ النَّافِي، ثُمَّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَهُ لِغَيْرِ

الْمَنْفِيِّ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ قَذْفٌ صَرِيحٌ كَمَا سَبَقَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ أَحَدُ التَّفَاسِيرِ الْمَقْبُولَةِ أَنَّ الْمُلَاعِنَ نَفَاهُ، فَالِاسْتِلْحَاقُ بَعْدَ النَّفْيِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نَفَاهُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يُجْعَلَ صَرِيحًا، وَيُقْبَلُ التَّفْسِيرُ بِهِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ الرَّافِعِيُّ، حَسَنٌ مِنْ وَجْهٍ، ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهٍ، فَحُسْنُهُ فِي قَبُولِ التَّفْسِيرِ، وَضَعْفُهُ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَالرَّاجِحُ فِيهِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» فَقَالَ: هُوَ قَذْفٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَنَحُدُّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَسْأَلَهُ مَا أَرَادَ. فَإِنِ ادَّعَى احْتِمَالًا مُمْكِنًا، كَقَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ حِينَ نَفَاهُ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا حَدَّ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ، فَإِنَّا لَا نَحُدُّهُ هُنَاكَ حَتَّى نَسْأَلَهُ، لِأَنَّ لَفْظَهُ كِنَايَةٌ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَدٌّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهُنَا ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْقَذْفُ، فَحُدَّ بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ مُحْتَمَلًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ لِقُرَشِيٍّ: لَسْتَ مِنْ قُرَيْشٍ، أَوْ يَا نَبَطِيُّ، أَوْ قَالَ لِتُرْكِيٍّ: يَا هِنْدِيُّ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ فِي الْأَخْلَاقِ، أَوْ أَنَّهُ تُرْكِيُّ الدَّارِ وَاللِّسَانِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنِ ادَّعَتْ أُمُّ الْمَقُولِ لَهُ أَنَّهُ أَرَادَ قَذْفَهَا، وَنَكَلَ الْقَاذِفُ، وَحَلَفَتْ هِيَ، وَجَبَ لَهَا الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ، وَإِنْ أَرَادَ الْقَذْفَ، فَمُطْلَقُهُ مَحْمُولٌ عَلَى أُمِّ الْمَقُولِ لَهُ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ وَاحِدَةً مِنْ جَدَّاتِهِ زَنَتْ، نُظِرَ، إِنْ عَيَّنَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ جَدَّةً لَا بِعَيْنِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الْإِسْلَامِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَحَدُ أَبَوَيْكَ زَانٍ، أَوْ فِي السِّكَّةِ زَانٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى، فَإِنْ كَذَّبَتْهُ أُمُّ الْمَقُولِ لَهُ، فَلَهَا تَحْلِيفُهُ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْأَئِمَّةُ، وَفِي التَّجْرِبَةِ لِلرُّويَانِيِّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَلَوِيٍّ: لَسْتَ ابْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ: أَرَدْتُ لَسْتَ مِنْ

صُلْبِهِ، بَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ آبَاءٌ، لَمْ يُصَدَّقْ، بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَذْفُ، أَنَّكَ أَرَدْتَ قَذْفِي، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْقَائِلُ وَيُعَزَّرُ. وَمُقْتَضَى هَذَا، أَنْ لَا يُصَدَّقَ الْقَائِلُ: أَرَدْتُ جَدَّةً مِنْ جَدَّاتِ الْمَقُولِ لَهُ، مَهْمَا نَازَعَتْهُ أَمُّهُ، بَلْ تُصَدَّقُ هِيَ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَيْهَا، وَالسَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ قَذْفُهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ الْقَائِلُ وَبَرِئَ. قُلْتُ: وَإِذَا قَالَ: لَمْ أُرِدْ شَيْئًا، فَلَا حَدَّ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْخَصْمُ، حَلَّفَهُ كَمَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِ الْقَذْفِ. فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا، فَعَلَى الْقَاذِفِ الْحَدُّ، وَإِلَّا فَالتَّعْزِيرُ. وَشُرُوطُ الْإِحْصَانِ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا. فَلَوْ قَذَفَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا، لَمْ يُحَدَّ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ. وَتَبْطُلُ الْعِفَّةُ بِكُلِّ وَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَمِنْهُ مَا إِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ زَوْجَتِهِ، أَوْ جَارِيَةَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، أَوْ نَكَحَ مَحْرَمًا لَهُ، أَوْ وَطِئَ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَةَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، وَكَذَا لَوْ أَوْلَجَ فِي دُبُرٍ، ثُمَّ نَقَلَ الْبَغَوِيُّ، أَنَّهُ تَبْطُلُ حَصَانَةُ الْفَاعِلِ دُونَ الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ فِي الدُّبُرِ، فَكَذَا لَا تَبْطُلُ بِهِ الْحَصَانَةُ، وَرَأَى هُوَ أَنْ تَبْطُلُ حَصَانَتُهُمَا جَمِيعًا، لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا. قُلْتُ: إِبْطَالُ حَصَانَتِهِمَا، هُوَ الرَّاجِحُ، وَأَيُّ عِفَّةٍ وَحُرْمَةٍ لِمَنْ مَكَّنَ مِنْ دُبُرِهِ مُخْتَارًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْوَطْءُ الَّذِي لَا حَدَّ فِيهِ، فَلِلْأَصْحَابِ فِي تَرْتِيبِ صُوَرِهِ وَضَبْطِهِ طُرُقٌ أَشْهَرُهَا: أَنَّهُ يُنَظَرُ، أَجَرَى ذَلِكَ فِي مِلْكِ نِكَاحٍ، أَوْ يَمِينٍ، أَمْ فِي غَيْرِ مِلْكٍ؟ . الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمَمْلُوكُ، وَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: مُحَرَّمٌ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كَمَنْ

وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ، أَوْ عَمَّتُهُ بِرَضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْحَدَّ، بَطَلَتْ حَصَانَتُهُ، وَإِلَّا فَتَبْطُلُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ عِفَّتِهِ، بَلْ هَذَا أَفْحَشُ مِنَ الزِّنَا بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا، بَطَلَتْ حَصَانَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَحْرُمُ غَيْرَ مُؤَبَّدٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَهُ حَظٌّ مِنَ الدَّوَامِ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ شُبْهَةٍ وَغَيْرِهِ وَأَمَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ أَوِ الْمُزَوَّجَةِ، أَوِ الْمُرْتَدَّةِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَأَمَتِهِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَلَا تَبْطُلُ حَصَانَتُهَا عَلَى الْأَصَحِّ، لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَعَدَمِ تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ، وَعَدَمِ دَلَالَتِهِ الظَّاهِرَةِ عَلَى قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالزِّنَا. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا حَرُمَ لِعَارِضٍ سَرِيعِ الزَّوَالِ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ فِي الْحَيْضِ، أَوِ النِّفَاسِ، أَوِ الْإِحْرَامِ، أَوِ الِاعْتِكَافِ، أَوِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَلَا تَبْطُلُ الْحَصَانَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْوَطْءُ الْجَارِي فِي غَيْرِ مِلْكٍ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَجَارِيَةِ الِابْنِ. وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ. وَفِي الْإِحَرَامِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالشِّغَارِ وَوَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ وَالرَّجْعِيَّةِ فِي الْعِدَّةِ، فَفِي بُطْلَانِ حَصَانَتِهِ وَجْهَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَصَحُّهُمَا لَا تَبْطُلُ، وَاخْتَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْبُطْلَانَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هُوَ أَقْرَبُ. وَأَمَّا وَطْءُ الْمُشْتَرَكَةِ، فَقَالَ الدَّارَكِيُّ: هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَأَشَارَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَجَمَاعَةٌ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ كَوَطْءِ الزَّوْجَةِ فِي الْحَيْضِ، هَذَا أَحَدُ الطُّرُقِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ فِي سُقُوطِ الْحَصَانَةِ بِوَطْءِ الْمَمْلُوكَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِرَضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ وَجْهَيْنِ. وَفِي الْمُشْتَرَكَةِ وَجَارِيَةِ الِابْنِ وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِبَقَاءِ الْحَصَانَةِ. وَفِي الْمَنْكُوحَةِ بِلَا وَلِيٍّ وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْبَقَاءِ لِلِاخْتِلَافِ فِي إِبَاحَتِهِ، وَفِي الْوَطْءِ

بِالشُّبْهَةِ وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْبَقَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَوَجْهُ إِسْقَاطِهَا، إِشْعَارُهُ بِتَرْكِ التَّحَفُّظِ. وَفِي الْوَطْءِ الْجَارِي فِي الْجُنُونِ وَالصَّبِيِّ عَلَى صُورَةِ الزِّنَا وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْبَقَاءِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: لَا تَبْطُلُ الْحَصَانَةُ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكٍ أَوْ مَعَ عُذْرٍ كَالشُّبْهَةِ، وَتَبْطُلُ بِمَا خَلَا عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ وَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. وَالرَّابِعُ: تَبْطُلُ الْحَصَانَةُ بِكُلِّ وَطْءٍ حَرَامٍ، كَالْحَائِضِ، دُونَ مَا لَا يَحْرُمُ، كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ. وَالْخَامِسُ: كُلُّ وَطْءٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَدٌّ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ يُسْقِطُ الْحَصَانَةَ، وَمَا لَا حَدَّ فِيهِ مَعَ الْعِلْمِ لَا يُسْقِطُهَا، كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ وَالْمُشْتَرَكَةِ. قُلْتُ: قَدْ جَمَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْخِلَافَ الْمُنْتَشِرَ مُخْتَصَرًا فَقَالَ: يَنْتَظِمُ مِنْهُ سِتَّةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا تُسْقِطُ الْحَصَانَةَ إِلَّا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ. وَالثَّانِي: يُسْقِطُهَا هَذَا، وَوَطْءُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالْمِلْكِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ فِي «الْمُحَرَّرِ» ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَالثَّالِثُ: يُسْقِطُهَا هَذَا، وَوَطْءُ الْأَبِ وَالشَّرِيكِ. وَالرَّابِعُ: هَذَا، وَالْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. وَالْخَامِسُ: هَذَا، وَوَطْءُ الشُّبْهَةِ مِنْ مُكَلَّفٍ. وَالسَّادِسُ: هَذَا، وَوَطْءُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَيَجِيءُ فِيهِ سَابِعٌ، وَهُوَ هَذَا، وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ فِي الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بَيْنَ الْعَالِمِ بِتَحْرِيمِهِ وَالْجَاهِلِ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلُ كَالْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْكَافِرُ إِذَا كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَغَصَبَ امْرَأَةً وَوَطِئَهَا ظَانًّا حِلَّهَا، لَا تَبْطُلُ حَصَانَتُهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ. قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ مَجِيءِ الْخِلَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مُقَدِّمَاتُ الزِّنَا كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَغَيْرِهِمَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الْحَصَانَةِ بِحَالٍ، وَلِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِيهَا احْتِمَالٌ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، لَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَخَرَجَتْ مُسْتَحِقَّةً، فَفِي بُطْلَانِ حَصَانَتِهِ وَجْهَانِ فِي «الْإِبَانَةِ» وَ «الْمُهَذَّبِ» ، وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الشُّبْهَةِ، فَيَكُونُ الرَّاجِحُ بَقَاءَ الْحَصَانَةِ. وَلَوْ نَكَحَ مَجُوسِيٌّ أَمَةً وَوَطِئَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا تَبْطُلُ حَصَانَتُهُ، وَقَالَ الْفُورَانِيُّ: تَبْطُلُ، وَالْأَوَّلُ أَفْقَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْوَطْءِ، فَفِي بُطْلَانِ حَصَانَتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْفُورَانِيُّ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِلِاحْتِيَاطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَذَفَ عَفِيفًا فِي الظَّاهِرِ، فَزَنَا الْمَقْذُوفُ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِيهِ قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَلَوِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ الْحَدِّ، لَمْ يَسْقُطْ عَلَى الصَّحِيحِ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ، لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ زَنَتَ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ وَاللِّعَانُ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ وَأَرَادَ نَفْيَهُ، فَلَهُ اللِّعَانُ، وَلَوْ سَرَقَ الْمَقْذُوفُ أَوْ قُتِلَ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ الْحَدَّ، لَمْ يَسْقُطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ فِيهِ.

فصل

فَرْعٌ مَنْ زَنَا مَرَّةً وَهُوَ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ، أَوْ عَدْلٌ عَفِيفٌ، أَوْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، ثُمَّ أُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْآخَرُ، وَحَسُنَتْ أَحْوَالُهُمْ، لَمْ تُعَدَّ حَصَانَتُهُمْ، وَلَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُمْ، سَوَاءً قَذَفَهُمْ بِذَلِكَ الزِّنَا أَوْ بِزِنًا بَعْدَهُ، وَفِيمَا بَعْدَهُ احْتِمَالٌ. وَلَوْ جَرَتْ صُورَةُ الزِّنَا مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، لَمْ تَسْقُطْ حَصَانَتُهُ، فَمَنْ قَذَفَهُ بَعْدَ الْكَمَالِ، حُدَّ، لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَيْسَ زِنًا لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ. فَرْعٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا وَعَجَزَ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ، فَهَلْ لَهُ تَحْلِيفُهُ أَنَّهُ لَمْ يَزْنِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. الْمُوَافِقُ لِجَوَابِ الْأَكْثَرِينَ: لَهُ تَحْلِيفُهُ، قَالُوا: وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِالزِّنَا وَالتَّحْلِيفَ عَلَى نَفْيِهِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قُلْتُ: الْعَجْزُ عَنِ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ مَتَى طُلِبَ يَمِينُهُ، جَاءَ الْخِلَافُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَذَفَ مَيِّتًا، وَطَلَبَ وَارِثُهُ الْحَدَّ، وَطَلَبَ الْقَاذِفُ يَمِينَهُ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مُوَرِّثَهُ زَنَا، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُحَلِّفُهُ، قَالَ: وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ هَلْ عَلَى الْحَاكِمِ الْبَحْثُ عَنْ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ لِيُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ، كَمَا عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ لِيَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ؟ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: نَعَمْ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ: لَا، لِأَنَّ الْقَاذِفَ عَاصٍ فَغُلِّظَ عَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ بِظَاهِرِ الْإِحْصَانِ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي التَّغْلِيظَ. فَصْلٌ حَدُّ الْقَذْفِ وَتَعْزِيرُهُ حَقٌّ آدَمِيٌّ، يُوَرَّثُ عَنْهُ، وَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ:

اقْذِفْنِي، فَقَذَفَهُ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجِبُ، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ، لِأَنَّ الْقَطْعَ مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحِقَّ الْقَطْعِ. وَأَمَّا الْقَذْفُ، فَلَا يُبَاحُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ زَانِيًا. وَفِيمَنْ يَرِثُ حَدَّ الْقَذْفِ؟ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ، كَالْمَالِ وَالْقِصَاصِ. وَالثَّانِي: جَمِيعُهُمْ غَيْرَ الزَّوْجَيْنِ. وَالثَّالِثُ: رِجَالُ الْعَصَبَاتِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْعَارِ كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ. وَالرَّابِعُ: رِجَالُ الْعَصَبَةِ سِوَى الْبَنِينَ كَالتَّزْوِيجِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَرِثُ الزَّوْجَانِ، فَأَنْشَأَ قَذْفَ مَيِّتٍ، فَفِي إِرْثِهِمَا وَجْهَانِ، لِانْقِطَاعِ الْوَصْلَةِ حَالَةَ الْقَذْفِ، وَإِذَا وَرَّثْنَا الِابْنَ، قُدِّمَ عَلَى سَائِرِ الْعَصَبَاتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْذُوفِ وَارِثٌ خَاصٌّ، فَهَلْ يُقِيمُ السُّلْطَانُ الْحَدَّ؟ قَوْلَانِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ، وَكَمَا لَوْ قَذَفَ مَيِّتًا لَا وَارِثَ لَهُ، أَظْهَرُهُمَا: يُقِيمُهُ. فَرْعٌ لَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحِقِّي حَدِّ الْقَذْفِ الْمَوْرُوثِ عَنْ حَقِّهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يَجُوزُ لِمَنْ بَقِيَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الْحَدِّ، لِأَنَّ الْحَدَّ يَثْبُتُ لَهُمْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ وَحَقِّ الشُّفْعَةِ. وَالثَّانِي: يَسْقُطُ جَمِيعُ الْحَدِّ كَالْقِصَاصِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِذْ لَا بَدَلَ هُنَا، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، وَالثَّالِثُ: يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي وَيُسْتَوْفَى الْبَاقِي، لِأَنَّهُ مُتَوَزِّعٌ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَعَلَى هَذَا، يَسْقُطُ السَّوْطُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ شَرِكَةٌ. فَرْعٌ قَذَفَ رَجُلٌ مُوَرِّثَهُ، وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ إِنْ كَانَ حَائِزَ الْإِرْثِ، لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ. وَلَوْ قَذَفَ أَبَاهُ، فَمَاتَ الْأَبُ وَتَرَكَ الْقَاذِفَ وَابْنًا آخَرَ. فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا عَفَا بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَانَ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْجَمِيعِ، فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ الْجَمِيعُ، فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي، فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ نِصْفِ الْحَدِّ.

فَرْعٌ لَوْ جُنَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ، لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ، بَلْ يُصْبَرُ حَتَّى يُفِيقَ، فَيَسْتَوْفِيَ، أَوْ يَمُوتَ فَيُوَرِّثَ. وَكَذَا لَوْ قَذَفَ الْمَجْنُونَ أَوِ الصَّغِيرَ، وَوَجَبَ التَّعْزِيرُ، لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِمَا التَّعْزِيرُ، بَلْ يَجِبُ الصَّبْرُ. فَرْعٌ إِذَا قُذِفَ الْعَبْدُ وَوَجَبَ التَّعْزِيرُ، فَالطَّلَبُ وَالْعَفْوُ لَهُ لَا لِلسَّيِّدِ، لِأَنَّ عِرْضَهُ لَهُ لَا لِلسَّيِّدِ، حَتَّى لَوْ قَذَفَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ، كَانَ لَهُ رَفْعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُعَزِّرَهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ طَلَبُ التَّعْزِيرِ مِنْ سَيِّدِهِ، بَلْ يُقَالُ لَهُ: لَا تَعُدْ، فَإِنَّ عَادَ، عُزِّرَ كَمَا يُعَزَّرُ لَوْ كَلَّفَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مِنَ الْخِدْمَةِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ. فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ وَقَدِ اسْتَحَقَّ تَعْزِيرًا عَلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَسْتَوْفِيهِ سَيِّدُهُ، لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ وَجَبَتْ بِالْقَذْفِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالْحَدِّ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ، وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ، فَمَا ثَبَتَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، يَكُونُ لِسَيِّدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ كَمَالِ الْمُكَاتَبِ. وَالثَّانِي: يَسْتَوْفِيهِ أَقَارِبُهُ، لِأَنَّ الْعَارَ إِنَّمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: يَسْتَوْفِيهِ السُّلْطَانُ كَحُرٍّ لَا وَارِثَ لَهُ. وَالرَّابِعُ: يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثانِي فِي قَذْفِ الزَّوْجَةِ خَاصَّةً الزَّوْجُ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي صَرِيحِ الْقَذْفِ وَكِنَايَتِهِ، وَفِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِقَذْفِهَا الْحَدُّ إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً، وَالتَّعْزِيرُ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ، إِلَّا أَنَّ الزَّوْجَ يَخْتَصُّ بِأَنَّهُ قَدْ يُبَاحُ لَهُ الْقَذْفُ، وَقَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ لَا يَتَخَلَّصُ مِنَ الْعُقُوبَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ، أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ. وَلِلزَّوْجِ طَرِيقٌ ثَالِثٌ إِلَى الْخَلَاصِ، وَهُوَ

اللِّعَانُ. وَكَمَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ عُقُوبَةُ الْقَذْفِ بِاللِّعَانِ، يَجِبُ عَلَيْهَا بِهِ حَدُّ الزِّنَا، وَلَهَا دَفْعُهُ بِلِعَانِهَا. فَصْلٌ مَتَّى تَيَقَّنَ الزَّوْجُ أَنَّهَا زَنَتْ، بِأَنْ رَآهَا تَزْنِي، جَازَ لَهُ قَذْفُهَا، وَكَذَا إِنْ ظَنَّ زِنَاهَا ظَنًّا مُؤَكَّدًا، بِأَنْ أَقَرَّتْ بِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهَا، أَوْ سَمِعَهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ وَالْإِمَامُ: سَوَاءٌ كَانَ الْقَائِلُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، أَمْ لَا، وَاسْتَفَاضَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ فُلَانًا يَزْنِي بِهَا وَلَمْ يُخْبِرْهُ أَحَدٌ عَنْ عِيَانٍ، لَكِنِ انْضَمَّتْ إِلَى الِاسْتِفَاضَةِ قَرِينَةُ الْفَاحِشَةِ، بِأَنْ رَآهُ مَعَهَا فِي خَلْوَةٍ، أَوْ رَآهُ يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ الْقَذْفُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي صُورَةِ الِاسْتِفَاضَةِ. إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهَا الْقَرِينَةُ. وَعَنِ الدَّارَكِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِفَاضَةِ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لَوْ رَآهَا مَعَهُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً فِي مَحَلِّ الرِّيبَةِ، كَانَ ذَلِكَ كَالِاسْتِفَاضَةِ مَعَ الرُّؤْيَةِ مَرَّةً، وَكَذَا لَوْ رَآهَا مَعَهُ تَحْتَ شِعَارٍ عَلَى هَيْئَةٍ مُنْكَرَةٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى هَذَا الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ، لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْقَذْفُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهَا وَيُفَارِقَهَا بِغَيْرِ اللِّعَانِ إِنْ شَاءَ، وَلَوْ أَمْسَكَهَا لَمْ يَحْرُمْ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُلَاعِنَ، بَلْ يُطْلِقَهَا إِنْ كَرِهَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ النَّفْيُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: فَإِنْ تَيَقَّنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهَا زَنَتْ، قَذَفَهَا وَلَاعَنَ، وَإِلَّا فَلَا يَقْذِفُهَا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ، أَوْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ إِذَا لَمْ يَطَأْهَا أَصْلًا، أَوْ وَطِئَهَا وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ

أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، أَوْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَلَوْ وَطِئَهَا وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا بِحَيْضَةٍ، أَوِ اسْتَبْرَأَهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ النَّفْيُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِرِيبَةٍ يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ، أَوْ شُبْهَةٍ تُخَيِّلُ لَهُ فَسَادًا، وَإِنِ اسْتَبْرَأَهَا وَأَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحُدُهَا: يَجُوزُ النَّفْيُ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْفِيَهُ، لِأَنَّ الْحَامِلَ قَدْ تَرَى الدَّمَ. وَالثَّانِي: إِنْ رَأَى بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ الْقَرِينَةَ الْمُبِيحَةَ لِلْقَذْفِ، جَازَ النَّفْيُ، بَلْ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرَ شَيْئًا، لَمْ يَجُزْ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ النَّفْيُ، سَوَاءٌ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ وَأَمَارَةٌ، أَمْ لَا، وَلَا يَجِبُ بِحَالٍ لِلِاحْتِمَالِ. وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّانِي، صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. قُلْتُ: جَعَلَ الرَّافِعِيُّ الْأَوْجَهَ فِيمَا إِذَا أَتَتْ بِالْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَكَذَا فَعَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْإِمَامُ، وَالْبَغَوِيُّ، وَالْمُتَوَلِّي. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَصَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «الْعُدَّةِ» وَآخَرُونَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي سِتَّةِ الْأَشْهُرِ مِنْ حِينِ زَنَى الزَّانِي بِهَا، لِأَنَّ مُسْتَنَدَ اللِّعَانِ زِنَاهُ، فَإِذَا وَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ زِنًا، وَلِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ، تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الزِّنَا، فَيَصِيرُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَا يَجُوزُ النَّفْيُ، وَهَذَا أَوْضَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ يَطَأُ وَيَعْزِلُ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّفْيُ بِذَلِكَ، فَقَدْ سَبَقَ الْمَاءُ، وَجَعَلَهُ الْغَزَالِيُّ مُجَوِّزًا لِلنَّفْيِ. وَلَوْ جَامَعَ فِي الدُّبُرِ أَوْ فِيمَا دُونَ الْفَرَجِ، فَلَهُ النَّفْيُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ لَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَا يُشْبِهُهُ، نُظِرَ، إِنْ خَالَفَهُ فِي نَقْصِ وَكَمَالِ خِلْقَةٍ، أَوْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَنَحْوِهَا، حَرُمَ النَّفْيُ، وَإِنْ وَلَدَتْ أَسْوَدَ وَهُمَا أَبْيَضَانِ أَوْ عَكْسَهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ

فصل

إِلَيْهِ قَرِينَةُ الزِّنَا، حَرُمَ النَّفْيُ، وَإِنِ انْضَمَّتْ أَوْ كَانَ يَتَّهِمُهَا بِرَجُلٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ عَلَى لَوْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، جَازَ النَّفْيُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْبَنْدَنِيجِيِّ وَالرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْمَنْعَ. قُلْتُ: الْمَنْعُ أَصَحُّ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ غَيْرَ الْمَذْكُورَيْنِ، صَاحِبَا «الْحَاوِي» وَ «الْعُدَّةِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يُؤَثِّرُ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَلْوَانِ الْمُتَقَارِبَةِ، كَالْأُدْمَةِ وَالسُّمْرَةِ وَالشُّقْرَةِ، وَالْقَرِينَةُ مِنَ الْبَيَاضِ. فَرْعٌ مَتَّى نَفَى الْوَلَدَ وَلَاعَنَ، حُكِمَ بِنُفُوذِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَا يُكَلَّفُ بَيَانَ السَّبَبِ الَّذِي بَنَى النَّفْيَ عَلَيْهِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى رِعَايَةُ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ، وَبِنَاءُ النَّفْيِ عَلَى مَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ. فَصْلٌ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالزَّوْجِ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ إِمْكَانُ الْوَطْءِ، فَإِذَا نَكَحَ وَطَلَّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ غَابَ عَنْهَا غَيْبَةً بَعِيدَةً لَا يُحْتَمَلُ وُصُولُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْغَيْبَةِ، أَوْ جَرَى الْعَقْدُ وَالزَّوْجَانِ مُتَبَاعِدَانِ، أَحَدُهُمَا بِالْمُشْرِقِ، وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِغَيْرِ لِعَانٍ. فَرْعٌ إِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، لَكِنَّهُ رَآهَا تَزْنِي وَاحْتَمَلَ كَوْنُهُ مِنَ

الزِّنَا، فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ. وَهَلْ لَهُ الْقَذْفُ وَاللِّعَانُ؟ حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْقَاضِي، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: وَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ لِجَوَازِ الْقَذْفِ إِذَا تَيَقَّنَ الزِّنَا وَلَا وَلَدَ، انْتِقَامًا مِنْهَا، فَحَصَلَ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ اللِّعَانَ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ، إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهَا لِدَفْعِ النَّسَبِ، أَوْ قَطْعِ النِّكَاحِ حَيْثُ لَا وَلَدَ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَحْدُثَ وَلَدٌ عَلَى الْفِرَاشِ الْمُلَطَّخِ، وَقَدْ حَصَلَ الْوَلَدُ هُنَا، فَلَمْ يَبْقَ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ فِي إِثْبَاتِ زِنَاهَا تَعْيِيرَ الْوَلَدِ، وَإِطْلَاقَ الْأَلْسُنَةِ فِيهِ، وَلَا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ لِغَرَضِ الِانْتِقَامِ مَعَ إِمْكَانِ الْفِرَاقِ بِالطَّلَاقِ. قُلْتُ: هَذَا النَّقْلُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ مُطْلَقًا غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» : إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، بِأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا، أَوْ رَأَى فِيهِ شَبَهَ الزَّانِي، لَزِمَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، يَعْنِي بَعْدَ قَذْفِهَا، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ، لَمْ يَنْفِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا وَرَآهَا تَزْنِي، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ اللِّعَانِ بَعْدَ الْقَذْفِ، أَوْ بِالْإِمْسَاكِ. فَأَمَّا نَفْيُ الْوَلَدِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، نَفَاهُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْهُ، لَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ، وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، جَازَ أَنْ يُغَلِّبَ حُكْمَ الشَّبَهِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَةِ الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي ثَمَرَةِ اللِّعَانِ، وَشُرُوطِهِ، وَصِفَتِهِ، وَأَحْكَامِهِ فِيهِ أَطْرَافٌ. الْأَوَّلُ: فِي ثَمَرَاتِ اللِّعَانِ، وَهِيَ نَفْيُ النَّسَبِ وَقَطْعُ النِّكَاحِ، وَتَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا، وَدَفْعُ الْمَحْذُورِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِالْقَذْفِ، وَإِثْبَاتُ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا. قُلْتُ: وَمِنَ الثَّمَرَاتِ: سُقُوطُ حَدِّ قَذْفِ الزَّانِي بِهَا عَنِ الزَّوْجِ إِنْ سَمَّاهُ فِي

لِعَانِهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يُسَمِّهِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ. وَمِنْهَا: سُقُوطُ حَصَانَتِهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ هِيَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: تَشْطِيرُ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَمِنْهَا: اسْتِبَاحَةُ نِكَاحِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ اللِّعَانِ، تَعَلُّقُ جَمِيعِ ثَمَرَاتِهِ بِهِ، بَلْ مِنْهَا مَا يَسْتَقِلُّ بِإِفَادَةِ حَقِّ جَوَازِهِ، وَمِنْهَا خِلَافُهُ، فَنَفْيُ النَّسَبِ، هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ، فَيَجُوزُ اللِّعَانُ لَهُ وَحْدَهُ. وَإِنْ كَانَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ نِكَاحٌ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ عُقُوبَةٌ، بِأَنْ كَانَ أَبَانَهَا، أَوْ عَفَتْ عَنِ الْعُقُوبَةِ، أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا. وَأَمَّا دَفْعُ عُقُوبَةِ الْقَذْفِ، فَيَجُوزُ اللِّعَانُ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ الْحَدِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نِكَاحٌ وَلَا نَسَبٌ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ التَّعْزِيرَ، فَالتَّعْزِيرُ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ الْقَذْفِ نَوْعَانِ: تَعْزِيرُ تَكْذِيبٍ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الْقَاذِفِ الْكَاذِبِ ظَاهِرًا، بِأَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ أَوِ الرَّقِيقَةَ، أَوِ الصَّغِيرَةَ الَّتِي يُوطَأُ مِثْلُهَا، وَتَعْزِيرُ تَأْدِيبٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَذِبُهُ مَعْلُومًا، أَوْ صِدْقُهُ ظَاهِرًا، فَيُعَزَّرُ لَا تَكْذِيبًا لَهُ، بَلْ تَأْدِيبًا لِئَلَّا يَعُودَ إِلَى السَّبِّ وَالْإِيذَاءِ، بِأَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا، أَوْ قَذَفَ الْكَبِيرَةَ بِزِنًا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ بِإِقْرَارِهَا، فَلَا يُحَدُّ لِسُقُوطِ حَصَانَتِهَا، وَيُعَزَّرُ تَأْدِيبًا لِلْإِيذَاءِ بِتَحْدِيدِ ذِكْرِ الْفَاحِشَةِ. فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ، فَيُسْتَوْفَى بِطَلَبِهَا، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي، فَلَا يُلَاعِنُ لِدَفْعِ تَعْزِيرِ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا وَإِنْ كَبُرَتْ وَطَالَبَتْ، لِأَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ لِلْقَذْفِ. فَإِنَّهُ أَتَى بِمُحَالٍ لَا يَلْحَقُهَا بِهِ عَارٌ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ مَنْعًا لَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ، وَالْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ. وَفِيهِ وَجْهٌ سَيَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قَذَفَ الْكَبِيرَةَ بِزِنًا ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارِهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي

رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ: عُزِّرَ إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْتَعِنْ، وَفِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ: يُعَزَّرُ إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ. وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ، أَشْهَرُهَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يُلَاعِنُ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: لَا يُلَاعِنُ قَطْعًا، وَرَدَّ رِوَايَةَ الرَّبِيعِ. وَالثَّالِثُ: يُلَاعِنُ قَطْعًا، وَتَأَوَّلَ رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ. وَالرَّابِعُ: إِنَّ قَذْفَهَا بِزِنًا أَضَافَهُ إِلَى مَا قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ وَأَثْبَتَهُ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ قَذَفَهَا بِهِ، لَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا فِي الزَّوْجِيَّةِ، وَأَثْبَتَهُ بِبَيِّنَةٍ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِهِ، لَاعَنَ، وَحَمَلَ النَّصَّيْنِ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ ظَاهَرُ نَصِّهِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ إِلَّا بِطَلَبِهَا. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا: أَنَّهُ يُعَزِّرُهُ السُّلْطَانُ سِيَاسَةً وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ، كَمَا يُعَزِّرُ مَنْ يَقُولُ: النَّاسُ زُنَاةٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْخِلَافِ، إِنَّمَا مَوْضِعُهُ مَا إِذَا أَضَافَ الزِّنَا إِلَى حَالَةٍ لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ، بِأَنْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ بِنْتُ شَهْرٍ، لِأَنَّ الْمُحَالَ لَا يَتَأَدَّى مِنْهُ. قُلْتُ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقٌ خَامِسٌ اخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» ، وَحَكَاهُ الشَّاشِيُّ: إِنْ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ، لَاعَنَ، وَإِلَّا فَلَا، وَحَمَلَ النَّصَّيْنِ عَلَيْهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَدْ سَبَقَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يُسْتَوْفَى بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ، وَفِي التَّعْزِيرِ هَذَا التَّفْصِيلُ السَّابِقُ قَبْلَ الْفَرْعِ، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ مُعَلَّقًا بِطَلَبِ شَخْصٍ، سَقَطَ بِعَفْوِهِ إِذَا كَانَ أَهْلًا لِلْعَفْوِ. فَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، فَعَفَتْ عَنِ الْحَدِّ وَلَا وَلَدَ، فَلَيْسَ لَهُ اللِّعَانُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ صَدَّقَتْهُ وَلَا وَلَدَ، فَلَوْ سَكَتَ فَلَمْ تَطْلُبِ الْحَدَّ وَلَمْ تَعْفُ، فَلَيْسَ لَهُ اللِّعَانُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْمَجْنُونَةَ، فَقِيلَ: لَهُ اللِّعَانُ فِي الْحَالِ لِيَسْقُطَ التَّعْزِيرُ، وَالْأَصَحُّ انْتِظَارُ بُلُوغِهَا وَعَقْلِهَا وَطَلَبِهَا التَّعْزِيرَ. وَلَوْ قَذَفَهَا عَاقِلَةً فَجُنَّتْ، أَوْ فِي جُنُونِهَا بِزِنًا أَضَافَهُ إِلَى حَالَةِ

الْإِفَاقَةِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَهَلْ لَهُ اللِّعَانُ فِي الْحَالِ، أَمْ يَنْتَظِرُ الْإِفَاقَةَ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ لَوْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ، وَأَرَادَ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ قَطْعًا. قُلْتُ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَاعَنَ لِنَفْيِ النَّسَبِ أَوْ غَيْرِهِ وَهِيَ مَجْنُونَةٌ، فَقَدْ حَقَّقَ زِنَاهَا وَلَزِمَهَا الْحَدُّ، لَكِنْ لَا تُحَدُّ فِي جُنُونِهَا، فَإِذَا أَفَاقَتْ حُدَّتْ إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ، ذَكَرَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي «الْمَجْمُوعِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ زَنَى بِكِ مَمْسُوحٌ، أَوْ صَبِيٌّ ابْنُ شَهْرٍ، أَوْ قَالَ لِرَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ: زَنَيْتِ، فَلَا حَدَّ وَيُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ، وَلَا يُلَاعِنُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِمَمْسُوحٍ: زَنَيْتَ، أَوْ لِبَالِغٍ: زَنَيْتَ وَأَنْتَ رَضِيعٌ فِي الْمَهْدِ، فَلَا حَدَّ وَيُعَزَّرُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي صِفَةِ الْمُلَاعِنِ، وَلَهُ شَرْطَانِ: الْأَوَّلُ: أَهْلِيَّةُ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. وَقِيلَ: هُوَ يَمِينٌ فِيهَا شَوْبُ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَصِحُّ لِعَانُ الصَّبِيِّ وَلَا الْمَجْنُونِ، وَلَا يَقْتَضِي قَذْفُهُمَا لِعَانًا بَعْدَ كَمَالِهِمَا، وَلَا عُقُوبَةً، لَكِنْ يُعَزَّرُ الْمُمَيِّزُ عَلَى الْقَذْفِ. فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ تَعْزِيرُهُ حَتَّى بَلَغَ، قَالَ الْقَفَّالُ: يَسْقُطُ لِأَنَّهُ كَانَ لِلزَّجْرِ عَنْ سُوءِ الْأَدَبِ، وَقَدْ حَدَثَ زَاجِرٌ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ التَّكْلِيفُ، وَيَصِحُّ لِعَانُ الذِّمِّيِّ، وَالرَّقِيقِ، وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، وَيَصِحُّ اللِّعَانُ عَنِ الذِّمِّيَّةِ، وَالرَّقِيقَةِ، وَالْمَحْدُودَةِ فِي الْقَذْفِ. فَرْعٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ، وَتَرَافَعَا إِلَيْنَا، وَلَاعَنَ الزَّوْجُ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى اللِّعَانِ، وَلَا تُحَدُّ إِنِ امْتَنَعَتْ مِنْهُ حَتَّى تَرْضَى بِحُكْمِنَا. فَإِنْ

رَضِيَتْ، حَكَمْنَا فِي حَقِّهَا بِمَا نَحْكُمُ بِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمَةِ. وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ، الصَّحِيحُ مِنْهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الذِّمِّيَّيْنِ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْنَا، هَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا؟ وَقَدْ سَبَقَا فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ، إِنْ أَوْجَبْنَا الْحُكْمَ، حَدَّدْنَاهَا إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ، وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، لَمْ نَحُدَّهَا حَتَّى تَرْضَى بِحُكْمِنَا، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا يَجْرِي عَلَيْهَا الْحُكْمُ حَتَّى تَرْضَى قَطْعًا. وَلَوْ قَذَفَهَا زَوْجُهَا الذِّمِّيُّ، وَتَرَافَعَا، وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِحُكْمِنَا، وَطَلَبَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَهَلْ يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى اللِّعَانِ وَيُعَزَّرُ إِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، أَمْ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى رِضَاهُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَجِيءُ الطَّرِيقُ الثَّانِي. وَلَوْ قَذَفَهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ، وَلَاعَنَ، فَذَاكَ، وَإِنِ امْتَنَعَ، وَطَلَبَتِ التَّعْزِيرَ، اسْتَوْفَاهُ الْحَاكِمُ. ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي قَذْفِ الذِّمِّيَّةِ، التَّعْزِيرُ إِنْ كَانَ مِثْلَهَا، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَذْفِ الرَّقِيقَةِ، التَّعْزِيرُ وَإِنْ قَذَفَهَا رَقِيقٌ. الشَّرْطُ الثَّانِي: الزَّوْجِيَّةُ، فَلَا لِعَانَ لِأَجْنَبِيٍّ، فَلَوْ طَلَّقَهَا رَجْعِيَّةً بَعْدَ أَنْ قَذَفَهَا، أَوْ قَذَفَهَا فِي عِدَّةِ الرَّجْعَةِ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا كَمَا يُطَلِّقُهَا، وَيُظَاهِرُ وَيُؤْلِي. وَيَصِحُّ لِعَانُهُ فِي الْحَالِ، وَتَتَرَتَّبُ أَحْكَامُهُ. وَلَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ قَذَفَهَا وَأَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ، فَلَهُ اللِّعَانُ، وَلَوْ لَاعَنَ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ، وَقَعَ اللِّعَانُ فِي النِّكَاحِ، فَيَصِحُّ وَيَقَعُ مَوْقِعَهُ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَصِحُّ لِعَانُهُ، وَإِنْ أَصَرَّ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَهُ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، فَإِنْ كَانَ وَلَدٌ وَنَفَاهُ بِاللِّعَانِ، نَفَذَ، وَإِلَّا تَبَيَّنَّا فَسَادَهُ، وَلَا يَنْدَفِعُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ أَجَابَ ابْنُ الْحَدَّادِ. فَرْعٌ وَطِئَ امْرَأَةً فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةٍ، بِأَنْ ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، ثُمَّ قَذَفَهَا

وَأَرَادَ اللِّعَانَ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ مُنْفَصِلٌ، فَلَهُ اللِّعَانُ، فَيَنْتَفِي بِهِ النَّسَبُ بِلَا خِلَافٍ، وَيَسْقُطُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الصَّحِيحِ تَبَعًا، وَقِيلَ: لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ وَانْتِفَاءِ الضَّرُورَةِ، إِذْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ الْوَلَدُ مِنِّي، وَلَا يَقْذِفَهَا، وَتَتَأَبَّدُ الْحُرْمَةُ بِهَذَا اللِّعَانِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: فَإِذَا قُلْنَا بِالضَّعِيفِ: إِنَّهُ لَا تَتَأَبَّدُ الْحُرْمَةُ، فَهَلْ يَسْتَبِيحُهَا بِلَا مُحَلِّلٍ، أَمْ يَفْتَقِرُ إِلَى مُحَلِّلٍ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ؟ وَجْهَانِ، فِي «الْحَاوِي» الصَّحِيحُ: لَا يَفْتَقِرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا، وَلَا يُلَاعِنُ مُعَارَضَةً لِلِعَانِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهَا وَتُلَاعِنُ لِإِسْقَاطِهِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ حَمْلٌ، فَهَلْ هُوَ كَالْمُنْفَصِلِ فِي اللِّعَانِ؟ فِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إِذَا أَبَانَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ قَذَفَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا حَمْلٌ، فَلَا لِعَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ قَذَفَ فِي نِكَاحٍ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، وَلَاعَنَ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، ثُمَّ بَانَ فَسَادُهُ، وَلَا وَلَدَ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ عَلَى الْأَصَحِّ، فَعَلَى هَذَا: لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ. فَرْعٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ أَبَانَهَا، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، وَلِإِسْقَاطِ عُقُوبَةِ الْقَذْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ إِذَا طَلَبَتْهَا، لِأَنَّ الْقَذْفَ وُجِدَ فِي الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنْ عَفَتْ، فَلَا لِعَانَ، وَكَذَا إِنْ لَمْ تَطْلُبْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِذَا لَاعَنَ، لَزِمَهَا الْحَدُّ، وَلَهَا إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. وَفِي تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ بِلِعَانِهِ الْوَجْهَانِ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، لِوُقُوعِهِ خَارِجَ النِّكَاحِ.

فَرْعٌ أَبَانَهَا بِخُلْعٍ أَوْ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، أَوْ بِفَسْخٍ، أَوْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فَبَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًا مُطْلَقٍ، أَوْ مُضَافٍ إِلَى حَالِ النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ السَّابِقِ، فَلَهُ اللِّعَانُ، وَيَسْقُطُ بِهِ عَنْهُ الْحَدُّ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا إِنْ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى حَالَةِ النِّكَاحِ، وَلَهَا إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنْ لَمْ يُضِفْ، لَمْ يَلْزَمْهَا. وَفِي تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ وَمُعَارَضَتِهَا بِاللِّعَانِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَالْخِلَافُ فِي الْمُعَارَضَةِ جَارٍ فِي كُلِّ لِعَانٍ بِمُجَرَّدِ نَفْيِ الْوَلَدِ، كَمَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا أَوْ أَقَرَّتْ. وَإِنْ كَانَ حَمْلٌ، فَهَلْ لَهُ اللِّعَانُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ؟ فِيهِ نَصَّانِ رَوَاهُمَا الْمُزَنِيُّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَ «الْجَامِعِ» فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يُلَاعِنُ قَطْعًا، إِذْ قَدْ لَا يَكُونُ وَلَدٌ، وَتَأَوَّلَ النَّصَّ الْآخَرَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يُلَاعِنَ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ لَاعَنَ فَبَانَ أَنْ لَا حَمْلَ، تَبَيَّنَّا فَسَادَ اللِّعَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا حَمْلَ لَمْ يُلَاعِنْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لَهُ اللِّعَانُ إِنْ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى حَالَةِ النِّكَاحِ. فَرْعٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِزِنًا أَضَافَهُ إِلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، لَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ كَانَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُلَاعِنُ، لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِالتَّارِيخِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُطْلِقَ الْقَذْفَ. فَعَلَى هَذَا، لَهُ أَنْ يُنْشِئَ قَذْفًا وَيُلَاعِنَ لِنَفْيِ النَّسَبِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، حُدَّ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجَمَاعَةٌ. وَالثَّانِي، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْإِمَامُ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ: لَهُ اللِّعَانُ، فَعَلَى هَذَا، يَسْقُطُ الْحَدُّ بِلِعَانِهِ، وَهَلْ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا بِلِعَانِهِ؟ وَجْهَانِ. وَهَلْ لَهَا مُعَارَضَتُهُ بِاللِّعَانِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. قُلْتُ: صَحَّحَ فِي «الْمُحَرَّرِ» قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَهُوَ أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ قَذَفَهَا وَلَاعَنَهَا، ثُمَّ قُذِفَتْ، فَلَهَا حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُلَاعِنَ مُعَارَضَةً لِلِعَانِهِ، وَحُدَّتْ حَدَّ الزِّنَا، فَالْقَذْفُ الثَّانِي، إِنْ كَانَ مِنَ الزَّوْجِ، نُظِرَ، إِنْ قَذَفَهَا بِذَلِكَ الزِّنَا أَوْ أَطْلَقَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا التَّعْزِيرُ، لِأَنَّا صَدَّقْنَاهُ فِي ذَلِكَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ. وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُحَدُّ كَمَا لَمْ يُلَاعِنْ. وَأَصَحُّهُمَا: يُعَزَّرُ فَقَطْ، لِأَنَّ لِعَانَهُ فِي حَقِّهِ كَالْبَيِّنَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِدَفْعِ التَّعْزِيرِ، لِأَنَّهُ قَذَفَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَإِنْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِذَلِكَ الزِّنَا، حُدَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُعَزَّرُ، وَإِنْ قَذَفَهَا بِغَيْرِهِ، حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُلَاعِنَ، فَإِنْ قَذَفَهَا الزَّوْجُ بِذَلِكَ الزِّنَا، أَوْ أَطْلَقَ، عُزِّرَ فَقَطْ، وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُحَدُّ، وَقِيلَ: يُعَزَّرُ عَلَى قَوْلٍ قَدِيمٍ، وَقِيلَ: هُوَ وَجْهٌ، وَهَذَا الْخِلَافُ جَارٍ سَوَاءٌ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ بَعْدَ اللِّعَانِ أَوْ قَبْلَهُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: يُحَدُّ أَوْ يُعَزَّرُ، فَلَيْسَ لَهُ اللِّعَانُ، لِأَنَّهَا بَائِنٌ وَلَا وَلَدَ. وَإِنْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ، حُدَّ سَوَاءٌ قَذَفَهَا بِذَاكَ الزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: إِنْ قَذَفَهَا بِذَاكَ الزِّنَا، عُزِّرَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَسَوَاءٌ فِي الزَّوْجِ وَالْأَجْنَبِيِّ، كَانَ وَلَدٌ فَنَفَاهُ بِاللِّعَانِ وَبَقِيَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا قَذَفَهَا وَلَاعَنَ ثُمَّ قَذَفَ، أَمَّا إِذَا قَذَفَهَا وَلَمْ يُلَاعِنْ، فَحُدَّ لِلْقَذْفِ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِذَلِكَ الزِّنَا، فَلَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِالْحَدِّ الْأَوَّلِ، وَيُعَزَّرُ تَأْدِيبًا لِلْإِيذَاءِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ، لِإِسْقَاطِ مِثْلِ هَذَا التَّعْزِيرِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا: يُعَزَّرُ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ: أَصَحُّهُمَا: يُحَدُّ لِأَنَّ كَذِبَهُ فِي الْأَوَّلِ لَا يُوجِبُ كَذِبَهُ فِي الثَّانِي، فَوَجَبَ الْحَدُّ لِدَفْعِ الْعَارِ. وَهَلْ يُلَاعِنُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، لِظُهُورِ كَذِبِهِ بِالْحَدِّ. وَإِنْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِذَلِكَ الزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ، حُدَّ.

فَرْعٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا مَرَّتَيْنِ فَصَاعِدًا، فَإِنْ أَرَادَ زِنًا وَاحِدًا، فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ إِلَّا بِفَاحِشَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ حُدَّ مَرَّةً، فَأَعَادَ، عُزِّرَ لِلْإِيذَاءِ، وَلَا يُحَدُّ لِظُهُورِ كَذِبِهِ. وَإِنْ قَذَفَ بِزِنًا آخَرَ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتِ بِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ: زَنَيْتِ بِآخَرَ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ: يَجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ. وَالْقَدِيمُ الْآخَرُ: يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ. وَرَأَى ابْنُ كَجٍّ الْقَطْعَ بِحَدٍّ وَاحِدٍ، فَإِذَا قُلْنَا: حَدٌّ وَاحِدٌ، فَقَذَفَ فَحُدَّ، ثُمَّ قَذَفَ ثَانِيًا، فَهَلْ يُحَدُّ ثَانِيًا أَمْ يُعَزَّرُ لِظُهُورِ كَذِبِهِ بِالْحَدِّ الْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: الصَّحِيحُ مِنْهُمَا التَّعْزِيرُ. وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ مَرَّتَيْنِ فَصَاعِدًا بِزَنْيَتَيْنِ، فَفِي التَّعْدَادِ وَالِاتِّحَادِ هَذَا الْخِلَافُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالِاتِّحَادِ، كَفَى لِعَانٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّعَدُّدِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَعَدَّدُ اللِّعَانُ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْحَدِّ، وَأَصَحُّهُمَا: يَكْفِي لِعَانٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ يَمِينٌ، وَإِذَا كَانَ الْحَقَّانِ لِوَاحِدٍ، كَفَى يَمِينٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ فِي اللِّعَانِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزَّنْيَتَيْنِ. وَإِنْ سَمَّى الزَّانِيَيْنِ، ذَكَرَهُمَا فِي اللِّعَانِ، فَلَوْ وَقَعَ أَحَدُ الْقَذْفَيْنِ فِي الزَّوْجِيَّةِ، وَالْآخَرُ خَارِجَهَا، فَلَهُ صُورَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقْذِفَ أَجْنَبِيَّةً، ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ، ثُمَّ يَقْذِفَهَا. فَيُنْظَرُ إِنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا الْأَوَّلِ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا حَدٌّ، وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَفِي تَعَدُّدِ الْحَدِّ وَاتِّحَادِهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا بِزَنْيَتَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالتَّعَدُّدِ، لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا، لِأَنَّ الثَّانِي يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَصَارَا كَحَدَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا تَدَاخُلَ مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ أَرْجَحُ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمُتَابِعُوهُ. وَرَجَّحَ آخَرُونَ طَرِيقَةَ الْقَوْلَيْنِ، قَالُوا: وَمُوجَبُ الْقَذْفَيْنِ الْحَدُّ، وَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي طَرِيقِ الْخَلَاصِ مِنْهُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالِاتِّحَادِ، فَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، حُدَّ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًا، وَإِنْ لَاعَنَ لِلثَّانِي حُدَّ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُلَاعِنَ،

سَقَطَ اللِّعَانُ لِلثَّانِي، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَلَدٌ فَيُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ اللِّعَانُ لِمُجَرَّدِ غَرَضِ قَطْعِ النِّكَاحِ وَإِلْصَاقِ الْعَارِ بِهَا، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ قُلْنَا بِالتَّعَدُّدِ، فَإِنْ طَالَبَتْ أَوَّلًا لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا، سَقَطَ الْحَدَّانِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ حُدَّ. ثُمَّ إِذَا طَالَبَتْ لِلثَّانِي، فَأَقَامَ بَيِّنَةً أَوْ لَاعَنَ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ الثَّانِي، وَإِلَّا حُدَّ ثَانِيًا، وَإِنْ طَالَبَتْ أَوَّلًا بِالثَّانِي، فَأَقَامَ بَيِّنَةً، سَقَطَ الْحَدَّانِ، وَإِلَّا فَإِنْ لَاعَنَ، سَقَطَ الْحَدُّ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، حُدَّ لِلثَّانِي، ثُمَّ يُحَدُّ لِلْأَوَّلِ. وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِمَا جَمِيعًا، حُدَّ لِلْأَوَّلِ لِسَبْقِ وَجُوبِهِ، ثُمَّ لِلثَّانِي إِنْ لَمْ يُلَاعِنْ. وَإِنَّ حُدَّ فِي الْقَذْفِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَذَفَهَا فِي النِّكَاحِ وَلَمْ يُلَاعِنْ، حُدَّ ثَانِيًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يُحَدُّ لِلثَّانِي. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَمْ يَرْضَ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالُوا: يُحَدُّ ثَانِيًا إِذَا لَمْ يَلْتَعِنْ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ التَّعَدُّدِ، قَالُوا: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْذِفَ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ أَنْ يُحَدَّ لِلْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَهُ، فِي أَنَّهُ يُحَدُّ الثَّانِي إِذَا لَمْ يَلْتَعِنْ، لَكِنْ إِذَا كَانَ قَبْلَهُ، حُدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَرْعٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ أَبَانَهَا بِلَا لِعَانٍ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَإِنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ، ثُمَّ نَكَحَهَا، فَفِي حَدِّهِ لِلثَّانِي قَوْلَانِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً فَحُدَّ، ثُمَّ قَذَفَهَا ثَانِيًا، وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ حَدَّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ حَتَّى أَبَانَهَا، فَإِنْ لَاعَنَ لِلْأَوَّلِ، فَقِيلَ: يُحَدُّ لِلْأَوَّلِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، فَقِيلَ: يُحَدُّ حَدَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: حَدٌّ وَاحِدٌ. فَرْعٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْبِكْرَ فَلَمْ تُطَالِبْهُ حَتَّى فَارَقَهَا، وَنَكَحَتْ غَيْرَهُ وَوَطِئَهَا وَصَارَتْ مُحْصَنَةً، وَقَذَفَهَا الثَّانِي، ثُمَّ طَالَبَتْهُمَا، فَلَاعَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَامْتَنَعَتْ هِيَ مِنَ اللِّعَانِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الْأَوَّلِ زِنَا بِكْرٍ، وَبِلِعَانِ الثَّانِي زِنَا مُحْصَنَةٍ، وَفِيمَا عَلَيْهَا

فصل

وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الرَّجْمُ فَقَطْ، لِأَنَّ شَأْنَ الْحُدُودِ التَّدَاخُلُ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يَلْزَمُهَا الْجَلْدُ ثُمَّ الرَّجْمُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ التَّدَاخُلَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ، وَقَالَ: وَعَلَى هَذَا، لَوْ زَنَى الْعَبْدُ، ثُمَّ عَتَقَ، فَزَنَى قَبْلَ الْإِحْصَانِ، فَقِيلَ: عَلَيْهِ خَمْسُونَ جَلْدَةً لِزِنَاهُ فِي الرِّقِّ، وَمِائَةٌ لِزِنَاهُ فِي الْحُرِّيَّةِ، لِاخْتِلَافِ الْحَدَّيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً فَقَطْ، وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ زَنَى وَهُوَ حُرٌّ بِكْرٌ، فَجُلِدَ خَمْسِينَ، وَتُرِكَ لَعُذْرٍ، فَزَنَى مَرَّةً أُخْرَى، جُلِدَ مِائَةً، وَتَدَخُلُ الْخَمْسُونَ الْبَاقِيَةُ فِيهَا. وَلَوْ قَذَفَ شَخْصَيْنِ مُحْصَنًا وَغَيْرَهُ بِكَلِمَةٍ، وَقُلْنَا بِاتِّحَادِ الْحَدِّ، دَخَلَ التَّعْزِيرُ فِي الْحَدِّ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ. وَلَوْ كَانَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِكْرٌ فِي لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهَا حَدًّا وَاحِدًا، كَمَا لَوْ ثَبَتَ زِنَيَانِ، أَحَدُهُمَا: بِبَيِّنَةٍ، وَالْآخَرُ بِإِقْرَارٍ أَوْ كِلَاهُمَا بِالْبَيِّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: عَلَيْهَا حَدَّانِ، لِأَنَّ لِعَانَ كُلِّ وَاحِدٍ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، فَصَارَا كَجِنْسَيْنِ. فَصْلٌ إِذَا لَحِقَهُ نَسَبٌ بِمِلْكِ يَمِينٍ فِي مُسْتَوْلَدَةٍ، أَوْ أَمَةٍ مَوْطُوءَةٍ، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ بِاللِّعَانِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ: لَا يَنْتَفِي قَطْعًا لِإِمْكَانِ نَفْيِهِ بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الِاسْتِبْرَاءِ بَيَانُهُ مَعَ بَيَانِ أَنَّ الْأَمَةَ مَتَى تَصِيرُ فِرَاشًا لِسَيِّدِهَا، حَتَّى يَلْحَقَهُ وَلَدُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَاجلَى. وَلَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ، فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، ثُمَّ وَلَدَتْ، فَإِنْ كَانَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ، وَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ وَيَكُونُ اللِّعَانُ

بَعْدَ الِانْفِسَاخِ كَهُوَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالطَّلَاقِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ، أَوْ وَطِئَهَا وَوَلَدَتْهُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْوَطْءِ، نَظَرَ، إِنْ كَانَ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَأَقَلَّ مَنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ. فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ وَأَتَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، وَلِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الِاسْتِبْرَاءَ بَعْدَ الْوَطْءِ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَهَلْ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فِيهِ الطَّرِيقَانِ. وَإِنِ ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ بَعْدَهُ، فَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَتَلْغُو دَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَنُعِيدُهُ فِي آخِرِ بَابِ الِاسْتِبْرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَلْحَقُهُ أَيْضًا بِمِلْكِ النِّكَاحِ لِانْقِطَاعِ فِرَاشِ النِّكَاحِ بِفِرَاشِ الْمِلْكِ. وَقِيلَ: يَلْحَقُهُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ، وَلَا يَنْتَفِي إِلَّا بِلِعَانٍ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ، وَامْتِنَاعِ الْإِلْحَاقِ بِالْمِلْكِ، وَهَذَا شَاذٌّ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَيُقَالُ: إِنِ احْتَمَلَ كَوْنُهُ مِنَ النِّكَاحِ فَقَطْ، لَحِقَ بِهِ النِّكَاحُ، وَإِنِ احْتَمَلَ بِالْمِلْكِ فَقَطْ، لَحِقَ بِهِ، وَكَذَا إِنِ احْتَمَلَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَلَا إِلْحَاقَ، وَمَتَى وَقَعَ اللِّعَانُ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَهَلْ يُؤَبِّدُ التَّحْرِيمَ؟ وَجْهَانِ كَمَا لَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُؤَبِّدُهُ، فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُؤَبِّدُهُ، فَفِي حِلِّهَا (لَهُ) بِمِلْكِ الْيَمِينِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَاعَنَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، هَلْ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إِذَا اشْتَرَاهَا. وَالثَّانِي: لَا تَحِلُّ قَطْعًا لِغِلَظِ تَحْرِيمِهِ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ، فِي سَبَبِ اللِّعَانِ: وَهُوَ الْقَذْفُ أَوْ نَفْيُ الْوَلَدِ، فَمَتَى نَسَبَهَا إِلَى وَطْءٍ حَرَامٍ مِنْ جَانِبِهَا، أَوْ جَانِبِ الزَّانِي، فَقَدْ قَذَفَهَا. وَإِنْ نَسَبَهَا إِلَى زِنًا هِيَ عَلَيْهِ مُكْرَهَةٌ، أَوْ جَاهِلَةٌ، أَوْ نَائِمَةٌ، فَلَا حَدَّ لَهَا، وَيَجِبُ لَهَا التَّعْزِيرُ عَلَى الْأَصَحِّ

لِأَنَّ فِيهِ عَارًا وَإِيذَاءً، فَإِنْ كَانَ وَلَدٌ لَاعَنَ لِنَفْيِهِ، وَإِلَّا فَيُلَاعِنُ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ عَيَّنَ الزَّانِيَ فَقَالَ: زَنَى بِكِ فُلَانٌ وَأَنْتِ مُكْرَهَةٌ، أَوْ قَالَ: قَهَرَكِ فُلَانٌ فَزَنَى بِكِ، لَزِمَهُ الْحَدُّ لِقَذْفِهِ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، وَأَجْنَبِيَّةً بِكَلِمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِسْقَاطِ حَدِّ الْأَجْنَبِيَّةِ بِاللِّعَانِ، لِأَنَّ فِعْلَهَا يَنْفَكُّ عَنْ فِعْلِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْ فِعْلِ الزَّانِي بِهَا. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: وَطِئْتِ بِشُبْهَةٍ، فَفِي وُجُوبِ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِ لَهَا الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ نَسَبَهَا إِلَى الزِّنَا مُكْرَهَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَلَهُ اللِّعَانُ لَنَفْيِ التَّعْزِيرِ إِنْ أَوْجَبْنَاهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ وَلَدٌ، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي جَوَازِ اللِّعَانِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُلَاعِنْ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَلَمْ يُلَاعِنْ لِلْقَذْفِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْوَاطِئَ بِالشُّبْهَةِ، أَوْ عَيَّنَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، لَحِقَ الْوَلَدُ بِالنِّكَاحِ، وَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ وَادَّعَى الْوَلَدَ، عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ. فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، لَحِقَهُ وَلَا لِعَانَ، وَإِلَّا فَيَلْحَقُ الزَّوْجَ، وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ يَنْتَفِي بِهِ، وَهُوَ أَنْ يُلْحِقَهُ الْقَافَةُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَإِنَّمَا يُنْفَى بِاللِّعَانِ مَنْ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، تُرِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ فَيَنْتَسِبُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، انْقَطَعَ نَسَبُهُ عَنِ الزَّوْجِ بِلَا لِعَانٍ، وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الزَّوْجِ، فَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ بِغَيْرِ اللِّعَانِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتِ بِفُلَانٍ وَهُوَ غَيْرُ زَانٍ، بَلْ ظَنُّكَ زَوْجَتَهُ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهَا، فَلَهُ إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ، وَالْوَلَدُ الْمَنْسُوبُ إِلَى ذَلِكَ الْوَاطِئِ مَنْسُوبٌ إِلَى وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فُلَانٌ، عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي، فَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» حِكَايَةً تَرَدُّدٌ فِي جَوَازِ اللِّعَانِ، وَقَطَعَ

فصل

الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْفِرَاشِ، إِلَّا أَنْ يَسْنِدَ النَّفْيَ إِلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَيُلَاعِنَ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ اللِّعَانِ أَنْ يَقُولَ عَنِ الْقَذْفِ: رَأَيْتُهَا تَزْنِي، بَلْ لَوْ قَالَ: زَنَيْتِ أَوْ يَا زَانِيَةُ، أَوْ قَالَ وَهِيَ غَائِبَةٌ: فُلَانَةٌ زَانِيَةٌ، جَازَ اللِّعَانُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَدَّعِيَ اسْتِبْرَاءَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَوْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي قَذَفَهَا بِالزِّنَا فِيهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَيَنْفِيَ النَّسَبَ، قَالَ فِي «الْبَسِيطِ» : وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَأَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّفْيُ مَعَ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَوِّلَ الزَّوْجُ فِيهِ عَلَى أَمْرٍ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ كَعَزْلٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ. فَصْلٌ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ مُعَيَّنٍ، فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حَدٌّ أَمْ حَدَّانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ ذَكَرَ الرَّجُلَ فِي لِعَانِهِ، بِأَنْ قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا بِفُلَانٍ، سَقَطَ حَقُّهُ، كَمَا سَقَطَ حَقُّهَا، سَوَاءٌ أَوْجَبْنَا حَدًّا أَمْ حَدَّيْنِ، حَتَّى لَوْ قَذَفَهَا بِجَمَاعَةٍ وَذَكَرَهُمْ، سَقَطَ حَقُّ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الرَّجُلَ فِي لِعَانِهِ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَرَادَ إِسْقَاطَهُ، فَطَرِيقُهُ أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ وَيَذْكُرَهُ، وَلَوِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنَ اللِّعَانِ وَلَا بَيِّنَةَ، فَحُدَّ بِطَلَبِهَا ثُمَّ جَاءَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْحَدَّ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ، فَقَدِ اسْتَوْفَى، وَإِنْ قُلْنَا: حَدَّانِ اسْتُوفِيَ مِنْهُ حَدٌّ آخَرُ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. وَلَوِ ابْتَدَأَ رَجُلٌ بِطَلَبِ حَقِّهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ؟ لَهُ وَجْهَانِ وَقَدْ يُبْنَيَانِ عَلَى خِلَافٍ فِي أَنَّ حَقَّهُ

يَثْبُتُ أَصْلًا، أَمْ تَابِعًا لِحَقِّهَا؟ وَإِنْ عَفَا الرَّجُلُ عَنْ حَقِّهِ، أَوْ عَفَتْ هِيَ، فَلِلْآخَرِ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْوَاجِبُ حَدٌّ أَمْ حَدَّانِ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ: إِذَا قُلْنَا: حَقُّهُ تَابِعٌ، فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِمِثْلِهِ أَجَابَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، فِيمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الرَّجُلَ فِي لِعَانِهَا، وَقُلْنَا: لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فَطَالَبَ بِحَقِّهِ، وَامْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ إِعَادَةِ اللِّعَانِ، فَلَا يُحَدُّ سَوَاءٌ قُلْنَا: يَجِبُ لَهُمَا حَدٌّ أَمْ حَدَّانِ، لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَتَبَعَّضُ، وَلَا يَجِبُ بِاللِّعَانِ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الرَّجُلِ الْمَرْمِيِّ بِهِ بِحَالٍ. وَإِذَا لَاعَنَ لِإِسْقَاطِ حَدِّ الْمَرْمِيِّ بِهِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: قِيلَ: يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ، وَيَحْتَمِلُ خِلَافُهُ. فَرْعٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِزَيْدٍ، أَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيٌّ أَجْنَبِيًّا وَالْمَقْذُوفُ غَائِبٌ فَفِيهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ. أَحُدُهَا: يُسْتَحَبُّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى الْمَقْذُوفِ فَيُخْبِرَهُ بِالْحَالِ، لِيُطَالِبَ بِحَقِّهِ إِنْ شَاءَ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ. وَالثَّالِثُ: نَقَلَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ، وَنَصَّ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عِنْدَهُ رَجُلٌ بَدَيْنٍ لِزَيْدٍ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْلَامُهُ. وَأَنَّ لِلْأَصْحَابِ فِي النَّصَّيْنِ: ثَلَاثُ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: تَنْزِيلُ النَّصَّيْنِ عَلَى حَالَيْنِ إِنْ كَانَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ حَاضِرًا عَالِمًا بِالْحَالِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِخْبَارِهِ فِي النَّوْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ غَافِلًا عَمَّا جَرَى، وَجَبَ إِعْلَامُهُ لِئَلَّا يَضِيعَ حَقُّهُ. وَالثَّانِي: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، لِأَنَّ الْإِمَامَ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِخِلَافِ الْمَالِ. وَالثَّالِثُ: جَعْلُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَكَيْفَمَا كَانَ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ إِخْبَارِ الْمَقْذُوفِ.

فصل

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي «مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ» : وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إِذَا رُمِيَ رَجُلٌ بِزِنًا أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَمُتَأَوَّلٌ. قِيلَ: الْمُرَادُ: لَا يَسْأَلُهُ، هَلْ زَنَيْتَ؟ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الرَّامِي أَوِ الْمَرْمِيُّ مُعَيَّنًا، بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ: النَّاسُ يَقُولُونَ: زَنَى فُلَانٌ، أَوْ قَالَ: زَنَى فِي هَذِهِ الْمَحَلَّةِ رَجُلٌ، أَوْ رُمِيَ بِحَجَرٍ، فَقَالَ: مَنْ رَمَانِي بِهِ فَهُوَ زَانٍ، وَهُوَ لَا يَدْرِي مَنْ رَمَاهُ بِهِ. قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: الْمُرَادُ: إِذَا رَمَاهُ تَعْرِيضًا لَا تَصْرِيحًا، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، الْمُرَادُ: إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِمُعَيَّنٍ وَلَاعَنَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعْلَامِهِ سَوَاءٌ ذَكَرَهُ فِي اللِّعَانِ، أَمْ لَا، وَقُلْنَا: يَسْقُطُ حَدُّهُ لَهُ، أَوْ لَا يَسْقُطُ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يُخْبِرُهُ وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ سَتُطَالِبُ، وَمُطَالَبَتُهَا تَكْفِي عَنْ مُطَالَبَتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيًّا. فَصْلٌ إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً، فَهُمْ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَحَّضُوا أَجَانِبَ أَوْ زَوْجَاتٍ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِنَ الصِّنْفَيْنِ، الْأَوَّلُ: الْمُتَمَحِّضُونَ، فَإِمَّا أَنْ يَقْذِفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ، وَإِمَّا بِكَلِمَةٍ، فَهُمَا حَالَانِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَقْذِفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَإِنْ كُنَّ زَوْجَاتٍ، أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ بِلِعَانٍ، وَيَكُونُ اللِّعَانُ عَلَى تَرْتِيبِ قَذْفِهِنَّ، فَلَوْ لَاعَنَ عَنْهُنَّ لِعَانًا وَاحِدًا، لَمْ يَكْفِ عَنِ الْجَمِيعِ، لَكِنْ، إِنْ سَمَّاهُنَّ، حُسِبَ عَنِ الَّتِي سَمَّاهَا أَوَّلًا، وَإِنْ أَشَارَ إِلَيْهِنَّ فَقَطْ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقْذِفَهُمْ بِكَلِمَةٍ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتُمْ، أَوْ أَنْتُمْ زُنَاةٌ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدًّا، وَالْقَدِيمُ: لَا يَجِبُ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، فَعَلَى هَذَا، إِنْ حَضَرَ وَاحِدٌ وَطَلَبَ الْحَدَّ، حُدَّ لَهُ، وَسَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ. وَلَوْ قَالَ: يَابْنَ الزَّانِيَيْنِ، فَهُوَ قَذْفٌ لِأَبَوَيِ الْمُخَاطَبِ بِكَلِمَةٍ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، وَإِنْ قَالَ لِنِسْوَتِهِ الْأَرْبَعِ: زَنَيْتُنَّ، فَالْحَدُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ اللِّعَانَ، فَإِنْ

قُلْنَا: يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ؛ تَعَدَّدَ اللِّعَانُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَّحِدُ الْحَدُّ، فَفِي اللِّعَانِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَتَعَدَّدُ، لِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ، وَالْأَيْمَانُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِحُقُوقِ جَمَاعَةٍ لَا تَتَدَاخَلُ. وَالثَّانِي: يَكْفِي لِعَانٌ يَجْمَعُهُنَّ فِيهِ، بِالِاسْمِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ إِنِ اكْتَفَيْنَا بِهَا، وَإِذَا قُلْنَا بِالتَّعَدُّدِ، فَرَضِينَ بِلِعَانٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَنْفَعْ كَمَا لَوْ رَضِيَ الْمُدَّعُونَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يُلَاعِنُ عَنْهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي يَتَّفِقْنَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَنَازَعْنَ فِي الِابْتِدَاءِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ، فَإِنْ قَدَّمَ الْحَاكِمُ وَاحِدَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَجَوْتُ أَنْ لَا يَأْثَمَ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ تَفْضِيلَ بَعْضِهِنَّ وَيُجَنَّبُ الْمَيْلُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاتِّحَادِ، فَذَلِكَ إِذَا تَوَافَقْنَ عَلَى الطَّلَبِ، أَوْ لَمْ نَشْتَرِطْ طَلَبَهُنَّ، أَمَّا إِذَا شَرَطْنَاهُ وَانْفَرَدَ بَعْضُهُنَّ بِالطَّلَبِ، فَلَاعَنَ، ثُمَّ طَلَبَ الْبَاقِيَاتُ، احْتَاجَ إِلَى اللِّعَانِ، وَحَصَلَ التَّعَدُّدُ. وَإِذَا لَاعَنَ عَنْهُنَّ، لَزِمَهُنَّ الْحَدُّ، فَمَنْ لَاعَنَتْ، سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ، وَمَنِ امْتَنَعَتْ حُدَّتْ، وَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ، كَفَاهُ حَدٌّ وَاحِدٌ عَلَى قَوْلِنَا بِالِاتِّحَادِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِزِنَا وَاحِدٍ. فَإِنْ قَيَّدَ، بِأَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ: زَنَيْتِ بِفُلَانٍ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي تَعَدُّدِ الْحَدِّ وَاتِّحَادِهِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالِاتِّحَادِ لِأَنَّهُ رَمَاهُمَا بِفَاحِشَةٍ وَاحِدَةٍ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِنَ الصِّنْفَيْنِ، بِأَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهَ وَأَجْنَبِيَّةً، نُظِرَ إِنْ كَانَ بِكَلِمَتَيْنِ، فَعَلَيْهِ حَدَّانِ، فَإِنْ لَاعَنَ عَنْ زَوْجَتِهِ، سَقَطَ حَدُّهَا، وَبَقِيَ حَدُّ الْأَجْنَبِيَّةِ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ، أَوْ زَنَيْتِ وَزَنَتْ أُمُّكِ، فَعَلَيْهِ حَدَّانِ لَهُمَا، فَإِنْ حَضَرَتَا مَعًا وَطَلَبَتَا الْحَدَّيْنِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: يُبْدَأُ بِحَدِّ الْأُمِّ، لِأَنَّ حَقَّهَا أَقْوَى، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ. وَالثَّانِي: يُبْدَأُ بِالْبِنْتِ لِسَبْقِهَا. وَالثَّالِثُ: يُقْرَعُ. وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ، قُدِّمَتِ الْبِنْتُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُقْرَعُ. وَلَوْ قَالَ لِأُمِّ زَوْجَتِهِ: يَا زَانِيَةُ أُمَّ

فصل

الزَّانِيَةِ، قُدِّمَتِ الْأُمُّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُقْرَعُ. وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً بِكَلِمَةٍ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتُمَا، أَوْ أَنْتُمَا زَانِيَتَانِ، وَلَمْ يُلَاعِنْ لِلزَّوْجَةِ، فَفِي تَعَدُّدِ الْحَدِّ وَاتِّحَادِهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالتَّعَدُّدِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ، فَإِنَّ حَدَّ الزَّوْجَةِ يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالِاتِّحَادِ، فَجَاءَتِ الْأَجْنَبِيَّةُ مُطَالِبَةً، فَحُدَّ لَهَا، سَقَطَ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ فِي الزَّوْجَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ. وَإِنْ لَاعَنَ لِلزَّوْجَةِ، حُدَّ لِلْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنْ عَفَتْ إِحْدَاهُمَا، حُدَّ لِلْأُخْرَى إِذَا طَلَبَتْ بِلَا خِلَافٍ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ شَاذٌّ، أَنَّ قَوْلَهُ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتُمَا زَانِيَتَانِ، وَمَتَى وُجِدَ حَدَّانِ لِوَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ وَأُقِيمَ أَحَدُهُمَا، أُمْهِلَ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ جِلْدُهُ، ثُمَّ يُقَامُ الثَّانِي. فَصْلٌ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا قَذَفَهَا، فَلَهُ فِي الْجَوَابِ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ تَسْكُتَ فَيُقِيمَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَيَقُولَ فِي لِعَانِهِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا أَثْبَتَتْ عَلَيَّ مِنْ رَمْيِيَ إِيَّاهَا بِالزِّنَا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ: لَا يَلْزَمُنِي الْحَدُّ، فَيُقِيمُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَهُ اللِّعَانُ أَيْضًا. الثَّالِثُ: أَنْ يُنْكِرَ الْقَذْفَ، فَيُقِيمَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، ثُمَّ يُرِيدَ اللِّعَانَ، فَإِنْ أَوَّلَ إِنْكَارَهُ، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ مَا رَمَيْتُهَا بِهِ لَيْسَ بِقَذْفٍ بَاطِلٍ، بَلْ هُوَ صِدْقٌ، أَوْ أَنْشَأَ فِي الْحَالِ قَذْفًا آخَرَ، فَلَهُ اللِّعَانُ، لِأَنَّ مَنْ كَرَّرَ الْقَذْفَ كَفَاهُ لِعَانٌ وَاحِدٌ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ تَأْوِيلًا وَلَا أَنْشَأَ، فَلَهُ اللِّعَانُ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ لِاحْتِمَالِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ: مَا قَذَفْتُكِ وَمَا زَنَيْتِ، فَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ، حُدَّ وَلَا لِعَانَ، لِأَنَّهُ شَهِدَ بِعِفَّتِهَا، فَكَيْفَ يُحَقِّقُ زِنَاهَا بِلِعَانِهِ؟ ! وَلَيْسَ لَهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى

فصل

زِنَاهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ الشُّهُودَ بِقَوْلِهِ: وَمَا زَنَيْتِ. وَلَوْ أَنْشَأَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَذْفًا، فَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِجَوَازِ اللِّعَانِ. قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا مَضَى بَعْدَ الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ زَمَنٌ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الزِّنَا فِيهِ، وَإِلَّا فَيُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ بِبَرَاءَتِهَا، وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ. وَإِذَا لَاعَنَ، فَفِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَجْهَانِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي «الْوَجِيزِ» : الْقَطْعُ بِسُقُوطِهِ. فَرْعٌ لَوِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنَ اللِّعَانِ فَعُرِضَ الْحَدُّ، أَوِ اسْتَوْفَى مِنْهُ بَعْضَ الْجَلَدَاتِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، مُكِّنَ، وَإِذَا لَاعَنَ، سَقَطَ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنَ الْحَدِّ كَمَا لَوْ بَدَا لَهُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ الْبَيِّنَةَ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ اللِّعَانِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ، مُكِّنَتْ مِنْهُ، وَسَقَطَ عَنْهَا مَا بَقِيَ مِنَ الْحَدِّ. وَلَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِتَمَامِهِ ثُمَّ أَرَادَ اللِّعَانَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَلَدٌ مِنْهُ، لَاعَنَ لِنَفْيِهِ، وَإِلَّا فَلَا. فَصْلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، أَنَّ عَلَيْهِ التَّعْزِيرَ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفَصَّلَ الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: يُؤْمَرُ بِبَيَانِ الصِّغَرِ، فَإِنْ ذَكَرَ سِنًّا لَا يُحْتَمَلُ الْوَطْءُ كَثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعٍ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ وَيُعَزَّرُ لِلسَّبِّ وَالْإِيذَاءِ، وَلَا لِعَانَ، كَمَا سَبَقَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا لِعَانَ فِيهِ. وَإِنْ ذَكَرَ سِنًّا يَحْتَمِلُهُ، كَعَشْرِ سِنِينَ، فَهُوَ قَذْفٌ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ مَجْنُونَةٌ، أَوْ مُشْرِكَةٌ، أَوْ أَمَةٌ، فَإِنْ عُرِفَتْ لَهَا هَذِهِ الْأَحْوَالُ، أَوْ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَلَا حَدَّ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ

بِاللِّعَانِ، وَإِنْ عُرِفَ وِلَادَتُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَسَلَامَةِ عَقْلِهَا، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ: التَّعْزِيرُ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا تِلْكَ الْحَالَةُ، كَانَ قَوْلُهُ كَذِبًا وَمُحَالًا، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ رَتْقَاءُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِنْ حَالَهَا وَاخْتَلَفَا، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: هِيَ، فَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ، وَوَجَبَ التَّعْزِيرُ. وَالثَّانِي: هُوَ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ وَحُدَّ، وَيَجِيءُ الْقَوْلَانِ فِيمَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنْتِ أَمَةٌ فِي الْحَالِ، فَقَالَتْ: بَلْ حُرَّةٌ، وَلَا يَجِيئَانِ فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ كَافِرَةٌ فِي الْحَالِ، فَقَالَتْ: بَلْ مُسْلِمَةٌ، لِأَنَّهَا إِذَا قَالَتْ: أَنَا مُسْلِمَةٌ حُكِمَ بِإِسْلَامِهَا. وَلَوْ قَالَتْ: أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ لِي: زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ قَذْفِي فِي الْحَالِ، وَوَصْفِي بِالصِّغَرِ فِي الْحَالِ، وَلَمْ تُرِدِ الْقَذْفَ بِزِنًا فِي الصِّغَرِ، أَوْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ مَجْنُونَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ، فَأَقَرَّتْ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَقَالَتْ: أَرَدْتَ الْقَذْفَ فِي الْحَالِ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ أَطْلَقَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَا، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ فِي الصِّغَرِ أَوِ الْجُنُونِ، أَوِ الْكُفْرِ، أَوِ الرِّقِّ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، سَوَاءٌ عَهِدَ لَهَا ذَلِكَ الْحَالَ أَمْ لَا. فَإِنْ قَالَ: هِيَ تَعْلَمُ أَنِّي أَرَدْتُ هَذَا، حَلَفَتْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَحُدَّ لَهَا. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: إِنْ عَهِدَ تِلْكَ الْحَالَ، قُبِلَ وَعُزِّرَ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي كَيْفِيَّةِ اللِّعَانِ: وَفِيهِ فُصُولٌ. الْأَوَّلُ: فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ وَهِيَ خَمْسٌ: أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي مِنَ الزِّنَا، وَيُسَمِّيهَا وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهَا بِحَيْثُ تَتَمَيَّزُ إِنْ كَانَتْ غَائِبَةً عَنِ الْمَجْلِسِ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، أَنَّهُ يَرْفَعُ فِي نَسَبِهَا بِحَيْثُ تَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ زَوْجَاتِهِ إِنْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا، فَقَدْ يُشْعِرُ هَذَا بِالِاسْتِغْنَاءِ بِقَوْلِهِ: فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي عَنِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ

تَحْتَهُ غَيْرُهَا. فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً عِنْدَهُ أَشَارَ إِلَيْهَا، وَهَلْ يَحْتَاجُ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى التَّسْمِيَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَسَائِرِ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّ اللِّعَانَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالتَّغْلِيظِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ: لَا يُكْتَفَى فِي الْحَاضِرَةِ بِالتَّسْمِيَةِ وَرَفْعِ النَّسَبِ حَتَّى تُضَمَّ إِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: إِنَّ عَلَيَّ لَعْنَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَيُعَرِّفُهَا فِي الْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ كَمَا فِي الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ كَانَ وَلَدٌ يَنْفِيهِ ذَكَرَهُ فِي الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ، فَيَقُولُ: وَإِنَّ الْوَلَدَ الَّذِي وَلَدَتْهُ، أَوْ هَذَا الْوَلَدَ مِنَ الزِّنَا وَلَيْسَ هُوَ مِنِّي. وَإِنْ قَالَ: هُوَ مِنْ زِنًا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، كَفَى عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ مِنِّي، لَمْ يَكْفِ عَلَى الصَّحِيحِ لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ عَدَمِ الشَّبَهِ، وَلَوْ أَغْفَلَ ذِكْرَ الْوَلَدِ فِي بَعْضِ الْكَلِمَاتِ، احْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ اللِّعَانِ لِنَفْيِهِ، وَلَا تَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إِلَى إِعَادَةِ لِعَانِهَا عَلَى لِعَانِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ تَخْرِيجَ قَوْلٍ فِيهِ. وَصِفَةُ لِعَانِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَقُولَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَقُولَ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ، وَالْقَوْلُ فِي تَعْرِيفِهِ غَائِبًا وَحَاضِرًا، كَمَا ذَكَرْنَا فِي جَانِبِهَا، وَلَا تَحْتَاجُ هِيَ إِلَى ذِكْرِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ لِعَانَهَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ. وَلَوْ تَعَرَّضَتْ لَهُ، لَمْ يَضُرَّ، وَفِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» لِلْقَاضِي الرُّويَانِيِّ أَنَّ الْقَفَّالَ حَكَى وَجْهًا ضَعِيفًا أَنَّهَا تَذْكُرُهُ، فَتَقُولُ: هَذَا الْوَلَدُ وَلَدُهُ لِيَسْتَوِيَ اللِّعَانَانِ. فَرْعٌ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ إِلَّا إِذَا تَمَّتِ الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِالْفُرْقَةِ بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ، لِأَنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يُنَفَّذُ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ.

فَرْعٌ لَوْ قَالَ بَدَلَ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ أُؤْلِي بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، أَوْ قَالَ: بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ أَبْدَلَ لَفْظَ اللَّعْنِ بِالْإِبْعَادِ، أَوْ لَفْظَ الْغَضَبِ بِالسُّخْطِ، أَوِ الْغَضَبِ بِاللَّعْنِ أَوْ عَكْسَهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا فِي إِبْدَالِ الْغَضَبِ بِاللَّعْنِ، وَلَا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى: بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَيُشْتَرَطُ تَأْخِيرُ لَفْظَتَيِ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ عَنِ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيُؤْثَرُ الْفَصْلُ الطَّوِيلُ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ فِي لِعَانِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَأْمُرَ الْحَاكِمُ بِهِ، فَيَقُولَ لِلْمُلَاعِنِ: قُلْ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ. . . إِلَى آخِرِهَا. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ كَوْنُ لِعَانِهَا بَعْدَ لِعَانِ الرَّجُلِ. فَرْعٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَخْرِسِ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، وَلَا كِتَابَةٌ، لَمْ يَصِحَّ قَذْفُهُ وَلَا لِعَانُهُ، وَلَا سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، أَوْ كِتَابَةٌ، صَحَّ قَذْفُهُ وَلِعَانُهُ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ، وَفِي الشَّامِلِ وَغَيْرِهِ، التَّصْرِيحُ بِهِ أَنَّهُ يَصِحُّ لِعَانُهُ بِالْإِشَارَةِ وَحْدَهَا، وَبِالْكِنَايَةِ وَحْدَهَا، وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي، أَنَّهُ إِذَا لَاعَنَ بِالْإِشَارَةِ، أَشَارَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ بِكَلِمَةِ اللَّعْنِ، وَإِنْ لَاعَنَ بِالْكِتَابَةِ، كَتَبَ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَكَلِمَةَ اللَّعْنِ، وَيُشِيرُ إِلَى كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا الطَّرِيقُ الْآخَرُ

جَمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَهُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنْ مُقْتَضَى التَّصْحِيحِ بِالْكِتَابَةِ الْمُجَرَّدَةِ تَكْرِيرُ كِتَابَةِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي «الْوَجِيزِ» : عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ مَعَ الْإِشَارَةِ أَوْ يُورِدَ اللَّفْظَ عَلَيْهِ نَاطِقٌ فَيُشِيرَ بِالْإِجَابَةِ - فَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ، لَكَانَ قَرِيبًا، وَحَكَاهُ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَوْ لَاعَنَ الْأَخْرَسُ بِالْإِشَارَةِ، ثُمَّ عَادَ نُطْقُهُ وَقَالَ: لَمْ أُرِدِ اللِّعَانَ بِإِشَارَتِي، قُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ، فَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَالْحَدُّ، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا لَهُ، فَلَا تَرْتَفِعُ الْفُرْقَةُ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، وَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ فِي الْحَالِ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ، وَلَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ إِنْ لَمْ يَفُتْ زَمَنُ النَّفْيِ. وَلَوْ قَالَ: لَمْ أُرِدِ الْقَذْفَ أَصْلًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَوْ قَذَفَ نَاطِقٌ، ثُمَّ عَجَزَ عَنِ الْكَلَامِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَالُ مَا بِهِ، فَهُوَ كَالْأَخْرَسِ، وَإِنْ رُجِيَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحُدُهَا: لَا يَنْتَظِرُ، بَلْ يُلَاعِنُ بِالْإِشَارَةِ لِحُصُولِ الْعَجْزِ، وَرُبَّمَا مَاتَ فَلَحِقَهُ نَسَبٌ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: يَنْتَظِرُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَنْتَظِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ صَحَّحُوهُ. وَعَلَى هَذَا، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَنْتَظِرُ، وَإِلَّا فَلَا يَنْتَظِرُ أَصْلًا. فَرْعٌ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، يُلَاعِنُ بِلِسَانِهِ، وَيُرَاعِي تَرْجَمَةَ الشَّهَادَةِ وَاللَّعْنِ وَالْغَضَبِ، فَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ اللِّعَانُ بِهَا، أَمْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بِأَيِّ لِسَانٍ شَاءَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَإِذَا لَاعَنَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يُحْسِنُ تِلْكَ اللُّغَةَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مُتَرْجِمٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَهُ أَرْبَعَةٌ مِمَّنْ يُحْسِنُهَا، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ مُتَرْجِمِينَ، وَيَكْفِيَانِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهَا تُلَاعِنُ لِنَفْيِ الزِّنَا لَا لِإِثْبَاتِهِ. وَفِي جَانِبِ الرَّجُلِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالِاكْتِفَاءِ بِاثْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ سَلَمَةَ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، أَمْ يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ؟ وَالْأَظْهَرُ ثُبُوتُهُ بِشَاهِدَيْنِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي التَّغْلِيظَاتِ. فَمِنْهَا: التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ، بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبٌ أَكِيدٌ، فَلْيُؤَخَّرْ إِلَى عَصْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهَا: التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ، بِأَنْ يُلَاعِنَ فِي أَشْرَفِ مَوَاضِعِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالْمَقَامِ. وَقَدْ يُقَالُ: بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: فِي الْحِجْرِ. وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْجَامِعِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. وَقِيلَ: لَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَيُلَاعِنُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ، وَهُوَ الْكَنِيسَةُ لِلْيَهُودِ، وَالْبَيْعَةُ لِلنَّصَارَى، وَهَلْ يَأْتِي الْحَاكِمُ بَيْتَ النَّارِ فِي لِعَانِ الْمَجُوسِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا، بَلْ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَلَا يَأْتِي بَيْتَ الْأَصْنَامِ فِي لِعَانِ الْوَثَنِيِّينَ، لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَاعْتِقَادُهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، بِخِلَافِ الْمَجُوسِ، بَلْ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ. وَصُوْرَتُهُ أَنْ يَدْخُلُوا دَارَنَا بِأَمَانٍ أَوْ هُدْنَةٍ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا وَهِيَ ذِمِّيَّةً، لَاعَنَ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهِيَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُعَظِّمُهُ. فَإِنْ قَالَتْ: أُلَاعِنُ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَضِيَ بِهِ الزَّوْجُ، جَازَ، وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَلَاعَنَ الذِّمِّيَّانِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَمِنْهَا التَّغْلِيظُ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ وَصُلَحَائِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ، وَأَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ. وَمِنْهَا التَّغْلِيظُ بِاللَّفْظِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي «الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ فِي وُجُوبِ التَّغْلِيظِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَاسْتِحْبَابِهِ، طُرُقٌ، وَالْمَذْهَبُ الِاسْتِحْبَابُ فِي الْجَمِيعِ. فَرْعٌ مَنْ لَا يَنْتَحِلُ دِينًا، كَالدَّهْرِيِّ، وَالزِّنْدِيقِ، هَلْ يُغَلَّظُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؟ وَجْهَانِ.

أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَيُلَاعِنُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُ لَا يُعَظِّمُ بُقْعَةً وَلَا زَمَانًا، فَلَا يَنْزَجِرُ. وَيُسْتَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ فِي التَّحْلِيفِ: قُلْ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَرَزَقَكَ، لِأَنَّهُ وَإِنْ غَلَا فِي كُفْرِهِ، فَيَجِدُ نَفْسَهُ مُذْعِنَةً لِخَالِقٍ وَمُدَبِّرٍ. فَرْعٌ الْحَائِضُ تُلَاعِنُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، وَيَخْرُجُ الْحَاكِمُ إِلَيْهَا أَوْ يَبْعَثُ نَائِبًا. وَالْمُشْرِكُ وَالْمُشْرِكَةُ يُمَكَّنَانِ مِنَ اللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ اللِّعَانُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى حُضُورِ الْحَاكِمِ، فَلَوْ حَكَّمَ الزَّوْجَانِ فِيهِ رَجُلًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْمَالِ، لَمْ يَجُزْ فِي اللِّعَانِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا وَيُرْضَى بِحُكْمِهِ. قَالَ: وَلَوْ قَذَفَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ، وَطَلَبَتِ الْحَدَّ، فَفِي تَوَلِّي السَّيِّدِ اللِّعَانَ خِلَافٌ بِنَاءً عَلَى إِقَامَتِهِ الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ وَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ إِنْ جَوَّزْنَاهَا تَوَلَّى اللِّعَانَ، وَزَوْجُ الْأَمَةِ إِذَا قَذَفَهَا وَلَاعَنَ، هَلْ يَتَوَلَّى سَيِّدُهَا لِعَانَهَا؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي السُّنَنِ. مِنْهَا: أَنْ يُخَوِّفَهُمَا الْقَاضِي بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيَعِظَهُمَا وَيَقُولَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا. . . .) الْآيَةَ. وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ؟ . وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ، بَالَغَ فِي تَخْوِيفِهِ وَتَحْذِيرِهِ، وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ لَعَلَّهُ يَنْزَجِرُ، وَتَضَعُ امْرَأَةٌ يَدَهَا عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ إِذَا بَلَغَتْ كَلِمَةَ الْغَضَبِ، فَإِنْ أَبَيَا إِلَّا الْمُضِيَّ، لَقَّنَهُمَا الْخَامِسَةَ.

فصل

وَمِنْهَا: أَنْ يَتَلَاعَنَا مِنْ قِيَامٍ، وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُلَاعِنُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: يُلَاعِنُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَلِلْأَصْحَابِ فِي صُعُودِ الْمُلَاعِنِ الْمِنْبَرَ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَصْعَدُ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَثُرَ الْقَوْمُ، صَعِدَهُ لِيَرَوْهُ، وَإِلَّا فَعِنْدَهُ. وَطَرَدَ الْمُتَوَلِّي الْخِلَافَ فِي صُعُودِ الْمِنْبَرِ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ. الطَّرَفُ الْخَامِسُ: فِي أَحْكَامِ اللِّعَانِ. قَدْ سَبَقَ أَكْثَرُهَا فِي ضِمْنِ مَا تَقَدَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يُجْبَرُ عَلَى اللِّعَانِ بَعْدَ الْقَذْفِ، بَلْ لَهُ الِامْتِنَاعُ، وَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ لَا تُجْبَرُ عَلَى اللِّعَانِ بَعْدَ لِعَانِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ. أَحُدُهَا: حُصُولُ الْفُرْقَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، سَوَاءٌ صُدِّقَتْ أَمْ صُدِّقَ. وَقِيلَ: إِنْ صُدِّقَتْ لَمْ تَحْصُلْ بَاطِنًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهِيَ فُرْقَةُ فَسْخٍ. الثَّانِي: تَأَبَّدُ التَّحْرِيمِ. الثَّالِثُ: سُقُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ. الرَّابِعُ: وُجُوبُ الزِّنَا عَلَيْهَا. الْخَامِسُ: انْتِفَاءُ النَّسَبِ إِذَا نَفَاهُ بِاللِّعَانِ. قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَتْ أَحْكَامٌ أُخَرُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَحْكَامُ تَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الزَّوْجِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى لِعَانِهَا، وَلَا قَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا إِلَّا دَفْعُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ، وَثُبُوتُ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِلِعَانِ الْمَرْأَةِ إِلَّا سُقُوطُ حَدِّ الزِّنَا عَنْهَا. وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا، لَمْ تُلَاعِنْ لِدَفْعِ الْحَدِّ، لِأَنَّ اللِّعَانَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، فَلَا تُقَاوِمُ الْبَيِّنَةَ. فَصْلٌ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ فِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: إِنَّمَا تَحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ الْوَلَدِ إِذَا لَحِقَهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ لَمْ

يُمْكِنْ كَوْنُهُ مِنْهُ، انْتَفَى بِلَا لِعَانٍ، وَلِعَدَمِ الْإِمْكَانِ صُورٌ. مِنْهَا: أَنْ تَلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ. وَمِنْهَا: أَنْ تَطُولَ الْمَسَافَةُ كَالْمَشْرِقِيِّ مَعَ الْمَغْرِبِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَعَ صُوَرٍ أُخْرَى، وَوَرَاءَهَا صُورَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَوَّلُ زَمَانِ إِمْكَانِ إِحْبَالِ الصَّبِيِّ، هَلْ هُوَ نِصْفُ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ، أَمْ كَمَالُهَا، أَمْ نِصْفُ الْعَاشِرَةِ، أَمْ كَمَالُهَا؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: الثَّانِي. فَإِذَا وَلَدَتْ زَوْجَتُهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَسَاعَةٍ تَسَعُ الْوَطْءَ بَعْدَ زَمَنِ الْإِمْكَانِ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَإِلَّا فَيَنْتَفِي بِلَا لِعَانٍ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ بِالْإِمْكَانِ، لَمْ نَحْكُمْ بِالْبُلُوغِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ بِالِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ الْبُلُوغِ، لَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنَا بَالِغٌ بِالِاحْتِلَامِ، فَلَهُ اللِّعَانُ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا صَبِيٌّ، لَمْ يَصِحَّ. فَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَنَا بَالِغٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَيُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: أَنَا بَالِغٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنَا صَبِيٌّ، لِلتُّهْمَةِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ لَمْ يَسْلَمْ ذَكَرُهُ وَأُنْثَيَاهُ، لَهُ أَحْوَالٌ. أَحُدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَمْسُوحًا فَاقِدَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، فَيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوَلَدُ بِلَا لِعَانٍ، لِأَنَّهُ لَا يُنْزِلُ، وَفِي قَوْلٍ: يَلْحَقُهُ. وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَالصَّيْدَلَانِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَاقِيَ الْأُنْثَيَيْنِ دُونَ الذَّكَرِ، فَيَلْحَقُهُ قَطْعًا. الثَّالِثُ: عَكْسُهُ، فَيَلْحَقُهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا، وَقِيلَ: إِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: لَا يُولَدُ لَهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ، وَإِلَّا فَيَلْحَقُهُ. وَمَتَى بَقِيَ قَدْرُ الْحَشَفَةِ مِنَ الذَّكَرِ، فَهُوَ كَالذَّكَرِ السَّلِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرْنَا فِيمَا لَوْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ قَذَفَهَا وَهُنَاكَ حَمْلٌ وَأَرَادَ اللِّعَانَ لِنَفْيِهِ، أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَجُوزُ قَطْعًا. فَلَوْ لَاعَنَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ، جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَلَوِ اسْتَلْحَقَ الْحَمْلَ، لَحِقَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

الثَّالِثَةُ: وَلَدَتْ زَوْجَتُهُ تَوْأَمَيْنِ، فَنَفَى أَحَدَهُمَا، أَوْ نَفَاهُمَا، ثُمَّ اسْتَلْحَقَ أَحَدَهُمَا، لَحِقَهُ الْوَلَدَانِ. وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ، فَنَفَاهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِاللِّعَانِ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ، فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ يَكُونُ سِتَّةٌ فَأَكْثَرُ. فَإِنْ كَانَ دُونَهَا، فَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ نَفَى الثَّانِيَ بِلِعَانٍ آخَرَ، انْتَفَى أَيْضًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي اللِّعَانِ الثَّانِي إِلَى ذِكْرِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَةِ لِعَانِهَا، وَإِنْ لَمْ تَنْفِ الثَّانِيَ، بَلِ اسْتَلْحَقَهُ أَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ مَعَ إِمْكَانِهِ، لَحِقَاهُ جَمِيعًا. فَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ، لَزِمَهُ لَهَا حَدُّ الْقَذْفِ، كَمَا لَوْ كَذَّبَ نَفْسَهُ. وَإِنْ سَكَتَ فَلَحِقَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنَاقِضْ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ، وَاللُّحُوقُ حُكْمُ الشَّرْعِ. وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ لَاعَنَ فِي الْبَيْنُونَةِ، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَسَوَاءٌ اسْتَلْحَقَ الثَّانِيَ صَرِيحًا أَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ فَلَحِقَاهُ، لَزِمَهُ الْحَدُّ. وَالْفَرْقُ أَنَّ اللِّعَانَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ. فَإِذَا لَحِقَ النَّسَبُ، لَمْ يَبْقَ لِلِّعَانِ حُكْمٌ فَحَدٌّ. وَفِي صُلْبِ النِّكَاحِ لَهُ أَحْكَامٌ. فَإِذَا لَحِقَ النَّسَبُ، لَا يَرْتَفِعُ فَلَمْ يُحَدَّ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَالثَّانِي حَمْلٌ آخَرُ. فَإِنْ نَفَاهُ بِاللِّعَانِ، انْتَفَى أَيْضًا. وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ، أَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ، لَحِقَهُ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهَا بَانَتْ بِاللِّعَانِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ فَعَلَّقَتْ قَبْلَ اللِّعَانِ، فَتَكُونُ حَامِلًا حَالَ الْبَيْنُونَةِ، فَتَصِيرُ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا. إِذَا وَلَدَتْ لِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ لِلْمُطَلِّقِ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا حَامِلًا وَقْتَ الطَّلَاقِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ لُحُوقِ الثَّانِي لُحُوقُ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُمَا حَمْلَانِ، فَلَا يَلْحَقُهُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُحُوقِ الثَّانِي إِذَا لَمْ يَنْفِهِ، هُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ فِي الْمُهَذَّبِ: يَنْتَفِي الثَّانِي بِلَا لِعَانٍ

لِحُدُوثِهِ بَعْدَ الْفِرَاشِ، وَهَذَا لَيْسَ وَجْهًا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوٌ وَتَوْجِيهُهُ مَمْنُوعٌ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا لَاعَنَ عَنِ الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ ثُمَّ أَتَتْ بِآخَرَ، فَلَوْ لَاعَنَ عَنْ حَمْلٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ إِذَا جَوَّزْنَاهُ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَالثَّانِي مَنْفِيٌّ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَاعَنَ عَنِ الْحَمْلِ، وَالْحَمْلُ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الْبَطْنِ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَالْأَوَّلُ مَنْفِيٌّ بِاللِّعَانِ، وَيَنْتَفِي الثَّانِي بِلَا لِعَانٍ، لِأَنَّ النِّكَاحَ ارْتَفَعَ بِاللِّعَانِ، وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَتَحَقَّقْنَا بَرَاءَةَ الرَّحِمِ قَطْعًا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَضْعِ، لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَلَا يُنْظَرُ إِلَى احْتِمَالِ حُدُوثِهِ مِنْ وَطْئِهِ بِشُبْهَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِي لِلُّحُوقِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ، فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِرَافِهِ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ وَادِّعَائِهِ الْوَلَدَ. وَعَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُلَاعِنْ لِنَفْيِ الْوَلَدِ الثَّانِي يَلْحَقُهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا غَلَطٌ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَمَا يَجُوزُ نَفْيُ الْوَلَدِ فِي حَيَاتِهِ يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِهِ، سَوَاءٌ خَلَفَ الْوَلَدُ وَلَدًا، بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَكَبُرَ الْمَوْلُودُ وَتَزَوَّجَ وَوُلِدَ لَهُ - أَوْ لَمْ يَخْلُفْهُ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ قَبْلَ اللِّعَانِ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَيَنْفِيَ الْحَيَّ وَالْمَيِّتَ جَمِيعًا. وَلَوْ نَفَى وَلَدًا بِاللِّعَانِ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَاسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَحِقَهُ وَوَرِثَ مَالَهُ وَدِيَتَهُ إِنْ قُتِلَ، سَوَاءٌ خَلَفَ وَلَدًا أَمْ لَا احْتِيَاطًا لِلنَّسَبِ. وَلَوْ نَفَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ، لَحِقَهُ عَلَى الْأَصَحِّ احْتِيَاطًا لِلنَّسَبِ، وَثَبَتَ الْإِرْثُ، فَإِنْ قُسِّمَتْ تَرِكَتُهُ، نَقَصَتِ الْقِسْمَةُ. الْخَامِسَةُ: إِذَا أَتَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ، فَأَقَرَّ بِنَسَبِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِنَسَبِهِ وَأَرَادَ نَفْيَهُ، فَهَلْ يَكُونُ نَفْيُهُ عَلَى الْفَوْرِ، أَمْ يَتَمَادَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَمْ أَبَدًا، وَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْإِسْقَاطِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: الْأَوَّلُ وَهُوَ الْجَدِيدُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ

فَعَنِ ابْنِ سَلَمَةَ، أَنَّ التَّقْدِيرَ بِيَوْمَيْنِ قَوْلٌ آخَرُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ سَائِرُ الْأَصْحَابِ قَوْلًا آخَرَ، بَلْ قَالُوا: الْمُرَادُ: أَوْ ثَلَاثًا، فَإِنْ قُلْنَا بِالْفَوْرِ فَأُخِرَّ بِلَا عُذْرٍ، لَحِقَهُ وَسَقَطَ حَقُّهُ مِنَ النَّفْيِ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا بِأَنْ لَمْ يَجِدِ الْقَاضِيَ لِغَيْبَةٍ، أَوْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، أَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فِي اللَّيْلِ فَأَخَّرَ حَتَّى يُصْبِحَ، أَوْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ فَقَدَّمَهَا، أَوْ كَانَ جَائِعًا، أَوْ عَارِيًا فَأَكَلَ أَوْ لَبِسَ أَوَّلًا، أَوْ كَانَ مَحْبُوسًا، أَوْ مَرِيضًا، أَوْ مُمَرِّضًا، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ، لَكِنْ إِنْ أَمْكَنَهُ الْإِشْهَادُ فَلَمْ يُشْهِدْ أَنَّهُ عَلَى النَّفْيِ، بَطَلَ حَقُّهُ، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا قَدَرَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُرْسِلَ إِلَيْهِ نَائِبًا يُلَاعِنُ عِنْدَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ، فَيُشْهِدُ حِينَئِذٍ، وَلْيُطْرَدْ هَذَا فِي الْمَحْبُوسِ وَمَنْ يَطُولُ عُذْرُهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجَمَاعَةٌ: الْمَرِيضُ وَالْمُمَرِّضُ وَمَنْ يُلَازِمُهُ غَرِيمُهُ لِخَوْفِ ضَيَاعِ مَالِهِ، يَبْعَثُ إِلَى الْحَاكِمِ وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ عَلَى النَّفْيِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ، أَشْهَدَ، وَيُمْكِنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالُ: يَبْعَثُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُطْلِعُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لِيَبَعَثَ إِلَيْهِ نَائِبًا، أَوْ لِيَكُونَ عَالَمًا بِالْحَالِ إِنْ أَخَرَّ بَعْثَ النَّائِبِ، وَأَمَّا الْغَائِبُ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِهِ قَاضٍ، وَنَفَى الْوَلَدَ عِنْدَهُ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ تَأْخِيرَهُ حَتَّى يَرْجِعَ، فَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ الْمَنْعُ مِنْهُ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» جَوَازُهُ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ السَّيْرُ فِي الْحَالِ لِخَوْفِ الطَّرِيقِ أَوْ غَيْرِهِ فَلْيُشْهِدْ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ، فَلْيَسِرْ وَلِيُشْهِدْ، فَإِنْ أَخَّرَ السَّيْرَ، بَطَلَ حَقُّهُ أَشْهَدَ أَمْ لَا، وَإِنْ أَخَذَ فِي السَّيْرِ وَلَمْ يُشْهِدْ، بَطَلَ حَقُّهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَاضٍ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانَ وَأَرَادَ التَّأْخِيرَ إِلَى بَلَدِهِ وَجَوَّزْنَاهُ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: النَّفْيُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَهُ تَأْخِيرُ نَفْيِ الْحَمْلِ إِلَى الْوَضْعِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ رِيحًا، فَإِنْ أَخَّرَ وَوَضَعَتْ وَقَالَ: أَخَّرْتُ لِأَتَحَقَّقَ الْحَمْلَ، فَلَهُ النَّفْيُ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُهُ وَلَدًا وَلَكِنْ رَجَوْتُ أَنْ يَمُوتَ، فَأُكْفَى اللِّعَانَ، بَطَلَ حَقُّهُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ فِي «الْمُخْتَصِرِ» لِتَفْرِيطِهِ مَعَ عِلْمِهِ.

فصل

فَرْعٌ أَخَّرَ النَّفْيَ وَقَالَ: لَمْ أَعْلَمِ الْوِلَادَةَ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. قَالَ فِي الشَّامِلِ: إِلَّا أَنْ يَسْتَفِيضَ وَيَنْتَشِرَ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا، صُدِّقَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَحْتَمِلُ جَهْلُهُ بِهِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الَّتِي يَحْتَمِلُ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِمَا فِي مَحَلَّةٍ أَوْ مَحَلَّتَيْنِ، أَوْ دَارٍ أَوْ دَارَيْنِ، أَوْ بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أُخْبِرْتُ بِالْوِلَادَةِ وَلَمْ أُصَدِّقِ الْمُخْبِرَ، نُظِرَ، إِنْ أَخْبَرَهُ صَبِيٌّ أَوْ فَاسْقٌ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ، فَلَا. وَكَذَا إِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ رَقِيقٌ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ رِوَايَتَهُ مَقْبُولَةٌ، وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ الْوِلَادَةَ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي النَّفْيَ، فَإِنْ كَانَ فَقِيهًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ، قُبِلَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَوَامِّ النَّاشِئِينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَوَجْهَانِ كَنَظِيرِهِ فِي خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ. فَرْعٌ إِذَا هُنِّئَ بِالْوَلَدِ، فَقِيلَ لَهُ: مَتَّعَكَ اللَّهُ بِوَلَدِكَ، أَوْ جَعَلَهُ لَهُ وَلَدًا صَالِحًا وَنَحْوَهُ، فَأَجَابَ بِمَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ وَالِاسْتِلْحَاقَ، كَقَوْلِهِ: آمِينَ، أَوْ نَعَمْ، أَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْكَ، فَلَيْسَ لَهُ النَّفْيُ بَعْدَهُ، وَإِنْ أَجَابَ بِمَا لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ، كَقَوْلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، أَوْ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، أَوْ أَسْمَعَكَ خَيْرًا أَوْ زَوَّدَكَ مِثْلَهُ، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ مِنَ النَّفْيِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ مِنَ اللِّعَانِ إِحْدَاهَا: قَالَ الزَّوْجُ: قَذَفْتُكِ بَعْدَ النِّكَاحِ، فَلِي اللِّعَانُ، فَقَالَتْ: قَبْلَهُ، فَلَا لِعَانَ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ حُصُولِ الْفُرْقَةِ، فَقَالَ: قَذَفْتُكِ فِي زَمَنِ

النِّكَاحِ، وَقَالَتْ: بَعْدَهُ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ: قَذَفْتُكِ وَأَنْتِ زَوْجَتِي، فَقَالَتْ: مَا تَزَوَّجْتُكَ (قَطُّ) فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ بِيَمِينِهَا. الثَّانِيَةُ: قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ: قَذَفْتُكِ وَأَنْتِ أَمَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ فَقَالَتْ: بَلْ وَأَنَا حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ عَاقِلَةٌ. فَإِنْ عُلِمَ لَهَا حَالُ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ جُنُونٍ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا التَّعْزِيرُ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْمَرْأَةُ. وَلَوْ قَالَ: وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ. وَلَوْ قَالَ لِمَنْ قَذَفَهُ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ: قَذَفْتُكِ وَأَنَا مَجْنُونٌ، فَهَلْ يُصَدَّقُ الْقَاذِفُ بِيَمِينِهِ، أَمِ الْمَقْذُوفُ، أَمْ يُفَرَّقُ؟ فَإِنْ عُهِدَ لَهُ جُنُونٌ، صُدِّقَ الْقَاذِفُ، وَإِلَّا، فَالْمَقْذُوفُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا: الْفَرْقُ. وَلَوْ قَالَ: قَذَفْتُكِ وَأَنَا صَبِيٌّ، فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ الْمَعْهُودِ، وَلَوْ قَالَ: جَرَى الْقَذْفُ عَلَى لِسَانِي وَأَنَا نَائِمٌ، لَمْ يُقْبَلْ لِبُعْدِهِ. وَلَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً أَنَّ الْقَذْفَ كَانَ فِي الصِّغَرِ أَوِ الْجُنُونِ، وَأَقَامَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ الْكَمَالِ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ، أَوْ مُخْتَلِفِي التَّارِيخِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً، وَالْأُخْرَى مُؤَرَّخَةً، فَهُمَا قَذْفَانِ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِمَا وَقَعَ فِي حَالَةِ الْكَمَالِ. وَإِنِ اتَّحَدَ تَارِيخُهُمَا، تَعَارَضَتَا. وَفِي التَّعَارُضِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَجِيءُ هُنَا الْقِسْمَةُ وَلَا الْوَقْفُ، وَحُكِيَ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ قَوْلُ الْقُرْعَةِ، وَاسْتَبْعَدَهُ وَقَالَ: الْوَجْهُ الْقَطْعُ بِالتَّهَاتِرِ، فَيَكُونُ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَحَيْثُ صَدَّقْنَا الْقَاذِفَ بِيَمِينِهِ، فَلَوْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْمَقْذُوفُ، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ، وَيَجُوزُ اللِّعَانُ فِي الزَّوْجَةِ. الثَّالِثَةُ: إِذَا صَدَّقَتْهُ فِي الْقَذْفِ، وَاعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ، تَأَكَّدَ لِعَانُهُ، فَإِنْ كَانَتْ لَاعَنَتْ، فَعَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا لِاعْتِرَافِهَا، إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ قَبْلَ لِعَانِهِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَوَجَبَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا،

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَتِمُّ اللِّعَانُ إِنْ صَدَّقَتْهُ فِي أَثْنَائِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدٌ فَيَنْفِيَهُ. الرَّابِعَةُ: إِذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لِعَانُ الزَّوْجِ، وَرِثَهُ الْآخَرُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَيِّتَ الزَّوْجُ، اسْتَقَرَّ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ نَفْيُهُ، وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ، جَازَ لَهُ إِتْمَامُ اللِّعَانِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ غَيْرُ الزَّوْجِ، بِأَنْ كَانَ ابْنَ عَمِّهَا أَوْ مُعْتِقَهَا، وَرِثَ الْحَدَّ وَسَقَطَ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَرِثْهَا إِلَّا الزَّوْجُ وَأَوْلَادُهُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ أَبِيهِ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اللِّعَانُ لِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ، فَلَوْ كَانَ يَرِثُهَا غَيْرُ الزَّوْجِ وَأَوْلَادِهِ، فَمَا وَرِثَهُ الزَّوْجُ وَأَوْلَادُهُ يَسْقُطْ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا سَقَطَ بَعْضُ الْحَدِّ بِعَفْوِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، إِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ الْجَمِيعُ، فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْكُلُّ هُنَا، وَيَمْتَنِعُ اللِّعَانُ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْبَاقِينَ الْمُطَالَبَةُ بِجَمِيعِ الْحَدِّ أَوْ بِقِسْطِهِمْ وَطَلَبُوا، فَلَهُ اللِّعَانُ لِلدَّفْعِ، وَفِي جَوَازِ اللِّعَانِ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. الْخَامِسَةُ: عَبْدٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، ثُمَّ عَتَقَ وَطَالَبَتْهُ، فَلَهُ اللِّعَانُ. فَإِنْ نَكَلَ حُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ، لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي الرِّقِّ، وَكَذَا لَوْ زَنَى فِي الرِّقِّ ثُمَّ عَتَقَ، حُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ. وَلَوْ قَذَفَ الذِّمِّيُّ أَوْ زَنَى، ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، حُدَّ حَدَّ الْأَحْرَارِ، وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً فَنَكَلَ عَنِ اللِّعَانِ، فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ. وَإِنْ لَاعَنَ حُدَّتْ حَدَّ الْإِمَاءِ وَإِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ الْقَذْفِ. وَإِنْ قَذَفَ مُسْلِمٌ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ أَوِ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْمَجْنُونَةَ، ثُمَّ طَلَبَتِ الذِّمِّيَّةُ، أَوْ طَلَبَتَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ، فَإِنْ نَكَلَ، فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَإِنْ لَاعَنَ وَنَكَلَتِ الذِّمِّيَّةُ، فَعَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا، وَإِنْ نَكَلَ الْأُخْرَيَانِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا. السَّادِسَةُ: فِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّ الْمُلَاعِنَ لَوْ قَبِلَ مَنْ نَفَاهُ، وَقُلْنَا: يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ فَاسْتَلْحَقَهُ، حُكِمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ.

وَأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ نَفَى وَلَدًا ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يَتْبَعْهُ الْمَنْفِيُّ فِي الْإِسْلَامِ. وَلَوْ مَاتَ وَقُسِّمَ مِيرَاثُهُ بَيْنَ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ الذِّمِّيُّ الَّذِي أَسْلَمَ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِسْلَامُهُ، وَاسْتَرَدَّ الْمَالَ وَصُرِفَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِاللِّعَانِ إِذَا كَانَ قَدْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشٍ صَحِيحٍ، لَوِ اسْتَلْحَقَهُ غَيْرُهُ، لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوِ اسْتَلْحَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْفِيَهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ نَفَاهُ، فَحَقُّ الِاسْتِلْحَاقِ بَاقٍ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ، وَلَوْ كَانَ يُلْحِقُهُ نَسَبَهُ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، فَنَفَاهُ فَاسْتَلْحَقَهُ غَيْرُهُ، لَحِقَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَازَعَهُ فِيهِ قَبْلَ النَّفْيِ - سُمِعَتْ دَعْوَاهُ. السَّابِعَةُ: فِيمَا جُمِعَ مِنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ سُقُوطَ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الْقَاذِفِ وَعَدَمَ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: إِذَا أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفَةِ، وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهَا عَذْرَاءُ. الثَّانِيَةُ: إِذَا أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا، وَقُلْنَا الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمُرَادُهُ مَا سِوَى صُورَةِ التَّلَاعُنِ، فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا تَلَاعَنَا، انْدَفَعَ الْحَدَّانِ. وَهُنَا صُورَةٌ رَابِعَةٌ يَسْقُطُ فِيهَا الْحَدَّانِ، وَهِيَ إِذَا أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا، ثُمَّ رَجَعَ الْمَقْذُوفُ عَنِ الْإِقْرَارِ، سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الزِّنَا، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْقَاذِفِ، فَلَا يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ. قُلْتُ: مُرَادُ الْقَفَّالِ: لَا يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا (وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ) إِلَّا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ الْأُخْرَيَانِ، لِأَنَّهُ وَجَبَ فِيهِمَا حَدُّ الزِّنَا، ثُمَّ سَقَطَ بِلِعَانِهَا أَوْ بِالرُّجُوعِ. وَلِهَذَا قَالَ: وَعَدَمُ حَدِّ الزِّنَا عَنِ الْمَقْذُوفِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَسُقُوطُ حَدِّ الزِّنَا، كَمَا قَالَ: سُقُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ وَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا، إِلَّا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُوَلَيَيْنِ، وَلَا يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ الزِّنَا إِلَّا فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ. وَالْمُرَادُ: السُّقُوطُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، لَا بِعَفْوٍ وَنَحْوِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب العدد

كِتَابُ الْعِدَدِ فِيهِ أَبْوَابٌ. الْأَوَّلُ: فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْفُرْقَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَيَاةِ. وَالثَّانِي: فِي تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ وَعَدَمِهِ. وَالثَّالِثُ: فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَالرَّابِعُ: فِي السُّكْنَى. وَالْخَامِسُ: فِي الِاسْتِبْرَاءِ. الْأَوَّلُ: فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ اللِّعَانِ، وَسَائِرِ الْفُسُوخِ، وَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ هَذِهِ الْعِدَّةُ إِذَا فَارَقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَإِنْ فَارَقَ قَبْلَهُ، فَلَا عِدَّةَ. وَاسْتِدَخَالُ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ، يُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَثُبُوتِ النَّسَبِ، وَكَذَا اسْتِدْخَالُ مَاءِ مَنْ تَظُنُّهُ زَوْجَهَا يَقُومُ مَقَامَ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ الْمَنِيَّ إِذْ ضَرَبَهُ الْهَوَاءُ، لَمْ يَنْعَقِدْ مِنْهُ الْوَلَدُ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِالظَّنِّ، لَا يُنَافِي الْإِمْكَانَ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ أَنَّ اسْتِدْخَالَ الْمَنِيِّ لَا يُوجِبُ عِدَّةً، لِعَدَمِ صُورَةِ الْوَطْءِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَلَا تُقَامُ الْخَلْوَةُ مَقَامَ الْوَطْءِ عَلَى الْجَدِيدِ، كَمَا سَبَقَ فِي «كِتَابِ الصَّدَاقِ» وَلَوْ وَطِئَ الْخَصِيُّ زَوْجَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَ، وَجَبَتِ الْعِدَّةُ وَالْخَصِيُّ: مَنْ قُطِعَتْ أُنْثَيَاهُ وَبَقِيَ ذَكَرُهُ. وَأَمَّا مَنْ قُطِعَ ذَكَرُهُ وَبَقِيَ أُنْثَيَاهُ، فَلَا عِدَّةَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا، فَإِنْ ظَهَرَ بِهِمَا حَمْلٌ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي اللِّعَانِ، أَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَأَمَا الْمَمْسُوحُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ

فصل

لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ دُخُولٌ. وَلَوْ وَلَدَتْ زَوْجَتُهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا تَجِبُ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَوَطْءُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ فِي سِنٍّ لَا يُولَدُ لَهُ، يُوجِبُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْوَطْءَ شَاغِلٌ فِي الْجُمْلَةِ. وَلِذَلِكَ لَوْ عُلِّقَ الطَّلَاقُ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ يَقِينًا وَحَصَلَتِ الصِّفَةُ، طُلِّقَتْ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ إِذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا. فَصْلٌ عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ، ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَقْرَاءُ، وَالْأَشْهُرُ، وَالْحَمْلُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْأَقْرَاءِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَيَدْخُلُ النَّوْعَانِ الْأُخْرَيَانِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْأَقْرَاءُ، وَوَاحِدُهَا قَرْءٌ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَيُقَالُ بِضَمِّهَا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ، أَنَّهُ بِالْفَتْحِ الطُّهْرُ، وَبِالضَّمِّ الْحَيْضُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَقَعَانِ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ لُغَةً، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْأَصْحَابِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الطُّهْرِ، مَجَازٌ فِي الْحَيْضِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَقْرَاءِ فِي الْعِدَّةِ: الْأَطْهَارُ. وَفِي الْمُرَادِ بِالطُّهْرِ هُنَا، قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الِانْتِقَالُ إِلَى الْحَيْضِ دُونَ عَكْسِهِ. وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ الطُّهْرُ الْمُحْتَوِشُ بِدَمَيْنِ، لَا مُجَرَّدُ الِانْتِقَالِ إِلَى الْحَيْضِ، مِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَرْجِيحِ هَذَا الْقَوْلِ - الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا سَبَقَ فِي الطَّلَاقِ، أَنَّ الْأَكْثَرِينَ أَوْقَعُوا الطَّلَاقَ فِي الْحَالِ وَإِذَا قَالَ لِلَّتِي لَمْ تَحِضْ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ قَرْءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَرْجِيحُهُمْ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِتِلْكَ الصُّورَةِ، لَا لِرُجْحَانِ الْقَوْلِ، بِأَنَّ الطُّهْرَ الِانْتِقَالُ، ثُمَّ إِذَا طَلَّقَهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ بَقِيَّةٌ، حُسِبَتْ تِلْكَ الْبَقِيَّةُ قَرْءًا، سَوَاءٌ كَانَ جَامَعَهَا فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ أَمْ لَا، فَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ طَاهِرٌ فَحَاضَتْ، ثُمَّ طَهُرَتْ، ثُمَّ حَاضَتْ، ثُمَّ طَهُرَتْ، ثُمَّ شَرَعَتْ فِي الْحَيْضِ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ، فَإِذَا شَرَعَتْ فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَهَلْ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ لِلْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ

الرَّابِعَةِ، أَمْ يُعْتَبَرُ مُضِيُّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ حَيْضٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ دَمُ حَيْضٍ، وَلِئَلَّا تَزِيدَ الْعِدَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. وَقِيلَ: إِنْ رَأَتِ الدَّمَ لِعَادَتِهَا، انْقَضَتْ بِرُؤْيَتِهِ، وَإِنْ رَأَتْهُ عَلَى خِلَافِهَا، اعْتُبِرَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَإِذَا حَكَمْنَا بِانْقِضَائِهَا بِالرُّؤْيَةِ، فَانْقَطَعَ الدَّمُ لِدُونِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَمْ يَعُدْ حَتَّى مَضَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْعِدَّةَ لَمْ تَنْقَضِ، ثُمَّ لَحْظَةُ رُؤْيَةِ الدَّمِ أَوِ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ إِذَا اعْتَبَرْنَاهُمَا، هَلْ هُمَا مِنْ نَفْسِ الْعِدَّةِ، أَمْ يَتَبَيَّنُ بِهِمَا انْقِضَاؤُهَا وَلَيْسَا مِنْهَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ جَعَلْنَاهُ مِنَ الْعِدَّةِ، صَحَّتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ، وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا لِأَجْنَبِيٍّ فِيهِ، وَإِلَّا فَيَنْعَكِسُ. وَقَدْ سَبَقَ هَذَا، وَلَكِنْ لَا يَلِيقُ إِخْلَاءُ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ طُهْرِكِ، أَوْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ طُهْرِكِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْقَرْءُ الِانْتِقَالُ، اعْتُدَّ بِذَلِكَ الْجُزْءِ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ طَلَّقَ مَنْ لَمْ تَحِضْ أَصْلًا، إِنْ قُلْنَا: الطُّهْرُ الِانْتِقَالُ، حُسِبَ طُهْرُهَا قَرْءًا، وَإِلَّا فَلَا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ: الْقَرْءُ هُوَ الطُّهْرُ الْمُحْتَوِشُ، أَوِ الِانْتِقَالُ، لَيْسَ مُرَادُهُمُ الطُّهْرَ بِتَمَامِهِ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ تُحْسَبُ قَرْءًا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّهُ هَلْ يُعْتَبَرُ مِنَ الطُّهْرِ الْمُحْتَوِشِ شَيْءٌ، أَمْ يَكْفِي الِانْتِقَالُ؟ وَالْمُكْتَفُونَ بِالِانْتِقَالِ قَالُوا: الِانْتِقَالُ وَحْدَهُ قَرْءٌ، فَإِنْ وُجِدَ قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنَ الطُّهْرِ، أَدْخَلُوهُ فِي اسْمِ الْقَرْءِ. وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ قَالَ لِلَّتِي لَمْ تَحِضْ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ قَرْءٍ طَلْقَةً، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ يُؤَخِّرُوا الْوُقُوعَ إِلَى الْحَيْضِ لِلِانْتِقَالِ.

فصل

فَصْلٌ الْحُرَّةُ الَّتِي تَحِيضُ، عِدَّةُ طَلَاقِهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، وَالْأَمَةُ قَرْءَانِ، وَالْمُكَاتَبَةُ، وَالْمُدَبَّرَةُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَمَنْ بَعْضُهَا رَقِيقٌ، كَالْقِنَّةِ فِي الْعِدَّةِ. وَلَوْ وُطِئَتْ أَمَةٌ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَوْ بِشُبْهَةِ نِكَاحٍ، اعْتَدَّتْ بِقَرْءَيْنِ كَتَطْلِيقِهَا، وَإِنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ، اسْتَبْرَأَتْ بِقَرْءٍ وَاحِدٍ. فَرْعٌ لَوْ عَتَقَتِ الْأَمَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْعِدَّةِ، فَهَلْ تُتِمُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ، أَمْ أَمَةٍ، أَمْ يُفَرَّقُ، فَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً، فَعِدَّةُ الْأَمَةِ، وَإِلَّا فَعِدَّةُ حُرَّةٍ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا: الثَّالِثُ، وَهُوَ الْجَدِيدُ. وَلَوْ طَلَّقَ الْعَبْدُ الْأَمَةَ رَجْعِيًّا فَعَتَقَتْ فِي الْعِدَّةِ، ثُمَّ فَسَخَتْ فِي الْحَالِ، فَهَلْ تَبْنِي أَمْ تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ؟ فِيهِ خِلَافٌ كَمَا لَوْ طَلَّقَ الرَّجْعِيَّةَ طَلْقَةً أُخْرَى، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ الْقَطْعُ بِالْبِنَاءِ. وَلَوْ أَخَّرَتِ الْفَسْخَ حَتَّى رَاجَعَهَا ثُمَّ فَسَخَتْ قَبْلَ الْوَطْءِ، فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ. وَالْمَذْهَبُ الِاسْتِئْنَافُ، لِأَنَّهَا فَسَخَتْ وَهِيَ زَوْجَةٌ، وَالْفَسْخُ يُوجِبُ الْعِدَّةَ. وَحَيْثُ قُلْنَا: تَسْتَأْنِفُ، فَتَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ حُرَّةٍ. وَحَيْثُ قُلْنَا: تَبْنِي، فَهَلْ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ، أَمْ أَمَةٍ؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا عَتَقَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِلَا فَسْخٍ. فَرْعٌ وَطِئَ أَمَةَ أَجْنَبِيٍّ يَظُنُّهَا أَمَتَهُ، لَمْ يَلْزَمْهَا إِلَّا قَرْءٌ. وَلَوْ ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ، فَهَلْ يَلْزَمُهَا قَرْءٌ أَمْ قَرْءَانِ اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: قَرْءَانِ، وَإِنْ ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ، فَهَلْ يَلْزَمُهَا قَرْءٌ أَمْ قَرْءَانِ أَمْ ثَلَاثَةٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الثَّالِثُ. وَلَوْ وَطِئَ حُرَّةً يَظُنُّهَا أَمَتَهُ، فَقَطَعَ جَمَاعَةٌ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، لِأَنَّ الظَّنَّ يُؤْثَرُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ دُونَ الْمُسَاهَلَةِ، وَأَجْرَى الْمُتَوَلِّي الْوَجْهَيْنِ، إِنِ اعْتَبَرْنَا حَالَهَا، فَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، أَوْ ظَنَّهُ فَقَرْءٌ. وَلَوْ ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ،

فصل

فَطَرَدَ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ، هَلْ يَجِبُ قَرْءَانِ لِظَنِّهِ، أَمْ ثَلَاثَةٌ؟ وَالْأَشْبَهُ النَّظَرُ إِلَى ظَنِّهِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لِحَقِّهِ. فَصْلٌ الْمُعْتَدَّاتُ أَصْنَافٌ: الْأَوَّلُ: مَنْ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ صَحِيحَانِ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ وَإِنْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا وَطَالَ طُهْرُهَا. الصِّنْفُ الثَّانِي: الْمُسْتَحَاضَةُ، فَإِنْ كَانَ لَهَا مَرَدٌّ، اعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهَا مِنْ تَمْيِيزٍ أَوْ عَادَةٍ، أَوِ الْأَقَلِّ، أَوِ الْغَالِبِ إِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً كَمَا سَبَقَ فِي الْحَيْضِ، وَالْأَظْهَرُ: رَدُّ الْمُبْتَدَأَةِ إِلَى الْأَقَلِّ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: إِذَا مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، لِاشْتِمَالِ كُلِّ شَهْرٍ عَلَى حَيْضٍ وَطُهْرٍ غَالِبًا، وَشَهْرُهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالْحِسَابُ مِنْ أَوَّلِ رُؤْيَةِ الدَّمِ، هَكَذَا أُطْلِقَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْأَهِلَّةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي النَّاسِيَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ مُشِيرُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَرَدٌّ وَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ، فَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّهَا عَلَى قَوْلٍ تُرَدُّ إِلَى مَرَدِّ الْمُبْتَدَأَةِ، وَأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ عَلَيْهَا الِاحْتِيَاطَ. فَإِنْ قُلْنَا: كَالْمُبْتَدَأَةِ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاحْتِيَاطِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا كَالْمُبْتَدَأَةِ أَيْضًا لِعِظَمِ الْمَشَقَّةِ فِي الِانْتِظَارِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهَا الِاحْتِيَاطُ كَمَنْ تَبَاعَدُ حَيْضُهَا، فَتُؤْمَرُ بِالتَّرَبُّصِ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ، أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ، أَوْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، وَلَا نَقُولُ: تَمْتَدُّ الرَّجْعَةُ وَحَقُّ السُّكْنَى جَمِيعَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَتَضَرَّرُ بِهِ، بَلْ لَا يَزِيدُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَيَخْتَصُّ الِاحْتِيَاطُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَهُوَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ. وَإِذَا قُلْنَا: تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي الْحَالِ، فَالِاعْتِبَارُ بِالْأَهِلَّةِ، فَإِنِ انْطَبَقَ الطَّلَاقُ عَلَى أَوَّلِ الْهِلَالِ، فَذَاكَ، وَإِنْ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حُسِبَ قَرْءًا، وَتَعْتَدُّ بَعْدَهُ بِهِلَالَيْنِ. وَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَمَا دُونَهَا، فَهَلْ يُحْسَبُ قَرْءًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَعَلَى هَذَا، فَقَدْ ذَكَرَ أَكْثَرُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَاقِيَ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَأَنَّهَا تَدْخُلُ

فِي الْعِدَّةِ لِاسْتِقْبَالِ الْهِلَالِ. وَالْمَفْهُومُ مِمَّا قَالُوا تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا أَنَّ الْأَشْهُرَ لَيْسَتْ مُتَأَصِّلَةً فِي حَقِّ النَّاسِيَةِ، وَلَكِنْ يُحْسَبُ كُلُّ شَهْرٍ قَرْءًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى حَيْضٍ وَطُهْرٍ غَالِبًا. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَشْهُرَ أَصْلٌ فِي حَقِّهَا، كَمَا فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ تَدْخُلَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَيَكُونَ كَمَا لَوْ طَلَّقَ ذَاتَ الْأَشْهُرِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ كَانَتِ الْمُتَحَيِّرَةُ الْمُنْقَطِعَةُ الدَّمِ، تَرَى يَوْمًا دَمًا، وَيَوْمًا نَقَاءً، لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ قُلْنَا بِالتَّلْفِيقِ أَمْ بِالسَّحْبِ. وَالْأَطْهَارُ النَّاقِصَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ لَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ بِحَالٍ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَنْ لَمْ تَرَ دَمًا لِيَأْسٍ، وَصِغَرٍ، أَوْ بَلَغَتْ سِنَّ الْحَيْضِ أَوْ جَاوَزَتْهُ وَلَمْ تَحِضْ، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ حَيْضًا قَطُّ وَلَا نِفَاسًا، فَهَلْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، أَمْ هِيَ كَمَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا بِلَا سَبَبٍ؟ وَجْهَانِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ، لِدُخُولِهَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ الْعَدَدِ عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ: أَنَّ الَّتِي لَمْ تَحِضْ قَطُّ، إِذَا وَلَدَتْ وَنَفَسَتْ، تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يَجْعَلُهَا النِّفَاسُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَجَزَمَ الْبَغَوِيُّ بِهَذَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّافِعِيُّ هُنَاكَ خِلَافًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّ الْأَشْهُرَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْهِلَالِ، وَعَلَيْهِ الْمَوَاقِيتُ الشَّرْعِيَّةُ، وَإِنِ انْطَبَقَ الطَّلَاقُ عَلَى أَوَّلِ الْهِلَالِ، فَذَاكَ، وَإِنِ انْكَسَرَ، اعْتُبِرَ شَهْرَانِ بِالْهِلَالِ، وَيُكَمَّلُ الْمُنْكَسِرُ ثَلَاثِينَ مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ. فَقَالَ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا انْكَسَرَ شَهْرٌ، انْكَسَرَ الْجَمِيعُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ أَوِ النَّهَارِ، ابْتُدِئَ حِسَابُ الشَّهْرِ مِنْ حِينَئِذٍ. وَإِذَا اعْتَدَّتْ صَغِيرَةٌ بِالْأَشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ فَرَاغِهَا، فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْأَقْرَاءُ، وَلَوْ حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الْأَشْهُرِ، انْتَقَلَتْ

إِلَى الْأَقْرَاءِ وَهَلْ يُحْسَبُ مَا مَضَى قَرْءًا؟ وَجْهَانِ. أَقْرَبُهُمَا إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ الْمَنْعُ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيِسَةُ وَالَّتِي لَمْ تَحِضْ أَمَةً، فَهَلْ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، أَمْ شَهْرَانِ، أَمْ شَهْرٌ وَنِصْفٌ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ. قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: أَظْهَرُهَا: الْأَوَّلُ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، قَالَ: وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ، وَظَاهِرَ الْمَذْهَبِ، شَهَرٌ وَنِصْفٌ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مَنِ انْقَطَعَ دَمُهَا، يُنْظَرُ، إِنِ انْقَطَعَ لِعَارِضٍ يُعْرَفُ، لِرَضَاعٍ، أَوْ نِفَاسٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ دَاءٍ بَاطِنٍ، صَبَرَتْ حَتَّى تَحِيضَ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، أَوْ تَبْلُغَ سِنَّ الْيَأْسِ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، وَلَا تُبَالِي بِطُولِ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ، وَإِنِ انْقَطَعَ لَا لِعِلَّةٍ تُعْرَفُ، فَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ كَالِانْقِطَاعِ لِعَارِضٍ، وَالْقَدِيمُ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَفِي قَوْلٍ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَعْدَ التَّرَبُّصِ، تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ فَحَاضَتْ بَعْدَ التَّرَبُّصِ وَالْعِدَّةِ وَبَعْدَمَا تَزَوَّجَتْ، اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ لِلثَّانِي عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُهُ، لِتَبَيُّنِنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، وَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ تَمَامِ التَّرَبُّصِ، بَطَلَ التَّرَبُّصُ وَانْتَقَلَتْ إِلَى الْأَقْرَاءِ، وَيُحْسَبُ مَا مَضَى قَرْءًا بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ لَمْ يُعَاوِدْهَا الدَّمُ، وَلَمْ تُتِمَّ الْأَقْرَاءَ، اسْتَأْنَفَتِ التَّرَبُّصَ لِتَعْتَدَّ بَعْدَهُ بِالْأَشْهُرِ، لِأَنَّ التَّرَبُّصَ الْأَوَّلَ بَطَلَ بِظُهُورِ الدَّمِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا نَأْمُرُهَا بِاسْتِئْنَافِ التَّرَبُّصِ، لِأَنَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَا نَعْتَبِرُ الْيَأْسَ، وَإِنَّمَا نَعْتَبِرُ ظُهُورَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَقَدْ ظَهَرَتِ الْبَرَاءَةُ، وَرُؤْيَةُ الدَّمِ تُؤَكِّدُ الْبَرَاءَةَ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ، هُوَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ التَّرَبُّصِ، وَفِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ انْتَقَلَتْ إِلَى الْأَقْرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُعَاوِدْهَا الدَّمُ، عَادَ الصَّحِيحُ، وَقَوْلُ الْمُتَوَلِّي. وَإِذَا تَرَبَّصَتْ، فَتَبْنِي الْأَشْهُرَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، أَمْ تَسْتَأْنِفُ الْأَشْهُرَ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْتَأْنِفُ كَمَا تَسْتَأْنِفُ التَّرَبُّصَ، وَأَصَحُّهُمَا: تَبْنِي، لِأَنَّ مَا مَضَى مِنَ الْأَشْهُرِ كَانَ مِنْ صُلْبِ الْعِدَّةِ، فَلَا مَعْنَى لِإِبْطَالِهِ، بِخِلَافِ التَّرَبُّصِ، فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ الْبِنَاءِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَعُدُّ مَا مَضَى قَرْءًا، وَيَبْقَى عَلَيْهَا قَرْءَانِ، فَتَعْتَدُّ بَدَلَهُمَا بِشَهْرَيْنِ. وَعَلَى هَذَا، لَوْ حَاضَتْ مَرَّتَيْنِ، بَقِيَ عَلَيْهَا قَرْءٌ، فَتَعْتَدُّ

بَدَلَهُ بِشَهْرٍ. وَأَصَحُّهُمَا: يُحْسَبُ مَا مَضَى مِنَ الْأَيَّامِ، وَتُتِمُّهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا تَضُمُّ بَعْضَ الْأَشْهُرِ إِلَى بَعْضِ الْأَقْرَاءِ، لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، هَكَذَا أَطْلَقُوا ذِكْرَ عَدَمِ الْمُعَاوَدَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَلَمْ يَقُولُوا: إِذَا لَمْ تَعُدْ إِلَى مُدَّةِ كَذَا. وَيُشْبِهُ أَنْ يُضْبَطَ بِعَادَتِهَا الْقَدِيمَةِ، أَوْ بِغَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ. وَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ التَّرَبُّصِ وَالْأَشْهَرِ، وَقَبْلَ النِّكَاحِ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا وَيُنْسَبُ إِلَى النَّصِّ: تَنْتَقِلُ إِلَى الْأَقْرَاءِ. وَالثَّانِي: لَا، بَلِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ. وَالثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنِ اعْتَدَّتْ بِالْأَشْهُرِ بِحُكْمِ قَاضٍ، لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ، وَلَمْ تَنْتَقِلْ إِلَى الْأَقْرَاءِ، وَإِنِ اعْتَدَّتْ بِهَا بِمُجَرَّدِ فَتْوَى، انْتَقَلَتْ، وَسَوَاءٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَالْأَحْكَامِ، جَعَلْنَا التَّرَبُّصَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ تِسْعَةً، أَوْ أَرْبَعَ سِنِينَ، هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعُ الْقَدِيمِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ وَهُوَ انْتِظَارُ سِنِّ الْيَأْسِ، فَفِي النِّسْوَةِ الْمُعْتَبِرَاتِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْأَكْثَرِينَ: يُعْتَبَرُ أَقْصَى يَأْسِ نِسَاءِ الْعَالَمِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يُمْكِنُ طَوْفُ الْعَالِمِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا يَبْلُغُ خَبَرُهُ وَيُعْرَفُ. وَعَلَى هَذَا، فَالْأَشْهُرُ أَنَّ سِنَّ الْيَأْسِ، اثْنَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتُّونَ، وَقِيلَ: خَمْسُونَ، حَكَاهُمَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَيْرَانَ فِي كِتَابِهِ اللَّطِيفِ، وَحَكَاهُمَا غَيْرُهُ. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: تِسْعُونَ سَنَةً. وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً حَاضَتْ لِتِسْعِينَ سَنَةً، وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ تَخْرِيجُ وَجْهِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ سِنُّ الْيَأْسِ غَالِبًا، وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَقْصَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ يَأْسُ عَشِيرَتِهَا مِنَ الْأَبَوَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» . وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ نِسَاءُ الْعَصَبَاتِ، وَقِيلَ: نِسَاءُ الْبَلَدِ. فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ، نُظِرَ، إِنْ رَأَتْهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَشْهُرِ، انْتَقَلَتْ إِلَى الْأَقْرَاءِ، وَحُسِبَ مَا مَضَى قَرْءًا بِلَا خِلَافٍ، فَتَضُمُّ إِلَيْهِ قَرْءَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا اعْتَبَرَنَا أَقْصَى الْيَأْسِ فِي الْعَالَمِ، فَبَلَغَتْهُ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، صَارَ

أَقْصَى الْيَأْسِ مَا رَأَتْهُ، وَيَعْتَبِرُ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُهَا بِهَا، ثُمَّ إِنْ لَمْ يُعَاوِدْهَا الدَّمُ، رَجَعَتْ إِلَى الْأَشْهُرِ. وَهَلْ تُؤْمَرُ بِالتَّرَبُّصِ قَبْلَهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، أَوْ أَرْبَعَ سِنِينَ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، اسْتِظْهَارًا، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهَا بَلَغَتِ الْيَأْسَ. ثُمَّ فِي التَّتِمَّةِ، أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِشَهْرَيْنِ، بَدَلًا عَنْ قُرْأَيْنِ، وَالَّذِي صَحَّحَهُ الْأَئِمَّةُ وَحَكُوهُ عَنِ الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ، أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ تَسْتَأْنِفُهَا. وَلَا يَجِيءُ فِي الْبِنَاءِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي تَفْرِيعِ الْقَدِيمِ، لِأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ تَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَهُنَا يُطْلَبُ الْيَقِينُ أَوِ الْقُرْبُ مِنْهُ. فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ، بَطَلَ مَا ظَنَنَّاهُ يَأْسًا، وَبَطَلَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِدَّةِ، فَوَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ. وَأَمَّا إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحُدُهَا: لَا يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ إِلَى الْأَقْرَاءِ، بَلِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، كَمَا لَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ الْأَشْهُرِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهَا، لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ آيِسَةً، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ، فَإِنَّهَا بِرُؤْيَةِ الْحَيْضِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وَقْتَ الِاعْتِدَادِ مِنَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْبَغَوِيِّ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَكْثَرِينَ: إِنْ كَانَتْ نُكِحَتْ بَعْدَ الْأَشْهُرِ، فَقَدْ تَمَّتِ الْعِدَّةُ، وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَإِلَّا لَزِمَهَا الْأَقْرَاءُ، وَقَطَعَ صَاحِبَا التَّتِمَّةِ وَالشَّامِلِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْحَمْلُ. قَدْ سَبَقَ أَنْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَقْرَاءُ، وَالْأَشْهُرُ، وَقَدْ مَضَيَا، وَالْتَفَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَالثَّالِثُ: هُوَ الْحَمْلُ، وَيُشْتَرَطُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ شَرْطَانِ، أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مَنْسُوبًا إِلَى مَنِ الْعِدَّةِ مِنْهُ. إِمَّا ظَاهِرًا، وَإِمَّا احْتِمَالًا، كَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ. فَإِذَا لَاعَنَ حَامِلًا وَنَفَى الْحَمْلَ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ لِإِمْكَانِ كَوْنِهَا مِنْهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي الْعِدَّةِ إِذَا تَحَقَّقَ الْإِمْكَانُ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، بِأَنْ مَاتَ صَبِيٌّ لَا يُنْزِلُ وَامْرَأَتُهُ حَامِلٌ، فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، بَلْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ. وَلَوْ مَاتَ مَنْ قُطِعَ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَاهُ، وَامْرَأَتُهُ حَامِلٌ، لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ. وَعَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ وَالْقَفَّالِ: أَنَّهُ يَلْحَقُهُ. وَحُكِيَ هَذَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي «اللِّعَانِ» . فَعَلَى هَذَا، تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ. وَمَنْ سُلَّ خُصْيَاهُ وَبَقِيَ ذَكَرُهُ، كَالْفَحْلِ فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ مِنْهُ بِوَضْعِهِ، سَوَاءٌ فِيهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يَلْحُقُهُ فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَجْهًا أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَسْلُولَ الْخُصْيَةِ الْيُمْنَى لَمْ يَلْحَقْهُ وَإِنْ بَقِيَتِ الْيُسْرَى، لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ الْمَاءَ مِنَ الْخُصْيَةِ الْيُمْنَى، وَالشَّعْرَ مِنَ الْيُسْرَى. وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْحَدَادِ، كَانَ فَقِيدَ الْخُصْيَةِ الْيُمْنَى، فَكَانَ لَا يُنْزِلُ، وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ طَوِيلَةً، وَهَذَا شَيْءٌ يَعْتَمِدُهُ الْجُمْهُورُ. وَأَمَّا مَجْبُوبُ الذَّكَرِ بَاقِي الْأُنْثَيَيْنِ، فَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ، فَتَعْتَدُّ امْرَأَتُهُ عَنِ الْوَفَاةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ لِعَدَمِ الدُّخُولِ. فَرْعٌ مَنْ مَاتَ عَنْ زَوْجَتِهِ، أَوْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ بِوَلَدٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، بِأَنْ وَضَعَتْهُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، أَوْ لِأَكْثَرَ، وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَسَافَةٌ لَا تُقْطَعُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، لَمْ تَنْقَضِ بِهِ عِدَّتُهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَنْقَضِي، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَيَكْفِي الِاحْتِمَالُ، كَالْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ. وَالثَّانِي: إِنِ ادَّعَتْ وَطْءَ شُبْهَةٍ، حُكِمَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي الْعِدَّةِ قَوْلُهَا مَعَ الْإِمْكَانِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْأَوْجُهَ فِي «الْوَسِيطِ» وَ «الْبَسِيطِ» فِي هَذِهِ

الصُّورَةِ، بَلْ ذَكَرَهَا فِيمَنْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ وَشَرَعَتْ فِي الْعِدَّةِ، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدًا آخَرَ. وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تَدَّعِيَ وَطْئًا مُحْتَرَمًا مِنَ الزَّوْجِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ الْأُولَى فَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ، أَوْ لَا فَلَا. فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلُودُ لَاحِقًا بِغَيْرِهِ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ، أَوْ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ، انْقَضَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ بِوَضْعِهِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عَنِ الزَّوْجِ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ زِنًا، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ، أَوْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ، وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ مَعَ الْحَمْلِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَفِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، إِذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، أَوْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَلَمْ تَرَ دَمًا أَوْ رَأَتْهُ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ وَإِنْ رَأَتْهُ، وَقُلْنَا: إِنَّهُ حَيْضٌ، فَفِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بْأَطْهَارِهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِانْقِضَاءُ، لِأَنَّ حَمْلَ الزِّنَا كَالْمَعْدُومِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ زَنَتْ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَحَبِلَتْ مِنَ الزِّنَا، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ مَجْهُولَ الْحَالِ، حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ زِنًا، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ فِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» . فَرْعٌ لَوْ نَكَحَ حَامِلًا مِنَ الزِّنَا، صَحَّ نِكَاحُهُ بِلَا خِلَافٍ. وَهَلْ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْوَضْعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، إِذْ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَ الْحَمْلَ بِتَمَامِهِ، فَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا بِتَوْأَمَيْنِ، لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ حَتَّى تَضَعَهُمَا، حَتَّى لَوْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، وَوَضَعَتْ أَحَدَهُمَا، فَلَهُ الرَّجْعَةُ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ الثَّانِيَ، وَإِنَّمَا يَكُونَانِ تَوْأَمَيْنِ إِذَا وَضَعَتْهُمَا مَعًا، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَالثَّانِي حَمْلٌ آخَرُ. فَرْعٌ لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِخُرُوجِ بَعْضِ الْوَلَدِ، وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ مُنْفَصِلًا أَوْ غَيْرَ مُنْفَصِلٍ وَلَمْ يَخْرُجِ الْبَاقِي، بَقِيَتِ الرَّجْعَةُ. وَلَوْ طَلَّقَهَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا

وَرِثَهُ الْآخَرُ، وَكَذَا تَبْقَى سَائِرُ أَحْكَامِ الْجَنِينِ فِي الَّذِي خَرَجَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ، كَمَنْعِ تَوْرِيثِهِ، وَكَسِرَايَةِ عِتْقِ الْأُمِّ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ إِجْزَائِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَوُجُوبِ الْغُرَّةِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأُمِّ، وَتَبَعِيَّةِ الْأُمِّ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: إِذَا خَرَجَ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُنْفَصِلِ كُلِّهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، إِلَّا فِي الْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِفَرَاغِ الرَّحِمِ، وَيُنْسَبُ إِلَى الْقَفَّالِ وَهُوَ مُنْقَاسٌ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ فِي الْمَذْهَبِ. فَرْعٌ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِانْفِصَالِ الْوَلَدِ حَيًّا، أَوْ مَيِّتًا، وَلَا تَنْقَضِي بِإِسْقَاطِ الْعَلَقَةِ وَالدَّمِ. وَلَوْ أَسْقَطَتْ مُضْغَةً، فَلَهَا أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ صُورَةِ الْآدَمِيِّ، كَيَدٍ، أَوْ أُصْبُعٍ، أَوْ ظُفْرٍ وَغَيْرِهَا، فَتَنْقَضِيَ بِهَا الْعِدَّةُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهُرَ شَيْءٌ مِنْ صُورَةِ الْآدَمِيِّ لِكُلِّ أَحَدٍ، لَكِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ مِنَ النِّسَاءِ: فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ لَنَا وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَى غَيْرِهَا، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ، وَيُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ صُورَةً ظَاهِرَةً وَلَا خَفِيَّةً يَعْرِفُهَا الْقَوَابِلُ، لَكِنَّهُنَّ قُلْنَ: إِنَّهُ أَصْلُ آدَمِيٍّ، وَلَوْ بَقِيَ لَتَصَوَّرَ وَلَتَخَلَّقَ، فَالنَّصُّ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِهِ. وَنَصَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ، وَأَشْعَرَ نَصُّهُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ، فَقِيلَ فِي الْجَمِيعِ قَوْلَانِ. وَقِيلَ بِتَقْرِيرِ النُّصُوصِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِدَّةِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ وَقَدْ حَصَلَتْ. وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فِي الْغُرَّةِ. وَأُمُومَةُ الْوَلَدِ إِنَّمَا تَثْبُتُ تَبَعًا لِلْوَلَدِ. وَقِيلَ: تَثْبُتُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ قَطْعًا، وَحُمِلَ نَصُّ الْمَنْعِ عَلَى مَا إِذَا يَعْلَمْنَ أَنَّهُ

فصل

مُبْتَدَأُ خَلْقٍ. وَقِيلَ: لَا تَثْبُتُ قَطْعًا، وَحُمِلَ نَصُّ الْعِدَّةِ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ صُورَةً خَفِيَّةً، وَالْمَذْهَبُ عَلَى الْجُمْلَةِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ وَمَنْعُ الْآخَرِينَ. وَلَوْ شَكَّ الْقَوَابِلُ فِي أَنَّهُ لَحْمُ آدَمِيٍّ، أَمْ لَا، لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، بِلَا خِلَافٍ. وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ، فَقَالَتْ: كَانَ السَّقْطُ الَّذِي وَضَعْتُهُ مِمَّا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، وَضَاعَ السَّقْطُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا، لِأَنَّهَا مَأْمُونَةٌ فِي الْعِدَّةِ. فَصْلٌ إِذَا كَانَتْ تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالْأَشْهُرِ، فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ مِنَ الزَّوْجِ، اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا مَضَى مِنَ الْأَقْرَاءِ وَالْأَشْهُرِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرِ الْحَمْلُ بِأَمَارَةٍ، وَلَكِنَّهَا ارْتَابَتْ لِثِقْلٍ وَحَرَكَةٍ تَجِدُهَا، نُظِرَ، إِنِ ارْتَابَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ، أَوِ الْأَقْرَاءِ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ تَمَامِهَا حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ. فَإِنْ تَزَوَّجَتْ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ. وَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ أَنِ انْقَضَتِ الْأَقْرَاءُ أَوِ الْأَشْهُرُ وَتَزَوَّجَتْ، لَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، لَكِنَّ لَوْ تَحَقَّقْنَا كَوْنَهَا حَامِلًا وَقْتَ النِّكَاحِ، بِأَنْ وَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ، تَبَيَّنَّا بُطْلَانَ النِّكَاحِ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَالْوَلَدُ لِلثَّانِي، وَنِكَاحُهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى صِحَّتِهِ. وَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ الْأَقْرَاءِ وَالْأَشْهُرِ، وَقَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ، فَالْأَوْلَى أَنْ تَصْبِرَ إِلَى زَوَالِ الرِّيبَةِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وَتَزَوَّجَتْ، فَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ فِي الْحَالِ، بَلْ هُوَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَالْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ خَيْرَانَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَالْإِصْطَخْرِيُّ، لِأَنَّا حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَا نُبْطِلُهُ بِالشَّكِّ، وَقِيلَ: يُحْكَمُ بِبُطْلَانِهِ، حُكِيَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. فَصْلٌ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ أَرْبَعُ سِنِينَ، فَلَوْ أَبَانَهَا بِخُلْعٍ أَوْ بِالثَّلَاثِ، أَوْ بِفَسْخٍ،

أَوْ لِعَانٍ وَلَمْ يَنْفِ الْحَمْلَ، فَوَلَدَتْ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَأَقَلَّ مِنْ وَقْتِ الْفِرَاقِ، لَحِقَ الْوَلَدُ بِالزَّوْجِ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لِأَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ إِمْكَانِ الْعُلُوقِ، وَقُبَيْلَ الطَّلَاقِ، وَهَذَا قَوِيمٌ، وَفِي إِطْلَاقِهِمْ تَسَاهُلٌ، وَسَوَاءٌ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ وَلَدَتْ، أَمْ لَمْ تُقِرَّ، لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الْوَلَدِ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِإِقْرَارِهَا. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِذَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَائِهَا ثُمَّ وَلَدَتْ، لَمْ يَلْحَقْهُ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْأَقْرَاءِ، كَمَا إِذَا صَارَتِ الْأَمَةُ فِرَاشًا لِسَيِّدِهَا بِالْوَطْءِ ثُمَّ اسْتَبْرَأَهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، لَا يَلْحَقُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ. فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ جَعَلَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِتَقْرِيرِ النَّصَّيْنِ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ فِرَاشَ النِّكَاحِ أَقْوَى وَأَسْرَعُ ثُبُوتًا، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ. أَمَّا إِذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَالْوَلَدُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِلَا لِعَانٍ. وَلَوْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا ثُمَّ وَلَدَتْ، فَالْحُكْمُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، إِلَّا أَنَّ السِّنِينَ الْأَرْبَعَ، هَلْ تُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ انْصِرَامِ الْعِدَّةِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، لِأَنَّهَا كَالْبَائِنِ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ، فَلَا يُؤَثِّرُ كَوْنُهَا زَوْجَةً فِي مُعْظَمِ الْأَحْكَامِ. فَإِنْ قُلْنَا: مِنْ وَقْتِ الِانْصِرَامِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْحَقُهُ مَتَى أَتَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، لِأَنَّ الْفِرَاشَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، إِنَّمَا يَزُولُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا مَضَتِ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنِ انْقِضَائِهَا، لَمْ يَلْحَقْهُ، لِأَنَّا تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْأَقْرَاءِ وَالْأَشْهُرِ، فَتَبِينُ بِانْقِضَائِهَا، وَتَصِيرُ كَمَا لَوْ بَانَتْ بِالطَّلَاقِ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ. وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَحَكَوْهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَكَ أَنَّ تَقُولَ هَذَا، وَإِنِ اسْتَمَرَّ فِي الْأَقْرَاءِ، لَا يَسْتَمِرُّ فِي الْأَشْهَرِ، فَإِنَّ الَّتِي لَا تَحْمِلُ، لَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، فَإِذَا حَبِلَتْ، بَانَ أَنَّ عِدَّتَهَا لَمْ تَنْقَضِ بِالْأَشْهُرِ، وَسَيَأْتِي نَظِيرُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ هَذَا الْخِلَافُ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، فِيمَا إِذَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ لَمْ تُقِرَّ، فَالْوَلَدُ الَّذِي تَأْتِي بِهِ، يَلْحَقُهُ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ تَمْتَدُّ لِطُولِ الطُّهْرِ.

وَحَكَى الْقَفَّالُ فِيمَا إِذَا لَمْ تُقِرَّ - وَجْهًا ضَعِيفًا، أَنَّهُ إِذَا مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، لَمْ يَلْحَقْهُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَمَتَى حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ، كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً إِلَى الْوَضْعِ، فَيَثْبُتُ لِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ إِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، وَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ. فَرْعٌ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَادَّعَتْ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَنَّ الزَّوْجَ رَاجَعَهَا، أَوْ أَنَّهُ جَدَّدَ نِكَاحَهَا، أَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْهُ عَلَى الْفِرَاشِ الْمُجَدَّدِ، نُظِرَ، إِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ، لَزِمَهُ مُقْتَضَى إِقْرَارِهِ، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي صُورَةِ التَّجْدِيدِ، وَالنَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي الرَّجْعَةِ وَالتَّجْدِيدِ جَمِيعًا، وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَإِنْ أَنْكَرَ إِحْدَاثَ فِرَاشٍ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ، وَثَبَتَ النَّسَبُ، إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ. وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ قَوْلًا، أَنَّهُ إِذَا نَكَلَ، لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا إِذَا حَلَفَتْ، ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَحْلِفَ الشَّخْصُ لِفَائِدَةِ غَيْرِهِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ لَمْ يُحَلِّفْهَا، أَوْ نَكَلَتْ، فَفِي حَلِفِ الْوَلَدِ إِذَا بَلَغَ خِلَافٌ سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ. وَإِنِ اعْتَرَفَ بِفِرَاشٍ جَدِيدٍ، وَأَنْكَرَ وِلَادَتَهَا، وَادَّعَى أَنَّهَا الْتَقَطَتْهُ وَاسْتَعَارَتْهُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ. فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ وَثَبَتَتِ الْوِلَادَةُ وَالنَّسَبُ بِالْفِرَاشِ، إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ، وَيَعُودُ فِي تَحْلِيفِهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ. ثُمَّ قَالَ الْأَئِمَّةُ: الْعِدَّةُ تَنْقَضِي بِوَضْعِهِ وَإِنْ حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى النَّفْيِ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَتْهُ، لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْهُ، فَكَانَ كَمَا لَوْ نُفِيَ حَمْلُهَا بِاللِّعَانِ، فَإِنَّهُ وَإِنِ انْتَفَى الْوَلَدُ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ لِزَعْمِهَا أَنَّهُ مِنْهُ. وَلَوِ ادَّعَتْ عَلَى الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ رَاجَعَهَا، أَوْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ ابْنًا وَاحِدًا، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوِ ادَّعَتْ عَلَى الزَّوْجِ، إِلَّا أَنَّ الْوَارِثَ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَإِلَّا أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ، لَا يُمْكِنُهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ، وَادَّعَتْ عَلَيْهِمَا،

فَكَذَّبَاهَا وَحَلَفَا، أَوْ نَكَلَا أَوْ صَدَّقَهَا أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَ الْآخَرُ وَحَلَفَتْ، ثَبَتَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ بِحِصَّةِ الْمُصَدِّقِ، وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ لَمْ يَتَّفِقُوا. وَفِي ثُبُوتِ مِيرَاثِ الزَّوْجَةِ فِي حِصَّةِ الْمُصَدِّقِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ يُحْجَبُ كَالْأَخِ، فَإِنْ صَدَّقَهَا فَذَاكَ، وَلَا يَرِثُ الْوَلَدُ وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِنْ كَذَّبَهَا، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَرْعٌ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالْوِلَادَةِ، فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَحِقَاهُ، وَطُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، طُلِّقَتْ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِنَّ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، لَمْ يَلْحَقْهُ الثَّانِي، لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحٍ، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، بُنِيَ عَلَى أَنَّ السِّنِينَ الْأَرْبَعَ تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، أَمْ مِنِ انْصِرَامِ الْعِدَّةِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، لَمْ يَلْحَقْهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، لَحِقَهُ إِذَا أَتَتْ بِهِ لِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ، وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ، سَوَاءٌ لَحِقَهُ أَمْ لَا، لِاحْتِمَالِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. وَلَوْ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ، فَإِنْ كَانُوا حَمْلًا وَاحِدًا، بِأَنْ كَانَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ، وَلَحِقَهُ الْجَمِيعُ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَبَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَكْثَرُ مِنْهَا، لَحِقَهُ الْأَوَّلَانِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي، وَلَا يَلْحَقُهُ الثَّالِثُ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَبَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، دُونَ السِّتَّةِ، طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَلَمْ يَلْحَقْهُ الْآخَرَانِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَفِيهِ الْخِلَافُ. وَإِنْ زَادَ مَا بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَا مَا بَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَالثَّالِثُ غَيْرُ لَاحِقٍ بِهِ، وَكَذَا الثَّانِي إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا. وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَعَلَى الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَ مَا بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ دُونَ السِّتَّةِ، وَكَذَا مَا بَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَكَانَ بَيْنَ الثَّالِثِ وَالْأَوَّلِ أَكْثَرُ مِنَ السِّتَّةِ، فَالْأَوَّلَانِ لَاحِقَانِ دُونَ الثَّالِثِ.

فَرْعٌ هَذَا الْكَلَامُ السَّابِقُ، إِذَا لَمْ تَصِرْ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ حَتَّى وَلَدَتْ، فَلَوْ صَارَتْ بِأَنْ نُكِحَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ، ثُمَّ وَلَدَتْ، نُظِرَ، إِنْ وَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ النِّكَاحِ الثَّانِي، فَكَأَنَّهَا لَمْ تُنْكَحْ، وَالْحُكْمُ عَلَى مَا سَبَقَ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثُرَ، فَالْوَلَدُ لِلثَّانِي وَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْفِرَاشَ لِلثَّانِي نَاجِزٌ، فَهُوَ أَقْوَى، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ قَدْ صَحَّ ظَاهِرًا. فَلَوْ أَلْحَقْنَا الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ، لَبَطَلَ النِّكَاحُ لِوُقُوعِهِ فِي الْعِدَّةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِبْطَالِ مَا صَحَّ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَوْ نُكِحَتْ نِكَاحًا فَاسِدًا، بِأَنْ نُكِحَتْ فِي الْعِدَّةِ، لَمْ يَقْطَعِ الْعَقْدُ الْعِدَّةَ، لَكِنْ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَسُكْنَاهَا لِنُشُوزِهَا. ثُمَّ إِنْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَهُوَ زَانٍ لَا يُؤَثِّرُ وَطْؤُهُ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ جَهِلَ التَّحْرِيمَ لِظَنِّهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، أَوْ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَحْرُمُ نِكَاحُهَا، انْقَطَعَتْ بِهِ الْعِدَّةُ لِمَصِيرِهَا فِرَاشًا لِلثَّانِي. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَدَعْوَى الْجَهْلِ بِتَحْرِيمِ الْمُعْتَدَّةِ، لَا يُقْبَلُ إِلَّا مِنْ قَرِيبِ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَدَعْوَى الْجَهْلِ بِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً يُقْبَلُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، ثُمَّ إِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، تُكْمِلُ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلثَّانِي، فَلَوْ وَلَدَتْ لِزَمَانِ الْإِمْكَانِ مِنَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، لَحِقَ بِالْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُ بِوَضْعِهِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلثَّانِي، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِزَمَانِ الْإِمْكَانِ مِنَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، بِأَنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالثَّانِي، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَهَلْ يُلْحَقُ بِالثَّانِي، أَمْ يُقَالُ: فِرَاشُ الْأَوَّلِ بَاقٍ فَيُعْرَضُ الْوَلَدُ عَلَى الْقَائِفِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِزَمَنِ الْإِمْكَانِ مِنْهُمَا، عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِمَا، أَوْ نَفَاهُ عَنْهُمَا، أَوْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، انْتُظِرَ بُلُوغُهُ وَانْتِسَابُهُ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا وَضَعَتْهُ وَمَضَتْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، حَلَّتْ لِلزَّوَاجِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِزَمَانٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بِأَنْ كَانَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ نِكَاحِ الثَّانِي، وَلِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ

مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَلْحَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا عَادَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ فِرَاشٌ. وَإِذَا نَفَيْنَاهُ عَنْهُمَا، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَنَّهُ لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَلْ بَعْدَ الْوَضْعِ تُكْمِلُ الْعِدَّةَ عَنِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عَنِ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا، فِيمَا إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالْوِلَادَةِ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، أَنَّ الثَّانِيَ لَا يَلْحَقُهُ، وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ أَنْ نَقُولَ هُنَا: تَنْقَضِي الْعِدَّةُ عَنْ أَحَدِهِمَا. ثُمَّ مُدَّةُ الْإِمْكَانِ مِنَ الزَّوْجِ الثَّانِي، هَلْ تُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْعِدَّةَ فِي نِكَاحِ الْفَاسِدِ، هَلْ تُحْسَبُ مِنْ آخِرِ وَطْءٍ فِيهِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ؟ وَالْأَصَحُّ مِنَ التَّفْرِيقِ، لِأَنَّ الْفِرَاشَ حِينَئِذٍ يَزُولُ، وَالتَّفْرِيقُ بِأَنْ يُفَرِّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا. وَفِي مَعْنَاهُ: مَا إِذَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْمُفَارَقَةِ، وَمَا إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا وَهُوَ يَظُنُّ الصِّحَّةَ، وَلَوْ غَابَ عَنْهَا عَلَى عَزْمٍ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا، لَمْ تُحْسَبْ مُدَّةُ الْغَيْبَةِ مِنَ الْعِدَّةِ، وَلَوْ عَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ، حُسِبَتْ. وَخَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، أَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْوَطْءِ كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، أَمْ يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ؟ وَأَمَّا إِذَا أَحْوَجْنَاهُ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْوَطْءِ، فَهَلْ يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ كَمِلْكِ الْيَمِينِ، أَمْ لَا يَنْتَفِي بِاللِّعَانِ؟ وَالْأَصَحُّ الثَّانِي. وَلَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ فِي الْعِدَّةِ فَوَلَدَتْ لِلْإِمْكَانِ مِنَ الزَّوَاجِ وَالْوَاطِئِ، عُرِضَ الْوَلَدُ عَلَى الْقَائِفِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. وَلَوْ وُطِئَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَهَلْ هُوَ كَالنِّكَاحِ الثَّانِي فِي قَطْعِ فِرَاشِ الْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، بَلْ يُعْرَضُ الْوَلَدُ عَلَى الْقَائِفِ، وَأَصَحُّهُمَا:

(نَعَمْ) لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَالْعِدَّةِ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ، فَعَلَى هَذَا، لَوْ وَلَدَتْ لِلْإِمْكَانِ مِنْهُمَا، لَحِقَ بِالْوَاطِئِ كَمَا يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ الثَّانِي. فَرْعٌ وَلَدَتْ وَطَلَّقَهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلِي الرَّجْعَةُ، وَقَالَتْ: بَلْ قَبْلَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتِي بِالْوَضْعِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ، كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: طَلَّقْتُكِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَقَالَتْ: يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ، فَصُدِّقَ فِيهِ كَأَصْلِهِ. وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى (وَقْتِ) الطَّلَاقِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: وَلَدْتِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقَالَتْ: يَوْمَ السَّبْتِ، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا. وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتٍ، وَادَّعَى تَقَدُّمَ الْوِلَادَةِ، وَهِيَ تَقَدُّمَ الطَّلَاقِ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ. وَلَوِ ادَّعَتْ تَقَدُّمَ الطَّلَاقِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، لَمْ يُقْنَعْ مِنْهُ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَحْلِفَ يَمِينًا جَازِمَةً أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَتَقَدَّمْ، وَإِمَّا أَنْ يَنْكِلَ فَتَحْلِفَ هِيَ، وَيُجْعَلُ بِقَوْلِهِ: لَا أَدْرِي - مُنْكِرًا، فَتُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَعَادَ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ، جُعِلَ نَاكِلًا فَتَحْلِفُ هِيَ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَتْ، فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَيْسَ هَذَا قَضَاءً بِالنُّكُولِ، بَلِ الْأَصْلُ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَآثَارِهِ، فَيُعْمَلُ بِهَذَا الْأَصْلِ مَا لَمْ يَظْهَرْ دَافِعٌ. وَلَوْ جَزَمَ الزَّوْجُ بِتَقَدُّمِ الْوِلَادَةِ، وَقَالَتْ هِيَ: لَا أَدْرِي، فَلَهُ الرَّجْعَةُ، وَالْوَرَعُ أَنْ لَا يُرَاجِعَ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَالَ: لَا نَدْرِي السَّابِقَ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ لَهَا النِّكَاحُ حَتَّى تَمْضِيَ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ.

الْبَابُ الثانِي فِي اجْتِمَاعِ عِدَّتَيْنِ قَدْ يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهَا لِشَخْصٍ، وَقَدْ يَكُونَانِ لِشَخْصَيْنِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَتَا لِشَخْصٍ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَتَا مَنْ جِنْسٍ، بِأَنْ طَلَّقَهَا وَشَرَعَتْ فِي الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ، ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ جَاهِلًا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَجَاهِلًا، أَوْ عَالِمًا إِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، تَدَاخَلَتِ الْعِدَّتَانِ، وَمَعْنَى التَّدَاخُلِ، أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ. وَقَدْرُ تِلْكَ الْبَقِيَّةِ، يَكُونُ مُشْتَرِكًا وَاقِعًا عَنِ الْجِهَتَيْنِ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي قَدْرِ الْبَقِيَّةِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ تَجْدِيدُ النِّكَاحِ فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ وَبَعْدَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَدَدُ الطَّلَاقِ مُسْتَوْفًى، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ عَنِ الْحَلِيمِيِّ، أَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ تَنْقَطِعُ بِالْوَطْءِ، وَيَسْقُطُ بَاقِيهَا، وَتَتَمَحَّضُ الْعِدَّةُ الْوَاجِبَةُ عَنِ الْوَطْءِ. قَالَ: وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا تَثْبُتَ الرَّجْعَةُ فِي الْبَقِيَّةِ، وَلَكِنْ مَنَعْنَا مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ يَنْقَطِعُ أَثَرُ النِّكَاحِ فِي حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ. وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ يَقَعُ مُتَمَحِّضًا عَنِ الطَّلَاقِ، وَلَا يُوجِبُ الْوَطْءَ إِلَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَى تَمَامِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، بِأَنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْحَمْلِ، وَالْأُخْرَى بِالْأَقْرَاءِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا حَامِلًا، ثُمَّ وَطِئَهَا، أَوْ حَائِلًا ثُمَّ أَحْبَلَهَا، فَفِي دُخُولِ الْأُخْرَى فِي الْحَمْلِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الدُّخُولُ كَالْجِنْسِ. فَعَلَى هَذَا، تَنْقَضِيَانِ بِالْوَضْعِ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ إِلَى أَنْ تَضَعَ إِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِالْحَمْلِ، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ بِالْأَقْرَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا رَجْعَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ سَقَطَتْ، وَهِيَ الْآنُ مُعْتَدَّةٌ لِلْوَطْءِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَدَاخَلَانِ، فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ لِعِدَّةِ الطَّلَاقِ، اعْتَدَّتْ بَعْدَ وَضْعِهِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَلَا رَجْعَةَ إِلَّا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ

لِعِدَّةِ الْوَطْءِ، أَتَمَّتْ بَعْدَ وَضْعِهِ بَقِيَّةَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ قَبْلَ الْوَضْعِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَهُ تَجْدِيدُ نِكَاحِهَا قَبْلَ الْوَضْعِ وَبَعْدَهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا. فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ هَذَا الْحَمْلُ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، أَمْ حَدَثَ بِالْوَطْءِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَلْزَمُهَا الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ بَعْدَ الْوَضْعِ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِالْوَضْعِ. وَحَيْثُ أَثْبَتْنَا الرَّجْعَةَ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَرِثَهُ الْآخَرُ، وَلَوْ طَلَّقَهَا، لَحِقَهَا الطَّلَاقُ، وَيَصِحُّ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ مِنْهَا. وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ، انْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ، لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فِيمَا إِذَا كَانَتْ لَا تَرَى الدَّمَ عَلَى الْحَمْلِ، أَوْ تَرَاهُ وَقُلْنَا: لَيْسَ هُوَ بِحَيْضٍ. فَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ حَيْضًا، فَهَلْ تَنْقَضِي مَعَ الْحَمْلِ الْعِدَّةُ الْأُخْرَى بِالْأَقْرَاءِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ الْحَمْلُ حَادِثًا مِنَ الْوَطْءِ، فَمَضَتِ الْأَقْرَاءُ قَبْلَ الْوَضْعِ، فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ وَضَعَتِ الْحَمْلَ قَبْلَ تَمَامِ الْأَقْرَاءِ، فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ، وَعَلَيْهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ قَبْلَ الْوَضْعِ وَبَعْدَهُ إِلَى تَمَامِ الْأَقْرَاءِ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ لِعِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَلَهُ الرَّجْعَةُ إِلَى الْوَضْعِ. فَإِذَا وَضَعَتْ، أَكْمَلَتْ لِعِدَّةِ الْوَطْءِ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَقْرَاءِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: إِذَا كَانَتِ الْعِدَّتَانِ لِشَخْصَيْنِ، بِأَنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً لِزَيْدٍ عَنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ أَوْ شُبْهَةٍ، أَوْ نَكَحَهَا جَاهِلًا وَوَطِئَهَا، أَوْ كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ مُعْتَدَّةً عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَلَا تَدَاخُلَ، بَلْ تَعْتَدُّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ عِدَّةً كَامِلَةً، ثُمَّ قَدْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ حَمْلٌ، وَقَدْ يَكُونُ. الْحَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ سَبَقَ الطَّلَاقَ وَطْءُ الشُّبْهَةِ، أَتَمَّتْ عِدَّةَ

الطَّلَاقِ، لِتَقَدُّمِهَا وَقُوَّتِهَا. فَإِذَا أَتَمَّتْهَا، اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الثَّانِي إِلَّا وَطْءُ شُبْهَةٍ، ابْتَدَأَتْ عِدَّتَهُ عَقِبَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ نَكَحَ الثَّانِي وَوَطِئَ، فَزَمَنُ كَوْنِهَا فِرَاشًا لَهُ لَا يُحْسَبُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ. وَبِمَاذَا تَنْقَطِعُ عِدَّةُ الطَّلَاقِ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَتَى تَعُودُ إِلَيْهَا؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: مِنْ آخِرِ وَطْءٍ وَقَعَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، حُكِيَ عَنِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ: مِنْ حِينِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ فِي عِدَّتِهِ، فَإِذَا رَاجَعَهَا، شَرَعَتْ فِي عِدَّةِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ. وَهَلْ لَهُ تَجْدِيدُ نِكَاحِهَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: نَعَمْ. وَلَوْ وُطِئَتْ مَنْكُوحَةٌ بِشُبْهَةٍ، ثُمَّ طُلِّقَتْ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الشُّبْهَةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تُتِمُّ عِدَّةَ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ تَبْتَدِئُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ مُرَاعَاةً لِلسَّابِقِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: تُقَدِّمُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، لِقُوَّتِهَا. فَإِنْ قَدَّمْنَا عِدَّةَ الشُّبْهَةِ، فَلَهُ الرَّجْعَةُ إِذَا اشْتَغَلَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَهَلْ لَهُ الرَّجْعَةُ قَبْلَ ذَلِكَ؟ وَجْهَانِ، وَلَا يَجُوزُ تَجْدِيدُ نِكَاحِهَا فِي عِدَّةِ الشُّبْهَةِ إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، لِأَنَّهَا فِي عِدَّةِ الْغَيْرِ. وَإِذَا قُلْنَا: تُقَدِّمُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، شَرَعَتْ فِيهَا بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا تَمَّتْ، عَادَتْ إِلَى بَقِيَّةِ عِدَّةِ الشُّبْهَةِ، وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا. وَهَلْ لَهُ تَجْدِيدُ النِّكَاحِ إِنْ كَانَ بَائِنًا؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. وَلَوْ طَرَأَ وَطْءُ شُبْهَةٍ فِي عِدَّةِ وَطْءِ شُبْهَةٍ، أَتَمَّتْ عِدَّةَ الْوَاطِئِ الْأَوَّلِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا، وَوَطِئَهَا غَيْرُهُ بِشُبْهَةٍ، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِظُهُورِ فَسَادِ النِّكَاحِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: تُقَدَّمُ عِدَّةُ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ عِدَّتَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، وَعِدَّةَ النَّاكِحِ مِنَ التَّفْرِيقِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ عِدَّةَ الْوَاطِئِ سَبَقَ وَجُوبُهَا، وَلَيْسَ لِلْفَاسِدِ قُوَّةُ الصَّحِيحِ لِيَتَرَجَّحَ بِهَا، وَقَدْ تَكُونُ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ بِالْأَقْرَاءِ، وَالْأُخْرَى بِالْأَشْهُرِ، بِأَنْ طَلَّقَهَا فَمَضَى قَرْءَانِ، ثُمَّ نُكِحَتْ فَاسِدًا وَدَامَ فِرَاشُهُ حَتَّى أَيِسَتْ، ثُمَّ فُرِّقَ

بَيْنَهُمَا، فَتُكْمِلُ عِدَّةَ الْأَوَّلِ بِشَهْرٍ، بَدَلًا عَنِ الْقَرْءِ الْبَاقِي، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْفَاسِدِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَمْلٌ، فَيُقَدَّمُ عِدَّةُ مَنِ الْحَمْلُ مِنْهُ سَابِقًا كَانَ أَوْ مُتَأَخِّرًا، فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ لِلْمُطْلِّقِ، ثُمَّ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، فَإِذَا وَضَعَتِ انْقَضَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ لِلشُّبْهَةِ بَعْدَ طُهْرِهَا مِنَ النِّفَاسِ، وَلِلزَّوْجِ رَجْعَتُهَا قَبْلَ الْوَضْعِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَكِنْ لَا يُرَاجِعُهَا فِي مُدَّةِ اجْتِمَاعِ الْوَاطِئِ بِهَا، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ خَارِجَةٌ عَنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَفِرَاشٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَهَلْ لَهُ تَجْدِيدُ نِكَاحِهَا قَبْلَ الْوَضْعِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ وَأَحْبَلَهَا، ثُمَّ وَطِئَهَا آخَرُ، هَلْ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَنْكِحَهَا قَبْلَ الْوَضْعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّةِ الثَّانِي بِحَالٍ، وَلِلثَّانِي أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّةِ نَفْسِهِ؟ . وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، فَإِذَا وَضَعَتْ، انْقَضَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ وَعَادَتْ إِلَى بَقِيَّةِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ، إِنْ كَانَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُدَّةُ النِّفَاسِ وَغَيْرُهَا، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْعِدَّةِ، كَالْحَيْضِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ. وَقِيلَ: لَا رَجْعَةَ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا ثَبَتَتِ الرَّجْعَةُ، فَلَوْ طَلَّقَ، لَحِقَهَا الطَّلَاقُ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَرِثَهُ الْآخَرُ وَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِوَفَاةِ الزَّوْجِ، وَهَلْ لَهُ الرَّجْعَةُ قَبْلَ الْوَضْعِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، أَوْ تَجْدِيدُ النِّكَاحِ إِنْ كَانَ بَائِنًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: نَعَمْ، لِأَنَّهُ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهُ، وَكَمَا فِي الْعِدَّتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ مِنْ شَخْصٍ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمَاوَرْدِيِّ وَالْبَغَوِيِّ: لَا، لِأَنَّهَا فِي عِدَّةِ غَيْرِهِ. ثُمَّ قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَضْعِ، لَحِقَهَا الطَّلَاقُ وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَرِثَهُ الْآخَرُ، فَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ، انْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، حَتَّى إِذَا وَضَعَتْ، تَعْتَدُّ عَنِ الزَّوْجِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَإِنْ كَانَ لَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ، لِأَنَّا نَجْعَلُ زَمَانَ الرَّجْعَةِ كَزَمَانِ صُلْبِ النِّكَاحِ،

هَذَا لَفْظُهُ، وَإِذَا رَاجَعَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَجَوَّزْنَاهُ، فَلَيْسَ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى تَضَعَ، كَمَا إِذَا وُطِئَتْ مَنْكُوحَةٌ بِشُبْهَةٍ، فَاشْتَغَلَتْ بِالْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ، وَفِي ذِمَّتِهَا عِدَّةُ الشُّبْهَةِ، فَرَاجَعَهَا، انْقَضَتْ عِدَّتُهُ فِي الْحَالِ، وَبَقِيَتْ عِدَّةُ الشُّبْهَةِ مُؤَخَّرَةً حَتَّى تَضَعَ وَتَعُودَ إِلَى أَقْرَائِهَا. وَهَلْ لَهُ وَطْؤُهَا فِي الْحَالِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ لَيْسَتْ فِي عِدَّةٍ. وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهَا مُتَعَرِّضَةٌ لِلْعِدَّةِ، وَمَالَ الْمُتَوَلِّي إِلَى تَرْجِيحِ هَذَا، وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلَ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ الْجَوَازُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ وُطِئَتِ الْمَنْكُوحَةُ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ بِشُبْهَةٍ وَهِيَ حَامِلٌ مِنَ الزَّوْجِ. وَلَوْ كَانَتْ تَرَى الدَّمَ عَلَى الْحَمْلِ، وَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا، فَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّ الْعِدَّةَ الْأُخْرَى تَنْقَضِي بِالْأَقْرَاءِ، كَالْعِدَّتَيْنِ مِنْ شَخْصٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، لِأَنَّ فِيهِ مَصِيرًا إِلَى تَدَاخُلِ عِدَّتَيْ شَخْصَيْنِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا، فِيمَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ هَذَا أَوْ ذَاكَ، لِانْحِصَارِ الْإِمْكَانِ فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بِأَنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ بَائِنٌ أَوْ رَجْعِيٌّ عَلَى قَوْلٍ، وَلِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي، فَالْوَلَدُ مَنْفِيٌّ عَنْهُمَا، وَلَا تَنْقَضِي بِوَضْعِهِ عِدَّةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ، بَلْ إِذَا وَضَعَتْهُ تَمَّمَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الثَّانِي. وَقِيلَ: تَعْتَدُّ بِوَضْعِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، لِإِمْكَانِ كَوْنِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عَنِ الْآخَرِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. فَرْعٌ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَرْعَانِ. أَحَدُهُمَا: لَوْ كَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا، قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ قُلْنَا: تَنْقَضِي عِدَّةُ أَحَدِهِمَا بِالْوَضْعِ، لَمْ تَعْتَدَّ بِأَقْرَائِهَا، لِئَلَّا تَتَدَاخَلَ عِدَّةُ شَخْصَيْنِ، وَإِلَّا فَفِي الِاحْتِسَابِ بِأَقْرَائِهَا وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الِاحْتِسَابُ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَعْتَدَّ بِالْحَمْلِ، كَانَتْ كَالْحَائِلِ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» .

الثَّانِي: إِنْ قُلْنَا تَنْقَضِي بِالْوَضْعِ عِدَّةُ أَحَدِهِمَا، لَمْ تَصِحَّ رَجْعَةُ الزَّوْجِ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ وَلَا فِي الْأَقْرَاءِ بَعْدَ الْوَضْعِ، لِلشَّكِّ فِي أَنَّ عِدَّتَهُ هَذِهِ أَمْ هَذِهِ؟ فَلَوْ رَاجَعَ مَرَّةً فِي الْحَمْلِ، وَمَرَّةً فِي الْأَقْرَاءِ، فَفِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ وَجْهَانِ سَيَأْتِي نَظِيرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَنْقَضِي، أَتَمَّتْ بَعْدَ الْوَضْعِ عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَهُوَ الزَّوْجُ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِيهِ. وَهَلْ لَهُ الرَّجْعَةُ قَبْلَهُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. فَرْعٌ إِذَا احْتَمَلَ كَوْنُ الْوَلَدِ مِنَ الزَّوْجِ، وَمِنَ الْوَاطِئِ بِالشُّبْهَةِ، عُرِضَ بَعْدَ الْوَضْعِ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِالزَّوْجِ أَوْ بِالْوَاطِئِ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا اخْتَصَّ الِاحْتِمَالُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ أَوْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ، أَوْ أَلْحَقَهُ بِهِمَا، أَوْ نَفَاهُ عَنْهُمَا، أَوْ مَاتَ الْوَلَدُ وَتَعَذَّرَ عَرْضُهُ، انْقَضَتْ عِدَّةُ أَحَدِهِمَا بِوَضْعِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ الْوَضْعِ لِلْآخَرِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا، بَلِ الْمُرَادُ أَنْ لَا يُوجَدُ فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، وَهُوَ الْمَسَافَةُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي أَقَلِّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَسَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْعَرْضِ عَلَى الْقَائِفِ، ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا، أَوِ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَقَطْ. وَقِيلَ: إِذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، اخْتَصَّ بِهِ، كَالْأَمْوَالِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِحَقِّ الْوَلَدِ وَحَقِّ الشَّرْعِ فِي النَّسَبِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ هَلْ هِيَ فِرَاشٌ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، عُرِضَ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا: فِرَاشٌ، وَأَنَّ السِّنِينَ الْأَرْبَعَ فِي حَقِّهَا تُعْتَبَرُ مِنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَالْوَلَدُ مُلْحَقٌ (بِالزَّوْجِ) وَلَا يُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ. ثُمَّ فِي هَذَا الْفَرْعِ مَسْأَلَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: إِذَا رَجَعَ الزَّوْجُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، بُنِيَ عَلَى مَا إِذَا تَأَخَّرَتْ عِدَّةُ الزَّوْجِ

لِإِحْبَالِ الْوَاطِئِ، هَلْ لَهُ الرَّجْعَةُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، صَحَّتْ رَجْعَتُهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَإِلَّا فَلَا. فَلَوْ بَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْهُ بِإِلْحَاقِ الْقَائِفِ، فَهَلْ يُحْكَمُ الْآنَ بِأَنَّ الرَّجْعَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَلَوْ رَاجَعَ بَعْدَ الْوَضْعِ، لَمْ يُحْكَمْ بِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ أَيْضًا، لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْحَمْلِ مِنْهُ، وَأَنَّ عِدَّتَهُ انْقَضَتْ بِوَضْعِهِ. فَلَوْ بَانَ بِإِلْحَاقِ الْقَائِفِ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، فَفِي الْحُكْمِ الْآنَ بِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ الْوَجْهَانِ، هَذَا إِذَا رَاجَعَ فِي الْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ بَعْدَ الْوَضْعِ أَنَّهُ مِنَ الْأَقْرَاءِ دُونَ مَا أَوْجَبْنَاهُ احْتِيَاطًا. بَيَانُهُ: وَطِئَهَا الْأَجْنَبِيُّ بَعْدَ مُضِيِّ قَرْءٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، فَالْقَدْرُ الَّذِي يُتَيَقَّنُ لُزُومُهُ بَعْدَ الْوَضْعِ قَرْءَانِ، وَإِنَّمَا نُوجِبُ الْقَرْءَ الثَّالِثَ احْتِيَاطًا، لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْحَمْلِ مِنَ الزَّوْجِ. وَلَوْ رَاجَعَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً قَبْلَ الْوَضْعِ، وَمَرَّةً بَعْدَهُ فِي الْقَرْءَيْنِ، فَفِي صِحَّةِ رَجْعَتِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ، لِوُجُودِ رَجْعَةٍ فِي عِدَّتِهِ يَقِينًا، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِلتَّرَدُّدِ. وَلَوْ جُدِّدَ النِّكَاحُ، إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، نُظِرَ، إِنْ نَكَحَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً قَبْلَ الْوَضْعِ أَوْ بَعْدَهُ، لَمْ يُحْكَمْ بِصِحَّتِهِ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ فِي عِدَّةِ الشُّبْهَةِ. فَإِنْ بَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَوْنُ الْعِدَّةِ كَانَتْ مِنْهُ بِإِلْحَاقِ الْقَائِفِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الرَّجْعَةِ. قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ مِنْ وَقْفِ الْعُقُودِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَقْفٌ عَلَى ظُهُورِ أَمْرٍ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَإِنْ نَكَحَهَا مَرَّتَيْنِ قَبْلَ الْوَضْعِ وَبَعْدَهُ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ، كَالرَّجْعَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: الْأَصَحُّ هُنَا الْمَنْعُ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَحْتَمِلُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ النِّكَاحُ، وَلِهَذَا تَصِحُّ فِي الْإِحْرَامِ، وَالْوَجْهَانِ مُفْرَّعَانِ عَلَى صِحَّةِ تَجْدِيدِ الزَّوْجِ فِي عِدَّتِهِ، مَعَ أَنَّ فِي ذِمَّتِهَا عِدَّةَ شُبْهَةٍ، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ قَطْعًا، لِاحْتِمَالِ تَأَخُّرِ عِدَّةِ الشُّبْهَةِ، فَلَا تَصِحُّ الْمَرَّةُ الْأُولَى لِلْعِدَّةِ الَّتِي فِي ذِمَّتِهَا، وَلَا الثَّانِيَةُ، لِكَوْنِهَا فِي عِدَّةِ شُبْهَةٍ. فَلَوْ نَكَحَهَا الْوَاطِئُ بِشُبْهَةٍ قَبْلَ الْوَضْعِ أَوْ بَعْدَهُ فِي الْقَرْءَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا فِي عِدَّةِ الزَّوْجِ. وَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ فِي الْقَرْءَيْنِ، ثُمَّ بَانَ بِالْقَائِفِ أَنَّ الْحَمْلَ مِنَ الزَّوْجِ، فَفِي

تَبَيُّنِ الصِّحَّةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَلَوْ نَكَحَهَا فِي الْقَرْءِ الثَّالِثِ، صَحَّ قَطْعًا، لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ إِنْ كَانَ الْحَمْلُ مِنَ الزَّوْجِ، وَإِلَّا فَغَيْرُ مُعْتَدَّةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي الْعِدَّةِ، وَأَنَّ الْبَائِنَ لَا تَسْتَحِقُّهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَنَذْكُرُ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ، أَمْ لِلْحَامِلِ؟ وَقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ تُصْرَفُ إِلَيْهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ، أَمْ يُصْرَفُ الْجَمِيعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْوَضْعِ؟ وَأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الْوَاطِئِ إِذَا قُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَامِلِ. إِذَا عُرِفَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ، فَإِنْ قُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَامِلِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لَمْ تُطَالِبِ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ وَلَا الْوَاطِئَ بِالنَّفَقَةِ مُدَّةَ الْحَمْلِ الْمُحْتَمِلِ. فَإِذَا وَضَعَتْ، نُظِرَ، إِنْ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِالزَّوْجِ، طَالِبَتْهُ بِنَفَقَةِ مُدَّةِ الْحَمْلِ الْمَاضِيَةِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَصِرْ فِرَاشًا لِلثَّانِي، بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا وَطْءُ شُبْهَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى زَمَنُ اجْتِمَاعِهَا بِالثَّانِي، فَإِنْ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ، بِأَنْ نَكَحَهَا جَاهِلًا وَبَقِيَتْ فِي فِرَاشِهِ حَتَّى وَضَعَتْ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ، لِكَوْنِهَا نَاشِزَةً بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْوَضْعِ، طَالَبَتْهُ بِالنَّفَقَةِ مِنْ يَوْمِ التَّفْرِيقِ إِلَى الْوَضْعِ، ثُمَّ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الْوَاطِئِ فِي عِدَّتِهَا عَنْهُ بِالْأَقْرَاءِ. وَإِنْ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِالْوَاطِئِ، لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا نَفَقَةُ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ نَفَقَةُ مُدَّةِ الْقَرْءَيْنِ بَعْدَ الْوَضْعِ إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا نَفَقَةُ مُدَّةِ النِّفَاسِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ فِيهَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَوْنَهُ لَا يُحْسَبُ مِنَ الْعِدَّةِ كَمُدَّةِ الْحَيْضِ، وَإِنْ لَمْ نُلْحِقْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، فَلَا نَفَقَةَ عَلَى الْوَاطِئِ، وَلَا عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ حَالَ الْحَمْلِ، وَلَا نَفَقَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ. وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَلَا نَفَقَةَ لِمُدَّةِ كَوْنِهَا فِرَاشًا، وَلَهَا عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ نَفَقَتِهَا مِنْ يَوْمِ التَّفْرِيقِ إِلَى الْوَضْعِ، وَنَفَقَتُهَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي تُكْمِلُ بِهِ عِدَّةَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْوَضْعِ وَهُوَ قَرْءَانِ فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ. هَذَا إِذَا قُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَامِلِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لِلْحَمْلِ، فَعَلَى أَحَدِهِمَا نَفَقَةُ مُدَّةِ الْحَمْلِ بِيَقِينٍ،

فَإِذَا أَشْكَلَ الْحَالُ، أَنْفَقَا عَلَيْهِ بِالسَّوِيَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا: نَصْرِفُ الْجَمِيعَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْوَضْعِ، أُخِذَتْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ نَفَقَتِهِمَا، هَكَذَا رَتَّبَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرُّويَانِيُّ فِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهَا لَا تُطَالِبُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ بَيْنَ قَوْلِنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ أَوْ لِلْحَامِلِ، فَعَلَى هَذَا، إِذَا وَضَعَتْ فَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِالْوَاطِئِ، قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَا تُطَالِبُ بِالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ، أَنَّهُ يُطَالَبُ بِتِلْكَ النَّفَقَةِ، وَقَالُوا: هَذِهِ النَّفَقَةُ تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَلَيْسَتْ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ إِذَا أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِالزَّوْجِ، لَا يُطَالَبُ بِالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهَا لِلْحَمْلِ، وَأَنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، قَالَ: وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي الْمَصِيرَ إِلَيْهِ. أَمَّا نَفَقَةُ الْوَلَدِ بَعْدَ الْوَضْعِ وَحَضَانَتُهُ، فَعَلَى مَا أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِهِ مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، أَوْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ، فَهِيَ عَلَيْهِمَا مُنَاصَفَةً إِلَى أَنْ يُوجَدَ الْقَائِفُ، أَوْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، فَيَنْتَسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا. وَقِيلَ: لَا يُطَالَبَانِ بِالنَّفَقَةِ فِي مُدَّةِ الْإِشْكَالِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ إِذَا أَنْفَقَا (عَلَيْهِ) ، ثُمَّ لَحِقَ الْوَلَدُ بِأَحَدِهِمَا بِإِلْحَاقِ الْقَائَفِ، أَوْ بِانْتِسَابِهِ، رَجَعَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ بِشَرْطَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْإِنْفَاقُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُدَّعِيًا لِلْوَلَدِ، فَإِنْ كَانَ يَدَّعِيهِ، فَلَا رُجُوعَ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى وَلَدِهِ بِزَعْمِهِ. وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ فِي زَمَنِ الْإِشْكَالِ، فَكَفَّنَهُ عَلَيْهِمَا، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَالِهِ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَاطِئِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدَانِ آخَرَانِ، أَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجِ وَالْوَاطِئِ وَلَدَانِ، فَلَهَا السُّدُسُ. فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا وَلَدَانِ دُونَ الْآخَرِ، فَهَلْ لَهَا الثُّلُثُ لِلشَّكِّ فِي كَوْنِهِمَا أَخَوَيْنِ لِلْمَيِّتِ، أَمِ السُّدُسُ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ؟ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ السُّدُسُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَوْصَى إِنْسَانٌ لِهَذَا الْحَمْلِ بِشَيْءٍ، فَانْفَصَلَ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ قَبُولِ الزَّوْجِ وَالْوَاطِئِ الْوَصِيَّةَ، فَالْوَصِيَّةُ مُسْتَقِرَّةٌ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَبُوهُ، وَالْمَالُ لِوَرَثَتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَا، فَحَقُّ الْقَبُولِ لِلْوَرَثَةِ. وَلَوْ سَمَّى الْمُوصِي أَحَدَهُمَا، فَقَالَ: أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ فُلَانٍ هَذَا، فَإِنْ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِغَيْرِ الْمُسَمَّى، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ، صَحَّتْ، وَإِنْ نَفَاهُ بِاللِّعَانِ، فَفِي بُطْلَانِهَا وَجْهَانِ. فَرْعٌ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ شَخْصَيْنِ، لَا يَتَدَاخَلَانِ إِذَا كَانَ فِي شَخْصَيْنِ مُحْتَرَمَيْنِ. فَأَمَّا إِذَا طَلَّقَ حَرْبِيٌّ زَوْجَتَهُ، فَوَطِئَهَا فِي عِدَّتِهِ حَرْبِيٌّ آخَرُ بِشُبْهَةٍ، أَوْ نَكَحَهَا وَوَطِئَهَا، ثُمَّ أَسْلَمَتْ مَعَ الثَّانِي، أَوْ دَخَلَا بِأَمَانٍ، وَتَرَافَعَا إِلَيْنَا، فَحُكِيَ عَنِ النَّصِّ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ، بَلْ يَكْفِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْ يَوْمِ وَطْئِهَا الثَّانِي) . وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ. أَحُدُهَا: الِاكْتِفَاءُ بِعِدَّةٍ عَمَلًا بِهَذَا النَّصِّ، لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ ضَعِيفَةٌ، وَمَاؤُهُمْ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، فَيُرَاعَى أَصْلُ الْعِدَّةِ، وَيُجْعَلُ جَمِيعُهُمْ كَشَخْصٍ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِدَّتَيْنِ كَالْمُسْلِمِينَ، وَرَدَّ هَذَا النَّصُّ. وَالثَّالِثُ: عَلَى قَوْلَيْنِ. وَنَقَلَ السَّرَخْسِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، أَنَّ بَعْضَهُمْ خَرَجَ مِنْ هَذَا النَّصِّ، فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْعِدَّتَانِ لِمُسْلِمَيْنِ، وَجَعَلَ الصُّورَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ نَقْلًا وَتَخْرِيجًا، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ جِدًّا. فَإِذَا قُلْنَا فِي الْكَافِرِينَ: يَكْفِي عِدَّةٌ، فَهَلْ نَقُولُ: هِيَ لِلْوَطْءِ الثَّانِي فَقَطْ وَتَسْقُطُ بَقِيَّةُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ لِضَعْفِ حُقُوقِ الْحَرْبِيِّ وَبُطْلَانِهَا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى زَوْجَتِهِ، أَمْ نَقُولُ: تَدْخُلُ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ، وَلَمْ يُسْلِمِ الثَّانِي، وَجَبَ أَنْ تُكْمِلَ الْعِدَّةَ الْأُولَى، ثُمَّ تَعْتَدَّ عَنِ الثَّانِي قَطْعًا، لِأَنَّ الْعِدَّةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ هُنَا أَقْوَى حَتَّى تَسْقُطَ بَقِيَّةُ الْأُولَى أَوْ تَدْخُلَ فِيهَا. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ طَلَّقَهَا رَجْعِيَّةً، وَأَسْلَمَتْ مَعَ الثَّانِي، ثُمَّ أَسْلَمَ الْأَوَّلُ، فَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهِ، إِنْ قُلْنَا بِدُخُولِهَا فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ قُلْنَا بِسُقُوطِهَا، فَلَا. قَالَ: وَلَوْ أَرَادَ الثَّانِي أَنْ يَنْكِحَهَا، فَلَهُ ذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: بِسُقُوطِ بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ فَقَطْ، وَإِنْ قُلْنَا بِدُخُولِهَا فِي الثَّانِيَةِ، فَلَا، حَتَّى تَنْقَضِيَ تِلْكَ الْبَقِيَّةُ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا مِنَ الْأَوَّلِ، لَمْ تَكْفِهَا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ، بَلْ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَ الْوَضْعِ عِدَّةَ الثَّانِي. وَإِنَّ أَحْبَلَهَا الثَّانِي، فَإِنْ قُلْنَا: تَسْقُطُ بَقِيَّةُ الْأُولَى، فَكَذَا هُنَا، وَيَكْفِيهَا وَضْعُ الْحَمْلِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ، عَادَتْ بَعْدَ الْوَضْعِ إِلَى بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَلَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهُ. وَلَوْ طَلَّقَ حَرْبِيٌّ زَوْجَتَهُ، فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ حَرْبِيٌّ بِنِكَاحٍ وَطَلَّقَهَا حَرْبِيٌّ، فِيهَا الْخِلَافُ، وَفِيهِ صَوَّرَ الْإِمَامُ الْمَسْأَلَةَ. فَصْلٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهَجَرَهَا، أَوْ غَابَ عَنْهَا، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِمُضِيِّ الْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ. فَلَوْ لَمْ يَهْجُرْهَا، بَلْ كَانَ يَطَؤُهَا، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ وَطْءُ زِنًا لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا تَشْرَعُ فِي الْعِدَّةِ مَا دَامَ يَطَؤُهَا، لِأَنَّ الْعِدَّةَ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَهِيَ مَشْغُولَةٌ. وَإِنْ كَانَ لَا يَطَؤُهَا، وَلَكِنْ يُخَالِطُهَا وَيُعَاشِرُهَا مُعَاشَرَةَ الْأَزْوَاجِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحُدُهَا: لَا تُحْسَبُ تِلْكَ الْمَدَّةُ مِنَ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ الْمُطَلَّقَاتِ الْمَهْجُورَاتِ. وَالثَّانِي: تُحْسَبُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُخَالَطَةَ لَا تُوجِبُ عِدَّةً، فَلَا تَمْنَعُهَا، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ أَخَذَ الْأَئِمَّةُ، مِنْهُمُ الْقَفَّالُ

وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْبَغَوِيُّ فِي «التَّهْذِيبِ» وَ «الْفَتَاوَى» ، وَالرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ: إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، حُسِبَتْ مُدَّةُ الْمُعَاشَرَةِ مِنَ الْعِدَّةِ. وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَلَا، لِأَنَّ مُخَالَطَةَ الْبَائِنِ مُحَرَّمَةٌ بِلَا شُبْهَةٍ، فَأَشْبَهَتِ الزِّنَا بِهَا. وَفِي الرَّجْعِيَّةِ الشُّبْهَةُ قَائِمَةٌ، وَهُوَ بِالْمُخَالَطَةِ مُسْتَفْرِشٌ لَهَا، فَلَا يُحْسَبُ زَمَنُ الِاسْتِفْرَاشِ مِنَ الْعِدَّةِ، كَمَا لَوْ نَكَحَتْ فِي الْعِدَّةِ زَوْجًا جَاهِلًا بِالْحَالِ، لَا يُحْسَبُ زَمَنُ اسْتِفْرَاشِهِ. ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ فَرْعَانِ. أَحَدُهُمَا: قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : الَّذِي عِنْدِي، أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَقْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْجَانِبَيْنِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ مَا يُوَافِقُ هَذَا، وَأَمَّا لُحُوقُ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، فَيَسْتَمِرُّ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ أَيْضًا، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ. الثَّانِي: قَالَ فِي الْبَسِيطِ: يَكْفِي فِي الْحُكْمِ بِالْمُعَاشَرَةِ الْخَلْوَةُ، وَلَا يَكْفِي دُخُولُ دَارٍ هِيَ فِيهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَوَاصُلُ الْخَلْوَةِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَخْلُوَ بِهَا اللَّيَالِيَ، وَيُفَارِقَهَا الْأَيَّامَ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. فَلَوْ طَالَبَتِ الْمُفَارَقَةَ، ثُمَّ جَرَتْ خَلْوَةٌ، فَفِي الْبِنَاءِ عَلَى مَا مَضَى احْتِمَالَانِ. أَشْبَهُهُمَا: الْبِنَاءُ، وَأَجْرَى الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ فِيمَا لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ فَعَاشَرَهَا السَّيِّدُ، هَلْ تُمْنَعُ مِنَ الِاحْتِسَابِ بِالْعِدَّةِ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : وَلَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَنَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ وَحَلَّتْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: زَمَنُ اسْتِفْرَاشِهَا لَا يُحْسَبُ مِنَ الْعِدَّةِ كَالرَّجْعِيَّةِ، وَأَمَّا إِذَا خَالَطَ الْمُعْتَدَّةَ أَجْنَبِيٌّ عَالِمًا، فَلَا يُؤَثِّرُ، كَمَا لَا يُؤَثِّرُ وَطْؤُهُ. وَإِنْ خَالَطَ بِشُبْهَةٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الِاحْتِسَابِ، كَمَا سَبَقَ أَنَّهَا فِي زَمَنِ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ خَارِجَةٌ عَنِ الْعِدَّةِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فِيمَا إِذَا كَانَتْ حَائِلًا، فَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ بِالْحَمْلِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مُعَاشَرَتَهَا لَا تَمْنَعُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالْوَضْعِ. فَرْعٌ سَبَقَ أَنَّهُ إِذَا نَكَحَ مُعْتَدَّةً عَلَى ظَنِّ الصِّحَّةِ، وَوَطِئَهَا، لَمْ يُحْسَبْ زَمَنُ اسْتِفْرَاشِهِ إِيَّاهَا عَنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ. وَمِنْ أَيِّ وَقْتٍ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ.

فصل

أَصَحُّهَا: مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا حُرْمَةَ لَهُ. وَالثَّانِي: مِنْ حِينِ يَخْلُو بِهَا وَيُعَاشِرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ. وَالثَّالِثُ: مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِنِ اتَّصَلَ بِهِ زِفَافٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَالرَّابِعُ: مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ زِفَافٌ، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، لِأَنَّهَا بِالْعَقْدِ مُعْرِضَةٌ عَنِ الْعِدَّةِ. فَرْعٌ مَنْ نَكَحَ مُعْتَدَّةً مَنْ غَيْرِهِ جَاهِلًا وَوَطِئَهَا، لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَنَصُّهُ فِي الْجَدِيدِ. وَعَنِ الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَحْرُمُ أَبَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ الْقَدِيمَ. وَذَكَرَ الَّذِينَ أَثْبَتُوهُ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَفْرِيطُ الْحَاكِمِ كَاللِّعَانِ، أَمْ لَا، كَالْإِرْضَاعِ؟ وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ إِجْرَاءَ الْقَدِيمِ فِي كُلِّ وَطْءٍ يُفْسِدُ النَّسَبَ، كَوَطْءِ زَوْجَةِ الْغَيْرِ، أَوْ أَمَتِهِ بِالشُّبْهَةِ. فَصْلٌ طَلَّقَ رَجْعِيًّا ثُمَّ رَاجَعَهَا، انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَهُ، فَلَهَا حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ حَائِلًا، فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ، لَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ، وَإِلَّا لَزِمَهَا الِاسْتِئْنَافُ أَيْضًا عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ. وَفِي الْقَدِيمِ: تَبْنِي عَلَى الْعِدَّةِ السَّابِقَةِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ رَاجَعَهَا فِي خِلَالِ الطُّهْرِ، فَهَلْ يُحْسَبُ مَا مَضَى مِنَ الطُّهْرِ قَرْءًا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّ بَعْضَ الْقَرْءِ كَالْقَرْءِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَتِ الرَّجْعَةُ فِي خِلَالِ الطُّهْرِ الثَّالِثِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِ الْبِنَاءِ، لِتَمَامِ الْأَقْرَاءِ بِمَا مَضَى، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، بَلْ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَرْءٌ ثَالِثٌ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ بَعْضُ الطُّهْرِ مِنْ آخِرِهِ قَرْءًا لِاتِّصَالِهِ بِالْحَيْضِ، وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ، بِخِلَافِ بَعْضِ الْأَوَّلِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً قَبْلَ الْوِلَادَةِ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ، وَطِئَهَا أَمْ لَا. وَإِنْ وَلَدَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا، لَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ، اسْتَأْنَفَتْ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَقِيلَ: وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوَضْعِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا. فَلَوْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا أُخْرَى، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تَبْنِي عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى، لِأَنَّهُمَا طَلَاقَانِ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا وَطْءٌ وَلَا رَجْعَةٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ مَعًا. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ وَالْقَفَّالُ: فِي وُجُوبِ الِاسْتِئْنَافِ قَوْلَانِ، كَمَا فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ رَاجَعَهَا ثُمَّ خَالَعَهَا، فَإِنْ جَعَلْنَا الْخُلْعَ طَلَاقًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ فَسْخًا، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِئْنَافِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالِاسْتِئْنَافِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الطَّلَاقِ، فَلَا تُبْنَى عِدَّةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ أَظْهَرُ عِنْدَ الرُّويَانِيِّ، وَيَجْرِي الطَّرِيقَانِ فِي سَائِرِ الْفُسُوخِ، مِثْلَ أَنْ يَنْكِحَ عَبْدٌ أَمَةً ثُمَّ يُطَلِّقَهَا رَجْعِيًّا، ثُمَّ تَعْتِقَ هِيَ وَيُفْسَخَ النِّكَاحُ. فَرْعٌ إِذَا طَلَّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا عَلَى عِوَضٍ، أَوْ خَالَعَهَا، فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَنُقِلَ فِي «الْمُهَذَّبِ» عَنِ الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا غَرِيبٌ. فَإِذَا نَكَحَهَا، فَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ عِدَّتُهَا مَا لَمْ يَطَأْهَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا أَجْنَبِيٌّ فِي الْعِدَّةِ جَاهِلًا، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا تَنْقَطِعُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ نِكَاحَهُ صَحِيحٌ، وَزَوْجَتُهُ الْمُبَاحَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ التَّجْدِيدِ، نُظِرَ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ السَّابِقَةِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ، لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ جَدِيدٌ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِدَّةُ، وَلَا كَمَالُ الْمَهْرِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي الرَّجْعِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَعُودُ بِالرَّجْعَةِ إِلَى ذَلِكَ النِّكَاحِ. وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، لَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ، وَتَدْخُلُ فِي الْعِدَّةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ السَّابِقَةِ، وَلَوْ مَاتَ عَنْهَا بَعْدَ التَّجْدِيدِ، فَالْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ يَكْفِيهَا

فصل

عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَتَسْقُطُ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ السَّابِقَةِ، كَمَا لَوْ مَاتَ عَنْ رَجْعِيَّةٍ. وَذَكَرَ الْغَزَّالِيُّ فِي انْدِرَاجِ تِلْكَ الْبَقِيَّةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَجْهَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ. إِحْدَاهَا: نَكَحَ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ، وَوَطِئَهَا جَاهِلًا، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَا قَائِفَ، انْقَضَتْ بِوَضْعِهِ عِدَّةُ أَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهَا بَعْدَهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ بَقِيَّةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِالْأَشْهُرِ، وَثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. الثَّانِيَةُ: وَطِئَ الشَّرِيكَانِ الْمُشْتَرَكَةَ، لَزِمَهَا اسْتِبْرَاءَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَا تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ، وَقِيلَ: يَكْفِي اسْتِبْرَاءٌ. الثَّالِثَةُ: أَحَبَلَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ ثُمَّ نَكَحَهَا وَمَاتَ قَبْلَ وِلَادَتِهَا، فَهَلْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، أَمْ بِأَكْثَرِ الْأَجَلَيْنِ مِنْ وَضْعِ الْحَمْلِ وَمُدَّةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَفِي انْقِضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ بِالْوَضْعِ الْوَجْهَانِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَالْمَفْقُودِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا، لَزِمَهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا، فَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، وَيَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ، وَذَاتُ الْأَقْرَاءِ وَغَيْرُهَا، وَالْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا، وَزَوْجَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَمْسُوحِ وَغَيْرِهِمَا، وَتُعْتَبَرُ الْأَشْهُرُ بِالْأَهِلَّةِ مَا أَمْكَنَ. فَإِنْ مَاتَ فِي خِلَالِ شَهْرٍ، وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، عَدَّتْ مَا بَقِيَ، وَحَسَبَتْ بِعِدَّةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ، وَتُكْمِلُ مَا بَقِيَ مِنْ شَهْرِ الْوَفَاةِ ثَلَاثِينَ مِنَ الشَّهْرِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ، وَتَضُمُّ إِلَيْهِ عَشَرَةَ

أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ شَهْرِ الْوَفَاةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، حَسَبَتْ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ، ثُمَّ تُكْمِلُ بَقِيَّةَ الْعَشَرَةِ مِنَ الشَّهْرِ السَّادِسِ. وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، اعْتَدَّتْ بِهَا وَبِأَرْبَعَةِ أَهِلَّةٍ بَعْدَهَا. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ إِنِ انْكَسَرَ شَهْرٌ، انْكَسَرَ الْجَمِيعُ وَاعْتُبِرَتْ كُلُّهَا بِالْعَدَدِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. وَإِنِ انْطَبَقَ الْمَوْتُ عَلَى أَوَّلِ الْهِلَالِ، حَسَبَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ، وَضَمَّتْ إِلَيْهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ الْخَامِسِ. وَلَوْ كَانَتْ مَحْبُوسَةً لَا تَعْرِفُ الِاسْتِهْلَالَ، اعْتَدَّتْ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَالْأَمَةُ تَعْتَدُّ بِنِصْفِ عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَهُوَ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ. وَسَوَاءٌ رَأَتْ فِي الْمُدَّةِ دَمَ حَيْضٍ أَمْ لَمْ تَرَهُ، وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي عِدَّةِ طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، سَقَطَتْ عَنْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، حَتَّى يَلْزَمَهَا الْإِحْدَادُ وَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا أَكْمَلَتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَلَهَا النَّفَقَةُ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَامِلًا، فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ بِشَرْطِهِ السَّابِقِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَسَوَاءٌ تَعَجَّلَ الْوَضْعُ أَوْ تَأَخَّرَ. فَرْعٌ عِدَّةُ الْوَفَاةِ تَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَلَوْ نَكَحَ فَاسِدًا وَمَاتَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا عِدَّةَ، وَإِنْ دَخَلَ ثُمَّ مَاتَ أَوْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، اعْتَدَّتْ لِلدُّخُولِ كَمَا تَعْتَدُّ عَنِ الشُّبْهَةِ. فَرْعٌ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ تَبِيِنَ الَّتِي أَرَادَهَا، أَوْ تُعَيَّنَ إِحْدَاهُمَا إِنْ أَبْهَمَ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ تَكُونَا مَمْسُوسَتَيْنِ، أَوْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَإِنْ كَانَتَا حَامِلَتَيْنِ، فَعَدَّتُهُمَا بِالْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ،

فصل

نُظِرَ، إِنْ أَرَادَ وَاحِدَةً مُعَيَّنَةً، لَزِمَ كُلَّ وَاحِدَةٍ الِاعْتِدَادُ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَتُحْسَبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَتُحْسَبُ الْأَقْرَاءُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، هَذَا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَالرَّجْعَةُ تَنْتَقِلُ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ عِدَّةُ الْوَفَاةِ. وَإِنْ أَبْهَمَ الطَّلَاقَ، بُنِيَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ، هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ حِينِ اللَّفْظِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ. إِنْ قُلْنَا: مِنَ اللَّفْظِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَرَادَ مُعَيَّنَةً، وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ التَّعْيِينِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِمَا الِاعْتِدَادَ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ أَيْضًا، لَكِنَّ الْأَقْرَاءَ هُنَا تُحْسَبُ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَعْتَدُّ بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّهُ كَمَنْ لَمْ يُطَلِّقْ، وَلَوِ اخْتَلَفَ حَالُ الْمَرْأَتَيْنِ، فَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَمْسُوسَةً أَوْ حَامِلًا أَوْ ذَاتَ أَقْرَاءٍ، وَالْأُخْرَى بِخِلَافِهَا، عَمِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمُقْتَضَى الِاحْتِيَاطِ فِي حَقِّهَا كَمَا سَبَقَ. فَصْلٌ الْغَائِبُ عَنْ زَوْجَتِهِ، إِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ خَبَرُهُ، فَنِكَاحُهُ مُسْتَمِرٌّ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ فِي بَلَدِ الزَّوْجَةِ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَتَبَ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِهِ لِيُطَالِبَهُ بِحَقِّهَا، وَإِنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ مَوْتُهُ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ مَوْتُهُ أَوْ طَلَاقُهُ، ثُمَّ تَعْتَدُّ. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، ثُمَّ تَنْكِحُ، وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ لِلْجَدِيدِ: أَنَّ أُمَّ وَلَدِهِ لَا تَعْتِقُ، وَلَا يُقَسَّمُ مَالُهُ، وَالْأَصْلُ الْحَيَاةُ وَالنِّكَاحُ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْقَدِيمَ. وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ الْمَفْقُودُ فِي جَوْفِ الْبَلَدِ أَوْ فِي السَّفَرِ وَفِي الْقِتَالِ، وَمَنِ انْكَسَرَتْ سَفِينَتُهُ وَلَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ. وَإِنْ أَمْكَنَ حُمِلَ انْقِطَاعُ الْخَبَرِ عَلَى شِدَّةِ الْبُعْدِ وَالْإِيغَالِ فِي الْأَسْفَارِ، فَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ فِي إِجْرَاءِ الْقَوْلِ الْقَدِيمِ تَرَدُّدٌ، وَالْأَصَحُّ إِجْرَاؤُهُ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ صُوَرٌ.

إِحْدَاهَا: إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، تَرَبَّصَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِالْوَفَاةِ وَحُصُولِ الْفُرْقَةِ، فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، ثُمَّ تَنْكِحُ، وَهَلْ تَفْتَقِرُ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ إِلَى ضَرْبِ الْقَاضِي، أَمْ لَا وَيُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ انْقِطَاعِ الْخَبَرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ: يُفْتَقَرُ، وَلَا تَحْسِبُ مَا مَضَى قَبْلَهُ، فَإِذَا ضَرَبَ الْقَاضِي الْمُدَّةَ فَمَضَتْ، فَهَلْ يَكُونُ حُكْمًا بِوَفَاتِهِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِئْنَافِ حُكْمٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْفُرْقَةِ، فَهَلْ يُنَفَّذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، أَمْ ظَاهِرًا فَقَطْ؟ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى الْقَدِيمِ، فَهَلْ يُنْقَضُ حُكْمُهُ تَفْرِيعًا عَلَى الْجَدِيدِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. الثَّالِثَةُ: إِذَا نَكَحَتْ عَلَى مُقْتَضَى الْقَدِيمِ، ثُمَّ بَانَ الزَّوْجُ مَيِّتًا وَقْتَ الْحُكْمِ بِالْفُرْقَةِ، فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ عَلَى الْجَدِيدِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى بَيْعِ مَالِ أَبِيهِ مَعَ ظَنِّ الْحَيَاةِ إِذَا بَانَ مَيِّتًا. الرَّابِعَةُ: طَلَّقَهَا الْمَفْقُودُ، أَوْ آلَى مِنْهَا، أَوْ ظَاهَرَ، أَوْ قَذَفَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْفُرْقَةِ، فَلِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ أَحْكَامُهَا مِنَ الزَّوْجِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: عَلَى الْجَدِيدِ: تَلْزَمُ أَحْكَامُهَا، وَلْيَكُنْ هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ يُنْقَضُ عَلَى الْجَدِيدِ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ بِالْقَدِيمِ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَإِنْ قُلْنَا: يُنَفَّذُ الْحُكْمُ ظَاهِرًا فَقَطْ، ثَبَتَ أَحْكَامُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُنَفَّذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ يُبَاشِرُهَا. الْخَامِسَةُ: نَفَقَتُهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَفْقُودِ، لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ نَفْسَهَا، فَإِنْ رَفَعَتِ الْأَمْرَ

إِلَى الْقَاضِي، وَطَلَبَتِ الْفُرْقَةَ، فَنَفَقَةُ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ بَعْدُ، فَإِنِ انْقَضَّتْ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ وَالِاعْتِدَادِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ. وَفِي السُّكْنَى قَوْلَانِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْمَفْقُودِ، لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ حَتَّى تُنْكَحَ. فَحِينَئِذٍ تَسْقُطُ لِأَنَّهَا نَاشِزَةٌ بِالنِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الْقَطْعُ بِالنَّفَقَةِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، كَمُدَّةِ التَّرَبُّصِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ عَادَ الْمَفْقُودُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ، عَادَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي دَخَلَ بِهَا، لَمْ يَلْزَمِ الْمَفْقُودُ نَفَقَةَ زَمَانِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدِ الْمَفْقُودُ وَعَادَتْ هِيَ بَعْدَ التَّفْرِيقِ إِلَى بَيْتِهِ، فَفِي عَوْدِ النَّفَقَةِ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: إِنْ نَكَحَتْ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، عَادَتِ النَّفَقَةُ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الرُّويَانِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَعُودُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمُ الزَّوْجُ عَوْدَهَا إِلَى الطَّاعَةِ. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَأَمَّا النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي، فَلَا يَخْفَى حُكْمُهَا عَلَى الْقَدِيمِ، وَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ، فَلَا نَفَقَةَ لِزَمَنِ الِاسْتِفْرَاشِ، إِذْ لَا زَوْجِيَّةَ، فَإِنْ أَنْفَقَ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ إِلَّا أَنْ يُلْزِمَهُ الْحَاكِمُ، فَيَرْجِعَ عَلَيْهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا شَرَعَتْ فِي عِدَّةِ الثَّانِي، فَلَا نَفَقَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَقَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ، أَمْ لِلْحَامِلِ. السَّادِسَةُ: إِذَا ظَهَرَ الْمَفْقُودُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَهِيَ زَوْجَتُهُ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِنْ نَكَحَتْ، لَمْ يَطَأْهَا الْمَفْقُودُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ النَّاكِحِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَفِيهِ طُرُقٌ. أَحُدُهَا: عَنْ أَبَوَيْ عَلَيٍّ: ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرِيِّ، أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ، لِأَنَّا تَيَقَّنَا الْخَطَأَ فِي الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ، فَصَارَ كَمَنْ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ وَجَدَ النَّصَّ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الرُّويَانِيِّ. وَالثَّانِي: إِنْ قُلْنَا يُنَفَّذُ الْحُكْمُ بِالْفُرْقَةِ ظَاهِرًا فَقَطْ،

فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قُلْنَا: يُنَفَّذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَقَدِ ارْتَفَعَ نِكَاحُ الْأَوَّلِ كَالْفَسْخِ بِالْإِعْسَارِ. فَإِنْ نَكَحَتْ، فَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي. قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَالثَّالِثُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا: إِنْ ظَهَرَ وَقَدْ نَكَحَتْ، لَمْ تُرَّدْ إِلَى الْمَفْقُودِ، وَإِنْ لَمْ تُنْكَحْ، رُدَّتْ إِلَيْهِ وَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْفُرْقَةِ. وَالرَّابِعُ: لَا تُرَّدْ إِلَى الْأَوَّلِ قَطْعًا. وَالْخَامِسُ عَنِ الْكَرَابِيسِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ الْمَفْقُودَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْزِعَهَا مِنَ الثَّانِي، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهَا وَيَأْخُذَ مِنْهُ مَهْرَ الْمِثْلِ. وَمُسْتَنَدُهُ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِهِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ زِيَادَةٌ فِيهِ، وَهِيَ أَنَّهُ إِنْ فُسِخَ غُرِّمَ الثَّانِي مَهْرَ مِثْلِهَا. وَالسَّادِسُ: أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ كَانَ ارْتَفَعَ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ إِذَا ظَهَرَ الْمَفْقُودُ، هَلْ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الثَّانِي؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، لَكِنَّ لِلْمَفْقُودِ الْخِيَارَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا قُلْنَا: نِكَاحُ الثَّانِي بَاطِلٌ، فَهَلْ نَقُولُ: وَقَعَ صَحِيحًا ثُمَّ إِذَا ظَهَرَ الْمَفْقُودُ بَطَلَ؟ أَمْ نَقُولُ: نَتَبَيَّنُ بِظُهُورِ الْمَفْقُودِ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا؟ وَجْهَانِ. فَعَلَى الثَّانِي: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ جَرَى دُخُولٌ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: الْوَاجِبُ الْمُسَمَّى أَوْ نِصْفُهُ، وَلَوْ ظَهَرَ الْمَفْقُودُ وَقَدْ نُكِحَتْ وَمَاتَتْ، فَهَلْ يَرِثُهَا الْأَوَّلُ أَمِ الثَّانِي؟ يَخْرُجُ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ. السَّابِعَةُ: إِذَا نُكِحَتْ عَلَى مُقْتَضَى الْقَدِيمِ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنَ الثَّانِي، وَجَاءَ الْمَفْقُودُ وَلَمْ يَدَّعِ الْوَلَدَ، فَهُوَ لِلثَّانِي، لِأَنَّ بِمُضِيِّ أَرْبَعِ سِنِينَ يَتَحَقَّقُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ مِنَ الْمَفْقُودِ، وَإِنِ ادَّعَاهُ فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُسْأَلُ عَنْ جِهَةِ ادِّعَائِهِ، فَإِنْ قَالَ: هُوَ وَلَدِي وَلَدَتْهُ زَوْجَتِي عَلَى فِرَاشِي، قُلْنَا لَهُ: هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الرَّحِمِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَإِنْ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ فَوَطِئْتُهَا وَكَانَ قَوْلُهُ مُحْتَمِلًا، عُرِضَ الْوَلَدُ عَلَى الْقَائِفِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَاسْتِقْصَاءٍ. وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ أُخِذَا مِنْ وَجْهَيْنِ نُقِلَا فِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَزَوَّجَ، هَلْ يَلْحَقُ الْمَفْقُودَ؟ إِنْ

قُلْنَا: نَعَمْ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ وَإِنْ قُلْنَا: لَا وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَحَيْثُ قُلْنَا: الْوَلَدُ لِلثَّانِي، وَحَكَمْنَا بِبَقَاءِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ إِرْضَاعِ الْوَلَدِ إِلَّا اللِّبَأَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إِلَّا بِهِ، وَكَذَا إِذَا لَمْ يُوجَدُ مُرْضِعَةٌ غَيْرُهَا، ثُمَّ إِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِ وَأَرْضَعَتْهُ فِيهِ وَلَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي التَّمْكِينِ، فَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا، سَوَاءٌ وَجَبَ الْإِرْضَاعُ، أَمْ لَا، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلْإِرْضَاعِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ لَهُ بِإِذْنِهِ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ لِحَاجَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الْإِرْضَاعُ وَاجِبًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ. الثَّامِنَةُ: نُكِحَتْ عَلَى مُقْتَضَى الْقَدِيمِ، وَوَطِئَهَا الثَّانِي، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ حَيًّا وَقْتَ نِكَاحِهِ، وَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ قُلْنَا: تَقَعُ الْفُرْقَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي، وَلَا يَلْزَمُهَا بِمَوْتِ الْأَوَّلِ عِدَّةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا فَرْقَةَ بَاطِنًا، فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ عَنِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ لَا تَشْرَعُ فِيهَا حَتَّى يَمُوتَ الثَّانِي، أَوْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَحِينَئِذٍ تَعْتَدُّ لِلْأَوَّلِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، ثُمَّ لِلثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي أَوَّلًا، أَوْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، شَرَعَتْ فِي الْأَقْرَاءِ. فَإِنْ تَمَّتِ الْأَقْرَاءُ، ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ، اعْتَدَّتْ عَنِ الْأَوَّلِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ قَبْلَ تَمَامِ الْأَقْرَاءِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تَنْقَطِعُ الْأَقْرَاءُ، فَتَعْتَدُّ عَنِ الْأَوَّلِ لِلْوَفَاةِ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى بَقِيَّةِ الْأَقْرَاءِ. وَالثَّانِي: تُقَدِّمُ مَا شَرَعَتْ فِيهِ، وَإِنْ مَاتَا مَعًا أَوْ لَمْ يُعْلَمِ السَّابِقُ مِنْهُمَا، اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَبَعْدَهَا بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ لِتَبْرَأَ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ بِيَقِينٍ. وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ مَوْتُهُمَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ وَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ بَعْدَهَا، فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّتَانِ، وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا مِنَ الثَّانِي، اعْتَدَّتْ مِنْهُ بِالْوَضْعِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عَنِ الْأَوَّلِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُحْسَبُ مِنْهَا زَمَنُ النِّفَاسِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِدَّةِ الثَّانِي، وَقِيلَ: لَا يُحْسَبُ لِتَعَلُّقِهِ بِالْحَمْلِ.

فصل

فَرْعٌ زَوْجَةُ الْغَائِبِ إِذَا أَخْبَرَهَا عَدْلٌ بِوَفَاةِ زَوْجِهَا، جَازَ لَهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَنْ تَتَزَوَّجَ، لِأَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ لَا شَهَادَةٌ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ. فَصْلٌ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ الْإِحْدَادُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلَا يَجِبُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، لَكِنْ رَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِحْدَادُ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ تَتَزَيَّنَ بِمَا يَدْعُو الزَّوْجَ إِلَى رَجْعَتِهَا. وَفِي عِدَّةِ الْبَائِنِ بِخُلْعٍ أَوِ اسْتِيفَاءِ الطَّلَقَاتِ قَوْلَانِ، الْقَدِيمُ: وُجُوبُ الْإِحْدَادِ، وَالْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: لَا يَجِبُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ. وَالْمَفْسُوخُ نِكَاحُهَا لِعَيْبٍ وَنَحْوِهِ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ قَطْعًا، وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، لَا إِحْدَادَ عَلَيْهِنَّ قَطْعًا لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» قَدْ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِحْدَادِ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُعْتَدَّةِ عَنْ شُبْهَةٍ. فَرْعٌ الذِّمِّيَّةُ، وَالصَّبِيَّةُ، وَالْمَجْنُونَةُ، وَالرَّقِيقَةُ، كَغَيْرِهِنَّ فِي الْإِحْدَادِ، وَوَلِيُّ الصَّبِيَّةِ وَالْمَجْنُونَةِ، يَمْنَعُهُمَا مِمَّا تَمْتَنِعُ مِنْهُ الْكَبِيرَةُ الْعَاقِلَةُ. فَرْعٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِحْدَادِ وَهُوَ تَرْكُ التَّزَيُّنِ بِالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالطِّيبِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الثِّيَابُ، وَلَا يَحْرُمُ جِنْسُ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ، وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ،

وَالْكَتَّانِ وَالْقَصَبِ وَالدَّبِيقِيِّ، بَلْ يَجُوزُ لُبْسُ الْمَنْسُوجِ مِنْهَا عَلَى أَنْوَاعِ اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا الْخِلْقِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ نَفِيسَةً نَاعِمَةً، لِأَنَّ نَفَاسَتَهَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، لَا مِنْ زِينَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْإِبْرَيْسَمُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ كَالْكَتَّانِ فَلَا يَحْرُمُ مَا لَمْ تَحْدُثْ فِيهِ زِينَةٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَحْرُمُ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، فَعَلَى هَذَا، لَا تَلْبِسُ الْعَتَابِيَ الَّذِي غَلَبَ فِيهِ الْإِبْرَيْسَمُ، وَلَهَا لُبْسُ الْخَزِّ قَطْعًا. وَلَوْ صُبِغَ مَا لَا يَحْرُمُ فِي جِنْسِهِ، نُظِرَ فِي صَبْغِهِ، إِنْ كَانَ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ الزِّينَةُ غَالِبًا، كَالْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ، حَرُمَ لِبْسُهُ إِنْ كَانَ لَيِّنًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ خَشِنًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ، الدِّيبَاجُ الْمُنَقَّشُ، وَالْحَرِيرُ الْمُلَوَّنُ، فَيَحْرُمَانِ. وَالْمَصْبُوغُ غَزْلُهُ قَبْلَ النَّسْجِ كَالْبُرُودِ حَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ، كَالْمَصْبُوغِ بَعْدَ النَّسْجِ، وَإِنْ كَانَ الصِّبْغُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ الزِّينَةُ، بَلْ يُعْمَلُ لِلْمُصِيبَةِ وَاحْتِمَالِ الْوَسَخِ كَالْأَسْوَدِ وَالْكُحْلِيِّ، فَلَهَا لُبْسُهُ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْحِدَادِ، بَلْ فِي «الْحَاوِي» وَجْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا السَّوَادُ فِي الْحِدَادِ. وَإِنْ كَانَ الصِّبْغُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الزِّينَةِ وَغَيْرِهَا، كَالْأَخْضَرِ وَالْأَزْرَقِ، فَإِنْ كَانَ بَرَّاقًا صَافِيَ اللَّوْنِ فَحَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ كَدَرًا أَوْ مُشْبَعًا، أَوْ أَكْهَبَ وَهُوَ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى الْغُبْرَةِ، جَازَ، وَأَمَّا الطِّرَازُ عَلَى الثَّوْبِ، فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَحَرَامٌ، وَإِلَّا فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، ثَالِثُهَا: إِنْ نُسِجَ مَعَ الثَّوْبِ، جَازَ، وَإِنْ رُكِّبَ عَلَيْهِ، حَرُمَ، لِأَنَّهُ مَحْضُ زِينَةٍ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْحُلِيُّ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا لُبْسُهُ، سَوَاءٌ فِيهِ الْخَلْخَالُ وَالسُّوَارُ وَالْخَاتَمُ وَغَيْرُهَا، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَقَالَ الْإِمَامُ: يَجُوزُ لَهَا التَّخَتُّمُ بِخَاتَمِ الْفِضَّةِ كَالرَّجُلِ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَفِي اللَّآلِي تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ، وَبِالتَّحْرِيمِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: لَوْ كَانَتْ تَلْبِسُ الْحُلِيَّ لَيْلًا وَتَنْزِعُهُ نَهَارًا، جَازَ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَلَوْ فَعَلَتْهُ لِإِحْرَازِ الْمَالِ، لَمْ يُكْرَهْ. قَالَ: وَلَوْ تَحَلَّتْ بِنُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ، فَإِنْ كَانَ مُمَوَّهًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مُشَابِهًا

لَهُمَا، بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِتَأَمُّلٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا مِنْ قَوْمٍ يَتَزَيَّنُونَ بِذَلِكَ، فَحَرَامٌ، وَإِلَّا فَحَلَالٌ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الطِّيبُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا الطِّيبُ فِي بَدَنِهَا وَثِيَابِهَا، وَتَفْصِيلُ الطِّيبِ سَبَقَ فِي «كِتَابِ الْحَجِّ» ، وَيَحْرُمُ دَهْنُ رَأْسِهَا بِكُلِّ دُهْنٍ. وَلَوْ كَانَ لَهَا لِحْيَةٌ، حَرُمَ دَهْنُهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّهْنِ طِيبٌ، لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَيَجُوزُ لَهَا دَهْنُ الْبَدَنِ بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ، كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ، وَلَا بِمَا فِيهِ طِيبٌ كَدُهْنِ الْبَانِ وَالْبَنَفْسَجِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَكْلُ طَعَامٍ فِيهِ طِيبٌ، وَيَحْرُمُ أَنْ تَكْتَحِلَ بِمَا فِيهِ طِيبٌ. وَأَمَّا مَا لَا طِيبَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ وَهُوَ الْإِثْمِدُ، فَحَرَامٌ عَلَى الْبَيْضَاءِ قَطْعًا، وَكَذَا عَلَى السَّوْدَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالصَّحِيحِ، لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ، فَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَى الِاكْتِحَالِ بِهِ لِرَمَدٍ وَغَيْرِهِ، اكْتَحَلَتْ بِهِ لَيْلًا وَمَسَحَتْهُ نَهَارًا، فَإِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إِلَى الِاسْتِعْمَالِ نَهَارًا أَيْضًا جَازَ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ، إِلَّا الْحَاجِبَ، فَإِنَّهُ تَتَزَيَّنُ بِهِ فِيهِ. وَأَمَّا الْكُحْلُ الْأَصْفَرُ وَهُوَ الصَّبْرُ، فَحَرَامٌ عَلَى السَّوْدَاءِ، وَكَذَا عَلَى الْبَيْضَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ يُحَسِّنُ الْعَيْنَ. وَيَحْرُمُ أَيْضًا أَنْ تَطْلِيَ بِهِ وَجْهَهَا، لِأَنَّهُ يُصَفِّرُ الْوَجْهَ، فَهُوَ كَالْخِضَابِ. وَأَمَّا الْكُحْلُ الْأَبْيَضُ كَالتُّوتِيَاءِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَحْرُمُ، إِذْ لَا زِينَةَ فِيهِ. وَقِيلَ: يَحْرُمُ عَلَى الْبَيْضَاءِ حَيْثُ تَتَزَيَّنُ بِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيَحْرُمُ الدِّمَامُ، وَهُوَ مَا يُطْلَى بِهِ الْوَجْهُ لِلتَّحْسِينِ. وَقِيلَ: هُوَ الْكُلْكُونُ الَّذِي يُحَمِّرُ الْوَجْهَ، وَيَحْرُمُ الْإِسْفِيدَاجُ، وَيَحْرُمُ أَنْ تُخَضِّبَ بِحِنَّاءٍ وَنَحْوِهِ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الْبَدَنِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَلَا يَحْرُمُ فِيمَا تَحْتَ الثِّيَابِ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ. وَالْغَالِيَةُ وَإِنْ ذَهَبَتْ رِيحُهَا كَالْخِضَابِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَتَجْعِيدُ الْأَصْدَاغِ، وَتَصْفِيفُ الطُّرَّةِ، لَا نَقْلَ فِيهِ، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَالْحُلِيِّ. فَرْعٌ يَجُوزُ لِلْمُحِدَّةِ التَّزْيِينُ فِي الْفُرُشِ وَالْبُسُطِ وَالسُّتُورِ وَأَثَاثِ الْبَيْتِ، لِأَنَّ الْحِدَادَ فِي

الْبَدَنِ، لَا فِي الْفُرُشِ، وَيَجُوزُ التَّنْظِيفُ بِغَسْلِ الرَّأْسِ، وَالِامْتِشَاطُ، وَدُخُولُ الْحَمَّامِ، وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ، وَالِاسْتِحْدَادُ وَإِزَالَةُ الْأَوْسَاخِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الزِّينَةِ. فَرْعٌ إِذَا لَمْ نُوجِبِ الْإِحْدَادَ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ، فَفِي تَحْرِيمِ التَّطَيُّبِ وَجْهَانِ، لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ. فَرْعٌ يَجُوزُ لَهَا الْإِحْدَادُ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُوْنَهَا، صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. فَرْعٌ لَوْ تَرَكَتِ الْإِحْدَادَ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا فِي كُلِّ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْضِهَا، عَصَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَكَذَا لَوْ تَرَكَتْ مُلَازَمَةَ الْمَسْكَنِ وَخَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، عَصَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، كَمَا لَوْ بَلَغَهَا وَفَاةُ الزَّوْجِ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، كَانَتِ الْعِدَّةُ مُنْقَضِيَةً وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي السُّكْنَى الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ بِخُلْعٍ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الطَّلَقَاتِ، تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا، وَكَذَا الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ عَنِ النِّكَاحِ بِفُرْقَةٍ غَيْرِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيَاةِ، كَالْفَسْخِ بِرِدَّةٍ أَوْ إِسْلَامٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ عَيْبٍ وَنَحْوِهِ، فَفِيهَا خَمْسَةُ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَفَاةٍ.

وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ لَهَا مَدْخَلٌ فِي ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ، بِأَنْ فَسَخَتْ بِخِيَارِ الْعِتْقِ، أَوْ بِعَيْبِ الزَّوْجِ، أَوْ فَسَخَ بِعَيْبِهَا، فَلَا سُكْنَى قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، بِأَنِ انْفَسَخَ بِإِسْلَامِهِ أَوْ رِدَّتِهِ، أَوْ إِرْضَاعِ أَجْنَبِيٍّ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا السُّكْنَى الْقَوْلَانِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ لَهَا مَدْخَلٌ، فَلَا سُكْنَى، وَإِلَّا فَلَهَا السُّكْنَى قَطْعًا. وَالرَّابِعُ: ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِعَيْبٍ أَوْ غُرُورٍ، فَلَا سُكْنَى، وَإِنْ كَانَتْ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ أَوْ خِيَارِ عِتْقٍ، فَلَهَا السُّكْنَى عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا يَوْمَ الْعَقْدِ، وَلَا اسْتُنِدَ إِلَيْهِ. قَالَ: وَالْمُلَاعَنَةُ تَسْتَحِقُّ قَطْعًا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا. وَالْخَامِسُ: الْقَطْعُ بِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى، لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ نِكَاحٍ بِفُرْقَةٍ فِي الْحَيَاةِ كَالْمُطَلَّقَةِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إِذَا أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا، فَلَا سُكْنَى لَهُنَّ، هَذَا بَيَانُ السُّكْنَى، وَأَمَّا النَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ، فَمُؤَخَّرَتَانِ إِلَى «كِتَابِ النَّفَقَاتِ» . فَرْعٌ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ، هَلْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي فِي النَّفَقَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: تَسْتَحِقُّهَا، اسْتَحَقَّتِ السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْأَمَةُ الْمُزَوَّجَةُ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُسَلِّمَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، بَلْ لَهُ اسْتِخْدَامُهَا نَهَارًا، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ سَلَّمَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، أَوْ رَفَعَ الْيَدَ عَنْهَا، اسْتَحَقَّتِ السُّكْنَى. وَإِنْ كَانَ يَسْتَخْدِمُهَا نَهَارًا، فَقَدْ ذَكَرْنَا خِلَافًا فِي اسْتِحْقَاقِهَا، النَّفَقَةَ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ. فَإِنِ اسْتَحَقَّتْهَا، اسْتَحَقَّتِ السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ، وَإِلَّا فَلَا، لَكِنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسْكِنَهَا حَالَةَ فَرَاغِهَا مِنْ خِدْمَةِ السَّيِّدِ لِتَحْصِينِهَا. فَرْعٌ إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ نَاشِزَةٌ، فَلَا سُكْنَى لَهَا فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى

فصل

فِي صُلْبِ النِّكَاحِ، فَبَعْدَ الْبَيْنُونَةِ أَوْلَى، كَذَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي، وَزَادَ الْمُتَوَلِّي فَقَالَ: وَكَذَا لَوْ نَشَزَتْ فِي الْعِدَّةِ، سَقَطَتْ سُكْنَاهَا. فَلَوْ عَادَتْ إِلَى الطَّاعَةِ، عَادَ حَقُّ السُّكْنَى. قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا طُلِّقَتْ فِي مَسْكَنِ النِّكَاحِ، فَعَلَيْهَا مُلَازَمَتُهُ لِحَقِّ الشَّرْعِ، فَإِنْ أَطَاعَتِ اسْتَحَقَّتِ السُّكْنَى، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ كَلَامِ الْإِمَامِ، بِأَنَّهَا إِنْ نَشَزَتْ عَلَى الزَّوْجِ فِي بَيْتِهِ، فَلَهَا السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ وَاسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ، فَلَا سُكْنَى. فَصْلٌ مَنِ اسْتَحَقَّتِ السُّكْنَى مِنَ الْمُعْتَدَّاتِ، تَسْكُنُ فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عِنْدَ الْفِرَاقِ، إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ وَلَا لِأَهْلِهِ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ. فَلَوِ اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى مَسْكَنٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ عَلَى الْحَاكِمِ الْمَنْعُ مِنْهُ. وَلَوِ انْتَقَلَتْ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ مِنْ مَسْكَنٍ إِلَى آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ، لَزِمَهَا أَنْ (تَعُودَ إِلَى الْأَوَّلِ وَتَعْتَدَّ فِيهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا بَعْدَ الِانْتِقَالِ أَنْ) تُقِيمَ فِيهِ، كَانَ كَمَا لَوِ انْتَقَلَتْ بِإِذْنِهِ. وَإِذَا انْتَقَلَتْ بِالْإِذْنِ، ثُمَّ طَلَّقَ أَوْ مَاتَ، اعْتَدَّتْ فِي الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْمَسْكَنُ عِنْدَ الْفِرَاقِ، وَإِنْ خَرَجَتْ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى الثَّانِي الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَهَلْ تَعْتَدُّ فِي الثَّانِي أَمْ فِي الْأَوَّلِ، أَمْ فِي أَقْرَبِهِمَا إِلَيْهَا، أَمْ تَتَخَيَّرُ فِيهِمَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: أَوَّلُهَا، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالْمُقَامِ فِيهِ، مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالِانْتِقَالِ بِبَدَنِهَا، لَا بِالْأَمْتِعَةِ وَالْخَدَمِ وَالزَّوْجِ، وَلَوْ أَذِنَ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الثَّانِي، فَانْتَقَلَتْ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ لِنَقْلِ مَتَاعٍ وَغَيْرِهِ فَطَلَّقَهَا، فَالْمَسْكَنُ هُوَ الثَّانِي، فَتَعْتَدُّ فِيهِ، كَمَا لَوْ خَرَجَتْ لِحَاجَةٍ فَطَلَّقَهَا وَهِيَ خَارِجَةٌ. وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي الِانْتِقَالِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ، فَحُكْمُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا لَوْ أَذِنَ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ مَسْكَنٍ إِلَى مَسْكَنٍ، فَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ الْفِرَاقِ بَعْدَ الِانْتِقَالِ

إِلَى الْبَلَدِ الثَّانِي، اعْتَدَّتْ فِيهِ، وَإِنْ وُجِدَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ عُمْرَانِ الْأَوَّلِ، لَمْ تَخْرُجْ، بَلْ تَعُودُ إِلَى الْمَسْكَنِ وَتَعْتَدُّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ، فَعَلَى الْأَوْجُهِ. وَإِنْ أَذِنَ فِي السَّفَرِ لِغَيْرِ النَّقْلَةِ، نُظِرَ، إِنْ تَعَلَّقَ بِغَرَضٍ مُهِمٍّ، كَتِجَارَةٍ وَحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَاسْتِحْلَالٍ عَنْ مَظْلَمَةٍ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ حَدَثَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ حَدَثَ قَبْلَ خُرُوجِهَا مِنَ الْمَسْكَنِ، لَمْ تَخْرُجْ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ وَلَمْ تُفَارِقْ عُمْرَانَ الْبَلَدِ، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ إِلَى الْمَسْكَنِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَشْرَعْ فِي السَّفَرِ. وَالثَّانِي: تَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْعَوْدِ وَالْمُضِيِّ فِي السَّفَرِ، لِأَنَّ عَلَيْهَا ضَرَرًا فِي إِبْطَالِ سَفَرِهَا، وَفَوَاتِ غَرَضِهَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ سَفَرَ حَجٍّ، تَخَيَّرَتْ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ الْعَوْدُ، وَإِنْ حَدَثَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ فِي الطَّرِيقِ، تَخَيَّرَتْ بَيْنَ الْعَوْدِ وَالْمُضِيِّ. وَقِيلَ: إِنْ حَدَثَ بَعْدَ مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَخَيَّرَتْ، وَإِنْ حَدَثَ قَبْلَهُ، تَعَيَّنَ الْعَوْدُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا خَيَّرْنَاهَا، فَاخْتَارَتِ الْعَوْدَ إِلَى الْمَسْكَنِ وَالِاعْتِدَادَ، فَذَاكَ، وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ، وَإِنِ اخْتَارَتِ الْمُضِيَّ إِلَى الْمَقْصِدِ، فَلَهَا أَنْ تُقِيمَ فِيهِ إِلَى انْقِضَاءِ حَاجَتِهَا، فَلَوِ انْقَضَتْ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ إِقَامَةِ الْمُسَافِرِينَ، فَالْمَذْكُورُ فِي «التَّهْذِيبِ» وَ «الْوَسِيطِ» وَغَيْرِهِمَا، أَنَّ لَهَا أَنْ تُقِيمَ تَمَامَ مُدَّةِ الْمُسَافِرِينَ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ هَذَا عَنْ بَعْضِهِمْ، ثُمَّ غَلَّطَ قَائِلَهُ وَقَالَ: نِهَايَةُ سَفَرِهَا قَضَاءُ الْحَاجَةِ لَا غَيْرَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقِيمَ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَالْجُرْجَانِيُّ، وَالرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» وَآخَرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ أَذِنَ لَهَا فِي سَفَرِ نُزْهَةٍ فَبَلَغَتِ الْمَقْصِدَ، ثُمَّ حَدَثَ مَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ، فَإِنْ لَمْ يُقَدِّرِ الزَّوْجُ مُدَّةً، لَمْ تُقِمْ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْمُسَافِرِينَ، وَإِنْ قَدَّرَ، فَهَلِ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، أَمْ لَهَا اسْتِيفَاءُ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ قَدَّرَ فِي الْحَاجَةِ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، لَأَنَّ الزَّائِدَ كَالنُّزْهَةِ. فَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ الِانْصِرَافُ إِذَا انْقَضَتِ الْحَاجَةُ. وَفِي قَوْلٍ: تُقِيمُ الْمَأْذُونَ فِيهِ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا

لَوْ أَذِنَ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى مَسْكَنٍ آخَرَ فِي الْبَلَدِ مُدَّةً قَدَّرَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ، كَذَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» وَفِي الْوَسِيطِ أَنَّ الطَّلَاقَ يُبْطِلُ تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ أَذِنَ لَهَا فِي الِاعْتِكَافِ مُدَّةً وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، هَلْ لَهَا إِدَامَةُ الِاعْتِكَافِ إِلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ، أَمْ يَلْزَمُهَا الْخُرُوجُ لِتَعْتَدَّ فِي الْمَسْكَنِ؟ فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهَا الْخُرُوجُ فَخَرَجَتْ، بَطَلَ اعْتِكَافُهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا الْبِنَاءُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَنْذُورًا، وَإِنْ أَلْزَمْنَاهَا، فَهَلْ يَبْطُلُ بِالْخُرُوجِ، أَمْ يَجُوزُ الْبِنَاءُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَإِنْ حَدَثَ سَبَبُ الْعِدَّةِ فِي سَفَرِ النُّزْهَةِ قَبْلَ بُلُوغِهَا الْمَقْصِدَ، فَحَيْثُ قُلْنَا فِي سَفَرِ الْحَاجَةِ: يَجِبُ الِانْصِرَافُ، فَهُنَا أَوْلَى. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَجِبُ، فَهُنَا وَجْهَانِ. وَقَطَعَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» ، بِأَنَّهُ كَسَفَرِ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا سَفَرُ الزِّيَارَةِ، فَكَسَفَرِ النُّزْهَةِ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ، وَقِيلَ: كَسَفَرِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَعَلَيْهَا الِانْصِرَافُ فِي الْحَالِ إِنْ لَمْ تَكُنِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ بِتَمَامِهَا لِتَعْتَدَّ بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ فِي الْمَسْكَنِ. فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا، أَوْ لَمْ تَجِدْ رُفْقَةً، عُذِرَتْ فِي التَّأْخِيرِ. فَلَوْ عَلِمَتْ أَنَّ الْبَقِيَّةَ تَنْقَضِي فِي الطَّرِيقِ، فَفِي لُزُومِ الْعَوْدِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهَا، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى مَوْضِعِ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ تِلْكَ الْإِقَامَةَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهَا، وَالْعَوْدُ مَأْذُونٌ فِيهِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ. فَأَمَّا إِذَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّوْجِ ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ، فَعَلَيْهَا الِانْصِرَافُ، وَلَا تُقِيمُ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْمُسَافِرِينَ، إِلَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا، أَوْ لَمْ تَجِدْ رُفْقَةً. وَهَذَا إِذَا كَانَ سَفَرُهُ لِغَرَضِهِ وَاسْتَصْحَبَهَا لِيَسْتَمْتِعَ بِهَا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ السَّفَرُ لِغَرَضِهَا وَخَرَجَ بِهَا، فَلْيَكُنِ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهَا فَخَرَجَتْ. وَفِي لَفْظِ «الْمُخْتَصَرِ» مَا يُشْعِرُ بِهَذَا. فَرْعٌ أَذِنَ لَهَا فِي الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَلَا تُحْرِمُ، وَلَا تُنْشِئُ السَّفَرَ بَعْدَ لُزُومِ الْعِدَّةِ، فَلَوْ أَحْرَمَتْ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَحْرَمَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ

بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهَا الْخُرُوجُ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا، (بَلْ) يَلْزَمُهَا أَنْ تُقِيمَ وَتَعْتَدَّ، لِأَنَّ لُزُومَ الْعِدَّةِ سَبَقَ الْإِحْرَامَ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، أَتَمَّتْ عُمْرَتَهَا إِنْ كَانَتْ مُعْتَمِرَةً، وَكَذَا الْحَجُّ إِنْ بَقِيَ وَقْتُهُ، فَإِنْ فَاتَ، تَحَلَّلَتْ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَلَزِمَهَا الْقَضَاءُ وَدَمُ الْفَوَاتِ. وَلَوْ أَحْرَمَتْ أَوَّلًا بِإِذْنِ الزَّوْجِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَخْشَى فَوَاتَ الْحَجِّ لِضِيقِ الْوَقْتِ، خَرَجَتْ إِلَى الْحَجِّ مُعْتَدَّةً، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ سَبَقَ الْعِدَّةَ، مَعَ أَنَّهُ فِي خُرُوجِهَا يَحْصُلُ الْحَجُّ وَالْعِدَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْشَى فَوَاتَ الْحَجِّ أَوْ أَقَامَتْ لِلْعِدَّةِ، أَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بِعُمْرَةٍ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي «الْمُهَذَّبِ» : يَلْزَمُهَا أَنْ تُقِيمَ لِلْعِدَّةِ، ثُمَّ تَخْرُجَ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَكْثَرُونَ: تَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ وَبَيْنَ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ مُصَابَرَةَ الْإِحْرَامِ مَشَقَّةٌ. فَرْعٌ مَنْزِلُ الْبَدَوِيَّةِ وَبَيْتُهَا مِنْ صُوفٍ وَوَبَرٍ وَشَعْرٍ، كَمَنْزِلِ الْحَضَرِيَّةِ مِنْ طِينٍ وَحَجَرٍ، فَإِذَا لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فِيهِ، لَزِمَهَا مُلَازَمَتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُهَا نَازِلِينَ عَلَى مَا لَا يَنْتَقِلُونَ عَنْهُ، وَلَا يَظْعَنُونَ إِلَّا لِحَاجَةٍ، فَهِيَ كَالْحَضَرِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَوْمٍ يَنْتَقِلُونَ شِتَاءً أَوْ صَيْفًا، فَإِنِ ارْتَحَلُوا جَمِيعًا ارْتَحَلَتْ مَعَهُمْ لِلضَّرُورَةِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ بَعْضُهُمْ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ أَهْلُهَا مِمَّنْ لَمْ يَرْتَحِلْ وَفِي الْمُقِيمِينَ قُوَّةٌ وَعَدَدٌ، فَلَيْسَ لَهَا الِارْتِحَالُ. وَإِنِ ارْتَحَلَ أَهْلُهَا وَفِي الْبَاقِينَ قُوَّةٌ وَعَدَدٌ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهَا الِارْتِحَالُ، بَلْ تَعْتَدُّ هُنَاكَ لِتَيَسُّرِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: تَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ وَبَيْنَ أَنْ تَرْتَحِلَ، لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْأَهْلِ عُسْرَةٌ مُوحِشَةٌ. وَلَوْ هَرَبَ أَهْلُهَا خَوْفًا مِنْ عَدُوٍّ وَلَمْ يَنْتَقِلُوا، وَلَمْ تَخَفْ هِيَ، لَمْ يَجُزْ لَهَا الِارْتِحَالُ، لِأَنَّ الْمُرْتَحِلِينَ يَعُودُونَ إِذَا أَمِنُوا، وَلَوِ ارْتَحَلَتْ حَيْثُ يَجُوزُ الِارْتِحَالُ، ثُمَّ أَرَادَتِ الْإِقَامَةَ فِي قَرْيَةٍ فِي الطَّرِيقِ وَالِاعْتِدَادَ فِيهَا، جَازَ، لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ السَّيْرِ.

فَرْعٌ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَتْ وَهِيَ فِي سَفِينَةٍ، فَإِنْ رَكِبَتْهَا مُسَافِرَةً، فَحُكْمُ السَّفَرِ مَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَلَّاحًا وَلَا مَنْزِلَ لَهُ سِوَى السَّفِينَةِ، فَإِنْ كَانَتْ سَفِينَةً كَبِيرَةً فِيهَا بُيُوتٌ مُتَمَيِّزَةُ الْمَرَافِقِ، اعْتَدَّتْ فِي بَيْتٍ مِنْهَا مُعْتَزِلَةً عَنِ الزَّوْجِ، وَسَكَنَ الزَّوْجُ بَيْتًا آخَرَ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ لَهَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَالِجَ السَّفِينَةَ، خَرَجَ الزَّوْجُ، وَاعْتَدَّتْ هِيَ فِيهَا، وَإِلَّا فَتَخْرُجُ هِيَ وَتَعْتَدُّ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَى الشَّطِّ، وَإِذَا تَعَذَّرَ خُرُوجُهُ وَخُرُوجُهَا، فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَتِرَ وَتَبْعُدَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ مِنَ السَّفِينَةِ إِذَا أَمْكَنَ الِاعْتِدَادُ فِيهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ آخَرُونَ، وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ فِي كُتُبِهِ، أَنَّهَا تَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ تَعْتَدَّ فِي السَّفِينَةِ، وَبَيْنَ أَنْ تَخْرُجَ فَتَعْتَدَّ خَارِجَهَا. فَإِنِ اخْتَارَتِ السَّفِينَةَ، نَظَرْنَا حِينَئِذٍ، هَلْ هِيَ صَغِيرَةٌ أَمْ كَبِيرَةٌ؟ وَرَاعَيْنَا التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ، وَذَكَرَ فِيمَا إِذَا اخْتَارَتِ الْخُرُوجَ، وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْمَاسَرْجِسِيُّ: تَعْتَدُّ فِي أَقْرَبِ الْقُرَى إِلَى الشَّطِّ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ. فَرْعٌ إِذَا خَرَجَتِ الزَّوْجَةُ إِلَى غَيْرِ الدَّارِ الْمَأْلُوفَةِ، أَوْ غَيْرِ الْبَلَدِ الْمَأْلُوفِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاخْتَلَفَا، فَقَالَتْ: أَذِنْتَ لِي فِي الِانْتِقَالِ فَأَعْتَدُّ فِي الْمَنْزِلِ الثَّانِي، وَقَالَ: إِنَّمَا أَذِنْتُ لَكِ فِي النُّزْهَةِ أَوْ فِي غَرَضِ كَذَا فَعُودِي إِلَى الْمَنْزِلِ الْأَوَّلِ فَاعْتَدِّي فِيهِ، فِي مَنْ يُصَدَّقُ مِنْهُمَا اخْتِلَافُ نَصٍّ وَطُرُقٍ مُنْتَشِرَةٍ انْتِشَارًا كَثِيرًا، وَحَاصِلُهَا: أَنَّ الْمَذْهَبَ تَصْدِيقُ الزَّوْجِ وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ، وَتَصْدِيقُهَا إِذَا اخْتَلَفَتْ هِيَ وَوَارِثُ الزَّوْجِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: تَصْدِيقُ الزَّوْجِ وَالْوَارِثِ. وَالثَّانِي: تَصْدِيقُهَا

فصل

لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا. وَقِيلَ: إِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِذْنٍ فِي الْخُرُوجِ مُطْلَقًا، وَقَالَ الزَّوْجُ: أَرَدْتُ النُّزْهَةَ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ وَارِثُهُ، وَقَالَتْ: بَلْ أَرَدْتَ النَّقْلَةَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ قَالَ: قُلْتُ: اخْرُجِي لِلنُّزْهَةِ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ وَارِثُهُ. وَقَالَتْ: بَلْ قُلْتَ: اخْرُجِي لِلنَّقْلَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَوَارِثُهُ. وَقِيلَ: إِنْ تَحَوَّلَ الزَّوْجُ مَعَهَا إِلَى الْمَنْزِلِ الثَّانِي فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى وَارِثِهِ. وَإِنِ انْفَرَدَتْ بِالتَّحَوُّلِ، صُدِّقَا عَلَيْهَا. أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى جَرَيَانِ لَفْظِ الِانْتِقَالِ، أَوِ الْإِقَامَةِ، بِأَنْ قَالَ: انْتَقِلِي إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، أَوِ اخْرُجِي إِلَيْهِ وَأَقِيمِي بِهِ، قَالَ الزَّوْجُ: ضَمَمْتُ إِلَيْهِ: لِلنُّزْهَةِ، أَوْ شَهْرًا، أَوْ نَحْوَهُمَا، وَأَنْكَرَتِ الزَّوْجَةُ هَذِهِ الضَّمِيمَةَ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ وَارِثُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذِهِ الضَّمِيمَةِ. فَصْلٌ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مُلَازَمَةُ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ، فَلَا تَخْرُجُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ عُذْرٍ، فَإِنْ خَرَجَتْ، أَثِمَتْ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا، وَكَذَا لِوَارِثِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَتُعْذَرُ فِي الْخُرُوجِ فِي مَوَاضِعَ. مِنْهَا: إِذَا خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا مِنْ هَدْمٍ أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ غَرَقٍ، فَلَهَا الْخُرُوجُ، سَوَاءٌ فِيهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ تَكُنِ الدَّارُ حَصِينَةً وَخَافَتْ لُصُوصًا، أَوْ كَانَتْ بَيْنَ فَسَقَةٍ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا، أَوْ تَتَأَذَّى مِنَ الْجِيرَانِ أَوِ الْأَحْمَاءِ تَأَذِّيًا شَدِيدًا، أَوْ تَبْذُو أَوْ تَسْتَطِيلُ بِلِسَانِهَا عَلَيْهِمْ، يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَسْكَنِ، ثُمَّ فِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهَا إِذَا بَذَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا، سَقَطَتْ سُكْنَاهَا، وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ وَالْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَنْقُلُهَا الزَّوْجُ إِلَى مَسْكَنٍ آخَرَ، وَيَتَحَرَّى الْقُرْبَ مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ. ثُمَّ مَوْضِعُ النَّقْلِ بِالْبَذَاءِ مَا إِذَا كَانَتِ الْأَحْمَاءُ مَعَهَا فِي دَارٍ تَسَعُ جَمِيعَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَا تَسَعُ جَمِيعَهُمْ، نَقَلَ الزَّوْجُ الْأَحْمَاءَ وَتَرَكَ الدَّارَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَحْمَاءُ فِي دَارٍ أُخْرَى، لَمْ يَنْقُلِ الْمُعْتَدَّةَ بِالْبَذَاءِ عَنْ دَارِهَا، وَنَقَلَ الْمُتَوَلِّي أَنَّهَا تُنْقَلُ لِإِيذَاءِ الْجِيرَانِ كَمَا تُنْقَلُ

لِإِيذَاءِ الْأَحْمَاءِ. فَعَلَى هَذَا، إِذَا كَانَتْ فِي دَارٍ وَالْأَحْمَاءُ فِي الْقُرَى، فَإِنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ بِالْبَذَاءِ إِذَا لَمْ تَكُنِ الدَّارَانِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذَاءُ مِنَ الْأَحْمَاءِ دُونَهَا، نُقِلُوا دُونَهَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي دَارِ أَبَوَيْهَا لِكَوْنِ الزَّوْجِ كَانَ يَسْكُنُ دَارَهُمَا، فَبَذَتْ عَلَى الْأَبَوَيْنِ، أَوْ بَذَا الْأَبَوَانِ عَلَيْهَا، لَمْ يُنْقَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الشَّرَّ وَالْوَحْشَةَ لَا تَطُولُ بَيْنَهُمْ، فَلَوْ كَانَ أَحْمَاؤُهَا فِي دَارِ أَبَوَيْهَا أَيْضًا، وَبَذَتْ عَلَيْهِمْ، نُقِلُوا دُونَهَا، لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِدَارِ أَبَوَيْهَا. وَمِنْهَا: إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى شِرَاءِ طَعَامٍ، أَوْ قُطْنٍ، أَوْ بَيْعِ غَزْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، فَهِيَ زَوْجَتُهُ، فَعَلَيْهِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهَا، فَلَا تَخْرُجُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَالْمُسَيَّبَةِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْمُعْتَدَّاتِ: فَيَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَفَاةٍ الْخُرُوجُ لِهَذِهِ الْحَاجَاتِ نَهَارًا، وَكَذَا لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِاللَّيْلِ إِلَى دَارِ بَعْضِ الْجِيرَانِ لِلْغَزْلِ وَالْحَدِيثِ، لَكِنْ لَا تَبِيتُ عِنْدَهُمْ، بَلْ تَعُودُ إِلَى مَسْكَنِهَا لِلنَّوْمِ. وَحُكْمُ الْعِدَّةِ عَنْ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ حُكْمُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا. وَقُلْنَا: إِنَّهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، فَلَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ. وَفِي الْبَائِنِ بِطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ، قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ، وَالْجَدِيدُ: جَوَازُهُ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا فِي الْحَائِلِ، أَمَّا الْحَامِلُ: إِذَا قُلْنَا: تُعَجَّلُ نَفَقَتُهَا، فَهِيَ مَكْفِيَّةٌ فَلَا تَخْرُجُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ. وَمِنْهَا: لَوْ لَزِمَهَا عِدَّةٌ وَهِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَزِمَهَا أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا، وَلَا عَلَى دِينِهَا، فَلَا تَخْرُجُ حَتَّى تَعْتَدَّ.

فصل

وَمِنْهَا: إِذَا لَزِمَهَا حَقٌّ، وَاحْتِيجَ إِلَى اسْتِيفَائِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي مَسْكَنِهَا، كَالدَّيْنِ وَالْوَدِيعَةِ، فُعِلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، وَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ، بِأَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهَا حَدٌّ أَوْ يَمِينٌ فِي دَعْوَى، فَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً خَرَجَتْ وَحُدَّتْ، أَوْ حَلَفَتْ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْمَسْكَنِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَدَّرَةً، بَعَثَ الْحَاكِمُ إِلَيْهَا نَائِبًا، أَوْ أَحْضَرَهَا بِنَفْسِهِ. وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ مُسْتَعَارًا، أَوْ مُسْتَأْجَرًا، فَرَجَعَ الْمُعِيرُ، أَوْ مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَطَلَبَهُ الْمَالِكُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ. وَمِنْهَا: الْبَدَوِيَّةُ تُفَارِقُ الْمَنْزِلَ وَتَرْتَحِلُ مَعَ الْقَوْمِ إِذَا ارْتَحَلُوا. فَرْعٌ لَا تُعْذَرُ فِي الْخُرُوجِ لِأَغْرَاضٍ تُعَدُّ مِنَ الزِّيَادَاتِ دُونَ الْمُهِمَّاتِ، كَالزِّيَارَةِ وَالْعِمَارَةِ وَاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ، وَتَعْجِيلِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَشْبَاهِهَا. فَرْعٌ زَنَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ فِي عِدَّتِهَا وَهِيَ بِكْرٌ، فَعَلَى السُّلْطَانِ تَغْرِيبُهَا، وَلَا يُؤَخِّرُهُ إِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَقِيلَ: لَا تَغْرِيبَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَصْلٌ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُسْكِنَ مُسْتَحِقَّةَ السُّكْنَى مِنَ الْمُعْتَدَّاتِ مَسْكَنًا يَصْلُحُ لِمِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ النِّكَاحِ كَذَلِكَ، فَلَا مَعْدَلَ عَنْهُ. وَحَيْثُ قُلْنَا: تَجِبُ مُلَازَمَةُ مَسْكَنِ النِّكَاحِ، فَهَذَا مُرَادُنَا بِهِ، فَإِنْ أَسْكَنَهَا فِي النِّكَاحِ دَارًا فَوْقَ سُكْنَى مِثْلِهَا، فَطَلَّقَهَا وَهِيَ فِيهَا، فَلَهُ أَنْ لَا يَرْضَى الْآنَ، وَيَنْقُلَهَا إِلَى دَارٍ بِصِفَةِ اسْتِحْقَاقِهَا، وَلَوْ رَضِيَتْ بِدَارٍ خَسِيسَةٍ، فَطَلَّقَهَا وَهِيَ فِيهَا، فَلَهَا أَنْ تَطْلُبَ النَّقْلَ إِلَى مَا يَلِيقُ بِهَا، وَيَلْزَمُهُ الْإِبْدَالُ. وَفِي الصُّورَتَيْنِ احْتِمَالٌ ذَكَرَهُ فِي «الْبَسِيطِ» ، وَالْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ مَا سَبَقَ،

فصل

وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى مَسْكَنٍ قَرِيبٍ مِنْ مَوْضِعِهَا الْأَوَّلِ، وَلَا تُنْقَلُ إِلَى الْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ رِعَايَةَ هَذَا الْقَرِيبِ وَاجِبَةٌ، وَاسْتَبْعَدَ الْغَزَالِيُّ الْوُجُوبَ، وَتَرَدَّدَ فِي الِاسْتِحْبَابِ. فَصْلٌ يَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ مُسَاكَنَةُ الْمُعْتَدَّةِ فِي الدَّارِ الَّتِي تَعْتَدُّ فِيهَا وَمُدَاخَلَتُهَا، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخَلْوَةِ بِهَا، وَخَلْوَتُهُ بِهَا كَخَلْوَتِهِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَوْضِعَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَحْرَمٌ لَهَا مِنَ الرِّجَالِ، أَوْ مَحْرَمٌ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، أَوْ مَنْ فِي مَعْنَى الْمَحْرَمِ، كَزَوْجَةٍ أُخْرَى وَجَارِيَةٍ، وَلَا بُدَّ فِي الْمَحْرَمِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ مِنَ التَّمْيِيزِ، فَلَا عِبْرَةَ بِالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبُلُوغَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ، فَلَا يُنْكِرُ الْفَاحِشَةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يَكْفِي عِنْدِي حُضُورُ الْمُرَاهِقِ، وَالنِّسْوَةُ الثِّقَاتُ كَالْمَحْرَمِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَكْفِي حُضُورُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ الثِّقَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ، وَالْحِكَايَةُ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ رَجُلَانِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَجُوزَ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِامْرَأَتَيْنِ ثِقَتَيْنِ، لِأَنَّ اسْتِحْيَاءَ الْمَرْأَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ أَكْثَرُ مِنَ اسْتِحْيَاءِ الرَّجُلِ مِنَ الرَّجُلِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ مُسَاكَنَةَ الزَّوْجِ وَالْمَحْرَمِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ، إِنَّمَا يُفْرَضُ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي الدَّارِ زِيَادَةٌ عَلَى سُكْنَى مِثْلِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَعَلَى الزَّوْجِ تَخْلِيَتُهَا لِلْمُعْتَدَّةِ، وَالِانْتِقَالُ عَنْهَا، ثُمَّ الْمُسَاكَنَةُ وَإِنْ جَازَتْ بِسَبَبِ الْمَحْرَمِ، فَالْكَرَاهَةُ بَاقِيَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ النَّظَرُ. الْمَوْضِعُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ فِي الدَّارِ حُجْرَةٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْكُنَ أَحَدَهُمَا وَيُسْكِنَهَا الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَتْ مَرَافِقُ الْحُجْرَةِ كَالْمَطْبَخِ وَالْمُسْتَرَاحِ، وَالْبِئْرِ، وَالْمِصْعَدِ إِلَى السَّطْحِ فِي الدَّارِ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِشَرْطِ الْمَحْرَمِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرَافِقُ فِي

فصل

الْحُجْرَةِ، جَازَ، كَالْحُجْرَتَيْنِ وَالدَّارَيْنِ الْمُتَجَاوِرَتَيْنِ، وَحُكْمُ السُّفْلِيِّ وَالْعُلْوِيِّ حُكْمُ الدَّارِ وَالْحُجْرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَمَرُّ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَيُغْلَقُ الْبَابُ بَيْنَهُمَا أَوْ يُسَدُّ، وَهَذَا حَسَنٌ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الدَّارُ وَاسِعَةً وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا بَيْتٌ وَالْبَاقِي صُفَفٌ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاكِنَهَا وَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ، لِأَنَّهَا لَا تَتَمَيَّزُ مِنَ الْمَسْكَنِ بِمَوْضِعٍ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَبْنِي بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَائِلًا، وَكَانَ الَّذِي يَبْقَى لَهَا سُكْنَى مِثْلِهَا، فَلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ جُعِلَ بَابُ مَا يَسْكُنُهُ خَارِجًا عَنْ مَسْكَنِهَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَحْرَمٍ، وَإِنْ جَعَلَهُ فِي مَسْكَنِهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْكُنَهُ إِلَّا بِشَرْطِ الْمَحْرَمِ أَوْ مَنْ فِي مَعْنَاهُ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ اخْتِلَافُ الْمَمَرِّ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يُغْلَقَ عَلَى الْحُجْرَةِ بَابٌ. وَلَوْ كَانَا فِي بَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ كَبِيرَةٍ، وَانْفَرَدَ كُلٌّ بِبَابٍ يُغْلَقُ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ كَبَيْتَيْنِ مِنْ خَانٍ. فَصْلٌ إِذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً بِالْأَقْرَاءِ أَوِ الْحَمْلِ، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُ الْمَسْكَنِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ فِيهِ السُّكْنَى، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ فِي الْأَقْرَاءِ وَالْحَمْلِ، أَمْ لَا. وَإِنْ كَانَتْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهِ قَوْلَانِ، كَالدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا، وَيَجْرِي الطَّرِيقَانِ سَوَاءٌ كَانَتْ تَتَوَقَّعُ مَجِيءَ الْحَيْضِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، بِأَنْ كَانَتْ بِنْتَ تِسْعِ سِنِينَ فَصَاعِدًا وَلَمْ تَحِضْ، أَوْ لَا تَتَوَقَّعُهُ كَالْآيِسَةِ، وَبِنْتِ سَبْعِ سِنِينَ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى قَطْعًا، فَإِنْ جَوَّزْنَا الْبَيْعَ، فَحَاضَتْ وَانْتَقَلَتْ إِلَى الْأَقْرَاءِ، خَرَجَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَاطِ الثِّمَارِ الْمَبِيعَةِ بِالْحَادِثَةِ بَعْدَ الْبَيْعِ فِيمَا لَا يَغْلِبُ فِيهِ التَّلَاحُقُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ سَبَقَا. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، بَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.

فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْمَنْزِلُ مُسْتَعَارًا، لَازَمَتْهُ مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُعِيرُ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ نَقْلُهَا، وَقِيلَ: لَهُ نَقْلُهَا فِي الْبَلَدِ الَّذِي لَا يُعْتَادُ فِيهِ إِعَادَةُ الْمَنْزِلِ، كَيْلَا يَلْحَقَهُ مِنَّةٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا رَجَعَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْهُ بِأُجْرَةٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَوْ طَلَبَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، نَقَلَهَا، وَإِنْ نَقَلَهَا ثُمَّ بَذَلَ الْمَنْزِلَ الْأَوَّلَ مَالِكُهُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ بَذَلَهُ بِإِعَارَةٍ، لَمْ يَلْزَمْ رَدُّهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ بَذَلَ بِأُجْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ مُسْتَعَارًا، وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ بِأُجْرَةٍ، فَوَجْهَانِ. فَرْعٌ كَانَ الْمَنْزِلُ الَّذِي تَعْتَدُّ فِيهِ مُسْتَأْجَرًا، فَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَلَمْ يُجَدِّدِ الْمَالِكُ إِجَارَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهَا، وَإِذَا وَجَبَ النَّقْلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَالْقَوْلُ فِي تَحَرِّي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ عَلَى مَا سَبَقَ. فَرْعٌ إِذَا كَانَتْ تَسْكُنُ مَنْزِلَ نَفْسِهَا، فَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يَلْزَمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِيهِ، وَلَهَا طَلَبُ الْأُجْرَةِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ أَنَّهَا إِنْ رَضِيَتْ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ بِإِعَارَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ، جَازَ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَإِنْ طَلَبَتْ نَقْلَهَا، فَلَهَا ذَلِكَ، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهَا بَذْلُ مَنْزِلِهَا بِإِعَارَةٍ وَلَا إِجَارَةٍ. فَرْعٌ لَوْ طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي مَنْزِلٍ مَمْلُوكٍ لِلزَّوْجِ، ثُمَّ أَفْلَسَ وَحُجِرَ عَلَيْهِ، بَقِيَ لَهَا حَقُّ السُّكْنَى، وَتُقَدَّمُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ، تُقَدَّمُ بِهِ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ، وَهَلْ لِلْحَاكِمِ بَيْعُ رَقَبَةِ الْمَسْكَنِ؟ فِيهِ الطَّرِيقَانِ السَّابِقَانِ،

وَلَوْ أَفْلَسَ وَحُجِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ضَارَبَتِ الْغُرَمَاءَ بِالسُّكْنَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَدَيْنٍ حَادِثٍ، لِأَنَّ حَقَّهَا مُسْتَنِدٌ إِلَى سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْحَجْرِ وَهُوَ النِّكَاحُ وَالْوَطْءُ فِيهِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَلَيْسَتْ فِي مَنْزِلٍ لَهُ، ضَارَبَتْهُمْ بِالْأُجْرَةِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الطَّلَاقُ أَوْ تَأَخَّرَ، لِأَنَّ حَقَّهَا هُنَا مُرْسَلٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِعَيْنٍ. وَمَتَى ضَارَبَتْ، فَإِنْ كَانَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ، ضَارَبَتْ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِلْأَشْهُرِ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْأَقْرَاءِ أَوِ الْحَمْلِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا عَادَةٌ فِيهِمَا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تُضَارِبُ بِأَقَلِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ انْقِضَاءُ الْأَقْرَاءِ فِيهَا، وَالْحَامِلُ بِأُجْرَةِ مَا بَقِيَ مِنْ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعُلُوقِ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزِّيَادَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَالثَّانِي: تُؤْخَذُ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، فَتُضَارِبُ ذَاتُ الْأَقْرَاءِ بِأُجْرَةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَالْحَامِلُ بِمَا بَقِيَ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِ «الْحَاوِي» . وَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ فِيهِمَا، ضَارَبَتْ بِأُجْرَةِ مُدَّةِ الْعَادَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ بِالْأَقَلِّ، وَإِنْ كَانَ لَهَا عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَرَاعَيْنَا الْعَادَةَ، فَالْمُعْتَبَرُ أَقَلُّ عَادَاتِهَا. وَإِذَا ضَارَبَتْ بِأُجْرَةِ مُدَّةٍ، وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ عَلَى وَفْقِ تِلْكَ الْمُضَارَبَةِ، فَهَلْ تَرْجِعُ عَلَى الْمُفْلِسِ بِالْبَاقِي مِنَ الْأُجْرَةِ عِنْدَ يَسَارِهِ؟ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ فِيهِ طَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا لَمْ تُطَالِبْ بِالسُّكْنَى فِي النِّكَاحِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ مُدَّةً، هَلْ تَصِيرُ سُكْنَى الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ دَيْنًا لَهَا عَلَيْهِ، وَتُطَالِبُهُ بِهَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالرُّجُوعِ، كَمَا فِي الْبَاقِي مِنْ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهَا هُنَا طَلَبَتِ الْجَمِيعَ، وَلَكِنَّ زَحْمَةَ الْغُرَمَاءِ مَنَعَتْهَا، وَلَوِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ الَّتِي ضَارَبَتْ لَهَا، رَدَّتِ الْفَضْلَ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَفِي رُجُوعِهَا عَلَى الْمُفْلِسِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْمُحَاصَّةُ لِلْمُدَّةِ الْمُنْقَضِيَةِ الطَّرِيقَانِ.

وَلَوِ امْتَدَّتِ الْعِدَّةُ وَزَادَتْ عَلَى مُدَّةِ الْمُضَارَبَةِ، فَفِي رُجُوعِهَا بِحِصَّةِ الْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْغُرَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: الرُّجُوعُ، لِأَنَّا تَبَيَّنَّا اسْتِحْقَاقَهَا، كَمَا لَوْ ظَهَرَ غَرِيمٌ، وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الْمُفْلِسِ إِذَا أَيْسَرَ، وَالثَّانِي: لَا تَرْجِعُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، لِئَلَّا تُغَيِّرَ مَا حَكَمْنَا بِهِ، وَيُنْسَبُ هَذَا إِلَى النَّصِّ، وَصَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ فِي «التَّجْرِبَةِ» ، وَالثَّالِثُ: تَرْجِعُ الْحَامِلُ لِأَنَّهُ حِسِّيٌّ دُونَ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ، فَإِنَّهَا مُتَّهَمَةٌ بِتَأْخِيرِهَا، وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَرْجِعُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ عَلَى الْأَصَحِّ إِذَا أَيْسَرَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْخِلَافُ فِي رُجُوعِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ، إِذَا لَمْ يُصَدِّقُوهَا، فَإِنْ صَدَّقُوهَا رَجَعَتْ عَلَيْهِمْ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ: وَفِي غَيْرِ صُورَةِ الْإِفْلَاسِ إِذَا مَضَى زَمَنُ الْعَادَةِ، فَادَّعَتْ مَزِيدًا، وَتَغَيُّرًا فِي الْعَادَةِ، فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ، أَنَّهَا تُصَدَّقُ بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَى الزَّوْجِ الْإِسْكَانُ، قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، لِأَنَّا إِذَا صَدَّقْنَاهَا رُبَّمَا تَمَادَتْ فِي دَعْوَاهَا إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ. فَرْعٌ إِذَا ضَارَبَتْ فِي صُورَةِ الْإِفْلَاسِ بِالْأُجْرَةِ، اسْتُؤْجِرَ بِحِصَّتِهَا الْمَنْزِلُ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الْعِدَّةُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ، فَأَقْرُبُ الْمُمْكِنِ كَمَا سَبَقَ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: فَإِذَا جَاوَزَتْ مُدَّةَ مَا أَخَذَتْ أُجْرَتَهُ، سَكَنَتْ حَيْثُ شَاءَتْ. فَرْعٌ لَوْ كَانَتِ الْمُطَلَّقَةُ رَجْعِيَّةً، أَوْ حَامِلًا، اسْتَحَقَّتْ مَعَ السُّكْنَى النَّفَقَةَ، وَتُضَارِبُ الْغُرَمَاءَ عِنْدَ إِفْلَاسِ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَالْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَالرُّجُوعِ كَمَا سَبَقَ، وَلَكِنْ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ لَا تُعَجَّلُ، لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهَا حِصَّةُ النَّفَقَةِ فِي الْحَالِ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا طَلَّقَهَا وَهُوَ غَائِبٌ، وَهِيَ فِي دَارٍ لَهُ بِمِلْكٍ أَوْ إِجَارَةٍ، اعْتَدَّتْ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَلَهُ مَالٌ، اكْتَرَى الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ مَسْكَنًا تَعْتَدُّ فِيهِ إِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، اقْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَاكْتَرَى، فَإِذَا رَجَعَ، قَضَاهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَعْتَرِضَ عَلَيْهِ، أَوْ تَكْتَرِيَ الْمَسْكَنَ مِنْ مَالِهَا، فَفَعَلَتْ، جَازَ، وَتَرْجِعُ، وَلَوِ اكْتَرَتْ مِنْ مَالِهَا، أَوِ اقْتَرَضَتْ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ، وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ الْحَاكِمَ، نُظِرَ، إِنْ قَدَرَتْ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ أَوْ لَمْ تَقْدِرْ وَلَمْ تُشْهِدْ، لَمْ تَرْجِعْ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ أَوْ أَشْهَدَتْ، رَجَعَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكُلُّ هَذَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ هُرُوبِ الْجِمَالِ وَنَظَائِرِهَا. فَرْعٌ إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ، أَوْ بَعْضُهَا، وَلَمْ تَطْلُبْ حَقَّ السُّكْنَى، سَقَطَ، وَلَمْ يَصِرْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَنَصَّ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، بَلْ تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ فِيهِمَا لِتَرَدُّدِهِمَا بَيْنَ الدُّيُونِ وَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَالْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، وَالْفَرْقُ بِأَنَّ النَّفَقَةَ بِالتَّمْكِينِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَالسُّكْنَى لِصِيَانَةِ مَائِهِ عَلَى مُوجَبِ نَظَرِهِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ، وَحُكْمُ السُّكْنَى فِي صُلْبِ النِّكَاحِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعِدَّةِ. فَصْلٌ إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ فِي خِلَالِ الْعِدَّةِ، لَمْ يَسْقُطْ مَا اسْتَحَقَّتْهُ الْمَبْتُوتَةُ مِنَ السُّكْنَى، وَإِذَا اسْتَحَقَّتِ السُّكْنَى، أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ وَقُلْنَا: تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَسْكَنٍ مَمْلُوكٍ لِلزَّوْجِ، لَمْ يُقَسِّمْهُ الْوَرَثَةُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَلَوْ أَرَادُوا التَّمْيِيزَ بِخُطُوطٍ تُرْسَمُ مِنْ غَيْرِ نَقْضٍ وَبِنَاءٍ، جَازَ إِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ إِفْرَازٌ، وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، فَحُكْمُ بَيْعِ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: إِفْرَازٌ،

فصل

فَلَهُمُ الْقِسْمَةُ كَيْفَ شَاءُوا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ كَانَ فِي مَسْكَنٍ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُسْتَعَارًا، وَاحْتِيجَ إِلَى نَقْلِهَا، فَعَلَى الْوَارِثِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهَا مِنَ التَّرِكَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرِكَةٌ، فَلَيْسَ عَلَى الْوَارِثِ إِسْكَانُهَا. فَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ، لَزِمَهَا الْإِجَابَةُ، وَإِذَا لَمْ يَتَبَرَّعْ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسْكِنَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ تُتَّهَمُ بِرِيبَةٍ، وَلَفْظُ الرُّويَانِيُّ فِي «الْبَحْرِ» أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكْتَرِيَ لَهَا، إِلَّا عِنْدَ الرِّيبَةِ فَيَلْزَمُهُ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَجِبُ السُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ لِلْوَرَثَةِ إِسْكَانُهَا حَيْثُ أَرَادُوا، وَبِهَذَا قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ وَجْهَيْنِ، أَصَحُّهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا تَلْزَمُهَا الْإِجَابَةُ، وَإِذَا تُوِقِّعَ شَغْلُ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعِ الْوَارِثُ بِإِسْكَانِهَا، فَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يُحَصِّنَهَا بِالْإِسْكَانِ. وَفِي «الْوَسِيطِ» وَ «الْبَسِيطِ» ، أَنَّهُ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ تَعْيِينُ الْمَسْكَنِ، بِخِلَافِ الْوَارِثِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ، وَإِذَا لَمْ يُسْكِنْهَا الْوَارِثُ وَالسُّلْطَانُ، سَكَنَتْ حَيْثُ شَاءَتْ، فَلَوْ أَسْكَنَهَا أَجْنَبِيٌّ مُتَبَرِّعٌ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُتَبَرِّعُ ذَا رِيبَةٍ، فَهُوَ كَالْوَارِثِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ حَيْثُ يُسْكِنُهَا. قُلْتُ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لِلْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ إِسْكَانُ الْمُعْتَدَّةِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْعِدَدِ إِحْدَاهَا: إِذَا طَلَّقَ الْغَائِبُ، أَوْ مَاتَ، فَالْعِدَّةُ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ، لَا مِنْ بُلُوغِ الْخَبَرِ.

الثَّانِيَةُ: لَوْ نُكِحَتِ الْمُعْتَدَّةُ بَعْدَ مُضِيِّ قَرْءٍ، وَوَطِئَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي، ثُمَّ جَاءَ الْأَوَّلُ وَوَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي، فَتَشْتَغِلُ بِالْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَهُوَ قَرْءَانِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ قَرْءَانِ مِنْ عِدَّةِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عَنِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عَنِ الْأَوَّلِ بِقَرْءٍ لِمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الشُّبْهَةِ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فِي «الْفَتَاوَى» . الثَّالِثَةُ: مَاتَ زَوْجُ الْمُعْتَدَّةِ، فَقَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ مَوْتِهِ، لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي تَرْكِ الْعِدَّةِ، وَلَا تَرِثُ لِإِقْرَارِهَا. الرَّابِعَةُ: فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَوْ أَسْقَطَتْ مُؤْنَةَ السُّكْنَى عَنِ الزَّوْجِ، لَمْ يَصِحَّ الْإِسْقَاطُ، لَأَنَّ السُّكْنَى تَجِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَلَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ. الْخَامِسَةُ: فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، وَصَارَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ، لَمْ يَقْطَعْ وَطْؤُهُ عِدَّةَ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ لَا يُوجِبُ عِدَّةً، فَلَا يَقْطَعُهَا كَمَا لَوْ زَنَتِ الْمُعْتَدَّةُ. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ. الْأَوَّلُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُسْتَبْرَأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، اسْتَبْرَأَتْ بِقَرْءٍ، وَهُوَ حَيْضٌ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: هُوَ طُهْرٌ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ اسْتِبْرَاءَ أُمِّ الْوَلَدِ لِمَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ إِعْتَاقِهِ بِطُهْرٍ، وَالْأَمَةِ الَّتِي يَحْدُثُ مِلْكُهَا بِحَيْضٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقَرْءُ هُوَ الطُّهْرُ، فَصَادَفَ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ آخِرَ الْحَيْضِ، كَانَ الطُّهْرُ الْكَامِلُ بَعْدَهُ اسْتِبْرَاءً. وَهَلْ يَكْفِي ظُهُورُ الدَّمِ بَعْدَهُ، أَمْ يُعْتَبَرُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْعِدَّةِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ حَيْضَةٍ كَامِلَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ الطُّهْرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ، وَصَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ، وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ الِاسْتِبْرَاءِ وَهِيَ طَاهِرٌ، فَهَلْ يَكْفِي بَقِيَّةُ الطُّهْرِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَكْفِي

كَمَا فِي الْعِدَّةِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي «الْبَسِيطِ» ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْبَغْدَادِيِّينَ. وَالثَّانِي: لَا يَكْفِي، وَلَا يَنْقَضِي الِاسْتِبْرَاءُ حَتَّى تَحِيضَ بَعْدَهُ ثُمَّ تَطْهُرَ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ. وَإِذَا قُلْنَا: الْقَرْءُ الْحَيْضُ، لَمْ يَكْفِ بَقِيَّةُ الْحَيْضِ، بَلْ يُعْتَبَرُ حَيْضَةً كَامِلَةً. فَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا عِنْدَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ، لَمْ يَنْقَضِ الِاسْتِبْرَاءُ حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً، ثُمَّ تَطْهُرَ، وَإِذَا تَبَاعَدَ حَيْضُ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ، فَحُكْمُهَا فِي التَّرَبُّصِ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ حُكْمُ الْمُعْتَدَّةِ. فَإِنْ كَانَتِ الْمُسْتَبْرَأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، فَهَلْ تَسْتَبْرِئُ بِشَهْرٍ، أَمْ بِثَلَاثَةٍ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: بِشَهْرٍ، لِأَنَّهُ بَدَلَ قَرْءٍ، وَرَجَّحَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَجَمَاعَةٌ، الثَّلَاثَةَ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، نُظِرَ، إِنْ زَالَ فِرَاشُهُ عَنْ مُسْتَوْلَدَتِهِ، أَوْ أَمَتِهِ الْحَامِلِ، فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ. فَإِنْ مَلَكَ أَمَةً، فَقَدْ أَطْلَقَ الْمُتَوَلِّي، أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْحَمْلُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ زَوْجٍ، أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ، وَالْأَصَحُّ التَّفْصِيلُ. فَإِنْ مَلَكَهَا بِسَبْيٍ حَصَلَ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْوَضْعِ، وَإِنْ مَلَكَ بِالشِّرَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْ زَوْجٍ وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ أَوْ عِدَّتِهِ، أَوْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَطْءِ، فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا اسْتِبْرَاءَ فِي الْحَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي وُجُوبِهِ بَعْدَ الْعِدَّةِ خِلَافٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْوَضْعِ، لِأَنَّهُ إِمَّا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِمَّا مُؤَخَّرٌ عَنِ الْوَضْعِ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي حُصُولِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْوَضْعِ قَوْلَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًا، فَفِي حُصُولِ الِاسْتِبْرَاءِ بِوَضْعِهِ حَيْثُ يَحْصُلُ فِي ثَابِتِ النَّسَبِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْحُصُولُ، لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَلِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِالتَّأْكِيدِ، وَلِهَذَا اشْتُرِطَ فِيهَا التَّكْرَارُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْصُلُ، وَرَأَتْ دَمًا عَلَى الْحَمْلِ، وَقُلْنَا: هُوَ حَيْضٌ، حَصَلَ الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةٍ عَلَى الْحَمْلِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِحَيْضٍ، أَوْ لَمْ تَرَ دَمًا، فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ بَعْدَ الْوَضْعِ. وَلَوِ ارْتَابَتِ الْمُسْتَبْرَأَةُ بِالْحَمْلِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهَا، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعِدَّةِ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي سَبَبِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَهُوَ سَبَبَانِ.

السَّبَبُ الْأَوَّلُ: حُصُولُ الْمِلْكِ، فَمَنْ مَلَكَ جَارِيَةً بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ، أَوْ شِرَاءٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ سَبْيٍ، أَوْ عَادَ مِلْكُهُ فِيهَا بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، أَوِ التَّحَالُفِ، أَوِ الْإِقَالَةِ، أَوْ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، أَوِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا، سَوَاءٌ فِي الْإِقَالَةِ وَنَحْوِهَا، مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ اشْتِغَالُ الرَّحِمِ بِمَائِهِ أَوْ مِمَّنْ لَا يُتَصَوَّرُ، كَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ وَنَحْوِهِمَا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْأَمَةُ صَغِيرَةً، أَوْ آيِسَةً، أَوْ غَيْرَهُمَا، بِكْرًا، أَوْ ثَيِّبًا، وَسَوَاءٌ اسْتَبْرَأَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ الْبَيْعِ، أَمْ لَا. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ تَخْرِيجٌ فِي الْبِكْرِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَعَنِ الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الْحَامِلِ وَالْمَوْطُوءَةِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَأَنَا أَمِيلُ إِلَى هَذَا، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِيهِنَّ الصِّغَارَ، وَالْأَبْكَارَ، وَالْآيِسَاتِ. وَلَا يَجِبُ عَلَى بَائِعِ الْأَمَةِ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ الْبَيْعِ، سَوَاءٌ وَطِئَهَا أَمْ لَا، لَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِنْ كَانَ وَطِئَهَا لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهَا. وَلَوْ أَقْرَضَ جَارِيَةً لِمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ، ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا قَبْلَ تَصَرُّفِ الْمُقْتَرِضِ فِيهَا، لَزِمَ الْمُقْرِضُ اسْتِبْرَاؤُهَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ قُلْنَا: بِالتَّصَرُّفِ، لَمْ يَلْزَمْهُ. فَرْعٌ كَاتَبَ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ فَسَخَتِ الْكِتَابَةَ، أَوْ عَجَّزَهَا السَّيِّدُ، لَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاءُ. فَرْعٌ لَوْ حَرُمَتْ عَلَى السَّيِّدِ بِصَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ، أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ رَهْنٍ، أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، ثُمَّ زَالَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، حَلَّتْ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ. فَرْعٌ ارْتَدَّتْ أَمَتُهُ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ ثُمَّ عَادَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوِ اشْتَرَى مُرْتَدَّةً ثُمَّ أَسْلَمَتْ، هَلْ يُحْسَبُ حَيْضُهَا فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: يُحْسَبُ،

لَمْ يَجِبِ الِاسْتِبْرَاءُ، وَإِلَّا وَجَبَ. وَلَوِ ارْتَدَّ السَّيِّدُ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ مِلْكُهُ بِالرِّدَّةِ، لَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ قَطْعًا، وَإِلَّا فَعَلَى الْأَصَحِّ كَرِدَّةِ الْأَمَةِ. فَرْعٌ أَحْرَمَتْ ثُمَّ تَحَلَّلَتْ، فَالْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا اسْتِبْرَاءَ كَمَا لَوْ صَامَتْ ثُمَّ أَفْطَرَتْ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ كَالرِّدَّةِ. فَرْعٌ زَوَّجَ أَمَتَهُ، فَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهَلْ عَلَى السَّيِّدِ اسْتِبْرَاؤُهَا؟ قَوْلَانِ يَأْتِي بَيَانُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَعَادَتْ إِلَيْهِ بِالْفَسْخِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَفِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ خِلَافٌ، الْمَذْهَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ إِنْ قُلْنَا: يَزُولُ مِلْكُ الْبَائِعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ، فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ، أَنَّهُ يَدُومُ حِلُّ وَطْئِهَا، وَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ، فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ حِلٌّ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَاطِ مَاءٍ، وَأَمَّا اسْتِحْبَابُهُ، فَلِتَمْيِيزِ وَلَدِ النِّكَاحِ عَنْ وَلَدِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ فِي النِّكَاحِ يَنْعَقِدُ مَمْلُوكًا، ثُمَّ يَعْتِقُ وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَفِي مِلْكِ الْيَمِينِ يَنْعَقِدُ حُرًّا وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ. وَالثَّانِي: يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ لِتَجَدُّدِ الْمِلْكِ. وَلَوِ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَهَلْ لَهُ وَطْؤُهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ أَوْ مَمْلُوكَةٌ، أَمْ لَا لِلتَّرَدُّدِ فِي حَالِهَا؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ. وَلَوْ طَلَّقَهَا

ثُمَّ اشْتَرَاهَا فِي الْعِدَّةِ، وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ. وَلَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ ثُمَّ أَرَادَ تَزْوِيجَهَا لِغَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ إِلَّا بَعْدَ قَرْءَيْنِ، لِأَنَّهُ إِذَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ مِنْهُ، فَلَا تَنْكِحَ غَيْرَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِقَرْءَيْنِ. فَلَوْ مَاتَ عَقِبَ الشِّرَاءِ، لَمْ يَلْزَمْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، بَلْ تُكْمِلُ عِدَّةَ الِانْفِسَاخِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَحَكَى عَنْ نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» . فَرْعٌ اشْتَرَى مُزَوَّجَةً أَوْ مُعْتَدَّةً عَنْ زَوْجٍ، أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَالْمُشْتَرِي عَالِمٌ بِالْحَالِ أَوْ جَاهِلٌ، وَأَجَازَ الْبَيْعَ، فَلَا اسْتِبْرَاءَ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ غَيْرِهِ. فَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَانْقَضَتْ عِدَّةُ الشُّبْهَةِ، فَهَلْ يَلْزَمُ لِلْمُشْتَرِي الِاسْتِبْرَاءُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. وَقَدْ يُقَالُ: يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ، وَيُرَدُّ الْخِلَافُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ تَدْخُلُ فِي الْعِدَّةِ؟ وَاسْتَنْبَطَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عِبَارَتَيْنِ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِمَا مَسَائِلُ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلِاسْتِبْرَاءِ حُدُوثُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ مَعَ فَرَاغِ مَحَلِّ الِاسْتِمْتَاعِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُوجِبَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ فِي الْمَمْلُوكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَعَلَى الْعِبَارَةِ الْأُولَى: لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ حِينَئِذٍ مِلْكٌ، وَعِنْدَ حُدُوثِهِ لَمْ يَكُنْ مَحَلُّ الِاسْتِمْتَاعِ فَارِغًا، وَعَلَى الثَّانِيَةِ: يَجِبُ. وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِمَا الْخِلَافَ فِيمَا لَوِ اشْتَرَى مَجُوسِيَّةً فَحَاضَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، هَلْ يَلْزَمُ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، أَمْ يَكْفِي مَا سَبَقَ؟ وَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ زَوَّجَ وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، هَلْ عَلَى السَّيِّدِ اسْتِبْرَاءٌ؟ فَعَلَى الْأُولَى، لَا. وَعَلَى الثَّانِيَةِ، نَعَمْ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ زَوَّجَهَا وَطُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا.

وَإِذَا قُلْنَا: فِيمَا إِذَا اشْتَرَى مُزَوَّجَةً وَطُلِّقَتْ، لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ، فَلِمَنْ يُرِيدُ تَعْجِيلَ الِاسْتِمْتَاعِ أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ حِيلَةً فِي انْدِفَاعِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَيَسْأَلَ الْبَائِعَ أَنْ يُزَوِّجَهَا ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا، ثُمَّ يَسْأَلَ الزَّوْجَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَتَحِلَّ فِي الْحَالِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَوْطُوءَةِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَوْطُوءَةً، أَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا. وَإِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ كَذَلِكَ، فَلَوْ أَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ، وَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْبَائِعُ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. فَعَلَى هَذَا، مَنْ يُرِيدُ تَعْجِيلَ الِاسْتِمْتَاعِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْتِقَهَا فِي الْحَالِ وَيَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى سُؤَالِ الْبَائِعِ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَوَّلًا إِذَا كَانَ يَسْمَحُ بِفَوَاتِ مَالِيَّتِهَا. فَرْعٌ إِذَا تَمَّ مِلْكُهُ عَلَى جَمِيعِ جَارِيَةٍ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، لَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي جَارِيَةٍ وَقَبَضَهَا، فَوَجَدَهَا بِغَيْرِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَرَدَّهَا، لَزِمَ الْمُسْلَّمَ إِلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ. فَرْعٌ إِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ مَحْرَمًا لِلْمُشْتَرِي، أَوِ اشْتَرَتْهَا امْرَأَةٌ أَوْ رَجُلَانِ، فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِبْرَاءِ إِلَّا فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّزْوِيجِ. فَرْعٌ ظَهَرَ بِالْمُشْتَرَاةِ حَمْلٌ فَقَالَ الْبَائِعُ: هُوَ مِنِّي، نُظِرَ، إِنْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَالْجَارِيَةُ مُسْتَوْلَدَةٌ لِلْبَائِعِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُقِرَّ الْبَائِعُ بِوَطْئِهَا عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا قَبْلَهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ بَعْدَ الْبَيْعِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ، لَكِنْ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي، أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَ الْحَمْلِ مِنْهُ. وَفِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنَ الْبَائِعِ

فصل

خِلَافٌ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ إِرْثَ الْمُشْتَرِي بِالْوَلَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ اسْتَبْرَأَهَا ثُمَّ بَاعَهَا، ثُمَّ وَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ اسْتِبْرَاءِ الْمُشْتَرِي، فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالْبَائِعِ، وَالْجَارِيَةُ مُسْتَوْلَدَةٌ لَهُ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكُهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ، إِنْ لَمْ يَطَأْهَا الْمُشْتَرِي، أَوْ وَطِئَهَا وَوَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ وَطْئِهِ، فَالْوَلَدُ مَمْلُوكُهُ. وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَطْئِهِ، فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالْمُشْتَرِي، وَالْجَارِيَةُ مُسْتَوْلَدَةٌ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا الْبَائِعُ قَبْلَ الْبَيْعِ، نُظِرَ، إِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ اسْتِبْرَاءِ الْمُشْتَرِي، أَوْ لِأَكْثَرَ وَلَمْ يَطَأْهَا الْمُشْتَرِي، فَالْوَلَدُ لِلْبَائِعِ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَإِنْ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ ذَاكَ، عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ. فَرْعٌ لَا يَجُبْ فِي شِرَاءِ الْأَمَةِ الَّتِي كَانَ الْبَائِعُ يَطَؤُهَا إِلَّا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ، لِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ، فَلَوِ اشْتَرَاهَا مِنْ شَرِيكَيْنِ وَطِئَاهَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَهَلْ يَكْفِي اسْتِبْرَاءٌ لِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ، أَمْ يَجِبُ اسْتِبْرَءَانِ كَالْعِدَّتَيْنِ مِنْ شَخْصَيْنِ؟ وَجْهَانِ. وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ وَطِئَاهَا وَأَرَادَا تَزْوِيجَهَا، فَهَلْ يَكْفِي اسْتِبْرَاءٌ، أَمْ يَجِبُ اسْتِبْرَاءَانِ. وَلَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّانِ أَمَةً كَلٌّ يَظُنُّهَا أَمَتَهُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَطْءُ كُلِّ وَاحِدٍ يَقْتَضِي اسْتِبْرَاءً بِقَرْءٍ. وَفِي تَدَاخُلِهِمَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ. فَصْلٌ مَنْ مَلَكَ أَمَةً، لَمْ يَجُزْ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الِاسْتِبْرَاءُ. وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ وَنَحْوِهَا، فَحَرَامٌ إِنْ مَلَكَهَا بِغَيْرِ السَّبْيِ، وَإِنْ مَلَكَهَا بِالسَّبْيِ، فَحَلَالٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ وَتَمَّ الِاسْتِبْرَاءُ، بَقِيَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ حَتَّى تَغْتَسِلَ، وَيَحِلَّ الِاسْتِمْتَاعُ قَبْلَ الْغُسْلِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَصْلٌ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ لَا يَمْنَعُ الْمَالِكَ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْجَارِيَةِ، بَلْ هُوَ مُؤْتَمَنٌ فِيهِ

فصل

شَرْعًا، لِأَنَّ سَبَايَا أَوْطَاسٍ لَمْ يُنْزَعْنَ مِنْ أَيْدِي أَصْحَابِهِنَّ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حَسْنَاءَ أَمْ قَبِيحَةً. فَصْلٌ لَوْ مَضَى زَمَنُ الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ الْمِلْكِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ؟ نُظِرَ، إِنْ مَلَكَ بِالْإِرْثِ، اعْتُدَّ بِهِ، وَإِنْ مَلَكَ بِالْهِبَةِ، فَلَا. وَإِنْ مَلَكَ بِالشِّرَاءِ، اعْتُدَّ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي الْوَصِيَّةِ، لَا يُعْتَدُّ بِمَا قَبْلَ الْقَبُولِ، وَيُعْتَدُّ بِمَا بَعْدَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ وَقَعَ الْحَمْلُ أَوِ الْحَيْضُ فِي زَمَنِ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الشِّرَاءِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، لَمْ يَحْصُلِ الِاسْتِبْرَاءُ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، لَمْ يَحْصُلْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِضَعْفِ الْمِلْكِ. وَقِيلَ: يَحْصُلُ، وَقِيلَ: يَحْصُلُ فِي صُورَةِ الْحَمْلِ دُونَ الْحَيْضِ، لِقُوَّةِ الْحَمْلِ. فَرْعٌ لَوِ اشْتَرَى مَجُوسِيَّةً أَوْ مُرْتَدَّةً، فَمَضَتْ عَلَيْهَا حَيْضَةٌ، أَوْ وَلَدَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، فَهَلْ تَعْتَدُّ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِي الْكُفْرِ لِوُجُودِ الْمِلْكِ، أَمْ يَجِبُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِيَسْتَعْقِبَ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. فَرْعٌ إِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ جَارِيَةً، فَلِلسَّيِّدِ وَطْؤُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ، لَمْ يَجُزْ، لِئَلَّا يُحْبِلَهَا. فَإِنِ انْفَكَّتْ عَنِ الدُّيُونِ بِقَضَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَقَدْ جَرَى قَبْلَ الِانْفِكَاكِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ، فَهَلْ يُعْتَدُّ بِهِ، أَمْ يُشْتَرَطُ وُقُوعُ الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ الِانْفِكَاكِ؟ وَجْهَانِ كَالْمَجُوسِيَّةِ، أَصَحُّهُمَا الثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. وَلَوْ رَهَنَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، ثُمَّ انْفَكَّ الرَّهْنُ، قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا جَرَى، وَهِيَ مَرْهُونَةٌ، وَغَلَّطَهُ الرُّويَانِيُّ.

فَرْعٌ لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، أَوِ اسْتَمْتَعَ بِهَا، وَقُلْنَا بِتَحْرِيمِهِ، أَثِمَ، وَلَا يَنْقَطِعُ الِاسْتِبْرَاءُ، لِأَنَّ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ الِاحْتِسَابَ، فَكَذَا الْمُعَاشَرَةُ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ. فَلَوْ أَحْبَلَهَا بِالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ، فَإِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ، حَلَّتْ لَهُ لِتَمَامِ الْحَيْضَةِ، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا عِنْدَ الْإِحْبَالِ، لَمْ يَنْقَضِ الِاسْتِبْرَاءُ حَتَّى تَضَعَ الْحَمْلَ، هَذَا لَفْظُهُ فِي الْوَسِيطِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. السَّبَبُ الثَّانِي: زَوَالُ الْفِرَاشِ عَنْ مَوْطُوءَةٍ بِمِلْكِ يَمِينٍ، فَإِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ الَّتِي وَطِئَهَا، أَوْ مُسْتَوْلَدَتَهَ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَلَيْسَتْ فِي زَوْجِيَّةٍ وَلَا عِدَّةِ نِكَاحٍ، لَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاءُ، لِأَنَّهُ زَالَ عَنْهَا الْفِرَاشُ، فَأَشْبَهَتِ الْحُرَّةَ، وَيَكُونُ اسْتِبْرَاؤُهَا بِقَرْءٍ، كَالْمُمْتَلَكَةِ. وَلَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، فَهَلْ يَكْفِي ذَلِكَ، أَمْ يَلْزَمُهَا الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الْعِتْقِ؟ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، كَمَا لَا تَعْتَدُّ الْمَنْكُوحَةُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْرَاءِ عَلَى ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ، هَلْ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا فِرَاشًا بِالِاسْتِبْرَاءِ أَوِ الْوِلَادَةِ، وَهَلْ تَعُودُ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، أَمْ لَا تَعُودُ وَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ؟ وَلَوِ اسْتَبْرَأَ الْأَمَةَ الْمَوْطُوءَةَ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا، وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَطْرُدُوا فِيهَا الْخِلَافَ الَّذِي فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَدَةَ يُشْبِهُ فِرَاشُهَا فِرَاشَ النِّكَاحِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْأَمَةُ مَوْطُوءَةً، لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا، وَلَمْ يَجِبِ الِاسْتِبْرَاءُ بِإِعْتَاقِهَا. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، بِخِلَافِ بَيْعِهَا، لِأَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ الْوَطْءُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْقِبَ الْحِلَّ. وَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِ أُمِّ الْوَلَدِ خِلَافٌ

مَذْكُورٌ فِي «بَابِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ» الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ. فَعَلَى هَذَا، لَا تُزَوَّجُ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ. وَلَوِ اسْتَبْرَأَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، فَهَلْ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا فِي الْحَالِ، أَمْ تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِبْرَاءٍ جَدِيدٍ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اشْتَرَى أَمَةً وَأَرَادَ تَزْوِيجَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَطِئَهَا، لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ، أَوْ وَطِئَهَا وَاسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ، أَوْ كَانَ الِانْتِقَالُ مِنِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ، جَازَ تَزْوِيجُهَا فِي الْحَالِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا كَانَ لِلْبَائِعِ تَزْوِيجُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ. فَرْعٌ إِذَا أَعْتَقَ مُسْتَوْلَدَتَهَ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ فِي نِكَاحٍ أَوْ عِدَّةِ زَوْجٍ، فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ. وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ فَرَاغِ عِدَّةِ الزَّوْجِ. وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ هَذَا قَوْلًا قَدِيمًا، وَحُكِيَ أَيْضًا عَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: فَعَلَى الْمَذْهَبِ مَتَى انْقَضَتْ عِدَّةُ الزَّوْجِ، وَكَانَ السَّيِّدُ حَيًّا، عَادَتْ فِرَاشًا لَهُ، وَعَلَى التَّخْرِيجِ لَا تَعُودُ فِرَاشًا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا. وَلَوْ أَعْتَقَهَا، أَوْ مَاتَ عَقِبَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الزَّوْجِ، فَقِيلَ: لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ وُجُوبُهُ. لَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهِ أَنْ يَقَعَ إِعْتَاقُ السَّيِّدِ أَوْ مَوْتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِلَحْظَةٍ لِتَعُودَ فِيهَا فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ، أَمْ لَا لِكَوْنِ مَصِيرِهَا فِرَاشًا أَمْرًا حُكْمِيًّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى زَمَنٍ حِسِّيٍّ؟ وَجْهَانِ. أَرْجَحُهُمَا الثَّانِي.

وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يَمُتِ السَّيِّدُ وَلَمْ يُعْتِقْهَا، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّهَا تَعُودُ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ، وَتَحِلُّ لَهُ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ. وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ، لَوْ مَاتَ السَّيِّدُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاءُ، وَعَلَى الْقَدِيمِ: لَا اسْتِبْرَاءَ. وَالْخِلَافُ فِي حِلِّ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا زَالَ حَقُّ الزَّوْجِ، كَالْخِلَافِ فِيمَا إِذَا زَالَ حَقُّ الزَّوْجِ عَنِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ، هَلْ يَحْتَاجُ السَّيِّدُ إِلَى اسْتِبْرَائِهَا؟ لَكِنَّ الرَّاجِحَ فِي الْأَمَةِ الِاحْتِيَاجُ. وَنَقَلَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ عَنِ النَّصِّ، لِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ أَشْبَهُ بِالنِّكَاحِ، وَلِهَذَا وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ يَلْحَقُهُ إِذَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ اسْتِبْرَائِهَا، وَوَلَدُ الْأَمَةِ لَا يَلْحَقُهُ، كَذَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ. وَلَوْ أَعْتَقَ مُسْتَوْلَدَتَهَ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ فِي عِدَّةِ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهَا الِاسْتِبْرَاءُ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَنْصُوصِ فِيمَا إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةِ زَوْجٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الْوُجُوبُ. فَرْعٌ أَعْتَقَ مُسْتَوْلَدَتَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ تَمَامِ الِاسْتِبْرَاءِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا يَتَزَوَّجُ الْمُعْتَدَّةَ مِنْهُ بِنِكَاحٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. فَرْعٌ الْمُسْتَوْلَدَةُ الْمُزَوَّجَةُ، إِذَا مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا وَزَوْجُهَا جَمِيعًا، فَلَهَا أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ السَّيِّدُ أَوَّلًا، فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ مُزَوَّجَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، فَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَهُ، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ، وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا، فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الزَّوْجِ، فَقَدْ عُتِقَتْ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي

أَوَّلِ كِتَابِ الْعِدَدِ الْخِلَافُ، فِي أَنَّهَا هَلْ تُكْمِلُ عِدَّةَ حُرَّةٍ أَمْ عِدَّةَ أَمَةٍ؟ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، اسْتَبْرَأَتْ بِشَهْرٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، اسْتَبْرَأَتْ بِحَيْضَةٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ إِنْ لَمْ تَحِضْ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ حَاضَتْ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ مَا عُتِقَتْ، كَفَاهَا ذَلِكَ. وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الْعِدَّةِ، لَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْأَصَحِّ تَفْرِيعًا عَلَى عَوْدِهَا فِرَاشًا. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمُوتَ السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ مَعًا، فَلَا اسْتِبْرَاءَ، لِأَنَّهَا لَمْ تَعُدْ إِلَى فِرَاشِهِ. وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، فِيمَا إِذَا عَتَقَتْ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ، وَهَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ، أَمْ عِدَّةَ حُرَّةٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: عِدَّةَ أَمَةٍ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِعِدَّةِ حُرَّةٍ احْتِيَاطًا. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا وَيُشْكِلُ السَّابِقُ، فَلَهُ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ مَوْتِهِمَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ، فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ مِنْ مَوْتِ آخِرِهِمَا مَوْتًا، لِاحْتِمَالِ أَنَّ السَّيِّدَ مَاتَ أَوَّلًا، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ حُرَّةٌ، وَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهَا عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ زَوْجَةٌ أَوْ مُعْتَدَّةٌ. وَإِنْ أَوْجَبْنَا الِاسْتِبْرَاءَ، فَحُكْمُهُ كَمَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ تَخَلَّلَ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ بِلَا مَزِيدٍ، فَهَلْ هُوَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُتَخَلِّلُ أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، أَمْ كَمَا لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهَا؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَعَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَوْتِ آخِرِهِمَا مَوْتًا، ثُمَّ إِنْ لَمْ تَحِضْ

فصل

فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ بَعْدَهَا بِحَيْضَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الزَّوْجَ مَاتَ أَوَّلًا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَعَادَتْ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ، وَإِنْ حَاضَتْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَيْضُ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ أَوْ آخِرِهَا. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ لِئَلَّا يَقَعَ الِاسْتِبْرَاءُ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ تَأَخُّرِ مَوْتِ السَّيِّدِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مُنْقَضِيَةً بِالْمُدَّةِ الْمُتَخَلِّلَةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الِاجْتِمَاعُ سَوَاءٌ كَانَ الْحَيْضُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْ آخِرِهَا. وَلَوْ كَانَتِ الْمُسْتَوْلَدَةُ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ، كَفَاهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ كَمُّ الْمُدَّةِ الْمُتَخَلِّلَةِ، فَعَلَيْهَا التَّرَبُّصُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، أَخْذًا بِالْأَحْوَطِ، وَلَا نُوَرِّثُهَا مِنَ الزَّوْجِ إِذَا شَكَكْنَا فِي أَسْبَقِهِمَا مَوْتًا، فَإِنِ ادَّعَتْ عِلْمَ الْوَرَثَةِ أَنَّهَا كَانَتْ حُرَّةً يَوْمَ مَوْتِ الزَّوْجِ، فَعَلَيْهِمُ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. فَصْلٌ مَتَّى قَالَتِ الْمُسْتَبْرَأَةُ: حِضْتُ، صُدِّقَتْ بِلَا يَمِينٍ. وَلَوِ امْتَنَعَتْ عَلَى السَّيِّدِ فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرَتْنِي بِانْقِضَاءِ الِاسْتِبْرَاءِ، صُدِّقَ السَّيِّدُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مُفَوَّضٌ إِلَى أَمَانَةِ السَّيِّدِ، وَلِهَذَا لَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ، فَإِنَّهُ يُحَالُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَهَا. وَهَلْ لَهَا تَحْلِيفُ السَّيِّدِ؟ وَجْهَانِ. حَقِيقَتُهُمَا: أَنَّهُ هَلْ لِلْأَمَةِ الْمُخَاصَمَةُ؟ وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا إِذَا وَرِثَ جَارِيَةً فَادَّعَتْ أَنَّ مُوَرِّثَهَا وَطِئَهَا، وَأَنَّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِوَطْئِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ تَصْدِيقُهَا. وَطَرِيقُ الْوَرَعِ لَا يَخْفَى. وَهَلْ لَهَا تَحْلِيفُهُ؟ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّ لَهَا التَّحْلِيفَ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَعَلَيْهَا الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّمْكِينِ إِذَا تَحَقَّقَتْ بَقَاءَ شَيْءٍ مِنْ زَمَنِ الِاسْتِبْرَاءِ وَإِنْ أَبَحْنَاهَا لَهُ فِي الظَّاهِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ وَطِئَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ فِي عِدَّتِهَا عَنْ وَفَاةِ زَوْجٍ، ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ، فَعَلَيْهَا إِكْمَالُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، ثُمَّ تَتَرَبَّصُ بِحَيْضَةٍ لِمَوْتِ السَّيِّدِ. فَلَوْ مَرَّتْ بِهَا حَيْضَةٌ فِي بَقِيَّةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا، لِأَنَّهُمَا وَاجِبَانِ لِشَخْصَيْنِ، فَلَا يَتَدَاخَلَانِ. وَلَوْ لَمْ يَمُتِ السَّيِّدُ، لَكِنْ أَرَادَ تَزْوِيجَهَا، فَكَذَلِكَ تُكْمِلُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، ثُمَّ تَتَرَبَّصُ بِحَيْضَةٍ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ طَلَاقٍ، فَوَطِئَهَا السَّيِّدُ، ثُمَّ مَاتَ، أَكْمَلَتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، ثُمَّ تَرَبَّصَتْ بِحَيْضَةٍ لِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَلَا تُحْسَبُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ وَطْءِ السَّيِّدِ إِلَى مَوْتِهِ إِنْ كَانَ يَسْتَفْرِشُهَا، كَمَا لَوْ نُكِحَتْ فِي الْعِدَّةِ وَكَانَ الزَّوْجُ الثَّانِي يَسْتَفْرِشُهَا جَاهِلًا، هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ. أَمَّا إِذَا وَطِئَهَا السَّيِّدُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَمَاتَ، فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَوَلَدَتْ لِزَمَنٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الزَّوْجِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنَ السَّيِّدِ، عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِالزَّوْجِ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوَضْعِ، وَعَلَيْهَا حَيْضَةٌ بَعْدَ طُهْرِهَا مِنَ النِّفَاسِ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِالسَّيِّدِ، حَصَلَ الِاسْتِبْرَاءُ بِوَضْعِهِ، وَعَلَيْهَا بَعْدَ إِتْمَامِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، فَعَلَيْهَا إِتْمَامُ بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْوَضْعِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنَ السَّيِّدِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنَ الزَّوْجِ، فَعَلَيْهَا التَّرَبُّصُ بِحَيْضَةٍ بَعْدَ الْوَضْعِ، فَيَلْزَمُهَا أَطْوَلُ الْمُدَّتَيْنِ، فَإِنْ وَقَعَتِ الْحَيْضَةُ فِي بَقِيَّةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، كَفَاهَا ذَلِكَ. وَلَوْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَالصُّورَةُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَوَلَدَتْ لِزَمَانٍ يَحْتَمِلُهَا، فَإِنْ أُلْحِقَ بِالزَّوْجِ، فَعَلَيْهَا بَعْدَ الْوَضْعِ حَيْضَةٌ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِالسَّيِّدِ، فَعَلَيْهَا بَعْدَهُ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ، وَإِنْ أُشْكِلَ، فَعَلَيْهَا بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ، أَوْ حَيْضَةٌ فَتَأْخُذُ بِأَكْثَرِهِمَا. فَرْعٌ اشْتَرَى مُزَوَّجَةً، فَوَطِئَهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا مُزَوَّجَةٌ، وَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، وَمَاتَ الزَّوْجُ، فَإِنْ وَلَدَتْ لِزَمَنٍ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مِنْهُمَا، بِأَنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ

وَطْءِ السَّيِّدِ، وَلِأَرْبَعِ سِنِينَ فَأَقَلَّ مِنْ وَطْءِ الزَّوْجِ، عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ. فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِالزَّوْجِ، انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِالْوَضْعِ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِالسَّيِّدِ، لَمْ تَنْقَضِ بِالْوَضْعِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، أَوْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ، لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ بِالْوَضْعِ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مِنَ السَّيِّدِ، وَعَلَيْهَا إِتْمَامُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَلَا تُحْسَبُ مُدَّةُ افْتِرَاشِ السَّيِّدِ مِنَ الْعِدَّةِ. وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنَ السَّيِّدِ دُونَ الزَّوْجِ، فَكَذَا الْحُكْمُ، وَإِنِ احْتَمَلَ كَوْنُهُ مِنَ الزَّوْجِ دُونَ السَّيِّدِ، انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ، وَهَلْ عَلَى السَّيِّدِ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الْعِدَّةِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ وَالتَّصْوِيرُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ عَقِبَ الْوَطْءِ، وَإِمَّا بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ، فَإِنْ مَاتَ عَقِبَهُ، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ. وَهَلْ تَحِلُّ بَعْدَهَا لِلسَّيِّدِ، أَمْ تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِبْرَاءٍ؟ فِيهِ الْخِلَافُ. وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ عَاشَ بَعْدَ الْوَطْءِ مُدَّةً، لَزِمَهُ اعْتِزَالُهَا إِذَا عَلِمَ الْحَالَ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ، كَالْمَنْكُوحَةِ تُوطَأُ بِالشُّبْهَةِ. وَإِذَا مَاتَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَتَحِلُّ لِلسَّيِّدِ بَعْدَهَا، وَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ جَدِيدٍ. وَلَوِ اسْتَفْرَشَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ وَطْءِ السَّيِّدِ جَاهِلًا ثُمَّ مَاتَ، فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتُهُ، فَهَلْ تَحِلُّ لِلسَّيِّدِ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ. فَرْعٌ رَجُلٌ لَهُ زَوْجَةٌ وَأَمَةٌ مُزَوَّجَةٌ، حَنِثَ فِي طَلَاقِ الزَّوْجَةِ أَوْ عِتْقِ الْأَمَةِ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، ثُمَّ مَاتَ زَوْجُ الْأَمَةِ، لَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ مَاتَ الزَّوْجُ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ السَّيِّدَ حَنِثَ فِي عِتْقِهَا، وَيَلْزَمُ امْرَأَتَهُ الْأَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. فَلَوْ كَانَ لِزَوْجِ الْأَمَةِ أَمَةٌ أَيْضًا، وَحَنِثَ أَيْضًا هُوَ فِي عِتْقِهَا، أَوْ طَلَاقِ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ وَمَاتَا قَبْلَ الْبَيَانِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ الْأَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ.

الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِيمَا تَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ فِرَاشًا، فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: لَا تَصِيرُ الْأَمَةُ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ، فَلَوْ كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ وَخَلَا بِهَا، فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ وَالْوَلَدُ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ الْأَمَةُ فِرَاشًا إِذَا وَطِئَهَا، فَإِذَا أَتَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ بِوَلَدٍ لِزَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، لَحِقَهُ وَيُعْرَفُ الْوَطْءُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ. فَلَوْ نَفَى الْوَلَدَ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْوَطْءِ، فَإِنِ ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةٍ بَعْدَ الْوَطْءِ، نُظِرَ، إِنْ وَلَدَتْهُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَالِاسْتِبْرَاءُ لَغْوٌ فَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ. فَلَوْ أَرَادَ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ، فَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ، أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ اللِّعَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ، فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ خِلَافٌ وَتَخْرِيجٌ. فَلَوْ أَنْكَرَتِ الِاسْتِبْرَاءَ، فَهَلْ يَحْلِفُ السَّيِّدُ، أَمْ يُصَدَّقُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَنَّهُ يَحْلِفُ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَكْفِي الْحَلِفُ عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ، أَمْ يُضَمُّ إِلَيْهِ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ، أَمْ يَكْفِي الْحَلِفُ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلِاسْتِبْرَاءِ كَمَا فِي نَفْيِ وَلَدِ الزَّوْجَةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا الثَّالِثُ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ، أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا، جَازَ لَهُ نَفْيُهُ وَالْحَلِفُ عَلَيْهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ اللِّعَانِ. وَإِذَا حَلَفَ عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ، فَهَلْ يَقُولُ: اسْتَبْرَأْتُهَا قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَادَتِهَا هَذَا الْوَلَدَ، أَمْ يَقُولُ: وَلَدَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ اسْتِبْرَائِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلَوْ نَكَلَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَلْحَقُهُ بِنُكُولِهِ. وَالثَّانِي: تَحْلِفُ الْأَمَةُ، فَإِنْ نَكَلَتْ تَوَقَّفْنَا إِلَى بُلُوغِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ حَلَفَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لَحِقَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ادَّعَتِ الْوَطْءَ وَأُمِّيَّةَ الْوَلَدِ، وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ أَصْلَ الْوَطْءِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ، وَإِنَّمَا حَلَفَ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِمَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ النَّسَبِ، وَقِيلَ: يَحْلِفُ، لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَرَفَ بِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، لَمْ يَحْلِفْ بِلَا خِلَافٍ. الثَّالِثَةُ: أَقَرَّ بِالْوَطْءِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، لَمْ يَلْحَقْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: يَلْحَقُهُ كَوَلَدِ الزَّوْجَةِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ يَلْحَقُهُ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ يَلْحَقُ السَّيِّدَ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، هَلْ يَلْحَقُهُ الثَّانِي، لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشُهُ فَيَلْحَقُهُ أَوْلَادُهَا كَالزَّوْجَةِ،

فصل

أَمْ لَا يَلْحَقُهُ؟ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِوَطْءٍ جَدِيدٍ، لِأَنَّ هَذَا الْفِرَاشَ يَبْطُلُ بِالِاسْتِبْرَاءِ، فَبِالْوِلَادَةِ أَوْلَى. أَمَّا لَوْ أَتَتْ بِالْوَلَدِ الثَّانِي لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا لَحِقَهُ الْأَوَّلُ، لَحِقَهُ الثَّانِي بِلَا خِلَافٍ. وَأَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ، هَلْ تَعُودُ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ إِذَا انْقَطَعَتْ عُلْقَةُ الزَّوْجِ عَنْهَا نِكَاحًا وَعِدَّةً؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: تَعُودُ حَتَّى لَوْ مَاتَ السَّيِّدُ، أَوْ أَعْتَقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاءُ. وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنِ انْقِطَاعِ عُلْقَةِ الزَّوْجِ، لَحِقَ السَّيِّدَ. وَالثَّانِي: لَا تَعُودُ فِرَاشًا مَا لَمْ يَطَأْهَا، فَلَوْ وَلَدَتْ لِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنَ الطَّلَاقِ، لَحِقَ بِالزَّوْجِ. لَكِنَّ الْأَظْهَرَ، أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعُودُ فِرَاشًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ الثَّانِي إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِوَطْءٍ جَدِيدٍ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ. الرَّابِعَةُ: قَالَ: كُنْتُ أَطَأُ وَأَعْزِلُ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَسْبِقُ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْوَطْءِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِنْزَالُ. وَقِيلَ: يَنْتَفِي عَنْهُ كَدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ أَطَأُ فِي الدُّبُرِ، لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ أُصِيبُهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، لَمْ يَلْحَقْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ لَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ، فَوَلَدَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ بَيَانُ أَنَّهُ مَتَى يَلْحَقُهُ هَذَا الْوَلَدُ بِالنِّكَاحِ، وَمَتَى يَلْحَقُهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَمَتَى لَا يَلْحَقُهُ؟ وَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ إِذَا احْتَمَلَ كَوْنُهُ مِنَ النِّكَاحِ فَلَمْ يُقِرَّ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الشِّرَاءِ. وَقِيلَ: يُلْحَقُ إِذَا أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْ وَطْءِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَلَحِقَ الْوَلَدُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَكِنِ احْتَمَلَ كَوْنُهُ مِنَ النِّكَاحِ، ثَبَتَتْ أُمُومَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأُجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَقَرَّ السَّيِّدُ بِوَطْئِهَا فَوَلَدَتْ لِزَمَنٍ يَحْتَمِلُ كَوْنُهُ مِنْهُمَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الرضاع

كِتَابُ الرَّضَاعِ الرَّضَاعُ يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ، وَثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِجَوَازِ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ دُونَ سَائِرِ أَحْكَامِ النَّسَبِ، كَالْمِيرَاثِ، وَالنَّفَقَةِ، وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ، وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ، أَمَّا الْأَرْكَانُ فَثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرْضِعُ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: كَوْنُهُ امْرَأَةً، فَلَبَنُ الْبَهِيمَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ، فَلَوْ شَرِبَهُ صَغِيرَانِ لَمْ يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا أُخُوَّةٌ، وَلَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الرَّجُلِ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: يُحَرِّمُ، وَلَبَنُ الْخُنْثَى لَا يَقْتَضِي أُنُوثَتَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَلَوِ ارْتَضَعَهُ صَغِيرٌ، تَوَقَّفَ فِي التَّحْرِيمِ، فَإِنْ بَانَ أُنْثَى، حَرَّمَ. وَإِلَّا، فَلَا. الشَّرْطُ الثَّانِي: كَوْنُهَا حَيَّةً، فَلَوِ ارْتَضَعَ مَيِّتَةً، أَوْ حُلِبَ لَبَنُهَا، وَهِيَ مَيِّتَةٌ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ تَحْرِيمٌ، كَمَا لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْءِ الْمَيِّتَةِ. وَلَوْ حُلِبَ لَبَنُ حَيَّةٍ، وَأُوجِرَ الصَّبِيَّ بَعْدَ مَوْتِهَا، حَرَّمَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: كَوْنُهَا مُحْتَمِلَةً لِلْوِلَادَةِ، فَلَوْ ظَهَرَ لِصَغِيرَةٍ دُونَ تِسْعِ سِنِينَ لَبَنٌ، لَمْ يُحَرِّمْ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ تِسْعٍ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِبُلُوغِهَا، لِأَنَّ احْتِمَالَ الْبُلُوغِ قَائِمٌ، وَالرَّضَاعُ كَالنَّسَبِ فَكَفَى فِيهِ الِاحْتِمَالُ.

فَرْعٌ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُرْضِعَةُ مُزَوَّجَةً، أَمْ بِكْرًا، أَمْ بِخِلَافِهِمَا، وَقِيلَ: لَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْبِكْرِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ. فَرْعٌ نَصَّ فِي الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ لِرَجُلٍ لَبَنٌ، فَارْتَضَعَتْهُ صَبِيَّةٌ، كُرِهَ لَهُ نِكَاحُهَا. الرُّكْنُ الثَّانِي: اللَّبَنُ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بَقَاءُ اللَّبَنِ عَلَى هَيْئَتِهِ حَالَةَ انْفِصَالِهِ عَنِ الثَّدْيِ، فَلَوْ تَغَيَّرَ بِحُمُوضَةٍ، أَوِ انْعِقَادٍ، أَوْ إِغْلَاءٍ أَوْ صَارَ جُبْنًا، أَوْ أَقِطًا، أَوْ زُبْدًا، أَوْ مَخِيضًا، وَأُطْعِمَ الصَّبِيُّ، حَرَّمَ لِوُصُولِ اللَّبَنِ إِلَى الْجَوْفِ، وَحُصُولِ التَّغْذِيَةِ. وَلَوْ ثُرِدَ فِيهِ طَعَامٌ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ. وَلَوْ عُجِنَ بِهِ دَقِيقٌ وَخُبِزَ؛ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْحُرْمَةُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ خُلِطَ بِمَائِعٍ إِمَّا دَوَاءٍ، وَإِمَّا غَيْرِهِ، حَلَالٍ كَالْمَاءِ وَلَبَنِ الشَّاةِ، أَوْ حَرَامٍ كَالْخَمْرِ، نُظِرَ إِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا تَعَلَّقَتِ الْحُرْمَةُ بِالْمَخْلُوطِ، فَلَوْ شَرِبَ الصَّبِيُّ مِنْهُ خَمْسَ مَرَّاتٍ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ مَغْلُوبًا فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ كَالنَّجَاسَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ لَا أَثَرَ لَهَا، وَكَالْخَمْرِ الْمُسْتَهْلَكَةِ فِي غَيْرِهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَدٌّ، وَكَالْمُحْرِمِ يَأْكُلُ طَعَامًا اسْتُهْلِكَ فِيهِ طِيبٌ، لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَأَظْهَرُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ لِوُصُولِ عَيْنِ اللَّبَنِ فِي الْجَوْفِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَلِهَذَا يُؤَثِّرُ كَثِيرُ اللَّبَنِ وَقَلِيلُهُ، وَلَيْسَ كَالنَّجَاسَةِ، فَإِنَّهَا تَجْنِيبٌ لِلِاسْتِقْذَارِ، وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالْكَثْرَةِ، وَلَا كَالْخَمْرِ، فَإِنَّ الْحَدَّ مَنُوطٌ بِالشِّدَّةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْلِ، وَلَا كَالْمُحْرِمِ، فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّطَيُّبِ، وَلَيْسَ

هَذَا بِتَطَيُّبٍ، فَعَلَى هَذَا إِنْ شَرِبَ جَمِيعَ الْمَخْلُوطِ، تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَإِنْ شَرِبَ بَعْضَهُ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ أَيْضًا إِنْ شَرِبَهُ خَمْسَ دُفُعَاتٍ، أَوْ شَرِبَ مِنْهُ دُفْعَةً بَعْدَ أَنْ شَرِبَ اللَّبَنَ الصِّرْفَ أَرْبَعًا، وَهَذَا اخْتِيَارُ الصَّيْمَرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَأَصَحُّهُمَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَالْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ، لِأَنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ وَصُولَ اللَّبَنَ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُتَحَقَّقْ وُصُولُ اللَّبَنِ، مِثْلَ أَنْ وَقَعَتْ قَطْرَةٌ فِي جُبِّ مَاءٍ وَشَرِبَ بَعْضَهُ، فَإِنْ تَحَقَّقْنَا انْتِشَارَهُ فِي الْخَلِيطِ، وَحُصُولَ بَعْضِهِ فِي الْمَشْرُوبِ، أَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمَخْلُوطِ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ اللَّبَنِ، ثَبَتَ التَّحْرِيمُ قَطْعًا، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ قَدْرًا يُمْكِنُ أَنْ يُسْقَى مِنْهُ خَمْسَ دُفُعَاتٍ لَوِ انْفَرَدَ عَنِ الْخَلِيطِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا السَّرَخْسِيُّ وَقَالَ: أَصَحُّهُمَا الِاشْتِرَاطُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَاطِ اللَّبَنِ بِالْمَائِعَاتِ، وَسَوَاءٌ فِيهِ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ وَبِغَيْرِهِ، وَحَكَى الْإِمَامُ طَرِيقًا آخَرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخَلِيطُ غَيْرَ الْمَاءِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مَاءً، وَاللَّبَنُ مَغْلُوبٌ، فَإِنِ امْتَزَجَ بِمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، وَشَرِبَ الصَّبِيُّ كُلَّهُ، فَفِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ قَوْلَانِ، وَإِنْ شَرِبَ بَعْضَهُ، فَقَوْلَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَثْبُتَ. وَإِنِ امْتَزَجَ بِقُلَّتَيْنِ، فَصَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ التَّحْرِيمُ بِدُونِ الْقُلَّتَيْنِ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ أَثْبَتْنَا، وَتَنَاوَلَ بَعْضَهُ، لَمْ يُؤَثِّرْ، وَإِنْ شَرِبَهُ كُلَّهُ، فَقَوْلَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يُؤَثِّرَ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ ضَعِيفَةٌ، وَفِي الْمُرَادِ بِمَصِيرِ اللَّبَنِ مَغْلُوبًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: خُرُوجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُغَذِّيًا، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِصِفَاتِ اللَّبَنِ الطَّعْمُ وَاللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الْمَخْلُوطِ، فَاللَّبَنُ غَالِبٌ، وَإِلَّا فَمَغْلُوبٌ. وَنَقَلَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا عَنِ الْحَلِيمِيِّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ زَايَلَتْهُ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ، اعْتُبِرَ قَدْرُ اللَّبَنِ بِمَا لَهُ لَوْنٌ قَوِيٌّ يَسْتَوْلِي عَلَى

الْخَلِيطِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهُ يَظْهَرُ فِي الْخَلِيطِ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَنْبَطْتُهُ أَنَا وَكَانَ فِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْءٌ، فَعَرَضْتُهُ عَلَى الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَابْنِهِ الْقَاسِمِ، فَارْتَضَيَاهُ، فَسَكَنْتُ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ لِابْنِ سُرَيْجٍ، فَسَكَنَ قَلْبِي إِلَيْهِ كُلَّ السُّكُونِ، وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُ هَذَا فِي اخْتِلَاطِ الْمَائِعِ بِالْمَاءِ. فَرْعٌ لَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةٌ فِي فَمِهِ، وَاخْتَلَطَتْ بِرِيقِهِ، ثُمَّ وَصَلَ جَوْفَهُ، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالتَّحْرِيمِ. إِذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَةٍ بِلَبَنِ أُخْرَى، وَغَلَبَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ عَلَّقْنَا التَّحْرِيمَ بِالْمَغْلُوبِ، ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا، وَإِلَّا فَيَخْتَصُّ بِغَالِبَةِ اللَّبَنِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَحَلُّ وَهُوَ مَعِدَةُ الصَّبِيِّ الْحَيِّ، أَوْ مَا فِي مَعْنَى الْمَعِدَةِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ قُيُودٍ: الْأَوَّلُ: الْمَعِدَةُ، فَالْوُصُولُ إِلَيْهَا يُثْبِتُ التَّحْرِيمَ، سَوَاءٌ ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ، أَوْ حُلِبَ اللَّبَنُ وَأُوجِرَ فِي حَلْقِهِ حَتَّى وَصَلَهَا، وَلَوْ حُقِنَ بِاللَّبَنِ، أَوْ قُطِرَ فِي إِحْلِيلِهِ، فَوَصَلَ مَثَانَتَهُ، أَوْ كَانَ عَلَى بَطْنِهِ جِرَاحَةٌ، فَصُبَّ اللَّبَنُ فِيهَا حَتَّى وَصَلَ الْجَوْفَ لَمْ يَثْبُتِ التَّحْرِيمُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ صُبَّ فِي أَنْفِهِ فَوَصَلَ دِمَاغَهُ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ صُبَّ فِي جِرَاحَةٍ فِي بَطْنِهِ فَوَصَلَ الْمَعِدَةَ لِخَرْقِ الْأَمْعَاءِ، أَوْ وَصَلَ الدِّمَاغَ بِالصَّبِّ فِي مَأْمُومَةٍ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِلَا

فصل

خِلَافٍ. وَلَوْ صُبَّ فِي أُذُنِهِ، فَفِي «الْبَحْرِ» أَنَّهُ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ، وَفِي التَّهْذِيبِ لَا يَثْبُتُ، إِذْ لَا مَنْفَذَ مِنْهَا إِلَى الدِّمَاغِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَالْحُقْنَةِ. وَأَمَّا الصَّبُّ فِي الْعَيْنِ، فَلَا يُؤَثِّرُ بِحَالٍ، وَلَوِ ارْتَضَعَ، وَتَقَيَّأَ فِي الْحَالِ، حَصَلَ التَّحْرِيمُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا يَحْصُلُ. وَقِيلَ: إِنْ تَقَيَّأَ وَقَدْ تَغَيَّرَ اللَّبَنُ، ثَبَتَ التَّحْرِيمُ وَإِلَّا فَلَا. الْقَيْدُ الثَّانِي: الصَّبِيُّ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ حَوْلَيْنِ، فَمَنْ بَلَغَ سَنَتَيْنِ، فَلَا أَثَرَ لِارْتِضَاعِهِ وَيُعْتَبَرُ الْحَوْلَانِ بِالْأَهِلَّةِ، فَإِنِ انْكَسَرَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ، اعْتُبِرَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا بَعْدَهُ بِالْأَهِلَّةِ وَيُكْمِلُ الْمُنْكَسِرُ ثَلَاثِينَ مِنَ الشَّهْرِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، وَيُحْسَبُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلَيْنِ مِنْ وَقْتِ انْفِصَالِ الْوَلَدِ بِتَمَامِهِ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: لَوْ خَرَجَ نِصْفُ الْوَلَدِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ خَرَجَ بَاقِيهِ، فَابْتِدَاءُ الْحَوْلَيْنِ فِي الرَّضَاعِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ خُرُوجِهِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوِ ارْتَضَعَ قَبْلَ انْفِصَالِ جَمِيعِهِ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ؟ الْقَيْدُ الثَّالِثُ: الْحَيُّ فَلَا أَثَرَ لِلْوُصُولِ إِلَى مَعِدَةِ الْمَيِّتِ. فَصْلٌ فِي شَرْطِ الرَّضَاعِ لَا تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ إِلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ. وَقِيلَ: تَثْبُتُ بِرَضْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ. فَعَلَى الْمَنْصُوصِ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِالتَّحْرِيمِ بِرَضْعَةٍ، لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُنْقَضُ. وَالرُّجُوعُ فِي الرَّضْعَةِ وَالرَّضَعَاتِ إِلَى الْعُرْفِ، وَمَا تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ فِي ذَلِكَ، وَمَتَى تَخَلَّلَ فَصْلٌ طَوِيلٌ تَعَدَّدَ. وَلَوِ ارْتَضَعَ، ثُمَّ قَطَعَ إِعْرَاضًا، وَاشْتَغَلَ بِشَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ عَادَ وَارْتَضَعَ، فَهُمَا رَضْعَتَانِ، وَلَوْ قَطَعَتِ الْمُرْضِعَةُ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْإِرْضَاعِ، فَهُمَا

رَضْعَتَانِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الصَّبِيُّ، وَلَا يَحْصُلُ التَّعَدُّدُ بِأَنْ يَلْفِظَ الثَّدْيَ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْتِقَامِهِ فِي الْحَالِ، وَلَا بِأَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ ثَدْيٍ إِلَى ثَدْيٍ، أَوْ تَحَوَّلَهُ لِنَفَاذِ مَا فِي الْأَوَّلِ، وَلَا بِأَنْ يَلْهُوَ عَنْ الِامْتِصَاصِ وَالثَّدْيُ فِي فَمِهِ، وَلَا بِأَنْ يَقْطَعَ التَّنَفُّسَ، وَلَا بِأَنْ يَتَخَلَّلَ النَّوْمَةَ الْخَفِيفَةَ، وَلَا بِأَنْ تَقُومَ وَتَشْتَغِلَ بِشُغْلٍ خَفِيفٍ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْإِرْضَاعِ، فَكُلُّ ذَلِكَ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ. قُلْتُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: إِنْ نَامَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهَا وَهُوَ يَرْتَضِعُ نَوْمَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ انْتَبَهَ وَرَضَعَ ثَانِيًا، فَالْجَمِيعُ رَضْعَةٌ، وَإِنْ نَامَ طَوِيلًا، ثُمَّ انْتَبَهَ وَامْتَصَّ، فَإِنْ كَانَ الثَّدْيُ فِي فَمِهِ فَهِيَ رَضْعَةٌ، وَإِلَّا فَرَضْعَتَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: يُعْتَبَرُ مَا نَحْنُ فِيهِ بِمَرَّاتِ الْأَكْلِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَأَكَلَ لُقْمَةً، ثُمَّ أَعْرَضَ وَاشْتَغَلَ بِشُغْلٍ طَوِيلٍ، ثُمَّ عَادَ وَأَكَلَ، حَنِثَ، وَلَوْ أَطَالَ الْأَكْلَ عَلَى الْمَائِدَةِ وَكَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ لَوْنٍ إِلَى لَوْنٍ وَيَتَحَدَّثُ فِي خِلَالِ الْأَكْلِ، وَيَقُومُ، وَيَأْتِي بِالْخُبْزِ عِنْدَ نَفَاذِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ أَكْلَةً وَاحِدَةً، وَلَوِ ارْتَضَعَ مِنْ ثَدْيِ امْرَأَةٍ ثُمَّ انْتَقَلَ فِي الْحَالِ إِلَى ثَدْيٍ آخَرَ، فَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِيهِ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ وُصُولُ اللَّبَنِ فِي الْمَرَّاتِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ لَوِ ارْتَضَعَ فِي بَعْضِهَا، وَأُوجِرَ فِي بَعْضِهَا، وَأُسْعِطَ فِي بَعْضِهَا حَتَّى تَمَّ الْعَدَدُ، ثَبَتَ التَّحْرِيمُ، وَكَذَا الصَّبُّ فِي الْجِرَاحَةِ، وَالْحُقْنَةُ إِذَا جَعَلْنَاهُمَا مُؤَثِّرَيْنِ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ حُلِبَ لَبَنُ امْرَأَةٍ دُفْعَةً، وَأُوجِرَهُ الصَّبِيُّ فِي خَمْسِ دُفُعَاتٍ، فَهَلْ يُحْسَبُ رَضْعَةً أَمْ خَمْسًا؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: رَضْعَةً، وَقِيلَ: رَضْعَةً قَطْعًا. وَلَوْ حُلِبَ خَمْسَ دُفُعَاتٍ، وَأُوجَرَهُ دُفْعَةً، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ رَضْعَةٌ، وَقِيلَ: عَلَى الطَّرِيقَيْنِ. وَلَوْ حُلِبَ خَمْسَ دُفُعَاتٍ، وَأُوجِرَ فِي خَمْسِ دُفُعَاتٍ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ، فَهُوَ خَمْسُ رَضَعَاتٍ قَطْعًا. وَإِنْ حُلِبَ خَمْسَ دُفُعَاتٍ، وَخُلِطَ، ثُمَّ فُرِّقَ، وَأُوجِرَ فِي خَمْسِ دُفُعَاتٍ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ خَمْسُ رَضَعَاتٍ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ بِالْخَلْطِ صَارَ كَالْمَحْلُوبِ دُفْعَةً. وَلَوْ حُلِبَ خَمْسُ نِسْوَةٍ فِي إِنَاءٍ، وَأُوجِرَهُ الصَّبِيُّ دُفْعَةً وَاحِدَةً حُسِبَ مَنْ كُلِّ وَاحِدَةِ رَضْعَةً، وَإِنْ أُوجِرَهُ فِي خَمْسِ دُفُعَاتٍ، حُسِبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ رَضْعَةً، وَإِنْ أُوجِرَهُ فِي خَمْسِ دُفُعَاتٍ، حُسِبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ رَضْعَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: خَمْسُ رَضَعَاتٍ. فَرْعٌ لَوْ شَكَّ هَلْ أَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، أَمْ أَقَلَّ، أَوْ هَلْ وَصَلَ اللَّبَنُ جَوْفَهُ أَمْ لَا؟ فَلَا تَحْرِيمَ وَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ. وَلَوْ شَكَّ هَلْ أَرْضَعَتْهُ الْخَمْسَ فِي الْحَوْلَيْنِ، أَمْ بَعْضَهَا، أَوْ كُلَّهَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَلَا تَحْرِيمَ عَلَى الْأَظْهَرِ أَوِ الْأَصَحِّ، وَالتَّحْرِيمُ مَحْكِيٌّ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْمُدَّةِ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ لَبَنُ الْمَرْأَةِ لِرَجُلٍ، فَسَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُرْتَضِعَ يَصِيرُ ابْنًا لِلرَّجُلِ كَمَا يَصِيرُ ابْنًا لِلْمَرْأَةِ، وَاخْتَارَ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ

لَا يَصِيرُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. فَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ خَمْسُ مُسْتَوْلَدَاتٍ، أَوْ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَمُسْتَوْلَدَةٌ، فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طِفْلًا رَضْعَةً لَمْ يَصِرْنَ أُمَّهَاتِهِ، وَهَلْ يَصِيرُ الرَّجُلُ أَبَاهُ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْأَنْمَاطِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ الْحَدَّادِ: لَا، وَأَصَحُّهُمَا - وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ الْقَاصِّ -: نَعَمْ، لِأَنَّهُ لَبَنُهُ، وَهُنَّ كَالظُّرُوفِ لَهُ، فَعَلَى هَذَا تَحْرُمُ الْمُرْضِعَاتُ عَلَى الطِّفْلِ لَا بِالرَّضَاعِ، بَلْ لِأَنَّهُنَّ مَوْطُوءَاتُ أَبِيهِ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَلَهُ خَمْسُ مُسْتَوْلَدَاتٍ، فَأَرْضَعَتْهَا كُلُّ وَاحِدَةِ رَضْعَةً بِلَبَنِهِ لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَيَنْفَسِخُ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِنَّ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَمْلُوكِهِ، وَلَوْ أَرْضَعَ نِسْوَتُهُ الثَّلَاثُ وَمُسْتَوْلَدَتَاهُ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَانْفِسَاخُ نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَأَمَّا غَرَامَةُ مَهْرِهَا، فَإِنْ أَرْضَعْنَ مُرَتَّبًا، فَالِانْفِسَاخُ يَتَعَلَّقُ بِإِرْضَاعِ الْأَخِيرَةِ فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَوْلَدَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً، فَعَلَيْهَا الْغُرْمُ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ مَعًا بِأَنْ أَخَذَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ لَبَنَهَا فِي مِسْعَطٍ، وَأَوْجَرَتْهُ مَعًا، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَوْلَدَتَيْنِ وَعَلَى النِّسْوَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْغُرْمِ، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ النِّسْوَةِ لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَصِرْنَ أُمَّهَاتِ الصَّغِيرَةِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعٌ، فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُنَّ طِفْلًا رَضْعَتَيْنِ، وَأَرْضَعَتْهُ الْبَاقِيَاتُ رَضْعَةً رَضْعَةً، أَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ مُسْتَوْلَدَاتٍ، فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُنَّ الطِّفْلَ بِلَبَنِهِ ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ، وَالْبَاقِيَتَانِ رَضْعَةً رَضْعَةً، جَرَى الْخِلَافُ فِي مَصِيرِهِ أَبًا وَلَا يَصِرْنَ أُمَّهَاتٍ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ سَائِرِ نَظَائِرِهَا. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ خَمْسُ بَنَاتٍ أَوْ أَخَوَاتٍ، فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طِفْلًا رَضْعَةً، لَمْ يَصِرْنَ أُمَّهَاتِهِ، وَلَا أَزْوَاجُهُنَّ آبَاءَهُ، وَكَذَا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَالرَّجُلِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: بِطَرْدِ الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: تَحْرُمُ الْمُرْضِعَاتُ عَلَى الرَّضِيعِ لَا لِكَوْنِهِنَّ

أُمَّهَاتٍ، بَلْ لِكَوْنِ الْبَنَاتِ أَخَوَاتِهِ وَكَوْنِ الْأَخَوَاتِ عَمَّاتِهِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ إِنَّمَا يَصِحُّ كَوْنُ الْبَنَاتِ أَخَوَاتِهِ وَالْأَخَوَاتِ عَمَّاتِهِ لَوْ كَانَ الرَّجُلُ أَبًا، وَالْحُرْمَةُ هُنَا إِذَا ثَبَتَتْ إِنَّمَا هِيَ لِكَوْنِهِ جَدًّا لَأَمٍّ أَوْ خَالًا، وَفِيهِ وَضَعَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ، فَقَالَ: فِي مَصِيرِهِ جَدًّا لِأُمٍّ أَوْ خَالًا وَجْهَانِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يَحْرُمْنَ لِكَوْنِهِنَّ كَالْخَالَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بِنْتَ الْجَدِّ لِلْأُمِّ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمًّا، كَانَتْ خَالَةً، وَكَذَلِكَ أُخْتُ الْخَالِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أُمٌّ وَبِنْتٌ وَأُخْتٌ وَبِنْتُ أَخٍ لِأَبٍ، وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبٍ، فَارْتَضَعَ طِفْلٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ رَضْعَةً، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَالْأَصَحُّ أَيْضًا أَنْ لَا تَحْرِيمَ لِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ نِسْبَةُ الرَّضِيعِ إِلَيْهِ بِكَوْنِهِ ابْنَ ابْنٍ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الرَّضِيعِ بِكَوْنِهِ جَدًّا، وَهُنَا لَا يُمْكِنُ لِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَخًا وَبَعْضُهُ وَلَدَ بِنْتٍ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاصِّ: إِثْبَاتُ الْحُرْمَةِ، فَعَلَى هَذَا تَحْرُمُ الْمُرْضِعَاتُ عَلَى الرَّضِيعِ لَا بِالْأُمُومَةِ بَلْ بِجِهَاتٍ، فَأُمُّ الرَّجُلِ كَأَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ، لِأَنَّ لَبَنَهَا مِنْ أَبِي الرَّجُلِ، وَالرَّضِيعُ كَوَلَدِهِ، وَبِنْتُ الرَّجُلِ بِنْتُ ابْنِ أَبِيهِ، فَتَكُونُ بِنْتَ أَخِيهِ، وَأُخْتُ الرَّجُلِ بِنْتُ أَبِيهِ، فَتَكُونُ أُخْتَهُ، وَبِنْتُ أَخِي الرَّجُلِ بِنْتُ ابْنِ أَبِيهِ، فَتَكُونُ بِنْتَ أَخِيهِ، وَبِنْتُ أُخْتِ الرَّجُلِ بِنْتُ أُخْتِهِ أَيْضًا. وَلَوْ كَانَ بَدَلَ إِحْدَى هَؤُلَاءِ الْمُرْضِعَاتِ زَوْجَةٌ أَوْ جَدَّةٌ كَانَ الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ أَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ زَوْجَةَ الرَّجُلِ رَضْعَةً، فَانْفِسَاخُ نِكَاحِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَنْفَسِخُ، فَإِنْ أَرْضَعْنَ مُرَتَّبًا، غَرِمَتِ الْأَخِيرَةُ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ أَرْضَعْنَ مَعًا، اشْتَرَكْنَ فِيهِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ عَدَدُ الرَّضَعَاتِ بِأَنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْ وَاحِدَةٌ رَضْعَتَيْنِ، وَأُخْرَى كَذَلِكَ، وَالثَّالِثَةُ رَضْعَةً، فَهَلْ يَغْرَمْنَ أَثْلَاثًا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، أَمْ أَخْمَاسًا عَلَى عَدَدِ الرَّضَعَاتِ؟ وَجْهَانِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِيمَا إِذَا أَرْضَعَتِ النِّسْوَةُ الْخَمْسُ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَاصِلَةٍ، فَإِنْ أَرْضَعْنَ مُتَوَالِيًا، وَحَكَمْنَا بِالْحُرْمَةِ

فِي الْمُتَفَاصِلِ فَهُنَا وَجْهَانِ: قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّهُنَّ كَالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّجُلِ، وَإِرْضَاعُ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا يَحْرُمُ إِذَا تَفَرَّقَتْ أَوْقَاتُهُ، وَأَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ لِتَعَدُّدِ الْمُرْضِعَاتِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ أَرْضَعْنَ مُتَوَالِيًا، ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ إِحْدَاهُنَّ أَرْبَعَ رَضَعَاتٍ، صَارَتْ أُمًّا لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ ارْتَضَعَ مِنْهَا خَمْسًا مُتَفَاصِلَةً، وَقِيلَ: لَا، لِأَنَّ تِلْكَ الرَّضْعَةَ لَمْ تَكُنْ تَامَّةً، وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِي انْتِقَالِ الرَّضِيعِ مِنْ ثَدْيِ امْرَأَةٍ إِلَى ثَدْيِ أُخْرَى، فَعَلَى وَجْهٍ لَا يُحْسَبُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَضْعَةٌ، وَعَلَى الْأَصَحِّ: يُحْسَبُ لِكُلِّ وَاحِدَةِ رَضْعَةٌ، لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالِارْتِضَاعِ مِنَ الْأُخْرَى قَطَعَ الِارْتِضَاعَ مِنَ الْأُولَى، فَصَارَ كَالِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ خِلَافٌ فِيمَا لَوِ ارْتَضَعَ فِي الْحَوْلَيْنِ أَرْبَعَ رَضَعَاتٍ، وَتَمَّ الْحَوْلَانِ فِي خِلَالِ الرَّضْعَةِ الْخَامِسَةِ، فَفِي وَجْهٍ لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ، لِأَنَّهَا لَمْ تَتِمَّ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَالْأَصَحُّ: ثُبُوتُهُ لِأَنَّ مَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ فِي كُلِّ رَضْعَةٍ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَرْتَضِعُ الرَّضْعَةَ الْخَامِسَةَ، فَمَاتَ: أَوْ مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهَا، وَجْهَيْنِ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ قَطَعَتِ الْمُرْضِعَةُ. فَرْعٌ لِزَيْدٍ ابْنٌ، وَابْنُ ابْنٍ، وَأَبٌ، وَجَدٌّ، وَأَخٌ، ارْتَضَعَتْ صَغِيرَةٌ مِنْ زَوْجَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَضْعَةً، فَلَا تَحْرُمُ عَلَى زَيْدٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَحَرَّمَهَا ابْنُ الْقَاصِّ عَلَى زَيْدٍ، فَعَلَى هَذَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ دُونَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ، لِأَنَّهَا بِارْتِضَاعِ لَبَنِ أَخِي زَيْدٍ تَكُونُ بِنْتَ عَمٍّ لِابْنٍ، وَبِنْتُ الْعَمِّ لَا تَحْرُمُ، وَمَتَى كَانَ فِي الْخَمْسَةِ مِنْ لَا يَقْتَضِي لَبَنُهُ تَحْرِيمًا، فَلَا تَحْرِيمَ. خَمْسَةُ إِخْوَةٍ ارْتَضَعَتْ صَغِيرَةٌ مِنْ لَبَنِ زَوْجَةِ كُلِّ وَاحِدٍ رَضْعَةً،

فَفِي تَحْرِيمِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْإِخْوَةِ الْوَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. امْرَأَةٌ لَهَا بِنْتُ ابْنٍ، وَبِنْتُ ابْنِ ابْنٍ، وَبِنْتُ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ، أَرْضَعَتِ الْعُلْيَا طِفْلًا ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ، وَالْأُخْرَيَانِ رَضْعَةً رَضْعَةً، فَفِي مَصِيرِ الْمَرْأَةِ جَدَّةً لِلرَّضِيعِ الْوَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَفِي تَحْرِيمِ الْمُرْضِعَاتِ عَلَى الطِّفْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا لِعَدَمِ الْعَدَدِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّضَعَاتِ مِنَ الْجِهَاتِ تُجْمَعُ، إِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِحَيْثُ لَوْ تَمَّ الْعَدَدُ مِنْهَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ، فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ إِنْ كَانَتِ الْوُسْطَى بِنْتَ أَخِي الْعُلْيَا، وَالسُّفْلَى بِنْتَ أَخِي الْوُسْطَى، حُرِّمَتِ الْعُلْيَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِرْضَاعَهَا لَوْ تَمَّ لَكَانَ الطِّفْلُ ابْنَهَا، وَإِرْضَاعُ الْوُسْطَى لَوْ تَمَّ لَكَانَ الرَّضِيعُ ابْنَ بِنْتِ أَخِي الْعُلْيَا، وَإِرْضَاعُ السُّفْلَى لَوْ تَمَّ لَكَانَ لِلْعُلْيَا ابْنَ بِنْتِ ابْنِ أَخٍ. وَهَذِهِ الْجِهَاتُ مُحَرَّمَةٌ فَتُجْمَعُ مَا فِيهَا مِنْ عَدَدِ الرَّضَعَاتِ. وَإِنْ كَانَتِ الْوُسْطَى بِنْتَ ابْنِ عَمِّ الْعُلْيَا، وَالسُّفْلَى بِنْتَ ابْنِ ابْنِ عَمِّهَا، لَمْ تَحْرُمِ الْعُلْيَا، لِأَنَّ إِرْضَاعَ الْوُسْطَى لَوْ تَمَّ، لَكَانَ الرَّضِيعُ لِلْعُلْيَا ابْنَ بِنْتِ ابْنِ عَمٍّ، وَإِرْضَاعُ السُّفْلَى لَوْ تَمَّ، لَكَانَ لَهَا ابْنَ بِنْتِ ابْنِ ابْنِ الْعَمِّ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَأَمَّا الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى، فَلَا تَحْرُمَانِ عَلَيْهِ بِحَالٍ، لِأَنَّ إِرْضَاعَ الْعُلْيَا لَوْ تَمَّ، لَكَانَ لِلْوُسْطَى ابْنَ الْعَمَّةِ، وَلِلسُّفْلَى ابْنَ عَمَّةِ الْأَبِ. وَلَوْ أَرْضَعَتْهُ إِحْدَاهُنَّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، حَرُمَتْ هِيَ عَلَيْهِ، وَحَرُمَتِ الَّتِي فَوْقَهَا إِذَا كَانَتِ الْمُرْضِعَةُ بِنْتَ أَخِي الَّتِي فَوْقَهَا، لِأَنَّهَا تَكُونُ عَمَّةَ أُمِّهِ. فَرْعٌ لَهُ زَوْجَتَانِ حَلَبَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ لَبَنِهَا دُفْعَةً، ثُمَّ خَلَطَا، وَشَرِبَهُ طِفْلٌ دُفْعَةً، ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدَةِ رَضْعَةٌ، وَلَوْ شَرِبَهُ مَرَّتَيْنِ، فَهَلْ يُحْسَبُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ رَضْعَتَانِ اعْتِبَارًا بِوُصُولِ اللَّبَنِ، أَمْ رَضْعَةٌ اعْتِبَارًا بِالْحَلْبِ؟ وَجْهَانِ، وَهُوَ كَمَا سَبَقَ فِيمَا لَوْ حُلِبَ لَبَنُ نِسْوَةٍ، وَخُلِطَ، وَشَرِبَهُ الطِّفْلُ دُفْعَةً أَوْ دُفُعَاتٍ. وَأَمَّا بَيْنُ الرَّضِيعِ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ لَمْ نَجْمَعْ فِي

حَقِّ الزَّوْجِ رَضَعَاتِ زَوْجَاتِهِ، ثَبَتَ لَهُ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ جَمَعْنَا وَنَظَرْنَا إِلَى الْحَلْبِ، ثَبَتَ لَهُ رَضْعَتَانِ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى وُصُولِ اللَّبَنِ ثَبَتَ أَرْبَعُ رَضَعَاتٍ. فَرْعٌ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَأَمَةٌ مَوْطُوءَاتٌ، أَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طِفْلَةً بِلَبَنِ غَيْرِهِ رَضْعَةً، قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ تَفْرِيعًا عَلَى ثُبُوتِ الْأُبُوَّةِ: لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِهِ تَحْرُمُ الطِّفْلَةُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِيهِنَّ مَنْ لَوِ انْفَرَدَتْ بِالرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ، لَمْ تَثْبُتِ الْحُرْمَةُ، لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ.

الْبَابُ الثَّانِي فِيمَنْ يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُرْضِعَةِ، وَالْفَحْلِ الَّذِي لَهُ اللَّبَنُ، وَالطِّفْلِ الرَّضِيعِ، فَهُمُ الْأُصُولُ فِي الْبَابِ، ثُمَّ تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. أَمَّا الْمُرْضِعَةُ فَتَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ مِنْهَا إِلَى آبَائِهَا مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، فَهُمْ أَجْدَادُ الرَّضِيعِ، فَإِنْ كَانَ الرَّضِيعُ أُنْثَى، حَرُمَ عَلَيْهِمْ نِكَاحُهَا. وَإِلَى أُمَّهَاتِهَا مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، فَهُنَّ جَدَّاتٌ لِلرَّضِيعِ، فَيَحْرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ إِنْ كَانَ ذَكَرًا، وَإِلَى أَوْلَادِهَا مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، فَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ، وَإِلَى إِخْوَتِهَا وَأَخَوَاتِهَا مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، فَهُمْ أَخْوَالُهُ وَخَالَاتُهُ، وَيَكُونُ أَوْلَادُ أَوْلَادِهَا أَوْلَادَ إِخْوَةٍ وَأَوْلَادَ أَخَوَاتٍ لِلرَّضِيعِ، وَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَأَوْلَادِ إِخْوَةِ الْمُرْضِعَةِ، وَأَوْلَادِ أَخَوَاتِهَا، لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ أَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ. وَأَمَّا الْفَحْلُ، فَكَذَلِكَ تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ مِنْهُ إِلَى آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ، فَهُمْ أَجْدَادُ الرَّضِيعِ وَجَدَّاتُهُ، وَإِلَى أَوْلَادِهِ، فَهُمْ إِخْوَةُ الرَّضِيعِ وَأَخَوَاتُهُ، وَإِلَى إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، فَهُمْ أَعْمَامُ الرَّضِيعِ وَعَمَّاتُهُ. وَأَمَّا الْمُرْتَضِعُ فَتَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ مِنْهُ إِلَى أَوْلَادِهِ مِنَ الرَّضَاعِ، أَوِ النَّسَبِ، فَهُمْ أَحْفَادُ الْمُرْضِعَةِ أَوِ الْفَحْلِ، وَلَا تَنْتَشِرُ إِلَى آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، فَيَجُوزُ لِأَبِيهِ وَأَخِيهِ أَنْ يَنْكِحَا الْمُرْضِعَةَ وَبَنَاتِهَا وَقَدْ سَبَقَ فِي النِّكَاحِ أَنَّ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ يَحْرُمْنَ مِنَ النَّسَبِ، وَمِثْلَهُنَّ قَدْ لَا يَحْرُمْنَ مِنَ الرَّضَاعِ، وَجُعِلَتْ تِلْكَ الصُّوَرُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ قَوْلِنَا: «يَحْرُمُ

مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وَقَدْ يُقَالُ: الْحُرْمَةُ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ مِنْ جِهَةِ الْمُصَاهَرَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ. فَرْعٌ إِنَّمَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَالْفَحْلِ إِذَا كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْفَحْلِ بِأَنْ يَنْتَسِبَ إِلَيْهِ الْوَلَدُ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ اللَّبَنُ، أَمَّا اللَّبَنُ النَّازِلُ عَلَى وَلَدِ الزِّنَا، فَلَا حُرْمَةَ لَهُ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الزَّانِي أَنْ يَنْكِحَ الصَّغِيرَةَ الْمُرْتَضِعَةَ مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ وَقَدْ حَكَيْنَا فِي النِّكَاحِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ بِنْتِ زِنَاهُ الَّتِي تَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ مَائِهِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَجْهُ هُنَا، وَلَوْ نَفَى الزَّوْجُ وَلَدًا بِاللِّعَانِ، وَارْتَضَعَتْ صَغِيرَةٌ بِلَبَنِهِ، لَمْ تَثْبُتِ الْحُرْمَةُ. وَلَوْ أَرْضَعَتْ بِهِ ثُمَّ لَاعَنَ، انْتَفَى الرَّضِيعُ عَنْهُ، كَمَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ. فَلَوِ اسْتَلْحَقَ الْوَلَدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَحِقَ الرَّضِيعُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا هُنَا الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي نِكَاحِهِ الَّتِي نَفَاهَا بِاللِّعَانِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا. وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَاللَّبَنُ النَّازِلُ عَلَيْهِ يُنْسَبُ إِلَى الْوَاطِئِ، كَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْوَلَدُ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَفِي قَوْلٍ: لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ جِهَةِ الْفَحْلِ بِلَبَنِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَى إِثْبَاتِ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ بِخِلَافِ النَّسَبِ. فَرْعٌ إِذَا وُطِئَتْ مَنْكُوحَةٌ بِشُبْهَةٍ، أَوْ وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ، أَوْ نَكَحَ رَجُلٌ امْرَأَةً فِي الْعِدَّةِ جَاهِلًا، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ، وَأَرْضَعَتْ بِاللَّبَنِ النَّازِلِ عَلَيْهِ طِفْلًا، فَهُوَ تَبَعٌ لِلْوَلَدِ، فَإِنْ لَحِقَ الْوَلَدُ أَحَدَهُمَا لِانْحِصَارِ الْإِمْكَانِ فِيهِ، فَالرَّضِيعُ وَلَدُهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ وَاحِدًا مِنْهُمَا لِامْتِنَاعِ الْإِمْكَانِ، فَالرَّضِيعُ مَقْطُوعٌ عَنْهُمَا، وَإِنْ تَحَقَّقَ الْإِمْكَانُ فِيهِمَا،

عُرِضَ الْوَلَدُ عَلَى الْقَائِفِ، فَبِأَيِّهِمَا أَلْحَقَهُ، تَبِعَهُ الرَّضِيعُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، أَوْ نَفَاهُ عَنْهُمَا، أَوْ أُشْكِلَ، تَوَقَّفْنَا حَتَّى يَبْلُغَ الْمَوْلُودُ، فَيَنْتَسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ بَلَغَ مَجْنُونًا، صَبَرْنَا حَتَّى يَفِيقَ، فَإِذَا انْتَسَبَ، تَبِعَهُ الرَّضِيعُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الِانْتِسَابِ وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ قَامَ مَقَامَهُ فِي الِانْتِسَابِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ فَانْتَسَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى هَذَا، وَبَعْضُهُمْ إِلَى هَذَا، اسْتَمَرَّ الْإِشْكَالُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَبَقِيَ الِاشْتِبَاهُ، فَفِي الرَّضِيعِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ابْنُهُمَا جَمِيعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ آبَاءٌ مِنَ الرَّضَاعِ بِخِلَافِ النَّسَبِ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يَكُونُ ابْنَهُمَا، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْوَلَدِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ هَلْ يَكْفِي خَمْسُ رَضَعَاتٍ، أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى عَشْرٍ؟ وَجْهَانِ خَرَّجَهُمَا الدَّارَكِيُّ، وَذَكَرَ فِي «الْبَسِيطِ» أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ضَعْفِهِ إِثْبَاتُ أُبُوَّتِهِمَا ظَاهِرًا دُونَ الْبَاطِنِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ ضَعِيفًا بِالِاتِّفَاقِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ، فَهَلْ لِلرَّضِيعِ أَنْ يَنْتَسِبَ بِنَفْسِهِ؟ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي «الْأُمِّ» أَحَدُهُمَا: لَا كَمَا لَا يُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ، وَأَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ كَمَا لِلْمَوْلُودِ. وَالرَّضَاعُ يُؤَثِّرُ فِي الْأَخْلَاقِ بِخِلَافِ الْعَرْضِ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ اعْتِمَادِهِ عَلَى الْأَشْبَاهِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْأَخْلَاقِ مَعَ أَنَّ ابْنَ كَجٍّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَجْهَيْنِ فِي الْعَرْضِ عَلَى الْقَائِفِ وَهُوَ غَرِيبٌ، فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ الِانْتِسَابُ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُجْبَرُ الْمَوْلُودُ؟ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّسَبَ تَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقٌ لَهُ وَعَلَيْهِ، كَالْمِيرَاثِ وَالْعِتْقِ وَالشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ الْإِشْكَالِ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالرَّضَاعِ حُرْمَةُ النِّكَاحِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْهُ سَهْلٌ. وَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا، كَانَ ابْنَهُ، وَانْقَطَعَ عَنِ الْآخَرِ، فَلَهُ نِكَاحُ بِنْتِهِ، وَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَسِبْ، أَوْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الِانْتِسَابُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِنْتَيْهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا أُخْتُهُ، وَفِي «الْحَاوِي» وَجْهٌ؛ أَنَّهُ يَجُوزُ وَيُحْكَمُ بِانْقِطَاعِ

فصل

الْأُبُوَّةِ عَنْهُمَا، وَهَذَا غَلَطٌ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِنْتَ أَحَدِهِمَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا أُخْتُهُ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ، فَصَارَ كَمَا لَوِ اشْتَبَهَ مَاءٌ طَاهِرٌ بِنَجِسٍ بِخِلَافِ الْأُخْتِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأُخْتِ التَّحْرِيمُ، فَصَارَ كَاشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ، فَإِنَّهُ يُعْرِضُ عَنْهُمَا، فَإِنْ جَوَّزْنَا نِكَاحَ إِحْدَاهُمَا فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اجْتِهَادٍ بِخِلَافِ الْأَوَانِي الْمُشْتَبِهَةِ، فَإِنَّ فِيهَا عَلَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَذَكَرَ الْفُورَانِيُّ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي الرَّجُلَيْنِ أَيُّهُمَا الْأَبُ، ثُمَّ يَنْكِحُ بِنْتَ مَنْ لَا يَرَاهُ أَبًا، وَإِذَا نَكَحَ وَاحِدَةً، ثُمَّ فَارَقَهَا، فَهَلْ لَهُ نِكَاحُ الْأُخْرَى؟ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: نَعَمْ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، فَصَارَ كَمَنْ صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إِلَى جِهَةٍ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى بِاجْتِهَادٍ آخَرَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَجُوزُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ كَالْأَوَانِي. فَصْلٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَلَهَا لَبَنٌ مِنْهُ، فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ، فَالرَّضِيعُ ابْنُ الْمُطَلِّقِ وَالْمَيِّتِ، وَلَا تَنْقَطِعَ نِسْبَةُ اللَّبَنِ بِمَوْتِهِ وَطَلَاقِهِ، سَوَاءٌ ارْتَضَعَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَسَوَاءٌ قَصُرَتِ الْمُدَّةُ أَمْ طَالَتْ كَعَشْرِ سِنِينَ وَأَكْثَرَ، وَسَوَاءٌ انْقَطَعَ اللَّبَنُ ثُمَّ عَادَ، أَمْ لَمْ يَنْقَطِعْ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مَا يُحَالُ اللَّبَنُ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَلَى اسْتِمْرَارِهِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنِ انْقَطَعَ وَعَادَ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ كَمَا لَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يَلْحَقُهُ، هَكَذَا خَصَّصَ الْبَغَوِيُّ هَذَا الْوَجْهَ بِمَا إِذَا انْقَطَعَ وَعَادَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْعِرُ كَلَامُهُ بِطَرْدِهِ فِي صُورَةِ اسْتِمْرَارِ اللَّبَنِ، وَكَيْفَ كَانَ فَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ. فَلَوْ نَكَحَتْ بَعْدَ

الْعِدَّةِ زَوْجًا، وَوَلَدَتْ مِنْهُ، فَاللَّبَنُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِلثَّانِي، سَوَاءٌ انْقَطَعَ وَعَادَ، أَمْ لَمْ يَنْقَطِعْ لِأَنَّ اللَّبَنَ تَبَعٌ لِلْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ لِلثَّانِي. وَأَمَّا قَبْلَ الْوِلَادَةِ مِنَ الزَّوْجِ الثَّانِي، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا أَوْ أَصَابَهَا وَلَمْ تَحْبَلْ، أَوْ حَبِلَتْ وَلَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ حُدُوثِ اللَّبَنِ لِهَذَا الْحَمْلِ، فَاللَّبَنُ لِلْأَوَّلِ، سَوَاءٌ زَادَ عَلَى مَا كَانَ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ انْقَطَعَ، ثُمَّ عَادَ أَمْ لَا، وَيُقَالُ: أَقَلُّ مُدَّةٍ يَحْدُثُ فِيهَا اللَّبَنُ لِلْحَمْلِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَإِنْ دَخَلَ وَقْتُ حُدُوثِ اللَّبَنِ لِلْحَمْلِ، فَإِمَّا أَنْ يَنْقَطِعَ اللَّبَنُ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ بِأَنْ لَمْ يَنْقَطِعْ، أَوِ انْقَطَعَ مُدَّةً يَسِيرَةً، فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا: أَنَّهُ لَبَنُ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلثَّانِي، وَالثَّالِثُ: لَهُمَا. وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَيْضًا: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لِلْأَوَّلِ، وَالثَّانِي لَهُمَا، وَالثَّالِثُ إِنْ زَادَ اللَّبَنُ فَلَهُمَا، وَإِلَّا فَلِلْأَوَّلِ. وَلَوْ نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ، فَنَكَحَتْ، وَلَهَا لَبَنٌ ثُمَّ حَبِلَتْ مِنَ الزَّوْجِ، فَحَيْثُ قُلْنَا فِيمَا سَبَقَ: إِنَّ اللَّبَنَ لِلثَّانِي أَوْ لَهُمَا، فَهُنَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ، وَحَيْثُ قُلْنَا: هُوَ لِلْأَوَّلِ، فَهُوَ هُنَا لِلْمَرْأَةِ وَحْدَهَا وَلَا أَبَ لِلرَّضِيعِ. وَلَوْ حَبِلَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الزِّنَا وَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ مِنْ زَوْجٍ، فَحَيْثُ قُلْنَا هُنَاكَ: اللَّبَنُ لِلْأَوَّلِ، أَوَّلُهُمَا فَهُوَ لِلزَّوْجِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: هُوَ لِلثَّانِي، فَلَا أَبَ لِلرَّضِيعِ. وَلَوْ نُكِحَتِ امْرَأَةٌ لَا لَبَنَ لَهَا، فَحَبِلَتْ وَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ، قَالَ الْمُتَوَلِّي فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَالزَّوْجِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ، إِنْ جَعَلْنَا اللَّبَنَ لِلْأَوَّلِ لَمْ يُجْعَلِ الْحَمْلُ مُؤَثِّرًا وَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ حَتَّى يَنْفَصِلَ الْوَلَدُ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ لِلثَّانِي أَوْ لَهُمَا، ثَبَتَتْ.

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الرَّضَاعِ الْقَاطِعِ لِلنِّكَاحِ وَحُكْمِ الْغُرْمِ فِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي الْغُرْمِ عِنْدَ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ. الرَّضَاعُ الطَّارِئُ قَدْ يَقْطَعُ النِّكَاحَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، وَسَتَأْتِي أَمْثِلَتُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ يَقْطَعُهُ لِاقْتِضَائِهِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، فَكُلُّ امْرَأَةٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ بِنْتَهَا إِذَا أَرْضَعَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ، وَانْقَطَعَ النِّكَاحُ. فَإِذَا كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ، فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ مِنَ النَّسَبِ أَوِ الرَّضَاعِ، أَوْ جَدَّتُهُ أَوْ بِنْتُهُ أَوْ حَافِدَتُهُ مِنْهُمَا، أَوْ زَوْجَةُ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ أَخِيهِ بِلِبَانِهِمْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ مِنْ غَيْرِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالْأَخِ لَمْ يُؤَثِّرْ، لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَصِيرَ رَبِيبَةَ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ أَخِيهِ، وَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ. وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةٌ أُخْرَى لَهُ بِلَبَنِهِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ، لِأَنَّهَا بِنْتُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ لِغَيْرِهِ فَسَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، ثُمَّ الصَّغِيرَةُ الَّتِي يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِالرَّضَاعِ تَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ صَحِيحًا، أَوْ نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ فَاسِدًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الِانْفِسَاخُ مِنْ جِهَتِهَا بِأَنْ دَبَّتْ فَرَضَعَتْ مِنْ نَائِمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ لَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَجِبُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْغُرْمُ لِلزَّوْجِ، سَوَاءٌ قَصَدَتْ بِالْإِرْضَاعِ فَسْخَ النِّكَاحِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ وَجَبَ عَلَيْهَا الْإِرْضَاعُ بِأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مُرْضِعَةٌ غَيْرُهَا أَمْ لَا، لِأَنَّ غَرَامَةَ الْإِتْلَافِ لَا تَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ،

وَفِيمَا إِذَا لَزِمَهَا الْإِرْضَاعُ احْتِمَالٌ لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، ثُمَّ نَصَّ هُنَا أَنَّ عَلَى الْمُرْضِعَةِ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَنَصَّ أَنَّ شُهُودَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِذَا رَجَعُوا يَلْزَمُهُمْ جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ نَقْلًا وَتَخْرِيجًا، وَقِيلَ: بِتَقْرِيرِ النَّصَّيْنِ، لِأَنَّ فُرْقَةَ الرَّضَاعِ حَقِيقِيَّةٌ، فَلَا تُوجِبُ إِلَّا النِّصْفَ. وَفِي الشَّهَادَةِ النِّكَاحُ بَاقٍ فِي الْحَقِيقَةِ بِزَعْمِ الزَّوْجِ وَالشُّهُودِ، لَكِنَّهُمَا حَالَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبُضْعِ، فَغَرِمَا قِيمَتَهُ، كَالْغَاصِبِ الْحَائِلِ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَغْصُوبِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلَيْنِ، فَهَلْ هُمَا فِي كُلِّ الْمُسَمَّى وَنِصْفِهِ، أَمْ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ وَنِصْفِهِ؟ قَوْلَانِ، فَحَصَلَ فِي الرَّضَاعِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: جَمِيعُهُ، وَالثَّالِثُ: نَصِفُ الْمُسَمَّى، وَالرَّابِعُ جَمِيعُهُ. فَرْعٌ نَكَحَ الْعَبْدُ صَغِيرَةً، فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، فَلِلصَّغِيرَةِ نَصِفُ الْمُسَمَّى فِي كَسْبِهِ، وَلِسَيِّدِهِ الرُّجُوعُ عَلَى أُمِّ الْعَبْدِ بِالْغُرْمِ، لِأَنَّهُ بَدَلَ الْبُضْعَ، فَكَانَ لِلسَّيِّدِ كَعِوَضِ الْخُلْعِ. فَرْعٌ صَغِيرَةٌ مُفَوَّضَةٌ أَرْضَعَتْهَا أُمُّ الزَّوْجِ، فَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْمُتْعَةُ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ بِالْمُتْعَةِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَوْلِ الذَّاهِبِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ هُنَاكَ وَكَذَا هُنَا، وَالصُّورَةُ إِذَا كَانَتِ الصَّغِيرَةُ أَمَةً، فَزَوَّجَهَا السَّيِّدُ بِلَا مَهْرٍ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ الْحُرَّةَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهَا التَّفْوِيضُ. فَرْعٌ حَلَبَ أَجْنَبِيٌّ لَبَنَ أُمِّ الزَّوْجِ، أَوْ كَانَ مَحْلُوبًا، فَأَخَذَهُ، وَأَوْجَرَهُ الصَّغِيرَةَ فَالْغُرْمُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَفِي قَدْرِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ. وَلَوْ أَوْجَرَهَا

خَمْسَةُ أَنْفُسٍ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ خُمُسُ الْغُرْمِ، وَلَوْ أَوْجَرَهَا وَاحِدٌ مَرَّةً، وَآخَرَانِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، فَهَلْ يُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا أَمْ عَلَى عَدَدِ الرَّضَعَاتِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. فَرْعٌ أُكْرِهَتْ عَلَى الْإِرْضَاعِ، فَهَلِ الْغُرْمُ عَلَيْهَا، أَمْ عَلَى الْمُكْرِهِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: عَلَيْهَا، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ. فَرْعٌ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ، فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ انْفَسَخَ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ قَطْعًا وَالْكَبِيرَةِ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا جَدَّةُ الْكَبِيرَةِ أَوْ أُخْتُهَا أَوْ بِنْتُ أُخْتِهَا فَكَذَلِكَ. وَيَجُوزُ فِي الصُّوَرِ أَنْ يَنْكِحَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَجْمَعَهُمَا. وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا بِنْتُ الْكَبِيرَةِ، فَحُكْمُ الِانْفِسَاخِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَتَحْرُمُ الْكَبِيرَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَكَذَا الصَّغِيرَةُ إِنْ كَانَتِ الْكَبِيرَةُ مَدْخُولًا بِهَا لِكَوْنِهَا رَبِيبَتَهُ، وَحُكْمُ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَالْغُرْمُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ كَمَا سَبَقَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْكَبِيرَةِ إِذَا قُلْنَا بِانْفِسَاخِ نِكَاحِهَا وَلَمْ تَكُنْ مَمْسُوسَةً، فَإِنْ كَانَتْ، فَعَلَى الزَّوْجِ مَهْرُهَا الْمُسَمَّى، وَهَلْ تَغْرَمُ الْمُرْضِعَةُ لَهُ؟ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْبُضْعَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَتَقَوَّمُ لِلزَّوْجِ، وَلِهَذَا لَوِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِرِدَّتِهَا بَعْدَ الْمَسِيسِ لَا غُرْمَ عَلَيْهَا، وَأَظْهَرُهُمَا: تَغْرَمُ لَهُ مَهْرَ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ، ثُمَّ رَجَعُوا يَغْرَمُونَ مَهْرَ الْمِثْلِ. وَكَمَا لَوِ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ رَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَأَنْكَرَتْ، وَصَدَّقْنَاهَا بِيَمِينِهَا، فَنَكَحَتْ ثُمَّ أَقَرَّتْ بِالرَّجْعَةِ لِلْأَوَّلِ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهَا عَلَى الثَّانِي، وَتَغْرَمُ لِلْأَوَّلِ مَهْرَ مِثْلِهَا، لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ بُضْعَهَا عَلَيْهِ.

فَرْعٌ إِنَّمَا يَجِبُ الْغُرْمُ فِي الصُّوَرِ السَّابِقَةِ عَلَى أُمِّ الزَّوْجِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهَا إِذَا أَرْضَعَتْ أَوْ مَكَّنَتِ الصَّغِيرَةَ مِنْ الِارْتِضَاعِ، وَلَا يُؤَثِّرُ مَعَ إِرْضَاعِهَا ارْتِضَاعُ الصَّغِيرَةِ، فَلَا يُحَالُ الِانْفِسَاخُ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَتْ ذَاتُ اللَّبَنِ نَائِمَةً، فَدَبَّتْ إِلَيْهَا الصَّغِيرَةُ، فَارْتَضَعَتْ، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، أَحَلْنَا الِانْفِسَاخَ عَلَى فِعْلِ الصَّغِيرَةِ، فَلَا غُرْمَ عَلَى صَاحِبَةِ اللَّبَنِ، لِأَنَّهَا لَا فِعْلَ لَهَا. وَقَالَ الدَّارَكِيُّ: عَلَيْهَا الْغُرْمُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا مَهْرَ لِلصَّغِيرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى وَلَا أَثَرَ لِفِعْلِهَا، فَعَلَى الْأَصَحِّ يَرْجِعُ الزَّوْجُ فِي مَالِهَا حَيْثُ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ، بِنِسْبَةِ مَا يَغْرَمُ لَهَا مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ عَلَيْهِ بُضْعَ الْكَبِيرَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ. وَلَوْ وَصَلَتْ قَطْرَةٌ بِتَطْيِيرِ الرِّيحِ إِلَى جَوْفِ الصَّغِيرَةِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا غُرْمَ عَلَى صَاحِبَةِ اللَّبَنِ، وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهُ الدَّارَكِيِّ، وَلَوِ ارْتَضَعَتْ مِنْهَا وَهِيَ مُسْتَيْقِظَةٌ سَاكِتَةٌ، فَهَلْ يُحَالُ الرَّضَاعُ عَلَى الْكَبِيرَةِ لِرِضَاهَا بِهِ أَمْ لَا لِعَدَمِ فِعْلِهَا كَالنَّائِمَةِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ ارْتَضَعَتِ الصَّغِيرَةُ مِنْ أُمِّ الزَّوْجِ رَضْعَتَيْنِ وَهِيَ نَائِمَةٌ، ثُمَّ أَرْضَعَتْهَا الْأُمُّ ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي أَنَّ الْغُرْمَ يُوَزَّعُ عَلَى الْمُرْضِعَاتِ، أَوْ عَلَى الرَّضَعَاتِ، إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، سَقَطَ مِنْ نِصْفِ الْمُسَمَّى نِصْفُهُ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبُعُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، سَقَطَ مِنْ نِصْفِ الْمُسَمَّى خُمْسَاهُ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ، هَكَذَا قَالَهُ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَظْهَرِ مِنَ

الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا الْأُمُّ أَرْبَعَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ ارْتَضَعَتِ الصَّغِيرَةُ مِنْهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ الْمَرَّةَ الْخَامِسَةَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: فِي نَظِيرِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ، وَهُوَ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَعَاقِبَاتٍ هَلْ يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِالثَّالِثَةِ وَحْدَهَا، أَمْ بِالثَّلَاثِ؟ إِنْ عَلَّقْنَا بِالثَّالِثَةِ يُحَالُ التَّحْرِيمُ عَلَى الرَّضْعَةِ الْأَخِيرَةِ، وَتَكُونُ كَمَا لَوِ ارْتَضَعَتِ الْخَمْسَ وَصَاحِبَةُ اللَّبَنِ نَائِمَةٌ، وَلَا غُرْمَ عَلَى الْكَبِيرَةِ، وَيَسْقُطُ مَهْرُ الصَّغِيرَةِ. وَإِنْ عَلَّقْنَا بِالثَّلَاثِ، تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ هُنَا بِالرَّضَعَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَقِيَاسُ التَّوْزِيعِ عَلَى الرَّضَعَاتِ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ خُمُسُهُ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ مَهْرِ الْمِثْلِ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَظْهَرِ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْمُصَاهَرَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّضَاعِ: فَمَنْ نَكَحَ صَغِيرَةً، أَوْ كَبِيرَةً، حُرِّمَتْ عَلَيْهِ مُرْضِعَتُهَا، لِأَنَّهَا أُمُّ زَوْجَتِهِ مِنَ الرَّضَاعِ. وَلَوْ نَكَحَ صَغِيرَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَأَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ، حُرِّمَتِ الْمُرْضِعَةُ عَلَى الْمُطَلِّقِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ وَلَا نَظَرَ إِلَى التَّارِيخِ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ كَبِيرَةً فَطَلَّقَهَا، فَنَكَحَتْ صَغِيرًا وَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ الْمُطَلِّقِ، حُرِّمَتْ عَلَى الْمُطَلِّقِ أَبَدًا كَمَا تُحَرَّمُ عَلَى الصَّغِيرِ، لِأَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ. وَلَوْ نَكَحَتْ صَغِيرًا فَفَسَخَتْ نِكَاحَهُ بِغَيْبَةٍ، ثُمَّ نَكَحَتْ آخَرَ، فَأَرْضَعَتِ الْأَوَّلَ بِلَبَنِ الثَّانِي، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمَا أَبَدًا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَارَ ابْنًا لِلثَّانِي، فَهِيَ زَوْجَةُ ابْنِ الثَّانِي، وَزَوْجَةُ أَبِي الْأَوَّلِ. وَلَوْ جَاءَتْ زَوْجَةٌ أُخْرَى لِلثَّانِي، وَأَرْضَعَتِ الْأَوَّلَ بِلَبَنِ الثَّانِي، انْفَسَخَ نِكَاحُ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ الصَّغِيرِ. وَلَوْ زَوَّجَ مُسْتَوْلَدَتَهُ بِعَبْدِهِ الصَّغِيرِ، فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ السَّيِّدِ، حُرِّمَتْ عَلَى السَّيِّدِ وَالصَّغِيرِ مَعًا أَبَدًا، وَحَكَى ابْنُ الْحَدَّادِ أَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تُحَرَّمُ عَلَى السَّيِّدِ، وَأَنَّ الْمُزَنِيَّ أَنْكَرَهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْأَصْحَابُ

فَجَعَلُوا نَقَلَ الْمُزَنِيِّ غَلَطًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَكِنْ يُمْكِنُ تَخْرِيجُ مَا نُقِلَ عَلَى قَوْلٍ فِي الْعَبْدِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ، أَوْ عَلَى قَوْلٍ فِي أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِحَالٍ، أَوْ عَلَى وَجْهِ ذِكْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ بِعَبْدِهِ بِحَالٍ، فَإِنَّا إِذَا لَمْ نُصَحِّحِ النِّكَاحَ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْآرَاءِ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةَ الِابْنِ، فَلَا تَحْرُمُ عَلَى السَّيِّدِ. وَلَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ غَيْرِ السَّيِّدِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، لِأَنَّهَا أَمَةٌ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَى السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرِ ابْنًا لَهُ، وَكَذَا لَوْ أَرْضَعَتِ الْمُطَلَّقَةُ الصَّغِيرَ الَّذِي نَكَحَتْهُ بِغَيْرِ لَبَنِ الزَّوْجِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلَا تَحْرُمُ هِيَ عَلَى الْمُطَلِّقِ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ، فَأَرْضَعَتْهَا أَمَةٌ لَهُ قَدْ وَطِئَهَا بِلَبَنِ غَيْرِهِ، بَطَلَ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ، وَحُرِّمَتَا أَبَدًا. وَلَوْ كَانَ تَحْتَ زَيْدٍ كَبِيرَةٌ، وَتَحْتَ عَمْرٍو صَغِيرَةٌ، فَطَلَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ زَوْجَتَهُ وَنَكَحَ زَوْجَةَ الْآخَرِ، ثُمَّ أَرْضَعَتِ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ وَاللَّبَنُ لِغَيْرِهِمَا، حُرِّمَتِ الْكَبِيرَةُ عَلَيْهِمَا أَبَدًا، لِأَنَّهَا أُمُّ زَوْجَتِهِمَا، فَإِنْ كَانَا دَخَلَا بِالْكَبِيرَةِ، حُرِّمَتِ الصَّغِيرَةُ عَلَيْهِمَا أَبَدًا، وَإِلَّا فَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَدْخُلْ زَيْدٌ بِهَا حِينَ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةُ، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا، وَإِذَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، فَعَلَى زَوْجِهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَيَرْجِعُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْكَبِيرَةِ، وَلَا يَجِبُ لِلْكَبِيرَةِ شَيْءٌ عَلَى زَوْجِهَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، لِأَنَّ الِانْفِسَاخَ مِنْهَا. وَلَوْ كَانَ تَحْتَ زَيْدٍ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ، فَطَلَّقَهُمَا، فَنَكَحَهُمَا عَمْرٌو، ثُمَّ أَرْضَعَتِ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ فَحُكْمُ تَحْرِيمِهِمَا عَلَيْهِمَا عَلَى مَا فَصَّلْنَا، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ عَمْرٌو بِالْكَبِيرَةِ لِاجْتِمَاعِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فِي نِكَاحِهِ.

فصل

فَصْلٌ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ أَرْضَعَتْهَا الْكَبِيرَةُ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا، وَحَرُمَتِ الْكَبِيرَةُ مُؤَبَّدًا، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ إِنْ كَانَتِ الْكَبِيرَةُ أَرْضَعَتْهَا بِلَبَنِهِ، أَوْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهَا رَبِيبَةٌ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا، وَعَلَى الزَّوْجِ لِلصَّغِيرَةِ نَصِفُ الْمُسَمَّى، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ، وَلَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَلَهَا الْمَهْرُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَا نَقُولُ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِهَا، لِكَوْنِهَا أَتَلْفَتْ عَلَيْهِ بُضْعَهَا، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِخْلَاءِ نِكَاحِهَا عَنِ الْمَهْرِ. فَلَوْ كَانَتِ الْكَبِيرَةُ نَائِمَةً، فَارْتَضَعَتْ مِنْهَا الصَّغِيرَةُ، فَلَا مَهْرَ لِلصَّغِيرَةِ، وَلِلْكَبِيرَةِ نَصِفُ الْمُسَمَّى إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَجَمِيعُهُ إِنْ دَخَلَ، وَيَرْجِعُ بِالْغُرْمِ فِي مَالِ الصَّغِيرَةِ كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا الْكَبِيرَةُ أَرْبَعَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ ارْتَضَعَتِ الصَّغِيرَةُ مِنْهَا الْخَامِسَةَ وَهِيَ نَائِمَةٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ قُلْنَا: التَّحْرِيمُ يَتَعَلَّقُ بِالرَّضَعَاتِ وَلَمْ نُحِلْهُ عَلَى الرَّضْعَةِ الْخَامِسَةِ، سَقَطَ خُمُسُ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ بِفِعْلِهَا، وَنِصْفُهُ بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ خُمُسٌ وَنِصْفٌ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْكَبِيرَةِ بِثَلَاثَةِ أَعْشَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، وَأَمَّا الْكَبِيرَةُ، فَيَسْقُطُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَهْرِهَا بِفِعْلِهَا، وَالْبَاقِي بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا سُقُوطُ النِّصْفِ وَالْبَاقِي دُونَ النِّصْفِ فَيَسْقُطُ، وَقِيَاسُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» أَنْ يُقَالَ: يَسْقُطُ الْخُمُسُ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ، وَيَجِبُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ وَهُمَا خُمُسَا الْجُمْلَةِ، وَيَسْقُطُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ نِصْفِ مَهْرِ الْكَبِيرَةِ وَيَجِبُ خُمُسَهُ. وَلَوْ كَانَتِ الْكَبِيرَةُ أَمَةً نَكَحَهَا، تَعَلَّقَ الْغُرْمُ بِرَقَبَتِهَا، وَإِنْ أَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةُ أَمَتَهُ، أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَمْلُوكِهِ مَالًا. وَلَوْ كَانَتْ

أَمَتَهُ، أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ، فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةَ، فَعَلَيْهَا الْغُرْمُ لَهُ، فَإِنْ عَجَزَهَا سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِالْغُرْمِ. وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَوْلَدَاتُهُ الْخَمْسُ فَأَرْضَعْنَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ رَضْعَةً رَضْعَةً، صَارَتْ بِنْتًا لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِنَّ بِالْغُرْمِ إِنْ أَرْضَعْنَ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْغُرْمِ عَلَى الْخَامِسَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ خِلَافٌ فِي حَوَالَةِ التَّحْرِيمِ عَلَى الرَّضَعَاتِ، فَتَكُونُ كَمَا لَوْ أَرْضَعْنَ مَعًا. فَرْعٌ تَحْتَهُ كَبِيرَةٌ وَثَلَاثُ صَغَائِرَ، فَأَرْضَعَتْهُنَّ بِلَبَنِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا، حُرِّمَ الْأَرْبَعُ مُؤَبَّدًا، سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا، وَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى لِلْكَبِيرَةِ، وَنِصْفُ الْمُسَمَّى لِكُلِّ صَغِيرَةٍ، وَعَلَى الْكَبِيرَةِ الْغُرْمُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا، وَلَيْسَ اللَّبَنُ لَهُ، نُظِرَ؛ إِنْ أَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا الرَّضْعَةَ الْخَامِسَةَ مِنْ لَبَنِهَا الْمَحْلُوبِ، أَوْ أَلْقَمَتْ ثِنْتَيْنِ ثَدْيَهَا، وَأَوْجَرَتِ الثَّالِثَةَ مِنْ لَبَنِهَا الْمَحْلُوبِ انْفَسَخَ نِكَاحُ جَمِيعِهِنَّ، وَحُرِّمَتِ الْكَبِيرَةُ مُؤَبَّدًا، وَلَا تُحَرَّمُ الصَّغَائِرُ مُؤَبَّدًا، بَلْ لَهُ تَجْدِيدُ نِكَاحِ إِحْدَاهُنَّ، وَلَا يَجْمَعُ ثِنْتَيْنِ، لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ. وَإِنْ أَرْضَعَتْهُنَّ مُرَتَّبًا، حُرِّمَتِ الْكَبِيرَةُ مُؤَبَّدًا وَلَا تُحَرَّمُ الصَّغَائِرُ مُؤَبَّدًا، ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ أَحْوَالٌ، أَحَدُهَا: أَنْ تُرْضِعَ ثِنْتَيْنِ مَعًا، ثُمَّ الثَّالِثَةَ، فَيَنْفَسِخَ نِكَاحُ الْأُولَيَيْنِ، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الثَّالِثَةَ لِانْفِرَادِهَا وَوُقُوعِ إِرْضَاعِهَا بَعْدَ انْدِفَاعِ نِكَاحِ أُمِّهَا وَأُخْتِهَا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تُرْضِعَ وَاحِدَةً أَوَّلًا، ثُمَّ ثِنْتَيْنِ، فَيَنْفَسِخَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ، أَمَّا الْأُولَى وَالْكَبِيرَةُ فَلِاجْتِمَاعِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ، وَأَمَّا الْأُخْرَيَانِ، فَلِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ. الثَّالِثُ: أَنْ تُرْضِعَهُنَّ مُتَعَاقِبًا، فَيَنْفَسِخَ نِكَاحُ الْأَوْلَى مَعَ الْكَبِيرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا تَنْفَسِخُ الثَّانِيَةُ بِمُجَرَّدِ ارْتِضَاعِهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً،

وَلَمْ تَجْتَمِعْ هِيَ وَأُمٌّ وَلَا أُخْتٌ، فَإِذَا ارْتَضَعَتِ الثَّالِثَةُ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتًا لِلثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ فِي نِكَاحِهِ، وَهَلْ يَنْفَسِخُ مَعَهَا نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، أَمْ يَخْتَصُّ الِانْفِسَاخُ بِالثَّالِثَةِ؟ قَوْلَانِ، وَيُنْسَبُ الثَّانِي إِلَى الْجَدِيدِ، وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْأَوَّلُ إِلَى الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، فَعَلَى هَذَا الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي رُجِّحَ فِيهَا الْقَدِيمُ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ، فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ، فَقِيلَ: يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا قَطْعًا، وَالْأَصَحُّ انْفِسَاخُ الصَّغِيرَةِ، وَأَنَّ الْكَبِيرَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ صَغِيرَتَانِ أَرْضَعَتْهُمَا أَجْنَبِيَّةٌ، نُظِرَ؛ إِنْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا، لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ مَعًا، وَحُرِّمَتِ الْأَجْنَبِيَّةُ مُؤَبَّدًا، لِأَنَّهَا أُمُّ زَوْجَتَيْهِ، وَلَهُ نِكَاحُ إِحْدَى الصَّغِيرَتَيْنِ. وَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا مُتَعَاقِبًا، لَمْ تَنْفَسِخِ الْأُولَى بِإِرْضَاعِهَا، فَإِذَا أَرْضَعَتِ الثَّانِيَةَ، انْفَسَخَتْ قَطْعًا، وَفِي انْفِسَاخِ الْأُولَى الْقَوْلَانِ، الْأَظْهَرُ الِانْفِسَاخُ. فَرْعٌ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَثَلَاثُ كَبَائِرَ، أَرْضَعَتْهَا كُلُّ كَبِيرَةٍ خَمْسًا، انْفَسَخَ نِكَاحُ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ الْكَبَائِرَ أُمَّهَاتُ زَوْجَتِهِ، وَالصَّغِيرَةُ بِنْتُ زَوْجَاتِهِ، وَحُرِّمَتِ الْكَبَائِرُ مُؤَبَّدًا، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ إِنْ كَانَ دَخَلَ بِكَبِيرَةٍ، وَإِلَّا فَلَهُ نِكَاحُهَا. فَرْعٌ تَحْتَهُ أَرْبَعُ صَغَائِرَ أَرْضَعَتْهُنَّ أَجْنَبِيَّةٌ وَاحِدَةٌ بَعْدَ وَاحِدَةٍ، فَلَا أَثَرَ لِرِضَاعِ الْأُولَى فِي نِكَاحِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَإِذَا ارْتَضَعَتِ الثَّانِيَةُ أُخْتًا لِلْأُولَى، فَيَنْفَسِخَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، وَفِي الْأُولَى الْقَوْلَانِ، فَإِنْ فَسَخْنَاهَا،

فَإِذَا أَرْضَعَتِ الثَّالِثَةَ، لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا، فَإِذَا أَرْضَعَتِ الرَّابِعَةَ انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأُولَى، فَإِذَا أَرْضَعَتِ الثَّالِثَةَ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتًا لِلْأُولَى وَكَذَا الرَّابِعَةُ. وَلَوْ أَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا، أَوْ أَرْضَعَتْ ثِنْتَيْنِ مَعًا، ثُمَّ ثِنْتَيْنِ مَعًا، انْفَسَخَ الْجَمِيعُ. فَرْعٌ تَحْتَهُ صَغِيرَتَانِ وَكَبِيرَتَانِ أَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَبِيرَتَيْنِ وَاحِدَةً مِنَ الصَّغِيرَتَيْنِ، حُرِّمْنَ كُلُّهُنَّ مُؤَبَّدًا إِنْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَتَيْنِ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا، حُرِّمَتِ الْكَبِيرَتَانِ مُؤَبَّدًا، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الصَّغِيرَتَيْنِ فِي الْحَالِ، وَلَهُ تَجْدِيدُ نِكَاحِهِمَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْأُخُوَّةِ. وَلَوْ أَرْضَعَتْهُمَا إِحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ مُرَتَّبًا، انْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُولَى وَالْمُرْضِعَةِ، لِاجْتِمَاعِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ، وَلَمْ تَنْفَسِخِ الصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ، فَإِذَا أَرْضَعَتْهُمَا الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ إِرْضَاعِ الْأُولَى عَلَى تَرْتِيبِ الثَّانِيَةِ الْأُولَى، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِإِرْضَاعِ الصَّغِيرَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي حَقِّهَا اجْتِمَاعُ أُمٍّ وَبِنْتٍ فِي النِّكَاحِ. وَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِ الْمُرْضِعَةِ الْأُولَى انْفَسَخَ نِكَاحُ الْجَمِيعِ، وَلَهُ تَجْدِيدُ نِكَاحِ كُلِّ صَغِيرَةٍ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. فَرْعٌ تَحْتَهُ كَبِيرَتَانِ وَصَغِيرَةٌ، فَأَرْضَعَتَاهَا دُفْعَةً بِأَنْ أَوْجَرَتَاهَا لَبَنَهُمَا الْمَحْلُوبَ الْمَخْلُوطَ، انْفَسَخَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ، وَحُرِّمَتِ الْكَبِيرَتَانِ مُؤَبَّدًا، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ إِنْ دَخَلَ بِكَبِيرَةٍ وَإِلَّا فَلَا تَحْرُمُ مُؤَبَّدًا، وَعَلَى الزَّوْجِ لِلصَّغِيرَةِ نَصِفُ الْمُسَمَّى، وَيَرْجِعُ عَلَى الْكَبِيرَتَيْنِ بِالْغُرْمِ. وَأَمَّا الْكَبِيرَتَانِ،

فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِمَا، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ الْمُسَمَّى، وَيَرْجِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِ صَاحِبَتِهَا تَفْرِيعًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الرُّجُوعِ فِي غُرْمِ مَهْرِ الْكَبِيرَةِ الْمَمْسُوسَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ انْفِسَاخَ نِكَاحِ كُلِّ وَاحِدَةٍ حَصَلَ بِفِعْلِهَا وَفَعَلِ صَاحِبَتِهَا، فَسَقَطَ النِّصْفُ لِفِعْلِهَا، وَوَجَبَ النِّصْفُ عَلَى صَاحِبَتِهَا. وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبُعُ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ الِانْفِسَاخَ حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا، فَسَقَطَ بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ الشَّطْرِ الْوَاجِبِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَوَجَبَ النِّصْفُ الْآخَرُ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِرُبُعِ مَهْرِ مِثْلِ الْأُخْرَى تَفْرِيعًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَهُوَ أَنَّ التَّغْرِيمَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ يَكُونُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَدْخُولًا بِهَا دُونَ الْأُخْرَى، فَلِلْمَدْخُولِ بِهَا تَمَامُ الْمُسَمَّى وَلِلْأُخْرَى رُبُعُ مُسَمَّاهَا، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَعَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا بِرُبُعِ مَهْرِ مِثْلِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَكِنْ أَوْجَرَتْهَا اللَّبَنَ الْمَخْلُوطَ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ إِحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ وَحْدَهَا فَحُكْمُ التَّحْرِيمِ كَمَا سَبَقَ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِمَهْرِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ فِي الْخَامِسَةِ وَحْدَهَا، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الْأَقْوَالُ. وَأَمَّا الْكَبِيرَتَانِ فَالَّتِي لَمْ تُوجِرْ، إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، فَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ تَمَامُ الْمُسَمَّى، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى الْمُوجِرَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا، فَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ نَصِفُ الْمُسَمَّى، وَيَرْجِعُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْمُوجَرَةِ كَمَا فِي الصَّغِيرَةِ، وَأَمَّا الْمُوجِرَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهَا، لِأَنَّهَا سَبَبُ الْفُرْقَةِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ لَبَنَهُ - وَالتَّصْوِيرُ كَمَا سَبَقَ - صَارَتِ الصَّغِيرَةُ بِنْتَهُ، وَحُرِّمَتْ مُؤَبَّدًا، وَلَوْ تَمَّ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ دُونَ الْكَبِيرَتَيْنِ بِأَنْ أَرْضَعَتْ هَذِهِ بَعْضَ الْخَمْسِ وَهَذِهِ بَعْضَهَا، حَصَلَ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهِ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ وَحُرِّمَتِ الصَّغِيرَةُ مُؤَبَّدًا، لِأَنَّهَا

بِنْتُهُ، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْكَبِيرَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمْ تَصِرْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أُمًّا، ثُمَّ إِنْ حَصَلَتِ الرَّضَعَاتُ مُتَفَرِّقَاتٍ بِأَنْ أَرْضَعَتْ هَذِهِ ثَلَاثًا، وَتِلْكَ مَرَّتَيْنِ، فَالْغُرْمُ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتِ الْخَامِسَةَ كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَقَدْ سَبَقَ مَا يَقْتَضِي خِلَافًا فِيهِ. وَإِنِ اشْتَرَكَتَا فِي الْخَامِسَةِ بِأَنْ أَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ رَضْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْجَرَتَاهَا لَبَنَهُمَا الْمَخْلُوطَ دُفْعَةً، فَالْغُرْمُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَلَوْ حَلَبَتْ إِحْدَاهُمَا لَبَنَهَا ثَلَاثَ دُفُعَاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَوْعِيَةٍ، وَالْأُخْرَى دَفْعَتَيْنِ فِي إِنَائَيْنِ، ثُمَّ جُمِعَ الْجَمِيعُ، وَأُوجِرَتْهُ الصَّغِيرَةُ، فَإِنْ أُوجَرَتْهَا إِحْدَاهُمَا، فَالْغُرْمُ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَوْجَرَتَاهَا، فَهَلْ تَغْرَمَانِ بِالسَّوِيَّةِ، أَمْ أَخْمَاسًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَلَوْ حَلَبَتْ إِحْدَاهُمَا أَرْبَعًا فِي أَرْبَعَةِ أَوْعِيَةٍ، وَالْأُخْرَى ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ خُلِطَ، وَأَوْجَرَتَاهَا مَعًا، فَتَغْرَمَانِ بِالسَّوِيَّةِ أَمْ أَسْبَاعًا؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. فَرْعٌ تَحْتَهُ ثَلَاثَةُ صَغَائِرَ، فَجَاءَتْ ثَلَاثُ خَالَاتٍ لِلزَّوْجِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ صَغِيرَةً، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي نِكَاحِهِنَّ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ بَنَاتِ الْخَالَاتِ. فَلَوْ جَاءَتْ أُمُّ أُمِّ الزَّوْجِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَرْضَعَتْ زَوْجَةً صَغِيرَةً رَابِعَةً لِلزَّوْجِ، حُرِّمَتِ الرَّابِعَةُ مُؤَبَّدًا، لِأَنَّهَا صَارَتْ خَالَتَهُ وَخَالَةَ الصَّغَائِرِ الثَّلَاثِ، وَاجْتَمَعَتْ هِيَ وَهُنَّ فِي النِّكَاحِ، وَفِي انْفِسَاخِ نِكَاحِ الثَّلَاثِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ أَرْضَعَتِ الرَّابِعَةَ امْرَأَةُ أَبِي أُمِّ الزَّوْجِ بِلَبَنِهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْخَالَاتُ مُتَفَرِّقَاتٍ، وَأَرْضَعْنَ الثَّلَاثَ، ثُمَّ أَرْضَعَتِ الرَّابِعَةَ أُمُّ أُمِّ الزَّوْجِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا الْخَالَةُ لِلْأَبِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ الْقَوْلَانِ. وَلَوْ كُنَّ مُتَفَرِّقَاتٍ وَأَرْضَعَتِ الرَّابِعَةَ امْرَأَةُ أَبِي الزَّوْجِ، انْفَسَخَ نِكَاحُ الرَّابِعَةِ، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا الْخَالَةُ لِلْأُمِّ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ الْقَوْلَانِ.

وَلَوْ أَرْضَعَتِ الصَّغَائِرَ ثَلَاثُ عَمَّاتٍ لِلزَّوْجِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ أَرْضَعَتِ الرَّابِعَةَ أُمُّ أَبِيهِ أَوِ امْرَأَةُ أَبِي أَبِيهِ بِلَبَنِهِ، فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْخَالَاتِ. فَرْعٌ تَحْتَهُ كَبِيرَةٌ وَثَلَاثُ صَغَائِرَ وَلِلْكَبِيرَةِ ثَلَاثُ بَنَاتٍ، فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ صَغِيرَةً، فَإِنْ كَانَتِ الْكَبِيرَةُ مَدْخُولًا بِهَا حُرِّمْنَ مُؤَبَّدًا، سَوَاءٌ أَرْضَعَهُنَّ مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا، وَعَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الْكَبِيرَةِ بِتَمَامِهِ، وَيَرْجِعُ بِغُرْمِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ عَلَيْهِنَّ إِنْ أَرْضَعْنَ مَعًا، وَعَلَى الْأُولَى إِنْ أَرْضَعْنَ مُرَتَّبًا، وَلِكُلِّ صَغِيرَةٍ عَلَى الزَّوْجِ نَصِفُ الْمُسَمَّى، وَيَرْجِعُ بِالْغُرْمِ لِكُلِّ صَغِيرَةٍ عَلَى مُرْضِعَتِهَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْكَبِيرَةُ مَدْخُولًا بِهَا، فَإِنْ أَرْضَعْنَ مَعًا الْمَرَّةَ الْخَامِسَةَ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ، لِاجْتِمَاعِ الْجَدَّةِ وَالْحَفَدَةِ، وَتُحَرَّمُ الْكَبِيرَةُ مُؤَبَّدًا دُونَ الصَّغَائِرِ، وَعَلَى الزَّوْجِ نَصِفُ الْمُسَمَّى لِلْكَبِيرَةِ وَلِكُلِّ صَغِيرَةٍ، وَيَرْجِعُ بِغُرْمِ كُلِّ صَغِيرَةٍ عَلَى مُرْضِعَتِهَا، وَبِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِ الْكَبِيرَةِ، وَعَلَى الثَّلَاثِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ سُدُسٌ، وَإِنْ أَرْضَعْنَ مُرَتَّبًا، فَبِإِرْضَاعِ الْأُولَى تَنْفَسِخُ الْكَبِيرَةُ وَتِلْكَ الصَّغِيرَةُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْمُسَمَّى عَلَى الزَّوْجِ، وَيَرْجِعُ بِالْغُرْمِ، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأُخْرَيَيْنِ، سَوَاءٌ أَرْضَعَتَا مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا، لِأَنَّهُمَا لَمْ تَصِيرَا أُخْتَيْنِ، وَلَا اجْتَمَعَتِ الْجَدَّةُ وَهُمَا. وَلَوْ أَرْضَعَتِ اثْنَتَانِ صَغِيرَتَيْنِ مَعًا، ثُمَّ أَرْضَعَتِ الثَّالِثَةَ، لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَعَلَى الزَّوْجِ نَصِفُ الْمُسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَيَرْجِعُ بِغُرْمِ كُلِّ صَغِيرَةٍ عَلَى مُرْضِعَتِهَا وَبِغُرْمِ الْكَبِيرَةِ عَلَى الْمُرْضِعَتَيْنِ جَمِيعًا. فَرْعٌ نَكَحَ صَغِيرٌ صَغِيرَةً هِيَ بِنْتُ عَمِّهِ، فَأَرْضَعَتْ جَدَّتُهُمَا أُمُّ أَبِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَهُمَا، ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُمَا، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَكَذَا

الْحُكْمُ لَوْ كَانَتْ أُمُّ أَبِي الصَّغِيرِ غَيْرَ أُمِّ أَبِي الصَّغِيرَةِ بِأَنْ كَانَ أَبَوَاهُمَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ، فَأَرْضَعَتْ إِحْدَى الْجَدَّتَيْنِ أَحَدَ الصَّغِيرَيْنِ بِلَبَنِ جَدِّهِمَا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَلَوْ نَكَحَ صَغِيرٌ بِنْتَ عَمَّتِهِ الصَّغِيرَةَ، فَجَاءَتِ الْجَدَّةُ الَّتِي هِيَ أُمُّ أَبِي الصَّغِيرِ، وَأُمُّ أُمِّ الصَّغِيرَةِ، فَأَرْضَعَتْ أَحَدَهُمَا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ أُمَّ أَبِي الصَّغِيرِ غَيْرَ أُمِّ أُمِّ الصَّغِيرَةِ، وَأَرْضَعَتْ جَدَّتُهُمَا أُمُّ أُمِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَهُمَا، انْفَسَخَ. وَلَوْ نَكَحَ صَغِيرٌ بِنْتَ خَالِهِ، فَأَرْضَعَتْ جَدَّتُهُمَا أُمُّ أُمِّ الصَّغِيرِ وَأُمُّ أَبِي الصَّغِيرَةِ أَحَدَهُمَا، انْفَسَخَ، وَتَنْزِيلَاتُهَا ظَاهِرَةٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الِاخْتِلَافِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ: الْأَوَّلُ فِي دَعْوَى الرَّضَاعِ وَحُكْمِهَا: فَإِذَا قَالَ: فُلَانَةٌ أُخْتِي أَوْ بِنْتِي مِنَ الرَّضَاعِ، أَوْ قَالَ: فُلَانٌ أَخِي أَوِ ابْنِي مِنَ الرَّضَاعِ، وَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَحِلَّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِأَنَّ قَالَ: فُلَانَةٌ بِنْتِي وَهِيَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ، فَهُوَ لَغْوٌ. وَإِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ، ثُمَّ رَجَعَا، أَوْ رَجَعَ الْمُقِرُّ، لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ، وَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ. وَلَوِ اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا مُحَرِّمًا، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَسَقَطَ الْمُسَمَّى، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ. وَإِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الرَّضَاعِ وَلَا بَيِّنَةَ، فَإِنِ ادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ، قُبِلَ فِي حَقِّهِ فَقَطْ، فَيُحْكَمُ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيَجِبُ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَجَمِيعُهُ إِنْ كَانَ بَعْدَهُ، وَلَهُ تَحْلِيفُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِنَ الْمُسَمَّى، فَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ الزَّوْجُ، وَلَا شَيْءَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَإِنِ ادَّعَتِ الرَّضَاعَ وَأَنْكَرَ، فَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّهُ إِنْ جَرَى التَّزْوِيجُ بِرِضَاهَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا، بَلْ يُصَدَّقُ الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ جَرَى بِغَيْرِ رِضَاهَا فَأَيُّهُمَا الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ؟ وَجْهَانِ: ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ أَجَابَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ الْمُصَدَّقُ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهَا الْمُصَدَّقَةُ، وَبِهِ

أَجَابَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ، وَنَقْلَهُ الْقَفَّالُ عَنِ النَّصِّ. وَإِذَا مَكَّنَتِ الزَّوْجَ وَقَدْ زُوِّجَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَتَمْكِينُهَا كَرِضَاهَا، وَالْوَرَعُ لِلزَّوْجِ إِذَا ادَّعَتِ الرَّضَاعَ أَنْ يَدَعَ نِكَاحَهَا بِتَطْلِيقَةٍ لِتَحِلَّ لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْمُسَمَّى إِذَا ادَّعَتِ الرَّضَاعَ، لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّهُ بِزَعْمِهَا، وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ جَرَى دُخُولٌ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ دَفْعِ الزَّوْجِ الصَّدَاقَ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ لِزَعْمِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَفْعَلُ بِذَلِكَ الْمَالِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا إِذَا أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ فَأَنْكَرَهُ الْمُقِرُّ لَهُ. فَرْعٌ أَقَرَّتْ أَمَةٌ بِأُخُوَّةِ الرَّضَاعِ لِغَيْرِ سَيِّدِهَا، يُقْبَلُ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا ذَلِكَ الْغَيْرُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَإِنْ أَقَرَّتْ لِسَيِّدِهَا، لَمْ يُقْبَلْ بَعْدَ التَّمْكِينِ، وَقَبْلَهُ وَجْهَانِ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلِفِ فِي الرَّضَاعِ. مِنَ الْأُصُولِ الْمُمَهِّدَةِ أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ إِنْ كَانَ إِثْبَاتًا، وَعَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ نَفْيًا، وَالْغَرَضُ هُنَا أَنَّ مُنْكِرَ الرَّضَاعِ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَمُدَّعِيهِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، فَلَوْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ، وَرَدَدْنَاهَا عَلَى الزَّوْجِ، أَوْ نَكَلَ الزَّوْجُ وَرَدَدْنَاهَا عَلَيْهَا، فَالْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ تَكُونُ عَلَى الْبَتِّ، لِأَنَّهَا مُثْبِتَةً، وَقَالَ الْقَفَّالُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: إِنَّ غَيْرَ الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا عَلَى الْبَتِّ، وَقِيلَ: يَمِينُهُ إِذَا أَنْكَرَ عَلَى الْبَتِّ، وَيَمِينُهَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَوِ ادَّعَتِ الرَّضَاعَ فَشَكَّ الزَّوْجُ، فَلَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا وَلَا كَذِبُهَا، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَى الْبَتِّ، فَلَا.

الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ فِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَبِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ كَالْوِلَادَةِ، وَلَا يَثْبُتُ بِدُونِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَلَا يَثْبُتُ الْإِقْرَارُ بِالرَّضَاعِ إِلَّا بِرَجُلَيْنِ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّهُ لَوْ كَانَ النِّزَاعُ فِي شُرْبِ اللَّبَنِ مِنْ ظَرْفٍ، لَمْ تُقْبَلْ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسْوَةِ الْمُتَمَحِّضَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِاطِّلَاعِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إِذَا كَانَ النِّزَاعُ فِي الِارْتِضَاعِ مِنَ الثَّدْيِ، وَأَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ الْحَاصِلَ فِي الظَّرْفِ لَبَنُ فُلَانَةٍ، لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى الْحَلْبِ غَالِبًا. الثَّانِيَةُ: لَوْ كَانَ فِيمَنْ يَشْهَدُ بِالرَّضَاعِ أُمُّ الْمَرْأَةِ، أَوْ بِنْتُهَا عَلَى حُرْمَةِ الرَّضَاعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُدَّعِيًا، وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةً، قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا، وَإِنِ انْعَكَسَ فَلَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ تَشْهَدَ عَلَى أُمِّهَا أَنَّهَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أُمِّ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الرَّضَاعِ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُشَاهَدَةُ، لَكِنْ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهَا أَرْضَعَتِ الزَّوْجُ أَوْ أَرْضَعَتْهُ أُمُّهَا أَوْ أُخْتُهَا، وَلَوْ شَهِدَتِ الْأُمُّ أَوِ الْبِنْتُ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى عَلَى سَبِيلِ الْحِسْبَةِ، قُبِلَتْ وَإِنِ احْتَمَلَ كَوْنُ الزَّوْجَةِ مُدَّعِيَةً، لِأَنَّ الرَّضَاعَ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ، وَهَذَا كَمَا لَوْ شَهِدَ أَبُو الزَّوْجَةِ وَابْنُهَا أَوِ ابْنَاهَا ابْتِدَاءً أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، قُبِلَتْ. وَلَوِ ادَّعَتِ الطَّلَاقَ، فَشَهِدَا، لَمْ تُقْبَلْ. الثَّالِثَةُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ وَحْدَهَا، وَهَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيمَنْ يَشْهَدُ إِنِ ادَّعَتْ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ، لَمْ تُقْبَلْ، وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: تُقْبَلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ دُونَ الْأُجْرَةِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ فِيهِمَا. وَإِنْ لَمْ تَدَّعِ أُجْرَةً، نُظِرَ؛ إِنْ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِفِعْلِهَا بِأَنْ شَهِدَتْ بِأُخُوَّةِ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا ارْتَضَعَا مِنْهَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا، وَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَجَوَازِ الْخَلْوَةِ وَالْمُسَافَرَةِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُرَدُّ بِمِثْلِ

هَذِهِ الْأَغْرَاضِ. وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ زَيْدًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، أَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ، قُبِلَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنِ اسْتَفَادَا حَلَّ مُنَاكَحَتِهَا. وَإِنْ شَهِدَتْ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُهُمَا، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ، كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا عَلَى وِلَادَتِهَا، وَلَا شَهَادَةُ الْحَاكِمِ عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ بَعْدَ الْعَزْلِ، وَلَا الْقَسَّامُ عَلَى الْقِسْمَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: تُقْبَلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، لِأَنَّهَا لَا تَجُرُّ بِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ ضَرَرًا بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ النَّفَقَةِ وَالْإِرْثِ، وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَغَيْرُهَا، وَتُخَالِفُ شَهَادَةَ الْحَاكِمِ وَالْقَسَّامِ، فَإِنَّ فِعْلَهُمَا مَقْصُودٌ، وَفِعْلَ الْمُرْضِعَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ وُصُولُ اللَّبَنِ إِلَى الْجَوْفِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْحُكْمِ وَالْقِسْمَةِ تَتَضَمَّنُ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ. فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَتِمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ بِأَنْ شَهِدَتِ الْمُرْضِعَةُ وَحْدَهَا، أَوِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ، أَوِ امْرَأَتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ، فَالْوَرَعُ أَنْ يَتْرُكَ نِكَاحَهَا، وَأَنْ يُطَلِّقَهَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ النِّكَاحِ. فَرْعٌ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالرَّضَاعِ، وَقَالَا: تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ إِلَى الثَّدْيِ لَا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا فَاسِقَانِ بِقَوْلِهِمَا، وَفِي النَّظَرِ إِلَى الثَّدْيِ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي أَوَّلِ النِّكَاحِ، الْأَصَحُّ الْجَوَازُ. قُلْتُ: مُجَرَّدُ النَّظَرِ مَعْصِيَةٌ صَغِيرَةٌ لَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مَا لَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ لَا تَكُونَ ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ - مِنْهُمُ الْإِمَامُ - أَنَّ الشَّهَادَةَ الْمُطْلَقَةَ أَنَّ بَيْنَهُمَا رِضَاعًا مُحَرَّمًا، أَوْ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ، أَوْ أُخُوَّتَهُ، أَوْ بُنُوَّتَهُ مَقْبُولَةٌ،

وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تُقْبَلُ مُطْلَقَةً، بَلْ يُشْتَرَطُ التَّفْصِيلُ وَالتَّعْرِيضُ لِلشَّرَائِطِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي شُرُوطِ الرَّضَاعِ، فَاشْتَرَطَ التَّفْصِيلَ لِيَعْمَلَ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ، وَيَحْسُنُ أَنْ يُتَوَسَّطَ فَيُقَالُ: إِنْ أَطْلَقَ فَقِيهٌ يَوْثَقُ بِمَعْرِفَتِهِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، وَيَنْزِلُ الْكَلَامَانِ عَلَيْهِ، أَوْ يُخَصُّ الْخِلَافُ بِغَيْرِ الْفَقِيهِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ فِي الْإِخْبَارِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ. وَالْمَانِعُونَ مِنْ قَبُولِ الْمُطْلَقَةِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالرَّضَاعِ. وَلَوْ قَالَ: هِيَ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعِ، فَفِي «الْبَحْرِ» وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرِ الشُّرُوطِ إِنْ كَانَ فَقِيهًا، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْمُقِرَّ يَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ، فَلَا يُقِرُّ إِلَّا عَنْ تَحْقِيقٍ. الْخَامِسَةُ: إِذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ عَلَى فِعْلِ الرَّضَاعِ وَالِارْتِضَاعِ، لَمْ يَكْفِ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْوَقْتِ وَالْعَدَدِ بِأَنْ يَشْهَدَ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ، أَوِ ارْتَضَعَ مِنْهَا فِي الْحَوْلَيْنِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، وَفِي اشْتِرَاطِ ذِكْرِ وُصُولِ اللَّبَنِ إِلَى الْجَوْفِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ، كَمَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْإِيلَاجِ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا. وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهُ لَا يُشَاهَدُ قَالَ فِي «الْبَسِيطِ» : وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَفْصِلَهُ، وَلَوْ مَاتَ الشَّاهِدُ قَبْلَ الِاسْتِفْصَالِ، هَلْ لِلْقَاضِي التَّوَقُّفُ؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ الشَّاهِدُ قَدْ يَسْتَيْقِنُ وُصُولَ اللَّبَنِ إِلَى الْجَوْفِ بِأَنْ يُعَايِنَ الْحَلْبَ، وَإِيجَارَ الصَّغِيرِ الْمَحْلُوبَ وَازْدِرَادَهُ، وَحِينَئِذٍ يَشْهَدُ بِهِ، وَلَا إِشْكَالَ. وَقَدْ يُشَاهِدُ الْقَرَائِنَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ وَهِيَ الْتِقَامُ الثَّدْيِ وَامْتِصَاصُهُ، وَحَرَكَةُ

الْحَلْقِ بِالتَّجَرُّعِ وَالِازْدِرَادِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا ذَاتُ لَبَنٍ، وَهَذَا يُسَلِّطُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الرَّضَاعِ بِأَنْ يَرَاهَا أَخَذَتِ الطِّفْلَ تَحْتَ ثِيَابِهَا، وَأَدَّتْهُ مِنْهَا كَهَيْئَةِ الْمُرْضِعَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ تُوجِرُهُ لَبَنَ غَيْرِهَا فِي شَيْءٍ كَهَيْئَةِ الثَّدْيِ، وَلَا بِأَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ الِامْتِصَاصِ فَقَدْ يَمْتَصُّ أُصْبُعَهُ أَوْ أُصْبُعَهَا. وَلَوْ شَاهَدَ الْتِقَامَ الثَّدْيِ وَالِامْتِصَاصَ وَهَيْئَةَ الِازْدِرَادِ، وَلَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهَا ذَاتَ لَبَنٍ، فَهَلْ لَهُ الشَّهَادَةُ لِظَاهِرِ الْحَالِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اللَّبَنِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا الثَّانِي، وَلَا يَكْفِي فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حِكَايَةُ الْقَرَائِنِ بِأَنْ يَشْهَدَ بِرُؤْيَةِ الِالْتِقَامِ وَالِامْتِصَاصِ وَالتَّجَرُّعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِوُصُولِ اللَّبَنِ إِلَى الْجَوْفِ وَلَا لِلرِّضَاعِ الْمُحَرِّمِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُ عِلْمِهِ تِلْكَ الْقَرَائِنُ، لِأَنَّ مُعَايَنَتَهَا تُطْلِعُ عَلَى مَا لَا تُطْلِعُ عَلَيْهِ الْحِكَايَةُ، فَإِنْ أَطْلَعَتْهُ عَلَى وُصُولِ اللَّبَنِ، فَلْيَجْزِمْ بِهِ عَلَى قَاعِدَةِ الشَّهَادَاتِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب النفقات

كِتَابُ النَّفَقَاتِ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ: مِلْكُ النِّكَاحِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ، وَقَرَابَةُ الْبَعْضِيَّةِ فَالْأَوَّلَانِ يُوجِبَانِ النَّفَقَةَ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ وَلَا عَكْسَ، وَالثَّالِثُ يُوجِبُهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَرِيبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِشُمُولِ الْبَعْضِيَّةِ وَالشَّفَقَةِ، وَيَشْتَمِلُ الْكِتَابُ عَلَى سِتَّةِ أَبْوَابٍ، أَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ، فَوَاجِبَةٌ بِالنُّصُوصِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ فِيمَا يَجِبُ وَهُوَ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ الطَّعَامُ، أَمَّا قَدْرُهُ، فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّوْجِ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكِفَايَةُ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى حَالِ الْمَرْأَةِ فِي الزَّهَادَةِ وَالرَّغْبَةِ، وَلَا إِلَى مَنْصِبِهَا وَشَرَفِهَا، وَتَسْتَوِي فِيهِ الْمُسَلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ، الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ، فَعَلَى الْمُوسِرِ مُدَّانِ، وَالْمُعْسِرِ مُدٌّ وَالْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ، وَالِاعْتِبَارُ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ. قُلْتُ: هَذَا تَفْرِيعٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ رِطْلَ بَغْدَادَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، كَمَا ذَكَرْتُهُ فِي بَابِ زَكَاةِ النَّبَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ قَوْلًا أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْكِفَايَةُ كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَحَكَى صَاحِبُ التَّقْرِيبِ قَوْلًا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا يَفْرِضُهُ الْقَاضِي، وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُقَدِّرَ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ خَيْرَانِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عُرْفُ النَّاسِ فِي الْبَلَدِ. وَالْمَذْهَبُ: التَّقْدِيرُ كَمَا سَبَقَ.

وَفِيمَا يُضْبَطُ بِهِ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ وَالتَّوَسُّطُ أَوْجُهٌ: أَحُدُّهَا: الْعَادَةُ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْبِلَادِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُوسِرَ مَنْ يَزِيدُ دَخْلُهُ عَلَى خَرْجِهِ، وَالْمُعْسِرَ عَكْسُهُ، وَالْمُتَوَسِّطُ مَنْ تَسَاوَى خَرْجُهُ وَدَخْلُهُ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ. وَالثَّالِثُ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْكَسْبِ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى نَفَقَةِ الْمُوسِرِينَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَمَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ كَسْبِهِ لَا مِنْ أَصْلِ مَالِهِ، فَهُوَ مُوسِرٌ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ مَنْ كَسْبِهِ، فَمُعْسِرٌ، وَمَنْ قَدَرَ أَنْ يُنْفِقَ مَنْ كَسْبِهِ نَفَقَةَ الْمُتَوَسِّطِينَ فَمُتَوَسِّطٌ. وَالرَّابِعُ وَهُوَ أَحْسَنُهَا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا يُخْرِجُهُ عَنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْمَسَاكِينِ فَهُوَ مُعْسِرٌ، وَمَنْ يَمْلِكُهُ وَلَا يَتَأَثَّرُ بِتَكْلِيفِ الْمَدِينِ مُوسِرٌ، وَمَنْ يَمْلِكُهُ وَيَتَأَثَّرُ بِتَكْلِيفِ الْمَدِينِ، وَيَرْجِعُ إِلَى حَدِّ الْمَسْكَنَةِ مُتَوَسِّطٌ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّظَرِ لِلرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ. فَرْعٌ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكَسْبِ الْوَاسِعِ لَا تُخْرِجُهُ عَنِ الْإِعْسَارِ فِي النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تُخْرِجُهُ عَنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْمَسَاكِينِ. فَرْعٌ يُعْتَبَرُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ طُلُوعُ الْفَجْرِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا حِينَئِذٍ، فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، وَإِنْ أُعْسِرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، لَمْ تَلْزَمْهُ إِلَّا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَإِنْ أَيْسَرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ. فَرْعٌ لَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ إِلَّا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبِ وَإِنْ كَثُرَ مَالُهُ لِضَعْفِ مِلْكِهِ، وَفِيمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ: مُعْسِرٌ وَإِنْ كَثُرَ مَالُهُ

فصل

لِنَقْصِ حَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ بِبَعْضِهِ الْحُرِّ نَفَقَةُ الْمُوسِرِ إِذَا كَثُرَ مَالُهُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ رَقِيقًا فَعَلَيْهِ مُدٌّ وَنِصْفٌ. فَصْلٌ وَأَمَّا جِنْسُ الطَّعَامِ فَغَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ مِنَ الْحِنْطَةِ أَوِ الشَّعِيرِ أَوِ الْأُرْزِ أَوِ التَّمْرِ أَوْ غَيْرِهَا، حَتَّى يَجِبَ الْأَقِطُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الَّذِينَ يَقْتَاتُونَهُ. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا يَلِيقُ بِحَالِ الزَّوْجِ إِلْحَاقًا لِلْجِنْسِ بِالْقَدْرِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنِ اخْتَلَفَ قُوتُ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَكُنْ غَالِبًا وَجَبَ مَا يَلِيقُ بِحَالِ الزَّوْجِ. الْوَاجِبُ الثَّانِي: الْأُدْمُ وَجِنْسُهُ غَالِبُ أُدْمِ الْبَلَدِ مِنَ الزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ وَالتَّمْرِ وَالْخَلِّ وَالْجُبْنِ وَغَيْرِهَا، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْفُصُولِ، وَقَدْ تَغْلِبُ الْفَوَاكِهُ فِي أَوْقَاتِهَا فَتَجِبُ، وَيَعُودُ الْوَجْهُ السَّابِقُ فِي الطَّعَامِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا يَلِيقُ بِالزَّوْجِ، وَأَمَّا قَدْرُهُ، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَتَقَدَّرُ بَلْ هُوَ إِلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي، فَيَنْظُرُ فِي جِنْسِ الْأُدْمِ، وَيُقَدِّرُ بِاجْتِهَادِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُدُّ، فَيَفْرِضُهُ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَعَلَى الْمُوسِرِ مِثْلَيْهِ، وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَهَا اللَّحْمَ وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُطْعِمُهَا فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ رِطْلَ لَحْمٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَعَلَى الْمُوسِرِ رِطْلَانِ وَالْمُتَوَسِّطِ رِطْلٌ وَنِصْفٌ، وَاسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْإِعْطَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى بِالتَّوْسِيعِ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ مِصْرَ لِعِزَّةِ اللَّحْمِ عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَأَمَّا حَيْثُ يَكْثُرُ اللَّحْمُ، فَيُزَادُ بِحَسَبِ عَادَةِ الْبَلَدِ: وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَجِبُ فِي وَقْتِ الرُّخْصِ عَلَى الْمُوسِرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَطْلٌ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ فِي كُلِّ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَعَلَى الْمُعْسِرِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، وَفِي وَقْتِ الْغَلَاءِ يَجِبُ فِي أَيَّامٍ مَرَّةً عَلَى

مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الْقَفَّالُ: لَا مَزِيدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ لِأَنَّ فِيهِ كِفَايَةً لِمَنْ قَنِعَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَجِبُ الْأُدْمُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُعْطِيهَا اللَّحْمَ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أَوْجَبْنَا عَلَى الْمُوسِرِ اللَّحْمَ كُلَّ يَوْمٍ يَلْزَمُهُ الْأُدْمُ أَيْضًا لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا غَدَاءً، وَالْآخَرُ عَشَاءً عَلَى الْعَادَةِ. فَرْعٌ لَوْ تَبَرَّمَتْ بِالْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْأُدْمِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ الزَّوْجَ إِبْدَالُهُ، إِذْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ وَتُبْدِلُ هِيَ إِنْ شَاءَتْ. فَرْعٌ فِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ أَنَّهَا لَوْ صَرَفَتْ شَيْئًا مِنَ الْأُدْمِ إِلَى الْقُوتِ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ أَبْدَلَتِ الْجِنْسَ الَّذِي قَبَضَتْهُ مِنَ الْأُدْمِ بِجِنْسٍ آخَرَ، جَازَ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِلزَّوْجِ، وَقِيلَ: لَهُ الْمَنْعُ مِنْ إِبْدَالِ الْأَشْرَفِ بِالْأَخَسِّ. فَرْعٌ لَوْ كَانَتْ تَقْنَعُ بِالْخُبْزِ، وَلَا تَأْكُلُ الْأُدْمَ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مِنْهُ، كَمَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الطَّعَامِ بِأَنْ لَا تَأْكُلَ بَعْضَهُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْمُجَوِّزِ لِلزَّوْجِ مَنْعَهَا مِنْ إِبْدَالِ الْأَشْرَفِ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَرْكِ التَّأَدُّمِ. فَرْعٌ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ آلَاتُ الطَّبْخِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، كَالْكُوزِ وَالْجَرَّةِ وَالْقِدْرِ وَالْمِغْرَفَةِ وَالْقَصْعَةِ وَنَحْوِهَا، وَيَكْفِي كَوْنُهَا مِنْ خَشَبٍ، أَوْ حَجَرٍ،

أَوْ خَزَفٍ. قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُزَادَ فِي الْجِنْسِ عَلَى ذَلِكَ، وَيُقَالُ: الزِّيَادَةُ مِنْ رُعُونَاتِ الْأَنْفُسِ، وَيَجِبُ أَنْ يَجِبَ لِلشَّرِيفَةِ الظُّرُوفُ النُّحَاسِيَّةُ لِلْعَادَةِ. الْوَاجِبُ الثَّالِثُ: الْخَادِمُ. النِّسَاءُ صِنْفَانِ، صِنْفٌ لَا يَخْدِمْنَ أَنْفُسِهِنَّ فِي عَادَةِ الْبَلَدَ، بَلْ لَهُنَّ مَنْ يَخْدِمُهُنَّ، فَمَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ، فَعَلَى الزَّوْجِ إِخْدَامُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ فِي وُجُوبِ الْخَادِمِ قَوْلَانِ، وَسَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْإِخْدَامِ كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا أَوْ مُوسِرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ عَبْدًا، وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ أَبِيهَا. فَلَوِ ارْتَفَعَتْ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الزَّوْجِ الْخَادِمِ، لَمْ يَجِبْ، صَرَّحَ بِهِ فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ. وَالْوَاجِبُ خَادِمٌ وَاحِدٌ وَإِنِ ارْتَفَعَتْ مَرْتَبَتُهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ تَمْلِيكُهَا جَارِيَةً، بَلِ الْوَاجِبُ إِخْدَامُهَا بِحُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ مُسْتَأْجَرَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَنْ صَحِبَتْهَا مِنْ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْخَادِمِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا، أَوْ مَحْرَمًا لَهَا، وَفِي مَمْلُوكِهَا وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ اخْتِلَافٌ، وَفِي الذِّمِّيَّةِ وَجْهَانِ، لِأَنَّ النَّفْسَ تَعَافُ اسْتِخْدَامَهَا، ثُمَّ إِنْ أَخْدَمَهَا بِمُسْتَأْجَرَةٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْأُجْرَةُ، وَإِنْ أَخْدَمَهَا مَمْلُوكَتَهُ، فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا بِالْمِلْكِ، وَإِنْ أَخْدَمَهَا بِكِفَايَةٍ مِنْ صُحْبَتِهَا مِنْ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ فَهَذَا مَوْضِعُ نَفَقَةِ الْخَادِمِ. وَالْقَوْلُ فِي جِنْسِ طَعَامِهَا كَهُوَ فِي جِنْسِ طَعَامِ الْمَخْدُومَةِ، وَأَمَّا قَدْرُهُ، فَقِيلَ: لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّوْجِ، بَلْ يَجِبُ مُدٌّ مُطْلَقًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ، فَعَلَى الْمُعْسِرِ مُدٌّ، وَالْمُوسِرِ مُدٌّ وَثُلُثٌ، وَالْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مُدٌّ وَثُلُثٌ، وَقِيلَ: مُدٌّ وَسُدُسٌ. وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْخَادِمِ الْأُدْمَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا وَيُكْتَفَى بِفَضْلِ الْمَخْدُومَةِ. وَالصَّحِيحُ: نَعَمْ. فَعَلَى هَذَا جِنْسُهُ جِنْسُ أُدْمِ الْمَخْدُومَةِ، وَفِي نَوْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا كَالْمَخْدُومَةِ، وَأَصَحُّهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ دُونَ نَوْعِ أُدْمِ الْمَخْدُومَةِ، وَطَرَدَ الْوَجْهَانِ فِي نَوْعِ

الطَّعَامِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْخَادِمِ اللَّحْمَ وَجْهَانِ، ثُمَّ قُدِّرَ أُدْمُهَا بِحَسَبِ الطَّعَامِ. فَرْعٌ قَالَتْ: أَنَا أَخْدِمُ نَفْسِي، وَطَلَبَتِ الْأُجْرَةَ، أَوْ نَفَقَةَ الْخَادِمِ، لَا يَلْزَمُهُ، وَأَشَارَ الْغَزَالِيُّ إِلَى خِلَافٍ فِيهِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ، لَوِ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الِاعْتِيَاضِ عَنِ النَّفَقَةِ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنَا أَخْدِمُهَا لِتَسْقُطَ مُؤْنَةُ الْخَادِمِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْهُ، وَتُعَيَّرُ بِهِ، وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ: لَهُ ذَلِكَ فِيمَا لَا يُسْتَحَى مِنْهُ كَغَسْلِ الثَّوْبِ، وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ، وَكَنْسِ الْبَيْتِ وَالطَّبْخِ، دُونَ مَا يَرْجِعُ إِلَى خِدْمَةِ نَفْسِهَا كَصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدِهَا، وَحَمْلِهِ إِلَى الْمُسْتَحَمِّ وَنَحْوِهِمَا وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ وَظِيفَةِ الْخَادِمِ. وَعَلَى هَذَا إِذَا تَوَلَّى بِنَفْسِهِ مَا لَا يُسْتَحَى مِنْهُ، فَقَدْ تَوَلَّى عَمَلَ الْخَادِمِ، فَهَلْ تَسْتَحِقُّ تَمَامَ النَّفَقَةِ، أَمْ شَطْرَهَا، أَمْ تُوَزَّعَ عَلَى الْأَفْعَالِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، وَهَذَا فِيهِ كَلَامَانِ، أَحَدُهُمَا: ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ كِفَايَتُهُ فِي حَقِّ الْمَخْدُومَةِ الشَّرِيفَةِ الطَّبْخُ وَالْغَسْلُ وَنَحْوُهُمَا دُونَ حَمْلِ الْمَاءِ إِلَيْهَا لِلشُّرْبِ وَحَمْلِهِ إِلَى الْمُسْتَحَمِّ، لِأَنَّ التَّرَفُّعَ عَنْ ذَلِكَ رُعُونَةً لَا عِبْرَةَ بِهَا. الثَّانِي: قَالَ الْبَغَوِيُّ يَعْنِي بِالْخِدْمَةِ مَا هُوَ حَاجَتُهَا، كَحَمْلِ الْمَاءِ إِلَى الْمُسْتَحَمِّ، وَصَبِّهِ عَلَى يَدِهَا، وَغَسْلِ خِرَقِ الْحَيْضِ وَنَحْوِهَا، فَأَمَّا الطَّبْخُ وَالْكَنْسُ وَالْغَسْلُ، فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَا عَلَى خَادِمِهَا، بَلْ هُوَ عَلَى الزَّوْجِ إِنْ شَاءَ، فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ بِغَيْرِهِ، فَالْكَلَامَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَظَّفُ النَّوْعَانِ عَلَى خَادِمِ الْمَرْأَةِ، وَالِاعْتِمَادُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. قُلْتُ: الَّذِي أَثْبَتَهُ الزَّازُ مِنَ الطَّبْخِ وَالْغَسْلِ وَنَحْوِهُمَا هُوَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْدُومَةِ، وَالَّذِي نَفَاهُ الْبَغَوِيُّ مِنْهُمَا هُوَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِ

كَغَسْلِ ثِيَابِهِ، وَالطَّبْخِ لِأَكْلِهِ وَنَحْوِهُ، وَالطَّرَفَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْجَمِيعِ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ تَنَازَعَا فِي تَعْيِينِ الْخَادِمِ الَّتِي تَخْدِمُهَا مِنْ جَوَارِيهِ أَوْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا فَهَلِ الْمُتَّبَعُ اخْتِيَارُ الْمَخْدُومَةِ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ لَهَا، وَقَدْ تَكُونُ الَّتِي عَيَّنَتْهَا أَرْفَقَ بِهَا وَأَسْرَعَ مُوَافَقَةً، أَمِ الْمُتَّبَعُ اخْتِيَارُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كِفَايَتُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الثَّانِي هَذَا فِي الِابْتِدَاءِ، أَمَّا إِذَا أَخْدَمُهَا خَادِمًا وَأَلِفَتْهَا، أَوْ كَانَتْ حَمَلَتْ مَعَهَا خَادِمًا، فَأَرَادَ إِبْدَالَهَا، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِقَطْعِ الْمَأْلُوفِ إِلَّا إِذَا ظَهَرَتْ رِيبَةٌ أَوْ خِيَانَةٌ، فَلَهُ الْإِبْدَالُ. فَرْعٌ لَوْ أَرَادَتِ اسْتِخْدَامَ ثَانِيَةٍ وَثَالِثَةٍ مِنْ مَالِهَا، فَلِلزَّوْجِ مَنْعُهُنَّ دُخُولَ دَارِهِ، وَكَذَا لَوْ حَمَلَتْ مَعَهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ دَارِهِ مَنْ زَادَ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ أَبَوَيْهَا مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا، وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ إِذَا اسْتَصْحَبَتْهُ. فَرْعٌ إِذَا كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ رَقِيقَةً، لَكِنَّهَا جَمِيلَةً تُخْدَمُ فِي الْعَادَةِ، لَمْ يَجِبْ إِخْدَامُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ لِنَقْصِهَا، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، ثَانِيهِمَا يَجِبُ لِلْعَادَةِ. فَرْعٌ الْمَبْتُوتَةُ الْحَامِلُ هَلْ تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ؟ وَجْهَانِ بَنَاهُمَا ابْنُ الْمَرْزُبَانِ عَلَى أَنَّ نَفَقَتَهَا لِلْحَمْلِ أَمْ لِلْحَامِلِ، إِنْ قُلْنَا: لِلْحَامِلِ، وَجَبَتْ وَإِلَّا فَلَا. الصِّنْفُ الثَّانِي مَنْ تَخْدِمُ نَفْسَهَا فِي الْعَادَةِ فَيُنْظَرُ إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى الْخِدْمَةِ لِزَمَانَةٍ أَوْ مَرَضٍ، لَزِمَ الزَّوْجَ إِقَامَةُ مَنْ يَخْدِمُهَا وَيُمَرِّضُهَا، وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ

الْكِفَايَةُ بِوَاحِدَةٍ، لَزِمَهُ الزِّيَادَةُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَسَوَاءٌ هَنَا كَانَتْ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، هَذَا مَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْمَرَضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمَرَضُ دَائِمًا، وَجَبَ الْإِخْدَامُ، وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَى هَذَا جَرَى الْآخِذُونَ عَنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ مُحْوِجٌ إِلَى الْخِدْمَةِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِخْدَامُ، وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَتَّخِذَ خَادِمًا مِنْ مَالِهَا فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ دُخُولِ دَارِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَكْفِيَهَا حَمْلَ الطَّعَامِ إِلَيْهَا، وَالْمَاءَ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَشِبْهَ ذَلِكَ. الْوَاجِبُ الرَّابِعُ: الْكِسْوَةُ، فَتَجِبُ كِسْوَتُهَا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَتَخْتَلِفُ بِطُولِ الْمَرْأَةِ وَقِصَرِهَا وَهُزَالِهَا وَسِمَنِهَا، وَبِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَدَدُ الْكِسْوَةِ بِيَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ، وَلَكِنَّهُمَا يُؤَثِّرَانِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ، وَفِي كَلَامِ السَّرَخْسِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ الْمَرُّوذِيِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْكِسْوَةِ حَالُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَلْبَسُ مِثْلَهُ مِثْلَهَا. وَأَمَّا عَدَدُ الْكِسْوَةِ، فَيَجِبُ فِي الصَّيْفِ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلَ وَخِمَارٌ وَمَا تَلْبَسُهُ فِي الرِّجْلِ مِنْ مُكَعَّبٍ أَوْ نَعْلٍ، وَفِي الشِّتَاءِ تُزَادُ جُبَّةٌ مَحْشُوَّةٌ، وَقَدْ يُقَامُ الْإِزَارُ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ، وَالْفَرْوُ مَقَامَ الْجُبَّةِ إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ لُبْسُهُمَا، كَذَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي، وَعَنِ الْمِنْهَاجِ لِلْجُوَيْنِيِّ أَنَّ السَّرَاوِيلَ لَا تَجِبُ فِي الصَّيْفِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي الشِّتَاءِ، وَفِي الْحَاوِي أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْقُرَى إِذَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ أَنْ لَا يَلْبَسْنَ فِي أَرْجُلِهِنَّ شَيْئًا فِي الْبُيُوتِ، لَمْ يَجِبْ لِأَرْجُلِهِنَّ شَيْءٌ. وَأَمَّا جِنْسُ الْكِسْوَةِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَكْسُوهَا الْمُوسِرُ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ لَيِّنِ الْبَصْرَةِ أَوِ الْكُوفَةِ، أَوْ وَسَطِ بَغْدَادَ، وَالْمُعْسِرُ مِنْ غَلِيظِهَا، وَالْمُتَوَسِّطُ مَا بَيْنَهُمَا، وَأَرَادَ الْمُتَّخَذَ مِنَ الْقُطْنِ، فَإِنْ جَرَتْ عَادَةُ الْبَلَدِ بِالْكِتَّانِ أَوِ الْخَزِّ أَوِ الْحَرِيرِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا عَنِ الشَّيْخِ أَبِي

مُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَأَصَحُّهُمَا اللُّزُومُ، وَتَفَاوَتَ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ فِي مَرَاتِبِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا ذَكَرَ عَلَى عَادَةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَكِنَّ لَوْ كَانَ عَادَةُ الْبَلَدِ لُبْسَ الثِّيَابِ الرَّقِيقَةِ كَالْقَصَبِ الَّذِي لَا يَصْلُحْ سَاتِرًا، وَلَا تَصِحُّ فِيهَا الصَّلَاةُ، لَمْ يُعْطِهَا مِنْهُ، لَكِنْ مِنَ الصَّفِيقِ الَّذِي يَقْرُبُ مِنْهُ فِي الْجَوْدَةِ كَالدَّيْبَقِيِّ وَالْكِتَّانِ الْمُرْتَفِعِ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَإِذَا لَمْ تَسْتَغْنِ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ بِالثِّيَابِ عَنِ الْوَقُودِ يَجِبُ مِنَ الْحَطَبِ أَوِ الْفَحْمِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. فَرْعٌ هَذَا الْمَذْكُورُ حُكْمُ لِبَاسِ الْبَدَنِ، وَأَمَّا الْفَرْشُ، فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا مَا تَفْرِشُهُ لِلْقُعُودِ عَلَيْهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّوْجِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَعَلَى الْمُوسِرِ طِنْفِسَةٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنِطْعٌ فِي الصَّيْفِ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ زِلِّيَّةٌ، وَعَلَى الْفَقِيرِ حَصِيرٌ فِي الصَّيْفِ وَلِبْدٌ فِي الشِّتَاءِ، وَتُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الطِّنْفِسَةُ وَالنِّطْعُ بَعْدَ بَسْطِ زِلِّيَّةٍ أَوْ حَصِيرٍ فَإِنَّ الطِّنْفِسَةَ وَالنِّطْعَ لَا يُبْسَطَانِ وَحْدَهُمَا، وَهَلْ عَلَيْهِ فِرَاشٌ تَنَامُ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا وَتَنَامُ عَلَى مَا يَفْرِشُهُ نَهَارًا، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ لِلْعَادَةِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ مُضَرَّبَةٌ وَثِيرَةٌ أَوْ قَطِيفَةٌ، وَيَجِبُ لَهَا مِخَدَّةٌ وَلِحَافٌ أَوْ كِسَاءٌ فِي الشِّتَاءِ، وَفِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ لِامْرَأَةِ الْمُوسِرِ مِنَ الْمُرْتَفِعِ، وَلِامْرَأَةِ الْمُعْسِرِ مِنَ النَّازِلِ، وَالْمُتَوَسِّطِ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ يَجِبُ أَيْضًا شِعَارٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْجُمْهُورُ، وَالْحُكْمُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَادَةِ نَوْعًا وَكَيْفِيَّةً حَتَّى قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي «الْبَحْرِ» : لَوْ كَانُوا

لَا يَعْتَادُونَ فِي الصَّيْفِ لِنَوْمِهِمْ غِطَاءً غَيْرَ لِبَاسِهِمْ، لَمْ يَلْزَمْ شَيْءٌ آخَرُ. فَرْعٌ تَجِبُ لِلْخَادِمِ الْكِسْوَةُ كَالنَّفَقَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَمِيصٍ، وَفِي السَّرَاوِيلِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَالرُّويَانِيِّ تَجِبُ، وَكَلَامُ الْجُمْهُورِ يَمِيلُ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَأُمًّا الْمِقْنَعَةُ، فَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ وَجُوبَهَا، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: تَجِبُ فِي الشِّتَاءِ وَكَذَا فِي الصَّيْفِ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، لَمْ تَجِبْ إِنْ كَانَتْ عَادَةُ إِمَاءِ الْبَلَدِ كَشْفَ الرَّأْسِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجِبُ لِلْخَادِمِ فِي الشِّتَاءِ جُبَّةٌ أَوْ فَرْوٌ، وَيَجِبُ الْخُفُّ لِلْخَادِمِ دُونَ الْمَخْدُومَةِ، وَيَجِبُ لَهَا مَا تَلْتَحِفُ بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ، وَأَمَّا مَا يُفْرَشُ وَتَنَامُ فِيهِ، فَقَدْ قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ تَجْلِسُ عَلَيْهِ كَبَارِيَةٍ فِي الصَّيْفِ، وَقِطْعَةِ لِبْدٍ فِي الشِّتَاءِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مِخَدَّةٍ وَشَيْءٍ تَتَغَطَّى بِهِ فِي اللَّيْلِ مِنْ كِسَاءٍ وَنَحْوِهِ، قَالَ فِي «الْبَحْرِ» : وَلَا يَجِبُ لَهَا الْفِرَاشُ، بَلْ يُكْتَفَى بِالْوِسَادَةِ وَالْكِسَاءِ، وَمَا وَجَبَ يَجِبُ مِمَّا يَلِيقُ بِالْخَادِمِ جِنْسًا وَنَوْعًا، وَيَكُونُ دُونَ كِسْوَةِ الْمَخْدُومَةِ. فَرْعٌ قِيَاسُ مَسَائِلِ الْبَابِ أَنَّهُ يَجِبُ زِيَادَةٌ عَلَى الْجُبَّةِ الْوَاحِدَةِ حَيْثُ يَشْتَدُّ الْبَرْدُ وَلَا تَكْفِي الْوَاحِدَةُ. الْوَاجِبُ الْخَامِسُ: آلَاتُ التَّنَظُّفِ، فَعَلَى الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ مَا تَتَنَظَّفُ بِهِ، وَتُزِيلُ الْأَوْسَاخَ الَّتِي تُؤْذِيهَا وَتُؤْذِي بِهَا كَالْمُشْطِ وَالدُّهْنِ، وَمَا تَغْسِلُ بِهِ الرَّأْسَ مِنْ سِدْرٍ أَوْ خَطْمِيِّ أَوْ طِينٍ عَلَى عَادَةِ الْبُقْعَةِ، وَالرُّجُوعُ

فِي قَدْرِهَا إِلَى الْعَادَةِ، وَيَجِبُ مِنَ الدُّهْنِ مَا يُعْتَادُ اسْتِعْمَالُهُ غَالِبًا كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِذَا اعْتَادُوا التَّطَيُّبَ بِالْوِرْدِ، أَوِ الْبَنَفْسَجِ، وَجَبَ الْمُطَيِّبُ، وَأَبْدَى الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ احْتِمَالًا فِي الدُّهْنِ إِذَا قَالَ الزَّوْجُ: هُوَ لِلتَّجَمُّلِ وَأَنَا لَا أُرِيدُهُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ، وَأَمَّا مَا يُقْصَدُ لِلتَّلَذُّذِ وَالِاسْتِمْتَاعِ كَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، فَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ، بَلْ ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ شَاءَ هَيَّأَهُ لَهَا، وَإِذَا هَيَّأَ لَهَا أَسْبَابَ الْخِضَابِ، لَزِمَهَا الِاخْتِضَابُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الطِّيبُ، وَلَا يَجِبْ إِلَّا مَا يُقْصَدُ بِهِ قَطْعُ السُّهُوكَةِ وَيَجُبُّ الْمَرْتَكَ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ لِدَفْعِ الصُّنَانِ إِذَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ تَعَاطِي الثَّوْمِ، وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَنَاوَلِ السُّمُومِ بِلَا خِلَافٍ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ الْمَنْعُ، وَهَلْ لَهُ مَنْعُهَا مَنْ أَكَلِ مَا يُخَافُ مِنْهُ حُدُوثُ مَرَضٍ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. فَرْعٌ لَا تَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ الدَّوَاءَ لِلْمَرَضِ، وَلَا أُجْرَةَ الطَّبِيبِ وَالْفَصَّادِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لِحِفْظِ الْأَصْلِ، فَكَانَتْ عَلَيْهَا كَمَا يَكُونُ عَلَى الْمُكْرِي مَا يَحْفَظُ الْعَيْنَ الْمُكْرَاةَ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ الطَّعَامُ وَالْأُدْمُ فِي أَيَّامِ الْمَرَضِ، وَلَهَا صَرْفُ مَا تَأْخُذُهُ إِلَى الدَّوَاءِ وَنَحْوِهِ.

فَرْعٌ هَلْ عَلَى الزَّوْجِ أُجْرَةُ الْحَمَّامِ لَهَا؟ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا تَجِبُ إِلَّا إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ، وَعَسُرَ الْغَسْلُ إِلَّا فِي الْحَمَّامِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَأَصَحُّهُمَا - وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا - الْوُجُوبُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ لَا يَعْتَادُونَ دُخُولَهُ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا تَجِبُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً. فَرْعٌ إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى شِرَاءِ الْمَاءِ لِلْغَسْلِ إِنْ كَانَتْ تَغْتَسِلُ مِنْ الِاحْتِلَامِ، لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَ قَطْعًا وَكَذَا إِنِ اغْتَسَلَتْ عَنِ الْحَيْضِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنِ اغْتَسَلَتْ عَنِ الْجِمَاعِ وَالنِّفَاسِ، لَزِمَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ، وَيُنْظَرُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِي مَاءِ الْوُضُوءِ إِلَى أَنَّ السَّبَبَ مِنْهُ كَاللَّمْسِ أَمْ لَا؟ فَرْعٌ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ زَوْجَتِهِ، نَذَرَتِ التَّضْحِيَةَ أَمْ لَا. فَرْعٌ لَا يَجِبُ لِلْخَادِمَةِ آلَاتُ التَّنَظُّفِ، لِأَنَّهَا لَا تَتَنَظَّفُ لَهُ بِخِلَافِ الْمَخْدُومَةِ، بَلِ اللَّائِقُ بِالْخَادِمَةِ أَنْ تَكُونَ شَعِثَةً لِئَلَّا تَمْتَدَّ إِلَيْهَا الْعَيْنُ، لَكِنْ لَوْ كَثُرَ الْوَسَخُ، وَتَأَذَّتْ بِالْهَوَامِّ، لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا مَا تَتَرَفَّهُ بِهِ، كَذَا اسْتَدْرَكَهُ الْقَفَّالُ وَاسْتَحْسَنُوهُ، وَأَطْلَقَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْطِي الْخَادِمَةَ الدُّهْنَ وَالْمُشْطَ.

فَرْعٌ فِي وُجُوبِ تَجْهِيزِ الزَّوْجَةِ الْمَيِّتَةِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي الْجَنَائِزِ، وَيَجْرِيَانِ فِي تَجْهِيزِ الْخَادِمَةِ، وَرَأَى الْمُتَوَلِّي تَرْتِيبَهُمَا عَلَى الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ عَلَقَةَ النِّكَاحِ تَبْقَى فِي الْغُسْلِ وَالْإِرْثِ، وَكَذَا فِي التَّجْهِيزِ. الْوَاجِبُ السَّادِسُ: الْإِسْكَانُ، فَيَجِبُ لَهَا مَسْكَنٌ يَلِيقُ بِهَا فِي الْعَادَةِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يَلِيقُ بِالزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا، وَلَهُ إِسْكَانُهَا فِي الْمَمْلُوكِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَعَارِ بِلَا خِلَافٍ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ، فِي هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ هِيَ ضَرْبَانِ: الْأَوَّلُ: مَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِاسْتِهْلَاكِهِ كَالطَّعَامِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يَجِبُ التَّمْلِيكُ فِي الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ، وَمَا يُسْتَهْلَكُ مِنْ آلَةِ التَّنَظُّفِ كَالدُّهْنِ وَالطِّينِ، وَإِذَا أَخَذَتْ نَفَقَتَهَا فَلَهَا التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْإِبْدَالِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةُ وَغَيْرِهَا، لَكِنْ لَوْ قَتَّرَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِمَا يَضُرُّهَا فَلَهُ مَنْعُهَا. وَنَفَقَةُ الْخَادِمِ يَجِبُ فِيهَا التَّمْلِيكُ أَيْضًا، قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مَوْضِعَ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْخَادِمِ إِذَا أَخْدَمَهَا بِمَمْلُوكَتِهَا أَوْ بِحُرَّةٍ غَيْرِ مُسْتَأْجَرَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَتَهَا، فَيُمَلِّكُهَا نَفَقَتَهَا كَمَا يُمَلِّكُهَا نَفَقَةَ نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُمَلِّكُهَا نَفَقَتَهَا كَمَا يُمَلِّكُ الزَّوْجَةَ، وَتَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ الْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ لِتُوَفِّرَ حَقَّ الْخِدْمَةِ، وَيَجُوزَ أَنْ يُقَالَ: يُمَلِّكُ الزَّوْجَةَ لِتَدْفَعَهَا إِلَى الْخَادِمَةِ وَعَلَى هَذَا لَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي الْمَأْخُوذِ، وَتَكْفِي مُؤْنَةَ الْخَادِمَةِ مِنْ مَالِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قَبَضَتِ الزَّوْجَةُ النَّفَقَةَ، فَتَلَفَتْ أَوْ سُرِقَتْ، لَا يَلْزَمُهُ إِبْدَالُهَا.

الثَّالِثَةُ: الَّذِي يَجِبُ تَمْلِيكُهُ مِنَ الطَّعَامِ الْحَبُّ كَمَا فِي الْكَفَّارَةِ لَا الْخُبْزُ وَالدَّقِيقُ، فَلَوْ طَلَبَتْ غَيْرَ الْحَبِّ، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ بَذَلَ غَيْرَهُ، لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُهُ، وَهَلْ عَلَيْهِ مَعَ الْحَبِّ مُؤْنَةُ طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ؟ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: لَا كَالْكَفَّارَةِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ. وَالثَّانِي: إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ عَادَتُهُمُ الطَّحْنُ وَالْخَبْزُ بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا، وَإِلَّا فَنَعَمْ، وَبِهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَأَصَحُّهَا: الْوُجُوبُ مُطْلَقًا، لِأَنَّهَا فِي حَبْسِهِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ، وَعَلَى هَذَا تَجِبُ مُؤْنَةُ طَبْخِ اللَّحْمِ وَمَا يُطْبَخُ بِهِ. وَلَوْ بَاعَتِ الْحَبَّ، أَوْ أَكَلَتْهُ حَبًّا، فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا مُؤْنَةَ إِصْلَاحِهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ. الرَّابِعَةُ: لَيْسَ لَهُ تَكْلِيفُهَا الْأَكْلَ مَعَهُ لَا مَعَ التَّمْلِيكِ وَلَا دُونَهُ. الْخَامِسَةُ: لَوْ كَانَتْ تَأْكُلُ مَعَهُ عَلَى الْعَادَةِ، فَفِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ، أَقْيَسُهُمَا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ فِي «الْبَحْرِ» : لَا تَسْقُطُ وَإِنْ جَرَيَا عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ وَتَطَوَّعَ بِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: تَسْقُطُ فَإِنَّهُ اللَّائِقُ بِالْبَابِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُهُمَا لِجَرَيَانِ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي الْأَعْصَارِ، وَاكْتِفَاءُ الزَّوْجَاتِ بِهِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ طَلَبَتِ النَّفَقَةَ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَاسْتُنْكِرَ، وَبَنَى بَعْضُهُمْ هَذَا عَلَى الْمُعَاطَاةِ، إِنْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ عَنِ النَّفَقَةِ، وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَيْهَا غَرَامَةُ مَا أَكَلَتْ، ثُمَّ الْوَجْهَانِ فِي الزَّوْجَةِ الْبَالِغَةِ، أَوْ صَغِيرَةٍ أَكَلَتْ مَعَهُ بِإِذْنِ الْقَيِّمِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الْقَيِّمُ، فَالزَّوْجُ مُتَطَوِّعٌ، وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا بِلَا خِلَافٍ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ سُقُوطُ نَفَقَتِهَا إِذَا أَكَلَتْ مَعَهُ بِرِضَاهَا وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» وَعَلَيْهِ جَرَى النَّاسُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ وَلَا إِنْكَارٍ وَلَا خِلَافٍ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ امْرَأَةً طَالَبَتْ بِنَفَقَةٍ بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَتْ لَا تَسْقُطُ مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِطْبَاقِهِمْ عَلَيْهِ لَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ، وَاقْتَصَّهُ مِنْ تَرِكَةِ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُوَفِّهِ وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ: لَوْ تَرَاضَيَا بِاعْتِيَاضِهَا عَنِ النَّفَقَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ ثِيَابًا وَنَحْوَهَا، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوِ اعْتَاضَتْ خُبْزًا أَوْ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُ رِبًا، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِالْجَوَازِ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْحَبَّ وَإِصْلَاحَهُ وَقَدْ فَعَلَهُ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ نَفَقَةِ زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَلَا بَيْعُ نَفَقَةٍ حَالَّةٍ لِغَيْرِ الزَّوْجِ قَبْلَ قَبْضِهَا قَطْعًا. السَّابِعَةُ: النَّفَقَةُ تُسْتَحَقُّ يَوْمًا فَيَوْمًا وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهَا إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَفِي «الْمُهَذَّبِ» إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَلَوْ قَبَضَتْ نَفَقَةَ يَوْمٍ، ثُمَّ مَاتَتْ، أَوْ أَبَانَهَا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ، بَلِ الْمَدْفُوعُ لِوَرَثَتِهَا لِوُجُوبِهِ بِأَوَّلِ النَّهَارِ. وَلَوْ مَاتَتْ أَوْ أَبَانَهَا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَلَمْ تَكُنْ قَبَضَتْ نَفَقَةَ يَوْمِهَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَلَوْ نَشَزَتْ فِي النَّهَارِ، فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ قَطْعًا، وَلَوْ قَبَضَتْ نَفَقَةَ أَيَّامٍ أَوْ شَهْرٍ فَهَلْ تَمْلِكُ الزِّيَادَةَ عَلَى نَفَقَةِ الْيَوْمِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا لِلشَّكِّ فِي اسْتِمْرَارِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَالْأُجْرَةِ وَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ نَشَزَتْ، اسْتَرَدَّ نَفَقَةَ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ، أَوْ أَبَانَهَا، اسْتَرَدَّ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ، وَقِيلَ: لَا، لِأَنَّهَا صِلَةٌ مَقْبُوضَةٌ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَمْلِكُ إِلَّا نَفَقَةَ يَوْمٍ، فَكُلَّمَا دَخَلَ يَوْمٌ مَلَكَتْ نَفَقَتَهُ. الثَّامِنَةُ: نَفَقَةُ الْخَادِمِ فِي وَقْتِ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ، وَفِي اسْتِرْدَادِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهَا كَنَفَقَةِ الْمَخْدُومَةِ بِلَا فَرْقٍ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا تَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالْكِسْوَةِ وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ تَمْلِيكُهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ، بَلْ يَكُونُ إِمْتَاعًا كَالْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ. وَأَصَحُّهُمَا وَيُنْسَبُ إِلَى النَّصِّ: يَجِبُ تَمْلِيكُهَا كَالنَّفَقَةِ وَالْأُدْمِ وَكِسْوَةِ الْكَفَّارَةِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي كِسْوَةِ الْخَادِمِ وَطَرَدَهُ الْبَغَوِيُّ فِي كُلِّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالْفُرُشِ وَظُرُوفِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمُشْطِ، وَأَلْحَقَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» الْفُرُشَ وَالظُّرُوفَ بِالْمَسْكَنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِسْوَةَ تُدْفَعُ إِلَيْهَا فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تُجَدَّدُ كِسْوَةُ الصَّيْفِ لِلصَّيْفِ، وَالشِّتَاءِ لِلشِّتَاءِ، وَأَمَّا مَا يَبْقَى سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ كَالْفُرُشِ وَالْبُسُطِ وَالْمُشْطِ، فَإِنَّمَا تُجَدَّدُ فِي وَقْتِ تَجْدِيدِهِ، وَكَذَلِكَ جُبَّةُ الْخَزِّ وَالْإِبْرَيْسَمِ لَا يُجَدَّدُ فِي كُلِّ شَتْوَةٍ، وَعَلَيْهِ تَطْرِيَتُهَا عَلَى الْعَادَةِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ تَمْلِيكِ الْكِسْوَةِ صُوَرٌ: مِنْهَا: لَوْ سَلَّمَ إِلَيْهَا كِسْوَةَ الصَّيْفِ، فَتَلَفَتَ فِي يَدِهَا قَبْلَ مُضِيِّ الصَّيْفِ فَلَا تَقْصِيرَ، لَزِمَهُ الْإِبْدَالُ إِنْ قُلْنَا: الْكِسْوَةُ إِمْتَاعٌ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ أَتْلَفَتْهَا، أَوْ تَمَزَّقَتْ قَبْلَ أَوَانِ التَّمَزُّقِ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهَا فِيهَا، وَتَحَامُلِهَا عَلَيْهَا، فَإِنْ قُلْنَا: الْكِسْوَةُ تَمْلِيكٌ، لَمْ يَلْزَمِ الْإِبْدَالُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِمْتَاعٌ، لَزِمَهَا قِيمَةُ مَا أَتْلَفَتْ، وَلَزِمَهُ الْإِبْدَالُ. وَمِنْهَا: لَوْ سَلَّمَ إِلَيْهَا كِسْوَةَ الصَّيْفِ، فَمَاتَتْ فِي أَثْنَائِهِ، أَوْ مَاتَ الزَّوْجُ، أَوْ أَبَانَهَا، فَلَهُ اسْتِرْدَادُهَا إِنْ قُلْنَا: إِمْتَاعٌ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَمِنْهَا: إِذَا لَمْ يَكْسُهَا مُدَّةً، صَارَتِ الْكِسْوَةُ دَيْنًا عَلَيْهِ إِنْ قُلْنَا بِالتَّمْلِيكِ، وَإِلَّا، فَلَا. وَمِنْهَا: إِنْ قُلْنَا: إِمْتَاعٌ، لَمْ يَجُزْ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْقَرِيبِ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ نَفَقَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: تَمْلِيكٌ، فَفِي الِاعْتِيَاضِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الِاعْتِيَاضِ عَنِ النَّفَقَةِ.

وَمِنْهَا: لَوْ أَعْطَاهَا كِسْوَةَ الصَّيْفِ فَمَضَى الصَّيْفُ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ لِرِفْقِهَا بِهَا، فَعَلَيْهِ كِسْوَةُ الشِّتَاءِ، إِنْ قُلْنَا بِالتَّمْلِيكِ، وَعَلَى الْإِمْتَاعِ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَا يُزَادُ لِلشِّتَاءِ حَتَّى يَبْلَى مَا عِنْدَهَا. وَمِنْهَا: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَدْفُوعَ مِنْهَا، وَيُعْطِيَهَا غَيْرَهُ إِنْ قُلْنَا بِالْإِمْتَاعِ، وَإِلَّا فَلَا إِلَّا بِرِضَاهَا. وَمِنْهَا: لَوْ أَلْبَسَهَا ثِيَابًا مُسْتَعَارَةً، أَوْ مُسْتَأْجَرَةً، لَمْ يَجُزْ عَلَى قَوْلِنَا تَمْلِيكٌ، وَيَجُوزُ عَلَى الْإِمْتَاعِ، فَإِنْ تَلَفَ الْمُسْتَعَارُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الزَّوْجِ. وَمِنْهَا: لَيْسَ بَيْعُ الْمَقْبُوضِ إِنْ قُلْنَا إِمْتَاعٌ، وَيَجُوزُ عَلَى التَّمْلِيكِ كَالْقُوتِ، فَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ دُونَ الْمَقْبُوضِ كَمَا فِي النَّفَقَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّ لِلزَّوْجِ غَرَضًا فِي تَجَمُّلِهَا. فَرْعٌ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا ثَمَنَ الْكِسْوَةِ، بَلْ يَجِبُ تَسْلِيمُ الثِّيَابِ، وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ الْخِيَاطَةِ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي مُسْقِطَاتِ النَّفَقَةِ لِلْبَابِ مُقَدِّمَةٌ وَأَصْلٌ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ تَسْلِيمِ النَّفَقَةِ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ، وَالْكِسْوَةُ أَوَّلُ كُلِّ صَيْفٍ وَشِتَاءٍ كَمَا سَبَقَ، وَذَلِكَ بَعْدَ حُصُولِ التَّمْكِينِ، وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ، فَلِلنَّفَقَةِ تَعَلُّقٌ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ، فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَلَكِنْ تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ، وَفِيمَا تَجِبُ بِهِ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ: تَجِبُ بِالْعَقْدِ كَالْمَهْرِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّمْكِينِ بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا لِلْمَرِيضَةِ وَالرَّتْقَاءِ، لَكِنْ لَوْ نَشَزَتْ سَقَطَتْ فَالْعَقْدُ مُوجِبٌ، وَالنُّشُوزُ مُسْقِطٌ، وَإِذَا حَصَلَ التَّمْكِينُ، اسْتَقَرَّ الْوَاجِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا كَالْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ، إِلَّا أَنَّ الْأُجْرَةَ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا بِالْعَقْدِ جُمْلَةً لِلْعِلْمِ بِهَا، وَالنَّفَقَةُ غَيْرُ مَعْلُومَةُ الْجُمْلَةِ، وَالْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ، بَلْ بِالتَّمْكِينِ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَلَوِ اخْتَلَفَا، فَقَالَتْ: مُكِّنْتُ مِنْ وَقْتِ كَذَا. وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ وَلَا بَيِّنَةَ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَإِلَّا فَقَوْلُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ قَطْعًا. وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى التَّمْكِينِ، وَقَالَ: أَدَّيْتُ نَفَقَةَ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَأَنْكَرَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا عِنْدَهَا أَمْ غَائِبًا، وَلَوْ لَمْ يُطَالِبْهَا الزَّوْجُ بِالزِّفَافِ، وَلَمْ تَمْتَنِعْ هِيَ مِنْهُ، وَلَا عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَمَضَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، وَجَبَتْ نَفَقَةُ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَلَا. وَلَوْ تَوَافَقَا عَلَى التَّمْكِينِ، وَادَّعَى أَنَّهَا بَعْدَهُ نَشَزَتْ، وَأَنْكَرَتْ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا

فصل

إِلَى الزَّوْجِ، فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ مِنْ وَقْتِ التَّسْلِيمِ. وَلَوْ بَعَثَتْ إِلَيْهِ: إِنِّي مُسَلِّمَةٌ نَفْسِي، فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ مِنْ حِينِ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا، رَفَعَتِ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ، وَأَظْهَرَتْ لَهُ التَّسْلِيمَ وَالطَّاعَةَ، لِيَكْتُبَ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ الزَّوْجِ، فَيُحْضِرُهُ، وَيُعْلِمُهُ الْحَالَ، فَإِنْ سَارَ إِلَيْهَا عِنْدَ إِعْلَامِهِ، أَوْ بَعَثَ إِلَيْهَا وَكِيلَهُ فَتَسَلَّمَهَا، وَجَبَتِ النَّفَقَةُ مِنْ حِينِ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَمَضَى زَمَنُ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، فَرَضَ الْقَاضِي نَفَقَتَهَا فِي مَالِهِ، وَجُعِلَ كَالْمُتَسَلِّمِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَهُ، كَتَبَ الْحَاكِمُ إِلَى حُكَّامِ الْبِلَادِ الَّتِي تَرِدُهَا الْقَوَافِلُ مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ فِي الْعَادَةِ لِيُطْلَبَ وَيُنَادَى بِاسْمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ، فَرَضَ الْقَاضِي نَفَقَتَهَا فِي مَالِهِ الْحَاضِرِ، وَأُخِذَ مِنْهَا كَفِيلًا بِمَا يَصْرِفُ إِلَيْهَا لِاحْتِمَالِ وَفَاتِهِ وَطَلَاقِهِ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي وَلَا لِكِتَابِهِ، وَقَالَ: تَجِبُ النَّفَقَةُ مِنْ حِينِ تَصِلُهُ، وَيَمْضِي زَمَنُ إِمْكَانِ الْقُدُومِ عَلَيْهَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَعْرِضْ نَفْسَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْحَاضِرِ، أَوِ الْغَائِبِ، وَلَا بَعَثَتْ إِلَيْهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ تَفْرِيعًا عَلَى الْجَدِيدِ، وَلَا تُؤَثِّرُ غَيْبَةُ الزَّوْجِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ مَا دَامَتْ مُقِيمَةً عَلَى الطَّاعَةِ. وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً، فَأَمَّا الْمُرَاهِقَةُ وَالْمَجْنُونَةُ، فَلَا اعْتِبَارَ بِعَرْضِهِمَا، وَبَذْلِهِمَا الطَّاعَةَ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِيهِمَا بِعَرْضِ الْوَلِيِّ. وَلَوْ سَلَّمَتِ الْمُرَاهِقَةُ نَفْسَهَا، فَتَسَلَّمَهَا الزَّوْجُ، وَنَقَلَهَا إِلَى دَارِهِ، وَجَبَتْ النَّفَقَةُ، وَكَذَا لَوْ سَلَّمَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا إِلَى الزَّوْجِ الْمُرَاهِقِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ، وَجَبَتِ النَّفَقَةُ بِخِلَافِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُرَاهِقِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ أَنْ تَصِيرَ الْيَدُ لِلْمُشْتَرِي، وَالْيَدُ فِي عَقْدِ الْمُرَاهِقِ لِلْوَلِيِّ لَا لَهُ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَصْلُ فَبَيَانُ مَوَانِعِ النَّفَقَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: النُّشُوزُ، فَلَا نَفَقَةَ لِنَاشِزَةٍ، وَإِنْ قَدَرَ الزَّوْجُ عَلَى رَدِّهَا

إِلَى الطَّاعَةِ قَهْرًا، فَلَوْ نَشَزَتْ بَعْضَ النَّهَارِ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ لَهَا. وَالثَّانِي: لَهَا بِقِسْطِ زَمَنِ الطَّاعَةِ إِلَّا أَنْ تُسَلِّمَ لَيْلًا وَتَنْشُزَ نَهَارًا، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَلَهَا نِصْفُ النَّفَقَةِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى طُولِ اللَّيْلِ وَقِصَرِهِ، وَبِالْوَجْهِ الثَّانِي قَطَعَ السَّرَخْسِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَوْفَقُ لِمَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا سَلَّمَ السَّيِّدُ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ لَيْلًا فَقَطْ، وَنُشُوزُ الْمُرَاهِقَةِ وَالْمَجْنُونَةِ كَالْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ. فَرْعٌ امْتِنَاعُهَا عَنِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالزِّفَافِ بِغَيْرِ عُذْرٍ نُشُوزٌ، فَلَوْ قَالَتْ: سَلِّمِ الْمَهْرَ لِأُسَلِّمَ نَفْسِي، فَإِنْ جَرَى دُخُولٌ، أَوْ كَانَ الْمَهْرُ مُؤَجَّلًا، فَهِيَ نَاشِزَةٌ، إِذْ لَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجْرِ دُخُولٌ وَالْمَهْرُ حَالٌّ، فَلَهَا النَّفَقَةُ مِنْ حِينِئِذٍ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ. وَلَوْ حَلَّ الْمُؤَجَّلَ، فَهَلْ هُوَ كَالْمُؤَجَّلِ أَمْ كَالْحَالِّ؟ وَجْهَانِ وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُثْبِتْ هَذَا الِامْتِنَاعَ. وَلَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً، أَوْ كَانَ بِهَا قَرْحٌ يَضُرُّهَا الْوَطْءُ، فَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي الِامْتِنَاعِ عَنِ الْوَطْءِ، وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ. وَكَذَا لَوْ كَانَ الرَّجُلُ عَبْلًا، وَهُوَ كَبِيرُ الذَّكَرِ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْقَرْحَ الْمَانِعَ مِنَ الْوَطْءِ، فَلَهَا إِثْبَاتُهُ بِقَوْلِ النِّسْوَةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ يَسْقُطُ بِهَا حَقُّ الزَّوْجِ، أَمْ تَكْفِي امْرَأَةٌ وَيُجْعَلُ إِخْبَارًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ، وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَكَذَا لَوْ أَنْكَرَ الضَّرَرَ بِسَبَبِ الْعَبَالَةِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى النِّسْوَةِ وَلَا بَأْسَ بِنَظَرِهِنَّ إِلَيْهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا لِيَشْهَدْنَ، وَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنَ الزِّفَافِ بِعُذْرِ عَبَالَتِهِ كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّدَاقِ، وَلَهَا الِامْتِنَاعُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ، لِأَنَّهُ مُتَوَقَّعُ الزَّوَالِ.

فَرْعٌ لَوْ قَالَتْ: لَا أُمَكِّنُ إِلَّا فِي بَيْتِي، أَوْ فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ بَلَدِ كَذَا، فَهِيَ نَاشِزَةٌ. فَرْعٌ هَرَبُهَا وَخُرُوجُهَا مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِ وَسَفَرُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ نُشُوزٌ، وَيُسْتَثْنَى عَنِ الْخُرُوجِ مَا إِذَا أَشْرَفَ الْمَنْزِلُ عَلَى الِانْهِدَامِ، أَوْ كَانَ الْمَنْزِلُ لِغَيْرِ الزَّوْجِ، فَأُخْرِجَتْ، فَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَوْ وَحْدَهَا فِي حَاجَتِهِ، وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا، فَإِنْ كَانَتْ وَحْدَهَا لِحَاجَتِهَا، فَلَا نَفَقَةَ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ: لَا نَفَقَةَ قَطْعًا، وَعَنِ ابْنِ الْوَكِيلِ طَرَدَ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا كَانَتْ مَعَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهَا، وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْوُجُوبِ. فَرْعٌ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلْمَرِيضَةِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْمُضْنَاةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ، سَوَاءٌ حَدَثَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، أَمْ قَارَنَتْهُ، لِأَنَّهَا أَعْذَارٌ دَائِمَةٌ، وَقَدْ سَلَّمَتِ التَّسْلِيمَ الْمُمْكِنَ، وَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَكَذَا حُكْمُ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ غُصِبَتْ، فَلَا نَفَقَةَ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْذُورَةً لِخُرُوجِهَا عَنْ قَبْضَتِهِ وَفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ بِخِلَافِ الْمَرِيضَةِ. قُلْتُ: وَلَوْ حُبِسَتْ ظُلْمًا أَوْ بِحَقٍّ، فَلَا نَفَقَةَ كَمَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، فَاعْتَدَّتْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ نَشَزَتْ، فَغَابَ الزَّوْجُ، فَعَادَتْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَهَلْ يَعُودُ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ؟ وَجْهَانِ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، فَعَلَى هَذَا يُرْفَعُ الْأَمْرُ إِلَى الْقَاضِي، لِيَقْضِيَ بِطَاعَتِهَا وَيُخْبِرَ الزَّوْجَ بِذَلِكَ، فَإِذَا عَادَ إِلَيْهَا،

أَوْ بَعَثَ وَكِيلَهُ، فَاسْتَأْنَفَ تَسَلُّمَهَا، عَادَتِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ مَضَى زَمَنُ إِمْكَانِ الْعَوْدِ وَلَمْ يَعُدْ، وَلَا بَعَثَ وَكِيلَهُ، عَادَتِ النَّفَقَةُ أَيْضًا. فَرْعٌ خَرَجَتْ فِي غَيْبَةِ الزَّوْجِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا لِزِيَارَةٍ أَوْ عِيَادَةٍ، لَا عَلَى وَجْهِ النُّشُوزِ، لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. الْمَانِعُ الثَّانِي: الصِّغَرُ، فَإِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً وَهُوَ كَبِيرٌ أَوْ صَغِيرٌ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَهُوَ صَغِيرٌ، وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ: قَطْعًا، وَقِيلَ: إِنْ عَلِمَتْ صِغَرَهُ، فَقَوْلَانِ، وَإِلَّا فَتَجِبُ قَطْعًا. ثُمَّ مَوْضِعُ الْخِلَافِ مَا إِذَا سَلَّمَتْ إِلَى الزَّوْجِ، أَوْ عَرَضَتْ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ تَسْلِيمٌ وَلَا عَرْضٌ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي الْكَبِيرَةِ، وَفِي «الْوَسِيطِ» مَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا، كَانَ الْعَرْضُ عَلَى وَلِيِّهِ لَا عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّغِيرَةِ وَالصَّغِيرِ مَنْ لَا يَتَأَتَّى جِمَاعُهُ، وَبِالْكَبِيرِ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْجِمَاعُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُرَاهِقُ. الْمَانِعُ الثَّالِثُ: الْعِبَادَاتُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ إِحْدَاهَا: إِذَا أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَلَهَا حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تُحْرِمَ بِإِذْنِهِ، فَإِذَا خَرَجَتْ، فَقَدْ سَافَرَتْ فِي غَرَضِ نَفْسِهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَعَهَا لَمْ تَسْقُطْ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ، وَإِلَّا فَتَسْقُطُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَسَوَاءٌ خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ أَمْ بِغَيْرِهَا، وَلَا أَثَرَ لِنَهْيِهِ عَنِ الْخُرُوجِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ فِي الْإِحْرَامِ، وَعَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّهُ إِذَا نَهَاهَا عَنِ الْخُرُوجِ فَلَا نَفَقَةَ قَطْعًا، أَمَّا قَبْلَ الْخُرُوجِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا نَفَقَةَ لِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَصَحُّهُمَا: وَجُوبُهَا، لِأَنَّهَا فِي قَبْضَتِهِ، وَتَفْوِيتِ الِاسْتِمْتَاعِ بِسَبَبِ إِذْنٍ فِيهِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تُحْرِمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَجِّ أَنَّ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ، وَكَذَا مِنَ الْفَرْضِ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا لَهُ

التَّحْلِيلَ، فَلَمْ يُحَلِّلْ، فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا لَمْ تَخْرُجْ، لِأَنَّهَا فِي قَبْضَتِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْلِيلِهَا وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَقِيلَ: لَا نَفَقَةَ، لِأَنَّهَا نَاشِزَةٌ بِالْإِحْرَامِ، وَالنَّاشِزَةُ لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةً وَإِنْ قَدَرَ الزَّوْجُ عَلَى رَدِّهَا إِلَى الطَّاعَةِ قَهْرًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَإِذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَا نَفَقَةَ، فَإِنْ خَرَجَ مَعَهَا، فَعَلَى مَا سَبَقَ، وَإِنْ أَذِنَ فِي الْخُرُوجِ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي السَّفَرِ بِإِذْنِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ التَّحْلِيلُ، فَهِيَ نَاشِزَةٌ مِنْ وَقْتِ الْإِحْرَامِ، وَقِيلَ: لَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَتْ مُقِيمَةً، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَحُكِيَ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ مُطْلَقًا، لِأَنَّهَا تُسْقِطُ بِهِ فَرْضًا عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الصَّوْمِ، أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ، فَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ، وَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِحَالٍ، وَأَمَّا قَضَاءُ رَمَضَانَ، فَإِنْ تَعَجَّلَ لِتَعَدِّيَهَا بِالْإِفْطَارِ لَمْ تُمْنَعْ مِنْهُ، وَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ فَاتَ الْأَدَاءُ بِعُذْرٍ، وَضَاقَ وَقْتُ الْقَضَاءِ، بِأَنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ إِلَّا قَدَرُ الْقَضَاءِ، فَهُوَ كَأَدَاءِ رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا، فَقَطَعَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِ كَصَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَقِيلَ فِي جَوَازِ مَنْعِهَا وَجْهَانِ، وَفِي جَوَازِ إِلْزَامِهَا الْإِفْطَارَ إِذَا شَرَعَتْ فِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّحْلِيلِ مِنَ الْحَجِّ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ، فَفِي سُقُوطِ النَّفَقَةِ وَجْهَانِ: أَحُدُّهَا: تَسْقُطُ كَالْحَجِّ، وَالثَّانِي: لَا لِقَصِرِ الزَّمَانِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ لَيْلًا. قُلْتُ: الْأَصَحُّ السُّقُوطُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ، فَلَا تَشْرَعُ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ، فَإِنْ أَذِنَ، لَمْ تَسْقُطْ بِهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ شَرَعَتْ فِيهِ بِلَا إِذْنٍ، فَلَهُ مَنْعُهَا وَقَطْعُهُ، فَإِنْ أَفْطَرَتْ، فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ أَبَتْ، فَلَا نَفَقَةَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: تَجِبُ، لِأَنَّهَا فِي دَارِهِ وَقَبْضَتِهِ، وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ لَا يُؤَثِّرُ فِي النَّفَقَةِ، وَقِيلَ: إِنْ دَعَاهَا إِلَى الْأَكْلِ، فَأَبَتْ، لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ

دَعَاهَا إِلَى الْوَطْءِ، فَأَبَتْ سَقَطَتْ لِمَنْعِهَا حَقَّهُ، وَإِذَا قُلْنَا بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ بِامْتِنَاعِهَا فَعَنِ «الْحَاوِي» أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَمَرَهَا بِالْإِفْطَارِ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَلَوِ اتَّفَقَ فِي آخِرِهِ لَمْ تَسْقُطْ لِفَوْتِ الزَّمَانِ، وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِهَذَا التَّفْصِيلِ. وَلَوْ نَكَحَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: لَا يُجْبِرُهَا عَلَى الْإِفْطَارِ، وَفِي النَّفَقَةِ وَجْهَانِ. وَأَمَّا صَوْمُ النَّذْرِ، فَإِنْ كَانَ نَذْرًا مُطْلَقًا، فَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ مُوسِعٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامًا مُعَيَّنَةً، نُظِرَ؛ إِنْ نَذَرَ بِهَا قَبْلَ النِّكَاحِ، أَوْ بَعْدَهُ بِإِذْنِهِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا، وَإِلَّا فَلَهُ ذَلِكَ، وَحَيْثُ قُلْنَا: لَهُ الْمَنْعُ، فَشَرَعَتْ فِيهِ، وَأَبَتْ أَنْ تُفْطِرَ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ. وَأَمَّا صَوْمُ الْكَفَّارَةِ، فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي، فَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْهُ، وَعَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْنَعْهَا حَتَّى شَرَعَتْ فِيهِ، فَهَلْ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ؟ وَجْهَانِ، وَحَيْثُ قُلْنَا: تَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِالصَّوْمِ، فَهَلْ تَسْقُطُ جَمِيعُهَا، أَمْ نِصْفُهَا لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ لَيْلًا؟ وَجْهَانِ فِي «التَّهْذِيبِ» . قُلْتُ: أَرْجَحُهُمَا سُقُوطُ الْجَمِيعِ وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا نَظِيرُهُ فِيمَنْ سَلَّمَتْ لَيْلًا فَقَطْ، أَوْ عَكْسُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَرَائِضُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا مَنْعَ مِنْهَا، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي النَّفَقَةِ بِحَالٍ، وَهَلْ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْمُبَادَرَةِ بِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ؟ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ لَيْسَ لَهُ، لِأَنَّ زَمَنَهَا لَا يَمْتَدُّ بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَالتَّطَوُّعَاتُ الْمُطْلَقَةُ كَصَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَفِي السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا لِتَأَكُّدِهَا، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَطْوِيلِهَا، وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ كَرَوَاتِبِ الصَّلَاةِ، وَصَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ كَالتَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ، فَلَهُ مَنْعُهَا قَطْعًا، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ، وَلَيْسَ

فصل

لَهُ الْمَنْعُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَنْزِلِ، وَقَضَاءُ الصَّلَاةِ وَفِعْلُ الْمَنْذُورَةِ كَمِثْلِهِمَا فِي الصَّوْمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الِاعْتِكَافُ، إِنْ خَرَجَتْ لَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ بِإِذْنِهِ وَهُوَ مَعَهَا لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى يَوْمٍ لَمْ يُؤَثِّرْ قَطْعًا، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، أَوْ نَذْرًا مُطْلَقًا أَوْ مُعَيَّنًا نَذَرَتْهُ بَعْدَ النِّكَاحِ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا نَذَرَتْهُ قَبْلَ النِّكَاحِ، فَلَا مَنْعَ مِنْهُ، وَلَا تَسْقُطُ بِهِ النَّفَقَةُ. فَصْلٌ أَجْرَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ إِجَارَةَ عَيْنٍ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الْعَمَلِ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ، وَعَنْ «الْحَاوِي» أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ إِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْحَالِ لِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَيْهِ بِالنَّهَارِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِأَنْ يَرْضَى الْمُسْتَأْجِرُ بِالِاسْتِمْتَاعِ نَهَارًا، لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ قَدْ يَرْجِعُ فِيهِ. الْمَانِعُ الرَّابِعُ: الْعِدَّةُ، الْمُعْتَدَّةُ الرَّجْعِيَّةُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ وَسَائِرَ الْمُؤَنِ إِلَّا آلَةَ التَّنَظُّفِ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَمَةً أَوْ حُرَّةً، حَامِلًا أَوْ حَائِلًا، وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا إِلَّا بِمَا تَسْقُطُ بِهِ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ، وَتَسْتَمِرُّ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ غَيْرِهِ. وَلَوْ ظَهَرَ بِهَا أَمَارَاتُ الْحَمْلِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، لَزِمَ الزَّوْجَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَنْفَقَ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ، فَلَهُ اسْتِرْدَادُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَتُسْأَلُ عَنْ قَدْرُ الْأَقْرَاءِ، فَإِنْ عَيَّنَتْ قَدْرَهَا، صَدَّقْنَاهَا بِالْيَمِينِ إِنْ كَذَّبَهَا الزَّوْجُ، وَلَا يَمِينَ إِنْ صَدَّقَهَا، وَإِنْ قَالَتْ: لَا أَعْلَمُ مَتَى انْقَضَتْ عِدَّتِي، سَأَلْنَاهَا عَنْ عَادَةِ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا، فَإِنْ ذَكَرَتْ عَادَةً مَضْبُوطَةً، عَمِلْنَا عَلَى قَوْلِهَا، وَإِنْ قَالَتْ: عَادَتِي مُخْتَلِفَةٌ، أَخَذْنَا بِأَقَلِّ عَادَاتِهَا، وَرَجَعَ الزَّوْجُ فِيمَا زَادَ،

لِأَنَّهُ الْمُسْتَيْقِنُ، وَهِيَ لَا تَدَّعِي زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَتْ: نَسِيتُ عَادَتِي، فَعَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي نَفَقَةِ مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَخْذًا بِغَالِبِ الْعَادَاتِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يَرْجِعُ فِيمَا زَادَ عَلَى أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فِيهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ أَبُو الْفَرَجِ، وَإِنِ انْقَطَعَ الْوَلَدُ الَّذِي أَتَتْ بِهِ عَنِ الزَّوْجِ بِأَنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، إِمَّا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَإِمَّا مِنْ وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، سُئِلَتْ عَنْ حَالِ الْوَلَدِ، فَإِنْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ زَوْجٍ نَكَحْتُهُ، أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ حَصَلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، فَعَلَيْهَا رَدُّ الْمَأْخُوذِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ. وَإِنْ قَالَتْ: حَصَلَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْأَقْرَاءِ، فَقَدِ انْقَطَعَتْ عِدَّتُهَا بِوَطْءِ الثَّانِي وَإِحْبَالِهِ فَتَعُودُ بَعْدَ الْوَضْعِ إِلَى مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ فِي الْبَقِيَّةِ، وَأَمَّا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَتُبْنَى عَلَى أَنَّهُ هَلْ لِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ فِيهَا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي الرَّجْعَةِ وَالْعِدَّةِ، إِنْ قُلْنَا: لَا رَجْعَةَ فَلَا نَفَقَةَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا لَهُ الرَّجْعَةُ، فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَكَيْفَ كَانَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، فَيَسْتَرْجِعُ مَا أَخَذَتْ لَهَا. وَلَوْ قَالَتْ: وَطِئَنِي الزَّوْجُ، وَأَنْكَرَ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَتُسْأَلُ عَنْ وَقْتِ وَطْئِهِ، فَإِنْ قَالَتْ: بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَقْرَاءِ، رَدَّتْ مَا زَادَ، وَإِنْ قَالَتْ، عَقِبَ الطَّلَاقِ، فَقَدْ بَانَ أَنَّهَا لَمْ تَقْضِ عِدَّتَهُ، فَتَرُدَّ مَا أَخَذَتْ وَتَعْتَدَّ بَعْدَ الْوَضْعِ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ، وَلَهَا النَّفَقَةُ فِيهَا، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَمِرُّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْعِدَّتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيِ الْجِنْسِ مِنْ شَخْصٍ لَا تَتَدَاخَلَانِ. فَرْعٌ ادَّعَتِ الرَّجْعِيَّةُ تَبَاعُدَ الْحَيْضِ، وَامْتِدَادَ الطُّهْرِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُصَدَّقُ فِي اسْتِمْرَارِ النَّفَقَةِ إِلَى أَنْ تُقِرَّ بِمُضِيِّ الْعِدَّةِ، كَمَا تُصَدَّقُ فِي

فصل

ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ، وَقِيلَ: لَا تُصَدَّقُ فِي النَّفَقَةِ، فَإِنَّهَا حَقُّهَا بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ. فَرْعٌ وَضَعَتْ حَمْلًا، وَطَلَّقَهَا، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ قَبْلَ وَضْعِهِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُكِ، فَلَا نَفَقَةَ الْآنَ، وَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقْتَنِي بَعْدَ الْوَضْعِ، فَلِيَ النَّفَقَةُ، فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا النَّفَقَةُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ، لِأَنَّهَا بَائِنٌ بِزَعْمِهِ، وَلَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْوَضْعِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يَزْعُمُ هُوَ أَنَّهَا مُطَلَّقَةً فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّ الْوَطْءَ فِي النِّكَاحِ. وَلَوِ اخْتَلَفَا بِالْعَكْسِ، فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَلِيَ الرَّجْعَةُ، وَقَالَتْ: بَلْ قَبْلَهَا، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَثُبُوتِ الرَّجْعَةِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِزَعْمِهَا. فَصْلٌ الْبَائِنُ بِخُلْعٍ، أَوْ طَلَاقِ الثَّلَاثِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا، وَهَلْ هِيَ لِلْحَمْلِ أَمْ لِلْحَامِلِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا لِلْحَامِلِ بِسَبَبِ الْحَمْلِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَسَائِلُ، إِحْدَاهَا: الْمُعْتَدَّةُ عَنْ فُرْقَةِ فَسْخٍ، فِي اسْتِحْقَاقِهَا النَّفَقَةَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا طُرُقٌ، أَحَدُهَا: إِنْ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ بِمَا لَا مَدْخَلَ لَهَا فِيهِ كَرِدَّةِ الزَّوْجِ، اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ كَالْمُطَلَّقَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَدْخَلٌ كَفَسْخِهَا بِالْعِتْقِ، أَوْ بِعَيْبِهِ، أَوْ فَسْخِهِ بِعَيْبِهَا، فَقَوْلَانِ: وَالثَّانِي: فِي الْمُعْتَدَّاتِ عَنْ جَمِيعِ الْفُسُوخِ قَوْلَانِ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنْ كَانَ الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ عَارِضٍ، كَالرَّضَاعِ وَالرِّدَّةِ، فَلَهَا النَّفَقَةُ كَالطَّلَاقِ وَإِنِ اسْتَنَدَ إِلَى سَبَبٍ قَارَنَ الْعَقْدَ كَالْعَيْبِ وَالْغُرُورِ فَقَوْلَانِ. وَالرَّابِعُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي: تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ حَيْثُ تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ السُّكْنَى. وَأَمَّا الْمُفَارَقَةُ بِاللِّعَانِ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا وَلَمْ يَنْفِ حَمْلَهَا، فَفِيهِ الطُّرُقُ،

وَلَا يَخْفَى عَلَى الطَّرِيقِ الثَّالِثِ أَنَّ اللِّعَانَ سَبَبٌ عَارِضٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَقِيلَ: هُوَ مِمَّا لَهَا فِيهِ مُدْخَلٌ، لِأَنَّهَا أَحْوَجَتْهُ إِلَيْهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَالطَّلَاقِ، وَإِنْ نَفَى حَمْلَهَا لَمْ تَجِبِ النَّفَقَةُ، سَوَاءٌ قُلْنَا: هِيَ لِلْحَمْلِ أَمْ لِلْحَامِلِ، وَتَسْتَحِقُّ السُّكْنَى عَلَى الْأَصَحِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَلَوْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ بِالطَّلَاقِ، ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، وَقُلْنَا: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ فَلَاعَنَ؛ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: فَإِنْ أَثْبَتْنَا لِلْمُلَاعَنَةِ السُّكْنَى، فَهَذِهِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ طَلَاقٍ، وَإِلَّا فَتَحْمِلُ وَجْهَيْنِ، وَإِذَا لَاعَنَ وَهِيَ حَامِلٌ وَنَفَاهُ ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، وَاسْتَلْحَقَ الْوَلَدَ، طُولِبَ بِنَفَقَةِ مَا مَضَى، نَصَّ عَلَيْهِ فَقِيلَ: هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: لِلْحَمْلِ: فَلَا مُطَالَبَةَ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: تَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ لِلْحَمْلِ، فَهِيَ مَصْرُوفَةٌ إِلَى الْحَامِلِ وَهِيَ صَاحِبَةُ حَقٍّ فِيهَا فَتَصِيرُ دَيْنًا كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ. وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَمَا أَرْضَعَتِ الْوَلَدَ، رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِأُجْرَةِ الرَّضَاعِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ فِي «الْأُمِّ» وَلَوْ أَنْفَقَتْ عَلَى الْوَلَدِ مُدَّةً، ثُمَّ رَجَعَ، رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَتْ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، لِأَنَّهَا أَنْفَقَتْ عَلَى ظَنِّ وُجُوبِهِ عَلَيْهَا، فَإِذَا بَانَ خِلَافُهُ، ثَبَتَ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا فَقَضَاهُ، فَبَانَ خِلَافُهُ يَرْجِعُ، وَكَمَا لَوْ أَنْفَقَ عَلَى أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ إِعْسَارِهِ، فَبَانَ مُوسِرًا، يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُتَبَرِّعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْحَامِلِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَجْهَانِ، إِنْ قُلْنَا: لِلْحَمْلِ وَجَبَتْ، وَإِلَّا فَلَا. هَذَا إِذَا كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ غَيْرَ مَنْكُوحَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً وَأَوْجَبْنَا نَفَقَتَهَا عَلَى الْوَاطِئِ، سَقَطَتْ عَنِ الزَّوْجِ قَطْعًا، وَإِلَّا فَعَلَى الْأَصَحِّ وَاسْتَحْسَنَ فِي «الْوَسِيطِ» أَنَّهَا إِنْ وُطِئَتْ نَائِمَةً أَوْ مُكْرَهَةً، فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ مَكَّنَتْ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ زَوْجُهَا، فَلَا نَفَقَةَ، لِأَنَّ الظَّنَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْغَرَامَاتِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَدَّةُ عَنِ الْوَفَاةِ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، سَوَاءٌ قُلْنَا لِلْحَامِلِ أَوْ لِلْحَمْلِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. الرَّابِعَةُ: هَلْ تَتَقَدَّرُ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ كَنَفَقَةِ صُلْبِ النِّكَاحِ، أَمْ تُعْتَبَرُ كِفَايَتُهَا، سَوَاءٌ زَادَتْ أَمْ نَقَصَتْ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ - وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ - أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، وَشَذَّ الْإِمَامُ وَمُتَابِعُوهُ فَحَكَوْا خِلَافًا. الْخَامِسَةُ: إِذَا مَاتَ زَوْجُ الْبَائِنِ الْحَامِلِ قَبْلَ الْوَضْعِ، إِنْ قُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ، سَقَطَتْ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَامِلِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: تَسْقُطُ أَيْضًا لِأَنَّهَا كَالْحَاضِنَةِ لِلْوَلَدِ، وَلَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْحَاضِنَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَا تَسْقُطُ، لِأَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، بَلْ تُتِمُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَالطَّلَاقُ مُوجِبٌ. قُلْتُ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَكَمَا تَسْتَحِقُّ الْبَائِنُ الْحَامِلُ النَّفَقَةَ، تَسْتَحِقُّ الْأُدْمَ وَالْكِسْوَةَ سَوَاءٌ قُلْنَا النَّفَقَةُ لِلْحَامِلِ أَوْ لِلْحَمْلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ النَّفَقَةِ قَبْلَ ظُهُورِ الْحَمْلِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: هِيَ لِلْحَمْلِ أَمْ لِلْحَامِلِ، فَإِذَا ظَهَرَ هَلْ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ، أَمْ تُؤَخَّرُ إِلَى أَنْ تَضَعَ، فَتُسَلِّمَ الْجَمِيعَ دُفْعَةً وَاحِدَةً؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا الْأَوَّلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) . فَإِنْ قُلْنَا: تُؤَخَّرُ، فَقَالَتْ: وَضَعْتُ، فَكَذَّبَهَا، فَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّعْجِيلِ، فَادَّعَتْ ظُهُورَ الْحَمْلِ، وَأَنْكَرَ فَكَذَلِكَ وَتُقْبَلُ فِيهِمَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَقِيلَ: لَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُنَّ إِلَّا بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَلَوْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى ظَنِّ

الْحَمْلِ، فَبَانَ أَنْ لَا حَمْلَ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا التَّعْجِيلَ، أَوْ أَمَرَهُ بِهِ الْحَاكِمُ، رَجَعَ عَلَيْهَا، وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْمَدْفُوعَ نَفَقَةً مُعَجَّلَةً لَمْ يَرْجِعْ، وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ وَشَرَطَ الرُّجُوعَ رَجَعَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يَرْجِعُ، وَخَرَّجَ الْقَفَّالُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الدَّلَّالَ إِذَا بَاعَ مَتَاعًا لِإِنْسَانٍ، فَأَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي شَيْئًا وَقَالَ: وَهَبْتُهُ لَكَ، أَوْ قَالَ لَهُ الدَّلَّالُ: وَهَبْتَهُ لِي، فَقَالَ: نَعَمْ، فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا، فَلَهُ قَبُولُهُ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ، فَلَا، وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ فِيهِ وَأُجْرَةُ الدَّلَّالِ عَلَى الْبَائِعِ الَّذِي أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا حَتَّى وَضَعَتْ، أَوْ لَمْ يُنْفِقْ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ، بَلْ يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إِلَيْهَا، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: فِي سُقُوطِهَا خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَمْلِ أَمْ لِلْحَامِلِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ زَوْجُ الْبَائِنِ الْحَامِلِ رَقِيقًا، إِنْ قُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَامِلِ لَزِمَتْهُ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ. وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ رَقِيقًا فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا قَوْلَانِ، إِنْ قُلْنَا: لِلْحَمْلِ لَمْ تَجِبْ، بَلْ هِيَ عَلَى الْمَالِكِ وَإِلَّا فَتَجِبُ. فَرْعٌ ذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَمْلُ مُوسِرًا، وَقُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ وَأَنَّهَا تُؤَخَّرُ إِلَى أَنْ تَضَعَ، فَإِذَا وَضَعَتْ سُلِّمَتِ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ إِلَى الْأُمِّ، كَمَا تُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ مَالِهِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ التَّعْجِيلُ، لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ مَالِ الْحَمْلِ، بَلْ يُنْفِقُ الْأَبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ، فَفِي رُجُوعِهِ فِي مَالِ الْوَلَدِ وَجْهَانِ.

فَرْعٌ اخْتَلَفَا فَقَالَتْ: وَضَعْتُ الْيَوْمَ، وَطَالَبَتْ بِنَفَقَةِ شَهْرٍ قَبْلَهُ، وَقَالَ: بَلْ وَضَعَتْ مِنْ شَهْرٍ قَبْلَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوَضْعِ وَبَقَاءُ النَّفَقَةِ. وَلَوْ وَقَعَ هَذَا الِاخْتِلَافُ وَالزَّوْجَةُ رَقِيقَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ، فَلَا مَعْنَى لِهَذَا الِاخْتِلَافِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْوَضْعِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَامِلِ، فَهِيَ كَالْحُرَّةِ. وَلَوْ وَقَعَ هَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ مَوْطُوءَةٍ بِشُبْهَةٍ - أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ - وَبَيْنَ الْوَاطِئِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا نَفَقَتَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهَا، فَلَا مَعْنَى لِلِاخْتِلَافِ، لَكِنْ لَوِ اخْتَلَفَا عَلَى الْعَكْسِ لِنَفَقَةِ الْوَلَدِ، فَقَالَتْ: وَلَدْتُ مِنْ شَهْرٍ، فَعَلَيْكَ نَفَقَةُ الْوَلَدِ لِشَهْرٍ، وَقَالَ: بَلْ وَلَدَتْ أَمْسِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ إِذَا أَنْفَقَتْ عَلَى الْوَلَدِ أَوِ اسْتَدَانَتْ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِ، هَلْ تَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ؟ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ أَبْرَأَتِ الزَّوْجَ مِنَ النَّفَقَةِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ قُلْنَا النَّفَقَةُ لِلْحَامِلِ، سَقَطَتْ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَمْلِ، فَلَا، وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ عَنْ نَفَقَةِ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ عَمَّا مَضَى، فَالنَّفَقَةُ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا لَهَا حَتَّى تُصْرَفَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْوَضْعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ إِبْرَاؤُهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَرْعٌ ذَكَرَ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهُ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ، لَزِمَهُ نَفَقَتُهَا إِنْ قُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَامِلِ فَلَا، وَأَنَّهُ لَوْ مَاتَ، وَتَرَكَ

أَبَاهُ وَامْرَأَتَهُ حُبْلَى، لَهَا مُطَالَبَةُ الْجَدِّ بِالنَّفَقَةِ إِنْ قُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَامِلِ فَلَا، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهَا لَا تُطَالِبُ الْجَدَّ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ. فَرْعٌ نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ وَهِيَ حَامِلٌ، حَكَى ابْنُ كَجٍّ تَخْرِيجَ سُقُوطِ النَّفَقَةِ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَمْلِ أَوْ لِلْحَامِلِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِسُقُوطِهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْبَائِنِ لَا فِي الزَّوْجَةِ. فَرْعٌ لَوْ أَنْفَقَ عَلَى مَنْ نَكَحَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا مُدَّةً، ثُمَّ بَانَ فَسَادُ النِّكَاحِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَسْتَرِدُّ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْإِعْسَارِ بِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَطْرَافٍ: الْأَوَّلُ: فِي ثُبُوتِ الْفَسْخِ بِهِ، فَإِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنِ الْقِيَامِ بِمُؤَنِ الزَّوْجَةِ الْمُوَظَّفَةِ عَلَيْهِ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كُتُبِهِ قَدِيمًا وَجَدِيدًا أَنَّهَا بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ صَبَرَتْ، وَأَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا، أَوِ اقْتَرَضَتْ، وَأَنْفَقَتْ عَلَى نَفْسِهَا، وَنَفَقَتُهَا فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يُوسِرَ، وَإِنْ شَاءَتْ طَلَبَتْ فَسْخَ النِّكَاحِ، وَقَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا: وَقَدْ قِيلَ: لَا خِيَارَ لَهَا. وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنَّ لَهَا حَقَّ الْفَسْخِ، وَهَذَا أَرْجَحُ عِنْدَ ابْنِ كَجٍّ وَالرُّويَانِيِّ، وَأَصَحُّهُمَا: إِثْبَاتُ قَوْلَيْنِ، الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ، وَالثَّانِي: لَا. فَالْمَذْهَبُ ثُبُوتُ الْفَسْخِ، فَأَمَّا إِذَا امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ النَّفَقَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَهَا الْفَسْخُ لِتَضَرُّرِهَا، وَأَصَحُّهُمَا: لَا فَسْخَ لِتَمَكُّنِهَا مِنْ تَحْصِيلِ حَقِّهَا بِالسُّلْطَانِ، وَكَذَا لَوْ قَدَرَتْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ غَابَ وَهُوَ مُوسِرٌ فِي غَيْبَتِهِ، وَلَا يُوَفِّيهَا حَقَّهَا، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا فَسْخَ وَكَانَ الْمُؤْثَرُ تَغَيُّبُهُ لِخَرَابِ ذِمَّتِهِ، وَلَكِنْ يَبْعَثُ الْحَاكِمُ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِهِ، لِيُطَالِبَهُ إِنْ كَانَ مَوْضِعَهُ مَعْلُومًا، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ: يَجُوزُ الْفَسْخُ إِذَا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الطَّبَرِيُّ وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ وَابْنُ أُخْتِهِ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْفَتْوَى بِهِ، وَإِذَا لَمْ نُجَوِّزِ الْفَسْخَ، وَالْغَائِبُ مُوسِرٌ، فَجَهِلْنَا يَسَارَهُ وَإِعْسَارَهُ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَمَتَى ثَبَتَ إِعْسَارُ الْغَائِبِ عِنْدَ حَاكِمِ بَلَدِهَا، فَهَلْ يَجُوزُ

الْفَسْخُ، أَمْ لَا يُفْسَخُ حَتَّى يُبْعَثَ إِلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ، وَلَمْ يَبْعَثِ النَّفَقَةَ، فَحِينَئِذٍ يُفْسَخُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ حَاضِرًا، وَمَالُهُ غَائِبٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَلَا فَسْخَ، وَيُؤْمَرُ بِتَعْجِيلِ الْإِحْضَارِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَلَهَا الْفَسْخُ وَلَا يَلْزَمُهَا الصَّبْرُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَلَهَا الْفَسْخُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ قَرِيبًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُضْبَطَ الْقُرْبُ بِمُدَّةِ إِحْضَارِ الْمَالِ الْغَائِبِ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَهُوَ عَلَى مُعْسِرٍ، فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُوسِرٍ حَاضِرٍ، فَلَا خِيَارَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَوَجْهَانِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى زَوْجَتِهِ، فَأَمَرَهَا بِالْإِنْفَاقِ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً، فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً، فَلَهَا الْفَسْخُ، لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إِلَى حَقِّهَا، وَالْمُعْسِرُ مُنْظَرٌ، وَعَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَوْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ وَنَحْوُهُ لَا يَرْغَبُ فِي شِرَائِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ، وَمَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ تَسْتَغْرِقُ مَالَهُ لَا خِيَارَ لِزَوْجَتِهِ حَتَّى يَصْرِفَ مَالَهُ إِلَى الدُّيُونِ. لَوْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ بِأَدَاءِ النَّفَقَةِ عَنِ الْمُعْسِرِ، لَمْ يَلْزَمْهَا الْقَبُولُ، وَلَهَا الْفَسْخُ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إِنْسَانٍ فَتَبَرَّعَ غَيْرُهُ بِقَضَائِهِ، لَا يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ، لِأَنَّ فِيهِ مِنَّةً لِلْمُتَبَرِّعِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا؛ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا، لِعَدَمِ تَضَرُّرِهَا بِفَوَاتِ النَّفَقَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ كَانَ بِالنَّفَقَةِ ضَامِنٌ، وَلَمْ نُصَحِّحْ ضَمَانَ النَّفَقَةِ فَالضَّامِنُ كَالْمُتَبَرِّعِ، وَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، فَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ، فَلَا خِيَارَ، وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجْهَانِ. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يُعْطِهَا الْمُوسِرُ إِلَّا نَفَقَةَ الْمُعْسِرِ، فَلَا فَسْخَ، وَيَصِيرُ الْبَاقِي دَيْنًا عَلَيْهِ.

فصل

فَصْلٌ الْقُدْرَةُ بِالْكَسْبِ كَالْقُدْرَةِ بِالْمَالِ، فَلَوْ كَانَ يَكْسِبُ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرَ النَّفَقَةِ فَلَا خِيَارَ، وَلَوْ كَانَ يَكْسِبُ فِي يَوْمٍ مَا يَكْفِي لِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ لَا يَكْسِبُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ يَكْسِبُ فِي يَوْمٍ مَا يَكْفِي لِلْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ فَلَا خِيَارَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْسِرٍ، وَلَا تَشُقُّ الِاسْتِدَانَةُ لِمَا يَقَعُ مِنَ التَّأْخِيرِ الْيَسِيرِ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي النَّسَّاجِ الَّذِي يَنْسِجُ فِي الْأُسْبُوعِ ثَوْبًا تَفِي أُجْرَتُهُ بِنَفَقَةِ الْأُسْبُوعِ، كَذَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَصَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمَالِ الْغَائِبِ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ، وَقَدْ يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ فِيمَا دُونَ أُسْبُوعٍ، وَالْوَجْهُ التَّسْوِيَةُ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ هُنَا أَنَّهُ لَا خِيَارَ كَمَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا عَجَزَ الْعَامِلُ عَنِ الْعَمَلِ لِمَرَضٍ، فَلَا فَسْخَ إِنْ رُجِيَ زَوَالُهُ فِي نَحْوِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ يَطُولُ، فَلَهَا الْفَسْخُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ كَانَ يَكْسِبُ فِي بَعْضِ الْأُسْبُوعِ نَفَقَةَ جَمِيعِهِ، فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ فِي أُسْبُوعٍ لِعَارِضٍ فَلَهَا الْخِيَارُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلِ الْبَنَّاءَ وَالنَّجَّارَ، وَتَعَذَّرَتِ النَّفَقَةُ كَذَلِكَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا خِيَارَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ نَادِرًا، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ غَالِبًا، فَلَهَا الْخِيَارُ. فَرْعٌ الْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ إِذَا امْتَنَعَ كَالْمُوسِرِ الْمُمْتَنِعِ إِنْ أَوْجَبْنَا الِاكْتِسَابَ لِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فصل

فَصْلٌ إِنَّمَا يَثْبُتُ الْفَسْخُ بِالْعَجْزِ عَنْ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ، فَلَوْ عَجَزَ عَنْ نَفَقَةِ الْمُتَوَسِّطِ، فَلَا خِيَارَ. وَلَوْ قَدَرَ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى دُونِ نِصْفِ مُدٍّ، أَوْ يَوْمًا مُدًّا، وَيَوْمًا لَا يَجِدُ شَيْئًا، فَلَهَا الْخِيَارُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ وَجَدَ بِالْغَدَاةِ مَا يُغَدِّيهَا، وَبِالْعَشِيِّ مَا يُعَشِّيهَا، فَلَا خِيَارَ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ لَوْ أَعْسَرَ بِالْأُدْمِ، فَلَا خِيَارَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ الدَّارَكِيُّ: يَثْبُتُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ كَانَ الْقُوتُ مِمَّا يَنْسَاغُ دَائِمًا لِلْفُقَرَاءِ بِلَا أُدْمٍ فَلَا خِيَارَ، وَإِلَّا فَيَثْبُتُ. فَصْلٌ يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِالْإِعْسَارِ بِالْكِسْوَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِالْمَسْكَنِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يَثْبُتُ بِالْإِعْسَارِ بِنَفَقَةِ الْخَادِمِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ ضَرُورِيًّا. فَصْلٌ الْإِعْسَارُ بِالْمَهْرِ فِيهِ طُرُقٌ مُنْتَشِرَةٌ، الْمَذْهَبُ مِنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَثْبُتُ الْفَسْخُ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ فِيهِمَا قَطْعًا وَرَجَّحَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ بِالْمَنْعِ قَطْعًا، وَقِيلَ قَوْلَانِ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ قَبْلَهُ وَفِي بَعْدِهِ قَوْلَانِ، وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَفِي قَبْلِهِ قَوْلَانِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُفَوِّضَةِ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِالْعَقْدِ عَلَى الْأَظْهَرِ، لَكِنْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْضِ، فَإِذَا فَرَضَ صَارَ كَالْمُسَمَّى. فَصْلٌ إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَى زَوْجَتِهِ مُدَّةً، وَعَجَزَ عَنْ أَدَائِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ

بِسَبَبِ مَا مَضَى حَتَّى لَوْ لَمْ يُفْسَخْ فِي يَوْمِ جَوَازِ الْفَسْخِ، فَوَجَدَ نَفَقَةً بَعْدَهُ، فَلَا فَسْخَ لَهَا بِنَفَقَةِ الْأَمْسِ، وَمَا قَبْلَهُ كَسَائِرِ دُيُونِهَا، وَقِيلَ: هُوَ كَالْإِعْسَارِ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ نَفَقَةُ الْمَاضِي لَا تَسْقُطُ، بَلْ تَبْقَى دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، سَوَاءٌ تَرَكَ الْإِنْفَاقَ بِعُذْرٍ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ فَرَضَ الْقَاضِي نَفَقَتَهَا، أَمْ لَا، وَيَثْبُتُ الْأُدْمُ فِي الذِّمَّةِ كَالنَّفَقَةِ، وَكَذَا نَفَقَةُ الْخَادِمِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتَثْبُتُ الْكِسْوَةُ إِنْ قُلْنَا: يَجِبُ فِيهَا التَّمْلِيكُ. وَإِنْ قُلْنَا: إِمْتَاعٌ فَلَا، وَلَا تَثْبُتُ مُؤْنَةُ السُّكْنَى عَلَى الْمَذْهَبِ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي حَقِيقَةِ هَذِهِ الْفُرْقَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ الْإِعْسَارِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي، لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، وَحَكَى الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ وَجْهًا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَوَلَّى الْفَسْخَ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ إِلَى الْقَاضِي، كَفَسْخِ الْبَيْعِ بِالْعَيْبِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَعَلَى هَذَا يَتَوَلَّى الْقَاضِي الْفَسْخَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَأْذَنُ لَهَا فِيهِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا يَسْتَقِلُّ بِالْفَسْخِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْإِعْسَارِ عِنْدَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَتَكُونُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ فَسْخًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ هِيَ طَلَاقٌ، فَعَلَى هَذَا يَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِالتَّحَمُّلِ فِي الْإِنْفَاقِ، فَإِنْ أَبَى، فَهَلْ يُطَلِّقُ الْحَاكِمُ بِنَفْسِهِ، أَمْ يَحْبِسُهُ لِيُطَلِّقَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الْمَوْلَى، فَإِنْ طَلَّقَ، طَلَّقَ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، فَإِنْ رَاجَعَ، طَلَّقَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، أَمَّا إِذَا لَمْ تَرْفَعْ إِلَى الْقَاضِي، بَلْ فَسَخَتْ بِنَفْسِهَا لِعِلْمِهَا بِعَجْزِهِ، فَلَا يُنَفَّذُ ظَاهِرًا، وَهَلْ يُنَفَّذُ بَاطِنًا حَتَّى إِذَا ثَبَتَ إِعْسَارُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْفَسْخِ إِمَّا بِاعْتِرَافِ الزَّوْجِ، وَإِمَّا بِبَيِّنَةٍ يُكْتَفَى بِهِ وَتُحْسَبُ الْعِدَّةُ مِنْهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ فِي «الْبَسِيطِ» : وَلَعَلَّ هَذَا فِيمَا إِذَا قَدَرَتْ عَلَى الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّاحِيَةِ قَاضٍ وَلَا مُحَكَّمٌ، فَالْوَجْهُ إِثْبَاتُ الِاسْتِقْلَالِ بِالْفَسْخِ.

الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي وَقْتِ الْفَسْخِ قَدْ سَبَقَ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ تَسَلُّمَ النَّفَقَةِ كُلَّ يَوْمٍ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِذَا عَجَزَ، فَهَلْ يُنْجِزُ الْفَسْخَ، أَمْ يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: الْإِمْهَالُ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ وَادَّعَى ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُمْهَلُ ثَلَاثًا فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْفَسْخِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَأَقْرَبُهُمَا لَيْسَ لَهَا الْمُبَادَرَةُ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُؤَخَّرُ الْفَسْخُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، أَمْ إِلَى آخِرِهِ، أَمْ إِلَى آخَرِ اللَّيْلَةِ بَعْدَهُ؟ فِيهِ احْتِمَالَاتٌ: أَرْجَحُهَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ الثَّالِثُ، ثُمَّ هَذَا إِذَا لَمْ يَتَّخِذْ ذَلِكَ عَادَةً، فَأَمَّا إِنِ اعْتَادَ إِحْضَارَ الطَّعَامِ لَيْلًا، فَلَهَا الْفَسْخُ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدِ النَّفَقَةَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ يَجِدُهَا فِي آخِرِهِ، فَلَهَا الْفَسْخُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا فَسْخَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَلَوْ قَالَ صَبِيحَةَ الْيَوْمِ: أَنَا عَاجِزٌ لَا أَتَوَقَّعُ شَيْئًا، فَهَلْ لَهَا الْفَسْخُ فِي الْحَالِ لِتَصْرِيحِهِ بِالْعَجْزِ، أَمْ يَلْزَمُ التَّأْخِيرُ، فَقَدْ يُرْزَقُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَرْجَحُهُمَا: الثَّانِي. أَمَّا الْمَذْهَبُ وَهُوَ الْإِمْهَالُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: إِذَا مَضَتِ الثَّلَاثَةُ فَلَهَا الْفَسْخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ إِنْ لَمْ يُسَلِّمْ نَفَقَتَهُ، وَإِنْ سَلَّمَهَا، لَمْ يَجُزِ الْفَسْخُ لِمَا مَضَى، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَقُولَ: آخُذُ هَذَا عَنْ نَفَقَةِ بَعْضِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، وَأَفْسَخُ بِتَعَذُّرِ نَفَقَةِ الْيَوْمَ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْأَدَاءِ بِقَصْدِ الْمُؤَدِّي، فَلَوْ تَوَافَقَا عَلَى جَعْلِهَا عَمَّا مَضَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَهَا الْفَسْخُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُجْعَلَ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا مُبَطِلَةً لِلْمُهْلَةِ، وَلَوْ مَضَى يَوْمَانِ بِلَا نَفَقَةٍ، وَوَجَدَ نَفَقَةَ الثَّالِثِ، وَعَجَزَ فِي الرَّابِعِ، فَهَلْ تُسْتَأْنَفُ الْمَدَّةُ، أَمْ يُبْنَى فَتَصِيرَ يَوْمًا آخَرَ فَقَطْ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْبِنَاءُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ نَفَقَةَ يَوْمٍ وَوَجَدَ نَفَقَةَ الثَّانِي، وَعَجَزَ فِي الثَّالِثِ، وَقَدَرَ فِي الرَّابِعِ، لُفِّقَتْ أَيَّامُ الْعَجْزِ فَإِذَا تَمَّتْ مُدَّةُ الْمُهْلَةِ، فَلَهَا الْفَسْخُ، وَلَوْ مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي الْعَجْزِ، وَوَجَدَ نَفَقَةَ الرَّابِعِ، وَعَجَزَ فِي الْخَامِسِ، فَالْأَصَحُّ وَبِهِ

قَالَ الدَّارَكِيُّ: أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ، وَيَكْفِي الْإِمْهَالُ السَّابِقُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَقِيلَ: يُمْهَلُ مَرَّةً أُخْرَى إِنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ فِي مُدَّةِ الْإِمْهَالِ لِتَحْصِيلِ النَّفَقَةِ بِكَسْبٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ سُؤَالٍ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ، وَقِيلَ: لَهُ مَنْعُهَا، وَقِيلَ: إِنْ قَدَرَتْ عَلَى الْإِنْفَاقِ بِمَالِهَا، أَوْ كَسْبٍ فِي بَيْتِهَا كَالْخِيَاطَةِ وَالْغَزْلِ، فَلَهُ مَنْعُهَا، وَإِلَّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوَفِّ مَا عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ الْحَجْرَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَعَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِاللَّيْلِ. وَلَوْ أَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَيْسَ لَهَا الْمَنْعُ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: لَهَا الْمَنْعُ وَهُوَ أَقْرَبُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا إِذَا مَنَعَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةً مُدَّةَ الِامْتِنَاعِ، فَلَا تُثْبِتُ دَيْنًا عَلَيْهِ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِالْإِمْهَالِ، فَمَضَتِ الْمُدَّةُ، فَرَضِيَتْ بِإِعْسَارِهِ وَالْمَقَامِ مَعَهُ، أَوْ لَمْ نَقُلْ بِالْإِمْهَالِ، فَرَضِيَتْ ثُمَّ أَرَادَتِ الْفَسْخَ، فَلَهَا الْفَسْخُ، لِأَنَّ الضَّرَرَ مُتَجَدِّدٌ وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِهَا: رَضِيَتْ بِإِعْسَارِهِ أَبَدًا، لِأَنَّهُ وَعْدٌ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَوْ نَكَحَتْهُ عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ، فَلَهَا الْفَسْخُ أَيْضًا، وَإِذَا عَادَتْ إِلَى طَلَبِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرِّضَا، جُدِّدَ الْإِمْهَالُ عَلَى قَوْلِنَا: يُمْهَلُ، وَلَا يُعْتَدُّ بِالْمَاضِي، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ وَالرُّويَانِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِذَا اخْتَارَتِ الْمَقَامَ مَعَهُ، لَمْ يَلْزَمْهَا التَّمْكِينُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلَهَا الْخُرُوجُ مِنَ الْمَنْزِلِ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا مِنْهُ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ مِنَ الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَخُرُوجُهَا بِالنَّهَارِ لِلِاكْتِسَابِ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ مَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ. فَرْعٌ إِذَا أُعْسِرَ بِالْمَهْرِ، وَمَكَّنَهَا الْحَاكِمُ مِنَ الْفَسْخِ، فَرَضِيَتْ بِالْمَقَامِ مَعَهُ، ثُمَّ أَرَادَتِ الْفَسْخَ، فَلَيْسَ لَهَا، لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَتَجَدَّدُ هَكَذَا أَطْلَقَهُ

الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْمُحَاكَمَتَانِ مَعًا قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَاكَمَةُ الْأُولَى قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالْأُخْرَى بَعْدَهُ، فَوَجْهَانِ: وَجْهُ تَجْوِيزِ الْفَسْخِ أَنَّ بِالدُّخُولِ اسْتَقَرَّ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا، فَالْإِعْسَارُ بِهِ يُجَدَّدُ خِيَارًا، وَلَوْ نَكَحَتْهُ عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ بِالصَّدَاقِ، فَلَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ رَضِيَتْ بِهِ فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ بَدَا لَهَا، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ، وَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ بَعْدَ الدُّخُولِ إِذَا مَكَّنَّاهَا مِنَ الْفَسْخِ، وَاخْتَارَتِ الْمَقَامَ، وَلَا بُدَّ فِي الْإِعْسَارِ بِالْمَهْرِ مِنْ حُكْمِ الْقَاضِي كَالنَّفَقَةِ، وَالْخِيَارُ فِيهِ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَوْ أَخَّرَتِ الْفَسْخَ، سَقَطَ، وَلَوْ عَلِمَتْ إِعْسَارَهُ، وَأَمْسَكَتْ عَنِ الْمُحَاكَمَةِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ بَعْدَ طَلَبِهَا الْمَهْرَ، كَانَ رِضًا بِالْإِعْسَارِ، وَسَقَطَ خِيَارُهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ، لَمْ يَسْقُطْ، فَقَدْ تُؤَخَّرُ الْمُطَالِبَةُ لِتَوَقُّعِ الْيَسَارِ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِيمَنْ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ، وَهُوَ لِلزَّوْجَةِ إِنْ شَاءَتْ، فَسَخَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ صَبَرَتْ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ بِغَيْرِ تَوْكِيلِهَا، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَتُهُمَا، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَالِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَالٌ فَنَفَقَتُهُمَا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا لَوْ كَانَتَا خَلِيَّتَيْنِ، وَتَصِيرُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ يُطَالَبُ بِهِ إِذَا أَيْسَرَ، وَكَذَا لَا يَفْسَخُ الْوَلِيُّ بِإِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ إِنْ جَعَلْنَاهُ مُثْبِتًا لِلْخِيَارِ، وَلَوْ أُعْسِرَ زَوْجُ الْأَمَةِ بِالنَّفَقَةِ فَلَهَا الْفَسْخُ كَمَا تَفْسَخُ بِجَبِّهِ، وَلِأَنَّهَا صَاحِبَةُ حَقٍّ فِي تَنَاوُلِ النَّفَقَةِ، فَإِنْ أَرَادَتِ الْفَسْخَ، لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهَا، فَإِنْ ضَمِنَ النَّفَقَةَ، فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ يَضْمَنُهَا، وَلَوْ رَضِيَتْ بِالْمَقَامِ، أَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً، فَهَلْ لِلسَّيِّدِ الْفَسْخُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: الْأَصَحُّ: لَيْسَ لَهُ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْبَغَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ نَفَقَةُ الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ، بَلْ يَقُولُ: افْسَخِي أَوِ اصْبِرِي عَلَى الْجُوعِ، وَالثَّانِي: لَهُ، وَالثَّالِثُ: لَهُ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ.

وَأَمَّا إِذَا أَعْسَرَ زَوْجُهَا بِالْمَهْرِ، وَقُلْنَا: يَثْبُتُ بِهِ الْفَسْخُ، فَالْفَسْخُ لِلسَّيِّدِ، لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّهِ لَا تَعَلُّقَ لِلْأَمَةِ بِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي فَوَاتِهِ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ، وَهُوَ غَلَطٌ. فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: تَتَعَلَّقُ نَفَقَةُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ بِالْأَمَةِ وَبِالسَّيِّدِ، أَمَّا السَّيِّدُ فَلِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ، لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَمْلِكُ، لَكِنَّهَا بِحُكْمِ النِّكَاحِ مَأْذُونٌ لَهَا فِي الْقَبْضِ، وَبِالْعُرْفِ فِي تَنَاوُلِ الْمَقْبُوضِ. وَأَمَّا الْأَمَةُ فَلَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ، كَمَا كَانَتْ تُطَالِبُ السَّيِّدَ، وَإِذَا أَخَذَتْهَا، فَلَهَا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْمَأْخُوذِ وَلَا تُسَلِّمَ إِلَى السَّيِّدِ حَتَّى تَأْخُذَ بَدَلَهُ، وَلَهُ الْإِبْدَالُ لِحَقِّ الْمِلْكِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَهُ حَقَّ الْمِلْكِ وَلَهَا حَقُّ التَّوَثُّقِ، وَلَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ الْإِبْرَاءُ مِنْ نَفَقَتِهَا، وَلَا بَيْعُ الْمَأْخُوذِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ إِلَيْهَا، وَفِي «التَّتِمَّةِ» مَا يُخَالِفُ بَعْضَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ لِلسَّيِّدِ، فَلَوْ سَلَّمَهَا الزَّوْجُ إِلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ لَمْ يَبْرَأْ، وَلِهَذَا لَوْ قَبَضَ النَّفَقَةَ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، جَازَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهَا لَوْ أَبْرَأَتِ الزَّوْجَ عَنْ نَفَقَةِ الْيَوْمِ جَازَ، وَلَيْسَ لَهَا الْإِبْرَاءُ عَمَّا صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَقَدْ تَنَازَعَ قِيَاسَ الْمِلْكِ فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ نَفَقَةِ الْيَوْمِ، لَكِنَّ نَفَقَةَ الْيَوْمِ لِلْحَاجَةِ النَّاجِزَةِ، وَكَانَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلسَّيِّدِ إِلَّا بَعْدَ الْأَخْذِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَتَمَحُّضُ الْحَقِّ لَهَا، وَلَوِ اخْتَلَفَتِ الْأَمَةُ وَزَوْجُهَا فِي تَسْلِيمِ نَفَقَةِ الْيَوْمِ، أَوْ أَيَّامٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا، وَلَا أَثَرَ لِتَصْدِيقِ السَّيِّدِ الزَّوْجَ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، وَصَدَّقَ السَّيِّدُ الزَّوْجَ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: كَانَ السَّيِّدُ شَاهِدًا لَهُ، وَلَا يَثْبُتُ الْمُدَّعَى بِتَصْدِيقِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَثْبُتُ، وَتَكُونُ الْخُصُومَةُ فِي النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ لِلسَّيِّدِ، لَا لَهَا كَالْمَهْرِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، كَمَا لَوْ أَقَرَّ السَّيِّدُ بِأَنَّ الْعَبْدَ جَنَى خَطَأً، وَأَنْكَرَ الْعَبْدُ، لَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِنْكَارِهِ. وَلَوْ أَقَرَّتِ الْأَمَةُ

فصل

بِالْقَبْضِ، وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا، لِأَنَّ الْقَبْضَ إِلَيْهَا بِحُكْمِ النِّكَاحِ، أَوْ صَرِيحِ الْإِذْنِ، وَقِيلَ: قَوْلُ السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ الْمَالِكُ. فَصْلٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْفَسْخِ بِالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَثْبُتُ، فَلَهَا الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْكَنِ لِطَلَبِ النَّفَقَةِ إِنِ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لِتَحْصِيلِهَا، وَكَذَا لَوْ أَمْكَنَهَا أَنْ تُنْفِقَ مِنْ مَالِهَا فِي الْمَسْكَنِ، أَوْ أَنْ تَكْسِبَ بِغَزْلٍ وَنَحْوِهِ فِي الْمَسْكَنِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَهَا مَنْعُهُ مِنَ الْوَطْءِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَشَرَطَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ كَوْنَهَا لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ الْأَكْثَرُونَ. فَصْلٌ إِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ لَمْ يُنْفِقْ فِيهَا عَلَى الزَّوْجَةِ، فَاخْتَلَفَا، فَقَالَتْ: كُنْتَ مُوسِرًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَقَالَ: كُنْتُ مُعْسِرًا، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِلَّا فَقَوْلُهُ. فَصْلٌ قَدْ سَبَقَ أَنَّ نَفَقَةَ زَوْجَةِ الْعَبْدِ مِنْ أَيْنَ تَكُونُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلَا كَسُوبًا فَقَدْ حَكَيْنَا قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّ الْمَهْرَ عَلَى سَيِّدِهِ، وَيَكُونُ بِالْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ ضَامِنًا. قَالَ الْخُضَرِيُّ وَغَيْرُهُ:

فصل

وَذَلِكَ الْقَوْلُ يَجِيءُ فِي النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا أَمَسَّ. فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُنْفِقُ مِنْ كَسْبِهِ، فَعَجَزَ بِزَمَانَةٍ وَغَيْرِهَا، فَعَلَى الْقَدِيمِ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَةُ السَّيِّدِ، وَعَلَى الْأَظْهَرِ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ، أَوْ تَصِيرَ نَفَقَتُهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ. فَصْلٌ إِذَا عَجَزَ عَنْ نَفَقَةِ أُمِّ وَلَدِهِ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى عِتْقِهَا، أَوْ تَزْوِيجِهَا إِنْ وُجِدَ رَاغِبٌ فِيهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ بَلْ يُخَلِّيهَا لِتَكْسِبَ وَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ نَفَقَتُهَا بِالْكَسْبِ، فَهِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ، ضَمَانُ النَّفَقَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْبَابُ الرَّابِعُ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ سَبَقَ أَنَّ أَحَدَ أَسْبَابِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْمُؤَنِ: الْقَرَابَةُ، وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي مَنَاطِ هَذِهِ النَّفَقَةِ، وَشَرَائِطِ وُجُوبِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِنَّمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ بِقَرَابَةِ الْبَعْضِيَّةِ، فَتَجِبُ لِلْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ وَبِالْعَكْسِ، وَسَوَاءٌ فِيهِ الْأَبُ وَالْأُمُّ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ وَالْأَحْفَادُ وَإِنْ نَزَلُوا، الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْوَارِثُ وَغَيْرُهُ وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَفِي وَجْهٍ: لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ كَافِرٍ، وَفِي وَجْهٍ: لَا تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ نَفَقَةٌ بِحَالٍ، حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ، وَهُمَا شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ، وَلَا يَلْحَقُ بِالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ سَائِرُ الْأَقَارِبِ كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ، وَالْعَمِّ وَالْخَالِ، وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَغَيْرِهِمْ. الثَّانِيَةُ: لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ إِلَّا عَلَى مُوسِرٍ، وَهُوَ مَنْ فَضِلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَا يَصْرِفُهُ إِلَى الْقَرِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ يَسَارُ الْوَالِدِ فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ، فَعَلَى هَذَا يُسْتَقْرَضُ عَلَيْهِ، وَيُؤْمَرُ بِقَضَائِهِ إِذَا أَيْسَرَ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَيُبَاعُ فِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ مَا يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ مِنَ الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ لَا بَدَلَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ، وَفِي كَيْفِيَّةِ بَيْعِ الْعَقَارِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ، أَحَدُهُمَا: يُبَاعُ كُلَّ

يَوْمٍ جُزْءٌ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَسْبِقُ، فَيَقْتَرِضُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ مَا يَسْهُلُ بَيْعُ الْعَقَارِ لَهُ. الثَّالِثَةُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ مَالٌ، لَكِنَّهُ كَانَ ذَا كَسْبٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْسَبَ مَا يَفْضُلُ عَنْهُ، فَهَلْ يُكَلَّفُ الْكَسْبَ لِنَفَقَةِ الْقَرِيبِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهُمَا: لَا كَمَا لَا يُكَلَّفُ الْكَسْبَ لِقَضَاءِ الدُّيُونِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِحْيَاءُ نَفْسِهِ بِالْكَسْبِ فَكَذَا أَصْلُهُ وَفَرْعُهُ، وَيُخَالِفُ الدَّيْنَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ وَالنَّفَقَةُ يَسِيرَةٌ. وَالثَّالِثُ: يُكَلَّفُ لِلْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدِ. فَرْعٌ يَجِبُ الِاكْتِسَابُ لِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ فِيهِ وَجْهَيْنِ لِالْتِحَاقِهَا بِالدُّيُونِ. الرَّابِعَةُ: مَنْ لَهُ مَالٌ يَكْفِيهِ لِنَفَقَتِهِ، أَوْ هُوَ مُكْتَسِبٌ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْقَرِيبِ، سَوَاءٌ كَانَ مَجْنُونًا صَغِيرًا زَمَنًا أَوْ بِخِلَافِهِ، وَمَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا هُوَ مُكْتَسِبٌ، يُنْظَرُ، إِنْ كَانَ بِهِ نَقْصٌ فِي الْحُكْمِ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، أَوْ فِي الْخِلْقَةِ كَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى، لَزِمَ الْقَرِيبَ نَفَقَتُهُ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ وَالْمَجْنُونُ حَدًّا يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّمَ حِرْفَةً، أَوْ يُحْمَلَ عَلَى الْكَسْبِ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَيْهِ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهِ، لَكِنْ لَوْ هَرَبَ عَنِ الْحِرْفَةِ، أَوْ تَرَكَ الِاكْتِسَابَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، فَعَلَى الْقَرِيبِ نَفَقَتُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لَا تَلِيقُ بِهِ الْحِرْفَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَقْصٌ فِي الْحُكْمِ وَلَا فِي الْخِلْقَةِ، لَكِنَّهُ كَانَ لَا يَكْتَسِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُرُوعِ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ فِيهِ الِابْنُ وَالْبِنْتُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأُصُولِ وَجَبَتْ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمُصَاحَبَتِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ تَكْلِيفُهُمُ الْكَسْبَ مَعَ كِبَرِ السِّنِّ، وَكَمَا يَجِبُ الْإِعْفَافُ،

وَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ، وَلِحُرْمَةِ الْوَالِدَيْنِ. هَذِهِ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اكْتِسَابٍ وَاكْتِسَابٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْخِلَافَ أَوَّلًا فِي اشْتِرَاطِ الْعَجْزِ عَنْ كَسْبٍ يَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنْ شُرِطَ ذَلِكَ فَفِي اشْتِرَاطِ الْعَجْزِ عَنْ كُلِّ كَسْبٍ يَلِيقُ بِهِ بِالزَّمَانَةِ، وَجْهَانِ، وَرَأَوُا الْأَعْدَلَ الْأَقْرَبَ الِاكْتِفَاءِ بِعَجْزِهِ عَمَّا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْأَكْسَابِ، وَأَوْجَبُوا النَّفَقَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَنْسِ وَحَمْلِ الْقَاذُورَاتِ، وَسَائِرِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَهَذَا حَسَنٌ. الْخَامِسَةُ: نَفَقَةُ الْقَرِيبِ لَا تَتَقَدَّرُ، بَلْ هِيَ قَدْرُ الْكِفَايَةِ، وَعَنِ ابْنِ خَيْرَانِ أَنَّهَا تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهَا تَجِبُ لِتَزْجِيَةِ الْوَقْتِ وَدَفْعِ حَاجَتِهِ النَّاجِزَةِ، فَتُعْتَبَرُ الْحَاجَةُ وَقَدْرُهَا، حَتَّى لَوِ اسْتَغْنَى فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ بِضِيَافَةٍ وَغَيْرِهَا، لَمْ تَجِبْ، وَتُعْتَبَرْ حَالُهُ فِي سِنِّهِ وَزَهَادَتِهِ وَرَغْبَتِهِ، فَالرَّضِيعُ تَكْفِي حَاجَتَهُ بِمُؤْنَةِ الْإِرْضَاعِ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَالْفَطِيمُ وَالشَّيْخُ مَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُشْتَرَطُ انْتِهَاءُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَكْفِي مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، بَلْ يُعْطِيهِ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، وَيَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنَ التَّرَدُّدِ وَالتَّصَرُّفِ، وَيَجِبُ الْأُدْمُ كَمَا يَجِبُ الْقُوتُ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» نِزَاعٌ فِي الْأُدْمِ، وَتَجِبُ الْكِسْوَةُ وَالسُّكْنَى عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ، وَإِذَا احْتَاجَ إِلَى الْخِدْمَةِ، وَجَبَتْ مُؤْنَةُ الْخَادِمِ. السَّادِسَةُ: تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَلَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، سَوَاءٌ تَعَدَّى بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِنْفَاقِ أَمْ لَا، وَفِي الصَّغِيرِ وَجْهٌ، أَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا تَبَعًا لِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَجِبْ فِيهَا التَّمْلِيكُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الِامْتِنَاعُ، وَلَوْ سَلَّمَ النَّفَقَةَ إِلَى الْقَرِيبِ، فَتَلَفَتْ فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهَا، وَجَبَ الْإِبْدَالُ، لَكِنْ إِذَا أَتْلَفَهَا، لَزِمَهُ ضَمَانُهَا إِذَا أَيْسَرَ، وَيُسْتَثْنَى مَا إِذَا أَقْرَضَهَا الْقَاضِي، أَوْ أَذِنَ فِي الِاقْتِرَاضِ لِغَيْبَةٍ أَوِ امْتِنَاعٍ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ.

السَّابِعَةُ: قَدْ سَبَقَ فِي النِّكَاحِ أَنَّ الِابْنَ يَلْزَمُهُ إِعْفَافُ أَبِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَأَنَّهُ إِذَا أَعَفَّهُ بِزَوْجَةٍ، أَوْ مَلَّكَهُ جَارِيَةً، لَزِمَهُ نَفَقَتُهَا وَمُؤْنَتُهَا حَيْثُ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْأَبِ، فَلَوْ كَانَ لِلْأَبِ أُمُّ وَلَدٍ لَزِمَ الْوَلَدَ أَيْضًا نَفَقَتُهَا، وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ زَوْجَتَانِ فَأَكْثَرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نَفَقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَدْفَعُ تِلْكَ النَّفَقَةَ إِلَى الْأَبِ وَهُوَ يُوَزِّعُهَا عَلَيْهِمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ الْفَسْخُ لِفَوَاتِ بَعْضِ حَقِّهَا، فَإِنْ فَسَخَتْ وَاحِدَةٌ تَمَّتِ النَّفَقَةُ لِلْأُخْرَى، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهًا أَنَّهُ إِذَا كَانَ تَحْتَ الْأَبِ زَوْجَتَانِ فَأَكْثَرُ، لَمْ يَلْزَمِ الْوَلَدُ لَهُمَا شَيْئًا، لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّةَ لَا تَتَعَيَّنُ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَلَوْ كَانَ لِلْأَبِ أَوْلَادٌ فَوَجْهَانِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَلْزَمُ الِابْنَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ عَلَى الْأَبِ، فَيَتَحَمَّلُهَا الِابْنُ عَنْهُ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَيُخَالِفُ الزَّوْجَةَ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ يُنْفِقْ فَسَخَتْ، فَيَتَضَرَّرُ الْأَبُ، وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا تَجِبُ عَلَى الْأَبِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا. فَرْعٌ إِذَا كَانَ الِابْنُ فِي نَفَقَةِ أَبِيهِ، وَلَهُ زَوْجَةٌ، فَوَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ الْأَبَ نَفَقَتُهَا وَنَفَقَةُ كُلِّ قَرِيبٍ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْكِفَايَةِ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَأَصَحُّهُمَا: لَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَبَ إِعْفَافُ الِابْنِ. فَرْعٌ كَمَا تَجِبُ عَلَى الِابْنِ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الْأَبِ، تَجِبُ عَلَيْهِ كِسْوَتُهَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَا يَلْزَمُ الْأُدْمُ، وَلَا نَفَقَةُ الْخَادِمِ لِأَنَّ فَقْدَهُمَا لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، لَكِنْ قِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِابْنَ يَتَحَمَّلُ مَا لَزِمَ الْأَبَ وُجُوبُهُمَا لِأَنَّهُمَا وَاجِبَانِ عَلَى الْأَبِ مَعَ إِعْسَارِهِ.

الثَّامِنَةُ: إِذَا امْتَنَعَ الْأَبُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ الصَّغِيرِ، أَوْ كَانَ غَائِبًا، أَذِنَ الْقَاضِي لِأُمِّهِ فِي الْأَخْذِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ الِاسْتِقْرَاضِ عَلَيْهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الصَّغِيرِ بِشَرْطِ أَهْلِيَّتِهَا لِذَلِكَ، وَهَلْ تَسْتَقِلُّ بِالْأَخْذِ مِنْ مَالِهِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ لِقِصَّةِ هِنْدٍ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِأَنَّهَا لَا تَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ، وَتُحْمَلُ قِصَّةُ هِنْدٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَضَاءً، أَوْ إِذْنًا لَهَا لَا إِفْتَاءً وَحُكْمًا عَامًّا، وَفِي اسْتِقْلَالِهَا بِالِاقْتِرَاضِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ تَجِدْ لَهُ مَالًا، وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ لِخُرُوجِهِ عَنْ صُورَةِ الْحَدِيثِ، وَمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ، وَعَنِ الْقَفَّالِ تَجْوِيزُهُ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا اسْتِقْلَالَهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ، وَأَشْهَدَتْ، لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا اقْتَرَضَتْهُ، وَإِنْ لَمْ تُشْهِدْ، فَوَجْهَانِ، وَلَوْ أَنْفَقَتْ عَلَى الطِّفْلِ الْمُوسِرِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِذَنْ الْأَبِ وَالْقَاضِي، فَوَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ، لِأَنَّهَا لَا تَتَعَدَّى مَصْلَحَةَ الطِّفْلِ، وَلَا تَتَصَرَّفُ فِي غَيْرِ مَالِهِ. وَلَوْ أَنْفَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهَا بِقَصْدِ الرُّجُوعِ وَأَشْهَدَتْ، رَجَعَتْ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. التَّاسِعَةُ: إِذَا امْتَنَعَ الْقَرِيبُ مِنْ نَفَقَةِ قَرِيبِهِ، فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَخَذُ الْوَاجِبِ مِنْ مَالِهِ إِنْ وَجَدَ جِنْسَهُ، وَفِي غَيْرِ الْجِنْسِ خِلَافٌ يَأْتِي فِي الدَّعَاوَى - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَلَا مَالَ لَهُ هُنَاكَ، رَاجَعَ الْقَاضِي لِيَقْتَرِضَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَاضٍ وَاقْتَرَضَ، نُظِرَ، هَلْ أَشْهَدَ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي اقْتِرَاضِ الْأُمِّ لِلطِّفْلِ. الْعَاشِرَةُ: إِذَا كَانَ الْأَبُ الَّذِي عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ غَائِبًا، وَالْجَدُّ حَاضِرٌ، فَإِنْ تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَبِقَرْضِ الْقَاضِي، أَوْ يَأْذَنُ لِلْجَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ، لِيَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ، وَفِي «الْبَحْرِ» وَجْهٌ ضَعِيفٌ، أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ. وَلَوِ اسْتَقَلَّ الْجَدُّ بِالِاقْتِرَاضِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ مُرَاجَعَةُ الْقَاضِي فَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ قَضَاؤُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِلَّا فَيُنْظَرُ فِي الْإِشْهَادِ وَعَدَمِهِ.

فصل

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الْأَبِ أَوِ الْجَدِّ عَلَى الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ، أَخَذَاهَا مِنْ مَالِهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، وَلَهُمَا أَنْ يُؤَاجِرَاهُ لِمَا يُطِيقُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَيَأْخُذَا مِنْ أُجْرَتِهِ نَفَقَةَ أَنْفُسِهِمَا، وَالْأُمُّ لَا تَأْخُذُ إِلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، وَكَذَا الِابْنُ إِذَا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ الْمَجْنُونِ، فَلَوْ كَانَ يَصْلُحُ لِصَنْعَةٍ، فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُوَلِّيَ ابْنَهُ إِجَارَتَهُ، وَأَخْذَ نَفَقَةِ نَفْسِهِ مِنْ أُجْرَتِهِ. فَصْلٌ يَجِبُ عَلَى الْأُمِّ أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا اللِّبَأَ، وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ إِنْ كَانَ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ، وَفِي وَجْهٍ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا أُجْرَةَ لَهَا، لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، كَمَا يَلْزَمُ بَذْلُ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ بِبَدَلِهِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ سَقْيِ اللِّبَأِ مُرْضِعَةٌ غَيْرُهَا، لَزِمَهَا الْإِرْضَاعُ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا أَجْنَبِيَّةٌ، لَزِمَهَا الْإِرْضَاعُ، وَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهَا وَامْتَنَعَتِ الْأُمُّ مِنَ الْإِرْضَاعِ، لَمْ تُجْبَرْ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي نِكَاحِ الْأَبِ أَمْ بَائِنَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّنْ يُرْضِعُ مِثْلُهَا الْوَلَدَ فِي الْعَادَةِ أَمْ لَا. وَإِنْ رَغِبَتِ الْأُمُّ فِي الْإِرْضَاعِ، فَلَهَا حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي نِكَاحِ أَبِي الرَّضِيعِ، فَهَلْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ إِرْضَاعِهِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالْوَلَدِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا فِي أَوْقَاتِ الْإِرْضَاعِ لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ الْمَنْعُ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي «الْحِلْيَةِ» وَقَطَعَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ فِي «الْمُجَرَّدِ» وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْفُورَانِيُّ وَصَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» وَالْجُرْجَانِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ، أَوْ تَوَافَقَا عَلَى الْإِرْضَاعِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَبَرِّعَةً فَذَاكَ، وَهَلْ تُزَادُ نَفَقَتُهَا لِلْإِرْضَاعِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا قَالَهُ

أَبُو إِسْحَاقَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ: نَعَمْ، وَيَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ فِي الْإِرْضَاعِ إِلَى زِيَادَةِ الْغِذَاءِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِحَالِ الْمَرْأَةِ وَحَاجَتِهَا، وَإِنْ طَلَبَتْ أُجْرَةً، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ هَلْ لَهُ اسْتِئْجَارُ زَوْجَتِهِ لِإِرْضَاعِ وَلَدِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْإِجَارَةِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: لَا يَجُوزُ، وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، فَعَلَى هَذَا حُكْمُهَا إِذَا طَلَبَتِ الْأُجْرَةَ حُكْمُ الْبَائِنِ إِذَا طَلَبَتِ الْإِرْضَاعَ بِأُجْرَةٍ، وَسَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَإِذَا أَرْضَعَتْ بِالْأُجْرَةِ، فَإِنْ كَانَ الْإِرْضَاعُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا يُنْقِصُهُ فَلَهَا مَعَ الْأُجْرَةِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ أَوْ يُنْقِصُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا بِإِذْنِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ، وَأَرْضَعَتْ عَلَى طَمَعِ الْأُجْرَةِ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ خَيْرَانِ: تَسْتَحِقُّ، لِأَنَّهَا لَمْ تَبْذُلْ مَنْفَعَتَهَا مَجَّانًا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَسْتَحِقُّ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُفَارِقَةً، فَإِنْ تَبَرَّعَتْ بِالْإِرْضَاعِ، لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الْمَنْعُ، وَإِنْ طَلَبَتْ أُجْرَةً، نُظِرَ، إِنْ طَلَبَتْ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ، وَكَانَ لَهُ اسْتِرْضَاعُ أَجْنَبِيَّةٍ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَإِنْ طَلَبَتْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، فَهِيَ أَوْلَى مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِنْ وُجِدَ أَجْنَبِيَّةٌ تَتَبَرَّعُ، أَوْ تَرْضَى بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَهَلْ لِلْأَبِ انْتِزَاعُ الْوَلَدِ مِنْهَا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَشْهَرُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: لَهُ الِانْتِزَاعُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَهُ الِانْتِزَاعُ قَطْعًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْإِصْطَخْرِيُّ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ لَوِ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْأَبُ: أَجِدُ مُتَبَرِّعَةً، وَأَنْكَرَتْ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ أُجْرَةً، الْأَصْلُ عَدَمُهَا، وَلِأَنَّهُ تَشُقُّ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا الْأُجْرَةَ فَهِيَ فِي مَالِ الطِّفْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَعَلَى الْأَبِ كَالنَّفَقَةِ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي اجْتِمَاعِ أَقَارِبِ الْمُحْتَاجِ وَالْأَقَارِبِ الْمُحْتَاجِينَ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ:

الْأَوَّلُ: فِي اجْتِمَاعِ الْفُرُوعِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُمُ النَّفَقَةُ لِلْأَصْلِ الْمُحْتَاجِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ مِنَ الْأَوْلَادِ، نُظِرَ؛ إِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ وَالْوِرَاثَةِ أَوْ عَدَمِهَا، وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ، سَوَاءٌ اسْتَوَيَا فِي الْيَسَارِ، أَمْ تَفَاوَتَا، وَسَوَاءٌ أَيْسَرَا بِالْمَالِ أَوِ الْكَسْبِ، أَوْ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ، وَالْآخِرُ بِكَسْبٍ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا، أُخِذَ قِسْطُهُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اقْتُرِضَ عَلَيْهِ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: النَّظَرُ إِلَى الْقُرْبِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ وَارِثًا أَوْ غَيْرَهُ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ، فَفِي التَّقْدِيمِ بِالْإِرْثِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قَدَّمْنَا بِالْإِرْثِ، فَكَانَا وَارِثَيْنِ، فَهَلْ يَسْتَوِيَانِ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ، أَمْ تَتَوَزَّعُ بِحَسَبِ الْإِرْثِ؟ وَجْهَانِ: الطَّرِيقُ الثَّانِي: النَّظَرُ إِلَى الْإِرْثِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَارِثًا دُونَ الْآخَرِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَقْرَبَ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْإِرْثِ، قُدِّمَ الْأَقْرَبُ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْقُرْبِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ هَلْ تَسْتَوِي أَمْ تُوَزَّعُ بِحَسَبِ الْإِرْثِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ الطَّرِيقَيْنِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ الذَّكَرُ بِالْوُجُوبِ، أَمْ يَسْتَوِيَانِ؟ وَجْهَانِ: وَأَصَحُّ الطَّرِيقَيْنِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ وَالْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِمْ: الْأَوَّلُ، دُونَ اعْتِبَارِ الْإِرْثِ وَالذُّكُورَةِ، وَاخْتِيَارُ الْعِرَاقِيِّينَ يُخَالِفُهُمْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا نَذْكُرُهُ فِي الْأَمْثِلَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. أَمْثِلَةٌ: ابْنٌ وَبِنْتٌ، النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ، إِنِ اعْتَبَرْنَا الْقُرْبَ، أَوْ أَصْلَ الْإِرْثِ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الذُّكُورَةَ، فَعَلَى الِابْنِ فَقَطْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْعِرَاقِيِّينَ. بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ، هِيَ عَلَى الْبِنْتِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْقُرْبَ، وَعَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْإِرْثَ، وَعَلَى ابْنِ الِابْنِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الذُّكُورَةَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْعِرَاقِيِّينَ.

بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ، هِيَ عَلَى الْبِنْتِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْقُرْبَ، وَعَلَيْهِمَا إِنِ اعْتَبَرْنَا الْإِرْثَ. بِنْتٌ وَابْنُ بِنْتٍ، هِيَ عَلَى الْبِنْتِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْقُرْبَ، أَوِ الْإِرْثَ، وَعَلَى ابْنِ الْبِنْتِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الذُّكُورَةَ. ابْنُ ابْنٍ وَابْنُ بِنْتٍ، عَلَيْهِمَا إِنِ اكْتَفَيْنَا بِالْقُرْبِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِنْ رَجَّحْنَا الْإِرْثَ. بِنْتُ ابْنٍ وَابْنُ بِنْتٍ، هِيَ عَلَى بِنْتِ الِابْنِ، إِنِ اعْتَبَرْنَا الْإِرْثَ، وَعَلَى ابْنِ الْبِنْتِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الذُّكُورَةَ، وَعَلَيْهِمَا إِنِ اكْتَفَيْنَا بِالِاسْتِوَاءِ فِي الدَّرَجَةِ. بِنْتُ بِنْتٍ وَبِنْتُ ابْنِ ابْنٍ، هِيَ عَلَى الْأُولَى إِنِ اعْتَبَرْنَا الْقُرْبَ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْإِرْثَ. بِنْتُ بِنْتٍ وَبِنْتُ ابْنٍ، عَلَيْهِمَا إِنِ اكْتَفَيْنَا بِالِاسْتِوَاءِ فِي الدَّرَجَةِ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْإِرْثَ. ابْنٌ وَوَلَدٌ خُنْثَى، إِنْ قُلْنَا فِي اجْتِمَاعِ الِابْنِ وَالْبِنْتِ، تَكُونُ عَلَيْهِمَا، فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: تَكُونُ عَلَى الِابْنِ، فَهُنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الِابْنِ نِصْفُهَا، لِأَنَّهُ الْمُسْتَيْقِنُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَقْتَرِضُهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ ذَكَرًا، فَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَعَلَى الِابْنِ، وَأَصَحُّهُمَا: يُؤْخَذُ الْجَمِيعُ مِنْ الِابْنِ، فَإِنْ بَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا، رَجَعَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ. بِنْتٌ وَوَلَدٌ خُنْثَى، إِنْ قُلْنَا فِي اجْتِمَاعِ الِابْنِ وَالْبِنْتِ: النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا، فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَى الِابْنِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ عَلَى الْخُنْثَى، فَإِنْ بَانَتْ أُنُوثَتُهُ، رَجَعَتْ عَلَى أُخْتِهَا بِالنِّصْفِ. وَالثَّانِي: لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلَّا النِّصْفُ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَيُؤْخَذُ النِّصْفُ الْآخَرُ مِنَ الْبِنْتِ، فَإِنْ بَانَتْ ذُكُورَتُهُ، رَجَعَتْ عَلَيْهِ.

قُلْتُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ وَجْهُ الِاقْتِرَاضِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الْبِنْتِ شَيْءٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الثَّانِي: إِذَا اجْتَمَعَ لِلْمُحْتَاجِ قَرِيبَانِ مِنْ أُصُولِهِ، نُظِرَ؛ إِنِ اجْتَمَعَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، فَأَوْجُهٌ: الصَّحِيحُ: أَنَّهَا عَلَى الْأَبِ، وَالثَّانِي: عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا كَالْإِرْثِ، وَالثَّالِثُ: عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنِ اجْتَمَعَتِ الْأُمُّ وَوَاحِدٌ مِنْ آبَاءِ الْأَبِ، فَأَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ: أَنَّهَا عَلَى الْجَدِّ، وَالثَّانِي: عَلَى الْأُمِّ، وَالثَّالِثُ: عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا، وَالرَّابِعُ: عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنِ اجْتَمَعَ اثْنَانِ مِنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُدْلِي بِالْآخَرِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْقَرِيبِ، وَإِلَّا فَفِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ أَرْجَحُهَا: اعْتِبَارُ الْقُرْبِ، وَالثَّانِي: الْإِرْثُ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَسْعُودِيِّ: الِاعْتِبَارُ بِوِلَايَةِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ، وَأَحَدُهُمَا يُدْلِي بِالْوَلِيِّ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِدْلَاءً بِالْوَلِيِّ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْإِدْلَاءِ بِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، اعْتُبِرَ فِيهِ الْقُرْبُ، وَالْمُرَادُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: الْجِهَةُ الَّتِي تُفِيدُهَا، لَا نَفْسُ الْوِلَايَةِ الَّتِي قَدْ يَمْنَعُ مِنْهَا مَانِعٌ مَعَ وُجُودِ الْجِهَةِ. وَالرَّابِعُ: الِاعْتِبَارُ بِالذُّكُورَةِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الذَّكَرِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْمُدْلِي بِذَكَرٍ، فَإِنِ اسْتَوَيَا، اعْتُبِرَ الْقُرْبُ. وَالْخَامِسُ: يُعْتَبَرُ الْإِرْثُ وَالذُّكُورَةُ مَعًا، فَإِنِ اخْتَصَّ بِهِمَا أَحَدُهُمَا، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وُجِدَا فِيهِمَا، أَوْ لَمْ يُوجَدَا، أَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فِي أَحَدِهِمَا، وَالْآخَرُ فِي الْآخَرِ، اعْتُبِرَ الْقُرْبُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُجْبَرُ فَقْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ بِالْآخَرِ. الْأَمْثِلَةُ: أَبُو الْأَبِ، وَأَبُو الْأُمِّ، إِنِ اكْتَفَيْنَا بِالْقُرْبِ، سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْإِرْثَ، أَوِ الْوِلَايَةَ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى أَبِي الْأَبِ. أَمُّ أَبٍ وَأُمُّ أُمٍّ، إِنِ اعْتَبَرْنَا الْقُرْبَ أَوِ الْإِرْثَ، سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْإِدْلَاءَ بِالْوَلِيِّ أَوْ بِذَكَرٍ، فَهِيَ عَلَى أُمِّ الْأَبِ.

أَبُو الْأُمِّ، وَأُمُّ الْأَبِ، إِنِ اعْتَبَرْنَا الْقُرْبَ، سَوَّيْنَا، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْإِرْثَ، أَوِ الْإِدْلَاءَ بِالْوَلِيِّ فَهِيَ عَلَى أُمِّ الْأَبِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْخَامِسِ: يُجْبَرُ فُقْدَانُ الْإِرْثِ فِيهِ بِالذُّكُورَةِ، وَفُقْدَانُ الذُّكُورَةِ فِيهَا بِالْوِرَاثَةِ، فَيَسْتَوِيَانِ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: إِذَا اجْتَمَعَ لِلْمُحْتَاجِ وَاحِدٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَآخَرُ مَنْ فُرُوعِهِ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الْخَمْسَةُ، فَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فِي وَجْهٍ، وَالْوَارِثُ فِي وَجْهٍ، وَالْوَلِيُّ فِي وَجْهٍ، وَالذَّكَرُ فِي وَجْهٍ، وَيَسْتَوِي الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي وَجْهٍ، وَإِذَا وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى وَارِثَيْنِ، جَاءَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ التَّوْزِيعَ بِالسَّوِيَّةِ، أَمْ بِحَسَبِ الْإِرْثِ؟ فَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَابْنٌ، فَهَلِ النَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ أَمِ الْأَبِ أَمْ عَلَيْهِمَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ لِأَنَّ عُصُوبَتَهُ أَقْوَى، وَلِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْقِيَامِ بِشَأْنِ الْوَالِدِ، وَتَجْرِي هَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي أَبٍ وَبِنْتٍ، وَفِي جَدٍّ وَابْنِ ابْنٍ، وَتَجْرِي أَيْضًا فِي أُمٍّ وَبِنْتٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: يُقْطَعُ بِأَنَّهَا عَلَى الْبِنْتِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. وَفِي أُمٍّ وَابْنٍ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِتَقْدِيمِ الِابْنِ، لِضَعْفِ الْإِنَاثِ عَنْ تَحَمُّلِ الْمُؤَنِ، وَيَجْرِي الطَّرِيقَانِ فِي جَدٍّ وَابْنٍ، وَفِي أَبٍ وَابْنِ ابْنٍ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ عَلَى الْأُصُولِ مَا دَامَ يُوجَدُ وَاحِدٌ مِنَ الْفُرُوعِ، قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي ازْدِحَامِ الْآخِذِينَ، فَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَى الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مُحْتَاجُونَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ، نُظِرَ؛ إِنْ وَفَّى مَالُهُ أَوْ كَسْبُهُ بِنَفَقَتِهِمْ، فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْجَمِيعِ، قَرِيبِهِمْ وَبِعِيدِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ كِفَايَةِ نَفْسِهِ إِلَّا نَفَقَةُ وَاحِدٍ، قَدَّمَ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، هَذَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا آكَدُ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَلَا بِالْإِعْسَارِ، وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا، وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ بِأَنَّ نَفَقَتَهَا إِذَا

كَانَتْ كَذَلِكَ، كَانَتْ كَالدُّيُونِ، وَنَفَقَةُ الْقَرِيبِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ تُقَدَّمُ عَلَى الدُّيُونِ، وَخَرَّجَ لِذَلِكَ احْتِمَالًا فِي تَقْدِيمِ الْقَرِيبِ، وَأَيَّدَهُ بِالْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَعِي دِينَارٌ؟ فَقَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ» فَقَالَ: مَعِي آخَرُ؟ فَقَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ» ، فَقَالَ: مَعِي آخَرُ؟ فَقَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ» . فَقَدَّمَ نَفَقَةَ الْوَلَدِ عَلَى الْأَهْلِ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ أَنَّ نَفَقَةَ الْوَلَدِ الطِّفْلِ تُقَدَّمُ عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَأَمَّا الَّذِينَ يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ بِالْقَرَابَةِ، فَتَعُودُ فِيهِمُ الْأَوْجُهُ فِي أَنَّهُ يَصْرِفُ الْفَاضِلَ إِلَى الْأَقْرَبِ، أَوِ الْوَارِثِ، أَوِ الْوَلِيِّ، وَعَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ الْقَائِلِ هُنَاكَ أَنَّهَا عَلَى الذَّكَرِ يُصْرَفُ الْفَاضِلُ هُنَا إِلَى الْأُنْثَى لِعَجْزِهَا، وَيُسَوَّى فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَإِذَا صُرِفَ إِلَى وَارِثِينَ، فَهَلْ يُوَزَّعُ بِالسَّوِيَّةِ، أَمْ بِحَسَبِ الْإِرْثِ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ بِالسَّوِيَّةِ، وَنُوَضِّحُ ذَلِكَ بِصُوَرٍ: ابْنَانِ أَوْ بِنْتَانِ، يَصْرِفُ الْمَوْجُودَ إِلَيْهِمَا، فَإِنِ اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِمَزِيدِ عَجْزٍ، بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا، أَوْ رَضِيعًا، قُدِّمَ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ. ابْنٌ وَبِنْتٌ، الصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالِابْنَيْنِ، وَقِيلَ: تُقَدَّمُ الْبِنْتُ لِضَعْفِهَا. ابْنُ بِنْتٍ، وَبِنْتُ ابْنٍ، ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ بِنْتَ الِابْنِ تُقَدَّمُ لِضَعْفِهَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يُجْعَلَا كَالِابْنِ وَالْبِنْتِ. أَبٌ وَجَدٌّ، أَوِ ابْنٌ وَابْنُ ابْنٍ، قِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَالْأَصَحُّ: تَقْدِيمُ الْأَبِ وَالِابْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبْعَدَ زَمَنًا، فَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يُقَدَّمُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ جَدَّانِ فِي دَرَجَةٍ، وَأَحَدُهُمَا عَصَبَةٌ، كَأَبِي الْأَبِ مَعَ أَبِي الْأُمِّ، فَالْعَصَبَةُ أَوْلَى، وَأَنَّهُ لَوِ اخْتَلَفَتِ الدَّرَجَةُ، وَاسْتَوَيَا فِي الْعُصُوبَةِ

أَوْ عَدَمِهَا، فَالْأَقْرَبُ مُقَدَّمٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَبْعَدُ عَصَبَةً، تَعَارَضَ الْقُرْبُ وَالْعُصُوبَةُ، فَيَسْتَوِيَانِ. أَبٌ وَابْنٌ، إِنْ كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا، قُدِّمَ، وَإِلَّا فَهَلْ يُقَدَّمُ الِابْنُ أَمِ الْأَبُ، أَمْ يَسْتَوِيَانِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: ثَالِثُهَا: اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ، وَتَجْرِي الْأَوْجُهُ فِي الِابْنِ وَالْأُمِّ، وَفِي الْأَبِ وَالْبِنْتِ، وَفِي الْجَدِّ وَابْنِ الِابْنِ. أَبٌ وَأُمٌّ، تُقَدَّمُ الْأُمُّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: الْأَبُ، وَقِيلَ: يَسْتَوِيَانِ. جَدٌّ وَابْنٌ، قِيلَ بِطَرْدِ الْأَوْجُهِ، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ الِابْنُ قَطْعًا، وَعَنْ - الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ إِذَا اجْتَمَعَ جَدَّتَانِ لِإِحْدَاهُمَا وِلَادَتَانِ، وَلِلْأُخْرَى وِلَادَةٌ، فَإِنْ كَانَتَا فِي دَرَجَةٍ، فَذَاتُ الْوِلَادَتَيْنِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ، فَالْأُخْرَى أَوْلَى، وَأَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَتْ بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ أَبُوهَا ابْنُ ابْنِ بِنْتِهِ وَبِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ لَيْسَ أَبُوهَا مِنْ أَوْلَادِهِ، فَإِنْ كَانَتَا فِي دَرَجَةٍ، فَصَاحِبَةُ الْقَرَابَتَيْنِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَبْعَدَ، فَالْأُخْرَى أَوْلَى. فَرْعٌ مَتَى اسْتَوَى اثْنَانِ، وُزِّعَ الْمَوْجُودُ عَلَيْهِمَا، فَلَوْ كَثَرُوا بِحَيْثُ لَوْ وُزِّعَ، لَمْ يَسُدَّ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدٍ مَسَدًّا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ. فَرْعٌ إِذَا أَوْجَبْنَا النَّفَقَةَ عَلَى أَقْرَبِ الْقَرِيبَيْنِ، فَمَاتَ أَوْ أَعْسَرَ، وَجَبَتْ عَلَى الْأَبْعَدِ، فَإِنْ أَيْسَرَ الْأَقْرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَرْجِعِ الْأَبْعَدُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ. ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدَانِ، وَلَمْ يَقْدِرْ إِلَّا عَلَى نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا، وَلَهُ أَبٌ مُوسِرٌ، لَزِمَ الْأَبَ نَفَقَةُ الْآخَرِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْإِنْفَاقِ بِالشَّرِكَةِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ، فَذَاكَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا،

فصل

عُمِلَ بِقَوْلِ مَنْ يَدْعُو إِلَى الِاشْتِرَاكِ. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْأَبَوَيْنِ الْمُحْتَاجَيْنِ ابْنٌ لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا، وَلِلِابْنِ ابْنٌ مُوسِرٌ، فَعَلَى ابْنِ الِابْنِ بَاقِي نَفَقَتُهُمَا، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُنْفِقَا عَلَيْهِمَا بِالشَّرِكَةِ، أَوْ يُخَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ، فَذَاكَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا، رَجَعْنَا إِلَى اخْتِيَارِ الْأَبَوَيْنِ إِنِ اسْتَوَتْ نَفَقَتُهُمَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ، اخْتَصَّ أَكْثَرُهُمَا نَفَقَةً بِمَنْ هُوَ أَكْثَرُ يَسَارًا، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ فِي الصُّورَتَيْنِ مُخْتَلِفَانِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا، بَلْ يَنْبَغِي فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يُقَالَ: تُخْتَصُّ الْأُمُّ بِالِابْنِ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ، وَإِذَا اخْتَصَّتْ بِهِ، تَعَيَّنَ الْأَبُ لِإِنْفَاقِ ابْنِ الِابْنِ. فَصْلٌ لَا تَلْزَمُ الْعَبْدَ نَفَقَةُ وَلَدِهِ، بَلْ إِنْ كَانَتِ الْأُمُّ حُرَّةً، فَالْوَلَدُ حُرٌّ وَعَلَيْهَا نَفَقَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً، فَهُوَ رَقِيقُ نَفَقَتِهِ عَلَى مَالِكِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا، وَأَبَوَاهُ رَقِيقَانِ، فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي فُرُوعِهِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُكَاتَبَ نَفَقَةُ وَلَدِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ مُكَاتَبَةً، بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ صِيَانَةً لِحَقِّ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ الْأَمَةُ لِسَيِّدِهِ أَيْضًا، جَازَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ، لِأَنَّهُ مِلْكُ السَّيِّدِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ مُكَاتَبَةَ السَّيِّدِ، إِنْ جَعَلْنَا الْوَلَدَ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، لِجَوَازِ أَنْ تُعْتَقَ الْمُكَاتَبَةُ وَالْوَلَدُ، وَيَعْجَزُ الْمُكَاتَبُ، فَيَكُونُ قَدْ فَوَّتَ مَالَ سَيِّدِهِ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقٌ بِتَجْوِيزِ الْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَوِ اسْتَوْلَدَ الْمُكَاتَبُ جَارِيَةَ نَفْسِهِ، أَوْ كُنَّا لَا نُجَوِّزُ لَهُ ذَلِكَ، فَيَتَكَاتَبُ الْوَلَدُ عَلَيْهِ، وَيُنْفِقُ الْمُكَاتَبُ عَلَيْهِ مِنْ أَكْسَابِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ عُتِقَ، فَقَدْ أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَى وَلَدِهِ، وَإِنْ رَقَّ، رَقَّ الْوَلَدُ أَيْضًا، فَيَكُونُ قَدْ أَنْفَقَ مَالَ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ.

فَرْعٌ هَلْ تَجِبُ نَفَقَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى وَلَدِهِ الْحُرِّ؟ عَنْ «الْحَاوِي» أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لَا، لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الرِّقِّ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِانْقِطَاعِ النَّفَقَةِ عَنْ سَيِّدِهِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، فَيُنْفِقُ مِنْ كَسْبِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ، عَجَّزَ نَفْسَهُ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى سَيِّدِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ، قَالَ فِي «الْبَسِيطِ» : الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ، لِأَنَّهَا كَالْغَرَامَاتِ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةٌ تَامَّةٌ أَمْ نِصْفُهَا؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ نَفَقَةٌ كَامِلَةٌ، لِأَنَّهُ كَالْحُرِّ كَمَا فِي الْكَفَّارَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ مُحْتَاجًا، هَلْ يُلْزِمُهُ قَرِيبُهُ الْحُرُّ نَفَقَتَهُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ الْوُجُوبُ، وَيُمْكِنُ بِنَاؤُهُمَا عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُوَرَّثُ؟ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُوَرَّثُ كَالْأَحْرَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْحَضَانَةِ هِيَ الْقِيَامُ بِحِفْظِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ وَلَا يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ، وَتَرْبِيَتِهِ بِمَا يُصْلِحُهُ، وَوِقَايَتِهِ عَمَّا يُؤْذِيهِ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ وِلَايَةٍ وَسَلْطَنَةٍ، لَكِنَّهَا بِالْإِنَاثِ أَلْيَقُ، لِأَنَّهُنَّ أَشْفَقَ، وَأَهْدَى إِلَى التَّرْبِيَةِ، وَأَصْبَرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، وَأَشَدُّ مُلَازَمَةً لِلْأَطْفَالِ. وَمُؤْنَةُ الْحَضَانَةِ عَلَى الْأَبِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ الْكِفَايَةِ، كَالنَّفَقَةِ، وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأُمِّ طَلَبُ الْأُجْرَةِ بَعْدَ الْفِطَامِ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَأَمَّا أُجْرَةُ الرَّضَاعِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا، وَفِي الْبَابِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي صِفَاتِ الْحَاضِنِ وَالْمَجْنُونِ، فَإِنْ كَانَ أَبُو الطِّفْلِ عَلَى النِّكَاحِ، فَالطِّفْلُ مَعَهُمَا يَقُومَانِ بِكِفَايَتِهِ، الْأَبُ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْأُمُّ بِالْحَضَانَةِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَإِنَّ تَفَرَّقَا بِفَسْخٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَالْحَضَانَةُ لِلْأُمِّ إِنْ رَغِبَتْ فِيهَا، لَكِنْ لِاسْتِحْقَاقِهَا شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: كَوْنُهَا مُسْلِمَةً، إِنْ كَانَ الطِّفْلُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ، فَلَا حَضَانَةَ لِكَافِرَةٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَهَا الْحَضَانَةُ، وَقِيلَ: الْأُمُّ الذِّمِّيَّةُ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ مِنَ الْأَبِ الْمُسْلِمِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْوَلَدُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَعَلَى هَذَا حَضَانَتُهُ لِأَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ التَّرْتِيبُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَحَضَانَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُؤْنَةُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَعَلَى أُمِّهِ إِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً، وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ مَحَاوِيجِ الْمُسْلِمِينَ، وَوَلَدُ

الذِّمِّيِّينَ فِي الْحَضَانَةِ كَوَلَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِهَا، وَلَوْ وَصَفَ صَبِيٌّ مِنْهُمُ الْإِسْلَامَ، نَزَعَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، سَوَاءٌ صَحَّحْنَا إِسْلَامَهُ أَمْ لَا، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ كَفَالَتِهِ، وَالطِّفْلُ الْكَافِرُ وَالْمَجْنُونُ تَثْبُتُ لِقَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ حَضَانَتُهُ وَكَفَالَتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لَهُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: كَوْنُهَا عَاقِلَةً، فَلَا حَضَانَةَ لِمَجْنُونَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ جُنُونُهَا مُطْبِقًا، أَوْ مُنْقَطِعًا، إِلَّا إِذَا كَانَ لَا يَقَعُ إِلَّا نَادِرًا، وَلَا تَطُولُ مُدَّتُهُ، كَيَوْمٍ فِي سِنِينَ، فَلَا يَبْطُلُ الْحَقُّ بِهِ، كَمَرَضٍ يَطْرَأُ وَيَزُولُ، وَالْمَرَضُ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، كَالسُّلِّ وَالْفَالِجِ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُؤْلِمُ أَوْ يُشْغِلُ الْأَلَمُ عَنْ كَفَالَتِهِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِهِ، سَقَطَ حَقُّ الْحَضَانَةِ، وَإِنْ كَانَ تَأْثِيرُهُ يُعَسِّرُ الْحَرَكَةَ وَالتَّصَرُّفَ، سَقَطَتِ الْحَضَانَةُ فِي حَقِّ مَنْ يُبَاشِرُهَا بِنَفْسِهِ دُونَ مَنْ يُشِيرُ بِالْأُمُورِ وَيُبَاشِرُهَا غَيْرُهُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: كَوْنُهَا حُرَّةً، فَلَا حَضَانَةَ لِرَقِيقَةٍ وَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا، فَحَضَانَتُهُ لِمَنْ لَهُ الْحَضَانَةُ بَعْدَ الْأُمِّ مِنَ الْأَبِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا، فَحَضَانَتُهُ عَلَى السَّيِّدِ، وَهَلْ لَهُ نَزْعُهُ مِنَ الْأَبِ وَتَسْلِيمُهُ إِلَى غَيْرِهِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي جَوَازِ التَّفْرِيقِ، وَلَوْ كَانَتِ الْأُمُّ حُرَّةً وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ، بِأَنْ سُبِيَ طِفْلٌ ثُمَّ أَسْلَمَتْ أُمُّهُ، أَوْ قَبِلَتِ الذِّمَّةَ، فَحَضَانَتُهُ لِلسَّيِّدِ، وَفِي الِانْتِزَاعِ مِنْهَا الْوَجْهَانِ، وَالْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُكَاتَبَةُ، وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهَا، لَا حَضَانَةَ لَهُنَّ، لَكِنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ، إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَهَا تَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْكِتَابَةِ، سُلِّمَ إِلَيْهَا، لَا لِأَنَّ لَهَا حَضَانَةٌ، بَلْ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا. وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا لَهُ حُكْمُهَا، يُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَحَضَانَتُهُ لِسَيِّدِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَهَلْ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ فِي وَلَدِهَا مِنَ السَّيِّدِ؟ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ: لَا حَضَانَةَ لَهَا لِنَقْصِهَا، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَهَا الْحَضَانَةُ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ، ثُمَّ السَّيِّدُ أَوْلَى بِالْوَلَدِ بَعْدَ السَّبْعِ، وَلَوْ كَانَ وُلِدَ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ، فَنِصْفُ حَضَانَتِهِ لِسَيِّدِهِ، وَنِصْفُهَا لِمَنْ

يَلِي حَضَانَتَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ الْأَحْرَارِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ، أَوْ عَلَى اسْتِئْجَارِ حَاضِنَةٍ، أَوْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَذَاكَ، وَإِنْ تَمَانَعَا، اسْتَأْجَرَ الْحَاكِمُ حَاضِنَةً، وَأَوْجَبَ الْمُؤْنَةَ عَلَى السَّيِّدِ وَعَلَى مَنْ يَقْتَضِي الْحَالُ الْإِيجَابَ عَلَيْهِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: كَوْنُهَا أَمِينَةً، فَلَا حَضَانَةَ لِفَاسِقَةٍ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: كَوْنُهَا فَارِغَةً خَلِيَّةً، فَلَوْ نَكَحَتْ أَجْنَبِيًّا، سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا لِاشْتِغَالِهَا بِحُقُوقِ الزَّوْجِ، فَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجُ، لَمْ يُؤَثِّرْ، كَمَا لَا يُؤَثِّرُ رِضَا السَّيِّدِ بِحَضَانَةِ الْأَمَةِ، فَقَدْ يَرْجِعَانِ فَيَتَضَرَّرُ الْوَلَدُ، فَلَوْ نَكَحَتْ عَمَّ الطِّفْلِ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا تَبْطُلُ حَضَانَتُهَا لِأَنَّ الْعَمَّ صَاحِبُ حَقِّ الْحَضَانَةِ، وَشَفَقَتُهُ تَحْمِلُهُ عَلَى رِعَايَةِ الطِّفْلِ، فَيَتَعَاوَنَانِ عَلَى كَفَالَتِهِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْقَفَّالُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، وَيُقَالُ: إِنَّ صَاحِبَ التَّلْخِيصِ خَرَّجَهُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْجَدَّةَ إِذَا نَكَحَتْ جَدَّ الطِّفْلِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ، ثَبَتَ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ فِي نِكَاحِ أَجْنَبِيٍّ، وَالثَّانِي: يَبْطُلُ حَقُّ الْأُمِّ، وَلَيْسَ الْعَمُّ كَالْجَدِّ لِأَنَّ الْجَدَّ وَلِيٌ تَامُّ الشَّفَقَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي نِكَاحِ الْأُمِّ الْعَمَّ، يَطَّرِدَانِ فِي كُلِّ مَنْ لَهَا حَضَانَتُهُ، نَكَحَتْ قَرِيبًا لِلطِّفْلِ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ، بِأَنْ نَكَحَتْ أُمُّهُ ابْنَ عَمِّ الطِّفْلِ، أَوْ عَمَّ أَبِيهِ، أَوْ نَكَحَتْ خَالَتُهُ الَّتِي لَهَا حَضَانَةٌ عَمَّ الطِّفْلِ، أَوْ نَكَحَتْ عَمَّتُهُ خَالَهُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ إِنَّمَا يَبْقَى الْحَقُّ إِذَا نَكَحَتِ الْجَدَّةُ جَدَّ الطِّفْلِ، أَوِ الْأُمُّ عَمَّهُ عَلَى الْأَصَحِّ إِذَا رَضِيَ الَّذِي نَكَحَتْهُ بِحَضَانَتِهَا، فَإِنْ أَبَى، فَلَهُ الْمَنْعُ، وَعَلَيْهَا الِامْتِنَاعُ. فَرْعٌ إِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهَا الْحَضَانَةُ إِذَا كَانَ الْأَبَوَانِ مُقِيمَيْنِ فِي بَلَدٍ، فَإِنْ سَافَرَ أَحَدُهُمَا، فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -

وَهَلْ يُشْرَطُ اسْتِحْقَاقُهَا أَنْ تُرْضِعَ الْوَلَدَ إِنْ كَانَ رَضِيعًا؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا، بَلْ لَهَا الْحَضَانَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ، أَوِ امْتَنَعَتْ مِنَ الْإِرْضَاعِ، وَعَلَى الْأَبِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مُرْضِعَةً تُرْضِعُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْبَغَوِيِّ، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: يُشْتَرَطُ لِعُسْرِ اسْتِئْجَارِ مُرْضِعَةٍ تُخَلِّي بَيْتَهَا، وَتَنْتَقِلُ إِلَى مَسْكَنِ الْأُمِّ، وَعَلَى هَذَا لَا تُمْنَعُ الْأُمُّ مِنْ زِيَارَتِهِ. فَرْعٌ لَوْ أَسْلَمَتِ الْكَافِرَةُ، أَوْ أَفَاقَتِ الْمَجْنُونَةُ، أَوْ عَتَقَتِ الْأَمَةُ، أَوْ رَشَدَتِ الْفَاسِقَةُ، أَوْ طُلِّقَتِ الَّتِي سَقَطَ حَقُّهَا بِالنِّكَاحِ، تَثْبُتُ لَهَا الْحَضَانَةُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا، هَذَا هُوَ نَصُّ الْمَذْهَبِ، وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا أَنَّهُ لَا حَضَانَةَ لِلرَّجْعِيَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ: إِنِ اعْتَدَّتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهَا الْحَضَانَةُ إِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ بِأَنْ يَدْخُلَ الْوَلَدُ بَيْتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ، لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُدْخِلَهُ بَيْتَهُ، وَكَذَا فِي الْبَائِنِ، وَإِذَا رَضِيَ، ثَبَتَ حَقُّهَا بِخِلَافِ رِضَاهُ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِاسْتِحْقَاقِهِ الِاسْتِمْتَاعَ، وَاسْتِهْلَاكَ مَنَافِعِهَا فِيهِ، وَهُنَا لِلْمَسْكَنِ، فَإِذَا أَذِنَ صَارَ مُعِيرًا. فَرْعٌ إِذَا امْتَنَعَتِ الْأُمُّ مِنَ الْحَضَانَةِ، أَوْ غَابَتْ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْجَدَّةِ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ، أَوْ جُنَّتْ، وَالثَّانِي: تَنْتَقِلُ إِلَى الْأَبِ، وَالثَّالِثُ: إِلَى السُّلْطَانِ لِبَقَاءِ أَهْلِيَّةِ الْأُمِّ كَمَا لَوْ غَابَ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ، أَوْ عَضَلَ، يُزَوِّجُ السُّلْطَانُ لَا الْأَبْعَدُ، فَعَلَى الصَّحِيحِ مَتَى امْتَنَعَ الْأَقْرَبُ مِنَ الْحَضَانَةِ، كَانَتْ لِمَنْ يَلِيهِ لَا لِلسُّلْطَانِ، لِأَنَّهَا لِلْحِفْظِ، وَالْقَرِيبُ الْأَبْعَدُ أَشْفَقُ مِنَ السُّلْطَانِ.

فصل

فَصْلٌ أَمَّا الْمَجْنُونُ، فَهُوَ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ بِمُرَاعَاةِ نَفْسِهِ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى مَصَالِحِهِ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، أَوْ خَبَلٍ وَقِلَّةِ تَمْيِيزٍ، وَمَتَى بَلَغَ الْغُلَامُ رَشِيدًا، وُلِّيَ أَمْرَ نَفْسِهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى كَوْنِهِ عِنْدَ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُفَارِقَهُمَا لِيَخْدِمَهُمَا وَيَصِلَهُمَا بِرُّهُ، وَإِنْ بَلَغَ عَاقِلًا غَيْرَ رَشِيدٍ، فَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ كَالصَّبِيِّ، لَا يُفَارِقُ الْأَبَوَيْنِ، وَتُدَامُ حَضَانَتُهُ، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: إِنْ لَمْ يُحْسِنْ تَدْبِيرَ نَفْسِهِ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ اخْتِلَالُ الرَّشِيدِ لِعَدَمِ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَسْكُنُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَا يُجْبَرُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، وَقِيلَ: تُدَامُ حَضَانَتُهُ إِلَى ارْتِفَاعِ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ حَسَنٌ. وَأَمَّا الْأُنْثَى إِذَا بَلَغَتْ، فَإِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً، فَهِيَ عِنْدَ زَوْجِهَا، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا، فَعِنْدَ أَبَوَيْهَا أَوْ أَحَدِهِمَا إِنِ افْتَرَقَا، وَتَخْتَارُ مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا، وَهَلْ تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَلَيْسَ لَهَا الِاسْتِقْلَالُ، وَالثَّانِي: لَا، بَلْ لَهَا السُّكْنَى حَيْثُ شَاءَتْ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهَا مُفَارَقَتُهُمَا، وَبِهَذَا قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَصَحَّحَ ابْنُ كَجٍّ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ الْأَوَّلَ، ثُمَّ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِاخْتِصَاصِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ، كَوِلَايَةِ الْإِجْبَارِ فِي النِّكَاحِ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي ثُبُوتِهَا أَيْضًا لِلْأَخِ وَالْعَمِّ وَجْهَيْنِ. قُلْتُ: أَرْجَحُهُمَا ثُبُوتُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ عِنْدَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، وَلَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، لِأَنَّهَا صَاحِبَةُ اخْتِيَارٍ وَمُمَارَسَةٍ، وَبَعِيدَةٌ عَنِ الْخَدِيعَةِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ تُهْمَةٌ، وَلَمْ تُذْكَرْ بِرِيبَةٍ، فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلِلْأَبِ وَالْجَدِّ وَمَنْ يَلِي تَزْوِيجَهَا مِنَ الْعَصَبَاتِ مَنْعُهَا مِنْ الِانْفِرَادِ، ثُمَّ الْمَحْرَمُ مِنْهُمْ يَضُمُّهَا إِلَى نَفْسِهِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ، وَغَيْرُ

فصل

الْمَحْرَمِ يُسْكِنُهَا مَوْضِعًا يَلِيقُ بِهَا، وَيُلَاحِظُهَا دَفْعًا لِلْعَارِ عَنِ النَّسَبِ، كَمَا يَمْنَعُونَهَا نِكَاحَ غَيْرِ الْكُفْءِ، وَأَثْبَتَ الْبَغَوِيُّ لِلْأُمِّ ضَمَّهَا إِلَيْهَا عِنْدَ الرِّيبَةِ، كَمَا أَثْبَتَهَا لِلْعَصَبَةِ، وَلَوْ فُرِضَتِ التُّهْمَةُ فِي حَقِّ الْبِكْرِ، فَهِيَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ، فَتُمْنَعُ مِنْ الِانْفِرَادِ بِلَا خِلَافٍ، وَنَقَلَ فِي «الْعُدَّةِ» عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْأَمْرَدَ إِذَا خِيفَ مِنِ انْفِرَادِهِ فِتْنَةٌ، وَانْقَدَحَتْ تُهْمَةٌ، مُنِعَ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَبَوَيْنِ. قُلْتُ: الْجَدُّ كَالْأَبَوَيْنِ فِي حَقِّ الْأَمْرَدِ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَخُ وَالْعَمُّ وَنَحْوُهُمَا لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي الْمَعْنَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ رِيبَةً، وَأَنْكَرَتْ، فَقَدْ ذُكِرَ احْتِمَالَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى بَعِيدٌ، وَأَصَحُّهُمَا: يُقْبَلُ وَيُحْتَاطُ بِلَا بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ إِسْكَانَهَا فِي مَوْضِعِ الْبَرَاءَةِ أَهْوَنُ مِنَ الْفَضِيحَةِ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً. فَصْلٌ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِأَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ مِنَ الْأَبِ فِي حَقِّ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ أَصْلًا، وَهُوَ الصَّغِيرُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، وَالْمَجْنُونُ، فَأَمَّا إِذَا صَارَ الصَّغِيرُ مُمَيِّزًا، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ إِذَا افْتَرَقَا، وَيَكُونُ عِنْدَ مَنِ اخْتَارَ مِنْهُمَا، وَسَوَاءٌ فِي التَّخْيِيرِ الِابْنُ وَالْبِنْتُ، وَسِنُّ التَّمْيِيزِ غَالِبًا سَبْعُ سِنِينَ، أَوْ ثَمَانٍ تَقْرِيبًا، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَقَدْ يَتَقَدَّمُ التَّمْيِيزُ عَنِ السَّبْعِ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنِ الثَّمَانِ، وَمَدَارُ الْحُكْمِ عَلَى نَفْسِ التَّمْيِيزِ، لَا عَلَى سِنِّهِ، وَإِنَّمَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِمَا شُرُوطُ الْحَضَانَةِ، بِأَنْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ عَدْلَيْنِ مُقِيمَيْنِ فِي وَطَنٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -،

وَأَنْ تَكُونَ الْأُمُّ خَلِيَّةً، فَإِنِ اخْتَلَّ فِي أَحَدِهِمَا بَعْضُ الشُّرُوطِ، فَلَا تَخْيِيرَ، وَالْحَضَانَةُ لِلْآخَرِ، فَإِنْ زَالَ الْخَلَلُ، أُنْشِئَ التَّخْيِيرُ، وَلَوْ وُجِدَتِ الشُّرُوطُ فِيهِمَا، وَاخْتُصَّ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةٍ فِي الدِّينِ أَوِ الْمَالِ أَوْ مَحَبَّةِ الْوَلَدِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِهِ أَمْ يَجْرِي التَّخْيِيرُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَيَجْرِي التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ، وَيَجْرِي أَيْضًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ عَلَى حَاشِيَةِ النَّسَبِ، كَالْأَخِ وَالْعَمِّ، عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: تَخْتَصُّ بِهِ الْأُمُّ، وَفِي ابْنِ الْعَمِّ مَعَ الْأُمِّ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، إِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا، فَإِنْ كَانَ أُنْثَى، فَالْأُمُّ أَحَقُّ قَطْعًا، وَيَجْرِي الْخِلَافُ أَيْضًا بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُخْتِ وَالْخَالَةِ إِذَا قَدَّمْنَاهَا عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمْيِيزِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرَ، حَوَّلْنَاهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ، أَعَدْنَاهُ إِلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّ سَبَبَهُ نُقْصَانُهُ وَقِلَّةُ تَمْيِيزِهِ، جُعِلَ عِنْدَ الْأُمِّ كَمَا قَبْلَ التَّمْيِيزِ، وَكَذَا لَوْ بَلَغَ عَلَى نُقْصَانِهِ وَخَبَلِهِ. فَرْعٌ إِذَا اخْتَارَ الْأَبَ وَسُلِّمَ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا، لَمْ يَمْنَعْهُ الْأَبُ مِنْ زِيَارَةِ أُمِّهِ وَلَا يُحْوِجُهَا إِلَى الْخُرُوجِ لِزِيَارَتِهِ، وَإِنْ زَارَتْهُ، لَمْ يَمْنَعْهَا مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَلَهُ مَنْعُ الْأُنْثَى مِنْ زِيَارَةِ الْأُمِّ، فَإِنْ شَاءَتِ الْأُمُّ، خَرَجَتْ إِلَيْهَا لِلزِّيَارَةِ، لِأَنَّهَا أَوْلَى بِالْخُرُوجِ لِسِنِّهَا وَخِبْرَتِهَا، ثُمَّ الزِّيَارَةُ تَكُونُ فِي الْأَيَّامِ عَلَى الْعَادَةِ، لَا فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ، لَا تُطِيلُ الْمُكْثَ، وَلَوْ مَرِضَ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَالْأُمُّ أَوْلَى بِتَمْرِيضِهِ، فَإِنَّهَا أَشْفَقُ وَأَهْدَى إِلَيْهِ، فَإِنْ رَضِيَ بِأَنْ تُمَرِّضَ فِي بَيْتِهِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَيَنْقُلُ الْوَلَدَ إِلَى بَيْتِ الْأُمِّ، وَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْخَلْوَةِ إِذَا كَانَتْ تُمَرِّضُهُ فِي بَيْتِ الْأَبِ، وَكَذَا إِذَا زَارَتِ الْوَلَدَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ثَالِثٌ، خَرَجَ حَتَّى تَدْخُلَ، وَإِذَا مَاتَ، لَمْ تُمْنَعْ مِنْ حُضُورِ غُسْلِهِ وَتَجْهِيزِهِ إِلَى أَنْ يُدْفَنَ، وَإِنْ مَرِضَتِ الْأُمُّ، لَمْ

يَكُنْ لِلْأَبِ مَنْعُ الْوَلَدِ مِنْ عِيَادَتِهَا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلَا يُمَرِّضُهَا، قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِلَّا إِذَا أَحْسَنَتِ الْأُنْثَى التَّمْرِيضَ. فَرْعٌ إِذَا اخْتَارَ الْأُمَّ، فَإِنْ كَانَ ابْنًا، أَوَى إِلَيْهَا لَيْلًا، وَكَانَ عِنْدَ الْأَبِ نَهَارًا يُؤَدِّبُهُ وَيُعَلِّمُهُ أُمُورَ الدِّينِ وَالْمَعَاشِ وَالْحِرْفَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا، كَانَتْ عِنْدَ الْأُمِّ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَيَزُورُهَا الْأَبُ عَلَى الْعَادَةِ، وَلَا يَطْلُبُ إِحْضَارَهَا عِنْدَهُ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا كَانَ الْوَلَدُ عِنْدَ الْأُمِّ قَبْلَ سِنِّ التَّخْيِيرِ. فَرْعٌ إِذَا اخْتَارَ الْأُمَّ، فَلَيْسَ لِلْأَبِ إِهْمَالُهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِتَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ وَيَتَحَمَّلُ مُؤْنَتَهُ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا تَسْتَقِلُّ الْأُمُّ بِضَبْطِهِ يَلْزَمُ الْأَبُ رِعَايَتَهُ، وَإِنَّمَا تُقَدَّمُ الْأُمُّ فِيمَا يَتَأَتَّى مِنْهَا وَمَا هُوَ شَأْنُهَا. قُلْتُ: تَأْدِيبُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَاجِبٌ عَلَى وَلِيِّهِ أَبًا كَانَ أَوْ جَدًّا أَوْ وَصِيًّا أَوْ قَيِّمًا، وَتَكُونُ أُجْرَةُ ذَلِكَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ أُجْرَةَ مَا لَا يَلْزَمُهُ تَعَلُّمُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ تَكُونُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ مَعَ يَسَارِ الْوَلَدِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ هَذَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ خَيَّرْنَاهُ فَاخْتَارَهُمَا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَأَصَحُّهُمَا: الْأُمُّ أَحَقُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ غَيْرَهَا، وَكَانَتِ الْحَضَانَةُ لَهَا فَيَسْتَصْحِبُ، وَبِهِ قَطَعَ فِي «الْبَسِيطِ» .

فصل

قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَوْ تَرَكَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي وَقْتِ التَّخْيِيرِ كَفَالَتَهُ لِلْآخَرِ، كَانَ الْآخَرُ أَحَقَّ بِهِ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْوَلَدِ، فَإِنْ عَادَ وَطَلَبَ الْكَفَالَةَ، عُدْنَا إِلَى التَّخْيِيرِ، قَالَ: وَلَوْ تَدَافَعَ الْأَبَوَانِ كَفَالَتَهُ، وَامْتَنَعَا مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهُمَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ، كَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، خُيِّرَ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُخَيَّرُ الْوَلَدُ، وَيُجْبَرُ مَنِ اخْتَارَهُ عَلَى كَفَالَتِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ امْتَنَعَا مِنَ الْحَضَانَةِ قَبْلَ سِنِّ التَّمْيِيزِ، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُجْبَرُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ عَلَى حَضَانَتِهِ، وَالثَّانِي: يُجْبَرُ عَلَيْهَا مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْأُمَّ أَوْلَى مِنَ الْأَبِ قَبْلَ التَّمْيِيزِ، وَأَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَمْيِيزِهِ، هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَبَوَانِ مُقِيمَيْنِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا سَفَرًا، أَوْ أَرَادَا سَفَرًا يَخْتَلِفُ فِيهِ بَلَدُهُمَا، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ سَفَرَ حَاجَةٍ، كَحَجٍّ وَغَزْوٍ وَتِجَارَةٍ، لَمْ يُسَافِرْ بِالْوَلَدِ، لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ الْخَطَرِ وَالْمَشَقَّةِ، بَلْ يَكُونُ مَعَ الْمُقِيمِ إِلَى أَنْ يَعُودَ الْمُسَافِرُ، سَوَاءٌ طَالَتْ مُدَّةُ السَّفَرِ أَمْ قَصُرَتْ، وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَجْهٌ أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إِذَا طَالَ سَفَرُهُ. وَإِنْ كَانَ سَفَرَ نُقْلَةٍ، نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَلِلْأَبِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنَ الْأُمِّ وَيَسْتَصْحِبَهُ مَعَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُنْتَقِلُ الْأَبُ أَوِ الْأُمُّ، أَوْ أَحَدُهُمَا إِلَى بَلَدٍ وَالْآخَرُ إِلَى آخَرَ، احْتِيَاطًا لِلنَّسَبِ، فَإِنَّ النَّسَبَ يَتَحَفَّظُ بِالْأَبَاءِ، وَلِمَصْلَحَةِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ، وَسُهُولَةِ الْقِيَامِ بِنَفَقَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ، وَسَوَاءٌ نَكَحَهَا فِي بَلَدِهَا أَوْ فِي الْغُرْبَةِ، فَلَوْ رَافَقَتْهُ الْأُمُّ فِي طَرِيقِهِ، دَامَ حَقُّهَا، وَكَذَا فِي الْمَقْصِدِ، وَلَوْ عَادَ مِنْ سَفَرِ النُّقْلَةِ إِلَى بَلَدِهَا، عَادَ حَقُّهَا، وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ الَّذِي يَسْلُكُهُ مَخُوفًا، أَوِ الْبَلَدُ الَّذِي يَقْصِدُهُ

غَيْرَ مَأْمُونٍ لِغَارَةٍ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ انْتِزَاعُ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ الِانْتِقَالُ إِلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُؤَثِّرُ، وَيَكُونَانِ كَالْمُقِيمَيْنِ فِي مَحَلَّتَيْنِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَمَسَافَةِ الْقَصْرُ، وَلَوِ اخْتَلَفَا، فَقَالَ: أُرِيدُ الِانْتِقَالَ، فَقَالَتْ: بَلِ التِّجَارَةَ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يُصَدَّقُ بِلَا يَمِينٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ، وَأَمْسَكَتِ الْوَلَدَ، وَسَائِرُ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْمَحَارِمِ كَالْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي انْتِزَاعِ الْوَلَدِ وَنَقْلِهِ إِذَا أَرَادُوا الِانْتِقَالَ، احْتِيَاطًا لِلنَّسَبِ، وَكَذَا غَيْرُ الْمَحَارِمِ، كَابْنِ الْعَمِّ، إِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى، لَمْ تُسَلَّمْ إِلَيْهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِلَّا إِذَا لَمْ تَبْلُغْ حَدًّا يُشْتَهَى مِثْلُهَا، وَفِي «الشَّامِلِ» أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ تُرَافِقُهُ، سُلِّمَتْ إِلَى بِنْتِهِ، وَأَمَّا الْمَحْرَمُ الَّذِي لَا عُصُوبَةَ لَهُ، كَالْخَالِ وَالْعَمِّ لِلْأُمِّ، فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُ الْوَلَدِ إِذَا انْتَقَلَ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي النَّسَبِ. فَرْعٌ إِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ النَّقْلِ لِلْأَبِ وَغَيْرِهِ، إِذَا اسْتَجْمَعَ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْحَضَانَةِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ كَانَ لِلْوَلَدِ جَدٌّ مُقِيمٌ، وَأَرَادَ الْأَبُ الِانْتِقَالَ، كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُلَ الْوَلَدَ، وَلَمْ تَمْنَعْ مِنْهُ إِقَامَةُ الْجَدِّ، وَكَذَا حُكْمُ الْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ، وَلَا تَمْنَعُهُ إِقَامَةُ الْأَخِ أَوِ الْعَمِّ، لَكِنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَبٌ وَلَا جَدٌّ، وَأَرَادَ الْأَخُ الِانْتِقَالَ، وَهُنَاكَ ابْنُ أَخٍ أَوْ عَمٌّ يُقِيمَانِ، فَلَيْسَ لِلْأَخِ انْتِزَاعُهُ مِنَ الْأُمِّ لِنَقْلِهِ، بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، لِكَمَالِ عِنَايَتِهِمَا وَتَقَارُبِ عِنَايَةِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْعَصَبَاتِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ يُسَافِرُ لِحَاجَةٍ، وَاخْتَلَفَ طَرِيقُهُمَا وَمَقْصِدُهُمَا، فَيُشْبِهُ أَنْ يُدَامَ حَقُّ الْأُمِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الَّذِي مَقْصِدُهُ أَقْرَبُ، أَوْ مُدَّةُ سَفَرِهِ أَقْصَرُ.

قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُدَامُ مَعَ الْأُمِّ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي تَرْتِيبِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْحَضَانَةِ، فَمَتَى اجْتَمَعَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنْ مُسْتَحَقِّي الْحَضَانَةِ، نُظِرَ؛ إِنْ تَرَاضَوْا بِوَاحِدٍ، فَذَاكَ، وَإِنْ تَدَافَعُوا، وَجَبَتْ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَقِيلَ: يُقْرَعُ، وَتَجِبُ عَلَى مَنْ خَرَجَتْ قُرَعَتُهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ طَلَبَهَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِمَّنْ فِيهِ شُرُوطُهَا، فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مَحْضُ الْإِنَاثِ، فَأَوْلَاهُنَّ الْأُمُّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا الْمُدْلِيَاتُ بِالْإِنَاثِ، تُقَدَّمُ أَقْرَبُهُنَّ، وَتُقَدَّمُ الْبُعْدَى مِنْهُنَّ عَلَى الْقُرْبَى مِنْ أُمَّهَاتِ الْأَبِ، ثُمَّ بَعْدَ أُمَّهَاتِ الْأُمِّ، قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ: تُقَدَّمُ أُمُّ الْأَبِ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا الْمُدْلِيَاتُ بِالْإِنَاثِ، ثُمَّ أُمُّ أَبِي الْأَبِ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا الْمُدْلِيَاتُ بِالْإِنَاثِ، ثُمَّ أُمُّ أَبِي الْجَدِّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا كَذَلِكَ، وَتُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنْهُنَّ فَالْأَقْرَبُ، وَيَتَأَخَّرُ عَنْهُنَّ الْأَخَوَاتُ وَالْخَالَاتُ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُنَّ جَدَّاتٌ وَارِثَاتٌ فَقُدِّمْنَ عَلَى الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ، وَعَلَى أَنَّ الْخَالَاتِ يُقَدَّمْنَ عَلَى بَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، وَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ، وَالْعَمَّاتِ، لِأَنَّهُنَّ يُشَارِكْنَهُنَّ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ وَالدَّرَجَةِ وَعَدَمِ الْإِرْثِ، وَيَتَمَيَّزُونَ بِالْإِدْلَاءِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ تَقْدِيمُ الْخَالَةِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، ثُمَّ الْحَضَانَةُ بَعْدَ الْخَالَاتِ لِبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، وَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ يُقَدَّمْنَ عَلَى الْعَمَّاتِ، هَكَذَا رَتَّبَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ هَذَا وَجْهًا، وَادَّعَى أَنَّ الْأَصَحَّ تَقْدِيمُ الْعَمَّاتِ عَلَى بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، ثُمَّ حَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَنْ يُقَدَّمُ بَعْدَ الْعَمَّاتِ، أَحَدُهُمَا:

بَنَاتُ الْأَخَوَاتِ وَالْإِخْوَةِ، ثُمَّ بَنَاتُ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ بَعْدَ الْإِخْوَةِ، ثُمَّ بَنَاتُ الْخَالَاتِ، ثُمَّ بَنَاتُ الْعَمَّاتِ، ثُمَّ خَالَاتُ الْأُمِّ، ثُمَّ خَالَاتُ الْأَبِ، ثُمَّ عَمَّاتُهُ. وَالثَّانِي: تُقَدَّمُ بَعْدَ الْعَمَّاتِ خَالَاتُ الْأُمِّ، ثُمَّ خَالَاتُ الْأَبِ، ثُمَّ عَمَّاتُهُ، وَلَا حَضَانَةَ لِعَمَّاتِ الْأُمِّ لِإِدْلَائِهِنَّ بِذَكَرٍ غَيْرِ وَارِثٍ، ثُمَّ خَالَاتُ الْجَدِّ، ثُمَّ عَمَّاتُهُ، وَهَكَذَا، فَإِنْ فُقِدْنَ جَمِيعًا، فَالْحَضَانَةُ لِبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ وَالْإِخْوَةِ، وَفِي أَيِّ رُتْبَةٍ وَقَعْنَ، تُقَدَّمُ بَنَاتُ الْأَخَوَاتِ عَلَى بَنَاتِ الْإِخْوَةِ، كَمَا تُقَدَّمُ الْأُخْتُ عَلَى الْأَخِ. فَرْعٌ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، تُقَدَّمُ عَلَى الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ، وَعَلَى الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ، وَأَمَّا الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ، وَالْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ، فَأَيُّهُمَا تُقَدَّمُ عَلَى صَاحِبَتِهَا؟ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ: تَقْدِيمُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ: تُقَدَّمُ الْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ، وَأَمَّا الْخَالَةُ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْخَالَةِ مِنَ الْأُمِّ وَالْعَمَّةِ، فَإِنْ قَدَّمْنَا الْأُخْتَ لِلْأُمِّ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ، فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قَدَّمْنَا الْأُخْتَ لِلْأَبِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُقَدَّمُ الْخَالَةُ لِلْأُمِّ وَالْعَمَّةُ لِلْأُمِّ، وَأَصَحُّهُمَا: يُقَدَّمُ الَّتِي هِيَ لِأَبٍ، وَفِي الْخَالَةِ لِأَبٍ وَجْهٌ، أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ حَضَانَةً أَصْلًا، لِأَنَّهَا تُدْلِي بِأَبِي أُمٍّ. فَرْعٌ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا حَضَانَةَ لِكُلِّ جَدَّةٍ تَسْقُطُ فِي الْمِيرَاثِ، وَهِيَ مَنْ تُدْلِي بِذَكَرٍ بَيْنَ أُنْثَيَيْنِ، وَقِيلَ: لَهُنَّ الْحَضَانَةُ، لَكِنْ يَتَأَخَّرْنَ عَنْ جَمِيعِ الْمَذْكُورَاتِ أَوَّلًا، وَقِيلَ: يَتَقَدَّمْنَ عَلَى الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ، لِأَنَّهُنَّ أُصُولٌ، وَيَتَأَخَّرْنَ عَنِ الْجَدَّاتِ الْوَارِثَاتِ، وَفِي مَعْنَى الْجَدَّةِ السَّاقِطَةِ، كُلُّ مَحْرَمٍ يُدْلِي بِذَكَرٍ لَا يَرِثُ، كَبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الْعَمِّ لِلْأُمِّ.

الْأُنْثَى الَّتِي لَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ، كَابْنَيِ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ، وَبِنْتَيِ الْخَالِ وَالْعَمِّ، لَهُنَّ الْحَضَانَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا، اسْتَمَرَّتْ حَضَانَتُهُنَّ حَتَّى يَبْلُغَ حَدًّا يُشْتَهَى مِثْلُهُ، وَتُقَدَّمُ بَنَاتُ الْخَالَاتِ عَلَى بَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الْعَمَّاتِ عَلَى بَنَاتِ الْأَعْمَامِ، وَتُقَدَّمُ بَنَاتُ الْخُئُولَةِ عَلَى بَنَاتِ الْعُمُومَةِ. فَرْعٌ لِبِنْتِ الْمَجْنُونِ حَضَانَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَلَوْ كَانَ لِلْمَحْضُونِ زَوْجَةٌ كَبِيرَةٌ، وَكَانَ لَهُ بِهَا اسْتِمْتَاعٌ، أَوْ لَهَا بِهِ اسْتِمْتَاعٌ، فَهِيَ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَقَارِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتِمْتَاعٌ، فَالْأَقَارِبُ أَوْلَى، وَكَذَا لَوْ كَانَ لِلْمَحْضُونَةِ زَوْجٌ كَبِيرٌ، وَهُنَاكَ اسْتِمْتَاعٌ، فَهُوَ أَوْلَى، وَإِلَّا فَالْأَقَارِبُ، فَإِنْ كَانَ لَهَا قَرَابَةٌ أَيْضًا، فَهَلْ يُرَجَّحُ بِالزَّوْجِيَّةِ؟ وَجْهَانِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَحْضُ الذُّكُورِ، وَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: الْأَوَّلُ: مَحْرَمٌ وَارِثٌ، كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ وَالْعَمِّ، فَلَهُمُ الْحَضَانَةُ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَجْهًا، أَنَّهُ لَا حَضَانَةَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنَ الرِّجَالِ، وَقِيلَ: لَا حَضَانَةَ لِلْأَخِ مِنَ الْأُمِّ خَاصَّةً لِعَدَمِ الْعُصُوبَةِ وَالْوِلَايَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَيُقَدَّمُ الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا، يُقَدَّمُ مِنْهُمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ، ثُمَّ الْأَخُ لِلْأُمِّ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأَبِ، ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ، ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِي وَجْهٍ يُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ، وَفِي وَجْهٍ يَتَقَدَّمُ الْعَمُّ عَلَى الْأَخِ لِلْأُمِّ لِعُصُوبَتِهِ، وَفِي وَجْهٍ، يَتَقَدَّمُ الْأَعْمَامُ عَلَى بَنِي الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ.

الصِّنْفُ الثَّانِي: وَارِثٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ، كَابْنِ الْعَمِّ وَابْنِهِ، وَابْنِ عَمِّ الْأَبِ وَالْجَدِّ، فَلَهُمُ الْحَضَانَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِمُ الْوَجْهُ الَّذِي حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لَا تُشْتَهَى، سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَتْ حَدًّا تُشْتَهَى لَمْ تُسَلَّمْ إِلَيْهِ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ تَسْلِيمَهَا إِلَى امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَتُعْطَى أُجْرَتَهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ، سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَفِي ثُبُوتِ الْحَضَانَةِ لِلْمُعْتِقِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَالْإِرْثِ، وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَتَحَمُّلِ الدِّيَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِعَدَمِ الْقَرَابَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الشَّفَقَةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ لَهُ قَرَابَةٌ وَهُنَاكَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، فَهَلْ يُرَجَّحُ لِانْضِمَامِ عُصُوبَةِ الْقَرَابَةِ إِلَى عُصُوبَةِ الْوَلَاءِ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ، مِثَالُهُ: عَمٌّ وَعَمُّ أَبٍ مُعْتِقٍ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ لَا يُرَجَّحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَحْرَمٌ غَيْرُ وَارِثٍ، كَأَبِي الْأُمِّ، وَالْخَالِ، وَالْعَمِّ لِلْأُمِّ، وَابْنِ الْأُخْتِ، وَابْنِ الْأَخِ لِلْأُمِّ، فَلَا حَضَانَةَ لَهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ، لِضَعْفِ قَرَابَتِهِمْ، فَإِنْ قُلْنَا: لَهُمْ حَضَانَةٌ، تَأَخَّرُوا عَنِ الْمَحَارِمِ الْوَارِثِينَ، وَعَنِ الْوَارِثِينَ الَّذِينَ لَا مَحْرَمِيَّةَ لَهُمْ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ وَلَا وَارِثٍ مِنَ الْأَقَارِبِ، كَابْنِ الْخَالِ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ، فَلَا حَضَانَةَ لَهُمْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْحَضَانَةَ لِجَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ، تَفْرِيعًا عَلَى الْمَذْهَبِ فِي بَعْضِهِمْ، وَعَلَى الضَّعِيفِ فِي بَعْضِهِمْ، وَتَرَكْنَا التَّقْسِيمَ، قُلْنَا: يُقَدَّمُ الْأَبُ، ثُمَّ أَبُ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ الْإِخْوَةُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأُمِّ، وَكُلُّ جَدٍّ يُدْلِي بِذَكَرٍ بَيْنَ أُنْثَيَيْنِ، يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ الْخَالُ، ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأُمِّ، ثُمَّ ابْنُ الْخَالِ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِلْأُمِّ،

ثُمَّ الْمُعْتِقُ، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ تَأَخُّرَ بَنِي الْعَمِّ عَنْ أَعْمَامِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، لِأَنَّ لَهُمْ مَحْرَمِيَّةً مَعَ الْإِرْثِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فِي اجْتِمَاعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فَتُقَدَّمُ الْأُمُّ عَلَى جَمِيعِهِمْ، حَتَّى عَلَى الْأَبِ، ثُمَّ أُمُّ الْأُمِّ وَإِنْ عَلَتْ، تُقَدَّمُ عَلَى الْأَبِ وَغَيْرِهِ، فَلَوْ نَكَحَتِ الْأُمُّ وَرَضِيَ أَبُو الْوَلَدِ وَزَوْجُهَا بِكَوْنِهِ عِنْدَهَا، سَقَطَ حَقُّ الْجَدَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَبُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ جِهَتِهِ، قُدِّمَ عَلَيْهِنَّ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، لِأَنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِهِ، وَقِيلَ: يَتَقَدَّمْنَهُ لِوِلَادَتِهِنَّ وَصَلَاحِيَتِهِنَّ، وَطُرِدَ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْأُخْتِ لِلْأَبِ مَعَ الْأَبِ وَإِنْ كَانَتْ فَرْعًا لَهُ، لِصَلَاحِيَتِهَا، وَأَمَّا الْأُخْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأُمِّ وَالْخَالَةِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ وَقَدَّمْنَاهُنَّ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَبِ، قَدَّمْنَاهُنَّ عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ قَدَّمْنَا أُمَّهَاتِ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ وَالْخَالَةِ، يُقَدَّمُ الْأَبُ هُنَا عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَقِيلَ: يَتَقَدَّمَانِ عَلَيْهِ لِأُنُوثَتِهِمَا وَإِدْلَائِهِمَا بِالْأُمِّ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ مَعَ الْأَبِ أَوِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْخَالَةِ أُمُّ الْأَبِ، فَوَجْهَانِ، قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: الْحَضَانَةُ لِلْأَبِ، لِأَنَّ الْأُخْتَ تَسْقُطُ بِأُمِّ الْأَبِ، وَهِيَ تَسْقُطُ بِالْأَبِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْحَضَانَةُ لِلْأُخْتِ، لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تُفَرَّعُ عَلَيْهِ، وَتَسْقُطُ أُمُّ الْأَبِ بِالْأَبِ. وَلَوِ اجْتَمَعَ الْأَبُ وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُخْتُ لِلْأُمِّ، وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ: إِنَّ الْأُخْتَ لِلْأُمِّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ، فَهَلِ الْحَضَانَةُ لِلْأَبِ، أَمْ لِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ؟ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ فِي تَقْدِيمِ الْأَبِ عَلَى أُمَّهَاتِهِ، وَبِالْأَصَحِّ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأُمِّ وَالْخَالَةِ، فَالْمُقَدَّمُ بَعْدَ أُمَّهَاتِ الْأُمِّ الْأَبُ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ الْمُدْلِيَاتُ بِالْإِنَاثِ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ، وَفِيهِ مَعَ أُمَّهَاتِهِ مَا فِي الْأَبِ، ثُمَّ أَبُو الْجَدِّ وَأُمَّهَاتُهُ كَذَلِكَ، وَيَتَقَدَّمُونَ جَمِيعًا عَلَى الْأَقَارِبِ الْوَاقِعِينَ عَلَى حَوَاشِي النَّسَبِ، وَأَمَّا الْجَدَّاتُ السَّاقِطَاتُ، فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِهِنَّ، وَفِي زِينَتِهِنَّ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَضَانَةِ مِنَ الْأَجْدَادِ

وَالْجَدَّاتِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: نِسَاءُ الْقَرَابَةِ وَإِنْ بَعُدْنَ أَوْلَى مِنَ الذُّكُورِ، وَإِنْ كَانُوا عَصَبَاتٍ، لِصَلَاحِيَّتِهِنَّ، فَعَلَى هَذَا تُقَدَّمُ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُهُنَّ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، وَالثَّانِي: الْعَصَبَاتُ أَوْلَى، لِقُوَّةِ نَسَبِهِمْ وَقِيَامِهِمْ بِالتَّأْدِيبِ، وَالثَّالِثُ - وَهُوَ الْأَصَحُّ: لَا يُرَجَّحُ وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، بَلْ يُقَدَّمُ مِنْهُمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، فَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ، قُدِّمَ بِالْأُنُوثَةِ، فَعَلَى هَذَا تُقَدَّمُ بَعْدَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، وَتُقَدَّمُ الْأَخَوَاتُ عَلَى الْإِخْوَةِ، ثُمَّ بَعْدَ الْإِخْوَةِ بَنَاتُ الْأَخَوَاتِ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ، وَتُقَدَّمُ بِنْتُ الْأَخِ عَلَى ابْنِ الْأُخْتِ اعْتِبَارًا بِمَنْ يَحْضُنُ لَا بِمَنْ يُدْلِي بِهِ، فَإِنْ فُقِدُوا كُلُّهُمْ، فَالْحَضَانَةُ لِلْخُئُولَةِ، ثُمَّ الْعُمُومَةِ، وَتُقَدَّمُ الْخَالَاتُ عَلَى الْأَخْوَالِ، وَالْعَمَّاتُ عَلَى الْأَعْمَامِ، فَإِنْ فُقِدُوا، فَالْحَضَانَةُ لِأَوْلَادِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أُصُولِهِمْ ثُمَّ لِخُئُولَةِ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ لِعُمُومَتِهِمَا، عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَإِذَا اسْتَوَى اثْنَانِ، كَأَخَوَيْنِ أَوْ خَالَتَيْنِ، وَتَنَازَعًا، أَقْرَعْنَا، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْ نِسَاءِ الْقَرَابَةِ وَلَا مِنَ الْعَصَبَاتِ، وَهُنَاكَ رِجَالٌ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَحُكْمُهُمْ مَا ذَكَرْنَا فِي الصِّنْفِ الرَّابِعِ. فَرْعٌ الْأُخْتُ مَعَ الْجَدِّ كَهِيَ مَعَ الْأَبِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ فِي أَهْلِ الْحَضَانَةِ خُنْثَى، هَلْ يَتَقَدَّمُ عَلَى الذَّكَرِ فِي مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ أُنْثَى لَتَقَدَّمَ لِاحْتِمَالِ الْأُنُوثَةِ، أَمْ لَا لِعَدَمِ الْحُكْمِ بِهَا؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ ذُكُورَتِهِ أَوْ أُنُوثَتِهِ، عَمِلَ بِقَوْلِهِ فِي سُقُوطِ الْحَضَانَةِ، وَهَلْ يُعْمَلُ بِهَا فِي اسْتِحْقَاقِهَا، أَمْ لَا يُعْمَلُ لِلتُّهْمَةِ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: يُعْمَلُ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ فِي نَظَائِرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

الْبَابُ السَّادِسُ فِي نَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ نَفَقَةُ رَقِيقِهِ، قُوتًا وَأُدْمًا، وَكِسْوَتُهُ، وَسَائِرُ مَئُونَاتِهِ، قِنًّا كَانَ أَوْ مُدَبَّرًا، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، سَوَاءٌ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالزَّمِنُ وَالْأَعْمَى وَالسَّلِيمُ، وَالْمَرْهُونُ وَالْمُسْتَأْجَرُ وَغَيْرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ كَسُوبًا، فَكَسْبُهُ لِسَيِّدِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَإِنْ شَاءَ، أَنَفَقَ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِهَا، فَالْبَاقِي عَلَى السَّيِّدِ، وَإِنْ زَادَ فَالزِّيَادَةُ لِلسَّيِّدِ، وَلَوِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي رَقِيقٍ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ، وَلَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى سَيِّدِهِ. قُلْتُ: وَهَلْ يَلْزَمُ السَّيِّدَ شِرَاءُ الْمَاءِ لِطَهَارَةِ رَقِيقِهِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَفِطْرَتِهِ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ لَهُ بَدَلًا وَهُوَ التَّيَمُّمُ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ بِتَمَتُّعِهِ بَلْ يَصُومُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَا تَتَقَدَّرُ نَفَقَةُ الرَّقِيقِ، بَلْ تُعْتَبَرُ الْكِفَايَةُ، وَفِيمَا تُعْتَبَرُ بِهِ الْكِفَايَةُ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: تُعْتَبَرُ كِفَايَتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَتُرَاعَى رَغْبَتُهُ وَزَهَادَتُهُ، وَإِنْ زَادَ ذَلِكَ عَلَى كِفَايَةِ مِثْلِهِ غَالِبًا، وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ مَا يَكْفِي مِثْلَهُ فِي الْغَالِبِ، وَلَا يُعْتَبَرُ نَفْسُهُ، وَعَنْ صَاحِبِ «الْحَاوِي» إِنْ كَانَ يُؤَثِّرُ فَقْدُ الزِّيَادَةِ فِي قُوتِهِ وَبَدَنِهِ، لَزِمَتِ السَّيِّدَ، وَإِلَّا فَلَا، وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِيءَ هَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ.

فصل

فَصْلٌ وَأَمَّا جِنْسُ نَفَقَةِ الرَّقِيقِ، فَغَالِبَ الْقُوتِ الَّذِي يُطْعَمُ مِنْهُ الْمَمَالِيكُ فِي الْبَلَدِ، مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَا الْأُدْمُ الْغَالِبُ، وَالْكِسْوَةُ مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ وَغَيْرِهَا، وَتُرَاعَى حَالُ السَّيِّدِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَيَجِبُ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ مِنْ رَفِيعِ الْجِنْسِ الْغَالِبِ وَخَسِيسِهِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِي الْكِسْوَةِ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِحَرٍّ وَلَا بَرْدٍ، وَلَوْ تَنَعَّمَ السَّيِّدُ فِي الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ وَالْكِسْوَةِ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِثْلَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ، بَلْ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْغَالِبِ، وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ دُونَ الْمُعْتَادِ غَالِبًا، إِمَّا بُخْلًا وَإِمَّا رِيَاضَةً، لَزِمَهُ رِعَايَةُ الْغَالِبِ لِلرَّقِيقِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ لَهُ عَبِيدٌ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَيُفَضِّلُ النَّفِيسَ عَلَى الْخَسِيسِ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَفِي الْجَوَارِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ كَالْعَبِيدِ، وَأَصَحُّهُمَا: يُفَضِّلُ ذَوَاتِ الْجَمَالِ وَالْفَرَاهَةِ لِلْعَادَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ، وَسَوَاءٌ فِيهِ السِّرِّيَّةُ وَغَيْرُهَا، وَالْمُرَادُ بِالتَّسْوِيَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّفْضِيلُ، وَبِالتَّفْضِيلِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ. فَصْلٌ إِذَا وَلِيَ رَقِيقُهُ مُعَالَجَةَ طَعَامِهِ، فَجَاءَهُ بِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْلِسَهُ مَعَهُ لِيَتَنَاوَلَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ السَّيِّدُ، أَوِ امْتَنَعَ الرَّقِيقُ تَوْقِيرًا لِلسَّيِّدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرُوغَ لَهُ السَّيِّدُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، ثُمَّ يُنَاوِلُهُ، وَالتَّرْوِيغُ: أَنْ

فصل

يَرْوِيَهَا دَسَمًا، وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجِبُ التَّرْوِيغُ وَالْمُنَاوَلَةُ، فَإِنْ أَجْلَسَهُ مَعَهُ، فَهُوَ أَفْضَلُ، وَالثَّانِي: يَجِبُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَالْأَمْرُ بِهِمَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ نَدْبًا إِلَى التَّوَاضُعِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَذَكَرَ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْإِجْلَاسَ أَفْضَلُ، أَمْ هُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَأَصْلُ هَذَا الِاسْتِحْبَابُ فِي مُنَاوَلَةِ الطَّعَامِ اللَّذِيذِ، يَشْمَلُ مَنْ عَالَجَهُ وَغَيْرَهُ، لَكِنَّهُ فِيمَنْ عَالَجَهُ آكَدُ، وَرِعَايَتُهُ فِي حَقِّ الْحَاضِرِينَ أَهَمُّ، وَالْخِلَافُ فِي الْوُجُوبِ مُخْتَصٌّ بِمَنْ عَالَجَهُ، وَلْيَكُنْ مَا يُنَاوِلُهُ لُقْمَةً كَبِيرَةً تَسُدُّ مَسَدًّا، لَا صَغِيرَةً تُهَيِّجُ الشَّهْوَةَ، وَلَا تَقْضِي النَّهْمَةَ. فَصْلٌ نَفَقَةُ الرَّقِيقِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا، بَلْ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ طَعَامًا ثُمَّ أَرَادَ إِبْدَالَهُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَيَجُوزُ قَبْلَهُ، وَعَنِ الْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّهُ إِنْ تَضَمَّنَ الْإِبْدَالُ تَأَخُّرَ الْأَكْلِ، لَمْ يَجُزْ. فَصْلٌ إِذَا وَلَدَتْ أَمَتُهُ، أَوْ أُمُّ وَلَدِهُ مِنْهُ، فَلَهُ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى إِرْضَاعِهِ، لِأَنَّ لَبَنَهَا وَمَنَافِعَهَا لَهُ، وَلَوْ أَرَادَ تَسْلِيمَ الْوَلَدِ إِلَى غَيْرِهَا، وَأَرَادَتْ هِيَ إِرْضَاعَهُ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، وَقَدْ يُرِيدُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا وَاسْتِخْدَامَهَا، وَأَصَحُّهُمَا: لَيْسَ لَهُ، وَبِهِ قَطَعَ فِي «الْوَجِيزِ» لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَضُمَّهُ فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ إِلَى غَيْرِهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهَا إِرْضَاعَ غَيْرِ وَلَدِهَا مَعَهُ بِأُجْرَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا،

فصل

إِلَّا أَنْ يَفْضُلَ لَبَنُهَا عَنْ رَيِّ وَلَدِهَا، لِقِلَّةِ شُرْبِهِ، أَوْ لِكَثْرَةِ اللَّبَنِ، أَوْ لِاجْتِزَائِهِ بِغَيْرِ اللَّبَنِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَلَوْ مَاتَ وَلَدُهَا أَوِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّبَنِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى فِطَامِهِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ إِذَا اجْتَزَأَ الْوَلَدُ بِغَيْرِ اللَّبَنِ، وَعَلَى الْإِرْضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَجْتَزِئُ بِغَيْرِ اللَّبَنِ، إِلَّا إِذَا تَضَرَّرَتْ بِهِ، وَلَيْسَ لَهَا الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِطَامِ وَلَا الْإِرْضَاعِ. فَرْعٌ الْحُرَّةُ صَاحِبَةُ حَقٍّ فِي تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِطَامِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ، وَعَلَى الْأَبِ الْأُجْرَةُ إِذَا امْتَنَعَتِ الْأُمُّ مِنَ الْفِطَامِ، إِمَّا لَهَا وَإِمَّا لِغَيْرِهَا، وَذُكِرَ فِيهِ احْتِمَالٌ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْوَلَدُ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَازَ، إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرِ الْوَلَدُ، وَأَمَّا بَعْدُ الْحَوْلَيْنِ فَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفِطَامُ إِذَا اجْتَزَأَ بِالطَّعَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِي الْإِرْضَاعِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ إِذَا اتَّفَقَا. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَدُ الْأَمَةِ مِنَ السَّيِّدِ، بَلْ مَمْلُوكٌ لَهُ مَنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًى، فَحَضَانَتُهُ عَلَى السَّيِّدِ، وَحُكْمُ الْإِرْضَاعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا، فَلَهُ طَلَبُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْإِرْضَاعِ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّبَرُّعُ بِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُ الْحُرَّةَ التَّبَرُّعُ، وَلَوْ رَضِيَ بِأَنْ تُرْضِعَهُ مَجَّانًا، لَمْ يَكُنْ لَهَا الِامْتِنَاعُ. فَصْلٌ تَجُوزُ الْمُخَارَجَةُ وَهِيَ ضَرْبُ خَرَاجٍ مَعْلُومٍ عَلَى الرَّقِيقِ يُؤَدِّيهِ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ أُسْبُوعٍ مِمَّا يَكْتَسِبُهُ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ الْعَبْدِ عَلَيْهَا، وَلَا لِلْعَبْدِ إِجْبَارُ السَّيِّدِ، كَالْكِتَابَةِ، وَحُكِيَ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ أَنَّ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارَهُ كَمَا

فصل

يَنْقُلُ مَنَافِعَهُ قَهْرًا إِلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا تَرَاضَيْنَا عَلَى خَرَاجٍ، فَلْيَكُنْ لَهُ كَسْبٌ دَائِمٌ يَفِي بِذَلِكَ الْخَرَاجِ، فَاضِلًا عَنْ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ، إِنْ جَعَلَهُمَا فِي كَسْبِهِ، وَإِذَا وَفَّى وَزَادَ كَسْبُهُ، فَالزِّيَادَةُ بِرٌّ مِنَ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، وَتَوْسِيعٌ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ضَرَبَ عَلَيْهِ خَرَاجًا أَكْثَرَ مِمَّا يَلِيقُ، وَأَلْزَمَهُ تَأْدِيَتَهُ، مَنَعَهُ السُّلْطَانُ، وَيُجْبَرُ النَّقْصُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ بِالزِّيَادَةِ فِي بَعْضِهَا، وَالْمُخَارَجَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ. فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكَلِّفَ رَقِيقَهُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَهُ عَمَلًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَعْجَزُ عَنْهُ، وَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ نَهَارًا، أَرَاحَهُ لَيْلًا، وَكَذَا بِالْعَكْسِ، وَيُرِيحُهُ فِي الصَّيْفِ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي الشِّتَاءِ النَّهَارَ مَعَ طَرَفَيِ اللَّيْلِ، وَيَتَّبِعُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ، وَعَلَى الْعَبْدِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَتَرْكُ الْكَسَلِ. فَصْلٌ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى مَمْلُوكِهِ، بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ فِي نَفَقَتِهِ، وَهَلْ يَبِيعُ شَيْئًا فَشَيْئًا، أَمْ يَسْتَدِينُ عَلَيْهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ شَيْءٌ صَالِحٌ، بَاعَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا، أَمَرَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ، أَوْ يُؤَجِّرَهُ، أَوْ يُعْتِقَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، بَاعَهُ الْحَاكِمُ أَوْ أَجَّرَهُ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ أَحَدٌ، أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَالٌ، فَهُوَ مِنْ مَحَاوِيجِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِمُ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِ.

فصل

فَصْلٌ مَنْ مَلَكَ دَابَّةً، لَزِمَهُ عَلْفُهَا، وَسَقْيُهَا، وَيَقُومُ مَقَامَ الْعَلْفِ وَالسَّقْيِ تَخْلِيَتُهَا لِتَرْعَى، وَتَرِدَ الْمَاءَ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يَرْعَى وَيَكْتَفِي بِهِ، لِخِصْبِ الْأَرْضِ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَانِعُ ثَلْجٍ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ أَجْدَبَتِ الْأَرْضُ وَلَمْ يَكْفِهَا الرَّعْيُ، لَزِمَهُ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَلَفِ مَا يَكْفِيهَا، وَيَطَّرِدُ هَذَا فِي كُلِّ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ ذَلِكَ، أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ فِي الْمَأْكُولَةِ عَلَى بَيْعِهَا أَوْ صِيَانَتِهَا عَنِ الْهَلَاكِ بِالْعَلْفِ أَوِ التَّخْلِيَةِ لِلرَّعْيِ أَوْ ذَبْحِهَا، وَفِي غَيْرِ الْمَأْكُولَةِ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الصِّيَانَةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، نَابَ الْحَاكِمُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ لَا يُخَلِّيهَا لِخَوْفِ الذِّئْبِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، بَاعَ الْحَاكِمُ الدَّابَّةَ، أَوْ جُزْءًا مِنْهَا، أَوْ أَكْرَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِيهَا لِعَمًى أَوْ زَمَانَةٍ، أَنْفَقَ عَلَيْهَا بَيْتُ الْمَالِ كَالرَّقِيقِ. فَرْعٌ يَجُوزُ غَصْبُ الْعَلَفِ لِلدَّابَّةِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، وَلَمْ يَبِعْهُ صَاحِبُهُ، وَكَذَا غَصْبُ الْخَيْطِ لِجِرَاحَتِهَا، وَفِيهِمَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ. فَرْعٌ يَحْرُمُ تَكْلِيفُ الدَّابَّةِ مَا لَا تُطِيقُهُ، مِنْ تَثْقِيلِ الْحِمْلِ، وَإِدَامَةِ السَّيْرِ وَغَيْرِهِمَا. قُلْتُ: يَحْرُمُ تَحْمِيلُهَا مَا لَا تُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ تُطِيقُهُ يَوْمًا وَنَحْوَهُ، كَمَا سَبَقَ فِي الرَّقِيقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ نَزْفُ لَبَنِ الدَّابَّةِ بِحَيْثُ يَضُرُّ وَلَدَهَا، وَإِنَّمَا يُحْلَبُ مَا فَضَلَ

كتاب الجنايات

عَنْ رَيِّ وَلَدِهَا، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَيَعْنِي بِالرَّيِّ: مَا يُقِيمُهُ حَتَّى لَا يَمُوتَ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَا يَجُوزُ الْحَلْبُ إِذَا كَانَ يَضُرُّ الْبَهِيمَةَ لِقِلَّةِ الْعَلَفِ، قَالَ: وَيُكْرَهُ تَرْكُ الْحَلْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهَا، لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ، قَالَ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَسْتَقْصِيَ فِي الْحَلْبِ، وَيَدَعَ فِي الضَّرْعِ شَيْئًا، وَأَنْ يَقُصَّ الْحَالِبُ أَظْفَارَهُ لِئَلَّا يُؤْذِيَهَا. فَرْعٌ يُبْقِي لِلنَّحْلِ شَيْئًا مِنَ الْعَسَلِ فِي الْكُوَّارَةِ، فَإِنْ كَانَ أَخْذُهُ الْعَسَلَ فِي الشِّتَاءِ، وَزَمَنَ تَعَذُّرِ خُرُوجِ النَّحْلِ، كَانَ الْمُتَبَقِّي أَكْثَرُ، وَإِنْ أَقَامَ شَيْئًا مَقَامَ الْعَسَلِ لِغِذَائِهَا، لَمْ يَتَعَيَّنْ إِبْقَاءُ الْعَسَلِ. فَرْعٌ دُودُ الْقَزِّ يَعِيشُ بِوَرَقِ التُّوتِ، فَعَلَى مَالِكِهِ تَخْلِيَتُهُ لِأَكْلِهِ، فَإِنْ عَزَّ الْوَرَقُ، وَلَمْ يَعْتَنِ الْمَالِكُ بِهِ، بِيعَ مَالُهُ فِي تَحْصِيلِ الْوَرَقِ لِئَلَّا يَهْلَكَ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ، جَازَ تَجْفِيفُهُ بِالشَّمْسِ، وَإِنْ كَانَ يَهْلَكُ لِتَحْصُلَ فَائِدَتُهُ. فَرْعٌ مَا لَا رُوحَ فِيهِ كَالْعَقَارِ وَالْقُنِيِّ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، لَا يَجِبُ الْقِيَامُ بِعِمَارَتِهَا، وَلَا يُكْرَهْ تَرْكُ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ، لَكِنْ يُكْرَهُ تَرْكُ سَقْيِ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيُكْرَهُ أَيْضًا تَرْكُ عِمَارَةِ الدَّارِ إِلَى أَنْ تَخْرُبَ، وَلَا يُكْرَهُ عِمَارَاتُ الدُّورِ وَسَائِرِ الْعَقَارِ لِلْحَاجَةِ، وَالْأَوْلَى تَرْكُ الزِّيَادَةِ، وَرُبَّمَا قِيلَ: تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. كِتَابُ الْجِنَايَاتِ

وَهِيَ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالْجُرْحُ الَّذِي لَا يُزْهِقُ وَلَا يَبِينُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ، وَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ «الْمُخْتَصَرِ» وَتُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ. وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ، لَا يَتَحَتَّمُ دُخُولُهُ النَّارِ، بَلْ هُوَ فِي خَطَرِ الْمَشِيئَةِ كَسَائِرِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ دَخَلَهَا لَمْ يَخْلُدْ فِيهَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ مُبَاحًا سِوَى عَذَابِ الْآخِرَةِ مُؤَاخَذَاتٌ فِي الدُّنْيَا: الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، لَكِنْ لَا يَجْتَمِعُ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ، لَا وُجُوبًا وَلَا اسْتِيفَاءً، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَأَعَمُّ مِنْهُمَا، فَتَجِبُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ تَنْفَرِدُ عَنْهُمَا. قُلْتُ: وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا التَّعْزِيرُ فِي صُوَرٍ مِنْهَا: إِذَا قَتَلَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ صِبْيَانِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْقِصَاصُ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّفْسِ، بَلْ يَجْرِي فِي غَيْرِ النَّفْسِ مِنَ الْأَطْرَافِ وَغَيْرِهَا، وَالْكَلَامُ فِيهِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي مُوجِبِ الْقِصَاصِ، وَالثَّانِي: فِي حُكْمِهِ، اسْتِيفَاءً وَعَفْوًا، وَالْأَوَّلُ نَوْعَانِ: قِصَاصُ نَفْسٍ وَقِصَاصُ طَرَفٍ وَجِرَاحَاتٍ، فَنَذْكُرُ مُوجِبَ الْقِصَاصِ وَوَاجِبَهُ فِي النَّفْسِ ثُمَّ فِي الطَّرَفِ، أَمَّا مُوجِبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْقَتْلُ وَالْقَتِيلُ وَالْقَاتِلُ. الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْقَتْلُ وَهُوَ كُلُّ فِعْلِ عَمْدٍ مَحْضٍ مُزْهِقٍ

لِلرُّوحِ عُدْوَانٍ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُزْهِقًا، فَهَذَا هُوَ الْقَتْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَقَوْلُنَا: كُلُّ فِعْلٍ، لِيَشْمَلَ الْجُرْحَ وَغَيْرَهُ، وَقَوْلُنَا: عُدْوَانٍ، احْتِرَازٌ مِنَ الْقَتْلِ الْجَائِزِ، وَقَوْلُنَا: مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُزْهِقًا، احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا اسْتَحَقَّ حَزَّ رَقَبَتِهِ قِصَاصًا فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قِصَاصٌ، وَإِنْ كَانَ عُدْوَانًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعُدْوَانٍ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُزْهِقًا، وَإِنَّمَا هُوَ عُدْوَانٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَدْلٌ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَحِقِّ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الْعَمْدِيَّةِ وَالْمُزْهِقِ وَتَعَلُّقِ الْقِصَاصِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالسَّبَبِ، وَحُكْمِ اجْتِمَاعِ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَبَيَانِ حَكَمِ اجْتِمَاعِ الْمُبَاشَرَتَيْنِ، وَبَيَانِ اجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ، فَأَمَّا اجْتِمَاعُ السَّبَبَيْنِ، فَمُؤَخَّرٌ إِلَى كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ، فَنَعْقِدُ فِيهَا أَطْرَافًا: الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ الْعَمْدِيَّةِ، وَتَمْيِيزِ الْعَمْدِ مِنَ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، فَإِذَا صَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ قَتَلَ غَيْرَهُ، نُظِرَ؛ إِنْ لَمْ يُقْصِدْ أَصْلَ الْفِعْلِ بِأَنْ زَلِقَ، فَسَقَطَ عَلَى غَيْرِهِ، فَمَاتَ بِهِ، أَوْ تَوَلَّدَ الْهَلَاكُ مِنَ اضْطِرَابِ يَدِ الْمُرْتَعِشِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدِ الشَّخْصُ وَإِنْ قَصَدَ الْفِعْلَ، بِأَنْ رَمَى صَيْدًا، فَأَصَابَ رَجُلًا، أَوْ قَصَدَ رَجُلًا، فَأَصَابَ غَيْرَهُ، فَهَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قِصَاصٌ، وَإِنْ قَصَدَ الْفِعْلَ وَالشَّخْصَ مَعًا، فَهَذَا قَدْ يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا، وَقَدْ يَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ، وَفِي التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا عِبَارَاتٌ لِلْأَصْحَابِ يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ الْقَصْدَانِ وَعَلِمْنَا حُصُولَ الْمَوْتِ بِفِعْلِهِ، فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ، سَوَاءٌ قَصَدَ الْإِهْلَاكِ، أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ مُهْلِكًا غَالِبًا، أَمْ نَادِرًا، كَقَطْعِ الْأُنْمُلَةِ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي حُصُولِ الْمَوْتِ بِهِ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَالثَّانِي: إِنْ ضَرَبَهُ بِجَارِحٍ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ ضَرَبَهُ بِمُثْقِلٍ، اعْتُبِرَ مَعَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ عَمْدًا أَنْ يَكُونَ مُهْلِكًا غَالِبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُهْلِكًا غَالِبًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَاعْتَرَضَ الْغَزَالِيُّ عَلَى الْأَوَّلِ، بِأَنَّهُ لَوْ

ضَرَبَ كُوعَهُ بِعَصًا، فَتَوَرَّمَ الْمَوْضِعُ، وَدَامَ الْأَلَمُ حَتَّى مَاتَ، فَقَدْ عَلِمْنَا حُصُولَ الْمَوْتِ بِهِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَعَلَى الثَّانِي بِأَنَّ الْعَمْدِيَّةَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِالْجَارِحِ وَالْمُثْقِلِ، وَكَمَا يُؤَثِّرُ الْجَارِحُ فِي الظَّاهِرِ بِالشَّقِّ يُؤَثِّرُ الْمُثْقِلُ فِي الْبَاطِنِ بِالتَّرْضِيضِ، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ نَحْوُ هَذَا، وَالْوَجْهُ الثَّالِثِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ: أَنَّ لِإِفْضَاءِ الْفِعْلِ إِلَى الْهَلَاكِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: غَالِبٌ وَكَثِيرٌ وَنَادِرٌ، وَالْكَثِيرُ: هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْغَالِبِ وَالنَّادِرِ، وَمِثَالُهُ، الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ وَالْجُذَامُ، فَالصِّحَّةُ هِيَ الْغَالِبَةُ فِي النَّاسِ، وَالْمَرَضُ كَثِيرٌ لَيْسَ بِغَالِبٍ، وَالْجُذَامُ نَادِرٌ، فَإِنْ ضَرَبَهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، جَارِحًا كَانَ أَوْ مُثْقِلًا، فَعَمْدٌ، وَإِنْ كَانَ يَقْتُلُ كَثِيرًا فَهُوَ عَمْدٌ إِنْ كَانَ جَارِحًا كَالسِّكِّينِ الصَّغِيرِ، وَإِنْ كَانَ مُثْقِلًا، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا، فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ يَقْتُلُ نَادِرًا، فَلَا قِصَاصَ، مُثْقِلًا كَانَ أَوْ جَارِحًا، كَغَرْزِ إِبْرَةٍ لَا يَعْقُبُهُ أَلَمٌ وَلَا وَرَمٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَارِحِ وَالْمُثْقِلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْجِرَاحَةَ لَهَا أَثَرٌ فِي الْبَاطِنِ قَدْ يَخْفَى، وَلِأَنَّ الْجُرْحَ وَهُوَ طَرِيقُ الْإِهْلَاكِ غَالِبًا بِخِلَافِ الْمُثْقِلِ، وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَنَّهُ إِنْ ضَرَبَهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَعَمْدٌ مَحْضٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ غَالِبًا، فَشِبْهُ عَمْدٍ، فَهَذِهِ عِبَارَاتُ الْأَصْحَابِ فِي التَّمْيِيزِ، وَالْقِصَاصُ مُخْتَصٌّ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ دُونَ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ. فَرْعٌ جَرَحَهُ بِمُحَدَّدٍ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ زُجَاجٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَمَاتَ فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ بِسِرَايَةِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ وَجَبَ الْقِصَاصُ. وَالطَّعْنُ بِالسِّنَانِ، وَغَرْزُ الْمِسَلَّةِ كَالضَّرْبِ بِالسَّيْفِ، وَهَذَا فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ، فَأَمَّا إِبَانَةُ فِلْقَةٍ مِنَ اللَّحْمِ خَفِيفَةٍ فَهُوَ كَغَرْزِ الْإِبْرَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَإِذَا غَرَزَ إِبْرَةً فَمَاتَ، نُظِرَ؛ إِنْ غَرَزَهَا

فِي مَقْتَلٍ، كَالدِّمَاغِ وَالْعَيْنِ وَأَصْلِ الْأُذُنِ وَالْحَلْقِ وَثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْأَخْدَعِ، وَهُوَ عِرْقُ الْعُنُقِ، وَالْخَاصِرَةِ وَالْإِحْلِيلِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْمَثَانَةِ وَالْعِجَانِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْخُصْيَةِ وَالدُّبُرِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ غَرَزَهَا فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، نُظِرَ؛ إِنْ ظَهَرَ أَثَرُ الْغَرْزِ بِأَنْ تَوَرَّمَ الْمَوْضِعُ، لِلْإِمْعَانِ فِي الْغَرْزِ، وَالتَّوَغُّلِ فِي اللَّحْمِ، وَبَقِيَ مُتَأَلِّمًا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِيهِ وَجْهَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرٌ، وَمَاتَ فِي الْحَالِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَلَكِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ، فَيَجِبُ الدِّيَةُ، وَالثَّانِي: يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَالثَّالِثُ: لَا يَجِبُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَفِي «الرَّقْمِ» لِلْعَبَّادِيِّ أَنَّ الْغَرْزَ فِي بَدَنِ الصَّغِيرِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَنِضْوِ الْخَلْقِ، يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ غَرَزَ إِبْرَةً فِي جِلْدَةِ الْعَقِبِ وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يَتَأَلَّمْ بِهِ، فَمَاتَ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، لِعِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِهِ، وَالْمَوْتُ عَقِبَهُ مُوَافَقَةُ قَدَرٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ ضَرَبَهُ بِقَلَمٍ، أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ خِرْقَةً، فَمَاتَ فِي الْحَالِ. فَرْعٌ لَوْ ضَرَبَهُ بِمُثْقِلٍ كَبِيرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا كَحَجَرٍ، أَوْ دَبُّوسٍ كَبِيرَيْنِ، أَوْ أَحْرَقَهُ، أَوْ صَلَبَهُ، أَوْ هَدَمَ عَلَيْهِ حَائِطًا، أَوْ سَقْفًا، أَوْ أَوْطَأَهُ دَابَّةً، أَوْ دَفْنَهُ حَيًّا، أَوْ عَصَرَ خُصْيَتَهُ عَصْرًا شَدِيدًا، فَمَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ، أَوْ عَصًا خَفِيفَةٍ، أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ صَغِيرٍ، نُظِرَ؛ إِنْ وَالَى بِهِ الضَّرْبَ حَتَّى مَاتَ، أَوِ اشْتَدَّ الْأَلَمُ، وَبَقِيَ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يُوَالِ وَاقْتَصَرَ عَلَى سَوْطٍ أَوْ سَوْطَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَقْتَلٍ، أَوْ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ الْمُعِينَيْنِ عَلَى الْهَلَاكِ، أَوْ كَانَ الْمَضْرُوبُ صَغِيرًا أَوْ ضَعِيفًا بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِعَارِضٍ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ مُهْلِكٌ غَالِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ خَنَقَهُ، أَوْ وَضَعَ عَلَى فَمِهِ يَدَهُ، أَوْ مِخَدَّةً وَنَحْوَهَا حَتَّى مَاتَ بِانْقِطَاعِ

النَّفَسِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ خَلَّاهُ وَهُوَ حَيٌّ، وَجَبَ الْقِصَاصُ أَيْضًا إِنِ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، أَوْ ضَعُفَ وَبَقِيَ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ، وَإِنْ زَالَ الضَّعْفُ وَالْأَلَمُ، ثُمَّ مَاتَ، فَقَدِ انْقَطَعَ أَثَرُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْإِمْسَاكِ عَلَى الْفَمِ قَصِيرَةً لَا يَمُوتُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ. فَرْعٌ لَوْ ضَرَبَهُ الْيَوْمَ ضَرْبَةً، وَغَدًا ضَرْبَةً، وَهَكَذَا فَرَّقَ الضَّرَبَاتِ حَتَّى مَاتَ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ، لِأَنَّ الْغَالِبَ السَّلَامَةُ عِنْدَ تَفْرِيقِ الضَّرَبَاتِ، وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ: لَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَقَصَدَ أَنْ لَا يَزِيدَ، فَشَتَمَهُ، فَضَرَبَهُ ثَانِيَةً، ثُمَّ شَتَمَهُ، فَضَرَبَهُ ثَالِثَةً حَتَّى قَتَلَهُ، فَلَا قِصَاصَ لِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْظَرَ إِلَى صُورَةِ الْمُوَالَاةِ وَلَا تُقَدَّرُ مُدَّةُ التَّفْرِيقِ، بَلْ يُعْتَبَرُ أَثَرُ الضَّرْبَةِ السَّابِقَةِ وَالْآلَامُ الْحَاصِلَةُ بِهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ ثُمَّ ضَرَبَهُ أُخْرَى، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَالَى. فَرْعٌ الضَّرْبُ بِجَمْعِ الْكَفِّ، كَالضَّرْبِ بِالْعَصَا الْخَفِيفَةِ. فَرْعٌ لَوْ سَقَاهُ دَوَاءً أَوْ سُمًّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، لَكِنَّهُ يَقْتُلُ كَثِيرًا، فَهُوَ كَغَرْزِ الْإِبْرَةِ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، لِأَنَّ فِي الْبَاطِنِ أَغْشِيَةً رَقِيقَةً تَنْقَطِعُ بِهِ، وَفِي إِلْحَاقِهِ بِالْمُثْقِلِ احْتِمَالٌ. فَرْعٌ حَبَسَهُ فِي بَيْتٍ فَمَاتَ جُوعًا، أَوْ عَطَشًا، نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ خَوْفًا أَوْ حُزْنًا، أَوْ أَمْكَنَهُ طَلَبُهُ وَلَوْ بِالسُّؤَالِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يَجِبْ عَلَى حَابِسِهِ قِصَاصٌ وَلَا ضَمَانٌ، لِأَنَّ الْمَحْبُوسَ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَإِنْ مَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَمَنَعَهُ الطَّلَبَ حَتَّى مَاتَ، نُظِرَ؛ إِنْ

مَضَتْ مُدَّةٌ يَمُوتُ مِثْلُهُ فِيهَا غَالِبًا بِالْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَحْبُوسِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَالزَّمَانِ حَرًّا وَبَرْدًا، وَإِنْ لَمْ تَمْضِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَمَاتَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ جُوعٌ أَوْ عَطَشٌ سَابِقٌ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ بِهِ بَعْضُ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا: أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ الْحَابِسُ جُوعَهُ السَّابِقَ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِلَّا فَلَا، وَالثَّانِي: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْحَالَيْنِ، وَالثَّالِثُ: عَكْسُهُ، وَشَبَّهُوا الْجَاهِلَ بِمَنْ دَفَعَ رَجُلًا دَفْعًا خَفِيفًا، فَسَقَطَ عَلَى سِكِّينٍ وَرَاءَهُ، وَالدَّافِعُ جَاهِلٌ بِهَا، لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ وَجَبَتْ دِيَةُ عَمْدٍ بِكَمَالِهَا إِنْ كَانَ عَالِمًا، وَدِيَةُ شِبْهِ عَمْدٍ إِنْ كَانَ جَاهِلًا، وَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْقِصَاصَ، فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ الدِّيَةُ بِكَمَالِهَا، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: تَجِبُ نِصْفُ دِيَةِ الْعَمْدِ أَوْ شِبْهِ الْعُمَدِ. وَلَوْ مَنَعَهُ الشَّرَابَ دُونَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَأْكُلِ الْمَحْبُوسُ خَوْفًا مِنَ الْعَطَشِ، فَمَاتَ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، وَلَا ضَمَانَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، لِأَنَّهُ الْمُهْلِكُ نَفْسَهُ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَجِبُ، وَلَوْ حَبَسَهُ، وَرَاعَاهُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَمَاتَ فِي الْحَبْسِ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا، ضَمِنَهُ بِالْيَدِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا، فَلَا ضَمَانَ أَصْلًا، سَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ بِانْهِدَامِ سَقْفٍ أَوْ جِدَارٍ عَلَيْهِ، أَوْ بِلَسْعِ حَيَّةٍ وَنَحْوِهَا. وَلَوْ حَبَسَهُ وَعَرَّاهُ حَتَّى مَاتَ بِالْبَرْدِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَبَسَهُ، وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَلَوْ أَخَذَ طَعَامَهُ، أَوْ شَرَابَهُ، أَوْ ثِيَابَهُ فِي مَفَازَةٍ، فَمَاتَ جُوعًا، أَوْ عَطَشًا، أَوْ بَرْدًا، فَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ صُنْعًا. فَرْعٌ لَوْ سَحَرَ رَجُلًا، فَمَاتَ، سَأَلْنَاهُ، فَإِنْ قَالَ: قَتَلْتُهُ بِسِحْرِي، وَسِحْرِي يَقْتُلُ غَالِبًا، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ يَقْتُلُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ، فَهُوَ

إِقْرَارٌ بِشُبْهَةِ الْعَمْدِ، وَإِنْ قَالَ: قَصَدْتُ غَيْرَهُ، فَتَأَثَّرَ بِهِ لِمُوَافَقَةِ الِاسْمِ الِاسْمَ، فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالْخَطَأِ، وَفِي الْحَالَيْنِ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَالْخَطَأُ يَكُونُ فِي مَالِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةُ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ، وَسَيَعُودُ ذِكْرُ السِّحْرِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، ثُمَّ فِي كِتَابِ دَعْوَى الدَّمِ، وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ مَذْكُورٌ هُنَاكَ، أَنَّ السِّحْرَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي بَيَانِ الْمُزْهِقِ. فَالْفِعْلُ الَّذِي لَهُ مَدْخَلٌ فِي الزُّهُوقِ، إِمَّا أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي حُصُولِ الزُّهُوقِ، وَلَا فِي حُصُولِ مَا يُؤَثِّرُ فِي الزُّهُوقِ، وَإِمَّا أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الزُّهُوقِ وَيُحَصِّلُهُ، وَإِمَّا أَنْ يُؤَثِّرَ فِي حُصُولِ مَا يُؤَثِّرُ فِي الزُّهُوقِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَكَحَفْرِ الْبِئْرِ مَعَ التَّرَدِّي أَوِ التَّرْدِيَةِ، وَكَالْإِمْسَاكِ مَعَ الْقَتْلِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَكَالْقَدِّ، وَحَزِّ الرَّقَبَةِ، وَالْجِرَاحَاتِ السَّارِيَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَالْإِكْرَاهِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْقَدِّ، فَالْأَوَّلُ شَرْطٌ، وَالثَّانِي عِلَّةٌ، وَالثَّالِثُ سَبَبٌ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِالشَّرْطِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ، وَكَذَا بِالسَّبَبِ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ سَنَرَاهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. ثُمَّ السَّبَبُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: مَا يُوَلِّدُ الْمُبَاشِرَةَ تَوْلِيدًا حِسِّيًّا، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، فَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ، وَالْمَأْمُورُ مُبَاشِرٌ آثِمٌ بِفِعْلِهِ، وَالْمُبَاشَرَةُ مُقَدَّمَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْإِكْرَاهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقُ، وَالَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْمُعْتَبِرُونَ هُنَا وَرَجَّحُوهُ، أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْقَتْلِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّخْوِيفِ بِالْقَتْلِ، أَوْ مَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، كَالْقَطْعِ وَالْجُرْحِ وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، وَحُكْمِ الْإِكْرَاهِ الصَّادِرِ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَوِ الْمُتَغَلِّبِ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُوَلِّدُهَا شَرْعًا وَهُوَ الشَّهَادَةُ، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَى

رَجُلٌ بِمَا يُوجِبُ قَتْلُهُ قِصَاصًا، أَوْ بِرِدَّةٍ، أَوْ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَحَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ وَقَتَلَهُ بِمُقْتَضَاهَا، ثُمَّ رَجَعُوا وَقَالُوا: تَعَمَّدْنَا وَعَلِمْنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِنَا، لَزِمَهُمُ الْقِصَاصُ، وَلَوْ شَهِدُوا بِمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ قِصَاصًا، أَوْ فِي سَرِقَةٍ، فَقُطِعَ، ثُمَّ رَجَعُوا وَقَالُوا: تَعَمَّدْنَا، لَزِمَهُمُ الْقَطْعُ، وَإِنْ سَرَى فَعَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ رَجَعَ الشُّهُودُ وَقَالُوا: لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِقَوْلِنَا، أَوْ رَجَعَ الْمُزَكِّي أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْوَالِي وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الشُّهُودِ، فَسَيَأْتِي بَيَانُ كُلِّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الشُّهُودِ بِالرُّجُوعِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِالتَّعَمُّدِ، لَا بِكَذِبِهِمْ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَّا كَذِبَهُمْ بِأَنْ شَاهَدْنَا الْمَشْهُودَ بِقَتْلِهِ حَيًّا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا، وَلَا يَلْزَمُهُمُ الْقِصَاصُ بِالرُّجُوعِ إِلَّا إِذَا أَخْرَجَتْ شَهَادَتُهُمْ مُبَاشَرَةَ الْوَلِيِّ عَنْ كَوْنِهَا عُدْوَانًا، أَمَّا إِذَا اعْتَرَفَ الْوَلِيُّ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِكَذِبِهِمْ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى الْوَلِيِّ الْقِصَاصُ، رَجَعُوا أَمْ لَمْ يَرْجِعُوا. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يُوَلِّدُهَا تَوْلِيدًا عُرْفِيًّا، كَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ الْمَسْمُومِ، فَإِذَا أَوْجَرُوهُ سُمًّا صِرْفًا، أَوْ مَخْلُوطًا وَهُوَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، سَوَاءٌ كَانَ مُوحِيًا أَوْ غَيْرَ مُوحٍ، فَمَاتَ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا وَقَدْ يَقْتُلُ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا: إِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ لِلسُّمِّ نِكَايَةً فِي الْبَاطِنِ كَالْجُرْحِ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ لَوْ كَانَ السُّمُّ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، لَكِنْ أَوْجَرَهُ ضَعِيفًا بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَمِثْلُهُ يَقْتُلُ مِثْلَهُ غَالِبًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ. وَلَوْ قَالَ الْمُؤْجِرُ: كَانَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَنَازَعَهُ الْوَلِيُّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤْجِرِ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ سَاعَدَتْهُ بَيِّنَةٌ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ بَيِّنَةً عَلَى مَا يَقُولُهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ هَذَا السُّمِّ الْحَاضِرِ، وَشَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ سُمٌّ، أَوْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا، وَنَازَعَهُ الْوَلِيُّ، فَهَلْ يُصَدَّقُ الْمُؤْجِرُ؟ قَوْلَانِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ:

فِيمَا إِذَا قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ كَوْنَهُ قَاتِلًا، أَظْهَرُهُمَا: لَا يُصَدَّقُ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، وَلَوْ لَمْ يُوجِرْهُ السُّمَّ الْقَاتِلَ، لَكِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى شُرْبِهِ، فَشَرِبَهُ، قَالَ الدَّارَكِيُّ وَغَيْرُهُ: فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْوُجُوبُ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَإِكْرَاهِهِ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ. لَوْ. نَاوَلَهُ الطَّعَامَ الْمَسْمُومَ وَقَالَ: كُلْهُ، أَوْ قَدَّمَهُ إِلَيْهِ وَضَيَّفَهُ بِهِ، فَأَكَلَهُ، وَمَاتَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُمَا: هُوَ مَسْمُومٌ أَمْ لَا، وَذَكَرُوا مِثْلَهُ فِي الْأَعْجَمِيِّ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الطَّاعَةِ فِي كُلِّ مَا يُشَارُ عَلَيْهِ بِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِهِ، وَلَا نَظَرُوا إِلَى أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ عَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ، وَلِلنَّظَرَيْنِ مَحَالٌّ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا، فَإِنْ عَلِمَ حَالَ الطَّعَامِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُنَاوِلِ وَالْمُقَدِّمِ، بَلِ الْأَكِلُ هُوَ الْمُهْلِكُ نَفْسَهُ، وَإِلَّا فَفِي الْقِصَاصِ قَوْلَانِ، وَهُمَا جَارِيَانِ فِيمَا لَوْ غَطَّى رَأْسَ بِئْرٍ فِي دِهْلِيزِهِ، وَدَعَا إِلَى دَارِهِ ضَيْفًا، وَكَانَ الْغَالِبُ أَنَّهُ يَمُرُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِذَا أَتَاهُ، فَأَتَاهُ وَهَلَكَ بِهَا، أَظْهَرُهُمَا: لَا قِصَاصَ. وَطَرَدَ الْبَغَوِيُّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ: كُلْ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنَ السُّمِّ، لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ، وَفِيمَا إِذَا جُعِلَ السُّمُّ فِي جَرَّةِ مَاءٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَمَاتَ. وَلْتَكُنِ الصُّورَةُ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِلَّا فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعَمْدِيَّةُ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا قِصَاصَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَإِنَّ هَذَا أَقْوَى مِنْ حَفْرِ الْبِئْرِ، وَفِي قَوْلٍ: لَا تَجِبُ تَغْلِيبًا لِلْمُبَاشَرَةِ، وَلَوْ دَسَّ السُّمَّ فِي طَعَامِ رَجُلٍ، فَأَكَلَهُ صَاحِبُهُ جَاهِلًا بِالْحَالِ، وَمَاتَ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ

فصل

عَلَى الْقَوْلَيْنِ، إِذَا كَانَ الْغَالِبُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَغْرِيرٌ، وَلَا حَمْلٌ عَلَى الْأَكْلِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ إِتْلَافُ طَعَامِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَلَوْ دَسَّهُ فِي طَعَامِ نَفْسِهِ فَدَخَلَ شَخْصٌ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَأَكَلَهُ، فَلَا ضَمَانَ. فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَدْخُلُ دَارَهُ، وَيَأْكُلُ انْبِسَاطًا، فَهَلْ يَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي الْقِصَاصِ، أَمْ يُقْطَعُ بِنَفْيِهِ؟ طَرِيقَانِ. فَصْلٌ فِيمَا إِذَا جَرَى سَبَبٌ وَقَدَرَ الْمَقْصُودُ عَلَى دَفْعِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: جَرَحَهُ جِرَاحَةً مُهْلِكَةً، فَلَمْ يُعَالِجْهَا الْمَجْرُوحُ حَتَّى مَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَارِحِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْجِرَاحَةِ مُهْلِكٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَبَسَهُ وَالطَّعَامُ عِنْدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ، لَأَنَّ الْحَبْسَ بِمَجْرَدِهِ لَيْسَ مُهْلِكًا. الثَّانِيَةُ: غَرَّقَهُ فِي مَاءٍ، فَإِنْ أَمْسَكَهُ فِيهِ حَتَّى مَاتَ، أَوْ تَرَكَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ، وَلَكِنْ تَأَلَّمَ بِهِ، وَبَقِيَ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ، فَمَاتَ بِهِ، نُظِرَ إِنْ كَانَ الْمَاءُ بِحَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ الْخَلَاصُ مِنْهُ كَلُجَّةِ الْبَحْرِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ فِيهَا السِّبَاحَةُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْقَى يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ يُتَوَقَّعُ الْخَلَاصُ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مُغْرِقًا، بِأَنْ كَانَ رَاكِدًا فِي مَوْضِعٍ مُنْبَسِطٍ، فَمَكَثَ الْمُلْقَى فِيهِ مُضْطَجِعًا، أَوْ مُسْتَلْقِيًا حَتَّى هَلَكَ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، فَإِنَّهُ الْمُهْلِكُ نَفْسَهُ، وَمِثْلُهُ لَوْ فَصَدَهُ فَلَمْ يَعْصِبْ نَفْسَهُ حَتَّى مَاتَ، لَأَنَّ الدَّفْعَ مَوْثُوقٌ بِهِ، لَكِنْ لَوْ كَتَّفَهُ وَأَلْقَاهُ عَلَى هَيْئَةٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ يُعَدُّ مُغْرِقًا كَالْأَنْهَارِ الْكِبَارِ الَّتِي لَا يَخْلُصُ مِنْهَا إِلَّا بِالسِّبَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُلْقَى مَكْتُوفًا، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ

زَمِنًا، أَوْ ضَعِيفًا، أَوْ قَوِيًّا لَا يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا، فَمَنَعَهُ مِنْهَا عَارِضُ مَوْجٍ، أَوْ رِيحٍ، فَلَا قِصَاصَ، وَلَكِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ تَرَكَ السِّبَاحَةَ بِلَا عُذْرٍ، حُزْنًا أَوْ لَجَاجًا، فَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا تَجِبُ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ قَطْعًا، وَقِيلَ: عَكْسُهُ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: يَجِبُ إِنْ أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ أَلْقَاهُ فِي نَارٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهَا، لِعِظَمِهَا أَوْ كَوْنِهَا فِي وَهْدَةٍ، أَوْ كَوْنِهِ مَكْتُوفًا، أَوْ زَمِنًا، أَوْ صَغِيرًا، فَمَاتَ فِيهَا، أَوْ خَرَجَ مِنْهَا مُتَأَثِّرًا مُتَأَلِّمًا، وَبَقِيَ مُتَأَلِّمًا إِلَى أَنْ مَاتَ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّخَلُّصُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى هَلَكَ، فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ يَجِبُ ضَمَانُ مَا تَأَثَّرَ بِالنَّارِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ قَبْلَ تَقْصِيرِهِ فِي الْخُرُوجِ، سَوَاءٌ كَانَ أَرْشَ عُضْوٍ أَوْ حُكُومَةً قَطْعًا. فَرْعٌ. قَالَ الْمُلْقِي: كَانَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِمَّا أَلْقَيْتُهُ فِيهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ نَارٍ، فَقَصَّرَ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: لَمْ يُمْكِنْهُ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ؟ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، لِتَعَارُضِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ لَخَرَجَ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ تَصْدِيقُ الْوَلِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ. كَتَّفَهُ وَطَرَحَهُ عَلَى السَّاحِلِ، فَزَادَ الْمَاءُ وَهَلَكَ بِهِ، إِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يُعْلَمُ زِيَادَةُ الْمَاءِ فِيهِ، كَالْمَدِّ بِالْبَصْرَةِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ

يَزِيدُ، وَقَدْ لَا يَزِيدُ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ زِيَادَتُهُ، فَاتَّفَقَ سَيْلٌ نَادِرٌ، فَخَطَأٌ مَحْضٌ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي اجْتِمَاعِ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ، أَوِ الشَّرْطِ. أَمَّا الشَّرْطُ وَالْمُبَاشَرَةُ إِذَا اجْتَمَعَا، فَالْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْمُبَاشِرَةِ فَقَطْ، فَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَرَدَّى رَجُلٌ فِيهَا شَخْصًا، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُرْدِي دُونَ الْحَافِرِ، وَلَوْ أَمْسَكَ رَجُلًا، فَقَتَلَهُ آخَرُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُمْسِكِ، إِلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ إِذَا أَمْسَكَهُ لِلْقَتْلِ، وَيُعَزَّرُ. هَذَا فِي الْحَرِّ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا، فَيُطَالَبُ الْمُمْسِكُ بِالضَّمَانِ بِالْيَدِ وَالْقَرَارِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَوْ أَمْسَكَ مُحْرِمٌ صَيْدًا، فَقَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ، فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَتَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْمُمْسِكِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْحَجِّ. وَلَوْ قَدَّمَ صَبِيًّا إِلَى هَدَفٍ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ كَانَ أَرْسَلَهُ الرَّامِي قَبْلَ تَقْدِيمِ الصَّبِيِّ، فَقَتَلَهُ، فَالرَّامِي كَالْحَافِرِ، وَالْمُقَدِّمُ كَالْمُرْدِي، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَغْلِبَ السَّبَبُ الْمُبَاشَرَةَ، بِأَنْ أَخْرَجَهَا عَنْ كَوْنِهَا عُدْوَانًا مَعَ تَوْلِيدِهِ لَهَا، مِثْلَ أَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَقَتَلَهُ الْقَاضِي، أَوْ جَلَّادُهُ، أَوْ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَقَتَلَهُ الْوَلِيُّ أَوْ وَكِيلُهُ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الشُّهُودِ، دُونَ الْقَاضِي وَالْوَلِيِّ وَنَائِبِهِمَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ السَّبَبُ مَغْلُوبًا، بِأَنْ رَمَاهُ مِنْ شَاهِقٍ، فَتَلَقَّاهُ رَجُلٌ بِسَيْفٍ، فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ، أَوْ ضَرَبَ رَقَبَتَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ الْأَرْضَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَادِّ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُلْقِي، سَوَاءٌ عَرَفَ الْحَالَ أَمْ لَا. وَفِي وَجْهٍ: يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالْمَالِ، لَا بِالْقِصَاصِ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ، كَلُجَّةِ بَحْرٍ، فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ، فَعَلَى الْمُلْقِي الْقِصَاصُ

عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَخَرَّجَ الرَّبِيعُ قَوْلًا: إِنَّهُ لَا قِصَاصَ، لَكِنْ تَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، وَقِيلَ: إِنِ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاءِ، فَلَا قِصَاصَ، كَمَسْأَلَةِ الْقَادِّ، وَإِلَّا فَيَجِبُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الِالْتِقَامِ قَبْلَ وُصُولِهِ الْمَاءَ، وَالْقَطْعُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ بَعْدَهُ. وَفَرَّقَ الْإِمَامُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْقَدِّ وَالِالْتِقَامِ، بِأَنَّ الْقَدَّ قَتْلٌ صَدَرَ مِنْ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ بِفِعْلٍ وَرَوِيَّةٍ، فَيَقْطَعُ أَثَرَ السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَالْحُوتُ يَلْتَقِمُ بِطَبْعِهِ كَالسَّبُعِ الضَّارِي، فَلَمْ يَقْطَعْ أَثَرَ السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: لَوْ أَمْسَكَهُ، فَقَتَلَهُ آخَرُ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْمُمْسِكِ. وَلَوْ أَمْسَكَهُ وَهَدَفَهُ لِوَثْبَةِ سَبُعٍ ضَارٍ، فَافْتَرَسَهُ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُمْسِكِ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ الضَّارِيَ يَفْعَلُ بِطَبْعِهِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ، وَكَأَنَّهُ آلَةٌ لِصَاحِبِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ مَا لَوْ أَلْقَاهُ فِي بِئْرٍ وَكَانَ فِي سُفْلِهَا نَصْلٌ مَنْصُوبٌ فَمَاتَ بِهِ. فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُلْقِي، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الطَّارِئُ فِعْلَ صَاحِبِ رَأْيٍ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ تَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ الْآلَةِ، وَبُنِيَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي سُفْلِ الْبِئْرِ حَيَّةٌ عَادِيَةٌ بِطَبْعِهَا، أَوْ نَمِرٌ ضَارٍ، فَقَتَلَهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُرْدِي، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَجْنُونٌ ضَارٍ عَلَى طَبْعِ السِّبَاعِ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَارِيًا، كَانَ كَالْعَاقِلِ فِي إِسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنِ الْمُرْدِي، فَلَمْ يَجْعَلِ الْهَلَاكَ الْحَاصِلَ بِالسَّبُعِ الضَّارِي كَالتَّلَقِّي بِالسَّيْفِ، وَأَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ نَفْيَ الضَّمَانِ إِذَا افْتَرَسَهُ السَّبُعُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْأَرْضِ. وَلَا فَرْقَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَدِّ، بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَادُّ مِمَّنْ يَضْمَنُ أَوْ مِمَّنْ لَا يَضْمَنُ، كَالْحَرْبِيِّ، وَلَوْ رَفَعَ الْحُوتُ رَأْسَهُ، فَأَلْقَمَهُ فَاهُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ غَيْرِ مُغْرِقٍ، فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِهْلَاكَهُ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِسَبَبِ الْهَلَاكِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَ رَجُلًا دَفْعًا خَفِيفًا، فَأَلْقَاهُ، فَجَرَحَهُ بِسِكِّينٍ كَانَ هُنَاكَ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الدَّافِعُ،

فَلَا قِصَاصَ، وَلَكِنْ تَجِبُ فِي الصُّورَتَيْنِ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَحَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ عَنِ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِهِ دِيَةٌ كَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قِصَاصٌ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَدِلَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ، كَالْإِكْرَاهِ، فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ، كَمَا سَبَقَ، وَفِي الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: وُجُوبُ الْقِصَاصِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ آثِمٌ بِالِاتِّفَاقِ بِخِلَافِ قَتْلِ الصَّائِلِ، وَسَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا أَوْ مُتَغَلِّبًا، وَقِيلَ: هُمَا فِي السُّلْطَانِ، فَإِنْ كَانَ مُتَغَلِّبًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ قَطْعًا. فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ، فَهِيَ عَلَيْهِمَا كَالشَّرِيكَيْنِ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ مِنَ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْقِصَاصَ عَلَى الْمَأْمُورِ، فَفِي وُجُوبِ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ، تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْآلَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ، وَحَرُمَ الْمِيرَاثُ، وَهَلْ تَكُونُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ أَمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ. قُلْتُ: الْأَرْجَحُ أَنَّهُ فِي مَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا دِيَةَ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ آثِمٌ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ، حُرِمَ الْإِرْثُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْحِرْمَانُ. فَرْعٌ. إِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ عَلَى الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ جَمِيعًا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُكَافِئًا لِلْمَقْتُولِ دُونَ الْآخَرِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكَافِئِ دُونَ الْآخَرِ، كَشَرِيكِ الْأَبِ، فَإِذَا أَكْرَهَ عَبْدٌ حُرًّا عَلَى قَتْلِ عَبْدٍ، أَوْ ذَمِّيٌّ مُسْلِمًا عَلَى قَتْلِ ذِمِّيٍّ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْمَأْمُورِ، وَلَوْ أَكْرَهَ حُرٌّ عَبْدًا

عَلَى قَتْلِ عَبْدٍ، أَوْ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا عَلَى قَتْلٍ ذِمِّيٍّ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَلَوْ أَكْرَهَ الْأَبُ أَجْنَبِيًّا عَلَى قَتْلِ الْوَلَدِ، أَوِ الْأَجْنَبِيُّ الْأَبَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ. فَرْعٌ. إِذَا أَكْرَهَ بَالِغٌ صَبِيًّا مُرَاهِقًا عَلَى قَتْلٍ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَأَمَّا الْمُكْرَهُ، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ عَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: عَمْدٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قُلْنَا: خَطَأٌ، فَلَا، لِأَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا إِذَا قُلْنَا: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ، وَجَعَلْنَاهُمَا كَالشَّرِيكَيْنِ، فَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ مَعَ قَوْلِنَا عَمْدُ الصَّبِيِّ خَطَأٌ، وَجْهَانِ. وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَجَمِيعُهَا عَلَى الْمُكْرِهِ إِنْ لَمْ نُوجِبْ عَلَى الْمُكْرَهِ شَيْئًا، وَإِنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ نِصْفَهَا، فَنِصْفُهَا عَلَى الْمُكْرَهِ، وَنِصْفُهَا فِي مَالِ الصَّبِيِّ إِنْ قُلْنَا: عَمْدُهُ عَمْدٌ، وَإِنْ قُلْنَا: خَطَأٌ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ. وَلَوْ أَكْرَهَ مُرَاهِقٌ بَالِغًا، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُرَاهِقِ، وَفِي الْبَالِغِ: الْقَوْلَانِ، إِنْ قُلْنَا: عَمْدُ الصَّبِيِّ عَمْدٌ، وَإِنْ قُلْنَا: خَطَأٌ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ. فَرْعٌ. أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى طَلَلٍ عَلِمَ الْآمِرُ أَنَّهُ إِنْسَانٌ، وَظَنَّهُ الْمَأْمُورُ حَجَرًا أَوْ صَيْدًا، أَوْ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ سُتْرَةً وَرَاءَهَا إِنْسَانٌ، وَعَلِمَهُ الْآمِرُ دُونَ الْمَأْمُورِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَيَجِبُ عَلَى الْآمِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ آلَةٌ لَهُ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ. فَإِنْ آلَ الْآمِرُ إِلَى الدِّيَةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تَجِبُ كُلُّهَا عَلَى الْآمِرِ وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَأْمُورِ نِصْفُهَا، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى صَيْدٍ، فَرَمَى، وَأَصَابَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى

وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَعَمَّدَا، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَجَمِيعُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ إِنْ لَمْ نَضْمَنِ الْمُكْرَهَ، وَإِلَّا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى صُعُودِ شَجَرَةٍ، أَوْ نُزُولِ بِئْرٍ، فَفَعَلَ، فَزَلِقَ وَهَلَكَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ، فَلَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ الْقَتْلَ غَالِبًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُورَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَجِبُ الْقِصَاصُ. فَرْعٌ. لَوْ قَالَ: اقْتُلْ نَفْسَكَ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ عَلَى مَالٍ، وَجَبَ جَمِيعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ إِنْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ. وَجَمِيعُهَا إِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ، فِيمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى شُرْبِ سُمٍّ، فَشَرِبَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَعَلَى الْمُكْرِهِ الْقِصَاصُ قَطْعًا، وَلَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدَكَ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَهُوَ إِكْرَاهٌ قَطْعًا، ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ. فَرْعٌ. قَالَ: اقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَهَذَا إِذَنٌ مِنْهُ فِي الْقَتْلِ وَإِكْرَاهٌ، وَلَوْ تَجَرَّدَ الْإِذْنُ، فَقَتَلَهُ الْمَأْذُونُ لَهُ، فَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً عَقِبَ هَلَاكِ الْمَقْتُولِ، أَمْ تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ؟ . إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَجَبَتْ وَلَمْ يُؤَثِّرْ إِذْنُهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا، لِأَنَّهُ يَنْفُذُ مِنْهَا دُيُونُهُ وَوَصَايَاهُ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْوَرَثَةِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَعَنْ سَهْلٍ

الصُّعْلُوكِيِّ طَرْدُ الْخِلَافِ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدِيَ، فَقَطَعَهَا، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَصَارَ كَإِتْلَافِ مَالِهِ بِإِذْنِهِ، وَلَوْ أَذِنَ عَبْدٌ فِي الْقَتْلِ، أَوِ الْقَطْعِ، لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ الْمَأْذُونُ لَهُ عَبْدًا، وَجْهَانِ. أَمَّا إِذَا انْضَمَّ الْإِكْرَاهُ إِلَى الْإِذْنِ، فَسُقُوطُ الْقِصَاصِ أَقْوَى، وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَإِنْ لَمْ نُوجِبْهَا عِنْدَ تَجَرُّدِ الْإِذْنِ فَمَعَ الْإِكْرَاهِ أَوْلَى، وَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ هَلْ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَعَلَيْهِ نِصْفُهَا، وَإِلَّا فَلَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ نَقَلُوا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى قَتْلِهِ، يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا قَتَلَهُمَا، وَأَنَّ لِلْمَأْمُورِ دَفْعَ الْآمِرِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا أَتَى الدَّفْعُ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قَتَلَهُ دَفْعًا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ بِلَا تَفْصِيلٍ وَلَا خِلَافٍ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ فَقَالَ: إِذَا قَالَ: اقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَهُوَ اسْتِسْلَامٌ، وَإِنْ قَتَلَهُ، فَهُوَ دَفْعٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَوْضِعُ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ مَا إِذَا أَمْكَنَهُ الدَّفْعُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ: اقْذِفْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَقَذَفَهُ، فَقِيلَ: لَا حَدَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْطَعْنِي، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَعِينُ بِالْغَيْرِ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ وَقَطْعِهِ، وَلَا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْقَذْفِ، فَجَعَلَ الْقَاذِفَ مُبْتَدِئًا. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ عَجَبٌ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا حَدَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ. لَوْ قَالَ: اقْتُلْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَهَذَا لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، بَلْ تَخْيِيرٌ، فَمَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمَا كَانَ مُخْتَارًا لِقَتْلِهِ، وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ مَنْ حُمِلَ عَلَى

فصل

قَتْلِ مُعَيَّنٍ لَا يَجِدُ عَنْهُ مَحِيصًا، وَفِي «الرَّقْمِ» وَجْهٌ أَنَّهُ إِكْرَاهٌ، وَنَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي عَنِ اخْتِيَارِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَلَيَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَعَلَى هَذَا مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمَا، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ غَيْرُ الْإِثْمِ. فَرْعٌ. لَوْ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُكْرِهَ ثَالِثًا عَلَى قَتْلِ رَابِعٍ، فَفَعَلَا، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ: الْقَوْلَانِ، لِأَنَّهُمَا مُكْرَهَانِ. فَصْلٌ إِذَا أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا، فَقَتَلَهُ الْمَأْمُورُ، نُظِرَ إِنْ ظَنَّ الْمَأْمُورُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ بِحَقٍّ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَأْمُورِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِحَقٍّ، وَلِأَنَّ طَاعَةَ السُّلْطَانِ وَاجِبَةٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُكَفِّرَ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْلَ، وَأَمَّا الْآمِرُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، أَوِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُورُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ ظُلْمًا، فَهَلْ يُنَزَّلُ أَمْرُهُ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ؟ وَجْهَانِ وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، وَإِنَّمَا الْإِكْرَاهُ بِالتَّهْدِيدِ صَرِيحًا كَمَا فِي غَيْرِ السُّلْطَانِ، فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ سِوَى الْإِثْمِ، وَيَلْزَمُ الْمَأْمُورَ الْقِصَاصُ، أَوِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. وَالثَّانِي: يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ لِعِلَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالَةِ السَّطْوَةِ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّ طَاعَتَهُ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَيَنْتَهِضُ ذَلِكَ شُبْهَةً. فَإِذَا نَزَّلْنَاهُ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ، فَعَلَى الْآمِرِ الْقِصَاصُ، وَفِي الْمَأْمُورِ، الْقَوْلَانِ فِي الْمُكْرَهِ، وَلَوْ أَمَرَهُ صَاحِبُ الشَّوْكَةِ مِنَ الْبُغَاةِ، كَانَ كَأَمْرِ إِمَامِ الْعَدْلِ، لِأَنَّ أَحْكَامَهُ نَافِذَةٌ. وَلَوْ أَمَرَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، كَالزَّعِيمِ وَالْمُتَغَلِّبِ، فَقِيلَ: نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ الْمَحْذُورَ، فَعَلَى الْمَأْمُورِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَلَيْسَ عَلَى الْآمِرِ إِلَّا الْإِثْمُ، وَلَا

فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقًّا، أَوْ يَعْرِفَ كَوْنَهُ ظُلْمًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ الطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ الْمَحْذُورَ، بِأَنِ اعْتِيدَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِمَامِ أَنَّ الْمَعْلُومَ هَلْ يُجْعَلُ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ. وَالْقِيَاسُ جَعْلُهُ كَالْمَلْفُوظِ، وَإِلَى تَرْجِيحِهِ مَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي أَمْرِ السُّلْطَانِ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ تَصْرِيحًا وَدَلَالَةً لَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ أَمْرَ السُّلْطَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ سُلْطَانٌ لَا أَثَرَ لَهُ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إِلَى خَوْفِ الْمَحْذُورَ. فَرْعٌ. لَوْ أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا فَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُمَيِّزًا لَا يَرَى طَاعَةَ السَّيِّدِ وَاجِبَةً فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ سِوَى الْإِثْمِ. فَإِنْ عَفَا، أَوْ كَانَ مُرَاهِقًا، تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِرَقَبَتِهِ، وَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ بِإِتْلَافِ مَالٍ، فَأَتْلَفَهُ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يُمَيِّزُ، أَوْ مَجْنُونًا ضَارِيًا، أَوْ أَعْجَمِيًّا يَرَى طَاعَةَ السَّيِّدِ وَاجِبَةً فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ كَالْآلَةِ، وَالْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَى السَّيِّدِ. وَفِي تَعَلُّقِ الْمَالِ بِرَقَبَةِ مِثْلِ هَذَا الْعَبْدِ، وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ كَالْآلَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَغْرَى بَهِيمَتَهُ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَتْهُ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ضَمَانٌ. وَلَوْ أَمَرَ عَبْدَ غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَمْرِ سَيِّدِهِ وَغَيْرِهِ، وَيُسَارِعُ إِلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِرَقَبَتِهِ، فَبِيعَ فِيهِ، فَعَلَى الْآمِرِ قِيمَتُهُ لِلسَّيِّدِ، وَإِذَا لَمْ تَفِ قِيمَتُهُ بِالْوَاجِبِ، فَعَلَى الْآمِرِ الْبَاقِي. وَكَذَا لَوْ كَانَ الْآمِرُ السَّيِّدَ، وَلَيْسَ هَذَا التَّعَلُّقُ كَتَعَلُّقِ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ سَائِرِ الْعَبِيدِ، وَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيٌّ هَذَا الْعَبْدَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ، فَفَعَلَ، فَعَلَى الْآمِرِ الضَّمَانُ إِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، وَلَا يَجِبُ إِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الطَّاعَةِ فِي قَتْلِ

نَفْسِهِ بِحَالٍ، لَكِنْ لَوْ أَمَرَهُ بِبَطِّ جِرَاحَةٍ أَوْ فَتْحِ عِرْقٍ عَلَى مَقْتَلٍ، وَجَبَ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ لَا يَظُنُّهُ قَاتِلًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ وُجُوبَ الطَّاعَةِ، هَكَذَا حُكِيَ عَنِ النَّصِّ، فَإِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ الْآمِرُ عَبْدًا، فَلْيَكُنِ الْقِصَاصُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، كَمَا سَيَأْتِي نَظِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ. لَوْ أَمَرَ رَجُلٌ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا حُرًّا بِقَتْلِ شَخْصٍ، فَقَتَلَهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ لَهُمَا تَمْيِيزٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ سِوَى الْإِثْمِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْمَأْمُورِ مُغَلَّظَةً، إِنْ قُلْنَا: عُمْدُهُ عَمْدٌ، وَإِنْ قُلْنَا: خَطَأٌ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ مُخَفَّفَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا تَمْيِيزٌ، وَكَانَا يُسَارِعَانِ إِلَى مَا أُغْرِيَا بِهِ، أَوْ كَانَ الْمَجْنُونُ ضَارِيًا، فَالْقِصَاصُ أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ عَلَى الْآمِرِ، وَلِيًّا كَانَ، أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَلَوْ أَمَرَ أَحَدَهُمَا بِقَتْلِ نَفْسِهِ، فَفَعَلَ، فَعَلَى الْآمِرِ الْقِصَاصُ. وَلَوْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ قَتَلَ، أَوْ أَتْلَفَ مَالًا مِنْ غَيْرِ أَمْرِ أَحَدٍ، فَفِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهِمَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي التَّعَلُّقِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ إِتْلَافَ الْبَهِيمَةِ الْعَادِيَةِ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ أَمَرَ صَبِيًّا لَا يُمَيِّزُ بِصُعُودِ شَجَرَةٍ، أَوْ نُزُولِ بِئْرٍ، فَفَعَلَ، فَسَقَطَ فَهَلَكَ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ الدِّيَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ. لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ عَبْدًا صَغِيرًا مُمَيِّزًا عَلَى قَتْلٍ، فَقَتَلَ، فَهَلْ تَتَعَلَّقُ الدِّيَةُ بِرَقَبَتِهِ؟ قَالَ الْإِمَامُ: يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ الْحُرَّ هَلْ تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَفِي التَّعَلُّقِ بِرَقَبَتِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي التَّعْلِيقِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْأَعْجَمِيِّ، لِنُزُولِهِ مَنْزِلَةَ الْآلَةِ. فَرْعٌ. لَوْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِصُعُودِ شَجَرَةٍ، أَوْ نُزُولِ بِئْرٍ، فَامْتَثَلَ، فَهَلَكَ بِهِ،

فصل

فَإِنْ قُلْنَا: أَمْرُهُ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، فَلَا ضَمَانَ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِكْرَاهٌ، فَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ، أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَعْرُوفَانِ فِي نَظَائِرِهِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ خَاصَّةً، فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. فَصْلٌ فِيمَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ. الْإِكْرَاهُ عَلَى الْقَتْلِ الْمُحَرَّمِ لَا يُبِيحُهُ، بَلْ يَأْثَمُ بِالِاتِّفَاقِ إِذَا قَتَلَ، وَكَذَا لَا يُبَاحُ الزِّنَى بِالْإِكْرَاهِ، وَيُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ، وَالْخُرُوجُ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَإِتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ، وَيُبَاحُ أَيْضًا كَلِمَةُ الْكُفْرِ، وَفِي وُجُوبِ التَّلَفُّظِ بِهِمَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ حِفْظًا لِنَفْسِهِ، كَمَا يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ. وَالثَّانِي - وَهُوَ الصَّحِيحُ: لَا يَجِبُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الدِّينِ، وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ، فَعَلَى هَذَا: الْأَفْضَلُ أَنْ يَثْبُتَ وَلَا يَتَلَفَّظَ، وَإِنْ قُتِلَ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ، أَوِ الْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَلَفَّظَ، وَإِلَّا، فَالْأَفْضَلُ الِامْتِنَاعُ، وَلَا يَجِبُ شُرْبُ الْخَمْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ مِثْلُهُ فِي الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، وَلَا يَكَادُ يَجِيءُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إِتْلَافِ الْمَالِ. ثُمَّ إِذَا أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ بِالْإِكْرَاهِ، فَلِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ الْمُكْرِهِ الْآمِرِ بِالضَّمَانِ، وَفِي مُطَالَبَةِ الْمَأْمُورِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُطَالَبُ، لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مُبَاحٌ لَهُ بِالْإِكْرَاهِ، وَأَصَحُّهُمَا: يُطَالَبُ، لَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَغْرُومِ عَلَى الْآمِرِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ، وَقِيلَ: يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ، كَالشَّرِيكَيْنِ، وَالْقَوْلُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ مُكْرَهًا، كَالْقَوْلِ فِي ضَمَانِ الْمَالِ.

فصل

فَرْعٌ. ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ قَبْلَ كِتَابِ الدِّيَاتِ. يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ عَلَى إِتْلَافِ مَالٍ، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ دَفْعُ الْمُكْرَهِ بِمَا أَمْكَنَهُمَا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْمَالِ دَفْعُ الْمُكْرِهِ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقِيَ رُوحَهُ بِمَالِهِ، كَمَا يُنَاوَلُ الْمُضْطَرُّ طَعَامَهُ. فَصْلٌ إِذَا أَنْهَشَهُ حَيَّةً، أَوْ أَلَدَغَهُ عَقْرَبًا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَقَتَلَتْهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ غَالِبًا، فَهَلْ هُوَ عَمْدٌ، أَمْ شِبْهُ عَمْدٍ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَنْهَشْهَا، وَلَكِنْ أَلْقَى الْحَيَّةَ عَلَيْهِ، أَوْ أَلْقَاهُ عَلَيْهَا، أَوْ قَيَّدَهُ وَطَرَحَهُ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبٌ، فَقَتَلَتْهُ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا ضَمَانَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْضِعُ وَاسِعًا أَوْ ضَيِّقًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُلْجِئْهَا إِلَى قَتْلِهِ، بَلْ هِيَ قَتَلَتْهُ بِاخْتِيَارِهَا، فَهُوَ كَالْمُمْسَكِ مَعَ الْقَاتِلِ. وَلَوْ عَرَّضَهُ لِافْتِرَاسِ سَبُعٍ يَقْتُلُ غَالِبًا، كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ، وَهَدَفَهُ لَهُ حَتَّى صَارَ السَّبُعُ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى قَتْلِهِ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، نَصَّ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ السَّبُعُ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَهُوَ كَالْحَيَّةِ الَّتِي لَا تَقْتُلُ غَالِبًا، وَإِنْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ السَّبُعَ، أَوْ أَغْرَى بِهِ كَلْبًا عَقُورًا فِي مَوْضِعٍ وَاسِعٍ كَالصَّحْرَاءِ، فَقَتَلَهُ، أَوْ طَرَحَهُ فِي مَسْبَعَةٍ أَوْ بَيْنَ يَدَيْ سَبُعٍ فِي الصَّحْرَاءِ مَكْتُوفًا، أَوْ غَيْرَ مَكْتُوفٍ، فَقَتَلَهُ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا ضَمَانَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْرُوحُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. لِأَنَّهُ لَمْ يُلْجِئْهُ إِلَى قَتْلِهِ، وَالَّذِي وُجِدَ مِنْهُ لَيْسَ بِمُهْلِكٍ، وَهُوَ كَالْمُمْسِكِ مَعَ الْقَاتِلِ، وَفِي الصَّبِيِّ وَجْهٌ، أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلَوْ أَغْرَاهُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ ضَيِّقٍ، أَوْ حَبَسَهُ مَعَهُ فِي بِئْرٍ، أَوْ بَيْتٍ، فَقَتَلَهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، مَكْتُوفًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَكْتُوفٍ، لِأَنَّهُ إِلْجَاءُ السَّبُعِ إِلَى قَتْلِهِ، وَلَيْسَ السَّبُعُ كَالْحَيَّةِ،

حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقْ فِيهَا بَيْنَ الْمَوْضِعِ الْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ، لِأَنَّ الْحَيَّةَ تَنْفِرُ مِنَ الْآدَمِيِّ، وَالسَّبُعَ يَقْصِدُهُ فِي الْمَضِيقِ وَيَتَوَثَّبُ. وَفِي الْمَوْضِعِ الْوَاسِعِ لَا يَقْصِدُهُ قَصْدَهُ فِي الْمَضِيقِ، إِنَّمَا يَقْصِدُهُ دَفْعُهُ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ وَالْفِرَارُ، فَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ، وَالْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّ الْحَيَّةَ إِنْ كَانَتْ تَقْصِدُ وَلَا تَنْفِرُ، فَهِيَ كَالسَّبُعِ، وَأَنَّهَا أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةُ الطِّبَاعِ، وَأَنَّ السَّبُعَ إِذَا كَانَ ضَارِيًا شَدِيدَ الْعَدْوِ وَلَا يَتَأَتَّى الْهَرَبُ مِنْهُ فِي الصَّحْرَاءِ. وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَجَعَلَ الْإِمَامُ هَذَا بَيَانًا لِمَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ وَاسْتِدْرَاكًا، وَأَمَّا الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ فَجَعَلُوا الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفًا فِيهَا، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا أَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَيَّةٍ فِي بَيْتٍ، وَجَبَ الْقِصَاصُ كَالسَّبُعِ، وَقَوْلًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي السَّبُعِ، وَهُمَا غَرِيبَانِ. وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ فِي الْحَيَّةِ وَالسَّبُعِ فَذَلِكَ إِذَا قَتَلَ فِي الْحَالِ، أَوْ جَرَحَ جِرَاحَةً تَقْتُلُ غَالِبًا، أَمَّا إِذَا جَرَحَهُ جُرْحًا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَكَأَنَّ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ صَدَرَتْ مِنَ الْمُغْرِي. وَإِذَا أَمْكَنَ الْمُغْرَى عَلَيْهِ الْفِرَارُ، فَلَمْ يَفِرَّ، قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ كَتَرْكِ السِّبَاحَةِ، وَالْمَجْنُونُ الضَّارِي فِي ذَلِكَ كَالسَّبُعِ، وَلَوْ رَبَطَ فِي دَارِهِ كَلْبًا عَقُورًا، وَدَعَا إِلَيْهَا رَجُلًا، فَافْتَرَسَهُ الْكَلْبُ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا ضَمَانَ. وَلَمْ يُجْعَلْ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فِي الدِّهْلِيزِ وَتَغْطِيَةِ رَأْسِهَا، لِأَنَّ الْكَلْبَ يَفْتَرِسُ بِاخْتِيَارِهِ، وَلِأَنَّهُ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِعَصًا وَسِلَاحٍ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي اجْتِمَاعِ مُبَاشَرَتَيْنِ: فَإِذَا صَدَرَ فِعْلَانِ مُزْهِقَانِ مِنْ شَخْصَيْنِ، نُظِرُ، إِنْ وُجِدَا مَعًا، فَهُمَا قَاتِلَانِ، سَوَاءٌ كَانَا مُذَفَّفَيْنِ بِأَنْ حَزَّ أَحَدُهُمَا رَقَبَتَهُ، وَقَدَّهُ الْآخَرُ

نِصْفَيْنِ، أَوْ لَمْ يَكُونَا، بِأَنْ أَجَافَ كُلٌّ مِنْهُمَا، أَوْ قَطَعَا عُضْوَيْنِ، وَمَاتَ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُذَفَّفًا دُونَ الْآخَرِ، فَقِيَاسُ مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْمُذَفَّفُ هُوَ الْقَاتِلُ، وَإِنْ طَرَأَ فِعْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ فِعْلُ الثَّانِي بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، إِمَّا عَقِبَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ مُذَفَّفًا، وَإِمَّا لِسِرَايَتِهِ وَتَأْثِيرِهِ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي سِوَى التَّعْزِيرِ، لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ مَيِّتٍ، فَعُزِّرَ، كَمَا لَوْ قَطَعَ عُضْوَ مَيِّتٍ. وَالْمُرَادُ بِحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا يَبْقَى مَعَهَا الْإِبْصَارُ وَالْإِدْرَاكُ، وَالنُّطْقُ وَالْحَرَكَةُ الِاخْتِيَارِيَّانِ، وَقَدْ يُقَدُّ الشَّخْصُ، وَتُتْرَكُ أَحْشَاؤُهُ فِي النِّصْفِ الْأَعْلَى فَيَتَحَرَّكُ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ لَكِنَّهَا لَا تَنْتَظِمُ. وَإِنِ انْتَظَمَتْ، فَلَيْسَتْ صَادِرَةً عَنْ رَوِيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ، وَالْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى حَالَةُ الْيَأْسِ، لَا يَصِحُّ فِيهَا الْإِسْلَامُ، وَلَا شَيْءَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، وَيَصِيرُ فِيهَا الْمَالُ لِلْوَرَثَةِ، وَلَوْ مَاتَ قَرِيبٌ لِمَنِ انْتَهَى إِلَيْهَا، لَمْ يُورَثْ مِنْهُ. وَلَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ، أَوْ عَتَقَ رَقِيقٌ فِيهَا، لَمْ يُزَاحِمْ سَائِرَ الْوَرَثَةِ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ فِيهَا الْإِسْلَامُ، لَا تَصِحُّ فِيهَا الرِّدَّةُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ: أَنَّهَا تَصِحُّ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يُوقِنُ حِينَئِذٍ، فَإِعْرَاضُ الْمُسْلِمِ قَبِيحٌ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمَنْ قُطِعَ حُلْقُومُهُ وَمَرِيُّهُ، أَوْ أُبُيِنَتْ حَشْوَتُهُ مِنْ جَوْفِهِ، فَقَدِ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، وَلَوْ أَصَابَ الْحَشْوَةَ حَرْقٌ، أَوْ قَطْعٌ، وَتُيُقِّنَ مَوْتُهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ فِي ذَلِكَ الْحَالِ.

فصل

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ فِعْلُ الثَّانِي قَبْلَ انْتِهَائِهِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ الثَّانِي مُذَفَّفًا بِأَنْ جَرَحَهُ الْأَوَّلُ، وَحَزَّ الثَّانِي رَقَبَتَهُ، أَوْ قَدَّهُ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْقِصَاصُ فِي الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ، أَوِ الْمَالِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُتَوَقَّعَ الْبُرْءُ مِنَ الْجُرْحِ السَّابِقِ لَوْ لَمْ يَطْرَأِ الْحَزُّ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَيْقِنَ الْهَلَاكَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لِأَنَّ حَيَاتَهُ فِي الْحَالِ مُسْتَقِرَّةٌ، وَتَصَرُّفَاتِهِ نَافِذَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الثَّانِي مُذَفَّفًا أَيْضًا، وَمَاتَ بِسِرَايَتِهِمَا، بِأَنْ أَجَافَاهُ، أَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ يَدَهُ مِنَ الْكُوعِ، وَالثَّانِي مِنَ الْمِرْفَقِ، فَمَاتَ، فَهُمَا قَاتِلَانِ، لِأَنَّ الْقَطْعَ الْأَوَّلَ قَدِ انْتَشَرَتْ سِرَايَتُهُ وَأَلَمُهُ وَلَوْ شَكَّ فِي الِانْتِهَاءِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِينَ، عَمِلَ فِيهِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ. فَرْعٌ. الْمَرِيضُ الْمُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ، قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: سَوَاءٌ انْتَهَى إِلَى حَالَةِ النَّزْعِ أَمْ لَا، وَلَفْظُ الْإِمَامِ: أَنَّ الْمَرِيضَ لَوِ انْتَهَى إِلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَبَدَتْ أَمَارَاتُهُ، وَتَعَثَّرَتِ الْأَنْفَاسُ فِي الشَّرَاسِيفِ، لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْمَوْتِ، بَلْ يَلْزَمُ قَاتِلَهُ الْقِصَاصُ. وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ فِي مِثْلِ حَالِ الْمَقْدُودِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ إِنْهَاءَ الْمَرِيضِ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَقَدْ يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ يُشْفَى، بِخِلَافِ الْمَقْدُودِ، وَلِأَنَّ الْمَرِيضَ لَمْ يَسْبِقْ فِعْلٌ بِحَالِ الْقَتْلِ وَأَحْكَامِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يُهْدَرَ الْفِعْلُ الثَّانِي وَالْقَدُّ وَنَحْوُهُ بِخِلَافِهِ. فَصْلٌ فِيمَا إِذَا قَتَلَ إِنْسَانًا يَظُنُّهُ عَلَى حَالٍ وَكَانَ بِخِلَافِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: قَتَلَ مَنْ ظَنَّهُ كَافِرًا، بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْكُفَّارِ، أَوْ رَآهُ يُعَظِّمُ آلِهَتَهُمْ، فَبَانَ مُسْلِمًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا

قِصَاصَ قَطْعًا، وَلَا دِيَةَ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ قَطْعًا. وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ قَطْعًا، وَكَذَا الْقِصَاصُ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، فَهَلِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ أَمْ مُخَفَّفَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ؟ قَوْلَانِ. الثَّانِيَةُ: قَتَلَ مَنْ ظَنَّهُ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا، فَلَمْ يَكُنْ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ عَهِدَهُ مُرْتَدًّا، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ وَكَانَ أَسْلَمَ، فَالنَّصُّ وُجُوبُ الْقِصَاصِ، وَنَصَّ فِيمَا لَوْ عَهِدَهُ ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا، فَقَتَلَهُ ظَانًّا أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ، وَلَمْ يُعْتَقْ، فَبَانَ خِلَافُهُ، أَنَّهُ لَا قِصَاصَ، فَقِيلَ: فِي الْجَمِيعِ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: بِظَاهِرِ النَّصَّيْنِ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُحْبَسُ فَلَا يُخَلَّى، فَقَاتِلُهُ مُقَصِّرٌ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَالْعَبْدِ، وَقِيلَ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ ظَنٌّ لَا يُبِيحُ الْقَتْلَ. وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي الْجَمِيعِ، وَإِنْ أَثْبَتْنَا الْخِلَافَ، كَمَا لَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ، وَجَهِلَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَلَوْ عَهِدَهُ حَرْبِيًّا فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ، فَقِيلَ: كَالْمُرْتَدِّ. وَقِيلَ: لَا قِصَاصَ قَطْعًا، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُخَلَّى، وَالْحَرْبِيُّ يُخَلَّى بِالْمُهَادَنَةِ، وَيُخَالِفُ الْعَبْدَ وَالذِّمِّيَّ، فَإِنَّهُ ظَنٌّ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ وَالْإِهْدَارَ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ، وَلَوْ ظَنَّهُ قَاتِلَ أَبِيهِ، فَقَتَلَهُ، فَبَانَ غَيْرُهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّثَبُّتُ، وَلَمْ يَعْهَدْهُ قَاتِلًا حَتَّى يَسْتَصْحِبَهُ، وَلَوْ قَالَ: تَبَيَّنْتُ أَنَّ أَبِي كَانَ حَيًّا حِينَ قَتَلْتُهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ قَطْعًا. وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا قِصَاصَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَقَالَ: ظَنَنْتُهُ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا، فَقَالَ الْوَلِيُّ: بَلْ عَلِمْتَهُ مُسْلِمًا حُرًّا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ، وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا قَالَ: ظَنَنْتُهُ قَاتِلَ أَبِي، طَرِيقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَوْضِعُهُمَا إِذَا تَنَازَعَا، أَمَّا إِذَا صَدَّقَهُ الْوَلِيُّ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، وَالثَّانِي: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّهُ ظَنٌّ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ.

الثَّالِثَةُ: ضَرَبَ مَرِيضًا ضَرْبًا يَقْتُلُ الْمَرِيضَ دُونَ الصَّحِيحِ، فَمَاتَ مِنْهُ، فَإِنْ عَلِمَ مَرَضَهُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ جَهِلَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ جَهْلَهُ لَا يُبِيحُ الضَّرْبَ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْقَتِيلُ. وَشَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَوْنُهُ مَعْصُومَ الدَّمِ بِالْإِسْلَامِ، أَوِ الْجِزْيَةِ، أَوِ الْأَمَانِ، فَالْحَرْبِيُّ مُهْدَرٌ، وَالْمُرْتَدُّ مُهْدَرٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ ذِمِّيٍّ وَمُرْتَدٍّ آخَرَ، فَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ إِذَا قَتَلَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقِّهِ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَالزَّانِي الْمُحْصَنُ إِنْ قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ، فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: الْخِلَافُ إِذَا قَتَلَ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ، فَإِنْ قَتَلَ بَعْدَ أَمْرِ الْإِمَامِ بِقَتْلِهِ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ. فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا، وَكَانَ يُؤْمَرُ بِفِعْلِهَا، فَلَا يَفْعَلُهَا، فَقَتَلَهُ إِنْسَانٌ، فَلَا قِصَاصَ، وَلْيَكُنْ هَذَا جَوَابًا عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ فِي الزَّانِي الْمُحْصَنِ، قَالَ: فَلَوْ جُنَّ قَبْلَ فِعْلِهَا، لَمْ يُقْتَلْ فِي حَالِ الْجُنُونِ. فَلَوْ قَتَلَهُ حِينَئِذٍ رَجُلٌ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَكَذَا لَوْ سَكِرَ، وَلَوْ جُنَّ الْمُرْتَدُّ، أَوْ سَكِرَ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ، فَلَا قِصَاصَ لِقِيَامِ الْكُفْرِ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْقَاتِلُ. وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِلْأَحْكَامِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، كَمَا لَا قِصَاصَ عَلَى النَّائِمِ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى شَخْصٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا أَهْلِيَّةُ الِالْتِزَامِ، وَمَنْ يُقْطَعُ جُنُونُهُ لَهُ حُكْمُ الْمَجْنُونِ فِي حَالِ جُنُونِهِ وَحُكْمُ الْعَاقِلِ فِي حَالِ عَقْلِهِ. وَمَنْ لَزِمَهُ قِصَاصٌ بِإِقْرَارٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ، ثُمَّ جُنَّ، اسْتُوفِيَ مِنْهُ حَالَ جُنُونِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِحَدٍّ، ثُمَّ جُنَّ، لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ، وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى السَّكْرَانِ، وَمَنْ تَعَدَّى بِشُرْبِ دَوَاءٍ مُزِيلٍ لِلْعَقْلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الطَّلَاقِ. فَرْعٌ. لَوْ قَالَ الْقَاتِلُ: كُنْتُ يَوْمَ الْقَتْلِ صَغِيرًا، وَقَالَ الْوَلِيُّ: بَلْ بَالِغًا، صَدَقَ الْقَاتِلُ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ، وَهَذَا بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا الْآنَ صَغِيرٌ، صَدَقَ، وَلَا قِصَاصَ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لِإِثْبَاتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ ثَبَتَ صِبَاهُ، لَبَطَلَتْ يَمِينُهُ، وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ مَجْنُونًا عِنْدَ الْقَتْلِ، وَكَانَ عُهِدَ لَهُ جُنُونٌ، صَدَقَ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ. وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ، وَقَالَ الْقَاتِلُ: كُنْتُ مَجْنُونًا، وَقَالَ الْوَارِثُ: بَلْ سَكْرَانَ، صَدَقَ الْقَاتِلُ، وَلَوْ أَقَامَ الْقَاتِلُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ مَجْنُونًا، وَأَقَامَ الْوَارِثُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ عَاقِلًا تَعَارَضَتَا. فَرْعٌ. يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُرْتَدِّ، وَالْمَعْصُومِ، لِالْتِزَامِهِ الْأَحْكَامَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْحَرْبِيِّ، كَمَا لَا يَضْمَنُ الْمَالَ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ،

باب ما يشترط مساواة القتيل القاتل فيه لوجوب القصاص وما لا يؤثر اختلافهما فيه.

وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الِاسْفَرَايِينِي: يَلْزَمُ الْحَرْبِيَّ ضَمَانُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ: وَيُعْزَى هَذَا إِلَى الْمُزَنِيِّ فِي الْمَنْثُورِ. بَابُ مَا يُشْتَرَطُ مُسَاوَاةُ الْقَتِيلِ الْقَاتِلَ فِيهِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَمَا لَا يُؤَثِّرُ اخْتِلَافُهُمَا فِيهِ. الْخِصَالُ الَّتِي يَفْضُلُ الْقَاتِلُ الْقَتِيلَ بِهَا كَثِيرَةٌ، وَلَا يُؤَثِّرُ مِنْهَا فِي مَنْعِ الْقِصَاصِ إِلَّا ثَلَاثٌ وَهِيَ: الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْوِلَادَةُ. فَإِنِ اسْتَوَى الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي عَدَمِ الثَّلَاثَةِ، أَوْ وُجُودِ مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ، جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا قُتِلَ الْمَفْضُولُ بِالْفَاضِلِ وَلَا عَكْسَ. الْخَصْلَةُ الْأُولَى: الْإِسْلَامُ، فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُعَاهِدًا، وَيُقْتَلُ الذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهِدُ بِالْمُسْلِمِ، وَيُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا، كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ، وَلَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ اقْتُصَّ مِنْهُ، وَلَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، أَوْ مُعَاهِدًا، وَأَسْلَمَ الْجَارِحُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِالسِّرَايَةِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي قِصَاصِ النَّفْسِ. فَإِنْ جَرَحَ جُرْحًا يُوجِبُ قِصَاصًا، كَقَطْعِ طَرَفٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاطِعُ، ثُمَّ سَرَى، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ قَطْعًا، ثُمَّ إِذَا طَرَأَ إِسْلَامُ الْقَاتِلِ بَعْدَ الْقَتْلِ، أَوْ بَعْدَ قَطْعِ الطَّرْفِ، اسْتَوْفَى الْإِمَامُ الْقِصَاصَ بِطَلَبِ الْوَارِثِ، وَلَا يُفَوِّضُهُ إِلَيْهِ حِذَارًا مِنْ تَسْلِيطِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ، فَيُفَوِّضَهُ إِلَيْهِ. وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، ثُمَّ ارْتَدَّ، أَوْ جَرَحَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ، فَلَا قِصَاصَ، لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ حَالَةَ الْجِنَايَةِ، وَلَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا، ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقِصَاصُ. وَلَوْ قَتَلَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ عَبْدًا مُسْلِمًا لِكَافِرٍ، فَهَلْ يَثْبُتُ الْقِصَاصُ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ

الْقِصَاصِ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْقَفَّالِ: لَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِجُزْءِ الْحُرِّيَّةِ جُزْءُ الْحَرِّيَّةِ، وَبِجُزْءِ الرِّقِّ جُزْءُ الرِّقِّ، بَلْ يُقْتَلُ جَمِيعُهُ بِجَمِيعِهِ. وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، أَوْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ، وَأَوْجَبْنَا نِصْفَ الدِّيَةِ وَنِصْفَ الْقِيمَةِ مَثَلًا، لَا نَقُولُ: نِصْفَ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَنِصْفَ الْقِيمَةِ فِي رَقَبَتِهِ، بَلْ يَجِبُ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَرُبُعُ الْقِيمَةِ فِي مَالِهِ، وَرُبُعُ الدِّيَةِ وَرُبُعُ الْقِيمَةِ فِي رَقَبَتِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ وَقَعَ الِاسْتِيفَاءُ شَائِعًا، لَزِمَ قَتْلُ الْبَعْضِ الْحُرِّ بِالْبَعْضِ الْحُرِّ وَالرَّقِيقِ مَعًا. فَرْعٌ. قَتَلَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ حُرًّا ذِمِّيًّا، أَوْ حُرٌّ ذِمِّيٌّ عَبْدًا مُسْلِمًا، أَوْ قَتَلَ كَافِرٌ ابْنَهُ الْمُسْلِمَ، أَوِ الِابْنُ الْمُسْلِمُ أَبَاهُ الْكَافِرَ، لَا قِصَاصَ، لِأَنَّ الْحُرَّ وَالْمُسْلِمَ وَالْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِمَفْضُولِهِ. فَرْعٌ. قَتَلَ الْمَكَاتَبُ أَبَاهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَتَلَ عَبْدًا لَهُ غَيْرَ أَبِيهِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. قُلْتُ: إِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ، اسْتَوْفَاهُ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ، لِأَنَّهُمَا عَبْدَانِ لِلسَّيِّدِ، قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوِلَادَةُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَالِدٍ يَقْتُلُ وَلَدَهُ، وَالْأُمُّ كَالْأَبِ وَكَذَلِكَ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ وَإِنْ عَلَوْا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا، وَحَكَى ابْنُ الْقَاصِّ وَابْنُ سَلِمَةَ قَوْلًا فِي الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ،

وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا لَا يَقْبَلُهُ الْأَصْحَابُ مَنْصُوصًا وَلَا مُخْرَجًا، وَلَوْ حَكَمَ قَاضٍ بِقَتْلِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: يُنْقَضُ حُكْمُهُ، وَلْيَكُنْ هَذَا فِيمَا يُوَافِقُنَا فِيهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ. فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إِنْ أَضَجْعَهُ وَذَبَحَهُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ، فَلَا، لِاحْتِمَالِ قَصْدِهِ التَّأْدِيبَ، وَعِنْدَنَا: لَا فَرْقَ. فَرْعٌ. يُقْتَلُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، وَكَذَا سَائِرُ الْمَحَارِمِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. فَرْعٌ. قَتَلَ الْأَبُ الرَّقِيقُ عَبْدَ ابْنِهِ، فَلَا قِصَاصَ، لِأَنَّ قِصَاصَهُ لِابْنِهِ، وَلَوْ قَتَلَ الِابْنُ الرَّقِيقُ عَبْدَ أَبِيهِ، فَلِلْأَبِ الْقِصَاصُ. فَرْعٌ. لَوْ قَتَلَ مَنْ يَرِثُهُ وَلَدُ الْقَاتِلِ، لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، مِثَالُهُ: قَتَلَ زَوْجَةَ ابْنِهِ، أَوْ زَوْجَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، أَوْ قَتَلَتْ أَمُّ الْوَلَدِ سَيِّدَهَا وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، فَوَرِثَ وَلَدُهُ الْقِصَاصَ، أَوْ بَعْضَهُ، بِأَنْ قَتَلَ أَبَا زَوْجَتِهِ، ثُمَّ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ، وَلَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ قَتَلَ ابْنَ عَتِيقِ وَلَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ وَوَرِثَهُ الْوَلَدُ، فَلَا قِصَاصَ. وَكَذَا لَوْ وَرِثَ الْقَاتِلُ الْقِصَاصَ، بِأَنْ قَتَلَ أَحَدَ الِابْنَيْنِ أَبَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ الْآخَرُ، فَوَرِثَهُ الْقَاتِلُ. فَرْعٌ. تَدَاعَى رَجُلَانِ مَوْلُودًا مَجْهُولًا، ثُمَّ قَتَلَهُ أَحَدُهُمَا، أَوْ قَتَلَاهُ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْحَالِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِأَحَدِهِمَا، وَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي

الْقَتْلِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الَّذِي أُلْحِقَ بِهِ، وَيُقْتَصُّ مِنَ الْآخَرِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنَ الْآخَرِ، لِأَنَّ إِلْحَاقَ الْقَائِفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَشْبَاهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَلَا يُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ الَّذِي يَسْقُطُ بِالشُّبَهَاتِ. وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ أَحَدُهُمَا، فَأَلْحَقَهُ بِالْآخَرِ، اقْتُصَّ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِمَا، وَيَعُودُ فِيهِ وَجْهُ ابْنِ كَجٍّ، وَإِنْ رَجَعَا عَنِ الدَّعْوَةِ، لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا، لِأَنَّهُ صَارَ ابْنًا لِأَحَدِهِمَا، وَفِي رُجُوعِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْوَلَدِ. وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا، وَأَصَرَّ الْآخَرُ، فَهُوَ ابْنُ الْآخَرِ، فَيَقْتَصُّ مِنَ الرَّاجِعِ إِنِ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ، أَوْ إِنِ انْفَرَدَ هُوَ بِقَتْلِهِ، هَذَا إِذَا لَحِقَ الْمَوْلُودُ أَحَدَهُمَا بِالدَّعْوَةِ، أَمَّا إِذَا لَحِقَ بِالْفِرَاشِ، بِأَنْ نُكِحَتْ مُعْتَدَّةٌ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنَ الْأَوَّلِ وَمِنَ الثَّانِي، أَوْ فُرِضَ وَطْءُ شُبْهَةٍ، فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِإِلْحَاقِ الْقَائِفِ، أَوْ بِانْتِسَابِ الْمَوْلُودِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَلَوْ نَفَاهُ أَحَدُهُمَا، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ لِلثَّانِي، أَمْ يَبْقَى الْإِبْهَامُ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَى الْقَائِفِ، أَوْ يَنْتَسِبَ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: ثَانِيهِمَا، فَإِذَا أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِأَحَدِهِمَا، اقْتَصَّ مِنَ الْآخَرِ إِنِ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ، أَوْ شَارَكَ فِيهِ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا، أَوِ انْتَسَبَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَقَتَلَهُ الَّذِي لَحِقَهُ، لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً بِنَسَبِهِ، لَحِقَهُ وَاقْتُصَّ مِنَ الْأَوَّلِ. فَرْعٌ. أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْأَبَ وَالْآخَرُ الْأُمَّ، فَلَهُمَا حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتُلَاهُمَا مَعًا، وَالثَّانِي: عَلَى التَّعَاقُبِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي الْمَعِيَّةِ وَالتَّعَاقُبِ بِزُهُوقِ الرُّوحِ لَا بِالْجُرْحِ. الْحَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَقْتُلَاهُمَا مَعًا، فَكُلُّ وَاحِدٍ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا، فَلِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْعَافِي، وَإِنْ لَمْ

يَعْفُ، قُدِّمَ لِلْقِصَاصِ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَإِذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا بِقُرْعَةٍ، أَوْ بِالْمُبَادَرَةِ بِلَا قُرْعَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقَاتِلُ بِحَقٍّ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُقْتَصُّ مَحْجُوبًا، سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ وَرِثَ الْقِصَاصَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بَعْضَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، أَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَحْجُبُهُ، فَلِوَارِثِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْمُبَادِرِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَاقَبَ الْقَتْلَانِ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةٌ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ أَوَّلًا، وَيَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي، فَإِذَا اقْتَصَّ الْقَاتِلُ الْأَوَّلُ مِنَ الثَّانِي، وَقُلْنَا: الْقَاتِلُ بِحَقٍّ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ، أَوْ كَانَ الْمُقْتَصُّ مَحْجُوبًا، فَلِوَرَثَةِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ نَصِيبُهُ مِنْ دِيَةِ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ يُطَالِبُونَ بِهِ الْقَاتِلَ الْأَوَّلَ. وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةٌ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْقِصَاصِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَلْ يُقَدَّمُ بِالْقُرْعَةِ، أَمْ يُقْتَصُّ مِنَ الْمُبْتَدِئِ بِالْقَتْلِ؟ وَجْهَانِ. مَيْلُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْإِمَامُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَبِالثَّانِي أَجَابَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: لَمْ يُعَبَّرْ عَنْ تَرْجِيحِ الْوَجْهَيْنِ بِمَا يَنْبَغِي، فَقَدْ قَطَعَ بِالْإِقْرَاعِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَطَعَ بِالثَّانِي الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ، مَعَ أَنَّهُ رَجَّحَ الْإِقْرَاعَ، وَالْأَرْجَحُ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْأَصْحَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَادَرَ مَنْ أَرَدْنَا الِاقْتِصَاصَ مِنْهُ بِالْقُرْعَةِ أَوْ لِابْتِدَائِهِ بِالْقَتْلِ، عَادَ النَّظَرُ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ هَلْ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَأَنَّهُ هَلْ خَلَفَ الْمَقْتُولَ مَنْ يَحْجُبُهُ كَمَا سَبَقَ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْقَتْلَانِ مَعًا، وَأَقْرَعْنَا لِلِابْتِدَاءِ، فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِأَحَدِهِمَا، أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَكِيلًا، جَازَ، لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَلَوْ وَكَّلَ الْآخَرُ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ لَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَلَا تَبْقَى الْوِكَالَةُ حِينَئِذٍ، قَالَ:

وَعِنْدِي أَنَّ تَوْكِيلَهُ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَلِهَذَا لَوْ بَادَرَ وَكِيلُهُ، فَقَتَلَ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لَكِنْ إِذَا قَتَلَ مُوَكِّلَهُ، بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ. قُلْتُ: وَلَوْ وَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَخَوَيْنِ وَكِيلًا قَبْلَ الْإِقْرَاعِ، صَحَّ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الْوَكِيلَيْنِ، فَإِذَا اقْتَصَّ أَحَدُهُمَا، انْعَزَلَ الْآخَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ. أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ، قَتَلَ الثَّانِي أَكْبَرَهُمْ، ثُمَّ الثَّالِثُ أَصْغَرَهُمْ، وَلَمْ يُخَلِّفِ الْقَتِيلَانِ غَيْرَ الْقَاتِلَيْنِ، فَلِلثَّانِي أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الثَّالِثِ، وَيَسْقُطَ عَنِ الثَّانِي الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ وَرِثَ مَا كَانَ الصَّغِيرُ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ. فَرْعٌ. قَتَلَ زَيْدٌ ابْنًا لِعَمْرٍو، وَعَمْرٌو ابْنًا لِزَيْدٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مُتَفَرِّدٌ بِالْإِرْثِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقِصَاصُ عَلَى الْآخَرِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ الْقَطَّانِ، أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا، بَلْ يَقَعُ التَّقَاصُّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَجِيءِ هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَخَوَيْنِ. قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْبَيَانِ بِنَقْلِ الْوَجْهِ فِي الْأَخَوَيْنِ عَنِ ابْنِ اللَّبَّانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ. لَوْ شَهِدَ الِابْنُ عَلَى أَبِيهِ بِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ. فَرْعٌ. يُكْرَهُ لِلْجَلَّادِ قَتْلُ وَالِدِهِ حَدًّا وَقِصَاصًا.

فصل

فَصْلٌ فِيمَا لَا يُؤَثِّرُ اخْتِلَافُ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فِيهِ، وَفِيهِ مَسَائِلٌ. إِحْدَاهَا: يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُعَاهَدِ وَبِالْعَكْسِ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الدِّيَةِ، وَفِي الْأَوَّلِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَلَوْ أَسَرَ الْإِمَامُ حَرْبِيًّا بَالِغًا، فَقَتَلَهُ ذِمِّيٌّ قَبْلَ أَنْ يَرَى الْإِمَامُ إِرْقَاقَهُ أَوْ غَيْرَهُ، فَلَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي كَانَ حَتَّى يَرِقَّهُ الْإِمَامُ. الثَّانِيَةُ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَبِالْخُنْثَى، وَبِالْعَكْسِ، كَمَا يُقْتَلُ الْعَالِمُ بِالْجَاهِلِ، وَالشَّرِيفُ بِالْخَسِيسِ، وَالشَّيْخُ بِالصَّبِيِّ، وَالشَّابِّ وَبِالْعَكْسِ. فَرْعٌ. فِيمَا لَوْ قَطَعَ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ وَأُنْثَيَاهُ وَشُفْرَاهُ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي شُفْرَيِ الْمَرْأَةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعُضْوَ الْأَصْلِيَّ لَا يُقْطَعُ بِزَائِدٍ، وَيُقْطَعُ الزَّائِدُ بِالزَّائِدِ إِذَا اتَّحَدَ الْمَحَلُّ، وَسَنَذْكُرُ الْأَصْلَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْحَالِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ثُمَّ إِنْ صَبَرَ الْمَقْطُوعُ إِلَى التَّبَيُّنِ فَذَاكَ. فَإِنْ بَانَ ذَكَرًا اقْتَصَّ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَأَخَذَ حُكُومَةَ الشُّفْرَيْنِ، وَإِنْ بَانَ أُنْثَى، فَلَا قِصَاصَ، وَلَهُ دِيَةُ الشُّفْرَيْنِ، وَحُكُومَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْقِصَاصِ، وَطَلَبَ حَقَّهُ مِنَ الْمَالِ، أُعْطِي الْمُسْتَيْقِنُ، وَهُوَ دِيَةُ الشُّفْرَيْنِ وَحُكُومَةُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ إِنْ بَانَ أُنْثَى، فَمَعَهُ حَقُّهُ، وَإِنْ بَانَ ذَكَرًا، فَلَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ عَنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَلَهُ حُكُومَةُ الشُّفْرَيْنِ فَيُحْسَبُ مَا كَانَ مَعَهُ وَيُعْطَى الْبَاقِي. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّهُ

إِنَّمَا يُعْطَى فِي الِابْتِدَاءِ حُكُومَةُ كُلُّ عُضْوٍ، لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ، فَلَا نُوجِبُ دِيَةَ الشُّفْرَيْنِ، قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ مُتَيَقَّنٌ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ جِهَتُهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا تَعَدَّدَ الْجَانِي، فَقَطَعَ قَاطِعٌ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ، وَآخَرُ شُفْرَيْهِ، وَعَفَا عَنِ الْقِصَاصَ، فَلَا نُوجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ إِلَّا حُكُومَةَ مَا قَطَعَهُ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْفُ عَنِ الْقِصَاصِ وَطَلَبَ مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَعَ الْقِصَاصِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا نُعْطِي شَيْئًا، قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْقَفَّالُ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا الْوَاجِبُ، وَأَصَحُّهَا: يُعْطَى الْمُسْتَيْقَنُ مَعَ الْقِصَاصِ. وَفِي قَدْرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَقَلُّ الْحُكُومَتَيْنِ مِنْ حُكُومَةِ الشُّفْرَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ الذُّكُورَةِ، وَحُكُومَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ الْأُنُوثَةِ. وَالثَّانِي: حُكُومَةُ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ آخِرًا، لِأَنَّهُ قَطَعُهُ وَالدَّمُ سَائِلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، فَحُكُومَتُهُ أَقَلُّ، وَأَصَحُّهُمَا: يُعْطَى أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حُكُومَةِ الشُّفْرَيْنِ بِتَقْدِيرِ الذُّكُورَةِ، وَحُكُومَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ مَعَ دِيَةِ الشُّفْرَيْنِ. أَمَّا إِذَا قَطَعَتِ امْرَأَةٌ ذَكَرَ الْخُنْثَى وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ، فَإِنْ صَبَرَ إِلَى التَّبَيُّنِ، تَوَقَّفْنَا كَمَا فِي الرَّجُلِ، فَإِنْ بَانَ ذَكَرًا، فَلَهُ دِيَتَانِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَحُكُومَةُ الشُّفْرَيْنِ، وَإِنْ بَانَ أُنْثَى، فَلَهَا حُكُومَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْقِصَاصُ فِي الشُّفْرَيْنِ، إِنْ أَجْرَيْنَا فِيهِمَا الْقِصَاصَ، وَإِلَّا فَلَهَا دِيَتُهُمَا أَيْضًا. وَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ هَلْ يَجْرِي فِي الشُّفْرَيْنِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، قِيسَتِ الصُّورَةُ بِمَا ذَكَرْنَا فِي الرَّجُلِ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ، سَلَّمَ إِلَيْهِ دِيَةَ الشُّفْرَيْنِ وَحُكُومَةَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَعْفُ، فَفِي وَجْهٍ، لَا يُعْطَى شَيْئًا، وَفِي وَجْهٍ، يُعْطَى أَقَلَّ الْحُكُومَتَيْنِ، وَفِي وَجْهٍ، حُكُومَةَ الْمَقْطُوعِ آخِرًا، وَفِي وَجْهٍ، حُكُومَةَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ لِيُوقِعَ الْقِصَاصَ فِي الشُّفْرَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهِمَا، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ أَجْرَيْنَاهُ، فَعَفَا، وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ، وَامْرَأَةٌ شُفْرَيْهِ، وَلَمْ يَعْفُ، لَمْ يُطَالَبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا

بِمَالٍ لِتَوَقُّعِ الْقِصَاصِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الشُّفْرَيْنِ. فَإِنْ مَنَعَ، فَلَا يُوقِعُ فِيهِمَا، فَتَجِبُ حُكُومَتُهُمَا عَلَى الْمَرْأَةِ، وَإِنْ قَطَعَ رَجُلٌ شُفْرَيْهِ، وَامْرَأَةٌ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ، فَلَا مَجَالَ لِلْقِصَاصِ، فَيُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ بِحُكُومَةِ مَا قَطَعَ. وَلَوْ قَطَعَ مُشْكِلٌ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ مُشْكِلٍ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْحَالِ، فَإِنْ بَانَا ذَكَرَيْنِ، أَوْ أُنْثَيَيْنِ، قُطِعَ الْأَصْلِيُّ بِالْأَصْلِيِّ، وَالزَّائِدُ بِالزَّائِدِ إِنْ تَسَاوَى الزَّائِدَانِ، وَإِلَّا فَفِي الزَّائِدِ الْحُكُومَةُ. وَإِنْ بَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى، فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ، وَلَوْ عَفَا الْمَقْطُوعُ قَبْلَ التَّبَيُّنِ، دَفَعَ إِلَيْهِ الْمُتَيَقَّنُ، وَهُوَ دِيَةُ الشُّفْرَيْنِ، وَحُكُومَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُ، فَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ وَأَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ: أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَيْهِ أَقَلَّ الْحُكُومَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُتَوَقَّعٌ فِي الْجَمِيعِ. وَبَيَانُ حَالِ الْخُنْثَى قَدْ يَكُونُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَلَامَاتِ الْحِسِّيَّةِ، كَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَنَحْوِهِمَا، فَحُكْمُهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ يَكُونُ بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِ وَإِخْبَارِهِ عَنْ مَيْلِهِ إِلَى الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ، فَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِ، ثُمَّ جُنِيَ عَلَيْهِ، اعْتَمَدْنَا قَوْلَهُ. فَإِذَا قَالَ: أَنَا رَجُلٌ، ثُمَّ قَطَعَهُ رَجُلٌ، أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ، وَإِنْ جُنِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ وَلِإِيجَابِ دِيَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا قَبْلَ الْجِنَايَةَ، وَأَصَحُّهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَالْإِمَامُ: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَشَبَّهُوا بِمَا إِذَا شَهِدَ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَكَلَ، لَا يُعَزَّرُ، وَلَوْ أَكَلَ ثُمَّ شَهِدَ، عُزِّرَ لِلتُّهْمَةِ، وَبِمَا لَوْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَنَّهُ غُصِبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كُنْتُ غُصِبْتُ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَلَوْ قَالَ أَوَّلًا: إِنْ غُصِبْتُ فَهِيَ طَالِقٌ، فَشَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِغَصْبِهِ، لَا تُطَلَّقُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوِ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْمَقْطُوعُ، فَقَالَ الْجَانِي: أَقْرَرْتُ بِأَنَّكَ امْرَأَةٌ، فَلَا قِصَاصَ لَكَ، وَقَالَ: بَلْ قُلْتَ: إِنِّي رَجُلٌ، فَقَوْلَانِ وَأَظْهَرُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي، لِأَنَّ

الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ مِنَ الْقِصَاصِ، وَهَذَا نَصُّهُ فِي مَوَاضِعَ، وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمَقْطُوعِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِحَالِهِ. فَرْعٌ. لَوْ قَطَعَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ ذَكَرَ رَجُلٍ وَأُنْثَيَيْهِ، وُقِفَ، فَإِنْ بَانَ ذَكَرًا، اقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنْ بَانَ أُنْثَى، فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ وَلَا قِصَاصَ، فَإِنْ طَلَبَ مِنْهُ مَالًا قَبْلَ التَّبَيُّنِ وَلَمْ يَعْفُ، لَمْ يُعْطَ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُتَوَقَّعٌ. فَرْعٌ. لَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْخُنْثَى، وَجَبَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ قَطَعَهَا رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، فَلَوْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ، لَمْ يُؤْخَذْ إِلَّا الْيَقِينُ، وَهُوَ نِصْفُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَكَذَا لَوْ قُتِلَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا دِيَةُ امْرَأَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قَتَلَتِ الْجَمَاعَةُ وَاحِدًا، قُتِلُوا بِهِ، سَوَاءٌ قَتَلُوهُ بِمُحَدَّدٍ أَوْ مُثَقَّلٍ، أَوْ أَلْقَوْهُ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ فِي بَحْرٍ، أَوْ جَرَحُوهُ جِرَاحَاتٍ مُجْتَمِعَةٍ أَوْ مُتَفَرِّقَةٍ، وَأَثْبَتَ ابْنُ الْوَكِيلِ قَوْلًا أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ. وَنَقَلَ الْمَاسَرْجِسِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّ الْوَلِيَّ يَقْتُلُ وَاحِدًا مِنَ الْجَمَاعَةِ أَيَّهُمْ شَاءَ، وَيَأْخُذُ حِصَّةَ الْآخَرِينَ مِنَ الدِّيَةِ، وَلَا يَقْتُلُ الْجَمِيعَ، وَيَكْفِي لِلزَّجْرِ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَائِفًا مِنَ الْقَتْلِ. وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ وَاهِيَانِ، وَالْمَشْهُورُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، ثُمَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَ جَمِيعَهُمْ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضَهُمْ، وَيَأْخُذَ حِصَّةَ الْبَاقِينَ مِنَ الدِّيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الدِّيَةِ، فَتَكُونَ عَلَى جَمِيعِهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ مُوَزَّعَةٌ عَلَى عَدَدِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَتْ جِرَاحَةُ بَعْضِهِمْ أَفْحَشُ أَوْ عَدَدُ جِرَاحَاتِ بَعْضِهِمْ أَكْثَرُ، أَمْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ كَانَ لِجِرَاحَةِ بَعْضِهِمْ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، أَمْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ إِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ عَشَرَةً مَثَلًا، فَالْوَلِيُّ يَسْتَحِقُّ دَمَ كُلِّ وَاحِدٍ بِكَمَالِهِ، وَعَنِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عُشْرَ دَمِ كُلِّ

فصل

وَاحِدٍ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إِلَّا بِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، قَالَ الْإِمَامُ: قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ بَعِيدٌ، وَكَيْفَ يُرِيقُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ دَمٍ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ لِتَحْصِيلِ عُشْرٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا قَتَلَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً، يُقْتَلُ بِأَحَدِهِمْ وَوَجَبَتْ دِيَةُ الْبَاقِينَ فِي مَالِهِ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيمَنْ يُقْتَلُ بِهِ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ قَطَعَ أَيْدِيَ جَمَاعَةٍ، قُطِعَ بِوَاحِدٍ، وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَةُ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الْجِنَايَاتُ مَعًا، قُتِلَ، أَوْ قُطِعَ بِهِمْ جَمِيعًا، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ إِلَى حِصَّتِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ. هَذَا إِذَا كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَقَتَلَ الْجَمَاعَةَ فِي غَيْرِ الْمُحَارِبَةِ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا، أَوْ قَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ فِي اجْتِمَاعِ سَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي اقْتِضَاءِ الْقِصَاصِ. الْجِنَايَاتُ الصَّادِرَةُ مِنْ جَمَاعَةٍ الْوَارِدَةُ عَلَى وَاحِدٍ الْمُسْتَعْقِبَةُ مَوْتَهُ إِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الشُّرَكَاءِ كَمَا سَبَقَ، وَإِلَّا فَإِمَّا أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا لِتَقَاعُدِ الْفِعْلِ عَنْ إِيجَابِ الْقِصَاصِ بِأَنْ قَتَلُوهُ خَطَأً أَوْ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ بِأَنْ قَتَلَ حُرَّانِ عَبْدًا، فَلَا قِصَاصَ. وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَلِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ أَسْبَابٌ، أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ جِنَايَةُ بَعْضِهِمْ ضَعِيفَةً لَا تُؤَثِّرُ فِي الزُّهُوقِ كَالْخَدْشَةِ الْخَفِيفَةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ سِوَى الْجِنَايَاتِ الْبَاقِيَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَغْلِبَ بَعْضُهَا بِقُوَّتِهِ بِحَيْثُ يَقْطَعُ نِسْبَةَ الزُّهُوقِ إِلَى سَائِرِ الْجِنَايَاتِ، بِأَنْ جَرَحَهُ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ آخَرُ، فَقِصَاصُ النَّفْسِ عَلَى الْحَازِّ، وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ، فَجَارِحُونَ، يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِمْ مُقْتَضَاهُ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ مُغَلَّظَةٍ أَوْ مُخَفَّفَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الطَّرَفِ

الرَّابِعِ مِنَ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ، وَعَدَّ مِنْ نَظَائِرِهِ أَنْ يَصْعَدَ بِهِ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَيَرْبِطَ فِي عُنُقِهِ حَبْلًا، وَيَشُدَّهُ إِلَى فَوْقٍ، فَيَجِيءُ آخَرُ فَيُنَحِّي مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الْمُنَحِّي. الثَّالِثُ: أَنْ تَنْدَمِلَ بَعْضُ الْجِرَاحَاتِ، ثُمَّ يُوجَدُ الْبَاقِي، فَعَلَى مَنِ انْدَمَلَتْ جِرَاحَتُهُ مَا تَقْتَضِيهِ جِرَاحَتُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ قِصَاصُ النَّفْسِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ الْجِرَاحَةُ السَّارِيَةُ. وَإِذَا جَرَحَهُ اثْنَانِ مُتَعَاقِبَانِ، وَادَّعَى الْأَوَّلُ الِانْدِمَالَ، وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِذَا عَفَا عَنِ الثَّانِي، لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ إِلَّا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَمَالَ الدِّيَةِ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالِانْدِمَالِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِعْلُ أَحَدِهِمَا خَطَأٌ، بِأَنْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا عَمْدًا، وَالْآخَرُ خَطَأً، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمُخْطِئِ نِصْفُ دِيَةِ الْخَطَأِ، وَفِي مَالِ الْعَامِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْعَمْدِ إِنْ كَانَتْ جِنَايَةٌ لَا تُوجِبُ قِصَاصًا، أَوْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ. فَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا، فَعَلَيْهِ قِصَاصُهُ، وَكَذَا لَوْ جَرَحَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا، وَالْآخَرُ شِبْهَ عَمْدٍ، لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَتَجِبُ نِصْفُ دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلًا أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى شَرِيكِ الْمُخْطِئِ، ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ فِي الْعَقَارِبِ وَتَمَنَّى الْإِمَامُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ، وَالْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، أَنَّهُ لَا قِصَاصَ. الْخَامِسُ: أَنْ يَمْتَنِعَ الْقِصَاصُ مِنْ بَعْضِهِمْ لِمَعْنًى فِيهِ، فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِعْلُ مَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ مَضْمُونًا، بِأَنْ شَارَكَ الْأَبُ أَجْنَبِيًّا فِي قَتْلِ الْوَلَدِ، فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ الْقِصَاصُ، وَعَلَى الْأَبِ نِصْفُ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ، وَمِثْلُهُ لَوْ شَارَكَ حُرٌّ عَبْدًا فِي قَتْلِ عَبْدٍ أَوْ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي قَتْلِ ذِمِّيٍّ، لَا قِصَاصَ عَلَى الْحَرِّ وَالْمُسْلِمِ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ، وَلَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَجْرُوحُ، فَجَرَحَهُ مُسْلِمٌ، أَوْ

جَرَحَ عَبْدٌ عَبْدًا، ثُمَّ عَتَقَ الْمَجْرُوحُ، فَجَرَحَهُ حُرٌّ وَمَاتَ مِنْهُمَا، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَوِ انْفَرَدَ بِجِنَايَتِهِ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مَضْمُونًا، بِأَنْ جَرَحَ حَرْبِيٌّ وَمُسْلِمٌ مُسْلِمًا، وَمَاتَ مِنْهُمَا، أَوْ قُطِعَتْ يَدُ إِنْسَانٍ فِي سَرِقَةٍ أَوْ قِصَاصٍ، ثُمَّ جَرَحَهُ رَجُلٌ عُدْوَانًا، أَوْ جَرَحَ مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَجَرَحَهُ غَيْرُهُ، أَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ حَرْبِيًّا، ثُمَّ عُقِدَتِ الذِّمَّةُ لِلْمَجْرُوحِ، فَجَرَحَهُ ذِمِّيٌّ آخَرُ، أَوْ جَرَحَ صَائِلًا، ثُمَّ جَرَحَهُ غَيْرُهُ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الصُّوَرِ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْوُجُوبُ كَشَرِيكِ الْأَبِ، وَالثَّانِي: لَا، بَلْ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ جَرَحَهُ سَبُعٌ، أَوْ لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ أَوْ حَيَّةٌ، وَجَرَحَهُ مَعَ ذَلِكَ رَجُلٌ، فَطَرِيقَانِ، أَشْهَرُهُمَا: طَرَدَ الْقَوْلَيْنِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنْ لَا قِصَاصَ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَالْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ. وَمَوْضِعُ الطَّرِيقَيْنِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْإِمَامِ أَنْ يَقْصِدَ السَّبُعُ الْجِرَاحَةَ، فَأَمَّا إِذَا وَقَعَ السَّبُعُ عَلَيْهِ بِلَا قَصْدٍ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَهُ السَّبُعُ بِالْجُرْحِ أَمْ لَا، فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ. ثُمَّ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا كَانَ جُرْحُ السَّبُعِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا، وَإِلَّا فَشَرِيكُهُ شَرِيكُ الْجَارِحِ شِبْهَ عَمْدٍ، وَلَوْ جَرَحَ رَجُلٌ عَبْدَهُ، وَجَرَحَهُ عَبْدٌ، أَوْ عُتِقَ، فَجَرَحَهُ عَبْدٌ، أَوْ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ مِنْهُمَا، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِ السَّيِّدِ طَرِيقَانِ أَشْهَرُهُمَا، طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ، لِأَنَّ فِعْلَ السَّيِّدِ مَضْمُونٌ بِالْكَفَّارَةِ، فَشَرِيكُهُ شَرِيكٌ عَامِدٌ ضَامِنٌ، كَشَرِيكِ الْأَبِ، وَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ، وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؟ . إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَكَشَرِيكِ السَّيِّدِ، وَإِلَّا فَكَشَرِيكِ الْحَرْبِيِّ، وَكَيْفَ كَانَ فَالْمَذْهَبُ الْوُجُوبُ، وَلَوْ رَمَى اثْنَانِ سَهْمَيْنِ إِلَى مُسْلِمٍ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ، وَقَدْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَلَمْ يَعْلَمِ

الْآخَرُ أَنَّ هُنَاكَ مُسْلِمًا، فَوُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْعَالِمِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي شَرِيكِ السَّيِّدِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْجَاهِلِ مَضْمُونٌ بِالْكَفَّارَةِ. فَرْعٌ. وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْعَامِدَيْنِ، يُبْنَى عَلَى أَنَّ عَمْدَهُمَا عَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ؟ إِنْ قُلْنَا: عَمْدٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا، كَذَا أَطْلَقَهُ مُطْلِقُونَ. وَعَنِ الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي صَبِيٍّ يَعْقِلُ عَقْلَ مِثْلِهِ، وَفِي مَجْنُونٍ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزِ، فَأَمَّا مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ بِحَالِ، فَعَمْدُهُ خَطَأٌ، وَشَرِيكُهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ قَطْعًا، وَعَلَى هَذَا جَرَى الْأَئِمَّةُ، مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ. إِذَا جَرَحَ شَخْصٌ شَخْصًا جِرَاحَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: عَمْدٌ، وَالْأُخْرَى: خَطَأٌ، فَمَاتَ بِهِمَا، فَلَا قِصَاصَ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّ الزُّهُوقَ لَمْ يَحْصُلْ بِعَمْدٍ مَحْضٍ. وَتَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ فِي مَالِهِ، وَنَصِفُ الْمُخَفَّفَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِجِرَاحَةِ الْعَمْدِ، بِأَنْ تَكُونَ قَطْعُ طَرَفٍ، وَكَذَا لَوْ جَرَحَ حَرْبِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا، فَأَسْلَمَ، فَجَرَحَهُ ثَانِيًا، أَوْ قَطَعَ يَدَ إِنْسَانٍ قِصَاصًا، أَوْ بِسَرِقَةٍ، ثُمَّ جَرَحَهُ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى ظُلْمًا، أَوْ قَطَعَ الصَّائِلَ دَفْعًا، فَلَمَّا وَلَّى، جَرَحَهُ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى، فَلَا قِصَاصَ فِي النَّفْسِ. وَيَثْبُتُ مُوجِبُ الْجِرَاحَةِ الْوَاقِعَةِ فِي حَالِ الْعِصْمَةِ مِنْ قِصَاصٍ، أَوْ دِيَةٍ مُغَلَّظَةٍ، وَكَذَا لَوْ جَرَحَ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ فِي الْقِتَالِ، ثُمَّ جَرَحَهُ بَعْدَهُ، أَوِ السَّيِّدُ عَبْدَهُ ثُمَّ جَرَحَهُ بَعْدَ عَتْقٍ، أَوْ جَرَحَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْجَارِحُ، وَجَرَحَهُ ثَانِيًا. وَلَوْ قَطَعَ مُسْلِمٌ يَدَ ذِمِّيٍّ، فَأَسْلَمَ، فَقَطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى، أَوْ حَرٌّ يَدَ عَبْدٍ، فَعُتِقَ، فَقَطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى، وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَلَا قِصَاصَ فِي النَّفْسِ.

وَيَجِبُ قِصَاصُ الطَّرَفِ الْمَقْطُوعِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ، فَإِنِ اقْتَصَّ فِي الطَّرَفِ، أَخَذَ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ عَفَا، أَخَذَ دِيَةَ حُرٍّ مُسْلِمٍ. وَلَوْ قَطَعَ ذِمِّيٌّ يَدَ ذِمِّيٍّ، فَأَسْلَمَ الْقَاطِعُ، ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى، وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَلَا قِصَاصَ فِي النَّفْسِ، وَيَجِبُ قِصَاصُ الطَّرَفِ الْمَقْطُوعِ أَوَّلًا، فَإِنْ عَفَا الْمُسْتَحِقُّ، أَخَذَ دِيَةَ ذِمِّيٍّ. فَرْعٌ. إِذَا دَاوَى الْمَجْرُوحُ نَفْسَهُ بِسُمٍّ قَاتِلٍ، بِأَنْ شَرِبَهُ، أَوْ وَضَعَهُ عَلَى الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ السُّمُّ مُذَفَّفًا، فَالْمَجْرُوحُ قَاتِلُ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَارِحِ قِصَاصٌ فِي النَّفْسِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَرْشُ جِرَاحَتِهِ أَوِ الْقِصَاصُ إِنْ تَعَلَّقَ بِهَا قِصَاصُ طَرَفٍ، وَإِنْ كَانَ السُّمُّ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَالْجَارِحُ شَرِيكٌ لِصَاحِبِ شِبْهِ عَمْدٍ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ، بَلْ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ، أَوِ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إِنِ اقْتَضَتْهُ. وَإِنْ كَانَ السُّمُّ قَاتِلًا غَالِبًا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَجْرُوحُ ذَلِكَ، فَهُوَ كَالْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ عَلِمَهُ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَارِحِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَشَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ، لِكَوْنِهِ قَصَدَ التَّدَاوِيَ لَا الْإِهْلَاكَ. فَرْعٌ. لَوْ خَاطَ جُرْحَهُ فِي لَحْمٍ مَيِّتٍ، لَمْ يُؤَثِّرْ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْلِمُ، وَعَلَى الْجَارِحِ الْقِصَاصُ، أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَإِنْ خَاطَهُ تَدَاوِيًا فِي لَحْمِ حَيٍّ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَارِحِ الطَّرِيقَانِ فِي التَّدَاوِي بِالسُّمِّ الْقَاتِلِ غَالِبًا. وَفِي الصُّورَتَيْنِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ الْمَجْرُوحُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَأْمُرَ بِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَلَوِ اسْتَقَلَّ بِهِ غَيْرُهُ، فَهُوَ وَالْأَوَّلُ جَارِحَانِ مُتَعَدِّيَانِ. وَلَوْ تَوَلَّاهُ الْإِمَامُ فِي مَجْرُوحٍ، فَإِنْ كَانَ بَالِغًا رَشِيدًا، فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا،

فَدَاوَاهُ لِمَصْلَحَتِهِ، فَمَاتَ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْإِمَامِ قَوْلَانِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ سِلْعَةً مِنْ صَغِيرٍ، أَوْ مَجْنُونٍ، فَمَاتَ مِنْهُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا قِصَاصَ، وَجَبَ نِصْفُ دِيَةٍ مُغَلَّظَةٍ، وَهَلْ هِيَ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَعْرُوفَانِ. وَحُكْمُ الْجَارِحِ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا تَوَلَّاهُ الْمَجْرُوحُ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ جَعَلْنَا وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُشَارَكَةِ الْعَامِدِ الَّذِي لَا يَضْمَنُ، لَمْ يَجِبْ هُنَا الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ فِعْلُهُ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ، أَوِ الدِّيَةِ. وَإِنْ نَزَّلْنَا الْمَجْرُوحَ مَنْزِلَةَ الْمُخْطِئِ لِقَصْدِهِ التَّدَاوِيَ، وَلَمْ نُوجِبِ الْقِصَاصَ عَلَى شَرِيكِهِ، فَكَذَا هُنَا، وَلَوْ قَصَدَ الْخِيَاطَةَ فِي لَحْمٍ مَيِّتٍ، فَغَلِطَ وَخَاطَ فِي حَيٍّ، فَالْجَارِحُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ قَطْعًا. قَالَ الْقَفَّالُ: وَكَذَا لَوْ قَصَدَ الْخِيَاطَةَ فِي الْجِلْدِ فَغَلِطَ وَأَصَابَتِ الْإِبْرَةُ اللَّحْمَ، وَأَمَّا الْكَيُّ فَكَالْخِيَاطَةِ، فَيَنْظُرُ أَكَوَى لَحْمًا مَيِّتًا أَوْ حَيًّا يُؤْلِمُ وَلَهُ سِرَايَةٌ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْمُدَاوَاةِ بِمَا لَا يَضُرُّ، وَلَا يُخْشَى مِنْهُ هَلَاكٌ، وَلَا بِمَا عَلَى الْمَجْرُوحِ مِنْ قُرُوحٍ، وَلَا بِمَا بِهِ مِنْ مَرَضٍ وَضَنًى. فَرْعٌ. قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ، فَتَآكَلَ مَوْضِعُ الْقَطْعِ، فَقَطَعَ الْمَقْطُوعُ كَفَّهُ خَوْفًا مِنَ السِّرَايَةِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَتَآكَلْ إِلَّا مَوْضِعُ الْقَطْعِ، فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي إِلَّا الْقِصَاصُ فِي الْأُصْبُعِ، أَوْ أَرْشُهَا إِنْ لَمْ يَسْرِ إِلَى النَّفْسِ. فَإِنْ سَرَى، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَانِي فِي النَّفْسِ، الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْخِيَاطَةِ، وَإِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى الْكَفِّ، ثُمَّ قَطَعَهَا، نُظِرَ، أَقَطَعَ فِي لَحْمٍ مَيِّتٍ أَمْ فِي حَيٍّ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْخِيَاطَةِ. وَلَوْ جَرَحَ عُضْوًا، فَدَاوَاهُ الْمَجْرُوحُ فَتَآكَلَ الْعُضْوُ، فَسَقَطَ، فَإِنْ كَانَ مَا دَاوَاهُ بِهِ لَا يُورِثُ التَّآكُلَ، فَعَلَى الْجَارِحِ ضَمَانُ الْعُضْوِ. وَإِنْ كَانَ يُورِثُ التَّآكُلَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أَرْشُ الْجِرَاحَةِ، فَلَوْ قَالَ الْجَانِي: دَاوَيْتُ بِمَا يَحْدُثُ مِنْهُ التَّآكُلُ، وَأَنْكَرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، صُدِّقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مَعْلُومَةٌ، وَغَيْرُهَا

مِنَ الْأَسْبَابِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُصَدَّقُ الْجَانِي بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَ إِنْسَانٍ وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ، فَقَالَ الْوَارِثُ: مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، وَقَالَ الْجَانِي: بَلْ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَأَيُّهُمَا الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْوَارِثُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» . فَرْعٌ. ضَرَبَ جَمَاعَةٌ رَجُلًا بِسِيَاطٍ، أَوْ عَصًى خَفِيفَةٍ حَتَّى قَتَلُوهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ ضَرَبَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلَةً لَوِ انْفَرَدَتْ، فَعَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ، فَهَلْ تُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَدِ الضَّرَبَاتِ، أَمْ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؟ قَوْلَانِ، أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ. لِأَنَّ الضَّرَبَاتِ تُلَاقِي ظَاهِرَ الْبَدَنِ، فَلَا يَعْظُمُ فِيهَا التَّفَاوُتُ بِخِلَافِ الْجِرَاحَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرْبُ كُلِّ وَاحِدٍ قَاتِلًا، بِأَنْ ضَرَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ ضَرْبَةً، فَمَاتَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ، وَالثَّانِي: يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ الْقِصَاصُ، لِئَلَّا يَصِيرَ ذَرِيعَةً إِلَى الْقَتْلِ، وَأَصَحُّهَا: أَنَّهُمْ إِنْ تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ يَضْرِبُوهُ تِلْكَ الضَّرَبَاتِ، فَعَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ وَقَعَتِ اتِّفَاقًا، فَلَا. وَإِذَا لَمْ نُوجِبِ الْقِصَاصَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ قَطْعًا، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ وَاحِدٌ سَوْطَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً، وَآخَرُ خَمْسِينَ سَوْطًا، أَوْ مِائَةً قَبْلَ زَوَالِ أَلَمِ الْأَوَّلِ، وَلَا تَوَاطُؤٌ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ ضَرْبَ الْأَوَّلِ شِبْهُ عَمْدٍ. وَالثَّانِي شَرِيكٌ لَهُ، وَيَجِبُ بِضَرْبِ الْأَوَّلِ نِصْفُ دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَبِضَرْبِ الثَّانِي نِصْفُ دِيَةِ الْعَمْدِ، وَأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ وَاحِدٌ خَمْسِينَ، ثُمَّ ضَرَبَهُ الْآخَرُ سَوْطَيْنِ قَبْلَ زَوَالِ أَلَمِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي عَالِمًا بِضَرْبِ الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ لِظُهُورِ قَصْدِ الْإِهْلَاكِ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ قَصْدُ الْإِهْلَاكِ مِنَ الثَّانِي. وَالْأَوَّلُ شَرِيكُهُ، وَيَجِبُ بِضَرْبِ الْأَوَّلِ نِصْفُ

باب.

دِيَةِ الْعَمْدِ، وَبِضَرْبِ الثَّانِي نِصْفُ دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إِذَا ضَرَبَ مَرِيضًا سَوْطَيْنِ، جَاهِلًا مَرَضَهُ، حَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ، بِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُحِيلُ عَلَيْهِ الْقَتْلَ سِوَى الضَّارِبِ، وَلْيَكُنِ الْحُكْمُ بِتَنْصِيفِ الدِّيَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ التَّوْزِيعَ عَلَى الرُّءُوسِ دُونَ الضَّرَبَاتِ. فَرْعٌ. جَرَحَهُ رَجُلٌ، وَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، وَمَاتَ مِنْهُمَا، فَالْجَارِحُ شَرِيكُ الْحَيَّةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْقِصَاصِ، وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ جَرَحَهُ مَعَ ذَلِكَ سَبُعٌ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَالثَّانِي: نَصِفُهَا، وَيَجْعَلُ غَيْرَ الْآدَمِيِّ جِنْسًا. بَابٌ. تَغَيُّرُ حَالِ الْمَجْرُوحِ بَيْنَ الْجَرْحِ وَالْمَوْتِ. لِلتَّغَيُّرِ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَطْرَأَ الْمُضَمِّنُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِذَا جَرَحَ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا بِقَطْعِ يَدٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ عُقِدَتْ لِلْحَرْبِيِّ ذِمَّةٌ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، وَلَا دِيَةَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَقِيلَ: لَا دِيَةَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ قَطْعٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَلَمْ تُضْمَنْ سِرَايَتَهُ، كَسِرَايَةِ الْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ. الثَّانِيَةُ: جَرَحَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا، ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ عُقِدَتْ لَهُ ذِمَّةٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ، قَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ لُزُومَ الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الْحَالَيْنِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: لَا ضَمَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: جَرَحَ عَبْدٌ نَفْسَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ، فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّيِّدِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، ثَانِيهِمَا: وُجُوبُ الدِّيَةِ. الرَّابِعَةُ: رَمَى مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ، فَلَا

قِصَاصَ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ الْجِنَايَةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ، وَقِيلَ: تَجِبُ فِي الْمُرْتَدِّ دُونَ الْحَرْبِيِّ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ قَتْلُهُ، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ وَلَا يُرْشَقُ بِالنِّشَابِ، فَرَشْقُهُ مَمْنُوعٌ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا رَمَى إِلَى قَاتِلِ أَبِيهِ، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ مِنَ الْمُرْتَدِّ، وَفِيمَا إِذَا رَمَى إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ مَعْصُومٌ مَضْمُونٌ بِالْكَفَّارَةِ. الْخَامِسَةُ: حَفَرَ بِئْرًا فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ، فَتَرَدَّى فِيهَا مُسْلِمٌ كَانَ مُرْتَدًّا وَقْتَ الْحَفْرِ، أَوْ حُرٌّ كَانَ عَبْدًا، وَجَبَتِ الدِّيَةُ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الْحَفْرَ لَيْسَ سَبَبًا ظَاهِرًا لِلْإِهْلَاكِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ نَحْوَ مُعَيَّنٍ فَلَا يُؤَثِّرُ وُجُودُهُ فِي زَمَنِ الْإِهْدَارِ بِخِلَافِ الرَّمْيِ. فَرْعٌ. لَوْ تَغَيَّرَ حَالُ الرَّامِي، بِأَنْ رَمَى حَرْبِيٌّ إِلَى مُسْلِمٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ. فَرْعٌ. إِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِيمَا إِذَا جَرَحَ حَرْبِيًّا، فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ، وَفِيمَا إِذَا جَرَحَ عَبْدٌ نَفْسَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فَمَاتَ، فَالْوَاجِبُ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ، وَكَذَلِكَ فِي مِثْلِهِمَا مِنْ صُوَرِ الرَّمْيِ. ثُمَّ الَّذِي رَأَى الْإِمَامُ الْقَطْعُ بِهِ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الدِّيَةَ فِي طَرَيَانِ الْإِسْلَامِ وَالْعِتْقِ بَعْدَ الْجُرْحِ تَكُونُ مُخَفَّفَةً، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ، كَمَا لَوْ رَمَى إِلَى صَيْدٍ، فَأَصَابَ آدَمِيًّا، وَأَمَّا فِي طَرَيَانِهِمَا بَعْدَ الرَّمْيِ، فَفِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي الدِّيَاتِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَطْرَأَ الْمُهْدَرُ، فَإِذَا جَرَحَ مُسْلِمًا، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، أَوْ ذِمِّيًّا، فَنَقَضَ الْعَهْدَ، ثُمَّ مَاتَ، فَلَا يَجِبُ قِصَاصُ النَّفْسِ، وَلَا دِيَتُهَا، وَلَا الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهَا تَلِفَتْ وَهِيَ مُهْدَرَةٌ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِرَاحَةِ، فَفِيهِ صُورَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْجِرَاحَةُ مِمَّا يُوجِبُ الْقِصَاصَ،

كَالْمُوضِحَةِ وَقَطْعِ الْيَدِ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ وَالطَّرَفِ، قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْوُجُوبُ. فَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : لِوَلِيِّهِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقْتَصَّ، فَقِيلَ: أَرَادَ بِالْوَلِيِّ، السُّلْطَانَ، لِأَنَّهُ وَارِثٌ لِلْمُرْتَدِّ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَوْفِيهِ قَرِيبُهُ الَّذِي كَانَ يَرِثُهُ لَوْلَا الرِّدَّةُ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْقَرِيبِ دُونَ السُّلْطَانِ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَرِيبُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا انْتَظَرَ بُلُوغَهُ وَإِفَاقَتَهُ لِيَسْتَوْفِيَ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْجِرَاحَةُ مُوجِبَةٌ لِلْمَالِ دُونَ الْقِصَاصِ، كَالْجَائِفَةِ وَالْهَاشِمَةِ، أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَقُلْنَا: لَا قِصَاصَ، أَوْ عُفِيَ عَنْهُ، فَهَلْ يَجِبُ الْمَالُ؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ. فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَجِبُ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَيُحْكَى عَنِ النَّصِّ: أَنَّهُ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأَرْشِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْجِرَاحَةُ وِدِيَةُ النَّفْسِ، وَالثَّانِي، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجِبُ أَرْشُ الْجِرَاحَاتِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، فَيَجِبُ فِيمَا إِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ دِيَتَانِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْوَاجِبُ فَيْءٌ لَا يَأْخُذُ الْقَرِيبُ مِنْهُ شَيْئًا. هَذَا إِذَا طَرَأَتِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الْجُرْحِ، فَلَوْ طَرَأَتْ بَعْدَ الرَّمْيِ وَقَبْلَ الْإِصَابَةِ، فَلَا ضَمَانَ بِاتِّفَاقِهِمْ. فَرْعٌ. قَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَقْطُوعُ، وَانْدَمَلَ جُرْحُهُ، فَلَهُ قِصَاصُ الْيَدِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْتَصَّ، اقْتَصَّ وَلِيُّهُ، وَمَنِ الْوَلِيُّ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْمَالَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ قُلْنَا: مِلْكُهُ بَاقٍ، أَخَذَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: زَائِلٌ، وُقِفَ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَخَذَهُ، وَإِلَّا، أَخَذَهُ الْإِمَامُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَخَلَّلَ الْمُهْدَرُ بَيْنَ الْجُرْحِ وَالْمَوْتِ، فَإِذَا جَرَحَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا، ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ قَطْعًا، وَأَمَّا الْقِصَاصُ، فَنَصَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَنَصَّ فِيمَا إِذَا جَرَحَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا،

أَوْ مُسْتَأْمَنًا فَنَقَضَ الْعَهْدَ، وَالْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ جَدَّدَ الْعَهْدَ، وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، أَنَّ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ قَوْلَيْنِ، وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ فِي حَالَتَيِ الْجَرْحِ وَالْمَوْتِ، وَالثَّانِي: لَا، لِتَخَلُّلِ حَالَةِ الْإِهْدَارِ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: تَنْزِيلُ النَّصَّيْنِ عَلَى حَالَيْنِ، فَحَيْثُ قَالَ: لَا قِصَاصَ، أَرَادَ إِذَا طَالَتْ مُدَّةُ الْإِهْدَارِ، بِحَيْثُ يَظْهَرُ أَثَرُ السِّرَايَةِ، وَحَيْثُ قَالَ: يَجِبُ، فَذَلِكَ إِذَا قَصُرَتِ الْمُدَّةُ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ لِلسِّرَايَةِ أَثَرٌ، وَإِذَا قُلْنَا بِطَرِيقَةِ الْقَوْلَيْنِ، فَفِي مَوْضِعِهِمَا طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُهُمَا بِمَا إِذَا قَصُرَتِ الْمُدَّةُ، فَإِنْ طَالَتْ، لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ قَطْعًا، وَالثَّانِي: طَرَدَهُمَا فِي الْحَالَيْنِ قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ سَلِمَةَ وَابْنُ الْوَكِيلِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: تَخْصِيصُ الْقَوْلَيْنِ بِقَصْرِ الْمُدَّةِ، وَالْأَظْهَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَنَّهُ لَا قِصَاصَ، وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَفِيهَا أَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَالثَّانِي: نَصِفُهَا، وَالثَّالِثُ: ثُلُثَاهَا، وَالرَّابِعُ: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ كُلِّ الدِّيَةِ وَأَرْشُ الْجِرَاحَةِ، وَهَذَانَ الْأَخِيرَانِ مُخْرَجَانِ. ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: تَخْتَصُّ الْأَقْوَالُ بِمَا إِذَا طَالَتْ مُدَّةُ الْإِهْدَارِ، فَإِنْ قَصُرَتْ، وَجَبَ كُلُّ الدِّيَةِ قَطْعًا، وَقِيلَ بِطَرْدِهَا فِي الْحَالَيْنِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ، فَفِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ، فَعُفِيَ، وَجَبَ كَمَالُ الدِّيَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إِذَا لَمْ نُوجِبْ قِصَاصًا، وَهَذَا أَرْجَحُ. فَرْعٌ. رَمَى إِلَى مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ وَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجِيءُ فِيهِ قَوْلٌ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَطْرَأَ مَا يُغَيِّرُ قَدْرَ الدِّيَةِ، فَيَجِبُ مَا يَقْتَضِيهِ يَوْمَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ التَّالِفِ، فَيُعْتَبَرُ وَقْتَ التَّلَفِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّغَيُّرُ

مِنَ الْأَكْثَرِ إِلَى الْأَقَلِّ، وَقَدْ يَنْعَكِسُ. مِثَالُ الْأَوَّلِ: جَنَى عَلَى نَصْرَانِيٍّ، فَتَمَجَّسَ ثُمَّ مَاتَ، فَإِنْ قُلْنَا: يُقِرُّ النَّصْرَانِيُّ إِذَا تَمَجَّسَ عَلَى التَّمَجُّسِ، فَعَلَى الْجَانِي دِيَةُ مَجُوسِيٍّ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقِرُّ، فَهُوَ كَمَا لَوِ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ وَمَاتَ. فَعَلَى الْأَصَحِّ: يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَى نَصْرَانِيٍّ وِدِيَةُ نَفْسِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ: يَجِبُ الْأَرْشُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَلَوْ جَرَحَ نَصْرَانِيًّا، فَنَقَضَ الْمَجْرُوحُ الْعَهْدَ، وَالْتَحَقَ بِالْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَلَا قِصَاصَ فِي النَّفْسِ. وَيَجِبُ قِصَاصُ الطَّرَفِ إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ بِقَطْعِ طَرَفٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَحِقُّ الْمَالَ، فَفِيمَا يَجِبُ، قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ حُرًّا، وَكَمَالُ قِيمَتِهِ عَبْدًا، وَعَلَى هَذَا هُوَ لِوَرَثَتِهِ النَّصَارَى، سَوَاءٌ كَانُوا عِنْدَنَا أَمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ وَالرُّويَانِيُّ، وَفِي قَوْلٍ غَرِيبٍ، يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ. قُلْتُ: قَدْ جَزَمَ الْبَغَوِيُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ بَدَّلَ رُوحَهُ وَكَانَتْ مِلْكَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّ الْوَاجِبَ قِيمَتُهُ بَالِغَةٌ مَا بَلَغَتْ، وَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ، فَالْوَاجِبُ لِلْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيمَةُ أَكْثَرُ، فَقَدْرُ الْأَرْشِ لِلْوَارِثِ، وَالْبَاقِي لِلسَّيِّدِ، وَلَوْ أَنَّ الَّذِي مَلَكَهُ أَعْتَقَهُ، فَمَاتَ حُرًّا فَقَوْلَانِ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأَرْشِ وَدِيَةِ حُرٍّ ذِمِّيٍّ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْوَاجِبُ لِوَرَثَتِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ وَعَتَقَ وَمَاتَ، فَفِي الْقِصَاصِ قَوْلَانِ، وَفِي الْمَالِ الْوَاجِبِ قَوْلَانِ. هَلْ هُوَ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ، أَمْ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأَرْشِ وِدِيَةِ حُرٍّ مُسْلِمٍ؟ وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. مِثَالُ الْعَكْسِ: جَرَحَ ذِمِّيًّا، فَأَسْلَمَ، أَوْ عَبْدًا لِغَيْرِهِ، فَعَتَقَ، ثُمَّ مَاتَ، نَظَرَ، إِنْ مَاتَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، وَجَبَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ، وَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِي الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ، أَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ، لَزِمَهُ كَمَالُ قِيمَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ أَمْ بَعْدَهُ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الِانْدِمَالُ

فصل

بَعْدَ الْعِتْقِ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ حُرٍّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، لَمْ يَجِبْ قِصَاصُ النَّفْسِ إِذَا كَانَ جَارِحُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا، وَجَارِحُ الْعَبْدِ حُرًّا، وَتَجِبُ فِيهِ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ، لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا أَوَّلًا، وَهُوَ فِي الِانْتِهَاءِ حُرٌّ مُسْلِمٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنَ الدِّيَةِ، أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى لَوْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ قِيمَتُهُ تُسَاوِي مِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ، أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا مِائَةٌ. ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ مِثْلَ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ، فَالْجَمِيعُ لِلسَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى الْقِيمَةِ لِلْوَرَثَةِ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْحُرِّيَّةِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ، وَجَبَتْ بِكَمَالِهَا لِلسَّيِّدِ، وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْ عَبْدٍ، فَعَتَقَ وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، أَوْجَبْنَا كَمَالَ الدِّيَةِ، وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ كُلِّ الدِّيَةِ، وَكُلُّ الْقِيمَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ كُلِّ الدِّيَةِ، وَنِصْفُ الْقِيمَةِ، وَهُوَ أَرْشُ الطَّرَفِ الْمَقْطُوعِ فِي مِلْكِهِ. فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، فَعَتَقَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى، أَوْ رِجْلَهُ، نُظِرَ، إِنِ انْدَمَلَتِ الْجِرَاحَتَانِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَوَّلِ إِنْ كَانَ حَرًّا، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلسَّيِّدِ، وَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهُمَا، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَوَّلِ فِي النَّفْسِ، وَلَا فِي الطَّرَفِ إِنْ كَانَ حُرًّا. وَأَمَّا الثَّانِي، فَلِلْوَارِثِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ فِي الطَّرَفِ، وَكَذَا فِي النَّفْسِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: لَا قِصَاصَ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ كَشَرِيكِ الْمَبِيعِ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ، فَعَفَا الْمُسْتَحِقُّ، فَعَلَيْهِمَا كُلُّ الدِّيَةِ لِلسَّيِّدِ، أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ. وَيَكُونُ حَقُّهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَإِنِ اقْتَصَّ الْوَارِثُ مِنَ الثَّانِي، بَقِيَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرَ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ، أَخَذَهُ السَّيِّدُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ،

فَالزِّيَادَةُ لِلْوَارِثِ وَلَوْ قَطَعَ حُرٌّ يَدَ عَبْدٍ، فَعَتَقَ، ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى، فَمَاتَ مِنْهُمَا، فَلِلْوَارِثِ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ الثَّانِي وَلَا يَجِبُ قِصَاصُ النَّفْسِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَلَوْ عَفَا الْمُسْتَحِقُّ عَنْ قِصَاصِ الطَّرَفِ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنِ اسْتَوْفَاهُ، بَقِيَ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَحُكِمَ مَا لِلسَّيِّدِ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاطِعُ غَيْرَهُ. وَلَوْ قَطَعَ إِصْبَعَ عَبْدٍ، فَعَتَقَ، ثُمَّ قَطَعَ آخِرَ يَدِهِ، وَمَاتَ مِنْهُمَا، فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، وَلِلسَّيِّدِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَنِصْفُ الْقِيمَةِ، وَعَلَى الْأَظْهَرِ: الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَعُشْرُ الْقِيمَةِ. فَرْعٌ. قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْ عَبْدٍ، فَعَتَقَ، ثُمَّ جَرَحَهُ رَجُلَانِ، بِأَنْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ الْأُخْرَى، وَالْآخَرُ رِجْلَهُ، وَمَاتَ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَوَّلِ، لَا فِي النَّفْسِ وَلَا فِي الطَّرَفِ إِنْ كَانَ حُرًّا، وَعَلَى الْآخَرَيْنِ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ، وَيَجِبُ أَيْضًا فِي النَّفْسِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَتَجِبُ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا، وَلَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِينِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِمَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَوْلَانِ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ، وَثُلُثُ الْقِيمَةِ، وَعَلَى الثَّانِي: الْأَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ بِحَالِهَا، فَعَادَ الْأَوَّلُ وَجَرَحَ بَعْدَ الْعِتْقِ جِرَاحَةً أُخْرَى وَمَاتَ بِسِرَايَةِ الْجَمِيعِ، فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا لِمَا سَبَقَ أَنَّا نَنْظُرُ إِلَى عَدَدِ الْجَارِحِينَ، لَا إِلَى الْجِرَاحَاتِ. ثُمَّ الثُّلُثُ الْوَاجِبُ عَلَى الْجَانِي الْأَوَّلِ وَاجِبٌ عَنْ جِنَايَتَيْهِ، فَتُقَابِلُ الْجِنَايَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الرِّقِّ سُدُسَ الدِّيَةِ، فَلِلسَّيِّدِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَقَلُّ مِنْ سُدُسِ الدِّيَةِ الْوَاجِبِ بِالْجِنَايَةِ فِي مِلْكِهِ، أَوْ سُدُسُ الْقِيمَةِ. وَعَلَى الثَّانِي الْأَقَلُّ مِنْ سُدُسِ الدِّيَةِ أَوْ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَهُوَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ

فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، فَعَتَقَ، فَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً، فَعَادَ الْأَوَّلُ، فَجَرَحَهُ أُخْرَى، فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ نِصْفَيْنِ، وَالنِّصْفُ الْوَاجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ وَجَبَ بِجِنَايَتَيِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ. فَحِصَّةُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى رُبُعُ الدِّيَةِ، فَلِلسَّيِّدِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَقَلُّ مِنْ رُبُعِ الدِّيَةِ وَرُبُعُ الْقِيمَةِ، وَعَلَى الثَّانِي الْأَقَلُّ مِنْ رُبُعِ الدِّيَةِ، وَنِصْفُ الْقِيمَةِ، وَبِهِ أَجَابَ ابْنُ الْحَدَّادِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُ الْأَظْهَرُ، وَلَوْ جَنَى اثْنَانِ عَلَى عَبْدٍ مُعْتَقٍ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ ثَالِثٌ، وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَعَلَيْهِمُ الدِّيَةُ أَثْلَاثًا، وَلِلسَّيِّدِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ وَثُلُثَيِ الْقِيمَةِ، وَفِي الثَّانِي الْأَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ وَأَرْشُ جِنَايَتَيِ الرِّقِّ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ فِي الرِّقِّ، فَعَتَقَ، ثُمَّ جَنَى رَابِعٌ وَمَاتَ، فَعَلَيْهِمُ الدِّيَةُ أَرْبَاعًا، لِلسَّيِّدِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْقِيمَةِ. وَفِي الثَّانِي الْأَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ وَأَرْشِ جِنَايَاتِ الرِّقِّ، وَلَوْ جَنَى اثْنَانِ فِي الرِّقِّ، وَثَلَاثَةٌ بَعْدَ مَا عَتَقَ، فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَخْمَاسًا، لِلسَّيِّدِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَقَلُّ مِنْ خُمُسَيِ الدِّيَةِ وَخُمُسَيِ الْقِيمَةِ. وَفِي الثَّانِي الْأَقَلُّ مِنْ خُمُسَيِ الدِّيَةِ وَأَرْشِ جِنَايَتَيِ الرِّقِّ، وَلَوْ أَوْضَحَ عَبْدًا، فَعَتَقَ، فَقَطَعَ آخَرُ يَدَهُ، وَمَاتَ مِنْهُمَا، فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، وَلِلسَّيِّدِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَنِصْفُ الْقِيمَةِ، وَعَلَى الثَّانِي الْأَقَلُّ مَنْ نِصْفِ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ. وَلَوْ أَوْضَحَهُ، فَعَتَقَ، فَجَاءَ تِسْعَةٌ فَجَرَحُوهُ وَمَاتَ، فَعَلَيْهِمُ الدِّيَةُ أَعْشَارًا، وَلِلسَّيِّدِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَقَلُّ مِنْ عُشْرِ الدِّيَةِ وَعُشْرُ الْقِيمَةِ. وَعَلَى الثَّانِي الْأَقَلُّ مِنْ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَنِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ وَلَوْ جَرَحَهُ الْأَوَّلُ جُرْحًا آخَرَ مَعَ

التِّسْعَةِ، فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ كَذَلِكَ لِلسَّيِّدِ، الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ وَاقِفَةٌ وَسَارِيَةٌ إِلَّا نِصْفُ عُشْرِ الضَّمَانِ. وَهَكَذَا يَتَّفِقُ الْقَوْلَانِ إِذَا اتَّفَقَ قَدْرُ الضَّمَانِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، كَمَا إِذَا جَنَى خَمْسَةٌ فِي الرِّقِّ، وَأَرْشُ جِنَايَاتِهِمْ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَخَمْسَةٌ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَلِلسَّيِّدِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ. فَرْعٌ. قَطَعَ حُرٌّ يَدَ عَبْدٍ، فَعَتَقَ، فَحَزَّ آخَرُ رَقَبَتَهُ، فَقَدْ أَبْطَلَ الْحَزُّ السِّرَايَةَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلسَّيِّدِ، وَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ، أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ لِلْوَارِثِ. وَلَوْ قَطَعَ حُرٌّ يَدَ عَبْدٍ، فَعَتَقَ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ الْأُخْرَى، ثُمَّ حُزَّتْ رَقَبَتُهُ، فَإِنْ حَزَّهُ ثَالِثٌ، فَقَدْ بَطَلَتْ سِرَايَةُ الْقَطْعَيْنِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلسَّيِّدِ، وَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْوَارِثِ. وَعَلَى الثَّالِثِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَإِنْ حَزَّهُ الْأَوَّلُ، نُظِرَ، إِنْ حَزَّهُ بَعْدَ انْدِمَالِ قَطْعِهِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلسَّيِّدِ، وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ لِلْوَارِثِ. وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ حَزَّهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ إِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ: إِنَّ بَدَلَ الطَّرَفِ يَدْخُلُ فِي النَّفْسِ، فَإِنِ اقْتَصَّ الْوَارِثُ، سَقَطَ حَقُّ السَّيِّدِ، وَإِنْ عَفَا، وَجَبَ كَمَالُ الدِّيَةِ، لِلسَّيِّدِ مِنْهُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَنِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا سَبَقَ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: عِنْدِي يَسْقُطُ حَقُّ السَّيِّدِ وَإِنْ عَفَا الْوَارِثُ، لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ حُكْمُ الطَّرَفِ، صَارَ الْحُكْمُ لِلنَّفْسِ. وَكَانَ الْمَأْخُوذُ بَدَلَ النَّفْسِ الْمُفَوَّتَةِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ السَّيِّدِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْإِصْطَخْرِيِّ: أَنَّ بَدَلَ الطَّرَفِ لَا يَدْخُلُ فِي النَّفْسِ، يَكُونُ

لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَلِلْوَارِثِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَإِنْ حَزَّ الثَّانِيَ، بَطَلَتْ سِرَايَةُ الْأَوَّلِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلسَّيِّدِ. وَالثَّانِي قَطْعُ طَرَفٍ حُزَّ ثُمَّ قَتْلُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، فَلِلْوَارِثِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ فِي الطَّرَفِ وَالنَّفْسِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ لِلْيَدِ، وَدِيَةً كَامِلَةً لِلنَّفْسِ، فَإِنْ شَاءَ، اقْتَصَّ فِيهِمَا، وَإِنْ شَاءَ، أَخَذَ بَدَلَهُمَا، وَإِنْ شَاءَ، بَدَلَ أَحَدِهِمَا وَقِصَاصَ الْآخَرِ. وَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَلِلْوَارِثِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَلَهُ أَخْذُ دِيَةِ النَّفْسِ فَقَطْ. فَرْعٌ. قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا إِذَا جَنَى عَلَى عَبْدٍ، فَعَتَقَ، وَسَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى نَفْسِهِ، إِنَّمَا هُوَ الدِّيَةُ، وَالدِّيَةُ الْإِبِلُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: تُؤْخَذُ الدِّيَةُ، وَتُصْرَفُ إِلَى السَّيِّدِ حِصَّتُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ مِنَ الْإِبِلِ، وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَقُولَ: أَسْتَوْفِي الْإِبِلَ، وَأَدْفَعُ إِلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوِ الدَّنَانِيرِ، زَاعِمًا أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْقِيمَةَ، وَالْقِيمَةُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ. لِأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ عَيْنِ الدِّيَةِ الَّتِي هِيَ الْوَاجِبَةُ وَلَيْسَتْ مَرْهُونَةً بِحَقِّهِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ مَعَ التَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكَلِّفَ الْجَانِيَ تَسْلِيمَ الدَّرَاهِمِ، وَلَوْ أَتَى الْجَانِي بِالدَّرَاهِمِ، فَفِي إِجْبَارِ السَّيِّدِ عَلَى قَبُولِهَا وَجْهَانِ، أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: نَعَمْ. وَحَاصِلُهُ تَخْيِيرُ الْجَانِي بَيْنَ تَسْلِيمِ الدِّيَةِ وَالدَّرَاهِمِ، وَلَوْ أَبْرَأَ السَّيِّدُ الْجَانِيَ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ، بَرِئَ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. فَرْعٌ. رَمَى إِلَى ذَمِّيٍ، فَأَسْلَمَ، أَوْ عَبْدٍ، فَعُتِقَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، وَجَبَ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ، وَلَا قِصَاصَ إِذَا كَانَ الرَّامِي حُرًّا مُسْلِمًا، وَكَذَا لَوْ رَمَى ذَمِّيٌّ

إِلَى ذَمِّيٍّ، أَوْ إِلَى عَبْدٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ الرَّامِي، أَوْ عَتَقَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، لَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ. فَرْعٌ. قَدْ يُعَبَّرُ عَنْ مَسَائِلِ الْبَابِ فِي تَغَيُّرِ الْحَالِ بَيْنَ الْجَرْحِ وَالْمَوْتِ، وَبَيْنَ الرَّمْيِ وَالْإِصَابَةِ، فَيُقَالُ: كُلُّ جُرْحٍ أَوَّلُهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ لَا يَنْقَلِبُ مَضْمُونًا بِتَغَيُّرِ الْحَالِ فِي الِانْتِهَاءِ. وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا فِي الْحَالَيْنِ، اعْتُبِرَ فِي قَدْرِ الضَّمَانِ الِانْتِهَاءُ، وَفِي الْقِصَاصِ تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ، وَكَذَا إِذَا تَبَدَّلَ الْحَالُ بَيْنَ الرَّمْيِ وَالْإِصَابَةِ، اعْتُبِرَ فِي الْقِصَاصِ الْكَفَاءَةُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ، وَكَذَا يُعْتَبَرُ الطَّرَفَانِ وَالْوَسَطُ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

باب.

بَابٌ. الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ. فِيهِ فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ فِي أَرْكَانِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الْقَطْعُ وَالْقَاطِعُ وَالْمَقْطُوعُ، وَكَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَتْلِ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا عُدْوَانًا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الطَّرَفِ، فَلَا يَجِبِ الْقِصَاصُ بِالْجِرَاحَاتِ، وَإِبَانَةِ الْأَطْرَافِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ. وَمِنْ صُوَرِ شِبْهِ الْعَمْدِ: أَنْ يَضْرِبَ رَأْسَهُ بِلَطْمَةٍ أَوْ حَجَرٍ لَا يَشُجُّ غَالِبًا لِصِغَرِهِ، فَيَتَوَرَّمُ الْمَوْضِعُ، وَيَتَّضِحُ الْعَظْمُ، وَقَدْ يَكُونُ الضَّرْبُ بِالْعَصَا الْخَفِيفَةِ، وَالْحَجَرِ الْمُحَدَّدِ عَمْدًا فِي الشِّجَاجِ، لِأَنَّهُ يُوضِحُ غَالِبًا. وَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَلَوْ أَوْضَحَهُ بِمَا يُوضِحُ غَالِبًا، وَلَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْمُوضِحَةِ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ، وَلَا يَجِبُ فِي النَّفْسِ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآلَةُ تُوضِحُ فِي الْغَالِبِ كَانَتْ كَالْحَدِيدَةِ، وَفَقْءُ الْعَيْنِ بِالْأُصْبُعِ عَمْدٌ، لِأَنَّهَا فِي الْعَيْنِ تَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ وَيُعْتَبَرُ فِي الْقَاطِعِ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا مُلْتَزِمًا لِلْأَحْكَامِ. وَفِي الْمَقْطُوعِ كَوْنُهُ مَعْصُومًا كَمَا ذَكَرْنَا فِي النَّفْسِ، وَمَنْ قُتِلَ بِهِ الشَّخْصُ، قُطِعَ بِهِ، وَمَنْ لَا، فَلَا. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ، فَيُقْطَعُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ وَبِالْعَكْسِ، وَالذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ، وَالْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَلَا عَكْسَ فِيهِمَا. وَتُقْطَعُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ إِذَا اشْتَرَكُوا بِأَنْ وَضَعُوا السِّكِّينَ عَلَى الْيَدِ، وَتَحَامَلُوا عَلَيْهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً حَتَّى أَبَانُوهَا، أَوْ ضَرَبُوهُ ضَرْبَةً اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، وَلَوْ تَمَيَّزَ فِعْلُ الشُّرَكَاءِ، بِأَنْ قَطَعَ هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا مِنْ جَانِبٍ حَتَّى الْتَقَتِ الْحَدِيدَتَانِ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْيَدِ، وَأَبَانَهَا الْآخَرُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَيَلْزَمُ كُلُّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةٌ تَلِيقُ بِجِنَايَتِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ مَجْمُوعُ الْحُكُومَتَيْنِ دِيَةَ الْيَدِ، وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» حِكَايَةُ قَوْلِ: إِنَّهُ يُقْطَعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا قَطَعَ إِنْ أَمْكَنَ ضَبْطُهُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ جَزَّا حَدِيدَةً جَزَّ الْمِنْشَارِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا فِعْلَانِ مُتَمَيِّزَانِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: هُوَ اشْتِرَاكٌ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا يُصَوِّرُ صُورَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَعَاوَنَا فِي كُلِّ جَذْبَةٍ وَإِرْسَالَةٍ، فَتَكُونُ مِنْ صُوَرِ الِاشْتِرَاكِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْذِبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى جِهَةِ نَفْسِهِ، وَيَفْتُرُ عَنِ الْإِرْسَالِ فِي جِهَةِ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ الْبَعْضُ مَقْطُوعُ هَذَا، وَالْبَعْضُ مَقْطُوعُ ذَاكَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يُوجِبُ قِصَاصَ الطَّرَفِ. الْجِنَايَاتُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: جُرْحٌ يَشُقُّ، وَقَطْعٌ يُبِينُ، وَإِزَالَةُ مَنْفَعَةٍ بِلَا شَقٍّ وَلَا إِبَانَةٍ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْجُرْحُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ فِي الْجُمْلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَالْجُرُوحُ قِصَاصٌ) [الْمَائِدَةُ: 45] ثُمَّ تَنْقَسِمُ إِلَى وَاقِعَةٍ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَإِلَى غَيْرِهَا. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الْوَاقِعَةُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَتُسَمَّى الشِّجَاجُ، وَهِيَ عَشْرٌ، إِحْدَاهَا: الْحَارِصَةُ وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ قَلِيلًا نَحْوَ الْخَدْشِ، وَتُسَمَّى الْحَرْصَةُ أَيْضًا. الثَّانِيَةُ: الدَّامِيَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي مَوْضِعَهَا مِنَ الشَّقِّ وَالْخَدْشِ، وَلَا يَقْطُرُ مِنْهَا دَمٌ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ اللُّغَةِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: فَإِنْ سَالَ مِنْهَا دَمٌ، فَهِيَ الدَّامِعَةُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا: سَيَلَانُ الدَّمِ وَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ.

الثَّالِثَةُ: الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ، أَيْ: تَقْطَعُهُ. الرَّابِعَةُ: الْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ، وَلَا تَبْلُغُ الْجِلْدَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَتُسَمَّى الْلَاحِمَةُ أَيْضًا. الْخَامِسَةُ: السِّمْحَاقُ وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ تِلْكَ الْجِلْدَةَ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْجِلْدَةُ السِّمْحَاقُ، وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الشَّجَّةُ: الْمِلْطَى وَالْمِلْطَاةُ وَاللَّاطِئَةُ. السَّادِسَةُ: الْمُوضِحَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ السِّمْحَاقَ، وَتُوضِحُ الْعَظْمَ، السَّابِعَةُ: الْهَاشِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ، أَيْ: تَكْسِرُهُ. الثَّامِنَةُ: الْمُنَقِّلَةُ وَهِيَ الَّتِي تَنْقُلُ الْعَظْمَ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَيُقَالُ: هِيَ الَّتِي تَكْسِرُ وَتَنْقُلُ، وَيُقَالُ: هِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعَظْمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا فِرَاشُ الْعِظَامِ. وَالْفَرَاشَةُ: كُلُّ عَظْمٍ رَقِيقٍ، وَفَرَاشُ الرَّأْسِ: عِظَامٌ رِقَاقٌ تَلِي الْقِحْفَ. التَّاسِعَةُ: الْمَأْمُومَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ أُمَّ الرَّأْسِ، وَهِيَ خَرِيطَةُ الدِّمَاغِ الْمُحِيطَةُ بِهِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْآمَّةُ أَيْضًا. الْعَاشِرَةُ: الدَّامِغَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ الْخَرِيطَةَ وَتَصِلُ الدِّمَاغَ وَهِيَ مُذَفَّفَةٌ. فَهَذِهِ الْعَشَرَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَذُكِرَ فِيهَا أَلْفَاظٌ أُخَرُ تَئُولُ إِلَى هَذِهِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الشِّجَاجِ تُتَصَوَّرُ فِي الْجَبْهَةِ كَمَا تُتَصَوَّرُ فِي الرَّأْسِ، وَكَذَلِكَ تُتَصَوَّرُ مَا عَدَا الْمَأْمُومَةَ وَالدَّامِغَةَ فِي الْخَدِّ، وَفِي قَصَبَةِ الْأَنْفِ، وَاللَّحْيِ الْأَسْفَلِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ فِي الْمُوضِحَةِ، لِتَيَسُّرِ ضَبْطِهَا، وَاسْتِيفَاءِ مِثْلِهَا. وَلَا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الْهَاشِمَةِ

وَالْمُنَقِّلَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا مَا قَبْلَهَا، فَلَا قِصَاصَ فِي الْحَارِصَةِ قَطْعًا، وَلَا فِي الْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِقَةِ وَالسِّمْحَاقِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالدَّامِيَةُ كَالْحَارِصَةِ، وَقِيلَ: كَالْبَاضِعَةِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ فِي الْمُتَلَاحِمَةِ وَالْبَاضِعَةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاجِّ وَالْمَشْجُوجِ مُوضِحَةٌ، تَيَسَّرَتْ مَعْرِفَةُ النِّسْبَةِ بِهِمَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ، رَاجَعْنَا أَهْلَ الْخِبْرَةِ لِيَنْظُرُوا فِي الْمَقْطُوعِ وَالْبَاقِي، وَيَحْكُمُوا بِأَنَّهُ نِصْفٌ، أَوْ ثُلُثٌ بِالِاجْتِهَادِ بَعْدَ غَمْرِ رَأْسِ الشَّاجِّ وَالْمَشْجُوجِ وَيَحْكُمُونَ أَيْضًا عِنْدَ الْقِصَاصُ، وَيُعْمَلُ بِاجْتِهَادِهِمْ، فَإِنْ شَكُّوا فِي أَنَّ الْمَقْطُوعَ نِصْفٌ أَوْ ثُلُثٌ أُخِذَ بِالْيَقِينِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْجِرَاحَاتُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، فَمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ لَا قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَأَمَّا الْمُوِضِحَةُ الَّتِي تُوضِحُ عَظْمَ الصَّدْرِ، أَوِ الْعُنُقِ، أَوِ السَّاعِدِ أَوِ الْأَصَابِعِ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، كَمَا لَا يَجِبُ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ لِتَيَسُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَثَلِ. وَإِذَا اخْتَصَرْتَ، وَأَجَبْتَ فِي الْجِرَاحَاتِ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ بِالْمُخْتَارِ، قُلْتَ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحَةِ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ بِشَرْطِ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَظْمٍ وَلَا تَكْسِرَهُ. النَّوْعُ الثَّانِي: قَطْعُ الطَّرَفِ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَطْعِ الطَّرَفِ بِشَرْطِ إِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ، وَأَمْنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِلْعُضْوِ مَفْصِلٌ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْحَدِيدَةُ وَتُبَانُ، وَالْمَفْصِلُ مَوْضِعُ اتِّصَالِ عُضْوٍ بِعُضْوٍ عَلَى مُنْقَطَعِ عَظْمَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِمُجَاوَرَةٍ مَحْضَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ دُخُولِ عُضْوٍ فِي عُضْوٍ، كَالْمِرْفَقِ وَالرُّكْبَةِ، فَمِنَ الْمَفَاصِلِ الْأَنَامِلُ وَالْكُوعُ وَالْمِرْفَقُ وَمَفْصِلُ الْقَدَمِ وَالرُّكْبَةِ. فَإِذَا وَقَعَ

الْقَطْعُ عَلَى بَعْضِهَا، اقْتُصَّ مِنَ الْجَانِي. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِي بَعْضِ التَّعَالِيقِ عَنْ شَيْخِي حِكَايَةُ وَجْهٍ بَعِيدٍ فِي الْمِرْفَقِ وَالرُّكْبَةِ، قَالَ: وَأَظُنُّهُ غَلَطًا مِنَ الْمُعَلِّقِ، وَمِنَ الْمَفَاصِلِ أَصْلُ الْفَخِذِ وَالْمَنْكِبِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ بِلَا إِجَافَةٍ، اقْتَصَّ، وَإِلَّا فَلَا، سَوَاءٌ كَانَ الْجَانِي أَجَافَ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْجَوَائِفَ لَا تَنْضَبِطُ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ إِذَا كَانَ الْجَانِي أَجَافَ، وَقَالَ أَهْلُ الْبَصَرِ: يُمْكِنُ أَنْ يَقْطَعَ، وَيُجَافَ مِثْلَ تِلْكَ الْجَائِفَةِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْعُضْوِ حَدٌّ مَضْبُوطٌ يَنْقَادُ لِآلَةِ الْإِبَانَةِ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي فَقْءِ الْعَيْنِ، وَفِي الْأُذُنِ، وَالْجَفْنِ، وَالْمَارِنِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ قَطْعًا، وَفِي الشَّفَةِ وَاللِّسَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي الشُّفْرَيْنِ وَالْإِلْيَتَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَلَا قِصَاصَ فِي إِطَارِ الشَّفَةِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَالْكَلَامُ فِي قَدْرِ الشَّفَتَيْنِ وَالشَّفْرَيْنِ وَالْإِلْيَتَيْنِ يَأْتِي فِي الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ. لَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْأُذُنِ، أَوْ بَعْضَ الْمَارِنِ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةٍ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِإِحَاطَةِ الْهَوَاءِ بِهِمَا، وَإِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِمَا مِنْ

الْجَانِبَيْنِ، وَيُقَدَّرُ الْمَقْطُوعُ بِالْجُزْئِيَّةِ، كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، لَا بِالْمِسَاحَةِ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْكُوعِ، أَوْ مَفْصِلَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَلَمْ يُبِنْ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهَا تَجْمَعُ الْعُرُوقَ وَالْأَعْصَابَ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْوَضْعِ تَسَفُّلًا وَتَصَعُّدًا، فَلَا يُوثَقُ بِالْمُمَاثَلَةِ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَارِنِ، وَلَوْ قَطَعَ فِلْقَةً مِنَ الْأُذُنِ، أَوِ الْمَارِنِ، أَوِ اللِّسَانِ، أَوِ الْحَشَفَةِ، أَوِ الشَّفَةِ، وَأَبَانَهَا، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الصَّحِيحِ وَتُضْبَطُ بِالْجُزْئِيَّةِ. وَلَوْ أَبَانَ قِطْعَةً مِنَ الْفَخِذِ، فَلَا قِصَاصَ، كَذَا جَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ خِلَافٌ كَالْبَاضِعَةِ. فَرْعٌ. قَطَعَ يَدًا أَوْ عُضُوًا، وَبَقِيَ الْمَقْطُوعُ مُتَعَلِّقًا بِجِلْدِهِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ أَبْطَلَ فَائِدَةَ الْعُضْوِ، ثُمَّ إِذَا انْتَهَى الْعُضْوُ فِي الِاقْتِصَاصِ إِلَى تِلْكَ الْجَلْدَةِ، فَقَدْ فَصَلَ الْقِصَاصُ، وَيُرَاجِعُ الْجَانِي أَهْلَ الْخِبْرَةِ فِي تِلْكَ الْجِلْدَةِ، وَيَفْعَلُ مَصْلَحَتَهُ مِنَ الْقَطْعِ وَالتَّرْكِ. فَرْعٌ. لَا قِصَاصَ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ، لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ، لَكِنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ أَقْرَبَ مَفْصِلٍ إِلَى مَوْضِعِ الْكَسْرِ، وَيَأْخُذُ الْحُكُومَةَ لِلْبَاقِي، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ، وَيَعْدِلَ إِلَى الْمَالِ. وَلَوْ أَوْضَحَ رَأْسَهُ مَعَ الْهَشْمِ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ فِي الْمُوضِحَةِ، وَيَأْخُذَ الْهَشْمَ مَا بَيْنَ أَرْشِ الْهَاشِمَةِ وَالْمُوضِحَةِ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَلَوْ أَوْضَحَ وَنَقَلَ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ فِي الْمُوضِحَةِ، وَيَأْخُذَ مَا بَيْنَ الْمُوضِحَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ، وَهُوَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَلَوْ أَوْضَحَ وَأَمَّ، فَلَهُ أَنْ يُوضِحَ، وَيَأْخُذَ مَا بَيْنَ الْمُوضِحَةِ وَالْمَأْمُومَةِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا وَثُلُثُ بَعِيرٍ، لِأَنَّ فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ.

فَرْعٌ. قَطَعَهُ مِنَ الْكُوعِ، فَأَرَادَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَلْقُطَ أَصَابِعَهُ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَوْ بَادَرَ وَفَعَلَهُ، عُزِّرَ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ إِتْلَافَ الْجُمْلَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِإِتْلَافِ الْبَعْضِ غُرْمٌ، كَمَا أَنَّ مُسْتَحِقَّ قَتْلِ النَّفْسِ لَوْ قَطَعَ طَرَفَ الْجَانِي، لَا غُرْمَ عَلَيْهِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهَلْ لَهُ أَنْ يَعُودَ وَيَقْطَعَ الْكَفَّ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ مُسْتَحِقَّ النَّفْسِ لَوْ قَطَعَ يَدَ الْجَانِي لَهُ أَنْ يَعُودَ وَيَحُزَّ رَقَبَتَهُ، وَلَوْ طَلَبَ حُكُومَتَهَا، لَمْ يُجَبْ، لِأَنَّ الْكَفَّ تَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ وَقَدِ اسْتَوْفَى الْأَصَابِعَ الْمُقَابِلَةَ بِالدِّيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنَ الْمِرْفَقِ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ مِنَ الْكُوعِ، أَوْ يَقْطَعَ أُصْبُعًا، وَيَرْضَى بِهَا قِصَاصًا وَمَالًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ بِلَا مَالٍ، جَازَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَلَوْ خَالَفَنَا فَقَطَعَ مِنَ الْكُوعِ، عُزِّرَ وَلَا غُرْمَ لِمَا سَبَقَ. وَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقْطَعَ مِنَ الْمِرْفَقِ، قَالَ الْإِمَامُ: لَا يُمْكِنُهُ، وَجَعَلَهُ الْبَغَوِيُّ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَوْ طَلَبَ حُكُومَةَ السَّاعِدِ لَمْ نُثْبِتْهَا لَهُ، كَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهَا تَثْبُتُ. فَرْعٌ. لَوْ كَسَرَ عَظْمَ الْعَضُدِ، وَأَبَانَ الْيَدَ مِنْهُ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ مِنَ الْمِرْفَقِ، وَيَأْخُذَ الْحُكُومَةَ لِمَا بَقِيَ، وَإِنْ عَفَا، فَلَهُ دِيَةُ الْكَفِّ، وَحُكُومَةٌ لِلسَّاعِدِ، وَحُكُومَةٌ لِلْمَقْطُوعِ مِنَ الْعَضُدِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ الْمِرْفَقَ، وَيَقْطَعَ مِنَ الْكُوعِ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَجْهَانِ. أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: يَجُوزُ، لِعَجْزِهِ عَنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَمُسَامَحَتِهِ، وَأَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرُهُ لَا، لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَمَّا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَلَوْ أَرَادَ الْتِقَاطَ الْأَصَابِعِ، لَمْ يُمْكِنْ قَطْعًا، وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَطْعِ الْكُوعِ. فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْقَطْعُ مِنَ الْكُوعِ،

فَقَطَعَ، ثُمَّ أَرَادَ الْقَطْعَ مِنَ الْمِرْفَقِ، لَمْ يَكُنْ وَلَيْسَ لَهُ حُكُومَةُ السَّاعِدِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ الْقَطْعُ مِنَ الْكُوعِ، فَقَطَعَ، فَلَهُ حُكُومَةُ السَّاعِدِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَتَجِبُ لَهُ حُكُومَةُ الْمَقْطُوعِ مِنَ الْعَضُدِ، هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ تِلْكَ الْبَقِيَّةِ مُتَعَذِّرٌ شَرْعًا، وَلَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِيهَا تَقْصِيرٌ وَعُدُولٌ، وَلَمْ أَجِدْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لِغَيْرِ الْغَزَالِيِّ. فَرْعٌ. لَوْ قَطَعَهُ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ، قُطِعَ مِنَ الْكُوعِ وَأُخِذَتْ حُكُومَةُ نِصْفِ السَّاعِدِ، فَلَوْ عَفَا، فَلَهُ دِيَةُ الْكَفِّ، وَحُكُومَةٌ لِنِصْفِ السَّاعِدِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَلْتَقِطَ أَصَابِعَهُ، لَمْ يَكُنْ، فَلَوْ فَعَلَ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْقَطْعِ مِنَ الْكُوعِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَيْسَ لَهُ حُكُومَةُ الْكَفِّ، وَلَهُ حُكُومَةُ نِصْفِ السَّاعِدِ، وَيَجِيءُ فِي حُكُومَةِ نِصْفِ السَّاعِدِ الْخِلَافُ. فَرْعٌ. لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ، لَمْ يَقْتَصَّ فِي الْكَفِّ، وَلَهُ الْتِقَاطُ الْأَصَابِعِ. وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْجِرَاحَةُ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ مَوْضِعِ الْجِرَاحَةِ إِلَّا مَفَاصِلَ مُتَعَدِّدَةً، وَهَلْ تَجِبُ مَعَ قَطْعِهَا حُكُومَةُ نِصْفِ الْكَفِّ، أَمْ تَدْخُلُ الْحُكُومَةُ فِي قَطْعِهَا، كَدُخُولِهَا فِي اسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ. فَرْعٌ. مِنَ «الْأُمِّ» : لَوْ شَقَّ كَفَّهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَفْصِلٍ، ثُمَّ قَطَعَ مِنَ

الْمَفْصِلِ أَوْ لَمْ يَقْطَعِ، اقْتَصَّ مِنْهُ إِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: يُمْكِنُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: إِبْطَالُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ لَا تُبَاشَرُ بِالتَّفْوِيتِ، وَإِنَّمَا تُفَوَّتُ تَبَعًا لِمَحَلِّهَا، وَقَدْ تَرِدُ الْجِنَايَةُ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَتَفُوتُ هِيَ بِالسِّرَايَةِ لِارْتِبَاطٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، فَلَوْ أَوْضَحَ رَأْسَهُ، فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنَيْهِ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الضَّوْءِ كَمَا يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ، وَنَصَّ فِيمَا إِذَا قَطَعَ أُصْبُعَهُ فَسَرَى إِلَى الْكَفِّ، أَوْ إِلَى أُصْبُعٍ أُخْرَى بِتَآكُلٍ أَوْ شَلَلٍ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصَ فِي مَحَلِّ السِّرَايَةِ. فَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ، وَالْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الضَّوْءَ وَنَحْوَهُ مِنَ اللَّطَائِفِ لَا تُبَاشَرُ بِالْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا تُقْصَدُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلِّهَا، أَوْ مَحَلِّ آخِرِهِ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ فِي الضَّوْءِ بِالسِّرَايَةِ، فَالَّذِي صَحَّحَهُ الْإِمَامُ نَقْلًا وَمَعْنًى أَنَّ السَّمْعَ كَالْبَصَرِ. وَحَكَى فِيمَا إِذَا أَبْطَلَ بَطْشَ عُضْوٍ بِالسِّرَايَةِ تَرَدُّدَ الْأَصْحَابِ، مِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهُ بِالضَّوْءِ، وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى الْبَطْشَ عُسْرُ الْإِزَالَةِ، كَالْأَجْسَامِ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَفِي الْعَقْلِ أَيْضًا تَرَدَّدَ لِبُعْدِهِ عَنِ التَّنَاوُلِ بِالسِّرَايَةِ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ إِلْحَاقُ الْكَلَامِ بِالْبَصَرِ، وَرَتَّبَهَا فَجَعَلَ الْبَصَرَ وَالسَّمْعَ فِي دَرَجَةٍ، وَيَلِيهِمَا الْكَلَامُ، وَيَلِيهِ الْبَطْشُ، وَيَلِيهِ الْعَقْلُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى رَأْسِهِ، فَذَهَبَ عَقْلُهُ، أَوْ عَلَى أَنْفِهِ، فَذَهَبَ شَمُّهُ، أَوْ عَلَى أُذُنِهِ، فَذَهَبَ سَمْعُهُ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْعَقْلِ وَالشَّمِّ وَالسَّمْعِ، وَالْأَقْرَبُ مَنْعُ الْقِصَاصِ فِي الْعَقْلِ، وَوُجُوبُهُ فِي الشَّمِّ وَالْبَطْشِ وَالذَّوْقِ، لِأَنَّ لَهَا مَحَالٌّ مَضْبُوطَةٌ. وَلِأَهْلِ الْخِبْرَةِ طُرُقٌ فِي إِبْطَالِهَا، وَإِذَا ذَهَبَ الضَّوْءُ بِالْمُوضِحَةِ، وَاقْتَصَصْنَا فِي الْمُوضِحَةِ، فَلَمْ يَذْهَبْ ضَوْءُ الْجَانِي، أُذْهِبَ بِأَخَفِّ مَا يُمْكِنُ، كَتَقْرِيبِ حَدِيدَةٍ مُحْمَاةٍ مِنْ عَيْنَيْهِ، أَوْ طَرْحِ كَافُورٍ فِيهَا وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ ذَهَبَ ضَوْءُ الْجَانِي، حَصَلَ الْقِصَاصُ

وَفِيهِ شَيْءٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ هَشَمَ رَأْسَهُ، فَذَهَبَ ضَوْؤُهُ، عُولِجَ بِمَا يُزِيلُ الضَّوْءَ وَلَا يُقَابَلُ الْهَشْمُ بِالْهَشْمِ، وَلَوْ لَطَمَهُ، فَذَهَبَ ضَوْؤُهُ وَاللَّطْمَةُ بِحَيْثُ تُذْهِبُ الضَّوْءَ غَالِبًا، فَالْمَنْقُولُ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ يُلْطَمُ مِثْلَ لَطْمَتِهِ، فَإِنْ ذَهَبَ الضَّوْءُ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوضِحَةِ، وَإِلَّا أُزِيلُ بِالْمُعَالَجَةِ، وَإِنِ ابْيَضَّتِ الْحَدَقَةُ، أَوْ شَخَصَتْ، فُعِلَ بِهِ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَنَسَبَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» هَذَا الْمَنْقُولَ عَنِ النَّصِّ إِلَى بَعْضِ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَقْتَصَّ فِي اللَّطْمَةِ كَمَا لَا يَقْتَصُّ بِالْهَاشِمَةِ، لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ لَوِ انْفَرَدَتْ، وَهَذَا حَسَنٌ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَجْهًا، وَقَالَ: هُوَ الْأَصَحُّ. فَرْعٌ. إِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَجْسَامِ بِالسِّرَايَةِ، فَقُطِعَ أُصْبُعُهُ، فَسَرَى الْقَطْعُ إِلَى الْكَفِّ وَسَقَطَتْ، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إِلَّا فِي تِلْكَ الْأُصْبُعِ، وَإِذَا اقْتُصَّ فِي الْأُصْبُعِ، فَسَرَى إِلَى الْكَفِّ فَالنَّصُّ أَنَّ السِّرَايَةَ لَا تَقَعُ قِصَاصًا، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْجَانِي دِيَةَ بَاقِي الْيَدِ. وَنَصَّ فِيمَا إِذَا أَوْضَحَهُ فَذَهَبَ ضَوْؤُهُ وَشَعْرُ رَأْسِهِ، فَاقْتَصَّ فِي الْمُوضِحَةِ، فَذَهَبَ ضَوْءُ الْجَانِي وَشَعْرُ رَأْسِهِ أَيْضًا، أَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَذْهَبْ ضَوْءُ الْجَانِي، وَنَبَتَ شَعْرُهُ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْبَصَرِ وَحُكُومَةُ الشَّعْرِ. وَفِي هَذَا النَّصِّ إِيقَاعُ الشَّعْرِ مُقَابِلًا لِلشَّعْرِ وَهُوَ مِنَ الْأَجْسَامِ، فَاقْتَضَى وُقُوعُ السِّرَايَةِ فِي الْأَجْسَامِ قِصَاصًا، فَقِيلَ: قَوْلَانِ فِي أَنَّ السِّرَايَةَ فِي الضَّوْءِ وَالْكَفِّ هَلْ تَقَعُ قِصَاصًا؟ وَقِيلَ: فِي الْكَفِّ قَوْلَانِ، وَيَقَعُ الضَّوْءُ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ السِّرَايَةَ لَا تَقَعُ قِصَاصًا فِي الْكَفِّ وَلَا فِي الشَّعْرِ. وَلَوْ عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ قِصَاصِ الْأُصْبُعِ، فَلَهُ دِيَةُ الْيَدِ، وَإِنِ اقْتَصَّ، فَلَمْ يَسْرِ الْقَطْعُ إِلَى غَيْرِ تِلْكَ الْأُصْبُعِ، أَوْ سَرَى وَقُلْنَا: لَا يَقَعُ قِصَاصًا، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ دِيَةِ الْكَفِّ لِلْأَصَابِعِ الْأَرْبَعِ، وَلَا تَجِبُ لِمَنَابِتِهَا مِنَ الْكَفِّ حُكُومَةٌ، بَلْ

تَدْخُلُ فِي دِيَتِهَا، وَفِي دُخُولِ حُكُومَةِ خُمُسِ الْكَفِّ فِي قِصَاصِ الْأُصْبُعِ، وَجْهَانِ سَيَعُودَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَا يَجِبُ مِنَ الدِّيَةِ يَجِبُ مُغَلَّظًا فِي مَالِ الْجَانِي، لِأَنَّهُ وَجَبَ بِجِنَايَةِ عَمْدٍ مُوجِبَةٍ لِلْقَوَدِ، وَقِيلَ: عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ عَقِبَ قَطْعِ الْأُصْبُعِ. وَفِي صُورَةِ الْمُوضِحَةِ الْمُذْهِبَةِ لِلْبَصَرِ، لَوْ أَوْضَحَهُ، فَلَمْ يَذْهَبْ ضَوْؤُهُ فِي الْحَالِ، لَا يُطَالَبُ بِالدِّيَةِ، بَلْ يَنْتَظِرُ، فَلَعَلَّهُ يَسْرِي إِلَى الْبَصَرِ فَيَحْصُلُ الِاقْتِصَاصُ، وَكَذَا فِي النَّفْسِ، لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَهُ فَسَرَى إِلَى نَفْسِهِ، فَقَطَعَ الْوَلِيُّ أُصْبُعَ الْجَانِي، يَنْتَظِرُ السِّرَايَةَ وَلَا يُطَالِبُ بِالدِّيَةِ فِي الْحَالِ. فَرْعٌ. لَهُ تَعَلُّقٌ بِالسِّرَايَةِ. لَوْ قَتَلَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ الْجَانِي خَطَأً، أَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ خَفِيفٍ، فَهَلْ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَمِثْلُهُ: لَوْ وَثَبَ الصَّبِيُّ، أَوِ الْمَجْنُونُ عَلَى قَاتِلِ مُورِثِهِ فَقَتَلَهُ، هَلْ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا. فَعَلَى هَذَا يَنْتَقِلُ حَقُّهُ إِلَى الدِّيَةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِ الْجَانِي، وَهَلْ تَكُونُ عَلَيْهِ أَمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ عَمْدَهُمَا عَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ، وَيَجْرِي فِيمَا إِذَا ثَبَتَ قِصَاصٌ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، فَوَثَبَ عَلَى الْقَاطِعِ فَقَطَعَ طَرَفَهُ، هَلْ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ؟ ثُمَّ مَوْضِعُ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْجَانِي تَمْكِينٌ، فَأَمَّا إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ إِلَى الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ فَقَطَعَهُ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ بِلَا خِلَافٍ، وَيَكُونُ قَطْعُهُ هَدَرًا. الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْمُمَاثَلَةِ. وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ، كَالْكَفَاءَةِ فِي النَّفْسِ، فَلَا يُقَابَلُ طَرَفٌ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، كَالْيَدِ بِالرَّجْلِ، وَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ، لَمْ

يُؤَثِّرِ التَّفَاوُتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ مُمَاثَلَةُ النَّفْسَيْنِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ الصَّانِعِ بِيَدِ الْأَخْرَقِ، كَمَا يُقْتَلُ الْعَالِمُ بِالْجَاهِلِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِي أُمُورٍ: أَحَدُهَا: تَفَاوَتُ الْمَحِلِّ وَالْقَدْرِ، أَمَّا الْمَحَلُّ، فَلَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى، وَلَا الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى، وَكَذَا الرِّجْلُ وَالْعَيْنُ وَالْأُذُنُ، وَلَا يُقْطَعُ مِنَ الْجِنْسِ الْأَعْلَى بِالْأَسْفَلِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، وَكَذَا فِي الشَّفَةِ، وَلَا أُصْبُعٌ وَلَا أُنْمُلَةٌ بِغَيْرِهَا، وَلَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ بِزَائِدَةٍ أُخْرَى، إِذَا اخْتَلَفَ مَحَلُّهُمَا، بِأَنْ كَانَتْ زَائِدَةٌ بِجَنْبِ الْخِنْصَرِ، وَزَائِدَةُ الْجَانِي بِجَنْبِ الْإِبْهَامِ. وَأَمَّا الْقَدْرُ، فَالتَّفَاوُتُ فِي الْحَجْمِ صِغَرًا وَكِبَرًا، وَطُولًا وَقِصَرًا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَصْلِيَّةِ قَطْعًا، وَكَذَا فِي الزَّائِدَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ قُلْنَا: تُؤَثِّرُ، وَكَانَتْ زَائِدَةُ الْجَانِي أَكْبَرَ، لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَكْبَرَ، اقْتُصَّ، وَأَخَذَ حُكُومَةً قَدْرَ النُّقْصَانِ، ثُمَّ الْخِلَافُ فِيمَا رَأَى الْإِمَامُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ تَفَاوُتُ الْحَجْمِ فِي الْحُكُومَةِ. فَإِنْ أَثَّرَ، فَلَا قِصَاصَ، قَالَ: وَالِاخْتِلَافُ فِي الْكَوْنِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ لَا يُؤَثِّرُ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الْحُكُومَةِ. وَتُقْطَعُ الزَّائِدَةُ بِالْأَصْلِيَّةِ إِذَا اتَّفَقَ مَحَلُّهُمَا، وَلَا شَيْءَ لَهُ لِنُقْصَانِ الزَّائِدَةِ، كَمَا لَوْ رَضِيَ بِالشَّلَّاءِ عَنِ السَّلِيمَةِ. فَرْعٌ. نَقَلُوا عَنِ النَّصِّ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ زَائِدَةُ الْجَانِي أَتَمَّ، بِأَنْ كَانَ لِأُصْبُعِهِ الزَّائِدَةِ ثَلَاثُ مَفَاصِلٍ، وَلِزَائِدَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَفْصِلَانِ، لَمْ تُقْطَعْ بِهَا، لِأَنَّ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ تَفَاوُتِ الْمَحَلِّ.

فَرْعٌ. الْكَلَامُ فِي قِصَاصِ الْمُوضِحَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْمِسَاحَةِ وَالْمَحَلِّ، أَمَّا الْمِسَاحَةُ، فَمُعْتَبَرَةٌ طُولًا وَعَرْضًا، فَلَا تُقَابَلُ ضَيِّقَةٌ بِوَاسِعَةٍ، وَلَا يَقْنَعُ بِضَيِّقَةٍ عَنْ وَاسِعَةٍ، فَتُذْرَعُ مُوضِحَةُ الْمَشْجُوجِ بِخَشَبَةٍ أَوْ خَيْطٍ، وَيُحْلَقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مَنْ رَأْسِ الشَّاجِّ، إِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَعْرٌ. وَيُخَطُّ عَلَيْهِ بِسَوَادٍ أَوْ حُمْرَةٍ، وَيَضْبُطُ الشَّاجُّ حَتَّى لَا يَضْطَرِبَ، وَيُوضِحُ بِحَدِيدَةٍ حَادَّةٍ كَالْمُوسَى، وَلَا يُوضِحُ بِالسَّيْفِ. وَإِنْ كَانَ أَوْضَحَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ، وَكَذَا لَوْ أَوْضَحَ بِحَجَرٍ، أَوْ خَشَبٍ، يَقْتَصُّ مِنْهُ بِالْحَدِيدَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ فِيهِ الرُّويَانِيُّ، ثُمَّ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنَ الشِّقِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَرْفُقُ فِي مَوْضِعِ الْعَلَامَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِتَفَاوُتِ الشَّاجِّ وَالْمَشْجُوجِ فِي غِلَظِ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ. وَأَمَّا الْمَحَلُّ، فَإِنْ أَوْضَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، وَرَأْسَاهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمِسَاحَةِ، أَوْضَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ، اسْتَوْعَبْنَاهُ إِيضَاحًا، وَلَا يَكْفِي بِهِ وَلَا يَنْزِلُ لِإِتْمَامِ الْمِسَاحَةِ إِلَى الْوَجْهِ، وَلَا إِلَى الْقَفَا، بَلْ يُؤْخَذُ قِسْطُ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَرْشِ إِذَا وُزِّعَ عَلَى جَمِيعِ الْمُوضِحَةِ. وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَكْبَرُ، لَمْ يُوضِحْ جَمِيعَهُ، بَلْ بِقَدْرِهِ بِالْمِسَاحَةِ وَالِاخْتِيَارِ فِي مَوْضِعِهِ إِلَى الْجَانِي، وَقِيلَ: إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يَبْتَدِئُ مِنْ حَيْثُ بَدَأَ الْجَانِي، وَيَذْهَبُ بِهِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا إِلَى أَنْ يَتِمَّ الْقَدْرُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، فَإِنْ كَانَ فِي رَأْسِ الْجَانِي مُوضِحَةٌ، وَالْبَاقِي بِقَدْرِ مَا فِيهِ الْقِصَاصُ، تَعَيَّنَ، وَصَارَ كَأَنَّهُ كُلُّ الرَّأْسِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بَعْضَ حَقِّهِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَبَعْضَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مُوضِحَتَيْنِ بَدَلَ مُوضِحَةٍ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْبَعْضَ وَيَأْخُذَ لِلْبَاقِي قِسْطَهُ مِنَ الْأَرْشِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْضَحَ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَإِنَّ

لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ فِي أَحَدِهِمَا، وَيَأْخُذَ أَرْشَ الْآخَرِ، لِأَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ، وَلَوْ أَوْضَحَ الْجَانِي بَعْضَ الرَّأْسِ، كَالْقَذَالِ وَالنَّاصِيَةِ، أَوْضَحْنَا ذَلِكَ الْقَدْرَ وَتَمَّمْنَاهُ مِنَ الرَّأْسِ إِنْ بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ شَيْءٌ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَةُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، وَلَوْ أَوْضَحَ جَبْهَتَهُ، وَجَبْهَةُ الْجَانِي أَصْغَرُ، لَمْ يَرْتَقِ إِلَى الرَّأْسِ، وَلِيَجِيءَ فِي مُجَاوَزَةِ مَوْضِعٍ مِنَ الْوَجْهِ إِلَى مَوْضِعٍ يُلَاصِقُهُ الْوَجْهَانِ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ فِي مُوضِحَةِ سَائِرِ الْبَدَنِ، فَأَوْضَحَ سَاعِدَهُ وَسَاعِدُ الْجَانِي أَصْغَرُ، لَمْ يُجَاوِزْهُ إِلَى الْعَضُدِ وَلَا إِلَى الْكَتِفِ، كَمَا فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ. فَرْعٌ. لَوْ زَادَ الْمُقْتَصُّ فِي الْمُوضِحَةِ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ، نُظِرَ، إِنْ زَادَ بِاضْطِرَابِ الْجَانِي، فَلَا غُرْمَ، وَإِنْ زَادَ عَمْدًا، اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الزِّيَادَةِ وَلَكِنْ بَعْدَ انْدِمَالِ الْمُوضِحَةِ الَّتِي فِي رَأْسِهِ، وَإِنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ، أَوْ أَخْطَأَ بِاضْطِرَابِ يَدِهِ، وَجَبَ الضَّمَانُ، وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُوَزَّعُ الْأَرْشُ عَلَيْهِمَا، فَيَجِبُ قِسْطُ الزِّيَادَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ أَرْشٌ كَامِلٌ، وَلَوْ قَالَ الْمُقْتَصُّ: أَخْطَأْتُ بِالزِّيَادَةِ، فَقَالَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ: بَلْ تَعَمَّدْتَهَا، صَدَقَ الْمُقْتَصُّ بِيَمِينِهِ، وَلَوْ قَالَ: تَوَلَّدَتِ الزِّيَادَةُ بِاضْطِرَابِكَ، وَأَنْكَرَ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ وَجْهَانِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَعَدَمُ الِاضْطِرَابِ. فَرْعٌ. اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي مُوضِحَةٍ، بِأَنْ تَحَامَلُوا عَلَى الْآلَةِ وَحَزُّوهَا مَعًا، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، أَحَدُهُمَا: يُوَزِّعُ عَلَيْهِمْ، وَيُوضِحُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ قَدْرَ حِصَّتِهِ لِإِمْكَانِ التَّجْزِئَةِ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ. وَالثَّانِي: يُوضِحُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِثْلَ تِلْكَ الْمُوضِحَةِ، كَالشُّرَكَاءِ فِي الْقَطْعِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ،

وَيَجْرِي الِاحْتِمَالَانِ فِيمَا لَوْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ، هَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَرْشٌ كَامِلٌ أَمْ يُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الثَّانِي أَقْرَبُ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ. مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْلِقُ شَعْرَ رَأْسِ الشَّاجِّ عِنْدَ الِاقْتِصَاصِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا شَعْرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّاجِّ شَعْرٌ، فَلَا حَلْقَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِ الْمَشْجُوجِ شَعْرٌ، وَكَانَ عَلَى رَأْسِ الشَّاجِّ شَعْرٌ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْقِصَاصِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْلَافِ شَعْرٍ لَمْ يُتْلِفْهُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» وَلَا يَضُرُّ التَّفَاوُتُ فِي خِفَّةِ الشَّعْرِ وَكَثَافَتِهِ. فَرْعٌ. لَوْ شَكَّ هَلْ أَوْضَحَ بِالشَّجَّةِ أَمْ لَا، لَمْ يَقْتَصَّ مَعَ الشَّكِّ، وَيَبْحَثُ عَنِ الْحَالِ بِمِسْمَارٍ حَتَّى يَعْرِفَ، وَيَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ، أَوْ يَعْتَرِفَ بِهِ الْجَانِي، لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيضَاحِ يَتَعَلَّقُ بِالِانْتِهَاءِ إِلَى الْعَظْمِ حَتَّى لَوْ غَرَزَ إِبْرَةً فَانْتَهَتْ إِلَى الْعَظْمِ، كَانَ ذَلِكَ مُوضِحَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ الْعَظْمُ لِلنَّاظِرِ. التَّفَاوُتُ الثَّانِي فِي الصِّفَاتِ الَّتِي يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِيهَا وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ لَا يُؤَثِّرُ، بَلْ تُقْطَعُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ بِالسَّوْدَاءِ، وَالسَّلِيمَةُ بِالْبَرْصَاءِ، وَيَدُ الصَّانِعِ بِيَدِ الْأَخْرَقِ. الثَّانِيَةُ: لَا تُقْطَعُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ بِشَلَّاءَ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْجَانِي، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ فِي الطَّرَفِ الْأَشَلِّ الْحُكُومَةُ، كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَإِنْ رَضِيَ الْجَانِي، فَلَوْ خَالَفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ الصَّحِيحَةَ، لَمْ تَقَعْ قِصَاصًا، بَلْ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَلَوْ سَرَى فَعَلَيْهِ

الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ كَانَ قَطَعَ بِإِذْنِ الْجَانِي، فَلَا قِصَاصَ عِنْدَ السِّرَايَةِ، لِأَنَّهُ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ، إِنَّ قَالَ الْجَانِي: اقْطَعْ يَدِيَ، وَأَطْلَقَ، جُعِلَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَإِنْ قَالَ: اقْطَعْهَا عِوَضًا عَنْ يَدِكَ، أَوْ قِصَاصًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ: أَنَّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَعَلَى الْجَانِي الْحُكُومَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْهَا مَجَّانًا. وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّ الْجَانِيَ أَدَّى الْجَيِّدَ عَنِ الرَّدِيءِ، وَقَبَضَهُ الْمُسْتَحِقُّ. الثَّالِثَةُ: الْيَدُ الشَّلَّاءُ، وَالرِّجْلُ الشَّلَّاءُ، هَلْ تُقْطَعَانِ بِالصَّحِيحَتَيْنِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْقِصَاصِ فِيهَا. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ: أَنَّهُ يُرَاجِعُ أَهْلَ الْبَصَرِ، فَإِنْ قَالُوا: لَوْ قُطِعَتْ لَمْ يَنْسَدَّ فَمُ الْعُرُوقِ بِالْحَسْمِ، وَلَمْ يَنْقَطِعِ الدَّمُ، لَمْ تُقْطَعْ بِهَا، وَتَجِبُ دِيَةُ يَدِهِ. وَإِنْ قَالُوا: تَنْقَطِعُ، فَلَهُ قَطْعُهَا، وَتَقَعُ قِصَاصًا، كَقَتْلِ الذِّمِّيِّ بِالْمُسْلِمِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ بِسَبَبِ الشَّلَلِ أَرْشًا. الرَّابِعَةُ: هَلْ تُقْطَعُ الشَّلَّاءُ بِالشَّلَّاءِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الشَّلَلَ عِلَّةٌ، وَالْعِلَلُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَنِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُمَا إِنِ اسْتَوَيَا فِي الشَّلَلِ، أَوْ كَانَ شَلَلُ يَدِ الْقَاطِعِ أَكْثَرَ، قُطِعَتْ بِهَا، وَالشَّرْطُ أَنْ لَا يَخَافَ نَزْفَ الدَّمِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ الشَّلَلُ فِي يَدِ الْمَقْطُوعِ أَكْثَرَ، لَمْ يُقْطَعْ بِهَا. فَرْعٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْمُرَادُ بِالشَّلَلِ فِي الْيَدِ وَالرَّجْلِ زَوَالُ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا يُشْتَرَطُ زَوَالُ الْحِسِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا الشَّلَلُ بُطْلَانُ الْعَمَلِ. الْخَامِسَةُ: لَا أَثَرَ لِتَفَاوُتِ الْبَطْشِ، بَلْ تُقْطَعُ يَدُ الْقَوِيِّ بِيَدِ الشَّيْخِ

الَّذِي ضَعُفَ بَطْشُهُ، لَكِنْ لَوْ كَانَ النَّقْصُ بِجِنَايَةٍ، بِأَنْ ضَرَبَ رَجُلٌ يَدَهُ فَنَقَصَ بَطْشَهَا، وَأَلْزَمْنَاهُ الْحُكُومَةَ، ثُمَّ قَطَعَ تِلْكَ الْيَدَ كَامِلَةَ الْبَطْشِ؛ فَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ، وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَذَا كَمَا سَبَقَ أَنَّ مَنْ صَارَ إِلَى حَالَةِ الْمُحْتَضِرِ بِلَا جِنَايَةٍ، لَوْ حَزَّ إِنْسَانٌ رَقَبَتَهُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَلَوِ انْتَهَى إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ بِجِنَايَةٍ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى حَازِّهِ. السَّادِسَةُ: تُقْطَعُ يَدُ السَّلِيمِ وَرِجْلُهُ بِيَدِ الْأَعْسَمِ وَرِجْلِ الْأَعْرَجِ، لِأَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَالْعَسَمُ: تَشَنُّجٌ فِي الْمِرْفَقِ، أَوْ قِصَرٌ فِي السَّاعِدِ أَوِ الْعَضُدِ. السَّابِعَةُ: لَا اعْتِبَارَ بِاخْضِرَارِ الْأَظْفَارِ وَاسْوِدَادِهَا وَزَوَالِ نَضَارَتِهَا، فَإِنَّهَا عِلَّةٌ وَمَرَضٌ فِي الْأَظْفَارِ، وَالطَّرَفُ السَّلِيمُ يُسْتَوْفَى بِالْعَلِيلِ، وَأَمَّا الَّتِي لَا أَظْفَارَ لَهَا، فَالصَّحِيحُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ بِهَا سَلِيمَةُ الْأَظْفَارِ، وَأَنَّهَا تُقْطَعُ بِالسَّلِيمَةِ. وَكَذَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْهُمْ وَنَسَبَهُ إِلَى النَّصِّ، لَكِنْ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ تُكَمَّلُ فِيهَا الدِّيَةُ، وَلِلْإِمَامِ احْتِمَالٌ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ وَإِنْ عَدِمَتِ الْأَظْفَارَ. لِأَنَّهَا زَوَائِدٌ، وَلَوْ لَمْ يَجْرِ الْقِصَاصُ لَمَا تَمَّتْ دِيَةُ الْيَدِ وَالْأُصْبُعِ السَّاقِطِ ظُفْرُهَا، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْقُصُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْءٌ. الثَّامِنَةُ: لَا تُقْطَعُ يَدٌ صَحِيحَةٌ بِيَدٍ فِيهَا أُصْبُعٌ شَلَّاءُ، وَلَا تُقْطَعُ مِنَ الْكُوعِ يَدٌ مُسَبِّحَتُهَا شَلَّاءُ بِيَدٍ وُسْطَاهَا شَلَّاءُ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الشَّلَلِ، فَهُمَا كَالشَّلَاوَيْنِ. التَّاسِعَةُ: إِذَا قَطَعَ سَلِيمُ الْيَدِ يَدًا شَلَّاءَ، ثُمَّ شُلَّتْ يَدُهُ، فَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ خَرَّجَ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ قَوْلَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَطْعَ بِالْمَنْعِ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ الْإِمَامُ مَذْهَبًا، وَالْمَذْكُورُ فِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يُقْتَصُّ مُنْهُ، وَكَذَا لَوْ قَطَعَ يَدًا نَاقِصَةً أُصْبُعًا، ثُمَّ سَقَطَتْ تِلْكَ الْأُصْبُعُ مِنَ الْقَاطِعِ، بِخِلَافِ

مَا لَوْ قَطَعَ حُرٌّ ذِمِّيٌّ يَدَ عَبْدٍ، ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ، وَسُبِيَ وَاسْتُرِقَ لَا يُقْطَعُ، وَلَوْ قَتَلَهُ لَا يُقْتَلُ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ هُنَاكَ سَقَطَ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَالْكَفَاءَةُ تُرَاعَى حَالَ الْجِنَايَةِ، وَالِامْتِنَاعُ هُنَا لِزِيَادَةٍ حِسِّيَّةٍ فِي يَدِ الْقَاطِعِ وَالِاعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِذَا زَالَتْ، قَطَعَ. وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدًا شَلَّاءَ، ثُمَّ صَحَّتْ يَدُ الْقَاطِعِ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِوُجُودِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ، قَالَ: وَكَذَا الْيَدُ ذَاتُ الْأَظْفَارِ لَا تُقْطَعُ بِمَا لَا أَظْفَارَ لَهَا. فَلَوْ سَقَطَتْ أَظْفَارُ الْقَاطِعِ، قُطِعَتْ بِهَا، وَالَّتِي لَا أَظْفَارَ لَهَا تُقْطَعُ بِمِثْلِهَا، فَلَوْ نَبَتَتْ أَظْفَارُ الْقَاطِعِ لَمْ تُقْطَعْ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ. الْعَاشِرَةُ: يَجِبُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ، وَفِي قَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِشْلَالِهَا الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ قَطَعَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَيَيْنِ مَعًا، أَوْ قَدَّمَ الذَّكَرَ، أَوِ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَوْ دَقَّ خَصْيَيْهِ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يَقْتَصُّ بِمِثْلِهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا وَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الدَّقُّ كَكَسْرِ الْعِظَامِ، وَلَوْ قَطَعَ، أَوْ أَشَلَّ إِحْدَى الْأُنْثَيَيْنِ وَقَالَ أَهْلُ الْبَصَرِ: يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ إِتْلَافِ الْأُخْرَى، اقْتَصَّ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ الْمَاسَرْجِسِيَّ قَالَ: إِنَّهُ مُمْكِنٌ وَإِنَّهُ وَقَعَ فِي عَهْدِهِ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ فَرَاوَةَ. وَالْقَوْلُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ الصَّحِيحِ بِالْأَشَلِّ وَبِالْعَكْسِ، وَالْأَشَلِّ بِالْأَشَلِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْيَدِ وَالرَّجْلِ، وَشَلَلُ الذَّكَرِ أَنْ يَكُونَ مُنْقَبِضًا لَا يَنْبَسِطُ، أَوْ مُنْبَسِطًا لَا يَنْقَبِضُ، هَذِهِ عِبَارَةُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَتَقَلَّصُ فِي الْبَرْدِ وَلَا يَسْتَرْسِلُ فِي الْحَرِّ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْعِبَارَةِ الْأُولَى، وَلَا اعْتِبَارَ بِالِانْتِشَارِ وَعَدَمِهِ، وَلَا بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، بَلْ يُقْطَعُ ذَكَرُ الْفَحْلِ الشَّابِّ بِذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالشَّيْخِ وَالصَّبِيِّ وَالْعِنِّينِ، لِأَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي نَفْسِ الْعُضْوِ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الِانْتِشَارُ لِضَعْفٍ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ وَسَوَاءٌ الْأَقْلَفُ وَالْمَخْتُونُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: تُقْطَعُ أُذُنُ السَّمِيعِ بِأُذُنِ الْأَصَمِّ وَبِالْعَكْسِ، وَهَلْ

تُقْطَعُ الْأُذُنُ الصَّحِيحَةُ بِالْمُسْتَحْشِفَةِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، لِبَقَاءِ الْجَمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ مِنْ جَمْعِ الصَّوْتِ وَرَدِّ الْهَوَامِّ بِخِلَافِ الْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَبَيَانُ الِاسْتِحْشَافِ يَأْتِي فِي الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَوَاءٌ الْمَثْقُوبَةُ وَغَيْرُهَا إِذَا كَانَ الثُّقْبُ لِلزِّينَةِ وَلَمْ يُورِثْ شَيْنًا وَنَقْصًا. فَإِنْ أَوْرَثَ نَقْصًا فَلْتَكُنِ الْمَثْقُوبَةُ كَالْمَخْرُومَةِ، وَلَا تُقْطَعُ صَحِيحَةٌ بِمَخْرُومَةٍ، وَهِيَ الَّتِي قُطِعَ بَعْضُهَا، وَلَكِنْ يُقْطَعُ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا كَانَ بَقِيَ مِنَ الْمَخْرُومَةِ، وَهَذَا إِذَا قُلْنَا: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي بَعْضِ الْأُذُنِ كَمَا سَبَقَ. فَإِنْ شُقَّتْ وَلَمْ يَبِنْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِهَا أَيْضًا، لِفَوَاتِ الْجَمَالِ، قَالَ: وَلَسْتُ أَرَى الْأَمْرَ كَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْجِرْمِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتُقَطَعُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ وَيُؤْخَذُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْمَخْرُومَةِ، وَسَوَاءٌ فِي الْمَثْقُوبَةِ وَالْمَخْرُومَةِ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: يُقْطَعُ أَنْفُ الصَّحِيحِ بِأَنْفِ الْأَخْشَمِ، لِأَنَّ الشَّمَّ لَيْسَ فِي جِرْمِ الْأَنْفِ، وَهَلْ يُقْطَعُ الْأَنْفُ السَّلِيمُ بِالْمَجْذُومِ؟ . قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ فِي حَالِ الِاحْمِرَارِ، قُطِعَ بِهِ، وَإِنِ اسْوَدَّ، فَلَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ الْبِلَى، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الِاحْمِرَارِ وَالِاسْوِدَادِ، وَقَالُوا: يَجِبُ الْقِصَاصُ مَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ. فَإِنْ سَقَطَ، لَمْ يُقْطَعْ بِهِ الصَّحِيحُ، لَكِنْ يُقْطَعُ مِنْهُ مَا كَانَ بَقِيَ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ بِأَنْفِ الْجَانِي نَقْصٌ كَنَقْصِ الْمَجْذُومِ جَرَى الْقِصَاصُ وَفِيهِ وَجْهٌ، قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ غَلَطٌ.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَا تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ، وَالصُّورَةُ الْقَائِمَةُ مِنَ الْحَدَقَةِ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَتُؤْخَذُ الْقَائِمَةُ بِالصَّحِيحَةِ إِذَا رَضِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَيُقْطَعُ جَفْنُ الْبَصِيرِ بِجَفْنِ الْأَعْمَى لِتَسَاوِي الْجِرْمَيْنِ، وَفَقْدُ الْبَصَرِ لَيْسَ فِي الْجَفْنِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَا يُقْطَعُ لِسَانُ نَاطِقٍ بِأَخْرَسَ وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِرِضَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَيُقْطَعُ لِسَانُ الْمُتَكَلِّمِ بِلِسَانِ الرَّضِيعِ إِنْ ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ النُّطْقِ بِالتَّحْرِيكِ عِنْدَ الْبُكَاءِ وَغَيْرِهِ، وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ بَلَغَ أَوَانَ التَّكَلُّمِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ، لَمْ يُقْطَعْ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ. فَرْعٌ. قَطَعَ أُذُنَ شَخْصٍ، فَأَلْصَقَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِي حَرَارَةِ الدَّمِ فَالْتَصَقَتْ، لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ وَلَا الدِّيَةُ عَنِ الْجَانِي، لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِبَانَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْمُلْصَقِ لِتَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَسَبَبُهُ نَجَاسَةُ الْأُذُنِ إِنْ قُلْنَا: مَا يُبَانُ مِنَ الْآدَمِيِّ نَجِسٌ، وَإِلَّا فَسَبَبُهُ الدَّمُ الَّذِي ظَهَرَ فِي مَحَلِّ الْقَطْعِ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ فَلَا تَزُولُ بِالِاسْتِبْطَانِ وَيَجِيءُ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي الْوَصْلِ بِعَظْمٍ نَجِسٍ. وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَنْبُتَ اللَّحْمُ عَلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ، أَوْ لَا يَنْبُتُ، وَبَيْنَ أَنْ يُخَافَ التَّلَفَ مِنَ الْقَطْعِ أَوْ لَا يُخَافَ، وَلَوْ قَطَعَهَا قَاطِعٌ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةُ الْإِزَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ إِزَالَتَهَا لِخَوْفِ التَّلَفِ مَثَلًا. فَلَوْ سَرَى قَطْعُ الْقَاطِعِ إِلَى النَّفْسِ، حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ خِلَافُهُ، ثُمَّ هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةُ الْإِزَالَةِ فَلَيْسَ لِلْجَانِي أَنْ يَقُولَ: أَزِيلُوهَا ثُمَّ اقْطَعُوا أُذُنِيَ، لِأَنَّ إِزَالَتَهَا مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِهِ، وَالنَّظَرُ فِي مِثْلِهِ إِلَى الْإِمَامِ، وَلَوِ اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَأَلْصَقَ الْجَانِي أُذُنَهُ،

فصل

فَالْقِصَاصُ حَاصِلٌ بِالْإِبَانَةِ، وَأَمَّا قَطْعُ مَا أَلْصَقَ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ أُذُنِهِ وَلَمْ يُبِنْهُ، فَفِي الْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ خِلَافٌ سَبَقَ. وَذَلِكَ إِذَا بَقِيَ غَيْرَ مُلْتَصِقٍ، فَأَمَّا إِذَا أَلْصَقَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَالْتَصَقَ، فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ عَنِ الْجَانِي، وَيَرْجِعُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ إِلَى الْحُكُومَةِ، كَالْإِفْضَاءِ إِذَا انْدَمَلَ يُسْقِطُ الدِّيَةَ، وَلِذَلِكَ نَقُولُ: لَوْ جَاءَ رَجُلٌ وَقَطَعَ الْأُذُنَ بَعْدَ الِالْتِصَاقِ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، أَوِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ. وَقِيلَ: لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي الْقَدْرِ الْمَقْطُوعِ، كَمَا لَا يَسْقُطُ قِصَاصُ الْمُوضِحَةِ بِالِانْدِمَالِ، وَلَا يَجِبُ قَطْعُ الْمُلْصَقِ قَبْلَ تَمَامِ الْإِبَانَةِ، وَهَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِنْ عَلَّلْنَا بِظُهُورِ الدَّمِ. وَلَوِ اسْتَأْصَلَ أُذُنَهُ، وَبَقِيَتْ مُعَلَّقَةً بِجِلْدَةٍ، وَجَبَ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ، فَلَوْ أَلْصَقَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، لَمْ يَجِبْ قَطْعُهَا، وَفِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْجَانِي هَذَا الْخِلَافُ. وَلَوْ أَبَانَ أُذُنَهُ، فَقَطَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَعْضَ أُذُنِهِ مُقْتَصًّا، فَأَلْصَقَهُ الْجَانِي، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ، وَيَقْطَعَهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْإِبَانَةَ. فَرْعٌ. رَبَطَ السِّنَّ الْمَقْلُوعَةَ فِي مَكَانِهَا، وَثُبُوتُهَا، كَإِلْصَاقِ الْأُذُنِ الْمَقْطُوعَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. فَصْلٌ فِي السِّنِّ الْقِصَاصُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إِذَا قَلَعَهَا، فَلَوْ كَسَرَهَا، فَلَا قِصَاصَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ إِذَا كَسَرَ بَعْضَ سِنِّهِ يُرَاجِعُ أَهْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا صَدْعٍ فِي الْبَاقِي، اقْتُصَّ مِنْهُ. وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَلَا تُؤْخَذُ السِّنُّ الصَّحِيحَةُ بِالْمَكْسُورَةِ، وَتُؤْخَذُ الْمَكْسُورَةُ بِالصَّحِيحَةِ مَعَ قِسْطِ الذَّاهِبِ مِنَ الْأَرْشِ، وَتُؤْخَذُ الزَّائِدَةُ

بِالزَّائِدَةِ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ، وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ رَجُلٍ، وَلَيْسَ لِلْجَانِي تِلْكَ السِّنُّ، فَلَا قِصَاصَ، وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ، فَلَوْ نَبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةٌ حَالَ الْجِنَايَةِ. فَرْعٌ. إِذَا قَلَعَ مَثْغُورٌ - وَهُوَ الَّذِي سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ - سِنَّ صَبِيٍّ لَمْ يَثْغَرْ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْحَالِ وَلَا دِيَةَ، لِأَنَّهَا تَعُودُ غَالِبًا، فَإِنْ نَبَتَتْ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحُكُومَةُ إِنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ، أَوْ مُعْوَجَّةً، أَوْ خَارِجَةً عَنْ سَمْتِ الْأَسْنَانِ، أَوْ بَقِيَ شَيْنٌ بَعْدَ النَّبَاتِ. وَإِنْ نَبَتَتْ أَطْوَلَ مِمَّا كَانَتْ، أَوْ نَبَتَ مَعَهَا سِنٌّ شَاغِيَةٌ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ نَبَتَتْ أَقْصَرَ مِمَّا كَانَتْ، وَجَبَ بِقَدْرِ النَّقْصِ مِنَ الْأَرْشِ، وَإِنْ جَاءَ وَقْتُ نَبَاتِهَا، بِأَنْ سَقَطَ سَائِرُ الْأَسْنَانِ، وَعَادَتْ، وَلَمْ تَنْبُتِ الْمَقْلُوعَةُ، أَرَيْنَاهُ أَهْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: يُتَوَقَّعُ نَبَاتُهَا إِلَى وَقْتِ كَذَا، تَوَقَّفْنَا تِلْكَ الْمُدَّةَ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ تَنْبُتْ، أَوْ قَالُوا: فَسَدَ الْمَنْبَتُ وَلَا يُتَوَقَّعُ النَّبَاتُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِيهِ قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ سِنَّ الصَّغِيرِ نَاقِصَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْخِلَافَ غَيْرُ الْغَزَالِيِّ، ثُمَّ إِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ، فَالِاسْتِيفَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ، اقْتَصَّ وَارِثُهُ فِي الْحَالِ، أَوْ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ حُصُولِ الْيَأْسِ، وَقَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَالِ، فَلَا قِصَاصَ، وَفِي الْأَرْشِ وَجْهَانِ يَأْتِيَانِ فِي الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَرْعٌ. قَلَعَ مَثْغُورٌ سِنَّ مَثْغُورٍ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، فَلَوْ نَبَتَ سِنُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَفِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ، لِأَنَّ الْعَائِدَ قَائِمٌ مُقَامَ الْأَوَّلِ، كَمَا فِي غَيْرِ الْمَثْغُورِ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يَسْقُطُ، لِأَنَّ هَذَا هِبَةٌ جَدِيدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا نَنْتَظِرُ الْعَوْدَ، بَلْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ فِي الْحَالِ. وَقِيلَ: يُرَاجِعُ أَهْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يَعُودُ إِلَى مُدَّةِ كَذَا، انْتَظَرَ تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ الْمَثْغُورِ، وَلَوِ الْتَأَمَتِ الْمُوضِحَةُ وَالْتَحَمَتْ، لَمْ تَسْقُطِ الدِّيَةُ وَلَا الْقِصَاصُ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهَا الِالْتِحَامُ، وَكَذَا حُكْمُ الْجَائِفَةِ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» وَجْهٌ أَنَّهَا إِذَا الْتَحَمَتْ زَالَ حُكْمُهَا، وَرَأَى الْإِمَامُ تَخْصِيصَ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى ضَعْفِهِ بِمَا إِذَا نَفَذَتِ الْحَدِيدَةُ إِلَى الْجَوْفِ، وَحَصَلَ خَرْقٌ مِنْ غَيْرِ زَوَالِ لَحْمٍ دُونَ مَا إِذَا زَالَ شَيْءٌ، وَنَبَتَ لَحْمٌ جَدِيدٌ، وَرَأَى طَرْدَهُ فِي مِثْلِهَا فِي الْمُوضِحَةِ. وَلَوْ قَطَعَ لِسَانًا فَنَبَتَ، فَفِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلَانِ كَالسِّنِّ. وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّ عَوْدَهُ بَعِيدٌ جِدًّا، فَهُوَ هِبَةٌ مَحْضَةٌ، وَجِنْسُ السَّنِّ مُعْتَادُ الْعَوْدِ، التَّفْرِيعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي عَوْدِ السَّنِّ، فَإِذَا اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، أَوْ أَخَذَ الْأَرْشَ، ثُمَّ نَبَتَتْ سِنُّهُ، فَلَيْسَ لِلْجَانِي قَلْعُهَا. وَهَلْ يَسْتَرِدُّ الْأَرْشَ إِنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَخَذَهُ؟ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. إِنْ قُلْنَا: الْعَائِدُ كَالْأَوَّلِ، اسْتَرَدَّ، وَإِنْ قُلْنَا: هِبَةٌ، فَلَا، وَإِنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ اقْتَصَّ، فَهَلْ يُطَالِبُهُ الْجَانِي بِأَرْشِ السِّنِّ؟ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ، وَقَالَ ابْنُ سَلِمَةَ: لَا يُطَالِبُ هُنَا قَطْعًا لِتَعَذُّرِ اسْتِرْدَادِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَلَوْ تَعَدَّى الْجَانِي، فَقَلَعَ الْعَائِدَ وَقَدِ اقْتُصَّ مِنْهُ، فَإِنْ قُلْنَا: الْعَائِدُ كَالْأَوَّلِ، لَزِمَهُ الْأَرْشُ بِهَذَا الْقَلْعِ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ وَقَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَرْشُ بِالْعَوْدِ فَفِيهِ الْكَلَامُ فِي الْتَّقَاصِّ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ هِبَةً، لَزِمَهُ الْأَرْشُ بِالْقَلْعِ الثَّانِي، وَعَلَى

هَذَا الْقَوْلِ لَوْ لَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُ أَوَّلًا وَأَخَذَ الْأَرْشَ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ لِلْقَلْعِ الثَّانِي. فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اقْتُصَّ لِلْأَوَّلِ وَلَا أُخِذَ الْأَرْشُ، لَزِمَهُ قِصَاصٌ وَأَرْشٌ، أَوْ أَرْشَانِ بِلَا قِصَاصٍ، أَمَّا إِذَا اقْتَصَصْنَا مِنَ الْجَانِي فَعَادَ سِنُّهُ دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْعَائِدُ كَالْأَوَّلِ، فَهَلْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقَلْعُ ثَانِيًا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ قَابَلَ قَلْعًا بِقَلْعٍ فَلَا تُثَنَّى عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، لَكِنْ لَهُ الْأَرْشُ لِخُرُوجِ الْقَلْعِ الْأَوَّلِ عَنْ كَوْنِهِ قِصَاصًا، وَكَأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّ الْجَانِيَ أَفْسَدَ مَنْبَتَهُ، فَيُكَرَّرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَفْسُدَ مَنْبَتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: هِبَةٌ، فَلَا شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِمَا سَبَقَ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ. وَلَوِ اقْتَصَّ، فَعَادَ سِنُّ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعًا، فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِاتِّفَاقِ الْقَوْلَيْنِ. فَرْعٌ. قَلَعَ غَيْرُ مَثْغُورٍ سِنَّ مَثْغُورٍ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ إِنْ شَاءَ، وَيَقْتَصَّ إِنْ شَاءَ، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ شَيْءٌ آخَرُ كَمَا فِي أَخْذِ الشَّلَّاءِ بِالصَّحِيحَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ غَيْرُ الْمَثْغُورِ بَالِغًا، وَإِلَّا فَلَا قِصَاصَ. وَفِي أَمَالِيِّ أَبِي الْفَرَجِ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: إِنْ قَلَعْتَ سِنَّهُ الْآنَ، فَالظَّاهِرُ مِنْهَا الْعَوْدُ، فَاصْبِرْ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مَثْغُورًا، فَإِنِ اسْتَعْجَلَ، أُجِيبَ وَشُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا يَعُودُ. فَرْعٌ. قَلَعَ غَيْرُ مَثْغُورٍ سِنَّ غَيْرَ مَثْغُورٍ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْحَالِ، فَإِنْ نَبَتَتْ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، وَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يَأْخُذُ الْأَرْشَ أَوْ يَقْتَصُّ، فَإِنِ اقْتَصَّ وَلَمْ يَعُدْ سِنُّ الْجَانِي فَذَاكَ، وَإِنْ عَادَتْ، فَهَلْ يُقْلَعُ ثَانِيًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، قَالَهُ الْإِمَامُ.

التَّفَاوُتُ الثَّالِثُ فِي الْعَدَدِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: قَطَعَ يَدًا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ، وَيَدُ الْجَانِي نَاقِصَةٌ أُصْبُعًا، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ دِيَةَ الْيَدِ، وَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ الْيَدَ النَّاقِصَةَ، وَيَأْخُذَ الْأَرْشَ لِلْأُصْبُعِ. وَلَوْ كَانَتْ نَاقِصَةٌ أُصْبُعَيْنِ، فَلَهُ قَطْعُ يَدِهِ وَأَرْشُ أُصْبُعَيْنِ، وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَيْنِ وَلَهُ أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَطْعُ الْمَوْجُودَةِ، وَأَرْشُ الْمَفْقُودَةِ. وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا صَحِيحَةً، وَتِلْكَ الْأُصْبُعُ مِنْهُ شَلَّاءُ، فَأَرَادَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَطْعَ الشَّلَّاءِ وَأَخْذَ شَيْءٍ لِلشَّلَلِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ. الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ النَّقْصُ فِي يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، بِأَنْ قَطَعَ السَّلِيمُ نَاقِصَةً بِأُصْبُعٍ، فَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَطْعُ الْيَدِ الْكَامِلَةِ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَلْتَقِطَ الْأَصَابِعَ الْأَرْبَعَ، وَلَهُ أَخْذُ دِيَتِهَا، فَإِنِ الْتَقَطَهَا فَقَدْ تَرَكَ كَفَّ الْجَانِي مَعَ قَطْعِهِ كَفَّهُ، فَلَهُ حُكُومَةُ خُمُسِ الْكَفِّ، وَهُوَ مَا يُقَابِلُ مَنْبَتَ أُصْبُعِهِ الْبَاقِيَةِ. وَهَلْ لَهُ حُكُومَةُ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، بَلْ تَدْخُلُ تَحْتَ قِصَاصِ الْأَصَابِعِ، كَمَا تَدْخُلُ تَحْتَ دِيَتِهَا، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا كَانَتْ يَدُ الْجَانِي زَائِدَةً بِأُصْبُعٍ، وَيَدُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُعْتَدِلَةٌ، فَلَقَطَ الْخُمُسَ لِتَعَذُّرِ الْقَطْعِ مِنَ الْكُوعِ بِسَبَبِ الزَّائِدَةِ. وَهَلْ تَدْخُلُ حُكُومَةُ الْكَفِّ تَحْتَ قِصَاصِ الْخُمُسِ وَلَوْ أَخَذَ دِيَةَ الْأَصَابِعِ الْأَرْبَعِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، دَخَلَتْ حُكُومَةُ مَنَابِتِهَا فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لَا تَدْخُلُ، بَلْ تَخْتَصُّ قُوَّةُ الِاسْتِتْبَاعِ بِالْكُلِّ، وَأَمَّا حُكُومَةُ الْخُمُسِ الْبَاقِي مِنَ الْكَفِّ، فَتَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّ كُلَّ أُصْبُعٍ تَسْتَتْبِعُ الْكَفَّ كَمَا تَسْتَتْبِعُهَا كُلُّ الْأَصَابِعِ.

الثَّالِثَةُ: إِذَا قَطَعَ كَفًّا لَا أَصَابِعَ لَهَا، فَلَا قِصَاصَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَفُّ الْقَاطِعِ مِثْلَهَا، وَلَوْ قَطَعَ صَاحِبُ هَذِهِ الْكَفِّ يَدَ سَلِيمٍ، فَلَهُ قَطْعُ كَفِّهِ وَدِيَةُ الْأَصَابِعِ، حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ عَنِ النَّصِّ. الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ عَلَى يَدِ الْجَانِي أُصْبُعَانِ شَلَّاوَانِ، وَيَدُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ سَلِيمَةٌ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَقَنِعَ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ لَقَطَ الثَّلَاثَ السَّلِيمَةَ وَأَخَذَ دِيَةَ أُصْبُعَيْنِ، وَفِي اسْتِتْبَاعِ الثَّلَاثِ حُكُومَةُ مَنَابِتِهَا وَاسْتِتْبَاعِ دِيَةِ الْأُصْبُعَيْنِ حُكُومَةُ مَنْبَتِهِمَا الْخِلَافَانِ السَّابِقَانِ. وَلَوْ كَانَتْ يَدُ الْجَانِي سَلِيمَةً، وَيَدُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِيهَا أُصْبُعَانِ شَلَّاوَانِ، لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ مِنَ الْكُوعِ، وَلَكِنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَطْعُ الثَّلَاثِ السَّلِيمَةِ وَحُكُومَةُ الشَّلَّاوَيْنِ. وَيَعُودُ الْخِلَافُ فِي اسْتِتْبَاعِ الْقِصَاصِ فِي الثَّلَاثِ حُكُومَةُ مَنَابِتِهَا، وَفِي اسْتِتْبَاعِ حُكُومَةِ الشَّلَّاوَيْنِ حُكُومَةُ مَنْبَتِهِمَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ وَالْبَغَوِيِّ: الْمَنْعُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ. الْخَامِسَةُ: قَطَعَ كَفًّا لَهَا أُصْبُعٌ فَقَطْ خَطَأً، وَجَبَتْ دِيَةُ تِلْكَ الْأُصْبُعِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَدْخُلُ حُكُومَةُ مَنْبَتِهَا فِيهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ حُكُومَةُ بَاقِي الْكَفِّ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْمَحْكِيِّ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: لَا حُكُومَةَ أَصْلًا. فَرْعٌ. فِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ أَصَابِعُ إِحْدَى يَدَيْهِ وَكَفُّهَا أَقْصَرُ مِنَ الْأُخْرَى، فَلَا قِصَاصَ فِي الْقَصِيرَةِ، لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ، وَفِيهَا دِيَةٌ نَاقِصَةٌ بِحُكُومَةٍ. السَّادِسَةُ: سَبَقَ أَنَّ الزَّائِدَ مِنَ الْأَعْضَاءِ يُقْطَعُ بِالزَّائِدِ إِذَا اتَّحَدَ الْمَحَلُّ، وَذَكَرْنَا خِلَافًا فِي اشْتِرَاطِ التَّسَاوِي فِي الْحَجْمِ، فَلَوْ فُرِضَ شَخْصَانِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، قَطَعَ أَحَدُهُمَا زَائِدَةَ الْآخَرِ، اقْتَصَّ

مِنْهُ إِذَا حَصَلَ شَرْطُهُ، وَكَذَا لَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَ الْآخَرِ، وَلَوْ قَطَعَ الْمُعْتَدِلُ يَدًا لَهَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، قُطِعَ، وَأُخِذَ مِنْهُ حُكُومَةٌ لِلزَّائِدَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَعْلُومَةٌ بِعَيْنِهَا أَمْ لَا. وَإِنْ شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَخَذَ دِيَةَ الْيَدِ وَحُكُومَةَ الزَّائِدَةِ، وَلَوْ قَطَعَ صَاحِبُ الْأَصَابِعِ السِّتِّ يَدَ مُعْتَدِلٍ، لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ مِنَ الْكُوعِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزَّائِدَةُ نَابِتَةً فِي الْأَصَابِعِ وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَقْطُ الْخَمْسِ الْأَصْلِيَّاتِ. وَيَعُودُ الْوَجْهَانِ فِي اسْتِتْبَاعِ قِصَاصِهَا حُكُومَةَ الْكَفِّ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّائِدَةُ بِجَنْبِ أَصْلِيَّةٍ بِحَيْثُ لَوْ قُطِعَتِ الْأَصْلِيَّةُ سَقَطَتِ الزَّائِدَةُ، لَمْ تُقْطَعْ، بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى قَطْعِ الْأَرْبَعِ وَيَأْخُذُ دِيَةَ الْخَامِسَةِ. وَلَوْ كَانَتْ نَابِتَةٌ عَلَى أُصْبُعٍ وَأَمْكَنَ قَطْعُ بَعْضِهَا مَعَ الْأَرْبَعِ بِأَنْ كَانَتْ نَابِتَةٌ عَلَى الْأُنْمُلَةِ الْوُسْطَى مِنْ أَنْمُلِهِ، قُطِعَتِ الْأُنْمُلَةُ الْعُلْيَا مَعَ الْأَرْبَعِ، وَأَخَذَ ثُلُثَا دِيَةِ أُصْبُعٍ، هَذَا إِذَا كَانَتْ فِي السِّتِّ زَائِدَةٌ مَعْلُومَةٌ بِعَيْنِهَا. أَمَّا إِذَا كَانَتِ السِّتُّ كُلُّهَا أَصْلِيَّةٌ، بِأَنِ انْقَسَمَتِ الْقُوَّةُ فِي السِّتِّ عَلَى سِتَّةِ أَجْزَاءٍ مُتَسَاوِيَةٍ فِي الْقُوَّةِ وَالْعَمَلِ بَدَلًا عَنِ الْقِسْمَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَقِطَ مِنْهَا خَمْسًا عَلَى الْوَلَاءِ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ، هَكَذَا أُطْلِقَ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ لَمْ تَكُنِ السِّتُّ عَلَى تَقْطِيعِ الْخَمْسِ الْمَعْهُودَةِ فَهَذَا قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى تَقْطِيعِهَا، فَمَعْلُومٌ أَنَّ صُورَةَ الْإِبْهَامِ مِنَ الْخَمْسِ تُبَايِنُ صُورَةَ بَاقِيهَا، فَإِنْ كَانَتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْإِبْهَامَ عَلَى طَرَفٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْقُطَ الْخَمْسَ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَإِنْ وَقَعَتْ ثَانِيَةً وَكَانَتِ الَّتِي تَلِيهَا عَلَى الطَّرَفِ كَالْمُلْحَقَةِ بِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْقُطَ الْخَمْسَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَخْتَلِجُ فِي النَّفْسِ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لَهُ لَقْطُ الْخَمْسِ لِوُقُوعِ السِّتِّ عَلَى نَظْمٍ يُخَالِفُ نَظْمَ الْخَمْسَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَسْتَكْمِلُ حَقَّهُ بِقَطْعِ الْخَمْسِ لِأَنَّهَا خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْيَدِ، فَلَهُ مَعَ ذَلِكَ سُدُسُ الدِّيَةِ، لَكِنْ يُحَطُّ مِنَ السُّدُسِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْخُمُسَ الْمَلْقُوطَةَ وَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، فَهِيَ فِي الصُّورَةِ كَالْخَمْسِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْطُوطِ إِلَى

رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ، وَلَوْ بَادَرَ الْمَقْطُوعُ فَقَطَعَ السِّتَّ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُعَزَّرُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قِيلَ: يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِزِيَادَةِ الصُّورَةِ، لَمْ يَبْعُدْ، وَلَوْ قَطَعَ صَاحِبُ السِّتِّ أُصْبُعًا لِمُعْتَدِلٍ، قُطِعَتْ أُصْبُعُهُ، وَأَخَذَ مَا بَيْنَ خُمُسِ دِيَةِ الْيَدِ وَسُدُسِهَا، وَهُوَ بَعِيرٌ وَثُلُثَا بِعِيرٍ، لِأَنَّ خُمُسُهَا عَشَرَةٌ، وَسُدُسُهَا ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ. وَقِيَاسُ مَا سَبَقَ أَنْ يُقَالَ: يُحَطُّ مِنْ قَدْرِ التَّفَاوُتِ شَيْءٌ، وَلَوْ قَطَعَ مُعْتَدِلُ الْيَدِ الْيَدَ الْمَوْصُوفَةَ، قُطِعَتْ يَدُهُ، وَأُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ لِلزِّيَادَةِ الْمُشَاهَدَةِ. كَذَا حَكَاهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا، لَمْ يَقْتَصَّ، لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ خُمُسِ سُدُسٍ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ سُدُسَ دِيَةِ الْيَدِ، وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَيْنِ، قُطِعَ مِنْهُ أُصْبُعٌ، وَأَخَذَ مَا بَيْنَ ثُلُثِ دِيَةِ الْيَدِ وَخُمُسِهَا، وَهُوَ سِتَّةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثَانِ. وَلَوْ قَطَعَ ثَلَاثًا، قُطِعَ مِنْهُ أُصْبُعَانِ وَأَخَذَ مَا بَيْنَ نِصْفِ دِيَةِ الْيَدِ وَخُمْسَيْهَا، وَهُوَ خَمْسَةُ أَبْعِرَةً، وَلَوْ بَادَرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ بِأُصْبُعِهِ الْمَقْطُوعَةِ أُصْبُعًا مِنْهَا قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ كَمَنْ قَطَعَ يَدًا شَلَّاءَ فَابْتَدَرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ بِهَا الصَّحِيحَةَ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذَا قَطَعَ صَاحِبُ السِّتِّ يَدَ مُعْتَدِلٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْبَصَرِ: نَعْلَمُ أَنَّ وَاحِدَةً مِنَ السِّتِّ زَائِدَةٌ، وَهِيَ مُلْتَبِسَةٌ، فَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَطْعُ الْخَمْسِ، لِأَنَّ الزَّائِدَةَ لَا تُقْطَعُ بِالْأَصْلِيَّةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَحَلِّ، وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَكُونَ الزَّائِدَةُ هِيَ إِحْدَى الْمُسْتَوْفِيَاتِ. وَلَوْ بَادَرَ وَقَطَعَ خَمْسًا، عُزِّرَ، وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمَقْطُوعَاتِ أَصْلِيَّاتٌ، وَإِنْ بَادَرَ وَقَطَعَ الْكُلَّ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لِلزَّائِدَةِ، وَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْبَصَرِ: لَا نَدْرِي أَهِيَ كُلُّهَا أَصْلِيَّاتٌ، أَمْ خَمْسٌ مِنْهَا أَصْلِيَّةٌ، وَوَاحِدَةٌ زَائِدَةٌ، فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا. فَلَوْ قَطَعَ جَمِيعَهَا أَوْ خَمْسًا مِنْهَا، عُزِّرَ، وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَلَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنْ قَطَعَ الْكُلَّ، احْتَمَلَ أَنَّهُنَّ أَصْلِيَّاتٌ، وَإِنْ قَطَعَ خَمْسًا احْتَمَلَ أَنَّ الْبَاقِيَةَ زَائِدَةٌ. الثَّامِنَةُ: فِي الزَّائِدَةِ مِنَ الْأَنَامِلِ قَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَادَةَ

أَنَّ كُلَّ أُصْبُعٍ سِوَى الْإِبْهَامِ مُنْقَسِمَةٌ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ وَهِيَ الْأَنَامِلُ الثَّلَاثُ، فَلَوِ انْقَسَمَتْ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ أُصْبُعٌ بِأَرْبَعِ أَنَامِلٍ، فَلَهَا حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْأَرْبَعُ أَصْلِيَّةً عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَرِ، وَقَدْ يُسْتَدَّلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُفْرِطَةِ الطُّولِ، وَتُنَاسِبُ بَاقِيَ الْأَصَابِعِ، فَإِذَا قَطَعَ صَاحِبُهَا أُنْمُلَةً لِمُعْتَدِلٍ، قُطِعَتْ مِنْهُ أُنْمُلَةٌ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ بِهَا حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ أُنْمُلَتَهُ ثُلُثُ الْأُصْبُعِ، وَهَذِهِ رُبُعُهَا، فَيُطَالِبُ بِمَا بَيْنَ الرُّبُعِ وَالثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ أُصْبُعٍ، وَهُوَ خَمْسُ أَسْدَاسِ بَعِيرٍ. وَإِنْ قَطَعَ أُنْمُلَتَيْنِ، قَطَعْنَا مِنْهُ أُنْمُلَتَيْنِ، وَطَالَبْنَاهُ بِمَا بَيْنَ نِصْفِ دِيَةِ الْأُصْبُعِ وَثُلُثِهَا، وَهُوَ بَعِيرٌ وَثُلُثَا بِعِيرٍ، وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَ مُعْتَدِلٍ بِتَمَامِهَا، فَهَلْ يُقْطَعُ أُصْبُعُهُ بِهَا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: الْمَنْعُ، فَعَلَى هَذَا يُقْطَعُ ثَلَاثُ أَنَامِلٍ هِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ حِصَّتِهِ، وَيُطَالَبُ بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَ جَمِيعِ الدِّيَةِ، وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، وَهُوَ بَعِيرَانِ وَنِصْفٌ، وَلَوْ بَادَرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ أُصْبُعَهُ، عُزِّرَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَطَعَ مُعْتَدِلٌ أُنْمُلَةَ مَنْ لَهُ هَذِهِ الْأُصْبُعُ، لَمْ تُقْطَعْ أُنْمُلَتُهُ، لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ رُبُعُ دِيَةِ أُصْبُعٍ، وَلَوْ قَطَعَ أُنْمُلَتَيْنِ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْهُ أُنْمُلَةً وَيَأْخُذَ بَعِيرًا وَثُلُثَيْنِ، وَلَوْ قَطَعَ ثَلَاثَ أَنَامِلَ، فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ أُنْمُلَتَيْنِ وَيَأْخُذَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ بَعِيرٍ، وَلَوْ قَطَعَ الْأُصْبُعَ بِتَمَامِهَا، قُطِعَتْ أُصْبُعُهُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالرُّويَانِيُّ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأُنْمُلَةُ الْعُلْيَا زَائِدَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، فَإِنَّ قَطَعَ صَاحِبُهَا أُصْبُعَ مُعْتَدِلٍ، لَمْ يُقْطَعْ أُصْبُعُهُ، لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ، وَلَوْ قَطَعَهَا مُعْتَدِلٌ، قُطِعَتْ أُصْبُعُهُ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ حُكُومَةٌ لِلزَّائِدَةِ، وَتَخْتَلِفُ الْحُكُومَةُ بِكَوْنِ الزَّائِدَةِ عَامِلَةٌ أَمْ لَا، وَلَوْ قَطَعَ الْمُعْتَدِلُ أُنْمُلَةً مِنْهَا، فَلَا قِصَاصَ، وَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ، وَلَوْ قَطَعَ

أُنْمُلَتَيْنِ، قُطِعَ مِنْهُ أُنْمُلَةٌ وَأُخِذَتِ الْحُكُومَةُ لِلزَّائِدَةِ، وَلَوْ قَطَعَ ثَلَاثًا، قُطِعَتْ مِنْهُ أُنْمُلَتَانِ وَأُخِذَتِ الْحُكُومَةُ. فَرْعٌ. لَوْ كَانَ لِأُنْمُلَةٍ طَرَفَانِ، أَحَدُهُمَا أَصْلِيٌّ عَامِلٌ، وَالْآخَرُ زَائِدٌ غَيْرُ عَامِلٍ، فَفِي الْأَصْلِ الْقِصَاصُ وَالْأَرْشُ الْكَامِلُ، وَفِي الْآخَرِ الْحُكُومَةُ. وَلَوْ قَطَعَ صَاحِبُهَا أُنْمُلَةَ مُعْتَدِلٍ، قُطِعَ مِنْهُ الْأَصْلِيُّ إِنْ أَمْكَنَ إِفْرَادُهُ، وَإِنْ كَانَا عَامِلَيْنِ مُشْتَدَّيْنِ، قَالَ الْإِمَامُ: الْقَوْلُ فِيهِمَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ فِي الْأَصَابِعِ السِّتِّ الْأَصْلَيَّاتِ، وَإِنْ قَطَعَ الْمُعْتَدِلُ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ، لَمْ تُقْطَعْ أُنْمُلَتُهُ، وَإِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا، قُطِعَتْ أُنْمُلَتُهُ، وَلَزِمَهُ لِزِيَادَةِ الْخِلْقَةِ شَيْءٌ. وَإِنْ قَطَعَ صَاحِبُهَا أُنْمُلَةَ مُعْتَدِلٍ، لَمْ يُقْطَعْ طَرَفَا أُنْمُلَتِهِ، بَلْ يَخْتَارُ الْمَقْطُوعُ أَحَدَهُمَا فَيَقْطَعُهُ، وَيَأْخُذُ مَعَهُ نِصْفَ الْأَرْشِ، وَيَحُطُّ مِنْهُ شَيْءٌ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا نَبَتَ طَرَفَا تِلْكَ الْأُنْمُلَةِ عَلَى رَأْسِ الْأُنْمُلَةِ الْوُسْطَى. فَلَوْ لَقِيَ رَأْسَهَا عَظْمٌ، ثُمَّ انْشَعَبَ الطَّرَفَانِ مِنْ ذَلِكَ الْعَظْمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَفْصِلٌ بَيْنَ الْعَظْمِ وَبَيْنَهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْضِعُ الْقِصَاصِ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ طَرَفٍ مَفْصِلٌ هُنَاكَ، فَالْعَظْمُ الْحَائِلُ بَيْنَ الشُّعْبَتَيْنِ وَالْأُنْمُلَةِ الْوُسْطَى أُنْمُلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أُصْبُعٌ لَهَا أَرْبَعُ أَنَامِلٍ، وَالْعُلْيَا مِنْهَا ذَاتُ طَرَفَيْنِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى السَّاعِدِ كَفَّانِ، أَوْ عَلَى السَّاقِ قَدَمَانِ، فَحُكْمُهُ كَالْأُنْمُلَتَيْنِ عَلَى رَأْسِ أُصْبُعٍ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: لَوْ كَانَتْ أُصْبُعٌ لَيْسَ لَهَا إِلَّا أُنْمُلَتَانِ، وَهِيَ تُنَاسِبُ سَائِرُ الْأَصَابِعِ فِي الطُّولِ، فَلِلْإِمَامِ فِيهِ احْتِمَالَانِ. أَحَدُهُمَا: لَيْسَتْ أُصْبُعًا تَامَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ أُنْمُلَتَانِ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا أُصْبُعٌ تَامَّةٌ، لَكِنَّهَا ذَاتُ قِسْمَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهَا أَرْبَعُ أَنَامِلَ كَانَتْ أُصْبُعًا ذَاتَ أَرْبَعِ أَقْسَامٍ. وَلَوْ وُجِدَتْ أُصْبُعٌ لَا مَفْصِلَ لَهَا، قَالَ الْإِمَامُ: الْأَرْجَحُ

عِنْدِي نُقْصَانُ شَيْءٍ مِنَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الِانْثِنَاءَ إِذَا زَالَ، سَقَطَ مُعْظَمُ مَنَافِعِ الْأُصْبُعِ، وَقَدْ يَنْجَرُّ هَذَا إِلَى أَنْ لَا تُقْطَعَ أُصْبُعُ السَّلِيمِ بِهَا. الْعَاشِرَةُ: سَلِيمُ الْيَدِ قَطَعَ الْأُنْمُلَةَ الْوُسْطَى مِنْ فَاقِدِ الْعُلْيَا، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاقْتِصَاصِ مَعَ بَقَاءِ الْعُلْيَا، فَإِنْ سَقَطَتْ بِآفَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ، اقْتُصَّ مِنَ الْوُسْطَى. وَلِلْقَفَّالِ احْتِمَالٌ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ، وَمِثْلُهُ لَوْ قَطَعَ السَّلِيمُ كَفًّا لَا أَصَابِعَ لَهَا، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ بَادَرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَقَطَعَ الْوُسْطَى مَعَ الْعُلْيَا، فَقَدْ تَعَدَّى، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْعُلْيَا، وَلَوْ أَرَادَ طَلَبَ أَرْشِ الْوُسْطَى فِي الْحَالِ لِلْحَيْلُولَةِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ. وَلَوْ كَانَتِ الْعُلْيَا مُسْتَحِقَّةٌ الْقَطْعَ قِصَاصًا، فَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا طَلَبُ أَرْشِ الْوُسْطَى مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَهُ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مُرْتَقَبٌ، وَمِنْ صُوَرِ اسْتِحْقَاقِ الْعُلْيَا بِالْقِصَاصِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَهُوَ أَنْ تُقْطَعَ الْأُنْمُلَةُ الْعُلْيَا مِنْ رَجُلٍ، وَالْوُسْطَى مِنْ آخَرَ فَاقِدٍ لِلْعُلْيَا، فَلِصَاحِبِ الْعُلْيَا الْقِصَاصُ فِيهَا أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَ قَطْعُهُ مُتَأَخِّرًا، فَإِنْ طَلَبَ الْقِصَاصَ، اقْتَصَّ، وَيُمَكَّنُ مُسْتَحِقُّ الْوُسْطَى مِنِ اسْتِيفَائِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّوسِيُّ: وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى وَضْعِ الْحَدِيدَةِ عَلَى مَفْصِلِ الْوُسْطَى وَاسْتَوْفَيَا الْأُنْمُلَتَيْنِ بِقَطْعَةٍ وَاحِدَةٍ، جَازَ، وَقَدْ هَوَّنَّا الْأَمْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ صَاحِبُ الْعُلْيَا الْقِصَاصَ، صَبَرَ صَاحِبُ الْوُسْطَى أَوْ عَفَا. فَرْعٌ. قَطَعَ الْأُنْمُلَةَ الْعُلْيَا لِرَجُلٍ، وَالْعُلْيَا وَالْوُسْطَى لِغَيْرِهِ، نُظِرَ، إِنْ سَبَقَ قَطْعُ الْأُنْمُلَةِ، فَلِصَاحِبِهَا الِاقْتِصَاصُ فِيهَا، وَيَتَخَيَّرُ الْآخَرُ بَيْنَ أَنْ تُقْطَعَ الْوُسْطَى، وَيَأْخُذَ دِيَةَ الْعُلْيَا، وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ وَيَأْخُذَ دِيَتَهُمَا، وَلَوْ بَادَرَ صَاحِبُ الْأُنْمُلَتَيْنِ فَقَطَعَهُمَا، كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ، وَيَأْخُذُ الْآخَرُ دِيَةَ الْعُلْيَا مِنَ الْجَانِي.

باب

الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي وَقْتِ الِاقْتِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ. الْمُسْتَحَبُّ فِي قِصَاصِ الْجُرُوحِ وَالْأَطْرَافِ التَّأْخِيرُ إِلَى الِانْدِمَالِ، فَلَوْ طَلَبَ الْمُسْتَحِقُّ الِاقْتِصَاصَ فِي الْحَالِ، مُكِّنَ مِنْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي تِلْكَ الْجِرَاحَةِ ثَابِتٌ وَإِنْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ، أَوْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي الْجُرْحِ. وَأَمَّا الْمَالُ، فَلَا يَتَقَدَّرُ، فَقَدْ تَعُودُ الدِّيَتَانِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرَّجْلَيْنِ إِلَى وَاحِدَةٍ بِالسِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ، وَقَدْ يُشَارِكُهُ جَمَاعَةٌ، فَيَقِلُّ وَاجِبُهُ، وَقِيلَ: فِي التَّعْجِيلِ فِي الْمَالِ وَالْقِصَاصِ قَوْلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُعَجِّلُ الْمَالَ، فَفِي قَدْرِ الْمُعَجَّلِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تَعَجُّلُ أُرُوشِ الْجِرَاحَاتِ وَدِيَاتِ الْأَطْرَافِ وَإِنْ كَثُرَتْ، فَإِنْ حَصَلَتْ سِرَايَةٌ، اسْتَرَدَّ، وَالثَّانِي: لَا يُعَجِّلُ إِلَّا دِيَةَ نَفْسٍ، لِاحْتِمَالِ السِّرَايَةِ. قُلْتُ: الثَّانِي الْأَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَابٌ اخْتِلَافُ الْجَانِي وَمُسْتَحِقِّ الدَّمِ. فِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: قَدَّ مَلْفُوفًا فِي ثَوْبٍ نِصْفَيْنِ وَقَالَ: كَانَ مَيِّتًا، وَقَالَ الْوَلِيُّ: كَانَ حَيًّا، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْوَلِيُّ، وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلْفُوفًا عَلَى هَيْئَةِ التَّكْفِينِ، أَوْ فِي ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِيمَا لَوْ هَدَمَ عَلَيْهِ بَيْتًا وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا، وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: الْمُصَدَّقُ الْوَلِيُّ، أَوِ الْجَانِي، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِحَيَاتِهِ وَيَعْمَلَ بِهَا، وَلِلشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا بِالْحَيَاةِ إِذَا كَانُوا رَأَوْهُ يَتَلَفَّفُ فِي الثَّوْبِ، وَيَدْخُلُ الْبَيْتَ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنُوا حَيَاتَهُ حَالَةَ الْقَدِّ وَالِانْهِدَامِ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَدْخُلُ الْبَيْتَ وَيَتَلَفَّفُ فِي الثَّوْبِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ.

قُلْتُ: وَإِذَا صَدَّقْنَا الْوَلِيَّ بِلَا بَيِّنَةٍ، فَالْوَاجِبُ الدِّيَةُ دُونَ الْقِصَاصِ، ذَكَرَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: قَتَلَ شَخْصًا، وَادَّعَى رِقَّهُ، وَقَالَ قَرِيبُهُ: كَانَ حُرًّا، فَالنَّصُّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَرِيبِ، وَنَصَّ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى رِقَّ الْمَقْذُوفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ فَقِيلَ بِظَاهِرِ النَّصَّيْنِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ فِيهِمَا قَوْلَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا: تَصْدِيقُ الْقَرِيبِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ وَالظَّاهِرَ الْحُرَّيَّةَ، وَلِهَذَا حَكَمْنَا بِحُرِّيَّةِ اللَّقِيطِ الْمَجْهُولِ. الثَّالِثَةُ: قَطَعَ طَرَفَهُ، وَادَّعَى نَقْصَهُ بِشَلَلٍ فِي الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ أَوِ الذَّكَرِ، أَوْ فَقْدِ أُصْبُعٍ أَوْ بِخَرَسٍ أَوْ عَمًى، وَأَنْكَرَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَفِيهِ نُصُوصٌ وَطُرُقٌ مُخْتَصَرُهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: يُصَدَّقُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: الْجَانِي، وَالثَّالِثُ: يُصَدَّقُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ إِنِ ادَّعَى السَّلَامَةَ مِنَ الْأَصْلِ، وَإِنِ ادَّعَى زَوَالَ النَّقْصِ بَعْدَ وُجُودِهِ صُدِّقَ الْجَانِي. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ يُصَدَّقُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ إِلَّا فِي الْعُضْوِ الظَّاهِرِ عِنْدَ إِنْكَارِ أَصْلِ السَّلَامَةِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْعُضْوِ الْبَاطِنِ مَا يُعْتَادُ سَتْرُهُ مُرُوءَةً، وَقِيلَ: مَا يَجِبُ وَهُوَ الْعَوْرَةُ، وَبِالظَّاهِرِ مَا سِوَاهُ، وَإِذَا صَدَّقْنَا الْجَانِيَ، احْتَاجَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ إِلَى بَيِّنَةٍ بِالسَّلَامَةِ. ثُمَّ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَكْفِي قَوْلُ الشُّهُودِ: كَانَ صَحِيحًا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَعَرُّضُهُمْ لِوَقْتِ الْجِنَايَةِ، وَقِيلَ: إِنْ شَهِدُوا بِالسَّلَامَةِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ، كَفَى وَلَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى يَمِينٍ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ سَلِيمًا، احْتَاجَ مَعَهَا إِلَى الْيَمِينِ لِجَوَازِ حُدُوثِ النَّقْصِ. ثُمَّ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِسَلَامَةِ الْعَيْنِ إِذَا رَأَوْهُ يُتْبِعُ بَصَرَهُ الشَّيْءَ زَمَنًا طَوِيلًا وَيَتَوَقَّى الْمَهَالِكَ، وَلَا يَجُوزُ بِأَنْ يَرَوْهُ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ زَمَنًا يَسِيرًا، لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مِنَ الْأَعْمَى. وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِسَلَامَةِ الْيَدِ وَالذَّكَرِ بِرُؤْيَةِ الِانْقِبَاضِ وَالِانْبِسَاطِ.

فَرْعٌ. إِذَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْعُضْوِ، فَقِيلَ بِإِطْلَاقِ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمُصَدَّقَ أَيُّهُمَا؟ وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ هَذَا، وَقَالَ: مَنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْعُضْوِ، أَنْكَرَ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ، فَيُقْطَعُ بِتَصْدِيقِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إِذَا اخْتَلَفَا فِي صِحَّتِهِ، وَمِنْهُ مَا إِذَا قَطَعَ كَفَّهُ. وَاخْتَلَفَا فِي نَقْصِ أُصْبُعٍ، وَلَيْسَ مِنْهُ مَا إِذَا ادَّعَى الْمَقْطُوعُ قَطْعَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَقَالَ الْجَانِي: لَمْ أَقْطَعْ إِلَّا أَحَدَهُمَا. الرَّابِعَةُ: قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَمَاتَ، فَقَالَ الْجَانِي: مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَعَلَيَّ دِيَةٌ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: بَلْ مَاتَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَيْكَ دِيَتَانِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الِانْدِمَالُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لِقَصَرِهَا كَيَوْمٍ وَيَوْمَيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي بِلَا يَمِينٍ. وَقِيلَ: بِيَمِينٍ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِعَارِضٍ، كَحَيَّةٍ وَسُمٍّ مُذَفَّفٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الِانْدِمَالِ فَقَطْ، فَلَا يُنْظَرُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَ الِانْدِمَالُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَلِيِّ بِيَمِينِهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: إِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَبْقَى الْجِرَاحَةُ فِيهَا غَيْرَ مُنْدَمِلَةٍ، صَدَّقَ الْوَلِيَّ بِلَا يَمِينٍ، وَإِلَّا فَيَمِينٌ، قَطَعَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرُّويَانِيُّ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ احْتِمَالُ الِانْدِمَالِ مَعَ إِمْكَانِهِ بَعِيدًا، صُدِّقَ الْجَانِي بِيَمِينِهِ، وَإِلَّا فَالْوَلِيُّ، وَادَّعَى الْإِمَامُ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّ زَمَنِ الِانْدِمَالِ، صُدِّقَ الْجَانِي، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ. وَلَوْ قَالَ الْجَانِي: مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، أَوْ قَتَلْتُهُ أَنَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: بَلْ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ، بِأَنْ قَالَ: قَتَلَ نَفْسَهُ، أَوْ قَتَلَهُ آخَرُ، أَوْ شَرِبَ سُمًّا مُوحِيًا، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوَلِيُّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الدِّيَتَيْنِ بِالْجِنَايَتَيْنِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ السَّبَبِ الْآخَرِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ الْوَلِيُّ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِ إِنْ قَصُرَ الزَّمَانُ

وَلَمْ يُمْكِنْ فِيهِ الِانْدِمَالُ، فَإِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ صَدَّقْنَاهُ بِيَمِينِهِ وَلَمْ نُحْوِجْهُ إِلَى بَيِّنَةٍ، قَبْلَ قَوْلِهِ، وَحَلَفَ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَإِنْ لَمْ نُصَدِّقْهُ وَأَحْوَجْنَاهُ إِلَى الْبَيِّنَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ لِتَصَوُّرِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَبْعُدُ طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الِانْدِمَالُ، وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ قَتَلَهُ، لَكِنْ قَالَ: قَتَلْتُهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَيَّ دِيَةٌ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: بَلْ بَعْدَهُ، فَعَلَيْكَ ثَلَاثُ دِيَاتٍ، وَالزَّمَانُ مُحْتَمِلٌ لِلِانْدِمَالِ، صُدِّقَ الْوَلِيُّ فِي بَقَاءِ الدِّيَتَيْنِ، وَالْجَانِي فِي نَفْيِ الثَّالِثَةِ، وَيَجِيءُ وَجْهٌ أَنَّهُ يُصَدَّقُ الْجَانِي مُطْلَقًا. فَرْعٌ. لَوْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ وَمَاتَ، فَقَالَ الْجَانِي: مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَعَلَيَّ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَعَلَيْكَ دِيَةٌ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوَلِيُّ، وَلَوْ قَالَ الْجَانِي: مَاتَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ فَعَلَيَّ نِصْفُ دِيَةٍ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، وَالزَّمَنُ مُحْتَمِلٌ لِلِانْدِمَالِ، فَالْمُصَدَّقُ الْجَانِي عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّ زَمَنِ الْإِمْكَانِ، فَالْمُصَدَّقُ الْوَلِيُّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمُضِيِّ، وَلَوْ قَتَلَهُ الْجَانِي بَعْدَ الْقَطْعِ، وَقَالَ: قَتَلْتُهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَيَّ دِيَةٌ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: بَعْدَهُ، فَعَلَيْكَ دِيَةٌ وَنِصْفٌ، فَالْمُصَدَّقُ الْجَانِي. فَرْعٌ. جَرَحَهُ بِقَطْعِ يَدٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَمَاتَ، فَقَالَ الْجَانِي: حَزَّ آخَرُ رَقَبَتَهُ، فَلَيْسَ عَلَيَّ قِصَاصُ النَّفْسِ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: بَلْ مَاتَ بِسِرَايَةِ جُرْحِكَ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوَلِيُّ، وَبِهِ قَطَعَ الدَّارَكِيُّ. وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، وَقَالَ الْجَانِي: مَاتَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَكَانَ الظَّاهِرُ الِانْدِمَالُ، صُدِّقَ الْجَانِي بِيَمِينِهِ، وَإِنْ قَصُرَتِ الْمُدَّةُ، وَبَعُدَ احْتِمَالِ الِانْدِمَالِ، فَالْمُصَدَّقُ الْوَلِيُّ، وَقِيلَ: فِي الْمُصَدَّقِ قَوْلَانِ مُطْلَقًا مَتَى كَانْتِ الْمُدَّةُ مُحْتَمِلَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَحْتَمِلِ الْمُدَّةُ

الِانْدِمَالَ، صُدِّقَ الْوَلِيُّ بِلَا يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ تَحْتَمِلْ بَقَاءَ الْجُرْحِ، صُدِّقَ الْجَانِي بِلَا يَمِينٍ. فَرْعٌ. حَيْثُ صَدَّقْنَا مُدَّعِيَ الِانْدِمَالِ، فَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً بِأَنَّ الْمَجْرُوحَ لَمْ يَزَلْ مُتَأَلِّمًا مِنَ الْجِرَاحَةِ حَتَّى مَاتَ، رَجَعْنَا إِلَى تَصْدِيقِهِ. الْخَامِسَةُ: أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: رَفَعْتُهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا أَرْشٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَلْ بَعْدَهُ، فَعَلَيْكَ أَرْشُ ثَلَاثِ مُوضِحَاتٍ. قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنْ قَصُرَ الزَّمَانُ، صُدِّقَ الْجَانِي بِيَمِينِهِ، وَإِنْ طَالَ، صُدِّقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَلَفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، ثَبَتَ الْأَرْشَانِ، وَلَا يَثْبُتُ الثَّالِثُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ وَجَدْنَا الْحَاجِزَ مُرْتَفِعًا، وَقَالَ الْجَانِي: رَفَعْتُهُ أَنَا، أَوِ ارْتَفَعَ بِالسِّرَايَةِ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَلْ رَفَعَهُ آخَرُ، أَوْ رَفَعْتُهُ أَنَا، فَالظَّاهِرُ تَصْدِيقُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْجُودُ مُوضِحَةً وَاحِدَةً، فَقَالَ الْجَانِي: هَكَذَا أَوْضَحْتُ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَلْ أَوْضَحْتَ مُوضِحَتَيْنِ، وَأَنَا رَفَعْتُ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا، صُدِّقَ الْجَانِي. قُلْتُ: بَابُ الِاخْتِلَافِ وَاسِعٌ وَإِنَّمَا أَشَارَ هُنَا إِلَى مَسَائِلَ مِنْهُ، وَبَاقِيهَا مُفَرَّقٌ فِي مَوَاضِعِهِ، وَمِنْهَا: لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَهُ، فَدَاوَى جُرْحَهُ وَسَقَطَتِ الْكَفُّ، فَقَالَ الْجَانِي: تَآكَلَ بِالدَّوَاءِ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَلْ تَآكَلَ بِسَبَبِ الْقَطْعِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: نَسْأَلُ أَهْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الدَّوَاءُ يَأْكُلُ اللَّحْمَ الْحَيَّ وَالْمَيِّتَ، صُدِّقَ الْجَانِي، وَإِنْ قَالُوا: لَا يَأْكُلُ الْحَيَّ، صُدِّقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَإِنِ اشْتَبَهَ الْحَالُ، صُدِّقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِهِ، وَلَا يَتَدَاوَى فِي الْعَادَةِ بِمَا يَأْكُلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

باب.

بَابٌ. اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ. فِيهِ أَطْرَافٌ: الْأَوَّلُ: فِيمَنْ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ، أَمَّا الْقِصَاصُ، فَيَسْتَحِقُّهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي وَجْهٍ تَسْتَحِقُّهُ الْعَصَبَةُ خَاصَّةً، وَفِي وَجْهٍ يَسْتَحِقُّهُ الْوَارِثُونَ بِالنَّسَبِ دُونَ السَّبَبِ، حَكَاهُمَا ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَهُمَا شَاذَّانِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَلَوْ قِيلَ: مَنْ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ خَاصٌّ، فَهَلْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ قَاتِلِهِ، أَمْ يَتَعَيَّنُ أَخْذُ الدِّيَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ سَبَقَا فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ. وَإِنْ خَلَّفَ بِنْتًا، أَوْ جَدَّةً، أَوْ أَخًا لِأُمٍّ، فَإِنْ قُلْنَا: لِلسُّلْطَانِ الِاسْتِيفَاءُ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ، اسْتَوْفَاهُ مَعَ صَاحِبِ الْفَرْضِ، وَإِلَّا فَالرُّجُوعُ إِلَى الدِّيَةِ. فَرْعٌ. لَوْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ غَائِبٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ، انْتُظِرَ حُضُورُ الْغَائِبِ أَوْ إِذْنُهُ، وَبُلُوغُ الصَّبِيِّ، وَإِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرَيْنِ الِانْفِرَادُ بِالِاسْتِيفَاءِ. فَرْعٌ. إِذَا انْفَرَدَ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ بِاسْتِحْقَاقِ الْقِصَاصِ، لَمْ يَسْتَوْفِهِ وَلِيُّهُ سَوَاءٌ فِيهِ قِصَاصُ النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، وَأَمَّا أَخْذُ الْوَلِيِّ لَهُ الدِّيَةَ، وَجَوَازُ رَدِّ الْمُسْتَحِقِّ لَهَا إِذَا كَمُلَ وَاقْتِصَاصِهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابَيِ الْحَجْرِ وَاللَّقِيطِ، وَيُحْبَسُ الْقَاتِلُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيَفِيقَ الْمَجْنُونُ، وَلَا يُخَلَّى بِالْكَفِيلِ، فَقَدْ يَهْرُبُ، وَيَفُوتُ الْحَقُّ. وَكَذَلِكَ يُحْبَسُ إِلَى أَنْ يَقْدَمَ الْغَائِبُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الْحَاكِمُ مَالَ مَيِّتٍ مَغْصُوبًا، وَالْوَارِثُ غَائِبٌ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ حِفْظًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ إِلَى قُدُومِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ

فصل

الْمُكَلَّفِ، كَمَا لَا يَأْخُذُ مَالَهُ الْمَغْصُوبَ، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مَا يُنَازَعُ فِيهِ وَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالَ الْغَائِبِ وَيَحْفَظُهُ لَهُ، وَأَنَّهُ يُحْبَسُ لِقِصَاصِ الطَّرَفِ. وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ قَالَ: لَا يُحْبَسُ الْقَاتِلُ، لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ زَائِدَةٌ، وَحَمَلَ الْحَبْسَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى التَّوَقُّفِ لِلِانْتِظَارِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ قَالَ الْأَصْحَابُ: وَحَبْسُهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْجِيلِ الْقَتْلِ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى حِفْظِ الْحَقِّ سِوَاهُ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ الْقِصَاصُ لِجَمَاعَةٍ حُضُورٍ كَامِلِينَ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى مُبَاشَرَةِ قَتْلِهِ، لِأَنَّ فِيهِ تَعْذِيبًا، وَلَكِنْ يَتَّفِقُونَ عَلَى وَاحِدٍ يَسْتَوْفِيهِ، أَوْ يُوَكِّلُونَ أَجْنَبِيًّا، فَإِنْ طَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ، أَقْرَعَ. فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، تَوَلَّاهُ بِإِذْنِ الْبَاقِينَ، فَلَوْ أَخَّرُوا لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَنَازَعُوا فِي التَّزْوِيجِ، فَخَرَجَتْ قُرْعَةُ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يُزَوَّجُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْبَاقِينَ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِسْقَاطِ وَلِجَمِيعِهِمْ وَلِبَعْضِهِمْ تَأْخِيرُهُ كَإِسْقَاطِهِ. وَالنِّكَاحُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعَنِ الْقَفَّالِ تَفْرِيعًا أَنَّهُ لَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ بِخِلَافِ الْقُرْعَةِ فِي الْقِسْمَةِ وَبَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَحَكَى الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ وَجْهًا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ إِلَى إِذْنِ الْبَاقِينَ، لِتَظْهَرَ فَائِدَةُ الْقُرْعَةِ، وَإِلَّا فَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى وَاحِدٍ مُغْنٍ عَنِ الْقُرْعَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ مَنَعَ بَعْضُهُمْ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْقُرْعَةِ الْعَاجِزُ عَنِ الِاسْتِيفَاءِ، كَالشَّيْخِ وَالْمَرْأَةِ؟ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاسْتِيفَاءِ، وَالْقُرْعَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْتَوِينَ فِي الْأَهْلِيَّةِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ، وَكَّلَ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَدْخُلُ، فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِقَادِرٍ، فَعَجَزَ، أُعِيدَتْ بَيْنَ الْبَاقِينَ، وَإِنْ قُلْنَا: يَدْخُلُ، لَا تُعَادُ، لَكِنْ يَسْتَنِيبُ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ

فصل

الْمُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ لِحَزِّ الرَّقَبَةِ، فَأَمَّا قِصَاصُ الطَّرَفِ، وَقِصَاصُ النَّفْسِ الْمُسْتَحَقُّ بِقَطْعِ الطَّرَفِ وَنَحْوِهِ، فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ إِذَا قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ كَمَا سَبَقَ، وَيَكُونُ هَذَا الْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهِ، لَا لِمَنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ عَلَيْهِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: فَلَوْ عَفَا وَرَثَتُهُ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى الدِّيَةِ، فَالدِّيَةُ لِلْوَرَثَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ، كَمَا إِذَا قُتِلَ الْمَرْهُونُ تَكُونُ قِيمَتُهُ مَرْهُونَةً، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا إِذَا بَادَرَ أَحَدُ ابْنَيِ الْمَقْتُولِ الْحَائِزَيْنِ، فَقَتَلَ الْجَانِيَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ، فَيَنْظُرُ أَوَقَعَ ذَلِكَ قَبْلَ عَفْوِ أَخِيهِ أَمْ بَعْدَهُ؟ الْحَالَةُ الْأُولَى: إِذَا قَتَلَهُ قَبْلَ الْعَفْوِ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي قَتْلِهِ، فَصَارَ شُبْهَةً، وَالْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا قَتَلَهُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَإِنْ جَهِلَ، فَلَا قِصَاصَ بِلَا خِلَافٍ، الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ الْعَفْوِ، فَإِنْ عَلِمَ الْعَفْوَ، وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْجَانِي، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ، لَزِمَهُ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: لَا، لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ جَهِلَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا قِصَاصَ إِذَا عَلِمَهُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَلَوْ قَتَلَهُ الْعَافِي، أَوْ عَفْوًا، ثُمَّ قَتَلَهُ أَحَدُهُمَا، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ قَطْعًا. التَّفْرِيعُ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ عَلَى الِابْنِ الْمُبَادِرِ، وَجَبَتْ دِيَةُ الْأَبِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ عَفَا مَجَّانًا، أَوْ أَطْلَقَ الْعَفْوَ، وَقُلْنَا: الْعَفْوُ الْمُطْلَقُ لَا يُوجِبُ الدِّيَةَ، أَخَذَهَا الْأَخَوَانِ. وَإِنْ عَفَا عَلَى الدِّيَةِ، أَوْ أَطْلَقَ وَجَعَلْنَا الْمُطْلَقَ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ، فَلِلْأَخِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، وَلِلْمُبَادِرِ النِّصْفُ وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْجَانِي بِتَمَامِهَا، وَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْتَّقَاصِّ، وَقَدْ يَصِيرُ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ قِصَاصًا، وَيَأْخُذُ وَارِثُ الْجَانِي النِّصْفَ الْآخَرَ،

وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْقَدْرُ بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ أَوَّلًا رَجُلًا، وَالْجَانِي امْرَأَةٌ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ، وَلَمْ نُوجِبِ الْقِصَاصَ عَلَى الْمُبَادِرِ، فَلِأَخِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَمِمَّنْ يَأْخُذُهَا؟ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ أَخِيهِ الْمُبَادِرِ، وَأَظْهَرُهُمَا: مِنْ تَرِكَةِ الْجَانِي. فَإِذَا قُلْنَا: يَأْخُذُ مِنْ أَخِيهِ، فَأَبْرَأَ أَخَاهُ، بَرِئَ، وَإِنْ أَبْرَأَ وَارِثَ الْجَانِي، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَبْرَأَ وَارِثَ الْجَانِي الْمُبَادِرُ عَنِ الدِّيَةِ، لَمْ يَسْقُطِ النِّصْفُ الثَّابِتُ عَلَيْهِ لِأَخِيهِ. وَأَمَّا النِّصْفُ الثَّابِتُ لِلْوَارِثِ، فَيُبْنَى عَلَى الْتَّقَاصِّ فِي الدِّيتَيْنِ، هَلْ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَالْعَفْوُ لَغْوٌ، وَبِمُجَرَّدِ وُجُوبِهِمَا، سَقَطَا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْصُلُ حَتَّى يَتَرَاضَيَا، صَحَّ الْإِبْرَاءُ، وَسَقَطَ مَا ثَبَتَ لِلْوَارِثِ عَلَى الْمُبَادِرِ. وَيَبْقَى لِلْمُبَادِرِ النِّصْفُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، وَإِنْ قُلْنَا: حَقُّ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي لَا عَلَى أَخِيهِ، فَلِوَارِثِ الْجَانِي عَلَى الْمُبَادِرِ دِيَةٌ تَامَّةٌ، وَلِلْمُبَادِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، فَيَقَعُ النِّصْفُ تَقَاصًّا، وَيَأْخُذُ وَارِثُ الْجَانِي مِنْهُ النِّصْفَ الْآخَرَ، فَلَوْ أَبْرَأَ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ أَخَاهُ، فَإِبْرَاؤُهُ لَغْوٌ إِذْ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَبْرَأَ وَارِثَ الْجَانِي، صَحَّ، وَلَوْ أَسْقَطَ وَارِثُ الْجَانِي الدِّيَةَ عَنِ الْمُبَادِرِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَقَعُ الْتَّقَاصُّ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ، فَقَدْ سَقَطَ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ، وَيُؤَثِّرُ الْإِسْقَاطُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، فَلَا يَبْقَى لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَقَعُ الْتَّقَاصُّ إِلَّا بِالتَّرَاضِي، سَقَطَ حَقُّ الْوَارِثِ بِإِسْقَاطِهِ، وَبَقِيَ لِلْمُبَادِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي. وَإِذَا كَانَ الْمُبَادِرُ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ بِقَتْلِهِ، وَهَلْ يَكُونُ فِي مَالِهِ لِقَصْدِهِ الْقَتْلَ، أَمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، لِأَنَّ الْجَهْلَ كَالْخَطَأِ؟ قَوْلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: فِي مَالِهِ، فَالِابْنُ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ يَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ مِنْ أَخِيهِ، أَوْ مِنْ تَرِكَةِ الْجَانِي، فِيهِ الْقَوْلَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَى الْعَاقِلَةِ، أَخَذَ الِابْنَانِ الدِّيَةَ مِنْ تَرِكَةِ الْجَانِي فِي الْحَالِ، وَوَارِثُ الْجَانِي يَأْخُذُ دِيَتَهُ مِنْ عَاقِلَةِ الْمُبَادِرِ، كَمَا تُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنَ الْعَوَاقِلِ، هَذَا تَفْرِيعُ الْحَالَةِ الْأُولَى. أَمَّا إِذَا قَتَلَهُ بَعْدَ عَفْوِ أَخِيهِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ، وَاقْتَصَّ وَارِثٌ

فصل

الْجَانِي، فَلِوَرَثَةِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، وَأَمَّا الْعَافِي، فَلَا شَيْءَ لَهُ إِنْ عَفَا مَجَّانًا، وَإِنْ عَفَا عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ، عَادَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ مِمَّنْ يَأْخُذُهُ. وَإِنْ لَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُ الْوَارِثُ، بَلْ عَفَا، نُظِرَ فِي حَالِ الْعَفْوَيْنِ وَمَا يَقْتَضِيَانِهِ مِنْ وُجُوبِ الْمَالِ وَعَدَمِهِ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْقِصَاصَ، فَإِنْ كَانَ الْآخَرُ عَفَا عَلَى الدِّيَةِ، أَوْ مُطْلَقًا، وَقُلْنَا: الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الدِّيَةَ، فَلِلِابْنَيْنِ دِيَةُ أَبِيهِمَا، وَعَلَى الْمُبَادِرِ دِيَةُ الْجَانِي، فَيَقَعُ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ فِي الْتَّقَاصِّ، وَيَأْخُذُ الْآخَرُ النِّصْفَ مِنْ أَخِيهِ، أَوْ مِنْ تَرِكَةِ الْجَانِي عَلَى الْخِلَافِ. وَإِنْ عَفَا مَجَّانًا أَوْ مُطْلَقًا وَقُلْنَا: لَا يُوجِبُ الْمَالَ، فَلَا شَيْءَ لِلْعَافِي، وَلِلْمُبَادِرِ نِصْفُ دِيَةِ أَبِيهِ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ دِيَةِ الْجَانِي، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ صُوَرِ مَجِيءِ الْخِلَافِ فِي الْتَّقَاصِّ كَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ وَفِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ شَرْطَ الْتَّقَاصِّ اسْتِوَاءُ الدِّيَتَيْنِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ حَتَّى لَا يَجْرِيَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُؤَجَّلًا وَالْآخَرُ حَالًّا وَاخْتَلَفَ أَجَلُهُمَا، وَهُنَا أَحَدُ الدِّيَتَيْنِ فِي ذِمَّةِ الِابْنِ الْمُبَادِرِ لِوَرَثَةِ الْجَانِي، وَالْآخَرُ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَةِ الْجَانِي وَلَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ أَشَدُّ مِنِ اخْتِلَافِ قَدْرِ الْأَجَلِ. فَصْلٌ الْوَاحِدُ إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةً، قُتِلَ بِأَحَدِهِمْ وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَاتُ، وَكَذَا لَوْ قَطَعَ أَطْرَافَ جَمَاعَةٍ كَمَا سَبَقَ، وَفِي الْبَيَانِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْجَمِيعِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَلَوْ رَضِيَ الْأَوْلِيَاءُ بِأَنْ يُقْتَلَ بِهِمْ جَمِيعًا وَيَرْجِعَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا يَبْقَى لَهُ مِنَ الدِّيَةِ عِنْدَ تَوْزِيعِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُجَابُوا إِلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، قَالَهُ الْإِمَامُ. ثُمَّ يَنْظُرُ إِنْ قَتَلَهُمْ مُرَتِّبًا، قُتِلَ بِالْأَوَّلِ، فَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْأَوَّلِ، قُتِلَ بِالثَّانِي وَهَكَذَا يُرَاعَى التَّرْتِيبُ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُ وَلِيُّ الْأَوَّلِ وَلَا اقْتَصَّ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الثَّانِي الْمُبَادَرَةُ بِقَتْلِهِ، فَلَوْ فَعَلَ، عُزِّرَ وَلَا غُرْمَ، بَلْ يَقَعُ قَتْلُهُ عَنِ الْقِصَاصِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ، وَيَنْتَقِلُ الْأَوَّلُ إِلَى الدِّيَةِ. وَفِي وَجْهٍ يَغْرَمُ لِلْأَوَّلِ دِيَةَ قَتْلِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْ تَرِكَةِ الْجَانِي دِيَةَ قَتِيلِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ غَائِبًا

أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، حُبِسَ الْقَاتِلُ حَتَّى يَحْضُرَ الْوَلِيُّ، أَوْ تَكْمُلَ حَالُهُ، وَحَكَى الْفُورَانِيُّ قَوْلًا عَنْ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ أَنَّ لِلثَّانِي الِاقْتِصَاصَ، وَيَصِيرُ الْحُضُورُ وَالْكَمَالُ مُرَجِّحًا، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُمْ مَعًا، بِأَنْ هَدَمَ عَلَيْهِمْ جِدَارًا أَوْ جَرَحَهُمْ وَمَاتُوا مَعًا، فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، قُتِلَ بِهِ، فَإِنْ خَرَجَتْ لِوَاحِدٍ، فَعَفَا وَلَيُّهُ، أُعِيدَتِ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْبَاقِينَ. وَكَذَا لَوْ عَفَا، بِأَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَهَذَا الْإِقْرَاعُ وَاجِبٌ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ، وَحَكَى أَبُو الْفَيَّاضِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ كَجٍّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَوْا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَلَوْ رَضُوا بِتَقْدِيمِ وَاحِدٍ بِلَا قُرْعَةٍ، جَازَ. فَإِنْ بَدَا لَهُمْ، رُدُّوا إِلَى الْقُرْعَةِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ بَعْضِ الْقَتْلَى غَائِبًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، فَالْمَذْهَبُ الِانْتِظَارُ إِذَا أَوْجَبْنَا الْإِقْرَاعَ، وَفِي «الْوَسِيطِ» عَنْ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ أَنَّ لِلْحَاضِرِ وَالْكَامِلِ الِاقْتِصَاصَ، وَإِذَا أَشْكَلَ الْحَالُ، فَلَمْ يَدْرِ أَقَتَلَهُمْ دُفْعَةً أَوْ مُرَتِّبًا، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ أَقَرَّ بِسَبْقِ قَتْلِ بَعْضِهِمُ، اقْتَصَّ مِنْهُ وَلَيُّهُ، وَلِوَلِيِّ غَيْرِهِ تَحْلِيفُهُ إِنْ كَذَّبَهُ. فَرْعٌ. إِذَا قَتَلَ مُرَتِّبًا، فَجَاءَ وَلِيُّ الثَّانِي يَطْلُبُ الْقِصَاصَ، وَلَمْ يَجِئِ الْأَوَّلُ، فَعَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْعَثَ الْإِمَامُ إِلَى وَلِيِّ الْأَوَّلِ، لِيَعْرِفَ أَهُوَ طَالِبٌ أَوْ عَافٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْعَثْ وَقَتَلَهُ بِالثَّانِي، كَرِهْتُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ لِكُلِّهِمْ عَلَيْهِ حَقُّ الْقَوَدِ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ قَالَ فِي «الْأُمِّ» : فَقَدْ أَسَاءَ. فَرْعٌ. قَتَلَ جَمَاعَةٌ جَمَاعَةً، فَالْقَاتِلُونَ كَشَخْصٍ، فَإِنْ قَتَلُوهُمْ مُرَتَّبًا، قُتِلُوا بِالْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَيُقْرَعُ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، قُتِلُوا بِهِ، وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَاتُ فِي تَرِكَاتِ الْقَاتِلِينَ.

فَرْعٌ. إِذَا قَتَلَ عَبْدٌ جَمَاعَةً أَحْرَارًا أَوْ عَبِيدًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُقْتَلُ بِجَمِيعِهِمْ، لِأَنَّ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ تَضْيِيعُ حَقِّ الْآخَرِينَ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ قَتَلَهُمْ خَطَأً، تُضَارَبُوا فِي رَقَبَتِهِ، فَكَذَا فِي قِصَاصِهِ بِخِلَافِ الْحُرِّ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يُقْتَلُ بِجَمِيعِهِمْ، بَلْ يَكُونُ كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ، يُقْتَلُ بِوَاحِدٍ، وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَاتُ فِي ذِمَّتِهِ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِهَا. فَعَلَى هَذَا إِنْ قَتَلَهُمْ مُرَتِّبًا، قُتِلَ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ قَتَلَهُمْ مَعًا، أَقْرَعَ، وَقُتِلَ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَلَوْ عَفَا وَلِيُّ الْأَوَّلِ، أَوْ وَلِيُّ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ عَلَى مَالٍ، تَعَلَّقَ الْمَالُ بِرَقَبَتِهِ. وَلِلثَّانِي قَتْلُهُ وَإِنْ بَطَلَ حَقُّ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْمَالِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، كَجِنَايَةِ الْمَرْهُونِ، وَإِنْ عَفَا الثَّانِي أَيْضًا عَلَى مَالٍ، تَعَلَّقَ الْمَالَانِ بِرَقَبَتِهِ وَلَا يُرَجَّحُ بِالتَّقَدُّمِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ أَمْوَالًا لِجَمَاعَةٍ فِي أَزْمِنَةٍ. فَرْعٌ. إِذَا تَمَالَأَ عَلَى الْجَانِي أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ، فَقَتَلُوهُ جَمِيعًا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: يَقَعُ الْقَتْلُ مُوَزَّعًا عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ دِيَتِهِ. وَالثَّانِي: يُقْرَعُ وَيُجْعَلُ الْقَتْلُ وَاقِعًا عَمَّنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَاتُ، وَالثَّالِثُ قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ: يُكْتَفَى بِهِ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَلَا رُجُوعَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّيَةِ. فَرْعٌ. قَتَلَ رَجُلًا، وَقَطَعَ طَرَفَ آخَرَ، وَحَضَرَ الْمُسْتَحِقَّانِ، يُقْطَعُ طَرَفُهُ، ثُمَّ يُقْتَلُ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ قَتْلُهُ، أَمْ قَطْعُهُ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَإِنْ قَطَعَ يَمِينَ زَيْدٍ، ثُمَّ أُصْبُعًا مِنْ يَمِينِ عَمْرٍو، وَحَضَرَا، قُطِعَتْ يَمِينُهُ لِزَيْدٍ وَيَأْخُذُ عَمْرٌو دِيَةَ الْأُصْبُعِ. فَإِنْ عَفَا زَيْدٌ، قُطِعَتْ أُصْبُعُهُ لِعَمْرٍو، وَإِنْ كَانَ قَطَعَ الْأُصْبُعَ

فصل

أَوَّلًا، قُطِعَتْ أُصْبُعُهُ لِلْأَوَّلِ، وَيَأْخُذُ الثَّانِي دِيَةَ الْيَدِ، وَإِنْ شَاءَ، قَطَعَ مَا بَقِيَ مِنْ يَدِ الْجَانِي، وَأَخَذَ دِيَةَ الْأُصْبُعُ، وَإِنْ وَقَعَ الْقَطْعَانِ مَعًا، أُقْرِعَ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ مَكَانَهُ يُقَدَّمُ قَطْعُهُ. فَصْلٌ لَيْسَ لِمُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ اسْتِيفَاؤُهُ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَمَنْصُورٍ التَّمِيمِيِّ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَسْتَقِلُّ بِالِاسْتِيفَاءِ كَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الْأَوَّلُ، وَسَوَاءٌ فِيهِ قِصَاصُ النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، وَإِذَا اسْتَقَلَّ بِهِ عُزِّرَ، لَكِنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَيَقَعُ عَنِ الْقِصَاصِ، وَلَوِ اسْتَقَلَّ الْمَقْذُوفُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ بِإِذْنِ الْقَاذِفِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْتَدُّ بِهِ، تُرِكَ حَتَّى يَبْرَأَ ثُمَّ يُحَدُّ، وَلَوْ مَاتَ مِنْهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ إِنْ جَلَدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَلَا قِصَاصَ. وَفِي الدِّيَةِ خِلَافٌ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ إِذَا طَلَبَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرَهُ أَهْلًا لَهُ كَالشَّيْخِ وَالزَّمِنِ وَالْمَرْأَةِ، لَمْ يُجِبْهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَإِنْ رَآهُ أَهْلًا لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قِصَاصَ النَّفْسِ، وَالطَّالِبُ الْوَلِيَّ، فَوَّضَهُ إِلَيْهِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ فِي الْقَذْفِ لَا يُفَوَّضُ إِلَى الْمَقْذُوفِ، لِأَنَّ تَفْوِيتَ النَّفْسِ مَضْبُوطٌ، وَالْجَلَدَاتُ يَخْتَلِفُ مَوْقِعُهَا. وَالتَّعْزِيرُ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قِصَاصَ الطَّرَفِ، وَالطَّالِبُ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُفَوِّضُهُ إِلَيْهِ كَالنَّفْسِ، لِأَنَّ إِبَانَةَ الطَّرَفِ مَضْبُوطَةٌ، وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُرَدِّدَ الْحَدِيدَةَ، وَيَزِيدَ فِي الْإِيلَامِ. فَرْعٌ. يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُحْضِرَ الِاقْتِصَاصَ عَدْلَيْنِ مُتَيَقِّظَيْنِ، لِيَشْهَدَا إِنْ أَنْكَرَ الْمُقْتَصُّ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ إِنْ كَانَ التَّرَافُعُ إِلَيْهِ.

فَرْعٌ. يَتَفَقَّدُ الْإِمَامُ السَّيْفَ، وَيَقْتَصُّ بِصَارِمٍ لَا كَالٍّ، فَلَوْ كَانَ الْجَانِي قَتَلَ بِكَالٍّ، فَهَلْ يَقْتَصُّ بِكَالٍّ أَمْ يَتَعَيَّنُ الصَّارِمُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَإِذَا لَمْ نُجَوِّزْ بِالْكَالِّ، فَبَانَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ كَلَالُهُ، عُزِّرَ الْمُسْتَوْفِي. فَرْعٌ. يَضْبِطُ الْجَانِي فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ، لِئَلَّا يَضْطَرِبَ، فَيُؤَدِّيَ إِلَى اسْتِيفَاءِ زِيَادَةٍ. فَرْعٌ. إِذَا أُذِنَ لِلْوَلِيِّ فِي ضَرْبِ الرَّقَبَةِ، فَأَصَابَ غَيْرَهَا، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ تَعَمَّدَ، عُزِّرَ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى الْخَطَأَ فِيمَا لَا يَقَعُ الْخَطَأُ بِمِثْلِهِ، بِأَنْ ضَرَبَ رِجْلَهُ أَوْ وَسَطَهُ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يُعْزَلُ، لِأَنَّهُ أَهْلٌ لَهُ، وَإِنْ تَعَدَّى بِفِعْلِهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ قَبْلَ الِارْتِفَاعِ إِلَى الْحَاكِمِ، لَا يُمْنَعُ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ، وَفِيهِ وَجْهٌ، أَوْ قَوْلٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ يُعْزَلُ، وَيُؤْمَرُ بِالِاسْتِنَابَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَعَدَّى ثَانِيًا، وَلَوِ ادَّعَى الْخَطَأَ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْخَطَأُ، بِأَنْ ضَرَبَ كَتِفَهُ، أَوْ رَأْسَهُ مِمَّا يَلِي الرَّقَبَةَ، حَلَفَ، وَلَا يُعَزَّرُ إِذَا حَلَفَ، لَكِنْ يُعْزَلُ، لِأَنَّ حَالَهُ يُشْعِرُ بِعَجْزِهِ وَخَرْقِهِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ، أَوْ وَجْهٌ: أَنَّهُ يُعَذَّرُ بِالْخَطَأِ وَلَا يُعْزَلُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الْوَجْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرِ الْخَطَأُ مِنْهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ خَرْقُهُ. فَإِنْ ظَهَرَ فَلْيُمْنَعْ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ: وَعَزْلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَنْ لَمْ تُعْرَفْ مَهَارَتُهُ فِي ضَرْبِ الرِّقَابِ، فَأَمَّا الْمَاهِرُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْزَلَ بِخَطَأٍ اتَّفَقَ لَهُ بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ. هَلْ يُمْنَعُ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ بِالسَّيْفِ الْمَسْمُومِ، وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ، هَكَذَا أَطْلَقَهُمَا مُطْلِقُونُ، وَخَصَّهُمَا الْإِمَامُ بِمَا إِذَا كَانَ تَأْثِيرُ السُّمِّ

فِي التَّقَطُّعِ، وَاكْتُفِيَتْ بِتَأَخُّرٍ عَنِ الدَّفْنِ، فَإِنْ كَانَ يُؤَثِّرُ قَبْلَ الدَّفْنِ، مُنِعَ بِلَا خِلَافٍ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ الْحُرْمَةِ وَعُسْرِ الْغَسْلِ وَالدَّفْنِ، وَحَيْثُ يُمْنَعُ، فَلَوْ بَانَ بَعْدَ الْقَطْعِ أَنَّهُ كَانَ مَسْمُومًا، عُزِّرَ. وَأَمَّا فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ، فَيُمْنَعُ مِنَ الْمَسْمُومِ بِلَا خِلَافٍ، فَلَوِ اسْتَوْفَاهُ بِمَسْمُومٍ، فَمَاتَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ، فَلَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ مُسْتَحَقٍّ وَغَيْرِهِ، وَتَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَهَلْ تَكُونُ عَلَى الْمُسْتَوْفِي، أَمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا غَرِيبًا أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ السُّمُّ مُوحِيًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ. لِيُنَصِّبَ الْإِمَامُ مَنْ يُقِيمُ الْحُدُودَ وَيَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ بِإِذْنِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهُ، وَيَرْزُقُهُ مِنْ خُمُسِ خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ شَيْءٌ، أَوْ كَانَ وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لِأَهَمَّ مِنْهُ، فَأُجْرَةُ الِاقْتِصَاصِ عَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، لِأَنَّهَا مُؤْنَةُ حَقٍّ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ. وَقِيلَ: عَلَى الْمُقْتَصِّ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِي أُجْرَةِ الْجَلَّادِ فِي الْحُدُودِ، وَالْقَاطِعِ فِي السَّرِقَةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى الْمَجْلُودِ وَالسَّارِقِ، لِأَنَّهَا تَتِمَّةُ الْحَدِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْإِيجَابَ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي مَالٌ، وَأُجْرَةُ الْجَلَّادِ فِي الْقَذْفِ كَأُجْرَةِ الِاقْتِصَاصِ، وَإِذَا قُلْنَا: تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إِلَيْهِ، اقْتَرَضَ الْإِمَامُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ إِلَى أَنْ يَجِدَ سِعَةً. قَالَ الرُّويَانِيُّ: أَوْ يَسْتَأْجِرُ بِأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، أَوْ يَسَّخِرُ مَنْ يَقُومُ بِهِ عَلَى مَا يَرَاهُ، وَالِاسْتِئْجَارُ قَرِيبٌ وَالتَّسْخِيرُ بَعِيدٌ، وَبِتَقْدِيرِ جَوَازِهِ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْأُجْرَةَ مِمَّنْ يَرَاهُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَسْتَأْجِرَ بِهَا. وَلَوْ قَالَ الْجَانِي: أَنَا أَقْتَصُّ مِنْ نَفْسِي، وَلَا أُؤَدِّي الْأُجْرَةَ، فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الدَّارَكِيُّ: نَعَمْ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، فَعَلَى هَذَا

فصل

لَوْ قَتَلَ نَفْسَهُ، أَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ بِإِذْنِ الْمُسْتَحِقِّ، فَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ عَنِ الْقِصَاصِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ جَلَدَ نَفْسَهُ فِي الزِّنَى بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَفِي الْقَذْفِ بِإِذْنِ الْمَقْذُوفِ، لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، وَكَمَا لَوْ قَبَضَ الْمَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي، لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِحُصُولِ الزُّهُوقِ، وَإِزَالَةِ الطَّرَفِ، بِخِلَافِ الْجَلْدِ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُؤْلِمُ نَفْسَهُ، وَيُوهِمُ الْإِيلَامَ، فَلَا يَتَحَقَّقُ حُصُولُ الْمَقْصُودِ، وَفِي الْبَيْعِ الْمَقْصُودُ إِزَالَةُ يَدِ الْبَائِعِ، وَلَمْ تَزُلْ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَطَعَ السَّارِقُ يَدَ نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ اعْتُدَّ بِهِ عَنِ الْحَدِّ، وَهَلْ يُمْكِنُهُ إِذَا قَالَ: أَقْطَعُ بِنَفْسِي؟ وَجْهَانِ. أَقْرَبُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّنْكِيلُ، وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي وَقْتِ الِاقْتِصَاصِ. لِمُسْتَحَقِّ الْقِصَاصِ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ إِذَا أَمْكَنَ، فَلَوِ الْتَجَأَ الْجَانِي إِلَى الْحَرَمِ، جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ، سَوَاءٌ فِيهِ قِصَاصُ النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، وَلَوِ الْتَجَأَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ الْإِمَامُ: أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، أُخْرِجَ مِنْهُ وَقُتِلَ، لِأَنَّ هَذَا تَأْخِيرٌ يَسِيرٌ، وَفِيهِ صِيَانَةٌ لِلْمَسْجِدِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ تُبْسَطُ الْأَنْطَاعُ، وَيُقْتَلُ فِي الْمَسْجِدِ تَعْجِيلًا لِتَوْفِيَةِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الْهَيْبَةِ. قُلْتُ: وَلَوِ الْتَجَأَ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَوْ إِلَى مِلْكِ إِنْسَانٍ، أُخْرِجَ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ، فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقِصَاصَ يُسْتَوْفَى بِمِثْلِهِ، فَإِذَا قُطِعَ طَرَفُ الْجَانِي، فَلَهُ أَنْ يَحُزَّ رَقَبَتَهُ فِي الْحَالِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ، فَإِنْ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا حَزَّ رَقَبَتَهُ، لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ إِزْهَاقَ رُوحِهِ، فَإِنْ شَاءَ عَجَّلَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ.

فصل

فَصْلٌ لَا يُؤَخَّرُ قِصَاصُ الطَّرَفِ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَلَا بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِرًا، وَكَذَا لَا يُؤَخَّرُ الْجَلْدُ فِي الْقَذْفِ بِخِلَافِ قَطْعِ السَّرِقَةِ وَالْجَلْدِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ. هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَفِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» لِلرُّويَانِيِّ أَنَّهُ نَصَّ فِي «الْأُمِّ» عَلَى أَنَّهُ يُؤَخِّرُ قِصَاصَ الطَّرَفِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَلَوْ قَطَعَ أَطْرَافَ رَجُلٍ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ فِي الْجَمِيعِ مُتَوَالِيًا سَوَاءٌ قَطَعَهَا الْجَانِي مُتَوَالِيَةً أَمْ مُتَفَرِّقَةً. وَقِيلَ: يُفَرَّقُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يُفَرَّقُ إِنْ فَرَّقَ، وَيُوَالِي إِنْ وَالَى، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهَا حُقُوقٌ وَاجِبَةٌ فِي الْحَالِ. فَصْلٌ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا فِي نَفْسٍ وَلَا طَرَفٍ، وَلَا تُحَدُّ لِلْقَذْفِ، وَلَا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الْوَضْعِ، سَوَاءٌ الْحَامِلُ مِنْ زِنًى أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ وَجَبَتِ الْعُقُوبَةُ قَبْلَ الْحَمْلِ أَمْ بَعْدَهُ، حَتَّى إِنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَوْ حَبَلَتْ مِنْ زِنًى بَعْدَ الرِّدَّةِ، لَا تُقْتَلُ حَتَّى تَضَعَ. وَإِذَا وَضَعَتْ لَا تُسْتَوْفَى الْعُقُوبَةَ حَتَّى تَسْقِيَ الْوَلَدَ اللَّبَنَ، وَمَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ إِلَى أَنَّهَا لَا تُمْهَلُ لِإِرْضَاعِهِ اللَّبَنَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعِيشُ دُونَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ بِدُونِهِ مَعَ أَنَّهُ تَأْخِيرٌ يَسِيرٌ، ثُمَّ إِذَا أَرْضَعَتْهُ اللَّبَنَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُرْضِعُهُ، وَلَا مَا يَعِيشُ بِهِ الْوَلَدُ مِنْ لَبَنِ بَهِيمَةٍ وَغَيْرِهِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: يُقْتَصُّ مِنْهَا، وَلَا يُبَالَى بِالطِّفْلِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَجِبُ التَّأْخِيرُ إِلَى أَنْ تُوجَدَ مُرْضِعَةٌ أَوْ مَا يَعِيشُ بِهِ، أَوْ تُرْضِعُهُ هِيَ حَوْلَيْنِ وَتَفْطِمُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا وَجَبَ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ احْتِيَاطًا لِلْحَمْلِ، فَوُجُوبُهُ بَعْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَتَيَقُّنُ

حَيَاتِهِ أَوْلَى، فَلَوْ بَادَرَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَقَتَلَهَا، فَمَاتَ الطِّفْلُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَاتِلٌ لِلطِّفْلِ عَمْدًا، فَيَلْزَمُهُ قَوَدُهُ. كَمَا لَوْ حَبَسَ رَجُلًا فِي بَيْتٍ وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنِ النَّصِّ، وَعَنِ الْمَاسَرْجِسِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: عَلَيْهِ دِيَةُ الْوَلَدِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَيْسَ لَوْ غَصَبَ طَعَامَ رَجُلٍ فِي الْبَادِيَةِ أَوْ كِسْوَتُهُ، فَمَاتَ جُوعًا أَوْ بَرْدًا، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَتَوَقَّفَ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الدَّرْسِ قَالَ: لَا ضَمَانَ فِيهِمَا. أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ تَرْبِيَةُ الْوَلَدِ بِمَرَاضِعَ يَتَنَاوَبْنَ عَلَيْهِ، أَوْ بِلَبَنِ شَاةٍ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ تُوجَدْ مُرْضِعَةٌ رَاتِبَةٌ، فَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَصْبِرَ لِتُرْضِعَهُ هِيَ لِئَلَّا يَفْسُدَ خُلُقُهُ وَنُشُوؤُهُ بِالْأَلْبَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَبَنِ الْبَهِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ وَطَلَبَ الْقِصَاصَ، أُجِيبَ إِلَيْهِ، وَلَوْ وُجِدَتْ مُرْضِعَةٌ رَاتِبَةٌ، فَلَهُ الِاقْتِصَاصُ فِي الْحَالِ، وَلَوْ وَجَدَ مَرَاضِعَ وَامْتَنَعْنَ، أَجْبَرَ الْحَاكِمُ مَنْ يَرَى مِنْهُنَّ بِالْأُجْرَةِ. وَالْجَلْدُ فِي الْقَذْفِ كَالْقِصَاصِ، وَأَمَّا الرَّجْمُ وَسَائِرُ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تُسْتَوْفَى وَإِنْ وُجِدَتْ مُرْضِعَةٌ، بَلْ تُرْضِعُهُ هِيَ، وَإِذَا انْقَضَى الْإِرْضَاعُ لَمْ يُسْتَوْفَ أَيْضًا حَتَّى يُوجَدَ لِلطِّفْلِ كَافِلٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَنَّهَا عَلَى الْمُسَاهَلَةِ كَمَا سَبَقَ. فَرْعٌ. تُحْبَسُ الْحَامِلُ فِي الْقِصَاصِ إِلَى أَنْ يُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءُ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا كَانَ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ صَبِيٌّ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا رَجْمٌ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ تُحْبَسْ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَقِيلَ: تُحْبَسُ، كَالْقِصَاصِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَإِطْلَاقُ هَذَا الْوَجْهِ بَعِيدٌ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، فَلَا مَعْنًى لِلْحَبْسِ مَعَ أَنَّهُ بِعَرْضِ السُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ.

فَرْعٌ. جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا ثَبَتَ الْحَمْلُ بِإِقْرَارِ الْمُسْتَحِقِّ، أَوْ شَهَادَةِ النِّسْوَةِ، فَلَوِ ادَّعَتِ الْجَانِيَةُ الْحَمْلَ، هَلْ يَمْتَنِعُ عَنْهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَعَمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا أَدْرِي أَيَقُولُ هَؤُلَاءِ بِالصَّبْرِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَمْلِ أَمْ إِلَى ظُهُورِ الْمَخَايِلِ، وَالْأَرْجَحُ الثَّانِي، فَإِنَّ التَّأْخِيرَ أَرْبَعُ سِنِينَ مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ بَعِيدٌ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَعَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ: لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ مِنْ مَنْكُوحَةٍ يُخَالِطُهَا زَوْجُهَا، وَهَذَا إِنْ أَرَادَ بِهِ إِذَا ادَّعَتِ الْحَمْلَ، فَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ الِامْتِنَاعَ بِمُجَرَّدِ الْمُخَالَطَةِ وَالْوَطْءِ بِغَيْرِ دَعْوَاهَا، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَمْلِ. فَرْعٌ. إِذَا قُتِلَتِ الْحَامِلُ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرْنَا بِهِ، نُظِرَ، إِنْ بَادَرَ إِلَيْهِ الْوَلِيُّ مُسْتَقِلًّا، أَثِمَ وَوَجَبَتْ غِرَّةُ الْجَنِينِ إِنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا، وَتَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَلِيِّ، وَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا مُتَأَلِّمًا فَمَاتَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي قَتْلِهَا، فَقَتَلَهَا، فَنَتَكَلَّمُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: الْإِثْمُ وَهُوَ تَبَعٌ لِلْعِلْمِ فَإِنْ عَلِمَ الْوَلِيُّ وَالْإِمَامُ بِالْحَمْلِ، أَثِمَا، وَإِنْ جَهِلَا، فَلَا، وَإِنْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا، اخْتَصَّ بِالْإِثْمِ. الثَّانِي: الضَّمَانُ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلِ الْجَنِينُ، فَلَا ضَمَانَ، وَإِنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا، فَفِيهِ الْغُرَّةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا مُتَأَلِّمًا فَمَاتَ بِهِ، فَفِيهِ دِيَةٌ وَكَفَّارَةٌ. وَإِنِ انْفَصَلَ سَلِيمًا، ثُمَّ مَاتَ، لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ. الثَّالِثُ: فِيمَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَالْوَلِيُّ عَالِمَيْنِ أَوْ جَاهِلَيْنِ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْإِمَامِ، لِأَنَّ الْبَحْثَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْوَلِيِّ، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ، وَقِيلَ:

عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَالِمًا، وَالْوَلِيُّ جَاهِلًا، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ إِذَا عَلِمَا عَلَى الْإِمَامِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ عَالِمًا وَالْإِمَامُ جَاهِلًا، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْوَلِيِّ، وَقِيلَ: عَلَى الْإِمَامِ لِتَقْصِيرِهِ. وَحَيْثُ ضَمَّنَّا الْوَلِيَّ، فَالْغُرَّةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ، وَحَيْثُ ضَمَّنَّا الْإِمَامَ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَفِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ مَا يَجِبُ بِخَطَأِ الْإِمَامِ فِي الِاجْتِهَادِ، هَلْ هُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ هُنَا: أَنَّهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ سَلِمَةَ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرَيُّ، وَإِذَا قُلْنَا: الدِّيَةُ وَالْغُرَّةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، لِقُرْبِهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَبُعْدِهَا مِنَ التَّحَمُّلِ. وَلَوْ بَاشَرَ الْقَتْلَ نَائِبُ الْإِمَامِ، أَوْ جَلَّادُهُ دُونَ الْوَلِيِّ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِحَالٍ، لِأَنَّهُ سَيْفُ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا، فَخِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا إِذَا أَذِنَ الْإِمَامُ لِلْوَلِيِّ وَعَلِمَ الْوَلِيُّ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا ضَمَانَ، لِأَنَّهُ آلَةُ الْإِمَامِ، وَلِهَذَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِذَا جَرَى عَلَى يَدِهِ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَهَلْ يُؤَثِّرُ عِلْمُ الْوَلِيِّ مَعَ الْجَلَّادِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا عَالِمِينَ، ضَمِنُوا أَثْلَاثًا، هَذَا كُلُّهُ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ، أَمَّا الْأُمُّ فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهَا، لِأَنَّهَا تَلِفَتْ فِي حَدٍّ أَوْ عُقُوبَةٍ عَلَيْهَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هَذَا إِذَا مَاتَتْ بِأَلَمِ الضَّرْبِ. فَإِنْ مَاتَتْ بِأَلَمِ الْوِلَادَةِ، وَجَبَتْ دِيَتُهَا، وَإِنْ مَاتَتْ مِنْهُمَا، وَجَبَ نِصْفُ دِيَتِهَا وَالْمُرَادُ إِذَا ضَرَبَهَا فِي الْحَدِّ، فَأَفْضَى إِلَى الْإِجْهَاضِ وَمَاتَتْ. فَرْعٌ. إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْإِمَامُ الْحَمْلَ فَأَذِنَ لِلْوَلِيِّ فِي الْقَتْلِ، ثُمَّ عَلِمَ، فَرَجَعَ عَنِ الْإِذْنِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَلِيُّ رُجُوعَهُ، فَقَتَلَ، فَعَلَى مَنِ الضَّمَانُ؟ . يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا عَفَا الْمُوَكِّلُ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَرْعٌ. لَيْسَ الْمُرَادُ مِمَّا أَطْلَقْنَاهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْحَمْلِ وَعَدَمِهِ، حَقِيقَةَ الْعِلْمِ، بَلِ الْمُرَادُ ظَنٌّ مُؤَكَّدٌ بِمَخَايِلِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي كَيْفِيَّةِ الْمُمَاثَلَةِ: وَهِيَ مُشْتَرَطَةٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، فَإِذَا قَتَلَهُ قَتْلًا مُوحِيًا بِمُحَدَّدٍ، كَسَيْفٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ بِمُثَقَّلٍ، أَوْ خَنَقَهُ، أَوْ غَرَّقَهُ فِي مَاءٍ، أَوْ أَلْقَاهُ فِي نَارٍ، أَوْ جَوَّعَهُ حَتَّى مَاتَ، أَوْ رَمَاهُ مِنْ شَاهِقٍ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ. وَيُسْتَثْنَى عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ثَلَاثُ صُوَرٍ. إِحْدَاهَا: إِذَا قَتَلَهُ بِسِحْرٍ، اقْتُصَّ مِنْهُ بِالسَّيْفِ، لِأَنَّ عَمَلَ السِّحْرِ حَرَامٌ وَلَا يَنْضَبِطُ. الثَّانِيَةُ: إِذَا قَتَلَهُ بِاللِّوَاطِ، وَهُوَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، بِأَنْ لَاطَ بِصَغِيرٍ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ كَمَسْأَلَةِ السِّحْرِ. وَالثَّانِي: تُدَسُّ فِي دُبُرِهِ خَشَبَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ آلَتِهِ وَيُقْتَلُ بِهَا، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا إِنْ تُوُقِّعَ مَوْتُهُ بِالْخَشَبَةِ، وَإِلَّا فَالسَّيْفُ. وَالثَّالِثُ: لَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ الْإِهْلَاكَ، فَيَكُونُ الْقَتْلُ بِهِ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. الثَّالِثَةُ: إِذَا أَوْجَرَهُ خَمْرًا حَتَّى مَاتَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَالثَّانِي: يُوجَرُ مَائِعًا، كَخَلٍّ أَوْ مَاءٍ أَوْ شَيْءٍ مُرٍّ، وَالثَّالِثُ: لَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ الْقَتْلَ وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. وَلَوْ سَقَاهُ بَوْلًا، فَكَالْخَمْرِ، وَقِيلَ: يُسْقَى بَوْلًا، لِأَنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ، وَلَوْ أَوْجَرَهُ مَاءً نَجِسًا، أُوجِرَ مَاءً طَاهِرًا. فَرْعٌ. كَمَا تُرَاعَى الْمُمَاثَلَةُ فِي طَرِيقِ الْقَتْلِ، تُرَاعَى فِي الْكَيْفِيَّةِ وَالْمِقْدَارِ، فَفِي التَّجْوِيعِ يُحْبَسُ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَيُمْنَعُ الطَّعَامَ، وَفِي الْإِلْقَاءِ فِي الْمَاءِ وَالنَّارِ يُلْقَى فِي مَاءٍ وَنَارٍ مِثْلِهِمَا، وَيُتْرَكُ تِلْكَ الْمَدَّةَ، وَتُشَدُّ قَوَائِمُهُ عِنْدَ الْإِلْقَاءِ

فِي الْمَاءِ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ، وَفِي التَّخْنِيقِ يُخْنَقُ بِمِثْلِ مَا خَنَقَ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَفِي الْإِلْقَاءِ مِنَ الشَّاهِقِ يُلْقَى مِنْ مِثْلِهِ وَتُرَاعَى صَلَابَةُ الْمَوْضِعِ، وَفِي الضَّرْبِ بِالْمُثَقَّلِ يُرَاعَى الْحَجْمُ وَعَدَدُ الضَّرَبَاتِ. وَإِذَا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى قَدْرِ الْحَجَرِ، أَوْ قَدْرِ النَّارِ، أَوْ عَدَدِ الضَّرَبَاتِ فَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ يُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ. مَتَى عَدَلَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ غَيْرِ السَّيْفِ إِلَى السَّيْفِ، مُكِّنَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَوْحَى وَأَسْهَلُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهُوَ الْأَوْلَى، وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى وَجْهِ أَنَّهُ لَا يُعْدَلُ مِنَ الْخَنْقِ إِلَى السَّيْفِ، وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ. فَرْعٌ. إِذَا جُوِّعَ الْجَانِي مُدَّةَ تَجْوِيعِهِ، أَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مِثْلَ مُدَّتِهِ، أَوْ ضُرِبَ بِالسَّوْطِ وَالْحَجَرِ كَضَرْبِهِ، فَلَمْ يَمُتْ، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ حَتَّى يَمُوتَ، وَالثَّانِي: يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ فَقَالُوا: يُفْعَلُ الْأَهْوَنُ مِنْهُمَا، وَهَذَا أَقْرَبُ، وَالْأَوَّلُ: أَظْهَرُ عِنْدَ الْبَغَوِيُّ. وَقِيلَ: يَعْدِلُ فِي السَّوْطِ وَالْحَجَرِ إِلَى السَّيْفِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ قَتَلَ نَحِيفًا بِضَرَبَاتٍ تَقْتُلُ مَثْلَهُ غَالِبًا، وَعَلِمْنَا أَوْ ظَنَنَّا ظَنًّا مُؤَكَّدًا أَنَّ الْجَانِيَ لَا يَمُوتُ بِتِلْكَ الضَّرَبَاتِ لِقُوَّةِ جُثَّتِهِ، فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُضْرَبُ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ.

فَرْعٌ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الِاقْتِصَاصِ بِالْقَتْلِ الْمُوحِي، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُوحِي مِنَ الْقَتْلِ، كَالْجُرُوحِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ إِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْجِرَاحَةُ بِحَيْثُ يُقْتَصُّ فِيهَا لَوْ وَقَفَتْ، كَالْمُوضِحَةِ وَقَطْعِ الْكَفِّ، فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَحُزَّ رَقَبَتَهُ، وَلَهُ أَنْ يُوضِحَهُ أَوْ يَقْطَعَ كَفَّهُ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ حَزَّ رَقَبَتَهُ فِي الْحَالِ، وَلَيْسَ لِلْجَانِي أَنْ يَقُولَ: أَمْهِلُونِي مُدَّةَ بَقَاءِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ جِنَايَتِي، لِأَنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ. وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْهَلَهُ إِلَى السِّرَايَةِ كَمَا سَبَقَ، وَلَيْسَ لِلْجَانِي أَنْ يَقُولَ: أَرِيحُونِي بِالْقَتْلِ أَوِ الْعَفْوِ، بَلِ الْخِيَرَةُ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَإِذَا اقْتَصَّ فِي مُوضِحَةِ الْجِنَايَةِ، أَوْ قَطْعِ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ مِثْلِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوضِحَ مَوْضِعًا آخَرَ، وَلَا أَنْ يَقْطَعَ عُضْوًا آخَرَ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا حَزُّ الرَّقَبَةِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجِرَاحَةُ بِحَيْثُ لَا يُقْتَصُّ فِيهَا لَوْ وَقَفَتْ، كَالْجَائِفَةِ وَقَطْعِ الْيَدِ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ، فَهَلْ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِهَذَا الطَّرِيقِ تَحْقِيقًا لِلْمُمَاثَلَةِ، أَمْ يَجِبُ الْعُدُولُ إِلَى حَزِّ الرَّقَبَةِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الْأَوَّلُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَجَافَهُ كَجَائِفَتِهِ، فَلَمْ يَمُتْ، فَهَلْ يُزَادُ فِي الْجَوَائِفِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَإِذَا قُلْنَا: يَجُوزُ الِاقْتِصَاصُ بِطَرِيقِ الْجَائِفَةِ، فَقَالَ: أُجِيفُهُ، ثُمَّ أَعْفُو عَنْهُ إِنْ لَمْ يَمُتْ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ، إِنَّمَا يُمَكَّنُ إِذَا قَالَ: أُجِيفُهُ ثُمَّ أَحُزُّ رَقَبَتَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَرْمِيهِ مِنَ الشَّاهِقِ ثُمَّ أَعْفُو، قَالَ: وَلَوْ أَجَافَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، عُزِّرَ عَلَى مَا فَعَلَ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ مَاتَ، بَانَ بُطْلَانُ الْعَفْوِ. وَالْقَوْلَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ بِالْجَائِفَةِ وَنَحْوِهَا؟ يَجْرِيَانِ فِيمَا قَطَعَ يَدًا شَلَّاءَ، وَيَدُ الْقَاطِعِ صَحِيحَةٌ، أَوْ سَاعِدًا مِمَّنْ لَا كَفَّ لَهُ، وَالْقَاطِعُ سَلِيمٌ، هَلْ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ بِقَطْعِ الْيَدِ وَالسَّاعِدِ؟ .

فَرْعٌ. الْمُمَاثَلَةُ مَرْعِيَّةٌ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ، كَمَا هِيَ مَرْعِيَّةٌ فِي قِصَاصِ النَّفْسِ بِشَرْطِ إِمْكَانِ رِعَايَتِهَا، فَلَوْ أَبَانَ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِهِ بِمُثَقَّلٍ، لَمْ يُقْتَصَّ إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَلَوْ أَوْضَحَ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، لَمْ يُوضَحْ بِالسَّيْفِ، بَلْ يُوضَحُ بِحَدِيدَةٍ خَفِيفَةٍ، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَوْثُوقًا بِهِ مَضْبُوطًا، قُوبِلَ بِمِثْلِهِ، كَفَقْءِ الْعَيْنِ بِالْأُصْبُعِ. فَرْعٌ. قَطَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْكُوعِ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ سَاعِدَهُ مِنَ الْمِرْفَقِ قَبْلَ انْدِمَالِ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ، فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، وَطَرِيقُ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الْأَوَّلِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ مِنَ الْكُوعِ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ، حُزَّتْ رَقَبَتُهُ. وَأَمَّا الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ لَهُ سَاعِدٌ بِلَا كَفٍّ، اقْتُصَّ مِنْهُ بِقَطْعِ مِرْفَقِهِ، ثُمَّ يُقْتَلُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ سَلِيمَةً، فَهَلْ تُقْطَعُ مِنَ الْمِرْفَقِ ثُمَّ تُحَزُّ رَقَبَتُهُ، أَمْ يُقْتَصَرُ عَلَى الْحَزِّ؟ قَوْلَانِ وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» لِتَرِدَ الْحَدِيدَةُ عَلَى مَوْرِدِهَا فِي الْجِنَايَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِزِيَادَةِ الْكَفِّ الْهَالِكَةِ بِهَلَاكِ النَّفْسِ، وَلَوْ أَرَادَ الْوَلِيُّ الْعَفْوَ عَنِ الْأَوَّلِ بَعْدَ أَنْ أَقْطَعَهُ مِنَ الْكُوعِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَلَى مَالٍ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ، وَقَدِ اسْتَوْفَى النِّصْفَ بِالْيَدِ الَّتِي قَطَعَهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الثَّانِي عَلَى مَالٍ، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ إِلَّا قَدْرَ أَرْشِ السَّاعِدِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْهُ إِلَّا السَّاعِدَ. فَرْعٌ. إِذَا اقْتُصَّ مَنْ قَاطِعِ الْيَدِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالسِّرَايَةِ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَحُزَّ رَقَبَتَهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ وَيَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَالْيَدُ الْمُسْتَوْفَاةُ مُقَابِلَةٌ

بِالنِّصْفِ، فَإِنْ مَاتَ الْجَانِي، أَوْ قُتِلَ ظُلْمًا، أَوْ فِي قِصَاصٍ آخَرَ، تَعَيَّنَ أَخْذُ نِصْفِ الدِّيَةِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ، فَقُطِعَتْ يَدَاهُ قِصَاصًا، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالسِّرَايَةِ، فَلِلْوَلِيِّ حَزُّ رَقَبَةِ الْجَانِي، فَلَوْ عَفَا، فَلَا مَالَ لَهُ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا يُقَابِلُ الدِّيَةَ، وَهَذِهِ صُورَةٌ يُسْتَحَقُّ فِيهَا الْقِصَاصَ وَلَا تُسْتَحَقُّ الدِّيَةُ بِالْعَفْوِ عَلَيْهَا، وَلَوِ اقْتَصَّ مِنْ قَاطِعِ الْيَدِ، فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُقْتَصِّ. وَلَوْ مَاتَا جَمِيعًا بِالسِّرَايَةِ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ فِي الْيَدِ، نُظِرَ، إِنْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوَّلًا، أَوْ مَاتَا مَعًا، فَوَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي تَرِكَتِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، نَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، وَإِنْ مَاتَ الْجَانِي أَوَّلًا، فَهَلْ يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، أَمْ لَا شَيْءَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُوضِحَةِ، وَجَبَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِهَا، وَقَدْ أَخَذَ بِقِصَاصِ الْمُوضِحَةِ نِصْفَ الْعُشْرِ. فَرْعٌ. قَطَعَهُ، فَحَزَّ الْمَقْطُوعُ رَقَبَةَ الْجَانِي، فَإِنْ مَاتَ الْمَقْطُوعُ بِالسِّرَايَةِ، صَارَ قِصَاصًا، وَإِنِ انْدَمَلَ، قُتِلَ قِصَاصًا، وَفِي تَرِكَةِ الْجَانِي نِصْفُ الدِّيَةِ لِقَطْعِهِ الْيَدَ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ. قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَقَتَلَ آخَرَ ثُمَّ مَاتَ الْمَقْطُوعُ بِالسِّرَايَةِ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصَيْنِ، نَقَلَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْمَقْتُولِ دُونَ الْمَقْطُوعِ، لِأَنَّ قِصَاصَ الْمَقْطُوعِ وَجَبَ بِالسِّرَايَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ وُجُوبِهِ لِلْمَقْتُولِ، لَكِنْ لِوَلِيِّ الْمَقْطُوعِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ، فَإِذَا قَتَلَهُ الْآخَرُ، أَخَذَ نِصْفَ الدِّيَةِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَتَوَقَّفَ فِي تَخْصِيصِ الِاقْتِصَاصِ فِي النَّفْسِ

فصل

بِالْمَقْتُولِ، وَلَوْ أَنَّهُ بَعْدَ مَا قَطَعَ وَاحِدًا، وَقَتَلَ آخَرَ قُطِعَتْ يَدُهُ قِصَاصًا، وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ قُطِعَ قِصَاصًا ثُمَّ قُتِلَ قِصَاصًا، ثُمَّ مَاتَ الْمَقْطُوعُ الْأَوَّلُ، فَلِوَلِيِّهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي. فَصْلٌ سَبَقَ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ يَمِينٌ بِيَسَارٍ وَلَا عَكْسُهُ، وَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي يَمِينٍ وَاتَّفَقَا عَلَى قَطْعِ يَسَارٍ بَدَلَهَا، لَمْ يَكُنْ بَدَلًا، كَمَا لَوْ قَتَلَ غَيْرَ الْقَاتِلِ بِرِضَاهُ بَدَلًا، لَا يَقَعُ بَدَلًا، وَلَكِنْ لَا قِصَاصَ فِي الْيَسَارِ لِشُبْهَةِ الْبَذْلِ وَتَجِبُ دِيَتُهَا، وَمَنْ عَلِمِ مِنْهُمَا فَسَادَ هَذِهِ الْمُصَالَحَةِ، أَثِمَ بِقَطْعِ الْيَسَارِ، وَهَلْ يَسْقُطُ قِصَاصُ الْيَمِينِ بِمَا جَرَى؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَلَوْ قَالَ مُسْتَحِقُّ قِصَاصِ الْيَمِينِ لِلْجَانِي: أَخْرِجْ يَمِينَكَ، فَأَخْرَجَ يَسَارَهُ، فَقَطَعَهَا الْمُسْتَحِقُّ، فَلِلْمُخْرِجِ أَحْوَالٌ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْيَسَارَ لَا تُجْزِئُ عَنِ الْيَمِينِ، وَأَنَّهُ يُخْرِجُ الْيَسَارَ وَيَقْصِدُ بِإِخْرَاجِهَا الْإِبَاحَةَ لِلْمُقْتَصِّ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْيَسَارِ وَلَا دِيَةَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَقَالُوا: قَدْ بَذَلَهَا صَاحِبُهَا مَجَّانًا، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِإِبَاحَةٍ قَالُوا: وَالْفِعْلُ بَعْدَ السُّؤَالِ كَالْإِذْنِ فِي الْمَسْئُولِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: أَخْرِجْ يَدَكَ لِأَقْطَعَهَا، أَوْ قَالَ: مَلِّكْنِي قَطْعَهَا، فَأَخْرَجَهَا، كَانَ ذَلِكَ إِبَاحَةً. وَلَوْ قَالَ: نَاوِلْنِي مَتَاعَكَ لِأُلْقِيَهُ فِي الْبَحْرِ، فَنَاوَلَهُ كَانَ كَمَا لَوْ نَطَقَ بِالْإِذْنِ فِيهِ، فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُ إِذَا أَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ، وَلَوْ قَدَّمَ طَعَامًا إِلَى مَنِ اسْتَدْعَاهُ، كَانَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: كُلْ، وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَجْهًا أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الْيَسَارِ إِذَا لَمْ يَتَلَفَّظِ الْمُخْرِجُ بِالْإِذْنِ فِي الْقَطْعِ، وَحُمِلَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا إِذَا أَذِنَ لَفْظًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْقَاطِعُ أَنَّهَا الْيَسَارُ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ أَمْ لَا، لَكِنْ إِذَا عَلِمَ، عُزِّرَ، وَعَنِ ابْنِ سَلِمَةَ احْتِمَالٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ عَالِمًا، وَلَوْ

قَصَدَ شَخْصٌ قَطْعَ يَدِ رَجُلٍ ظُلْمًا، فَلَمْ يَدْفَعْهُ الْمَقْصُودُ وَسَكَتَ حَتَّى قَطَعَ، فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ إِهْدَارًا؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ لَفْظٌ وَلَا فِعْلٌ، فَصَارَ كَسُكُوتِهِ عَنْ إِتْلَافِ مَالِهِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّهُ سُكُوتٌ مُحَرَّمٌ، فَدَلَّ عَلَى الرِّضَى، وَلَوْ سَرَى قَطْعُ الْيَسَارِ إِلَى نَفْسِ الْمُخْرِجِ، فَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَا إِذَا قَالَ: اقْتُلْنِي، فَقَتَلَهُ، وَبُنِيَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَقْطُوعِ يَسَارُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ هَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؟ . هَذَا حُكْمُ قَطْعِ الْيَسَارِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَأَمَّا قِصَاصُ الْيَمِينِ، فَيَبْقَى كَمَا كَانَ، لَكِنْ إِذَا سَرَى قَطْعُ الْيَسَارِ إِلَى النَّفْسِ، فَاتَ الْقِصَاصُ، فَيَعْدِلُ إِلَى دِيَةِ الْيَدِ، فَلَوْ قَالَ الْقَاطِعُ: قَطَعْتُ الْيَسَارَ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنِ الْيَمِينِ فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَسْقُطُ قِصَاصُهُ فِي الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْقِطْهُ وَلَا اعْتَاضَ عَنْهُ، وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ: يَسْقُطُ، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِهِ اكْتِفَاءً بِالْيَسَارِ، فَعَلَى هَذَا يَعْدِلُ إِلَى دِيَةِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْيَسَارَ وَقَعَتْ هَدَرًا. وَطُرِدَ الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ جَاءَ الْجَانِي بِالدِّيَةِ وَطَلَبَ مِنْ مُسْتَحِقِّ الْقَطْعِ مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيَتْرُكَ الْقِصَاصَ، فَأَخَذَهَا، فَهَلْ يُجْعَلُ الْأَخْذُ عَفْوًا، وَلَوْ قَالَ الْقَاطِعُ: عَلِمْتُ أَنَّ الْيَسَارَ لَا تُجْزِئُ عَنِ الْيَمِينِ شَرْعًا، لَكِنْ جَعَلْتُهَا عِوَضًا عَنْهَا، اطَّرَدَ الْخِلَافُ، وَجَعَلَ الْإِمَامُ هَذِهِ الصُّورَةَ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: قَصَدْتُ بِإِخْرَاجِ الْيَسَارِ إِيقَاعُهَا عَنِ الْيَمِينِ لِظَنِّي أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَهَا، فَنَسْأَلُ الْمُقْتَصَّ لِمَ قَطَعَ؟ وَلَهُ فِي جَوَابِهِ أَلْفَاظٌ أَحَدُهَا أَنْ يَقُولَ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ أَبَاحَهَا بِالْإِخْرَاجِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْيَسَارِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَيَبْقَى قِصَاصُ الْيَمِينِ كَمَا كَانَ قَطْعًا. الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا الْيَسَارُ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ وَلَا تُجْعَلُ بَدَلًا، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ، لَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَبْقَى قِصَاصُ الْيَمِينِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ:

قَطَعْتُهَا عِوَضًا عَنِ الْيَمِينِ، وَظَنَنْتُهَا تُجْزِئُ كَمَا ظَنَّهُ الْمُخْرِجُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي الْيَسَارِ، وَأَنَّهُ يَسْقُطُ قِصَاصُ الْيَمِينِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ مَا قَطَعَهُ الْآخَرُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ: ظَنَنْتُ الْمُخْرَجَةَ الْيَمِينَ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْيَسَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» فِيهِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا وَقَالَ: ظَنَنْتُهُ قَاتِلَ أَبِي فَلَمْ يَكُنْ. فَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْقِصَاصَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْهَا مَجَّانًا وَيَبْقَى قِصَاصُ الْيَمِينِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ الْمُخْرِجُ: دُهِشْتُ فَأَخْرَجْتُ الْيَسَارَ، وَظَنِّي أَنِّي أُخْرِجُ الْيَمِينَ، فَيَسْأَلُ الْمُقْتَصُّ عَنْ قَصْدِهِ فِي قَطْعِهِ الْيَسَارَ، وَلَهُ فِي جَوَابِهِ صِيَغٌ. إِحْدَاهَا: أَنْ يَقُولَ: ظَنَنْتُ أَنَّ الْمُخْرِجَ قَصَدَ الْإِبَاحَةَ، فَقِيَاسُ مِثْلِهِ فِي الْحَالِ الثَّانِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ فِي الْيَسَارِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ كَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ أَذِنَ لِي فِي الْقَتْلِ، وَهَذَا يُوَافِقُ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ وَهُوَ الْمُتَوَجِّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا الْيَسَارُ وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُخْرِجِ بَذْلٌ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ: ظَنَنْتُ الْيَسَارَ تُجْزِئُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ: ظَنَنْتُهَا الْيَمِينَ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الصِّيَغِ يَبْقَى قِصَاصُ الْيَمِينِ إِلَّا إِذَا قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّ الْيَسَارَ تُجْزِئُ، فَإِنَّ الْأَصَحَّ سُقُوطُهُ، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الدِّيَةُ عَلَى الْآخَرِ. وَلَوْ قَالَ الْقَاطِعُ: دُهِشْتُ فَلَمْ أَدْرِ مَا قَطَعْتُ، قَالَ الْإِمَامُ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ فِي الْيَسَارِ، لِأَنَّ الدَّهْشَةَ لَا تَلِيقُ بِحَالِ الْقَاطِعِ، وَفِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ لَا سِيَّمَا الْعِرَاقِيِّينَ، أَنَّ الْمُخْرِجَ لَوْ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنَ الْمُقْتَصِّ: أَخْرِجْ يَمِينِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي سَمْعِي: أَخْرِجْ يَسَارَكَ، فَأَخْرَجْتُهَا، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: دُهِشْتُ، فَأَخْرَجْتُ وَأَنَا أَظُنُّهَا الْيَمِينَ.

لَكِنَّ مُقْتَضَى مَا سَبَقَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُطَابِقَ لِلسُّؤَالِ كَالْإِذْنِ لَفْظًا أَنْ يَلْحَقَ ذَلِكَ بِصُورَةِ الْإِبَاحَةِ. فَرْعٌ. جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْقِصَاصِ، فَأَمَّا إِذَا وَجَبَ قَطْعُ يَمِينِهِ فِي السَّرِقَةِ، فَقَالَ الْجَلَّادُ لِلسَّارِقِ: أَخْرِجْ يَمِينِكِ، فَأَخْرَجَ يَسَارَهُ، فَقَطَعَهَا، فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَدِيمٌ، وَيُقَالُ: مُخْرَجٌ: إِنَّ الْحُكْمَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِصَاصِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ يَقَعُ قَطْعُ الْيَسَارِ عَنِ الْحَدِّ، فَيَسْقُطُ قَطْعُ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْكِيلُ وَقَدْ حَصَلَ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَاسْتَدْرَكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، فَحَمَلَ مَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ عَلَى الْحَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ بِقَصْدِ الْإِبَاحَةِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ قَطْعُ الْيَمِينِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ السَّارِقُ يَسَارَ نَفْسِهِ، أَوْ قَطَعَهَا غَيْرُهُ بَعْدَ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ. فَرْعٌ. لَوْ كَانَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ مَجْنُونًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الْيَسَارَ مَدْهُوشًا، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْبَدَلُ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ عَاقِلًا، وَالْمُسْتَحِقُّ مَجْنُونًا، فَقَطَعَ يَمِينَ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ مُكْرِهًا لَهُ، فَهَلْ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا وَهُوَ الصَّحِيحُ، انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى الدِّيَةِ، وَيَجِبُ لِلْجَانِي دِيَةُ يَدِهِ، فَإِنْ جَعَلْنَا عَمْدَهُ عَمْدًا، فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَالصُّورَةُ مِنْ صُوَرِ الْتَّقَاصِّ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ خَطَأً، فِدْيَةُ الْيَسَارِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا تَقَاصَّ، وَلَوْ قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ: أَخْرِجْ يَمِينَكَ، فَأَخْرَجَهَا، فَقَطَعَهَا الْمَجْنُونُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَصِحُّ اسْتِيفَاؤُهُ، وَيَنْتَقِلُ حَقُّهُ إِلَى الدِّيَةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِبَذْلِهِ وَتَسْلِيطِهِ، وَإِنْ أَخْرَجَ يَسَارَهُ، فَقَطَعَهَا، فَهِيَ مُهْدَرَةٌ وَيَبْقَى حَقُّهُ فِي قِصَاصِ الْيَمِينِ.

فَرْعٌ. حَيْثُ أَوْجَبْنَا دِيَةَ الْيَسَارِ فِي الصُّوَرِ السَّابِقَةِ، فَهِيَ فِي مَالِهِ، لِأَنَّهُ قَطَعَ مُتَعَمَّدًا، وَعَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ. فَرْعٌ. حَيْثُ قُلْنَا: يَبْقَى الْقِصَاصُ فِي الْيَمِينِ، لَا يُسْتَوْفَى حَتَّى يَنْدَمِلَ قَطْعُ الْيَسَارِ لِمَا فِي تَوَالِي الْقَطْعَيْنِ مِنْ خَطَرِ الْهَلَاكِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَطَعَ طَرَفَيْ رَجُلٍ مَعًا، اقْتَصَّ فِيهِمَا مَعًا، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّفْرِيقُ، نَصَّ عَلَيْهِ. فَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ، وَالْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ خَطَرَ الْمُوَالَاةِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى يَحْصُلُ مِنْ قَطْعِ مُسْتَحِقٍّ وَغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ. فَرْعٌ. قَالَ الْمُخْرِجُ: قَصَدْتُ بِالْإِخْرَاجِ إِيقَاعُهَا عَنِ الْيَمِينِ، وَقَالَ الْقَاطِعُ: أَخْرَجْتُهَا بِقَصْدِ الْإِبَاحَةِ، فَالْمُصَدَّقُ الْمُخْرِجُ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِقَصْدِهِ. فَرْعٌ. ثَبَتَ لَهُ الْقِصَاصُ فِي أُنْمُلَةٍ، فَقَطَعَ مِنَ الْجَانِي أُنْمُلَتَيْنِ، سُئِلَ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِالتَّعَمُّدِ، قُطِعَتْ مِنْهُ الْأُنْمُلَةُ الثَّانِيَةُ. وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتُ وَتَوَهَّمْتُ أَنِّي أَقْطَعُ أُنْمُلَةً وَاحِدَةً، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَوَجَبَ أَرْشُ الْأُنْمُلَةِ الزَّائِدَةِ، وَهَلْ هِيَ فِي مَالِهِ أَمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ قَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: فِي مَالِهِ.

باب

بَابٌ الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ. هُوَ مُسْتَحَبٌّ، فَإِنْ عَفَا بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ، سَقَطَ الْقِصَاصُ وَإِنْ كَرِهَ الْبَاقُونَ، وَلَوْ عَفَا عَنْ عُضْوٍ مِنَ الْجَانِي، سَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ، وَلَوْ أَقَّتَ الْعَفْوَ، تَأَبَّدَ، وَيَشْتَمِلُ الْبَابُ عَلَى طَرَفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي حُكْمِ الْعَفْوِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُوجَبَ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ مَاذَا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ الْقَوَدُ الْمَحْضُ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ بَدَلٌ مِنْهُ عِنْدَ سُقُوطِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ، أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْفُوَ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَى الْجَانِي، وَلَوْ مَاتَ أَوْ سَقَطَ الطَّرَفُ الْمُسْتَحَقُّ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّهُ لَا يَعْدِلُ إِلَى الْمَالِ إِلَّا بِرِضَى الْجَانِي، وَأَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْجَانِي، سَقَطَتِ الدِّيَةُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. فَإِذَا قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، فَعَفَا عَنِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا، فَلَا مُطَالَبَةَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَمَّا وَجَبَ لِي بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ، أَوْ عَنْ حَقِّي الثَّابِتِ عَلَيْكَ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَلَا مُطَالَبَةَ أَيْضًا بِشَيْءٍ، نَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنِ النَّصِّ. وَلَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَلَى أَنْ لَا مَالَ لِي، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَعَفْوِهِ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَالِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْقِطْهُ، وَإِنَّمَا شَرَطَ انْتِفَاءَهُ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ، تَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، فَلَوْ مَاتَ الْجَانِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَهُ الدِّيَةُ لِفَوَاتِ الْقِصَاصِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ هَذَا عَنِ الْقِصَاصِ وَيَرْجِعَ إِلَى الدِّيَةِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحَّهُمَا وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ النَّصِّ: لَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَفَا مُطْلَقًا، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ

الْعَفْوَ عَنِ الدِّيَةِ لَغْوٌ، وَالْوَلِيُّ عَلَى خِيرَتِهِ كَمَا كَانَ. وَالثَّالِثُ: إِنْ عَفَا عَلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ، وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا، فَلَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا رُجُوعَ إِلَى الدِّيَةِ اسْتِقْلَالًا، فَلَوْ تَرَاضَيَا بِمَالٍ مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ أَوْ غَيْرِهِ بِقَدْرِهَا، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَا لَا تَجُوزُ الْمُصَالَحَةُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى عِوَضٍ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ، لِأَنَّ الدَّمَ مُتَقَوَّمٌ شَرْعًا، كَالْبُضْعِ بِخِلَافِ الْعِرْضِ، وَلَوْ جَرَى الصُّلْحُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ، جَازَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، كَاخْتِلَاعِ الْأَجْنَبِيِّ وَأَوْلَى، لِأَنَّ حَقْنَ الدَّمِ مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَلَوْ عَفَا، أَوْ صَالَحَ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ قَبْلَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ. فَإِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدِّيَةِ، جَازَ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ الدِّيَةِ، أَمْ أَقَلُّ، أَوْ أَكْثَرُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِلَا دِيَةٍ، وَصُورَتُهُ مَا إِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ، فَسَرَى إِلَى النَّفْسِ، فَقُطِعَتْ يَدُ الْجَانِي قِصَاصًا، أَوْ قُطِعَتْ يَدَاهُ قِصَاصًا، ثُمَّ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى نَفْسِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ حَزُّ رَقَبَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْكَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَاصَ وَلَا الدِّيَةَ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُعَيِّنْ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُحْمَلُ عَلَى الْقِصَاصِ وَيُحْكَمُ بِسُقُوطِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: يُقَالُ لَهُ: اصْرِفِ الْآنَ إِلَى مَا شِئْتَ مِنْهُمَا، وَلَوْ قَالَ: اخْتَرْتُ الدِّيَةَ، سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: عَفَوْتُ عَنِ الْقِصَاصِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّ اخْتِيَارَهُ أَحَدَهُمَا لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ الثَّانِي، بَلْ يَبْقَى خِيَارُهُ كَمَا كَانَ، وَلَوْ قَالَ: اخْتَرْتُ الْقِصَاصَ، فَقِيَاسُ الْقَفَّالِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الصَّحِيحِ، فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الدِّيَةِ لِأَنَّهَا أَخَفُّ، أَمْ لَا كَعَكْسِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ،

فصل

هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ بِعَيْنِهِ، فَلَوْ عَفَا عَنْهُ عَلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ عَلَى مَالٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ، فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ عَفَا، أَوْ صَالَحَ عَلَى غَيْرِ جِنْسِهَا، وَقَبِلَ الْجَانِي، ثَبَتَ الْمَالُ، وَسَقَطَ الْقَوَدُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ الْجَانِي، لَمْ يَثْبُتِ الْمَالُ قَطْعًا، وَلَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ الْقِصَاصُ، فَهَلْ تَثْبُتُ الدِّيَةُ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ كَمَا لَوْ عَفَا مُطْلَقًا، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: هَذِهِ مُعْضِلَةٌ أَسَهَرَتِ الْجِلَّةَ، قَالَ غَيْرُهُ: هُوَ كَعَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ وَنِصْفِ الدِّيَةِ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ. وَلَوْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلدِّيَةِ، لَمْ تَجِبْ دِيَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يُوجِبْهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْعَفْوُ إِسْقَاطٌ ثَابِتٌ لَا إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ بِنَفْسِ الْعَفْوِ، فَاخْتَارَهَا بَعْدَ الْعَفْوِ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: تَثْبُتُ الدِّيَةُ، وَيَكُونُ اخْتِيَارُهَا بَعْدَ الْعَفْوِ كَالْعَفْوِ عَلَيْهَا، وَحُكِيَ عَنِ النَّصِّ أَنَّ هَذَا الِاخْتِيَارَ يَكُونُ عَقِبَ الْعَفْوِ، وَعَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّرَاخِي، وَلَوْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ، فَهُوَ لَغْوٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ، فَلَوْ عَفَا مُطْلَقًا، عَادَ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ. فَصْلٌ لَوْ كَانَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مَسْلُوبَ الْعِبَارَةِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَعَفْوُهُ لَغْوٌ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِحِقَ غَيْرَهُ، كَالْحَجْرِ بِالْفَلَسِ. فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ، سَقَطَ، وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: مُوجِبُ الْقَتْلِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، فَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ عَنِ الْمَالِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ الْمَالُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، دُفِعَ إِلَى غُرَمَائِهِ، وَلَا يُكَلِّفُهُ تَعْجِيلَ الْقِصَاصِ، أَوِ الْعَفْوَ لِيَصْرِفَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ قُلْنَا:

فصل

مُوجَبُ الْقَتْلِ الْقِصَاصُ، فَعَفَا عَلَى مَالٍ، ثَبَتَ الْمَالُ، وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا، ثَبَتَتِ الدِّيَةُ إِنْ قُلْنَا: الْمُطْلَقُ يُوجِبُ الدِّيَةَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُوجِبُهَا، لَمْ تَثْبُتْ، وَإِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَلَى أَنْ لَا مَالَ، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْ مُطْلَقُ عَفْوِهِ الْمَالَ، فَالْمُعْتَدُّ بِالنَّفْيِ أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يُوجِبُهُ، لِئَلَّا يُكَلِّفَ الْمُفْلِسَ الِاكْتِسَابَ، وَعَفْوُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَعَفْوُ الْوَرَثَةِ عَنِ الْقِصَاصِ مَعَ نَفْيِ الْمَالِ إِذَا كَانَ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّةٌ، كَعَفْوِ الْمُفْلِسِ، وَأَمَّا الْحُجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، فَيَصِحُّ مِنْهُ إِسْقَاطُ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ. وَفِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الدِّيَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْلِسِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْمَالِ بِحَالٍ، كَالصَّبِيِّ، وَعَفْوُ الْمُكَاتَبِ عَنِ الدِّيَةِ تَبَرُّعٌ، فَلَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذَنِ سَيِّدِهِ، وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ. فَصْلٌ لَوْ صَالَحَ مِنَ الْقِصَاصِ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ مِنْ جِنْسِهَا، بِأَنْ صَالَحَ عَلَى مِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ، كَالصُّلْحِ مِنْ أَلْفٍ عَلَى أَلْفَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقَوَدُ بِعَيْنِهِ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَثَبَتَ الْمَالُ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَلِلْبَاقِينَ الدِّيَةُ بِالْحِصَّةِ، وَأَمَّا الْعَافِي، فَإِنْ عَفَا عَلَى حِصَّتِهِ مِنَ الدِّيَةِ، ثَبَتَتْ، وَإِنْ نَفَى الْمَالَ، لَمْ تَثْبُتْ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَإِنْ قُلْنَا: مُوجِبُ الْقَتْلِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: ثَبَتَتْ، وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ مُطْلَقَ الْعَفْوِ، هَلْ يُوجِبُ الدِّيَةَ؟ . الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْعَفْوِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَأَلْفَاظِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: اقْطَعْ يَدِيَ، وَالْقَاتِلُ مَالِكٌ لِأَمْرِهِ، فَقَطَعَ الْمَأْذُونُ لَهُ يَدَهُ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ، فَلَا ضَمَانَ بِإِتْلَافِهِ، فَلَوْ سَرَى الْقَطْعُ، أَوْ قَالَ: اقْتُلْنِي، فَقَتَلَهُ، فَقَدْ

سَبَقَ فِي فَصْلِ الْإِكْرَاهِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا دِيَةَ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا دِيَةَ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْأَصَحِّ وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْإِبَاحَةُ، وَقِيلَ: تَسْقُطُ تَبَعًا. الثَّانِيَةُ: قَطَعَ عُضْوَ زَيْدٍ، كَيَدِهِ أَوْ أُصْبُعِهِ، فَعَفَا عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ قَوَدًا أَوْ أَرْشًا، فَلِلْجِنَايَةِ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ تَنْدَمِلَ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا أَرْشَ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَجِبُ أَرْشُهُ، وَسَوَاءٌ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: عَفَوْتُ عَنْ مُوجِبِهَا، أَوْ قَالَ: وَعَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يَزِدْ، نَصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ عَفْوٌ عَنِ الْقِصَاصِ، وَعَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِنَا: مُوجَبُ الْعَمْدِ الْقَوَدُ فَإِنْ قُلْنَا: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، فَفِي بَقَاءِ الدِّيَةِ احْتِمَالَانِ لِلرُّويَانِيِّ. الثَّانِي: أَنْ يَسْرِيَ الْقَطْعُ إِلَى النَّفْسِ، فَلَا قِصَاصَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لَا قِصَاصَ فِي الطَّرَفِ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ سَلِمَةَ وُجُوبُ قِصَاصِ النَّفْسِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَفْوِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فَقَطْ، لِسُقُوطِ نَصِفِهَا بِالْعَفْوِ عَنِ الْيَدِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْمَالُ، فَهُوَ قَسْمَانِ، أَرْشُ الْيَدِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ إِلَى تَمَامِ الدِّيَةِ، فَأَمَّا أَرْشُ الْيَدِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ جَرَى لَفْظُ الْوَصِيَّةِ بِأَنْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِأَرْشِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ، وَفِيهَا الْقَوْلَانِ، فَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا، لَزِمَهُ أَرَشُ الْيَدِ، وَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، سَقَطَ الْأَرْشُ إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِلَّا سَقَطَ مِنْهُ قَدْرُ الثُّلُثِ. وَإِنْ جَرَى لَفْظُ الْعَفْوِ أَوِ الْإِبْرَاءِ أَوِ الْإِسْقَاطِ، بِأَنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْ أَرْشِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، أَوْ أَبْرَأْتُهُ، أَوْ أَسْقَطْتُهُ، فَقِيلَ: هُوَ كَالْوَصِيَّةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَسْقُطُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ نَاجِزٌ. وَالْوَصِيَّةُ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَوْتِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَهِيَ وَاجِبَةٌ إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَإِنْ قَالَ: وَمَا يَحْدُثُ، نُظِرَ، إِنْ قَالَهُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِأَرْشِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وَأَرْشِ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا، أَوْ يَتَوَلَّدُ،

أَوْ يَسْرِي إِلَيْهِ، بُنِيَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ، وَيَجِيءُ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَرْشِ الْيَدِ، وَإِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْهُ، أَوْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ ضَمَانِ مَا يَحْدُثُ، أَوْ أَسْقَطْتُهُ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِيمَا يَحْدُثُ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ قَبْلَ الثُّبُوتِ. وَالثَّانِي: يُؤَثِّرُ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْأَرْشُ دُونَ الدِّيَةِ، فَأَمَّا إِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ، فَعَفَا عَنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحِ الْوَصِيَّةَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ بِكَمَالِهَا، وَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، سَقَطَتْ بِكَمَالِهَا إِنْ وَفَّى بِهَا الثُّلُثُ، سَوَاءٌ صَحَّحْنَا الْإِبْرَاءَ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، أَمْ لَمْ نُصَحِّحْهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَسْرِيَ إِلَى عُضْوٍ آخَرَ، بِأَنْ قَطَعَ أُصْبُعَهُ فَتَآكَلَ بَاقِي الْكَفِّ بِهَا، ثُمَّ انْدَمَلَ، فَلَا قِصَاصَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ خِلَافٌ، وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَتَسْقُطُ دِيَةُ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ بِالْعَفْوِ، وَلَا يَسْقُطُ ضَمَانُ السِّرَايَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الضَّمَانَ إِذَا أَطْلَقَ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ فِي الْإِبْرَاءِ عَمَّا لَمْ يَجِبْ وَجَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جَنَى عَبْدٌ جِنَايَةً تُوجِبُ الْمَالَ، وَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ أَرْشِهَا، ثُمَّ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، أَوِ انْدَمَلَ الْجُرْحُ، وَعَفَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، فَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ الْعَفْوَ، وَإِمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إِلَى السَّيِّدِ، أَوْ إِلَى الْعَبْدِ، فَإِنْ أَطْلَقَهُ، انْبَنَتْ صِحَّتُهُ عَلَى أَنَّ أَرْشَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فَقَطْ أَمْ بِهَا وَبِالذِّمَّةِ حَتَّى يُطَالِبَ بِمَا فَضَلَ بَعْدَ الْعِتْقِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ مَذْكُورَانِ فِي الدِّيَاتِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ فَقَطْ، صَحَّ الْعَفْوُ، لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ وَهُوَ السَّيِّدُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ أَيْضًا، فَفَائِدَةُ الْعَفْوِ تَعُودُ إِلَى الْعَبْدِ، فَيُبْنَى عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ، إِنْ صَحَّحْنَاهَا، صَحَّ الْعَفْوُ، وَإِلَّا فَلَا، وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهَيْنِ إِذَا قُلْنَا بِالتَّعَلُّقِ بِالذِّمَّةِ فِي أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ هَلْ يَمْلِكُ فَكَّ الرَّقَبَةِ عَنِ التَّعَلُّقِ، وَجَعْلَ الْحَقِّ فِي الذِّمَّةِ خَاصَّةً كَمَا يَمْلِكُ فَكَّ الْمَرْهُونِ؟ . قَالَ: وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَبْقَى تَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِالرَّقَبَةِ إِذَا أَبْطَلْنَا

الْعَفْوَ، وَأَمَّا إِذَا أَضَافَ الْعَفْوَ إِلَى السَّيِّدِ، فَقَالَ: عَفَوْتُ عَنْكَ، فَيَصِحُّ إِنْ عَلَّقْنَا الْأَرْشَ بِالرَّقَبَةِ فَقَطْ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى الْعَبْدِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ فَقَطْ، لَمْ يَصِحَّ، وَإِلَّا فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ، فَالْعَفْوُ عَنِ الْعَبْدِ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جَرَحَ حُرٌّ رَجُلًا خَطَأً، فَعَفَا عَنْهُ، ثُمَّ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً، أَمْ عَلَى الْقَاتِلِ، ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، وَفِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي بَابِهِ. فَإِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، أَوْ أَسْقَطْتُ الدِّيَةَ عَنْهُمْ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الدِّيَةِ، فَهَذَا تَبَرُّعٌ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ، فَيَنْفُذُ إِذَا وَفَّى الثُّلُثُ بِهِ، وَيَبْرَءُونَ، سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُمْ مُتَأَصِّلِينَ أَمْ مُتَحَمِّلِينَ، وَإِنْ قَالَ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ، لَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: يُلَاقِيهِ الْوُجُوبُ ثُمَّ يَحْمِلُ عَنْهُ، صَحَّ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْوُجُوبِ يَنْتَقِلُ عَنْهُ، فَيُصَادِفُهُ الْعَفْوُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا إِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ بِاعْتِرَافِ الْعَاقِلَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْقَاتِلُ، وَأَنْكَرَتِ الْعَاقِلَةُ، فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَيَكُونُ الْعَفْوُ تَبَرُّعًا عَلَى الْقَاتِلِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ. وَلَوْ عَفَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْعَاقِلَةِ، أَوْ مُطْلَقًا، صَحَّ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْجَانِي، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ، صَحَّ. فَرْعٌ. لَوْ كَانَ الْجَانِي ذِمِّيًّا وَعَاقِلَتُهُ مُسْلِمِينَ أَوْ حَرْبِيِّينَ، فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهَا، فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ، وَفِيهَا الْقَوْلَانِ. الْخَامِسَةُ: جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ لَوِ انْدَمَلَتْ، كَقَطْعِ يَدٍ، فَعَفَا عَلَى الدِّيَةِ، ثُمَّ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ، لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ

وَفِيهِ الْوَجْهُ الْمَنْسُوبُ إِلَى ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ سَلِمَةَ، وَلَوْ جَنَى بِمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، كَالْجَائِفَةِ وَكَسْرِ الذِّرَاعِ، فَأَخَذَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْأَرْشَ، ثُمَّ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَلَوْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَدْ قَالَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ: عَفَوْتُ عَنِ الْقِصَاصِ، فَهُوَ لَغْوٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَا قِصَاصَ فِيهَا. وَلَوْ عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ قَطْعِ الْيَدِ وَنَحْوِهَا عَلَى الدِّيَةِ، ثُمَّ عَادَ الْجَانِي فَحَزَّ رَقَبَتَهُ، نُظِرَ، إِنْ حَزَّ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وِدِيَةُ الْيَدِ، وَإِنْ حَزَّ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ عَفَا عَنْ بَعْضِ النَّفْسِ، لَكِنْ لَهُ الْبَاقِي مِنَ الدِّيَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ الْقِصَاصُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ، فَهَلْ لَهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، أَمِ الْبَاقِي مِنَ الدِّيَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. السَّادِسَةُ: عَفَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، صَحَّ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْجَانِي قِصَاصُ طَرَفِ إِنْسَانٍ وَنَفْسِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّ هَذَا غَيْرَ مُسْتَحِقِّ ذَاكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ عَفْوَ أَحَدِهِمَا لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْآخَرِ، وَمِنْ صُوَرِهِ أَنْ يَقْطَعَ عَبْدٌ يَدَ عَبْدٍ، فَيَعْتِقُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْرِي إِلَى نَفْسِهِ، فَالْقِصَاصُ فِي الْيَدِ لِلسَّيِّدِ، وَفِي النَّفْسِ لِوَرَثَةِ الْعَتِيقِ. وَإِنِ اسْتَحَقَّهُمَا وَاحِدٌ، فَعَفَا عَنِ النَّفْسِ، وَأَرَادَ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ، فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَانْفَرَدَ الْغَزَالِيُّ بِحِكَايَةِ وَجْهٍ فِيهِ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الطَّرَفِ، لَمْ يَسْقُطْ قِصَاصُ النَّفْسِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوِ اسْتَحَقَّ قِصَاصَ النَّفْسِ بِقَطْعِ الطَّرَفِ، بِأَنْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَطَعَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ، وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، ثُمَّ عَفَا الْوَلِيُّ عَنْ قِصَاصِ النَّفْسِ، فَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ الطَّرَفِ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْقَتْلُ، وَالْقَطْعُ طَرِيقُهُ، وَقَدْ عَفَا عَنِ الْمُسْتَحَقِّ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَطْعِ، فَلَهُ حَزُّ رَقَبَتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ،

فَعَفْوُ الْوَلِيِّ عَنِ الْقَطْعِ لَا يُسْقِطُ حَزَّ الرَّقَبَةِ، وَكَذَا عَفْوُهُ عَنِ النَّفْسِ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ. السَّابِعَةُ: إِذَا قَتَلَ رَجُلًا بِالْقَطْعِ السَّارِي، فَقَطَعَهُ الْوَلِيُّ، ثُمَّ عَفَا عَنِ النَّفْسِ مَجَّانًا، فَإِنْ سَرَى الْقَطْعُ، بَانَ بُطْلَانُ الْعَفْوِ، وَإِنْ وَقَفَ، صَحَّ الْعَفْوُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ لِقِطَعِ الْيَدِ شَيْءٌ، وَكَذَا لَوْ كَانَ قَتْلُهُ بِغَيْرِ الْقَطْعِ، وَقَطَعَ الْوَلِيُّ يَدَهُ مُتَعَدِّيًا، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَلَوْ رَمَى الْوَلِيُّ إِلَى الْجَانِي ثُمَّ عَفَا عَنْهُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، فَفِي نُفُوذِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَنْفُذُ لِخُرُوجِ الْأَمْرِ عَنِ اخْتِيَارِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَقَطْعِ الْيَدِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبِ السَّهْمَ، فَالْعَفْوُ صَحِيحٌ مُفِيدٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ وَقَتَلَهُ، تَبَيَّنَّا بُطْلَانَ الْعَفْوِ، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَافِي وَجْهَانِ سَبَقَا فِي بَابِ تَغَيُّرِ الْحَالِ بَيْنَ الْجَرْحِ وَالْمَوْتِ، أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ، لِأَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ. الثَّامِنَةُ: قَطَعَ ذِمِّيٌّ يَدَ مُسْلِمٍ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ، أَوْ يَدَ ذِمِّيٍّ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَقْطُوعُ، ثُمَّ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَلِلْوَلِيِّ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، فَهَلْ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، أَمْ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ دِيَةِ مُسْلِمٍ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ دِيَةَ مُسْلِمٍ سَقَطَ مِنْهَا مَا اسْتَوْفَاهُ وَهُوَ يَدُ ذِمِّيٍّ بِسُدُسِ دِيَةِ مُسْلِمٍ، وَلَوْ قَطَعَ ذِمِّيٌّ يَدَ مُسْلِمٍ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ، وَمَاتَ الْمُسْلِمُ بِالسِّرَايَةِ، فَعَفَا الْوَلِيُّ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا شَيْءَ لَهُ، وَعَلَى الْأَصَحِّ لَهُ ثُلُثَا دِيَةِ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا يُقَابِلُ ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَلَوْ قَطَعَتِ امْرَأَةٌ يَدَ رَجُلٍ، فَاقْتُصَّ مِنْهَا، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ بِالسِّرَايَةِ، وَعَفَا الْوَلِيُّ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ، ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَلَوْ قَطَعَتِ الْمَرْأَةُ يَدَيْ رَجُلٍ، فَاقْتُصَّ مِنْهَا، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالسِّرَايَةِ، وَعَفَا الْوَلِيُّ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ، لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ،

وَلَوْ قَطَعَ يَدَ حُرٍّ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ، ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدُ، وَمَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالسِّرَايَةِ، فَفِي وَجْهٍ يَسْقُطُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى السَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ دِيَةِ الْحُرِّ وَكَمَالِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَفِي وَجْهٍ يَسْقُطُ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ بِقَدْرِ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَعَلَى السَّيِّدِ الْأَقَلُّ مِنْ بَاقِي الدِّيَةِ، وَكَمَالُ قِيمَةِ الْعَبْدِ. التَّاسِعَةُ: سَبَقَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ جَائِزٌ فِي حَضْرَةِ الْمُوَكَّلِ، وَكَذَا فِي غَيْبَتِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ كَالْقِصَاصِ، وَسَوَاءٌ جَوَّزْنَاهُ أَمْ لَا، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ، صَارَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ مُسْتَوْفًى، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ تَوْكِيلًا فَاسِدًا، فَبَاعَ الْوَكِيلُ، صَحَّ الْبَيْعُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَإِذَا وَكَّلَ وَغَابَ، أَوْ تَنَحَّى الْوَكِيلُ بِالْجَانِي لِيَقْتَصَّ مِنْهُ، فَعَفَا الْمُوَكِّلُ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَكَانَ الْعَفْوُ قَبْلَ الْقَتْلِ أَمْ بَعْدَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَكِيلِ، وَإِنْ عَفَا بَعْدَ قَتْلِهِ، فَهُوَ لَغْوٌ، وَإِنْ عَفَا، ثُمَّ قُتِلَ الْوَكِيلُ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْعَفْوِ، فَعَلَى الْوَكِيلِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي «السِّلْسِلَةِ» قَوْلًا مُخْرِجًا: أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنِ ادَّعَى عَلَى الْوَكِيلِ الْعِلْمَ بِالْعَفْوِ، فَأَنْكَرَ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَّلَ، حَلَفَ الْوَارِثُ وَاسْتَحَقَّ الْقِصَاصَ، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ إِذَا قَتَلَهُ جَاهِلًا قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: تَجِبُ، لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوْ عَزَلَهُ، فَقَتَلَهُ الْوَكِيلُ جَاهِلًا الْعَزْلَ، فَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ الْقَوْلَانِ. فَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الدِّيَةَ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ، فَهِيَ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ: مُخَفَّفَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: مُخَفَّفَةٌ، فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: مُغَلَّظَةٌ، فَهِيَ عَلَى الْوَكِيلِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ مُتَعَمَّدٌ،

باب.

وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ، وَقِيلَ: عَلَى الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِالْحَالِ، فَأَشْبَهَ الْمُخْطِئَ، فَإِنْ قُلْنَا: عَلَى الْوَكِيلِ، فَهَلْ هِيَ حَالَّةٌ أَمْ مُؤَجَّلَةٌ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْإِمَامُ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: حَالَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الدِّيَةُ هُنَا تَكُونُ لِوَرَثَةِ الْجَانِي لَا تَعَلُّقَ لِلْمُوكِّلِ بِهَا بِخِلَافِ مَا إِذَا ثَبَتَ الْقِصَاصَ لِابْنَيْنِ، وَبَادَرَ أَحَدُهُمَا، وَقَتَلَ الْجَانِيَ، يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْآخَرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَاتِلَ هُنَاكَ أَتْلَفَ حَقَّ أَخِيهِ، فَتَعَلَّقَ الْأَخُ بِبَدَلِهِ، وَالْوَكِيلُ هُنَا قُتِلَ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنْ بَعْضِهِمْ جَعْلَهُ عَلَى الْخِلَافِ، ثُمَّ إِذَا غَرِمَ الْوَكِيلُ، أَوْ عَاقِلَتُهُ الدِّيَةَ، فَهَلْ يَرْجِعُ الْغَارِمُ عَلَى الْعَافِي؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا، لِأَنَّ الْعَافِيَ مُحْسِنٌ بِالْعَفْوِ غَيْرُ مُغَرَّرٍ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إِذَا قَدَّمَ الطَّعَامَ الْمَغْصُوبَ إِلَى الضَّيْفِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَالثَّالِثُ: يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْعَاقِلَةِ، فَهَلْ لِوَلِيِّ الْجَانِي أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ ابْتِدَاءً مِنَ الْعَافِي؟ وَجْهَانِ. وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَا تُضْرَبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهَلْ لِلْمُوَكِّلِ الْعَافِي دِيَةَ قَتِيلِهِ؟ يُنْظَرُ، إِنْ عَفَا مَجَّانًا أَوْ مُطْلَقًا، وَقُلْنَا: الْمُطْلَقُ لَا يُوجِبُ الدِّيَةَ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ مُطْلَقًا، وَقُلْنَا: يُوجِبُ الْمَالَ، فَلَهُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي مُغَلَّظَةً إِنْ أَوْجَبْنَا بِقَتْلِ الْوَكِيلِ الدِّيَةَ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهَا بِهِ، فَلَا دِيَةَ لِلْمُوَكِّلِ لِخُرُوجِ الْعَفْوِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَنِ الْفَائِدَةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. بَابٌ. فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ. إِذَا جَنَى عَبْدٌ عَلَى حَرٍّ جِنَايَةً، تَعَلَّقَ الْأَرْشُ بِرَقَبَتِهِ، فَاشْتَرَاهُ بِالْأَرْشِ، فَإِنْ جَهِلَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَدَدَ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ أَوْ سِنَّهَا، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ

وَإِنْ عَلِمَا ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْجَهْلُ بِأَوْصَافِهَا، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ الْوَجْهَانِ، أَوِ الْقَوْلَانِ فِي صِحَّةِ الصُّلْحِ مِنْ إِبِلِ الدِّيَةِ عَلَى مَالٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ، فَاشْتَرَاهُ بِالْأَرْشِ، فَهُوَ اخْتِيَارٌ لِلْمَالِ، وَإِسْقَاطٌ لِلْقِصَاصِ. وَحَيْثُ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ، فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا، فَلَهُ الرَّدُّ، فَإِذَا رَدَّ، بَقِيَ الْأَرْشُ مُتَعَلِّقًا بِالرَّقَبَةِ، وَلَا يَكُونُ السَّيِّدُ مُلْتَزِمًا لِلْفِدَاءِ، بَلْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفِدَاءِ، وَتَسْلِيمُهُ لِلْبَيْعِ، وَلَوِ اشْتَرَاهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِمَالٍ غَيْرِ الْأَرْشِ، صَحَّ وَلَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ، فَلَوْ صَالَحَ عَنِ الْقَوَدِ عَلَى مَالٍ، جَازَ وَإِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ مَجْهُولَةً. فَإِنْ تَلِفَتْ عَيْنُ الْمَالِ الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتُحِقَّتْ، أَوْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ، فَلَا رُجُوعَ إِلَى الْقِصَاصِ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ، أَمْ بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ؟ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ مَضْمُونٌ ضَمَانَ الْعَقْدِ أَمْ ضَمَانَ الْيَدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ، فَهُوَ عَلَى السَّيِّدِ لِاخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ بِبَذْلِ الْمَالِ، وَهَلْ عَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، أَمِ الْأَقَلُّ مِنَ الْأَرْشِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ؟ قَوْلَانِ يُذْكَرَانِ فِي مَوْضِعِهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةٌ لِلْمَالِ، وَصَالَحَ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى مَالٍ، فَفِي صِحَّتِهِ الْخِلَافُ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، فَهَلَكَ الْمُصَالِحُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ خَرَجَ مُسْتَحِقًّا، أَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ، فَالرُّجُوعُ إِلَى الْأَرْشِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الصُّلْحَ هُنَا عَنِ الْمَالِ، وَيَكُونُ السَّيِّدُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْأَرْشُ أَمِ الْأَقَلُّ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. فَرْعٌ. جَنَى حُرٌّ عَلَى حَرٍّ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَصَالَحَهُ عَلَى عَيْنٍ، كَعَبْدٍ وَثَوْبٍ، جَازَ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الدِّيَةُ مَعْلُومَةً لَهُمَا، فَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، أَوْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ، فَلَا رُجُوعَ إِلَى الْقِصَاصِ، فَهَلْ يَرْجِعُ

فصل

بِقِيمَةِ الْعَيْنِ أَمْ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ مَضْمُونٌ ضَمَانَ الْعَقْدِ أَمْ ضَمَانَ الْيَدِ؟ . وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةٌ لِلدِّيَةِ، فَصَالَحَ عَنْهَا عَلَى عَيْنٍ، أَوِ اشْتَرَى بِهَا عَيْنًا، إِمَّا مِنَ الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ، وَإِمَّا مِنَ الْجَانِي فِي الْعَمْدِ، نُظِرَ، أَعَلِمَا عَدَدَ الْإِبِلِ وَأَسْنَانَهَا أَمْ لَا، وَحُكْمُهُ مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا صَحَّ، فَتَلِفَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ، أَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ، رَجَعَ إِلَى الْأَرْشِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَالٌ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ. فَرْعٌ. جَنَتْ حُرَّةٌ عَلَى رَجُلٍ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى الْقِصَاصِ، أَوْ تَزَوَّجَهَا وَارِثُهُ عَلَى الْقِصَاصِ، جَازَ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِنِصْفِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، أَمْ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلدِّيَةِ، فَنَكَحَهَا عَلَيْهَا، صَحَّ النِّكَاحُ، وَفِي صِحَّةِ الصَّدَاقِ مَا سَبَقَ فِي الِاعْتِيَاضِ عَنْ إِبِلِ الدِّيَةِ. فَرْعٌ. إِذَا أَوْجَبَتِ الْجِنَايَةُ مَالًا مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ، بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا أَوْ قَتَلَ عَبْدًا، وَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، فَصَالَحَهُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى عَيْنٍ وَهُمَا يَعْلَمَانِ، صَحَّ الصُّلْحُ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ رُدَّتْ بِعَيْبٍ، فَالرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَ الْجَانِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَبْدًا، كَانَ السَّيِّدُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى رَقَبَتِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ بِعَيْبٍ، لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا، بَلِ الْأَرْشُ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا كَانَ حَتَّى لَوْ مَاتَ سَقَطَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَصْلٌ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ وَرِجْلَيْهِ، فَمَاتَ، فَقَطَعَ الْوَلِيُّ يَدَيِ الْجَانِي وَعَفَا عَنِ الْبَاقِي عَلَى الدِّيَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ الدِّيَةُ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا يُقَابِلُهَا، وَلَوْ

فصل

عَفَا عَلَى غَيْرِ جِنْسِهَا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ كَالدِّيَةِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ وَيَكُونُ عِوَضًا عَنِ الْقِصَاصِ الَّذِي تَرَكَهُ، وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ، وَعَفَا عَنِ الْبَاقِي عَلَى الدِّيَةِ، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فَقَطْ. فَصْلٌ قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، فَقَتَلَ وَلِيُّ الذِّمِّيِّ الْقَاتِلَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، نَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ وَالِدِهِ. فَصْلٌ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا، فَرَمَاهُ، فَأَصَابَ آدَمِيًّا فَقَتَلَهُ، فَهُمَا قَاتِلَانِ خَطَأً، فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ، وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَهَلْ لِعَاقِلَةِ الْمُكْرَهِ الرُّجُوعُ بِمَا يَغْرَمُونَ عَلَى الْمُكْرِهِ؟ . نَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنْ وَالِدِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَرْجِعُوا وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا، كَمَا لَا يَرْجِعُونَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْقَاتِلِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ عَلَى الْمُكْرِهِ وَعَاقِلَتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ مَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ قَطَعَ يَدَيْهِ عَمْدًا، فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَقَطَعَ الْوَارِثُ إِحْدَى يَدَيِ الْجَانِي، فَمَاتَ قَبْلَ قَطْعِهِ الْأُخْرَى، فَلَا شَيْءَ لِلْوَارِثِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، لِأَنَّهُ إِذَا سَرَتِ الْجِرَاحَةُ إِلَى النَّفْسِ سَقَطَ حُكْمُ الْأَطْرَافِ وَصَارَتِ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَقَدْ قَتَلَهُ فَصَارَ كَحَزِّ الرَّقَبَةِ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ، فَانْدَمَلَتَا، فَقَطَعَ إِحْدَى يَدَيِ الْجَانِي، فَمَاتَ، فَلَهُ دِيَةُ الْيَدِ الْأُخْرَى مِنْ تَرِكَتِهِ، لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ قِصَاصَهَا وَقَدْ فَاتَ بِمَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ سُقُوطَهَا بِآفَةٍ. وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيِ الْجَانِي، وَعَفَا عَنِ الْأُخْرَى عَلَى دِيَتِهَا وَقَبَضَهَا،

فصل

ثُمَّ انْتَقَضَتْ جِرَاحَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَمَاتَ بِهَا، فَلَا قِصَاصَ لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَعْفُوٌّ عَنْهَا، وَلَا شَيْءَ لَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى نِصْفَ الدِّيَةِ، وَالْيَدَ الْمُقَابِلَةَ بِالنِّصْفِ. فَصْلٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ أَحَدٌ عَبْدَيِ الرَّجُلِ الْآخَرِ، فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ مَالٌ عَلَى عَبْدِهِ، فَلَوْ أَعْتَقَهُ، لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ، وَلَوْ عَفَا بَعْدَ الْعِتْقِ مُطْلَقًا، لَمْ يَثْبُتِ الْمَالُ، لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَقْتَضِهِ، وَإِنْ عَفَا بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، ثَبَتَ الْمَالُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ، إِحْدَاهُمَا عَمْدًا، وَالْأُخْرَى خَطَأً، فَمَاتَ مِنْهُمَا، فَلَا قِصَاصَ فِي النَّفْسِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ، نِصْفُهَا فِي مَالِ الْجَانِي وَنِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنِ اسْتَوْفَى الْوَلِيُّ قِصَاصَ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ عَمْدًا، فَمَاتَ الْجَانِي مِنْهُ، كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ وَلَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ خَطَأً، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ. وَأَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى مُرْتَدٍّ، فَقَتَلَهُ الْوَلِيُّ عَنْ جِهَةِ الرِّدَّةِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ هُوَ الْإِمَامُ، فَلَهُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَةِ الْمُرْتَدِّ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ قَتْلَهُ عَنِ الْجِهَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْإِمَامِ، وَقَعَ قَتْلُهُ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَا دِيَةَ لَهُ، لِأَنَّ غَيْرَ الْإِمَامِ لَا يَمْلِكُ قَتْلَهُ عَنِ الرِّدَّةِ، قَالَ: وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا مُرْتَدًّا، وَقَتَلَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ عَنْ جِهَةِ الرِّدَّةِ، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْإِمَامُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ صَارَ قَابِضًا، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ظُلْمًا مَحْضًا، وَأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ زَوْجَتَهُ بِالسَّوْطِ عَشْرَ ضَرَبَاتٍ فَصَاعِدًا مُتَوَالِيَةً، فَمَاتَتْ، فَإِنْ قَصَدَ فِي الِابْتِدَاءِ الْعَدَدَ الْمُهْلِكَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَصَدَ تَأْدِيبَهَا بِسَوْطَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَجَاوَزَ، لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ اخْتَلَطَ الْعَمْدُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ، وَأَنَّ الْوَكِيلَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِذَا قَالَ: قَتَلْتُهُ بِشَهْوَةِ نَفْسِي لَا عَنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ وَيَنْتَقِلُ حَقُّ الْمُوَكِّلِ إِلَى

فصل

التَّرِكَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ سِنَّهُ، فَزَلْزَلَهَا، ثُمَّ سَقَطَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ وَكَذَا لَوْ ضَرَبَ يَدَهُ، فَاضْطَرَبَتْ أَوْ تَوَرَّمَتْ، ثُمَّ سَقَطَتْ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَأَنَّهُ لَوْ أَشْكَلَتِ الْحَادِثَةُ عَلَى الْقَاضِي، فَتَوَقَّفَ، فَرَوَى شَخْصٌ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، وَقَتَلَ الْقَاضِي بِهَا رَجُلًا، ثُمَّ رَجَعَ الرَّاوِي وَقَالَ: كَذَبْتَ وَتَعَمَّدْتَ، يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ كَالشَّاهِدِ إِذَا رَجَعَ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فِي الْفَتَاوَى، وَالْإِمَامُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَادِثَةِ، وَالْخَبَرُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا. فَصْلٌ فِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ: لَوِ افْتَصَدَ فَمَنَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَنْ يَعْصِبَ الْعِرْقَ حَتَّى مَاتَ، أَوْ عَصَبَهُ فَحَلَّهُ رَجُلٌ وَمَنَعَهُ مِنْ إِعَادَةِ الْعِصَابَةِ حَتَّى مَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ. فَصْلٌ فِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ بِالدُّخَانِ، بِأَنْ حَبَسَهُ فِي بَيْتٍ وَسَدَّ مَنَافِذَ الْبَيْتِ، فَاجْتَمَعَ فِيهِ الدُّخَانُ وَضَاقَ نَفَسُهُ، فَمَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَأَنَّهُ لَوْ رَمَى إِلَى شَخْصَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ وَقَصَدَ إِصَابَةَ أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ، فَأَصَابَ وَاحِدًا، فَفِي الْقِصَاصِ وَجْهَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ عَيْنَهُ. قُلْتُ: الْأَرْجَحُ وُجُوبُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّ حَلَمَةَ الرَّجُلِ تُقْطَعُ بِحَلَمَةِ الرَّجُلِ، وَحَلَمَةَ الْمَرْأَةِ تُقْطَعُ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ، وَالثَّدْيُ بِالثَّدْيِ، وَفِيمَا إِذَا لَمْ يَتَدَلَّ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ لَحْمِ الصَّدْرِ، وَفِي قَطْعِ حَلَمَةِ الْمَرْأَةِ بِحَلَمَةِ الرَّجُلِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي حَلَمَةِ الرَّجُلِ، وَتُقْطَعُ حَلَمَةُ الرَّجُلِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ بِلَا خِلَافٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الديات.

كِتَابُ الدِّيَاتِ. فِيهِ سِتَّةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ: فَيَجِبُ بِقَتْلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، وَجَبَتْ مُخَمَّسَةً: عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَأَبْدَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بَنِي اللَّبُونِ بِبَنِي مَخَاضٍ. ثُمَّ قَدْ يَعْرِضُ مَا تُغَلَّظُ بِهِ الدِّيَةُ وَمَا تَنْقُصُ بِهِ، أَمَّا الْمُغَلِّظَاتُ فَأَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ الْقَتْلُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ، فَتُغَلَّظُ بِهِ دِيَةُ الْخَطَأِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي الْحَرَمِ، أَوْ كَانَ فِيهِ أَحَدُهُمَا، كَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلَا تُغَلَّظُ بِحَرَمِ الْمَدِينَةِ وَلَا بِالْقَتْلِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا. الثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ: ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَرَجَبٌ، وَلَا يَلْحَقُ بِهَا رَمَضَانُ قَطْعًا. الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتُلَ قَرِيبًا لَهُ مُحْرِمًا، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَلَا تَغْلِيظَ عَلَى الصَّحِيحِ وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَلَا أَثَرَ لِمَحْرَمِيَّةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ قَطْعًا. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ. فَرْعٌ. إِذَا قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا وَجَدَهُ عَلَى زِيِّ الْكُفَّارِ، فَظَنَّهُ كَافِرًا،

فصل

فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا، فَهَلْ هِيَ دِيَةُ عَمْدٍ، أَمْ شِبْهُ عَمْدٍ أَمْ خَطَأٍ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. وَلَوْ رَمَى إِلَى مُرْتَدٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ وَمَاتَ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَصَحَّ وُجُوبُ الدِّيَةِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهَا هَذِهِ الْأَوْجُهُ، وَهَذَا أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ دِيَةُ خَطَأٍ، وَهُوَ الْأَرْجَحُ. وَرَجَّحَ ابْنُ كَجٍّ كَوْنَ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَلَوْ رَمَى إِلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ شَجَرَةً أَوْ صَيْدًا، فَكَانَ إِنْسَانًا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَطَأٌ مَحْضٌ، كَمَا لَوْ رَمَى إِلَى صَيْدٍ، فَعَرَضَ فِي الطَّرِيقِ رَجُلٌ، أَوْ مَرَقَ مِنْهُ السَّهْمُ، فَأَصَابَ رَجُلًا، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَتَجْرِي هَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي كُلِّ قَتْلٍ عَمْدٍ مَحْضٍ صَدَرَ عَنْ ظَنٍّ فِي حَالِ الْقَتِيلِ. فَصْلٌ الدِّيَةُ تَتَغَلَّظُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَتَجِبُ عَلَى الْجَانِي، وَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، وَتَجِبُ حَالَّةً، وَمُثَلَّثَةً، ثُلُثُهُنَّ حِقَّةٌ، وَثُلُثُهُنَّ جَذَعَةٌ، وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً، وَالْخِلْفَةُ: الْحَامِلُ، وَيُسَمَّى هَذَا الثَّالِثُ تَغْلِيظًا بِالسِّنِّ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَمْدُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ، فَعُفِيَ عَلَى الدِّيَةِ، أَوْ لَمْ يُوجِبْهُ، كَقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ، وَتَتَخَفَّفُ دِيَةُ الْخَطَأِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَتَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُخَمَّسَةً مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وِدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ تَتَخَفَّفُ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَتَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةً، وَتَتَغَلَّظُ مِنْ وَجْهٍ، فَتَجِبُ مُثَلَّثَةً، وَحُكِيَ وَجْهٌ وَقَوْلٌ مُخْرَجٌ أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَتْلَ الْخَطَأِ فِي الْحَرَمِ، أَوِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، أَوِ الْمُصَادِفِ لِذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ، دِيَتُهُ كَدِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، فَتَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةً مُثَلَّثَةً. وَالدِّيَةُ الْمُخَمَّسَةُ إِنَّمَا تَتَفَاوَتُ أَقْسَامُهَا بِالسِّنِّ إِلَّا فِي بَنَاتِ اللَّبُونِ وَبَنِي اللَّبُونِ، فَإِنَّ تَفَاوُتَهُمَا فِي الذُّكُورَةِ، ثُمَّ التَّخْمِيسُ حَاصِلٌ فِي هَذِهِ الدِّيَةِ بِأَقْسَامٍ مُتَعَادِلَةٍ، وَالتَّثْلِيثُ فِي الدِّيَةِ الْمُثَلَّثَةِ غَيْرُ حَاصِلٍ عَلَى التَّعْدِيلِ، بَلْ نِسْبَتُهَا الْمُخَفَّفَةُ بِالْأَعْشَارِ، ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ حِقَاقٍ، وَثَلَاثَةُ أَعْشَارِ جَذَاعٍ، وَأَرْبَعَةُ أَعْشَارِ خَلِفَاتٍ، ثُمَّ هَذِهِ النِّسْبَةُ فِي

فصل

الْمُخَفَّفَةُ وَالْمُغَلَّظَةُ تُعْتَبَرُ فِي دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَالْأَطْرَافِ وَالْجُرُوحِ، وَدِيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَأَطْرَافِهِمْ وَجُرُوحِهِمْ؛ فَتَجِبُ فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ خَطَأً، عَشْرُ بَنَاتِ مَخَاضٍ وَعَشْرُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الْأَقْسَامِ، وَفِي قَتْلِهَا عَمْدًا وَشِبْهِ عَمْدٍ خَمْسَ عَشْرَةَ حِقَّةً، وَخَمْسَ عَشْرَةَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ خِلْفَةً، وَكَذَا حُكْمُ دِيَةِ الْيَدِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً بِنْتُ مَخَاضٍ، وَبِنْتُ لَبُونٍ، وَابْنُ لَبُونٍ، وَحِقَّةٌ وَجَذَعَةٌ، إِذَا كَانَتْ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ حِقَّةٌ وَنِصْفٌ، وَجَذَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَخِلْفَتَانِ، وَفِي قَطْعِ الْأُصْبُعِ خَطَأً بِنْتَا مَخَاضٍ، وَبِنْتَا لَبُونٍ، وَابْنَا لَبُونٍ، وَحِقَّتَانِ وَجَذَعَتَانِ، وَإِذَا كَانَتْ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَثَلَاثُ جِذَاعٍ، وَأَرْبَعُ خَلِفَاتٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. فَرْعٌ بَدَلُ الْعَبْدِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، فَلَا مَدْخَلَ لِلتَّغْلِيطِ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْمُنْقِصَاتُ فَأَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا: الْأُنُوثَةُ، فِدْيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَدِيَةُ الْخُنْثَى كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَدِيَةُ أَطْرَافِهَا أَوْ جُرُوحِهَا نِصْفُ ذَلِكَ مِنَ الرَّجُلِ، وَفِي الْقَدِيمِ قَوْلٌ: إِنَّهَا تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الْأَطْرَافِ إِلَى ثُلْثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا زَادَ الْوَاجِبُ عَلَى الثُّلْثِ، صَارَتْ عَلَى النِّصْفِ؛ فَعَلَى هَذَا فِي أُصْبُعُهَا عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي أُصْبُعَيْنِ عِشْرُونَ، وَفِي ثَلَاثٍ ثَلَاثُونَ، وَفِي أَرْبَعٍ عِشْرُونَ، وَهُوَ نِصْفُ مَا فِي أَصَابِعِ الرِّجْلِ الْأَرْبَعِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْجَدِيدِ. الثَّانِي: الِاجْتِنَانُ؛ فَفِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الثَّالِثُ: الرِّقُّ؛ فَفِي قَتْلِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ، سَوَاءٌ زَادَتْ عَلَى الدِّيَةِ، أَمْ نَقَصَتْ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، وَأَمَّا جُرُوحُ الْعَبْدِ وَأَطْرَافُهُ؛ فَسَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي بَابِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعُ: الْكُفْرُ؛ وَالْكُفَّارُ أَصْنَافٌ، أَحَدُهَا: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ؛ فَدِيَتُهُ ثُلْثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا السَّامِرَةُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالصَّابِئُونَ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنْ كَانُوا مَلَاحِدَةً فِي دِينِهِمْ، كَفَرَةً عِنْدَهُمْ؛ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُكَفِّرُونَهُمْ فَهُمْ كَسَائِرِ فِرَقِهِمْ وَقَدْ سَبَقَ فِي مُنَاكَحَتِهِمْ؛ طَرِيقٌ ضَعِيفٌ بِإِطْلَاقِ قَوْلَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَجِيئِهِ هُنَا. الثَّانِي: الْمَجُوسِيُّ، وَدِيَتُهُ ثُلْثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيَّةِ نِصْفُ دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ، وَقِيلَ: كَدِيَتِهِ، وَطَرَدَ هَذَا الْوَجْهُ فِي سَائِرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَجِبُ فِيهِمْ دِيَةُ مَجُوسِيٍّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيُرَاعَى فِي دِيَاتِ هَؤُلَاءِ التَّغْلِيظُ وَالتَّخْفِيفُ؛ فَإِنْ قُتِلَ يَهُودِيٌّ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَجَبَ فِيهِ عَشْرُ حِقَاقٍ وَعَشَرُ جِذَاعٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ خِلْفَةً وَثُلُثٌ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مُغَلِّظٌ، وَجَبَ سِتُّ بَنَاتِ مَخَاضٍ وَثُلْثَا السَّابِعَةِ، وَكَذَا مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ وَسَائِرِ الْأَخْمَاسِ. وَفِي الْمَجُوسِيِّ عِنْدَ التَّغْلِيظِ حِقَّتَانِ وَجَذَعَتَانِ وَخِلْفَتَانِ وَثُلْثَا خِلْفَةٍ، وَعِنْدَ التَّخْفِيفِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَثُلُثٌ وَبِنْتُ لَبُونٍ وَثُلُثٌ وَكَذَا مِنَ الْبَاقِي، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الدِّيَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الصِّنْفَيْنِ إِذَا كَانَ لَهُمْ عِصْمَةٌ بِذِمَّةٍ، أَوْ عَهْدٌ أَوْ أَمَانٌ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: كَافِرٌ لَا كِتَابَ لَهُ، وَلَا شُبْهَةَ كِتَابٍ، كَعَابِدِ الْوَثَنِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالزِّنْدِيقِ وَالْمُرْتَدِّ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُمْ عَقْدُ ذِمَّةٍ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ لَهُمْ أَمَانٌ، بِأَنْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ رَسُولًا فَقُتِلَ؛ فَفِيهِ دِيَةُ مَجُوسِيٍّ، إِلَّا الْمُرْتَدَّ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، فَإِنَّهُ مَقْتُولٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ تَحَزَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ وَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى سَمَاعِ رِسَالَتِهِمْ، فَجَاءَ رَسُولُهُمْ فَقَدْ قِيلَ: لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ، لَكِنْ لَوْ قُتِلَ، فَلَا ضَمَانَ، وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي إِلْحَاقِ

فصل

الزِّنْدِيقِ بِالْمُرْتَدِّ، وَالصَّحِيحُ إِلْحَاقُهُ بِالْوَثَنِيِّ، وَأَمَّا مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا أَمَانَ مِنَ الْكُفَّارِ، فَلَا ضَمَانَ فِي قَتْلِهِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كَانَ. قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ خِلَافٌ فِي الذِّمِّيِّ وَالْمُرْتَدِّ إِذَا قَتَلَا مُرْتَدًّا هَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ؟ فَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا فَهِيَ دِيَةُ مَجُوسِيٍّ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كَافِرٍ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُنَا وَخَبَرُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَتُنَا، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ الْإِعْلَامِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ فَلَوْ قُتِلَ، كَانَ مَضْمُونًا قَطْعًا، وَكَيْفَ يُضْمَنُ. أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَجِبُ بِلَا تَفْصِيلٍ، ثُمَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنْ لَا تَكُونَ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ أَصْلًا، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَوْجَبَهُ الْقَفَّالُ. وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَهَلْ تَجِبُ دِيَةُ مَجُوسِيٍّ أَمْ مُسْلِمٍ؟ وَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِدَيْنٍ وَلَمْ يُبَدِّلْ وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُخَالِفُهُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ فَعَلَى هَذَا هَلْ تَجِبُ دِيَةُ مُسْلِمٍ أَمْ دِيَةُ أَهْلِ ذَلِكَ الدَّيْنِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِدَيْنٍ لَحِقَهُ التَّبْدِيلُ لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُخَالِفُهُ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، وَهَلْ تَجِبُ دِيَةُ مَجُوسِيٍّ أَمْ دِيَةُ أَهْلِ دِينِهِ أَمْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا الْأَوَّلُ. فَرْعٌ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ مَعَ التَّمَكُّنِ أَوْ دُونَ، إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ، تَعَلَّقَ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ بِالْإِسْلَامِ. فَصْلٌ لَا يُجْزِئُ فِي الدِّيَةِ مَرِيضٌ وَلَا مَعِيبٌ بِعَيْبٍ يُثْبِتُ الرَّدَّ فِي الْبَيْعِ إِلَّا بِرِضَى الْمُسْتَحِقِّ، سَوَاءٌ كَانَتْ إِبِلَ مَنْ عَلَيْهِ سَلِيمَةٌ أَمْ مَعِيبَةٌ.

فَرْعٌ الْغَالِبُ أَنَّ النَّاقَةَ لَا تَحْمِلُ حَتَّى يَكُونَ لَهَا خَمْسُ سِنِينَ وَهِيَ الثَّنِيَّةُ، فَلَوْ حَمَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَبُولُهَا فِي الْخَلِفَاتِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. وَإِذَا تَنَازَعَا فِي كَوْنِهَا خَلِفَاتٍ، عَمِلَ بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، وَإِذَا أَخَذَتْ بِقَوْلِ الْعَدْلَيْنِ، أَوْ بِتَصْدِيقِ الْمُسْتَحِقِّ، فَمَاتَتْ عِنْدَ الْمُسْتَحِقِّ وَتَنَازَعَا فِي الْحَمْلِ، شُقَّ جَوْفُهَا لِتُعْرَفَ؛ فَإِنْ بَانَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، غَرِمَهَا الْمُسْتَحِقُّ وَأَخَذَ بَدَلَهَا خِلْفَةً، وَفِي وَجْهٍ يَأْخُذُ أَرْشَ النَّقْصِ فَقَطْ؛ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ صَادَفْنَا النَّاقَةَ الْمَأْخُوذَةَ حَائِلًا؛ فَقَالَ الْمُسْتَحِقُّ: لَمْ يَكُنْ بِهَا حَمْلٌ، وَقَالَ الدَّافِعَ: أَسْقَطَتْ عِنْدَكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ الزَّمَانُ الْإِسْقَاطَ، رُدَّتْ، وَطُولِبَ بِخِلْفَةٍ، وَإِنِ احْتَمَلَ، نُظِرَ، إِنْ أُخِذَتْ بِقَوْلِ الْجَانِي فَقَطْ، صَدَقَ الْمُسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ أُخِذَتْ بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَأَيُّهُمَا يَصْدُقُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الدَّافِعُ. فَرْعٌ مَنْ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ مِنَ الْجَانِي أَوِ الْعَاقِلَةُ لَهُ حَالَانِ، الْأُولَى: أَنْ لَا يَمْلِكَ إِبِلًا، فَيَلْزَمُهُ تَحْصِيلُ الْوَاجِبِ مِنْ غَالِبِ إِبِلِ الْبَلْدَةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ إِنْ كَانُوا أَهْلَ بَادِيَةٍ يَنْتَقِلُونَ، فَإِنْ تَفَرَّقَتِ الْعَاقِلَةُ فِي الْبُلْدَانِ أَوْ فِي الْقَبَائِلِ، أُخِذَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَالِبِ إِبِلِ بَلَدِهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَبِيلَةِ إِبِلٌ، أَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنِ الْبَلَدِ، اعْتَبَرَ إِبِلَ أَقْرَبِ الْبِلَادِ، وَيَلْزَمُهُ النَّقْلُ إِنْ قَرُبَتِ الْمَسَافَةُ؛ فَإِنْ بَعُدَتْ وَعَظُمَتِ الْمُؤْنَةُ وَالْمَشَقَّةُ، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِالْإِبِلِ، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى ضَبْطِ الْبَعِيدِ بِمَسَافَةِ الْقِصَرِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: لَوْ زَادَتْ مُؤْنَةُ إِحْضَارِهَا عَلَى قِيمَتِهَا فِي مَوْضِعِ الْعِزَّةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَحْصِيلُهَا، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْلِكَ إِبِلًا؛ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَالِبِ إِبِلِ الْبَلْدَةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ، فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِنْفٍ آخَرَ، أُخِذَتْ

أَيْضًا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَتْ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ مُحَقِّقِي الْمَرَاوِزَةِ وَاخْتَارَهُ أَنَّهُ يَجِبُ غَالِبُ إِبِلِ الْبَلَدِ، وَمَتَى تَعَيَّنَ نَوْعٌ، فَلَا عُدُولَ إِلَى مَا فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ إِلَّا بِالتَّرَاضِي، وَإِذَا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِإِبِلِ الْبَلَدِ، أَوِ الْقَبِيلَةِ، فَكَانَتْ نَوْعَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَلَا غَالِبَ فِيهَا، فَالْخِيَرَةُ إِلَى الدَّافِعِ، وَإِذَا اعْتَبَرَنَا إِبِلَ مَنْ عَلَيْهِ، فَتَنَوَّعَتْ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُؤْخَذُ مِنَ الْأَكْثَرِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا، دَفَعَ مَا شَاءَ، وَالثَّانِي: تُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ بِقِسْطِهِ إِلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ، فَيُعْطِي الْجَمِيعَ مِنَ الْأَشْرَفِ، وَلَوْ دَفَعَ نَوْعًا غَيْرَ مَا فِي بِيَدِهِ، أَجْبَرَ الْمُسْتَحِقَّ عَلَى قَبُولِهِ إِذَا كَانَ مِنْ غَالِبِ إِبِلِ الْبَلَدِ وَالْقَبِيلَةِ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِبِلُ تُبَاعُ بِأَكْثَرِ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ فَلَا يَلْزَمُ تَحْصِيلُهَا. فَرْعٌ إِذَا كَانَتِ الْإِبِلُ مَوْجُودَةً وَعَدَلَ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَمُسْتَحِقُّهَا إِلَى الْقِيمَةِ أَوْ غَيْرِهَا بِالتَّرَاضِي، جَازَ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مِثْلِيًّا وَتَرَاضَيَا عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ مَعَ وُجُودِ الْمِثْلِ جَازَ. قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ إِبِلِ الدِّيَةِ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الْعُدُولَ عَنِ الْإِبِلِ، لَمْ يُجْبَرِ الْآخَرُ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ وَجْهٌ عَنِ ابْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْجَانِيَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَدِيمِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. فَإِنْ لَمْ تُوجَدِ الْإِبِلُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ تَحْصِيلُهَا مِنْهُ، أَوْ وُجِدَتْ بِأَكْثَرِ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَقَوْلَانِ؛ الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: أَنَّ الْوَاجِبَ قِيمَةُ الْإِبِلِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَالْقَدِيمُ: يَجِبُ أَلْفُ دِينَارٍ، أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَفِي وَجْهٍ مُخَرَّجٍ عَلَى الْقَدِيمِ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَالِاعْتِبَارُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ الْخَالِصَةِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ الدَّافِعَ

يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ ذَهَبٌ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ وَرِقٌ. فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، فَهَلْ يُزَادُ لِلتَّغْلِيظِ شَيْءٌ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَالثَّانِي: يُزَادُ ثُلْثُ الْمُقَدَّرِ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ تَعَدَّدَ سَبَبُ التَّغْلِيظِ بِأَنْ قُتِلَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ، فَهَلْ يَتَكَرَّرُ التَّغْلِيظُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا فَلَا يُزَادُ عَلَى الثُّلْثِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا حَرَمِيًّا، يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ فَقَطْ، وَالثَّانِي: يُزَادُ لِكُلِّ سَبَبٍ ثُلْثُ دِيَةٍ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قُتِلَ ذَا رَحِمٍ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَمْدًا، وَجَبَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَتَقُومُ الْإِبِلُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَتُرَاعَى صِفَتُهَا فِي التَّغْلِيظِ إِنْ كَانَتْ مُغَلَّظَةً. قَالَ الْإِمَامُ: فَإِنْ غَلَبَ نَقْدَانِ فِي الْبَلَدِ، يُخَيَّرُ الْجَانِي مِنْهُمَا، وَتَقُومُ الْإِبِلُ الَّتِي لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَجَبَ تَسْلِيمُهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِبِلٌ، قُوِّمَتْ مِنْ صِنْفِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ، وَهَلْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ مَوْضِعِ الْوُجُودِ، أَمْ مَوْضِعِ الْإِعْوَازِ لَوْ كَانَتْ فِيهِ إِبِلٌ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ، هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ وَالْإِبِلُ مَفْقُودَةٌ، اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ، وَإِنْ وَجَبَتْ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فَلَمْ تُؤَدَّ حَتَّى أُعْوِزَتْ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْإِعْوَازِ، وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ، أُخِذَ الْمَوْجُودُ وَقِيمَةُ الْبَاقِي. فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَحِقُّ عِنْدَ إِعْوَازِ الْإِبِلِ: لَا أُطَالِبُ الْآنَ بِشَيْءٍ، وَأَصْبِرُ إِلَى أَنْ يُوجَدَ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْإِبِلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ أَنْ يُكَلِّفَهُ قَبْضَ مَا عَلَيْهِ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ، قَالَ: وَلَمْ يَصِرْ أَحَدٌ مِنَ الْأَصْحَابِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ وُجِدَتِ الْإِبِلُ يَرُدُّ الدَّرَاهِمَ، وَيَرْجِعُ إِلَى الْإِبِلِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا غَرِمَ قِيمَةَ الْمُثْلَى لِإِعْوَازِ الْمِثْلِ، ثُمَّ وُجِدَ؛ فَفِي الرُّجُوعِ إِلَى الْمِثْلِ خِلَافٌ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي دِيَةِ مَا دُونَ النَّفْسِ هِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: جَرْحٌ، وَإِبَانَةُ طَرَفٍ، وَإِزَالَةُ مَنْفَعَةٍ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْجُرُوحُ، وَهِيَ نَوْعَانِ، جَائِفَةٌ وَغَيْرُهَا، الْأَوَّلُ: غَيْرُ الْجَائِفَةِ، وَهِيَ ضَرْبَانِ: جِرَاحَاتُ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَجِرَاحَاتُ سَائِرِ الْبَدَنِ. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: جِرَاحَاتُ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَفِي الْمُوضِحَةِ: خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى الْهَامَةِ وَالنَّاصِيَةِ أَوِ الْقَذَالِ، وَهُوَ جِمَاعُ مُؤَخِّرِ الرَّأْسِ، أَوِ الْخُشَّاءِ، وَهِيَ الْعَظْمُ الَّذِي خَلْفَ الْأُذُنِ، أَوْ مُنْحَدَرِ الْقَمَحْدُوَّةِ إِلَى الرَّقَبَةِ، وَهِيَ مَا خَلْفَ الرَّأْسِ، وَذَكَرَ فِي الْعَظْمِ الْوَاصِلِ بَيْنَ عَمُودِ الرَّقَبَةِ وَكُرَةِ الرَّأْسِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْمُوضِحَةِ، كَالرَّقَبَةِ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُنْحَدَرُ الْمَذْكُورُ، أَوْ تَكُونَ مِنْهُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ، فَالْجَبْهَةُ مِنْهُ وَالْجَبِينَانِ، وَالْخَدَّانِ، وَقَصَبَةُ الْأَنْفِ، وَاللِّحْيَانِ، كُلُّهَا مَحَلُّ الْإِيضَاحِ، سَوَاءٌ الْمُقْبِلُ مِنَ اللِّحْيَيْنِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَمَا تَحْتَ الْمُقْبِلِ خَارِجًا عَنْ حَدِّ الْمَغْسُولِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ يَشْمَلُ جَمِيعَهَا؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الذَّكَرُ، وَهَذَا الْمَبْلَغُ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ؛ فَتُرَاعَى هَذِهِ النِّسْبَةُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. فَتَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْيَهُودِيِّ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ، وَهُوَ بَعِيرٌ وَثُلْثَانِ، وَفِي مُوضِحَةِ الْمَرْأَةِ بَعِيرَانِ وَنَصِفٌ، وَفِي مُوضِحَةِ الْمَجُوسِيِّ ثُلْثَا بَعِيرٍ. وَعَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيِّ أَنَّ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ وَالْحُكُومَةِ، وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ وَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ.

فَرْعٌ إِذَا هُشِّمَ الْعَظْمُ مَعَ الْإِيضَاحِ، وَجَبَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِنْ نُقِلَ مَعَ ذَلِكَ وَجَبَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّ فِي الْهَاشِمَةِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ وَحُكُومَةً، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. فَرْعٌ فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلْثُ الدِّيَةِ، وَفِي الدَّامِغَةِ أَيْضًا ثُلْثُ الدِّيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ثُلْثُ الدِّيَةِ وَحُكُومَةٌ، وَحَكَى الْفَوْرَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ أَنَّ فِيهَا الدِّيَةَ بِكَمَالِهَا، لِأَنَّهَا تُذَفَّفُ؛ وَبِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ، وَكَأَنَّ الْأَوَّلِينَ يَمْنَعُونَ تَذْفِيفَهَا. فَرْعٌ هَشَّمَ الْعَظْمَ وَلَمْ يُوضِحْ، وَجَبَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: تَجِبُ حُكُومَةٌ كَكَسْرِ سَائِرِ الْعِظَامِ، وَلَوْ نُقِلَ الْعَظْمُ مِنْ غَيْرِ إِيضَاحٍ، فَهَلْ يَجِبُ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ أَمْ حُكُومَةٌ؟ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، وَفِي «الرَّقْمِ» وَغَيْرِهِ أَنَّ مَوْضِعَ الْوَجْهَيْنِ مَا إِذَا لَمْ يُحْوِجِ الْهَشْمَ إِلَى بَطٍّ وَشَقٍّ لِإِخْرَاجِ الْعَظْمِ أَوْ تَقْوِيمِهِ، فَإِنْ أَحْوَجَ إِلَيْهِ، فَالَّذِي أَتَى بِهِ هَاشِمَةٌ تَجِبُ فِيهَا عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ. فَرْعٌ أَوْضَحَ وَاحِدٌ، وَهَشَّمَ آخَرُ، وَنَقَلَ ثَالِثٌ، وَأَمَّ رَابِعٌ؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ الْقِصَاصُ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَلَى الثَّانِي خَمْسٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ خَمْسٌ، وَعَلَى الرَّابِعِ مَا بَيْنَ الْمُنَقِّلَةِ وَالْمَأْمُومَةِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَعِيرًا وَثُلْثُ بَعِيرٍ، وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ ثُلْثُ الدِّيَةِ أَرْبَاعًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَلَوْ خَرَقَ

خَامِسٌ خَرِيطَةَ الدِّمَاغِ؛ فَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّ عَلَيْهِ تَمَامَ دِيَةِ النَّفْسِ، كَمَنْ حَزَّ رَقَبَةَ إِنْسَانٍ بَعْدَمَا قُطِّعَتْ أَطْرَافُهُ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ قَالَ: الدَّامِغَةُ مُذَفَّفَةٌ. فَرْعٌ مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ مِنَ الشِّجَاجِ كَالدَّامِيَةِ وَالْحَارِصَةِ وَالْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَفِي وَاجِبِهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْحُكُومَةُ، وَلَا يَبْلُغُ بِحَكُومَتِهَا أَرْشُ مُوضِحَةِ، وَالثَّانِي وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنْ لَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِأَنْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ مُوضِحَةٌ إِذَا قِيسَ بِهَا الْبَاضِعَةُ مَثَلًا، عَرَفَ أَنَّ الْمَقْطُوعَ ثُلْثٌ أَوْ نِصْفٌ فِي عُمْقِ اللَّحْمِ وَجَبَ قِسْطُهُ مَنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ؛ فَإِنْ شَكَكْنَا فِي قَدْرِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ، أَوْجَبْنَا التَّعَيُّنَ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَتُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ الْحُكُومَةُ؛ فَيَجِبُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْحُكُومَةِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ التَّقْسِيطُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: جِرَاحَاتُ سَائِرِ الْبَدَنِ؛ فَلَيْسَ فِي إِيضَاحِ عِظَامِهِ وَلَا هَشْمِهَا وَلَا تَنْقِيلِهَا أَرْشٌ مُقَدَّرُ النَّوْعِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْجَائِفَةُ، وَفِيهَا ثُلْثُ الدِّيَةِ، وَهِيَ الْجِرَاحَةُ الْوَاصِلَةُ إِلَى الْجَوْفِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْبَطْنِ أَوِ الصَّدْرِ، أَوْ ثُغْرَةُ النَّحْرِ، أَوِ الْجَنْبَيْنِ، أَوِ الْخَاصِرَةِ، أَوِ الْوِرْكِ، أَوِ الْعِجَانِ إِلَى الشَّرَجِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعِجَانَ مَا بَيْنَ الْفَقْحَةِ وَالْخِصْيَةِ. وَكَذَا الْجِرَاحَةُ النَّافِذَةُ إِلَى الْحَلْقِ مِنَ الْقَفَا، أَوِ الْجَانِبِ الْمُقْبِلِ مِنَ الرَّقَبَةِ، وَالنَّافِذَةِ مِنَ الْعَانَةِ إِلَى الْمَثَانَةِ، وَفِي النَّافِذَةِ مِنَ الذَّكَرِ إِلَى مَمَرِّ الْبَوْلِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَيْسَتْ بِجَائِفَةٍ. وَلَوْ نَفَذَتْ إِلَى دَاخِلِ الْفَمِ بِهَشِمِ الْخَدِّ أَوِ اللِّحْيِ، أَوْ بِخَرْقِ الشَّفَةِ، أَوِ الشَّدْقِ، أَوْ إِلَى دَاخِلِ الْأَنْفِ بِهَشِمِ الْقَصَبَةِ، أَوْ بِخَرْقِ الْمَارِنِ؛ فَلَيْسَتْ بِجَائِفَةٍ عَلَى الْأَظْهَرِ،

فصل

وَيُقَالُ: الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْأَجْوَافِ الْبَاطِنَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُنْظَرُ بِالْوَاصِلِ إِلَيْهِمَا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْظُمُ فِيهِمَا الْخَطَرُ بِخِلَافِ مَا يَصِلُ إِلَى جَوْفِ الرَّأْسِ وَالْبَطْنِ. فَعَلَى هَذَا يَجِبُ فِي صُورَةِ الْهَشْمِ أَرْشُ هَاشِمَةٍ أَوْ مُنَقِّلَةٍ، وَتَجِبُ مَعَهُ حُكُومَةٌ لِلنُّفُوذِ إِلَى الْفَمِ وَالْأَنْفِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ أُخْرَى، وَلَوْ نَفَذَتِ الْجِرَاحَةُ مِنَ الْجَفْنِ إِلَى بَيْضَةِ الْعَيْنِ، فَهَلْ هِيَ جَائِفَةٌ أَمْ لَا تَجِبُ إِلَّا حُكُومَةٌ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَلَوْ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى الْكَتِفِ أَوِ الْفَخِذِ وَجَرَّهَا حَتَّى بَلَغَ الْبَطْنَ، فَأَجَافَ، لَزِمَهُ أَرْشُ الْجَائِفَةِ وَحُكُومَةٌ لِجِرَاحَةِ الْكَتِفِ وَالْفَخِذِ، لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْجَائِفَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَضَعَهَا عَلَى صَدْرِهِ، وَجَرَّهَا حَتَّى أَجَافَ فِي الْبَطْنِ أَوْ فِي ثُغْرَةِ النَّحْرِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَرْشُ الْجَائِفَةِ بِلَا حُكُومَةٍ، لِأَنَّ جَمِيعَهُ مَحَلُّ الْجَائِفَةِ. فَرْعٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِيفَ بِحَدِيدَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ مُحَدَّدَةٍ، وَلَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجَائِفَةُ وَاسِعَةً أَوْ ضَيِّقَةً، حَتَّى لَوْ غُرِزَ فِيهِ إِبْرَةٌ فَوَصَلَتْ إِلَى الْجَوْفِ فَهِيَ جَائِفَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّمَا تَكُونُ جَائِفَةً إِذَا قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إِنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. فَصْلٌ لَا فَرْقَ فِي الْمُوضِحَةِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَالْبَارِزَةِ وَالْمَسْتُورَةِ بِالشَّعَرِ، وَالَّتِي يَتَوَلَّدُ مِنْهَا شَيْنٌ فَاحِشٌ وَالَّتِي لَا يَتَوَلَّدُ، فَلَا يَجُبْ فِي الْجَمِيعِ إِلَّا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ؛ فَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْمُوضِحَةُ، تَعَدَّدَ الْأَرْشُ، وَتَعَدُّدُهَا يَكُونُ بِأَسْبَابٍ: الْأَوَّلُ: اخْتِلَافُ الصُّورَةِ، بِأَنْ أَوْضَحَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ رَأْسِهِ، وَبَقِيَ اللَّحْمُ وَالْجِلْدُ بَيْنَهُمَا؛ فَيَجِبُ أَرْشَانِ، سَوَاءٌ رَفَعَ الْحَدِيدَةَ عَنْ مُوضِحَةٍ

ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَأَوْضَحَهُ، أَوْ جَرَّهَا عَلَى الرَّأْسِ مِنْ مَوْضِعِ الْإِيضَاحِ إِلَى أَنْ تَحَامَلَ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَأَوْضَحَهُ، وَبَقِيَ اللَّحْمُ وَالْجِلْدُ بَيْنَهُمَا سَلِيمَيْنِ. وَحَكَى الْإِمَامُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَجْهًا ضَعِيفًا أَنَّ الْحَاصِلَ مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ الْفِعْلِ، وَلَوْ كَثُرَتِ الْمُوضِحَاتُ، تَعَدَّدَ الْأَرْشُ بِحَسَبِهَا وَلَا ضَبْطَ. وَقِيلَ: إِذَا كَثُرَتْ وَصَارَتْ بِحَيْثُ لَوْ أَوْجَبْنَا لِكُلِّ مُوضِحَةٍ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، لَزَادَ الْمَبْلَغُ عَلَى دِيَةِ نَفْسٍ، لَمْ يُوجِبْ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ نَفْسٍ؛ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ الْحَاجِزُ بَيْنَ مَوْضِعَيِ الْإِيضَاحِ بِكَمَالِهِ، بَلْ بَقِيَ جِلْدٌ دُونَ اللَّحْمِ أَوْ عَكْسُهُ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: أَنَّ الْحَاصِلَ مُوضِحَةٌ، وَالثَّانِي: مُوضِحَتَانِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ بَقِيَ الْجِلْدُ، فَمُوضِحَةٌ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّحْمُ، فَمُوضِحَتَانِ، وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ أَوْضَحَ فِي مَوْضِعَيْنِ ثُمَّ أَوْغَلَ الْحَدِيدَةَ، وَنَفَّذَهَا مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى فِي الدَّاخِلِ ثُمَّ سَلَّهَا، فَهَلْ يَتَّحِدَانِ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ عَادَ الْجَانِي، فَرَفَعَ الْحَاجِزَ بَيْنَ مُوضِحَتَيْهِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا أَرْشٌ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: أَرْشَانِ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ، وَلَوْ تَآكَلَ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا، كَانَ كَمَا لَوْ رَفَعَهُ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِسَرَايَةِ فِعْلِهِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَلَوْ رَفَعَ الْجِلْدَ أَوِ اللَّحْمَ، أَوْ تَآكَلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الْأَرْبَعَةُ. وَلَوْ رَفَعَ الْحَاجِزَ غَيْرُ الْجَانِي؛ فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: أَرْشَانِ، وَلَوْ رَفَعَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَفَعَلَهُ هُدِرَ، وَلَا يَسْقُطْ بِهِ شَيْءٌ مِمَّا وَجَبَ عَلَى الْجَانِي، وَلَوْ أَوْضَحَهُ رَجُلَانِ، فَتَآكَلَ الْحَاجِزُ بَيْنَ مُوضِحَتَيْهِمَا، عَادَتَا إِلَى وَاحِدَةٍ؛ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ الْأَرْشِ، وَلَوِ اشْتَرَكَا فِي مُوضِحَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا؛ فَعَلَى الرَّافِعِ نِصْفُ أَرْشٍ وَعَلَى الْآخَرِ أَرْشٌ كَامِلٌ. فَرْعٌ شَجَّهُ شَجَّةً، بَعْضُهَا مُوضِحَةٌ، وَبَعْضُهَا مُتَلَاحِمَةٌ، أَوْ سِمْحَاقٌ،

فَالْوَاجِبُ فِي الْجَمِيعِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ وَيَدْخُلُ فِيهَا حُكُومَةُ الْمُتَلَاحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا مُوضِحَةً لَمْ يَجِبْ إِلَّا أَرْشٌ؛ فَهُنَا أَوْلَى، فَلَوِ اقْتَصَّ فِيمَا فِيهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ، فَهَلْ لَهُ الْحُكُومَةُ لِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْمُتَلَاحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مَنْ نِصْفِ الْكَفِّ، فَاقْتَصَّ مِنَ الْأَصَابِعِ، هَلْ لَهُ حُكُومَةُ نِصْفِ الْكَفِّ؟ وَجْهَانِ: السَّبَبُ الثَّانِي: اخْتِلَافُ الْمَحَلِّ؛ فَلَوْ نَزَلَ فِي الْإِيضَاحِ مِنَ الرَّأْسِ إِلَى الْجَبْهَةِ إِمَّا لِشُمُولِ الْإِيضَاحِ، وَإِمَّا بِأَنْ أَوْضَحَ شَيْئًا مِنَ الرَّأْسِ وَشَيْئًا مِنَ الْوَجْهِ، وَجَرَحَ بَيْنَهُمَا جِرَاحَةً دُونَ الْمُوضِحَةِ؛ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْحَاصِلُ مُوضِحَةٌ، لِأَنَّ الْجَبْهَةَ وَالرَّأْسَ مَحَلُّ الْإِيضَاحِ، وَأَصَحُّهُمَا: مُوضِحَتَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ. وَلَوْ شَمِلَتِ الْمُوضِحَةُ الْجَبْهَةَ وَالْوَجْنَةَ، قَالَ الْإِمَامُ: فِي التَّعَدُّدِ تَرَدُّدٌ، وَالْمَذْهَبُ الِاتِّحَادُ تَنْزِيلًا لِأَجْزَاءِ الْوَجْهِ مَنْزِلَةَ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ، وَلَوْ جَرَّ السِّكِّينَ مِنْ مُوضِحَةِ الرَّأْسِ إِلَى الْقَفَا، وَجَرَحَ الْقَفَا مَعَ إِيضَاحِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِيضَاحِهِ، لَزِمَهُ مَعَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ حُكُومَةٌ لِجَرْحِ الْقَفَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ الْإِيضَاحِ، فَلَمْ تَدْخُلْ حُكُومَتُهُ فِي الْأَرْشِ، وَلَوْ جَرَّ السِّكِّينَ مِنْ مُوضِحَةِ الرَّأْسِ إِلَى الْجَبْهَةِ، وَجَرَحَهَا جِرَاحَةً مُتَلَاحِمَةً، فَإِنْ قُلْنَا: لَوْ أَوْضَحَ فِي الْجَبْهَةِ أَيْضًا، كَانَ الْحَاصِلُ مُوضِحَةً، دَخَلَتْ حُكُومَةُ جِرَاحَةِ الْجَبْهَةِ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْحَاصِلُ مُوضِحَتَانِ، وَجَبَ مَعَ الْأَرْشِ حُكُومَةٌ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: تَعَدُّدُ الْفَاعِلِ، بِأَنْ أَوْضَحَ رَجُلًا، فَوَسَّعَ آخَرُ تِلْكَ الْمُوضِحَةَ، أَوْ أَوْضَحَ قِطْعَةً مُتَّصِلَةً بِمُوضِحَةِ الْأَوَّلِ؛ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْشٌ كَامِلٌ، وَلَوْ وَسَّعَ الْأَوَّلُ مُوضِحَتَهُ، لَزِمَهُ أَرْشٌ وَاحِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: أَرْشَانِ.

السَّبَبُ الرَّابِعُ: اخْتِلَافُ الْحُكْمِ، بِأَنْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَةً وَاحِدَةً هُوَ فِي بَعْضِهَا مُخْطِئٌ، وَفِي بَعْضِهَا مُتَعَمِّدٌ، أَوْ فِي بَعْضِهَا مُقْتَصٌّ وَفِي بَعْضِهَا مُتَعَدٍّ، فَهَلِ الْحَاصِلُ مُوضِحَةٌ لِاتِّحَادِ الصُّورَةِ وَالْجَانِي وَالْمَحَلِّ، أَمْ مُوضِحَتَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: مُوضِحَتَانِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: مُوضِحَةً، وُزِّعَ الْأَرْشُ عَلَى الْبَعْضَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: مُوضِحَتَانِ، وَجَبَ أَرْشٌ كَامِلٌ لِمَا تَعَدَّى بِهِ، وَلَوْ أَوْضَحَ مُوضِحَتَيْنِ عَمْدًا وَرَفَعَ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا خَطَأً، وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ: أَنَّهُ لَوْ رَفَعَهُ عَمْدًا تَدَاخَلَ الْأَرْشَانِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَرْشٌ ثَالِثٌ أَمْ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا أَرْشٌ وَاحِدٌ؟ وَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا: أَرْشٌ فَقَطْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ يَتَعَدَّدُ أَرْشُ الْجَائِفَةِ بِتَعَدُّدِهَا، فَلَوْ أَجَافَ جَائِفَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا، أَوْ تَآكَلَ مَا بَيْنَهُمَا، أَوْ رَفَعَهُ غَيْرُ الْجَانِي؛ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُوضِحَةِ. وَتَتَعَدَّدُ الْجَائِفَةُ بِتَعَدُّدِ الصُّورَةِ؛ بِأَنْ يَجْرَحَهُ جِرَاحَتَيْنِ نَافِذَتَيْنِ إِلَى الْجَوْفِ؛ فَإِنْ بَقِيَ بَيْنَهُمَا الْجِلْدَةُ الظَّاهِرَةُ، أَوِ انْخَرَقَ مَا تَحْتَهَا، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوضِحَةِ، وَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ، بِأَنْ يَنْفُذَ جِرَاحَتَيْنِ إِلَى جَوْفَيْنِ وَيَتَعَدَّدَ الْفَاعِلُ، بِأَنْ يُوَسِّعَ جَائِفَةَ غَيْرِهِ، وَفَصَّلَهُ الْأَصْحَابُ فَقَالُوا: إِنْ أَدْخَلَ السِّكِّينَ فِي جَائِفَةِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ، وَإِنْ قَطَعَ شَيْئًا مِنَ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ أَوْ بِالْعَكْسِ؛ فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ قَطَعَ شَيْئًا مِنَ الظَّاهِرِ وَمِنْ جَانِبِ بَعْضِ الْبَاطِنِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يُنْظَرُ فِي ثَخَانَةِ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ وَيَسْقُطُ أَرْشُ الْجَائِفَةِ عَلَى الْمَقْطُوعِ مِنَ الْجَائِفَتَيْنِ، وَقَدْ يَقْتَضِي التَّقْسِيطُ تَمَامَ الْأَرْشِ، بِأَنْ يَقْطَعَ نِصْفَ الظَّاهِرِ مِنْ جَانِبٍ، وَنِصْفَ الْبَاطِنِ مِنْ جَانِبٍ، وَلَوْ لَمْ يَقْطَعْ مِنْ أَطْرَافِ الْجَائِفَةِ شَيْئًا، وَلَكِنْ زَادَ فِي غَوْرِهَا، أَوْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ عُضْوٌ

فصل

بَاطِنٌ، كَالْكَبِدِ، فَغَرَزَ السِّكِّينَ فِيهِ؛ فَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ، وَلَوْ عَادَ الْجَانِي فَوَسَّعَ الْجَائِفَةَ، أَوْ زَادَ فِي غَوْرِهَا، لَمْ يَزِدِ الْوَاجِبُ وَكَانَ كَمَا لَوْ أَجَافَ ابْتِدَاءً كَذَلِكَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ فِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ فِي تَوْسِيعِ الْمُوضِحَةِ، وَيَجِيءُ فِي اخْتِلَافِ حُكْمِ الْجَائِفَةِ وَانْقِسَامِهَا إِلَى عَمْدِ وَخَطَأِ مَا سَبَقَ فِي الْمُوضِحَةِ، وَلَوْ ضَرَبَهُ بِسِنَانٍ، أَوْ مِشْقَصٍ لَهُ رَأْسَانِ، فَنَفَذَ إِلَى جَوْفِهِ وَالْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا سَلِيمٌ؛ فَهُمَا جَائِفَتَانِ، وَلَوْ طَعَنَهُ بِسِنَانٍ فِي بَطْنِهِ، فَأَنْفَذَهُ مِنْ ظَهْرِهِ، أَوْ مِنْ أَحَدِ الْجَنْبَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، فَهَلْ هُمَا جَائِفَتَانِ أَمْ جَائِفَةٌ؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: جَائِفَتَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: جَائِفَةٌ، وَجَبَ مَعَهَا حُكُومَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا حُكُومَةَ. فَصْلٌ إِذَا أَوْضَحَهُ، فَانْدَمَلَتْ أَطْرَافُ الْجِرَاحَةِ، وَبَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْعَظْمِ بَارِزًا، لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْشِ قَطْعًا، وَإِنِ الْتَحَمَ الْمَوْضِعُ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الْعَظْمِ بَارِزًا، فَكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْنٌ، سَقَطَ الْأَرْشُ وَلَا حُكُومَةَ، وَإِنْ بَقِيَ، سَقَطَ الْأَرْشُ، وَوَجَبَتْ حُكُومَةٌ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا انْدَمَلَتِ الْجَائِفَةُ، لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْشِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْحُكُومَةِ، وَقِيلَ: فِي سُقُوطِهِ قَوْلَانِ، كَعَوْدِ السِّنِّ. فَرْعٌ إِذَا الْتَحَمَتِ الْجَائِفَةُ، أَوِ الْمُوضِحَةُ، فَجَاءَ جَانٍ إِمَّا الْأَوَّلُ وَإِمَّا غَيْرُهُ، فَأَوْضَحَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، أَوْ أَجَافَ؛ فَعَلَيْهِ أَرْشٌ آخَرُ إِنْ كَانَ الِالْتِحَامُ قَدْ تَمَّ سَوَاءٌ نَبَتَ عَلَيْهِ الشَّعَرُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ مَشِينًا أَمْ لَا. وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الِالْتِحَامُ، فَفَتَقَهُ؛ فَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ فَقَطْ، وَلَوْ نَزَعَ الْخَيْطَ الَّذِي خِيطَتِ الْجَائِفَةُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِمَ، فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَأُجْرَةُ مِثْلِ الْخَيَّاطِ، وَضَمَانُ الْخَيْطِ إِنْ تَلَفَ، وَلَا أَرْشَ وَلَا حُكُومَةَ. وَإِنِ الْتَحَمَتْ ظَاهِرًا

وَبَاطِنًا فَانْفَتَحَتْ، فَهِيَ جَائِفَةٌ جَدِيدَةٌ. وَكَذَا لَوِ انْفَتَحَ جَانِبٌ مِنْهَا بَعْدَ تَمَامِ الْتِحَامِهِ، فَإِنِ الْتَحَمَ ظَاهِرُهَا دُونَ بَاطِنِهَا، أَوْ بِالْعَكْسِ؛ فَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ دُونَ الْأَرْشِ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْأَرْشِ أَوِ الْحُكُومَةِ أُجْرَةُ الْخَيَّاطِ، لَكِنْ يَجِبُ ضَمَانُ الْخَيْطِ إِنْ تَلَفَ. فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا سَبَقَ إِحْدَاهَا: غَرَزَ إِبْرَةً فِي رَأْسِ رَجُلٍ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى الْعَظْمِ وَسَلَّهَا، فَهِيَ مُوضِحَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ عَلَى وَجْهَيْنِ. الثَّانِيَةُ: مُوضِحَةُ هَشْمٍ فِي بَعْضِهَا فَقَطْ، لَيْسَ فِيهَا إِلَّا أَرْشُ هَاشِمَةٍ. الثَّالِثَةُ: أَوْضَحَ وَهَشَّمَ فِي مَوْضِعَيْنِ وَاتَّصَلَ الْهَشْمُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَاطِنِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا هَاشِمَتَانِ، وَقِيلَ: هَاشِمَةٌ. الرَّابِعَةُ: أَوْضَحَ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، وَهَشَّمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَهِيَ هَاشِمَتَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مُوضِحَتَانِ وَهَاشِمَةٌ وَاحِدَةٌ. الْخَامِسَةُ: أَدْخَلَ فِي دُبُرِهِ شَيْئًا خَرَقَ بِهِ حَاجِزًا فِي الْبَاطِنِ، هَلْ عَلَيْهِ أَرْشُ جَائِفَةٍ؟ وَجْهَانِ: السَّادِسَةُ: شَجَّهُ مُتَلَاحِمَةً، فَأَوْضَحَهُ آخَرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِقَطْعِ اللَّحْمِ الْبَاقِي؛ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا حُكُومَةٌ. السَّابِعَةُ: أَجَافَهُ وَنَكَّأَ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ، كَالْأَمْعَاءِ؛ فَعَلَيْهِ مَعَ أَرْشِ الْجَائِفَةِ حُكُومَةٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: إِبَانَةُ الْأَطْرَافِ. وَالْمُقَدَّرُ بَدَلُهُ مِنَ الْأَعْضَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ عُضْوًا، الْعُضْوُ الْأَوَّلُ: الْأُذُنَانِ

وَفِي اسْتِئْصَالِهِمَا قَطْعًا أَوْ قَلْعًا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَحُكِيَ قَوْلٌ أَوْ وَجْهٌ مُخَرَّجٌ أَنَّ فِيهِمَا الْحُكُومَةُ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِقِسْطِهِ، وَتُقَدَّرُ بِالْمِسَاحَةِ، وَسَوَاءٌ أُذُنُ السَّمِيعِ وَالْأَصَمِّ؛ لِأَنَّ السَّمْعَ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأُذُنِ، وَلَوْ ضَرْبَ أُذُنَهُ، فَاسْتَحْشَفَتْ، أَيْ: يَبِسَتْ كَشَلَلِ الْيَدِ؛ فَقَوْلَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا: تَجِبُ دِيَتُهَا، كَمَا لَوْ ضَرَبَ يَدَهُ، فَشُلَّتْ، وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ إِلَّا الْحُكُومَةُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لَا تَبْطُلُ بِالِاسْتِحْشَافِ بِخِلَافِ الشَّلَلِ. وَلَوْ قَطَعَ أُذُنًا مُسْتَحْشَفَةً، بُنِيَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، إِنْ قُلْنَا هُنَاكَ: تَجِبُ الدِّيَةُ، وَجَبَ هُنَا حُكُومَةٌ، كَمَنْ قَطَعَ يَدًا شَلَّاءَ، وَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَجَبَ هُنَا الدِّيَةُ، وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: هَذِهِ الْحُكُومَةُ مَعَ الْحُكُومَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي حَصَلَ بِهَا الِاسْتِحْشَافُ عَنْ كَمَالِ الدِّيَةِ وَجْهَانِ. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى اسْتِئْصَالِ الشَّاخِصِ، بَلْ أَوْضَحَ مَعَهُ الْعَظْمَ، وَجَبَ دِيَةُ الْأُذُنِ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةَ وَلَا تَتْبَعُهَا، لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ مُقَدَّرٌ مُقَدَّرًا. الْعُضْوُ الثَّانِي: الْعَيْنَانِ؛ فَفِي فَقْئِهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي إِحْدَاهُمَا: نِصْفُهَا، وَعَيْنُ الْأَعْوَرِ السَّلِيمَةُ لَا يَجُبْ فِيهَا إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ. وَلَوْ فَقَأَ الْأَعْوَرُ مِثْلَ عَيْنِهِ الْمُبْصِرَةِ، اقْتُصَّ مِنْهُ. وَتَكْمُلُ الدِّيَةُ فِي عَيْنِ الْأَحْوَلِ وَالْأَعْمَشِ، وَالْعَمَشُ: ضَعْفُ الرُّؤْيَةِ مَعَ سَيَلَانِ الدَّمْعِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ. وَيُقَالُ: إِنَّ خَلَلَ الْأَعْمَشِ فِي الْأَجْفَانِ، وَفِي عَيْنِ الْأَعْشَى، وَهُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ لَيْلًا، وَيُبْصِرُ نَهَارًا، وَالْأَخْفَشُ، وَهُوَ صَغِيرُ الْعَيْنِ ضَعِيفُ الْبَصَرِ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْ يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بَاقِيَةٌ فِي أَعْيُنِ هَؤُلَاءِ، وَمِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ لَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ فِي الْعَيْنِ بَيَاضٌ لَا يُنْقِصُ الضَّوْءَ لَمْ يُمْنَعِ الْقِصَاصُ وَلَا كَمَالُ

الدِّيَةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى بَيَاضِ الْحَدَقَةِ أَوْ سَوَادِهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى النَّاظِرِ إِلَّا أَنَّهُ رَقِيقٌ لَا يَمْنَعُ الْإِبْصَارَ وَلَا يُنْقِصُ الضَّوْءَ؛ وَإِنْ كَانَ يُنْقِصُ الضَّوْءَ، نُظِرَ، إِنْ أَمْكَنَ ضَبْطُ النَّقْصِ بِالِاعْتِبَارِ بِالصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا بَيَاضَ فِيهَا، سَقَطَ مِنَ الدِّيَةِ قِسْطُ مَا نَقَصَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ الْحُكُومَةُ. الْعُضْوُ الثَّالِثُ: الْأَجْفَانُ الْأَرْبَعَةُ، وَفِيهَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي كُلِّ جَفْنٍ رُبُعُهَا، وَفِي بَعْضِ الْجَفْنِ قِسْطُهُ مِنَ الرُّبْعِ، وَسَوَاءٌ الْجَفْنُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ. وَجَفْنُ الْأَعْمَى وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمَا. وَلَا دِيَةَ فِي الْجَفْنِ الْمُسْتَحْشِفِ؛ وَإِنَّمَا فِيهِ الْحُكُومَةُ، وَلَوْ ضَرَبَ الْجَفْنَ، فَاسْتَحْشَفَ، لَزِمَهُ الدِّيَةُ قَطْعًا. وَلَوْ قَلَعَ الْأَجْفَانَ وَالْعَيْنَانِ، لَزِمَهُ دِيَتَانِ. فَرْعٌ إِزَالَةُ الْأَهْدَابِ وَسَائِرُ الشُّعُورِ، كَشَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، بِالْحَلْقِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِفْسَادِ الْمَنْبَتِ لَا يُوجِبُ إِلَّا التَّعْزِيرَ، فَإِنْ أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ، لَزِمَهُ الْحُكُومَةُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَجْفَانِ أَهْدَابٌ فَالْوَاجِبُ بِقَطْعِهَا الدِّيَةُ؛ فَإِنْ قُطِعَتْ وَعَلَيْهَا أَهْدَابٌ، فَهَلْ تَجِبُ مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةُ الْأَهْدَابِ، أَمْ تَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الدُّخُولُ. وَتَدْخُلُ حُكُومَةُ الشَّعَرِ عَلَى مَحِلِّ الْمُوضِحَةِ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: الْعُضْوُ الرَّابِعُ: الْأَنْفُ، فَفِي قَطْعِ الْمَارِنِ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ وَخَلَا مِنَ الْعَظْمِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَالْمَارِنُ: ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ، الطَّرَفَانِ، وَالْوَتْرَةُ الْحَاجِزَةُ بَيْنَهُمَا، وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ الدِّيَةِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا - وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَرَجَّحَهُ الْقَاضِيَانِ الطَّبَرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، تُوَزَّعُ عَلَى الثَّلَاثِ؛ فَعَلَى هَذَا إِنْ رَفَعَ الْحَاجِزَ وَحْدَهُ، وَجَبَ ثُلْثُ الدِّيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَكَذَلِكَ، وَلَوْ قَطَعَهُمَا دُونَ الْحَاجِزِ، أَوْ أَحَدَهُمَا مَعَ الْحَاجِزِ، وَجَبَ ثُلْثَا الدِّيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ أَحَدَهُمَا، وَنِصْفَ الْحَاجِزِ وَجَبَ

نِصْفُ الدِّيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَيُحْكَى عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ: أَنَّ الدِّيَةَ تَتَعَلَّقُ بِالطَّرَفَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الْحَاجِزِ إِلَّا الْحُكُومَةُ؛ فَعَلَى هَذَا فِي الْحَاجِزِ وَحْدَهُ الْحُكُومَةُ، وَفِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي قَطْعِهِمَا دُونَ الْحَاجِزِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي أَحَدِهِمَا مَعَ الْحَاجِزِ أَوْ بَعْضِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَحُكُومَةٌ. وَلَوْ سَقَطَ بَعْضُ أَنْفِ الْمَجْذُومِ؛ فَقَطَعَ رَجُلٌ الْبَاقِيَ، وَجَبَ قَسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَأَنْفُ الْأَخْشَمِ كَأَنْفِ الْأَشَمِّ، وَلَوْ ضَرَبَ أَنْفَهُ فَاسْتَحْشَفَ، أَوْ قَطَعَ أَنْفًا مُسْتَحْشَفًا؛ فَعَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْأُذُنِ، وَلَوْ شَقَّ مَارِنَهُ؛ فَذَهَبَ بَعْضُهُ وَلَمْ يَلْتَئِمْ؛ فَعَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ قِسْطُ الذَّاهِبِ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ، سَوَاءٌ الْتَأَمَ أَمْ لَا، وَلَوِ انْجَبَرَتِ الْقَصَبَةُ بَعْدَ الْكَسْرِ، فَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ؛ فَإِنْ بَقِيَ مُعْوَجًّا، كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ. الْعُضْوُ الْخَامِسُ: الشَّفَتَانِ؛ فَفِي اسْتِيعَابِهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ كَانَتَا غَلِيظَتَيْنِ أَمْ دَقِيقَتَيْنِ، كَبِيرَتَيْنِ أَمْ صَغِيرَتَيْنِ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُهَا، سَوَاءٌ الْتَأَمَ أَمْ لَا، وَلَوِ انْجَبَرَتِ الْقَصَبَةُ بَعْدَ الْكَسْرِ؛ فَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ، إِلَى الشِّدْقَيْنِ، وَفِي ضَبْطِهِ فِي الطُّولِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الشَّفَةَ مِنْ جَوْفِ الْفَمِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْتُرُ اللِّثَةَ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْمُتَجَافِي إِلَى مَحَلِّ الِارْتِتَاقِ، وَالثَّالِثُ: الَّذِي يَنْتَأُ عِنْدَ إِطْبَاقِ الْفَمِ، وَالرَّابِعُ: الَّذِي لَوْ قُطِعَ لَمْ تَنْطَبِقِ الشَّفَةُ الْأُخْرَى عَلَى الْبَاقِي. وَلَوْ ضَرَبَ شَفَتَهُ، فَأَشَلَّهَا فَصَارَتْ مُنْقَبِضَةً لَا تَسْتَرْسِلُ، أَوْ مُسْتَرْسِلَةً لَا تَنْقَبِضُ؛ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي الشَّفَةِ الشَّلَّاءِ الْحُكُومَةُ. وَلَوْ شَقَّ شَفَتَيْهِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمَا شَيْءٌ، لَزِمَهُ حُكُومَةٌ، وَلَوْ قَطَعَ شَفَةً مَشْقُوقَةً؛ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ نَاقِصَةٌ بِقَدْرِ حُكُومَةِ الشَّقِّ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ الشَّفَةِ وَتَقَلَّصَ الْبَاقِي حَتَّى بَقِيَتْ كَالْمَقْطُوعِ جَمِيعِهَا، فَهَلْ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ. أَوْ تَتَوَزَّعُ عَلَى الْمَقْطُوعِ وَالْبَاقِي؟ وَجْهَانِ، وَهَلْ تَتْبَعُ حُكُومَةُ الشَّارِبِ دِيَةَ الشَّفَةِ؟ وَجْهَانِ.

الْعُضْوُ السَّادِسُ: اللِّسَانُ، فَفِيهِ دِيَةٌ، وَلِسَانُ الْأَلْكَنِ، وَالْمُبَرْسَمِ الَّذِي ثَقُلَ كَلَامُهُ، وَالْأَلْثَغُ كَغَيْرِهِ، وَفِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ حُكُومَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ خَرَسُهُ أَصْلِيًّا أَمْ عَارِضًا، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِ احْتِمَالٌ لِابْنِ سَلَمَةَ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَذْهَبِ الذَّوْقُ بِقَطْعِ الْأَخْرَسِ، أَوْ كَانَ قَدْ ذَهَبَ ذَوْقُهُ قَبْلَهُ؛ فَأَمَّا إِذَا قُطِعَ لِسَانُهُ، فَذَهَبَ ذَوْقُهُ، فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَلَوْ تَعَذَّرَ النُّطْقُ لَا لِخَلَلٍ فِي اللِّسَانِ، وَلَكِنَّهُ وُلِدَ أَصَمَّ، فَلَمْ يُحْسِنِ الْكَلَامَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، فَهَلْ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ أَمِ الْحُكُومَةُ، وَجْهَانِ يَجِيءُ ذِكْرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَطَعَ لِسَانَ طِفْلٍ، نُظِرَ، إِنْ نَطَقَ بِبَابَا وِدَادَا وَنَحْوِهِمَا، أَوْ كَانَ يُحَرِّكُهُ عِنْدَ الْبُكَاءِ وَالضَّحِكِ وَالِامْتِصَاصِ تَحْرِيكًا صَحِيحًا، وَجَبَتِ الدِّيَةُ لِظُهُورِ آثَارِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نُطْقٌ وَتَحْرِيكٌ، فَإِنْ كَانَ بَلَغَ وَقْتَ النُّطْقِ وَالتَّحْرِيكِ؛ فَالْوَاجِبُ حُكُومَةٌ، وَإِلَّا فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الدِّيَةِ أَخْذًا بِظَاهِرِ السَّلَامَةِ، كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي رِجْلِهِ وَيَدِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ بَطْشٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي طُرُقِهِمْ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّ الْوَاجِبَ الْحُكُومَةُ، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِيهِ قَوْلَيْنِ. وَإِذَا قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ طِفْلٌ وَاقْتَضَى الْحَالُ إِيجَابَ الْحُكُومَةِ، فَأَخَذْنَاهَا، ثُمَّ نَطَقَ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ وَعَرَفْنَا سَلَامَةَ لِسَانِهِ أَوْجَبْنَا تَمَامَ الْقَدْرِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقَطْعُ مِنَ الدِّيَةِ. وَلَوْ كَانَ لِلِسَانِهِ طَرَفَانِ، نُظِرَ، إِنِ اسْتَوَيَا فِي الْخِلْقَةِ، فَهُوَ لِسَانٌ مَشْقُوقٌ؛ فَيَجِبُ بِقَطْعِهِمَا الدِّيَةُ، وَبِقَطْعِ أَحَدِهِمَا قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا تَامَّ الْخِلْقَةِ أَصْلِيًّا، وَالْآخَرُ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ زَائِدًا؛ فَفِي قَطْعِهِمَا دِيَةٌ وَحُكُومَةٌ، وَفِي الْأَصْلِيِّ دِيَةٌ، وَفِي الزَّائِدِ حُكُومَةٌ، وَلَا يُبَلِّغُ بِحُكُومَتِهِ دِيَةَ قَدْرِهِ مِنَ اللِّسَانِ مِنْ ثُلْثٍ وَرُبُعٍ وَنَحْوِهِمَا. وَفِي قَطْعِ اللَّهَاةِ الْحُكُومَةُ.

السَّابِعُ: الْأَسْنَانُ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ مِنَ الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، سَوَاءٌ قَلَعَهَا، أَوْ قَطَعَهَا، أَوْ كَسَرَهَا وَلَوِ اقْتَلَعَهَا، فَبَقِيَتْ مُعَلَّقَةً بِعُرُوقٍ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى مَا كَانَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حُكُومَةٌ؛ ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ. وَتَسْتَوِي الْأَسْنَانُ فِي الدِّيَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَنَافِعُهَا، وَتَكْمُلُ دِيَةُ السِّنِّ بِقَلْعِ كُلِّ سِنٍّ أَصْلِيَّةٍ تَامَّةٍ مَثْغُورَةٍ غَيْرِ مُتَقَلْقِلَةٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ قُيُودٍ، الْأَوَّلُ: كَوْنُهَا أَصْلِيَّةً، فَفِي الشَّاغِيَةِ الْحُكُومَةُ لَا الدِّيَةُ، وَلَوْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَاتَّخَذَ سِنًّا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ عَظْمٍ طَاهِرٍ، فَلَا دِيَةَ فِي قَلْعِهَا، وَأَمَّا الْحُكُومَةُ، فَإِنْ قُلِعَتْ قَبْلَ الِالْتِحَامِ، لَمْ تَجِبْ، لَكِنْ يُعَزَّرُ الْقَالِعُ، وَإِنْ قُلِعَتْ بَعْدَ تَشَبُّثِ اللَّحْمِ بِهَا، وَاسْتِعْدَادِهَا لِلْمَضْغِ وَالْقَطْعِ، فَلَا حُكُومَةَ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ. الثَّانِي: كَوْنُهَا تَامَّةً، وَتَكْمُلُ دِيَةُ السِّنِّ بِكَسْرِ مَا ظَهَرَ مِنَ السِّنِّ، وَإِنْ بَقِيَ السِّنْخُ بِحَالِهِ، وَلَوْ قُلِعَ السِّنُّ مِنَ السِّنْخِ، وَجَبَ أَرْشُ السِّنِّ فَقَطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ فِي وُجُوبِ الْحُكُومَةِ مَعَهُ وَجْهَانِ، وَلَوْ كَسَرَ الظَّاهِرَ رَجُلٌ، وَقَلَعَ السِّنْخَ آخَرُ؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ دِيَةُ سِنٍّ، وَعَلَى الثَّانِي حُكُومَةٌ قَطْعًا، وَلَوْ عَادَ الْأَوَّلُ وَقَلَعَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ مَعَ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَلْعَهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا حُكُومَةَ، وَطَرَدَ مِثْلَ هَذَا فِي قَطْعِ الْكَفِّ بَعْدَ قَطْعِ الْأَصَابِعِ مِنَ الْقَاطِعِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ الظَّاهِرِ، فَعَلَيْهِ قِسْطُهُ مِنَ الْأَرْشِ وَيُنْسَبُ الْمَقْطُوعُ إِلَى الْبَاقِي مِنَ الظَّاهِرِ، وَلَا يُعْتَبَرُ السِّنْخُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ، ثَانِيهِمَا يُوَزَّعُ عَلَيْهِ وَعَلَى السِّنْخِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا صَوَرٌ مِنْهَا: أَنَّ الدِّيَةَ تَكْمُلُ فِي قَطْعِ الْحَشَفَةِ، فَلَوِ اسْتُؤْصِلَ الذَّكَرُ، فَهَلْ يَنْفَرِدُ بَقِيَّةُ الذَّكَرِ بِحُكُومَةٍ أَمْ تَدْخُلُ حُكُومَتُهَا فِي دِيَةِ الْحَشَفَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَالثَّانِي: عَلَى وَجْهَيْنِ.

وَمِنْهَا: حَلَمَةُ الثَّدْيِ فِيهَا كَمَالُ الدِّيَةِ، فَلَوِ اسْتُؤْصِلَ الثَّدْيُ فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ، وَالْمَذْهَبُ فِيهِمَا الِانْدِرَاجُ. وَمِنْهَا: فِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ، فَلَوْ قَطَعَهُ مَعَ الْقَصَبَةِ، فَهَلْ تَنْدَرِجُ حُكُومَةُ الْقَصَبَةِ فِي دِيَةِ الْمَارِنِ؟ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ الِانْدِرَاجُ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ قَصَبَةَ الْأَنْفِ مَحِلُّ الْمُوضِحَةِ فِي الْوَجْهِ، وَكَذَا هِيَ مَحِلُّ الْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ، وَإِبَانَةُ الْقَصَبَةِ أَعْظَمُ مِنَ الْمُنَقِّلَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَجِبَ فِيهَا مَعَ دِيَةِ الْمَارِنِ أَرْشُ الْمُنَقِّلَةِ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ كَجٍّ هَذَا عَنِ النَّصِّ، لَكِنْ لَمْ أَجِدْ لِغَيْرِهِ تَعَرُّضًا لَهُ. وَإِذَا قُلْنَا بِالِانْدِرَاجِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَقَطَعَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ أَوِ الْحَلَمَةِ أَوِ الْمَارِنِ، فَهَلْ يُنْسَبُ الْمَقْطُوعُ إِلَى الْحَشَفَةِ أَمْ جَمِيعِ الذَّكَرِ، وَإِلَى الْحَلَمَةِ أَمْ جَمِيعِ الثَّدْيِ، وَإِلَى الْمَارِنِ أَمْ إِلَيْهِ مَعَ الْقَصَبَةِ؟ فِيهِ الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ فِي بَعْضِ ظَاهِرِ السِّنِّ؛ وَالْمَذْهَبُ التَّوْزِيعُ عَلَى الْحَشَفَةِ وَالْحَلَمَةِ وَالْمَارِنِ فَقَطْ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَكْسُورِ مِنْ ظَاهِرِ السِّنِّ؛ فَالْمُصَدِّقُ الْجَانِي، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ. فَرْعٌ كَسَرَ وَاحِدٌ بَعْضَ ظَاهِرِ السِّنِّ، ثُمَّ كَسَرَ غَيْرُهُ الْبَاقِي مِنَ الظَّاهِرِ؛ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا قِسْطُ مَا كَسَرَهُ مِنَ الْأَرْشِ. وَلَوْ قَلَعَ الثَّانِي الْبَاقِي مَعَ السِّنْخِ فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ أَرْشُ الْبَاقِيَ وَحُكُومَةُ السِّنْخِ، وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْأَرْشُ فَقَطْ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَحُّ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ - يُنْظَرُ فِي جِنَايَةِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنْ كُسِرَ بَعْضُ السِّنِّ فِي الْعَرْضِ، وَبَقِيَ الْأَسْفَلُ بِحَالِهِ، فَلَيْسَ عَلَى الثَّانِي حُكُومَةُ السِّنْخِ، بَلْ يَدْخُلُ فِي أَرْشِ الْبَاقِي، وَإِنْ كَسَرَ بَعْضَهَا فِي الطُّولِ، فَحُكُومَةُ السِّنْخِ بِقَدْرِ

مَا يَجِبُ الْبَاقِي مِنَ السِّنِّ يَدْخُلُ فِي أَرْشِهِ، وَمَا لَا شَيْءَ فَوْقَهُ تَلْزَمُهُ حُكُومَتُهُ. فَرْعٌ لَوْ ظَهَرَ بَعْضُ السِّنْخِ بِخَلَلٍ أَصَابَ اللِّثَةَ، لَمْ يَلْحَقْ ذَلِكَ بِالظَّاهِرِ، بَلْ تَكْمُلُ الدِّيَةُ فِيمَا كَانَ ظَاهِرًا فِي الْأَصْلِ. فَرْعٌ لَوْ تَنَاثَرَ بَعْضُ السِّنِّ، أَوْ تَآكَلَ، فَفِي قَلْعِهَا قِسْطُ مَا بَقِيَ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمُتَنَاثِرِ وَالْمُتَآكِلِ، صَدَقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَتْ أَسْنَانُهُ مِنَ الْأَعْلَى طَوِيلَةً، وَمِنَ الْأَسْفَلِ قَصِيرَةً، أَوْ بِالْعَكْسِ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ، وَوَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَمَالُ الْأَرْشِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الثَّنَايَا مِنَ الْأَسْنَانِ تَكُونُ أَطْوَلَ مِنَ الرُّبَاعِيَّاتِ بِقَلِيلٍ، فَلَوْ كَانَتْ ثَنَايَاهُ كَرُبَاعِيَّاتِهِ أَوْ أَقْصَرَ مِنْهَا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَجِبُ فِيهَا تَمَامُ الْأَرْشِ بَلْ يَنْقُصُ مِنْهُ بِحَسَبِ نُقْصَانِهَا، وَبِهَذَا قَطَعَ الرُّويَانِيُّ. وَالثَّانِي: يَجِبُ كَمَالُ الْأَرْشِ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَى الثَّنِيَّتَيْنِ مِنَ الْأَعْلَى أَوِ الْأَسْفَلِ أَقْصَرَ مِنْ أُخْتِهَا، فَقُلِعَتِ الصَّغِيرَةُ، نَقَصَ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ نُقْصَانِهَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمَا لَا تَخْتَلِفَانِ؛ فَإِذَا اخْتَلَفَتَا، كَانَتِ الْقَصِيرَةُ نَاقِصَةً، وَلَوْ أَنْهَى صِغَرَ السِّنِّ إِلَى أَنْ بَطَلَتْ مَنْفَعَتُهُ وَلَمْ يَصْلُحْ لِلْمَضْغِ؛ فَفِي قَلْعِهَا الْحُكُومَةُ دُونَ الدِّيَةِ، كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: كَوْنُهَا مَثْغُورَةً، فَلَوْ قُلِعَ سَنٌّ صَغِيرٌ لَمْ يُثْغَرْ، فَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى فِي الْحَالِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَوْدُهَا؛ فَهِيَ كَالشَّعَرِ يُحْلَقُ، لَكِنْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا فَإِنْ عَادَتْ، فَلَا

قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ. وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ شَيْنٌ، وَإِلَّا فَهَلْ يُعْتَبَرُ حَالُ الْجِنَايَةِ وَقِيَامُ الْأَلَمِ أَمْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي فِي بَابِ الْحُكُومَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْعَوْدُ وَلَمْ تَعُدْ، وَفَسَدَ الْمَنْبَتُ، اسْتُوفِيَ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ، فَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ قَبْلَ بَيَانِ الْحَالِ، فَفِي وُجُوبِ الْأَرْشِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَجِبُ لِتَحَقُّقِ الْجِنَايَةِ؛ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْعَوْدِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ، وَالظَّاهِرُ الْعَوْدُ لَوْ عَاشَ؛ فَعَلَى هَذَا تَجِبُ الْحُكُومَةُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَعْتَبِرُ حَالَ الْجِنَايَةِ وَالْأَلَمِ، وَلَوْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ الصَّغِيرِ، وَجَنَى آخَرُ عَلَى مَنْبَتِهِ جِنَايَةً أَبْطَلَتِ النَّبَاتَ، قَالَ الْإِمَامُ: لَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الْأَرْشِ عَلَى الثَّانِي وَلَا عَلَيْهِمَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى الْحُكُومَةِ، وَلَوْ سَقَطَتْ سِنُّهُ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ جَنَى جَانٍ وَأَفْسَدَ الْمَنْبَتَ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ الْأَرْشِ عَلَى الثَّانِي، لِأَنَّهُ أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ، وَلَمْ تَسْبِقْهُ جِنَايَةٌ بِحَالٍ عَلَيْهَا. فَرْعٌ لَوْ قَلَعَ سِنَّ مَثْغُورٍ، فَأَخَذَ مِنْهُ الْأَرْشَ، فَعَادَتِ السِّنُّ عَلَى النُّدُورِ، لَمْ يَسْتَرِدَّ الْأَرْشَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوِ الْتَحَمَتِ الْمُوضِحَةُ أَوِ الْجَائِفَةُ بَعْدَ أَخْذِ أَرْشِهَا، لَمْ يَسْتَرِدَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ جَنَى عَلَى يَدِهِ فَذَهَبَ بَطْشُهَا، أَوْ عَلَى عَيْنِهِ فَذَهَبَ بَصَرُهَا، فَأَخَذْنَا دِيَتَهُمَا لِظَنِّ زَوَالِ الْبَطْشِ وَالْبَصَرِ، ثُمَّ قَوِيَتِ الْيَدُ وَالْعَيْنُ فَصَارَ يَبْطِشُ وَيُبْصِرُ، اسْتُرِدَّتِ الدِّيَةُ قَطْعًا، لِأَنَّ الشَّلَلَ وَالْعَمَى الْمُحَقَّقَيْنِ لَا يَزُولَانِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي السَّمْعِ وَسَائِرِ الْمَعَانِي. فَرْعٌ قَلَعَ سِنَّ صَغِيرٍ، فَطَلَعَ بَعْضُهَا وَمَاتَ الصَّغِيرُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ نَبَاتُهَا؛ فَعَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ فِيمَا إِذَا مَاتَ قَبْلَ

النَّبَاتِ، وَالْحُكُومَةُ إِنْ قُلْنَا: لَا تَجِبُ هُنَاكَ الدِّيَةُ؛ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَوْ قَلَعَهَا قَبْلَ تَمَامِ الطُّلُوعِ آخَرُ، فَعَنِ النَّصِّ انْتِظَارُ نَبَاتِهَا، فَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ نَبَتَتْ، لَزِمَهُ حُكُومَةٌ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَةِ الْمَرَّةِ الْأُولَى. الْقَيْدُ الرَّابِعُ: كَوْنُهَا ثَابِتَةً غَيْرَ مُتَقَلْقِلَةٍ؛ فَإِنْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً حَرَكَةً يَسِيرَةً لَا تُنْقِصُ الْمَنَافِعَ، لَمْ يُؤَثِّرْ تَحَرُّكَهَا فِي قِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِهَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ بِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِمَا، نُظِرَ، إِنْ بَطَلَتْ مَنْفَعَتُهَا، فَفِيهَا الْحُكُومَةُ؛ وَإِنْ نَقَصَتْ فَهَلْ يَجِبُ الْأَرْشُ أَمِ الْحُكُومَةُ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَرْشُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ نَبَاتُهَا، وَجَبَ الْأَرْشُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ سُقُوطُهَا، فَهُوَ مَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ ضَرَبَ سِنَّ رَجُلٍ فَتَزَلْزَلَتْ وَتَحَرَّكَتْ؛ نُظِرَ إِنْ سَقَطَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْأَرْشُ، وَإِنْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَلَا أَرْشَ، وَفِي وُجُوبِ الْحُكُومَةِ وَجْهَانِ، كَمَا إِذَا لَمْ يَبْقَ فِي الْجِرَاحَةِ نَقْصٌ وَلَا شَيْنٌ، وَإِنْ بَقِيَتْ كَذَلِكَ نَاقِصَةَ الْمَنْفَعَةِ؛ فَهَلْ يَجِبُ الْأَرْشُ أَمِ الْحُكُومَةُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قَلَعَهَا آخَرُ؛ فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ إِنْ أَوْجَبْنَا عَلَى الْأَوَّلِ الْحُكُومَةَ، وَالْحُكُومَةُ إِنْ أَوْجَبْنَا عَلَى الْأَوَّلِ الْأَرْشَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إِنْ قُلْنَا: تَجِبُ الْحُكُومَةُ، فَهِيَ دُونَ حُكُومَةِ السِّنِّ الْمُتَحَرِّكَةِ بِهَرَمٍ وَمَرَضٍ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ الَّذِي فِيهَا قَدْ غَرِمَهُ الْجَانِي الْأَوَّلُ بِخِلَافِ الْهَرَمِ. وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الثَّانِي إِلَّا حُكُومَةٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الِاضْطِرَابُ بِهَرَمٍ وَمَرَضٍ؛ لِأَنَّ خَلَلَ الْجِنَايَةِ يُخَالِفُهُمَا؛ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ فِي آخِرِ رَمَقٍ بِالْمَرَضِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلَوْ كَانَ فِي هَذَا الْحَالِ بِجِنَايَةٍ؛ فَلَا قِصَاصَ، وَلَوْ جَنَى عَلَى سِنٍّ، فَاضْطَرَبَتْ وَنَقَصَتْ مَنْفَعَتُهَا، وَقُلْنَا: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْحُكُومَةُ؛ فَعَادَ وَقَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ الْحُكُومَةَ؛ فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ بِكَمَالِهِ.

فصل

فَرْعٌ قَلَعَ سِنًّا سَوْدَاءَ كَامِلَةَ الْمَنْفَعَةِ؛ نُظِرَ إِنْ كَانَتْ سَوْدَاءَ قَبْلَ أَنْ يُثْغَرَ وَبَعْدَهُ، لَزِمَهُ كَمَالُ الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ بَيْضَاءَ، فَلَمَّا ثُغِرَ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ، أَوْ نَبَتَتْ بَيْضَاءَ ثُمَّ اسْوَدَّتْ، فَعَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُرَاجِعُ أَهْلَ الْخِبْرَةِ؛ فَإِنْ قَالُوا: لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِعِلَّةٍ حَادِثَةٍ، فَفِي قَلْعِهَا الْحُكُومَةُ، وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَحْدُثْ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ، أَوْ قَالُوا: مِثْلَ هَذَا قَدْ يَكُونُ لِعِلَّةٍ وَمَرَضٍ؛ وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ؛ وَجَبَ كَمَالُ الْأَرْشِ، وَالرَّدُّ إِلَى الْحُكُومَةِ لِلْمَرَضِ مَعَ كَمَالِ الْمَنْفَعَةِ خِلَافَ الْقِيَاسِ. وَإِنْ ضَرَبَ سِنًّا فَاسْوَدَّتْ، فَهَلْ يَجِبُ الْأَرْشُ أَمِ الْحُكُومَةُ؟ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ اخْتِلَافَ نَصٍّ فِيهِ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ وَالْمَذْهَبُ وَمَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ تَنْزِيلَ النَّصَّيْنِ عَلَى حَالَيْنِ، إِنْ فَاتَتِ الْمَنْفَعَةُ مَعَ الِاسْوِدَادِ، وَجَبَ الْأَرْشُ، وَإِلَّا فَالْحُكُومَةُ، وَلَوِ اخْضَرَّتِ السِّنُّ بِجِنَايَةٍ أَوِ اصْفَرَّتْ، وَجَبَتِ الْحُكُومَةُ، وَحُكُومَةُ الِاخْضِرَارِ أَقَلُّ مِنْ الِاسْوِدَادِ، وَحُكُومَةُ الِاصْفِرَارِ أَقَلُّ مِنَ الِاخْضِرَارِ. فَصْلٌ الْأَسْنَانُ فِي غَالِبِ الْفِطْرَةِ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ، مِنْهَا أَرْبَعُ ثَنَايَا وَهِيَ الْوَاقِعَةُ فِي مُقَدَّمِ الْفَمِ، ثِنْتَانِ مِنْ أَعْلَى وَثِنْتَانِ مِنْ أَسْفَلَ، وَيَلِيهِمَا أَرْبَعٌ مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلَ يُقَالُ لَهَا: الرُّبَاعِيَّاتُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ، ثُمَّ أَرْبَعُ ضَوَاحِكَ، ثُمَّ أَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ وَأَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ، وَاثْنَا عَشَرَ ضِرْسًا، وَيُقَالُ لَهَا: الطَّوَاحِنُ؛ فَفِي كُلِّ سَنٍّ مِنْهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ كَمَا سَبَقَ مَا لَمْ يُجَاوِزْ عِشْرِينَ سِنًّا؛ فَإِنْ جَاوَزَهَا؛ فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ إِلَّا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَظْهَرَهُمَا وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ: يَجِبُ لِكُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ. فَلَوْ كَانَتْ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَقَلَعَهَا، وَجَبَ مِائَةٌ وَسِتُّونَ بَعِيرًا. وَهَذَا الْخِلَافُ إِذَا اتَّحَدَ الْجَانِي وَالْجِنَايَةُ؛ فَإِنْ تَعَدَّدَ الْجَانِي، بِأَنْ قَلَعَ عِشْرِينَ سِنًّا، وَقَلَعَ غَيْرُهُ الْبَاقِي؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ مِائَةُ بَعِيرٍ، وَعَلَى الثَّانِي سِتُّونَ قَطْعًا، وَإِنِ اتَّحَدَ

الْجَانِي وَتَعَدَّدَتِ الْجِنَايَةُ، نُظِرَ، إِنْ تَخَلَّلَ الِانْدِمَالُ بِأَنْ قَلَعَ سِنًّا وَتَرَكَهُ حَتَّى بَرِأَتِ اللِّثَةُ، وَزَالَ الْأَلَمُ، ثُمَّ قَلَعَ أُخْرَى وَهَكَذَا إِلَى اسْتِيعَابِ الْأَسْنَانِ؛ لَزِمَهُ لِكُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ قَطْعًا. وَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلِ الِانْدِمَالُ؛ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَقِيلَ: يَتَعَدَّدُ قَطْعًا، وَصُورَةُ الْجِنَايَةِ الْوَاحِدَةِ أَنْ يُسْقِطَهَا كُلَّهَا بِضَرْبَةٍ أَوْ يَسْقِيَهُ دَوَاءً يُسْقِطُهَا. فَرْعٌ قَدْ تَزِيدُ الْأَسْنَانُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ زَادَتْ، فَهَلْ يَجِبُ لِكُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ، أَمْ لَا يَجِبُ فِي الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْحُكُومَةُ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدِ؟ وَجْهَانِ. الْعُضْوُ الثَّامِنُ: اللِّحْيَانِ، وَهُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ عَلَيْهِمَا مَنْبَتُ الْأَسْنَانِ السُّفْلَى وَمُلْتَقَاهُمَا الذَّقَنُ، وَفِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي أَحَدِهِمَا إِنْ ثَبَتَ الْآخَرُ نِصْفُهَا؛ فَلَوْ كَانَ عَلَى اللِّحْيَيْنِ أَسْنَانٌ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ؛ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ إِلَّا دِيَةُ اللِّحْيَيْنِ وَيَدْخُلُ فِيهَا أُرُوشُ الْأَسْنَانِ، وَأَصَحُّهُمَا: تَجِبُ دِيَةُ اللِّحْيَيْنِ وَأُرُوشُ الْأَسْنَانِ. التَّاسِعُ: الْيَدَانِ، وَفِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُهَا، وَتَكْمُلُ الدِّيَةُ بِلُقَطِ الْأَصَابِعِ، وَلَوْ قُطِعَ مِنَ الْكُوعِ، فَالْوَاجِبُ مَا يَجِبُ فِي الْأَصَابِعِ وَتَدْخُلُ حُكُومَةُ الْكَفِّ فِي دِيَتِهَا. وَلَوْ قَطَعَ مِنْ بَعْضِ السَّاعِدِ، أَوِ الْمِرْفَقِ، أَوِ الْمَنْكِبِ، وَجَبَتْ حُكُومَتُهَا مَعَ الدِّيَةِ بِخِلَافِ الْكَفِّ، لِأَنَّ الْكَفَّ مَعَ الْأَصَابِعِ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ، وَقَالَ ابْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: نِهَايَةُ الْيَدِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ: الْإِبِطُ وَالْمَنْكِبُ، وَيَجِبُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، تَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْأَصَابِعِ، وَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنَ الْإِبْهَامِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْ غَيْرِهَا ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلْثٌ، وَلَوِ انْقَسَمَتْ أُصْبُعٌ بِأَرْبَعِ أَنَامِلَ مُتَسَاوِيَةٍ؛ فَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعِيرَانِ وَنِصْفٌ.

فَرْعٌ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ انْدِرَاجِ حُكُومَةِ الْكَفِّ تَحْتَ دِيَةِ الْأَصَابِعِ هُوَ فِيمَا إِذَا قَطَعَ مِنَ الْكُوعِ وَأَبَانَ الْكَفَّ وَالْأَصَابِعَ بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَأَمَّا إِذَا قَطَعَ وَاحِدٌ الْأَصَابِعَ، وَآخَرُ الْكَفَّ، أَوْ قَطَعَ وَاحِدٌ الْأَصَابِعَ ثُمَّ الْكَفَّ قَبْلَ الِانْدِمَالِ أَوْ بَعْدَهُ؛ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَسْنَانِ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ عَلَى مِعْصَمِ إِنْسَانٍ كَفَّانِ مَعَ الْأَصَابِعِ، أَوْ عَلَى الْعَضُدِ ذِرَاعَانِ وَكَفَّانِ، أَوْ عَلَى الْمَنْكِبِ عَضُدَانِ وَذِرَاعَانِ وَكَفَّانِ مَعَ الْأَصَابِعِ؛ نُظِرَ إِنْ لَمْ يَبْطِشْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَيْسَ فِيهِمَا قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِمَا الْحُكُومَةُ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ؛ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا بَطْشٌ نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَصْلِيَّةً وَالْأُخْرَى زَائِدَةً، فَفِي الْأَصْلِيَّةِ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ، وَفِي الزَّائِدَةِ الْحُكُومَةُ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الزَّائِدَةِ أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنِ اخْتَصَّتْ إِحْدَاهُمَا بِبَطْشٍ أَوْ قُوَّةِ بَطْشٍ؛ فَهِيَ الْأَصْلِيَّةُ. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَاطِشَةُ أَوِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى بَطْشًا عَلَى اسْتِوَاءِ الذِّرَاعِ، أَوْ مُنْحَرِفَةٍ عَنْهُ؛ فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُسْتَوِيَةً وَالْأُخْرَى مُنْحَرِفَةً؛ فَالْمُسْتَوِيَةُ هِيَ الْأَصْلِيَّةُ. وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُعْتَدِلَةَ الْأَصَابِعِ وَالْأُخْرَى زَائِدَةً فَوَجْهَانِ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: الْمُعْتَدِلَةُ هِيَ الْأَصْلِيَّةُ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَمَالِ نُقْصَانٌ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي التَّمْيِيزِ، لِأَنَّ الْيَدَ الْأَصْلِيَّةَ كَثِيرًا مَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ. وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا نَاقِصَةً بِأُصْبُعٍ، وَلَكِنَّهَا مُسْتَوِيَةٌ، وَالْأُخْرَى كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ مُنْحَرِفَةٌ؛ فَأَيَّتُهُمَا الْأَصْلِيَّةُ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَتَمَيَّزِ الْأَصْلِيَّةُ عَنِ الزَّائِدَةِ بِشَيْءٍ؛ فَهُمَا كَيَدٍ وَاحِدَةٍ، فَيَجِبُ فِي قَطْعِهِمَا الْقِصَاصُ أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَيَجِبُ مَعَ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ حُكُومَةٌ لِزِيَادَةِ الصُّورَةِ. وَعَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ

لِنَقْصِهِمَا بِتَشَوُّهِ الْخِلْقَةِ، وَلَوْ قُطِعَتْ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، وَيَجِبْ فِيهَا نِصْفُ دِيَةٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَعَلَى هَذَا فِي الْأُصْبُعِ مِنْهَا نِصْفُ دِيَةِ أُصْبُعٍ وَحُكُومَةٌ، وَفِي الْأُنْمُلَةِ نِصْفُ دِيَةِ أُنْمُلَةٍ وَحُكُومَةٌ، وَلَوْ عَادَ الْجَانِي بَعْدَ أَخْذِ الْأَرْشِ وَالْحُكُومَةِ مِنْهُ، فَقَطَعَ الْيَدَ الْأُخْرَى، وَأَرَادَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ وَرَدَّ مَا أَخَذَهُ غَيْرَ قَدْرِ الْحُكُومَةِ، هَلْ لَهُ ذَلِكَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ الْقِصَاصِ فَلَا عَوْدَ إِلَيْهِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا، وَإِنَّمَا أَخَذَ الْأَرْشَ لِتَعَذُّرِهِ لَا لِإِسْقَاطِهِ. فَرْعٌ لَوْ قَطَعَ صَاحِبُ الْيَدَيْنِ الْبَاطِشَتَيْنِ يَدَ مُعْتَدِلٍ لَمْ تُقْطَعْ يَدَاهُ لِلزِّيَادَةِ، وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ إِحْدَاهُمَا، وَيَأْخُذَ نِصْفَ دِيَةِ الْيَدِ نَاقِصًا بِشَيْءٍ؛ فَلَوْ بَادَرَ وَقَطَعَهُمَا عُزِّرَ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ حُكُومَةٌ لِلزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَى يَدَيِ الْقَاطِعِ زَائِدَةً، وَأَمْكَنَ إِفْرَادُ الْأَصْلِيَّةِ بِالْقَطْعِ؛ قُطِعَتْ وَلَمْ يَلْزَمْ شَيْءٌ آخَرُ؛ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ إِحْدَاهُمَا زَائِدَةٌ وَلَمْ تُعْلَمْ عَيْنُهَا، لَمْ تُقْطَعْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا. فَرْعٌ كَانَتْ إِحْدَى يَمِينَيْهِ بَاطِشَةً دُونَ الْأُخْرَى، فَقُطِعَتِ الْبَاطِشَةُ، فَاسْتَوْفَى دِيَتَهَا، فَصَارَتِ الْأُخْرَى بَاطِشَةً، أَوْ كَانَتْ نَاقِصَةَ الْبَطْشِ، فَقَوِيَ، فَقَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّ الثَّانِيَةَ أَصْلِيَّةً حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا قَاطِعٌ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَهَلْ يَسْتَرِدُّ الْقَاطِعُ أَوَّلًا الْأَرْشَ وَيَرُدُّ إِلَى مِقْدَارِ الْحُكُومَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا؛ فَلَا يُغَيِّرُ مَا مَضَى، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَتَا بَاطِشَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، فَغَرَّمْنَا قَاطِعَ إِحْدَاهُمَا نِصْفَ دِيَةِ الْيَدِ وَزِيَادَةَ حُكُومَةٍ، فَازْدَادَتْ قُوَّةُ الْبَاقِيَةِ، وَاشْتَدَّ بَطْشُهَا،

فَهَلْ يَسْتَرِدُّ مِنْ أَرْشِ الْأُولَى مَا يَرُدُّهُ إِلَى قَدَرِ الْحُكُومَةِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَإِنْ ضَعُفَتِ الثَّانِيَةُ لَمَّا قُطِعَتِ الْأُولَى، وَبَطَلَ بَطْشُهَا، عَرَفْنَا أَنَّ الْأَصْلِيَّةَ هِيَ الْمَقْطُوعَةُ، فَعَلَى قَاطِعِهَا الْقِصَاصُ أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا قِصَاصَ. الْعُضْوُ الْعَاشِرُ: الرَّجُلَانِ؛ فَفِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُهَا، وَرِجْلُ الْأَعْرَجِ كَرِجْلِ الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي الْعُضْوِ، وَلَوْ قَطَعَ رِجْلًا تَعَطَّلَ مَشْيُهَا بِكَسْرِ الْفَقَارِ؛ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْوَاجِبُ الْحُكُومَةُ، كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَأَصَحُّهُمَا: الدِّيَةُ، لِأَنَّ الرِّجْلَ صَحِيحَةٌ، وَالْخَلَلُ فِي غَيْرِهَا، وَتَكْمُلُ دِيَةُ الرِّجْلَيْنِ بِالْتِقَاطِ أَصَابِعِهِمَا، وَالْقَدَمُ كَالْكَفِّ، وَالسَّاقُ كَالسَّاعِدِ، وَالْفَخِذُ كَالْعَضُدِ، وَأَنَامِلُ أَصَابِعِ الرِّجْلِ كَأَنَامِلِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَقَدَمَانِ عَلَى سَاقٍ، وَسَاقَانِ عَلَى رُكْبَةٍ كَكَفَّيْنِ عَلَى مِعْصَمٍ، وَسَاعِدَيْنِ عَلَى عَضُدٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْجَمِيعِ، وَكَذَا يُقَاسُ بِمَا تَقَدَّمَ حُكْمُ الرِّجْلِ الشَّلَّاءِ، وَحُصُولُ الشَّلَلِ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا. الْعُضْوُ الْحَادِي عَشَرَ: حَلَمَتَا الْمَرْأَةِ، وَفِيهِمَا كَمَالُ دِيَتِهَا، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُهَا، وَالْحَلَمَةُ: الْمُجْتَمِعُ نَابِتًا عَلَى رَأْسِ الثَّدْيِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْنُ الْحَلَمَةِ يُخَالِفُ لَوْنَ الثَّدْيِ غَالِبًا، وَحَوَالَيْهَا دَارَةً عَلَى لَوْنِهَا، وَهِيَ مِنَ الثَّدْيِ لَا مِنَ الْحَلَمَةِ، وَلَوْ قُطِعَ الثَّدْيُ مَعَ الْحَلَمَةِ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا الدِّيَةُ، وَتَدْخُلْ فِيهَا حُكُومَةُ الثَّدْيِ، وَفِيهِ وَجْهٌ قَدَّمْنَاهُ. وَعَنِ الْمَاسَرْجَسِيِّ نَقَلَهُ قَوْلًا، وَلَوْ قُطِعَ مَعَ الثَّدْيِ جِلْدَةُ الصَّدْرِ، وَجَبَتْ حُكُومَةُ الْجِلْدَةِ مَعَ الدِّيَةِ قَطْعًا، وَإِنْ وَصَلَتِ الْجِرَاحَةُ إِلَى الْبَاطِنِ، وَجَبَ مَعَ دِيَةِ الْحَلَمَةِ أَرَشُ الْجَائِفَةِ، وَهَلْ يَجِبُ فِي قَطْعِ حَلَمَةِ الرَّجُلِ دِيَةٌ أَمْ حُكُومَةٌ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: حُكُومَةٌ، وَقِيلَ: حُكُومَةٌ قَطْعًا، وَلَوْ قُطِعَ مَعَ حَلَمَةِ الرَّجُلِ الثَّنْدُوَةُ، أُفْرِدَتِ الثَّنْدُوَةُ بِحُكُومَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: إِذَا أَوْجَبْنَا فِي حَلَمَتِهِ دِيَةً، دَخَلَتْ فِيهَا حُكُومَةُ الثَّنْدُوَةِ؛ وَالثَّنْدُوَةُ: لَحْمَةٌ تَحْتَ الْحَلَمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مَهْزُولًا.

فَرْعٌ تُقْطَعُ حَلَمَةُ الْمَرْأَةِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَدَلَّ الثَّدْيُ، فَلَا قِصَاصَ، لِاتِّصَالِهَا بِلَحْمِ الصَّدْرِ، وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَا قِصَاصَ فِي الثَّدْيِ. لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ، وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهَا أَنْ تَقْتَصَّ فِي الْحَلَمَةِ، وَتَأْخُذَ حُكُومَةَ الثَّدْيِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْمُمَاثَلَةُ مُمْكِنَةٌ؛ فَإِنَّ الثَّدْيَ هَذَا الشَّاخِصُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ مِنَ الشَّفَتَيْنِ وَالْأَلْيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا. وَتُقْطَعُ حَلَمَةُ الرَّجُلِ بِحَلَمَةِ الرَّجُلِ إِنْ أَوْجَبْنَا فِيهَا الْحُكُومَةَ أَوِ الدِّيَةَ، وَتُقْطَعُ حَلَمَةُ الرَّجُلِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ وَبِالْعَكْسِ؛ إِنْ أَوْجَبْنَا فِي حَلَمَةِ الرَّجُلِ الدِّيَةَ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْحُكُومَةَ، لَمْ تُقْطَعْ حَلَمَتُهَا بِحَلَمَتِهِ وَإِنْ رَضِيَتْ، كَمَا لَا تُقْطَعُ صَحِيحَةٌ بِشَلَّاءَ، وَتُقْطَعُ حَلَمَتُهُ بِحَلَمَتِهَا إِنْ رَضِيَتْ، كَمَا تُقْطَعُ الشَّلَّاءُ بِالصَّحِيحَةِ إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَحَقُّ. فَرْعٌ هَلْ يُسْتَدَلُّ بِنُهُودِ الثَّدْيِ وَتَدَلِّيهَا عَلَى أُنُوثَةِ الْخُنْثَى؟ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي الطَّهَارَةِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: نَعَمْ، وَالْجُمْهُورُ: لَا، فَإِنْ قُطِعَا، فَعَلَى قَوْلِ الطَّبَرِيِّ: تَجِبُ دِيَةُ امْرَأَةٍ، وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، إِنْ قُلْنَا: فِي حَلَمَةِ الرَّجُلِ الدِّيَةُ، وَجَبَ هُنَا دِيَةُ امْرَأَةٍ أَخْذًا بِالْيَقِينِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْحُكُومَةُ، وَجَبَ هُنَا حُكُومَةٌ. فَرْعٌ ضَرَبَ ثَدْيَ الْمَرْأَةِ، فَشِلَ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَلَوْ كَانَتْ نَاهِدًا، فَاسْتَرْسَلَ ثَدْيُهَا، لَمْ تَجِبْ إِلَّا الْحُكُومَةُ، لِأَنَّ الْفَائِتَ مُجَرَّدُ الْجَمَالِ، وَلَوِ اسْتَرْسَلَ بِالضَّرْبِ ثَدْيُ الْخُنْثَى وَلَمْ يُجْعَلِ الثَّدْيُ أَمَارَةَ الْأُنُوثَةِ،

فَلَا حُكُومَةَ فِي الْحَالِ، لِجَوَازِ كَوْنِهِ رَجُلًا، فَلَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ بِالِاسْتِرْسَالِ، وَلَا يَفُوتُ جَمَالُهُ، فَإِنْ بَانَتِ امْرَأَةً، وَجَبَتِ الْحُكُومَةُ. الْعُضْوُ الثَّانِي عَشَرَ: الذَّكَرُ، وَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ ذَكَرُ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ وَالصَّغِيرِ وَالْعَنِّينِ وَالْخَصِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي الْأَشَلِّ حُكُومَةٌ، وَلَوْ ضَرَبَ ذَكَرًا فَشِلَ، فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَلَوْ خَرَجَ عَنْ أَنْ يُمْكِنَ بِهِ الْجِمَاعُ مِنْ غَيْرِ شَلَلٍ وَلَا تَعَذُّرِ انْقِبَاضٍ وَانْبِسَاطٍ؛ فَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ، لِأَنَّ الْعُضْوَ وَمَنْفَعَتَهُ بَاقِيَانِ، وَالْخَلَلُ فِي غَيْرِهِمَا؛ فَلَوْ قَطَعَهُ قَاطِعٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَتَكْمُلُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ الْحَشَفَةِ وَفِي بَعْضِ الْحَشَفَةِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَهَلْ يَكُونُ التَّقْسِيطُ عَلَى الْحَشَفَةِ فَقَطْ أَمْ عَلَى جُمْلَةِ الذَّكَرِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي فَصْلِ الْأَسْنَانِ، وَالْمَذْهَبُ أَوَّلُهُمَا. قَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا إِذَا لَمْ يَخْتَلَّ مَجْرَى الْبَوْلِ، بِأَنْ قَطَعَ بَعْضَ الذَّكَرِ طُولًا، فَإِنِ اخْتَلَّ؛ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِسْطِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَحُكُومَةُ فَسَادِ الْمَجْرَى. قَالَ: وَلَوْ قَطَعَ جُزْءًا مِنَ الذَّكَرِ مِمَّا تَحْتَ الْحَشَفَةِ؛ فَإِنِ انْتَهَتِ الْجِرَاحَةُ إِلَى مَجْرَى الْبَوْلِ، فَقَدْ سَبَقَ خِلَافٌ فِي كَوْنِهَا جَائِفَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ، فَإِنْ قُلْنَا: فِي قَطْعِ بَعْضِ الْحَشَفَةِ يَقْسِطُ عَلَى الْحَشَفَةِ فَقَطْ، فَعَلَيْهِ هُنَا حُكُومَةٌ، وَإِنْ قَسَطْنَا عَلَى الذَّكَرِ؛ فَعَلَيْهِ قِسْطُ الْمَقْطُوعِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يُبِنْ شَيْئًا مِنَ الذَّكَرِ، لَكِنْ شَقَّهُ طُولًا، وَزَالَتْ مَنْفَعَتُهُ بِذَلِكَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ كَالشَّلَلِ، وَتَجِبُ فِي بَقِيَّةِ الذَّكَرِ وَحْدَهَا الْحُكُومَةُ، وَإِذَا اسْتَأْصَلَ الذَّكَرَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ بِلَا حُكُومَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: تَجِبُ مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةٌ. الْعُضْوُ الثَّالِثَ عَشَرَ: الْأُنْثَيَانِ، وَفِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُهَا.

الْعُضْوُ الرَّابِعَ عَشَرَ: الْأَلْيَانِ، وَفِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُهَا، وَالْأَلْيَةُ النَّاتِئُ الْمُشْرِفُ عَلَى اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ وَالْفَخْذِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ قَرْعُ الْعَظْمِ، وَاتِّصَالُ الْحَدِيدَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضُ إِحْدَاهُمَا، وَجَبَ قِسْطُ الْمَقْطُوعِ إِنْ عَرَفَ قَدْرَهُ وَضَبْطَهُ، وَإِلَّا فَالْحُكُومَةُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْعُضْوِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَلَا نُظِرَ إِلَى اخْتِلَافِ الْقَدْرِ النَّاتِئِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَلَوْ قَطَعَ أَلْيَتَهُ، فَنَبَتَتْ، وَالْتَحَمَ الْمَوْضِعُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا تَسْقُطُ الدِّيَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: الشَّفْرَانِ لِلْمَرْأَةِ: هُمَا اللَّحْمَانِ الْمُشْرِفَانِ عَلَى الْمَنْفَذِ، وَفِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُهَا، سَوَاءٌ فِيهِ السَّمِينَةُ وَالْمَهْزُولَةُ، وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ، وَالرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ، إِذْ لَا خَلَلَ فِي نَفْسِ شَفْرِهِمَا، وَسَوَاءٌ الْمَخْتُونَةُ وَغَيْرُهَا، وَلَوْ ضَرَبَ شَفْرَيْهَا فَشُلَّا، وَجَبَ كَمَالُ الدِّيَةِ. وَلَوْ قَطَعَ مَعَ الشَّفْرَيْنِ الرَّكَبَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْكَافِ وَهُوَ عَانَةُ الْمَرْأَةِ، وَجَبَ حُكُومَةٌ مَعَ الدِّيَةِ، وَكَذَا لَوْ قَطَعَ شَيْئًا مِنْ عَانَةِ الرَّجُلِ مَعَ الذَّكَرِ، وَلَوْ قَطَعَ شَفْرَيْ بِكْرٍ، وَأَزَالَ بِالْجِنَايَةِ بَكَارَتَهَا، وَجَبَ مَعَ دِيَةِ الشَّفْرَيْنِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ، وَلَوْ قَطَعَ شَفْرَيْهَا، فَجَرَحَ مَوْضِعَهُمَا آخَرُ بِقَطْعِ لَحْمٍ وَغَيْرِهِ، لَزِمَ الثَّانِي حُكُومَةٌ. السَّادِسَ عَشَرَ: الْجِلْدُ، فَإِذَا سُلِخَ جِلْدُهُ، وَجَبَ كَمَالُ الدِّيَةِ،

فصل

قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَسَلْخُ جَمِيعِهِ قَاتِلٌ، لَكِنْ قَدْ يَفْرِضُ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً بَعْدُ، فَتَظْهَرُ فَائِدَةُ إِيجَابِ الدِّيَةِ فِيهِ لَوْ حَزَّ غَيْرُهُ رَقَبْتَهُ. وَحَكَى الْإِمَامُ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ لَوْ قُطِعَتْ يَدَاهُ بَعْدَ سَلْخِ الْجِلْدِ، تُوَزَّعُ مِسَاحَةُ الْجِلْدِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، فَمَا يَخُصُّ الْيَدَيْنِ يَحُطُّ مِنْ دِيَةِ الْيَدَيْنِ وَيَجِبُ الْبَاقِي. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَسَلَخَ جِلْدَهُ، لَزِمَ السَّالِخُ دِيَةَ الْجِلْدِ إِلَّا قِسْطَ الْيَدَيْنِ. فَصْلٌ التَّرْقُوَةُ: هِيَ الْعَظْمُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَتَغْرَةِ النَّحْرِ، وَلِكُلِّ شَخْصٍ تَرْقُوَتَانِ، فَالْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْأُمِّ» وَغَيْرِهِ أَنَّ فِي التَّرْقُوَتَيْنِ حُكُومَةٌ، وَنَصَّ فِي «اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ» وَغَيْرِهِ أَنَّ فِيهِ جَمَلًا، فَقِيلَ: قَوْلَانِ، الْقَدِيمُ جَمَلٌ، وَالْجَدِيدُ حُكُومَةٌ. وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِالْحُكُومَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، كَالضِّلْعِ وَسَائِرِ الْعِظَامِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِزَالَةُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَيْئًا. الْأَوَّلُ: الْعَقْلُ، فَتَجِبُ بِإِزَالَتِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَلَوْ نَقَصَ عَقْلُهُ وَلَمْ تَسْتَقِمْ أَحْوَالُهُ؛ نُظِرَ، إِنْ أَمْكَنَ الضَّبْطُ، وَجَبَ قِسْطُ الزَّائِلِ، وَالضَّبْطُ قَدْ يَتَأَتَّى بِالزَّمَانِ بِأَنْ يُجَنَّ يَوْمًا، وَيُفِيقَ يَوْمًا، فَتَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ، أَوْ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمَيْنِ، فَيَجِبُ الثُّلْثُ، وَقَدْ يَتَأَتَّى بِغَيْرِ الزَّمَانِ، بِأَنْ يُقَابِلَ صَوَابَ قَوْلِهِ، وَمَنْظُومَ فِعْلِهِ بِالْخَطَأِ الْمَطْرُوحِ مِنْهُمَا، وَتُعْرَفُ النِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا، فَيَجِبُ قِسْطُ الزَّائِلِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الضَّبْطُ، بِأَنْ كَانَ يَفْزَعُ أَحْيَانًا مِمَّا يَفْزَعُ، أَوْ يَسْتَوْحِشُ إِذَا خَلَا، وَجَبَتْ حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ. وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي أَنَّ الدِّيَةَ إِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الزَّوَالِ بِأَنْ يَقُولَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ:

لَا يَزُولُ الْعَارِضُ الْحَادِثُ، أَمَّا إِذَا تَوَقَّعُوا زَوَالَهُ، فَيَتَوَقَّفُ فِي الدِّيَةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِقَامَةِ؛ فَفِي الدِّيَةِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ قَلَعَ سِنَّ مَثْغُورٍ، فَمَاتَ قَبْلَ عَوْدِهَا. فَرْعٌ يُنْظَرُ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَرْشٌ، بِأَنْ ضَرَبَ رَأَسَهُ، أَوْ لَطَمَهُ، فَذَهَبَ عَقْلُهُ، وَجَبَتْ دِيَةُ الْعَقْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كَالْمُوضِحَةِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ أَوْ غَيْرُ مُقَدَّرٍ كَالْجِرَاحَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكُومَةِ؛ فَقَوْلَانِ: الْقَدِيمُ: أَنَّهُ يُدْخِلُ الْأَقَلَّ فِي الْأَكْثَرِ، فَإِنْ كَانَتْ دِيَةُ الْعَقْلِ أَكْثَرَ بِأَنْ أَوْضَحَهُ فَزَالَ عَقْلُهُ، دَخَلَ فِيهَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَكْثَرَ؛ بِأَنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، أَوْ يَدَيْهِ مَعَ بَعْضِ الذِّرَاعِ فَزَالَ عَقْلُهُ، دَخَلَ فِيهِ دِيَةُ الْعَقْلِ. وَالْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: لَا تَدَاخُلَ، بَلْ يَجِبُ دِيَةُ الْعَقْلِ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَزَالَ عَقْلُهُ، وَجَبَ ثَلَاثُ دِيَاتٍ، وَعَلَى الْقَدِيمِ تَجِبُ دِيَتَانِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِقَدْرِ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ، وَجَبَ دِيَةُ الْعَقْلِ مَعَهَا قَطْعًا، وَإِلَّا فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ مُقَدَّرًا، لَمْ يَدْخُلْ فِي دِيَةِ الْعَقْلِ قَطْعًا. فَرْعٌ أَنْكَرَ الْجَانِي زَوَالَ الْعَقْلِ وَنَسَبَهُ إِلَى التَّجَانُنِ، رَاقَبْنَاهُ فِي الْخَلَوَاتِ وَالْغَفَلَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَنْتَظِمْ أَفْعَالُهُ وَأَقْوَالُهُ، أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ وَلَا نُحَلِّفُهُ، لِأَنَّهُ يَتَجَانَنُ فِي الْجَوَابِ، وَلِأَنَّ يَمِينَهُ تُثْبِتُ جُنُونَهُ، وَالْمَجْنُونُ لَا يَحْلِفُ، وَإِنْ وَجَدْنَاهَا مَنْظُومَةً، صَدَقَ الْجَانِي بِيَمِينِهِ، وَإِنَّمَا حَلَّفْنَاهُ، لِاحْتِمَالِ صُدُورِهَا مِنْهُ اتِّفَاقًا وَجَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ.

الثَّانِي: السَّمْعُ، وَفِي إِبْطَالِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَلَوْ أَبْطَلَهُ مِنْ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: يَجِبُ بِقِسْطِ مَا نَقَصَ مِنَ السَّمْعِ مِنَ الدِّيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ الْأُذُنَ، وَبَطَلَ السَّمْعُ، وَجَبَ دِيَتَانِ؛ لِأَنَّ السَّمْعَ لَيْسَ فِي الْأُذُنِ. وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ، فَصَارَ لَا يَسْمَعُ فِي الْحَالِ، لَكِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: يُتَوَقَّعُ عَوْدُهُ؛ نُظِرَ؛ إِنْ قَدَّرُوا مُدَّةً انْتَظَرْنَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ، أُخِذَتِ الدِّيَةُ، وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ مَا إِذَا قَدَّرُوا مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ انْقِرَاضُ الْعُمْرِ قَبْلَ فَرَاغِهَا، وَقَالَ: الْوَجْهُ أَنْ تُؤْخَذَ الدِّيَةُ وَلَا يُنْتَظَرُ هَذِهِ الْمُدَّةُ. وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرُوا مُدَّةً: أُخِذَتِ الدِّيَةُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ عَادَ، رُدَّتْ؛ لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ، وَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: لَطِيفَةُ السَّمْعِ بَاقِيَةٌ فِي مَقَرِّهَا، وَلَكِنِ ارْتَتَقَ دَاخِلُ الْأُذُنِ بِالْجِنَايَةِ وَامْتَنَعَ نُفُوذُ الصَّوْتِ، وَلَمْ يَتَوَقَّعُوا زَوَالَ الِارْتِتَاقِ؛ فَالْوَاجِبُ الْحُكُومَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: الدِّيَةُ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ أَذْهَبَ سَمْعَ صَبِيٍّ فَتَعَطَّلَ لِذَلِكَ نُطْقُهُ؛ فَإِنَّ الطِّفْلَ يَتَدَرَّجُ إِلَى النُّطْقِ تَلَقِّيًا مِمَّا تَسْمَعُ أُذُنُهُ، هَلْ تَجِبُ دِيَةٌ لِلنُّطْقِ مَضْمُومَةٌ إِلَى دِيَةِ السَّمْعِ؟ فَرْعٌ أَنْكَرَ الْجَانِي زَوَالَ السَّمْعِ، امْتُحِنَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُصَاحَ بِهِ فِي نَوْمِهِ وَحَالَ غَفْلَتِهِ صِيَاحًا مُنْكَرًا، وَبِأَنْ يُتَأَمَّلَ حَالُهُ عِنْدَ صَوْتِ الرَّعْدِ الشَّدِيدِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ انْزِعَاجٌ وَاضْطِرَابٌ، عَلِمْنَا كَذِبَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ يَحْلِفُ الْجَانِي لِاحْتِمَالِ أَنَّ الِانْزِعَاجَ بِسَبَبٍ آخَرَ اتِّفَاقِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَثَرٌ، عَلِمْنَا صِدْقَهُ وَمَعَ ذَلِكَ يَحْلِفُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يَتَجَلَّدُ. وَإِنِ ادَّعَى ذَهَابَ سَمْعِ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ، حُشِيَتِ السَّلِيمَةُ وَامْتُحِنَ فِي الْأُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

فَرْعٌ نَقَصَ سَمْعُهُ مِنَ الْأُذُنَيْنِ؛ نُظِرَ، إِنْ عَرَفَ قَدْرَ مَا نَقَصَ، بِأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ مِنْ مَوْضِعٍ فَصَارَ يَسْمَعُ مِنْ دُونِهِ، ضَبَطَ مَا نَقَصَ، وَوَجَبَ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَكِنْ نَقَصَ سَمْعُهُ، وَثَقُلَتْ أُذُنُهُ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ يُقَدَّرُ بِالِاعْتِبَارِ بِسَلِيمِ السَّمْعِ فِي مِثْلِ سِنِّهِ وَصِحَّتِهِ؛ بِأَنْ يُجْلَسَ بِجَنْبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَيُؤْمَرَ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، وَيُنَادِيهِمَا مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ لَا يَسْمَعُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، ثُمَّ يُقَرَّبُ الْمُنَادِي شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ يَقُولَ السَّلِيمُ: سَمِعْتُ؛ فَيُعْرَفَ الْمَوْضِعُ، ثُمَّ يُدِيمُ الْمُنَادِي ذَلِكَ الْحَدَّ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَيَقْرُبَ إِلَى أَنْ يَقُولَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: سَمِعْتُ، فَيُضْبَطُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ. وَإِنْ نَقَصَ سَمْعُهُ مِنْ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ، صُمِمَتِ الْعَلِيلَةُ، وَضُبِطَ مُنْتَهَى سَمَاعِ الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ تُصْمَمُ الصَّحِيحَةُ، وَيُضْبَطُ مُنْتَهَى سَمَاعِ الْعَلِيلَةِ، وَيَجِبُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ التَّفَاوُتِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْجَانِيَ فِي دَعْوَى انْتِقَاصِ السَّمْعِ، فَالْمُصَدَّقُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ، سَوَاءٌ ادَّعَى نَقْصَهُ مِنَ الْأُذُنَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ. الثَّالِثُ: الْبَصَرُ. فَفِي إِذْهَابِهِ مِنَ الْعَيْنَيْنِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَمِنْ إِحْدَاهُمَا نِصْفُهَا، سَوَاءٌ ضَعِيفُ الْبَصَرِ بِالْعَمَشِ وَغَيْرِهِ، وَالْأَحْوَلُ وَالْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُمْ، وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ، لَمْ تَجِبْ إِلَّا دِيَةٌ، كَقَطْعِ يَدَيْهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَيْهِ، وَذَهَبَ سَمْعُهُ، لَمَّا سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ السَّمْعُ فِي الْأُذُنَيْنِ. وَلَوْ قَالَ عَدْلَانِ: إِنَّ الْبَصَرَ يَعُودُ، فُرِّقَ بَيْنَ أَنْ يُقَدِّرُوا مُدَّةً، أَوْ لَا يُقَدِّرُوا، وَيَكُونُ حُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي الْأُذُنَيْنِ، وَلَوْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَلَا قِصَاصَ لِلشُّبْهَةِ، وَفِي الدِّيَةِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ قَلَعَ سِنَّ غَيْرِ مَثْغُورٍ، وَمَاتَ قَبْلَ أَوَانِ النَّبَاتِ.

وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِوُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي السِّنِّ الْعَوْدُ لَوْ عَاشَ بِخِلَافِ الْبَصَرِ. وَلَوْ قَالَ الْجَانِي: مَاتَ بَعْدَ عَوْدِ السَّمْعِ أَوِ الْبَصَرِ، وَقَالَ الْوَارِثُ: قَبْلَهُ، صُدِّقَ الْوَارِثُ. فَرْعٌ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ زَوَالَ الْبَصَرِ، وَأَنْكَرَ الْجَانِي، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» : يُرَاجِعُ أَهْلَ الْخِبْرَةِ؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا وَقَفُوا الشَّخْصَ فِي مُقَابَلَةِ عَيْنِ الشَّمْسِ، وَنَظَرُوا فِي عَيْنَيْهِ، عَرَفُوا أَنَّ الضَّوْءَ ذَاهِبٌ أَمْ مَوْجُودٌ، بِخِلَافِ السَّمْعِ لَا يُرَاجِعُونَ فِيهِ إِذْ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُمْتَحَنُ بِتَقْرِيبِ حَيَّةٍ، أَوْ عَقْرَبٍ مِنْهُ، أَوْ حَدِيدَةٍ مِنْ حَدَقَتِهِ مُغَافَصَةٍ؛ فَإِنِ انْزَعَجَ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي بِيَمِينِهِ، وَإِلَّا فَقَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: الْأَمْرُ إِلَى خِبْرَةِ الْحَاكِمِ، إِنْ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهُمْ؛ فَعَلَ، وَإِنْ أَرَادَ امْتِحَانَهُ فَعَلَ، وَإِذَا رُوجِعَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ؛ فَشَهِدُوا بِذَهَابِ الْبَصَرِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّحْلِيفِ، وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ بِخِلَافِ الِامْتِحَانِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّحْلِيفِ بَعْدَهُ. وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً، قُبِلَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَإِذَا ادَّعَى ذَهَابَ بَصَرِ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، رُوجِعَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، أَوِ امْتُحِنَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَيْنَيْنِ. فَرْعٌ إِذَا نَقَصَ ضَوْءُ الْعَيْنَيْنِ وَلَمْ يَذْهَبْ، فَإِنْ عُرِفَ قَدْرُهُ، بِأَنْ كَانَ يُرَى الشَّخْصَ مِنْ مَسَافَةٍ، فَصَارَ لَا يَرَاهُ إِلَّا مِنْ بَعْضِهَا، وَجَبَ مِنَ الدِّيَةِ قِسْطُ الذَّاهِبِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ؛ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي السَّمْعِ؛ قَالَ

الْأَكْثَرُونَ: تَجِبُ حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَغَيُّرُهُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْإِدْرَاكِ. عَنِ الْمَاسَرْجَسِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ صَيَّادًا يَرَى الصَّيْدَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ. وَإِنْ نَقَصَ ضَوْءُ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، عُصِبَتِ الْعَلِيلَةُ، وَأُطْلِقَتِ الصَّحِيحَةُ، وَوَقَفَ شَخْصٌ فِي مَوْضِعٍ يَرَاهُ، وَيُؤْمَرُ أَنْ يَتَبَاعَدَ حَتَّى يَقُولَ: لَا أَرَاهُ، فَتُعْرَفُ الْمَسَافَةُ، ثُمَّ تُعْصَبُ الصَّحِيحَةُ وَتُطْلَقُ الْعَلِيلَةُ، وَيُؤْمَرُ الشَّخْصُ بِأَنْ يُقَرِّبَ رَاجِعًا إِلَى أَنْ يَرَاهُ؛ فَيُضْبَطُ مَا بَيْنَ الْمَسَافَتَيْنِ، وَيَجِبُ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا الضَّبْطِ بِالزِّيَادَةِ فِي الصَّحِيحَةِ، وَبِالنَّقْصِ فِي الْعَلِيلَةِ، فَلَا يُؤْمَنُ كَذِبُهُ؛ فَيُمْتَحَنُ فِي قَوْلِهِ أَبْصَرَ فِي الصَّحِيحَةِ، بِأَنْ تُغَيَّرَ ثِيَابُ الشَّخْصِ الَّذِي يَبْعُدُ وَيَقْرُبُ، وَيُسْأَلُ عَنْهَا؛ فَيُنْظَرُ، أَيُصِيبُ أَمْ لَا، وَأَمَّا فِي الْعَلِيلَةِ فَقِيلَ: يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يُبْصِرُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُمْتَحَنُ بِأَنْ تُضْبَطَ تِلْكَ الْغَايَةُ وَيُؤْمَرَ الشَّخْصُ بِأَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِأَنْ يَدُورَ؛ فَإِنْ تَوَافَقَتِ الْغَايَةُ مِنَ الْجِهَاتِ صَدَّقْنَاهُ، وَإِلَّا كَذَّبْنَاهُ. وَيَجْرِي مِثْلُ هَذَا الِامْتِحَانِ فِي نُقْصَانِ سَمْعِ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ، فَيُمْتَحَنُ فِي قَوْلِهِ: أَسْمَعُ بِالصَّحِيحَةِ، بِأَنْ يُغَيِّرَ الْمُنَادِي نِدَاءَهُ وَكَلَامَهُ، وَيَنْظُرَ، هَلْ يَقِفُ عَلَيْهِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَا أَسْمَعُ بِالْعَلِيلَةِ، بِأَنْ يَنْتَقِلَ الْمُنَادِي إِلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَإِذَا عُرِفَ تَفَاوُتُ مَسَافَتَيِ الْإِبْصَارِ؛ فَالْوَاجِبُ الْقِسْطُ. فَإِنْ أَبْصَرَ بِالصَّحِيحَةِ مِنْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَبِالْعَلِيلَةِ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ؛ فَمُوجِبُهُ التَّنْصِيفُ؛ لَكِنْ لَوْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إِنَّ الْمِائَةَ الثَّانِيَةَ تَحْتَاجُ إِلَى مِثْلَيْ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمِائَةُ الْأُولَى لِقُرْبِ الْأُولَى وَبُعْدِ الثَّانِيَةِ، وَجَبَ ثُلْثَا دِيَةِ الْعَلِيلَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَا أَرَى ذَلِكَ يُضْبَطُ. فَرْعٌ الْأَعْشَى الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ فِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ فَصَارَ أَعْشَى؛ لَزِمَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ،

وَلَوْ عُشِيَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ بِالْجِنَايَةِ، لَزِمَهُ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا إِيجَابُ نِصْفِ الدِّيَةِ إِذَا جَنَى عَلَى الْأَعْشَى؛ فَأَذْهَبَ بَصَرَهُ، وَكَذَا مَنْ يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ. فَرْعٌ شَخَصَتْ عَيْنُهُ بِجِنَايَةٍ، أَوْ صَارَ أَعْمَشَ أَوْ أَحْوَلَ، وَجَبَتْ حُكُومَةٌ. فَرْعٌ ذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ بِجِنَايَةٍ، وَقَلَعَ آخَرُ الْحَدَقَةَ، فَقَالَ: قُلِعَتْ قَبْلَ عَوْدِ الضَّوْءِ، وَقَالَ الْأَوَّلُ: بَلْ بَعْدَهُ، صُدِّقَ الثَّانِي؛ فَلَوْ صَدَّقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْأَوَّلَ بَرِئَ الْأَوَّلُ، وَيَحْلِفُ الثَّانِي وَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ. الرَّابِعُ: الشَّمُّ، وَفِي إِزَالَتِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ وَجْهٌ وَقَوْلٌ أَنَّ وَاجِبَهُ الْحُكُومَةُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَلَوْ أُذْهِبَ شَمُّ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ، فَنِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ سَدَّ الْمَنْفَذَ فَلَمْ يُدْرِكِ الرَّوَائِحَ، وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: الْقُوَّةُ بَاقِيَةٌ: فَلْيَكُنْ كَمَا سَبَقَ فِي السَّمْعِ، وَإِذَا أَنْكَرَ الْجَانِي ذَهَابَ الشَّمِّ، امْتُحِنَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِتَقْرِيبِ مَالَهُ رَائِحَةٌ حَادَّةٌ مِنْهُ، طَيِّبَةٌ وَخَبِيثَةٌ؛ فَإِنْ هَشَّ لِلطَّيِّبَةِ وَعَبَسَ لِلْمُنْتِنِ، صَدَقَ الْجَانِي بِيَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَثَرٌ، صَدَقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ نَقَصَ الشَّمُّ، نُظِرَ، إِنْ عَلِمَ قَدْرَ الذَّاهِبِ، وَجَبَ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، وَجَبَتْ حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا هُنَا الِامْتِحَانَ بِمَنْ هُوَ فِي مِثْلِ شَمِّهِ، وَلَا يَبْعُدُ طَرْدُهُ هُنَا، وَإِنْ نَقَصَ شَمُّ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يَعْتَبِرَ بِالْجَانِبِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ، وَلَعَلَّهُمُ اكْتَفَوْا بِالْمَذْكُورِ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَإِذَا ادَّعَى النَّقْصَ

وَأَنْكَرَ الْجَانِي، صَدَقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَيِّنَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَدْرًا يُطَالِبُ بِهِ؛ وَإِلَّا فَهُوَ مُدَّعٍ مَجْهُولًا، وَطَرِيقُهُ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَطْلُبَ الْأَقَلَّ الْمُتَيَقَّنَ، وَلَوْ أَخَذَ دِيَةَ الشَّمِّ وَعَادَ، وَجَبَ رَدُّهَا، وَلَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ عِنْدَ رَائِحَةٍ مُنْكَرَةٍ، فَقَالَ الْجَانِي: فَعَلْتَ ذَلِكَ لِعَوْدِ شَمِّكِ، وَأَنْكَرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، صَدَقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُهُ اتِّفَاقًا، وَلِامْتِخَاطٍ، وَبِفِكْرٍ وَرُعَافٍ وَغَيْرِهَا. الْخَامِسُ: النُّطْقُ، فَإِذَا جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَأَبْطَلَ كَلَامَهُ، وَجَبَ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الدِّيَةُ إِذَا قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: لَا يَعُودُ نُطْقُهُ؛ فَإِنْ أُخِذَتْ فَعَادَ اسْتُرِدَّتْ، وَلَوِ ادَّعَى ذَهَابَ النُّطْقِ، وَأَنْكَرَ الْجَانِي، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَفْزَعُ فِي أَوْقَاتِ الْخَلْوَةِ، وَيَنْظُرُ، هَلْ يَصْدُرُ مِنْهُ مَا يُعْرَفُ بِهِ كَذِبُهُ؛ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ، حَلَفَ كَمَا يَحْلِفُ الْأَخْرَسُ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ. وَلَوْ بَطَلَ بِالْجِنَايَةِ بَعْضُ الْحُرُوفِ، وُزِّعَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ مَا خَفَّ مِنْهَا عَلَى اللِّسَانِ وَمَا ثَقُلَ، وَالْحُرُوفُ مُخْتَلِفَةٌ فِي اللُّغَاتِ، فَكُلُّ مِنْ تَكَلَّمَ بِلُغَةٍ؛ فَالنَّظَرُ عِنْدَ التَّوْزِيعِ إِلَى حُرُوفِ تِلْكَ اللُّغَةِ. فَلَوْ تَكَلَّمَ بِلُغَتَيْنِ، فَبَطَلَ بِالْجِنَايَةِ حُرُوفٌ مِنْ هَذِهِ وَحُرُوفٌ مِنْ تِلْكَ، فَهَلْ تُوَزَّعُ عَلَى أَكْثَرِهِمَا حُرُوفًا أَمْ عَلَى أَقَلِّهِمَا؟ وَجْهَانِ، ثُمَّ فِي الْحُرُوفِ الْمُوَزَّعِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: أَنَّ التَّوْزِيعَ يَكُونُ عَلَى جَمِيعِهَا، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفًا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ فَإِنْ ذَهَبَ نِصْفُهَا، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ ذَهَبَ حَرْفٌ فَأَكْثَرَ، وَجَبَ لِكُلِّ حِرَفٍ سُبْعُ رُبُعِ الدِّيَةِ. وَالثَّانِي؛ قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَدْخُلُ فِي التَّوْزِيعِ الْحُرُوفُ الشَّفَهِيَّةُ، وَهِيَ الْبَاءُ وَالْفَاءُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ، وَلَا الْحَلْقِيَّةُ وَهِيَ الْهَاءُ وَالْهَمْزَةُ، وَالْعَيْنُ وَالْحَاءُ، وَالْغَيْنُ وَالْخَاءُ؛ وَإِنَّمَا التَّوْزِيعُ عَلَى الْحُرُوفِ الْخَارِجَةِ مِنَ اللِّسَانِ وَهِيَ مَا عَدَا الْمَذْكُورَاتِ، هَذَا إِذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْحُرُوفِ، وَبَقِيَ فِي الْبَقِيَّةِ كَلَامٌ مَفْهُومٌ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَبْقَ فِي الْبَقِيَّةِ

كَلَامٌ مَفْهُومٌ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَفَّالُ، وَجَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيُّ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا قِسْطُ الْحُرُوفِ الْفَائِتَةِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَنَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» : وَلَوْ ضَرَبَ شَفَتَيْهِ، فَأَذْهَبَ الْحُرُوفَ الشَّفَهِيَّةَ، أَوْ رَقَبَتَهُ، فَأَذْهَبَ الْحُرُوفَ الْحَلْقِيَّةَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَجَبَتِ الْحُكُومَةُ فَقَطْ، وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَجَبَ قِسْطُ الذَّاهِبِ مِنْ جَمِيعِ الْحُرُوفِ. وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ شَفَتَيْهِ، فَأَذْهَبَ الْبَاءَ وَالْمِيمَ، فَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجِبُ مَعَ دِيَةِ الشَّفَتَيْنِ أَرْشُ الْحَرْفَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ الْوَكِيلِ: لَا يَجِبُ غَيْرُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَذَهَبَ كَلَامُهُ، لَا يَجِبُ إِلَّا الدِّيَةُ. فَرْعٌ جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَصَارَ يُبْدِلُ حَرْفًا بِحَرْفٍ، وَجَبَ قِسْطُ الْحَرْفِ الَّذِي أَبْطَلَهُ. وَلَوْ ثَقُلَ لِسَانُهُ بِالْجِنَايَةِ، أَوْ حَدَثَتْ فِي كَلَامِهِ عَجَلَةٌ، أَوْ تَمْتَمَةٌ، أَوْ فَأْفَأَةٌ، أَوْ كَانَ أَلْثَغَ؛ فَزَادَتْ لَثْغَتُهُ؛ فَالْوَاجِبُ الْحُكُومَةُ لِبَقَاءِ الْمَنْفَعَةِ. فَرْعٌ مَنْ لَا يُحْسِنُ بَعْضَ الْحُرُوفِ كَالْأَرَتِّ وَالْأَلْثَغِ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِعِشْرِينَ حَرْفًا مَثَلًا، إِذَا أَذْهَبَ كَلَامَهُ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَذْهَبَ بَعْضَ الْحُرُوفِ، وُزِّعَ عَلَى مَا يُحْسِنُهُ، لَا عَلَى الْجَمِيعِ، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ إِلَّا قِسْطُهَا مِنْ جَمِيعِ الْحُرُوفِ، وَفِي بَعْضِهَا بِقِسْطِهِ مِنَ الْجَمِيعِ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ جَمِيعِ مَقَاصِدِهِ لِفِطْنَتِهِ وَاسْتِمْدَادِهِ مِنَ اللُّغَةِ، لَمْ تَكْمُلِ الدِّيَةُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ،

لِأَنَّ قُدْرَتَهُ لِحِذْقِهِ لَا بِالْكَلَامِ؛ هَذَا إِذَا كَانَ نَقْصُ حُرُوفِهِ خِلْقَةً، أَوْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَلَوْ حَدَثَ بِجِنَايَةٍ؛ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ، لِئَلَّا يَتَضَاعَفَ الْغُرْمُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي أَبْطَلَهُ الْجَانِي الْأَوَّلُ. فَرْعٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلٍّ نَاقِصِ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الْجِرْمِ، أَمَّا الْمَنَافِعُ الَّتِي لَا تَتَقَدَّرُ تَقَدَّرَ النُّطْقُ بِالْحُرُوفِ كَالْبَطْشِ وَالْبَصَرِ؛ فَإِنْ كَانَ النَّقْصُ فِيهَا بِآفَةٍ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَبْطَلَهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَكَذَا مَنْ قَطَعَ الْعُضْوَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ ضَعْفُهَا وَقُوَّتُهَا. وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِجِنَايَةٍ، فَأَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: لَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ بَلْ يُحَطُّ مِنْهَا قَدْرُ الْحُكُومَةِ الَّتِي غَرِمَهَا الْأَوَّلُ عَنْ مُبْطِلِ الْمَنْفَعَةِ وَقَاطِعِ الْعُضْوِ جَمِيعًا حِذَارًا مَنْ تَضَعُّفِ الْغَرَامَةِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَالثَّالِثُ لَا يُحَطُّ عَنْ قَاطِعِ الْجِرْمِ، وَيُحَطُّ عَنْ مُبْطِلِ الْمَنْفَعَةِ النَّاقِصَةِ لِتَجَانُسِ جِنَايَتِهِ وَجِنَايَةِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْإِجْرَامُ، فَإِنْ كَانَ لَمَّا نَقَصَ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ لَزِمَ الثَّانِي دِيَةٌ يُحَطُّ مِنْهَا أَرْشُ مَا نَقَصَ، سَوَاءٌ حَصَلَ النَّقْصُ بِآفَةٍ أَمْ بِجِنَايَةٍ؛ فَلَوْ سَقَطَتْ أُصْبُعُهُ، أَوْ أُنْمُلَتُهُ بِآفَةٍ، ثُمَّ قُطِعَتْ يَدُهُ، حُطَّ مِنْ دِيَةِ الْيَدِ أَرْشُ الْأُصْبُعِ أَوِ الْأُنْمُلَةِ، وَلَوْ جَرَحَ رَأْسَهُ مُتَلَاحِمَةً؛ فَجَعَلَهَا آخَرُ مُوضِحَةً، لَزِمَ الثَّانِي أَرْشُ مُوضِحَةٍ يُحَطُّ مِنْهُ وَاجِبُ الْمُتَلَاحِمَةِ، سَوَاءٌ قَدَّرْنَا وَاجِبَهَا، أَمْ أَوْجَبْنَا فِيهَا الْحُكُومَةَ، وَلَوِ الْتَأَمَتِ الْمُتَلَاحِمَةُ، وَاكْتَسَى مَوْضِعُهَا بِالْجِلْدِ لَكِنْ بَقِيَ غَائِرًا، فَأَوْضَحَ فِيهِ آخَرُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ الْجُرْحِ قَدْ سَقَطَ؛ وَعَلَى مَنْ أَوْضَحَ أَرْشٌ كَامِلٌ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِمَا نَقَصَ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كَفِلْقَةٍ تَنْفَصِلُ مِنْ لَحْمِ الْأُنْمُلَةِ، فَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْمَنْفَعَةِ، لَمْ تَنْقُصْ بِهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ وَجَبَ فِيهِ حُكُومَةٌ لِلشَّيْنِ، وَسَوَاءٌ حَصَلَ ذَلِكَ بِآفَةٍ أَمْ بِجِنَايَةٍ وَإِنْ أَثَّرَ فِي الْمَنْفَعَةِ، فَإِنْ حَصَلَ بِآفَةٍ لَمْ تَنْقُصِ

فصل

الدِّيَةُ، وَإِنْ حَصَلَ بِجِنَايَةٍ؛ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، أَقْرَبُهُمَا: يُحَطُّ عَنِ الثَّانِي قَدْرُ حُكُومَةِ الْأَوَّلِ. فَصْلٌ نَزَّلَ الْعُلَمَاءُ النُّطْقَ فِي اللِّسَانِ مَنْزِلَةَ الْبَطْشِ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَقَالُوا: إِذَا اسْتَأْصَلَ لِسَانَهُ بِالْقَطْعِ وَأَبْطَلَ كَلَامَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَطَعَ عَذْبَةَ اللِّسَانِ، وَبَطَلَ الْكَلَامُ؛ فَكَذَلِكَ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا مِنَ الْيَدِ فَشُلَّتْ. وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ اللِّسَانِ؛ فَذَهَبَ بَعْضُ الْكَلَامِ؛ نُظِرَ، إِنْ تَسَاوَتْ نِسْبَةُ جِرْمِ اللِّسَانِ وَالْكَلَامِ، بِأَنْ قُطِعَ نِصْفُ لِسَانِهِ، فَذَهَبَ نِصْفُ كَلَامِهِ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِأَنْ قُطِعَ الرُّبْعُ فَذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ أَوْ عَكْسُهُ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ قَطْعًا، وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: اللِّسَانُ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ وَمَنْفَعَتُهُ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَكْثَرُهُمَا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الِاعْتِبَارُ بِالْجِرْمِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَفِيهِ تَقَعُ الْجِنَايَةُ، قَالَ: وَإِنَّمَا وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ رُبُعِهِ إِذَا ذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ قَطَعَ رُبُعًا، وَأَشَلَّ رُبُعًا، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي صُوَرٍ. إِحْدَاهَا: قَطَعَ نِصْفَهُ، فَذَهَبَ رُبُعُ الْكَلَامِ، وَاسْتَأْصَلَ آخَرُ الْبَاقِي؛ فَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ يَلْزَمُ الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ نَصِفُهَا. الثَّانِيَةُ: قَطَعَ رُبُعَهُ، فَذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ، وَاسْتَأْصَلَهُ آخَرُ، فَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ يَلْزَمُ الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَعِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَحُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ نِصْفًا صَحِيحًا وَرُبُعًا أَشَلَّ. الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ بِجِنَايَةٍ عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ مِنْهُ، ثُمَّ قَطَعَهُ آخَرُ، فَيَلْزَمُ الثَّانِي عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَعِنْدَهُ نِصْفُهَا وَحُكُومَةٌ، لِأَنَّ نِصْفَ اللِّسَانِ صَحِيحٌ وَنَصِفَهُ أَشَلُّ لِذَهَابِ نِصْفِ الْكَلَامِ.

فَرْعٌ رَجُلَانِ قُطِعَ مِنْ أَحَدِهِمَا نِصْفُ لِسَانِهِ وَذَهَبَ رُبُعُ كَلَامِهِ، وَمِنَ الْآخَرِ نِصْفُ لِسَانِهِ وَذَهَبَ نِصْفُ كَلَامِهِ، فَقَطَعَ الْأَوَّلُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ مِنَ الثَّانِي، لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنْ أَجْرَيْنَا الْقِصَاصَ فِي بَعْضِ اللِّسَانِ لِنَقْصِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَرْعٌ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ؛ فَذَهَبَ نِصْفُ كَلَامِهِ، فَاقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي، فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَّا رُبُعُ كَلَامِهِ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ لِيُتِمَّ حَقَّهُ، وَإِنْ ذَهَبَ مِنَ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَلَامِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ سِرَايَةَ الْقَوْدِ مُهْدَرَةٌ. فَرْعٌ عَوْدُ الْكَلَامِ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ، كَعَوْدِ السَّمْعِ. فَرْعٌ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ إِذَا ضَرَبَ لِسَانَهُ فَنَطَقَ بِذَلِكَ الْحَرْفِ وَفَاتَ حَرْفٌ آخَرُ، يَجِبُ قِسْطُ الْفَائِتِ وَلَا يَنْجَبِرُ، وَهَلْ يُوَزَّعُ عَلَى الْحُرُوفِ وَفِيهَا الْحَرْفُ الْمُسْتَفَادُ أَمْ عَلَيْهَا قَبْلَ الْجِنَايَةِ؟ قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لِيَبْنِ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ يُحْسِنُ بَعْضَ الْحُرُوفِ وَلَهُ كَلَامٌ مَفْهُومٌ إِذَا أَبْطَلَ بِالْجِنَايَةِ بَعْضَ مَا يُحْسِنُهُ، هَلِ التَّوْزِيعُ عَلَى مَا يُحْسِنُهُ أَمْ عَلَى الْجَمِيعِ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، دَخَلَ الْمُسْتَفَادُ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ فِي لِسَانِهِ عَجَلَةٌ وَاضْطِرَابٌ، فَضُرِبَ فَاسْتَقَامَ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ.

فَرْعٌ قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِ، هَلْ تَجِبُ الْحُكُومَةُ أَمْ قِسْطُ الْمَقْطُوعِ مِنَ الدِّيَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْحُكُومَةُ، إِذْ لَوْ وَجَبَ الْقِسْطُ لَلَزِمَ إِيجَابُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ. السَّادِسُ: الصَّوْتُ، فَإِذَا جَنَى عَلَى شَخْصٍ، فَأَبْطَلَ صَوْتَهُ، وَبَقِيَ اللِّسَانُ عَلَى اعْتِدَالِهِ، وَيُمَكِّنُهُ مِنَ التَّقْطِيعِ وَالتَّرْدِيدِ، لَزِمَهُ لِإِبْطَالِ الصَّوْتِ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ فَإِنْ أَبْطَلَ مَعَهُ حَرَكَةَ اللِّسَانِ حَتَّى عَجَزَ عَنِ التَّقْطِيعِ وَالتَّرْدِيدِ، فَوَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا: يَجِبُ دِيَتَانِ، لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ إِذَا أُفْرِدَتْ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ دِيَةٌ فَقَطْ. فَإِنْ قُلْنَا: دِيَتَانِ، وَكَانَتْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ بَاقِيَةً فَقَدْ تَعَطَّلَ النُّطْقُ بِسَبَبِ فَوَاتِ الصَّوْتِ، فَيَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّ تَعَطُّلَ الْمَنْفَعَةِ هَلْ هُوَ كَزَوَالِهَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، وَجَبَ دِيَتَانِ، وَإِلَّا فَدِيَةٌ. السَّابِعُ: الذَّوْقُ، وَفِي إِبْطَالِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَقَدْ يَبْطُلُ بِجِنَايَةٍ عَلَى اللِّسَانِ أَوِ الرَّقَبَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَالْمُدْرَكُ بِالذَّوْقِ خَمْسَةُ أَشْيَاءٍ: الْحَلَاوَةُ وَالْحُمُوضَةُ وَالْمَرَارَةُ وَالْمُلُوحَةُ وَالْعُذُوبَةُ؛ وَالدِّيَةُ تَتَوَزَّعُ عَلَيْهَا؛ فَإِذَا أُبْطِلَ إِدْرَاكٌ وَاحِدٌ، وَجَبَ خُمْسُ الدِّيَةِ، وَلَوْ نَقَصَ الْإِحْسَاسُ فَلَمْ يُدْرِكِ الطُّعُومَ عَلَى كَمَالِهَا؛ فَالْوَاجِبُ الْحُكُومَةُ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي ذَهَابِ الذَّوْقِ، جُرِّبَ بِالْأَشْيَاءِ الْمُرَّةِ أَوِ الْحَامِضَةِ الْحَادَّةِ؛ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَعَبُّسٌ وَكَرَاهَةٌ، صَدَّقْنَا الْجَانِيَ بِيَمِينِهِ، وَإِلَّا فَالْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً زَالَ بِهَا ذَوْقُهُ وَنُطْقُهُ، وَجَبَ دِيَتَانِ. الثَّامِنُ: الْمَضْغُ، وَفِي إِبْطَالِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَلِإِبْطَالِهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُصْلَبَ مَغْرَسُ اللِّحْيَيْنِ حَتَّى تَمْتَنِعَ حَرَكَتُهُمَا مَجِيئًا وَذَهَابًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَجْنِيَ عَلَى الْأَسْنَانِ، فَيُصِيبَهُمَا خَدَرٌ، وَتَبْطُلَ صَلَاحِيَتُهُمَا لِلْمَضْغِ.

التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ وَالْحَادِي عَشَرَ: الْإِمْنَاءُ وَالْإِحْبَالُ وَالْجِمَاعُ؛ فَإِذَا كَسَرَ صُلْبَهُ، فَأَبْطَلَ قُوَّةَ إِمْنَائِهِ، وَجَبَ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ، فَذَهَبَ مَاؤُهُ، لَزِمَهُ دِيَتَانِ، وَكَذَا لَوْ أَبْطَلَ مِنَ الْمَرْأَةِ قُوَّةَ الْإِحْبَالِ، لَزِمَهُ دِيَتُهَا، وَلَوْ جَنَى عَلَى ثَدْيِهَا، فَانْقَطَعَ لَبَنُهَا، لَزِمَهُ حُكُومَةٌ، فَإِنْ نَقَصَ، وَجَبَتْ حُكُومَةٌ تَلِيقُ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ عِنْدَ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَمْ يُدَرَّ لَهَا لَبَنٌ، وَامْتَنَعَ بِهِ الْإِرْضَاعُ، وَجَبَتْ حُكُومَةٌ إِذَا قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إِنَّ الِانْقِطَاعَ بِجِنَايَتِهِ، أَوْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ سَبَبَهَا، وَلِلْإِمَامِ احْتِمَالٌ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ بِإِبْطَالِ الْإِرْضَاعِ. وَلَوْ جَنَى عَلَى صُلْبِهِ؛ فَذَهَبَ جِمَاعُهُ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْمُجَامَعَةَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمَقْصُودَةِ، وَلَوِ ادَّعَى ذَهَابَهُ، فَأَنْكَرَ الْجَانِي، صُدِّقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّهُمْ صَوَّرُوا ذَهَابَ الْجِمَاعِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَنْقَطِعْ مَاؤُهُ وَبَقِيَ ذَكَرُهُ سَلِيمًا، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ كَسَرَ صُلْبَهُ، وَأَشَلَّ ذَكَرَهُ؛ فَعَلَيْهِ دِيَةُ الذَّكَرِ وَحُكُومَةٌ لَكَسْرِ الصُّلْبِ، وَإِذَا كَانَ الذَّكَرُ سَلِيمًا، كَانَ الشَّخْصُ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ حِسًّا، فَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَهَابِ الْجِمَاعِ بُطْلَانَ الِالْتِذَاذِ بِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ؛ وَلِذَلِكَ صَوَّرَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ الْمَسْأَلَةَ فِي إِبْطَالِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ مَعَ أَنَّ الْإِمَامَ اسْتَبْعَدَ ذَهَابَ الشَّهْوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَنِيِّ. فَرْعٌ لَوْ جَنَى عَلَى عُنُقِهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ابْتِلَاعُ الطَّعَامِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ لِالْتِوَاءِ الْعُنُقِ أَوْ غَيْرِهِ، لَزِمَهُ حُكُومَةٌ، فَلَوْ لَمْ يَنْفُذِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ أَصْلًا لِانْسِدَادِ الْمَنْفَذِ، فَلَا يَعِيشُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَلَمْ تَزِدْ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ سَاغَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، فَحُكُومَةٌ، وَإِنْ مَاتَ فَالدِّيَةُ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ نَفْسَ الْجِنَايَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الِانْسِدَادِ

تُوجِبُ الدِّيَةَ حَتَّى لَوْ حَزَّ غَيْرُهُ رَقَبَتَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، لَزِمَ الْأَوَّلَ دِيَةٌ، وَلَوْ مَاتَ بِامْتِنَاعِ نُفُوذِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ قُلْنَا: مَنْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ، تَلْزَمُهُ دِيَةٌ فَقَطْ، فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: هُنَاكَ دِيَتَانِ، فَيُحْتَمَلُ هُنَا دِيَةٌ وَيُحْتَمَلُ دِيَتَانِ. الثَّانِي عَشَرَ: إِفْضَاءُ الْمَرْأَةِ، وَفِيهِ كَمَالُ دِيَةٍ، وَهُوَ رَفْعُ الْحَاجِزِ بَيْنَ مَسْلَكِ الْجِمَاعِ وَالدُّبُرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: رَفْعُ الْحَاجِزِ بَيْنَ مَسْلَكِ الْجِمَاعِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: الصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِفْضَاءٌ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ يَخْتَلُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ إِمْسَاكَ الْخَارِجِ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَزَالَ الْحَاجِزَيْنِ، لَزِمَهُ دِيَتَانِ. وَتَخْتَلِفُ الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْإِفْضَاءِ خِفَّةً وَغِلْظًا بِاخْتِلَافِ حَالِ الْإِفْضَاءِ، فَقَدْ يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا، بِأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ضَعِيفَةً أَوْ نَحِيفَةً، وَالْغَالِبُ إِفْضَاءُ وَطْئِهَا إِلَى الْإِفْضَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ عَمْدَ خَطَأٍ، بِأَنْ لَا يَتَضَمَّنَ وَطْؤُهَا الْإِفْضَاءَ غَالِبًا، وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً مَحْضًا، بِأَنْ يَجِدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَظُنَّهَا امْرَأَتَهُ الَّتِي عَهِدَهَا، فَيَطَؤُهَا فَيُفْضِيهَا. هَذَا إِذَا حَصَلَ الْإِفْضَاءُ بِالْوَطْءِ، وَلَا فَرْقَ فِي الدِّيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَحْصُلَ بِأُصْبُعٍ أَوْ خَشَبَةٍ أَوْ شَيْءٍ مُحَدَّدٍ، وَإِذَا أَفْضَاهَا؛ فَصَارَ بَوْلُهَا يَسْتَرْسِلُ وَلَا يَسْتَمْسِكُ، لَزِمَهُ مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةُ الشَّيْنِ، وَقِيلَ: لَا حُكُومَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَسَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِالْإِفْضَاءِ الْحَاصِلِ بِالْوَطْءِ، الزَّوْجُ وَالْوَاطِئُ بِشُبْهَةٍ وَالزَّانِي؛ وَيَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ عَلَى الزَّوْجِ بِالْوَطْءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِفْضَاءِ، وَيَجِبُ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ، وَكَذَا عَلَى الزَّانِي إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً وَعَلَيْهِ الْحَدُّ.

فصل

فَصْلٌ لِبَكَارَةِ الْمَرْأَةِ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُزِيلَهَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ افْتِضَاضَهَا، فَإِنْ أَزَالَهَا بِغَيْرِ آلَةِ الْجِمَاعِ، كَالْأُصْبُعِ وَالْخَشَبَةِ، لَزِمَهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ، وَالْمُرَادُ الْحُكُومَةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ تَقْدِيرِ الرِّقِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَيَانِ الْحُكُومَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَلْ يَكُونُ جِنْسُ الْوَاجِبِ مِنَ الْإِبِلِ، أَمْ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْإِبِلُ عَلَى قَاعِدَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ. وَلَوْ أَزَالَتْ بِكْرٌ بَكَارَةَ أُخْرَى اقْتَصَّتْ مِنْهَا. وَإِنْ أَزَالَهَا بِآلَةِ الْجِمَاعِ، فَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْمَرْأَةُ فَلَا أَرْشَ كَمَا لَا مَهْرَ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ كَانَ هُنَاكَ شُبْهَةُ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ مِثْلِهَا ثَيِّبًا وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ مَهْرُ مِثْلِهَا بِكْرًا، فَإِنْ أَفْرَدْنَا الْأَرْشَ عَادَ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّ جِنْسَهُ الْإِبِلُ أَمِ النَّقْدُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُزِيلَهَا مُسْتَحِقُّ الِافْتِضَاضِ وَهُوَ الزَّوْجُ؛ فَإِنْ أَزَالَهَا بِآلَةِ الْجِمَاعِ؛ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَإِنْ أَزَالَهَا بِغَيْرِهِ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي طَرِيقِهِ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْأَرْشُ. ثُمَّ مَنِ افْتَضَّ، وَأَلْزَمْنَاهُ أَرْشَ الْبَكَارَةِ، فَلَوْ أَفْضَاهَا مَعَ الِافْتِضَاضِ؛ فَفِي دُخُولِ أَرْشِ الْبَكَارَةِ فِي دِيَةِ الْإِفْضَاءِ وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: الدُّخُولُ، لِأَنَّ الدِّيَةَ وَالْأَرْشَ تَجِبَانِ لِلْإِتْلَافِ؛ فَدَخَلَ أَقَلُّهُمَا فِي أَكْثَرِهِمَا بِخِلَافِ الْمَهْرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ لِلِاسْتِمْتَاعِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي بَدَلِ الْإِتْلَافِ، كَمَا لَوْ تَحَامَلَ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ، فَكَسَرَ رِجْلَهَا، لَا يَدْخُلُ الْمَهْرُ فِي دِيَةِ الرِّجْلِ. فَصْلٌ إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ إِلَّا بِالْإِفْضَاءِ، لَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا، وَلَا يَلْزَمُهَا تَمْكِينُهُ، ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنْ كَانَ سَبَبُهُ ضِيقُ الْمَنْفَذِ

بِحَيْثُ يُخَالِفُ الْعَادَةَ؛ فَلِلزَّوْجِ خِيَارُ الْفَسْخِ، كَالرَّتْقِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ كِبَرُ آلَتِهِ بِحَيْثُ يُخَالِفُ الْعَادَةَ؛ فَلَهَا الْخِيَارُ، كَمَا فِي الْجَبِّ. وَالَّذِي قَالَهُ الْأَصْحَابُ: أَنَّهُ لَا فَسْخَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالرَّتْقِ، فَإِنَّهُمَا يَمْنَعَانِ الْوَطْءَ مُطْلَقًا، وَيُشْبِهُ أَنْ يُفَصَّلَ فَيُقَالُ: إِنْ كَانَتْ نَحِيفَةً لَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ لَأَفْضَاهَا، لَكِنْ لَوْ وَطِئَهَا نَحِيفٌ احْتَمَلَتْهُ، فَلَا فَسْخَ. وَإِنْ كَانَ ضِيقُ الْمَنْفَذِ بِحَيْثُ يُفْضِيهَا أَيُّ شَخْصٍ وَطِئَهَا؛ فَهَذَا كَالرَّتْقِ؛ وَيَنْزِلُ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ عَلَى الثَّانِي. فَرْعٌ إِذَا الْتَأَمَ الْجُرْحُ بَعْدَ الْإِفْضَاءِ، سَقَطَتِ الدِّيَةُ وَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ أَثَرٌ، كَمَا لَوْ عَادَ ضَوْءُ الْعَيْنِ، وَفِي وَجْهٍ لَا تَسْقُطُ، كَمَا لَوِ الْتَحَمَتِ الْجَائِفَةُ. فَرْعٌ لَوْ أَفْضَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : إِنْ قُلْنَا: الْإِفْضَاءُ رَفْعُ الْحَاجِزِ بَيْنَ مَنْفَذِ الْبَوْلِ وَمَدْخَلِ الذَّكَرِ، لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ، وَإِنْ قُلْنَا: رَفْعُ الْحَاجِزِ بَيْنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ؛ فَوَجْهَانِ وَلَوْ أُزِيلَتِ الْبَكَارَةُ مِنْ فَرْجِ الْمُشْكِلِ وَجَبَتْ حُكُومَةُ جِرَاحَةٍ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْبَكَارَةُ؛ لِأَنَّا لَا نَتَحَقَّقُ كَوْنَهُ فَرْجًا. الثَّالِثَ عَشَرَ: الْبَطْشُ وَالْمَشْيُ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالُ الدِّيَةِ؛ فَإِذَا ضَرَبَ يَدَيْهِ فَشُلَّتَا، لَزِمَهُ الدِّيَةُ، وَلَوْ ضَرَبَ أُصْبُعَهُ فَشُلَّتْ، لَزِمَهُ دِيَةُ أُصْبُعٍ، وَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَلَ مَشْيُهُ وَرِجْلُهُ سَلِيمَةٌ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَلَا تُؤْخَذُ الدِّيَةُ حَتَّى تَنْدَمِلَ؛ فَإِنِ انْجَبَرَ وَعَادَ مَشْيُهُ كَمَا كَانَ؛ فَلَا دِيَةَ وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ أَثَرٌ، وَكَذَا إِنْ نَقَصَ مَشْيُهُ، بِأَنِ احْتَاجَ إِلَى

فصل

عَصًا، أَوْ صَارَ يَمْشِي مُحْدَوْدِبًا. وَلَوْ كُسِرَ صُلْبُهُ، وَشُلَّتْ رِجْلُهُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَلْزَمُهُ دِيَةٌ لِفَوَاتِ الْمَشْيِ، وَحُكُومَةٌ لِكَسْرِ الظَّهْرِ. بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتِ الرِّجْلُ سَلِيمَةً لَا يَجِبُ مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّ الْمَشْيَ مَنْفَعَةٌ فِي الرِّجْلِ؛ فَإِذَا شُلَّتِ الرِّجْلُ فَفَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ لِشَلَلِ الرِّجْلِ، فَأَفْرَدَ كَسْرَ الصُّلْبِ بِحُكُومَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً، فَفَوَاتُ الْمَشْيِ لِخَلَلِ الصُّلْبِ، فَلَا يُفْرَدُ بِحُكُومَةٍ. وَيُوَافِقُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، أَنَّهُ لَوْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَشُلَّ ذَكَرُهُ، تَجِبُ حُكُومَةُ الْكَسْرِ وَدِيَةٌ لِشَلَلِ الذَّكَرِ. وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْكَسْرِ لَا يُوجِبُ الدِّيَةَ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ إِذَا فَاتَ بِهِ الْمَشْيُ، أَوِ الْمَاءُ أَوِ الْجِمَاعُ كَمَا سَبَقَ. وَإِذَا ادَّعَى ذَهَابَ الْمَشْيِ، فَكَذَّبَهُ الْجَانِي، امْتُحِنَ، بِأَنْ يُقْصَدَ بِالسَّيْفِ فِي غَفْلَتِهِ؛ فَإِنْ تَحَرَّكَ وَمَشَى، عَلِمْنَا كَذِبَهُ، وَإِلَّا فَيَحْلِفُ وَيَأْخُذُ الدِّيَةَ، وَلَوْ أَذْهَبَ كَسْرَ الصُّلْبِ مَشْيَهُ وَمَنِيَّهُ، أَوْ مَشْيَهُ وَجِمَاعَهُ، وَجَبَتْ دِيَتَانِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: دِيَةٌ. فَصْلٌ قَدْ ذَكَرْنَا الدِّيَاتِ فِي الْجُرُوحِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْمَنَافِعِ مُفَصَّلَةً؛ فَيَجُوزُ أَنْ تَجْتَمِعَ فِي شَخْصٍ دِيَاتٌ كَثِيرَةٌ، بِأَنْ تُزَالَ مِنْهُ أَعْضَاءٌ وَمَنَافِعُ، وَلَا يَسْرِي إِلَى النَّفْسِ، بَلْ تَنْدَمِلُ، وَهَذَا بَيَانُ الدِّيَاتِ. الْأُذُنَانِ أَوْ إِبْطَالُ إِحْسَاسِهِمَا، الْعَيْنَانِ أَوِ الْبَصَرُ، الْأَجْفَانُ، الْمَارِنُ، الشَّفَتَانِ، اللِّسَانُ أَوِ النُّطْقُ، الْأَسْنَانُ، اللِّحْيَانِ، الْيَدَانِ، الرِّجْلَانِ، الذَّكَرُ، الْأُنْثَيَانِ أَوِ الْحَلَمَتَانِ وَالشَّفْرَانِ، الْأَلْيَانِ، الْعَقْلُ، السَّمْعُ، الشَّمُّ، الصَّوْتُ، الذَّوْقُ، الْمَضْغُ، الْإِمْنَاءُ أَوِ الْإِحْبَالُ، إِبْطَالُ لَذَّةِ الْجِمَاعِ، إِبْطَالُ لَذَّةِ الطَّعَامِ، الْإِفْضَاءُ فِي الْمَرْأَةِ، الْبَطْشُ، الْمَشْيُ. وَقَدْ يُضَافُ إِلَيْهَا الْمَوَاضِحُ وَسَائِرُ الشَّجَّاتِ، وَالْجَوَائِفُ وَالْحُكُومَاتُ، فَيَجْتَمِعُ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا يَنْحَصِرُ؛ فَإِذَا انْدَمَلَتْ هَذِهِ الْجِرَاحَاتُ، وَجَبَ جَمِيعُ هَذِهِ الدِّيَاتِ، وَإِنْ سَرَتْ فَمَاتَ

مِنْهَا، وَجَبَ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ عَادَ الْجَانِي، فَحَزَّ رَقَبَةَ الْمَجْرُوحِ. أَوْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، وَجَبَتْ دِيَةُ الْأَطْرَافِ وَدِيَةُ النَّفْسِ لِاسْتِقْرَارِ دِيَةِ الْأَطْرَافِ بِالِانْدِمَالِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَوَجْهَانِ: الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا دِيَةُ النَّفْسِ كَالسَّرَايَةِ، وَالثَّانِي خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ: تَجِبُ دِيَاتُ الْأَطْرَافِ مَعَ دِيَةِ النَّفْسِ، هَذَا إِذَا اتَّفَقَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ فِي الْعَمْدِ أَوِ الْخَطَأِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَمْدًا، وَالْأُخْرَى خَطَأً، وَقُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ، فَهُنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّدَاخُلُ أَيْضًا، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِاخْتِلَافِهِمَا وَاخْتِلَافِ مَنْ يَجْنِيَانِ عَلَيْهِ؛ فَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً، ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ عَمْدًا؛ فَلِلْوَلِيِّ قَتْلُهُ قِصَاصًا وَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ يَدِهِ؛ فَإِنَّ قَتْلَهُ قِصَاصٌ. فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ، وَجَعَلْنَا الْحُكْمَ لِلنَّفْسِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الدِّيَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَدَاخُلَ، أُخِذَ نِصْفُ الدِّيَةِ مِنَ الْعَاقِلَةِ لِلْيَدِ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ؛ فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ، فَوَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَجِبُ دِيَةٌ نِصْفُهَا مُخَفَّفَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَنِصْفُهَا مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْجَانِي. وَيُنْسَبُ هَذَا إِلَى النَّصِّ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ: يَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْجَانِي، لِأَنَّ مَعْنَى التَّدَاخُلِ إِسْقَاطُ بَدَلِ الطَّرَفِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى بَدَلِ النَّفْسِ لِمَصِيرِ الْجِنَايَةِ نَفْسًا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَدَاخُلَ، وَجَبَ نِصْفُ دِيَةٍ مُخَفَّفَةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وِدِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا، ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ خَطَأً قَبْلَ الِانْدِمَالِ؛ فَلِلْوَلِيِّ قَطْعُ يَدِهِ. وَإِذَا قَطَعَهَا إِنْ قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ؛ فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْقَطْعِ نِصْفَ بَدَلِ النَّفْسِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَدَاخُلَ؛ فَلَهُ كَمَالُ الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ. وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَطْعِ؛ فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ؛ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، عَلَى النَّصِّ يَجِبُ نِصْفُ دِيَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَنِصْفُ مُغَلَّظَةٍ لِلْيَدِ، وَعَلَى الْآخَرِ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ لِلنَّفْسِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَوْ أُصْبُعَهُ عَمْدًا، ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ خَطَأً أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقُلْنَا: تُرَاعَى صِفَةُ

الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّدَاخُلِ، تَنَصَّفَتْ تَخْفِيفًا وَتَغْلِيظًا، وَلَا نُظِرَ إِلَى أَقْدَارِ أُرُوشِ الْأَطْرَافِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالتَّدَاخُلِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَزَّ بَعْدَ قَطْعِ الْأَطْرَافِ كَسَرَايَةِ الْأَطْرَافِ؛ فَكَانَ الْحَزُّ مَعَ الْجِرَاحَاتِ السَّابِقَةِ، كَجِرَاحَاتٍ مُؤَثِّرَةٍ فِي الزُّهُوقِ انْقَسَمَتْ عَمْدًا وَخَطَأً، وَحِينَئِذٍ تَتَنَصَّفُ الدِّيَةُ تَخْفِيفًا وَتَغْلِيظًا وَلَا نُظِرَ إِلَى أَقْدَارِ الْأُرُوشِ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ الْحُكُومَاتِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الرَّقِيقِ فِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ فِي الْحُكُومَةِ: وَهِيَ جُزْءٌ مِنَ الدِّيَةِ نِسْبَتُهُ إِلَيْهَا نِسْبَةُ مَا تَقْتَضِيهِ الْجِنَايَةُ مِنْ قِيمَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ تَقْوِيمِهِ رَقِيقًا؛ فَيُقَوَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِصِفَاتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لَوْ كَانَ عَبْدًا، وَيُنْظَرُ كَمْ نَقَصَتِ الْجِنَايَةُ مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ قُوِّمَ بِعَشَرَةٍ دُونَ الْجِنَايَةِ، وَبِتِسْعَةٍ بَعْدَ الْجِنَايَةِ؛ فَالتَّفَاوُتُ الْعُشْرُ، فَيَجِبُ عُشْرُ دِيَةِ النَّفْسِ، وَقِيلَ: عُشْرُ دِيَةِ الْعُضْوِ الَّذِي جَنَى عَلَيْهِ؛ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَتَكُونُ الْحُكُومَةُ مِنْ جِنْسِ الْإِبِلِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ نُظِرَ؛ إِنْ لَمْ تَبْلُغِ الْحُكُومَةُ أَرْشَ ذَلِكَ الْعُضْوِ، وَجَبَتْ بِكَمَالِهَا، وَإِنْ بَلَغَتْهُ، نَقَّصَ الْحَاكِمُ شَيْئًا مِنْهُ بِالِاجْتِهَادِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَكْفِي حَطُّ أَقَلِّ مَا يَتَمَوَّلُ فَحُكُومَةُ الْأُنْمُلَةِ الْعُلْيَا بِجُرْحِهَا، أَوْ قَلْعُ ظُفْرِهَا يَنْقُصُ عَنْ أَرْشِ الْأُنْمُلَةِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْأُصْبُعِ إِذَا أَتَتْ عَلَى طُولِهَا لَا تَبْلُغُ حُكُومَتُهَا أَرْشَ الْأُصْبُعِ، وَعَلَى الرَّأْسِ لَا تَبْلُغُ حُكُومَتُهَا أَرْشَ الْمُوضِحَةِ، وَعَلَى الْبَطْنِ لَا تَبْلُغُ أَرْشَ الْجَائِفَةِ، وَحُكُومَةُ جُرْحِ الْكَفِّ لَا تَبْلُغُ دِيَةَ الْأَصَابِعِ الْخَمْسِ، وَكَذَا حُكُومَةُ قَطْعِ الْكَفِّ الَّتِي لَا أُصْبُعَ عَلَيْهَا، وَكَذَا حُكْمُ الْقَدَمِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ حُكُومَةُ الْكَفِّ دِيَةَ أُصْبُعٍ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا دَفْعًا وَاحْتِوَاءً تَزِيدُ عَلَى مَنْفَعَةِ أُصْبُعٍ. وَكَمَا

فصل

أَنَّ دِيَةَ الْيَدِ الشَّلَّاءِ لَا تَبْلُغُ دِيَةَ الْيَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ دِيَةَ أُصْبُعٍ، وَأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ عَلَى عُضْوٍ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كَالظَّهْرِ وَالْكَتِفِ وَالْفَخِذِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ حُكُومَتُهَا دِيَةَ عُضْوٍ مُقَدَّرٍ، كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَأَنْ تُزَادَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَنْقُصُ عَنْ دِيَةِ النَّفْسِ. وَعَدَّ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ السَّاعِدَ وَالْعَضُدَ؛ فَيَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ حُكُومَةُ جَرْحِ أَحَدِهِمَا دِيَةَ الْأَصَابِعِ الْخَمْسِ، وَأَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا. وَسَوَّى الْغَزَالِيُّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْكَفِّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْكَفَّ هِيَ الَّتِي تَتْبَعُ الْأَصَابِعَ دُونَ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ. فَصْلٌ إِنَّمَا يُقَوَّمُ لِمَعْرِفَةِ الْحُكُومَةِ بَعْدَ انْدِمَالِ الْجِرَاحَةِ، وَنُقْصَانُ الْقِيمَةِ حِينَئِذٍ قَدْ يَكُونُ لِضَعْفٍ وَنَقْصٍ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِنَقْصِ الْجَمَالِ بِاعْوِجَاجٍ، أَوْ أَثَرٍ قَبِيحٍ، أَوْ شَيْنٍ مِنْ سَوَادٍ وَغَيْرِهِ، فَلَوِ انْدَمَلَتِ الْجِرَاحَةُ وَلَمْ يَبْقَ نَقْصٌ فِي مَنْفَعَةٍ وَلَا فِي جَمَالٍ وَلَمْ تَنْقُصِ الْقِيمَةُ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ سُرَيْجٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى التَّعْزِيرِ، كَمَا لَوْ لَطَمَهُ، أَوْ ضَرَبَهُ بِمُثْقَلٍ؛ فَزَالَ الْأَلَمُ، وَلَمْ يُنْقَصْ مَنْفَعَةٌ وَلَا جَمَالٌ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ شَيْءٍ؛ فَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُقَدِّرُ الْحَاكِمُ شَيْئًا بِاجْتِهَادِهِ بِأَنْ يَنْظُرَ إِلَى خِفَّةِ الْجِنَايَةِ وَفُحْشِهَا فِي الْمَنْظَرِ سَعَةً أَوْ غَوْصًا وَقَدْرِ الْآلَامِ الْمُتَوَلِّدَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى مَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي نَقْصِ الْقِيمَةِ وَيُعْتَبَرُ أَقْرَبُهَا إِلَى الِانْدِمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ نَقْصٌ إِلَّا فِي حَالِ سَيَلَانِ الدَّمِ، تَرَقَّبْنَا وَاعْتَبَرْنَا الْقِيمَةَ وَالْجِرَاحَةَ السَّائِلَةَ. فَإِنْ فُرِضَتِ الْجِرَاحَةُ خَفِيفَةً لَا تُؤَثِّرُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَيْضًا، فَفِي «الْوَسِيطِ» أَنَّا نُلْحِقُهَا بِاللَّطْمِ وَالضَّرْبِ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّ الْحَاكِمَ يُوجِبُ شَيْئًا بِالِاجْتِهَادِ، وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا أَوْ سِنًّا زَائِدَةً أَوْ أَتْلَفَ لِحْيَةَ امْرَأَةٍ، وَأَفْسَدَ مَنْبَتَهَا، وَلَمْ تَنْقُصِ الْقِيمَةُ بِذَلِكَ، وَرُبَّمَا زَادَتْ

لِزَوَالِ الشَّيْنِ، فَهَلْ يَجِبُ شَيْءٌ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنْ أَوْجَبْنَا، فَهُوَ الْأَصَحُّ، فَقِيلَ: يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي قَطْعِ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ أَقْرَبُ أَحْوَالِ النَّقْصِ مِنَ الِانْدِمَالِ كَمَا سَبَقَ، وَفِي السِّنِّ يُقَوَّمُ وَلَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ نَابِتَةٌ فَوْقَ الْأَسْنَانِ وَلَا أَصْلِيَّةَ خَلْفَهَا، ثُمَّ يُقَوَّمُ مَقْلُوعَ تِلْكَ الزَّائِدَةِ، وَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ، لِأَنَّ الزَّائِدَةَ تَسُدُّ الْفُرْجَةَ وَيَحْصُلُ بِهَا نَوْعُ جَمَالٍ. وَفِي لِحْيَةِ الْمَرْأَةِ تُقَدَّرُ كَوْنُهَا لِحْيَةَ عَبْدٍ كَبِيرٍ يَتَزَيَّنُ بِاللِّحْيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ أُنْمُلَةً لَهَا شُعْبَتَانِ، أَصْلِيَّةٌ وَزَائِدَةٌ؛ قَدَّرَ الْحَاكِمُ لِلزَّائِدَةِ شَيْئًا بِالِاجْتِهَادِ. وَلَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لَطَمَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرٌ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ضَمَانٌ؛ فَإِنِ اسْوَدَّ أَوِ اخْضَرَّ وَبَقِيَ الْأَثَرُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، وَجَبَتِ الْحُكُومَةُ؛ فَإِنْ زَالَ الْأَثَرُ بَعْدَ أَخْذِ الْحُكُومَةِ، وَجَبَ رَدُّهَا. وَضُبِطَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ بِأَنْ قِيلَ: إِذَا بَقِيَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ شَيْنٍ، وَجَبَتِ الْحُكُومَةُ؛ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ أَثَرٌ. وَالْجِنَايَةُ ضَرْبٌ وَنَحْوُهُ؛ فَلَا شَيْءَ وَإِنْ كَانَتْ جُرْحًا، فَوَجْهَانِ. فَرْعٌ كَسَرَ عَظْمًا فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَعَادَ بَعْدَ الْكَسْرِ مُسْتَقِيمًا، فَإِنْ بَقِيَ فِيهِ ضَعْفٌ وَخَلَلٌ وَهُوَ الْغَالِبُ، وَجَبَتِ الْحُكُومَةُ، وَإِلَّا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَإِذَا كَانَ مَعَ الضَّعْفِ اعْوِجَاجٌ، كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ، وَلَيْسَ لِلْجَانِي كَسْرُهُ ثَانِيًا لِيُجَبَّرَ مُسْتَقِيمًا، وَلَوْ فَعَلَ، لَمْ تَسْقُطِ الْحُكُومَةُ الْأُولَى، وَتَجِبُ لِلْكَسْرِ الثَّانِي حُكُومَةٌ أُخْرَى، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ جَدِيدَةٌ. فَرْعٌ إِزَالَةُ الشُّعُورِ مِنَ الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ، بِحَلْقٍ أَوْ غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ إِفْسَادِ الْمَنْبَتِ، لَا يَجِبُ بِهَا حُكُومَةٌ أَصْلًا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الشَّعَرَ يَعُودُ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا كَانَ لِلْجِرَاحَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كَالْمُوضِحَةِ، فَالشَّيْنُ حَوَالَيْهَا يَتْبَعُهَا وَلَا يُفْرَدُ بِحُكُومَةٍ؛ هَذَا إِذَا كَانَ الشَّيْنُ فِي مَحَلِّ الْإِيضَاحِ، فَلَوْ أَوْضَحَ رَأَسَهُ، وَاتَّسَعَ الشَّيْنُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَفَا، فَوَجْهَانِ لِتَعَدِّيهِ مَحَلَّ الْإِيضَاحِ وَهَلِ الْمُتَلَاحِمَةُ كَالْمُوضِحَةِ فِي اسْتِتْبَاعِ الشَّيْنِ، إِذَا قَدَّرْنَا أَرْشَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوضِحَةِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْجِرَاحَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنْ جِرَاحَاتِ الرَّأْسِ إِذَا أَمْكَنَ تَقْدِيرُهَا مُوضِحَةً عَلَى الرَّأْسِ يَجِبُ فِيهَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِسْطِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَالْحُكُومَةِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَالْجِرَاحَاتُ عَلَى الْبَدَنِ إِنْ أَمْكَنَ تَقْدِيرُهَا بِالْجَائِفَةِ، بِأَنْ كَانَ بِقُرْبِهَا جَائِفَةٌ، هَلْ تُقَدَّرُ بِهَا كَالتَّقْدِيرِ بِالْمُوضِحَةِ أَمِ الْوَاجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ لَا غَيْرُ؟ وَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ، فَإِنْ قُدِّرَتِ الْجِرَاحَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِرَاحَةٍ مُقَدَّرَةِ الْأَرْشِ، وَأَوْجَبْنَا مَا يَقْتَضِيهِ التَّقْسِيطُ لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْحُكُومَةِ، فَالشَّيْنُ تَابِعٌ لَهُ لَا يُفْرَدُ بِحُكُومَةٍ كَالْمُوضِحَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ فَأَوْجَبْنَاهَا فَقَدْ وَفَّيْنَا حَقَّ الشَّيْنِ. فَرْعٌ أَوْضَحَ جَبِينَهُ، وَأَزَالَ حَاجِبَهُ؛ فَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَحُكُومَةِ الشَّيْنِ وَإِزَالَةِ الْحَاجِبِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّقِيقِ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الرَّقِيقِ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، يَسْتَوِي فِيهِ الْقِنُّ وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُوجِبُ فِي الْحُرِّ بَدَلًا مُقَدَّرًا، كَالْمُوضِحَةِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ؛ فَقَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الْقِيمَةِ، نِسْبَتُهُ إِلَى الْقِيمَةِ كَنِسْبَةِ الْوَاجِبِ فِي

الْحُرِّ إِلَى الدِّيَةِ، وَالثَّانِي: الْوَاجِبُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَنْكَرَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ وَقَطَعَ بِالْأَوَّلِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِثْبَاتِهِمَا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْأَوَّلُ مَنْصُوصٌ، وَالثَّانِي خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَبْدًا؛ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ كَالْبَهِيمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُمَا مَنْصُوصَانِ؛ الْأَوَّلُ جَدِيدٌ، وَالثَّانِي قَدِيمٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ لَا تُوجِبُ مُقَدَّرًا فِي الْحُرِّ، فَوَاجِبُهَا فِي الْعَبْدِ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ بِلَا خِلَافٍ. إِذَا عُرِفَ هَذَا فَعَلَى الْأَظْهَرِ فِي يَدِ الْعَبْدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَفِي يَدَيْهِ قِيمَتُهُ، وَفِي أُصْبُعِهِ عُشْرُهَا، وَفِي أُنْمُلَتِهِ ثُلْثُ عُشْرِهَا، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِهَا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَلَوْ قَطَعَ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ؛ فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ الْوَاجِبُ فِيهَا كُلِّهَا مَا نَقَصَ، فَإِنْ لَمْ تَنْقُصِ الْقِيمَةُ بِقَطْعِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، أَوْ زَادَتْ؛ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَالثَّانِي: تَجِبُ حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِالِاجْتِهَادِ، أَوْ يَعْتَبِرُ بِمَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا انْدَمَلَتِ الْجِرَاحَةُ وَلَمْ يَبْقَ شَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَعَادَتْ إِلَى مِائَتَيْنِ؛ فَعَلَى الْأَظْهَرِ يَجِبُ خَمْسُمِائَةٍ، وَعَلَى الْقَدِيمِ ثَمَانُمِائَةٍ، وَلَوْ عَادَتْ إِلَى ثَمَانِمِائَةٍ وَجَبَ عَلَى الْأَظْهَرِ خَمْسُمِائَةٍ، وَعَلَى الْقَدِيمِ مِائَتَانِ. وَلَوْ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ اثْنَانِ، فَقَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ، وَالْآخَرُ يَدَهُ الْأُخْرَى، نُظِرَ، إِنْ وَقَعَتِ الْجِنَايَتَانِ مَعًا، فَعَلَيْهِمَا قِيمَتُهُ، وَإِنْ تَعَاقَبَتَا وَكَانَتِ الْقِيمَةُ عِنْدَ قَطْعِ الثَّانِي نَاقِصَةً بِسَبَبِ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ مَاتَ مِنْهُمَا، فَفِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِمَا أَوْجُهٌ سَبَقَتْ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ. وَإِنْ وَقَفَ الْقَطْعَانِ، نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ قَطْعُ الثَّانِي بَعْدَ انْدِمَالِ الْأَوَّلِ، لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَتِهِ قَبْلَ جِنَايَتِهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا، فَصَارَتْ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ ثَمَانَمِائَةٍ، وَبِالثَّانِي سِتَّمِائَةٍ، لَزِمَ الْأَوَّلَ خَمْسُمِائَةٍ، وَالثَّانِي أَرْبَعُمِائَةٍ. وَإِنْ قَطَعَ الثَّانِي قَبْلَ الِانْدِمَالِ الْأَوَّلِ، لَزِمَ الثَّانِي نِصْفُ مَا أَوْجَبْنَا

عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى لَمْ تَسْتَقِرَّ وَقَدْ أَوْجَبْنَا نِصْفَ الْقِيمَةِ؛ فَكَأَنَّهُ انْتَقَصَ نِصْفَ الْقِيمَةِ، فَلَوْ قَطَعَ الْوَاحِدُ يَدَيِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَسِرْ؛ فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ قَطَعَهُ اثْنَانِ، هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ كُلَّ قَاطِعٍ مَا نَقَصَ بِجِنَايَتِهِ. وَإِذَا قُطِعَتْ أَطْرَافُ عَبْدٍ، ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ، لَزِمَهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ ذَاهِبَ الْأَطْرَافِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي مُوجِبِ الدِّيَةِ وَحُكْمِ السِّحْرِ فِيهِ خَمْسَةُ أَطْرَافٍ: الْأَوَّلُ: السَّبَبُ، وَالْوَاجِبُ فِي إِهْلَاكِ النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، كَمَا يَجِبُ بِالْمُبَاشَرَةِ يَجِبُ بِالتَّسَبُّبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مَرَاتِبَ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ أَثَرٌ فِي الْهَلَاكِ ثَلَاثٌ، وَهِيَ: الْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ وَالشَّرْطُ، وَضَابِطُهُ أَنْ يُقَالَ: مَا يَحْصُلُ الْهَلَاكُ عِنْدَهُ أَوْ عَقِبَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْهَلَاكِ؛ فَهُوَ عِلَّةٌ لِلْهَلَاكِ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ الدِّيَةُ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُؤَثِّرَ، فَإِنَّ تَوَقُّفَ تَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرِ عَلَيْهِ، كَالْحَفْرِ مَعَ التَّرَدِّي تَعَلَّقَتْ بِهِ الدِّيَةُ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ، لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ الدِّيَةُ، بَلِ الْمَوْتُ عِنْدَهُ اتِّفَاقِيٌّ، ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: صَفَعَهُ صَفْعَةً خَفِيفَةً، فَمَاتَ؛ فَلَا ضَمَانَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْهَلَاكِ. الثَّانِيَةُ: صَاحَ عَلَى صَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ عَلَى طَرَفِ سَطْحٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ، فَارْتَعَدَ وَسَقَطَ وَمَاتَ مِنْهُ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ قَطْعًا، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ، وَمَنْ أَوْجَبَ يَدَّعِي أَنَّ التَّأَثُّرَ بِهِ غَالِبٌ، وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَمَاتَ مِنَ الصَّيْحَةِ، فَقِيلَ: هُوَ كَالسُّقُوطِ مِنْ سَطْحٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ، لِأَنَّ الْمَوْتَ بِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. وَلَوْ صَاحَ عَلَى بَالِغٍ عَلَى طَرَفِ سَطْحٍ وَنَحْوِهِ، فَسَقَطَ وَمَاتَ فَلَا قِصَاصَ، وَفِي الضَّمَانِ أَوْجُهٌ؛ أَصَحُّهَا: لَا يَجِبُ، وَالثَّانِي: يَجِبُ، وَالثَّالِثُ: إِنْ غَافَصَهُ مِنْ

وَرَائِهِ، وَجَبَ، وَإِنْ صَاحَ بِهِ مِنْ وَجْهِهِ؛ فَلَا. وَلَوْ صَاحَ عَلَى صَغِيرٍ فَزَالَ عَقْلُهُ، وَجَبَ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا، فَعَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ. وَالْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ، وَالَّذِي تَعْتَرِيهِ الْوَسَاوِسُ وَالنَّائِمُ وَالْمَرْأَةُ الضَّعِيفَةُ، كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَالْمُرَاهِقُ الْمُتَيَقِّظُ كَالْبَالِغِ. وَشَهْرُ السِّلَاحِ وَالتَّهْدِيدُ الشَّدِيدُ كَالصِّيَاحِ، وَلَوْ صَاحَ عَلَى صَيْدٍ، فَاضْطَرَبَ مِنْهُ الصَّبِيُّ عَلَى طَرَفِ السَّطْحِ وَسَقَطَ، وَجَبَ الضَّمَانُ، لَكِنَّ الدِّيَةَ وَالْحَالَةَ هَذِهِ تَكُونُ مُخَفَّفَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَفِيمَا إِذَا قَصَدَ الصَّبِيَّ نَفْسَهُ تَكُونُ مُغَلَّظَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَقِيَاسُ مَنْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ أَنْ تَجِبَ مُغَلَّظَةً عَلَى الْجَانِي، وَعَنْ صَاحِبِ «التَّلْخِيصِ» أَنَّ الصَّائِحَ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا أَوْ فِي الْحَرَمِ تَعَلَّقَ بِصَيْحَتِهِ الضَّمَانُ لِتَعَدِّيهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَذَكَرَ عَلَى قِيَاسِهِ أَنَّهُ لَوْ صَاحَ عَلَى صَبِيٍّ فِي مِلْكِهِ، لَمْ يَجِبِ الضَّمَانُ تَشْبِيهًا بِمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ، فَسَقَطَ فِيهَا رَجُلٌ؛ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ. فَرْعٌ إِذَا بَعَثَ السُّلْطَانُ إِلَى امْرَأَةٍ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ بِسُوءٍ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِهَا، فَأَجْهَضَتْ جَنِينًا فَزَعًا مِنْهُ، وَجَبَ ضَمَانُ الْجَنِينِ، وَلَوْ كَذَبَ رَجُلٌ، فَأَمَرَهَا عَلَى لِسَانِ الْإِمَامِ بِالْحُضُورِ، فَأَجْهَضَتْ؛ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ، وَلَوْ هَدَّدَهَا غَيْرُ الْإِمَامِ حَامِلًا، وَأَجْهَضَتْ فَزَعًا؛ فَلْيَكُنْ كَالْإِمَامِ؛ لِأَنَّ إِكْرَاهَهُ كَإِكْرَاهِ الْإِمَامِ، وَلَوْ مَاتَتِ الْحَامِلُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهَا، أَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ إِلَى رَجُلٍ ذُكِرَ بِسُوءٍ وَهَدَّدَهُ وَمَاتَ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ. وَفِي «النِّهَايَةِ» أَنَّهُ يَجِبُ. فَرْعٌ لَوْ فَزَّعَ إِنْسَانًا، فَأَحْدَثَ فِي ثِيَابِهِ فَأَفْسَدَهَا؛ فَلَا ضَمَانَ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِيمَا يَغْلِبُ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ أَوِ الشَّرْطُ،

فَحَفْرُ الْبِئْرِ شَرْطٌ أَوْ سَبَبٌ، وَالتَّرَدِّي عِلَّةٌ؛ فَإِذَا اجْتَمَعَا نُظِرَ؛ إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ عُدْوَانًا، بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا، فَرَدِيَ فِيهَا غَيْرُهُ إِنْسَانًا؛ فَالْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ يَتَعَلَّقَانِ بِالتَّرْدِيَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْحَفْرِ مَعَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْعِلَّةُ عُدْوَانًا، بِأَنْ تَخَطَّى شَخْصٌ الْمَوْضِعَ جَاهِلًا؛ فَتَرَدَّى فِيهَا وَهَلَكَ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ عُدْوَانًا؛ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهِ؛ وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ. فَرْعٌ وَضَعَ صَبِيًّا فِي مَسْبَعَةٍ، فَافْتَرَسَهُ سَبْعٌ نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ عَنْ مَوْضِعِ الْهَلَاكِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَاضِعِ، كَمَا لَوْ فَتَحَ عِرْقَهُ فَلَمْ يَعْصِبْهُ حَتَّى مَاتَ. وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِقَالِ، فَلَا ضَمَانَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ لَيْسَ بِإِهْلَاكٍ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُلْجِئُ السَّبْعَ إِلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَوْضُوعُ بَالِغًا؛ فَلَا ضَمَانَ قَطْعًا. وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ مَنُوطٌ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، لَا بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ. فَرْعٌ لَوِ اتَّبَعَ إِنْسَانًا بِسَيْفٍ، فَوَلَّى الْمَطْلُوبُ هَارِبًا؛ فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي نَارٍ أَوْ مَاءٍ، أَوْ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ مِنْ سَطْحٍ عَالٍ أَوْ فِي بِئْرٍ فَهَلَكَ فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ إِهْلَاكَ نَفْسِهِ قَصْدًا. وَالْمُبَاشَرَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى السَّبَبِ؛ فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْمُهْلِكِ، فَوَقَعَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي النَّارِ أَوِ الْمَاءِ، أَوْ مِنَ الشَّاهِقِ وَالسَّطْحِ بِأَنْ كَانَ أَعْمَى، أَوْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، أَوْ فِي بِئْرٍ مُغَطَّاةٍ، وَجَبَ عَلَى الْمُتَّبِعِ الضَّمَانُ. وَلَوِ اسْتَقْبَلَهُ سَبْعٌ فِي طَرِيقِهِ؛ فَافْتَرَسَهُ، أَوْ لِصٌّ فَقَتَلَهُ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُتَّبِعِ، بَصِيرًا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَوْ أَعْمَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُتَّبِعِ إِهْلَاكٌ. وَمُبَاشَرَةُ السَّبْعِ الْعَارِضَةُ

فصل

كَعُرُوضِ الْقَتْلِ عَلَى إِمْسَاكِ الْمُمْسِكِ. لَكِنْ لَوْ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ فِي مَضِيقٍ، وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَّبِعِ، وَلَوِ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ فِي هَرَبِهِ؛ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْعِرَاقِيُّونَ. وَلَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ عَلَى السَّقْفِ مِنْ عُلُوٍّ؛ فَانْخَسَفَ بِهِ لِثِقَلِهِ؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنِ الْمُتَّبِعِ إِذَا أَلْقَى الْمَطْلُوبُ نَفْسَهُ فِي مَاءٍ، أَوْ نَارٍ أَوْ مِنْ سَطْحٍ قَصْدًا، أَرَدْنَا بِهِ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا؛ فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ عَمْدَهُمَا عَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ؟ إِنْ قُلْنَا: خَطَأٌ، ضُمِنَ؛ وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ سَلَّمَ صَبِيًّا إِلَى سَبَّاحٍ لِيُعَلِّمَهُ السِّبَاحَةَ، فَغَرِقَ، وَجَبَتْ فِيهِ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ كَمَا لَوْ ضَرَبَ الْمُعَلِّمُ الصَّبِيَّ لِلتَّأْدِيبِ فَهَلَكَ. وَقِيلَ: لَا ضَمَانَ، كَمَا لَوْ وَضَعَهُ فِي مَسْبَعَةٍ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ يُعَلِّمُهُ السِّبَاحَةَ بِنَفْسِهِ فَغَرِقَ، وَلَوْ أَدْخَلَهُ الْمَاءَ لِيَعْبُرَهُ بِهِ؛ فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ خَتَنَهُ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ أَكْلَةٍ؛ فَمَاتَ مِنْهُ. كَذَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي، وَلَوْ سَلَّمَ بَالِغَ نَفْسِهِ، لِيُعَلِّمْهُ السِّبَاحَةَ؛ فَفِي «الْوَسِيطِ» أَنَّهُ إِنْ خَاضَ مَعَهُ اعْتِمَادًا عَلَى يَدِهِ، فَأَهْمَلَهُ؛ احْتُمِلَ أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَغْتَرَّ بِقَوْلِ السَّبَّاحِ. فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْحَفْرِ الَّذِي هُوَ فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ وَغَيْرِهِ، وَالْحَفْرُ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ؛ أَحَدُهَا: إِذَا حَفَرَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ؛ فَلَا عُدْوَانَ؛ فَلَوْ دَخَلَ مِلْكَهُ دَاخِلٌ بِإِذْنِهِ، وَتَرَدَّى فِيهِ، لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ إِذَا عَرَّفَهُ الْمَالِكُ أَنَّ هُنَاكَ بِئْرًا، أَوْ كَانَتْ مَكْشُوفَةً وَالدَّاخِلُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ التَّحَرُّزِ؛ فَأَمَّا إِذَا لَمْ

يَعْرِفْهُ، وَالدَّاخِلُ أَعْمَى، أَوِ الْمَوْضِعُ مُظْلِمٌ؛ فَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّهُ كَمَا لَوْ دَعَاهُ لِطَعَامٍ مَسْمُومٍ؛ فَأَكَلَهُ. وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دِهْلِيزِ دَارِهِ، وَدَعَا إِلَيْهَا رَجُلًا، فَتَرَدَّى فِيهَا، فَفِي الضَّمَانِ قَوْلَانِ سَبَقَا فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ، أَظْهَرُهُمَا: الْوُجُوبُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا وَعَنِ الْبِئْرِ مَعْدَلٌ فَقَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَقَوْلَانِ مُرَتَّبَانِ؛ وَأَوْلَى الْوُجُوبُ. وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ تَقْدِيمِ الطَّعَامِ الْمَسْمُومِ وَأَطْعِمَةٍ فِيهَا طَعَامٌ مَسْمُومٌ. الْمَوْضُوعُ الثَّانِي: إِذَا حَفَرَ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ أَوْ لِلِارْتِفَاقِ بِالِاسْتِقَاءِ مِنْهَا فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ كَالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «الْبِئْرُ جَبَّارٌ» . الثَّالِثُ: إِذَا حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ نُظِرَ إِنْ حَفَرَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ؛ فَهُوَ كَحَفْرِهِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ حَفَرَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ؛ لِكَوْنِهِ عُدْوَانًا، وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَلَوْ هَلَكَ بِهِ دَابَّةٌ أَوْ مَالُ آخَرَ، وَجَبَ الضَّمَانُ فِي مَالِهِ. وَهَلْ يُجْعَلُ رِضَى الْمَالِكِ بِبَقَاءِ الْبِئْرِ الْمَحْفُورَةِ كَرِضَاهُ بِالْحَفْرِ؟ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي الْغَصْبِ؛ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَلَوْ كَانَ الْحَافِرُ عَبْدًا؛ فَالضَّمَانُ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ؛ فَلَوْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ؛ فَضَمَانُ مَنْ يَتَرَدَّى بَعْدَ الْعِتْقِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَتِيقِ. وَلَوْ حَفَرَ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الشَّرِيكِ، تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَفْرُ فِي الْمُشْتَرَكِ؛ وَإِذَا حَفَرَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مُتَعَدِّيًا، وَدَخَلَهُ رَجُلٌ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَتَرَدَّى فِيهَا؛ فَفِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِالْحَافِرِ وَجْهَانِ. قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : لَوْ قَالَ الْمَالِكُ: حَفَرَ بِإِذْنِي، لَمْ يُصَدَّقْ. الرَّابِعُ: إِذَا حَفَرَ فِي شَارِعٍ نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ ضَيِّقًا يَتَضَرَّرُ النَّاسُ بِالْبِئْرِ فِيهِ، وَجَبَ ضَمَانُ مَا هَلَكَ بِهَا؛ سَوَاءٌ أَذِنَ الْإِمَامُ أَمْ لَا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيمَا يَضُرُّ. وَإِنْ كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهَا لِسَعَةِ الشَّارِعِ، أَوِ انْعِطَافِ مَوْضِعِ الْبِئْرِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْحَفْرُ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، كَالْحَفْرِ

فصل

لِلِاسْتِقَاءِ، أَوْ لِاجْتِمَاعِ مَاءِ الْمَطَرِ. فَإِنْ أَذِنَ فِيهِ الْوَالِي؛ فَلَا ضَمَانَ؛ وَإِلَّا فَالْأَظْهَرُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ. وَأَشَارَ فِي الْقَدِيمِ إِلَى وُجُوبِهِ. وَإِنْ حَفَرَ لِغَرَضِ نَفْسِهِ؛ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، ضُمِنَ؛ وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَا سَبَقَ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ أَنَّ الْأَصَحَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ الْإِمَامُ مِنَ الشَّوَارِعِ مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَأَنَّ لِلْمُقْطَعِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ. فَرْعٌ الْحَفْرُ فِي الْمَسْجِدِ كَالْحَفْرِ فِي الشَّارِعِ؛ فَلَوْ بَنَى مَسْجِدًا فِي شَارِعٍ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارُّونَ جَازَ؛ فَلَوْ تَعَثَّرَ بِهِ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، أَوْ سَقَطَ جِدَارُهُ عَلَى إِنْسَانٍ أَوْ مَالٍ فَأَهْلَكَهُ فَلَا ضَمَانَ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ الْجَدِيدِ. وَلَوْ بَنَى سَقْفَ مَسْجِدٍ أَوْ نَصَبَ فِيهِ عِمَادًا، أَوْ طَيَّنَ جِدَارَهُ أَوْ عَلَّقَ فِيهِ قِنْدِيلًا؛ فَسَقَطَ عَلَى إِنْسَانٍ أَوْ مَالٍ فَأَهْلَكَهُ، أَوْ فَرَشَ فِيهِ حَصِيرًا، أَوْ حَشِيشًا؛ فَزَلِقَ بِهِ إِنْسَانٌ فَهَلَكَ، أَوْ دَخَلَتْ شَوْكَةٌ مِنْهُ فِي عَيْنِهِ فَذَهَبَ بِهَا بَصَرُهُ؛ فَإِنْ جَرَى ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ مُتَوَلِّي أَمْرِ الْمَسْجِدِ؛ فَلَا ضَمَانَ؛ وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ أَيْضًا عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ. وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَهْلُ الْمَحِلَّةِ ضُمِنَ. قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَمِثْلُ هَذَا لَوْ وَضَعَ دِنًّا عَلَى بَابِهِ لِيَشْرَبَ النَّاسُ مِنْهُ؛ فَإِنْ وَضَعَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، يَعْنِي أَصَحُّهُمَا لَا ضَمَانَ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَنَى دَكَّةً عَلَى بَابِ دَارِهِ فَهَلَكَ بِهَا شَيْءٌ؛ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الشَّارِعِ، وَفِي مِلْكِ نَفْسِهِ. وَالْقَوْلُ

فِي التَّصَرُّفِ فِي الشَّارِعِ سَبَقَ بَعْضُهُ فِي الصُّلْحِ وَفِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَيُذْكَرُ هُنَا بَقِيَّتُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا يَجُوزُ إِشْرَاعُ الْأَجْنِحَةِ الَّتِي تَضُرُّ بِالْمَارَّةِ إِلَى الشَّارِعِ؛ فَلَوْ فَعَلَ مُنِعَ. وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنْ هَلَاكٍ يَكُونُ مَضْمُونًا. فَإِنْ كَانَ الْجَنَاحُ عَالِيًا غَيْرَ مُضِرٍّ؛ فَلَا مَنْعَ مِنْ إِشْرَاعِهِ، وَكَذَا بِنَاءُ السَّابَاطِ الْعَالِي؛ لَكِنْ لَوْ تَوَلَّدَ مِنْهُ هَلَاكُ إِنْسَانٍ؛ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ هَلَكَ بِهِ مَالٌ؛ وَجَبَ الضَّمَانُ فِي مَالِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ الْإِمَامُ أَمْ لَا، وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا إِلَى دَرْبٍ مُنْسَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهِ؛ ضَمِنَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْهُ، وَبِإِذْنِ أَهْلِهِ لَا ضَمَانَ؛ كَالْحَفْرِ فِي دَارِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ. الثَّانِيَةُ: يَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مِلْكِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا ضَمَانَ فِيمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ بِشَرْطِ جَرَيَانِهِ عَلَى الْعَادَةِ وَاجْتِنَابِ الْإِسْرَافِ؛ فَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ نَصَبَ شَبَكَةً أَوْ سِكِّينًا، وَتَعَثَّرَ بِهِ إِنْسَانٌ فَهَلَكَ، أَوْ عَلَى طَرَفِ سَطْحِهِ، فَوَقَعَ عَلَى شَخْصٍ، أَوْ عَلَى مَالٍ، أَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ جَرَّةَ مَاءٍ؛ فَأَلْقَتْهَا الرِّيحُ، أَوِ ابْتَلَّ مَوْضِعُهَا فَسَقَطَتْ؛ فَلَا ضَمَانَ. وَكَذَا لَوْ وَقَفَ دَابَّةً فِي مِلْكِهِ فَرَفَسَتْ إِنْسَانًا أَوْ بَالَتْ فَأَفْسَدَتْ بِهِ ثَوْبًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ خَارِجُ الْمِلْكِ، أَوْ كَانَ يَكْسِرُ الْحَطَبَ فِي مِلْكِهِ، فَأَصَابَ شَيْءٌ مِنْهُ عَيْنَ إِنْسَانٍ فَأَبْطَلَ ضَوْءَهَا؛ فَلَا ضَمَانَ، وَكَذَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ فَتَنَدَّى جِدَارُ جَارِهِ فَانْهَدَمَ، أَوْ غَارَ مَاءُ بِئْرِهِ أَوْ حَفَرَ بَالُوعَةً فَتَغَيَّرَ مَاءُ بِئْرِ الْجَارِ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُلَّاكَ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا بِخِلَافِ الْإِشْرَاعِ إِلَى الشَّارِعِ؛ فَإِنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنْهُ. وَلَوْ قَصَّرَ فَخَالَفَ الْعَادَةَ فِي سِعَةِ الْبِئْرِ ضَمِنَ؛ فَإِنَّهُ إِهْلَاكٌ، وَلْيَكُنْ كَذَلِكَ إِذَا قَرَّبَ الْحَفْرَ مِنَ الْجِدَارِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَيَمْنَعُ مِنْ وَضْعِ السِّرْجِينِ فِي أَصْلِ حَائِطِ الْجَارِ، وَلَوْ أَوْقَدَ نَارًا فِي مِلْكِهِ، أَوْ عَلَى سَطْحِهِ؛ فَطَارَ الشَّرَرُ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ؛ فَلَا ضَمَانَ إِلَّا أَنْ

يُخَالِفَ الْعَادَةَ فِي قَدْرِ النَّارِ الْمُوقَدَةِ، أَوْ يُوقِدُ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَطَرْحِ النَّارِ فِي دَارِ غَيْرِهِ؛ فَيَضْمَنُ؛ فَإِنْ عَصَفَتِ الرِّيحُ بَغْتَةً بَعْدَمَا أَوْقَدَ؛ فَهُوَ مَعْذُورٌ. وَلَوْ سَقَى أَرْضَهُ؛ فَخَرَجَ الْمَاءُ مِنْ جُحْرِ فَأْرَةٍ أَوْ شِقٍّ؛ فَدَخَلَ أَرْضَ غَيْرِهِ، فَأَفْسَدَهُ زَرْعَهُ؛ فَلَا ضَمَانَ إِلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْعَادَةَ فِي قَدْرِ الْمَاءِ، أَوْ كَانَ عَالِمًا بِالْجُحْرِ أَوِ الشِّقِّ، فَلَمْ يَحْتَطْ. وَلَوْ حَفَرَ الْبِئْرَ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ وَلَمْ يَطَأْهَا، وَمِثْلُهَا تَنْهَارُ إِذَا لَمْ تُطْوَ، كَانَ مُقَصِّرًا، كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَعَةِ الْبِئْرِ؛ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِاحْتِيَاطِ حَيْثُ جَوَّزْنَا حَفْرَ الْبِئْرِ فِي الشَّارِعِ. الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمِيزَابِ إِلَى الشَّارِعِ، وَلْيَكُنْ عَالِيًا؛ كَالْجَنَاحِ؛ فَلَوْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهَلَكَ بِهِ إِنْسَانٌ أَوْ مَالٌ فَقَوْلَانِ: الْقَدِيمُ: لَا ضَمَانَ، وَالْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: يُضْمَنُ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمِيزَابُ كُلُّهُ خَارِجًا بِأَنْ سَمُرَ عَلَيْهِ، تَعَلَّقَ بِهِ جَمِيعُ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ فِي الْجِدَارِ، وَبَعْضُهُ خَارِجًا؛ فَإِنِ انْكَسَرَ، فَسَقَطَ الْخَارِجُ، أَوْ بَعْضُهُ؛ تَعَلَّقَ بِهِ جَمِيعُ الضَّمَانِ أَيْضًا. وَإِنِ انْقَلَعَ مِنْ أَصْلِهِ؛ فَوَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ نِصْفُ الضَّمَانِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ بِقِسْطِ الْخَارِجِ، وَيَكُونُ التَّقْسِيطُ بِالْوَزْنِ، وَقِيلَ: بِالْمِسَاحَةِ، وَسَوَاءٌ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ أَوِ الْخَارِجُ، لِأَنَّ الْهَلَاكَ يَحْصُلُ بِثِقْلِ الْجَمِيعِ، وَالْحُكْمُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّضْمِينِ إِذَا حَصَلَ الْهَلَاكُ بِجَنَاحٍ مَشْرُوعٍ؛ إِمَّا بِالْخَارِجِ مِنْهُ، وَإِمَّا بِالْخَارِجِ وَالدَّاخِلِ جَمِيعًا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمِيزَابِ بِلَا فَرْقٍ.

فَرْعٌ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ رَشَّ مَاءَ الْمِيزَابِ عَلَى ثَوْبِ إِنْسَانٍ؛ ضَمِنَ مَا يَنْقُصُ. الرَّابِعَةُ: الْجِدَارُ الْمُلَاصِقُ لِلشَّارِعِ إِنْ بَنَاهُ صَاحِبُهُ مُسْتَوِيًا؛ فَسَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ وَلَا اسْتِهْدَامٍ وَتَوَلَّدَ مِنْهُ هَلَاكٌ؛ فَلَا ضَمَانَ، وَلَوْ بَنَاهُ مَائِلًا إِلَى مِلْكِهِ، أَوْ مَالَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ وَسَقَطَ فَلَا ضَمَانَ أَيْضًا. وَإِنْ بَنَاهُ مَائِلًا إِلَى الشَّارِعِ، وَجَبَ ضَمَانُ مَا تَوَلَّدَ مِنْ سُقُوطِهِ، وَإِنْ بَنَاهُ مُسْتَوِيًا ثُمَّ مَالَ إِلَى الشَّارِعِ وَسَقَطَ. فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَدْمِهِ وَإِصْلَاحِهِ؛ فَلَا ضَمَانَ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ تَمَكَّنَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ سَقَطَ إِلَى الشَّارِعِ؛ فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى هَلَكَ بِهِ إِنْسَانٌ أَوْ مَالٌ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ الْوَالِي، أَوْ غَيْرُهُ بِالنَّقْضِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُطَالِبَ؛ لِأَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ بِلَا مَيْلٍ، وَالْهَلَاكُ حَصَلَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ. وَإِذَا وَجَبَ ضَمَانٌ فِي الْبِنَاءِ الْمَائِلِ ابْتِدَاءً أَوْ دَوَامًا؛ فَلَوْ مَالَ بَعْضُهُ نُظِرَ، هَلْ حَصَلَ التَّلَفُ بِرَأْسِهِ الْمَائِلِ، أَمْ بِالْبَاقِي عَلَى الِاسْتِوَاءِ أَمْ بِالْجَمِيعِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمِيزَابِ. فَرْعٌ إِذَا بَاعَ نَاصِبُ الْمِيزَابِ، أَوْ بَانِي الْجِدَارِ الْمَائِلِ الدَّارَ، لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الضَّمَانِ؛ حَتَّى لَوْ سَقَطَ عَلَى إِنْسَانٍ فَهَلَكَ بِهِ؛ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ؛ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ لَوْ أَرَادَ الْجَارُ أَنْ يَبْنِيَ جِدَارَهُ الْخَالِصَ أَوِ الْمُشْتَرِكَ مَائِلًا إِلَى مِلْكِ الْجَارِ؛ فَلَهُ الْمَنْعُ، وَإِنْ مَالَ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالنَّقْصِ، كَمَا إِذَا انْتَشَرَتْ

أَغْصَانُ شَجَرَتِهِ إِلَى هَوَاءِ غَيْرِهِ؛ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِإِزَالَتِهَا؛ فَلَوْ تَوَلَّدَ مِنْهُ هَلَاكٌ؛ فَالضَّمَانُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا مَالَ إِلَى الشَّارِعِ. فَرْعٌ لَوِ اسْتَهْدَمَ الْجِدَارُ وَلَمْ يَمِلْ، قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يُطَالِبُ بِنَقْضِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ مِلْكَهُ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ لِلْجَارِ وَلِلْمَارَّةِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لِمَا يُخَافُ مِنْ ضَرَرِهِ، وَأَوْرَدَ ابْنُ الصَّبَّاغِ هَذَا احْتِمَالًا عَلَى الْأَوَّلِ لَا ضَمَانَ فِيمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ كَمَا لَوْ مَالَ؛ فَلَمْ يَنْقُضْهُ. الْخَامِسَةُ: قُمَامَةُ الْبَيْتِ، وَقُشُورُ الْبِطِّيخِ، وَالرُّمَّانِ، وَالْبَاقِلَّاءِ إِذَا طَرَحَهَا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ؛ فَزَلِقَ بِهَا إِنْسَانٌ فَهَلَكَ أَوْ تَلِفَ بِهَا مَالٌ فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ طَرَحَهَا فِي الطَّرِيقِ فَحَصَلَ بِهَا تَلَفٌ؛ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: لَا ضَمَانَ لِاطِّرَادِ الْعُرْفِ بِالْمُسَامَحَةِ بِهِ مَعَ الْحَاجَةِ، وَقِيلَ: إِنْ أَلْقَاهَا فِي مَتْنِ الطَّرِيقِ ضَمِنَ، وَإِنْ أَلْقَاهَا فِي مُنْعَطَفٍ وَطَرَفٍ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْمَارَّةُ غَالِبًا فَلَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِالضَّمَانِ بِالْإِلْقَاءِ فِي مَتْنِ الطَّرِيقِ، وَتَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِالْإِلْقَاءِ عَلَى الطَّرَفِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: قَدْ يُوجَدُ بَيْنَ الْعِمَارَاتِ مَوَاضِعُ مُعَدَّةٌ لِلْإِلْقَاءِ فِيهَا تُسَمَّى تِلْكَ الْمَوَاضِعُ السَّبَاطَاتُ وَالْمَزَابِلُ، وَتُعَدُّ مِنَ الْمَرَافِقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ سُكَّانِ الْبُقْعَةِ؛ فَيُشْبِهُ أَنْ يَقْطَعَ بِنَفْيِ الضَّمَانِ إِذَا كَانَ الْإِلْقَاءُ فِيهَا؛ فَإِنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ وَيَخُصُّ الْخِلَافُ بِغَيْرِهَا وَإِذَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ؛ فَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُتَعَثِّرُ بِهَا جَاهِلًا. أَمَّا إِذَا مَشَى عَلَيْهَا قَصْدًا؛ فَلَا ضَمَانَ كَمَا لَوْ نَزَلَ الْبِئْرَ فَسَقَطَ. فَرْعٌ لَوْ رَشَّ الْمَاءَ فِي الطَّرِيقِ؛ فَزَلِقَ بِهِ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ؛ فَإِنْ رَشَّ

لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ؛ كَدَفْعِ الْغُبَارِ عَنِ الْمَارَّةِ؛ فَلْيَكُنْ كَحَفْرِ الْبِئْرِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَجَبَ الضَّمَانُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي طَرْحِ الْقُشُورِ، وَلَوْ جَاوَزَ الْقَدْرَ الْمُعْتَادَ فِي الرَّشِّ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَجَبَ الضَّمَانُ قَطْعًا؛ كَمَا لَوْ بَلَّ الطِّينَ فِي الطَّرِيقِ؛ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ. فَرْعٌ لَوْ بَنَى عَلَى بَابِ دَارِهِ دَكَّةً فَتَلِفَ بِهَا إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ؛ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَكَذَا الطَّوَّافُ إِذَا وَضَعَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ؛ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ؛ لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا لَوْ وُضِعَ عَلَى طَرَفِ حَانُوتِهِ. فَرْعٌ لَوْ بَالَتْ دَابَّتُهُ، أَوْ رَاثَتْ، فَزَلِقَ بِهِ رَجُلٌ أَوْ دَابَّةٌ، أَوْ تَطَايَرَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى طَعَامِ إِنْسَانٍ فَنَجَّسَهُ نُظِرَ، إِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ فِي مِلْكِهِ؛ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ رَبَطَهَا فِي الطَّرِيقِ فَأُتْلِفَتْ فَحُكْمُهُ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ كِتَابِ مُوجِبَاتِ الضَّمَانِ. وَلَوْ مَشَى قَصْدًا عَلَى مَوْضِعِ الرَّشِّ أَوِ الْبَوْلِ فَلَا ضَمَانَ. السَّادِسَةُ: أَسْنَدَ خَشَبَةً إِلَى جِدَارٍ، فَسَقَطَ الْجِدَارُ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ؛ إِنْ كَانَ الْجِدَارُ لِغَيْرِ الْمُسْنَدِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْجِدَارِ وَمَا سَقَطَ عَلَيْهِ؛ سَوَاءٌ سَقَطَ عَقِبَ الْإِسْنَادِ أَمْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْجِدَارُ لِلْمُسْنِدِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ أُذِنَ لَهُ فِي الْإِسْنَادِ، لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ الْجِدَارِ، وَفِي ضَمَانِ مَا سَقَطَ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ وَأَبُو زَيْدٍ،

إِنْ سَقَطَ فِي الْحَالِ، ضَمِنَ؛ كَمَا لَوْ أَسْقَطَ جِدَارًا عَلَى مَالِ رَجُلٍ، وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ زَمَانٍ، لَمْ يَضْمَنْ؛ كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ. وَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ فِي الْحَالَيْنِ، كَمَا لَا يَضْمَنُ مَا سَقَطَ فِي الْبِئْرِ فِي الْحَالَيْنِ؛ فَإِنْ ضَمِنَاهُ إِذَا سَقَطَ فِي الْحَالِ؛ فَلَمْ يَسْقُطْ؛ لَكِنَّهُ مَالَ فِي الْحَالِ إِلَى الشَّارِعِ، ثُمَّ سَقَطَ بَعْدَ مُدَّةٍ، وَجَبَ الضَّمَانُ؛ كَمَا لَوْ بَنَى الْجِدَارَ مَائِلًا؛ لِأَنَّهُ مَالَ بِفِعْلِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ مَالَ فِي الدَّوَامِ بِنَفْسِهِ. السَّابِعَةُ: نَخَسَ دَابَّةً أَوْ ضَرَبَهَا مُغَافَصَةً فَقَفَزَتْ وَرَمَتْ رَاكِبَهَا، فَمَاتَ أَوْ أَتْلَفَتْ مَالًا، وَجَبَ الضَّمَانُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: فَإِنْ كَانَ النَّخْسُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلَوْ غَلَبَتْهُ دَابَّتُهُ؛ فَاسْتَقْبَلَهَا رَجُلٌ وَرَدَّهَا، فَأُتْلِفَتْ فِي انْصِرَافِهَا؛ فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّادِّ. فَرْعٌ رِجْلٌ حَمَلَ رَجُلًا؛ فَجَاءَ فَقَرَصَ الْحَامِلَ، أَوْ ضَرَبَهُ؛ فَتَحَرَّكَ؛ فَسَقَطَ الْمَحْمُولُ عَنْ ظَهْرِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ كَمَا لَوْ أَكْرَهَ الْحَامِلَ عَلَى إِلْقَائِهِ عَنْ ظَهْرِهِ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي اجْتِمَاعِ سَبَبَيْنِ. فَمَتَى اجْتَمَعَ سَبَبَا هَلَاكٍ؛ قُدِّمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ الْمُهْلِكُ؛ إِمَّا بِنَفْسِهِ؛ وَإِمَّا بِوَسَاطَةِ الثَّانِي؛ فَأَشْبَهَ التَّرْدِيَةَ مَعَ الْحَفْرِ؛ فَإِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ، أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا، وَوَضَعَ آخَرُ حَجَرًا فَتَعَثَّرَ بِالْحَجْرِ فَوَقَعَ عَلَى مُؤَخَّرِ السِّكِّينِ، أَوْ فِي مُقَدَّمِ الْبِئْرِ فَمَاتَ؛ فَالضَّمَانُ يَتَعَلَّقُ بِوَاضِعِ الْحَجَرِ. وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَتَعَلَّقُ بِنَاصِبِ السِّكِّينِ إِذَا كَانَتْ قَاطِعَةً مُوحِيَةً، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ التَّعَثُّرَ بِالْحَجَرِ هُوَ الَّذِي أَلْجَأَهُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ، أَوْ عَلَى السِّكِّينِ؛ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ فَرَدَّاهُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ سِكِّينٌ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ رَجُلٌ إِنْسَانًا؛ وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ

عَلَى الْمُلْقِي. وَلَوْ أَهْوَى إِلَيْهِ مَنْ فِي يَدِهِ سِكِّينٌ وَوَجْهُهُ نَحْوَهُ حِينَ أَلْقَاهُ الْمُلْقِي كَانَ الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ، هَذَا إِذَا كَانَا مُتَعَدِّيَيْنِ. فَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا فِي مِلْكِهِ، وَوَضَعَ مُتَعَدٍّ حَجَرًا فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالْحَجَرِ، وَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ، أَوْ عَلَى السِّكِّينِ؛ فَالضَّمَانُ أَيْضًا عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ. وَلَوْ وَضَعَ حَجْرًا فِي مِلْكِهِ وَحَفَرَ مُتَعَدٍّ هُنَاكَ بِئْرًا، أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا؛ فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالْحَجَرِ، وَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ أَوْ عَلَى السِّكِّينِ؛ فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِالْحَافِرِ وَنَاصِبِ السِّكِّينِ؛ فَإِنَّهُ الْمُتَعَدِّي. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَافِرِ وَالنَّاصِبِ ضَمَانٌ؛ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا فِي مَسْأَلَةِ السَّيْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ قَالَ: لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ، وَنَصَبَ غَيْرُهُ فِيهَا حَدِيدَةً، فَوَقَعَ رَجُلٌ فِي الْبِئْرِ فَجَرَحَتْهُ الْحَدِيدَةُ وَمَاتَ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَرْعٌ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ، وَحَصَلَ حَجَرٌ عَلَى طَرَفِ الْبِئْرِ بِحَمْلِ السَّيْلِ، أَوْ بِوَضْعِ حَرْبِيٍّ أَوْ سَبْعٍ، فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالْحَجْرِ؛ فَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ فَهَلَكَ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ، كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ الْحَرْبِيُّ، أَوِ السَّبْعُ فِي الْبِئْرِ. وَقِيلَ: يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ حُفِرَ بِئْرٌ عُدْوَانًا، وَنَصَبَ آخَرُ فِي أَسْفَلِهَا سِكِّينًا فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: عَلَى نَاصِبِ السِّكِّينِ. فَرْعٌ حَفَرَ بِئْرًا قَرِيبَةَ الْعُمْقِ؛ فَعَمَّقَهَا غَيْرُهُ؛ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَخْتَصُّ الْأَوَّلُ بِضَمَانِ التَّالِفِ فِيهَا، وَأَصَحُّهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِهِمَا؛ وَعَلَى هَذَا هَلْ يَتَنَصَّفُ، أَمْ يُوَزَّعُ عَلَى الْأَذْرُعِ الَّتِي حَفَرَاهَا؟ وَجْهَانِ:

فصل

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: التَّنْصِيفُ كَالْجِرَاحَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا وَطَمَّهَا، فَأَخْرَجَ غَيْرُهُ مَا طُمَّتْ بِهِ؛ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ ضَمَانُ التَّالِفِ فِيهَا بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ الْمُبْتَدِئُ، أَمْ بِالثَّانِي لِانْقِطَاعِ أَثَرِ الْأَوَّلِ بِالطَّمِّ؟ وَجْهَانِ: قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ وَضَعَ زَيْدٌ حَجَرًا فِي طَرِيقٍ، وَآخَرَانِ حَجَرًا بِجَنْبِهِ؛ فَتَعَثَّرَ بِهِمَا إِنْسَانٌ وَمَاتَ؛ فَالْأَصَحُّ تَعَلُقُّ الضَّمَانِ بِهِمْ أَثْلَاثًا؛ كَالْجِرَاحَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِزَيْدٍ نِصْفُهُ، وَبِالْآخَرَيْنِ نِصْفُهُ. فَصْلٌ وَضْعُ الْحَجَرِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِهِ إِذَا عَثَرَ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَهُ كَمَا سَبَقَ؛ فَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي طَرِيقٍ، فَعَثَرَ بِهِ رَجُلٌ وَدَحْرَجَهُ، ثُمَّ عَثَرَ بِهِ ثَانٍ فَهَلَكَ؛ فَضَمَانُ الثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِالْمُدَحْرَجِ؛ لِأَنَّ الْحَجَرَ إِنَّمَا حَصَلَ هُنَاكَ بِفِعْلِهِ. فَرْعٌ مَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعٍ أَوْ نَامَ أَوْ وَقَفَ، فَعَثَرَ بِهِ مَاشٍ، وَمَاتَا أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ قُعُودُهُ فِي مِلْكِهِ، وَدَخَلَهُ الْمَاشِي بِلَا إِذْنٍ؛ فَالْمَاشِي مُهْدَرٌ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الْقَاعِدِ وَالْوَاقِفِ، وَكَذَا لَوْ قَعَدَ، أَوْ وَقَفَ فِي مَوَاتٍ أَوْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارَّةُ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَاعِدُ أَوِ الْوَاقِفُ بَصِيرًا أَوْ أَعْمَى، كَمَا لَوْ قَتَلَ شَخْصًا أَمْكَنَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ. وَإِنْ قَعَدَ أَوْ نَامَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارَّةُ فَعَثَرَ بِهِ الْمَاشِي وَمَاتَا؛ فَفِيهِ طُرُقٌ: الْمَذْهَبُ مِنْهَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: أَنَّ دَمَ الْقَاعِدِ وَالنَّائِمِ مُهْدَرٌ؛

وَعَلَى عَاقِلَتِهِمَا دِيَةُ الْمَاشِي، وَأَنَّهُ إِذَا عَثَرَ بِالْوَاقِفِ، كَانَ دَمُ الْمَاشِي مُهْدَرًا وَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الْوَاقِفِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى الْوُقُوفِ لِكَلَالٍ، أَوِ انْتِظَارِ رَفِيقٍ، أَوْ سَمَاعِ كَلَامٍ، فَالْوُقُوفُ مِنْ مَرَافِقِ الطَّرِيقِ كَالْمَشْيِ؛ لَكِنَّ الْهَلَاكَ حَصَلَ بِحَرَكَةِ الْمَاشِي، فَخُصَّ بِالضَّمَانِ وَالْقُعُودِ وَالنَّوْمِ لَيْسَا مِنْ مَرَافِقِ الطَّرِيقِ؛ فَمَنْ فَعَلَهُمَا فَقَدْ تَعَدَّى وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ. وَالثَّانِي: وُجُوبُ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: يُهْدَرُ دَمُ الْقَاعِدِ وَالنَّائِمِ وَالْوَاقِفِ، وَتَجِبُ دِيَةُ الْمَاشِي عَلَى عَاقِلَتِهِمْ. وَالرَّابِعُ: يُهْدَرُ دَمُ الْمَاشِي، وَتَجِبُ دِيَةُ هَؤُلَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِحَرَكَتِهِ، كَمَا لَوْ تَرَدَّدَ الْأَعْمَى فِي الطَّرِيقِ بِلَا قَائِدٍ فَأُتْلِفُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْوَاقِفِ فِعْلٌ؛ فَإِنْ وَجَدْنَا بِأَنِ انْحَرَفَ إِلَى الْمَاشِي لَمَّا قَرُبَ مِنْهُ، فَأَصَابَهُ فِي انْحِرَافِهِ فَمَاتَا؛ فَهُمَا كَمَاشِيَيْنِ اصْطَدَمَا، وَسَيَأْتِي حُكْمُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوِ انْحَرَفَ عَنْهُ فَأَصَابَهُ فِي انْحِرَافِهِ، أَوِ انْصَرَفَ إِلَيْهِ فَأَصَابَهُ بَعْدَ تَمَامِ انْحِرَافِهِ؛ فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانَ وَاقِفًا لَا يَتَحَرَّكُ. وَلَوْ جَلَسَ فِي مَسْجِدٍ فَعَثَرَ بِهِ إِنْسَانٌ وَمَاتَا؛ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَاشِي دِيَةُ الْجَالِسِ، وَيُهْدَرُ دَمُ الْمَاشِي، كَمَا لَوْ جَلَسَ فِي مِلْكِهِ فَعَثَرَ بِهِ مَاشٍ، وَلَوْ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَكِفًا؛ فَكَذَلِكَ، وَلَوْ جَلَسَ لِأَمْرٍ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهُ، أَوْ نَامَ غَيْرَ مُعْتَكِفٍ؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ نَامَ فِي الطَّرِيقِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ حَيْثُ أَطْلَقَ الضَّمَانَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَمَا قَبْلَهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْحَافِرِ، أَوْ وَاضِعِ الْحَجَرِ، أَوِ الْقَاعِدِ، وَنَاصِبِ الْمِيزَابِ وَالْجَنَاحِ، وَمُلْقِي الْقُمَامَةِ، وَقِشْرِ الْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِمْ. فَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِهِمْ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ.

فصل

فَصْلٌ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ وَاحِدٌ خَلْفَ وَاحِدٍ فَهَلَكُوا، أَوْ هَلَكَ بَعْضُهُمْ؛ فَلَهُ حَالَانِ: الْأُولَى: أَنْ يَقَعَ الثَّانِي بِغَيْرِ جَذْبِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ، فَالثَّانِي ضَامِنٌ؛ فَإِنْ تَعَمَّدَ إِلْقَاءَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ يَقْتُلُ مِثْلَهُ غَالِبًا لِضَخَامَتِهِ وَعُمْقِ الْبِئْرِ وَضِيقِهَا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. وَإِنْ تَعَمَّدَهُ لَكِنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا؛ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ. وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ وَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وُقُوعَ الْأَوَّلِ؛ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. ثُمَّ أَطْلَقَ مُطْلِقُونَ أَنَّهُ إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ؛ وَجَبَتْ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا عَلَى الثَّانِي نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَبِوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى الْحَافِرِ؛ إِنْ كَانَ الْحَفْرُ عُدْوَانًا؛ وَإِلَّا فَمُهْدَرٌ. وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِ. لَكِنْ لَوْ نَزَلَ الْأَوَّلُ إِلَى الْبِئْرِ وَلَمْ يَنْصَدِمْ؛ فَوَقَعَ عَلَيْهِ الثَّانِي؛ تَعَلَّقَ بِوُقُوعِهِ كُلُّ الدِّيَةِ. أَمَّا إِذَا مَاتَ الثَّانِي؛ فَإِنْ تَعَمَّدَ إِلْقَاءِ النَّفْسِ فِيهَا، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَفْرُ عُدْوَانًا؛ فَهُوَ هَدَرٌ؛ وَإِلَّا تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِعَاقِلَةِ الْحَافِرِ. وَإِنْ مَاتَا مَعًا؛ فَالْحُكْمُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ تَرَدَّى فِي الْبِئْرِ ثَلَاثَةٌ؛ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ دِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَالثَّانِي: يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا ثُلْثَا الدِّيَةِ، وَالثُّلْثُ الْبَاقِي عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا؛ وَإِلَّا فَهُوَ هَدَرٌ. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقَعَ الثَّانِي فِي الْبِئْرِ بِجَذْبِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا تَزَلَّقَ عَلَى طَرَفِ بِئْرٍ، فَجَذَبَ غَيْرَهُ وَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ، وَوَقْعَ الثَّانِي فَوْقَهُ فَمَاتَا؛ فَالثَّانِي هَلَكَ بِجَذْبِ الْأَوَّلِ؛ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ وَأَلْقَاهُ فِي الْبِئْرِ إِلَّا أَنَّهُ قَصَدَ

الِاسْتِمْسَاكَ وَالتَّحَرُّزَ عَنِ الْوُقُوعِ؛ فَكَانَ مُخْطِئًا؛ فَيَجِبُ ضَمَانُ الثَّانِي عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ عُدْوَانًا فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يُحْكَى عَنِ الْخُضَرِيِّ: أَنَّهُ مُهْدَرٌ، وَأَصَحُّهُمَا: تَجِبُ نِصْفُ دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ وَيُهْدَرُ النِّصْفُ، لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبَيْنِ: صَدْمَةُ الْبِئْرِ وَثِقَلُ الثَّانِي مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَفْرُ عُدْوَانًا؛ فَالْأَوَّلُ مُهْدَرٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلْيَحْمِلْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ إِطْلَاقَ مَنْ أَطْلَقَ إِهْدَارَ الْأَوَّلِ؛ وَقَدْ أَطْلَقَهُ كَثِيرُونَ. وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَجَذَبَ الثَّانِي ثَالِثًا، وَمَاتُوا جَمِيعًا فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: تُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِهِ لِجَذْبِهِ الثَّانِي، وَيَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي لِجَذْبِهِ الثَّالِثَ. وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْحَفْرِ مَعَ الْجَذْبِ؛ وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ مَاتَ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: صَدْمَةُ الْبِئْرِ وَثِقَلُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ فَهَدَرَ ثُلْثُ الدِّيَةِ لِجَذْبِهِ الثَّانِي، ثُمَّ يَنْظُرُ إِنْ كَانَ الْحَفْرُ عُدْوَانًا، وَجَبَ ثُلْثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ، وَثُلْثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي بِجَذْبِهِ الثَّالِثِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَفْرُ عُدْوَانًا، أُهْدِرَ ثُلْثٌ آخَرُ وَوَجَبَ ثُلْثٌ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي، وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: مَاتَ بِالْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ وَبِجَذْبَةِ الثَّانِي؛ فَيُهْدِرُ نِصْفَ دِيَةٍ، وَيَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ، وَأَعْرَضَ عَنْ تَأَثُّرِهِ بِثِقَلِ الثَّالِثِ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَمَاتَ بِجَذْبِ الْأَوَّلِ، وَبِثِقَلِ الثَّالِثِ؛ وَثِقَلُ الثَّالِثِ حَصَلَ بِفِعْلِهِ؛ فَيُهْدَرُ نِصْفٌ وَيَجِبُ نِصْفٌ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَتَجِبُ جَمِيعُ دِيَتِهِ عَلَى الثَّانِي عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ وَالْمُرَادُ عَاقِلَتُهُمَا. وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ بِحَالِهَا وَجَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا وَمَاتُوا؛ وَجَبَ جَمِيعُ دِيَةِ الرَّابِعِ بِلَا خِلَافٍ. وَهَلْ تَتَعَلَّقُ بِالثَّالِثِ وَحْدَهُ أَمْ بِالثَّلَاثَةِ؟ وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَأَمَّا دِيَاتُ الثَّلَاثَةِ فَفِيهَا أَوْجُهٌ؛ أَصَحُّهَا: أَنَّ الْأَوَّلَ مَاتَ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَابٍ: صَدْمَةُ الْبِئْرِ، وَثِقَلُ الثَّلَاثَةِ؛ فَيُهْدَرُ رُبُعُ دِيَتِهِ لِجَذْبِهِ الثَّانِي،

وَيَجِبُ الرُّبْعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ إِنْ كَانَ الْحَفْرُ عُدْوَانًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُدْوَانًا أُهْدِرَ أَيْضًا. وَيَجِبُ رُبُعٌ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي، وَرُبُعٌ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلَا أَثَرَ لِلْحَفْرِ فِي حَقِّهِ وَقَدْ مَاتَ بِجَذْبِ الْأَوَّلِ، وَثِقَلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ؛ فَيُهْدَرُ ثُلْثُ دِيَتِهِ، وَيَجِبُ ثُلْثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ وَثُلْثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمَاتَ بِجَذْبِ الثَّانِي وَثِقَلِ الرَّابِعِ؛ فَيُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَيَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي لَا يَجِبُ لِلْأَوَّلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ قَتْلَ نَفْسِهِ بِجَذْبِ الثَّانِي وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِهِ وَيَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَيُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِهِ وَيَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي؛ وَمُقْتَضَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَجِبَ لِلْأَوَّلِ فِي صُورَةِ الثَّلَاثَةِ شَيْءٌ أَصْلًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَاكَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ تُجْعَلُ دِيَةُ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا؛ فَيُهْدَرُ ثُلْثُ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَجِبُ الثُّلْثَانِ مِنْ دِيَةِ الْأَوَّلِ عَلَى عَاقِلَتَيِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَالثُّلْثَانِ مِنْ دِيَةِ الثَّانِي عَلَى عَاقِلَتَيِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، وَالثُّلْثَانِ مِنْ دِيَةِ الثَّالِثِ عَلَى عَاقِلَتَيِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي: يَجِبُ لِلْأَوَّلِ رُبُعُ الدِّيَةِ إِنْ كَانَ الْحَافِرُ مُتَعَدِّيًا، وَلِلثَّانِي الثُّلْثُ، وَلِلثَّالِثِ النِّصْفُ لِلْقِصَّةِ الْمَرْوِيَّةِ مِنْ قَضَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذَا وَإِمْضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا وَقَعَ الثَّلَاثَةُ أَوِ الْأَرْبَعَةُ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ؛ أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ وَاسِعَةً وَجَذَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَكِنْ وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي نَاحِيَةٍ؛ فَدِيَةُ كُلِّ مَجْذُوبٍ عَلَى عَاقِلَةِ جَاذِبِهِ وَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا. وَمَنْ وَجَبَتْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ دِيَةُ بَعْضِهِمْ أَوْ بَعْضِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ. وَيَقَعُ النَّظَرُ فِي أَنَّهَا هَلْ تَتَجَزَّأُ؟ وَمَنْ أُهْدِرُ دَمُهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ لِفِعْلِهِ؛ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؟

الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِي اجْتِمَاعِ سَبَبَيْنِ مُتَقَاوِمَيْنِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِذَا اصْطَدَمَ حُرَّانِ مَاشِيَانِ، فَوَقَعَا وَمَاتَا؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ؛ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الْقَتْلَيْنِ؛ فَفِعْلُهُ هَدَرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَضْمُونٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ؛ فَالصَّحِيحُ أَنَّ فِي تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَتَجَزَّأُ، وَأَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَتَسْقُطُ نِصْفُ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَجِبُ نِصْفُهَا؛ ثُمَّ إِنْ لَمْ يَقْصِدَا الِاصْطِدَامَ بِأَنْ كَانَا أَعْمَيَيْنِ، أَوْ فِي ظُلْمَةٍ، أَوْ مُدْبِرَيْنِ، أَوْ غَافِلَيْنِ؛ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ؛ فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ. وَإِنْ تَعَمَّدَا الِاصْطِدَامَ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاصِلَ عَمْدٌ مَحْضٌ، وَيَجِبُ فِي مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ؛ قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ؛ وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» : أَنَّ الْحَاصِلَ شِبْهُ عَمْدٍ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الِاصْطِدَامَ لَا يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ؛ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ؛ فَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ مُغَلَّظَةً. الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْمُصْطَدِمَانِ رَاكِبَيْنِ؛ فَحُكْمُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا؛ فَلَوْ تَلِفَتِ الدَّابَّتَانِ؛ فَفِي تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ قِيمَةِ دَابَّةِ صَاحَبِهِ؛ وَلَوْ غَلَبَتْهُمَا الدَّابَّتَانِ، فَجَرَى الِاصْطِدَامُ وَالرَّاكِبَانِ مَغْلُوبَانِ؛ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَغْلُوبَ كَغَيْرِ الْمَغْلُوبِ كَمَا سَبَقَ. وَفِي قَوْلٍ أَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ أَنَّ هَلَاكَهُمَا وَهَلَاكَ الدَّابَّتَيْنِ هَدَرٌ؛ إِذْ لَا صُنْعَ لَهُمَا وَلَا اخْتِيَارَ؛ فَصَارَ كَالْهَلَاكِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ غَلَبَتِ الدَّابَّةُ رَاكِبَهَا أَوْ سَائِقَهَا، وَأَتْلَفَتْ مَالًا، هَلْ يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ؟ فَرْعٌ سَوَاءٌ فِي اصْطِدَامِ الرَّاكِبَيْنِ اتَّفَقَ جِنْسُ الْمَرْكُوبَيْنِ وَقُوَّتُهُمَا، أَمِ

اخْتَلَفَ، كَرَاكِبِ فَرَسٍ، أَوْ بَعِيرٍ مَعَ رَاكِبِ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ، وَسَوَاءٌ فِي اصْطِدَامِ الرَّجُلَيْنِ اتَّفَقَ سَيْرُهُمَا، أَوِ اخْتَلَفَ؛ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَمْشِي وَالْآخَرُ يَعْدُو، وَسَوَاءٌ كَانَا مُقْبِلَيْنِ، أَمْ مُدْبِرَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُقْبِلًا وَالْآخَرُ مُدْبِرًا. قَالَ الْإِمَامُ: لَكِنْ لَوْ كَانَتْ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ ضَعِيفَةً بِحَيْثُ يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِحَرَكَتِهَا مَعَ قُوَّةِ الدَّابَّةِ الْأُخْرَى؛ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِحَرَكَتِهَا حُكْمٌ؛ كَغَرْزِ الْإِبْرَةِ فِي جِلْدَةِ الْعَقِبِ مَعَ الْجِرَاحَاتِ الْعَظِيمَةِ؛ وَسَوَاءٌ وَقَعَ الْمُصْطَدِمَانِ مُقْبِلَيْنِ أَوْ مُسْتَلْقِيَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْتَلْقِيًا وَالْآخَرُ مُكِبًّا. وَعَنِ الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ أَحَدُهُمَا مُكِبًّا وَالْآخَرُ مُسْتَلْقِيًا؛ فَالْمُكِبُّ مُهْدَرٌ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ ضَمَانُ الْمُسْتَلْقِي، وَعَنِ ابْنِ الْقَاصِّ مِثْلُهُ تَخْرِيجًا؛ وَعَنْهُ أَنَّ الْمُكِبَّيْنِ مُهْدَرَانِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَلَوِ اصْطَدَمَ مَاشٍ وَرَاكِبٌ لِطُولِ الْمَاشِي وَهَلَكَا؛ فَالْحُكْمُ مَا سَبَقَ. فَرْعٌ تَجَاذَبَ رَجُلَانِ حَبْلًا؛ فَانْقَطَعَ فَسَقَطَا وَمَاتَا؛ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ، وَيُهْدَرُ النِّصْفُ؛ سَوَاءٌ وَقَعَا مُكِبَّيْنِ أَوْ مُسْتَلْقِيَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا هَكَذَا وَالْآخَرُ كَذَاكَ؛ لَكِنْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ أَكَبَّ أَحَدُهُمَا، وَاسْتَلْقَى الْآخَرُ؛ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْمُسْتَلْقِي نِصْفُ دِيَةِ الْمُكِبِّ مُغَلَّظَةً، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمُكِبِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْتَلْقِي مُخَفَّفَةً. وَهَذَا إِنْ صَحَّ اقْتَضَى أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ فِي الِاصْطِدَامِ؛ هَذَا إِذَا كَانَ الْحَبْلُ لَهُمَا أَوْ مَغْصُوبًا؛ فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ ظَالِمٌ؛ فَدَمُ الظَّالِمِ هَدَرٌ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ نِصْفُ دِيَةِ الْمَالِكِ. وَلَوْ أَرْخَى أَحَدُ الْمُتَجَاذِبَيْنِ؛ فَسَقَطَ الْآخَرُ، وَمَاتَ فَنِصْفُ دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُرْخِي وَيُهْدَرُ نِصْفُهَا. وَلَوْ قَطَعَ الْحَبْلَ قَاطِعٌ فَسَقَطَا وَمَاتَا؛ فَدِيَتَاهُمَا جَمِيعًا عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ.

فَرْعٌ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُهْدَرُ نِصْفُ قِيمَةِ الدَّابَّةِ وَيَجِبُ النِّصْفُ الْآخَرُ هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ لِلرَّاكِبِ؛ فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَعَارَةً أَوْ مُسْتَأْجَرَةً لَمْ يُهْدَرْ مِنْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ، وَكَذَا الْمُسْتَأْجَرُ إِذَا أَتْلَفَهُ الْمُسْتَأْجِرُ. الثَّالِثَةُ: إِذَا اصْطَدَمَ صَبِيَّانِ أَوْ مَجْنُونَانِ نُظِرَ؛ إِنْ كَانَا مَاشِيَيْنِ، أَوْ رَاكِبَيْنِ رَكِبَا بِأَنْفُسِهِمَا؛ فَهُمَا كَالْبَالِغِينَ إِلَّا أَنَّا إِذَا أَوْجَبْنَا هُنَاكَ دِيَةً مُغَلَّظَةً؛ فَهِيَ هُنَا مُخَفَّفَةٌ؛ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: عَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَمْدٌ. وَإِنْ أَرْكَبَهُمَا مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا؛ لَمْ يُهْدَرْ شَيْءٌ مِنْ دِيَتِهِمَا، وَلَا مِنْ قِيمَةِ الدَّابَّتَيْنِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الصَّبِيَّيْنِ، وَلَا عَلَى عَاقِلَتِهِمَا؛ بَلْ إِنْ كَانَ الْمُرَكِّبُ وَاحِدًا؛ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الدَّابَّتَيْنِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الصَّبِيَّيْنِ؛ وَإِنْ أَرْكَبَ هَذَا وَاحِدٌ وَذَاكَ آخَرُ؛ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ دَابَّةٍ. وَكَذَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْهُ دَابَّةُ مَنْ أَرْكَبَهُ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِيَتَيِ الصَّبِيَّيْنِ؛ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ الدَّارَكِيُّ وَابْنُ الْمَرْزُبَانِ: يَلْزَمُ عَاقِلَةُ كُلِّ مُرَكِّبٍ دِيَةُ مَنْ أَرْكَبَهُ؛ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هَذَا غَلَطٌ، قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : فَلَوْ تَعَمَّدَ الصَّبِيُّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ احْتُمِلَ أَنْ يُحَالَ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ إِذَا قُلْنَا: عَمْدُهُ عَمْدٌ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّسَبُّبِ؛ وَهَذَا احْتِمَالٌ حَسَنٌ. فَإِنْ قِيلَ بِهِ؛ فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ رَكِبَا بِأَنْفُسِهِمَا، وَالِاعْتِذَارُ عَنْهُ تَكَلُّفٌ، وَلَوْ وَقَعَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ؛ فَقَدْ أَطْلَقَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُرَكِّبِ الضَّمَانُ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ وَلَمْ يَشُدَّهُ؛ وَجَبَ الضَّمَانُ؛ وَإِنْ كَانَ يَسْتَمْسِكُ؛ فَإِنْ كَانَ يَنْقُلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ فَلَا ضَمَانَ؛ سَوَاءٌ أَرْكَبَهُ الْوَلِيُّ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ غَالِبًا. وَإِنْ أَرْكَبَهُ لِيَتَعَلَّمَ الْفُرُوسِيَّةَ؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَلِفَ فِي يَدِ السَّبَّاحِ. وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّفْصِيلِ نَظَرٌ. أَمَّا إِذَا أَرْكَبَهُمَا وَلِيَّاهُمَا لِمَصْلَحَتِهِمَا فَوَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَلِيِّ؛ كَمَا لَوْ

رَكِبَا بِأَنْفُسِهِمَا إِذْ لَا تَقْصِيرَ، وَالثَّانِي قَالَهُ الْقَفَّالُ: يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ فِي الْإِرْكَابِ خَطَرًا؛ هَكَذَا أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ الْوَجْهَيْنِ، وَخَصَّهُمَا الْإِمَامُ بِالْإِرْكَابِ لِزِينَةٍ أَوْ حَاجَةٍ غَيْرِ مُهِمَّةٍ؛ قَالَ: فَأَمَّا إِذَا مَسَّتْ حَاجَةٌ أَرْهَقَتْ إِلَى إِرْكَابِهِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى مَكَانٍ؛ فَلَا ضَمَانَ قَطْعًا، ثُمَّ الْوَجْهَانِ مَخْصُوصَانِ بِمَا إِذَا ظَهَرَ ظَنُّ السَّلَامَةِ؛ فَأَمَّا إِذَا أَرْكَبَهُ الْوَلِيُّ دَابَّةً شَرِسَةً جَمُوحًا؛ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ. الرَّابِعَةُ: اصْطِدَامُ الْمَرْأَتَيْنِ كَالرَّجُلَيْنِ؛ فَإِنِ اصْطَدَمَ حَامِلَانِ فَمَاتَتَا وَمَاتَ جَنِينَاهُمَا؛ وَجَبَ فِي تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ، وَعَدَمُ تَجْزِئَةِ الْكَفَّارَةِ؛ فَإِنْ لَمْ نُوجِبْهَا عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ، وَجَبَ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّجْزِئَةِ؛ وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَنْصَافِ كَفَّارَةٍ، وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبَتِهَا وَنِصْفُ غُرَّةِ كُلِّ جَنِينٍ. الْخَامِسَةُ: اصْطَدَمَ عَبْدَانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا؛ وَجَبَ نِصْفُ قِيمَتِهِ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَةِ الْحَيِّ، وَإِنْ مَاتَا فَمُهْدَرَانِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ؛ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ قِيمَتُهُمَا، أَمِ اخْتَلَفَتْ. وَإِنِ اصْطَدَمَ حُرٌّ وَعَبْدٌ وَمَاتَ الْعَبْدُ؛ فَنِصْفُهُ هَدَرٌ، وَتَجِبُ نِصْفُ قِيمَتِهِ. وَهَلْ تَكُونُ عَلَى الْحُرِّ أَمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ وَإِنْ مَاتَ الْحُرُّ؛ وَجَبَ نِصْفُ دِيَتِهِ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ؛ وَإِنْ مَاتَا مَعًا. فَإِنْ قُلْنَا: قِيمَةُ الْعَبْدِ لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ؛ وَجَبَ نِصْفُهَا فِي تَرِكَةِ الْحُرِّ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ رَقَبَتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الْقِيمَةَ؛ فَنِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ؛ فَيَأْخُذُ السَّيِّدُ مِنَ الْعَاقِلَةِ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَيَدْفَعُ نِصْفَ الدِّيَةِ إِلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ؛ إِمَّا مِنْ عَيْنِ الْمَأْخُوذِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ أَنْ يَثْبُتَ لِوَرَثَةِ الْحُرِّ مُطَالَبَةُ عَاقِلَتِهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ وَإِنْ كَانَ مَلَكَهُ السَّيِّدُ لِيَتَوَثَّقُوا بِهِ.

وَكَذَا إِذَا تَعَلَّقَ أَرْشٌ بِرَقَبَةِ عَبْدٍ فَقَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ؛ ثَبَتَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ قَاتِلِ الْجَانِي بِالْقِيمَةِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ قَاتِلِ الْمَرْهُونِ بِالْقِيمَةِ لِيَتَوَثَّقَ بِهَا، وَلْيَكُنْ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ هَلْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْجَانِيَ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ؛ الْأَصَحُّ: الْمَنْعُ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُخَاصِمَ وَيَأْخُذَ؛ فَإِنْ لَمْ يَصِرِ الْمَأْخُوذُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ لَمْ يَصِحَّ التَّوَثُّقُ. وَإِنْ صَارَ فَجَعَلَ الْمُرْتَهِنَ نَائِبًا عَنْهُ قَهْرًا بَعِيدٌ. السَّادِسُةُ: اصْطَدَمَ مُسْتَوْلِدَتَانِ لِرَجُلَيْنِ فَمَاتَتَا؛ أُهْدِرَ نِصْفُ قِيمَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَوَجَبَ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى سَيِّدِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ ضَمَانَ جِنَايَةِ الْمُسْتَوْلَدَةِ عَلَى سَيِّدِهَا، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَضْمَنُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَقِيمَةِ مُسْتَوْلَدَتِهِ؛ وَإِنْ كَانَتَا حَامِلَيْنِ فَمَاتَتَا وَأَجْهَضَتَا جَنِينَهُمَا، فَحُكْمُ الْقِيمَةِ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا ضَمَانُ الْجَنِينَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ؛ فَعَلَى سَيِّدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مَعَ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُخْرَى نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهَا لِنِصْفِ جَنِينِهَا. وَإِنْ كَانَتَا حَامِلَيْنِ بِحُرَّيْنِ مِنْ شُبْهَةٍ؛ فَعَلَى كُلِّ سَيِّدٍ مَعَ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُخْرَى نِصْفُ غُرَّةٍ لِجَنِينِ مُسْتَوْلَدَتِهِ، وَنِصْفُ غُرَّةٍ لِجَنِينِ الْأُخْرَى. وَإِنْ كَانَتَا حَامِلَيْنِ بِحُرَّيْنِ مِنَ السَّيِّدَيْنِ؛ فَنِصْفُ كُلِّ جَنِينٍ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَدَةَ إِذَا جَنَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَأَلْقَتْ جَنِينًا؛ كَانَ هَدَرًا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّيِّدَيْنِ نِصْفُ غُرَّةِ جَنِينِ الْأُخْرَى، وَتَصِيرُ الصُّورَةُ مِنْ صُوَرِ التَّقَاصِّ؛ وَإِذَا فَضَلَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ أَخَذَهُ. وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا حَامِلًا؛ فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا مَيِّتًا؛ فَنِصْفُ الْغُرَّةِ عَلَى سَيِّدِ الْحَامِلِ؛ فَإِنْ كَانَ لِلْجَنِينِ أُمٌّ أَمْ وَارِثَةٌ؛ فَلَهَا نِصْفُ سُدْسِ الْغُرَّةِ، وَالْبَاقِي لِسَيِّدِ الْحَامِلِ، وَعَلَيْهِ لِلْجَدَّةِ نِصْفُ سُدْسٍ أَيْضًا لِيُكْمِلَ لَهَا سُدْسُ الْغُرَّةِ. السَّابِعَةُ: إِذَا اصْطَدَمَ سَفِينَتَانِ، وَغَرِقَتَا بِمَا فِيهِمَا؛ فَإِمَّا أَنْ

يَحْصُلُ الِاصْطِدَامُ بِفِعْلِهِمَا، وَإِمَّا لَا؛ فَهُمَا حَالَانِ. الْأَوَّلُ بِفِعْلِهِمَا؛ فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَتِ السَّفِينَتَانِ وَمَا فِيهِمَا مِلْكًا لِلْمَلَّاحَيْنِ الْمُجْرِيَيْنِ لَهُمَا؛ فَنِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ سَفِينَةٍ وَمَا فِيهِمَا مُهْدَرٌ، وَنِصْفُ قِيمَتِهَا وَنِصْفُ قِيمَةِ مَا فِيهَا عَلَى صَاحِبِ الْأُخْرَى؛ فَإِنْ هَلَكَ الْمَلَّاحَانِ أَيْضًا؛ فَهُمَا كَالْفَارِسَيْنِ يَمُوتَانِ بِالِاصْطِدَامِ. وَإِنْ كَانَتِ السَّفِينَتَانِ لَهُمَا وَحَمَلَا الْأَمْوَالَ وَالْأَنْفُسَ تَبَرُّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ، نُظِرَ إِنْ تَعَمَّدَا الِاصْطِدَامَ بِمَا يَعُدُّهُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ مُفْضِيًا إِلَى الْهَلَاكِ؛ تَعَلَّقَ بِفِعْلِهِمَا الْقِصَاصُ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي كُلِّ سَفِينَةٍ عَشْرَةُ أَنْفَسٍ مَثَلًا يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ لِمَوْتِهِمْ مَعًا؛ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، قُتِلَ بِهِ الْمَلَّاحَانِ. وَفِي مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَاتِ الْبَاقِينَ؛ فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ تِسْعُ دِيَاتٍ وَنِصْفٌ مَعَ الْقِصَاصِ، وَفِي مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ بِعَدَدِ مَنْ فِي السَّفِينَتَيْنِ مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ مَا فِي السَّفِينَتَيْنِ لَا يُهْدَرُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَنِصْفُ قِيمَةِ سَفِينَةِ صَاحِبِهِ، وَيُهْدَرُ نِصْفُهَا، وَيَجْرِي التَّقَاصُّ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ. وَإِنْ تَعَمَّدَا الِاصْطِدَامَ بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا وَقَدْ يُفْضِي إِلَيْهِ؛ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قِصَاصٌ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُغَلَّظَةً، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدَا الِاصْطِدَامَ بَلْ ظَنَّا أَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ عَلَى الرِّيحِ؛ فَأَخْطَأَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَنَّ بِقُرْبِ سَفِينَتِهِ سَفِينَةَ الْآخَرِ؛ فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَإِنْ كَانَتِ السَّفِينَتَانِ لِغَيْرِ الْمَلَّاحَيْنِ، وَكَانَا أَجِيرَيْنِ لِلْمَالِكِ، أَوْ أَمِينَيْنِ، لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ ضَمَانِ السَّفِينَتَيْنِ بَلْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ سَفِينَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِكِينَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ قِيمَةِ سَفِينَتِهِ مِنْ أَمِينِهِ، ثُمَّ هُوَ يَرْجِعُ بِنِصْفِهَا عَلَى أَمِينِ الْآخَرِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهَا مِنْهُ وَنِصْفَهَا مِنْ أَمِينِ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ الْمُجْرِيَانِ عَبْدَيْنِ؛ فَالضَّمَانُ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِمَا.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ الِاصْطِدَامُ لَا بِفِعْلِهِمَا؛ فَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمَا تَقْصِيرٌ بِأَنْ تَوَانَيَا فِي الضَّبْطِ؛ فَلَمْ يَعْدِلَاهُمَا عَنْ صَوْبِ الِاصْطِدَامِ مَعَ إِمْكَانِهِ، أَوْ سَيَّرَا فِي رِيحٍ شَدِيدَةٍ لَا تَسِيرُ فِي مِثْلِهَا السُّفُنُ، أَوْ لَمْ يُكْمِلَا عِدَّتَهُمَا مِنَ الرِّجَالِ وَالْآلَاتِ، وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا تَقْصِيرٌ، وَحَصَلَ الْهَلَاكُ بِغَلَبَةِ الرِّيَاحِ وَهَيَجَانِ الْأَمْوَاجِ؛ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَالْفَارِسَيْنِ إِذَا غَلَبَتْهُمَا دَابَّتَاهُمَا؛ وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِمَا، كَمَا لَوْ حَصَلَ الْهَلَاكُ بِصَاعِقَةٍ بِخِلَافِ غَلَبَةِ الدَّابَّةِ؛ فَإِنَّ ضَبْطَهَا مُمْكِنٌ بِاللِّجَامِ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا فِعْلٌ؛ بِأَنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ مَرْبُوطَةً بِالشَّطِّ أَوْ مِرْسَاةٍ فِي مَوْضِعٍ؛ فَهَاجَتْ رِيحٌ فَسَيَّرَتْهَا فَأَمَّا إِذَا سَيَّرَاهُمَا، ثُمَّ غَلَبَتِ الرِّيحُ، وَعَجَزَا عَنْ ضَبْطِهِمَا؛ فَيَجِبُ الضَّمَانُ قَطْعًا. وَالْمَذْهَبُ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ الضَّمَانُ؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ فَرَطَا، وَلَكِنْ لَمْ يَقْصِدَا الِاصْطِدَامَ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ: لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ الْأَحْرَارِ، وَلَا ضَمَانَ الْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ فِيهِمَا وَلَا ضَمَانَ الْأَمْوَالِ الْمَحْمُولَةِ بِالْأُجْرَةِ إِنْ كَانَ مَالِكُهَا أَوْ عَبَدُهُ مَعَهَا يَحْفَظُهَا. وَإِنِ اسْتَقَلَّ الْمُجْرِيَانِ بِالْيَدِ؛ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ يَدَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ هَلْ هِيَ يَدُ ضَمَانٍ؟ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا عَبِيدٌ؛ فَإِنْ كَانُوا أَعْوَانًا أَوْ حُفَّاظًا لِلْمَالِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُمْ؛ وَإِلَّا فَهُمْ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ صَاحِبُ الْمَالِ وَالْمَلَّاحَانِ؛ فَقَالَ صَاحِبُ الْمَالِ: كَانَ الِاصْطِدَامُ بِفِعْلِكُمَا، وَقَالَا: بَلْ بِغَلَبَةِ الرِّيحِ، صَدَقَا بِيَمِينِهِمَا؛ وَمَتَى كَانَ أَحَدُهُمَا مُفَرِّطًا أَوْ عَامِدًا دُونَ الْآخَرِ؛ خُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْحُكْمِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَالُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ صَدَمَتْ سَفِينَةٌ السَّفِينَةَ الْمَرْبُوطَةَ بِالشَّطِّ فَكَسَرَتْهَا؛ فَالضَّمَانُ عَلَى مُجْرِي السَّفِينَةِ الصَّادِمَةِ. فَرْعٌ إِذَا خَرَقَ وَاحِدٌ سَفِينَةً؛ فَغَرِقَ مَا فِيهَا مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ؛ وَجَبَ ضَمَانُهُ،

فصل

ثُمَّ إِنْ تَعَمَّدَ الْخَرْقَ بِمَا يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا كَالْخَرْقِ الْوَاسِعِ الَّذِي لَا مِدْفَعَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ فِي مَالِهِ. وَإِنْ تَعَمَّدَهُ بِمَا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْهَلَاكُ غَالِبًا؛ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَكَذَا لَوْ قَصَدَ إِصْلَاحَ السَّفِينَةِ؛ فَنَفَذَتِ الْآلَةُ فِي مَوْضِعِ الْإِصْلَاحِ فَغَرِقَتْ بِهِ السَّفِينَةُ، وَإِنْ أَصَابَتِ الْآلَةُ غَيْرَ مَوْضِعِ الْإِصْلَاحِ، أَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ حَجَرٌ، أَوْ غَيْرُهُ؛ فَخَرَقَتِ السَّفِينَةَ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. فَرْعٌ لَوْ كَانَتِ السَّفِينَةُ مُثْقَلَةً بِتِسْعَةِ أَعْدَالٍ، فَوَضَعَ آخَرُ فِيهَا عَدْلًا آخَرَ عُدْوَانًا؛ فَغَرِقَتْ؛ فَهَلْ يَغْرَمُ جَمِيعَ الْأَعْدَالِ التِّسْعَةِ أَمْ بَعْضَهَا؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُهَا؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ تَرَتَّبَ عَلَى فِعْلِهِ؛ وَأَصَحُّهُمَا: الْبَعْضُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: النِّصْفُ، وَالثَّانِي: قِسْطُهُ إِذَا وُزِّعَ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْدَالِ، وَهُوَ كَالْخِلَافِ فِي الْجَلَّادِ إِذَا زَادَ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ، وَلَهُ نَظَائِرُ مُتَقَدِّمَةٌ. فَصْلٌ إِذَا أَشْرَفَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْغَرَقِ؛ جَازَ إِلْقَاءُ بَعْضِ أَمْتِعَتِهَا فِي الْبَحْرِ، وَيَجِبُ الْإِلْقَاءُ رَجَاءَ نَجَاةِ الرَّاكِبِينَ إِذَا خِيفَ الْهَلَاكُ، وَيَجِبُ إِلْقَاءُ مَا لَا رُوحَ فِيهِ لِتَخْلِيصِ ذِي الرُّوحِ، وَلَا يَجُوزُ إِلْقَاءُ الدَّوَابِّ إِذَا أَمْكَنَ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ. وَإِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِلْقَاءِ الدَّوَابِّ، أُلْقِيَتْ لِإِبْقَاءِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْعَبِيدُ كَالْأَحْرَارِ، وَإِذَا قَصَّرَ مَنْ عَلَيْهِ الْإِلْقَاءَ حَتَّى غَرِقَتِ السَّفِينَةُ؛ فَعَلَيْهِ الْإِثْمُ وَلَا ضَمَانَ كَمَا لَوْ لَمْ يُطْعِمْ صَاحِبُ الطَّعَامِ الْمُضْطَرَّ حَتَّى مَاتَ، يَعْصِي وَلَا يَضْمَنُهُ. وَلَا يَجُوزُ إِلْقَاءُ الْمَالِ فِي الْبَحْرِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ؛ لِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ لِلْمَالِ. وَإِذَا أَلْقَى مَتَاعَ نَفْسِهِ أَوْ مَتَاعَ

غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ رَجَاءَ السَّلَامَةِ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ أَلْقَى مَتَاعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ وَجَبَ الضَّمَانُ. وَقِيلَ: إِذَا أَلْقَى مَنْ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ مَتَاعَ نَفْسِهِ لِإِنْقَاذِ غَيْرِهِ؛ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، كَمَنْ أَطْعَمَ الْمُضْطَرَّ قَهْرًا. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ، أَوْ عَلَى أَنِّي أَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ فَأَلْقَاهُ فَعَلَى الْمُلْتَمِسِ ضَمَانُهُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَبَعْضُ الْأَصْحَابِ: لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ؛ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّهُ الْتِمَاسُ إِتْلَافٍ بِعِوَضٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ؛ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَلَى كَذَا؛ فَأَعْتَقَ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَيْسَ هَذَا عَلَى حَقِيقَةِ الضَّمَانِ وَإِنْ سُمِّيَ ضَمَانًا؛ وَلَكِنَّهُ بَذْلُ مَالٍ لِلتَّخْلِيصِ عَنِ الْهَلَاكِ؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَطْلِقْ هَذَا الْأَسِيرَ وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا؛ فَأَطْلَقَهُ، يَجِبُ الضَّمَانُ. وَبَنَى الْقَاضِي حُسَيْنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ: اعْفُ وَلَكَ كَذَا، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَطْعِمْ هَذَا الْجَائِعَ وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا فَأَجَابَ: يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى؛ أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ، فَأَلْقَاهُ؛ فَقِيلَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ خِلَافٌ؛ كَقَوْلِهِ: أَدِّ دَيْنِي. وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ يَنْفَعُهُ قَطْعًا وَهَذَا قَدْ لَا يَنْفَعُهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُلْقَى قَبْلَ هَيَجَانِ الْأَمْوَاجِ؛ فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْمَالِ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ فَلَا تُجْعَلُ قِيمَةُ الْمَالِ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ عَلَى خَطَرِ الْهَلَاكِ كَقِيمَةِ الْبَرِّ. ثُمَّ إِنَّمَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِالْتِمَاسُ عِنْدَ خَوْفِ الْغَرَقِ؛ فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْخَوْفِ فَلَا يَقْتَضِي الِالْتِمَاسُ ضَمَانًا؛ سَوَاءٌ قَالَ: عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ، أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: اهْدِمْ دَارَكَ فَفَعَلَ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَخْتَصَّ فَائِدَةُ الْإِلْقَاءِ بِصَاحِبِ الْمَتَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ التَّخْلِيصِ بِإِلْقَاءِ الْمَتَاعِ تُتَصَوَّرُ فِي صُوَرٍ:

إِحْدَاهَا: أَنْ يَخْتَصَّ بِصَاحِبِ الْمَتَاعِ؛ فَإِذَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ رَاكِبٌ وَمَتَاعُهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الشَّطِّ، أَوْ مِنْ زَوْرَقٍ بِقُرْبِهَا: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ فَأَلْقَى؛ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِغَرَضِ نَفْسِهِ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا؛ كَمَا لَوْ قَالَ لِلْمُضْطَرِّ: كُلْ طَعَامَكَ وَأَنَا ضَامِنُهُ لَكَ فَأَكَلَهُ، لَا شَيْءَ عَلَى الْمُلْتَمِسِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُلْتَمِسِ، بِأَنْ أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى الْغَرَقِ وَفِيهَا مَتَاعُ رَجُلٍ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْهَا؛ فَقَالَ لِلْخَارِجِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ فَأَلْقَى؛ وَجَبَ الضَّمَانُ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ حَصَلَتِ السَّلَامَةُ أَمْ لَا؛ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمُلْتَمِسُ وَجَبَ الضَّمَانُ فِي تَرِكَتِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْتَصَّ بِغَيْرِهِمَا؛ بِأَنْ كَانَ الْمُلْتَمِسُ وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ خَارِجَيْنِ عَنِ السَّفِينَةِ وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مُشْرِفُونَ عَلَى الْغَرَقِ؛ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ. الرَّابِعَةُ: أَنْ تَعُودَ الْمَصْلَحَةُ إِلَى مُلْقِي الْمَتَاعِ وَغَيْرِهِ دُونَ الْمُلْتَمِسِ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ ضَمَانُ جَمِيعِ الْمَتَاعِ، وَالثَّانِي: بِقِسْطِ الْمُلْقَى عَلَى مَالِكِهِ وَسَائِرِ مَنْ فِيهَا، فَيَسْقُطُ قِسْطُ الْمَالِكِ وَيَجِبُ الْبَاقِي. فَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَاحِدٌ، وَجَبَ نِصْفُ الضَّمَانِ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ تِسْعَةٌ، وَجَبَ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ. الْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ فِي الْإِلْقَاءِ تَخْلِيصُ الْمُلْتَمِسِ وَغَيْرِهِ؛ بِأَنِ الْتَمَسَ بَعْضُ رُكَّابِ السَّفِينَةِ مِنْ بَعْضٍ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ؛ قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجِيءُ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ تَسْقُطُ حِصَّةُ الْمَالِكِ؟

فَرْعٌ إِذَا قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَأَنَا وَرُكَّابُ السَّفِينَةِ ضَامِنُونَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا عَلَى الْكَمَالِ، أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنٌ؛ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْجَمِيعِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا وَهُمْ ضَامِنُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بِالْحِصَّةِ؛ لَزِمَهُ مَا يَخُصُّهُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنَا وَهُمْ ضَامِنُونَ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: وَأَنَا ضَامِنٌ وَرُكَّابُ السَّفِينَةِ، أَوْ عَلَى أَنْ أَضْمَنَهُ أَنَا وَالرُّكَّابُ، أَوْ قَالَ: وَأَنَا ضَامِنٌ وَهُمْ ضَامِنُونَ، لَزِمَهُ ضَمَانُ الْجَمِيعِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: عَلَى الْقِسْطِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: هُمْ ضَامِنُونَ، إِمَّا لِلْجَمِيعِ، وَإِمَّا لِلْحِصَّةِ، إِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ ضَمَانٍ سَبَقَ مِنْهُمْ، وَاعْتَرَفُوا بِهِ لَزِمَهُمْ، وَإِنْ أَنْكَرُوا؛ فَهُمُ الْمُصَدِّقُونَ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ إِنْشَاءَ الضَّمَانِ عَنْهُمْ؛ فَقِيلَ: إِنْ رَضَوْا بِهِ، ثَبَتَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تُوقَفُ. وَإِنْ قَالَ: وَأَنَا وَهُمْ ضُمَنَاءُ وَضَمِنْتُ عَنْهُمْ بِإِذْنِهِمْ؛ طُولِبَ هُوَ بِالْجَمِيعِ بِقَوْلِهِ. وَإِذَا أَنْكَرُوا الْإِذْنَ؛ فَهُمُ الْمُصَدِّقُونَ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا وَهُمْ ضُمَنَاءُ وَأُصَحِّحُهُ مِنْ مَالِهِمْ؛ فَقَدْ نَقَلَ الْأَئِمَّةُ لَا سِيَّمَا الْعِرَاقِيُّونَ: أَنَّهُ يُطَالَبُ بِالْجَمِيعِ أَيْضًا. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنَا أُحَصِّلُهُ مِنْ مَالِهِمْ كَمَا لَوْ قَالَ: اخْلَعْهَا عَلَى أَلْفٍ أُصَحِّحُهَا لَكَ مِنْ مَالِهَا، أَوْ أَضْمَنُهَا لَكَ مِنْ مَالِهَا؛ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ. وَلَوْ قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ عَلَى أَنِّي وَهُمْ ضُمَنَاءُ؛ فَأَذِنَ لَهُ فِي الْإِلْقَاءِ فَأَلْقَاهُ؛ فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْحِصَّةُ أَمِ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْإِتْلَافَ؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ وَعَلَيَّ نِصْفُ الضَّمَانِ، وَعَلَى فُلَانٍ الثُّلْثُ، وَعَلَى فُلَانٍ السُّدْسُ؛ لَزِمَهُ النِّصْفُ. فَرْعٌ قَالَ لِرَجُلٍ: أَلْقِ مَتَاعَ زَيْدٍ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ إِنْ طَالَبَكَ؛ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُلْقِي دُونَ الْآمِرِ.

فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: الْمَتَاعُ الْمُلْقَى لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ حَتَّى لَوْ لَفَظَهُ الْبَحْرُ عَلَى السَّاحِلِ، وَظَفِرْنَا بِهِ؛ فَهُوَ لِمَالِكِهِ، وَيَسْتَرِدُّ الضَّامِنُ الْمَبْذُولَ. وَهَلْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُمْسِكَ مَا أَخَذَهُ، وَيَرُدَّ بَدَلَهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ كَالْخِلَافِ فِي الْعَيْنِ الْمُقْرَضَةِ إِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً؛ فَهَلْ لِلْمُقْتَرِضِ إِمْسَاكُهَا وَرَدُّ بَدَلِهَا؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا عَادَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى الرَّامِينَ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمْ؛ فَقَدْ مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ شُرَكَائِهِ، وَحُكْمُهُ كَالِاصْطِدَامِ؛ فَإِنْ كَانُوا عَشْرَةً، سَقَطَ عُشْرُ دِيَتِهِ، وَوَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ التِّسْعَةِ عُشْرُهَا، وَلَوْ قَتَلَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، فَصَاعِدًا فَكَذَلِكَ؛ فَلَوْ قَتَلَ الْعَشْرَةَ، أُهْدِرَ مِنْ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُهَا، وَوَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ عُشْرُهَا. وَلَوْ أَصَابَ الْحَجَرُ غَيْرَهُمْ، نُظِرَ؛ إِنْ لَمْ يَقْصِدُوا وَاحِدًا أَوْ أَصَابَ غَيْرَ مَنْ قَصَدُوهُ؛ بِأَنْ عَادَ فَقَتَلَ بَعْضَ النَّظَّارَةِ؛ فَهَذَا خَطَأٌ يُوجِبُ الدِّيَةَ الْمُخَفِّفَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ قَصَدُوا شَخْصًا أَوْ جَمَاعَةً بِأَعْيَانِهِمْ فَأَصَابُوا مَنْ قَصَدُوهُ، فَوَجْهَانِ؛ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِأَنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ قَصْدٌ مُعَيَّنٌ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، وَرَجَّحَهُ الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: أَنَّهُ عَمْدٌ إِذَا كَانُوا حَاذِقِينَ تَتَأَتَّى لَهُمُ الْإِصَابَةُ، وَالْغَالِبُ الْإِصَابَةُ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ فِي «الْمُحَرِّرِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ قَصَدُوا وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ مَنْ قَصَدُوهُ وَقَدْ يُصِيبُ؛ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ يُصِيبُ أَحَدَهُمْ لَا بِعَيْنِهِ، أَوْ جَمَاعَةً مِنْهُمْ لَا بِأَعْيَانِهِمْ، لَا يُحَقِّقُ الْعَمْدِيَّةَ، وَلَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْعَمْدِيَّةَ تَعْتَمِدُ قَصْدَ عَيْنِ الشَّخْصِ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: اقْتُلْ أَحَدَ هَؤُلَاءِ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ؛ فَقَتَلَ أَحَدَهُمْ، لَا قِصَاصَ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ عَيْنَ أَحَدِهِمْ، ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: يَكُونُ هَذَا خَطَأً فِي حَقِّ ذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ:

يَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ تَجِبُ بِهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إِذَا قَصَدُوا وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً لَا بِأَعْيَانِهِمْ، وَكَذَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إِلَى جَمَاعَةٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ أَحَدَهُمْ. ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الْإِمَامُ فَقَالَ: قَوْلُنَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مَفْرُوضٌ فِيمَنْ قَصَدَ إِصَابَةَ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ، أَوْ جَمَاعَةٍ لَا بِأَعْيَانِهِمْ وَأَصَابَ الْحَجَرُ بَعْضَهُمْ؛ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقَوْمُ مَحْصُورِينَ فِي مَوْضِعٍ وَعَلِمَ الْحَاذِقُ أَنَّهُ إِذَا سَدَّدَ عَلَيْهِمُ الْحَجَرَ أَصَابَ جَمِيعَهُمْ وَحَقَّقَ قَصْدَهُ فَأَتَى عَلَيْهِمْ؛ فَالَّذِي أَرَاهُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ. التَّاسِعَةُ: جَرَحَ مُرْتَدًّا بِقَطْعِ يَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا؛ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ جَرَحَهُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ جَرَحَهُ ثَلَاثَةٌ آخَرُونَ فَمَاتَ، نُظِرَ؛ إِنْ وَقَعَتِ الْجِرَاحَاتُ الْأَرْبَعُ بَعْدَ انْدِمَالِ الْأُولَى؛ لَزِمَهُمُ الدِّيَةُ أَرْبَاعًا، وَإِنْ وَقَعَتْ قَبْلَ انْدِمَالِهَا وَمَاتَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ الْخَمْسِ؛ فَفِيمَا عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْجَارِحِينَ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ؛ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعُهَا، ثُمَّ يَعُودُ مَا عَلَى الْجَارِحِ فِي الرِّدَّةِ إِلَى الثُّمْنِ؛ لِأَنَّ جِرَاحَةَ الرِّدَّةِ مُهْدَرَةٌ. وَالثَّانِي: تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى الْجِرَاحَاتِ؛ فَيَسْقُطُ خُمْسُهَا لِلرِّدَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ خُمْسُهَا، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ وَاحِدٌ فِي الرِّدَّةِ وَأَرْبَعَةٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ خُمْسُ الدِّيَةِ. وَلَوْ جَرَحَهُ ثَلَاثَةٌ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ جَرَحُوهُ مَعَ رَابِعٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَاتَ بِالْجِرَاحَاتِ؛ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ وَقَدْ جُرِحَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ جِرَاحَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي الرِّدَّةِ؛ فَيَعُودُ مَا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى الثُّمْنِ، وَيَبْقَى عَلَى الرَّابِعِ الرُّبْعُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ: الْجِرَاحَاتُ سَبْعٌ، فَيَسْقُطُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ الدِّيَةِ بِجِرَاحَاتِ الرِّدَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ سُبْعُهَا. وَلَوْ جَرَحَهُ فِي الرِّدَّةِ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ جَرَحَهُ أَحَدُهُمْ مَعَ ثَلَاثَةٍ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: الْجَارِحُونَ سَبْعَةٌ؛ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَجْرَحُوا إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ سُبْعُ الدِّيَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَارِحِينَ فِي الرِّدَّةِ فَقَطْ، وَعَلَى الْجَارِحِ فِي الْحَالَيْنِ نِصْفُ سُبْعٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ

الْآخَرِ مَاتَ بِثَمَانِ جِرَاحَاتٍ؛ أَرْبَعٌ فِي الْإِهْدَارِ؛ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَارِحِينَ فِي الْإِسْلَامِ ثُمْنُ الدِّيَةِ. وَلَوْ جَرَحَهُ أَرْبَعَةٌ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ جَرَحَهُ أَحَدُهُمْ وَحْدَهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: الْجَارِحُونَ أَرْبَعَةٌ، يَلْزَمُ الْجَارِحَ فِي الْإِسْلَامِ الثُّمْنُ؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُ الرُّبْعُ؛ فَيَسْقُطُ نِصْفُهُ بِجِرَاحَةِ الرِّدَّةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَاقِينَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَلْزَمُهُ خُمْسُ الدِّيَةِ، وَيَسْقُطُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا. وَلَوْ جَرَحَهُ ثَلَاثَةٌ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ جَرَحَهُ أَحَدُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَهَلْ عَلَيْهِ سُدْسُ الدِّيَةِ أَمْ رُبُعُهَا؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ جَرَحَهُ اثْنَانِ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا مَعَ ثَالِثٍ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ، لَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي لَمْ يَجْرَحْ إِلَّا فِي الرِّدَّةِ، وَعَلَى الْجَارِحِ فِي الْحَالَيْنِ سُدْسٌ، وَعَلَى الْآخَرِ ثُلْثٌ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ؛ يَلْزَمُ الْجَارِحَ فِي الْحَالَيْنِ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَكَذَا الْجَارِحُ فِي الْإِسْلَامِ. وَلَوْ جَرَحَهُ اثْنَانِ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ فِي الْإِسْلَامِ، لَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ الدِّيَةِ بِاتِّفَاقِ الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ جَرَحَهُ ثَلَاثَةٌ فِي الرِّدَّةِ ثُمَّ فِي الْإِسْلَامِ؛ لَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ سُدْسُ الدِّيَةِ بِاتِّفَاقِ الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا يَتَّفِقَانِ مَتَى لَمْ يَخْتَلِفْ عَدَدُ الْجِرَاحَاتِ وَلَا الْجَارِحِينَ فِي الْحَالَيْنِ. فَرْعٌ إِذَا اخْتَلَفَ جِنَايَاتُ رَجُلٍ عَمْدًا وَخَطَأً، وَشَارَكَهُ غَيْرُهُ بِأَنْ جُرِحَ خَطَأً، ثُمَّ عَادَ مَعَ آخَرَ، فَجُرِحَا عَمْدًا، فَالتَّوْزِيعُ لِمَعْرِفَةِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ وَمَا يُضْرَبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا جَنَى فِي الرِّدَّةِ وَالْإِسْلَامِ. الْعَاشِرَةُ: جَنَى عَبْدٌ عَلَى زَيْدٍ بِإِيضَاحٍ، أَوْ قَطْعِ يَدٍ، أَوْ أُصْبُعٍ أَوْ غَيْرِهَا، ثُمَّ قَطَعَ عَمْرٌو يَدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ جَنَى الْعَبْدُ عَلَى بَكْرٍ، وَمَاتَ زَيْدٌ وَبَكْرٌ بِالْجِرَاحَةِ أَوْ لَمْ يَمُوتَا، وَمَاتَ الْعَبْدُ بِالْقَطْعِ، لَزِمَ عَمْرًا قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ فَحِصَّةُ الْيَدِ مِنْهَا يُخَصُّ بِهَا زَيْدٌ، وَيَتَضَارَبُ زَيْدٌ وَبَكْرٌ أَوْ وَرَثَتُهُمَا فِي الْبَاقِي: زَيْدٌ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ أَخْذِ حِصَّةِ الْيَدِ، وَبَكْرٌ بِالْجَمِيعِ،

لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى زَيْدٍ بِتَمَامِ بَدَنِهِ، وَجَنَى عَلَى بَكْرٍ وَلَا يَدَ لَهُ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي بَدَلِهَا، وَأَمَّا حِصَّةُ الْيَدِ؛ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِقَطْعِ الْيَدِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يُغْلِطُ؛ فَيَعْتَبِرُ أَرْشَهَا وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ. قَالَ: وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَيْ زَيْدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى اثْنَيْنِ، ثُمَّ تَكُونُ قِيمَتُهُ لِأَحَدِهِمَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِرَاحَةَ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا، سَقَطَ اعْتِبَارُ بَدَلِ الطَّرَفِ. فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ مِنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ ذَكَرَهَا الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ بَابِ الْعَاقِلَةِ؛ مِنْهَا: حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا، ثُمَّ أَحْكَمَ رَأْسَهَا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَفَتَحَهُ، فَوَقَعَ فِيهَا شَخْصٌ؛ فَمَاتَ فَالضَّمَانُ عَلَى فَاتِحِ الرَّأْسِ. وَلَوْ أَحْكَمَ رَأْسَهَا آخَرُ فَفَتَحَهُ ثَالِثٌ؛ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالثَّالِثِ. وَلَوْ وَقَعَتْ بَهِيمَةٌ فِي بِئْرِ عُدْوَانٍ فَلَمْ تَتَأَثَّرْ بِالصَّدْمَةِ وَبَقِيَتْ فِيهَا أَيَّامًا؛ فَمَاتَتْ جُوعًا أَوْ عَطَشًا؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ لِحُدُوثِ سَبَبٍ آخَرَ، كَمَا لَوِ افْتَرَسَهَا سَبْعٌ فِي الْبِئْرِ. وَلَوْ تَقَاتَلَ رَجُلَانِ فَرَمَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ؛ فَسَقَطَ بِصَوْلَتِهِ وَتَلَفَ؛ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ سَقَطَ بِصَوْلَتِهِ وَضَرْبَةِ صَاحَبِهِ، وَجَبَ نِصْفُ الضَّمَانِ. وَلَوْ شَدَّ عُنُقَ أَحَدِ بَعِيرَيْهِ بِالْآخَرِ، وَتَرَكَهُمَا بِالْمَسْرَحِ؛ فَدَخَلَ بِعِيرُ رَجُلٍ بَيْنَهُمَا فَتَلَفَ مِنْ جَذْبَةِ الْحَبْلِ أَحَدُ الْبَعِيرَيْنِ؛ فَلَا ضَمَانَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعِيرُ مَعْرُوفًا بِالْإِفْسَادِ. الطَّرَفُ الْخَامِسُ فِي حُكْمِ السِّحْرِ: اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ السِّحْرِ وَقَعَ بَعْضُهُ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ، وَبَعْضُهُ هُنَا، وَمُعْظَمُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ دَعْوَى الدَّمِ وَقَدْ رَأَيْتُ تَقْدِيمَ هَذَا الْأَخِيرِ إِلَى هُنَا؛ فَالسَّاحِرُ قَدْ يَأْتِي بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَتَغَيَّرُ بِهِ حَالُ الْمَسْحُورِ؛ فَيَمْرَضُ

وَيَمُوتُ مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَى بَدَنِهِ مِنْ دُخَانٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ دُونَهُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الِاسْتِرَابَادِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا حَقِيقَةَ لِلسِّحْرِ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَيَحْرُمُ فِعْلُ السِّحْرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِذَا قَالَ إِنْسَانٌ: تَعَلَّمْتُ السِّحْرَ، أَوْ أُحْسِنُهُ، اسْتُوصِفَ؛ فَإِنْ وَصَفَهُ بِمَا هُوَ كُفْرٌ فَهُوَ كَافِرٌ؛ بِأَنْ يَعْتَقِدَ التَّقَرُّبَ إِلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَوْ قَالَ: أَفْعَلُ بِالسِّحْرِ بِقُدْرَتِي دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ وَصَفَهُ بِمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ. وَأَمَّا تَعَلُّمُ السِّحْرِ وَتَعْلِيمُهُ؛ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُمَا حَرَامَانِ، وَالثَّانِي: مَكْرُوهَانِ، وَالثَّالِثُ: مُبَاحَانِ، وَهَذَانِ إِذَا لَمْ يَحْتَجْ فِي تَعْلِيمِهِ إِلَى تَقْدِيمِ اعْتِقَادٍ هُوَ كُفْرٌ. قُلْتُ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ «الْإِرْشَادُ» : لَا يَظْهَرُ السِّحْرُ إِلَّا عَلَى فَاسِقٍ، وَلَا تَظْهَرُ الْكَرَامَةُ عَلَى فَاسِقٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي فِي كِتَابِهِ «الْغَنِيَّةُ» نَحْوَ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكَهُّنَ، وَإِتْيَانَ الْكُهَّانِ، وَتَعَلُّمَ الْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالضَّرْبِ بِالرَّمْلِ وَبِالشَّعِيرِ وَالْحَصَى، وَتَعْلِيمَ هَذِهِ كُلِّهَا حَرَامٌ، وَأَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهَا حَرَامٌ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ فِي حُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا الْفَصْلَ فِي «تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ» عِنْدَ ذِكْرِ الْحُلْوَانِ وَالْكِهَانَةِ، وَنَبَّهْتُ فِيهِ عَلَى النُّصُوصِ، وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِجَهَالَةِ مَنْ يَتَعَاطَى الرَّمْلَ وَإِنْ نَسَبَ نَفْسَهُ، أَوْ نَسَبَهُ النَّاسُ إِلَى عِلْمٍ، كَمَا لَا يَغْتَرُّ بِهِ فِيمَا يَعْرِفُهُ مِنْ حَالِهِ مِنْ تَسَاهُلِهِ فِي الشُّبُهَاتِ،

فصل

وَبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ؛ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ» فَمَعْنَاهُ: مَنْ عَلِمْتُمْ مُوَافَقَتَهُ لَهُ؛ فَلَا بَأْسَ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْمُوَافَقَةَ، فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُعَلَّقٌ بِمَعْرِفَةِ الْمُوَافَقَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الْقَتْلُ بِالسِّحْرِ لَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَعْلَمُ قَصْدَ السَّاحِرِ، وَلَا يُشَاهِدُ تَأْثِيرَ السِّحْرِ؛ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ السَّاحِرِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: قَتَلْتُهُ بِسِحْرِي، وَسِحْرِي يَقْتُلُ غَالِبًا؛ فَقَدْ أَقَرَّ بِقَتْلِ الْعَمْدِ. وَإِنْ قَالَ: وَهُوَ يَقْتُلُ نَادِرًا، فَهُوَ إِقْرَارٌ بِشِبْهِ الْعَمْدِ، وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتُ مِنِ اسْمِ غَيْرِهِ إِلَى اسْمِهِ؛ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالْخَطَأِ، ثُمَّ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَدِيَةُ الْخَطَأِ الْمُخَفَّفَةِ كِلَاهُمَا فِي مَالِ السَّاحِرِ، وَلَا تُطَالَبُ الْعَاقِلَةُ بِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَيْهِمْ لَا يُقْبَلُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْعَاقِلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِي «الْوَجِيزِ» هِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ خَطَأٌ وَسَبْقُ قَلَمٍ، لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، وَلَا هُوَ فِي «الْوَسِيطِ» . فَرْعٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْأُمِّ» : لَوْ قَالَ: أُمَرِّضُ بِسِحْرِي وَلَا أَقْتُلُ، وَأَنَا سَحَرْتُ فُلَانًا فَأَمْرَضْتُهُ؛ عُزِّرَ، قَالَ: وَلَوْ قَالَ: لَا أَمْرَضُ بِهِ، وَلَكِنْ أُوذِيَ؛ نُهِيَ عَنْهُ؛ فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ؛ لِأَنَّ السِّحْرَ كُلُّهُ حَرَامٌ. فَرْعٌ إِذَا قَالَ: أَمْرَضْتُهُ بِسِحْرِي وَلَمْ يَمُتْ بِهِ؛ بَلْ بِسَبَبٍ آخَرَ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» أَنَّهُ لَوْثٌ يُقْسِمُ بِهِ الْوَلِيُّ، وَيَأْخُذُ الدِّيَةَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ: أَنَّهُ لَيْسَ بِلَوْثٍ؛ وَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ مُتَأَلِّمًا إِلَى أَنْ

مَاتَ، حَلَفَ الْوَلِيُّ، وَأَخَذَ الدِّيَةَ، وَذَلِكَ قَدْ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَدْ يَثْبُتُ بِاعْتِرَافِ السَّاحِرِ؛ وَإِنِ ادَّعَى السَّاحِرَ الْبُرْءَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَقَدْ مَضَتْ مُدَّةٌ يُحْتَمَلُ الْبُرْءُ فِيهَا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ نَصُّ «الْمُخْتَصَرِ» . فَرْعٌ قَالَ: قَتَلْتُ بِسِحْرِي جَمَاعَةً، وَلَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا؛ فَلَا قِصَاصَ وَلَا يُقْتَلُ حَدًّا؛ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. فَرْعٌ إِذَا أَصَابَ غَيْرَهُ بِالْعَيْنِ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْعَيْنِ فَلَا قِصَاصَ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ غَالِبًا، وَلَا يُعَدُّ مُهْلِكًا. قُلْتُ: وَلَا دِيَةَ فِيهِ أَيْضًا وَلَا كَفَّارَةَ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْعَائِنِ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُعِينِ بِالْبَرَكَةِ؛ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَلَا تَضُرَّهُ، وَأَنْ يَقُولَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَإِذَا اسْتَغْسَلْتُمْ فَاغْسِلُوا» قَالَ الْعُلَمَاءُ: الِاسْتِغْسَالُ أَنْ يُقَالَ لِلْعَائِنِ: اغْسِلْ دَاخِلَةَ إِزَارِكَ مِمَّا يَلِي الْجِلْدَ بِمَاءٍ، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَى الْمَعِينِ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ أَنْ يَتَوَضَّأَ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمَعِينُ. وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ وَغَيْرِهَا أَوْضَحْتُهَا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْعَاقِلَةِ وَمَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَفِي جِنَايَةِ الرَّقِيق قَدْ سَبَقَ عِنْدَ ذِكْرِ جِهَاتِ تَخْفِيفِ الدِّيَةِ وَتَغْلِيظِهَا، أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ عَلَى الْجَانِي، وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ وَسَوَاءٌ فِي الْعَمْدِ كَانَ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ ابْتِدَاءً كَقَتْلِ الْأَبِ الِابْنَ، أَمْ كَانَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ، ثُمَّ عُفِيَ عَلَى الدِّيَةِ. وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ أَيْضًا دِيَةَ الْأَطْرَافِ فِي

جِنَايَةِ الْعَمْدِ، ثُمَّ بَدَلُ الْعَمْدِ يَجِبُ حَالًا عَلَى قِيَاسِ أَبِدَالِ الْمَتْلَفَاتِ، وَبَدَلُ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، يَجِبُ مُؤَجَّلًا، وَفِي الْبَابِ أَطْرَافٌ: الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ الْعَاقِلَةِ، وَالثَّانِي: فِي صِفَتِهِمْ، وَالثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ الضَّرْبِ عَلَيْهِمْ؛ وَهَذِهِ الْأَطْرَافُ مُخْتَصَّةٌ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ، وَالرَّابِعُ: فِي جِنَايَةِ الرَّقِيقِ. أَمَّا الْعَاقِلَةُ فَجِهَاتُ التَّحَمُّلِ ثَلَاثٌ: الْقَرَابَةُ وَالْوَلَاءُ وَبَيْتُ الْمَالِ، وَلَيْسَتِ الْمُحَالَفَةُ وَالْمُوَالَاةُ مِنْ جِهَاتِ التَّحَمُّلِ. وَلَا يَتَحَمَّلُ الْحَلِيفُ وَلَا الْعَدِيدُ الَّذِي لَا عَشِيرَةَ لَهُ؛ فَيُدْخِلُ نَفْسَهُ فِي قَبِيلَةٍ لِيُعَدَّ مِنْهَا. وَلَا يَتَحَمَّلُ أَيْضًا عِنْدَنَا أَهْلُ الدِّيوَانِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؛ أَمَّا جِهَةُ الْقَرَابَةِ؛ فَإِنَّمَا يَتَحَمَّلُ مِنْهَا مَنْ كَانَ عَلَى حَاشِيَةِ النَّسَبِ وَهُمُ الْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ وَالْأَعْمَامُ وَبَنُوهُمْ. وَأَمَّا أَبُو الْجَانِي وَأَجْدَادُهُ وَبَنُوهُ وَبَنُو بَنِيهِ؛ فَلَا يَتَحَمَّلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ أَبْعَاضُهُ وَأُصُولُهُ؛ فَلَمْ يَتَحَمَّلُوهُ، كَمَا لَا يَتَحَمَّلُ الْجَانِي. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِدِيَةِ مَقْتُولَةٍ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ، وَبَرَّأَ زَوْجَهَا وَالْوَلَدَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ قَالَ لِرَجُلٍ مَعَهُ ابْنُهُ: «لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ» أَيْ: لَا يَلْزَمُكَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ مُوجَبُ جِنَايَتِكَ. فَلَوْ جَنَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا ابْنٌ هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمِّهَا؛ لَمْ يَتَحَمَّلْ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مَانِعَةٌ. فَرْعٌ يُقَدَّمُ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ فَأَقْرَبُهُمْ. وَمَعْنَى التَّقْدِيمِ: أَنْ يُنْظَرَ فِي الْوَاجِبِ عِنْدَ آخِرِ الْحَوْلِ، وَفِي الْأَقْرَبِينَ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ وَفَاءٌ إِذَا وُزِّعَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ لِقِلَّةِ الْوَاجِبِ أَوْ لِكَثْرَتِهِمْ، وُزِّعَ عَلَيْهِمْ وَلَا يُشَارِكُهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ وَإِلَّا فَيُشَارِكُهُمْ فِي التَّحَمُّلِ مَنْ بَعْدَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. وَالْمُقَدَّمُ مِنَ الْعَاقِلَةِ الْإِخْوَةُ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْأَعْمَامُ ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ ثُمَّ بَنُوهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْمِيرَاثِ. وَهَلْ يُقَدَّمُ مَنْ

فصل

يُدْلِي مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْأَبَوَيْنِ عَلَى الْمُدْلِي بِالْأَبِ كَالْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ أَمْ يَسْتَوِيَانِ؟ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ تَقْدِيمُهُ. فَرْعٌ ذَوُو الْأَرْحَامِ لَا يَتَحَمَّلُونَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِلَّا إِذَا قُلْنَا بِتَوْرِيثِهِمْ فَيَتَحَمَّلُونَ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ كَمَا يَرِثُونَ عِنْدَ عَدَمِهِمْ، وَلَا تُحَمَّلُ بِالزَّوْجِيَّةِ بِحَالٍ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَلَاءُ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي عَصَبَةُ نَسَبٍ، أَوْ كَانُوا وَلَمْ يَفِ التَّوْزِيعُ عَلَيْهِمْ يَحْمِلُ مُعْتِقُهُ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، أَوْ فَضَلَ عَنْهُ شَيْءٌ، تَحْمِلُ عَصَبَتُهُ مِنَ النَّسَبِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَوْ فَضَلَ شَيْءٌ؛ تَحَمَّلَ مُعْتِقُ الْمُعْتَقِ، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ ابْنُهُ وَأَبُوهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَدْخُلُ لِفَقْدِ الْبَعْضِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَانِي، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي ابْنِ مُعْتِقِ الْمُعَتَقِ وَأَبِيهِ؛ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ لَهُ نِعْمَةُ الْوَلَاءِ عَلَى الْأَبِ الْجَانِي وَلَا أَحَدٍ مِنْ عَصَبَاتِهِ؛ تَحَمَّلَ مُعَتِقُ الْأَبِ ثُمَّ عَصَبَاتُهُ، ثُمَّ مُعَتِقُ مُعَتَقِ الْأَبِ ثُمَّ عَصَبَاتُهُ؛ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ لَهُ نِعْمَةُ الْوَلَاءِ عَلَى الْأَبِ؛ تَحَمَّلَ مُعَتِقُ الْجَدِّ ثُمَّ عَصَبَاتُهُ كَذَلِكَ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي. وَاللَّقِيطُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ لَوِ ادَّعَاهُ رَجُلٌ، أَوْ بَلَغَ وَانْتَسَبَ إِلَى مَيِّتٍ وَاعْتَرَفَ بِهِ وَرَثَتُهُ، يَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَتُؤْخَذُ دِيَةُ جِنَايَتِهِ مِنْ عَصَبَاتِهِ؛ فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى؛ فَالْحُكْمُ لِلْبَيِّنَةِ. فَصْلٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَتَحَمَّلُ الْعَقْلَ بِحَالٍ؛ فَلَوْ أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَمْ تَحْمِلْ عَقْلَهُ؛ وَإِنَّمَا يَحْمِلُهُ مَنْ يَحْمِلُ دِيَةَ جِنَايَتِهَا؛ كَمَا يُزَوِّجُ عَتِيقَهَا مَنْ يُزَوِّجُهَا.

فصل

فَرْعٌ أَعْتَقَ جَمَاعَةٌ عَبْدًا؛ فَجَنَى خَطَأً، حَمَلُوا عَنْهُ حَمْلَ شَخْصٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِجَمِيعِهِمْ لَا لِكُلِّ وَاحِدٍ؛ فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَالْمَضْرُوبُ عَلَى جَمِيعِهِمْ نِصْفُ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانُوا مُتَوَسِّطِينَ؛ فَرُبُعٌ، وَإِنْ كَانُوا بَعْضًا وَبَعْضًا؛ فَعَلَى الْغَنِيِّ حِصَّتُهُ مِنَ النِّصْفِ وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ حِصَّتُهُ مِنَ الرُّبْعِ، وَلَوْ كَانَ الْمُعَتِقُ وَاحِدًا وَمَاتَ عَنْ إِخْوَةٍ مَثَلًا، ضُرِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حِصَّتُهُ تَامَّةً مِنْ نِصْفِ دِينَارٍ أَوْ رُبُعِهِ، وَلَا يُقَالُ: يُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ الْمَيِّتُ يَحْمِلُهُ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمْ تَوَزُّعَهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ، وَلَا يَرِثُونَ الْوَلَاءَ مِنَ الْمَيِّتِ، بَلْ يَرِثُونَ بِهِ. وَلَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الشُّرَكَاءِ الْمُعْتِقِينَ، أَوْ جَمِيعِهِمْ؛ حَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَصَبَاتِهِ مِثْلَ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ الْمَيِّتُ وَهُوَ حِصَّتُهُ مِنْ نِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ نُزُولُهُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ الشَّرِيكِ. فَرْعٌ إِذَا ضَرَبْنَا عَلَى الْمُعْتَقِ؛ فَبَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْوَاجِبِ؛ فَهَلْ يُضْرَبُ عَلَى عَصَبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ؟ نَقَلَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ الْمَنْعَ إِذْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْوَلَاءِ وَلَا بِالْوَلَاءِ فِي حَيَاتِهِ. وَتَرَدَّدَ الْإِمَامُ فِيمَا لَوْ لَمْ يَبْقَ الْمُعْتَقُ وَضَرَبْنَا عَلَى عَصَبَتِهِ؛ فَهَلْ يُخَصُّ بِالْأَقْرَبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْوَلَاءِ وَالْإِرْثِ، أَمْ يَتَعَدَّى إِلَى الْأَبَاعِدِ كَعَصَبَةِ الْجَانِي؟ وَرَجَّحَ الِاحْتِمَالَ الثَّانِي وَجَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَصَرَّحَ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وَ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرُهُمَا بِالضَّرْبِ عَلَيْهِمْ. فَصْلٌ فِي تَحَمُّلِ الْعَتِيقِ عَنِ الْمُعْتِقِ قَوْلَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا: الْمَنْعُ إِذْ لَا إِرْثَ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَيَتَأَخَّرُ عَنِ الْمُعَتِقِ، وَلَا يُضْرَبُ عَلَى عَصَبَتِهِ بِحَالٍ؛ قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنْ يَكُونَ فِي عَتِيقِ الْعَتِيقِ الْقَوْلَانِ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ.

فصل

فَصْلٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْعِتْقِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَمَسَّهُ رِقٌّ قَدْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لِمُعْتِقِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ أُمِّهِ؛ وَأَنَّ أُمَّهُ إِذَا كَانَتْ عَتِيقَةً وَالْأَبُ رَقِيقٌ؛ فَعَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِمُعْتِقِهَا؛ فَإِنْ أَعْتَقَ الْأَبُ، انْجَرَّ وَلَاءُ الْوَلَدِ إِلَى مَوْلَى الْأَبِ، وَتَحَمُّلُ عَقْلِهُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْوَلَاءِ؛ فَيَتَحَمَّلُهُ مَنْ لَهُ الْوَلَاءُ. فَلَوْ جَنَى مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَتِيقَةٍ وَرَقِيقٍ؛ فَالدِّيَةُ عَلَى مَوْلَى الْأُمِّ، وَلَوْ جَرَحَ رَجُلًا؛ فَأَعْتَقَ أَبُوهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ فَأَرْشُ الْجِرَاحَةِ عَلَى مَوْلَى الْأُمِّ، وَالْبَاقِي عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِيجَابُهُ عَلَى مُعْتِقِ الْأُمِّ؛ لِزَوَالِ اسْتِحْقَاقِهِ الْوَلَاءَ، وَلَا عَلَى مُعْتِقِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِسَرَايَةٍ وُجِدَتْ قَبْلَ انْجِرَارِ الْوَلَاءِ إِلَيْهِ، وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِوُجُودِ جِهَةِ الْوَلَاءِ؛ هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْأَصْحَابِ، وَلِلْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ احْتِمَالٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْوَلَاءِ كَعَدَمِهِ؛ وَلِلْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ مِنْهَا: مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَتِيقَةٍ وَرَقِيقٍ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا، أَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا أَوْ مِيزَابًا؛ فَمَاتَ بِهِ رَجُلٌ؛ فَالدِّيَةُ عَلَى مَوْلَى الْأُمِّ؛ فَإِنْ أَعْتَقَ أَبُوهُ، ثُمَّ حَصَلَ الْهَلَاكُ، فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ. ثُمَّ لَوْ حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا، ثُمَّ عَتَقَ، ثُمَّ تَرَدَّى فِيهَا شَخْصٌ. أَوْ رَمَى إِلَى صَيْدٍ، فَعَتَقَ، ثُمَّ أَصَابَ السَّهْمُ شَخْصًا؛ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَ إِنْسَانٍ خَطَأً؛ فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ، ثُمَّ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ، صَارَ السَّيِّدُ بِإِعْتَاقِهِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ؛ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ وَكَمَالِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَيَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي نِصْفُ الدِّيَةِ؛ قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَجِيءُ وَجْهَانِ؛ السَّيِّدُ يَفْدِيهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ كُلِّ الدِّيَةِ وَكُلِّ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ فِي الرِّقِّ. وَمِنْهَا: رَمَى ذِمِّيٌّ صَيْدًا؛ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ أَصَابَ إِنْسَانًا؛ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى عَاقِلَةِ الذِّمِّيِّ وَلَا الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إِنَّمَا يَحْمِلُهَا مَنْ كَانَ عَاقِلَةً فِي حَالَتَيِ الرَّمْيِ وَالْإِصَابَةِ؛ وَلَوْ رَمَى يَهُودِيٌّ صَيْدًا، ثُمَّ تَنَصَّرَ، ثُمَّ أَصَابَ

شَخْصًا، قَالَ الْأَصْحَابَ: إِنْ قُلْنَا: لَا يُقِرُّ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ مُرْتَدٌ لَا عَاقِلَةَ لَهُ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُقِرُّ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، عَلَى أَيِّ دِينٍ كَانُوا؛ وَلْيَكُنْ تَحَمُّلُهُمْ عَلَى خِلَافٍ نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِهِ. وَلَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ رَجُلًا خَطَأً، وَأَسْلَمَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ؛ فَأَرْشُ الْجُرْحِ عَلَى عَاقِلَتِهِ الذِّمِّيِّينَ، وَالْبَاقِي فِي مَالِهِ؛ فَإِنْ زَادَ أَرْشُ الْجُرْحِ عَلَى دِيَةٍ بِأَنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ؛ فَالْوَاجِبُ دِيَةُ النَّفْسِ عَلَى عَاقِلَتِهِ الذِّمِّيِّينَ؛ قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ وَوَافَقَهُ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ قَطَعَ بِهِ فِي «الْمُهَذَّبِ» أَنَّ الْأَرْشَ وَالزَّائِدَ عَلَى الْعَاقِلَةِ الذِّمِّيِّينَ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجُرْحِ، وَلَوْ عَادَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَجَنَى عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ جِنَايَةً أُخْرَى خَطَأً، وَمَاتَ مِنْهُمَا؛ فَنِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الذِّمِّيُّونَ، فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجُرْحِ نِصْفَ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ؛ فَعَلَيْهِمُ النِّصْفُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ كَأَرْشِ مُوضِحَةٍ؛ فَهُوَ عَلَى الذِّمِّيِّينَ، وَمَا زَادَ إِلَى تَمَامِ النِّصْفِ؛ فَعَلَى الْجَانِي، وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مُذَفَّفًا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ: أَرْشُ الْجُرْحِ الْوَاقِعِ فِي الْكُفْرِ عَلَى الذِّمِّيِّينَ، وَالْبَاقِي إِلَى تَمَامِ الدِّيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِي «النِّهَايَةِ» وَ «الْبَيَانِ» إِنَّ هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِيمَنْ جُرِحَ ثُمَّ قُتِلَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَرْشُ جُرْحِهِ فِي الدِّيَةِ؛ وَأَمَّا عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ الدُّخُولُ؛ فَجَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ عَادَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ فَجُرْحُهُ مَعَ آخَرَ خَطَأٌ، بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَنَّ الدِّيَةَ تُوَزَّعُ عَلَى الْجَارِحِينَ أَمْ عَلَى الْجِرَاحَاتِ؟ إِنْ قُلْنَا: عَلَى الْجَارِحِينَ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِالْجُرْحَيْنِ؛ فَحِصَّةُ جُرْحِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الرُّبْعُ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا جُرْحُ الْكُفْرِ؛ فَإِنْ كَانَ أَرْشُهُ كَرُبُعِ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ؛ فَعَلَى الذِّمِّيِّينَ الرُّبْعُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ دُونَ الرُّبْعِ؛ فَعَلَيْهِمْ قَدْرُ الْأَرْشِ، وَالزِّيَادَةُ إِلَى تَمَامِ الرُّبْعِ فِي مَالِ الْجَانِي؛ وَإِنْ وَزَّعْنَا عَلَى الْجِرَاحَاتِ؛ فَثُلْثُ الدِّيَةِ وَهُوَ حِصَّةُ جُرْحِ الْإِسْلَامِ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَجُرْحُ الْكُفْرِ إِنْ كَانَ

أَرْشُهُ كَثُلْثِ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ؛ فَعَلَى الذِّمِّيِّينَ الثُّلْثُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، فَعَلَيْهِمُ الْأَرْشُ، وَالْبَاقِي إِلَى تَمَامِ الثُّلْثِ فِي مَالِ الْجَانِي. وَمِنْهَا: لَوْ جَرَحَ شَخْصًا خَطَأً، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِالسِّرَايَةِ، فَأَرْشُ الْجُرْحِ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَاقِي إِلَى تَمَامِ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْجَانِي؛ فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ كَالدِّيَةِ، أَوْ أَكْثَرَ بِأَنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ؛ فَقَدْرُ الدِّيَةِ وَهُوَ الْوَاجِبُ يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ. وَلَوْ جَرَحَ وَهُوَ مُرْتَدٌّ، ثُمَّ أَسْلَمُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ؛ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ إِذْ لَا عَاقِلَةَ لِلْمُرْتَدِّ. وَلَوْ جَرَحَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ؛ فَارْتَدَّ الْجَارِحُ، ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ؛ فَهَلْ عَلَى عَاقِلَتِهِ جَمِيعُ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِالطَّرَفَيْنِ، أَمْ عَلَيْهِمْ أَرْشُ الْجُرْحِ وَمَا زَادَ فِي مَالِ الْجَانِي؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: فِيهِ قَوْلَانِ، وَجَزَمَ آخَرُونَ بِوُجُوبِ الْجَمِيعِ عَلَيْهِمْ إِنْ قَصُرَ زَمَانُ الرِّدَّةِ الْمُتَخَلِّلَةِ، وَخَصُّوا الْقَوْلَيْنِ بِطُولِ زَمَانِهَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَجِيءُ وَجْهٌ أَنَّ عَلَى الْعَاقِلَةِ ثُلْثَيِ الدِّيَةِ لِوُجُودِ الْإِسْلَامِ فِي حَالَيْنِ. وَلَوْ رَمَى سَهْمًا إِلَى صَيْدٍ وَارْتَدَّ، فَأَصَابَ شَخْصًا، أَوْ رَمَى الْمُرْتَدُّ صَيْدًا فَأَسْلَمَ فَأَصَابَ السَّهْمَ؛ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَدَّلَ حَالُهُ رَمْيًا وَإِصَابَةً، وَلَوْ تَخَلَّلَتِ الرِّدَّةُ بَيْنَ الرَّمْيِ وَالْإِصَابَةِ؛ فَكَذَا الْجَوَابُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهُمْ خَرَّجُوهَا عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِي: فِي مَالِهِ. الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: بَيْتُ الْمَالِ؛ فَيَتَحَمَّلُ جِنَايَةَ مَنْ لَا عَصَبَةَ لَهُ بِنَسَبٍ وَلَا وَلَاءٍ، أَوْ لَهُ عَصَبَةٌ مُعْسِرُونَ، أَوْ فَضَلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَاجِبِ؛ فَيَجِبُ الْبَاقِي فِي بَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ الْجَانِي مُسْلِمًا؛ فَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا فَلَا، بَلِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ؛ كَمُسْلِمٍ لَا عَاقِلَةَ لَهُ وَلَا بَيْتَ مَالٍ، وَهَلْ يَتَحَمَّلُ أَبُوهُ وَابْنُهُ؟ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ وَلَا بَيْتُ مَالٍ، وَقُلْنَا: تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، هَلْ

فصل

يَلْزَمُ أَبَاهُ وَابْنَهُ؟ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ؛ فَلَا عَاقِلَةَ لَهُ، فِدْيَةُ قَتْلِهِ خَطَأً فِي مَالِهِ مُؤَجَّلَةٌ؛ فَإِنْ مَاتَ، سَقَطَ الْأَجَلُ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي صِفَاتِ الْعَاقِلَةِ وَهِيَ خَمْسٌ: الْأُولَى: التَّكْلِيفُ؛ فَلَا يَعْقِلُ صَبِيٌّ وَلَا مَعْتُوهٌ، الثَّانِيَةُ: الذُّكُورَةُ؛ فَلَا تَعْقِلُ امْرَأَةٌ وَلَا خُنْثَى، فَإِنْ بَانَ ذَكَرًا؛ فَهَلْ يَغْرَمُ حِصَّتَهُ الَّتِي أَدَّاهَا غَيْرُهُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: لَعَلَّ أَصَحَّهُمَا: نَعَمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: اتِّفَاقُ الدِّينِ؛ فَلَا يَعْقِلُ مُسْلِمٌ عَنْ ذَمِّيٍّ وَعَكْسُهُ، وَفِي عَقْلِ يَهُودِيٍّ عَنْ نَصْرَانِيٍّ وَعَكْسِهِ قَوْلَانِ. قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ لِذِمِّيٍّ أَقَارِبُ حَرْبِيُّونَ؛ فَلَا قُدْرَةَ عَلَيْهِمْ؛ فَهُمْ كَالْعَدَمِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ قَدَرَ الْإِمَامُ عَلَى الضَّرْبِ عَلَيْهِمْ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ، إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَلَا ضَرْبَ؛ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَالْمُعَاهِدُ كَالذِّمِّيِّ؛ فَيَعْقِلُ عَنْهُ الذِّمِّيُّ، وَيَعْقِلُ هُوَ عَنِ الذِّمِّيِّ إِنْ زَادَتْ مُدَّةُ الْعَهْدِ عَلَى أَجَلِ الدِّيَةِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَجَلِ. الرَّابِعَةُ: الْحُرِّيَّةُ؛ فَلَا يَعْقِلُ مَكَاتَبٌ. الْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا أَوْ مُتَوَسِّطًا لَا فَقِيرًا مُعْتَمِلًا، وَلَا يَمْنَعُ الْعَقْلَ مُطْلَقُ الْمَرَضِ وَالْكِبَرِ وَالزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْهَرَمِ. وَفِي الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالْهَرَمِ وَجْهٌ، لِضَعْفِهِمْ عَنِ النُّصْرَةِ. فَصْلٌ يُضْرَبُ عَلَى الْغَنِيِّ نِصْفُ دِينَارٍ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ رُبُعُ دِينَارٍ، وَهَلِ النِّصْفُ وَالرُّبْعُ حِصَّةُ كُلِّ سَنَةٍ أَمْ لَا يَجِبُ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثِ إِلَّا النِّصْفُ أَوِ الرُّبْعُ؟ وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُضْبَطُ الْغِنَى

وَالتَّوَسُّطُ بِالْعَادَةِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ، وَرَأْيُ الْإِمَامِ أَنَّ الْأَقْرَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِالزَّكَاةِ؛ فَإِنْ مَلَكَ عِشْرِينَ دِينَارًا آخِرَ الْحَوْلِ فَغَنِيٌّ، وَإِنْ مَلَكَ دُونَ ذَلِكَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَاتِهِ فَمُتَوَسِّطٌ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَمْلِكَ شَيْئًا فَوْقَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهُوَ الرُّبْعُ لِئَلَّا يَصِيرَ فَقِيرًا، وَشَرْطُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَا يَمْلِكَانِهِ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنٍ وَثِيَابٍ وَسَائِرِ مَا لَا يُكَلَّفُ بَيْعُهُ فِي الْكَفَّارَةِ. فَرْعٌ الِاعْتِبَارُ فِيمَا يُؤْخَذُ كُلُّ حَوْلٍ بِآخِرِ ذَلِكَ الْحَوْلِ فِي أُمُورٍ: أَحَدُهَا: إِذَا تَمَّ حَوْلٌ وَهُنَاكَ إِبِلٌ، جَمَعَتِ الْعَاقِلَةُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ نِصْفٍ وَرُبُعٍ فَاشْتَرَوْا بِهِ إِبِلًا؛ فَإِنْ لَمْ تُوجَدِ الْإِبِلُ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ حِينَئِذٍ الْقِيمَةُ أَمْ بَدَلٌ مُقَدَّرٌ؛ فَلَوْ تَأَخَّرَ الْأَدَاءُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَوُجِدَتْ؛ لَزِمَهُمُ الْإِبِلُ، وَإِنْ وُجِدَتْ بَعْدَ أَخْذِ الْبَدَلِ لَمْ يُؤَثِّرْ. الثَّانِي: إِذَا لَمْ يَفِ التَّوْزِيعُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِوَاجِبِ الْحَوْلِ؛ أُخِذَ الْبَاقِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُنْتَظَرُ مُضِيُّ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ. الثَّالِثُ: يُعْتَبَرُ غِنَاهُ وَتَوَسُّطُهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ؛ فَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا آخِرَ الْحَوْلِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ وَاجِبِ ذَلِكَ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا مِنْ قَبْلُ، أَوْ أُيْسِرَ بَعْدُ، وَلَوْ كَانَ مُوسِرًا آخِرَ الْحَوْلِ؛ لَزِمَهُ. فَلَوْ أَعْسَرَ بَعْدَهُ؛ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَصَارَ فِي آخِرِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ؛ فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ حِصَّتُهُ مِنْ وَاجِبِ تِلْكَ السَّنَةِ وَمَا بَعْدَهَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ؛ أَصَحُّهَا: لَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَالثَّالِثُ: لَا تُؤْخَذُ حِصَّةُ تِلْكَ السَّنَةِ وَيُؤْخَذُ مَا بَعْدَهَا. فَرْعٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْعِيُّ فِي وُجُوبِ النِّصْفِ وَالرُّبْعِ قَدْرُهُمَا؛ لَا أَنَّهُ

يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ بَذْلُ الدَّنَانِيرِ بِأَعْيَانِهِمَا، لِأَنَّ الْإِبِلَ هِيَ الْوَاجِبُ فِي الدِّيَةِ، وَمَا يُؤْخَذُ يُصْرَفُ إِلَى الْإِبِلِ، وَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ لَا يَقْبَلَ غَيْرَهَا؛ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ قَالَ: عَلَيْهِ نِصْفُ دِينَارٍ، أَوْ سِتَّةُ دَرَاهِمَ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ الضَّرْبِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، قَدْ سَبَقَ بَيَانُ تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ وَالْجِهَاتِ، وَقَدْرُ الْوَاجِبِ؛ فَإِذَا انْتَهَى التَّحَمُّلُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَالٌ؛ فَهَلْ يُؤْخَذُ الْوَاجِبُ مِنَ الْجَانِي؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوَّلًا أَمْ عَلَى الْجَانِي، ثُمَّ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: تُؤْخَذُ مِنَ الْجَانِي؛ فَإِنْ قُلْنَا: لَا تُؤْخَذُ؛ فَفِي وَجْهٍ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَنَفَقَةِ الْفُقَرَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمْهُورُ هَذَا. لَكِنْ لَوْ حَدَثَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، هَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْوَاجِبُ؟ وَجْهَانِ؛ حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ؛ أَحَدُهُمَا: لَا، كَمَا لَا يُطَالَبُ فَقِيرُ الْعَاقِلَةِ لِغِنَاهُ بَعْدَ الْحَوْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: تُؤْخَذُ مِنَ الْجَانِي؛ فَهِيَ مُؤَجَّلَةٌ عَلَيْهِ كَالْعَاقِلَةِ، وَهَلْ تَجِبُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَيُقَدَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ. فَرْعٌ إِذَا اعْتَرَفَ الْجَانِي بِالْخَطَأِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَصَدَّقَتْهُ الْعَاقِلَةُ؛ فَعَلَيْهِمُ الدِّيَةُ؛ وَإِنْ كَذَّبُوهُ؛ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لَكِنْ يَحْلِفُونَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ فَإِذَا حَلَفُوا؛ فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُقِرِّ قَطْعًا. وَعَنِ الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ قُلْنَا: تَجِبُ الدِّيَةُ أَوَّلًا عَلَى الْعَاقِلَةِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَبْعُدُ هَذَا عَنِ الْقِيَاسِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَتَتَأَجَّلُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ كَالْعَاقِلَةِ؛ لَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ ثُلْثُ الدِّيَةِ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ مِنَ الْعَاقِلَةِ؛ فَلَوْ مَاتَ، فَهَلْ تَحِلُّ الدِّيَةُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْأَجَلَ يُلَازِمُ دِيَةَ الْخَطَأِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛

فصل

كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ سَبِيلَهُ الْمُوَاسَاةُ، وَالْوُجُوبُ عَلَى الْجَانِي سَبِيلُهُ صِيَانَةُ الْحَقِّ عَنِ الضَّيَاعِ؛ فَلَا يَسْقُطُ؛ فَلَوْ مَاتَ مُعْسِرًا. قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تُؤْخَذَ الدِّيَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، كَمَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا مُعْسِرًا. الثَّانِي أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ غَرِمَ الْجَانِي ثُمَّ اعْتَرَفَتِ الْعَاقِلَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوُجُوبُ يُلَاقِيهِ؛ لَمْ يَرُدَّ الْوَلِيُّ مَا قَبَضَ؛ بَلْ يَرْجِعُ الْجَانِي عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوَّلًا؛ رَدَّ الْوَلِيُّ مَا أَخَذَ، وَابْتَدَأَ بِمُطَالَبَةِ الْعَاقِلَةِ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ قَتْلَ خَطَأٍ، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ وَلَا بَيِّنَةٍ وَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي؛ فَإِنْ قُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ كَذَّبَتِ الْعَاقِلَةُ الْمُدَّعِيَ. وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ؛ فَهَلِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، أَمْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَهَابًا إِلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ كَالْبَيِّنَةِ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. فَصْلٌ بَدَلُ الْأَطْرَافِ وَأُرُوشُ الْجِرَاحَاتِ وَالْحُكُومَاتِ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا يُضْرَبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَدِيَةِ النَّفْسِ، وَحُكِيَ عَنِ الْقَدِيمِ قَوْلُ أَنَّهَا لَا تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَكِنْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي النَّفْسِ؛ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا؛ وَلِهَذَا لَا كَفَّارَةَ وَلَا قَسَامَةَ فِي الطَّرَفِ، وَقَوْلٌ آخَرُ: إِنَّ مَا دُونَ ثُلْثِ الدِّيَةِ لَا يُضْرَبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْظُمُ إِجْحَافُهُ بِالْجَانِي. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْأَرْشُ نِصْفَ دِينَارٍ مَثَلًا، وَالْعَاقِلَةُ جَمَاعَاتٌ فَوَجْهَانِ؛

فصل

أَصَحُّهُمَا: يُوَزَّعُ النِّصْفُ عَلَيْهِمْ، وَالثَّانِي يُعَيِّنُ لَهُ الْقَاضِي وَاحِدًا، أَوْ جَمَاعَةً بِاجْتِهَادِهِ كَيْ لَا يَعْسُرَ التَّوْزِيعُ، وَهَذَا كَالْخِلَافِ فِيمَا لَوْ كَثُرَتِ الْعَاقِلَةُ فِي دَرَجَةٍ بِحَيْثُ لَوْ وُزِّعَ الْوَاجِبُ، لَأَصَابَ كُلَّ غَنِيٍّ دُونَ نِصْفٍ، وَكُلَّ مُتَوَسِّطٍ دُونَ رُبُعٍ فَقَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ: ضَرْبُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَالثَّانِي: يَخُصُّ الْإِمَامَ جَمَاعَةً يُضْرَبُ عَلَى أَغْنِيَائِهِمُ النِّصْفُ، وَمُتَوَسِّطِهِمُ الرُّبْعُ. وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ؛ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَخُصُّ جَمَاعَةً بِاجْتِهَادِهِ، وَالثَّانِي: يَجْعَلُهُمْ فَرِيقَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً كَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَيُقْرَعُ. فَصْلٌ لَا خِلَافَ أَنَّ مَا يُضْرَبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ يُضْرَبُ مُؤَجَّلًا وَأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَنْقُصُ عَنْ سَنَةٍ؛ وَأَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ الْكَامِلَةِ تُؤَجَّلُ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ؛ يُؤْخَذُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلْثُهَا، وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي عِلَّتِهِ؛ فَرَاعَتْ طَائِفَةٌ كَوْنَهَا بَدَلَ نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ، وَرَاعَى آخَرُونَ قَدْرَ الْوَاجِبِ وَاعْتَبَرُوا التَّأْجِيلَ بِهِ؛ وَهَذَا أَصَحُّ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي صُوَرٍ: إِحْدَاهَا: بَدَلُ الْعَبْدِ أَوْ طَرَفُهُ إِذَا جُنِيَ عَلَيْهِ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ؛ هَلْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ أَمْ هُوَ فِي مَالِ الْجَانِي؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ وَهُوَ الْجَدِيدُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ آدَمِيٍّ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ قِصَاصٌ وَكَفَّارَةٌ؛ فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَالْعَاقِلَةُ فِي قِيمَتِهِ؛ صُدِّقُوا بِأَيْمَانِهِمْ؛ فَلَوْ صَدَّقَهُ الْجَانِي لَمْ يَقْبَلْ عَلَيْهِمْ بَلِ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا اعْتَرَفَتْ بِهِ الْعَاقِلَةُ فِي مَالِهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ قَدْرَ دِيَةِ حُرٍّ ضُرِبَتْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْرَ دِيَتَيْنِ؛ فَهَلْ تُضْرَبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِكَوْنِهَا بَدَلَ نَفْسٍ؛ أَمْ فِي سِتِّ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ قَدْرَ ثُلْثِ دِيَةٍ نَظَرًا إِلَى الْقَدْرِ؟ وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي.

فصل

الثَّانِيَةُ: فِي دِيَةِ النَّفْسِ النَّاقِصَةِ؛ كَامْرَأَةٍ وَذِمِّيٍّ وَغُرَّةِ جَنِينٍ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهَا نَفْسٌ؛ وَأَصَحُّهُمَا: يُنْظَرُ إِلَى الْقَدْرِ؛ فِدْيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْجَنِينِ فِي سَنَةٍ؛ فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الثُّلْثِ، وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ فِي سَنَتَيْنِ، فِي آخِرِ الْأُولَى ثُلْثُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَفِي آخِرِ الثَّانِيَةِ الْبَاقِي. الثَّالِثَةُ: قَتْلُ جَمَاعَةٍ كَثَلَاثَةِ رِجَالٍ مَثَلًا؛ فَهَلْ تُضْرَبُ دِيَاتُهُمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَمْ فِي تِسْعٍ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَلَوْ قَتَلَ ثَلَاثَةٌ وَاحِدًا؛ فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلْثُ دِيَتِهِ؛ مُؤَجَّلٌ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةٍ. الرَّابِعَةُ: دِيَةُ الْأَطْرَافِ وَأُرُوشُ الْجِرَاحِ وَالْحُكُومَاتِ، قِيلَ: تُضْرَبُ فِي سَنَةٍ قَلَّتْ أَمْ كَثُرَتْ؛ وَالصَّحِيحُ: التَّفْضِيلُ؛ فَإِنْ لَمْ يَزِدِ الْوَاجِبُ عَلَى ثُلْثِ الدِّيَةِ؛ ضُرِبَ فِي سَنَةٍ؛ وَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُجَاوِزِ الثُّلْثَيْنِ؛ فَفِي سَنَتَيْنِ فِي آخِرِ الْأُولَى ثُلْثُ دِيَةٍ وَفِي آخِرِ الثَّانِيَةِ الْبَاقِي، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلْثَيْنِ وَلَمْ يُجَاوِزِ الدِّيَةَ؛ فَفِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ زَادَ كَقَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ؛ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ فِي سِتِّ سِنِينَ، وَقِيلَ: فِي ثَلَاثٍ، وَيَدُ الْمَرْأَةِ فِي سَنَةٍ وَيَدَاهَا كَنَفْسِهَا. فَصْلٌ مَاتَ بَعْضُ الْعَاقِلَةِ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ لَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ تَرِكَتِهِ كَالزَّكَاةِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوَلِ وَالْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَجَبَ فِي تَرِكَتِهِ. فَصْلٌ إِنْ كَانَتِ الْعَاقِلَةُ حَاضِرِينَ فِي بَلَدِ الْجِنَايَةِ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا غَائِبِينَ، لَمْ يَسْتَحْضِرُوا وَلَا يُنْتَظَرْ حُضُورُهُمْ بَلْ إِنْ كَانَ لَهُمْ

فصل

هُنَاكَ مَالٌ أُخِذَ مِنْهُ؛ وَإِلَّا فَيَحْكُمُ الْقَاضِي عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ، وَيَكْتُبُ بِذَلِكَ إِلَى قَاضِي بَلَدِهِمْ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنْ شَاءَ حَكَمَ بِالْقَتْلِ وَكَتَبَ إِلَى قَاضِي بَلَدِهِمْ لِيَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ، وَيَأْخُذَهَا مِنْهُمْ. وَإِنْ غَابَ بَعْضُهُمْ وَحَضَرَ بَعْضُهُمْ، نُظِرَ، إِنِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجَةِ فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُ مَنْ حَضَرَ لِقُرْبِ دَارِهِ وَإِمْكَانِ النُّصْرَةِ مِنْهُ. وَأَظْهَرُهُمَا: تُضْرَبُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ حَضَرُوا كُلُّهُمْ أَوْ غَابُوا، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَاضِرِينَ وَفَاءٌ، ضُرِبَ الْبَاقِي عَلَى الْغَائِبِينَ، وَطَرِيقُهُ كِتَابُ الْقَاضِي كَمَا سَبَقَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دَارُهُمْ؛ قَدِمَ الْأَقْرَبُ دَارًا فَالْأَقْرَبُ. هَكَذَا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ الْجُمْهُورُ، وَجَعَلَهُمَا الْمُتَوَلِّي فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْحَاضِرِينَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دَرَجَتُهُمْ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَاضِرُونَ أَقْرَبَ، وُزِّعَ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنْ لَمْ يَفُوا بِالْوَاجِبِ كَتَبَ الْقَاضِي لِمَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانُوا أَبْعَدَ فَفِي تَخْصِيصِ الْحَاضِرِينَ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْخِلَافِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالضَّرْبِ عَلَى الْأَقْرَبِينَ وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُمْ؛ وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْعِرَاقِيُّونَ. فَصْلٌ ابْتِدَاءً الْمُدَّةُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ مِنْ وَقْتِ الزَّهُوقِ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ مُذَفَّفٍ أَوْ بِسَرَايَةِ جُرْحٍ وَلَا خِلَافَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: إِنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي؛ فَلَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» عَنِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْغَزَالِيَّ؛ وَأَمَّا أَرْشُ مَا دُونَ النَّفْسِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْرِ وَانْدَمَلَتْ، فَابْتِدَاءُ مُدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ: مِنَ الِانْدِمَالِ؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ، لَوْ مَضَتْ سَنَةٌ وَلَمْ تَنْدَمِلْ؛ فَفِي مُطَالَبَةِ الْعَاقِلَةِ بِالْأَرْشِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي مُطَالَبَةِ الْجَانِي الْعَامِدِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، وَإِنْ سَرَتْ مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ بِأَنْ قَطَعَ أُصْبُعَهُ؛ فَسَرَتْ إِلَى كَفِّهِ؛ فَهَلِ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ سُقُوطِ الْكَفِّ أَمْ مِنْ الِانْدِمَالِ، أَمْ أَرْشُ

فصل

الْأُصْبُعِ مِنْ يَوْمِ الْقَطْعِ، وَأَرْشُ الْكَفِّ مِنْ يَوْمِ سُقُوطِهَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَبِالثَّانِي الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّالِثُ اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ: الْقَاتِلُ خَطَأً لَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ أَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَهَدَرٌ. جِنَايَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مَحْمُولَةٌ إِنْ كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ عَمْدًا، وَقُلْنَا: عَمْدُهُمَا خَطَأٌ. لَوْ حَلَّ نَجْمٌ وَلَا إِبِلَ فِي الْبَلَدِ؛ قُوِّمَتْ يَوْمَئِذٍ، وَأَخَذَتْ قِيمَتَهَا، وَلَا تُعْتَبَرُ بَعْضُ النُّجُومِ بِبَعْضٍ، وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ إِذَا قُتِلَ خَطَأً تَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ فَإِذَا جَنَى عَبْدٌ جِنَايَةً تُوجِبُ مَالًا أَوْ قِصَاصًا، وَعُفِيَ عَلَى مَالٍ، تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ فَتُؤَدَّى مِنْهَا، وَهَلْ تَتَعَلَّقُ مَعَ ذَلِكَ بِذِمَّتِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مُسْتَنْبَطَانِ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، فَتَكُونُ الرَّقَبَةُ مَرْهُونَةً بِهِ، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا، وَيُنْسَبُ إِلَى الْجَدِيدِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالذِّمَّةِ؛ فَبَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ صَرْفِ ثَمَنِهِ إِلَى الْأَرْشِ؛ اتَّبَعَ بِهِ بَعْدَ مُعْتَقٍ، وَكَذَا لَوْ ضَاعَ الثَّمَنُ قَبْلَ صَرْفِهِ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يُطَالِبُ بِالْجَمِيعِ، وَهَلْ يَجُوزُ ضَمَانُهُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا، لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ فِي الْحَالِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَضَمَانِ الْمُعْسِرِ وَأَوْلَى لِتَوَقُّعِ يَسَارِهِ، وَضَمَانِ مَا يَلْزَمُ ذِمَّتَهُ بِدَيْنِ الْمُعَامَلَةِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ مَا تَعَلَّقَ بِكَسْبِهِ؛ كَالْمَهْرِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ ضَمِنَهُ السَّيِّدُ فَمُرَتَّبٌ عَلَى ضَمَانِ الْأَجْنَبِيِّ وَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ لِتَعَلُّقِهِ بِمِلْكِهِ، ثُمَّ الْعَبْدُ الْمُتَعَلِّقُ بِرَقَبَتِهِ مَالٌ لَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ بَلْ سَيِّدُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ

يُسَلِّمَهُ لِلْبَيْعِ، وَبَيْنَ أَنْ يُبْقِيَهُ لِنَفْسِهِ وَيَفْدِيَهَا، وَيَكُونُ الْمَالُ الَّذِي بَذَلَهُ فِدَاءٌ كَالثَّمَنِ الَّذِي يَشْتَرِيهِ بِهِ أَجْنَبِيٌّ؛ وَإِذَا سَلَّمَهُ لِلْبَيْعِ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ، بِيعَ كُلُّهُ؛ وَإِلَّا فَقَدْرَ الْحَاجَةِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ سَيِّدُهُ فِي بَيْعِ الْجَمِيعِ؛ فَيُؤَدِّي الْأَرْشَ وَيَكُونُ الْبَاقِي لَهُ. وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَشْتَرِي بَعْضُهُ، وَإِنْ أَرَادَ سَيِّدُهُ فَدَاءَهُ، فَبِكَمْ يَفْدِيهِ؟ قَوْلَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ وَهُوَ الْجَدِيدُ: بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَالْقَدِيمُ: بِالْأَرْشِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ فَعَلَى الْجَدِيدِ قَالَ الْبَغَوِيُّ: النَّصُّ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ؛ وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْفِدَاءِ، لِأَنَّ مَا نَقَصَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُؤَاخَذُ السَّيِّدُ بِهِ. وَحُمِلَ النَّصُّ عَلَى مَا إِذَا سَبَقَ مِنَ السَّيِّدِ مَنْعٌ مِنْ بَيْعِهِ حَالَةَ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ. وَلَوْ جَنَى فَفَدَاهُ ثُمَّ جَنَى؛ فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ لِيُبَاعَ، وَإِمَّا أَنْ يَفْدِيَهُ ثَانِيًا، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ الْفِدَاءِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ لِلْبَيْعِ، بِيعَ وَوُزِّعَ الثَّمَنُ عَلَى أَرْشِ الْجِنَايَتَيْنِ، وَإِنِ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَدَاهُ عَلَى الْجَدِيدِ: بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ وَالْأَرْشَيْنِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ: بِالْأَرْشَيْنِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ كَانَ سَلَّمَهُ لِلْبَيْعِ؛ فَجَنَى ثَانِيًا قَبْلَ الْبَيْعِ. وَلَوْ قَتَلَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْجَانِي أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ، وَقُلْنَا بِنُفُوذِهِمَا، أَوِ اسْتَوْلَدَ الْجَانِيَةَ؛ لَزِمَهُ الْفِدَاءُ، وَفِي قَدْرِهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ لِتَعَذُّرِ الْبَيْعِ وَبُطْلَانِ تَوَقُّعِ زِيَادَةِ رَاغِبٍ. وَلَوْ مَاتَ الْجَانِي أَوْ هَرَبَ قَبْلَ أَنْ يُطَالِبَ السَّيِّدَ بِتَسْلِيمِهِ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ، وَكَذَا لَوْ طُولِبَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ فَلَوْ مَنَعَهُ، صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَتَلَ الْجَانِي؛ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ، وَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَيَجُوزَ أَنْ يُنْظَرَ فِي وُجُوبِ الْفِدَاءِ عَلَيْهِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ، أَوْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ مُوجِبًا لِلْمَالِ؛ تَعَلَّقَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ؛ وَإِذَا أُخِذَتْ،

فصل

يُخَيَّرُ السَّيِّدُ فِي تَسْلِيمِ عَيْنِهَا أَوْ بَدَلِهَا مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ؛ وَإِذَا لَزِمَ الْفِدَاءُ بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ أَوْ قَبْلَهُ؛ فَفِيمَا يَفْدِيهِ بِهِ؟ الطَّرِيقَانِ فِيمَنْ قَتَلَ الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَهُ لِحُصُولِ الْيَأْسِ مِنْ بَيْعِهِ بِمَا يَزِيدُ عَلَى قِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ: اخْتَرْتُ الْفِدَاءَ، أَوْ قَالَ: أَنَا أَفْدِيهِ؛ فَوَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ وَلَا يَقْبَلُ رُجُوعَهُ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بَلْ يَبْقَى خِيَارُهُ كَمَا كَانَ، وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ حَيًّا؛ فَإِنْ مَاتَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِحَالٍ. فَصْلٌ إِذَا جَنَتْ مُسْتَوْلَدَة عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَجَبَ عَلَى سَيِّدِهَا الْفِدَاءُ، وَفِيمَا يَفْدِيهِ بِهِ طَرِيقَانِ؛ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا وَالْأَرْشُ، وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالْقِنِّ، وَالْفَرْقُ أَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْبَيْعِ، وَهَلْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ يَوْمِ الْجِنَايَةِ، أَمْ يَوْمِ الِاسْتِيلَادِ، وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَلَوْ جَنَتْ جِنَايَتَيْنِ، وَقُلْنَا: يَفْدِي بِالْأَرْشِ؛ لَزِمَ السَّيِّدَ الْأُرُوشُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّ الْوَاجِبَ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى دُونَ الْقِيمَةِ وَفِدَاهَا بِهِ وَكَانَ الْبَاقِي مِنْ قِيمَتِهَا يَفِي بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، فَدَاهَا بِأَرْشِهَا أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْأُولَى كَالْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، وَالْبَاقِي مِنَ الْقِيمَةِ لَا يَفِي بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: أَنَّ الْجِنَايَاتِ كُلُّهَا كَوَاحِدَةٍ، فَيَلْزَمُهُ الْبَيْعُ فَدَاءَ وَاحِدٍ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ لِكُلِّ جِنَايَةٍ فِدَاءٌ، وَالثَّالِثُ: إِنْ فَدَى الْأُولَى قَبْلَ جِنَايَتِهَا الثَّانِيَةِ؛ لَزِمَهُ فَدَاءٌ آخَرُ، وَإِلَّا فَوَاحِدٌ، وَإِذَا أَلْزَمْنَاهُ فَدَاءً وَاحِدًا، اشْتَرَكَ فِيهِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُسْتَوْلَدَةِ أَلْفًا وَأَرْشُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِنَايَتَيْنِ أَلْفًا؛ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَبَضَ الْأَلْفَ، اسْتَرَدَّ الثَّانِي مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا وَأَرْشُ الْأُولَى أَلْفٌ وَالثَّانِيَةُ خَمْسُمِائَةٍ، يَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِثُلْثِ

الْأَلْفِ وَلَوْ كَانَتِ الْأُولَى خَمْسَمِائَةٍ وَالثَّانِيَةُ أَلْفًا، أَخَذَ الثَّانِي مِنَ السَّيِّدِ خَمْسَمِائَةٍ تَمَامَ الْقِيمَةِ، وَرَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِثُلْثِ خُمْسِ الْمِائَةِ الَّتِي قَبَضَهَا لِيَصِيرَ مَعَهُ ثُلْثَا الْأَلْفِ، وَمَعَ الْأَوَّلِ ثُلْثُهُ، ثُمَّ قِيلَ: الْخِلَافُ عِنْدَ تَخَلُّلِ الْفِدَاءِ فِيمَا إِذَا دَفَعَ السَّيِّدُ الْفِدَاءَ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِهِ؛ أَمَّا إِذَا دَفَعَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ قَطْعًا. وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَتَجْرِي الْأَقْوَالُ فِي الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَإِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَمَهْمَا زَادَتِ الْجِنَايَةُ، زَادَ الِاسْتِرْدَادُ، وَشُبِّهَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا قُسِّمَتْ تَرِكَةُ إِنْسَانٍ عَلَى غُرَمَائِهِ أَوْ وَرَثَتِهِ وَكَانَ حَفَرَ بِئْرَ عُدْوَانٍ فَهَلَكَ بِهَا شَيْءٌ، زَاحَمَ الْمُسْتَحِقُّ الْغُرَمَاءَ وَالْوَرَثَةَ، وَاسْتَرَدَّ مِنْهُمْ حِصَّتَهُ؛ فَلَوْ هَلَكَ آخَرُ، زَادَ الِاسْتِرْدَادُ. فَرْعٌ جَنَى الْقِنُّ؛ فَمَنَعَ السَّيِّدُ بَيْعَهُ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ، ثُمَّ جَنَى؛ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، لَزِمَهُ لِكُلِّ جِنَايَةٍ الْأَقَلُّ مِنْ أَرْشِهَا وَقِيمَتُهُ، وَلَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ قَتَلَهُ السَّيِّدُ أَوْ أَعْتَقَهُ، لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا فَدَاءٌ وَاحِدٌ. فَرْعٌ وَطِئَ الْجَانِيَةَ؛ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لِلْفِدَاءِ، كَمَا أَنَّ وَطْءَ الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ فَسْخٌ، وَوَطْءُ الْمُشْتَرِي إِجَازَةٌ. وَالصَّحِيحُ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الِالْتِزَامِ، مَعَ أَنَّهُ لَوِ الْتَزَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ وَيُخَالِفُ الْخِيَارَ؛ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِفِعْلِهِ فَسَقَطَ بِهِ، وَخِيَارُ السَّيِّدِ هُنَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ؛ فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلِهِ. فَرْعٌ جَنَتْ جَارِيَةٌ لَهَا وَلَدٌ، أَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ

الْجِنَايَةِ، أَوْ حَدَثَ بَعْدَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَرْشُ؛ فَإِنْ لَمْ يَجُزِ التَّفْرِيقُ، بِيعَ مَعَهَا وَصُرِفَتْ حِصَّةُ الْأُمِّ إِلَى الْأَرْشِ، وَحِصَّةُ الْوَلَدِ لِلسَّيِّدِ، وَهَلْ تُبَاعُ حَامِلًا بِحَمْلٍ كَانَ يَوْمَ الْجِنَايَةِ أَوْ حَدَثٍ؟ إِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ لَا يُعْرَفُ، بِيعَتْ، كَمَا لَوْ زِيدَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، وَإِلَّا فَلَا تُبَاعُ حَتَّى تَضَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْبَارُ السَّيِّدِ عَلَى بَيْعِ الْحَمْلِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِثْنَاؤُهُ. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يُفِدِ السَّيِّدُ الْجَانِيَ وَلَا سَلَّمَهُ لِلْبَيْعِ، بَاعَهُ الْقَاضِي، وَصَرَفَ الثَّمَنَ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلَوْ بَاعَهُ بِالْأَرْشِ، جَازَ إِنْ كَانَ نَقْدًا؛ وَكَذَا إِنْ كَانَ إِبِلًا، وَقُلْنَا: يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهَا. الْبَابُ السَّادِسُ فِي الْجَنِينِ فِيهِ أَطْرَافٌ: الْأَوَّلُ: الْمُوجِبُ وَهُوَ جِنَايَةٌ تُوجِبُ انْفِصَالَ الْجَنِينِ مَيْتًا؛ فَهَذِهِ قُيُودٌ: الْأَوَّلُ: الْجِنَايَةُ وَهِيَ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْجَنِينِ مِنْ ضَرْبٍ، وَإِيجَارُ دَوَاءٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا أَثَرَ لِلَطْمَةٍ خَفِيفَةٍ وَنَحْوِهَا، كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الدِّيَةِ. الثَّانِي: الِانْفِصَالُ؛ فَلَوْ مَاتَتِ الْأُمُّ وَلَمْ يَنْفَصِلْ جَنِينٌ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الضَّارِبِ شَيْءٌ؛ وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مُنْتَفِخَةَ الْبَطْنِ، فَضَرَبَهَا شَخْصٌ فَزَالَ الِانْتِفَاخُ، أَوْ كَانَتْ تَجِدُ حَرَكَةً فِي بَطْنِهَا فَزَالَتْ، لِجَوَازِ أَنَّهُ كَانَ رِيحًا فَانْفَشَّتْ، ثُمَّ هَلْ يُعْتَبَرُ انْكِشَافُ الْجَنِينِ بِظُهُورِ شَيْءٍ مِنْهُ أَمِ الِانْفِصَالِ التَّامِّ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ لِتَحَقُّقِ وَجُودِهِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا مَا لَوْ ضَرَبَ بَطْنَهَا، فَخَرَجَ رَأْسُ الْجَنِينِ مَثَلًا، وَمَاتَتِ الْأُمُّ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَنْفَصِلْ، أَوْ خَرَجَ رَأْسُهُ ثُمَّ جَنَى عَلَيْهَا فَمَاتَتْ؛ فَعَلَى الْأَصَحِّ تَجِبُ الْغُرَّةُ لِتَيَقُّنِ وَجُودِهِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا، وَلَوْ قُدَّتْ نِصْفَيْنِ، وَشُوهِدَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا وَلَمْ يَنْفَصِلْ؛ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، وَلَوْ

خَرَجَ رَأْسُهُ وَصَاحَ فَحَزَّ رَجُلٌ رَقَبَتَهُ؛ فَعَلَى الْأَصَحِّ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِالصِّيَاحِ حَيَاتَهُ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الِانْفِصَالَ؛ فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ. وَلَوْ صَاحَ وَمَاتَ؛ فَوُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْخِلَافِ. الثَّالِثُ: كَوْنُ الْمُنْفَصِلِ مَيْتًا؛ فَلَوِ انْفَصَلَ حَيًّا، نُظِرَ؛ إِنْ بَقِيَ زَمَانًا سَالِمًا غَيْرَ مُتَأَلِّمٍ ثُمَّ مَاتَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الضَّارِبِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَإِنْ مَاتَ عِنْدَ خُرُوجِهِ أَوْ بَقِيَ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ، وَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَا حَيَاتَهُ؛ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَحْيَاءِ. وَسَوَاءٌ اسْتَهَلَّ، أَوْ وَجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ؛ كَتَنَفُّسٍ وَامْتِصَاصِ لَبَنٍ وَحَرَكَةٍ قَوِيَّةٍ؛ كَقَبْضِ يَدٍ وَبَسْطِهَا، وَلَا عِبْرَةَ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِلَاجِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِذَا عُلِمَتِ الْحَيَاةُ؛ فَسَوَاءٌ كَانَ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ أَمْ لَمْ يَنْتَهِ، وَبَقِيَ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ، لِأَنَّا تَيَقَّنَا الْحَيَاةَ فِي الْحَالَيْنِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ مَوْتُهُ بِهَا. وَسَوَاءٌ انْفَصَلَ لِوَقْتٍ يَعِيشُ فِيهِ، أَوْ لِوَقْتٍ لَا يَتَوَقَّعُ أَنْ يَعِيشَ، بِأَنْ يَنْفَصِلَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِنْ لَمْ يَتَوَقَّعْ أَنْ يَعِيشَ أَوْ كَانَ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ؛ فَفِيهِ الْغُرَّةُ دُونَ الدِّيَةِ. وَلَوْ قَتَلَ شَخْصٌ هَذَا الْجَنِينَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ؛ فَإِنِ انْفَصَلَ لَا بِجِنَايَةٍ، فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ قَتَلَ مَرِيضًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ. وَإِنِ انْفَصَلَ بِجِنَايَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَكَذَلِكَ؛ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي، وَالْقَاتِلُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَلَوِ انْفَصَلَ مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ مِنَ الضَّرْبِ، وَجَبَتِ الْغُرَّةُ كَمَا لَوِ انْفَصَلَ فِي حَيَاتِهَا؛ لِأَنَّهُ شَخْصٌ مُسْتَقِلٌّ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهَا. فَرْعٌ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْغُرَّةِ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ ثَابِتَ النِّسَبِ أَوْ غَيْرِهِ، تَامُّ الْأَعْضَاءِ أَوْ نَاقِصُهَا، وَلَوِ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي الضَّرْبِ؛ فَالْغُرَّةُ عَلَيْهِمَا؛ وَلَوْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ، وَجَبَ غُرَّتَانِ، وَلَوْ أَلْقَتْ حَيًّا وَمَيِّتًا وَمَاتَ الْحَيُّ، وَجَبَ دِيَةٌ وَغُرَّةٌ، وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ مَيْتَةٍ فَانْفَصَلَ مِنْهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ،

فَلَا غُرَّةَ؛ كَذَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ قَالَ الْقَاضِي الطَّبَرِيُّ: يَجِبُ لِأَنَّ الْجَنِينَ قَدْ يَبْقَى فِي جَوْفِهَا حَيًّا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ. فَرْعٌ أَلْقَتِ الْمَضْرُوبَةُ يَدًا أَوْ رِجْلًا وَمَاتَتْ، وَلَمْ يَنْفَصِلِ الْجَنِينُ بِتَمَامِهِ؛ فَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْغُرَّةِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَفِي وَجْهٍ يَجِبُ نِصْفُ غُرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تُضْمَنُ بِنِصْفِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ لَا يَضْمَنُ حَتَّى يَنْفَصِلَ كُلُّهُ، وَلَوْ أَلْقَتْ يَدَيْنِ أَوْ رِجْلَيْنِ، أَوْ يَدًا وَرِجْلًا، وَجَبَتْ غُرَّةٌ قَطْعًا. وَلَوْ أَلْقَتْ مِنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا، أَوْ رَأْسَيْنِ؛ فَغُرَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: غُرَّتَانِ، وَلَوْ أَلْقَتْ بَدَنَيْنِ فَغُرَّتَانِ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ لَهُ بَدَنَانِ بِحَالٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافَهُ وَجَوَّزَ بَدَنَيْنِ لِرَأْسٍ، كَرَأْسَيْنِ لِبَدَنٍ. وَلَوْ أَلْقَتْ عُضْوًا؛ كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، ثُمَّ أَلْقَتْ جَنِينًا؛ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْجَنِينُ فَقِيدَ ذَلِكَ الْعُضْوِ، فَيُنْظَرُ، إِنْ أَلْقَتْهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، وَزَوَالِ أَلَمِ الضَّرْبِ؛ فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، لَمْ تَجِبْ إِلَّا غُرَّةٌ، وَبِقَدْرِ الْعُضْوِ مُبَانًا مِنْهُ بِالْجِنَايَةِ، وَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ مِنَ الْجِنَايَةِ، وَجَبَ دِيَةٌ وَدَخَلَ فِيهَا أَرْشُ الْيَدِ. وَإِنْ عَاشَ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ وُجُوبَ نِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ، وَنَقَلَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ تُرَاجَعُ الْقَوَابِلُ، فَإِنْ قُلْنَ: إِنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَ فِيهِ حَيَاةٌ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَكَذَا إِنْ عَلِمْنَا انْفِصَالَ الْيَدِ مِنْهُ بَعْدَ خَلْقِ الْحَيَاةِ؛ بِأَنْ أَلْقَتْهَا ثُمَّ انْفَصَلَ الْجَنِينُ عَقِبَ الضَّرْبِ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي حَالِهِ، وَجَبَ نِصْفُ الْغُرَّةِ عَمَلًا بِالْيَقِينِ، وَلِيَكُنْ إِطْلَاقُ الْبَغَوِيِّ مَحْمُولًا عَلَى ذَا التَّفْصِيلِ. وَإِنْ أَلْقَتْهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، لَمْ يَضْمَنِ الْجَنِينَ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا، لِزَوَالِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ بِفِعْلِهِ. وَأَمَّا الْيَدُ، فَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا فَعَلَيْهِ نِصْفُ غُرَّةٍ لَهَا، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا وَمَاتَ أَوْ عَاشَ، فَقِيلَ: يَجِبُ نِصْفُ غُرَّةٍ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ

شَخْصٍ فَانْدَمَلَ ثُمَّ مَاتَ، وَقِيلَ: تُرَاجَعُ الْقَوَابِلُ كَمَا سَبَقَ. وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ يَدًا، ثُمَّ ضَرَبَهَا آخَرُ فَأَلْقَتْ جَنِينًا لَا يَدَ لَهُ، فَإِنْ ضَرَبَ الثَّانِي قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَانْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا، فَالْغُرَّةُ عَلَيْهِمَا. وَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا، فَإِنْ عَاشَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَيْسَ عَلَى الثَّانِي سِوَى التَّعْزِيرِ. وَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ ضَرَبَ الثَّانِي بَعْدَ الِانْدِمَالِ؛ فَإِنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْغُرَّةِ، وَعَلَى الثَّانِي غُرَّةٌ كَامِلَةٌ. كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَانْدَمَلَ، ثُمَّ قَتَلَهُ آخَرُ؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ دِيَةٍ وَعَلَى الثَّانِي دِيَةٌ. وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا، فَعَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الدِّيَةِ، ثُمَّ إِنْ عَاشَ فَلَيْسَ عَلَى الثَّانِي إِلَّا التَّعْزِيرُ. وَإِنْ مَاتَ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَنْفَصِلَ الْجَنِينُ كَامِلَ الْأَطْرَافِ؛ فَيُنْظَرُ؛ إِنِ انْفَصَلَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ؛ فَمُقْتَضَى مَا سَبَقَ فِيمَنْ أَلْقَتْ ثَلَاثَ أَيْدٍ، أَنْ يُقَالَ: إِنِ انْفَصَلَ مَيْتًا، لَمْ يَجِبْ إِلَّا غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الَّتِي أَلْقَتْهَا كَانَتْ يَدًا زَائِدَةً، وَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا وَمَاتَ؛ فَالْوَاجِبُ غُرَّةٌ، وَإِنْ عَاشَ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا حُكُومَةٌ؛ وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَ «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ إِنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا وَجَبَ غُرَّتَانِ، إِحْدَاهُمَا لِلْيَدِ، وَالْأُخْرَى لِلْجَنِينِ. وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا وَمَاتَ، وَجَبَ دِيَةٌ وَغُرَّةٌ، وَلَوْ أَلْقَتْ أَوَّلًا جَنِينًا كَامِلًا، ثُمَّ يَدًا؛ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنِ انْفَصَلَ الْجَنِينُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، لَمْ يَجِبْ بِسَبَبِ الْجَنِينِ شَيْءٌ، وَلَوْ ضَرَبَهَا رَجُلٌ، فَأَلْقَتِ الْيَدَ، ثُمَّ ضَرَبَهَا آخَرُ، فَأَلْقَتِ الْجَنِينَ؛ فَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّ ضَمَانَ الْجَنِينِ عَلَى الثَّانِي؛ سَوَاءٌ ضَرَبَ بَعْدَ انْدِمَالِ الْأَوَّلِ، أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا وَجَبَ فِيهِ غُرَّةٌ. وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا فَمَاتَ فَدِيَةٌ. وَقِيَاسُ مَا سَبَقَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ ضَرَبَ الثَّانِي قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَانْفَصَلَ مَيِّتًا، وَجَبَتِ الْغُرَّةُ عَلَيْهِمَا، وَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا وَعَاشَ؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ حُكُومَةٌ، وَلَيْسَ عَلَى الثَّانِي إِلَّا التَّعْزِيرُ. وَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ.

فصل

الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْجَنِينِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ: قَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْعُدَّةِ أَنَّ الْغُرَّةَ تَجِبُ إِذَا سَقَطَتْ بِالْجِنَايَةِ مَا ظَهَرَ فِيهِ صُورَةُ آدَمِيٍّ؛ كَعَيْنٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ يَدٍ وَنَحْوِهَا، وَيَكْفِي الظُّهُورُ فِي طَرَفٍ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي كُلِّهَا، وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَشَهِدَ الْقَوَابِلُ أَنَّ فِيهِ صُورَةً خَفِيَّةً يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ، وَجَبَتِ الْغُرَّةُ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَ: لَيْسَ فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ، لَكِنَّهُ أَصْلٌ آدَمِيٌّ وَلَوْ بَقِيَ لِتَصَوُّرٍ، لَمْ تَجِبِ الْغُرَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ شَكَكْنَ هَلْ هُوَ أَصْلٌ آدَمِيٌّ، لَمْ تَجِبْ قَطْعًا. فَصْلٌ إِنَّمَا تَجِبُ الْغُرَّةُ الْكَامِلَةُ فِي جَنِينٍ مَحْكُومٍ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَبِحُرِّيَّتِهِ. فَأَمَّا الْجَنِينُ الْمَحْكُومُ بِأَنَّهُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ؛ فَفِيهِ أَوْجُهٌ؛ أَحَدُهَا: لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا، وَالثَّانِي: تَجِبُ غُرَّةٌ كَالْمُسْلِمِ، وَأَصَحُّهَا وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يَجِبُ ثُلْثُ غُرَّةِ الْمُسْلِمِ؛ فَعَلَى هَذَا فِي الْجَنِينِ الْمَجُوسِيِّ ثُلْثَا عُشْرِ غُرَّةِ الْمُسْلِمِ؛ وَهُوَ ثُلْثُ بَعِيرٍ، ثُمَّ قِيلَ: يُؤْخَذُ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الدِّيَةِ وَيُدْفَعُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَلَا يُصْرَفُ فِي غُرَّةٍ، وَقِيلَ: يَدْفَعُ هَذَا الْقَدْرَ، أَوْ غُرَّةٌ بِقِيمَتِهِ. وَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يَشْتَرِي بِهِ غُرَّةً؛ إِلَّا أَنْ لَا تُوجَدُ فَيَعْدِلَ حِينَئِذٍ إِلَى الْإِبِلِ أَوِ الدَّرَاهِمِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدَ أَبَوَيِ الْجَنِينِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا؛ فَهَلْ يَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ النَّصْرَانِيِّ أَمِ الْمَجُوسِيِّ، أَمْ يُعْتَبَرُ بِالْأَبِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ ذِمِّيًّا، وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا لَا أَمَانَ لَهُ؛ فَعَلَى الْأَصَحِّ يَجِبُ مَا يَجِبُ فِيمَنْ أَبَوَاهُ ذِمِّيَّانِ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا شَيْءَ فِيهِ، وَعَلَى الثَّالِثِ: يُعْتَبَرُ جَانِبُ الْأَبِ، وَالْجَنِينِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ مُسْتَأْمَنَيْنِ كَجَنِينِ الذِّمِّيَّيْنِ، وَلَوِ اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ فِي وَطْءِ ذِمِّيَّةٍ بِشُبْهَةٍ فَحَبِلَتْ وَأَجْهَضَتْ جَنِينًا بِجِنَايَةٍ، يَعْرِضُ الْجَنِينُ عَلَى الْقَائِفِ وَلَهُ حُكْمُ مَنْ

أَلْحَقَهُ بِهِ، وَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ أَخَذَ الْأَقَلَّ وَوَقَفَ إِلَى أَنْ يَنْكَشِفَ الْحَالُ أَوْ يَصْطَلِحُوا. قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْطَلِحَ الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ فِي قَدْرِ الثُّلْثِ مِنْهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ لِلْمُسْلِمِ لَا حَقَّ لَهُمَا فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَصْطَلِحَ فِي الثُّلْثِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلذِّمِّيِّ فِيهِ، وَلَا يَخْرُجُ اسْتِحْقَاقُهُ عَنْهُمَا. وَالْمَسْأَلَةُ مُفَرَّعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِضُ عَلَى الْقَائِفِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ جَنَى عَلَى مُرْتَدَّةٍ حُبْلَى فَأُجْهِضَتْ، نُظِرَ، إِنِ ارْتَدَّتَ بَعْدَ الْحَبَلِ، وَجَبَتِ غُرَّةٌ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ حَبِلَتْ بَعْدَ الرِّدَّةِ مِنْ مُرْتَدٍّ، بُنِيَ عَلَى الْمُتَوَلِّدِ مِنْ مُرْتَدَّيْنِ مُسْلِمٍ أَمْ كَافِرٍ؟ إِنْ قُلْنَا: مُسْلِمٌ، وَجَبَ غُرَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ، كَجَنِينِ الْحَرْبِيَّيْنِ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّ فِيهِ دِيَةُ جَنِينٍ مَجُوسِيٍّ لِعَلَقَةِ الْإِسْلَامِ. فَرْعٌ جَنَى عَلَى ذِمِّيَّةٍ حُبْلَى مِنْ ذِمِّيٍ، فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَجْهَضَتْ، وَجَبَتْ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الضَّمَانِ بِآخِرِ الْأَمْرِ، وَكَذَا حُكْمُ مَنْ جَنَى عَلَى أَمَةٍ حُبْلَى فَعُتِقَتْ ثُمَّ مَاتَتْ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ سَيِّدُهَا مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ: الصَّحِيحُ: الْأَقَلُّ مِنْ عُشْرِ قِيمَةِ الْأَمَةِ وَمِنِ الْغُرَّةِ، وَالثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّ السَّيِّدُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ شَيْئًا؛ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْقَفَّالُ؛ لِأَنَّ الْإِجْهَاضَ حَصَلَ حَالَ الْحُرِّيَّةِ؛ فَصَارَ كَحُرٍّ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ كَانَ عِنْدَ حَفْرِهَا رَقِيقًا، لَا شَيْءَ لِسَيِّدِهِ مِنَ الضَّمَانِ. فَرْعٌ جَنَى عَلَى حَرْبِيَّةٍ؛ فَأَسْلَمَتْ ثُمَّ أُجْهِضَتْ؛ فَالْأَصَحُّ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَقِيلَ: يَجِبُ غُرَّةٌ.

قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ جَنَى السَّيِّدُ عَلَى أَمَتِهِ الْحَامِلِ مِنْ غَيْرِهِ، فَعُتِقَتْ، ثُمَّ أَلْقَتِ الْجَنِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْجَنِينُ الرَّقِيقُ فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، قِنَّةً كَانَتْ أُمُّهُ أَوْ مُدَبَّرَةً وَمُكَاتَبَةً وَمُسْتَوْلَدَةً، وَلَوْ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَعُتِقَتْ، ثُمَّ أَلْقَتْ آخَرَ مَيِّتًا؛ فَالْوَاجِبُ فِي الْأَوَّلِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَفِي الثَّانِي الْغُرَّةُ، وَفِي الْقِيمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قِيمَةُ يَوْمِ الْإِجْهَاضِ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنَ الْجِنَايَةِ إِلَى الْإِجْهَاضِ. فَلَوْ كَانَ الْجَنِينُ سَلِيمًا وَالْأُمُّ مَقْطُوعَةُ الْأَطْرَافِ أَوْ بِالْعَكْسِ؛ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تَقُومُ مَقْطُوعَةٌ، وَأَصَحُّهُمَا: سَلِيمَةٌ، كَمَا لَوْ كَانَتْ كَافِرَةً وَالْجَنِينُ مُسْلِمٌ، يُقَدَّرُ فِيهَا الْإِسْلَامُ وَتَقُومُ مَسْلَمَةٌ، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْجَنِينُ رَقِيقًا وَهِيَ حُرَّةٌ، بِأَنْ كَانَتْ لِرَجُلٍ وَالْجَنِينُ لِآخَرَ فَأَعْتَقَهَا صَاحِبُهَا، وَبَقِيَ الْجَنِينُ رَقِيقًا لِصَاحِبِهِ، تُقَدَّرُ الْأُمُّ رَقِيقَةً، وَيَجِبُ فِي الْجَنِينِ عُشْرُ قِيمَتِهَا. فَرْعٌ جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، حَبِلَتْ مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا، وَجَنَى عَلَيْهَا رَجُلٌ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا؛ لَزِمَهُ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ لِلسَّيِّدَيْنِ؛ فَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا أَحَدُهُمَا؛ فَأَلْقَتْ مَيِّتًا؛ لَزِمَهُ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِشَرِيكِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا بَعْدَمَا جَنَى، ثُمَّ أَلْقَتْهُ، نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا عُتِقَ نَصِيبُهُ مِنَ الْأُمِّ وَالْجَنِينِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِشَرِيكِهِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ نِصْفُ الْغُرَّةِ لِلنِّصْفِ الْحُرِّ؟ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا؛ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ كَانَ مِلْكُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَعَمْ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْجَنِينِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْإِلْقَاءِ، وَهُوَ حُرٌّ حِينَئِذٍ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُرَّةِ الضَّرْبُ أَوِ الْإِجْهَاضُ؛ وَفِيهِ وَجْهَانِ، وَأَكْثَرُ النَّاقِلِينَ يَمِيلُونَ إِلَى تَرْجِيحِ

وُجُوبِ نِصْفِ الْغُرَّةِ، وَالْأَصَحُّ مَا رَجَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَأَنَّ الْمُوجِبَ الضَّرْبُ لِتَأْثِيرِهِ؛ فَإِنْ أَوْجَبْنَا، بُنِيَ عَلَى أَنَّ مَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ هَلْ يُوَرَّثُ. إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ؛ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ غَيْرُ سَيِّدِهِ وَأُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ وَبَعْضُهَا رَقِيقٌ؛ وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَهَلْ هُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ أَمْ لِلْمَالِكِ نِصْفُهُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْفَرَائِضِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُعَتِقُ مُوسِرًا؛ فَإِنْ قُلْنَا: تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ أَوْ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ وَأَدَّاهَا قَبْلَ الْإِجْهَاضِ؛ فَعَلَى الْجَانِي الْغُرَّةُ وَتُصْرَفُ إِلَى وَرَثَةِ الْجَنِينِ، وَإِنْ قُلْنَا: تَحْصُلُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى أُجْهِضَتْ؛ فَحُكْمُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا لَوْ كَانَ مُعْسِرًا. وَإِنْ قُلْنَا: الْعِتْقُ مَوْقُوفٌ؛ فَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ تَبَيَّنَ حُصُولُ الْعِتْقِ مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَا إِذَا قُلْنَا: تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ، فَكَمَا ذَكَرْنَا لَوْ كَانَ مُعْسِرًا، وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَكِنْ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ ثُمَّ جَنَى عَلَيْهَا جَانٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا؛ فَالْجَانِي الْمُعْتِقُ أَوْ شَرِيكُهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُعَتِقَ، نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا، بَقِيَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ مِلْكًا لَهُ. فَعَلَيْهِ لَهُ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَعَلَيْهِ لِلنِّصْفِ الَّذِي عَتَقَ نِصْفُ الْغُرَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَلِمَنْ يَكُونُ ذَلِكَ؟ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، هَلْ يُوَرَّثُ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنْ قُلْنَا: تَحْصُلُ السَّرَايَةُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، أَوْ قُلْنَا: بِالْوَقْفِ، وَأَدَّى الْقِيمَةَ، غَرِمَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأَمَةِ حَامِلًا وَلَا يُفْرَدُ الْجَنِينُ بِقِيمَتِهِ؛ بَلْ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي التَّقْوِيمِ، كَمَا يَتْبَعُهَا فِي الْبَيْعِ، وَيَلْزَمُهُ بِالْجِنَايَةِ الْغُرَّةُ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ حُرٌّ، وَتَرِثُ الْأُمُّ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ، وَالْبَاقِي مِنْهَا لِعَصَبَتِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ. وَإِنْ جَنَى الشَّرِيكُ الْآخَرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ مُعْسِرًا؛ فَنِصْفُ الْجَنِينِ مَمْلُوكٌ لِلْجَانِي؛ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ غُرَّةِ لِلنِّصْفِ الْحُرِّ، وَيَعُودُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ لِمَنْ هُوَ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا؛ فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَحْصُلُ السَّرَايَةُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، أَوْ قُلْنَا: بِالْوَقْفِ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْقِيمَةَ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانَ مُعْسِرًا.

وَإِنْ قُلْنَا: يُعْتَقُ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالتَّوَقُّفِ، وَأَدَّى الْقِيمَةَ؛ فَلِلْجَانِي عَلَى الْمُعْتَقِ نِصْفُ قِيمَتِهَا حَامِلًا وَعَلَى الْجَانِي الْغُرَّةُ، وَتَرِثُهَا الْأُمُّ وَالْعَصَبَةُ؛ وَإِنْ كَانَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا؛ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ مُعْسِرًا، فَقَدْ أَتْلَفَ الْأَجْنَبِيُّ جَنِينًا نِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ غُرَّةٍ، وَنِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ مُوسِرًا، وَعُتِقَ كُلُّهُ؛ فَقَدْ أَتْلَفَ الْأَجْنَبِيُّ جَنِينًا حُرًّا فَفِيهِ غُرَّةٌ. وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا الشَّرِيكَانِ مَعًا، فَأَجْهَضَتْ جَنِينًا؛ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ رُبُعُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَنَى عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ وَمِلْكِ صَاحِبِهِ، وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ تَلَفَ بِفِعْلَيْهِمَا؛ فَهَدَرَ جِنَايَتَهُ عَلَى مِلْكِهِ وَالْحَقَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ فَيَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْتَقَاصِّ. وَإِنْ أَعْتَقَاهَا مَعًا بَعْدَمَا جَنَيَا، أَوْ وَكَّلَا رَجُلًا؛ فَأَعْتَقَهَا بِكَلِمَةٍ، ثُمَّ أَجْهَضَتْ، فَقَدْ عَتَقَ الْجَنِينُ مَعَ الْأُمِّ قَبْلَ الْإِجْهَاضِ، فَيُضْمَنُ بِالْغُرَّةِ، وَفِيمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: رُبُعُ الْغُرَّةِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: نَصِفُهَا اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِجْهَاضِ، وَلِلْأُمِّ ثُلْثُ الْوَاجِبِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَلَا يَرِثُ السَّيِّدَانِ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ. وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ أَعْتَقَاهَا، ثُمَّ أَجْهَضَتْ؛ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: عَلَى الْجَانِي نِصْفُ الْغُرَّةِ، وَلِشَرِيكِهِ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِهَا وَنِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ: عَلَيْهِ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ اعْتِبَارًا بِيَوْمِ الْإِجْهَاضِ. فَرْعٌ وَطِئَ شَرِيكَانِ مُشْتَرَكَةً، فَحَبِلَتْ، فَجَنَى، فَأَلْقَتْ مَيِّتًا؛ فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ؛ فَالْجَنِينُ حُرٌّ وَعَلَى الْجَانِي غُرَّةٌ، وَهِيَ لِمَنْ يَلْحَقُهُ الْجَنِينُ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ، فَهَلْ كُلُّ الْوَلَدِ حُرٌّ أَمْ نِصْفُهُ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي؛ فَعَلَى هَذَا عَلَى الْجَانِي نِصْفُ الْغُرَّةِ، وَنِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ؛ فَنِصْفُ الْغُرَّةِ لِمَنْ يَلْحَقُهُ، وَنِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ لِلْآخَرِ.

فَرْعٌ جَنَتْ مُسْتَوْلَدَةٌ حَامِلٌ مِنْ سَيِّدِهَا عَلَى نَفْسِهَا؛ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا؛ فَلَا ضَمَانَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَنِينِ وَارِثٌ سِوَى السَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أُمُّ أُمٍّ حُرَّةٌ، غَرِمَ السَّيِّدُ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْمُسْتَوْلَدَةِ وَسُدْسُ الْغُرَّةِ؛ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجِيءُ قَوْلُ: إِنَّ عَلَيْهِ سُدْسَ الْغُرَّةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى أَنَّ أَرْشَ جِنَايَةِ الْمُسْتَوْلَدَةِ يَلْزَمُ السَّيِّدَ بَالِغًا مَا بَلَغَ. فَرْعٌ مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ وَأَخٍ لِأَبٍ، وَفِي التَّرِكَةِ عَبْدٌ؛ فَضَرَبَ بَطْنَهَا، فَأَلْقَتِ الْجَنِينَ مَيِّتًا، تَعَلَّقَتِ الْغُرَّةُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ وَلِلْأُمِّ ثُلْثُهَا، وَلِلْعَمِّ ثُلْثَاهَا، وَالْعَبْدُ مَلَكَهُمَا، وَالْمَالِكُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مِلْكِهِ شَيْئًا فَيُقَابِلُ مَا يَرِثُهُ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا يَمْلِكُهُ؛ فَالْأَخُ يَمْلِكُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ؛ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْغُرَّةِ، وَلَهُ ثُلْثَا الْغُرَّةِ، يَذْهَبُ الثُّلْثَانِ بِالثُّلْثَيْنِ يَبْقَى نِصْفَ سُدْسِ الْغُرَّةِ مُتَعَلِّقًا بِحِصَّتِهِ مِنَ الْعَبْدِ، وَالزَّوْجَةُ تَمْلِكُ رُبُعَ الْعَبْدِ؛ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ رُبُعُ الْغُرَّةِ، وَلَهَا ثُلْثُ الْغُرَّةِ، يَذْهَبُ رُبُعٌ بِرُبُعٍ، يَبْقَى لَهَا نِصْفُ سُدْسِ الْغُرَّةِ مُتَعَلِّقًا بِنَصِيبِ الْأَخِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ؛ فَيَفْدِيهِ بِأَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ سُدْسِ الْغُرَّةِ إِلَى الزَّوْجَةِ. فَرْعٌ جَنَى حُرٌّ أَبُوهُ رَقِيقٌ وَأُمُّهُ عَتِيقَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ حَامِلٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ أَبُوهُ؛ انْجَرَّ وَلَاؤُهُ مِنْ مُعْتِقِ أُمِّهِ إِلَى مُعْتِقِ أَبِيهِ، ثُمَّ أَجْهَضَتِ الْحَامِلُ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: عَلَى قِيَاسِ ابْنِ الْحَدَّادِ يَتَحَمَّلُ بَدَلَ الْجَنِينِ مَوْلَى الْأُمِّ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَعَلَى قِيَاسِ غَيْرِهِ، يَتَحَمَّلُ مَوْلَى الْأَبِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِجْهَاضِ.

فَرْعٌ أَحْبَلَ مَكَاتِبٌ أَمَتَهُ، فَجَنَى عَلَيْهَا، فَأَجْهَضَتْ، وَجَبَ فِي الْجَنِينِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا رَقِيقَةٌ بَعْدُ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي صِفَةِ الْغُرَّةِ هِيَ رَقِيقٌ سَلِيمٌ مِنْ عَيْبٍ، يَثْبُتُ رَدُّ الْمَبِيعِ، لَهُ سَنٌّ مَخْصُوصٌ، فَيُجْبَرُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى قَبُولِهَا مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَتْ؛ وَسَوَاءٌ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ خَصِيٍّ وَخُنْثَى وَكَافِرٍ، وَلَوْ رَضِيَ بِقَبُولِ الْمَعِيبِ؛ جَازَ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ سَبْعَ سِنِينَ. وَفِي لَفْظِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَا يُقْبَلُ دُونَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا، وَيُمْكِنُ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يُقْبَلُ دُونَ سِنِّ التَّمْيِيزِ وَهُوَ سَبْعٌ أَوْ ثَمَانٌ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّبْيَانِ، وَلَا يُقْبَلُ مَنْ ضَعُفَ بِالْهَرَمِ، وَخَرَجَ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ، وَيُقْبَلُ دُونَهُ، وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً، غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ الْجَارِيَةُ بَعْدَ عِشْرِينَ، وَلَا الْغُلَامُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَصَحَّحَ جَمَاعَةٌ هَذَا؛ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَحَكَوْهُ عَنِ النَّصِّ. قُلْتُ: كَذَا ضَبَطُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُضْبَطَ بِالْبُلُوغِ؛ فَلَا يُقْبَلُ مَنْ بَلَغَ لِدُونِ هَذَا السَّنِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَلْ تَتَقَدَّرُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْإِبِلُ إِذَا وَجَدَتِ السَّلَامَةَ وَالسَّنَّ، وَجَبَ الْقَبُولُ وَإِنْ قَلَّتْ قِيمَتُهَا، وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يُشْتَرَطُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَمَتَى وُجِدَتِ الْغُرَّةَ بِصِفَاتِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِ غَيْرِهَا، وَالِاعْتِيَاضِ عَنْهَا كَالِاعْتِيَاضِ عَنْ إِبِلِ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدِ الْغُرَّةُ؛ فَطَرِيقَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَظْهَرُهُمَا: يَجِبُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَالثَّانِي:

قِيمَةُ الْغُرَّةِ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ قَطْعًا؛ فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْإِبِلَ، فَفَقَدَتْ؛ فَهُوَ كَفَقْدِهَا فِي الدِّيَةِ؛ فَعَلَى الْجَدِيدِ: تَجِبُ قِيمَتُهَا، وَعَلَى الْقَدِيمِ: يَجِبُ خَمْسُونَ دِينَارًا، أَوْ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِي مُسْتَحِقِّ الْغُرَّةِ وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ أَمَّا الْمُسْتَحِقُّ؛ فَوَرَثَةُ الْجَنِينِ، فَلَوْ جَنَتِ الْحَامِلُ عَلَى نَفْسِهَا بِشُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنَ الْغُرَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ عَاقِلَتِهَا، لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ، وَهِيَ لِسَائِرِ وَرَثَةِ الْجَنِينِ. وَأَمَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْغُرَّةُ؛ فَالْجِنَايَةُ عَلَى الْجَنِينِ قَدْ تَكُونُ خَطَأً مَحْضًا، بِأَنْ يَقْصِدَ غَيْرَ الْحَامِلِ فَيُصِيبُهَا، وَقَدْ تَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ؛ بِأَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهَا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى الْإِجْهَاضِ غَالِبًا، فَتُجْهَضَ، وَلَا تَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا، لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهُ وَحَيَاتُهُ حَتَّى يَقْصِدَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَفِي «الْمُهَذَّبِ» أَنَّهُ يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا إِذَا قَصَدَ الْإِجْهَاضَ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَإِنْ قَصْدَهَا بِالضَّرْبِ يَكُونُ خَطَأً مَحْضًا فِي حَقِّ الْجَنِينِ؛ فَعَلَى الصَّحِيحِ، سَوَاءٌ كَانَتْ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، فَالْغُرَّةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَالْغُرَّةُ بَدَلُ نَفْسٍ؛ فَلَا يَجِيءُ فِيهَا الْقَوْلُ الْقَدِيمُ فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ النَّفْسِ، وَفِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» لِلرُّويَانِيِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَثْبَتَ فِيهَا الْقَدِيمَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَإِذَا فُقِدَتِ الْغُرَّةُ وَقُلْنَا: تَنْتَقِلُ إِلَى خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، غَلَّظْنَا إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ شِبْهَ عَمْدٍ؛ بِأَنْ تُؤْخَذَ حِقَّةٌ وَنِصْفُ، وَجَذَعَةٌ وَنِصْفُ، وَخِلْفَتَانِ؛ قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي التَّغْلِيظِ عِنْدَ وُجُودِ الْغُرَّةِ، لَكِنْ قَالَ الرُّويَانِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: تَجِبُ غُرَّةٌ قِيمَتُهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ؛ وَهَذَا حَسَنٌ. أَمَّا بَدَلُ الْجَنِينِ الرَّقِيقِ فَلِسَيِّدِهِ؛ وَهَلْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي بَدَلِ الْعَبْدِ.

فصل

فَرْعٌ قَطَعَ طَرَفَ حَامِلٍ أَوْ جَرَحَهَا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، يَجِبُ مَعَ ضَمَانِ الْجَنِينِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ، حُكُومَةً كَانَ أَوْ أَرْشًا مُقَدَّرًا، وَيَكُونُ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَهَا. وَلَوْ تَأَلَّمَتْ بِالضَّرْبِ، وَأَلْقَتْ جَنِينًا، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْنٌ، لَمْ يَجِبْ لِلْأَلَمِ شَيْءٌ، وَإِنْ بَقِيَ، وَجَبَتْ لَهُ حُكُومَةٌ فِي الْأَصَحِّ. فَصْلٌ سَقَطَ جَنِينٌ مَيِّتٌ، وَادَّعَى وَارِثُهُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَقَطَ بِجِنَايَتِهِ؛ فَأَنْكَرَ أَصْلَ الْجِنَايَةِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي إِلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ؛ فَإِنْ أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ، وَأَنْكَرَ الْإِسْقَاطَ وَقَالَ: السَّقْطُ مُلْتَقَطٌ؛ فَهُوَ الْمُصَدِّقُ أَيْضًا، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ وِلَادَةٌ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ وَالْإِسْقَاطِ، وَأَنْكَرَ كَوْنَ الْإِسْقَاطِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ، نُظِرَ؛ إِنْ أَسْقَطَتْ عَقِبَ الْجِنَايَةِ؛ فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ بِالْيَمِينِ؛ سَوَاءٌ قَالَ: إِنَّهَا شَرِبَتْ دَوَاءً، أَوْ ضَرَبَ بَطْنَهَا آخَرُ، أَوْ قَالَ: انْفَصَلَ الْجَنِينُ لِوَقْتِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ. وَإِنْ أَسْقَطَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ وَقْتِ الْجِنَايَةِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُتَأَلِّمَةً حَتَّى أَسْقَطَتْ. وَلَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ إِلَّا مِنْ رَجُلَيْنِ، وَضَبَطَ الْمُتَوَلِّي الْمُدَّةَ الْمُتَخَلَّلَةَ بِمَا يَزُولُ فِيهِ أَلَمُ الْجِنَايَةِ وَأَثَرُهَا غَالِبًا، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى سُقُوطِهِ بِجِنَايَتِهِ؛ فَقَالَ الْجَانِي: سَقَطَ مَيِّتًا، فَالْوَاجِبُ الْغُرَّةُ. وَقَالَ الْوَارِثُ: بَلْ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ، وَالْوَاجِبُ الدِّيَةُ؛ فَعَلَى الْوَارِثِ الْبَيِّنَةُ لِمَا يَدَّعِيهِ مِنَ اسْتِهْلَالٍ وَغَيْرِهِ، وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ حِينَئِذٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَالِبًا إِلَّا النِّسَاءُ. وَعَنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ رَجُلَانِ، وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ بَيِّنَةٍ لِمَا يَقُولُهُ؛ فَبَيِّنَةُ الْوَارِثِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعَهَا

باب كفارة القتل

زِيَادَةُ عِلْمٍ؛ وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ انْفَصَلَ حَيًّا بِجِنَايَتِهِ، وَقَالَ الْوَارِثُ: مَاتَ بِالْجِنَايَةِ، وَقَالَ الْجَانِي: بَلْ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ؛ فَإِنْ لَمْ يَمْتَدَّ الزَّمَانُ؛ فَالْمُصَدَّقُ الْوَارِثُ بِيَمِينِهِ، وَإِنِ امْتَدَّ، صُدِّقَ الْجَانِي بِيَمِينِهِ؛ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْوَارِثُ بَيِّنَةً أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَأَلِّمًا إِلَى أَنْ مَاتَ. وَلَوْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ، وَادَّعَى الْوَارِثُ حَيَاتَهُمَا، وَأَنْكَرَ الْجَانِي حَيَاتَهُمَا، فَأَقَامَ الْوَارِثُ بَيِّنَةً بِاسْتِهْلَالِ أَحَدِهِمَا؛ قَالَ الْمُتَوَلِّي: الشَّهَادَةُ مَسْمُوعَةٌ، ثُمَّ إِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ؛ وَجَبَ دِيَةُ رَجُلٍ وَغُرَّةٌ؛ وَإِنْ كَانَا أُنْثَيَيْنِ، فَدِيَةُ امْرَأَةٍ وَغُرَّةٌ؛ وَإِنْ كَانَا ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَجَبَ الْيَقِينُ وَهُوَ دِيَةُ امْرَأَةٍ وَغُرَّةٌ؛ وَلَوْ صُدِّقَ الْوَارِثُ فِي حَيَاةِ أَحَدِهِمَا، وَكَانَا ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَقَالَ الْوَارِثُ: الْحَيُّ هُوَ الذَّكَرُ، وَقَالَ الْجَانِي: بَلِ الْأُنْثَى، صَدَقَ الْجَانِي بِيَمِينِهِ، وَيَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِحَيَاةِ الذَّكَرِ، وَتَجِبُ دِيَةُ امْرَأَةٍ وَغُرَّةٌ؛ وَلَوْ صَدَّقَهُ الْجَانِي فِي حَيَاةِ الذَّكَرِ، وَكَذَّبَتْهُ الْعَاقِلَةُ؛ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ دِيَةُ أُنْثَى وَحُكُومَةٌ، وَالْبَاقِي فِي مَالِ الْجَانِي، وَلَوْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ حَيَّيْنِ وَمَاتَا، وَمَاتَتِ الْأُمُّ بَيْنَهُمَا، وَرِثَتِ الْأُمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَوَرِثَ الثَّانِي مِنَ الْأُمِّ. وَلَوْ قَالَ وَارِثُ الْجَنِينِ: مَاتَتِ الْأُمُّ أَوَّلًا فَوَرِثَهَا الْجَنِينُ، ثُمَّ مَاتَ، فَوَرِثْتُهُ أَنَا، وَقَالَ وَارِثُ الْأُمِّ: بَلْ مَاتَ الْجَنِينُ أَوَّلًا؛ فَوَرِثَتْهُ الْأُمُّ، ثُمَّ مَاتَتْ، فَوَرِثَهَا؛ فَإِنْ كَانَ بَيِّنَةٌ، حَكَمَ بِهَا، وَإِلَّا فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ؛ قُضِيَ لِلْحَالِفِ؛ وَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا؛ لَمْ يُورَثْ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ عَمِيَ مَوْتُهُمَا كَالْغَرْقَى، وَمَا تَرَكَهُ كُلُّ وَاحِدٍ لِوَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ. بَابُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ هِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَهَلْ عَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَوْلَانِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: وَجْهَانِ، وَأَنْكَرَ عَلَى صَاحِبِ «التَّلْخِيصِ» رِوَايَةَ الْقَوْلَيْنِ؛ أَظْهَرُهُمَا:

فصل

لَا؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ الصَّوْمِ أَخْرَجَ مِنْ تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّ طَعَامٍ؛ كَفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْقَوْلُ فِي صِفَةِ الرَّقَبَةِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ إِنْ أَوْجَبْنَاهُ، وَمَا يَجُوزُ النُّزُولُ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ، عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْكَفَّارَاتِ. فَصْلٌ قَتْلُ الْعَمْدِ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا تَجِبُ فِي الْعَمْدِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا ضَعِيفًا عَنْ رِوَايَةِ أَبَوَيْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرِيِّ أَنَّهُ إِذَا اقْتُصَّ مِنَ الْمُتَعَمِّدِ؛ فَلَا كَفَّارَةَ فِي مَالِهِ؛ فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَجِبُ إِخْرَاجُ الْكَفَّارَةِ إِذَا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، بِأَنْ مَاتَ أَوْ عُفِيَ عَنْهُ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ بِالسَّبَبِ كَمَا فِي الْمُبَاشَرَةِ؛ فَتَجِبُ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ عُدْوَانًا، وَمَنْ نَصَبَ شَبْكَةً؛ فَهَلَكَ بِهِمَا شَخْصٌ، وَعَلَى الْمُكْرَهِ وَشَاهِدِ الزُّورِ، وَلَا تَجِبُ فِي الْقَتْلِ الْمُبَاحِ، كَقَتْلِ مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ الْجَانِي، وَكَقَتْلِ الصَّائِلِ وَالْبَاغِي، وَنَعْنِي بِالْمُبَاحِ مَا أُذِنَ فِيهِ؛ وَالْخَطَأُ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُبَاحًا وَلَا حَرَامًا، بَلِ الْمُخْطِئُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فِيمَا هُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ. فَصْلٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْعَبْدِ وَفِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إِذَا قَتَلَا، وَلَا تَجِبُ بِوَطْئِهِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَالتَّعَدِّي شَرْطٌ فِي وُجُوبِ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، أَعْتَقَ الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِمَا، كَمَا يُخْرِجُ الزَّكَاةَ وَالْفِطْرَةَ مِنْهُ، وَلَا يَصُومُ عَنْهُمَا بِحَالٍ، وَلَوْ صَامَ الصَّبِيُّ فِي صِغَرٍ؛ فَهَلْ يُجْزِؤُهُ؟ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ قَضَى فِي صِغَرِهِ حُجَّةً أَفْسَدَهَا. وَإِذَا أَدْخَلَنَا الْإِطْعَامَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ، أَطْعَمَ الْوَلِيُّ إِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنِ اكْتَفَيْنَا بِصَوْمِ الصَّبِيِّ لَمْ

فصل

يَجُزِ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ كَالْمَجْنُونِ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْوَلِيُّ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَنْهُمَا، أَوْ أَطْعَمَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا، جَازَ، وَكَأَنَّهُ مَلَكَهُمَا، ثُمَّ نَابَ عَنْهُمَا فِي الْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ، وَإِنْ كَانَ وَصِيًّا أَوْ قَيِّمًا؛ لَمْ يَجُزْ؛ حَتَّى يَقْبَلَ الْقَاضِي لَهُمَا التَّمْلِيكَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى حَرْبِيٍّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ. وَهَلْ تَجِبُ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ؟ وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ مُحَرَّمٌ، فَتَخْرُجُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا فَهَلَكَ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ؛ فَيَبْعُدُ وُجُوبُهَا عَلَى مَيِّتٍ ابْتِدَاءً، وَلَوِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلٍ؛ فَهَلْ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ، أَمْ عَلَى الْجَمِيعِ كَفَّارَةُ وَاحِدٍ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. فَصْلٌ شَرْطُ الْقَتِيلِ الَّذِي تَجِبُ بِقَتْلِهِ الْكَفَّارَةُ أَنْ يَكُونَ آدَمِيًّا مَعْصُومًا بِإِيمَانٍ أَوْ أَمَانٍ؛ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ قَتَلَ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ جَنِينًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُعَاهِدًا أَوْ عَبْدًا، وَعَلَى السَّيِّدِ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ، وَلَا تَجِبُ بِقَتْلِ حَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ، وَقَاطِعِ طَرِيقٍ، وَزَانٍ مُحْصَنٍ، وَلَا بِقَتْلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُمْ مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ لِحُرْمَتِهِمْ، بَلْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، لِئَلَّا يَفُوتُهُمُ الِارْتِفَاقُ بِهِمْ. فَرْعٌ إِذَا قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) مَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوِّ لَكُمْ. وَأَمَّا الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ؛ فَإِنْ ظَنَّهُ الْقَاتِلُ كَافِرًا؛ لِكَوْنِهِ بِزِيِّ الْكُفَّارِ،

فَلَا قِصَاصَ، وَفِي الدِّيَةِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا تَجِبُ، وَإِلَّا فَإِنْ عُرِفَ مَكَانُهُ؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إِذَا قَصَدَ قَتْلَهُ، يَجِبُ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ فِي مَالِهِ مَعَ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَكَانَهُ، وَرَمَى سَهْمًا إِلَى صَفِّ الْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ سَوَاءٌ عَلِمَ فِي الدَّارِ مُسْلِمًا أَمْ لَا، نُظِرَ؛ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ شَخْصًا أَوْ عَيَّنَ كَافِرًا فَأَخْطَأَ، وَأَصَابَ مُسْلِمًا؛ فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ فِي بَيَاتٍ أَوْ غَارَةٍ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَإِنْ عَيَّنَ شَخْصًا فَأَصَابَهُ وَكَانَ مُسْلِمًا؛ فَلَا قِصَاصَ. وَفِي الدِّيَةِ قَوْلَانِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَا هُمَا الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ ظَنَّهُ كَافِرًا، وَلَوْ دَخَلَ الْكُفَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ؛ فَرَمَى إِلَى صَفِّهِمْ؛ فَأَصَابَ مُسْلِمًا؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَى إِلَى صَفِّهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب دعوى الدم والقسامة والشهادة على الدم

كِتَابُ دَعْوَى الدَّمِ وَالْقَسَامَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الدَّمِ فِيهِ ثَلَاثَةٌ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِي الدَّعْوَى وَلَهَا خَمْسَةُ شُرُوطٍ، أَحَدُهَا: تَعْيِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بِأَنِ ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ، وَإِذَا ذَكَرَهُمْ لِلْقَاضِي، وَطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ، أَجَابَهُ، إِلَّا إِذَا ذَكَرَ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ، فَلَا يُحْضِرُهُمْ، وَلَا يُبَالِي بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُ دَعْوَى مُحَالٍ، وَلَوْ قَالَ: قَتَلَ أَبِي أَحَدُ هَذَيْنِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةِ، وَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ، وَيُحَلِّفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَهَلْ يُجِيبُهُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ لِلْإِبْهَامِ، كَمَنِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى أَحَدِ رَجُلَيْنِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِلْحَاجَةِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ فِي يَمِينٍ صَادِقَةٍ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي دَعْوَى الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَالسَّرِقَةِ، وَأَخْذِ الضَّالَّةِ عَلَى أَحَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ رِجَالٍ، وَلَا يَجْرِي فِي دَعْوَى قَرْضٍ وَبَيْعِ سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ ; لِأَنَّهَا تَنْشَأُ بِاخْتِيَارِ الْمُتَعَاقِدِينَ، وَشَأْنُهَا أَنْ يَضْبِطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَقِيلَ بِقَصْرِهِ عَلَى دَعْوَى الدَّمِ لِعِظَمِ خَطَرِهَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي ادَّعَى عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ حَاضِرِينَ، وَطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ، فَفِي إِجَابَتِهِ الْوَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ: قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ، وَلَمْ يَطْلُبْ إِحْضَارَهُمْ لِيُسْأَلُوا، وَيَعْرِضَ عَلَيْهِمُ الْيَمِينَ، لَمْ يُحْضِرْهُمُ الْقَاضِي، وَلَمْ يُبَالِ بِكَلَامِهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي، وَذَكَرَ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا تَعَلَّقَتِ الدَّعْوَى بِوَاحِدٍ مِنْ

جَمَاعَةٍ مَحْصُورِينَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، أَوِ الْمَحَلَّةِ وَهُمْ لَا يَنْحَصِرُونَ، وَطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ، فَلَا يُجَابُ ; لِأَنَّهُ يَطُولُ فِيهِ الْعَنَاءُ عَلَى الْقَاضِي، وَيَتَعَطَّلُ زَمَانُهُ فِي خُصُومَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَتَأَخَّرُ حُقُوقُ النَّاسِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مُفَصَّلَةً، أَقَتَلَهُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، أَمْ شِبْهَ عَمْدٍ، مُنْفَرِدًا أَمْ مُشَارِكَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَيَتَوَجَّهُ الْوَاجِبُ تَارَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَتَارَةً عَلَى الْقَاتِلِ، فَلَا يُعْرَفُ مَنْ يُطَالَبُ إِلَّا بِالتَّفْصِيلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الدَّعْوَى مَجْهُولَةً، فَعَلَى الصَّحِيحِ لَوْ أَجْمَلَ الْوَلِيُّ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُعْرِضُ الْقَاضِي عَنْهُ، وَلَا يَسْتَفْصِلُ ; لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّلْقِينِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَفْصِلُ، وَرُبَّمَا وُجِدَ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مَا يُشْعِرُ بِوُجُوبِ الِاسْتِفْصَالِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرُّويَانِيُّ، وَقَالَ الْمَاسَرْجِسِيُّ: لَا يَلْزَمُ الْحَاكِمُ أَنْ يُصَحِّحَ دَعْوَاهُ، وَلَا يَلْزَمَهُ أَنْ يَسْتَمِعَ إِلَّا إِلَى دَعْوَى مُحَرَّرَةٍ، وَهَذَا أَصَحُّ، ثُمَّ إِذَا قَالَ: قَتَلَهُ مُنْفَرِدًا أَوْ عَمْدًا وَوَصَفَ الْعَمْدَ أَوْ خَطَأً، وَطَالَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ، وَإِنْ قَالَ: قَتَلَهُ بِشَرِكَةٍ، سُئِلَ عَمَّنْ شَارَكَهُ، فَإِنْ ذَكَرَ جَمَاعَةً لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ، لَغَا قَوْلَهُ وَدَعْوَاهُ، وَإِنْ ذَكَرَ جَمَاعَةً يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ وَلَمْ يُحْضِرْهُمْ، أَوْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ عَدَدَهُمْ، فَإِنِ ادَّعَى قَتْلًا يُوجِبُ الدِّيَةَ بِأَنْ قَالَ: قَتَلَهُ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، أَوْ تَعَمُّدٍ وَفِي شُرَكَائِهِ مُخْطِئٌ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ لِأَنَّ حِصَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِحَصْرِ الشُّرَكَاءِ، فَلَوْ قَالَ: لَا أَعْلَمَ عَدَدَهُمْ تَحْقِيقًا، وَلَكِنْ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَزِيدُونَ عَلَى عَشَرَةٍ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ، وَطَالَبَ بِعُشْرِ الدِّيَةِ، وَإِنِ ادَّعَى مَا يُوجِبُ الْقَوَدَ بِأَنْ قَالَ: قَتَلَ عَمْدًا مَعَ شُرَكَاءٍ عَامِدِينَ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَيُطَالِبُ بِالْقِصَاصِ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِعَدَدِ

الشُّرَكَاءِ، وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَخْتَارُ الدِّيَةَ فَلَا يُعْلَمُ حَقُّهُ مِنْهَا، وَأُشِيرُ إِلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ أَنَّا إِنْ قُلْنَا: مُوجَبُ الْعَمْدِ الْقَوَدُ، سُمِعَتْ، وَإِنْ قُلْنَا: أَحَدُهُمَا فَلَا. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا مُلْتَزِمًا، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَحَرْبِيٍّ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ الْمُدَّعِي صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ جَنِينًا حَالَةَ الْقَتْلِ إِذَا كَانَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ عِنْدَ الدَّعْوَى ; لِأَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ الْحَالُ بِالتَّسَامُعِ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ فِي مَظِنَّةِ الْحَلِفِ إِذَا عَرَفَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْجَانِي، أَوْ سَمَاعٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَيْنًا وَقَبَضَهَا، فَادَّعَى رَجُلٌ مِلْكَهَا، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إِلَيْهِ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِ الْبَائِعِ، وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ الدَّمَ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيُحَلِّفَ، وَيَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ، وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ أَخَذَهُ الْوَلِيُّ، كَمَا فِي دَعْوَى الْمَالِ، يَدَّعِي السَّفِيهُ وَيَحْلِفُ، وَالْوَلِيُّ يَأْخُذُ الْمَالَ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُكَلَّفًا، فَلَا يَدَّعِي عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، فَلَوِ ادَّعَى عَلَى مَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ سُمِعَتِ الدَّعْوَى، سَوَاءٌ ادَّعَى عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَيُقْسِمُ الْمُدَّعِي، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا فِي غَيْرِ السَّفِيهِ، وَإِذَا كَانَ اللَّوْثُ قَوْلَ عَدْلٍ وَاحِدٍ، حَلَفَ الْمُدَّعِي مَعَهُ، وَيَثْبُتُ الْمَالُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ، فَإِنِ ادَّعَى قَتْلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، سُمِعَتِ الدَّعْوَى ; لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ مَقْبُولٌ، فَإِنْ أَقَرَّ، أَمَضَى حُكْمَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَإِنِ ادَّعَى خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْإِتْلَافِ هَلْ يُقْبَلُ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي الْحَجْرِ، وَسَوَاءٌ قَبِلْنَاهُ أَمْ لَا، فَتُسْمَعُ أَصْلُ الدَّعْوَى، أَمَّا

إِذَا قَبِلْنَا إِقْرَارَهُ، فَلْيَمْضِ عَلَيْهِ الْحُكْمُ إِنْ أَقَرَّ، وَلْيُقِمِ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ إِنْ أَنْكَرَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ نَقْبَلْ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَلْيُقِمِ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ إِنْ أَنْكَرَ، ثُمَّ إِذَا أَنْكَرَ هَلْ يَحْلِفُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي كَبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا الْمُدَّعِي أَمْ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، حَلَفَ، فَرُبَّمَا نَكَلَ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، لَمْ يَحْلِفْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يَحْلِفُ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ فِي الْحَالِ. فَرْعٌ تُسْمَعُ دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ، فَإِنْ كَانَ بَيِّنَةٌ، أَوْ لَوْثٌ وَأَقْسَمَ الْمُدَّعِي، فَهُوَ كَغَيْرِهِ، وَيُزَاحِمُ الْمُسْتَحِقُّ الْغُرَمَاءَ بِالْمَالِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ وَلَا لَوْثٌ، حَلَفَ الْمُفْلِسُ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَاسْتَحَقَّ الْقِصَاصَ إِنِ ادَّعَى قَتْلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ ثَبَتَ، وَهَلْ يُشَارِكُ بِهِ الْغُرَمَاءَ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْبَيِّنَةِ أَمْ كَالْإِقْرَارِ، إِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ، أَوْ بِمَالٍ نَسَبَهُ إِلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي قَتَلَ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، ثَبَتَ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ الدِّيَةُ، وَتَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ كَانَتْ عَلَى الْجَانِي، وَفِي مُزَاحَمَةِ الْمُدَّعِي الْغُرَمَاءَ بِهَا الْقَوْلَانِ. فَرْعٌ ادَّعَى مَثَلًا عَلَى عَبْدٍ إِنْ كَانَ لَوْثٌ، سُمِعَتْ، وَأَقْسَمَ الْمُدَّعِي وَاقْتَصَّ إِنِ ادَّعَى عَمْدًا وَأَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ بِالْقَسَامَةِ، وَإِلَّا فَتَتَعَلَّقُ الدِّيَةُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ، فَدَعْوَى الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ تَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ، وَدَعْوَى الْمُوجِبِ لِلْمَالِ عَلَى السَّيِّدِ، وَتَمَامُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا تَتَنَاقَضَ دَعْوَاهُ، فَلَوِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ تَفَرُّدَهُ بِالْقَتْلِ، ثُمَّ عَلَى آخَرَ تَفَرُّدَهُ بِالْقَتْلِ أَوْ مُشَارَكَتَهُ، لَمْ تُسْمَعِ الثَّانِيَةُ، وَلَوْ لَمْ يُقْسِمْ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَمْضِ حُكْمٌ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تُكَذِّبُهَا، وَلَوْ صَدَّقَهُ الثَّانِي فِي دَعْوَاهُ الثَّانِيَةِ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا، لَيْسَ لَهُ مُؤَاخَذَتُهُ ; لِأَنَّ فِي الدَّعْوَى عَلَى الْأَوَّلِ اعْتِرَافًا بِبَرَاءَةِ غَيْرِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَهُ مُؤَاخَذَتُهُ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا، وَيُحْتَمَلُ كَذِبُهُ فِي الْأُولَى وَصِدْقُهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوِ ادَّعَى قَتْلًا عَمْدًا فَاسْتَفْصَلَ، فَوَصَفَهُ بِمَا لَيْسَ بِعَمْدٍ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ، وَالرَّبِيعُ أَنَّهُ يُقْسِمُ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ الدَّعْوَى وَلَا يُقْسِمُ ; لِأَنَّ فِي دَعْوَى الْعَمْدِ اعْتِرَافًا بِبَرَاءَةِ الْعَاقِلَةِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ بَعْدَهُ ; وَلِأَنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْطِئٍ فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعَهُ عَنْهُ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا تَبْطُلُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَظُنُّ الْخَطَأَ عَمْدًا، فَعَلَى هَذَا يُعْتَمَدُ تَفْسِيرُهُ وَيَمْضِي حُكْمُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهَذَا وَتَأَوَّلَ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ عَلَى الْعَمْدِ. وَيَجْرِي الطَّرِيقَانِ فِيمَنِ ادَّعَى خَطَأً وَفُسِّرَ بِعَمْدٍ، وَكَذَا فِيمَنِ ادَّعَى شِبْهَ عَمْدٍ وَفُسِّرَ بِخَطَأٍ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ قَطْعًا ; لِأَنَّ فِيهِ تَخْفِيفًا عَنِ الْعَاقِلَةِ وَرُجُوعًا عَنْ زِيَادَةٍ ادَّعَاهَا عَلَيْهِمْ. فَرْعٌ ادَّعَى قَتْلًا، فَأَخَذَ الْمَالَ، ثُمَّ قَالَ: ظَلَمْتُهُ بِالْأَخْذِ، وَأَخَذْتُهُ بَاطِلًا، أَوْ مَا أَخَذْتُهُ حَرَامٌ عَلَيَّ، سُئِلَ، فَإِنْ قَالَ: كَذَبْتُ فِي الدَّعْوَى وَلَيْسَ هُوَ قَاتِلًا، اسْتُرِدَّ الْمَالُ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنِّي حَنَفِيٌّ لَا أَعْتَقِدُ أَخْذَ الْمَالِ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي لَمْ يُسْتَرَدَّ ; لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ، لَا إِلَى مَذْهَبِ الْخَصْمَيْنِ، وَذَكَرُوا لِلْمَسْأَلَةِ نَظَائِرَ.

مِنْهَا: مَاتَ شَخْصٌ، فَقَالَ ابْنُهُ: لَسْتُ أَرِثُهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، فَسُئِلَ عَنْ كُفْرِهِ، فَقَالَ: كَانَ مُعْتَزِلِيًّا أَوْ رَافِضِيًّا، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ مِيرَاثُهُ وَأَنْتَ مُخْطِئٌ فِي اعْتِقَادِكَ ; لِأَنَّ الِاعْتِزَالَ وَالرَّفْضَ لَيْسَ بِكُفْرٍ، هَكَذَا قَالَهُ الْقَفَّالُ وَالْبَغَوِيُّ والرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْفُورَانِيُّ: وَمِنْ شُيُوخِنَا مَنْ يُكَفِّرُ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ. قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ الْمَنْصُوصُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّا لَا نُكَفِّرُهُمْ. وَمِنْهَا: قَضَى حَنَفِيٌّ لِشَافِعِيٍّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، فَأَخَذَ الشِّقْصَ، ثُمَّ قَالَ: أَخَذْتُهُ بَاطِلًا ; لِأَنَّنِي لَا أَرَى شُفْعَةَ الْجِوَارِ لَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُ. وَمِنْهَا: مَاتَ عَنْ جَارِيَةٍ أَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ، فَقَالَ وَارِثُهُ: لَا أَتَمَلَّكُهَا ; لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِذَلِكَ، وَعَتِقَتْ بِمَوْتِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: هِيَ مَمْلُوكَتُكَ وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِالنِّكَاحِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ الْحُكْمِ، أَمَّا الْحَلُّ بَاطِنًا إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ لِشَخْصٍ عَلَى خِلَافِ اعْتِقَادِهِ، كَحُكْمِ حَنَفِيٍّ لِشَافِعِيٍّ بِشُفْعَةِ جِوَارٍ، فَفِي ثُبُوتِهِ خِلَافٌ، وَمَيْلُ الْأَئِمَّةِ هُنَا إِلَى ثُبُوتِهِ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي، حَرَامٌ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ، فَإِنْ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُقْبَلُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا، فَهُوَ مَالٌ ضَائِعٌ، وَفِي مِثْلِهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَالْجَوَابُ فِي «الشَّامِلِ» أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهُ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَ مَا أَقْسَمَ: نَدِمْتُ عَلَى الْأَيْمَانِ، لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا شَيْءٌ.

فَرْعٌ ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى رَجُلٍ، وَحَلَفَ وَأَخَذَ الْمَالَ، فَجَاءَ رَجُلٌ وَقَالَ: أَنَا قَتَلْتُ مُورِثَكَ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْوَارِثُ لَمْ يُؤَثِّرْ قَوْلُهُ فِيمَا جَرَى، وَإِنْ صَدَّقَهُ، لَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ، وَهَلْ لَهُ الدَّعْوَى عَلَى الثَّانِي وَمُطَالَبَتُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَهُمَا نَظِيرُ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْطِ. الْبَابُ الثَّانِي فِي الْقَسَامَةِ: هِيَ الْأَيْمَانُ فِي الدِّمَاءِ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ بِمَوْضِعٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ قَتَلَهُ، وَلَا بَيِّنَةً، وَيَدَّعِي وَلِيُّهُ قَتْلَهُ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَتُوجَدُ قَرِينَةٌ تُشْعِرُ بِصِدْقِهِ، وَيُقَالُ لَهُ: اللَّوْثُ، فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْبَابِ أَرْبَعَةُ أَطْرَافٍ: الْأَوَّلُ: فِي مَحَلِّ الْقَسَامَةِ، وَهُوَ قَتْلُ الْحُرِّ فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ قُيُودٍ، الْأَوَّلُ: الْقَتْلُ، فَلَا قَسَامَةَ فِي إِتْلَافِ الْمَالِ، وَلَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْجُرُوحِ وَالْأَطْرَافِ، بَلِ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ ; لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي النَّفْسِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَطْرَافِ، وَلِهَذَا اخْتَصَّتْ بِالْكَفَّارَةِ، فَلَا تَلْحَقُ بِهَا الْأَطْرَافُ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا فِي الْأَطْرَافِ، وَغَلَّطَ قَائِلَهُ، فَعَلَى الصَّحِيحِ لَوْ جُرِحَ مُسْلِمٌ، فَارْتَدَّ، ثُمَّ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَلَا قَسَامَةَ، فَلَوْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، جَرَتِ الْقَسَامَةُ، سَوَاءٌ أَوْجَبْنَا كَمَالَ الدِّيَةِ أَمْ لَا ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا بَدَلُ النَّفْسِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا لَوْ جُرِحَ ذِمِّيٌّ، فَنَقَضَ عَهْدَهُ، ثُمَّ مَاتَ، أَوْ جَدَّدَ الْعَهْدَ ثُمَّ مَاتَ.

الْقَيْدُ الثَّانِي: كَوْنُ الْقَتِيلِ حُرًّا، فَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ، وَهُنَاكَ لَوْثٌ، فَادَّعَى السَّيِّدُ عَلَى عَبْدٍ، أَوْ حُرٍّ أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَهَلْ يَقْسِمُ السَّيِّدُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، أَشْهَرُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ بَدَلَ الْعَبْدِ هَلْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَقَدْ أَلْحَقْنَاهُ بِالْبَهِيمَةِ، فَلَا قَسَامَةَ، وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَقْسَمَ السَّيِّدُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَالثَّانِي: يُقْسِمُ قَطْعًا ; لِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَحْفَظُ الدِّمَاءَ، وَهَذِهِ الْحَاجَةُ تَشْمَلُ الْعَبْدَ، كَالْقِصَاصِ وَالْكَفَّارَةِ، وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا كَالْقِنِّ، فَإِذَا أَقْسَمَ السَّيِّدُ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى حُرٍّ، أَخَذَ الدِّيَةَ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَالِ إِنِ ادَّعَى عَمْدًا مَحْضًا، وَإِنِ ادَّعَى خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، أَخَذَهَا مِنْ عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى عَبْدٍ، فَإِنِ ادَّعَى الْعَمْدَ، فَفِي الْقِصَاصِ الْقَوْلَانِ فِي ثُبُوتِهِ بِالْقَسَامَةِ، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوِ ادَّعَى خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ تَعَلَّقَتِ الْقِيمَةُ بِرَقَبَتِهِ. الثَّالِثُ: كَوْنُهُ فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ، لَمْ يُبْدَأْ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي، وَاللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ الْمُدَّعِي وَلَهُ طُرُقٌ: مِنْهَا: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ فِي قَبِيلَةٍ أَوْ حِصْنٍ، أَوْ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ، أَوْ مَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنِ الْبَلَدِ الْكَبِيرِ، وَبَيْنَ الْقَتِيلِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّهِمْ، فَإِذَا ادَّعَى وَلِيُّهُ الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ، أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ كَانَ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ، وَيَشْتَرِطَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ، حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْقَرْيَةُ بِقَارِعَةِ طَرِيقٍ يَطْرُقُهَا التُّجَّارُ وَالْمُجْتَازُونَ وَغَيْرُهُمْ، فَلَا لَوْثَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَمِنْهَا: لَوْ تَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ فِي دَارٍ دَخْلَهَا عَلَيْهِمْ ضَيْفًا، أَوْ دَخَلَ مَعَهُمْ لِحَاجَةٍ، أَوْ فِي مَسْجِدٍ أَوْ بُسْتَانٍ أَوْ طَرِيقٍ أَوْ صَحْرَاءَ، فَهُوَ

لَوْثٌ، وَكَذَا لَوِ ازْدَحَمَ قَوْمٌ عَلَى بِئْرٍ، أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ، أَوْ فِي مَضِيقٍ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَنْ قَتِيلٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ. وَمِنْهَا: لَوْ تَقَابَلَ صَفَّانِ فَتَقَاتَلَا، وَانْكَشَفَا عَنْ قَتِيلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنِ اخْتَلَطُوا، أَوْ وَصَلَ سِلَاحُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِينَ رَمْيًا أَوْ طَعْنًا أَوْ ضَرْبًا، فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ الصَّفِّ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ سِلَاحٌ، فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ أَهْلِ صَفِّهِ. وَمِنْهَا: إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي صَحْرَاءَ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مَعَهُ سِلَاحٌ مُتَلَطِّخٌ بِدَمٍ، أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ أَثَرُ دَمٍ فَهُوَ لَوْثٌ، وَإِنْ كَانَ بِقُرْبِهِ سَبُعٌ، أَوْ رَجُلٌ آخَرُ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ، أَوْ وُجِدَ أَثَرُ قَدَمٍ، أَوْ تَرْشِيشُ دَمٍ فِي غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا صَاحِبُ السِّلَاحِ، فَلَيْسَ بِلَوْثٍ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ رَأَيْنَا مِنْ بُعْدٍ رَجُلًا يُحَرِّكُ يَدَهُ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يَضْرِبُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ ثُمَّ وَجَدْنَا فِي الْمَوْضِعِ قَتِيلًا، فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ ذَلِكَ الرَّجُلِ. وَمِنْهَا: لَوْ شَهِدَ عَدْلٌ بِأَنَّ زَيْدًا قَتَلَ فُلَانًا، فَلَوْثٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الدَّعْوَى أَوْ تَأَخَّرَتْ، وَلَوْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ، كَعَبِيدٍ وَنِسْوَةٍ، فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَلَوْثٌ، وَكَذَا لَوْ جَاءُوا دُفْعَةً عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّ شَهَادَةَ عَبْدَيْنِ، أَوِ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الْجَمْعِ، وَفِي الْوَجِيزِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْثٌ، وَفِيمَنْ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ، كَصِبْيَانٍ أَوْ فَسَقَةٍ أَوْ ذِمِّيِّينَ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: قَوْلُهُمْ لَوْثٌ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: لَوْثٌ مِنْ غَيْرِ الْكُفَّارِ، وَلَوْ قَالَ الْمَجْرُوحُ: جَرَحَنِي فُلَانٌ، أَوْ قَتَلَنِي، أَوْ دَمِي عِنْدَهُ، فَلَيْسَ بِلَوْثٍ ; لِأَنَّهُ مُدَّعٍ، وَلَوْ تَفَرَّقَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ، لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ، وَلَا قَسَامَةَ كَمَا سَبَقَ، وَلَوِ ازْدَحَمَ قَوْمٌ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ

فصل

عَلَى الْقَتْلِ فِي مَضِيقٍ، وَتَفَرَّقُوا عَنْ قَتِيلٍ، فَادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى عَدَدٍ مِنْهُمْ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ وَيُمَكَّنَ مِنَ الْقَسَامَةِ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ اللَّوْثُ فِي جَمَاعَةٍ مَحْصُورِينَ فَادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى بَعْضِهِمْ. فَرْعٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوْ وَقَعَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ فُلَانًا، فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّهِ، وَسَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ ادَّعَى كَافِرٌ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ مُسْلِمٌ عَلَى كَافِرٍ، قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ عَايَنَ الْقَاضِي مَا هُوَ لَوْثٌ، فَلَهُ اعْتِمَادُهُ وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَضَائِهِ بِعِلْمِهِ ; لِأَنَّهُ يَقْضِي بِالْأَيْمَانِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ قَرِيبٌ مِنْ قَرْيَةٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ عِمَارَةٌ أُخْرَى، وَلَا مَنْ يُقِيمُ بِالصَّحْرَاءِ، ثَبَتَ اللَّوْثُ فِي حَقِّهِمْ، يَعْنِي إِذَا وُجِدَتِ الْعَدَاوَةُ، وَكُنَّا نَحْكُمُ بِاللَّوْثِ لَوْ وُجِدَ فِيهَا، قَالَ: وَلَوْ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ، أَوْ قَبِيلَتَيْنِ، وَلَمْ يُعْرَفْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِحْدَاهُمَا عَدَاوَةٌ لَمْ يُجْعَلْ قُرْبُهُ مِنْ إِحْدَاهُمَا لَوْثًا. فَصْلٌ قَدْ يُعَارِضُ الْقَرِينَةَ مَا يَمْنَعُ كَوْنُهَا لَوْثًا، وَيُعَارِضُ اللَّوْثَ مَا يُسْقِطُ أَثَرَهُ وَيُبْطِلُ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَذَّرَ إِثْبَاتُهُ، وَإِذَا ظَهَرَ لَوْثٌ فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ وَيَدَّعِي عَلَيْهِ وَيُقْسِمُ، فَلَوْ قَالَ: الْقَاتِلُ أَحَدُهُمْ وَلَا أَعْرِفُهُ، فَلَا قَسَامَةَ، وَلَهُ تَحْلِيفُهُمْ، فَإِنْ حَلَفُوا إِلَّا وَاحِدًا، فَنُكُولُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ الْقَاتِلُ، وَيَكُونُ لَوْثًا فِي حَقِّهِ، فَإِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ، مُكِّنَ مِنْهُ، وَلَوْ نَكَلَ الْجَمِيعُ، ثُمَّ عَيَّنَ الْوَلِيُّ أَحَدَهُمْ وَقَالَ: قَدْ بَانَ لِي أَنَّهُ الْقَاتِلُ، وَأَرَادَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ، مُكِّنَ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ.

الثَّانِي: إِذَا ظَهَرَ لَوْثٌ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ دُونَ كَوْنِهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا، فَهَلْ يَتَمَكَّنُ الْوَلِيُّ مِنَ الْقَسَامَةِ عَلَى أَصْلِ الْقَتْلِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ، وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَوْثًا ; لِأَنَّهُ لَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَلَوْ حَلَفَ، لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِفَةَ الْقَتْلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مُوجِبَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى قَتْلٍ مَوْصُوفٍ يَسْتَدْعِي ظُهُورَ اللَّوْثِ فِي قَتْلٍ مَوْصُوفٍ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ اللَّوْثُ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ، كَفَى ذَلِكَ فِي تَمَكُّنِ الْوَلِيِّ مِنَ الْقَسَامَةِ عَلَى الْقَتْلِ الْمَوْصُوفِ، وَلَيْسَ هَذَا بِبَعِيدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ اللَّوْثُ فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ وَادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى بَعْضِهِمْ، جَازَ، وَيُمَكَّنُ مِنَ الْقَسَامَةِ، فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ ظُهُورُ اللَّوْثِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الِانْفِرَادِ وَالِاشْتِرَاكِ لَا يُعْتَبَرُ فِي صِفَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُنْكِرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اللَّوْثَ فِي حَقِّهِ، بِأَنْ قَالَ: لَمْ أَكُنْ مَعَ الْقَوْمِ الْمُتَفَرِّقِينَ عَنِ الْقَتِيلِ، أَوْ قَالَ: لَسْتُ أَنَا الَّذِي رُئِيَ مَعَهُ السِّكِّينُ الْمُتَلَطِّخُ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ لَسْتُ أَنَا الْمَرْئِيَّ مِنْ بَعِيدٍ، فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ عَلَى الْأَمَارَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى نَفْيِهَا، وَسَقَطَ اللَّوْثُ، وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الدَّعْوَى، وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ غَائِبًا يَوْمَ الْقَتْلِ، أَوِ ادَّعَى عَلَى جَمْعٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: كُنْتُ غَائِبًا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ عَلَى حُضُورِهِ يَوْمَئِذٍ، أَوْ إِقْرَارِهِ بِالْحُضُورِ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِحُضُورِهِ، وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِغَيْبَتِهِ، فَفِي «الْوَسِيطِ» : أَنَّهُمَا تَتَسَاقَطَانِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» : تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْغَيْبَةِ ; لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، هَذَا إِذَا اتَّفَقَا أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مِنْ قَبْلُ،

وَيُعْتَبَرُ فِي بَيِّنَةِ الْغَيْبَةِ أَنْ يَقُولُوا: كَانَ غَائِبًا فِي مَوْضِعِ كَذَا، فَلَوِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَا، فَهَذَا نَفْيٌ مَحْضٌ لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقْسَمَ الْمُدَّعِي، وَحَكَمَ الْقَاضِي بِمُوجِبِ الْقَسَامَةِ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى غَيْبَتِهِ يَوْمَ الْقَتْلِ، أَوْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعِي، نُقِضَ الْحُكْمُ وَاسْتُرِدَّ الْمَالُ، وَكَذَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ، وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ: لَمْ يَقْتُلُهُ هَذَا، وَاقْتَصَرُوا عَلَيْهِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، وَلَوْ كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ مَرِيضًا يَوْمَ الْقَتْلِ، فَهَلْ هُمَا كَالْغَيْبَةِ حَتَّى يَسْقُطَ اللَّوْثُ إِذَا ثَبَتَ الْحَالُ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي أَوْ بَيِّنَةٍ؟ وَجْهَانِ، وَمَوْضِعُهَا إِذَا أَمْكَنَ كَوْنُهُ قَاتِلًا بِحِيلَةٍ وَلَوْ فِي صُورَةٍ بَعِيدَةٍ أَصَحُّهُمَا: هُمَا كَالْغَيْبَةِ. الرَّابِعُ: شَهِدَ عَدْلٌ أَوْ عَدْلَانِ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْقَبِيلَيْنِ، فَلَيْسَ بِلَوْثٍ، وَلَوْ شَهِدَ أَوْ شَهِدَا أَنَّ زَيْدًا قَتَلَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ، ثَبَتَ اللَّوْثُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا عَيَّنَ الْوَلِيُّ أَحَدَهُمَا وَادَّعَى عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ، كَمَا لَوْ تَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ، وَقِيلَ: لَا لَوْثَ، كَالصُّورَةِ الْأُولَى. الْخَامِسُ: تَكْذِيبُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ ابْنَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَ زِيدٌ أَبَانَا، وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ اللَّوْثُ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَقْتُلْهُ، بَلْ كَانَ غَائِبًا يَوْمَ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ فُلَانٌ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الْقَتْلِ عَنْهُ، أَوْ قَالَ: بَرَأَ مِنَ الْجِرَاحَةِ، أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، فَهَلْ يُبْطِلُ تَكْذِيبُهُ اللَّوْثَ، وَيَمْنَعُ الْأَوَّلُ الْقَسَامَةَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُكَذِّبُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا، وَقِيلَ: لَا تَبْطُلُ بِالْفَاسِقِ قَطْعًا، وَالْمَنْصُوصُ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا تُبْطِلُ، حَلَفَ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا، وَأَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَ أَبَانَا زِيدٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ قَتَلَهُ عَمْرٌو، وَقُلْنَا: لَا يَبْطُلُ اللَّوْثُ بِالتَّكَاذُبِ، أَقْسَمَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَنْ

عَيَّنَهُ، وَأَخَذَ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَبْطُلُ، فَلَا قَسَامَةَ، وَيُحَلِّفُ كُلَّ وَاحِدٍ مَنْ عَيَّنَهُ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَ أَبَانَا زَيْدٌ وَرَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: قَتَلَهُ عَمْرٌو، وَرَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ، فَلَا تَكَاذُبَ، فَيُقْسِمُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ رُبُعَ الدِّيَةِ، فَإِنْ عَادَا، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَدْ بَانَ لِي أَنَّ الْمُبْهَمَ هُوَ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخِي، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْآخَرِ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَهَلْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ يَمِينًا، أَمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي فِي نَظَائِرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: الْمُبْهَمُ غَيْرُ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخِي، حَصَلَ التَّكَاذُبُ، فَإِنْ قُلْنَا: تَبْطُلُ الْقَسَامَةُ، رَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مَا أَخَذَ بِهَا، وَإِلَّا فَيُقْسِمُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ ثَانِيًا، وَيَأْخُذُ مِنْهُ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَلَوْ قَالَ الَّذِي عَيَّنَ زَيْدًا: تَبَيَّنْتُ أَنَّ الَّذِي أَبْهَمْتُ ذِكْرَهُ عَمْرٌو الَّذِي عَيَّنَهُ أَخِي، وَقَالَ الَّذِي عَيَّنَ عَمْرًا: تَبَيَّنْتُ أَنَّ الَّذِي أَبْهَمْتُ ذِكْرَهُ غَيْرُ زَيْدٍ، فَالَّذِي عَيَّنَ عَمْرًا لَا يُكَذِّبُهُ أَخُوهُ، فَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى عَمْرٍو، وَيَأْخُذَ مِنْهُ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَالَّذِي عَيَّنَ زَيْدًا، كَذَّبَهُ أَخُوهُ، فَإِنْ قُلْنَا: تَبْطُلُ الْقَسَامَةُ، رَدَّ مَا أَخَذَ، وَحَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا أَقْسَمَ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَ أَبَانَا زِيدٌ وَحْدَهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: قَتَلَهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، فَإِنْ قُلْنَا: التَّكَاذُبُ لَا يُبْطِلُ الْقَسَامَةَ، أَقْسَمَ الْأَوَّلُ عَلَى زَيْدٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَيُقْسِمُ الثَّانِي عَلَيْهِمَا، وَيَأْخُذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَبْطُلُ، فَالتَّكَاذُبُ هُنَا فِي النِّصْفِ، وَفِي بُطْلَانِ الْقَسَامَةِ فِي كُلٍّ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا تَبْطُلُ، فَيُقْسِمُ الْأَوَّلُ عَلَى زَيْدٍ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَكَذَا يُقْسِمُ الثَّانِي عَلَيْهِ وَيَأْخُذُ رُبُعَهَا، وَلَا يُقْسِمُ الثَّانِي عَلَى عَمْرٍو ; لِأَنَّ أَخَاهُ كَذَّبَهُ فِي الشَّرِكَةِ، وَلِلْأَوَّلِ تَحْلِيفُ زَيْدٍ، لَمَّا بَطَلَتْ فِيهِ الْقَسَامَةُ، وَلِلثَّانِي تَحْلِيفُ عَمْرٍو. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَ أَبَانَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَقَالَ الْآخَرُ: قَتَلَهُ بَكْرٌ وَخَالِدٌ، فَإِنْ أَبْطَلْنَا الْقَسَامَةَ بِالتَّكْذِيبِ، لَمْ يُقْسِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ

تَحْلِيفُ اللَّذَيْنِ عَيَّنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُبْطِلْهَا أَقْسَمَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى اللَّذَيْنِ عَيَّنَهُمَا، وَأَخَذَا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا رُبُعَ الدِّيَةِ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي اللَّوْثِ وَالْقَسَامَةِ ظُهُورُ دَمٍ وَلَا جُرْحٍ ; لِأَنَّ الْقَتْلَ يَحْصُلُ بِالْخَنْقِ وَعَصْرِ الْخُصْيَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ، قَامَ مَقَامَ الدَّمِ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ أَثَرٌ أَصْلًا، فَلَا قَسَامَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَتِيلٌ، لِيُبْحَثَ عَنِ الْقَاتِلِ، وَلَوْ وُجِدَ بَعْضُهُ فِي مَحَلَّةٍ وَتَحَقَّقَ مَوْتُهُ، ثَبَتَتِ الْقَسَامَةُ، سَوَاءٌ وُجِدَ رَأْسُهُ أَوْ بَدَنُهُ، أَقَلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، وَإِذَا وُجِدَ بَعْضُهُ فِي مَحَلَّةٍ وَبَعْضُهُ فِي أُخْرَى، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُعَيِّنَ وَيُقْسِمَ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الْقَسَامَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: أَيْمَانُهَا خَمْسُونَ يَمِينًا، وَكَيْفِيَّةُ الْيَمِينِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى، وَيَقُولُ فِي يَمِينِهِ: لَقَدْ قَتَلَ هَذَا، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ، أَوْ لَقَدْ قَتَلَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهِ، أَوْ يُعَرِّفُهُ بِمَا يَمْتَازُ بِهِ مِنْ قَبِيلَةٍ أَوْ صَنْعَةٍ، أَوْ لَقَبِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، وَيُعَرِّفُهُ كَذَلِكَ مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ، وَإِنِ ادَّعَى عَلَى اثْنَيْنِ، قَالَ: قَتَلَاهُ مُنْفَرِدَيْنِ بِقَتْلِهِ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذِكْرِ الِانْفِرَادِ، فَقِيلَ: هُوَ تَأْكِيدٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَتَلَهُ يَقْتَضِي الِانْفِرَادَ، وَقِيلَ: شَرْطٌ، لِاحْتِمَالِ الِانْفِرَادِ صُورَةً وَالِاشْتِرَاكِ حُكْمًا، كَالْمُكْرَهِ مَعَ الْمُكْرِهِ، وَيَتَعَرَّضُ لِكَوْنِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْجَانِيَ لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ بَرِئٌ مِنَ الْجُرْحِ، زَادَ فِي الْيَمِينِ: وَمَا بَرِئَ مِنْ جُرْحِهِ حَتَّى مَاتَ مِنْهُ.

الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَذِّرَ الْمُدَّعِيَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ، وَيَعِظَهُ وَيَقُولَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَحْلِفْ إِلَّا عَنْ تَحَقُّقٍ، وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمُنًا قَلِيلًا، وَالْقَوْلُ فِي التَّغْلِيظِ فِي الْيَمِينِ زَمَانًا وَمَكَانًا وَلَفْظًا مِنْهُ مَا سَبَقَ فِي اللِّعَانِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُؤَخَّرٌ إِلَى الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ. الثَّالِثَةُ: لَا تُشْتَرَطُ مُوَالَاةُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَوْ حَلَفَ الْخَمْسِينَ فِي خَمْسِينَ يَوْمًا جَازَ. الرَّابِعَةُ: جُنَّ الْمُدَّعِي فِي خِلَالِ الْأَيْمَانِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، يُبْنَى عَلَيْهَا، وَلَوْ عُزِلَ الْقَاضِي، أَوْ مَاتَ فِي خِلَالِهَا، فَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ يَسْتَأْنِفُ مِنْهُ الْأَيْمَانَ، وَحُكِيَ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ يَكْفِيهِ الْبِنَاءُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، لَكِنَّ الْمُتَوَلِّيَ حَمَلَ النَّصَّ عَلَى مَا إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَيْمَانِ تَفْرِيعًا عَلَى تَعَدُّدِ يَمِينِهِ، فَمَاتَ الْقَاضِي، أَوْ عُزِلَ وَوَلِيَ غَيْرُهُ، يَعْتَدُّ بِالْأَيْمَانِ السَّابِقَةِ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى النَّفْيِ فَتَنْفُذُ بِنَفْسِهَا، وَيَمِينَ الْمُدَّعِي لِلْإِثْبَاتِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي لَا يَحْكُمُ بِحُجَّةٍ أُقِيمَتْ عِنْدَ الْأَوَّلِ، قَالَ: وَعَزْلُ الْقَاضِي وَمَوْتُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْأَيْمَانِ، كَالْعَزْلِ فِي أَثْنَائِهَا فِي الطَّرَفَيْنِ، قَالَ: وَلَوْ عُزِلَ الْقَاضِي فِي أَثْنَاءِ الْأَيْمَانِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ تَوَلَّى ثَانِيًا، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ هَلْ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، اسْتَأْنَفَ، وَإِلَّا بَنَى، وَلَوْ مَاتَ الْوَلِيُّ الْمُقْسِمُ فِي أَثْنَائِهَا، نَصَّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» أَنَّ وَارِثَهُ يَسْتَأْنِفُ الْأَيْمَانَ، وَقَالَ الْخِضْرِيُّ: يُبْنَى عَلَيْهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ تَمَامِهَا، حُكِمَ لِوَارِثِهِ، كَمَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً ثُمَّ مَاتَ وَلَوْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْأَيْمَانِ، إِذَا حَلَّفْنَاهُ فِي غَيْرِ صُورَةِ اللَّوْثِ، أَوْ فِيهَا، لِنُكُولِ الْمُدَّعِي، بَنَى وَارِثُهُ عَلَى أَيْمَانِهِ.

الْخَامِسَةُ: فِي جَوَازِ الْقَسَامَةِ فِي غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَالْبَيِّنَةِ، وَالثَّانِي: لَا، لِضَعْفِ الْقَسَامَةِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْقَسَامَةِ كَوْنُ الْمُدَّعِي كَانَ غَائِبًا عَنْ مَوْضِعِ الْقَتْلِ، كَمَا لَا يَمْنَعُ كَوْنُهُ صَبِيًّا أَوْ جَنِينًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَالَ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ بِسَمَاعٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ. السَّادِسَةُ: مَا يُسْتَحَقُّ بِالْقَسَامَةِ يُسْتَحَقُّ بِخَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا وَهُوَ جَائِزٌ، حَلَفَ خَمْسِينَ وَأَخَذَ الدِّيَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا، حَلَفَ أَيْضًا خَمْسِينَ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُ شَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْحُجَّةِ، فَإِذَا حَلَفَ أَخَذَ قَدْرَ حَقِّهِ وَلَا يَثْبُتُ الْبَاقِي بِيَمِينِهِ، بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لِلْقَتِيلِ وَارِثَانِ فَأَكْثَرُ، فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَأَظْهَرُهُمَا: يُوَزَّعُ الْخَمْسُونَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهَذَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَقَعَ كَسْرٌ، تَمَّمْنَا الْمُنْكَسِرَ، فَإِذَا كَانَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، حَلَفَ كُلُّ ابْنٍ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَإِنْ خَلَّفَ أُمًّا وَابْنًا، حَلَفَتْ تِسْعًا وَحَلَفَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَإِنْ خَلَّفَ زَوْجَةً وَبِنْتًا جُعِلَتِ الْأَيْمَانُ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا، فَتَحْلِفُ الزَّوْجَةُ عَشْرًا، وَالْبِنْتُ أَرْبَعِينَ، وَفِي زَوْجٍ وَبِنْتٍ، تُجْعَلُ أَثْلَاثًا، وَإِذَا خَلَّفَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ ابْنًا أَوْ أَخًا، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ يَمِينَيْنِ، وَفِي صُورَةِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ تُقْسَمُ الْأَيْمَانُ، كَقَسْمِ الْمَالِ، وَفِي الْمُعَادَةِ لَا يَحْلِفُ وَلَدُ الْأَبِ إِنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، فَإِنْ أَخَذَ حَلَفَ بِقَدْرِ حَقِّهِ، فَإِذَا خَلَّفَ جَدًّا وَأَخًا لِأَبَوَيْنِ وَأَخًا لِأَبٍ، حَلَفَ الْجَدُّ سَبْعَ عَشْرَةَ وَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَلَا يَحْلِفُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَعَلَى التَّوْزِيعِ لَوْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ جَمِيعِ حِصَّتِهِ أَوْ بَعْضِهَا، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْآخَرُ شَيْئًا حَتَّى يَحْلِفَ خَمْسِينَ وَلَوْ غَابَ بَعْضُهُمْ، فَالْحَاضِرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ حِصَّتِهِ، وَبَيْنَ

أَنْ يَحْلِفَ فِي الْحَالِ خَمْسِينَ، وَيَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّهِ، فَلَوْ كَانَ الْوَرَثَةُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ أَحَدُهُمْ حَاضِرٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ، حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَأَخَذَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، فَإِذَا قَدِمَ ثَانٍ، حَلَفَ نِصْفَ الْخَمْسِينَ، وَأَخَذَ الثُّلُثَ فَإِذَا قَدِمَ الثَّالِثُ، حَلَفَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَأَخَذَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَلَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً، حَلَفَ الْحَاضِرُ خَمْسِينَ، وَأَخَذَ رُبُعَ الدِّيَةِ، فَإِذَا قَدِمَ ثَانٍ، حَلَفَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَأَخَذَ رُبُعَهَا، وَثَالِثٌ يَحْلِفُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَالرَّابِعُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَلَوْ قَالَ الْحَاضِرُ: لَا أَحْلِفُ إِلَّا بِقَدْرِ حِصَّتِي لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنَ الْقَسَامَةِ حَتَّى إِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ حَلَفَ مَعَهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ الشَّفِيعُ الْحَاضِرُ: لَا آخُذُ إِلَّا قَدْرَ حِصَّتِي، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّهُ ; لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إِذَا أَمْكَنَ أَخْذُهَا، فَالتَّأْخِيرُ تَقْصِيرٌ مُفَوِّتٌ، وَالْيَمِينُ فِي الْقَسَامَةِ لَا تَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، فَالْبَالِغُ الْعَاقِلُ كَالْحَاضِرِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ كَالْغَائِبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ حَلَفَ الْحَاضِرُ أَوِ الْبَالِغُ خَمْسِينَ، ثُمَّ مَاتَ الْغَائِبُ أَوِ الصَّبِيُّ، وَوَرِثَ الْحَالِفُ، لَمْ يَأْخُذْ نَصِيبَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ حِصَّتَهُ وَلَا يُحْسَبَ مَا مَضَى ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهُ يَوْمَئِذٍ. فَرْعٌ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ خُنْثَى مُشْكِلٌ، أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْيَقِينِ فِي الْأَيْمَانِ وَالْمِيرَاثِ، فَإِنْ خَلَّفَ وَلَدًا خُنْثَى، حَلَفَ خَمْسِينَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرٌ، وَلَا يَأْخُذُ إِلَّا نِصْفَ الْمَالِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصَبَةٌ، لَمْ يَأْخُذِ الْقَاضِي الْبَاقِيَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ يُوقَفُ حَتَّى يَبِينَ الْخُنْثَى، فَإِنْ بَانَ ذَكَرًا أَخَذَهُ، وَإِنْ بَانَ أُنْثَى حَلَّفَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَصَبَةٌ كَأَخٍ، فَإِنْ شَاءَ صَبَرَ إِلَى وُضُوحِ الْخُنْثَى، وَإِنْ شَاءَ حَلَفَ، فَإِنْ صَبَرَ تَوَقَّفْنَا، وَإِنْ حَلَفَ حَلَفَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَأَخَذَ الْقَاضِي النِّصْفَ الْآخَرَ، وَوَقَفَهُ بَيْنَ الْأَخِ وَالْخُنْثَى، فَإِذَا بَانَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمَا، دَفَعَهُ إِلَيْهِ بِالْيَمِينِ السَّابِقَةِ، وَلَوْ خَلَّفَ وَلَدَيْنِ خُنْثَيَيْنِ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَيِ الْأَيْمَانِ مَعَ الْجَبْرِ

وَهِيَ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ يَمِينًا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرٌ، وَالْآخَرُ أُنْثَى، وَلَا يَأْخُذَانِ إِلَّا الثُّلُثَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمَا أُنْثَيَانِ، وَلَوْ خَلَّفَ ابْنًا وَخُنْثَى، حَلَفَ الِابْنُ ثُلُثَيِ الْأَيْمَانِ، وَأَخَذَ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَحَلَفَ الْخُنْثَى نِصْفَهَا، وَأَخَذَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَوَقَفَ السُّدُسُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتًا وَخُنْثَى، حَلَفَتْ نِصْفَ الْأَيْمَانِ، وَالْخُنْثَى ثُلُثَيْهَا، وَأَخَذَ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ الْبَاقِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَظْهَرَ الْخُنْثَى. وَهُنَا صُوَرٌ أُخَرُ فِي الْخَنَاثَى تُعْلَمُ مِنَ الضَّابِطِ وَالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ حَذَفْتُهَا اخْتِصَارًا وَلِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهَا وَتَعَذُّرِ وُقُوعِهَا. فَرْعٌ مَاتَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ الْمُدَّعِينَ الدَّمَ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْأَيْمَانِ، فَإِنْ تَعَدَّدُوا، عَادَ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَحْلِفُ كُلُّ وَارِثٍ خَمْسِينَ، فَكَذَا وَرَثَةُ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: بِالتَّوْزِيعِ، وُزِّعَتْ حِصَّةُ ذَلِكَ الْوَارِثِ عَلَى وَرَثَتِهِ، فَلَوْ كَانَ لِلْقَتِيلِ ابْنَانِ، مَاتَ أَحَدُهُمَا عَنِ ابْنَيْنِ، حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَلَوْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَمَاتَ أَخُوهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ، وَلَمْ يَتْرُكْ سِوَى هَذَا الْحَالِفِ، حَلَفَ أَيْضًا ثَلَاثَ عَشْرَةَ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَحْلِفُ الْمَيِّتُ، وَلَا يَكْفِيهِ إِتْمَامُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَلَوْ مَاتَ وَارِثُ الْقَتِيلِ بَعْدَ حَلْفِهِ، أَخَذَ وَارِثُهُ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ نُكُولِهِ، لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ أَنْ يَحْلِفَ ; لِأَنَّهُ بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ الْقَسَامَةِ بِنُكُولِهِ، لَكِنْ لِوَارِثِهِ تَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَرْعٌ لِلْقَتِيلِ ابْنَانِ، حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَمَاتَ الْآخَرُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ عَنِ ابْنَيْنِ، فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ، وَهِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَنَكَلَ الْآخَرُ، وُزِّعَ الرُّبُعُ الَّذِي

نُكِلَ عَنْهُ عَلَى أَخِيهِ وَعَمِّهِ عَلَى نِسْبَةِ مَا يَأْخُذَانِ مِنَ الدِّيَةِ، فَيَخُصُّ الْأَخَ أَرْبَعٌ وَسُدُسٌ يُضَمُّ ذَلِكَ إِلَى حِصَّتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَهِيَ اثْنَتَا عَشْرَةَ وَنِصْفٌ، فَتَبْلُغُ سِتَّ عَشْرَةَ وَثُلُثَيْنِ فَتَكْمُلُ، وَقَدْ حَلَفَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَيَحْلِفُ الْآنَ أَرْبَعًا، وَيَخُصُّ الْعَمَّ ثَمَانٍ وَثُلُثٌ، فَيَحْلِفُ تِسْعًا فَيَكْمُلُ لَهُ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا سَبَقَ فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعِي، أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْقَتْلَ بِغَيْرِ لَوْثٍ وَتَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهَلْ يُغَلِّظُ عَلَيْهِ بِالْعَدَدِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّهَا يَمِينُ دَمٍ، فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ رُدَّ عَلَى الْمُدَّعِي مَا تَوَجَّهَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ، وَنَكَلَ الْمُدَّعِي عَنِ الْقَسَامَةِ، غُلِّظَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْعَدَدِ قَطْعًا، وَقِيلَ: بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: بِالتَّعَدُّدِ، وَكَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى جَمَاعَةٍ مَعَ لَوْثٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، فَهَلْ يُقَسَّطُ الْخَمْسُونَ عَلَيْهِمْ بِعَدَدٍ الرُّءُوسِ، أَمْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي، فَإِنْ قَسَّطْنَا فَكَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى اثْنَيْنِ، حَاضِرٍ وَغَائِبٍ، حَلَفَ الْحَاضِرُ خَمْسِينَ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ وَأَنْكَرَ، حَلَفَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ، فَنَكَلَ أَحَدُهُمَا، حَلَفَ الْآخَرُ خَمْسِينَ ; لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنِ الدَّمِ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهَا عَلَى قَوْلِ التَّعَدُّدِ، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي عَلَى النَّاكِلِ خَمْسِينَ، وَلَوْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ وَالْمُدَّعُونَ جَمَاعَةٌ وَقُلْنَا: بِالتَّعَدُّدِ، فَهَلْ تُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ أَمْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي سَبَقَ حُكْمُ الْأَيْمَانَ فِي دَعْوَى النَّفْسِ، فَأَمَّا دَعْوَى

الطَّرْفِ وَالْجَرْحِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِاللَّوْثِ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَلْ تَتَعَدَّدُ الْيَمِينُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى النَّفْسِ هَلْ تَتَعَدَّدُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ، أَشْبَهَهُمَا بِالتَّرْجِيحِ التَّعَدُّدُ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هَذَا الْخِلَافُ فِي دَعْوَى الْعَمْدِ الْمَحْضِ، أَمَّا فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ فَتَتَّحِدُ فِيهِ الْيَمِينُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْأَكْثَرُونَ كَمَا فِي النَّفْسِ، وَإِذَا قُلْنَا: بِالتَّعَدُّدِ، فَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِيمَا يَدَّعِيهِ قَدْرَ الدِّيَةِ، فَإِنْ نَقَصَ كَبَدَلِ الْيَدِ وَالْحُكُومَةِ، فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَيْضًا، وَالثَّانِي: تُوَزَّعُ الْخَمْسُونَ عَلَى الْأَبْدَالِ، فَفِي الْيَدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَفِي الْمُوضِحَةِ ثَلَاثٌ، وَلَوْ زَادَ الْوَاجِبَ عَلَى دِيَةٍ نَفْسٍ، فَهَلْ يُزَادُ فِي قَدْرِ الْأَيْمَانِ بِزِيَادَةِ قَدْرِ الْأُرُوشِ؟ طَرَدَ الْإِمَامُ حِكَايَةَ الْخِلَافِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي الطَّرَفِ عَلَى جَمَاعَةٍ، فَهَلْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا يَحْلِفُ الْمُنْفَرِدُ، أَمْ يُوَزَّعُ عَلَى رُءُوسِهِمْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ كَمَا سَبَقَ، وَمَتَى نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ الْمَعْرُوضَةِ عَلَيْهِ، رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي، وَحَلَفَ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُدَّعُونَ، فَهَلْ تُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْإِرْثِ، أَمْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَحْلِفُ الْمُنْفَرِدُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. فَرْعٌ كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي شَاهِدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: تَتَّحِدُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ فِي دَعْوَى الدَّمِ، نُظِرَ، إِنْ جَاءَ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ أَوْ شَهِدَ عَلَى اللَّوْثِ، حَلَفَ مَعَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَحَافَظَ عَلَى شَرْطِهَا، حَلَفَ مَعَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً، قَالَ الْإِمَامُ: وَيَثْبُتُ الْمَالُ إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى قَتْلَ عَمْدٍ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، وَفِي الْمَالِ خِلَافٌ يَأْتِي نَظِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا قُلْنَا: تَعَدُّدُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ خَمْسِينَ يَمِينًا بِكُلِّ حَالٍ.

الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ: فَإِذَا أَقْسَمَ الْوَلِيُّ فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ، فَإِنْ كَانَ ادَّعَى قَتْلَ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، مُخَفَّفَةٌ فِي الْخَطَأِ، وَمُغَلَّظَةٌ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَإِنِ ادَّعَى قَتْلًا عَمْدًا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يُقْتَلُ بِذَلِكَ الْقَتِيلِ، فَهَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْقَسَامَةِ؟ قَوْلَانِ، الْقَدِيمُ: نَعَمْ، وَالْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: لَا، فَعَلَى الْجَدِيدِ تَجِبُ الدِّيَةُ فَي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةً، وَعَلَى الْقَدِيمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ كَالْبَيِّنَةِ، وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى الْقَدِيمِ أَنَّ الْوَلِيَّ يَخْتَارُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَيَقْتُلُهُ قِصَاصًا، وَلَا يَقْتُلُ الْجَمِيعَ، وَقِيلَ: عَلَى هَذَا يَأْخُذُ مِنَ الْبَاقِينَ حِصَّتَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِذَا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى ثَلَاثَةٍ فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ. وَالْحَاضِرُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، فَإِنْ قَالَ: تَعَمَّدُوا جَمِيعًا، أَقْسَمَ عَلَى الْحَاضِرِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَأَخَذَ ثُلُثَ الدِّيَةِ مِنْ مَالِهِ عَلَى الْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ لَهُ الْقِصَاصُ، فَإِذَا قَدِمَ أَحَدُ الْغَائِبِينَ، فَإِنْ أَقَرَّ، اقْتُصَّ مِنْهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ، أَقْسَمَ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي، وَهَلْ يُقْسِمُ خَمْسِينَ أَمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَيَنْبَغِي أَنَّ يَكُونَ هَذَا عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي جَوَازِ الْقَسَامَةِ فِي غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهَا وَذَكَرَهُ فِي الْأَيْمَانِ السَّابِقَةِ اكْتَفَى بِهَا، ثُمَّ إِذَا حَلَفَ عَلَيْهِ، عَادَ الْقَوْلَانِ، الْجَدِيدُ وَالْقَدِيمُ، فَإِذَا قَدِمَ الثَّالِثُ وَأَنْكَرَ فَكَمْ يَحْلِفُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَإِنْ قَالَ: تَعَمَّدَ هَذَا الْحَاضِرُ، وَكَانَ الْغَائِبَانِ مُخْطِئَيْنِ، أَقْسَمَ عَلَى الْحَاضِرِ وَلَا يَقْتَصُّ مِنْهُ قَطْعًا، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبَانِ وَأَنْكَرَا، فَكَمْ يَحْلِفُ عَلَيْهِمَا؟ فِيهِ الْخِلَافُ، وَإِنْ أَقَرَّا وَصَدَّقَتْهُمَا الْعَاقِلَةُ، فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِلَّا فَفِي مَالِهِمَا مُخَفَّفَةٌ، وَإِنْ قَالَ: تَعَمَّدَ الْحَاضِرُ وَلَا أَدْرِي أَتَعَمَّدَ الْغَائِبَانِ أَمْ أَخْطَآ، أَقْسَمَ عَلَى الْحَاضِرِ خَمْسِينَ وَأَخَذَ

مِنْهُ ثُلُثَ الدِّيَةِ عَلَى الْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَحْضُرَا، فَإِنْ حَضَرَا وَاعْتَرَفَا بِالتَّعَمُّدِ، اقْتَصَّ مِنْهُمَا وَيَقْتَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْضًا فِي الْقَدِيمِ، وَإِنِ اعْتَرَفَا بِالْخَطَأِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ الْمُخَفَّفَةُ عَلَيْهِمَا إِنْ كَذَّبْتَهُمَا الْعَاقِلَةُ، وَإِلَّا فَعَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ أَنْكَرَا أَصْلَ الْقَتْلِ، فَهَلْ يُقْسِمُ الْمُدَّعِي؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا إِذَا ادَّعَى الْقَتْلَ وَظَهَرَ اللَّوْثُ فِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ عَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ، الْأَصَحُّ: لَا يُقْسِمُ، فَإِنْ قُلْنَا: يُقْسِمُ، فَأَقْسَمَ، حُبِسَا حَتَّى يَصِفَا الْقَتْلَ، وَكَمْ يُقْسِمُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ، وَلَوِ ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى شَخْصَيْنِ، وَعَلَى أَحَدِهِمَا لَوْثٌ دُونَ الْآخَرِ، أَقْسَمَ الْمُدَّعِي عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ لَوْثٌ خَمْسِينَ، وَفِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ الْقَوْلَانِ، وَحَلَفَ الَّذِي لَا لَوْثَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعِي عَنِ الْقَسَامَةِ فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ، حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، فَإِنْ نَكَلَ، فَهَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي؟ يُنْظَرُ، إِنِ ادَّعَى قَتْلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَقُلْنَا: الْقَسَامَةُ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ، رُدَّتِ الْيَمِينُ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِهَا مَا لَا يَسْتَفِيدُ بِالْقَسَامَةِ، وَهُوَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ قَتْلًا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، أَوْ يُوجِبُهُ وَقُلْنَا: الْقَسَامَةُ تُوجِبُهُ، فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا تُرَدُّ ; لِأَنَّهُ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا: الرَّدُّ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَكَلَ عَنْ يَمِينِ الْقَسَامَةِ، وَهَذِهِ غَيْرُهَا، وَالسَّبَبُ الْمُمْكِنُ مِنْ تِلْكَ هُوَ اللَّوْثُ، وَمِنْ هَذِهِ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ صُورَةِ اللَّوْثِ، وَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ، وَالْمُدَّعِي عَنِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، ثُمَّ ظَهَرَ لَوْثٌ وَأَرَادَ الْمُدَّعِي أَنْ يُقْسِمَ فَقَدْ أَجْرَوُا الْقَوْلَيْنِ فِي تَمْكِينِهِ مِنْهُ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا فِي دَعْوَى بِمَالٍ، وَنَكَلَ عَنِ الْحَلِفِ مَعَهُ، وَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ الْمَعْرُوضَةِ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ الْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ

الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ، عَادَ الْقَوْلَانِ هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ جَرَى ذَلِكَ فِي دَعْوَى قَتْلٍ يُوجِبُ قِصَاصًا، حَلَفَ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْقِصَاصَ، وَيَسْتَفِيدُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ. فَرْعٌ إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَخَلَّصَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ، وَلَا يُطَالِبُ أَهْلَ الْمَوْضِعِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ، وَلَا يَأْتِي ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَلَا عَاقِلَتُهُ وَلَا عَاقِلَةُ الْحَالِفِ وَلَا غَيْرُهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى قَتْلًا عَمْدًا أَمْ خَطَأً، وَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى قَتْلًا عَمْدًا، ثَبَتَ الْقِصَاصُ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْإِقْرَارِ، أَوْ كَالْبَيِّنَةِ، وَالْقِصَاصُ يَثْبُتُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ، ثُمَّ قِيلَ: إِنْ قُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْبَيِّنَةِ، فَهِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، فَفِي مَالِهِ، وَقِيلَ: فِي مَالِهِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِيمَنْ يَحْلِفُ فِي الْقَسَامَةِ: وَهُوَ كُلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ بَدَلَ الدَّمِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ السَّيِّدُ، فَإِنَّهُ إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ، أَقْسَمَ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ، وَعَلَى هَذَا يُقْسِمُ الْمُكَاتَبُ إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ، وَلَا يُقْسِمُ سَيِّدُهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَتَلَ عَبْدٌ الْمَأْذُونَ لَهُ فَإِنَّ السَّيِّدَ يُقْسِمُ دُونَ الْمَأْذُونِ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، أَقْسَمَ السَّيِّدُ، وَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ عَرْضِ الْيَمِينِ وَنُكُولِهِ، لَمْ يُقْسِمِ السَّيِّدُ، لِبُطْلَانِ الْحَقِّ بِنُكُولِهِ، كَمَا لَا يُقْسِمُ

الْوَارِثُ إِذَا نَكَلَ الْمُورِثُ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ مَا أَقْسَمَ، أَخَذَ السَّيِّدُ الْقِيمَةَ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْوَلِيُّ بَعْدَ مَا أَقْسَمَ. فَرْعٌ مَلَكَ عَبْدُهُ عَبْدًا، فَقَتَلَ وَهُنَاكَ لَوْثٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْعَبْدُ لَا يُمَلَّكُ بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ، أَقْسَمَ السَّيِّدُ ; لِأَنَّ الْمَقْتُولَ عَبْدُهُ، فَإِنْ أَقْسَمَ، كَانَتِ الْقِيمَةُ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ، بُنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ عَبْدُهُ شَيْئًا فَأَتْلَفَ، هَلْ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْهُ وَتَكُونُ الْقِيمَةُ لِلسَّيِّدِ، أَمْ يَنْتَقِلُ حَقُّهُ إِلَى الْقِيمَةِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الِانْقِطَاعُ؛ لِضَعْفِ مِلْكِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أُعْتِقَ أَوِ انْتَقَلَ مِنْ مِلْكِ السَّيِّدِ، انْقَلَبَ مَا مَلَكَهُ إِلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَنْقَطِعُ، أَقْسَمَ السَّيِّدُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُقْسِمُ الْعَبْدُ كَالْمُكَاتَبِ، وَالثَّانِي: لَا، لِضَعْفِ مِلْكِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقْسِمُ السَّيِّدُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا مَلِكَ لَهُ، وَلَوِ اسْتَرْجَعَ السَّيِّدُ الْمِلْكَ، وَأَعَادَ الْقِيمَةَ إِلَى مِلْكِهِ، لَمْ يُقْسِمِ السَّيِّدُ أَيْضًا ; لِأَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ لِلْعَبْدِ، فَكَيْفَ يَخْلُفُهُ السَّيِّدُ فِيهَا، وَإِنْ قُلْنَا: يُقْسِمُ الْعَبْدُ، فَقَدْ قِيلَ: لَا يُقْسِمُ السَّيِّدُ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِينَ قَتَلَ، وَلَا صَارَتِ الْقِيمَةُ لَهُ حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ بِالِاسْتِرْجَاعِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ السَّيِّدُ خَلَفًا عَنِ الْعَبْدِ كَالْوَارِثِ مَعَ مُورِثِهِ، وَلَوْ مَلَّكَ مُسْتَوْلَدَتَهُ عَبْدًا كَانَ كَمَا لَوْ مَلَكَ عَبْدَهُ الْقِنَّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ عَتَقَتْ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَلَوْ أَوْصَى لِمُسْتَوْلَدَتِهِ بِعَبْدٍ، فَقُتِلَ وَهُنَاكَ لَوْثٌ، أَقْسَمَ السَّيِّدُ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ أَوْصَى لَهَا بِقِيمَةِ عَبْدِهِ بَعْدَمَا قُتِلَ، أَوْ أَوْصَى لَهَا بِقِيمَةِ عَبْدِهِ فُلَانٍ إِنْ قُتِلَ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ ; لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَهُ وَلَا يَقْدَحُ فِيهَا الْخَطَرُ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَحْتَمِلُ الْإِخْطَارَ، وَلَيْسَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْمُسْتَوْلَدَةِ كَالْوَصِيَّةِ لَلَقِنِّ ; لِأَنَّهَا تَعْتِقُ بِالْمَوْتِ وَهُوَ وَقْتُ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ، وَالْقِنُّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ، فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْوَصِيَّةِ لَهُ، قَالَ

الرُّويَانِيُّ: وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى لَعَبْدٍ نَفْسَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَيَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِذَا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهَا، فَإِنْ أَقْسَمَ السَّيِّدُ ثُمَّ مَاتَ فَالْقِيمَةُ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُقْسِمْ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ نُكُولٌ، أَقْسَمَ الْوَرَثَةُ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ لَهَا بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ لِلْمُسْتَوْلَدَةِ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقَتْلِ كَانَ لِلسَّيِّدِ، وَالْقَسَامَةُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْقَتْلِ، فَيَرِثُونَهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَتَثْبُتُ الْقِيمَةُ لَهُ، ثُمَّ يَصْرِفُونَهَا إِلَى الْمُسْتَوْلَدَةِ بِمُوجِبِ وَصِيَّتِهِ، وَلَهُمْ غَرَضٌ ظَاهِرٌ فِي تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ وَتَحْقِيقِ مُرَادِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُمْ يَقْضُونَ دَيْنَهُ، وَلَيْسَ سَبِيلُهُمْ فِيهِ سَبِيلَ سَائِرِ النَّاسِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا تَرِكَةَ لَهُ، فَقَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِهِمْ، لَزِمَ الْمُسْتَحِقَّ قَبُولُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ، قَالَ الْإِمَامَ: وَغَالِبُ ظَنِّي أَنِّي رَأَيْتُ فِيهِ خِلَافًا، قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ وَمَاتَ، فَجَاءَ مَنِ ادَّعَى اسْتِحْقَاقَهُ هَلْ يَحْلِفُ الْوَارِثُ لِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَسَامَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ. وَلَوْ نَكَلَ الْوَرَثَةُ عَنِ الْقَسَامَةِ، فَهَلْ لِلْمُسْتَوْلَدَةِ أَنْ تُقْسِمَ وَتَأْخُذَ الْقِيمَةَ؟ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا ; لِأَنَّ الْقَسَامَةَ لِإِثْبَاتِ الْقِيمَةِ، وَهِيَ تَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ بِالْوَصِيَّةِ إِلَيْهَا، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ السَّيِّدِ إِلَّا وَارِثُهُ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي الْمَدْيُونِ إِذَا لَمْ يُقْسِمْ وَرَثَتُهُ، هَلْ يُقْسِمُ غُرَمَاؤُهُ؟ وَلَا خِلَافَ أَنَّ لِلْوَرَثَةِ الدَّعْوَى، وَطَلَبَ الْيَمِينِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُقْسِمُوا، وَأَمَّا الْمُسْتَوْلَدَةُ، فَهَلْ لَهَا الدَّعْوَى وَطَلَبُ الْيَمِينِ؟ قِيلَ: إِنْ قُلْنَا: لَهَا أَنْ تُقْسِمَ، فَلَهَا ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ أَنَّ لَهَا ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُقْسِمُ ; لِأَنَّهَا صَاحِبَةُ الْقِيمَةِ، وَأَمَّا الْقَسَامَةُ فَلِلْوَرَثَةِ، فَلَوْ نَكَلَ الْخَصْمُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا، قَالَ الْإِمَامُ: وَعَلَى هَذَا لَا يَفْتَقِرُ طَلَبُهَا وَدَعْوَاهَا إِلَى إِعْرَاضِ الْوَرَثَةِ عَنِ الطَّلَبِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَرَثَةَ وَإِنْ كَانَ لَهُمُ الْقَسَامَةُ، لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُتَيَقِّنِينَ، فَالْأَيْمَانُ لَا تَجِبُ قَطُّ. فَرْعٌ لَوْ قَطَعْتَ يَدَ عَبْدٍ، فَعَتِقَ وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ، وَذَكَرْنَا قَوْلَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا: لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَكَمَالِ الدِّيَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ كَمَالِ الْقِيمَةِ وَكَمَالِ الدِّيَةِ، فَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْجِنَايَةُ فِي مَحَلِّ لَوْثٍ وَكَانَ الْوَاجِبُ قَدْرَ مَا يَأْخُذُهُ السَّيِّدُ وَلَا يَفْضُلُ شَيْءٌ لِلْوَرَثَةِ، فَهَلْ يُقْسِمُ؟ يُبْنَى عَلَى مَا لَوْ مَاتَ رَقِيقًا، إِنْ قُلْنَا: يُقْسِمُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُقْسِمُ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْقَتِيلَ حُرٌّ، وَالْوَاجِبُ دِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَنِ الْوَاجِبِ شَيْءٌ لِلْوَرَثَةِ، أَقْسَمَ الْوَرَثَةُ قَطْعًا، وَفِي قَسَامَةِ السَّيِّدِ الْخِلَافُ، إِنْ قُلْنَا: لَا يُقْسِمُ، أَقْسَمَ الْوَرَثَةُ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَإِلَّا فَالسَّيِّدُ مَعَ الْوَارِثِ كَالْوَارِثِينَ، فَيَعُودُ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا، أَمْ تُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ مَا يَأْخُذَانِ. فَرْعٌ إِذَا ارْتَدَّ وَلِيُّ الْقَتِيلِ بَعْدَ مَا أَقْسَمَ، فَالدِّيَةُ ثَابِتَةٌ، وَلَهَا حُكْمُ سَائِرِ أَمْوَالِهِ الَّتِي ارْتَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنِ ارْتَدَّ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ، قَالَ الْأَصْحَابُ: الْأَوْلَى أَنْ لَا يَعْرِضَ الْحَاكِمُ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَوَرَّعُ عَنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَقْسَمَ، وَلَوْ أَقْسَمَ فِي الرِّدَّةِ، فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْقَسَامَةِ، وَاسْتِحْقَاقُ الدِّيَةِ بِهَا، وَهِيَ كَمَالُ كَسْبِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ بِاحْتِطَابٍ وَاصْطِيَادٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَوِ ارْتَدَّ الْوَلِيُّ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ، وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ وَالْوَلِيُّ مُرْتَدٌّ، لَمْ يُقْسِمْ ; لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ بِخِلَافِ مَا إِذَا قَتَلَ الْعَبْدَ، وَارْتَدَّ

فصل

السَّيِّدُ، لَا يَفْرُقُ بَيْنَ أَنْ يَرْتَدَّ قَبْلَ مَوْتِ الْعَبْدِ أَمْ بَعْدَهُ، بَلْ يُقْسِمُ إِذَا قُلْنَا بِالْقَسَامَةِ فِي بَدَلِ الْعَبْدِ ; لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْمِلْكِ لَا بِالْإِرْثِ. فَرْعٌ قَتَلَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ بِجِهَةٍ خَاصَّةٍ وَهُنَاكَ لَوْثٌ، فَلَا قَسَامَةَ لِعَدَمِ الْمُسْتَحَقِّ الْمُعَيَّنِ، لَكِنْ يُنَصِّبُ الْقَاضِي مَنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ وَيُحَلِّفُهُ، فَإِنْ نَكَلَ، فَهَلْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لَا يُحَلِّفَ السَّكْرَانَ مُدَّعِيًا كَانَ وَلَا مُدَّعًى عَلَيْهِ، حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ، وَيَنْزَجَرَ عَنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، فَإِنْ حَلَّفَهُ فِي السُّكْرِ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ السَّكْرَانَ كَالصَّاحِي أَمْ كَالْمَجْنُونِ. وَالْأَصَحُّ: الْأَوَّلُ، وَلَوْ قُتِلَ رَجُلٌ وَكَانَ اللَّوْثُ عَلَى عَبْدِهِ، فَأَرَادَ وَارِثُهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ، فَلَهُ ذَلِكَ إِنْ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ بِالْقَسَامَةِ لِيُقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا يُقْسِمُ ; لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَالٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا، فَيَسْتَفِيدَ بِالْقَسَامَةِ فَكَّ الرَّهْنِ وَبَيْعَهُ، وَقِسْمَةَ ثَمَنِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ عَمْدًا، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: قَتَلْتُهُ وَلَكِنْ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ، صَدَقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ بِأَنْ شَهِدَ عَبِيدٌ أَوْ نِسْوَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْعَمْدِيَّةِ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمُدَّعِي، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ وَالْمُتَوَلِّي، فَإِنْ حَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَحْلِفْ؟ يُبْنَى عَلَى مَا لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْقَتْلِ إِنْ قُلْنَا: يَمِينًا وَاحِدَةً، فَكَذَا هُنَا وَإِنْ قُلْنَا: خَمْسِينَ، فَكَذَا هُنَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يَمِينًا ; لِأَنَّ إِنْكَارَ الصِّفَةِ أَخَفُّ مِنْ إِنْكَارِ الْأَصْلِ، وَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهَلْ لِلْمُدَّعِي

طَلَبُ الدِّيَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أَمْ تَجِبُ عَلَى الْجَانِي وَهُمْ يَحْمِلُونَ، إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، لَيْسَ لَهُ الطَّلَبُ ; لِأَنَّهُ ادَّعَى حَقًّا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ اعْتَرَفَ بِوُجُوبِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْخَلْفَ فِي الصِّفَةِ هَلْ هُوَ كَالْخَلْفِ فِي الْمَوْصُوفِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ سَبَقَا فِي مَسَائِلِ خِيَارِ النِّكَاحِ، إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَكَأَنَّهُ ادَّعَى مَالًا فَاعْتَرَفَ بِمَالٍ آخَرَ لَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، طَالَبَ بِالدِّيَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْأَكْثَرُونَ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُخَفَّفَةً مُؤَجَّلَةً إِلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ الْعَاقِلَةُ، فَتَكُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ خَطَأً، فَقَالَ: قَتَلْتُهُ عَمْدًا، فَلَا قِصَاصَ، وَهَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِدِيَةٍ مُخَفَّفَةٍ؟ قَالَ الْمُتَوَلِّي: فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَلَوْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصُّورَةِ الْأَوْلَى، حَلَفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ كَانَ عَمْدًا وَيَكُونُ عَدَدُ يَمِينِهِ بِعَدَدِ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيَثْبُتُ لَهُ بِيَمِينِهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ فِي مَالِهِ. فَرْعٌ ادَّعَى جُرْحًا لَا يُوجِبُ قِصَاصًا كَجَائِفَةٍ، وَأَقَامَ بِهَا شَاهِدًا، وَحَلَفَ مَعَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً لِيَسْتَحِقَّ الْمَالَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِالسِّرَايَةِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يُعْطَى الْوَرَثَةُ شَيْئًا إِلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا ; لِأَنَّهَا صَارَتْ نَفْسًا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ: تَصْوِيرُ ابْنِ الْحَدَّادِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دَعْوَى الْجُرْحِ وَالْبَيِّنَةِ بِهِ تُسْمَعَانِ قَبْلَ انْدِمَالِهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ، وَمُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ لَا تَتَعَدَّدُ فِي الْجِرَاحَاتِ، فَإِنْ قُلْنَا: تَتَعَدَّدُ، وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ خَمْسِينَ، وَإِنْ قُلْنَا: بِالتَّوْزِيعِ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ، حَلَفَ لِلْجَائِفَةِ مَعَ الشَّاهِدِ ثُلُثَ الْخَمْسِينَ، ثُمَّ إِذَا مَاتَ الْمَجْرُوحُ، وَصَارَتِ الْجِرَاحَةُ نَفْسًا، أَقْسَمَ الْوَرَثَةُ وَاللَّوْثُ حَاصِلٌ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الَّذِي أَقَامَهُ مُورِثُهُمْ، وَلَا تُحْسَبُ يَمِينُهُ لَهُمْ، وَقَالَ الْخِضْرِيُّ: تُحْسَبُ حَتَّى لَوْ حَلَفَ خَمْسِينَ عَلَى قَوْلِنَا بِالتَّكْمِيلِ، فَلَا يَمِينَ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ.

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الدَّمِ صِفَاتُ الشُّهُودِ، وَنَصْبُ الشَّهَادَاتِ، وَشُرُوطُهَا تُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، لَكِنْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ، فَرَاعَى مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ تَرْتِيبَهُ، فَكُلُّ قَتْلٍ أَوْ جَرْحٍ يُوجِبُ الْقِصَاصَ، لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى نَفْسِ الْقَتْلِ أَوِ الْجَرْحِ، أَوْ إِقْرَارِ الْجَانِي بِهِ، وَمَا لَا يُوجِبُ إِلَّا الدِّيَةَ، كَالْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَجِنَايَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَمُسْلِمٍ عَلَى ذَمِّيٍ، وَحُرٍّ عَلَى عَبْدٍ، وَأَبٍ عَلَى ابْنٍ، يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِرَجُلٍ وَيَمِينٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ الْمَدَّعَاةُ بِحَيْثُ تُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَقَالَ الْمُدَّعِي: عَفَوْتُ عَنِ الْقِصَاصِ فَاقْبَلُوا مِنِّي رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ شَاهِدًا وَيَمِينًا لِأَخْذِ الْمَالِ، فَهَلْ يُقْبَلُ وَيَثْبُتُ الْمَالُ؟ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الْمَنْعُ ; لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهَذَا، وَمِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، مُوضِحَةٌ تُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَمِنَ الثَّانِي، هَاشِمَةٌ وَمَأْمُومَةٌ وَجَائِفَةٌ تَجَرَّدَتْ عَنِ الْإِيضَاحِ، فَلَوْ كَانَتْ هَاشِمَةٌ مَسْبُوقَةٌ بِإِيضَاحٍ، فَهَلْ يَثْبُتُ أَرْشُ الْهَاشِمَةِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ؟ النَّصُّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، وَنَصَّ فِيمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إِلَى زَيْدٍ، فَمَرَقَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَنَّهُ يَثْبُتُ الْخَطَأُ الْوَارِدُ عَلَى الثَّانِي بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَفِيهِمَا طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُبُوتُ الْهَشْمِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الثَّانِي بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَالْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهَشْمَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْإِيضَاحِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا اشْتَمَلَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، احْتِيطَ لَهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ، وَفِي صُورَةِ مُرُوقِ السَّهْمِ حَصَلَ جِنَايَتَانِ لَا تَتَعَلَّقُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: أَصَابَ سَهْمُهُ الرَّجُلَ

فصل

الَّذِي قَصَدَهُ، وَنَفَذَ مِنْهُ إِلَى أَبِي فَقَتَلَهُ، وَلَمْ تَكُنِ الْجِنَايَةُ الْأُولَى مُتَعَلَّقُ حَقِّ الْمُدَّعِي، وَجَبَ الْقَطْعُ بِثُبُوتِ الْخَطَأِ بِالْبَيِّنَةِ النَّاقِصَةِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ الْأُولَى مُتَعَلَّقُ حَقِّ الْمُدَّعِي، قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، قَالَ: وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَوْضَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ عَادَ وَهَشَّمَهُ، يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ أَرْشُ الْهَاشِمَةِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَتَّصِلْ بِالْمُوضِحَةِ، وَلَمْ تَتَّحِدِ الْجِنَايَةُ، قَالَ: وَلَوِ ادَّعَى مَعَ الْقِصَاصِ مَالًا مِنْ جِهَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ، وَأَقَامَ عَلَى الدَّعْوَيَيْنِ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، فَالْمَذْهَبُ ثُبُوتُ الْمَالِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَأَبْعَدَ بَعْضُهُمْ فَخَالَفَ فِيهِ، وَفِي «الْوَسِيطِ» أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى قَتْلَ عَمْرٍو خَطَأً، فَشَهِدُوا، وَذَكَرُوا مُرُوقَ السَّهْمِ إِلَيْهِ مِنْ زَيْدٍ لَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ زَيْدًا لَيْسَ مَقْصُودًا بِهَا، فَإِذَا أَثْبَتْنَا الْهَاشِمَةَ الْمَسْبُوقَةَ بِإِيضَاحٍ، وَأَوْجَبْنَا أَرْشَهَا، قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ وَجْهَانِ، وَجْهُ الْوُجُوبِ التَّبَعِيَّةُ لِلْهَاشِمَةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْأَئِمَّةُ: لَا قِصَاصَ فِي الْمُوضِحَةِ، وَفِي أَرْشِهَا وَجْهَانِ ; لِأَنَّا وَجَدْنَا مُتَعَلَّقًا لِثُبُوتِ الْمَالِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَسْتَتْبِعَ مَالٌ مَالًا. فَصْلٌ لِتَكُنِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْجِنَايَةِ مُفَسِّرَةً مُصَرِّحَةً بِالْغَرَضِ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يُضِيفَ الْهَلَاكَ إِلَى فِعْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَالَ: ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، لَمْ يَثْبُتْ بِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: ضَرَبَهُ فَأَنْهَرَ الدَّمَ، أَوْ قَالَ: جَرَحَهُ أَوْ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَأَنْهَرَ الدَّمَ، أَوْ فَمَاتَ، لَمْ يَثْبُتْ بِهِ شَيْءٌ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَلَوْ قَالَ: جَرَحَهُ، فَقَتَلَهُ، أَوْ فَمَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ، أَوْ أَنْهَرَ دَمَهُ فَمَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، ثَبَتَ الْقَتْلُ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: جَرَحَهُ أَوْ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَأَنْهَرَ دَمَهُ وَمَاتَ مَكَانَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَجَعَلَ قَوْلَهُ: وَمَاتَ مَكَانَهُ، كَقَوْلِهِ: وَمَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ، وَفِي لَفْظِ الْإِمَامِ مَا يُشْعِرُ بِنِزَاعٍ فِيهِ، ثُمَّ الشَّاهِدُ

يُعَرِّفُ حُصُولَ الْقَتْلِ بِقَرَائِنَ يُشَاهِدُهَا، فَإِنْ لَمْ يَرَ إِلَّا الْجُرْحَ وَإِنْهَارَ الدَّمِ، وَحُصُولَ الْمَوْتِ، فَلِلْإِمَامِ تَرَدُّدٌ فِي جَوَازِ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ بِهِ، قَالَ: وَالْوَجْهُ: الْمَنْعُ، وَلَوْ قَالَ: ضَرَبَ رَأْسَهُ فَأَدْمَاهُ، أَوْ أَسَالَ دَمَهُ، ثَبَتَتِ الدَّامِيَةُ وَلَوْ قَالَ: فَسَالَ دَمُهُ، لَمْ تَثْبُتْ، لِاحْتِمَالِ حُصُولِ السَّيَلَانِ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ: ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ، فَأَوْضَحَ رَأَسَهُ، أَوْ فَاتَّضَحَ مِنْ ضَرْبِهِ أَوْ بِجُرْحِهِ، ثَبَتَتِ الْمُوضِحَةُ، وَلَوْ قَالَ: ضَرَبَهُ، فَوَجَدْنَا رَأْسَهُ مُوضَحًا، أَوْ فَاتَّضَحَ، لَمْ تَثْبُتْ، وَحَكَى الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِوُضُوحِ الْعَظْمِ، وَلَا يَكْفِي إِطْلَاقُ الْمُوضِحَةِ، فَإِنَّهَا مِنَ الْإِيضَاحِ، وَلَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِإِيضَاحِ الْعَظْمِ، وَتَنْزِيلُ لَفْظِ الشَّاهِدِ عَلَى أَلْقَابٍ اصْطَلَحَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهَا لَا وَجْهَ لَهُ، فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ فَقِيهًا، وَعَلِمَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يُطْلِقُ الْمُوضِحَةَ إِلَّا عَلَى مَا يُوضِحُ الْعَظْمَ، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ، قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، لِفَهْمِ الْمَقْصُودِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَبِرَ الْكَشْفَ لَفْظًا ; لِأَنَّ لِلشَّرْعِ تَعَبُّدًا فِي لَفْظِ الشَّهَادَاتِ وَإِنْ أَفْهَمَ غَيْرُهَا الْمَقْصُودَ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَحَلِّ الْمُوضِحَةِ وَبَيَانِ مِسَاحَتِهَا لِيَجِبَ الْقِصَاصُ، فَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ مَوَاضِحُ، وَعَجَزُوا عَنْ تَعْيِينِ مُوضِحَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَلَا قِصَاصَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ إِلَّا مُوضِحَةٌ، وَشَهِدُوا أَنَّهُ أَوْضَحَ رَأْسَهُ، فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا، لِجَوَازِ أَنَّهَا كَانَتْ مُوضِحَةً صَغِيرَةً فَوَسَّعَهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إِذَا قَالُوا: أَوْضَحَ هَذِهِ الْمُوضِحَةَ، وَهَلْ يَجِبُ الْأَرْشُ إِذَا أَطْلَقُوا أَنَّهُ أَوْضَحَ مُوضِحَةً، وَعَجَزُوا عَنْ تَعْيِينِهَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَلِّهَا وَقَدْرِهَا، وَإِنَّمَا تَعَذُّرُ الْقِصَاصَ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْهَا، وَالْمَشْهُودُ لَهُ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ، لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَلَوْ كَانَ مَقْطُوعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَالصُّورَةُ هَذِهِ، فَهَلْ تَنْزِلُ شَهَادَتُهُمْ هَذِهِ عَلَى مَا نُشَاهِدُهَا مَقْطُوعَةً أَمْ يُشْتَرَطُ تَنْصِيصُهُمْ؟ يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ خِلَافٌ.

فصل

قُلْتُ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ هُنَا بِالتَّنْزِيلِ عَلَى الْمَقْطُوعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ شَهِدَا بِمُوضِحَةٍ شَهَادَةً صَحِيحَةً، وَرَأَيْنَا رَأَسَ الْمَشْجُوجِ سَلِيمًا لَا أَثَرَ عَلَيْهِ، وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ بِالشَّهَادَةِ، فَالشَّهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ. فَصْلٌ سَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ أَنْ يَنْفَكَّ عَنِ التُّهْمَةِ، وَمِنَ التُّهْمَةِ أَنْ يَجُرَّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعَ ضُرًّا، وَمِنْ صُوَرِ الْجَرِّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى جُرْحِ مُورِثِهِ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ أَنَّهُ جَرَحَهُ، وَشَهِدَ لِلْمُدَّعِي وَإِرْثِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مِنَ الْأُصُولِ أَوِ الْفُرُوعِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِلْبَعْضِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَشَهِدَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ شَهِدَ قَبْلَهُ، فَلَا، وَإِنْ شَهِدَ بِمَالٍ آخَرَ لِمُورِثِهِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَوْ شَهِدَ بِالْجُرْحِ مَحْجُوبَانِ، ثُمَّ صَارَا وَارِثَيْنِ، فَالشَّهَادَةُ فِي الْأَصْلِ مَقْبُولَةٌ، فَإِنْ صَارَا وَارِثَيْنِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، لَمْ يُقْضَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ قَضَائِهِ، لَمْ يَنْقَضِ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدُ ثُمَّ فَسَقَ، وَقِيلَ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، أحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ شَهِدَ وَارِثَانِ ظَاهِرًا، ثُمَّ وُلِدَ ابْنٌ يَحْجُبُهُمَا، فَالشَّهَادَةُ مَرْدُودَةٌ لِلتُّهْمَةِ عِنْدَ أَدَائِهَا، وَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ شَهِدَ بِجُرْحِهِ وَارِثَاهُ فَبَرَأَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْجِرَاحَةُ لِلتُّهْمَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ. وَمِنْ صُوَرِ دَفْعِ الضَّرَرِ: أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِقَتْلٍ خَطَأٍ، فَيَشْهَدُ اثْنَانِ مِنَ الْعَاقِلَةِ الَّذِينَ يَتَحَمَّلُونَ الدِّيَةَ عَلَى فِسْقِ بَيِّنَةِ الْقَتْلِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ; لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْهُمَا، فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ مِنْ فُقَرَاءِ الْعَاقِلَةِ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَا مِنَ الْأَبَاعِدِ، وَفِي عَدَدِ الْأَقْرَبِينَ وَفَاءٌ بِالْوَاجِبِ، فَالنَّصُّ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا، فَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ،

فَالْغِنَى غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، فَتَحْصُلُ التُّهْمَةُ، وَمَوْتُ الْقَرِيبِ كَالْمُسْتَبْعَدِ فِي الِاعْتِقَادِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ تُهْمَةٌ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ عَلَى فِسْقِ بَيِّنَةِ قَتْلِ الْعَمْدِ وَبَيِّنَةِ الْإِقْرَارِ بِالْخَطَأِ ; لِأَنَّ الدِّيَةَ لَا تَلْزَمُهُمْ، فَلَا تُهْمَةَ. فَرْعٌ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَا زَيْدًا، فَشَهِدَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا عَلَى الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتْلَاهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يُسْأَلُ الْوَلِيُّ، فَإِنْ صَدَّقَ الْأَوَّلَيْنِ دُونَ الْآخَرَيْنِ، ثَبَتَ الْقَتْلُ عَلَى الْآخَرَيْنِ، وَإِنْ صَدَّقَ الْآخَرَيْنِ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ، أَوْ صَدَّقَ الْجَمِيعَ، أَوْ كَذَّبَ الْجَمِيعَ، بَطَلَتْ شَهَادَةُ الْجَمِيعِ ; لِأَنَّ الْآخَرَيْنِ يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ضَرَرًا، وَلِأَنَّهُمَا عَدُوَّانِ لِلْأَوَّلَيْنِ، وَاعْتُرِضَ عَلَى تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُسْمَعُ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ دَعْوَى عَلَى مُعَيَّنٍ، وَأُجِيبَ بِأَوْجُهٍ، أَحَدُهَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى إِنَّمَا يُشْتَرَطُ إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ قَبْلَ الدَّعْوَى لِمَنْ لَا يُعَبِّرُ، كَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، وَالشَّهَادَةُ هُنَا لِلْقَتِيلِ، وَلِهَذَا تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَوَصَايَاهُ، وَهَذَا ذَهَابٌ إِلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ فِي الدِّمَاءِ، وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. الثَّانِي: عَنِ الْمَاسَرْجِسِيِّ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي طَاهِرٍ: أَنَّ صُورَتَهَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْوَلِيُّ الْقَاتِلَ، وَتُسْمَعُ الشَّهَادَةُ قَبْلَ الدَّعْوَى وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّ شَهَادَةَ الْحِسْبَةِ تُقْبَلُ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِهَا الْمُسْتَحِقُّ. الثَّالِثُ: قَالَهُ الْجُمْهُورُ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إِلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ الدَّعْوَى، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَدَّعِيَ الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى رَجُلَيْنِ، وَيَشْهَدُ لَهُ شَاهِدَانِ، فَيُبَادِرُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا، وَيَشْهَدَانِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِأَنَّهُمَا الْقَاتِلَانِ، وَذَلِكَ يُورِثُ رِيبَةً لِلْحَاكِمِ، فَيُرَاجِعَ الْوَلِيَّ، وَيَسْأَلُهُ احْتِيَاطًا، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي وَكِيلَ الْوَلِيِّ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ عَيَّنَ الْآخَرَيْنِ وَأَمَرَهُ بِالدَّعْوَى عَلَيْهِمَا، فَفَعَلَ، وَأَقَامَ بِهَا شَاهِدَيْنِ، فَشَهِدَ

الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ الْوَكِيلُ عَلَى تَصْدِيقِ الْأَوَّلَيْنِ، ثَبَتَ الْقَتْلُ عَلَى الْآخَرَيْنِ، وَإِنْ صَدَّقَهُمْ جَمِيعًا، أَوْ صَدَّقَ الْآخَرَيْنِ، انْعَزَلَ عَنِ الْوَكَالَةِ، وَلَا تَبْطُلُ دَعْوَى الْمُوَكِّلِ عَلَى الْآخَرَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْوَكِيلُ أَحَدًا، بَلْ قَالَ: ثَأْرِي عِنْدَ اثْنَيْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ، فَادْعُ عَلَيْهِمَا وَاطْلُبْ ثَأْرِي مِنْهُمَا، فَفِي صِحَّةِ التَّوْكِيلِ هَكَذَا وَجْهَانِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَعَلَى تَصْحِيحِهِ عَمَلُ الْحُكَّامِ، وَعَلَى الصَّحِيحِ يَنْطَبِقُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَأَبُو يَعْقُوبَ الْأَبِيوَرْدِيُّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ أَصْلِهَا فِيمَنْ وَكَّلَ اثْنَيْنِ فِي الدَّمِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى رَجُلَيْنِ، وَالْآخِرُ عَلَى آخَرَيْنِ، وَشَهِدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى الْآخَرَيْنِ، وَلَوْ عَيَّنَ الْوَكِيلُ شَخْصَيْنِ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْهُمْ كَمَا صَوَّرْنَا، وَأَقَامَ عَلَيْهِمَا شَاهِدَيْنِ، فَشَهِدَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، وَاسْتَمَرَّ الْوَكِيلُ عَلَى تَصْدِيقِ الْأَوَّلَيْنِ، ثَبَتَ الْقَتْلُ عَلَى الْآخَرَيْنِ، وَإِنْ صَدَّقَ الْآخَرَيْنِ، جَازَ، أَوْ صَدَّقَ الْجَمِيعَ، انْعَزَلَ عَنِ الْوَكَالَةِ، ثُمَّ إِنْ صَدَّقَ الْمُوَكِّلُ الْأَوَّلَيْنِ، ثَبَتَ الْقَتْلُ عَلَى الْآخَرَيْنِ، وَإِنْ صَدَّقَ الْآخَرَيْنِ، جَازَ، وَلَهُ الدَّعْوَى عَلَى الْأَوَّلَيْنِ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ، وَإِذَا قُلْنَا: تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ قَبْلَ الدَّعْوَى، فَابْتَدَرَ أَرْبَعَةٌ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَا فُلَانًا، وَشَهِدَ الْآخَرَانِ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُمَا الْقَاتِلَانِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ الشَّهَادَتَانِ لِتَضَادِّهِمَا، وَالثَّانِي: يُسْأَلُ الْوَلِيُّ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ صَدَّقَ اثْنَيْنِ، تَأَيَّدَتْ شَهَادَتُهُمَا بِالتَّصْدِيقِ، فَيَقْضِي بِهَا، وَقِيلَ: يَعْمَلُ بِشَهَادَةِ الْأَوَّلَيْنِ، وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا عَدُوَّانِ وَدَافِعَانِ. فَرْعٌ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ بِالْقَتْلِ، فَشَهِدَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ الْقَتْلِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ أَجَانِبَ فَالنَّظَرُ فِي كَوْنِ الشَّهَادَةِ وَاقِعَةً بَعْدَ الدَّعْوَى أَوْ

قَبْلَهَا، وَفِي تَصْدِيقِ الْوَلِيِّ الصِّنْفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي وَكِيلَ الْوَلِيِّ، وَلَمْ يَكُنِ الْوَلِيُّ عَيَّنَ أَحَدًا، ثُمَّ إِنَّهُ صَدَّقَ الْآخَرَيْنِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ بِالدَّفْعِ، وَعَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُجْعَلَا مُتَّهَمَيْنِ. فَرْعٌ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ عَلَى التَّصْوِيرِ الْمُتَقَدِّمِ، فَشَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُمَا الْقَاتِلَانِ، عَادَ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ ادَّعَى بِنَفْسِهِ وَكَذَّبَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَوْ صَدَّقَهُمَا، أَوْ صَدَّقَ الْجَمِيعَ، بَطَلَتِ الشَّهَادَاتُ لِلتَّنَاقُضِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي الْوَكِيلَ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمُوَكَّلُ أَحَدًا، فَلِلْمُوَكَّلِ الدَّعْوَى عَلَى الْأَوَّلَيْنِ، وَالْأَجْنَبِيَّانِ لَيْسَا دَافِعَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا مُبَادِرَانِ إِلَى الشَّهَادَةِ قَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ، فَإِنِ ادَّعَى عَلَيْهِمَا، وَشَهِدَ الْأَجْنَبِيَّانِ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْمُعَادَةِ مِنَ الْمُبَادِرِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنِ ادَّعَى، وَأَعَادَ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، قُبِلَتْ قَطْعًا، وَإِنِ ادَّعَى، وَشَهِدَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَوَجْهَانِ. فَرْعٌ ادَّعَى عَلَى اثْنَيْنِ أَلْفًا، وَشَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ، ثُمَّ شَهِدَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا، أَوْ أَجْنَبِيَّانِ بِأَنَّ لِلْمُدَّعِي عَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَلْفًا، وَصَدَّقَ الْمُدَّعِي الْآخَرَيْنِ أَيْضًا، لَمْ تَبْطُلْ دَعْوَاهُ الْأُولَى وَلَا شَهَادَةُ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى الْآخَرَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْآخَرَيْنِ أَيْضًا، لِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِ الْأَلْفَيْنِ، وَشَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ شَهَادَةٌ قَبْلَ الدَّعْوَى وَالِاسْتِشْهَادِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: فَلَوِ ادَّعَى، وَشَهِدَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، قُبِلَتْ، وَإِنْ جَرَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَوَجْهَانِ.

فصل

فَصْلٌ أَقَرَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ عَنِ الْقِصَاصِ، وَعَيَنَّهُ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَإِنْ لَمْ يُعَيَّنِ الْعَافِي، فَلِلْوَرَثَةِ كُلِّهِمُ الدِّيَةُ، وَإِنْ عَيَّنَهُ، وَأَنْكَرَ، فَكَذَلِكَ، وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي كَوْنِهِ لَمْ يُعْفَ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْعَفْوِ، فَلِغَيْرِ الْعَافِي حَقُّهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَالْعَافِي وَإِنْ عَفَا عَلَى الدِّيَةِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَفْوَ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِالْعَفْوِ الْمُطْلَقِ، وَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ، فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ لَمْ يُعَيَّنِ الْعَافِي، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا وَعَيَّنَ الْعَافِي، وَشَهِدَ بِأَنَّهُ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا، فَلِلْجَانِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ، أَمَّا الْقِصَاصُ، فَبِالْإِقْرَارِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الشَّهَادَةُ، وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَلِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْمَالِ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ. وَإِذَا حَلَفَ الْجَانِي، فَيَحْلِفُ: لَقَدْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ، وَقِيلَ: يَحْلِفُ: لَقَدْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالنَّصُّ مُؤَوَّلٌ ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ بِالْإِقْرَارِ، وَإِذَا ادَّعَى الْجَانِي عَلَى الْوَرَثَةِ أَوْ بَعْضِهِمُ الْعَفْوَ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى الدِّيَةِ، فَأَنْكَرُوهُ، فَهُمُ الْمُصَدَّقُونَ بِالْيَمِينِ، فَإِنْ نَكَلُوا، حَلَفَ، وَثَبَتَ الْعَفْوُ بِيَمِينِ الرَّدِّ، وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْعَفْوِ، لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا رَجُلَانِ، وَلَوْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ، فَادَّعَى عَلَى بَعْضِهِمْ عَفْوَهُ عَنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدِّيَةِ فَلَهُ إِثْبَاتُهُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. فَصْلٌ إِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الْقَتْلِ فِي زَمَانٍ، بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَهُ بُكْرَةً، وَقَالَ الْآخَرُ: عَشِيَّةً، أَوْ مَكَانٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: فِي الْبَيْتِ، وَالْآخَرُ: فِي

السُّوقِ، أَوْ آلَةٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَهُ بِسَيْفٍ، وَالْآخَرُ: بِرُمْحٍ أَوْ عَصًا، أَوْ هَيْئَةٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: حَزَّهُ، وَالْآخَرُ: قَدَّهُ، لَمْ يَثْبُتِ الْقَتْلُ، وَهَكَذَا حُكْمُ مَا يَشْهَدَانِ بِهِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِيهِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُنْشَأَةِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً يَوْمَ السَّبْتِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ يَوْمَ الْأَحَدِ، ثَبَتَ الْقَتْلُ ; لِأَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِي الْقَتْلِ وَصِفَتِهِ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أُقِرُّ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِمَكَّةَ يَوْمَ كَذَا، وَقَالَ الْآخَرُ: أُقِرُّ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِمِصْرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، سَقَطَ قَوْلُهُمَا، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ، لَمْ يَثْبُتِ الْقَتْلُ، وَلَكِنَّهُ لَوْثٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى قَتْلَ عَمْدٍ، وَأَقْسَمَ الْوَلِيُّ، تَرَتَّبَ عَلَى الْقَسَامَةِ حُكْمُهَا، وَإِنْ كَانَ قَتْلَ خَطَأٍ، حَلَفَ مَعَ أَيِّ الشَّاهِدَيْنِ شَاءَ، وَتَعَدُّدُ الْيَمِينِ وَاتِّحَادُهَا عَلَى مَا سَبَقَ، فَإِنْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِ الْقَتْلِ، فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِ الْإِقْرَارِ، فَفِي مَالِ الْجَانِي، وَإِنِ ادَّعَى قَتْلَ عَمْدٍ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِقَتْلِ عَمْدٍ، وَالْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ أَوْ أَحَدُهُمَا بِقَتْلِ عَمْدٍ، وَالْآخِرُ بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ، ثَبَتَ أَصْلُ الْقَتْلِ، لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، حَتَّى لَا يُقْبَلَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْكَارُهُ، وَيُسْأَلَ عَنْ صِفَةِ الْقَتْلِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى إِنْكَارِ أَصْلِهِ، قَالَ لَهُ الْحَاكِمُ: إِنْ لَمْ تُبَيِّنْ صِفَتَهُ، جَعَلْتُكَ نَاكِلًا، وَرَدَدْتُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي أَنَّكَ قَتَلَتْ عَمْدًا، وَحَكَمْتُ عَلَيْكَ بِالْقِصَاصِ، فَإِنْ بَيَّنَ صِفَتَهُ، فَقَالَ: قَتَلْتُهُ عَمْدًا، أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهُ، وَإِنْ قَالَ: قَتَلْتُهُ خَطَأً، وَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، فَأَطْلَقَ مُطْلِقُونَ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ الْعَمْدِيَّةِ، فَيَحْلِفُ وَتَجِبُ دِيَةُ خَطَأٍ فِي مَالِهِ ; لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ، وَوَجَبَ الْقِصَاصُ، وَاسْتَدْرَكَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، فَقَالَا: يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ الْعَمْدِيَّةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَوْثٌ، فَإِنْ كَانَ، أَقْسَمَ الْمُدَّعِي وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَوْثَ الْعَمْدِيَّةِ، وَإِلَّا فَأَصْلُ اللَّوْثِ حَاصِلٌ بِأَصْلِ الْقَتْلِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لَوْثٌ بِأَصْلِ الْقَتْلِ دُونَ كَوْنِهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا، هَلْ تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ؟ وَهَذَا نَازِعٌ إِلَيْهِ.

فَرْعٌ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً، وَالدَّعْوَى بِقَتْلِ عَمْدٍ، فَفِي ثُبُوتِ أَصْلِ الْقَتْلِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَثْبُتُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَثْبُتُ، فَحُكْمُهُ كَمَا سَبَقَ فِي صُوَرِ التَّكَاذُبِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَثْبُتُ، سُئِلَ الْجَانِي، فَإِنْ أَقَرَّ بِالْعَمْدِ، ثَبَتَ، أَوْ بِخَطَأٍ وَصَدَّقَهُ الْوَلِيُّ، ثَبَتَ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُقْسِمَ ; لِأَنَّ مَعَهُ شَاهِدًا، وَذَلِكَ لَوْثٌ هُنَا قَطْعًا، فَإِنْ أَقْسَمَ الْوَلِيُّ، حُكِمَ بِمُقْتَضَى الْقَسَامَةِ، وَإِلَّا فَيَحْلِفُ الْجَانِي، فَإِنْ حَلَفَ، فَالدِّيَةُ مُخَفَّفَةٌ فِي مَالِهِ، وَإِنْ نَكَلَ، فَفِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي قَوْلَانِ سَبَقَا، فَإِنْ رُدَّتْ، وَحَلَفَ، ثَبَتَ مُوجَبُ الْعَمْدِ، فَإِنْ لَمْ تَرِدْ، أَوْ رُدَّتْ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْحَلِفِ، تَثْبُتُ دِيَةُ الْخَطَأِ فِي مَالِهِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُدَّعَى قَتْلَ عَمْدٍ، فَشَهَادَةُ الْخَطَأِ لَغْوٌ، وَيَحْلِفُ الْوَلِيُّ مَعَ شَاهِدِ الْعَمْدِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَثْبُتُ مُقْتَضَى الْقَسَامَةِ، وَإِنْ كَانَ قَتْلَ خَطَأٍ، فَشَهَادَةُ الْعَمْدِ لَغْوٌ، وَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِ الْخَطَأِ، وَتَجِبُ دِيَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ، قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ عَمْدًا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ خَطَأً، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ مَعَ شَاهِدِ الْخَطَأِ، فَالدِّيَةُ عَلَى الْجَانِي إِلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ الْعَاقِلَةُ. فَرْعٌ شَهِدَا أَنَّهُ ضُرِبَ مَلْفُوفًا فِي ثَوْبٍ، فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِحَيَاتِهِ وَقْتَ الضَّرْبِ، لَمْ يَثْبُتِ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِمَا، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْوَلِيُّ وَالْجَانِي فِي حَيَاتِهِ حِينَئِذٍ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ سَبَقَا، أَظْهَرُهُمَا: الْوَلِيُّ، وَفِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ ثَلَاثُ طُرُقٍ، أَصَحُّهُمَا: إِطْلَاقُهُمَا، وَالثَّانِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: يُنْظَرُ إِلَى الدَّمِ السَّائِلِ، فَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: هُوَ دَمٌ حَيٌّ، صُدِّقَ الْوَلِيُّ، وَإِنْ قَالُوا: دَمٌ مَيِّتٌ، صُدِّقَ الْجَانِي، وَإِنِ اشْتَبَهَ، فَفِيهِ

الْقَوْلَانِ، وَالثَّالِثُ قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الطِّيبِيُّ، بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَلْفُوفًا فِي ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ، صُدِّقَ الْوَلِيُّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْكَفَنِ، صُدِّقَ الْجَانِي، وَإِنِ اشْتَبَهَ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ صَدَّقْنَا الْجَانِيَ، فَحَلَفَ، بَرِئَ، وَإِنْ صَدَّقْنَا الْوَلِيَّ، فَلَهُ الدِّيَةُ، وَفِي الْقِصَاصِ وَجْهَانِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا، لِلشُّبْهَةِ وَقَالَ الْمَاسَرْجِسِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ وَغَيْرُهُمَا: يَجِبُ الْقِصَاصُ ; لِأَنَّهُ مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِ. فَرْعٌ شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ قَتَلَ عَمْرًا، حَصَلَ اللَّوْثُ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا، فَيُقْسِمُ الْوَلِيَّانِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الإمامة وقتال البغاة

كِتَابُ الْإِمَامَةِ وَقِتَالُ الْبُغَاةِ فِيهِ بَابَانِ: الْأَوَّلُ فِي الْإِمَامَةِ، وَفِيهِ فُصُولٌ: الْأَوَّلَ: فِي شُرُوطِ الْإِمَامَةِ وَهِيَ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا مُسْلِمًا عَدْلًا، حُرًّا ذَكَرًا عَالِمًا، مُجْتَهِدًا شُجَاعًا، ذَا رَأْيٍ وَكِفَايَةٍ، سَمِيعًا بَعِيدًا، نَاطِقًا قُرَشِيًّا، فِي اشْتِرَاطِ سَلَامَةِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْأُذُنِ خِلَافٌ، جَزَمَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ بِاشْتِرَاطِ سَلَامَتِهِ مِنْ نَقْصٍ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَرَكَةِ وَسُرْعَةَ النُّهُوضِ، وَهَذَا أَصَحُّ. قُلْتُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عَشَا الْعَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ ; لِأَنَّهُ مَرَضٌ فِي زَمَنِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَيُرْجَى زَوَالُهُ، وَضَعْفُ الْبَصَرِ إِنْ كَانَ يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ الْأَشْخَاصِ، مَنَعَ انْعِقَادَ الْإِمَامَةِ وَاسْتَدَامَتَهَا، وَإِلَّا فَلَا، وَفَقْدُ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَقَطْعُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، لَا يُؤَثِّرُ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قُرَشِيٌّ مُسْتَجْمِعٌ الشُّرُوطَ، فَكِنَانِيٌّ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، فَرَجُلٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُسْتَجْمِعٌ الشَّرَائِطَ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يُوَلَّى رَجُلٌ مِنَ الْعَجَمِ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّهُ يُوَلَّى جُرْهُمِيٌّ، وَجُرْهُمٌ أَصْلُ الْعَرَبِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ جُرْهُمِيٌّ، فَرَجُلٌ مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ هَاشِمِيًّا، وَلَا كَوْنُهُ مَعْصُومًا، وَفِي جَوَازِ تَوْلِيَةِ الْمَفْضُولِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ، فَإِنْ لَمْ تَتَّفِقِ الْكَلِمَةُ إِلَّا عَلَيْهِ، جَازَتْ تَوْلِيَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، لِتَنْدَفِعَ الْفِتْنَةُ، وَلَوْ نَشَأَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَفْضُولِ، لَمْ يُعْدَلْ إِلَى النَّاشِئِ بِلَا خِلَافٍ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي وُجُوبِ الْإِمَامَةِ وَبَيَانِ طُرُقِهَا، لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ إِمَامٍ يُقِيمُ الدِّينَ، وَيَنْصُرُ السُّنَّةَ، وَيَنْتَصِفُ لِلْمَظْلُومِينَ، وَيَسْتَوْفِي الْحُقُوقَ وَيَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا.

قُلْتُ: تَوَلِّيِ الْإِمَامَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ إِلَّا وَاحِدًا، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ طَلَبُهَا إِنْ لَمْ يَبْتَدِئُوهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ بِثَلَاثَةِ طُرُقٍ، أَحَدُهَا: الْبَيْعَةُ، كَمَا بَايَعَتِ الصَّحَابَةُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ بِبَيْعَتِهِمْ سِتَّةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَرْبَعُونَ، وَالثَّانِي: أَرْبَعَةٌ، وَالثَّالِثُ: ثَلَاثَةٌ، وَالرَّابِعُ: اثْنَانِ، وَالْخَامِسُ: وَاحِدٌ، فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْوَاحِدِ مُجْتَهِدًا. وَعَلَى الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ مُجْتَهِدٌ لِيُنْظَرَ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُجْتَهِدِينَ، وَالسَّادِسُ وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَسَائِرِ وُجُوهِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَيَسَّرُ حُضُورُهُمْ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْأَصْقَاعِ، بَلْ إِذَا وَصَلَهُمْ خَبَرُ أَهْلِ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ، لَزِمَهُمُ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُتَابَعَةُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَعَيَّنُ لِلِاعْتِبَارِ عَدَدٌ، بَلْ لَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ، حَتَّى لَوْ تَعَلَّقَ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ بِوَاحِدٍ مُطَاعٍ، كَفَتْ بَيْعَتُهُ ; لِانْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يُبَايِعُونَ بِصِفَةِ الشُّهُودِ، وَذُكِرَ فِي «الْبَيَانِ» فِي اشْتِرَاطِ حُضُورِ شَاهِدَيْنِ الْبَيْعَةَ، وَجْهَيْنِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يُشْتَرَطُ إِنْ كَانَ الْعَاقِدُونَ جَمْعًا، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، اشْتُرِطَ الْإِشْهَادُ، وَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ الْإِرْشَادِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ حُضُورُ الشُّهُودِ لِئَلَّا يُدَّعَى عَقْدٌ سَابِقٌ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَيْسَتْ دُونَ النِّكَاحِ، لَكِنَّ اخْتِيَارَ الْإِمَامِ انْعِقَادُهَا بِوَاحِدٍ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَاقِدِينَ: الْعَدَالَةُ وَالْعِلْمُ وَالرَّأْيُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُشْتَرَطُ ; لِانْعِقَادِ الْإِمَامَةِ أَنْ يُجِيبَ الْمُبَايِعُ، فَإِنِ امْتَنَعَ، لَمْ تَنْعَقِدْ إِمَامَتُهُ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا.

قُلْتُ: إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ مَنْ يَصْلُحُ إِلَّا وَاحِدٌ، فَيُجْبَرُ بِلَا خَوْفٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: اسْتِخْلَافُ الْإِمَامِ مِنْ قَبْلُ، وَعَهْدُهُ إِلَيْهِ، كَمَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ، وَالِاسْتِخْلَافُ أَنْ يَعْقِدَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ، فَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِالْإِمَامَةِ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ، وَلَوْ جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا بَعْدَهُ، كَانَ كَالِاسْتِخْلَافِ، إِلَّا أَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَيَتَشَاوَرُونَ، وَيَتَّفِقُونَ عَلَى أَحَدِهِمْ، كَمَا جَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، فَاتَّفَقُوا عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ مِنْ وَقْتِ الْعَهْدِ إِلَيْهِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ فَاسِقًا عِنْدَ الْعَقْدِ، بَالِغًا عَدْلًا عِنْدَ مَوْتِ الْعَاهِدِ، لَمْ يَكُنْ إِمَامًا، إِلَّا أَنَّ يُبَايِعَهُ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي هَذَا. قُلْتُ: لَا تَوَقُّفَ فِيهِ، فَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَصِيِّ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ إِذَا عُهِدَ إِلَى غَائِبٍ مَجْهُولِ الْحَيَاةِ، لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْحَيَاةِ، صَحَّ، فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَخْلَفُ وَهُوَ بَعْدُ غَائِبٌ، اسْتَقْدَمَهُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ بَعُدَتْ غَيْبَتُهُ وَتَضَرَّرَ الْمُسْلِمُونَ بِتَأْخِيرِ النَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ، اخْتَارَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ نَائِبًا لَهُ يُبَايِعُونَهُ بِالنِّيَابَةِ دُونَ الْخِلَافَةِ، فَإِذَا قَدِمَ انْعَزَلَ النَّائِبُ، وَأَنَّهُ إِذَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ نَفْسَهُ، كَانَ كَمَا لَوْ مَاتَ، فَتَنْتَقِلُ الْخِلَافَةُ إِلَى وَلِيِّ الْعَهْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: الْخِلَافَةُ بَعْدَ مَوْتِي لِفُلَانٍ، أَوْ بَعْدَ خِلَافَتِي.

قُلْتُ: تَوَقَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ «الْإِرْشَادِ» فِي انْعِزَالِ الْإِمَامِ بِعَزْلِهِ نَفْسَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَهْدُ إِلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ آخَرَانِ، أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، كَالتَّزْكِيَةِ وَالْحُكْمِ لَهُمَا، وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِلْوَالِدِ دُونَ الْوَلَدِ، لِشِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ وَلِيَّ الْعَهْدِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ مَا إِلَيْهِ مِنَ الْعَهْدِ إِلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ، وَأَنَّهُ لَوْ عَهِدَ إِلَى جَمَاعَةٍ مُرَتَّبِينَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: بَعْدَ مَوْتِي فُلَانٌ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ فُلَانٌ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ فُلَانٌ، جَازَ، وَانْتَقَلَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِمْ عَلَى مَا رَتَّبَ، كَمَا رَتَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَرَاءَ جَيْشِ مُؤْتَةَ، وَأَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ، فَالْخِلَافَةُ لِلثَّانِي، وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فِي حَيَاتِهِ، فَهِيَ لِلثَّالِثِ، وَأَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْخَلِيفَةُ وَبَقِيَ الثَّلَاثَةُ أَحْيَاءً، فَانْتَصَبَ الْأَوَّلُ لِلْخِلَافَةِ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إِلَى غَيْرِ الْآخَرِينَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُهُ ; لِأَنَّهَا لَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهِ صَارَ أَمْلَكَ بِهَا بِخِلَافِ مَا إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَعْهَدْ إِلَى أَحَدٍ، فَلَيْسَ لِأَهْلِ الْبَيْعَةِ أَنْ يُبَايِعُوا غَيْرَ الثَّانِي، وَيُقَدَّمَ عَهْدُ الْأَوَّلِ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَهْلِ الشُّورَى أَنْ يُعَيِّنُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ خَافُوا انْتِشَارَ الْأَمْرِ بَعْدَهُ اسْتَأْذَنُوهُ، فَإِنْ أَذِنَ، فَعَلُوهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَنُصَّ عَلَى مَنْ يُخْتَارُ خَلِيفَةً بَعْدَهُ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ إِلَّا اخْتِيَارُ مَنْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يُخْتَارُ، كَمَا لَا يَصِحُّ إِلَّا تَقْلِيدُ مَنْ عَهِدَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِذَا عَهِدَ إِلَى غَيْرِهِ بِالْخِلَافَةِ، فَالْعَهْدُ مَوْقُوفٌ عَلَى قَبُولِ الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ قَبُولِهِ، فَقِيلَ: بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ وَقْتَهُ مَا بَيْنَ عَهْدِ الْخَلِيفَةِ وَمَوْتِهِ، قَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَعْهُودُ إِلَيْهِ مِنَ الْقَبُولِ بُويِعَ غَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُ لَا عَهْدَ، وَكَذَا إِذَا جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى، فَتَرَكَ الْقَوْمُ الِاخْتِيَارَ لَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْأَمْرَ إِلَيْهِمْ.

فصل

قُلْتُ: وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنْ هَذَا، أَنَّهُ لَوْ جَمَعَ شُرُوطَ الْإِمَامَةِ اثْنَانِ، اسْتُحِبَّ لِأَهْلِ الْعَقْدِ أَنْ يَعْقِدُوهَا لِأَسَنِّهِمَا، فَإِنْ عَقَدُوهَا لِلْآخَرِ، جَازَ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ، وَالْآخِرُ أَشْجَعَ، رُوعِيَ فِي الِاخْتِيَارِ مَا يُوجِبُهُ حُكْمُ الْوَقْتِ، فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى زِيَادَةِ الشَّجَاعَةِ لِظُهُورِ الْبُغَاةِ وَأَهْلِ الْفَسَادِ، كَانَ الْأَشْجَعُ أَحَقَّ، وَإِنْ دَعَتْ إِلَى زِيَادَةِ الْعِلْمِ لِسُكُونِ الْفِتَنِ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ، كَانَ الْأَعْلَمُ أَحَقَّ، وَأَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَهَا اثْنَانِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَقْدَحُ ذَلِكَ فِيهِمَا فَيَعْدِلُ إِلَى غَيْرِهِمَا، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ ; لِأَنَّ طَلَبَ الْخِلَافَةِ لَيْسَ مَكْرُوهًا، ثُمَّ هَلْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّسَاوِي، أَمْ يُقَدِّمُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ مَنْ شَاءُوا بِلَا قُرْعَةٍ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ إِذَا أَرَادَ الْعَهْدَ، لَزِمَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَصْلَحِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ وَاحِدٌ، جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ بَيْعَتِهِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ غَيْرِهِ، وَلَا مُشَاوَرَةِ أَحَدٍ، وَأَنَّ الْمَعْهُودَ إِلَيْهِ إِذَا اسْتَعْفَى، لَمْ يُبْطَلْ عَهْدُهُ حَتَّى يُعْفَى، فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ، جَازَ اسْتِعْفَاؤُهُ، وَخَرَجَ مِنَ الْعَهْدِ بِاجْتِمَاعِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، لَمْ يَجُزْ إِعْفَاؤُهُ وَلَا اسْتِعْفَاؤُهُ، وَيَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّالِثُ، فَهُوَ الْقَهْرُ وَالِاسْتِيلَاءُ، فَإِذَا مَاتَ الْإِمَامُ، فَتَصَدَّى لِلْإِمَامَةِ مَنْ جَمَعَ شَرَائِطَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلَافٍ وَلَا بَيْعَةٍ، وَقَهَرَ النَّاسَ بِشَوْكَتِهِ وَجُنُودِهِ، انْعَقَدَتْ خِلَافَتُهُ لِيَنْتَظِمَ شَمْلُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَامِعًا لِلشَّرَائِطِ بِأَنْ كَانَ فَاسِقًا، أَوْ جَاهِلًا، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: انْعِقَادُهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِفِعْلِهِ. فَرْعٌ لَوْ تَفَرَّدَ شَخْصٌ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ فِي وَقْتِهِ، لَمْ يَصِرْ إِمَامًا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الطُّرُقِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ الْإِمَامِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: تَجِبُ طَاعَةُ الْإِمَامِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مَا لَمْ يُخَالِفْ حُكْمَ الشَّرْعِ، سَوَاءٌ كَانَ عَادِلًا أَوْ جَائِرًا. الثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ نَصْبُ إِمَامَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ تَبَاعَدَ إِقْلِيمَاهُمَا، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: يَجُوزُ نَصْبُ إِمَامَيْنِ فِي إِقْلِيمَيْنِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنْ عُقِدَتِ الْبَيْعَةُ لِرَجُلَيْنِ مَعًا، فَالْبَيْعَتَانِ بَاطِلَتَانِ، وَإِنْ تَرَتَّبَتَا فَالثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ، ثُمَّ إِنْ جَهِلَ الثَّانِي وَمُبَايِعُوهُ بَيْعَةَ الْأَوَّلِ، لَمْ يُعَزَّرُوا، وَإِلَّا فَيُعَزَّرُونَ، وَلَوْ عُرِفَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَتَعَيَّنْ، أَوْ شَكَكْنَا فِي مَعِيَّتِهِمَا وَتَعَاقُبِهِمَا، فَلْيَكُنْ كَمَا سَبَقَ فِي الْجُمُعَتَيْنِ، وَلَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا وَتَعَيَّنَ، وَاشْتَبَهَ، وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَظْهَرَ، فَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ الِانْتِظَارُ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ تَبْطُلُ الْبَيْعَتَانِ، وَتُسْتَأْنَفُ بَيْعَةٌ لِأَحَدِهِمَا، وَفِي جَوَازِ الْعُدُولِ إِلَى غَيْرِهِمَا خِلَافٌ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ الْأَسْبَقُ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَلَمْ يَحْلِفِ الْآخَرُ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ قَطَعَا التَّنَازُعَ، وَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ لِلْآخَرِ، لَمْ تَثْبُتِ الْإِمَامَةُ لَهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ بِسَبْقِهِ، قَالَ: وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِسَبْقِ صَاحِبِهُ، خَرَجَ مِنْهَا الْمُقِرُّ، وَلَا تَثْبُتُ لِلْآخَرِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُ الْمُقِرُّ مَعَ آخَرَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إِنْ كَانَ يَدَّعِي اشْتِبَاهَ الْأَمْرِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي التَّقْدِيمَ، لَمْ تُسْمَعْ لِلتَّكَاذُبِ فِي قَوْلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا ثَبَتَتِ الْإِمَامَةُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَجَاءَ آخَرُ، فَقَهَرَهُ، انْعَزَلَ الْأَوَّلُ، وَصَارَ الْقَاهِرُ الثَّانِي إِمَامًا. الرَّابِعَةُ: لَا يَجُوزُ خَلْعُ الْإِمَامِ بِلَا سَبَبٍ، فَلَوْ خَلَعُوهُ، لَمْ يَنْخَلِعْ، وَلَوْ خَلَعَ الْإِمَامُ نَفْسَهُ، نُظِرَ، إِنْ خَلَعَ لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِمَا، انْعَزَلَ، ثُمَّ إِنْ وَلَّى غَيْرَهُ قَبْلَ عَزْلِ نَفْسِهِ، انْعَقَدَتْ وِلَايَتُهُ، وَإِلَّا فَيُبَايِعُ النَّاسُ غَيْرَهُ، وَإِنْ عَزَلَ نَفْسَهُ بِلَا عُذْرٍ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: لَا يَنْعَزِلُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» وَغَيْرُهُ، وَالثَّانِي: يَنْعَزِلُ ; لِأَنَّ إِلْزَامَهُ الِاسْتِمْرَارَ قَدْ يَضُرُّ بِهِ فِي آخِرَتِهِ وَدُنْيَاهُ، وَالثَّالِثُ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ لَمْ يَظْهَرْ عُذْرٌ، فَعَزَلَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُوَلِّ غَيْرَهُ، أَوْ وَلَّى مَنْ هُوَ دُونَهُ، لَمْ يَنْعَزِلْ، وَإِنْ وَلَّى مِثْلَهُ، أَوْ أَفْضَلَ، فَفِي الِانْعِزَالِ وَجْهَانِ، وَهَلْ لِلْإِمَامِ عَزْلُ وَلِيِّ الْعَهْدِ؟ قَالَ الْمُتَوَلِّي: نَعَمْ، وَالْمَاوَرْدِيُّ: لَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ نَائِبًا لَهُ بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ. قُلْتُ: قَوْلُ الْمَاوَرْدِيُّ أَصَحُّ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَلَوْ عَزَلَهُ الْإِمَامُ، وَعَهِدَ إِلَى ثَانٍ، ثُمَّ عَزَلَ الْمَعْهُودَ إِلَيْهِ أَوَّلًا نَفْسَهُ، فَعَهْدُ الثَّانِي بَاطِلٌ، وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِئْنَافِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: سَبَقَ فِي بَابِ الْأَوْصِيَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِالْإِغْمَاءِ ; لِأَنَّهُ مُتَوَقَّعُ الزَّوَالِ، وَيَنْعَزِلُ بِالْمَرَضِ الَّذِي يُنْسِيهِ الْعُلُومَ، وَبِالْجُنُونِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَلَوْ كَانَ يُجَنُّ وَيَفِيقُ، وَزَمَنُ الْإِفَاقَةِ أَكْثَرُ، وَيُمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْقِيَامِ بِالْأُمُورِ، لَمْ يَنْعَزِلْ، وَيَنْعَزِلُ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِثِقَلِ السَّمْعِ، وَتَمْتَمَةِ اللِّسَانِ، وَفِي مَنْعِهِمَا ابْتِدَاءَ الْوِلَايَةِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَطْعَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ، لَا يُؤَثِّرُ فِي الدَّوَامِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ مَسَائِلُ، إِحْدَاهَا: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَوْ أُسِرَ الْإِمَامُ، لَزِمَ الْأُمَّةَ اسْتِنْقَاذُهُ، وَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ مَا دَامَ مَرْجُوَّ الْخَلَاصِ بِقِتَالٍ أَوْ فِدَاءٍ، فَإِنْ أُيِسَ مِنْهُ، نُظِرَ، إِنْ أَسَرَهُ كُفَّارٌ، خَرَجَ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَعَقَدُوهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ عُهِدَ بِالْإِمَامَةِ وَهُوَ أَسِيرٌ، نُظِرَ إِنْ كَانَ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْ خَلَاصِهِ، لَمْ يَصِحَّ عَهْدُهُ ; لِأَنَّهُ عَهْدٌ بَعْدَ انْعِزَالِهِ، وَإِنْ عُهِدَ قَبْلَ الْيَأْسِ، صَحَّ عَهْدُهُ لِبَقَاءِ وِلَايَتِهِ، وَتَسْتَقِرُّ إِمَامَةُ الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ بِالْيَأْسِ مِنْ خَلَاصِ الْعَاهِدِ لِانْعِزَالِهِ، وَلَوْ خَلَصَ مِنْ أَسْرِهِ، نُظِرَ إِنْ خَلَصَ بَعْدَ الْيَأْسِ، لَمْ تُعَدْ إِمَامَتُهُ، بَلْ تَسْتَقِرُّ لِوَلِيِّ عَهْدِهِ، وَإِنْ خَلَصَ قَبْلَ الْيَأْسِ، فَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَأَمَّا إِذَا أَسَرَهُ بُغَاةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلَاصِ، فَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ وَكَانَتِ الْبُغَاةُ لَا إِمَامَ لَهُمْ، فَالْأَسِيرُ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَسْتَنِيبُوا عَنْهُ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ هُوَ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ، فَإِنْ قَدَرَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالِاسْتِنَابَةِ، فَإِنْ خَلَعَ الْأَسِيرُ نَفْسَهُ، أَوْ مَاتَ، لَمْ يَصِرِ الْمُسْتَنَابُ إِمَامًا، وَإِنْ كَانَ لِلْبُغَاةِ الَّذِينَ أَسَرُوهُ إِمَامٌ نَصَّبُوهُ، خَرَجَ الْأَسِيرُ مِنَ الْإِمَامَةِ إِنْ أُيِسَ مِنْ خَلَاصِهِ، وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فِي دَارِ الْعَدْلِ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِمَنْ يَصْلُحُ لَهَا، فَإِنْ خَلَصَ الْأَسِيرُ، لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِمَامَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَجِبُ نَصِيحَةُ الْإِمَامِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ. الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْإِمَامِ: الْخَلِيفَةُ وَالْإِمَامُ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُقَالُ أَيْضًا: خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَيُقَالُ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَذْكَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

الْبَابُ الثَّانِي فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَفِيهِ أَطْرَافٌ: الْأَوَّلُ فِي صِفَتِهِمْ. الْبَاغِي فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْمُخَالِفُ لِإِمَامِ الْعَدْلِ، الْخَارِجُ عَنْ طَاعَتِهِ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ أَدَاءِ وَاجِبٍ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِهِ بِشَرْطِهِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ الْعُلَمَاءَ: وَيَجِبُ قِتَالُ الْبُغَاةِ، وَلَا يُكَفَّرُونَ بِالْبَغْيِ، وَإِذَا رَجَعَ الْبَاغِي إِلَى الطَّاعَةِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَتُرِكَ قِتَالُهُ، وَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى قِتَالِ الْبُغَاةِ، ثُمَّ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْبَغْيَ لَيْسَ بِاسْمِ ذَمٍّ، وَبِأَنَّ الْبَاغِينَ لَيْسُوا بِفَسَقَةٍ، كَمَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِكَفَرَةٍ، لَكِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ وَيَذْهَبُونَ إِلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِمْ عُصَاةً، وَلَا يُسَمِّيهِمْ فَسَقَةً وَيَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ بِفِسْقٍ، وَالتَّشْدِيدَاتُ الْوَارِدَةُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ وَفِي مُخَالَفَتِهِ كَحَدِيثِ «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا» وَحَدِيثِ «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» وَحَدِيثِ «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» كُلُّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَخَالَفَ الْإِمَامَ بِلَا عُذْرٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. فَصْلٌ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ الْإِمَامَ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الِانْقِيَادِ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ يَنْقَسِمُونَ إِلَى بُغَاةٍ وَغَيْرِهِمْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ، فَنَصِفُ الْبُغَاةَ بِمَا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ، وَنَذْكُرُ فِي ضِمْنِهِمْ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُخَالِفِينَ. أَمَّا الْبُغَاةُ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِمْ خَصْلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يَعْتَقِدُونَ بِسَبَبِهِ جَوَازَ الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ، أَوْ مَنْعَ الْحَقِّ الْمُتَوَجَّهِ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ عَنِ الطَّاعَةِ، وَمَنَعُوا الْحَقَّ بِلَا تَأْوِيلٍ، سَوَاءٌ كَانَ

حَدَّا أَوْ قِصَاصًا أَوْ مَالًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْآدَمِيِّينَ، عِنَادًا أَوْ مُكَابَرَةً، وَلَمْ يَتَعَلَّقُوا بِتَأْوِيلٍ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَحْكَامُ الْبُغَاةِ، وَكَذَا الْمُرْتَدُّونَ، ثُمَّ التَّأْوِيلُ لِلْبُغَاةِ إِنْ كَانَ بُطْلَانُهُ مَظْنُونًا، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَإِنْ كَانَ بُطْلَانُهُ مَقْطُوعًا بِهِ، فَوَجْهَانِ، أَوْفَقُهُمَا لِإِطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ، كَتَأْوِيلِ الْمُرْتَدِّينَ وَشُبْهَتِهِمْ، وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ، وَيَكْفِي تَغْلِيطُهُمْ فِيهِ، وَقَدْ يَغْلَطُ الْإِنْسَانُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ. فَرْعٌ الْخَوَارِجُ صِنْفٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً كَفَرَ وَخُلِّدَ فِي النَّارِ، وَيَطْعَنُونَ لِذَلِكَ فِي الْأَئِمَّةِ، وَلَا يَحْضُرُونَ مَعَهُمُ الْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَوْ أَظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ، وَتَجَنَّبُوا الْجَمَاعَاتِ، وَكَفَّرُوا الْإِمَامَ وَمَنْ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا وَكَانُوا فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، لَمْ يُقْتَلُوا وَلَمْ يُقَاتَلُوا، ثُمَّ إِنَّ صَرَّحُوا بِسَبِّ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، عُزِّرُوا، وَإِنْ عَرَّضُوا، فَفِي تَعْزِيرِهِمْ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يُعَزَّرُونَ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ إِلَيْهِمْ وَالِيًا فَقَتَلُوهُ، فَعَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ، وَهَلْ يَتَحَتَّمُ قَتْلُ قَاتِلِهِ، كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ ; لِأَنَّهُ شَهَرَ السِّلَاحَ أَمْ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِخَافَةَ الطَّرِيقِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَتَحَتَّمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُمْ إِنْ قَاتَلُوا، فَهُمْ فَسَقَةٌ وَأَصْحَابُ بُهْتٍ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، فَهَذَا تَرْتِيبُ الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ وَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ،

وَحَكَى الْإِمَامُ فِي تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ وَجْهَيْنِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ نُكَفِّرْهُمْ، فَلَهُمْ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ، وَقِيلَ: حُكْمُ الْبُغَاةِ، فَإِنْ قُلْنَا: كَالْمُرْتَدِّينَ، لَمْ تُنَفَّذْ أَحْكَامَهُمْ. الْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَعَدَدٌ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ الْإِمَامُ فِي رَدِّهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ إِلَى كُلْفَةٍ، بِبَذْلِ مَالٍ، أَوْ إِعْدَادِ رِجَالٍ، وَنَصْبِ قِتَالٍ، فَإِنْ كَانُوا أَفْرَادًا يَسْهُلُ ضَبْطُهُمْ، فَلَيْسُوا بُغَاةً، وَشَرَطَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ فِي الشَّوْكَةِ أَنْ يَنْفَرِدُوا بِبَلْدَةٍ، أَوْ قَرْيَةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ مِنَ الصَّحْرَاءِ، وَرُبَّمَا قِيلَ: يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمْ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ بِحَيْثُ لَا يُحِيطُ بِهِمْ أَجْنَادُهُ، وَالْأَصَحُّ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ اسْتِعْصَاؤُهُمْ وَخُرُوجُهُمْ عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ حَتَّى لَوْ تَمَكَّنُوا مِنَ الْمُقَاوَمَةِ وَهُمْ مَحْفُوفُونَ بِجُنْدِ الْإِسْلَامِ، حَصَلَتِ الشَّوْكَةُ، وَتَتَعَلَّقُ بِالشَّوْكَةِ صُوَرٌ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ: إِحْدَاهَا: حَكَى فِي قَوْمٍ قَلِيلِي الْعَدَدِ تَقَوَّوْا بِحِصْنٍ وَجْهَيْنِ، وَرَأَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَفْصِلَ، فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ الْحِصْنُ عَلَى حَافَّةِ الطَّرِيقِ، وَكَانُوا يَسْتَوْلُونَ بِسَبَبِهِ عَلَى نَاحِيَةٍ وَرَاءَ الْحِصْنِ، فَالشَّوْكَةُ حَاصِلَةٌ وَحُكْمُ الْبُغَاةِ ثَابِتٌ، لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ أَقْضِيَةُ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَإِلَّا فَلَيْسُوا بُغَاةً، وَلَا نُبَالِي بِمَا وَقَعَ مِنَ التَّعَطُّلِ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ. الثَّانِيَةُ: قَالَ: لَوْ تَحَرَّبَ مِنَ الشُّجْعَانِ عَدَدٌ يَسِيرٌ يَقْوُونَ بِفَضْلِ قُوَّتِهِمْ عَلَى مُصَارَمَةِ الْجُمُوعِ الْكَثِيرَةِ، حَصَلَتِ الشَّوْكَةُ بِلَا خِلَافٍ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الشَّوْكَةَ لَا تَحْصُلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَتْبُوعٌ مُطَاعٌ، إِذْ لَا قُوَّةَ لِمَنْ لَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ مُطَاعٌ، وَهَلْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ إِمَامٌ مَنْصُوبٌ لَهُمْ أَوْ مُنْتَصِبٌ؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يُشْتَرَطُ، وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْإِمَامُ، وَفِي

«الْمِنْهَاجِ» لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ حُكْمِ الْإِمَامِ، وَأَنْ يُظْهِرُوا لِأَنْفُسِهِمْ حُكْمًا، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا طَرِيقُ مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ، وَلَا بُدَّ فِيهِمْ مِنْهَا، ثُمَّ تُعْتَبَرُ الْخَصْلَتَانِ فَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةُ مَا سُقْنَاهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الْبُغَاةِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهَا: شَهَادَةُ الْبُغَاةِ مَقْبُولَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا فَسَقَةً، وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ شَهِدَ مِنْهُمْ عَدْلٌ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى الشَّهَادَةَ لِمُوَافَقَتِهِ بِتَصْدِيقِهِ، فَأَثْبَتَ الْعَدَالَةَ مَعَ الْبَغْيِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ قَاضٍ فِي بَلَدٍ، قَالَ الْمُعْتَبِرُونَ مِنَ الْأَصْحَابِ: إِنْ كَانَ يَسْتَحِلُّ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمَهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَمِنْ شَرْطِ الْقَاضِي الْعَدَالَةُ، وَكَذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِيمَا لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ يَسْتَحِلُّ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ نُفُوذَ قَضَاءِ الْبُغَاةِ لِمَصْلَحَةِ الرَّعِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاضِيهِمْ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالِهِمْ، وَنَفَذَ حُكْمُهُ فِيمَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، فَلَوْ حَكَمَ بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ أَوِ الْإِجْمَاعَ أَوِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، فَهُوَ بَاطِلٌ، حَتَّى لَوْ قَضَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَ فِي الْحَرْبِ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ، وَكَذَا لَوْ حَكَمَ بِسُقُوطِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ هُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ، لَمْ يَنْفُذْ، وَلَوْ حَكَمَ بِسُقُوطِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ فِي الْقِتَالِ، نَفَذَ حُكْمُهُ، وَلَا تَجُوزُ مُطَالَبَتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاءُ الْبَاغِي إِذَا كَانَ مِنَ الْخَطَّابِيَّةِ الَّذِينَ يَقْضُونَ لِمُوَافَقَتِهِمْ بِتَصْدِيقِهِمْ إِذَا قَضَى لِمُوَافِقِهِ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ.

فَرْعٌ إِذَا كَتَبَ قَاضِيهِمْ حَيْثُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِمَا حَكَمَ بِهِ إِلَى حَاكِمِ أَهْلِ الْعَدْلِ، جَازَ قَبُولُهُ وَتَنْفِيذُهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَقْبَلَ اسْتِخْفَافًا بِهِمْ، وَإِنْ كَتَبَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ، فَهَلْ يَحْكُمُ قَاضِينَا بِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، وَحَكَى الْإِمَامُ طَرْدَ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، وَاسْتَعَانَ فِيهِ بِالِاسْتِيفَاءِ، قَالَ: وَكُنْتُ أَوَدُّ لَوْ فَصَلَ فَاصِلٌ بَيْنَ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِ النَّجْدَةِ، وَحُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِالرَّعَايَا. فَرْعٌ لَوْ وَرَدَ مِنْ قَاضِي الْبُغَاةُ كِتَابٌ عَلَى قَاضِينَا، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ أَمْ لَا، فَفِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ قَوْلَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ، قَالَ: وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمَا: الْمَنْعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا أَقَامَ الْبُغَاةُ الْحُدُودَ عَلَى جُنَاةِ الْبَلَدِ الَّذِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الزَّكَاةَ مِنْ أَهْلِهِ وَخَرَاجَ أَرْضِهِ، وَجِزْيَةَ الذِّمِّيِّينَ فِيهِ، اعْتَدَّ بِمَا فَعَلُوهُ، وَإِذَا عَادَ الْبَلَدُ إِلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، لَمْ يُطَالِبُوا أَهْلَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي الْجِزْيَةِ وَجْهٌ شَاذٌّ لِبُعْدِهَا عَنِ الْمَسَافَةِ، وَلَوْ فَرَّقُوا سَهْمَ الْمُرْتَزِقَةِ مِنَ الْفَيْءِ عَلَى جُنْدِهِمْ، فَفِي وُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، لِئَلَّا يَكُونَ عَوْنًا لَهُمْ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ جُنْدِ الْإِسْلَامِ، وَإِرْعَابُ الْكُفَّارِ حَاصِلٌ بِهِمْ. فَرْعٌ إِذَا عَادَ الْبَلَدُ إِلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، فَادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ أَنَّ الْبُغَاةَ اسْتَوْفَوْهُ، وَلَا يَعْلَمُ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَلَا بَيِّنَةَ، فَإِنْ كَانَ زَكَاةً، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَهَلِ الْيَمِينُ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ

فصل

جِزْيَةً، لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ خَرَاجًا عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ أَوْ ثَمَنٌ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ وَمُوَاسَاةٌ وَمَبْنَاهَا عَلَى الرِّفْقِ، وَإِنْ كَانَ حَدًّا فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يُصَدَّقُ إِنْ كَانَ أَثَرُهُ بَاقِيًا عَلَى بَدَنِهِ، وَإِلَّا فَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، صُدِّقَ ; لِأَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَا. فَصْلٌ الَّذِينَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ بِلَا شَوْكَةٍ، أَوْ شَوْكَةٌ بِلَا تَأْوِيلٍ، لَيْسَ لَهُمْ حُكْمُ الْبُغَاةِ، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاءُ حَاكِمِهِمْ، وَلَا يُعْتَدُّ بِاسْتِيفَائِهِمُ الْحُقُوقَ وَالْحُدُودَ، وَفِي أَصْحَابِ الشَّوْكَةِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَالْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ مَا سَبَقَ، وَالتَّحْكِيمُ فِيهِمْ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِهِمْ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ ضَمَانِ الْمُتْلَفِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَإِذَا أَتْلَفَ بَاغٍ عَلَى عَادِلٍ أَوْ عَكْسُهُ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ، ضَمِنَ قَطْعًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقِصَاصِ وَالْقِيمَةِ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْقِتَالِ، فَمَا يُتْلِفُهُ الْعَادِلُ عَلَى الْبَاغِي لَا يَضْمَنُهُ، وَمَا يُتْلِفُهُ الْبَاغِي عَلَى الْعَادِلِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ هَلْ يَضْمَنُهُ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا، فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا، فَفِي الْقِصَاصِ طَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ لِشُبْهَةِ تَأْوِيلِهِمْ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ، فَهِيَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، فَهَلْ يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْعَمْدِ، فَتَتَعَجَّلُ الدِّيَّةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، أَمْ حُكْمُ شِبْهِ الْعَمْدِ، فَتَتَأَجَّلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، كَمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا عَلَى زِيِّ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ، فَتَجِبُ حَيْثُ أَوْجَبْنَا قِصَاصًا أَوْ دِيَةً،

وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ طَرْدًا لِلْإِهْدَارِ، وَلِأَنَّهَا أَوْلَى بِالْمُسَامَحَةِ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ. فَرْعٌ الْقَوْلَانِ فِيمَا أُتْلِفَ بِسَبَبِ الْقِتَالِ، وَتَوَلَّدُ مِنْهُ هَلَاكُهُ، فَلَوْ أُتْلِفَ فِي الْقِتَالِ مَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقِتَالِ، وَجَبَ ضَمَانُهُ قَطْعًا كَالْمُتْلِفِ قَبْلَ الْقِتَالِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ. فَرْعٌ الْأَمْوَالُ الْمَأْخُوذَةُ فِي الْقِتَالِ يَجِبُ رَدُّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ إِلَى أَصْحَابِهَا، يَسْتَوِي فِيهِ الْفَرِيقَانِ، فَإِنْ أُتْلِفْتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، وَجَبَ الضَّمَانُ. فَرْعٌ لَوِ اسْتَوْلَى بَاغٍ عَلَى أَمَةٍ أَوْ مُسْتَوْلَدَةٍ لَأَهْلِ الْعَدْلِ، فَوَطِئَهَا، أَلْزَمَهُ الْحَدَّ، فَإِنْ أَوْلَدَهَا، فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ غَيْرُ نَسِيبٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، فَهَلْ يَجِبُ الْمَهْرُ؟ قِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي ضَمَانِ الْمَالِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ قَطْعًا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْمَأْخُوذَ بَعْدَ الِانْهِزَامِ، وَلَوِ اسْتَوْلَى حَرْبِيٌّ عَلَى أَمَةٍ مُسْلِمَةٍ وَأَوْلَدَهَا، فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ وَغَيْرُ نَسِيبٍ، وَلَا حَدَّ وَلَا مَهْرَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمِ الْأَحْكَامَ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي سَبَقَ مِنْ حُكْمِ الْإِتْلَافِ هُوَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ، فَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ لِلْإِمَامِ بِتَأْوِيلِ بِلَا شَوْكَةٍ، فَيَلْزَمُهُمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْقِتَالِ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ بِلَا تَأْوِيلٍ، فَفِي ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ فِي الْقِتَالِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجِبُ قَطْعًا كَعَكْسِهِ،

وَأَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ كَالْبَاغِي ; لِأَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ عَنِ الْبَاغِي لِقَطْعِ الْفِتْنَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ هُنَا، وَلَوِ ارْتَدَّتْ طَائِفَةٌ لَهُمْ شَوْكَةٌ، فَأَتْلَفُوا مَالًا أَوْ نَفْسًا فِي الْقِتَالِ، ثُمَّ تَابُوا وَأَسْلَمُوا، فَفِي ضَمَانِهِمُ الْقَوْلَانِ كَالْبُغَاةِ، أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ: لَا ضَمَانَ، وَخَالَفَهُ الْبَغَوِيُّ، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاءُ قَاضِي الْمُرْتَدِّينَ قَطْعًا. الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ: طَرِيقُهَا طَرِيقُ دَفْعِ الصَّائِلِ، وَالْمَقْصُودُ رَدُّهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، وَدَفْعُ شَرِّهِمْ، لَا النَّفْيُ وَالْقَتْلُ، فَإِذَا أَمْكَنَ الْأَسْرُ، لَا يُقْتَلُ، وَإِذَا أَمْكَنَ الْإِثْخَانُ، لَا يُذَفَّفُ، فَإِنِ الْتَحَمَ الْقِتَالُ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، خَرَجَ الْأَمْرُ عَنِ الضَّبْطِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَقَدْ يُتَخَيَّلُ مِنْ هَذَا أَنَّا لَا نَسِيرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا نُفَاتِحُهُمْ بِالْقِتَالِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا سَارُوا إِلَيْنَا لَا نَبْدَأُ بِقِتَالِهِمْ، بَلْ نَصْطَفُّ قُبَالَتَهَمْ، فَإِنْ قَصَدُونَا، دَفَعْنَاهُمْ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ هَذَا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَصْحَابِ وَهُوَ خَطَأٌ، بَلْ إِذَا آذَنَهُمُ الْإِمَامُ بِالْحَرْبِ، وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ، سَارَ إِلَيْهِمْ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْقُطْرِ الَّذِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ، فَإِنِ انْهَزَمُوا وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، اتَّبَعْنَاهُمْ إِلَى أَنْ يَتُوبُوا وَيُطِيعُوا، وَلَيْسَ قِتَالُ الْفَرِيقَيْنِ كَصِيَالِ الْوَاحِدِ وَدَفْعِهِ بِكَيْفِيَّةِ قِتَالِهِمْ مَسَائِلُ: الْأُولَى: لَا يُغْتَالُونَ وَلَا يُبْدَءُونَ بِالْقِتَالِ حَتَّى يُنْذَرُوا، فَيَبْعَثُ الْإِمَامُ إِلَيْهِمْ أَمِينًا فَطِنًا نَاصِحًا، فَإِذَا جَاءَهُمْ سَأَلَهُمْ مَا يَنْقِمُونَ؟ فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً، وَعَلَّلُوا مُخَالَفَتَهُمْ بِهَا، أَزَالَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْةً، كَشَفَهَا لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا، أَوْ أَصَرُّوا بَعْدَ إِزَالَةِ الْعِلَّةِ، نَصَحَهُمْ وَوَعَظَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْعَوْدِ إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ أَصَرُّوا، دَعَاهُمْ إِلَى الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا، أَوْ أَجَابُوا فَغُلِبُوا، وَأَصَرُّوا مُكَابِرِينَ، آذَنَهُمْ بِالْقِتَالِ، فَإِنِ اسْتَنْظَرُوا، بَحَثَ الْإِمَامُ عَنْ حَالِهِمْ وَاجْتَهَدَ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُمْ عَازِمُونَ

عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَنْظِرُونَ لِكَشْفِ الشُّبْهَةِ، أَوِ التَّأَمُّلِ وَالْمُشَاوَرَةِ، أَنْظَرَهُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الِاجْتِمَاعَ، أَوْ يِسْتَلْحِقُونَ مَدَدًا لَهُمْ، لَمْ يُنْظِرْهُمْ، وَإِنْ سَأَلُوا تَرْكَ الْقِتَالِ أَبَدًا، لَمْ يُجِبْهُمْ، وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ الْإِنْظَارُ، فَلَوْ بَذَلُوا مَالًا، وَرَهَنُوا أَوْلَادَهُمْ وَالنِّسَاءَ، لَمْ يَقْبَلْهُ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ يَقْوُونَ فِي الْمُدَّةِ، وَيَظْهَرُونَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ وَيَسْتَرِدُّونَ مَا بَذَلُوهُ، وَإِذَا كَانَ بِأَهْلِ الْعَدْلِ ضَعْفٌ، أَخَّرَ الْقِتَالَ، وَنَصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ أَسَارَى مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَسَأَلُوا - وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ - أَنْ يُمْسِكَ لِيُطْلِقُوهُمْ، وَأَعْطَوْا بِذَلِكَ رَهَائِنَ، قَبِلْنَا، فَإِنْ أَطْلَقُوا الْأَسَارَى، أَطْلَقْنَا الرَّهَائِنَ، وَإِنْ قَتَلُوهُمْ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُ الرَّهَائِنِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِطْلَاقِهِمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ. الثَّانِيَةُ: مَنْ أَدْبَرَ مِنْهُمْ وَانْهَزَمَ، لَمْ يُتْبَعْ، وَكَذَا مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَتَرَكَ الْقِتَالَ، لَمْ يُقَاتَلْ، وَانْهِزَامُ الْجُنْدِ بِأَنْ يَتَبَدَّدَ، وَتُبْطُلَ شَوْكَتُهُمْ وَاتِّفَاقُهُمْ، فَلَوْ وَلَّوْا ظُهُورَهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ تَحْتَ رَايَةِ زَعِيمِهِمْ، لَمْ يَنْكُفْ عَنْهُمْ، بَلْ يَطْلُبُهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ، وَلَوْ بَطَلَتْ قُوَّةُ وَاحِدٍ وَاعْتِضَادُهُ بِالْجَمْعِ لِتَخَلُّفِهِ عَنْهُمْ مُخْتَارًا، أَوْ غَيْرَ مُخْتَارٍ، لَا يُقْتَلُ وَلَا يُتْبَعُ، وَمَنْ وَلَّى مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، أُتْبِعَ وَقُوتِلَ، وَإِنْ وَلَّى مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً، أُتْبِعَ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَرُبَّمَا أَطْلَقَ وَجْهَانِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ قَرِيبَةٍ وَبَعِيدَةٍ، وَأُجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ بَطَلَتْ شَوْكَةُ الْجُنْدِ فِي الْحَالِ وَلَمْ يُؤْمَنِ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْمَآلِ، وَمَوْضِعُ الِاتِّفَاقِ أَنْ يُؤْمَنَ اجْتِمَاعَهُمْ. الثَّالِثَةُ: لَا يُقْتَلُ مُثْخَنُهُمْ وَلَا أَسِيرُهُمْ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ قَتْلَهُمَا صَبْرًا، فَلَوْ قَتَلَ عَادِلٌ أَسِيرَهُمْ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ لِشُبْهَةِ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا قِصَاصَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَا يُطْلَقُ الْأَسِيرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ إِلَّا أَنْ يُبَايِعَ الْإِمَامَ، وَيَرْجِعَ إِلَى الطَّاعَةِ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَوِ انْقَضَتِ الْحَرْبُ وَجُمُوعُهُمْ بَاقِيَةٌ، لَمْ يُطْلَقْ إِلَّا أَنْ يُبَايِعَ، وَإِنْ بَذَلُوا الطَّاعَةَ، أَوْ تَفَرَّقَتْ جُمُوعُهُمْ، أُطْلِقَ، فَإِنْ تَوَقَّعَ عَوْدُهُمْ، فَفِي الْإِطْلَاقِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِضَ عَلَى أَسْرَاهُمْ بَيْعَةَ الْإِمَامِ، هَذَا فِي أَسِيرٍ هُوَ أَهْلٌ لِلْقِتَالِ، فَأَمَّا إِذَا أَسَرَ نِسَاءَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ، فَيُحْبَسُونَ إِلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ ثُمَّ يُطْلَقُونَ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَفِي وَجْهٍ لِأَبِي إِسْحَاقَ: إِنْ رَأَى الْإِمَامُ فِي إِطْلَاقِهِمْ قُوَّةَ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَأَنَّ حَبْسَهُمْ يَرُدُّهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى مُرَاجَعَةِ الْحَقِّ، حَبَسَهُمْ حَتَّى يُطِيعُوا، وَفِي وَجْهٍ لَهُ حَبْسُهُمْ مُطْلَقًا كَسْرًا لِقُلُوبِ الْبُغَاةِ، وَعَلَى هَذَا وَقْتُ تَخْلِيَتِهِمْ وَقْتُ تَخْلِيَةِ الرِّجَالِ، وَأَمَّا الْعَبِيدُ وَالْمُرَاهِقُونَ، فَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُمْ كَالنِّسَاءِ وَإِنْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ، وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ يَجِيءُ مِنْهُمْ قِتَالٌ، فَهُمْ كَالرِّجَالِ فِي الْحَبْسِ وَالْإِطْلَاقِ، وَهَذَا حَسَنٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَبِيدَ وَالْمُرَاهِقِينَ وَالنِّسَاءَ إِذَا قَاتَلُوا فَهُمْ كَالرِّجَالِ فِي أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ مُقْبِلِينَ، وَيُتْرَكُونَ مُدْبِرِينَ، وَيَجُوزُ أَسْرُ كُلِّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ ابْتِدَاءً. فَرْعٌ إِذَا ظَفِرْنَا بِخَيْلِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ، لَمْ نَرُدَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْقِتَالُ، وَنَأْمَنَ غَائِلَتَهُمْ بِعَوْدِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ تَفَرُّقِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْقِتَالِ، فَلَوْ وَقَعَتْ ضَرُورَةٌ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدُنَا مَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا سِلَاحَهُمْ، أَوْ مَا يَرْكَبُهُ وَقَدْ وَقَعَتْ هَزِيمَةٌ إِلَّا خُيُولَهُمْ، جَازَ الِاسْتِعْمَالُ وَالرُّكُوبُ، كَمَا يَجُوزُ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ لِلضَّرُورَةِ، وَمَا لَيْسَ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُرَدُّ إِلَيْهِمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ. الرَّابِعَةُ: لَا يُقَاتِلُهُمْ بِمَا يَعُمُّ وَيَعْظُمُ أَثَرُهُ، كَالْمَنْجَنِيقِ وَالنَّارِ، وَإِرْسَالِ السُّيُولِ الْجَارِفَةِ، لَكِنْ لَوْ قَاتَلُونَا بِهَذِهِ الْأَوْجُهِ، وَاحْتَجْنَا إِلَى

الْمُقَابَلَةِ بِمِثْلِهَا دَفْعًا، أَوْ أَحَاطُوا بِنَا، وَاضْطُرِرْنَا إِلَى الرَّمْيِ بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا، فَعَلْنَاهُ لِلضَّرُورَةِ، وَإِنْ تَحَصَّنُوا بِبَلْدَةٍ أَوْ قَلْعَةٍ، وَلَمْ يَتَأَتَّ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا إِلَّا بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا رَعَايَا لَا بَغْيَ فِيهِمْ، لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا الْبُغَاةُ الْمُقَاتِلُونَ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ تَرْكَ بَلْدَةٍ فِي أَيْدِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يُمْكِنُ الِاحْتِيَالُ فِي مُحَاصَرَتِهِمْ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِصْلَاحِ مِنِ اصْطِلَامِ أُمَمٍ. الْخَامِسَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَيْهِمْ بِكُفَّارٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَسْلِيطُ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِمُسْتَحِقِّ قِصَاصٍ أَنْ يُوَكِّلَ كَافِرًا بِاسْتِيفَائِهِ، وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَّخِذَ جَلَّادًا كَافِرًا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ بِمَنْ يَرَى قَتْلَهُمْ مُدْبِرِينَ إِمَّا لِعَدَاوَةٍ وَإِمَّا لِاعْتِقَادِهِ، كَالْحَنَفِيِّ، إِلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ، فَيَجُوزُ بِشَرْطَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِيهِمْ جُرْأَةٌ وَحُسْنُ إِقْدَامٍ، وَالثَّانِي: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ مَنْعِهِمْ لَوِ ابْتَغَوْا أَهْلَ الْبَغْيِ بَعْدَ هَزِيمَتِهِمْ، وَلَا بُدَّ مِنِ اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ لِجَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ والرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ اتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ وَلَفْظُ الْبَغَوِيِّ يَقْتَضِي جَوَازُهَا بِأَحَدِهِمَا. السَّادِسَةُ: لَوِ اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ عَلَيْنَا بِأَهْلِ الْحَرْبِ، وَعَقَدُوا لَهُمْ ذِمَّةً وَأَمَانًا لِيُقَاتِلُوا مَعَهُمْ، لَمْ يُنَفَّذْ أَمَانُهُمْ عَلَيْنَا، فَلَنَا أَنْ نَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ، وَنَسْتَرِقَّهُمْ، وَنَقْتُلَهُمْ إِذَا وَقَعُوا فِي الْأَسْرِ، وَنَقْتُلَهُمْ مُدْبِرِينَ، وَنُذَفِّفَ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهَلْ يَنْعَقِدُ الْأَمَانُ فِي حَقِّ الْبُغَاةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا:

نَعَمْ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: لِأَهْلِ الْبَغْيِ أَنَّ يَكِرُّوا عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا، أَنَّهُ أَمَانٌ فَاسِدٌ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْبَغْيِ اغْتِيَالُهُمْ، بَلْ يُبَلِّغُونَهُمُ الْمَأْمَنَ، فَلَوْ قَالُوا: ظَنَنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعِينَ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضٍ أَوْ ظَنَنَّا أَنَّهُمُ الْمُحِقُّونَ، أَوْ ظَنَنَّا أَنَّهُمُ اسْتَعَانُوا بِنَا فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا اعْتِبَارَ بِظَنِّهِمُ الْفَاسِدِ، وَلَنَا قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَا نُبَلِّغُهُمُ الْمَأْمَنَ، وَنُقَاتِلُهُمْ مُقَاتَلَةَ الْبُغَاةِ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ مُدْبِرِينَ، وَمَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِمْ، وَمَا يُتْلِفُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ مَضْمُونٌ إِنْ نَفَّذْنَا أَمَانَهُمْ لَهُمْ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوِ اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي قِتَالِنَا، نُظِرَ، إِنْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ قِتَالُنَا وَلَمْ يُكْرَهُوا، انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَيُقْتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، وَلَوْ أَتْلَفُوا بَعْدَ الْقِتَالِ شَيْئًا، لَمْ يَضْمَنُوهُ، وَقِيلَ: فِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ قَوْلَانِ، وَإِنْ قَالُوا: كُنَّا مُكْرَهِينَ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيُقَاتَلُونَ مُقَاتَلَةَ الْبُغَاةِ، وَإِنْ قَالُوا: ظَنَنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا إِعَانَةُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ أَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِنَا عَلَى كُفَّارٍ، أَوْ أَنَّهُمُ الْمُحِقُّونَ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا عُذْرًا، انْتُقِضَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، ثُمَّ قِيلَ: الْقَوْلَانِ إِذَا لَمْ نَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ شَرَطَ، انْتُقِضَ قَطْعًا، وَقِيلَ: قَوْلَانِ مُطْلَقًا، وَحَيْثُ قُلْنَا: يَنْتَقِضُ، فَهَلْ يُبَلَّغُونَ الْمَأْمَنَ أَمْ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي الْجِزْيَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: يُبَلَّغُونَ الْمَأْمَنَ، فَهَلْ لَنَا قَتْلُهُمْ مُنْهَزِمِينَ؟ وَجْهَانِ، وَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ كَمَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَدْلِ يَنْتَقِضُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَفِي «الْبَيَانِ» أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي انْتِقَاضِهِ فِي حَقِّ الْبُغَاةِ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْتَقِضُ، فَهُمْ كَالْبُغَاةِ فِي أَنَّهُ لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ

فصل

وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَوْ أَتْلَفُوا شَيْئًا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، لَزِمَهُمُ الضَّمَانُ بِخِلَافِ الْبُغَاةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُضْمَنُونَ فِي قَوْلٍ ; لِأَنَّا أَسْقَطْنَا الضَّمَانَ عَنْهُمُ اسْتِمَالَةً لِقُلُوبِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ لِئَلَّا يُنَفِّرَهُمُ الضَّمَانُ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَلَوْ أَتْلَفُوا نَفْسًا، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ عَلَى الْبُغَاةِ، فَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجِبُ، كَالضَّمَانِ، وَالثَّانِي: لَا، لِلشُّبْهَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَحْوَالِهِمْ، وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَنْتَقِضُ الْأَمَانُ فَجَاءَنَا ذِمِّيٌّ تَائِبًا، فَفِي ضَمَانِ مَا أَتْلَفَ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالْبُغَاةِ. فَرْعٌ قَاتَلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَهْلَ الْبَغْيِ، لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّهُمْ حَارَبُوا مَنْ يَلْزَمُ الْإِمَامُ مُحَارَبَتَهُمْ. فَرْعٌ اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِمَنْ لَهُمْ أَمَانٌ إِلَى مُدَّةٍ، انْتُقِضَ أَمَانُهُمْ، فَإِنْ قَالُوا: كُنَّا مُكْرَهِينَ، وَأَقَامُوا بَيِّنَةً عَلَى الْإِكْرَاهِ فَهُمْ عَلَى الْعَهْدِ، وَإِلَّا انْتُقِضَ أَيْضًا. فَصْلٌ اقْتَتَلَ طَائِفَتَانِ بَاغِيَتَانِ، فَإِنْ قَدَرَ الْإِمَامُ عَلَى قَهْرِهِمَا، وَهَزَمَهُمَا، لَمْ يُعِنْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إِلَّا إِذَا أَطَاعَتْ، فَيُعِينُهَا عَلَى الْأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَهْرِهِمَا، ضَمَّ إِلَى نَفْسِهِ أَقْرَبَهُمَا إِلَى الْحَقِّ، وَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْأُخْرَى، وَإِنِ اسْتَوَيَا اجْتَهَدَ فِيهِمَا، وَلَا يُقْصَدُ بِضَمِّ الْمَضْمُومَةِ إِلَيْهِ مُعَاوَنَتُهَا، بَلْ يُقْصَدُ دَفْعُ الْأُخْرَى، فَإِنِ انْدَفَعَ شَرُّ الْأُخْرَى، لَمْ يُقَاتِلِ الْمَضْمُومَةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَدْعُوَهَا إِلَى الطَّاعَةِ ; لِأَنَّهَا بِالِاسْتِعَانَةِ صَارَتْ فِي أَمَانِهِ، وَلَوْ أَمَّنَ عَادِلٌ بَاغِيًا، نَفَذَ أَمَانُهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوِ امْرَأَةً.

فَرْعٌ حُكْمُ دَارِ الْبَغْيِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا جَرَى فِيهَا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، أَقَامَهُ الْإِمَامُ. فَرْعٌ يَتَحَرَّزُ الْعَادِلُ عَنْ قِتَالِ قَرِيبِهِ الْبَاغِي مَا أَمْكَنَهُ. فَرْعٌ قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَلْزَمُ الْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ مُصَابَرَةَ اثْنَيْنِ مِنَ الْبُغَاةِ، فَلَا يُوَلِّي عَنْهُمَا إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقَتَّالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ. فَرْعٌ نَصَّ فِي «الْمَبْسُوطِ» أَنَّهُ إِذَا غَزَا أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْبُغَاةُ مُشْرِكِينَ، وَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ الشِّرْكِ، فَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ، وَالْقَاتِلُ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ السَّلْبَ، وَأَمَّا الْخُمُسُ، فَيُفَرِّقُهُ الْإِمَامُ، وَأَنَّهُ لَوْ وَادَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ مُشْرِكِينَ، لَمْ يَقْصِدْهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ غَزَا أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ وَادَعَهُمُ الْإِمَامُ، فَسَبَوْا مِنْهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ، رَدَّ السَّبْيَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُ لَوْ أَمَّنَ أَهْلُ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنَ الْبُغَاةِ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ جَاهِلٌ بِأَمَانِهِ، وَقَالَ: عَلِمْتُهُ بَاغِيًا، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ جَاءَنَا لِيَنَالَ غِرَّتَنَا، حَلَفَ وَأُلْزِمَ الدِّيَةَ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَامِدًا اقْتُصَّ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ عَادِلٌ عَادِلًا فِي الْقِتَالِ وَقَالَ: ظَنَنْتُهُ بَاغِيًا، حَلَفَ وَضَمِنَ الدِّيَةَ، وَأَنَّهُ لَوْ سَبَى الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَقَدَرْنَا عَلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ، وَجَبَ الِاسْتِنْقَاذُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الردة

كِتَابُ الرِّدَّةِ هِيَ مِنْ أَفْحَشِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَأَغْلَظِهَا حُكْمًا، وَفِيهِ بَابَانِ: الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَةِ الرِّدَّةِ، وَمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ، وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَتِهَا، وَهِيَ قَطْعُ الْإِسْلَامِ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ تَارَةً بِالْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ، وَالْأَفْعَالُ الْمُوجِبَةُ لِلْكُفْرِ هِيَ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ تَعَمُّدٍ وَاسْتِهْزَاءٍ بِالدِّينِ صَرِيحٍ، كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ أَوْ لِلشَّمْسِ، وَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَالسِّحْرِ الَّذِي فِيهِ عِبَادَةُ الشَّمْسِ وَنَحْوِهَا، قَالَ الْإِمَامُ: فِي بَعْضِ التَّعَالِيقِ عَنْ شَيْخِي أَنَّ الْفِعْلَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ كُفْرًا، قَالَ: وَهَذَا زَلَلٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُعَلِّقِ ذَكَرْتُهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَلَطِهِ، وَتَحْصُلُ الرِّدَّةُ بِالْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ، سَوَاءٌ صَدَرَ عَنِ اعْتِقَادٍ أَوْ عِنَادٍ أَوِ اسْتِهْزَاءٍ، هَذَا قَوْلٌ جُمَلِيٌّ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: مَنِ اعْتَقَدَ قِدَمَ الْعَالَمِ، أَوْ حُدُوثَ الصَّانِعِ، أَوْ نَفَى مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْقَدِيمِ بِالْإِجْمَاعِ، كَكَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا، أَوْ أَثْبَتَ مَا هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، كَالْأَلْوَانِ، أَوْ أَثْبَتَ لَهُ الِاتِّصَالَ وَالِانْفِصَالَ، كَانَ كَافِرًا، وَكَذَا مَنْ جَحَدَ جَوَازَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، أَوْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ كَذَّبَهُ، أَوْ جَحَدَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، أَوْ زَادَ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً وَاعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْهُ، أَوْ سَبَّ نَبِيًّا، أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ، أَوِ اسْتَحَلَّ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ كَالْخَمْرِ وَاللِّوَاطِ، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ نَفَى وُجُوبَ مُجْمَعٍ عَلَى وُجُوبِهِ، كَرَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَوِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ، كَصَلَاةٍ سَادِسَةٍ وَصَوْمِ شَوَّالٍ، أَوْ نَسَبَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى الْفَاحِشَةِ، أَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَدَّقَ مُدَّعِيًا لَهَا، أَوْ عَظَّمَ صَنَمًا بِالسُّجُودِ لَهُ، أَوِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالذَّبْحِ بِاسْمِهِ، فَكُلُّ هَذَا كُفْرٌ. قُلْتُ: قَوْلُهُ: إِنَّ جَاحِدَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ يَكْفُرُ، لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلِ الصَّوَابُ فِيهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَقِبَ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّهُ إِنْ جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ يُعْلَمُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً، كَفَرَ إِنْ كَانَ فِيهِ نَصٌّ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ فِي الْأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَكْفُرْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ قَالَ الْمُسْلِمُ: يَا كَافِرُ بِلَا تَأْوِيلٍ، كَفَرَ ; لِأَنَّهُ سَمَّى الْإِسْلَامَ كُفْرًا، وَالْعَزْمُ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُفْرٌ فِي الْحَالِ، وَكَذَا التَّرَدُّدُ فِي أَنَّهُ يَكْفُرُ أَمْ لَا، فَهُوَ كُفْرٌ فِي الْحَالِ، وَكَذَا التَّعْلِيقُ بِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ هَلَكَ مَالِي أَوْ وَلَدِي تَهَوَّدْتُ، أَوْ تَنَصَّرْتُ، قَالَ: وَالرِّضَى بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، حَتَّى لَوْ سَأَلَهُ كَافِرٌ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ أَنْ يُلَقِّنَهُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يُسْلِمَ، أَوْ عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنْ يَرْتَدَّ، فَهُوَ كَافِرٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِمُسْلِمٍ: سَلَبَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ، أَوْ لِكَافِرٍ: لَا رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ، فَلَيْسَ بِكُفْرٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ رِضًى بِالْكُفْرِ، لَكِنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ بِتَشْدِيدِ الْأَمْرِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي «الْفَتَاوَى» وَجْهًا ضَعِيفًا، أَنَّ مَنْ قَالَ لِمُسْلِمٍ: سَلَبَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ، كَفَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَكْرَهَ مُسْلِمًا عَلَى الْكُفْرِ، صَارَ الْمُكْرِهُ كَافِرًا، وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالرِّضَى بِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَيْسَ بِإِسْلَامٍ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، وَشَرِبَ مَعَهُمُ الْخَمْرَ، وَأَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، لَا يُحْكَمُ

بِكُفْرِهِ، وَارْتِكَابُ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَلَا يَنْسَلِبُ بِهِ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَالْفَاسِقُ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ. فَرْعٌ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِنَاءٌ تَامٌّ بِتَفْصِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْكُفْرِ، وَأَكْثَرُهُمَا مِمَّا يَقْتَضِي إِطْلَاقُ أَصْحَابِنَا الْمُوَافَقَةَ عَلَيْهِ، فَنَذْكُرُ مَا يَحْضُرُنَا مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ. مِنْهَا: إِذَا سَخِرَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِأَمْرِهِ، أَوْ بِوَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ، كَفَرَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِكَذَا لَمْ أَفْعَلْ، أَوْ لَوْ صَارَتِ الْقِبْلَةُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مَا صَلَّيْتُ إِلَيْهَا، أَوْ لَوْ أَعْطَانِي الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا. قُلْتُ: مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا وَالْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِي قَوْلِهِ لَوْ أَعْطَانِي الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: لَا تَتْرُكِ الصَّلَاةَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُكَ، فَقَالَ: لَوْ وَاخَذَنِي اللَّهُ بِهَا مَعَ مَا بِي مِنَ الْمَرَضِ وَالشِّدَّةِ، ظَلَمَنِي، أَوْ قَالَ الْمَظْلُومُ: هَذَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ الظَّالِمُ: أَنَا أَفْعَلُ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَفَرَ، وَلَوْ قَالَ: لَوْ شَهِدَ عِنْدِي الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ بِكَذَا مَا صَدَّقْتُهُمْ، كَفَرَ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: قَلِّمْ أَظْفَارَكَ، فَإِنَّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ وَإِنْ كَانَ سُنَّةً، كَفَرَ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهَذَا إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ اسْتِهْزَاءً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ قَالَ: فُلَانٌ فِي عَيْنِي كَالْيَهُودِيِّ، وَالنَّصْرَانِيِّ فِي عَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ كُفْرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ أَرَادَ الْجَارِحَةَ، كَفَرَ، وَإِلَّا فَلَا، قَالُوا: وَلَوْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ

تَعَالَى جَلَسَ لِلْإِنْصَافِ، كَفَرَ، أَوْ قَامَ لِلْإِنْصَافِ، فَهُوَ كُفْرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قَالَ الطَّالِبُ لِيَمِينِ خَصْمِهِ، وَقَدْ أَرَادَ الْخَصْمُ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى: لَا أُرِيدُ الْحَلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى، إِنَّمَا أُرِيدُ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَادَى رَجُلًا اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَدْخَلَ فِي آخِرِهِ حَرْفَ الْكَافِ الَّذِي يَدْخُلُ لِلتَّصْغِيرِ بِالْعَجَمِيَّةِ، فَقِيلَ: يَكْفُرُ، وَقِيلَ: إِنْ تَعَمَّدَ التَّصْغِيرِ كَفَرَ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ، لَا يَكْفُرُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ: رُؤْيَتِي إِيَّاكَ كَرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ، قَالُوا: وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى ضَرْبِ الدُّفِّ أَوِ الْقَضِيبِ، أَوْ قِيلَ لَهُ: تَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَهُوَ كُفْرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ خَرَجَ لِسَفَرٍ، فَصَاحَ الْعَقْعَقُ، فَرَجَعَ هَلْ يَكْفُرُ؟ قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ نَبِيًّا، آمَنْتُ بِهِ، كَفَرَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا قَالَهُ الْأَنْبِيَاءُ صِدْقًا نَجَوْنَا، أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْسِيًّا أَمْ جِنِّيًّا، أَوْ قَالَ: إِنَّهُ جِنٌّ، أَوْ صَغَّرَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِهَانَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ قَالَ: كَانَ طَوِيلَ الظُّفْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ مُتَعَمِّدًا، أَوْ مَعَ ثَوْبٍ نَجِسٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. قُلْتُ: مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، لَا يَكْفُرُ إِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ الْآخَرُ: لَا حَوْلَ لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، كَفَرَ، وَلَوْ سَمِعَ أَذَانَ الْمُؤَذِّنِ فَقَالَ: إِنَّهُ يَكْذِبُ، أَوْ قَالَ وَهُوَ يَتَعَاطَى قَدَحَ الْخَمْرِ، أَوْ يُقْدِمُ عَلَى الزِّنَا: بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، اسْتِخْفَافًا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، كَفَرَ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَخَافُ الْقِيَامَةَ، كَفَرَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ فِي مَوْضِعٍ وَقَالَ:

سَلَّمْتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: سَلَّمْتَهُ إِلَى مَنْ لَا يَتْبَعُ السَّارِقَ إِذَا سَرَقَ، وَلَوْ حَضَرَ جَمَاعَةٌ، وَجَلَسَ أَحَدُهُمْ عَلَى مَكَانٍ رَفِيعٍ تَشَبُّهًا بِالْمُذَكِّرِينَ، فَسَأَلُوهُ الْمَسَائِلَ وَهُمْ يَضْحَكُونَ، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ بِالْمِخْرَاقِ، أَوْ تَشَبَّهَ بِالْمُعَلِّمِينَ، فَأَخَذَ خَشَبَةً، وَجَلَسَ الْقَوْمُ حَوْلَهُ كَالصِّبْيَانِ، وَضَحِكُوا وَاسْتَهْزَءُوا، وَقَالَ: قَصْعَةُ ثَرِيدٍ خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ، كَفَرَ. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِي مَسْأَلَتَيِ التَّشَبُّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ دَامَ مَرَضُهُ وَاشْتَدَّ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا، وَإِنْ شِئْتَ تَوَفَّنِي كَافِرًا، صَارَ كَافِرًا، وَكَذَا لَوِ ابْتُلِيَ بِمَصَائِبَ، فَقَالَ: أَخَذْتَ مَالِي، وَأَخَذْتَ وَلَدِي، وَكَذَا وَكَذَا، وَمَاذَا تَفْعَلُ أَيْضًا، أَوْ مَاذَا بَقِيَ وَلَمْ تَفْعَلْهُ، كَفَرَ، وَلَوْ غَضِبَ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ غُلَامِهِ، فَضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَسْتَ بِمُسْلِمٍ، فَقَالَ: لَا، مُتَعَمِّدًا كَفَرَ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: يَا يَهُودِيُّ، يَا مَجُوسِيُّ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ، كَفَرَ، قُلْتُ: فِي هَذَا نَظَرٌ إِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ، فَأَعْطَاهُ النَّاسُ أَمْوَالًا، فَقَالَ مُسْلِمٌ: لَيْتَنِي كُنْتُ كَافِرًا فَأُسْلِمُ، فَأُعْطَى، قَالَ بَعْضُ الْمَشَائِخِ: يَكْفُرُ. قُلْتُ: فِي هَذَا نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِالْإِسْلَامِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي قِصَّةِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَتَلَ مَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ يَوْمِئِذٍ، وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَمَنَّى أَنْ لَا يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَمْرَ، أَوْ لَا يُحَرِّمَ الْمُنَاكَحَةَ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، لَا يَكْفُرُ، وَلَوْ تَمَنَّى أَنْ لَا يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى الظُّلْمَ أَوِ الزِّنَا،

وَقَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، كَفَرَ، وَالضَّابِطُ أَنَّ مَا كَانَ حَلَالًا فِي زَمَانٍ فَتَمَنَّى حِلَّهُ لَا يَكْفُرُ، وَلَوْ شَدَّ الزُّنَّارَ عَلَى وَسَطِهِ، كَفَرَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَلَوْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ حَبْلًا، فَسُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: هَذَا زُنَّارٌ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَلَوْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا، وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ، كَفَرَ، وَإِنْ دَخَلَ لِتَخْلِيصِ الْأُسَارَى، لَمْ يَكْفُرْ. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِي مَسْأَلَةِ التَّمَنِّي وَمَا بَعْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ مُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ: الْيَهُودُ خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكَثِيرٍ ; لِأَنَّهُمْ يَقْضُونَ حُقُوقَ مُعَلِّمِي صِبْيَانِهِمْ، كَفَرَ، وَقَالُوا: وَلَوْ قَالَ: النَّصْرَانِيَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ، كَفَرَ، وَلَوْ قَالَ: الْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، لَا يَكْفُرُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِقَوْلِهِ: النَّصْرَانِيَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا دِينُ حَقٍّ الْيَوْمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالُوا: وَلَوْ عَطَسَ السُّلْطَانُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَقَالَ آخَرُ: لَا تَقُلْ لِلسُّلْطَانِ هَذَا، كَفَرَ الْآخَرُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالُوا: وَلَوْ سَقَى فَاسِقٌ وَلَدَهُ خَمْرًا، فَنَثَرَ أَقْرِبَاؤُهُ الدَّرَاهِمَ وَالسُّكَّرَ، كَفَرُوا. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُمْ لَا يَكْفُرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالُوا: وَلَوْ قَالَ كَافِرٌ لِمُسْلِمٍ: اعْرِضْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ: حَتَّى أَرَى، أَوِ اصْبِرْ إِلَى الْغَدِ، أَوْ طَلَبَ عَرْضَ الْإِسْلَامِ مِنْ وَاعِظٍ، فَقَالَ:

اجْلِسْ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، كَفَرَ، وَقَدْ حَكَيْنَا نَظِيرَهُ عَنِ الْمُتَوَلِّي، قَالُوا: وَلَوْ قَالَ لِعَدُوِّهِ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ أُؤْمِنْ بِهِ، أَوْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَفَرَ، قَالُوا: وَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ: مَا الْإِيمَانُ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، كَفَرَ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَفَرَ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ تَتَبَّعُوا فِيهَا الْأَلْفَاظَ الْوَاقِعَةَ فِي كَلَامِ النَّاسِ وَأَجَابُوا فِيهَا اتِّفَاقًا أَوِ اخْتِلَافًا بِمَا ذُكِرَ، وَمَذْهَبُنَا يَقْتَضِي مُوَافَقَتَهُمْ فِي بَعْضِهَا، وَفِي بَعْضِهَا يُشْتَرَطُ وُقُوعُ اللَّفْظِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِهْزَاءِ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَوِ الْفَضْلُ عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ كِتَابِهِ الشِّفَاءِ بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ نَبِيِّنَا الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ جُمْلَةً فِي الْأَلْفَاظِ الْمُكَفِّرَةِ غَيْرَ مَا سَبَقَ، نَقَلَهَا عَنِ الْأَئِمَّةِ، أَكْثَرُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَصَرَّحَ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَمِنْهَا: أَنَّ مَرِيضًا شُفِيَ ثُمَّ قَالَ: لَقِيتُ فِي مَرَضِي هَذَا مَا لَوْ قَتَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ أَسْتَوْجِبْهُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكْفُرُ وَيُقْتَلُ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ النِّسْبَةَ إِلَى الْجَوْرِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ وَيُسْتَتَابُ وَيُعَزَّرُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدَ، أَوْ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِيَ، أَوْ قَالَ: لَيْسَ هُوَ بِقُرَشِيٍّ، فَهُوَ كُفْرٌ ; لِأَنَّ وَصْفَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ نَفْيٌ لَهُ وَتَكْذِيبٌ بِهِ، وَأَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ، أَوْ أَنَّهُ يَبْلُغُ بِصَفَاءِ الْقَلْبِ إِلَى مَرْتَبَتِهَا، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَيُعَانِقُ الْحُورَ، فَهُوَ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ قَطْعًا، وَأَنَّ مَنْ دَافَعَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمَقْطُوعِ بِهَا الْمَحْمُولِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى، أَوْ شَكَّ فِي تَكْفِيرِهِمْ، أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ أَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ وَاعْتَقَدَهُ، وَكَذَا يَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ كُلِّ قَائِلٍ قَوْلًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى تَضْلِيلِ الْأُمَّةِ، أَوْ تَكْفِيرِ الصَّحَابَةِ، وَكَذَا

مَنْ فَعَلَ فِعْلًا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُصَرِّحًا بِالْإِسْلَامِ مَعَ فِعْلِهِ، كَالسُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، أَوِ النَّارِ وَالْمَشْيِ إِلَى الْكَنَائِسِ مَعَ أَهْلِهَا بِزِيِّهِمْ مِنَ الزُّنَّانِيرِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَا مَنْ أَنْكَرَ مَكَّةَ، أَوِ الْبَيْتَ، أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، أَوْ صِفَةَ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الْمَعْرُوفَةِ، أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي أَنَّ هَذِهِ الْمُسَمَّاةَ بِمَكَّةَ هِيَ مَكَّةُ أَمْ غَيْرُهَا، فَكُلُّ هَذَا أَوْ شَبَهُهُ لَا شَكَّ فِي تَكْفِيرِ قَائِلِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ عِلْمُ ذَلِكَ، وَمَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ، أَوْ بِمُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ، عَرَّفْنَاهُ ذَلِكَ، وَلَا يُعْذَرُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَكَذَا مَنْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ قَالَ: لَيْسَ بِمُعْجِزٍ، أَوْ قَالَ: لَيْسَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلَالَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْكَرَ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ، أَوِ الْبَعْثَ أَوِ الْحِسَابَ، أَوِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ غَيْرُ مَعَانِيهَا، أَوْ قَالَ: الْأَئِمَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِيمَنْ تَصِحُّ رِدَّتُهُ وَشَرْطُهَا التَّكْلِيفُ. فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، وَمَنِ ارْتَدَّ ثُمَّ جُنَّ لَا يُقْتَلُ فِي جُنُونِهِ، وَكَذَا مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا ثُمَّ جُنَّ، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجِعُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِقِصَاصٍ، أَوْ حَدِّ قَذْفٍ ثُمَّ جُنَّ، فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى فِي جُنُونِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِزِنَاهُ، ثُمَّ جُنَّ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هَذَا كُلُّهُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ، فَلَوْ قُتِلَ فِي حَالِ الْجُنُونُ، أَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَمَاتَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَتَصِحُّ رِدَّةُ السَّكْرَانِ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ فِي طَلَاقِهِ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، فَارْتَدَّ فِي سُكْرِهِ، أَوْ أَقَرَّ بِالرِّدَّةِ، وَجَبَ الْقَتْلُ، لَكِنْ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَفِيقَ فَيُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، وَفِي صِحَّةِ اسْتِتَابَتِهِ فِي السُّكْرِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ،

فصل

أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُؤَخَّرَ إِلَى الْإِفَاقَةِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ ; لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَزُولُ فِي ذَلِكَ الْحَالِ، وَلَوْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي السُّكْرِ، صَحَّ إِسْلَامُهُ، وَارْتَفَعَ حُكْمُ الرِّدَّةِ، وَسَبَقَ ذِكْرُ طَرِيقِ أَنَّهُ يَصِحُّ تَصَرُّفُ السَّكْرَانِ فِيمَا عَلَيْهِ دُونَ مَالِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ صَحَّحْنَا إِسْلَامَهُ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ قَوْلٌ فِي إِهْدَارِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ رِدَّةُ السَّكْرَانِ، فَقُتِلَ تَعَلَّقَ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ، وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ: تَجِبُ الدِّيَةُ دُونَ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوِ ارْتَدَّ صَاحِيًا، ثُمَّ سَكِرَ فَأَسْلَمَ، حَكَى ابْنُ كَجٍّ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِسْلَامًا، وَالْقِيَاسُ جَعْلُهُ عَلَى الْخِلَافِ. فَصْلٌ الْمُؤْمِنُ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فَتَكَلَّمَ بِهَا، لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ، فَلَا تَبِينُ زَوْجَتُهُ، وَلَوْ مَاتَ وَرِثَهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَسَبَقَ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ بِالْإِكْرَاهِ، وَأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَثْبُتَ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِهَا، وَهَلْ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرِّدَّةِ مُطْلَقًا، أَمْ لَا تُقْبَلُ حَتَّى يُفْصَلَ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يُوجِبُهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِرِدَّتِهِ فَقَالَ: كَذَبَا، أَوْ مَا ارْتَدَدْتُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَا يُغْنِيهِ التَّكْذِيبُ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا، وَلَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ فِي بَيْنُونَةِ زَوْجَتِهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ شَرَطْنَا التَّفْصِيلَ، فَفَصَّلَا، وَكَذَّبَهُمَا، فَلَوْ قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا فِيمَا فَعَلْتُهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ تَشْهَدُ لَهُ، بِأَنْ كَانَ فِي أَسْرِ الْكُفَّارِ، أَوْ كَانَ مَحْفُوفًا بِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَهُوَ مُسْتَشْعِرٌ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» وَغَيْرُهُ: وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِإِقْرَارِهِ بِالْبَيْعِ

وَغَيْرِهِ وَكَانَ مُقَيَّدًا أَوْ مَحْبُوسًا، فَقَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا، وَإِنْ لَمْ تَشْهَدِ الْقَرَائِنُ بِصِدْقِهِ، بِأَنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مُخْلًى آمِنٌ، وَلَوْ لَمْ يَقُلِ الشَّاهِدَانِ: ارْتَدَّ، بَلْ قَالَا: تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَقَالَ: صَدَقَا، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ مُكْرَهًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَتَابَعُوهُ عَلَيْهِ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبُ الشَّاهِدِ بِخِلَافِ مَا إِذَا شَهِدَ بِالرِّدَّةِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يُنَافِي الرِّدَّةَ وَلَا يُنَافِي التَّلَفُّظَ بِكَلِمَتِهَا، قَالَ الشَّيْخُ: وَالْجَزْمُ أَنْ يُجَدِّدَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ قُتِلَ قَبْلَ التَّجْدِيدِ، فَهَلْ يَكُونُ قَتْلُهُ مَضْمُونًا ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَثْبُتْ أَمْ لَا ; لِأَنَّ لَفْظَ الرِّدَّةِ وُجِدَ وَالْأَصْلُ الِاخْتِيَارُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ قَالَ الْإِمَامُ: وَالْقَوْلَانِ إِذَا لَمْ يَدَّعِ الْإِكْرَاهَ، أَوْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا ادَّعَاهُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ، فَقَدْ ثَبَتَ الْإِكْرَاهُ بِالْحُجَّةِ، فَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ مَضْمُونٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِرِدَّةِ الْأَسِيرِ، وَلَمْ يَدَّعِ إِكْرَاهًا، حُكِمَ بِرِدَّتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا حُكِيَ عَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّهُ لَوِ ارْتَدَّ أَسِيرٌ مَعَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ أَحَاطَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَاطَّلَعَ مِنَ الْحِصْنِ وَقَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ وَإِنَّمَا تَشَبَّهْتُ بِهِمْ خَوْفًا، قُبِلَ قَوْلُهُ وَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ارْتَدَّ طَائِعًا، وَإِنْ مَاتَ أَسِيرًا، وَعَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِتَلَفُّظِ رَجُلٍ بِالْكُفْرِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ أَوْ مُقَيَّدٌ، لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّاهِدَانِ لِلْإِكْرَاهِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَكَانَ يَسْجُدُ لِلصَّنَمِ، وَيَتَكَلَّمُ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا، فَإِنْ فَعَلَهُ فِي مَكَانٍ خَالٍ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ فَعَلَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قُبِلَ قَوْلُهُ إِنْ كَانَ أَسِيرًا، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا، فَلَا. فَرْعٌ مَاتَ مَعْرُوفٌ بِالْإِسْلَامِ عَنِ ابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَاتَ

مُسْلِمًا، وَقَالَ الْآخَرُ: كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَمَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبَهُ، فَقَالَ: سَجَدَ لِصَنَمٍ، أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ كَفَرَ بِهِ، فَلَا إِرْثَ لَهُ، وَيُصْرَفُ نَصِيبُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: يُصْرَفُ إِلَيْهِ نَصِيبُهُ وَلَا أَثَرَ لِإِقْرَارِهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ كُفْرًا، وَالثَّانِي: يُجْعَلُ فَيْئًا، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ: يَسْتَفْصِلُ، فَإِنْ ذَكَرَ مَا هُوَ كُفْرٌ، كَانَ فَيْئًا، وَإِنْ ذَكَرَ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ، صُرِفَ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: مَاتَ كَافِرًا ; لِأَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُ الْخِنْزِيرَ، فَهَلْ يَرِثُهُ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. فَرْعٌ تَلَفَّظَ أَسِيرٌ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ مُكْرَهًا، لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، فَإِنْ مَاتَ هُنَاكَ، مَاتَ مُسْلِمًا وَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، عُرِضَ عَلَيْهِ الدِّينُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِيمَا أَتَى بِهِ، وَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، أَحَدُهَا: أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ الْعَرْضَ، وَشَرَطَ لَهُ ابْنُ كَجٍّ أَنْ لَا يَؤُمَّ الْجَمَاعَاتِ وَلَا يُقْبِلَ عَلَى الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْعَوْدِ إِلَيْنَا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا عَرْضَ. الثَّانِي: سَكَتَ الْجُمْهُورُ عَنْ كَوْنِ هَذَا الْعَرْضِ مُسْتَحَبًّا أَمْ وَاجِبًا، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: مُسْتَحَبٌّ ; لِأَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ. الثَّالِثُ: إِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ الْعَرْضِ، فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَيُسْتَدَلُّ بِامْتِنَاعِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا عِنْدَ التَّلَفُّظِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ بِكُفْرِهِ مِنْ يَوْمئِذٍ، قَالَ الْإِمَامُ: وَفِي الْحُكْمِ بِكُفْرِهِ احْتِمَالٌ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْعَرْضِ وَالتَّلَفُّظِ بِالْإِسْلَامِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْنَا، وَقِيلَ: يَمُوتُ كَافِرًا وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ إِذَا جَاءَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ. فَرْعٌ ارْتَدَّ الْأَسِيرُ مُخْتَارًا ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ،

فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ; لِأَنَّهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ، وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَدْ تَكُونُ لِلتَّقِيَّةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: هِيَ إِسْلَامٌ، ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ وَقَالَ: الْوَجْهُ فِي قِيَاسِ الْمُرَاوَزَةِ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَيْسَ إِسْلَامًا، كَمَا لَوْ رَأَيْنَا الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ يُصَلِّي فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَسَوَّى صَاحِبُ «الْبَيَانِ» بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْمُرْتَدِّ، فَقَالَ: إِذَا صَلَّى الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَلَوْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُحْكَمْ بِهِ. قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ صَاحِبِ «الْبَيَانِ» هُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَقَدْ سَبَقَتْ حِكَايَةُ الرَّافِعِيِّ لَهُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَشَذَّ الْمُتَوَلِّي، فَحَكَاهُ هُنَاكَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِسْلَامًا مِنَ الْأَصْلِيِّ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ ; لِأَنَّ عَلَقَةَ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ فِي الْمُرْتَدِّ، فَصَلَاتُهُ عَوْدٌ مِنْهُ إِلَى مَا كَانَ، ثُمَّ سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا وَإِمَامًا وَمُقْتَدِيًا، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ التَّشَهُّدُ فِيهَا، فَإِنْ سَمِعْنَاهُ، فَهُوَ مُسْلِمٌ حَيْثُ مَا كَانَ، وَأَيُّ كَافِرٍ كَانَ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَذَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الرِّدَّةِ أَحْكَامُهَا كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْأَبْوَابِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا نَفْسُهُ وَوَلَدُهُ وَمَالُهُ، أَمَّا نَفْسُهُ فَمُهْدَرَةٌ، فَيَجِبُ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ، سَوَاءٌ انْتَقَلَ إِلَى دِينِ أَهْلِ كِتَابٍ أَمْ لَا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ تَابَ وَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَإِسْلَامُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا فَارْتَدَّ، أَوْ كَافِرًا أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكُفْرُ الَّذِي ارْتَدَّ إِلَيْهِ كُفْرًا ظَاهِرًا، أَوْ غَيْرَهُ كَكُفْرِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرَ الْكُفْرِ، أَوْ زِنْدِيقًا يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ، وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الرِّدَّةُ وَالْإِسْلَامُ، أَمْ لَا،

فَيُقْبَلُ إِسْلَامُ الزِّنْدِيقِ وَمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ وَغَيْرُهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ إِسْلَامُ الزِّنْدِيقِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا، وَالثَّالِثُ عَنِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ: أَنَّ الْمُتَنَاهِينَ فِي الْخُبْثِ، كَدُعَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ، لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ وَرُجُوعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُقْبَلُ مِنْ عَوَامِّهِمْ، وَالرَّابِعُ عَنِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: أَنَّهُ إِنْ أُخِذَ لِيُقْتَلَ، فَتَابَ، لَمْ تُقْبَلْ، وَإِنْ جَاءَ تَائِبًا ابْتِدَاءً، وَظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الصِّدْقِ، قُبِلَتْ، وَالْخَامِسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يُقْبَلُ إِسْلَامُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، وَعَلَى الصَّحِيحِ إِذَا تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ عُزِّرَ. وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِضَرْبِ الرَّقَبَةِ دُونَ الْإِحْرَاقِ وَغَيْرِهِ، وَيَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ وَلَّاهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ عُزِّرَ، وَيُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ قَبْلَ قَتْلِهِ، وَهَلِ الِاسْتِتَابَةُ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا: وَاجِبَةٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِي قَدْرِهَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَظْهَرُهُمَا: فِي الْحَالِ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَمْ يُمْهَلْ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ الْإِمْهَالُ ثَلَاثًا قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُخَلَّى فِي مُدَّةِ الْإِمْهَالِ، بَلْ يُحْبَسُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ، أَوْ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِمْهَالِ، لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُسِيئًا بِفِعْلِهِ. فَرْعٌ إِذَا وَجَبَ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ إِمَّا فِي الْحَالِ، وَإِمَّا بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ، فَقَالَ: عَرَضَتْ لِي شُبْهَةٌ فَأَزِيلُوهَا لِأَعُودَ إِلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ نُنَاظِرُهُ لِإِزَالَتِهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى السَّيْفِ، وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّ الشُّبَهَ لَا تَنْحَصِرُ، فَيُورِدُ بَعْضَهَا بِإِثْرِ بَعْضٍ فَتَطُولُ الْمُدَّةُ، فَحَقُّهُ أَنْ يُسْلِمَ، ثُمَّ يَسْتَكْشِفُهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ، وَحَكَى

فصل

الرُّويَانِيُّ الثَّانِي عَنِ النَّصِّ، وَاسْتَبْعَدَ الْخِلَافَ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنَا جَائِعٌ فَأَطْعِمُونِي، ثُمَّ نَاظِرُونِي، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ، أَخَّرْنَاهُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْمُرْتَدِّ بِحَالٍ، سَوَاءٌ فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ. فَصْلٌ أَمَّا وَلَدُ الْمُرْتَدِّ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا، أَوِ انْعَقَدَ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَمُسْلِمٌ، حَتَّى لَوِ ارْتَدَّتْ حَامِلٌ، لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّةِ الْوَلَدِ، فَإِنْ بَلَغَ وَأَعْرَبَ بِالْكُفْرِ، كَانَ مُرْتَدًّا بِنَفْسِهِ، وَإِنْ حَدَثَ الْوَلَدُ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا، فَهُوَ مُسْلِمٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَا مُرْتَدَّيْنِ، فَهَلْ هُوَ مُسْلِمٌ، أَمْ مُرْتَدٌّ، أَمْ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: مُسْلِمٍ. قُلْتُ: كَذَا صَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ، فَتَابَعَهُ الرَّافِعِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَبِهِ قَطَعَ جَمِيعُ الْعِرَاقِيِّينَ، نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ «الْمُجَرَّدِ» أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ أَمْ مُرْتَدٌّ، وَالْأَظْهَرُ: مُرْتَدٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُسْلِمٌ، لَا يُسْتَرَقَّ بِحَالٍ، وَإِنْ مَاتَ صَغِيرًا وَرِثَهُ قَرَابَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَيُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِنْ كَانَ رَقِيقًا، وَإِنْ بَلَغَ وَأَعْرَبَ بِالْكُفْرِ، فَمُرْتَدٌّ، وَإِنْ قُلْنَا: كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ عَقْدُ الْجِزْيَةِ مَعَهُ إِذَا بَلَغَ وَهُوَ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فِي كُلِّ مَعْنًى، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْدُ جِزْيَةٍ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ كِتَابِيًّا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُرْتَدٌّ، لَمْ يُسْتَرَقَّ بِحَالٍ، وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيُسْتَتَابَ، فَإِنْ أَصَرَّ، قُتِلَ، وَأَوْلَادُهُ أَوْلَادُ الْمُرْتَدِّينَ، حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ.

فصل

قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوْ كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ مُرْتَدًّا وَالْآخَرُ كَافِرًا أَصْلِيًّا، فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا كَانَا مُرْتَدَّيْنِ يَكُونُ الْوَلَدُ مُسْلِمًا، كَانَ هُنَا مُسْلِمًا أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا: يَكُونُ هُنَاكَ مُرْتَدًّا أَوْ كَافِرًا أَصْلِيًّا، كَانَ هُنَا كَافِرًا أَصْلِيًّا، يُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ إِنْ كَانَ الْأَصْلِيُّ مِمَّنْ يُقَرِّبُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مَجُوسِيًّا وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلِيُّ كِتَابِيًّا، كَانَ الْوَلَدُ كِتَابِيًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ إِذَا نَقَضَ الْعَهْدَ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَتَرَكَ وَلَدَهُ عِنْدَنَا، لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ، فَإِذَا بَلَغَ وَقَبِلَ الْجِزْيَةَ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَا يُجْبَرُ وَيُلْحَقُ بِالْمَأْمَنِ، وَفِي وَجْهٍ: يُسْتَرَقُّ وَلَدُهُ بِلُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَفِي وَجْهٍ: إِنْ هَلَكَ هُنَاكَ، أَوِ اسْتُرِقَّ، اسْتُرِقَّ وَلَدُهُ. فَصْلٌ وَأَمَّا مَالُهُ، فَهَلْ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: نَعَمْ لِزَوَالِ عِصْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: لَا، كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَأَظْهَرُهَا: مَوْقُوفٌ، فَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا، بَانَ زَوَالُهُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ، بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ; لِأَنَّ بُطْلَانَ أَعْمَالِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَوْتِهِ مُرْتَدًّا، فَكَذَا مِلْكُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِاسْتِمْرَارِ مِلْكِهِ، وَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ بِالرِّدَّةِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَالْخِلَافُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ يَجْرِي فِي ابْتِدَاءِ التَّمَلُّكِ إِذَا اصْطَادَ أَوِ احْتَطَبَ، فَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ، قَالَ الْإِمَامُ: ظَاهِرُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ فِيمَا اصْطَادَ وَاحْتَطَبَ، كَمَا يَحْصُلُ مِلْكُ السَّيِّدِ فِيمَا احْتَطَبَ الْعَبْدُ، قَالَ: وَلْيَكُنْ شِرَاؤُهُ وَاتِّهَابُهُ، كَشِرَاءِ الْعَبْدِ وَاتِّهَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، حَتَّى يَجِيءَ الْخِلَافُ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى الْإِبَاحَةِ كَمَا إِذَا اصْطَادَ الْمُحْرِمُ لَا يَمْلِكُهُ، وَيَبْقَى الصَّيْدُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَبْقَى مِلْكُ الْمُرْتَدِّ فِيمَا احْتَطَبَهُ، أَوِ اصْطَادَهُ

مِلْكَهُ كَالْحَرْبِيِّ، وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَمَوْقُوفٌ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، بَانَ أَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ يَوْمِ الْأَخْذِ، وَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا، قَالَ الْمُتَوَلِّيَ: حُكِمَ بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بَاقٍ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، تُقْضَى مِنْ مَالِهِ دُيُونُهُ الَّتِي لَزِمَتْهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الْمَوْتِ، وَقَدْ تَكُونُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ مِنَ الدَّيْنِ اللَّازِمِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَلَا تَكُونُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ مِنْهُ لِسُقُوطِهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا تُقْضَى دُيُونُهُ عَلَى قَوْلِ زَوَالِ الْمِلْكِ، وَيُجْعَلُ الْمَالُ كَالتَّالِفِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا فِي مُدَّةِ الرِّدَّةِ، فَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ كَحَاجَةِ الْمَيِّتِ إِلَى الْكَفَنِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ الْوَكِيلِ، أَنَّهُ لَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ زَوَالِ الْمِلْكِ، بَلْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مُدَّةَ الِاسْتِتَابَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ زَوْجَاتِهِ الْمَوْقُوفِ نِكَاحُهُنَّ، وَنَفَقَةٌ قَرِيبَةٌ، وَغَرَامَةُ مَا يُتْلِفُهُ مِنَ الرِّدَّةِ عَلَى قَوْلِ زَوَالِ الْمِلْكِ؟ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ وَالْإِصْطَخْرِيِّ: لَا، وَاخْتَارَهُ الْمُتَوَلِّي، إِذْ لَا مِلْكَ لَهُ وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ مَنْ حَفَرَ بِئْرَ عُدْوَانٍ، وَمَاتَ، وَحَصَلَ بِهَا إِتْلَافٌ، يُؤْخَذُ الضَّمَانُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْمَوْتِ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ، فَأَسْلَمَ، عَادَ مِلْكُهُ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ إِزَالَةَ مِلْكِهِ عُقُوبَةٌ، فَعَادَ بِالتَّوْبَةِ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ بِبَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِعْتَاقٍ وَوَصِيَّةٍ وَغَيْرِهَا ; لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَفِي الشِّرَاءِ مَا سَبَقَ عَنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَبْقَى مِلْكُهُ، مُنِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ، نَظَرًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَهَلْ يَصِيرُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاضِي؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ:

قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَخُصَّ الْخِلَافُ بِقَوْلِنَا: مِلْكُهُ مَوْقُوفٌ، ثُمَّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، هَلْ هُوَ كَحَجْرِ السَّفِيهِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ أَمْ كَحَجْرِ الْمُفْلِسِ ; لِأَنَّهُ لِصِيَانَةِ حَقِّ غَيْرِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، فَإِنْ قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاضِي، وَلَمْ يُضْرَبْ نَفَذَتْ تَصَرُّفَاتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ الْحَجْرُ بِلَا ضَرْبٍ أَوْ بِالضَّرْبِ فَضُرِبَ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَحَجْرِ السَّفَهِ، لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ فِي الْحَالِ فِي الْمَالِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ، لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَمُفْلِسٍ، فَهَلْ تَبْطُلُ تَصَرُّفَاتُهُ أَمْ تُوقَفُ؟ قَوْلَانِ كَمَا فِي الْمُفْلِسِ، وَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَبِالْعَيْنِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمُفْلِسِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَقْفِ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَحْتَمِلُ الْوَقْفَ، كَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ، مَوْقُوفٌ أَيْضًا، وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالْكِتَابَةُ وَنَحْوُهَا، فَهِيَ عَلَى قَوْلِي وَقْفُ الْعُقُودِ، فَعَلَى الْجَدِيدِ هِيَ بَاطِلَةٌ، وَعَلَى الْقَدِيمِ تُوقَفُ، إِنْ أَسْلَمَ حُكِمَ بِصِحَّتِهَا، وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ وَلَا إِنْكَاحُهُ، لِسُقُوطِ وِلَايَتِهِ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ عَلَى قَوْلِنَا: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ إِذَا لَمْ يَحْجُرِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ تَصَرُّفِهِ الْمَالِيِّ، قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ قَوِيٍّ، وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ بِهَذَا. فَرْعٌ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لَا يَعْتِقُ بِالرِّدَّةِ مُدَبَّرُ الْمُرْتَدِّ، وَلَا أُمُّ وَلَدِهِ، فَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا، عَتِقَتِ الْمُسْتَوْلَدَةُ، وَفِي الْمُدَبَّرِ كَلَامٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ الْتَحَقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَمْ كَانَ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ يُوضَعُ مَالُ مُرْتَدٍّ عِنْدَ عَدْلٍ، وَأَمَتُهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ; لِأَنَّا وَإِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ، فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ، فَيُحْتَاطُ، وَيُؤَجَّرُ عَقَارُهُ وَرَقِيقُهُ وَأُمُّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرُهُ، وَيُؤَدِّي مُكَاتَبُهُ النُّجُومَ إِلَى

فصل

الْحَاكِمِ، وَإِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَرَأَى الْحَاكِمُ الْحَظَّ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ، فَعَلَ، وَإِذَا ارْتَدَّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَإِنْ قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ، حَلَّ الدَّيْنُ كَمَا لَوْ مَاتَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ، لَمْ يَحِلَّ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَقْفِ، فَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ، وَإِذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَتَهُ، نَفَذَ الِاسْتِيلَاءُ إِنْ أَبْقَيْنَا مِلْكَهُ، وَإِنْ أَزَلْنَاهُ فَلَا، فَإِنْ أَسْلَمَ، فَقَوْلَانِ، كَمَا لَوِ اسْتَوْلَدَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، فَتَمَّ الْبَيْعُ. فَصْلٌ إِذَا ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ، وَامْتَنَعُوا بِحِصْنٍ وَغَيْرِهِ، وَجَبَ قِتَالُهُمْ، وَيُقَدَّمُ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَغْلَظُ، وَلِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُتْبَعُ فِي الْقِتَالِ مُدْبِرُهُمْ، وَيُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَمَنْ ظَفِرْنَا بِهِ، اسْتَتَبْنَاهُ، وَهَلْ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ فِي الْقِتَالِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ، وَإِذَا أَتْلَفَ الْمُرْتَدُّ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالْقِصَاصُ، وَيُقَدَّمُ الْقِصَاصُ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ، فَإِنْ بَادَرَ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ عَنِ الرِّدَّةِ، أَوْ عَفَا الْمُسْتَحِقُّ، أَوْ مَاتَ الْمُرْتَدُّ، أُخِذَتِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ جَنَى خَطَأً وَمَاتَ، أَوْ قَتَلَ مُرْتَدًّا، أُخِذَتِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِهِ عَاجِلًا، وَلَوْ وُطِئَتْ مُرْتَدَّةٌ بِشُبْهَةٍ أَوْ مُكْرَهَةً، فَإِنْ قُلْنَا: الرِّدَّةُ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ وُطِئَتْ زَانِيَةٌ مُحْصَنَةٌ بِشُبْهَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ وُطِئَتْ حَرْبِيَّةٌ بِشُبْهَةٍ، فَلَا مَهْرَ ; لِأَنَّ مَالَهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَكَذَا مَنْفَعَةُ بُضَعِهَا، وَمَالُ الْمُرْتَدَّةِ مَضْمُونٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ مِلْكُهَا، لَمْ يَجِبْ، كَمَا لَوْ وَطِئَ مَيِّتَةً عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا حَيَّةٌ بِشُبْهَةٍ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ، فَالْمَهْرُ مَوْقُوفٌ، وَلَوْ أُكْرِهَ مُرْتَدٌّ عَلَى عَمَلٍ، فَالْقَوْلُ فِي أُجْرَةِ مِثْلِهِ كَمَا فِي الْمَهْرِ، وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ وَسَمَّى أُجْرَةً، بُنِيَ عَلَى صِحَّةِ عُقُودِهِ، وَحُكْمُ الْمُسَمَّى إِنْ صَحَّحْنَا

فصل

عُقُودَهُ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ إِنْ لَمْ نُصَحِّحْهَا حُكْمَ الْمَهْرِ، وَلَوْ زَنَى فِي رِدَّتِهِ، أَوْ شَرِبَ، فَهَلْ يَكْفِي قَتْلُهُ، أَمْ يُحَدُّ ثُمَّ يُقْتَلُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَصْلٌ فِيمَا تَحْصُلُ بِهِ تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ وَفِي مَعْنَاهَا إِسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ. وَقَدْ وَصَفَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوْبَتَهُ فَقَالَ: أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَبْرَأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ، صَارَ مُسْلِمًا، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ قَوْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، بَلْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِاخْتِلَافِ الْكُفَّارِ وَعَقَائِدِهِمْ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ الْكَافِرُ وَثَنِيًّا أَوْ ثَنَوِيًّا لَا يُقِرُّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْوَحْدَانِيَّةِ، مُنْكِرًا نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ يَقُولُ: الرِّسَالَةُ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَقُولَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، أَوْ يَبْرَأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَإِنْ كَانَ كُفْرُهُ بِجُحُودِ فَرْضٍ أَوِ اسْتِبَاحَةِ مُحَرَّمٍ، لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَرْجِعَ عَمَّا اعْتَقَدَهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُمْتَحَنَ كُلُّ كَافِرٍ أَسْلَمَ بِالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَلَوْ قَالَ كَافِرٌ: أَنَا وَلِيُّ مُحَمَّدٍ، لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ كَذَا وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِثْلُكُمْ، أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ آمَنْتُ، أَوْ أَسْلَمْتُ، لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ دِينُكُمْ حَقٌّ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ عَلَى خِلَافِ عَقِيدَتِهِ، كَفَرْضِيَّةِ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ، أَوْ أَقَرَّ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَمَا يَصِيرُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَافِرًا إِذَا جَحَدَهُ، يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسَلَّمًا إِذَا أَقَرَّ بِهِ، وَيُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ

سَائِرِ الْأَحْكَامِ، فَإِنِ امْتَنَعَ، قُتِلَ كَالْمُرْتَدِّ، وَلَوْ أَقَرَّ يَهُودِيٌّ بِرِسَالَةِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي قَوْلٍ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ جَحَدَ رِسَالَتَهُ، كَفَرَ، نَقَلَ هَذَا كُلَّهُ الْبَغَوِيُّ وَهُوَ طَرِيقَةٌ، ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ أَنَّ الْإِمَامَ نَسَبهَا إِلَى الْمُحَقِّقِينَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ خِلَافُهَا. فَرْعٌ فِي «الْمِنْهَاجِ» لِلْإِمَامِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ غَيْرُ اللَّهِ، أَوْ لَا إِلَهَ سِوَى اللَّهِ، أَوْ مَا عَدَا اللَّهَ، أَوْ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا الرَّحْمَنُ، أَوْ لَا رَحْمَنَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا الْبَارِئُ، أَوْ لَا بَارِئَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَحْمَدُ أَوْ أَبُو الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ كَافِرٌ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ قَبْلَ ذَلِكَ، صَارَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَقُولَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْتُ بِمَا كُنْتُ أُشْرِكُ بِهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَوْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ، كَقَوْلِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِكَافِرٍ: أَسْلِمْ لِلَّهِ، أَوْ آمِنْ بِاللَّهِ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ أَوْ آمَنْتُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ مُؤْمِنًا، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَوْ أُسْلِمُ لِلَّهِ، فَهُوَ إِيمَانٌ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ، يَمِينٌ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَعْدِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: اللَّهُ رَبِّي، أَوِ اللَّهُ خَالِقِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دِينٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهُوَ إِيمَانٌ، وَإِنْ كَانَ يَقُولُ بِقِدَمِ شَيْءٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يُقِرَّ بِأَنَّهُ لَا قَدِيمَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَالَ: لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ الْمُشَبِّهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَمْ يَكُنْ إِسْلَامًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنَ التَّشْبِيهِ وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

جَاءَ بِنَفْيِ التَّشْبِيهِ، كَانَ مُؤْمِنًا، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنَ التَّشْبِيهِ، وَطَرْدِ هَذَا التَّفْصِيلِ فِيمَا إِذَا قَالَ مَنْ يَزْعُمُ قِدَمَ أَشْيَاءَ مَعَ اللَّهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَنْفِي ذَلِكَ، كَانَ مُؤْمِنًا، وَأَنَّ الثَّنَوِيَّ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنَ الْقَوْلِ بِقِدَمِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ أَنْ لَا قَدِيمَ إِلَّا اللَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا، وَأَنَّ الْوَثَنِيَّ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَثَنَ شَرِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، صَارَ مُؤْمِنًا. وَإِنْ كَانَ يَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ وَيُعَظِّمُ الْوَثَنَ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَةِ الْوَثَنِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْبُرْهُمِيُّ وَهُوَ الْمُوَحِّدُ الْجَاحِدُ لِلرُّسُلِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، صَارَ مُؤْمِنًا، وَلَوْ أَقَرَّ بِرِسَالَةِ نَبِيٍّ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَيَجِيءُ فِيهِ الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ فِي يَهُودِيٍّ أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الْمُعَطِّلَ إِذَا قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَدْ قِيلَ يَكُونُ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمُرْسَلَ وَإِنَّ الْكَافِرَ لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، صَارَ مُؤْمِنًا. وَلَوْ قَالَ: آمَنْتُ بِالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَوْ بِمَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ الْوَثَنَ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ، كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ لِإِثْبَاتِهِ الْإِلَهَ، وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقُولَ: بِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، أَوْ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، إِيمَانٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ الرَّسُولِ، لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالرَّسُولَ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّ الْفَلْسَفِيَّ إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِلَّةُ الْمَوْجُودَاتِ أَوْ مُبْدِؤُهَا أَوْ سَبَبُهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِيمَانًا حَتَّى يُقِرَّ أَنَّهُ مُخْتَرِعٌ لِمَا سِوَاهُ وَمُحْدِثُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ

إِلَّا الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، فَإِنْ لَمْ يَكُ مِنَ الطَّبَائِعِيِّينَ كَانَ مُؤْمِنًا، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ، فَلَا حَتَّى يَقُولَ: إِلَّا اللَّهُ، أَوْ إِلَّا الْبَارِيُ، أَوِ اسْمًا آخَرَ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ فِيهِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الْمَالِكُ، أَوِ الرَّازِقُ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ السُّلْطَانَ الَّذِي يَمْلِكُ أَمْرَ الْجُنْدِ وَيُرَتِّبُ أَرْزَاقَهُمْ، وَلَوْ قَالَ: لَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ لَا رَازِقَ إِلَّا اللَّهُ، كَانَ مُؤْمِنًا، وَبِمَثَلِهِ أَجَابَ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَزِيزُ، أَوِ الْعَظِيمُ، أَوِ الْحَكِيمُ، أَوِ الْكَرِيمُ، وَبِالْعُكُوسِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، أَوْ إِلَّا مَلِكُ السَّمَاءِ، كَانَ مُؤْمِنًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ. وَلَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا سَاكِنُ السَّمَاءِ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ ; لِأَنَّ السُّكُونَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ إِنْ شَاءَ، أَوْ إِنْ كَانَ شَاءَ بِنَا، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْيَهُودِيَّ: أَنَا بَرِئٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ، أَوْ نَصَرَانِيٌّ: أَنَا بَرِيءٌ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ ضِدُّ الْيَهُودِيَّةِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ تُخَالِفُ الْإِسْلَامَ، فَلَيْسَ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي التَّعْطِيلَ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ وَلَيْسَ بِمِلَّةٍ، فَإِنْ قَالَ: مِنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ مِنْ دِينٍ وَرَأْيٍ وَهَوًى، كَانَ مُؤْمِنًا، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: الْإِسْلَامُ حَقٌّ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ بِالْحَقِّ وَلَا يَنْقَادُ لَهُ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا حَكَيْنَا عَنِ الْبَغَوِيِّ فِي قَوْلِهِ: دِينُكُمْ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِمُعْتَقِدِ مِلَّةٍ: أَسْلِمْ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ، أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ، لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُسَمِّي دِينَهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إِسْلَامًا، وَلَوْ قَالَ فِي جَوَابِهِ: أَنَا مُسْلِمٌ مِثْلُكُمْ، كَانَ مُقِرًّا بِالْإِسْلَامِ، وَلَوْ قِيلَ لِمُعَطِّلٍ: أَسْلِمْ، فَقَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ، أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ مُقِرًّا بِالْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ يُسَمِّيهِ إِسْلَامًا، وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي هَذَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب حد الزنا

كِتَابُ حَدِّ الزِّنَا هُوَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْكَبَائِرِ، وَمُوجِبٌ لِلْحَدِّ، وَفِيهِ بَابَانِ الْأَوَّلُ: فِيمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَمَعْرِفَةُ الْحَدِّ. وَضَابِطُ الْمُوجِبِ أَنَّ إِيلَاجَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ مِنَ الذَّكَرِ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ يُشْتَهَى طَبْعًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ، فَإِنْ كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا، فَحَدُّهُ الرَّجْمُ وَلَا يُجْلَدُ مَعَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُجْلَدُ، ثُمَّ يُرْجَمُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصِنٍ، فَوَاجِبُهُ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَيْنِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُحْصَنِ هُنَا ثَلَاثُ صِفَاتٍ. إِحْدَاهَا: التَّكْلِيفُ، فَلَا حَدَّ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، لَكِنْ يُؤَدَّبَانِ بِمَا يَزْجُرُهُمَا. الثَّانِيَةُ: الْحُرِّيَّةُ، فَلَيْسَ الرَّقِيقُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَمَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ مُحْصَنِينَ. الثَّالِثَةُ: الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَيَكْفِي تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مِمَّنْ يُنْزِلُ، وَيَحْصُلُ بِوَطْءٍ فِي الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ، وَعِدَّةِ الشُّبْهَةِ، وَلَا يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَهَلْ يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ؟ قَوْلَانِ، الْمَشْهُورُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: لَا، وَهَلْ يَحْصُلُ بِوَطْءِ زَوْجَةٍ قَبْلَ التَّكْلِيفِ وَالْحُرِّيَّةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: لَا، فَلَا يَجِبُ الرَّجْمُ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ رَقِيقٌ، ثُمَّ زَنَى بَعْدَ كَمَالِهِ، وَحُكِيَ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِوَطْءِ الصَّبِيِّ دُونَ الرَّقِيقِ، وَوَجْهٌ رَابِعٌ عَكْسُهُ، فَإِنْ شَرَطْنَا وُقُوعَهُ فِي حَالِ الْكَمَالِ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الزَّانِي الْآخَرَ كَامِلًا حِينَئِذٍ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: لَا. فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَامِلًا دُونَ الْآخَرِ، صَارَ الْكَامِلُ مُحْصَنًا ; لِأَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا

فصل

غَيْرَ كَامِلٍ، لَمْ يَصِرِ الْكَامِلُ مُحْصَنًا، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ نَقْصُ النَّاقِصِ بِالرِّقِّ، صَارَ الْكَامِلُ مُحْصَنًا، وَإِنْ كَانَ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، فَلَا، وَقَالَ الْإِمَامُ: هَذَا الْخِلَافُ فِي صَغِيرَةٍ أَوْ صَغِيرٍ لَا يَشْتَهِيهِ الْجِنْسُ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا، حَصَلَ قَطْعًا. فَرْعٌ إِذَا زَنَى الْبِكْرُ بِمُحْصَنَةٍ، أَوِ الْمُحْصِنُ بِبِكْرٍ، رُجِمَ الْمُحْصَنُ مِنْهُمَا، وَجُلِدَ الْآخَرُ وَغُرِّبَ. فَرْعٌ الرَّقِيقُ يُجْلَدُ خَمْسِينَ، سَوَاءٌ فِيهِ الْقِنُّ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، وَفِيمَنْ نَصِفُهُ حُرٌّ وَنَصِفُهُ رَقِيقٌ وَجْهُ أَنَّهُ يُحَدُّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ حَدِّ الْحُرِّ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ وَوَافَقَ نَوْبَةَ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ حَدُّ الْحُرِّ، وَإِلَّا فَحَدُّ الْعَبْدِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهَلْ يُغَرَّبُ الْعَبْدُ نِصْفَ سَنَةٍ أَمْ سَنَةً أَمْ لَا يُغَرَّبُ؟ أَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا: الْأَوَّلُ. فَصْلٌ فِي تَغْرِيبِ الْحُرِّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: تُغَرَّبُ الْمَرْأَةُ كَمَا يُغَرَّبُ الرَّجُلُ، لَكِنْ هَلْ تُغَرَّبُ وَحْدَهَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، هَكَذَا أَطْلَقَ مُطْلِقُو الْوَجْهَيْنِ، وَخَصَّهُمَا الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ بِمَا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ يُسَافِرُ مَعَهَا، وَفِي النِّسْوَةِ الثِّقَاتِ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ وَجْهَانِ، وَرُبَّمَا اكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِوَاحِدَةٍ ثِقَةٍ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، فَتَطَوَّعَ الزَّوْجُ، أَوْ مَحْرَمٌ بِالسَّفَرِ، أَوْ وُجِدَتْ نِسْوَةٌ ثِقَاتٌ يُسَافِرْنَ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجِ الْمَحْرَمُ وَلَا الزَّوْجُ إِلَّا

بِأُجْرَةٍ، أُعْطِيَ أُجْرَةً، وَهَلْ هِيَ فِي مَالِهَا أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ وَجْهَانِ كَأُجْرَةِ الْجَلَّادِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ بِأُجْرَةٍ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي الْحَجِّ، فَعَلَى هَذَا قِيَاسُ اشْتِرَاطِ الْمَحْرَمِ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّغْرِيبَ حَتَّى يَتَيَسَّرَ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّهَا تُغَرَّبُ، وَيَحْتَاطُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْإِجْبَارِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فَاجْتَمَعَ مَحْرَمَانِ أَوْ مُحْرِمٌ وَزَوْجٌ فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْأَصْحَابُ. قُلْتُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ كَنَظَائِرِهِ، أَحَدُهُمَا: الْإِقْرَاعُ، وَالثَّانِي: يُقَدِّمُ بِاجْتِهَادِهِ مَنْ يَرَاهُ، وَهَذَا أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: يُغَرَّبُ الزَّانِي إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ دُونَهَا، وَقِيلَ: يَكْفِي التَّغْرِيبُ إِلَى مَوْضِعٍ لَوْ خَرَجَ الْمُبَكِّرُ إِلَيْهِ، لَمْ يَرْجِعْ بِيَوْمِهِ، لِإِطْلَاقِ لَفْظِ التَّغْرِيبِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ التَّغْرِيبَ إِلَى فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَعَلَ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ مَوْضِعٌ صَالِحٌ لَمْ يَجُزِ التَّغْرِيبُ إِلَى مَا فَوْقَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، غَرَّبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ، وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مِصْرَ، وَالْبَدَوِيُّ يُغَرِّبُ عَنْ حِلَّتِهِ وَقَوْمِهِ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الْإِقَامَةِ بَيْنَهُمْ، وَلَوْ عَيَّنَ السُّلْطَانُ جِهَةً لِتَغْرِيبِهِ، فَطَلَبَ الزَّانِي جِهَةً غَيْرَهَا، فَهَلْ يُجَابُ أَمْ يَتَعَيَّنُ مَا عَيَّنَهُ الْإِمَامُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا يُرْسِلُهُ الْإِمَامُ إِرْسَالًا بَلْ يُغَرِّبُهُ إِلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا غُرِّبَ إِلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ، فَهَلْ يُمْنَعُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ. الثَّالِثَةُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا يُمَكَّنُ الْمُغَرَّبُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ أَهْلَهُ وَعَشِيرَتَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْحِشُ حِينَئِذٍ، وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ جَارِيَةً يَتَسَرَّى

بِهَا، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلنَّفَقَةِ وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ خَرَجَ مَعَهُ عَشِيرَتُهُ، لَمْ يُمْنَعُوا. الرَّابِعَةُ: الْغَرِيبُ إِذَا زَنَى، يُغَرَّبُ مِنْ بَلَدِ الزِّنَا تَنْكِيلًا وَإِبْعَادًا عَنْ مَوْضِعِ الْفَاحِشَةِ، لَا يُغَرَّبُ إِلَى بَلَدِهِ وَلَا إِلَى بَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَلَوْ رَجَعَ هَذَا الْغَرِيبُ إِلَى بَلَدِهِ فَهَلْ يُمْنَعُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، ثُمَّ هَذَا فِي غَرِيبٍ لَهُ وَطَنٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، بِأَنْ هَاجَرَ حَرْبِيٌّ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَتَوَطَّنْ بَلَدًا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَتَوَقَّفُ الْإِمَامُ حَتَّى يَتَوَطَّنَ بَلَدًا ثُمَّ يُغَرِّبُهُ، وَلَوْ زَنَى مُسَافِرٌ فِي طَرِيقِهِ، غُرِّبَ إِلَى غَيْرِ مَقْصِدِهِ. الْخَامِسَةُ: إِذَا رَجَعَ الْمُغَرَّبُ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ مِنْهُ، رُدَّ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ، وَهَلْ تُسْتَأْنَفُ الْمُدَّةَ أَمْ يَبْنِي؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: تُسْتَأْنَفُ، وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ تَفْرِيقُ سَنَةِ التَّغْرِيبِ. السَّادِسَةُ: لَا يُعْتَقَلُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ، لَكِنْ يُحْفَظُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ، فَإِنِ احْتِيجَ إِلَى الِاعْتِقَالِ خَوْفًا مِنْ رُجُوعِهِ اعْتُقِلَ. السَّابِعَةُ: لَوْ زَنَى ثَانِيًا فِي الْبَلَدِ الْمُغَرَّبِ فِيهِ، غُرِّبَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَتَدْخُلُ بَقِيَّةُ مُدَّةِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْحَدَّيْنِ مِنْ جِنْسٍ فَيَتَدَاخَلَانِ. الثَّامِنَةُ: لَوْ أَرَادَ الْحَاكِمُ تَغْرِيبَهُ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ، وَغَابَ سَنَةً، ثُمَّ عَادَ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: يَكْفِيهِ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْكِيلُ، وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَغْرِيبِ الْإِمَامِ. التَّاسِعَةُ: قَالَ ابْنُ كَجٍّ: مُؤْنَةُ الْمُغَرَّبِ بِقَدْرِ مُؤْنَةِ الْحَضِرِ فِي مَالِهِ، وَمَا زَادَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا غَرِيبٌ.

فصل

قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّ الْجَمِيعَ فِي مَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ: يَجُوزُ تَقْدِيمُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ. فَرْعٌ ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُغَرَّبَ أَنْ يُقِيمَ فِي بَلَدٍ الْغُرْبَةِ حَتَّى يَكُونَ كَالْحَبْسِ لَهُ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ كَالنُّزْهَةِ، وَمِمَّا يُنَاسِبُ التَّغْرِيبَ النَّفْيُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيُ الْمُخَنَّثِينَ وَهُوَ تَعْزِيرٌ. فَرْعٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِحْصَانِ الْإِسْلَامُ، فَإِذَا زَنَى ذِمِّيٌّ مُكَلَّفٌ حُرٌّ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، رُجِمَ، وَلَوِ ارْتَدَّ مُحْصَنٌ، لَمْ يَبْطُلْ إِحْصَانُهُ، فَلَوْ زَنَى فِي الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ رُجِمَ. فَصْلٌ قَوْلُنَا: إِيلَاجُ الْفَرَجِ فِي الْفَرْجِ، يَدْخُلُ فِيهِ اللِّوَاطُ، وَهُوَ مِنَ الْفَوَاحِشِ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ لَاطَ بِذَكَرٍ، فَفِي عُقُوبَةِ الْفَاعِلِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: أَنَّ حَدَّهُ حَدُّ الزِّنَا، فَيُرْجَمُ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَيُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا، وَالثَّانِي: يُقْتَلُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهْ، وَفِي كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: بِالسَّيْفِ كَالْمُرْتَدِّ، وَالثَّانِي: يُرْجَمُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَالثَّالِثُ، يُهْدَمُ عَلَيْهِ جِدَارٌ، أَوْ يُرْمَى مِنْ شَاهِقٍ حَتَّى يَمُوتَ أَخْذًا مِنْ عَذَابِ قَوْمِ لُوطٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا بِالسَّيْفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مُكْرَهًا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا مَهْرَ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبُضَعِ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا طَائِعًا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْفَاعِلَ يُقْتَلُ، قُتِلَ الْمَفْعُولُ بِهِ بِمَا يُقْتَلُ الْفَاعِلُ، وَإِنْ قُلْنَا: حَدَّهُ حَدُّ الزِّنَا، جُلِدَ الْمَفْعُولُ بِهِ وَغُرِّبَ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، فَطَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ كَاللِّوَاطِ بِذَكَرٍ، فَيَجِيءُ فِي الْفَاعِلِ الْقَوْلَانِ، وَتَكُونُ عُقُوبَةُ الْمَرْأَةِ الْجَلْدَ وَالتَّغْرِيبَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: هُوَ زِنًى فِي حَقِّهَا، فَتَرْجَمُ الْمُحْصَنَةُ، وَتَجْلَدُ وَتُغَرَّبُ غَيْرُهَا، وَلَوْ لَاطَ بِعَبْدِهِ، فَهُوَ كَاللِّوَاطِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ وَاجِبَهُ التَّعْزِيزُ، وَقِيلَ: فِي وُجُوبِ الْحَدِّ قَوْلَانِ، كَوَطْءِ الْأُخْتِ الْمَمْلُوكَةِ. فَرْعٌ الْمُفَاخَذَاتُ وَمُقَدِّمَاتُ الْوَطْءِ، وَإِتْيَانُ الْمَرْأَةِ، لَا حَدَّ فِيهَا، وَلَوْ وَجَدْنَا رَجُلًا وَامْرَأَةً أَجْنَبِيَّيْنِ تَحْتَ لِحَافٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ نَحُدَّهُمَا، وَيَجِبُ التَّعْزِيرُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَوْ وَجَدْنَا بِامْرَأَةٍ خَلِيَّةً حَبَلًا، أَوْ وَلَدَتْ وَأَنْكَرَتِ الزِّنَا، فَلَا حَدَّ. قُلْتُ: وَلَوْ لَمْ تُنْكِرْ، وَلَمْ تَعْتَرِفْ، بَلْ سَكَتَتْ فَلَا حَدَّ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ بِبَيِّنَةٍ أَوِ اعْتِرَافٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالِاسْتِمْنَاءُ حَرَامٌ، وَفِيهِ التَّعْزِيرُ، وَلَوْ مَكَّنَ امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ مِنَ الْعَبَثِ بِذَكَرِهِ، فَأَنْزَلَ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي أَوَّلِ فَتَاوِيهِ: يُكْرَهُ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعَزْلِ.

فصل

فَصْلٌ أَمَّا قَوْلُنَا: الْمُشْتَهِي طَبْعًا، فَيَحْتَرِزُ عَنْ صُورَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: إِذَا أَوْلَجَ فِي فَرْجِ مَيْتَةٍ، فَلَا حَدَّ فِي الْأَصَحِّ، الثَّانِيَةُ: إِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ حَرَامٌ، وَفِي وَاجِبِهِ أَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا: التَّعْزِيرُ، وَالثَّانِي: الْقَتْلُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَالثَّالِثُ: حَدُّ الزِّنَا، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: وَاجِبُهُ وَاجِبُ اللِّوَاطِ، وَقِيلَ: التَّعْزِيزُ قَطْعًا، فَإِنْ قُلْنَا: يُقْتَلُ، فَفِي كَيْفِيَّتِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي اللِّوَاطِ، وَفِي قَتْلِ الْبَهِيمَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهُمَا: تُقْتَلُ الْمَأْكُولَةُ دُونَ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ أَتَاهَا فِي دُبُرِهَا أَوْ قُبُلِهَا، وَقِيلَ: إِنْ أَتَاهَا فِي دُبُرِهَا، لَمْ نَقْتُلْهَا، وَهَلْ يَحِلُّ أَكْلُهَا إِذَا كَانَتْ مَأْكُولَةً فَذُبِحَتْ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَقِيلَ: يَحِلُّ قَطْعًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ، فَهَلْ يَجِبُ ضَمَانُهَا إِذَا كَانَتْ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، فَعَلَى هَذَا هَلِ الضَّمَانُ عَلَى الْفَاعِلِ أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ كَالْوَجْهَيْنِ فِي أُجْرَةِ الْجَلَّادِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَحِلُّ أَكْلُهَا، فَفِي التَّفَاوُتِ بَيْنَ قِيمَتِهَا حَيَّةً وَمَذْبُوحَةً الْوَجْهَانِ، وَلَوْ مَكَّنَتِ امْرَأَةٌ قِرْدًا مِنْ نَفْسِهَا، كَانَ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ أَتَى الرَّجُلُ بَهِيمَةً، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَثْبُتُ اللِّوَاطُ وَإِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ عُدُولٍ، وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ التَّعْزِيرُ، كَفَى عَدْلَانِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ. فَصْلٌ أَمَّا قَوْلُنَا: لَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَالشُّبْهَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فِي الْمَحَلِّ وَالْفَاعِلِ وَالْجِهَةِ. أَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، فَوَطْءُ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ وَالْمُحْرِمَةِ، وَأَمَتِهِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ، لَا حَدَّ فِيهِ، وَلَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ

عَلَيْهِ بِمَحْرَمِيَّةِ رِضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، كَأُخْتِهِ مِنْهُمَا وَبِنْتِهِ وَأُمِّهِ مِنْ رِضَاعٍ، وَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ، لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، أَوِ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ، أَوْ أَسْلَمَتْ أَمَةُ ذِمِّيٍّ فَوَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا حَدَّ، ثَبَتَ النَّسَبُ وَالْمُصَاهَرَةُ، وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: يَثْبُتُ النِّسَبُ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِلِ، فَمِثْلُ أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً فِي فِرَاشِهِ، فَيَطَأَهَا ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ، فَلَا حَدَّ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الزِّفَافِ أَوْ غَيْرَهَا، وَلَوْ ظَنَّهَا جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ فَكَانَتْ غَيْرَهَا، وَقُلْنَا: لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوَطْءِ الْمُشْتَرِكَةِ، قَالَ الْإِمَامُ: فِيهِ تَرَدُّدٌ، يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا حَدَّ ; لِأَنَّهُ ظَنَّ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُحَدُّ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَإِنَّمَا جَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَمْتَنِعَ. قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ فِي نَظَائِرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: كُلُّ جِهَةٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا، لَا حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ، وَذَلِكَ كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِلَا شُهُودٍ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ، وَقِيلَ: يَجِبُ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَى مَنِ اعْتَقَدَ الْإِبَاحَةَ أَيْضًا، كَمَا يَحُدُّ الْحَنَفِيُّ عَلَى شُرْبِ النَّبِيذِ، وَلَوْ وَطِئَ الْمَرْهُونَةَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ.

فَرْعٌ لَوْ تَزَوَّجَ بِنْتَهُ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ مَحَارِمِهِ بِنَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، أَوْ مَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، أَوْ مَنْ لَاعَنَهَا، أَوْ نَكَحَ مَنْ تَحْتَهُ أَرْبَعٌ خَامِسَةً، أَوْ نَكَحَ أُخْتًا عَلَى أُخْتٍ، أَوْ مُعْتَدَّةً أَوْ مُرْتَدَّةً، أَوْ نَكَحَ ذَاتَ زَوْجٍ، أَوْ نَكَحَ كَافِرٌ مُسْلِمَةً وَوَطِئَ عَالِمًا بِالْحَالِ، وَجَبَ الْحَدُّ ; لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ مَحَلًّا لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِتَحْرِيمِهِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الْحَدُّ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ فِيمَنْ نَكَحَ أُخْتَهُ مِنْ رِضَاعٍ، وَوَطِئَ وَادَّعَى جَهْلَ التَّحْرِيمِ، قَوْلَيْنِ فِي تَصْدِقِيهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِي الْأُخْتِ مِنَ النَّسَبِ، وَلَوْ نَكَحَ وَثَنِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَجَبَ الْحَدُّ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» : لَا حَدَّ فِي الْمَجُوسِيَّةِ لِلْخِلَافِ، وَلَوِ ادَّعَى الْجَهْلَ بِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً، أَوْ مُزَوَّجَةً، حَلَفَ إِنْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ مُمْكِنًا، وَلَا حَدَّ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ نَقَلَ أَنَّ الْيَمِينَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: عَلِمْتُ أَنِّي مُعْتَدَّةٌ أَوْ مُزَوَّجَةٌ، حُدَّتْ، وَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْوَاطِئُ، وَلَوِ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً، فَزَنَى بِهَا، لَزِمَهَا الْحَدُّ وَلَوْ أَبَاحَتْ لَهُ الْوَطْءَ لَزِمَهُمَا الْحَدُّ، وَلَوْ أَبَاحَ وَطْءَ جَارَيْتَهُ لِغَيْرِهِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الرَّهْنِ، وَلَوْ زَنَتْ خَرْسَاءُ بِنَاطِقٍ، أَوْ عَكْسُهُ، أَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَهُ عَلَيْهَا قِصَاصٌ، لَزِمَهُمَا الْحَدُّ، وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْأَخْرَسِ، وَلَوْ زَنَى مُكَلَّفٌ بِمَجْنُونَةٍ، أَوْ مُرَاهِقَةٍ، أَوْ نَائِمَةٍ، حُدَّ، وَلَوْ مَكَّنَتْ مُكَلَّفَةٌ مَجْنُونًا أَوْ مُرَاهِقًا، أَوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَ نَائِمٍ، لَزِمَهَا الْحَدُّ، وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتُ بِهَا، فَأَنْكَرَتْ، لَزِمَهُ حَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ الْقَذْفِ، وَلَوْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَهُ هُنَاكَ إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً، وَفِي قَوْلٍ: لَا يُقِيمُهُ هُنَاكَ.

فصل

فَصْلٌ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَدِّ كَوْنُ الْفَاعِلِ مُخْتَارًا مُكَلَّفًا، فَلَوْ أُكْرِهَ رَجُلٌ عَلَى الزِّنَا، فَزَنَى لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا حَدَّ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، وَمَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ: لَمْ أَعْلَمِ التَّحْرِيمَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَوْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَلَمْ يَعْلَمْ تَعَلُّقُ الْحَدِّ بِهِ، فَقَدْ جَعَلَهُ الْإِمَامُ عَلَى التَّرَدُّدِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَنْ وَطِئَ مَنْ يَظُنُّهَا مُشْتَرَكَةً فَكَانَتْ غَيْرَهَا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْجَزْمُ بِوُجُوبِ الْحَدِّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ يُشْتَرَطُ لِلْحَدِّ ثُبُوتُ الزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً تُوجِبُ الْحَدَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لِلشُّهُودِ تَرْكُ الشَّهَادَةِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّ الشَّاهِدَ إِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الشَّهَادَةِ، شَهِدَ، وَإِنْ رَآهَا فِي السَّتْرِ، سَتَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ، لَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَا الشَّفَاعَةُ فِيهِ، وَإِذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِزِنًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ سَقَطَ الْحَدُّ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الرُّجُوعُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَالسَّتْرِ ابْتِدَاءً، وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّ الْهَتْكَ قَدْ حَصَلَ.

قُلْتُ: مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فَهُوَ الرَّاجِحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ، فَهُوَ مُقِرٌّ بِالزِّنَا قَاذِفٌ لَهَا، فَإِنْ أَنْكَرَتْ، أَوْ قَالَتْ: كَانَ تَزَوَّجَنِي، لَزِمَهُ حَدُّ الْقَذْفِ، فَإِنْ رَجَعَ، سَقَطَ حَدُّ الزِّنَا وَحْدَهُ، وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتُ بِهَا مُكْرَهَةً، لَمْ يَجِبْ حَدُّ الْقَذْفِ، وَيَجِبْ مَعَ حَدِّ الزِّنَا الْمَهْرُ، وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ بِالرُّجُوعِ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ مَا أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ، تُرِكَ الْبَاقِي، وَلَوْ قَتَلَهُ شَخْصٌ بَعْدَ الرُّجُوعِ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا ابْنُ كَجٍّ، وَقَالَ: الْأَصَحُّ لَا يَجِبُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِالرُّجُوعِ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ مَا جُلِدَ بَعْضُ الْحَدِّ، فَأَتَمَّ الْإِمَامُ الْحَدَّ، فَمَاتَ مِنْهُ، وَالْإِمَامُ يَعْتَقِدُ سُقُوطَ الْحَدِّ بِالرُّجُوعِ، فَنَقَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ قَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ، أَمْ يُوَزَّعُ عَلَى السِّيَاطِ؟ قَوْلَانِ، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: عِنْدِي لَا قِصَاصَ، وَالرُّجُوعُ كَقَوْلِهِ: كَذَبْتُ، أَوْ رَجَعْتُ عَمَّا أَقْرَرْتُ بِهِ، أَوْ مَا زَنَيْتُ، أَوْ كُنْتُ فَاخَذْتُ، أَوْ لَمَسْتُ فَظَنَنْتُهُ زِنًا، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهِ بِالزِّنَا، فَقَالَ: مَا أَقْرَرْتُ، أَوْ قَالَ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِإِقْرَارِهِ: مَا أَقْرَرْتُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِ ; لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلشُّهُودِ وَالْقَاضِي، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: يُقْبَلُ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَرِفٍ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قَالَ: لَا تُقِيمُوا عَلَيَّ الْحَدَّ، أَوْ هَرَبَ، أَوِ امْتَنَعَ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ، فَهَلْ هُوَ رُجُوعٌ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، لَكِنْ يُخَلَّي فِي الْحَالِ وَلَا يُتْبَعُ، فَإِنْ رَجَعَ فَذَاكَ، وَإِلَّا أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ، وَلَوْ أُتْبِعَ الْهَارِبُ، فَرُجِمَ، فَلَا ضَمَانَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ فِي قَضِيَّةِ مَاعِزٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْئًا، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، كَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، وَفِي الرُّجُوعِ عَنِ

الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ خِلَافٌ يَأْتِي فِي السَّرِقَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ لَوْ تَابَ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ، فَهَلْ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: لَا يَسْقُطُ، لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرَ، ثُمَّ قِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَنْ تَابَ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي، فَأَمَّا بَعْدَهُ، فَلَا يَسْقُطُ قَطْعًا، وَقِيلَ: هُمَا فِي الْحَالَيْنِ. فَرْعٌ إِذْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ، لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ بِرُجُوعٍ وَلَا بِالْتِمَاسِ تَرْكِ الْحَدِّ، وَلَا بِالْهَرَبِ وَلَا غَيْرِهَا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ الْإِمَامُ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا، ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا، ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ، هَلْ يُحَدُّ؟ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: نَعَمْ، وَأَبُو إِسْحَاقَ: لَا، إِذْ لَا أَثَرَ لِلْبَيِّنَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَقَدْ بَطَلَ الْإِقْرَارُ. فَرْعٌ الْكَلَامُ فِي عَدَدِ الشُّهُودِ لِزِنًا وَرُجُوعِ بَعْضِهِمْ أَوْ كُلِّهِمْ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَهُنَاكَ يُذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَفْسِيرُ الزِّنَا بِخِلَافِ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: زَنَيْتَ، كَانَ قَاذِفًا لِحُصُولِ الْعَارِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا التَّفْسِيرُ كَالشَّهَادَةِ أَمْ لَا كَالْقَذْفِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الِاشْتِرَاطُ أَقْوَى، وَيَسْتَأْنِسُ فِيهِ بِقِصَّةِ مَاعِزٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسَوَاءٌ شَهِدُوا بِالزِّنَا فِي مَجْلِسٍ، أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ، وَلَوْ شَهِدُوا ثُمَّ غَابُوا، أَوْ مَاتُوا، فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَيُقِيمَ الْحَدَّ. وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالزِّنَا بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَنِ، وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا، وَشَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَنَّهَا عَذْرَاءُ، فَلَا حَدَّ لِلشُّبْهَةِ، وَلَوْ قَذَفَهَا قَاذِفٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ حَدُّ الْقَذْفِ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ، وَاحْتِمَالِ عَوْدِ الْبَكَارَةِ، وَكَذَا لَا يَجِبْ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ، وَلَوْ أَقَامَتْ هِيَ أَرْبَعَةً عَلَى أَنَّهُ أَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَا وَطَلَبَتِ الْمَهْرَ، وَشَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَنَّهَا عَذْرَاءُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ; لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الْقَذْفِ لِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَنَّهَا عَذْرَاءُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ وَيَجِبُ الْمَهْرُ، وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَيْهَا بِالزِّنَا، وَشَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَنَّهَا رَتْقَاءُ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا، وَلَا عَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ ; لِأَنَّهُمْ رَمَوْا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْجِمَاعُ، وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا وَعَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَاوِيَةً مِنْ زَاوِيَا بَيْتٍ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَفِي وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ عَدَدُهُمْ فِي زَنْيَةٍ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ فُلَانًا أَكْرَهَ فُلَانَةَ عَلَى الزِّنَا، لَمْ يَثْبُتِ الزِّنَا وَهَلْ يَثْبُتُ الْمَهْرُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ بِالزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ هَلْ عَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ، إِنْ قُلْنَا: لَا، وَجَبَ الْمَهْرُ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً، وَآخَرُ أَنَّهُ زَنَى بِهَا طَائِعَةً، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا، وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ شَاهِدَيِ الطَّوَاعِيَةِ هَلْ عَلَيْهِمَا حَدُّ الْقَذْفِ لِلْمَرْأَةِ، قَوْلَانِ، إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَلَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ فَاسِقَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، وَجَبَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى زِنَاهُ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شَاهِدَيِ الْإِكْرَاهِ وَلَا يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ لِلرَّجُلِ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ فِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ إِلَى الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ، وَإِذَا أَمَرَ بِاسْتِيفَائِهِ، جَازَ لِلْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ حُضُورُ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ، وَلَا حُضُورُ الشُّهُودِ إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ حُضُورُهُمْ وَابْتِدَاؤُهُمْ بِالرَّجْمِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَوْفَى بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ. الثَّانِيَةُ: لَا يُقْتَلُ الْمُحْصَنُ بِالسَّيْفِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّمْثِيلُ بِهِ وَتَنْكِيلُهُ بِالرَّجْمِ فَيُرْجَمُ، وَلَيْسَ لِمَا يُرْجَمُ بِهِ تَقْدِيرٌ، لَا جِنْسًا وَلَا عَدَدًا، فَقَدْ تُصِيبُ الْأَحْجَارُ مَقَاتِلَهُ، فَيَمُوتُ سَرِيعًا، وَقَدْ تُبْطِئُ مَوْتَهُ، وَلَا يُرْمَى بِصَخْرَةٍ تُذَفِّفُ، وَلَا يَطُولُ تَعْذِيبُهُ بِالْحَصَيَاتِ الْخَفِيفَةِ، بَلْ يُحِيطُ النَّاسُ بِهِ فَيَرْمُونَهُ مِنَ الْجَوَانِبِ بِحِجَارَةٍ مُعْتَدِلَةٍ وَمَدَرٍ وَنَحْوِهَا حَتَّى يَمُوتَ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا لَمْ يُحْفَرْ لَهُ عِنْدَ الرَّجْمِ سَوَاءٌ ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالْإِقْرَارِ، وَفِي الْمَرْأَةِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْفَرَ إِلَى صَدْرِهَا لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا، وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ، بَلْ هُوَ إِلَى خِيرَةِ الْإِمَامِ، وَأَصَحُّهَا: إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْفَرَ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، فَلَا لِيُمْكِنَهَا الْهَرَبُ إِنْ رَجَعَتْ. الثَّالِثَةُ: الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الرَّجْمَ لَا يُؤَخَّرُ لِلْمَرَضِ ; لِأَنَّ نَفْسَهُ مُسْتَوْفَاةٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: إِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، أُخِّرَ حَتَّى يَبْرَأَ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ الرَّمْيِ فَيُعِينُ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ يَعُودُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُرْجَمُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ؟ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ الْجَلْدَ، فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا يُرْجَى زَوَالُهُ، أُخِّرَ حَتَّى يَبْرَأَ، وَكَذَا الْمَحْدُودُ وَالْمَقْطُوعُ فِي حَدٍّ وَغَيْرِهِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدٌّ آخَرَ حَتَّى

يَبْرَأَ، وَفِي وَجْهٍ: لَا يُؤَخَّرُ، بَلْ يُضْرَبُ فِي الْمَرَضِ بِحَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ ضَرْبٍ بِعِثْكَالٍ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ ضُرِبَ كَمَا يَحْتَمِلُهُ، ثُمَّ بَرَأَ هَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ وَلِيَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ تُؤَخَّرُ إِقَامَةُ الْجَلْدِ أَمْ تُسْتَوْفَى بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَالَّذِي جَرَى لَيْسَ بِحَدٍّ، فَلَا يَسْقُطُ كَمَا لَوْ جُلِدَ الْمُحْصَنِ لَا يَسْقُطُ الرَّجْمُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، لَمْ يَعُدِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، كَالسُّلِّ وَالزَّمَانَةِ، أَوْ كَانَ مُخَدَّجًا وَهُوَ الضَّعِيفُ الْخِلْقَةِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ السِّيَاطَ، لَمْ يُؤَخَّرْ إِذْ لَا غَايَةَ تُنْتَظَرُ، وَلَا يُضْرَبُ بِالسِّيَاطِ، بَلْ يُضْرَبُ بِعِثْكَالٍ عَلَيْهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، وَهُوَ الْغُصْنُ ذُو الْفُرُوعِ الْخَفِيفَةِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْعِثْكَالُ، بَلْ لَهُ الضَّرْبُ بِالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ والرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَلَوْ كَانَ عَلَى الْغُصْنِ مِائَةُ فَرْعٍ، ضُرِبَ بِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ، ضُرِبَ بِهِ مَرَّتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ، وَلَا يَكْفِي الْوَضْعُ عَلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِمَّا يُسَمَّى ضَرْبًا، وَيَنْبَغِي أَنْ تَمَسَّهُ الشَّمَارِيخُ، أَوْ يُنْكَبَسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِثِقَلِ الْغُصْنِ، وَيَنَالَهُ الْأَلَمُ، فَإِنْ لَمْ تَمَسَّهُ، وَلَا انْكَبَسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، أَوْ شُكَّ فِيهِ، لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ، وَفِي «النِّهَايَةِ» وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِيلَامُ، وَلَا تُفَرَّقُ السِّيَاطُ عَلَى الْأَيَّامِ، وَإِنِ احْتَمَلَ التَّفْرِيقَ، بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْمُمْكِنُ وَيُخْلَى سَبِيلُهُ، وَلَوْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ السِّيَاطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي جَلْدِ الزِّنَا، وَأَمْكَنَ ضَرْبُهُ بِقُضْبَانٍ وَسِيَاطٍ خَفِيفَةٍ فَقَدْ تَرَدَّدَ فِيهِ الْإِمَامُ وَقَالَ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالشَّمَارِيخِ، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالْأَسْوَاطِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى صُوَرِ الْحَدِّ، وَلَوْ بَرَأَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ بِالشَّمَارِيخِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ، وَإِنْ بَرَأَ بَعْدُ، لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ، وَفِي إِقَامَةِ الضَّرْبِ بِالشَّمَارِيخِ مَقَامُ الضَّرَبَاتِ وَالْجَلْدِ بِالسِّيَاطِ مَزِيدُ كَلَامٍ نَذْكُرُهُ فِي الْأَيْمَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَرْعٌ يُؤَخَّرُ قَطْعُ السَّرِقَةِ إِلَى الْبُرْءِ، وَلَوْ سَرَقَ مَنْ لَا يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، قُطِعَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِئَلَّا يُفَوَّتَ الْحَدُّ، وَلَوْ وَجَبَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى مَرِيضٍ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: يُقَالُ لِلْمُسْتَحَقِّ: اصْبِرْ إِلَى الْبُرْءِ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الضَّرْبِ بِالْعِثْكَالِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يُجْلَدُ بِالسِّيَاطِ، سَوَاءٌ يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ أَمْ لَا ; لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضِّيقِ، وَجَلْدُ الشُّرْبِ كَجَلْدِ الزِّنَا. فَرْعٌ الرَّابِعَةُ: لَا يُقَامُ الْجَلْدُ فِي حَرٍّ وَلَا بَرْدٍ شَدِيدَيْنِ، بَلْ يُؤَخَّرُ إِلَى اعْتِدَالِ الْوَقْتِ، وَكَذَا الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَأَمَّا الرَّجْمُ، فَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، لَمْ يُؤَخَّرْ ; لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ، وَكَذَا إِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ لَوْ جَلَدَ الْإِمَامُ فِي مَرَضٍ أَوْ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، فَهَلَكَ الْمَجْلُودُ بِالسِّرَايَةِ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ، وَنَصَّ أَنَّهُ لَوْ خُتِنَ أَقْلَفُ فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَهَلَكَ ضُمِنَ، فَقِيلَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهِمَا: قَوْلَانِ، وَقِيلَ: بِظَاهِرِ النَّصِيحَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّ الْجَلْدَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَالْخِتَانَ بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ، فَهَلْ يُضْمَنُ جَمِيعُهُ أَمْ نِصْفُهُ؟ وَجْهَانِ، وَهَلِ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ قَوْلَانِ سَبَقَا، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ لَمْ نُوجِبِ الضَّمَانَ فَالتَّأْخِيرُ مُسْتَحَبٌّ قَطْعًا، وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّأْخِيرَ وَاجِبٌ، وَضَمِنَاهُ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ التَّعْجِيلُ

وَلَكِنْ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ، وَفِي عِبَارَةِ الْغَزَالِيِّ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الرَّاجِحَ اسْتِحْبَابُ التَّأْخِيرِ، وَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرِهِ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ التَّأْخِيرِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى آحَادِ النَّاسِ تَفْوِيضُ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ إِلَى الْإِمَامِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي ضَمَانِهِ لَوْ بَادَرَ بِقَتْلِهِ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ وُجُوبُ التَّأْخِيرِ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ عَجَّلَ جَلْدَ الْمَرِيضِ قَبْلَ بُرْئِهِ، فَهَلَكَ، فَفِي ضَمَانِهِ الْخِلَافُ فِي الْجَلْدِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِلَا فَرْقٍ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي بَيَانِ مُسْتَوْفِيهِ. فَإِنْ كَانَ الْمَحْدُودُ حُرًّا، فَالْمُسْتَوْفِي الْإِمَامُ، أَوْ مَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ، وَحُكِيَ عَنِ الْقَفَّالِ رِوَايَةُ قَوْلِ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْآحَادِ اسْتِيفَاؤُهُ حِسْبَةً، كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا، فَلِسَيِّدِهِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلَهُ تَفْوِيضُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذَنِ الْإِمَامِ فِيهِ، وَسَوَاءٌ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، وَخَرَّجَ ابْنُ الْقَاصِّ قَوْلًا فِي الْعَبْدِ كَأَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِالْإِجْبَارِ عَلَى النِّكَاحِ وَلَمْ يُوَافِقْ عَلَيْهِ، بَلْ قَطَعَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ لَهُ إِقَامَتَهُ عَلَيْهِمَا، وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَيْضًا إِقَامَتُهُ عَلَى الرَّقِيقِ، وَمَنْ بَدَرَ إِلَيْهِ مِنْهُمَا وَقَعَ الْمَوْقِعَ، وَهَلِ الْأَوْلَى لِلسَّيِّدِ أَنْ يُقِيمَهُ بِنَفْسِهِ لِيَكُونَ أَسَتَرَ، أَمِ الْأَوْلَى تَفْوِيضُهُ إِلَى الْإِمَامِ، لِيَخْرُجَ مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِلْحَاقِهِ بِالْحُرِّ؟ وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ فِيهِ، وَلَا يُرَاعَى الْخُرُوجُ مِنْ خِلَافٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَنَازَعَ فِي إِقَامَتِهِ الْإِمَامُ وَالسَّيِّدُ، فَأَيُّهُمَا أَوْلَى؟ فِيهِ احْتِمَالَاتٌ لِلْإِمَامِ، أَظْهَرُهَا: الْإِمَامُ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ، وَالثَّانِي: السَّيِّدُ لِغَرَضِ إِصْلَاحِ مِلْكِهِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ جَلْدًا فَالسَّيِّدُ، وَإِنْ كَانَ قَتْلًا أَوْ قَطْعًا، فَالْإِمَامُ ; لِأَنَّ إِعْمَالَ السِّلَاحِ بِصَاحِبِ الْأَمْرِ أَلْيَقُ، وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ يُقِيمُ حَدَّهُ مُلَّاكُهُ، وَتُوَزَّعُ السِّيَاطُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، فَإِنْ حَصَلَ كَسْرٌ، فَوَّضَ الْمُنْكَسِرَ إِلَى أَحَدِهِمْ، وَهَلْ يُغَرِّبُهُ السَّيِّدُ إِنْ قُلْنَا بِتَغْرِيبِ الْعَبْدِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّهُ بَعْضُ الْحَدِّ، وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ كَالْقِنِّ، وَالْمُكَاتَبِ كَالْحُرِّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ كَالْقِنِّ، وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَا يَحُدُّهُ إِلَّا الْإِمَامُ، وَهَلْ إِقَامَةُ السَّيِّدِ الْحَدَّ بِالْوِلَايَةِ عَلَى مِلْكِهِ، كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ، أَمْ تَأْدِيبًا وَإِصْلَاحًا، كَمُعَالَجَتِهِ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ فِيمَا يُقِيمُهُ السَّيِّدُ عَلَى رَقِيقِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، أَمَّا التَّعْزِيرُ، فَلَهُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا يُؤَدِّبُهُ لِحَقِّ نَفْسِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ التَّعْزِيرَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَيُفْتَقَرُ إِلَى اجْتِهَادِهِ، وَأَمَّا الْحُدُودُ، فَلَهُ الْجَلْدُ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، وَفِي الشُّرْبِ وَجْهٌ ; لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ فِي بُضْعِ أَمَتِهِ وَعَبْدِهِ حَقًّا، فَإِنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهِ بِخِلَافِ الشُّرْبِ، وَقِيَاسُ هَذَا الْفَرْقِ مَجِيءُ الْوَجْهِ فِي جَلْدِ الْقَذْفِ، وَهَلْ لَهُ قَطْعُهُ فِي السَّرِقَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَقَتْلُهُ فِي الرِّدَّةِ؟ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: نَعَمْ، لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ بِجَوَازِ الْقَطْعِ، وَأَجْرَى ابْنُ الصَّبَّاغِ وَجَمَاعَةٌ هَذَا الْخِلَافَ فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ قِصَاصًا، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْقَطْعَ وَالْقَتْلَ إِلَى الْإِمَامِ.

فَرْعٌ فِي أَحْوَالِ السَّيِّدِ إِنْ جَمَعَ شُرُوطَ الْوِلَايَةِ أَقَامَ الْحَدَّ، وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ امْرَأَةً، فَهَلْ تُقِيمُهُ هِيَ أَمِ السُّلْطَانُ أَمْ وَلِيُّهَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا الْأَوَّلُ، وَلِلْفَاسِقِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْكَافِرِ إِقَامَتُهُ عَلَى رَقِيقِهِمْ عَلَى الْأَصَحِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الْإِصْلَاحِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَحُدُّ عَبِيدَ مَكَاتَبِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَحُدُّهُمُ الْمُكَاتَبُ إِذْ لَا تَصَرُّفَ لَهُ فِيهِمْ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِكَافِرٍ أَنْ يَحُدَّ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ بِحَالٍ، وَهَلْ يُقِيمُ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْوَصِيُّ وَالْقَيِّمُ الْحَدَّ عَلَى رَقِيقِ الطِّفْلِ؟ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَفِيهِمَا الْوَجْهَانِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا: الْحَدُّ إِصْلَاحٌ، فَلَهُمْ إِقَامَتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: وِلَايَةٌ، فَفِيهِ الْخِلَافُ، وَهَلْ يَجُوزُ كَوْنُ السَّيِّدِ جَاهِلًا؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِصْلَاحٌ أَمْ وِلَايَةٌ؟ وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِقَدْرِ الْحَدِّ وَكَيْفِيَّتِهِ. فَرْعٌ الْعُقُوبَةُ الَّتِي يُقِيمُهَا السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ، يُقِيمُهَا إِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ عِنْدَهُ بِمُوجِبِهَا، فَلَوْ شَاهَدَهُ السَّيِّدُ، فَلَهُ إِقَامَتُهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَهُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ بِذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِقَامَةَ هَذَا الْحَدِّ، فَيَسْمَعُ بَيِّنَتَهُ كَالْإِمَامِ، وَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِصِفَاتِهِمْ، وَأَحْكَامِ الْحُدُودِ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ سَمَاعُهَا، وَإِنَّمَا يَحُدُّهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ. فَرْعٌ قَذْفُ رَقِيقِ زَوْجَتِهِ الرَّقِيقَةِ، هَلْ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا السَّيِّدُ كَمَا يُقِيمُ الْحَدَّ؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَذَفَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ، فَلَهُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَذَفَ

السَّيِّدُ عَبْدَهُ، فَلَهُ رَفْعُ الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي لِيُعَزِّرَهُ، وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ، ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ وَاسْتُرِقَّ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، وَيُقِيمُهُ الْإِمَامُ لَا السَّيِّدُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا يَوْمَئِذٍ، وَلَوْ زَنَى عَبْدٌ، فَبَاعَهُ سَيِّدُهُ، فَإِقَامَةُ الْحَدِّ إِلَى الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِحَالِ الِاسْتِيفَاءِ. فَرْعٌ مَنْ قُتِلَ حَدًّا بِالرَّجْمِ وَغَيْرِهِ، غُسِّلَ وَكُفِّنَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.

كتاب حد القذف

كِتَابُ حَدِّ الْقَذْفِ الْقَذْفُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا، فَلَا حَدَّ عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَمُكْرَهٍ، وَيُعَزَّرُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ حُرًّا، فَحَدُّهُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا، أَوْ مُكَاتَبًا، أَوْ مُدَبَّرًا، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ بَعْضُهُ حُرٌّ فَأَرْبَعُونَ جَلْدَةً، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مُحْصَنًا، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ بَيَانُ مَا يَحْصُلُ بِهِ إِحْصَانُهُ، وَلَا يُحَدُّ الْأَبُ وَالْجَدُّ بِقَذْفِ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُحَدُّ. قُلْتُ: الْأُمُّ وَالْجَدَّاتُ كَالْأَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ وَرِثَ مِنْ أَمَّهُ حَدَّ قَذْفٍ عَلَى أَبِيهِ، سَقَطَ، وَمَنْ قَذَفَ شَخَصَا بِزَنْيَتَيْنِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ عَلَيْهِ حَدًّا وَاحِدًا وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاحُهُ فِي اللِّعَانِ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ، أَوْ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي، فَقَدْ سَبَقَ فِي اللِّعَانِ أَنَّهُ قَذْفٌ، وَكَذَا لَوْ خَاطَبَ خُنْثَى بِأَحَدِ اللَّفْظَتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: زَنَى فَرْجُكَ وَذَكَرُكَ، فَقَذْفٌ صَرِيحٌ. وَلَوْ قَالَ: زَنَى فَرْجُكَ، أَوْ قَالَ: زَنَى ذَكَرُكَ، قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَذْفٌ صَرِيحٌ، وَالثَّانِي: كِنَايَةٌ، كَمَا لَوْ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى يَدِ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَصَرَائِحُ الْقَذْفِ وَكِنَايَاتُهُ سُبِقَتْ فِي اللِّعَانِ. فَصْلٌ قَالَ الْأَصْحَابُ: حَدُّ الْقَذْفِ وَإِنْ كَانَ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَفِيهِ مُشَابَهَةُ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَسَائِلَ:

فصل

إِحْدَاهَا: لَوْ قَالَ لَهُ: اقْذِفْنِي، فَقَذَفَهُ، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَجْهَانِ الْأَصَحُّ: لَا، وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَجِبُ. الثَّانِيَةُ: لَوِ اسْتَوْفَى الْمَقْذُوفُ حَدَّ الْقَذْفِ، لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ، كَحَدِّ الزِّنَا لَوِ اسْتَوْفَاهُ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: يَقَعُ الْمَوْقِعَ كَمَا لَوِ اسْتَقَلَّ الْمُقْتَصُّ بِقَتْلِ الْجَانِي. الثَّالِثَةُ: يَنْشَطِرُ بِالرِّقِّ كَمَا سَبَقَ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّ لَا تَخْتَلِفُ، قَالُوا: لَكِنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ لِمَسَائِلَ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِطَلَبِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ، وَيُورَثُ عَنْهُ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْحَدِّ عَلَى مَالٍ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مِنَ التَّعْرِيضِ فِي الْقَذْفِ أَنْ يَقُولَ: مَا أَنَا بِابْنِ إِسْكَافٍ وَلَا خَبَّازٍ، وَلَوْ قَالَ: يَا قَوَّادُ، فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي قَذْفِ زَوْجَةِ الْمُخَاطَبِ، لَكِنَّهُ كِنَايَةٌ، وَلَوْ قَالَ: يَا مُؤَاجِرُ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي قَذْفِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ شَيْخِهِ التَّيْمِيِّ: هُوَ صَرِيحٌ فِي قَذْفِهِ بِالتَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهِ، لِاعْتِيَادِ النَّاسِ الْقَذْفَ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ صَرِيحٌ مِنَ الْعَامِّيِّ فَقَطْ، وَلَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ، فَقَالَ: مَنْ رَمَانِي فَأُمُّهُ زَانِيَةٌ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الرَّامِيَ فَقَاذِفٌ، وَإِلَّا فَلَا. فَصْلٌ الرَّمْي بِالزِّنَا لَا فِي مَعْرِضِ الشَّهَادَةِ يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ، فَأَمَّا فِي

مَعْرِضِ الشَّهَادَةِ، فَيَنْظُرُ إِنْ تَمَّ الْعَدَدُ وَثَبَتُوا، أُقِيمَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَرْمِيِّ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ، بِأَنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ حَدُّ الْقَذْفِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، وَهُوَ نَصُّهُ قَدِيمًا وَجَدِيدًا ; لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا، وَلِئَلَّا تُتَّخَذَ صُورَةُ الشَّهَادَةِ ذَرِيعَةً إِلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ. وَلَوْ شَهِدَ عَلَى زِنَا امْرَأَةٍ زَوْجُهَا مَعَ ثَلَاثَةٍ، فَالزَّوْجُ قَاذِفٌ ; لِأَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا لَا تُقْبَلُ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْقَوْلَانِ، وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَوْ ذِمِّيُّونَ أَوْ عَبِيدٌ، أَوْ فِيهِمُ امْرَأَةٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ ذِمِّيٌّ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمْ قَذْفَةٌ فَيُحَدُّونَ ; لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَقْصِدُوا إِلَّا الْعَارَ، وَقِيلَ: فِيهِمُ الْقَوْلَانِ، وَصَوَّرَ الْإِمَامُ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إِذَا كَانُوا فِي ظَاهِرِ الْحَالِ بِصِفَةِ الشُّهُودِ، ثُمَّ بَانُوا عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا عَلِمَ حَالَهُمْ لَا يُصْغِي إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ قَذْفًا مَحْضًا لَا فِي مَعْرِضِ شَهَادَةٍ. وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةُ فُسَّاقٍ، أَوْ فِيهِمْ فَاسِقٌ، نُظِرَ إِنْ كَانَ فِسْقُهُمْ مَقْطُوعًا بِهِ، كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ، فَقِيلَ: فِيهِمُ الْقَوْلَانِ، وَقِيلَ: لَا يُحَدُّونَ قَطْعًا وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ ; لِأَنَّ نَقْصَ الْعَدَدِ مُتَيَقَّنٌ، وَفِسْقَهُمْ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالظَّنِّ، وَالْحَدَّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُمْ مُجْتَهَدًا فِيهِ، كَشُرْبِ النَّبِيذِ، لَمْ يُحَدُّوا قَطْعًا، وَفِي مَعْنَى الْفِسْقِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ، مَا إِذَا كَانَ فِيهِمْ عَدُوٌّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَاوَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَلَوْ حَدَدْنَا الْعَبِيدَ الَّذِينَ شَهِدُوا، فَعَتِقُوا وَأَعَادُوا الشَّهَادَةَ، قُبِلَتْ، وَلَوْ لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ، فَحَدَدْنَا مَنْ شَهِدَ، ثُمَّ عَادَ مَنْ يَتِمُّ بِهِ الْعَدَدُ فَشَهِدُوا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، كَالْفَاسِقِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ ثُمَّ يَتُوبُ وَيُعِيدُهَا، لَا تُقْبَلُ، وَهَذَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ هُوَ فِيمَنْ شَهِدَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، أَمَّا مَنْ شَهِدَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ، فَقَاذِفٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةَ.

فَرْعٌ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا، لَزِمَهُمْ حَدُّ الْقَذْفِ ; لِأَنَّهُمْ أَلْحَقُوا بِهِ الْعَارَ سَوَاءٌ تَعَمَّدُوا أَوْ أَخْطَئُوا ; لِأَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي تَرْكِ التَّثَبُّتِ، وَقِيلَ: فِي حَدِّهِمُ الْقَوْلَانِ ; لِأَنَّهُمْ شُهُودٌ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ، فَعَلَى الرَّاجِحِ الْحَدُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: بِالْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا مَنْ أَصَرَّ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: بِالْقَوْلَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَسَوَاءٌ الرُّجُوعُ بَعْدَ حُكْمِ الْقَاضِي بِالشَّهَادَةِ وَقَبْلَهُ، وَلَوْ شَهِدَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ، إِنْ بَقِيَ أَرْبَعَةٌ فَلَا حَدَّ عَلَى الرَّاجِعِينَ، وَإِلَّا فَعَلَى الرَّاجِعِينَ الْحَدُّ. فَرْعٌ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَلَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ، فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: فِي وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ الْقَوْلَانِ، وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِأَنْ لَا حَدَّ ; لِأَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَقْرَرْتُ بِأَنَّكَ زَنَيْتَ، وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْقَذْفِ وَالتَّعْيِيرِ. فَرْعٌ تَقَاذَفَ شَخْصَانِ، لَا يَتَقَاصَّانِ ; لِأَنَّ التَّقَاصِّ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، وَقَدْ سَبَقَ مُعْظَمُ مَسَائِلِ الْكِتَابِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب السرقة

كِتَابُ السَّرِقَةِ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِيمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَهُوَ السَّرِقَةُ وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: أَحَدُهَا: الْمَسْرُوقُ، وَلَهُ سِتَّةُ شُرُوطٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ نِصَابًا، وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ الْخَالِصِ، فَلَا قَطْعَ فِيمَا دُونَهُ، وَيُقْطَعُ بِرُبُعِ دِينَارٍ قُرَاضَةً بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ سَرَقَ دِينَارًا مَغْشُوشًا، فَإِنْ بَلَغَ خَالِصُهُ رُبُعًا، قُطِعَ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ سَرَقَ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرَهَا، قُوِّمَ بِالذَّهَبِ، وَحُكِيَ أَنَّ ابْنَ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اخْتَارَ مَذْهَبَ دَاوُدَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ، وَلَا يُعْتَبَرُ نِصَابٌ. قُلْتُ: هَذَا غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي اعْتِبَارِ رُبُعِ دِينَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالِاعْتِبَارُ بِالذَّهَبِ الْمَضْرُوبِ، فَبِهِ يَقَعُ التَّقْوِيمُ، حَتَّى لَوْ سَرَقَ شَيْئًا يُسَاوِي رُبُعَ مِثْقَالٍ مِنْ غَيْرِ الْمَضْرُوبِ، كَالسَّبِيكَةِ وَحُلِيٍّ لَا تَبْلُغُ رُبُعًا مَضْرُوبًا بِالْقِيمَةِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، وَجَزَمَ بِهِ الْعَبَّادِيُّ، وَلَوْ سَرَقَ خَاتَمًا وَزْنُهُ دُونَ رُبُعٍ، وَقِيمَتُهُ بِالصَّنْعَةِ تَبْلُغُ رُبُعًا، فَلَا قَطْعَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْوَزْنِ أَوْ بِالْقِيمَةِ، وَأَمَّا التِّبْرُ الَّذِي إِذَا خَلَصَ نَقُصَ، فَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ رُبُعٍ مِنْهُ، بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَخْلُصَ مِنْهُ رُبُعٌ، وَلَا سَرَقَ فُلُوسًا ظَنَّهَا دَنَانِيرَ، قُطِعَ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوسًا لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهَا نِصَابًا قُطِعَ، وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبًا خَسِيسًا وَفِي جَيْبِهِ رُبُعُ دِينَارٍ، أَوْ

مَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْحَالِ، وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ. فَرْعٌ لَوْ أَخْرَجَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ دُفْعَتَيْنِ فَصَاعِدًا، نُظِرَ إِنْ تَخَلَّلَ اطِّلَاعُ الْمَالِكِ وَإِعَادَتُهُ الْحِرْزَ بِإِصْلَاحِ النَّقْبِ أَوْ إِغْلَاقِ الْبَابِ، فَالْإِخْرَاجُ الثَّانِي سَرِقَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْمُخْرَجُ فِي كُلِّ دُفْعَةٍ دُونَ النِّصَابِ، لَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ، وَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلِ الِاطِّلَاعُ وَالْإِعَادَةُ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: يَجِبُ الْقَطْعُ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ عَادَ وَسَرَقَ ثَانِيًا بَعْدَمَا اشْتُهِرَ خَرَابُ الْحِرْزِ، وَعَلِمَ بِهِ النَّاسُ أَوِ الْمَالِكُ، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ، قُطِعَ، وَالرَّابِعُ: إِنْ عَادَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، قُطِعَ، وَإِنْ عَادَ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى، فَلَا، وَالْخَامِسُ: إِنْ لَمْ يُطِلِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِخْرَاجَيْنِ قُطِعَ، وَإِنْ طَالَ فَلَا، وَالسَّادِسُ: إِنْ كَانَ يُخْرِجُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَضَعُهُ خَارِجَ الْبَيْتِ أَوْ خَارِجَ الْبَابِ، حَتَّى تَمَّ نِصَابًا وَلَمْ يُفَارِقِ الْحِرْزَ، قُطِعَ، وَإِنْ ذَهَبَ بِالْمَسْرُوقِ أَوَّلًا إِلَى بَيْتِهِ وَنَحْوِهِ مُسْرِعًا وَعَادَ وَلَوْ مَعَ قُرْبِ الْفَصْلِ فَلَا قَطْعَ. فَرْعٌ انْثِيَالِ الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ فَتْحِ أَسْفَلِ وِعَائِهِ أَوْ نَحْوِهِ، هَلْ هُوَ كَإِخْرَاجِهِ بِالْيَدِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا ; لِأَنَّهُ خَرَجَ بِسَبَبٍ لَا مُبَاشَرَةٍ، وَالسَّبَبُ ضَعِيفٌ فَلَا يُقْطَعُ بِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ هَتَكَ الْحِرْزَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخْرَجَ بِيَدِهِ أَوِ انْثَالَ دُفْعَةً مَا يُسَاوِي نِصَابًا قُطِعَ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى التَّوَاصُلِ، أَوِ انْثَالَ كَذَلِكَ، قُطِعَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، وَلَوْ طَرَّ جَيْبَهُ أَوْ كُمَّهُ، فَسَقَطَتِ الدَّرَاهِمُ

شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانْثِيَالِ الْحُبُوبِ، وَلَوْ أَخَذَ طَرَفَ مِنْدِيلٍ أَوْ جِذْعٍ وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ جَرًّا قُطِعَ ; لِأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ أَخْرَجَ نِصْفَهُ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي الْحِرْزِ لِخَوْفٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا قَطْعَ وَإِنْ كَانَ حِصَّةُ الْمُخْرَجِ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ ; لِأَنَّهُ مَالٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَتِمَّ إِخْرَاجُهُ. فَرْعٌ لَوْ جَمَعَ مِنَ الْبَذْرِ الْمَبْثُوثِ فِي الْأَرْضِ مَا بَلَغَ نِصَابًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ مُحْرَزَةً، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ كَانَتْ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُقْطَعُ ; لِأَنَّ الْأَرْضَ تُعَدُّ بُقْعَةً وَاحِدَةً، وَالْبَذْرُ الْمُفَرَّقُ فِيهَا كَأَمْتِعَةٍ فِي زَوَايَا بَيْتٍ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُ إِحْرَازِ الْأَرْضِ. فَرْعٌ لَوْ أَخْرَجَ اثْنَانِ مِنْ حِرْزٍ نِصَابًا أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَبْلُغْ نِصَابَيْنِ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَخْرَجَا مَا يَبْلُغُ نِصَابَيْنِ، قُطِعَا جَمِيعًا، وَإِنِ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِإِخْرَاجٍ، قُطِعَ مَنْ بَلَغَ مَا أَخْرَجَهُ نِصَابًا دُونَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَا أَخْرَجَهُ نِصَابًا. فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ عَرَضًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ بِالِاجْتِهَادِ رُبُعَ دِينَارٍ فَقَدْ يُوجَدُ لِلْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ، وَالَّذِي أَرَى الْجَزْمَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَقْطَعِ الْمُقَوِّمُونَ بِبُلُوغِهَا نِصَابًا، وَلِلْمُقَوِّمِينَ قَطْعٌ وَاجْتِهَادٌ، وَالْقَطْعُ مِنْ جَمَاعَةٍ لَا يَزِلُّونَ مُعْتَبَرٌ، وَمِنْ جَمَاعَةٍ لَا يَبْعُدُ الزَّلَلُ مِنْهُمْ فِيهِ احْتِمَالَانِ، أَحَدُهُمَا: يَكْفِي، كَمَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ مَعَ احْتِمَالِ الْغَلَطِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَسْتَنِدُ إِلَى مُعَايَنَةٍ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» : لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِسَرِقَةٍ، فَقَوَّمَ أَحَدُهُمَا الْمَسْرُوقَ نِصَابًا، وَالْآخَرَ دُونَهُ، فَلَا قَطْعَ، وَأَمَّا الْمَالِكُ فَإِنْ رَضِيَ بِأَقَلِّ الْقِيمَتَيْنِ فَذَاكَ

وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الَّذِي شَهِدَ بِالْأَكْثَرِ وَيَأْخُذَهُ، وَلَوْ شَهِدَا بِأَنَّهُ نِصَابٌ، وَقَوَّمَهُ آخَرَانِ بِدُونِهِ، فَلَا قَطْعَ، وَيُؤْخَذُ فِي الْغُرْمِ بِالْأَقَلِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْأَكْثَرِ. فَرْعٌ الْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ بِالْبِلَادِ وَالْأَزْمَانِ، فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ قِيمَةُ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ. فَرْعٌ ادَّعَى السَّارِقُ نَقْصَ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ عَنِ النِّصَابِ لَمْ يُقْطَعْ، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ قِيمَتَهُ نِصَابٌ قُطِعَ. فَرْعٌ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ فِي الْحِرْزِ عَنْ نِصَابٍ، بِأَنْ أَكَلَ بَعْضَهُ، أَوْ أَحْرَقَهُ، وَأَخْرَجَ دُونَ نِصَابٍ، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ نَقَصَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، قُطِعَ، وَلَوْ شَقَّ الثَّوْبَ فِي الْحِرْزِ، أَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ فِي الْحِرْزِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النَّقْصِ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْرَجُ نِصَابًا قُطِعَ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ سَوَاءٌ كَانَ النِّصَابُ الْمَسْرُوقُ لِوَاحِدٍ أَوْ لِجَمَاعَةٍ، فَيَجِبُ الْقَطْعُ إِذَا اتَّحَدَ الْحِرْزُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ، كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ وَعَامِلِ الْقَرَاضِ وَالْوَكِيلِ وَالشَّرِيكِ، فَلَوْ أَخَذَ مَعَ مَالِهِ نِصَابًا

آخَرَ، لَزِمَهُ الْقَطْعُ، وَلَوْ سَرَقَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ سَرَقَ مَعَهُ مَالًا آخَرَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ، قُطِعَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَنْ سَرَقَ مِنْ دَارٍ اشْتَرَاهَا، وَلَوْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ، فَسَرَقَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ فَسَرَقَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَإِنَّهُ يُقْطَعُ، وَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِمَاذَا يَحْصُلُ؟ إِنْ قُلْنَا: بِالْمَوْتِ، لَمْ يُقْطَعْ، وَإِلَّا قُطِعَ، وَلَوْ أَوْصَى بِمَالٍ لِلْفُقَرَاءِ، فَسَرَقَهُ فَقِيرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يُقْطَعْ، كَسَرِقَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَإِنْ سَرَقَهُ غَنِيٌّ، قُطِعَ. فَرْعٌ لَوْ طَرَأَ الْمِلْكُ فِي الْمَسْرُوقِ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، بِأَنْ وَرِثَهُ السَّارِقُ، أَوِ اشْتَرَاهُ، أَوِ اتَّهَبَهُ وَهُوَ فِي الْحِرْزِ، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ طَرَأَ الْمِلْكُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، لَمْ يَسْقُطِ الْقَطْعُ، لَكِنْ لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقَطْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى دَعْوَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَمُطَالَبَتِهِ بِالْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ إِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ مَا أَخَذَهُ عَلَى صُورَةِ السَّرِقَةِ مِلْكَهُ، فَقَالَ: كَانَ قَدْ غَصَبَهُ مِنِّي، أَوْ مِنْ مُورِثِي، أَوْ كَانَ وَدِيعَةً لِي عِنْدَهُ، أَوْ عَارِيَةً، أَوْ كُنْتُ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ، أَوْ وَهَبَهُ لِي وَأَذِنَ لِي فِي قَبْضِهِ، أَوْ أَذِنَ لِي فِي أَخْذِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْمَالِ، بَلْ يُصَدَّقُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ بِيَمِينِهِ فِي نَفْيِ الْغَصْبِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَبِلَا يَمِينٍ فِي قَوْلِهِ: أَذِنَ لِي فِي أَخْذِ مَالِهِ، وَيَسْقُطُ الْقَطْعُ بِدَعْوَى الْمِلْكِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَوْ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى أَنَّ الْمَسْرُوقَ

مِنْهُ عَبْدُهُ، وَهُوَ مَجْهُولُ النِّسَبِ، أَوْ أَنَّ الْحِرْزَ مِلْكَهُ غَصَبَهُ مِنْهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ، وَفِيمَا إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِزِنًا، فَادَّعَى أَنَّ الْمَرْأَةَ زَوْجَتُهُ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً، فَقَالَ: بَاعَنِيهَا مَالِكُهَا، وَرَأَى الْإِمَامُ الْأَصَحَّ فِي حَدِّ الزِّنَا أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ فِيمَا إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِأَمَةِ فُلَانٍ الْغَائِبِ أَنَّهُ يُحَدُّ، وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْغَائِبِ بِخِلَافِ مِثْلِهِ فِي السَّرِقَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَجْرِي فِيمَنْ قَطَعَ يَدَ إِنْسَانٍ وَادَّعَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي قَطْعِهَا، بَلْ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ آدَمِيٌّ، فَهُوَ كَالْمَالِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أَنَّ الْمَالَ كَانَ مِلْكَ السَّارِقِ، فَلَا قَطْعَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا قُلْنَا: بِالْمَنْصُوصِ، فَسَرَقَ شَخْصَانِ، وَادَّعَيَا أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُهُمَا، لَمْ يُقْطَعَا، وَإِنِ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ أَوْ لَهُمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ، وَاعْتَرَفَ بِالسَّرِقَةِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَفِي الْمُنْكِرِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُقْطَعُ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: هَذَا مِلْكُ شَرِيكِي وَأَخَذْتُ مَعَهُ بِإِذْنِهِ، وَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ، فَالَّذِي نَقَلَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ كَالصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ يَدَّعِي مِلْكَ الشَّرِيكِ، وَفِي الْآخَرِ الْوَجْهَانِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يُقْطَعُ الْمُنْكِرُ، وَفِي الْمُدَّعَى الْوَجْهَانِ، وَلَوْ سَرَقَ عَبْدٌ وَادَّعَى أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ سَيِّدِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ، فَلَا قَطْعَ، وَكَذَا إِنْ كَذَّبَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: يَجْرِي الْخِلَافُ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ إِذَا ظَهَرَتْ صُورَةُ السَّرِقَةِ، فَإِنْ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ هُوَ بِمَا فِيهِ فِي يَدِ رَجُلٍ، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ مُفَصَّلَةٌ، فَقَالَ السَّارِقُ: هُوَ مِلْكِي، فَعَلَى قَوْلِنَا بِسُقُوطِ الْقَطْعِ بِبَقَاءِ النِّزَاعِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ، فَيُصَدَّقُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِالدَّعْوَى، فَإِنْ حَلَفَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ، ثَبَتَ الْقَطْعُ مَعَ الْمَالِ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْقَطْعَ يَثْبُتُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَالْأَصَحُّ ثُبُوتُهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

تَعَالَى، وَيَجْرِي أَيْضًا فِيمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ مُفَصَّلَةٌ يَثْبُتُ مُثُلُهَا فِي السَّرِقَةِ، فَقَالَ السَّارِقُ: كَانَ أَبَاحَهُ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ بَاعَهُ لِي، وَاعْتَمَدَ الشُّهُودُ ظَاهِرَ الْحَالِ، أَمَّا إِذَا قَالَ: لَمْ يَزَلْ مِلْكِي وَكَانَ غَصَبَنِيهِ، أَوْ قَالَ: مَا سَرَقْتُ أَصْلًا، فَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَ الشُّهُودِ وَيُكَذِّبُهُمْ، فَهَلْ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى الَّتِي لَا تُكَذِّبُهُمْ مُسْقَطَةٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْقَطْعَ يَسْقُطُ بِدَعْوَى السَّارِقِ الْمِلْكَ مَا إِذَا حَلَفَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ عَلَى نَفْيِ الْمِلْكِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، أَمَّا لَوْ نَكَلَ حَلَفَ وَحَلَفَ السَّارِقُ، فَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ نَكَلَ السَّارِقُ أَيْضًا، فَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُحْتَرَمًا، فَلَوْ سَرَقَ خَمْرًا، أَوْ كَلْبًا، أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ غَيْرَ مَدْبُوغٍ، فَلَا قَطْعَ، سَوَاءٌ سَرَقَهُ مُسْلِمٌ أَمْ ذِمِّيٌّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَوْ كَانَ الْإِنَاءُ الَّذِي فِيهِ الْخَمْرُ يُسَاوِي نِصَابًا، قُطِعَ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَوْلٌ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْقَطْعِ، وَطَرَدَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» فِيهِ الْوَجْهَيْنِ، وَطَرْدُهُمَا فِيمَا يُسْتَهَانُ بِهِ، كَقُشُورِ الرُّمَّانِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، بَلِ الصَّوَابُ الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ، وَلَوْ سَرَقَ آلَاتِ الْمَلَاهِي، كَالطُّنْبُورِ وَالْمِزْمَارِ، أَوْ صَنَمًا، فَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ بَعْدَ الْكَسْرِ وَالتَّغْيِيرِ نِصَابًا، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ بَلَغَهُ، قُطِعَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ والرُّويَانِيُّ ; لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ وَأَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ مِنَ الْمَلَاهِي فَأَشْبَهَ الْخَمْرَ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مَأْمُورٌ بِإِفْسَادِ آلَاتِ الْمَلَاهِي، وَيَجُوزُ الْهُجُومُ عَلَى الدُّورِ لِكَسْرِهَا وَإِبْطَالِهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِمْسَاكُهَا، فَهِيَ كَالْمَغْصُوبِ يُسْرَقُ مِنْ حِرْزِ الْغَاصِبِ، ثُمَّ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا قَصَدَ السَّرِقَةَ، أَمَّا إِذَا قَصَدَ بِإِخْرَاجِهَا أَنْ يَشْهَدَ تَغْيِيرَهَا وَإِفْسَادَهَا، فَلَا قَطْعَ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ كَسَرَ مَا أَخَذَهُ فِي

الْحِرْزِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يَبْلُغُ نِصَابًا، قُطِعَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ سَرَقَ آنِيَةَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يُقْطَعُ ; لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ لِلزِّينَةِ، وَالْوَجْهُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى اتِّخَاذِهَا، إِنْ جَوَّزْنَاهُ قُطِعَ، وَإِلَّا فَلَا، كَالْمَلَاهِي، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، لَكِنَّهُ رَأَى نَفْيَ الْقَطْعِ بَعِيدًا. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ تَامًّا قَوِيًّا وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِذَا سَرَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ حِرْزِ الْآخَرِ مَالَهُمَا الْمُشْتَرَكَ، فَهَلْ يُقْطَعُ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا ; لِأَنَّ لَهُ فِي كُلِّ قَدْرٍ جُزْءًا وَإِنْ قَلَّ، فَيَصِيرُ شُبْهَةً، كَوَطْءِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَرَقَ أَلْفَ دِينَارٍ لَهُ مِنْهُ قَدْرَ دِينَارٍ شَائِعًا، لَمْ يُقْطَعْ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، إِذْ لَا حَقَّ لَهُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، فَعَلَى هَذَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنْ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، فَسَرَقَ نِصْفَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، فَقَدْ سَرَقَ مِنَ الشَّرِيكِ نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ ثُلُثَاهُ لِلسَّارِقِ، فَإِذَا سَرَقَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ فَقَدْ سَرَقَ مِنْهُ نِصَابًا، وَالثَّانِي: إِنَّمَا يُجْعَلُ سَارِقًا لِنِصَابٍ مِنَ الشَّرِيكِ إِذَا زَادَ الْمَأْخُوذُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ بِنِصَابٍ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً، فَسَرَقَ نِصْفَ الْمَالِ وَزِيَادَةَ رُبُعَ دِينَارٍ، أَوْ كَانَ ثُلُثَاهُ لِلسَّارِقِ، فَسَرَقَ ثُلُثَيْهِ وَزِيَادَةً لَا تَبْلُغُ رُبُعَ دِينَارٍ، فَلَا قَطْعَ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ مِمَّا يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَتِهِ، كَالْحُبُوبِ وَسَائِرِ الْمِثْلِيَّاتِ، فَلَا قَطْعَ حَتَّى يَزِيدَ الْمَأْخُوذُ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ بِنِصَابٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُجْبَرُ فِيهِ، كَالثِّيَابِ، فَإِذَا سَرَقَ نِصْفَ دِينَارٍ إِنِ اشْتَرَكَا بِالسَّوِيَّةِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ دِينَارٍ إِنْ كَانَ الثُّلُثَانِ لِلسَّارِقِ، قُطِعَ. الثَّانِيَةُ: إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، نُظِرَ إِنْ سَرَقَ مِمَّا أُفْرِزَ لِطَائِفَةٍ مَخْصُوصِينَ وَلَيْسَ السَّارِقُ مِنْهُمْ، قُطِعَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَكَذَا الْفَيْءُ الْمُعَدُّ لِلْمُرْتَزِقَةِ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُمْ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِهِ، فَأَوْجُهٌ،

أَحَدُهَا وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْعِرَاقِيِّينَ: لَا قَطْعَ، سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَسَوَاءٌ سَرَقَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، أَوْ مَالِ الْمَصَالِحِ، وَالثَّانِي: يُقْطَعُ، وَأَصَحُّهَا: التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ صَاحِبَ حَقٍّ فِي الْمَسْرُوقِ، بِأَنْ سَرَقَ فَقِيرٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ، أَوْ مَالِ الْمَصَالِحِ، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ حَقٍّ فِيهِ، كَالْغَنِيِّ، فَإِنْ سَرَقَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، قُطِعَ، وَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْمَصَالِحِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُصْرَفُ ذَلِكَ إِلَى عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِيرِ فَيَنْتَفِعُ بِهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، أَمَّا إِذَا سَرَقَ ذِمِّيٌّ مَالَ الْمَصَالِحِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْطَعُ ; لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى إِنْفَاقِ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُنْفَقُ لِلضَّرُورَةِ، وَبِشَرْطِ الضَّمَانِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى انْتِفَاعِهِ بِالْقَنَاطِرِ وَالرِّبَاطَاتِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ تَبَعًا، وَفِي وَجْهٍ: لَا قَطْعَ، وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ إِنْفَاقُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، قَالَ: وَهَذَا فِي مَالِ الْمَصَالِحِ، أَمَّا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالِ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ; لِأَنَّهُ إِرْثٌ لِلْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً، وَلَوْ كُفِّنَ مُسْلِمٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَسَرَقَ نَبَّاشٌ كَفَنَهُ، قُطِعَ إِذَا لَمْ يَبْقَ لِغَيْرِ الْمَيِّتِ فِيهِ حَقٌّ، كَمَا لَوْ كَسَاهُ حَيًّا. الثَّالِثَةُ: إِذَا سَرَقَ سِتْرَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ مُحْرَزٌ بِالْخِيَاطَةِ عَلَيْهِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْقَطْعِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ فِيهِ قَوْلَيْنِ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ، وَأَلْحَقُوا بَابَ الْمَسْجِدِ وَجِذْعَهُ وَتَأْزِيرَهُ وَسَوَارِيَهُ، فَأَوْجَبُوا الْقَطْعَ بِسَرِقَتِهَا، قَالُوا: وَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مَا يُفْرَشُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا فِي الْقَنَادِيلِ الْمُسْرَجَةِ ; لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِانْتِفَاعِ النَّاسِ، وَالْقَنَادِيلُ الَّتِي لَا تُسْرَجُ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهَا إِلَّا الزِّينَةُ كَالْأَبْوَابِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ، وَرَأَى الْإِمَامُ تَخْرِيجَ وَجْهٍ فِي الْأَبْوَابِ وَالسُّقُوفِ ; لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ مُشْتَرَكٌ وَذَكَرَ فِي الْحُصْرِ وَالْقَنَادِيلِ

وَنَحْوِهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِضَاءَةَ أَوِ الزِّينَةَ، وَكُلُّ هَذَا فِي الْمُسْلِمِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا سَرِقَ الْبَابَ أَوِ الْحَصِيرَ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَيُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ، وَذَكَرَ الْفُورَانِيُّ فِي سَرِقَةِ بَكَرَةِ الْيَدِ الْمُسْبَلَةِ أَنَّهُ يُقْطَعُ، وَكَذَا حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ قَالَ: وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّهَا كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّهَا لِمَنْفَعَةِ النَّاسِ. الرَّابِعَةُ: لَوْ سَرَقَ مَالًا مَوْقُوفًا، أَوْ مُسْتَوْلَدَةً وَهِيَ نَائِمَةٌ، أَوْ مَجْنُونَةً، وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى الْأَصَحِّ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ ; لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَكَذَا مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَلَّةِ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ أَوْ ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ مَوْقُوفَةٍ، قُطِعَ بِلَا خِلَافٍ، فَلَوْ كَانَ لِلسَّارِقِ اسْتِحْقَاقٌ، أَوْ شُبْهَةُ اسْتِحْقَاقٍ، بِأَنْ وُقِفَ عَلَى جَمَاعَةٍ، فَسَرَقَهُ أَحَدُهُمْ، أَوْ سَرَقَ أَبُو بَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، أَوِ ابْنُهُ، أَوْ وُقِفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَسَرَقَ فَقِيرٌ، فَلَا قَطْعَ بِلَا خِلَافٍ. فَرْعٌ الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى مَنْ زَنَى بِجَارِيَةِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالٍ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شُبْهَةُ اسْتِحْقَاقٍ لِلسَّارِقِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: سَرَقَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ مَالَ الْمَدِينِ، نَصَّ أَنَّهُ لَا قَطْعَ، فَقِيلَ بِإِطْلَاقِهِ، وَالْأَصَحُّ: التَّفْصِيلُ، فَإِنْ أَخَذَهُ لَا بِقَصْدِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، أَوْ بِقَصْدِهِ وَالْمَدِينُ غَيْرُ جَاحِدٍ وَلَا مُمَاطِلٍ قُطِعَ، وَإِنْ قَصَدَهُ وَهُوَ جَاحِدٌ أَوْ مُمَاطِلٌ، فَلَا قَطْعَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: يُخْتَصُّ بِمَنْ أَخَذَ جِنْسَ حَقِّهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الدُّخُولِ

وَالْأَخْذِ، لَمْ يَبْقَ الْمَالُ مُحْرَزًا عَنْهُ، وَقِيلَ: إِنْ بَلَغَتِ الزِّيَادَةُ نِصَابًا وَهِيَ مُسْتَقِلَّةٌ، قُطِعَ. الثَّانِيَةُ: مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِالْبَعْضِيَّةِ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْأَخِ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ، وَلَوْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَالَ الْآخَرِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرَزًا عَنْهُ، فَلَا قَطْعَ، وَإِلَّا فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: يُقْطَعُ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: يُقْطَعُ الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ، وَقِيلَ: يُقْطَعَانِ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَمَنْ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ شَخْصٍ، لَا يُقْطَعُ عَبْدُهُ بِسَرِقَةِ مَالِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، فَلَا يُقْطَعُ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالِ أَبِي سَيِّدِهِ وَابْنِهِ، وَفِي قَطْعِ عَبْدِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِسَرِقَتِهِ مَالَ الْآخَرِ الْخِلَافُ، وَفِي وَجْهٍ يُقْطَعُ الْعَبْدُ وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ سَيِّدُهُ، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيْدِ السَّيِّدِ، وَلَوْ سَرَقَ مُكَاتَبُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَالَ الْآخَرَ وَقُلْنَا: لَا قَطْعَ عَلَى الْعَبْدِ فَوَجْهَانِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ الْمُكَاتَبُ مَالَ سَيِّدِهِ، فَفِيهِ خِلَافٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّا إِذَا لَمْ نَقْطَعْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ بِسَرِقَةِ مَالِ الْآخَرِ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ وَلَدُ أَحَدِهِمَا بِسَرِقَةِ مَالِ الْآخَرِ، وَغَلِطَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ زَوْجَتَانِ، سَرَقَتْ إِحْدَاهُمَا مَالَ الْأُخْرَى، أَوْ سَرَقَ مَالَ زَوْجَةِ أَبِيهِ، أَوِ ابْنِهِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْحَدِّ، وَلَا يُقْطَعُ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالِ سَيِّدِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ زَنَى بِجَارِيَتِهِ، وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَالْقِنِّ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ فِي الْأَصَحِّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُقْطَعُ بِمَا فِي يَدِ مَمْلُوكِهِ وَإِنْ قَدَّرْنَا لَهُ مِلْكًا، وَلَوْ سَرَقَ مِمَّنْ بَعْضُهُ مَمْلُوكُهُ مَا مَلَكَهُ بِبَعْضِهِ الْحُرِّ، قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يُقْطَعُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يُقْطَعُ. الثَّالِثَةُ: لَوْ أَخَذَ الْمَالَ عَلَى صُورَةِ السَّرِقَةِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْمَأْخُوذَ

مِلْكُهُ، أَوْ مِلْكُ أَبِيهِ، أَوِ ابْنِهِ أَنَّ الْحِرْزَ مِلْكُهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ لِلشُّبْهَةِ. فَرْعٌ فِي صُوَرٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا شُبْهَةٌ، وَلَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً، فَلَا أَثَرَ لِكَوْنِ الْمَسْرُوقِ مُبَاحَ الْأَصْلِ، كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ وَمَالِ الْمَعْدِنِ، وَلَا لِكَوْنِهِ مُعَرَّضًا لِلْفَسَادِ، كَالرُّطَبِ وَالتِّينِ وَالرَّيَاحِينِ وَالشِّوَاءِ وَالْهَرِيسَةِ وَالْجَمَدِ وَالشَّمْعِ الْمُشْتَعِلِ، وَلَوْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ، ثُمَّ سَرَقَهَا مِنَ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ أَوْ غَيْرِهِ، قُطِعَ ثَانِيًا، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمَسْرُوقِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، بَلِ السَّرِقَةُ مِنْ يَدِ الْمُودَعِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْوَكِيلِ وَعَامِلِ الْقِرَاضِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، تُوجِبُ الْقَطْعَ، وَالْخَصْمُ فِيهَا الْمَالِكُ، وَإِذَا قُلْنَا: الْمَاءُ لَا يُمْلَكُ، فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُمْلَكُ، قُطِعَ فِي الْأَصَحِّ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ تَافِهٌ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي سَرِقَةِ التُّرَابِ ; لِأَنَّهُ لَا تُقْصَدُ سَرِقَتُهُ لِكَثْرَتِهِ، وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَكَذَا الشَّعْرِ الَّذِي يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَمَا لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَا قَطْعَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ الْجِلْدُ وَالْقِرْطَاسُ نِصَابًا، وَيَجِبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ قُرُونِ الْحَيَوَانِ. الشَّرْطُ السَّادِسُ: كَوْنُهُ مُحْرَزًا، فَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ مَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ، وَيَخْتَلِفُ الْحِرْزُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَمْوَالِ، وَالتَّعْوِيلُ فِي صِيَانَةِ الْمَالِ وَإِحْرَازِهِ عَلَى شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْمُلَاحَظَةُ وَالْمُرَاقَبَةُ، وَالثَّانِي: حَصَانَةُ الْمَوْضِعِ وَوَثَاقَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْضِعِ حَصَانَةٌ، كَالْمَوْضُوعِ فِي صَحْرَاءَ، أَوْ مَسْجِدٍ، أَوْ شَارِعٍ، اشْتُرِطَ مُدَاوَمَةُ اللِّحَاظِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَصَانَةٌ، وَانْضَمَّ إِلَيْهَا اللِّحَاظُ الْمُعْتَادُ، كَفَى، وَلَمْ تُشْتَرَطْ مُدَاوَمَتُهُ، وَيَحْكُمْ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ، وَتَفْضِيلُهُ بِمَسَائِلَ:

إِحْدَاهَا: الْإِصْطَبْلُ حِرْزُ الدَّوَابِّ مَعَ نَفَاسَتِهَا وَكَثْرَةِ قِيمَتِهَا، وَلَيْسَ حِرْزًا لِلثِّيَابِ وَالنُّقُودِ، وَالصِّفَةُ فِي الدَّارِ وَعَرْصَتِهَا حِرْزَانِ لِلْأَوَانِي وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ دُونَ الْحُلِيِّ وَالنُّقُودِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهَا الْإِحْرَازُ فِي الْمَخَازِنِ، وَكَذَا الثِّيَابُ النَّفِيسَةُ تُحْرَزُ فِي الدُّورِ، وَفِي بُيُوتِ الْحَانَاتِ وَفِي الْأَسْوَاقِ الْمَنِيعَةِ، وَالْمَتْبَنُ حِرْزٌ لِلتِّبْنِ دُونَ الْأَوَانِي وَالْفُرُشِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ حِرْزًا لِنَوْعٍ كَانَ حِرْزًا لِمَا دُونَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِمَا فَوْقَهُ. الثَّانِيَةُ: إِذَا نَامَ فِي صَحْرَاءَ، أَوْ مَسْجِدٍ، أَوْ شَارِعٍ عَلَى ثَوْبِهِ، أَوْ تَوَسَّدَ عَيْبَتَهُ أَوْ مَتَاعَهُ، أَوِ اتَّكَأَ عَلَيْهِ، فَسُرِقَ الثَّوْبُ مِنْ تَحْتِهِ، أَوِ الْعَيْبَةُ، أَوْ أُخِذَ الْمِنْدِيلُ مِنْ رَأْسِهِ، أَوِ الْمَدَاسُ مِنْ رِجْلِهِ، أَوِ الْخَاتَمُ مِنْ أُصْبُعِهِ، وَجَبَ الْقَطْعُ ; لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِهِ، وَلَوْ زَالَ رَأْسُهُ عَمَّا تَوَسَّدَهُ، أَوِ انْقَلَبَ فِي النَّوْمِ عَنِ الثَّوْبِ وَخَلَّاهُ، فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَتِهِ، وَلَوْ رَفَعَ السَّارِقُ النَّائِمَ عَنِ الثَّوْبِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَخَذَهُ، فَلَا قَطْعَ، وَلَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ أَوْ ثَوْبَهُ بِقُرْبِهِ فِي الصَّحْرَاءِ أَوِ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ نَامَ أَوْ وَلَّاهُ ظَهَّرَهُ، أَوْ ذَهِلَ عَنْهُ بِشَاغِلٍ، لَمْ يَكُنْ مُحْرَزًا، وَإِنْ كَانَ مُتَيَقِّظًا يُلَاحِظُهُ فَتَغَفَّلَهُ السَّارِقُ، وَأَخَذَ الْمَالَ، قُطِعَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ زَحْمَةُ الطَّارِقِينَ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، وَتَكْفِي الْمُلَاحَظَةُ، لَكِنْ لَا بُدَّ بِسَبَبِ الزَّحْمَةِ مِنْ مَزِيدِ مُرَاقَبَةٍ وَتَحَفُّظٍ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَتُخْرِجُهُ الزَّحْمَةُ عَنْ كَوْنِهِ مُحْرَزًا، وَأُجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِي الْخَبَّازِ وَالْبَزَّازِ وَغَيْرِهِمَا إِذَا كَثُرَتِ الزَّحْمَةُ عَلَى حَانُوتِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ وَضَعَ الْمَتَاعَ فِي شَارِعٍ، وَلَاحَظَهُ جَمْعٌ، صَارَ عَدَدُ اللَّاحِظِينَ فِي مُعَارَضَةِ عَدَدِ الطَّارِقِينَ، كَلَاحِظٍ فِي الصَّحْرَاءِ فِي مُعَارَضَةِ طَارِقٍ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُلَاحَظِ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ لَوِ اطَّلَعَ عَلَى سَارِقٍ إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِالِاسْتِغَاثَةِ، فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يُبَالِي بِهِ السَّارِقُ،

وَالْمَوْضِعُ بَعِيدٌ عَنِ الْغَوْثِ، فَلَيْسَ بِحِرْزٍ، بَلِ الشَّخْصُ شَائِعٌ مَعَ مَالِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِ الصَّحْرَاءِ مَوَاتًا أَوْ غَيْرَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّكْنَ الْأَوَّلَ فِي كَوْنِهِ مُحْرَزًا الْمُلَاحَظَةُ، فَلَا تَكْفِي حَصَانَةُ الْمَوْضِعِ عَلَى أَصْلِ الْمُلَاحَظَةِ، حَتَّى إِنَّ الدَّارَ الْمُتَفَرِّدَةَ فِي طَرَفِ الْبَلَدِ لَا تَكُونُ حِرْزًا وَإِنْ تَنَاهَتْ فِي الْحَصَانَةِ، وَكَذَا الْقَلْعَةُ الْمُحْكَمَةُ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَوْضِعُ عَلَى أَصْلِ الْمُلَاحَظَةِ، حَتَّى إِنَّ الدَّارَ الْمُنْفَرِدَةَ فِي طَرَفِ الْبَلَدِ لَا تَكُونُ خَطَرًا، لَكِنْ لَا يُحْتَاجُ مَعَ الْحَصَانَةِ إِلَى دَوَامِ الْمُلَاحَظَةِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّحْرَاءِ. فَرْعٌ لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ إِنْسَانٍ أَوْ كُمِّهِ، وَأَخَذَ الْمَالَ، أَوْ طَرَّ جَيْبَهُ، أَوْ كُمَّهُ، وَأَخَذَ الْمَالَ، قُطِعَ ; لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِهِ، وَسَوَاءٌ رَبَطَهُ مِنْ دَاخِلِ الْكُمِّ، أَمْ مِنْ خَارِجِهِ أَمْ لَمْ يَرْبُطْهُ؟ وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ رَأْسِ مِنْدِيلٍ عَلَى رَأْسٍ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ قَدْ شَدَّهُ عَلَيْهِ، قُطِعَ، وَإِلَّا فَلَا. الثَّالِثَةُ: الدَّارُ إِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنِ الْعِمَارَاتِ، بِأَنْ كَانَتْ فِي بَادِيَةٍ، أَوْ فِي الطُّرُقِ الْخَرَابِ مِنَ الْبَلَدِ، أَوْ فِي بُسْتَانٍ، فَلَيْسَتْ بِحِرْزٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا، أَوْ حَافِظٌ آخَرَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ نَائِمًا وَالْبَابُ مَفْتُوحٌ، فَلَيْسَتْ حِرْزًا، وَإِنْ كَانَ مُغْلَقًا فَوَجْهَانِ، الَّذِي أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: أَنَّهُ مُحْرَزٌ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُ الْإِمَامِ وَالْبَغَوِيِّ خِلَافُهُ. قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ أَقْوَى، وَجَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» بِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِنْ كَانَ مَنْ فِيهَا مُتَيَقِّظًا، فَالْأَمْتِعَةُ فِيهَا مُحْرَزَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا، لَكِنْ لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُبَالَى بِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْغَوْثِ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَلْحُوظِ بِعَيْنِ الضَّعِيفِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ مُتَّصِلَةً بِدُورِ أَهْلِهِ، نُظِرَ إِنْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا وَفِيهَا صَاحِبُهَا، أَوْ حَافِظٌ آخَرُ، فَهِيَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا لَيْلًا وَنَهَارًا مُتَيَقِّظًا كَانَ الْحَافِظُ أَوْ نَائِمًا، وَإِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا، فَإِنْ كَانَ مَنْ فِيهَا نَائِمًا لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لَيْلًا قَطْعًا، وَلَا نَهَارًا فِي الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: حِرْزٌ نَهَارًا فِي زَمَنِ الْأَمْنِ مِنَ النَّهْبِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ فِيهَا مُتَيَقِّظًا لَكِنَّهُ لَا يُتِمُّ الْمُلَاحَظَةَ بَلْ يَتَرَدَّدُ فِي الدَّارِ، فَتَغَفَّلُهُ إِنْسَانٌ فَسَرَقَ، لَمْ يُقْطَعْ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ لِلتَّقْصِيرِ بِإِهْمَالِ الْمُرَاقَبَةِ مَعَ فَتْحِ الْبَابِ، وَلَوْ كَانَ يُبَالِغُ فِي الْمُلَاحَظَةِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْإِحْرَازُ بِمِثْلِهِ فِي الصَّحْرَاءِ، فَانْتَهَزَ السَّارِقُ فُرْصَةً، قُطِعَ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ فَتَحَ صَاحِبُ الدَّارِ بَابَهَا، وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ كَشِرَاءِ مَتَاعِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَخْبِزُ فِي دَارِهِ فَوَجْهَانِ ; لِأَنَّ الزَّحْمَةَ تَشْغَلُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ، فَالْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا، فَهُوَ حِزْرٌ بِالنَّهَارِ فِي وَقْتِ الْأَمْنِ، وَلَيْسَ حِرْزًا فِي وَقْتِ الْخَوْفِ وَلَا فِي اللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا، لَمْ يَكُنْ حِرْزًا أَصْلًا، وَمَنْ جَعَلَ الدَّارَ الْمُنْفَصِلَةَ عَنِ الْعِمَارَاتِ حِرْزًا عِنْدَ إِغْلَاقِ الْبَابِ فَأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ الْمُتَّصِلَةَ بِهَا عِنْدَ الْإِغْلَاقِ حِرْزًا، وَإِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ: نَامَ، أَوْ ضَيَّعَ مَا فِيهَا وَأَعْرَضَ عَنِ اللِّحَاظِ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، كَمَا فِي دَعْوَى الْمِلْكِ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي كُلِّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ فِي الْإِحْرَازِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: النَّقْدُ وَالْجَوْهَرُ وَالثِّيَابُ لَا تَكُونُ مُحْرَزَةً إِلَّا بِإِغْلَاقِ الْبَابِ عَلَيْهَا، وَأَمْتِعَةُ الْعَطَّارِينَ وَالْبَقَّالِينَ وَالصَّيَادِلَةِ إِذَا تَرَكَهَا عَلَى بَابِ الْحَانُوتِ وَنَامَ فِيهِ، أَوْ غَابَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ ضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى

بَعْضٍ وَرَبَطَهَا بِحَبْلٍ، أَوْ عَلَّقَ عَلَيْهَا شَبَكَةً، أَوْ وَضَعَ لَوْحَيْنِ عَلَى بَابِ الْحَانُوتِ مُخَالِفَيْنِ، كَفَى ذَلِكَ إِحْرَازًا فِي النَّهَارِ ; لِأَنَّ الْجِيرَانَ وَالْمَارَّةَ يَنْظُرُونَهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مُفَرَّقَةً وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَةً، وَأَمَّا بِاللَّيْلِ، فَلَا تَكُونُ مُحْرَزَةً إِلَّا بِحَارِسٍ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَالْبَقْلُ وَالْفُجْلُ قَدْ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، وَيُطْرَحُ عَلَيْهِ حَصِيرٌ، وَيُتْرَكُ عَلَى بَابِ الْحَانُوتِ وَهُنَاكَ حَارِسٌ يَنَامُ سَاعَةً وَيَدُورُ سَاعَةً، فَيَكُونُ مُحْرَزًا، وَقَدْ يُزَيِّنُ الْعَامِّيُّ حَانُوتَهُ أَيَّامَ الْعِيدِ بِالْأَمْتِعَةِ النَّفِيسَةِ، وَيُشَقُّ عَلَيْهِ رَفْعُهَا لَيْلًا، فَيَتْرُكُهَا، وَيَلْقِي عَلَيْهَا نَطْعًا، وَيُنَصِّبُ حَارِسًا، فَتَكُونُ مُحْرَزَةً بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَيَّامِ ; لِأَنَّ أَهْلَ السُّوقِ يَعْتَادُونَ ذَلِكَ، فَيَقْوَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَالثِّيَابُ عَلَى بَابِ حَانُوتِ الْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ، كَأَمْتِعَةِ الْعَطَّارِينَ، هَذَا فِيمَا يُنْقَلُ فِي الْعَادَةِ إِلَى دَاخِلِ بِنَاءٍ وَيُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابٌ، فَأَمَّا الْأَمْتِعَةُ الثَّقِيلَةُ الَّتِي يُشَقُّ نَقْلُهَا، كَالْحَطَبِ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ بِأَنْ يُشَدَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ الْخَزَفُ وَالْقُدُورُ تُحْرَزُ بِالشَّرَائِحِ الَّتِي تَنْصَبُّ عَلَى وَجْهِ الْحَانُوتِ، وَإِنْ تُرِكَتْ مُتَفَرِّقَةً لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَةً، وَفِي وَجْهٍ لَا يَكْفِي الشَّدُّ، بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا بَابٌ مُغْلَقٌ، أَوْ يَكُونُ عَلَى سَطْحٍ مَحُوطٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ حَيْثُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ، وَكَذَا الطَّعَامُ فِي الْغَرَائِرِ فِي مَوْضِعِ الْبَيْعِ مُحْرَزًا إِذَا شُدَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا بِحَلِّ الرِّبَاطِ، أَوْ فَتْقِ بَعْضِ الْغَرَائِرِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْحَطَبُ وَالْقَصِيلُ عَلَى السَّطْحِ الْمَحُوطِ مُحْرَزَانِ، وَالْأَجْذَاعُ الثِّقَالُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاكِينِ مُحْرَزَةٌ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: مَتَاعُ الْبَقَّالِ فِي الْحَانُوتِ فِي اللَّيْلِ مُحْرَزٌ فِي وَقْتِ الْأَمْنِ إِذَا كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا، وَفِي غَيْرِ وَقْتِ الْأَمْنِ لَا بُدَّ مِنْ حَارِسٍ، وَمَتَاعُ الْبَيَّاعِ وَالْبَزَّارِ، لَا يَكُونُ مُحْرَزًا إِلَّا بِالْحَارِسِ، وَإِنَّ الْكَدْسَ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْبَذْرَ الْمُسْتَتِرَ بِالتُّرَابِ، وَالزَّرْعَ وَالْقُطْنَ،

قَصِيلًا كَانَا أَوِ اشْتَدَّ الْحَرَبُ وَخَرَجَ الْجَوْزَقُ لَيْسَتْ مُحْرَزَةً إِلَّا بِحَارِسٍ. وَفِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» لِلرُّويَانِيِّ أَنَّ الزَّرْعَ فِي الْمَزَارِعِ مُحْرَزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَارِسٌ، وَفِي تَعْلِيقَةِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الْمَرُّوذِيِّ أَنَّ الزَّرْعَ إِذَا كَانَ قَصِيلًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَارِسٍ ; لِأَنَّهُ يُحْفَظُ مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ، وَهَذَا يَجْرِي فِي الْبَذْرِ الْمُسْتَتِرِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي مَحُوطٍ فَهِيَ كَالثِّمَارِ فِي الْبَسَاتِينِ، وَالثِّمَارُ عَلَى الْأَشْجَارِ إِنْ كَانَتْ فِي بَرِّيَّةٍ لَا تَكُونُ مُحْرَزَةً إِلَّا بِحَارِسٍ، وَفِي الْكَرْمِ وَالْبَسَاتِينِ الْمَحُوطَةِ كَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنِ الطُّرُقِ وَالْمَسَاكِنِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهَا، وَالْجِيرَانُ يُرَاقِبُونَهَا فِي الْعَادَةِ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ، وَإِلَّا فَيُحْتَاجُ إِلَى حَارِسٍ، وَالْأَشْجَارُ فِي أَفَنِيَةِ الدُّورِ مُحْرَزَةٌ، وَفِي الْبَرِّيَّةِ تَحْتَاجُ إِلَى حَارِسٍ، وَالْحِنْطَةُ فِي مَطَامِيرِ الْمَفَازَةِ، وَالتِّبْنُ فِي الْمَتْبَنِ، وَالثَّلْجُ فِي الْمَثْلَجَةِ، وَالْجَمَدُ فِي الْمَجْمَدَةِ فِي الصَّحْرَاءِ غَيْرُ مُحْرَزَةٍ إِلَّا بِحَارِسٍ، وَبَابُ الدَّارِ وَالْحَانُوتِ وَالْمِغْلَاقُ وَالْحَلْقَةُ عَلَى الْبَابِ مُحْرَزَةٌ بِالتَّرْكِيبِ وَالتَّسْمِيرِ، وَكَذَا الْآجُرُّ إِذَا سُرِقَ مِنْ صَحْنِ الدَّارِ، أَوِ اسْتَخْرَجَهُ مِنَ الْجِدَارِ دَاخِلًا أَوْ خَارِجًا، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَجَبَ الْقَطْعُ، وَالشَّرْطُ فِي كَوْنِهَا مُحْرَزَةً أَنْ تَكُونَ الدَّارُ بِحَيْثُ تُحْرَزُ مَا فِيهَا، وَلَوْ كَانَ بَابُ الدَّارِ مَفْتُوحًا، فَدَخَلَ دَاخِلٌ، وَقَلَعَ بَابَ بَيْتٍ وَأَخْرَجَهُ، فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَتَاعًا مِنْهَا، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُقْطَعُ، وَالْبَابُ مُحْرَزٌ بِالتَّرْكِيبِ كَبَابِ الدَّارِ، وَالْقُفْلِ عَلَى الْبَابِ مُحْرَزٌ كَالْبَابِ وَالْحَلْقَةِ، وَقَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: لَيْسَ بِمُحْرَزٍ ; لِأَنَّهُ لِلْإِحْرَازِ بِهِ لَا لِإِحْرَازِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْخِيَامُ بِرَبْطِهَا وَتَنْضِيدِ الْأَمْتِعَةِ فِيهَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ دَوَامِ اللِّحَاظِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْأَمْتِعَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الصَّحْرَاءِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَالدُّورِ فِي الْحَصَانَةِ ; لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا قَابِلَةٌ لِلسَّرِقَةِ، فَإِذَا ضَرَبَ فِي صَحْرَاءَ خَيْمَةً، وَآوى إِلَيْهَا مَتَاعًا، فَسُرِقَ مِنْهَا، أَوْ سُرِقَتْ هِيَ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَشُدَّ أَطْنَابَهَا، وَلَمْ يُرْسِلْ أَذْيَالَهَا، فَهِيَ وَمَا فِيهَا كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَإِنْ شَدَّهَا بِالْأَوْتَادِ وَأَرْسَلَ أَذْيَالَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا فِيهَا، فَلَا قَطْعَ، وَقِيلَ: الْخَيْمَةُ مُحْرَزَةٌ دُونَ مَا فِيهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا فِي نَفْسِهَا مُسْتَيْقِظًا، أَوْ نَائِمًا، أَوْ نَامَ بِقُرْبِهَا، وَجَبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهَا أَوْ سَرِقَةِ مَا فِيهَا لِحُصُولِ الْإِحْرَازِ فِي الْعَادَةِ، قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يَتَقَوَّى بِهِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي مَفَازَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْغَوْثِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُبَالَى بِهِ، فَلَيْسَ بِحِرْزٍ، وَلَوْ ضَرَبَ خَيْمَةً بَيْنَ الْعِمَارَةِ، فَهُوَ كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي السُّوقِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ إِسْبَالُ بَابِ الْخَيْمَةِ إِذَا كَانَ مَنْ فِيهَا نَائِمًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَلَوْ شَدَّهَا بِالْأَوْتَادِ وَلَمْ يُرْسِلْ أَذْيَالَهَا وَكَانَ يُمْكِنُ دُخُولُهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ وَمَا فِيهَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ، هَكَذَا ذَكَرُوهُ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْأَمْتِعَةَ وَالْأَحْمَالَ إِذَا شُدَّ بَعْضُهَا بِبَعْضِ تَكُونُ مُحْرَزَةً بَعْضَ الْإِحْرَازِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَيْمَةً، وَلَوْ أَنَّ السَّارِقَ يَجِيءُ النَّائِمَ فِي الْخَيْمَةِ، ثُمَّ سَرَقَ، فَلَا قَطْعَ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حِرْزًا حِينَ سَرَقَ. الْخَامِسَةُ: الْمَوَاشِي فِي الْأَبْنِيَةِ الْمُغْلَقَةِ الْأَبْوَابِ مُحْرَزَةٌ إِنِ اتَّصَلَتْ بِالْعِمَارَةِ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُهَا فِيهَا أَمْ لَمْ يَكُنْ، لِلْعَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَرِّيَّةٍ، لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَةً إِلَّا إِذَا كَانَ صَاحِبُهَا فِيهَا مُسْتَيقِظًا أَوْ نَائِمًا، فَإِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا، اشْتُرِطَ كَوْنُهُ مُسْتَيْقِظًا، وَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَاحُ مِنْ حَطَبٍ أَوْ حَشِيشٍ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْأَبْنِيَةِ فَلَهَا أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْإِبِلُ تَرْعَى فِي صَحْرَاءَ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ إِذَا كَانَ

مَعَهَا حَافِظٌ يَرَاهَا جَمِيعًا، وَيَبْلُغُهَا صَوْتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَرَ بَعْضَهَا، لِكَوْنِهِ فِي وَهْدَةٍ أَوْ خَلْفَ جَبَلٍ أَوْ حَائِطٍ، فَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مُحْرَزٍ، وَلَوْ نَامَ، أَوْ تَشَاغَلَ لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَةً، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ صَوْتُهُ بَعْضَهَا فَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ غَيْرُ مُحْرَزٍ، وَسَكَتَ آخَرُونَ عَنِ اعْتِبَارِ بُلُوغِ الصَّوْتِ اكْتِفَاءً بِالنَّظَرِ ; لِأَنَّهُ إِذَا قَصَدَ مَا يَرَاهُ أَمْكَنَهُ الْعَدْوُ إِلَيْهِ، وَحُكْمُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَهِيَ تَرْعَى حُكْمُ الْإِبِلِ، وَكَذَا الْغَنَمِ إِذَا كَانَ الرَّاعِي عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ يَرَاهَا جَمِيعًا فَهِيَ مُحْرَزَةٌ إِذَا بَلَغَهَا صَوْتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ سَائِرَةً، أَمَّا الْإِبِلُ فَإِنْ كَانَتْ مَقْطُورَةً يَسُوقُهَا سَائِقٌ، فَمُحْرَزَةٌ إِنْ انْتَهَى نَظَرُهُ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ يَقُودُهَا اشْتُرِطَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا كُلَّ سَاعَةٍ، وَيَنْتَهِيَ نَظَرُهُ إِلَيْهَا إِذَا الْتَفَتَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَرَى الْبَعْضَ لِحَائِلِ جَبَلٍ أَوْ بِنَاءٍ، فَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مُحْرَزٍ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ انْتِهَاءُ النَّظَرِ إِلَى آخِرِهَا، وَلِيَجِيءَ هَذَا فِي سُوقِهَا، وَلَوْ رَكِبَ الْحَافِظُ أَوَّلَهَا فَهُوَ كَقَائِدِهَا، وَلَوْ رَكِبَ غَيْرَ الْأَوَّلِ، فَهُوَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَسَائِقٍ، وَلِمَا خَلْفَهُ كَقَائِدٍ، وَحَيْثُ يُشْتَرَطُ انْتِهَاءُ نَظَرِهِ إِلَيْهَا فَفِي اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الصَّوْتِ مَا سَبَقَ، وَقَدْ يُسْتَغْنَى بِنَظَرِ الْمَارَّةِ عَنْ نَظَرِهِ إِذَا كَانَ يُسَيِّرُهَا فِي سُوقٍ مَثَلًا، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَقْطُورَةً، بِأَنْ كَانَتْ تُسَاقُ أَوْ تُقَادُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْرَزَةٍ ; لِأَنَّهَا لَا تَسِيرُ هَكَذَا غَالِبًا، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَقَالَ صَاحِبُ الْإِفْصَاحِ: الْمَقْطُورَةُ وَهَذِهِ سَوَاءٌ، وَبِهَذَا أَخَذَ الرُّويَانِيُّ، الْمُعْتَبَرُ أَنْ تَقْرُبَ مِنْهُ، وَيَقَعَ نَظَرُهُ عَلَيْهَا، وَلَا تُعْتَبَرُ صُورَةُ الْقُطُرِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَزِيدَ الْقِطَارُ الْوَاحِدُ عَلَى تِسْعَةٍ لِلْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، فَإِنْ زَادَ فَهِيَ كَغَيْرِ الْمَقْطُورَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْقُطُرِ وَلَمْ يُقَيَّدْ بِعَدَدٍ، وَالْأَصَحُّ تَوَسُّطٌ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ فَقَالَ: فِي الصَّحْرَاءِ لَا يُتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ، وَفِي الْعُمْرَانِ يُعْتَبَرُ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ

يَجْعَلُ قِطَارًا، وَهُوَ مَا بَيْنَ سَبْعَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، فَإِنْ زَادَ، لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُحْرَزَةً، وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَالْغَنَمُ السَّائِرَةُ، كَالْإِبِلِ السَّائِرَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَقْطُورَةً، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَطْرَ فِيهَا، لَكِنَّهُ مُعْتَادٌ فِي الْبِغَالِ، وَيَخْتَلِفُ عَدَدُ الْغَنَمِ الْمُحْرَزَةِ بِالْوَاحِدِ بِالْبَلَدِ وَالصَّحْرَاءِ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْإِبِلُ مُنَاخَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَحَدٌ، فَلَيْسَتْ مُحْرَزَةً، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا صَاحِبُهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعْقُولَةً، لَمْ يَضُرَّ نَوْمُهُ وَلَا اشْتِغَالُهُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ فِي حَلِّ الْمَعْقُولَةِ مَا يُوقِظُ النَّائِمَ وَالْمُشْتَغِلَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً اشْتُرِطَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا وَيُلَاحِظَهَا. فَرْعٌ الطَّعَامُ عَلَى دَابَّةٍ مُحْرَزَةٍ مُحْرَزٌ، فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ سَوَاءً مِنَ الْوِعَاءِ، أَوْ مَعَ الْوِعَاءِ، أَوْ مَعَ الدَّابَّةِ، وَلَوْ سَاقَ بَقَرَةً وَتَبِعَهَا عِجْلُهَا، فَإِنَّمَا يَكُونُ الْعِجَلُ مُحْرَزًا إِذَا قَرُبَ مِنْهُ بِحَيْثُ يَرَاهُ إِذَا الْتَفَتَ، وَأَنْ يَلْتَفِتَ كُلَّ سَاعَةٍ كَمَا سَبَقَ فِي قَائِدِ الْقِطَارِ، وَعَنِ الْمَسْعُودِيِّ أَنَّ الْغَنَمَ الْمُرْسَلَةَ فِي سِكَّةٍ تُشْرَعُ إِلَيْهَا أَبْوَابُ الدَّوْرِ لَا تَكُونُ مُحْرَزَةً حَتَّى تَأْوِيَ إِلَى مَوْضِعٍ، وَلْيَكُنْ هَذَا فِيمَا إِذَا كَثُرَتْ، وَتَعَذَّرَتِ الْمُلَاحَظَةُ، وَمَنْ دَخَلَ مَرَاحًا، وَحَلَبَ الْغَنَمَ، أَوْ جَزَّ صُوفَهَا وَأَخْرَجَ مِنْهُ نِصَابًا، قَطْعٌ. السَّادِسَةُ: إِذَا نَبَشَ قَبْرًا وَسَرَقَ مِنْهُ الْكَفَنَ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْقَطْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَحَكَى ابْنُ خَيْرَانَ وَابْنُ الْوَكِيلِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْبِلَى لَا لِلْإِحْرَازِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَذْهَبِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: إِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُحْرَزٍ، قُطِعَ بِسَرِقَةِ الْكَفَنِ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ مَحْفُوفَةً بِالْعِمَارَةِ يَنْدُرُ تَخَلُّفُ الطَّارِقِينَ عَنْهَا فِي زَمَنٍ يَتَأَتَّى فِيهِ النَّبْشُ، أَوْ كَانَ عَلَيْهَا حُرَّاسٌ مُرَتَّبُونَ، وَلَوْ كَانَ الْقَبْرُ

فِي مَفَازَةٍ وَبُقْعَةٍ ضَائِعَةٍ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَيْسَ بِحِرْزٍ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَالْغَزَالِيُّ وَعَزَاهُ إِلَى جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ، وَالثَّانِي وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَالْقَاضِي، وَرَجَّحَهُ الْعَبَّادِيُّ: الْقَبْرُ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ حَيْثُ كَانَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ تَهَابُ الْمَوْتَى، وَلَوْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُحْرَزٍ فَسَرَقَ الْكَفَنَ حَافِظُ الْبَيْتِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا قَطَعَ، وَعَلَى الثَّانِي: يَجِبُ، وَلَوْ كَانَ الْقَبْرُ فِي مَقَابِرِ الْبِلَادِ الْوَاقِعَةِ عَلَى طَرَفِ الْعِمَارَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا حَارِسٌ، وَجَبَ الْقَطْعُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ حِرْزٌ فِي الْعَادَةِ. الثَّانِيَةُ: لَوْ وُضِعَ فِي الْقَبْرِ شَيْءٌ سِوَى الْكَفَنِ، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ، تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَقَابِرِ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: لَا قَطْعَ لِلْعَادَةِ، بِخِلَافِ الْكَفَنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَطَعَ فِيهِ النَّبَّاشَ، وَجَعَلَهُ مُحْرَزًا لِضَرُورَةِ التَّكْفِينِ وَالدَّفْنِ، وَخَصَّ الْإِمَامُ الْوَجْهَ الْآخَرَ بِمَا إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ، كَثَوْبٍ وُضِعَ فِيهِ، وَكَمَا لَوْ كُفِّنَ فِي زِيَادَةٍ عَلَى خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، فَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْخَمْسَةِ الَّتِي تَلِي الْمَيِّتَ الْوَجْهَانِ، وَلَيْسَ الْوَجْهُ مُخْتَصًّا فَقَدْ حَكَاهُ الرَّويَانِيُّ فِيمَا لَوْ وُضِعَ فِي الْقَبْرِ مِضْرَبَةٌ، أَوْ وِسَادَةٌ لِلْمَيِّتِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَجْرَاهُ فِيمَا لَوْ وُضِعَ مَعَهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، بَلْ فِي «الرَّقْمِ» لِلْعَبَّادِيِّ أَنَّ الْقَفَّالَ أَوْجَبَ الْقَطْعَ فِيمَا لَوْ دُفِنَ مَعَهُ مَالٌ فِي بَرِّيَّةٍ، وَالتَّابُوتُ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ كَالْأَكْفَانِ الزَّائِدَةِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى مَا اسْتُحِبَّ تَطْيِيبُ الْمَيِّتِ بِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَعَنِ الْمَاسَرْجِسِيُّ أَنَّهُ يُقْطَعُ بِالْقَدْرِ الْمُتَسَحَّبِ كَالْكَفَنِ. الثَّالِثَةُ: إِذَا كُفِّنَ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَلِمَنِ الْكَفَنُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: لِلْوَرَثَةِ، لَكِنْ يُقَدَّمُ الْمَيِّتُ فِيهِ كَقَضَاءِ دَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ لِلْوَرَثَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ سَرَقَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ، أَوْ وَلَدُ بَعْضِهِمْ، فَلَا قَطْعَ،

وَالثَّانِي: يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً، كَمَا يَبْقَى الدَّيْنُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِيهِ لِلْوَارِثِ، فَهُوَ الْخَصْمُ فِي السَّرِقَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمَيِّتِ، فَهَلِ الْخَصْمُ الْوَارِثُ أَمِ الْحَاكِمُ؟ وَجْهَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَالْخَصْمُ الْحَاكِمُ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ، وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ: الْمِلْكُ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْمَيِّتِ، يَقُولُ: يَتَعَيَّنُ رَدُّهُ بَعْدَ مَا أَخَذَهُ النَّبَّاشُ إِلَى الْمَيِّتِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْوَارِثِ إِبْدَالُهُ، فَالتَّفْرِيعُ وَالْخِلَافُ فِي أَنَّ الْخَصْمَ مَنْ هُوَ صَحِيحٌ، لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ عَرِيَ عَنِ التَّحْصِيلِ، وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ لِلْوَارِثِ إِبْدَالَهُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ الْخَصْمُ لَا غَيْرَ، وَلَوْ أَكَلَ الْمَيِّتَ سَبْعٌ، أَوْ ذَهَبَ بِهِ سَيْلٌ، وَبَقِيَ الْكَفَنُ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مِلْكُ الْوَرَثَةِ، اقْتَسَمُوهُ، وَإِنْ قُلْنَا: مِلْكُ الْمَيِّتِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى، جُعِلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ قَطْعًا، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كُفِّنَ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِنْ كَفَّنَهُ أَجْنَبِيٌّ، أَوْ كُفِّنَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلِمَنِ الْمِلْكُ فِيهِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْأَوْجُهِ، وَالثَّانِي: لِلْأَجْنَبِيِّ، أَوْ عَلَى حُكْمِ بَيْتِ الْمَالِ، وَيَكُونُ كَالْعَارِيَةِ. قُلْتُ: هَذَا أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْقَوْلُ فِي أَنَّ الْخَصْمَ فِي السَّرِقَةِ مَنْ هُوَ؟ وَفِي أَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ سَبْعٌ إِلَى مَنْ يُرَدُّ الْكَفَنُ؟ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمِلْكِ. فَرْعٌ كَفَّنَ سَيِّدٌ عَبْدَهُ، فَهَلِ الْكَفَنُ مِلْكُ السَّيِّدِ أَمْ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ؟ وَجْهَانِ،

فصل

أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَلَوْ سُرِقَ الْكَفَنُ وَضَاعَ، كُفِّنَ ثَانِيًا مِنَ التَّرِكَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ كَمَنْ مَاتَ وَلَا تَرِكَةَ لَهُ. قُلْتُ: هَكَذَا جَزَمَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» بِأَنَّهُ يَجِبُ تَكْفِينُهُ ثَانِيًا مِنَ التَّرِكَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِذَا كُفِّنَ مِنْ مَالِهِ وَقُسِّمَتِ التَّرِكَةُ، ثُمَّ سُرِقَ الْكَفَنُ، اسْتُحِبَّ لِلْوَرَثَةِ تَكْفِينُهُ ثَانِيًا، وَلَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوِيٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا يُقْطَعُ النَّبَّاشُ إِذَا أَخْرَجَ الْكَفَنَ مِنْ جَمِيعِ الْقَبْرِ، أَمَّا إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ اللَّحْدِ إِلَى فَضَاءِ الْقَبْرِ، وَتَرَكَهُ هُنَاكَ لِخَوْفٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يُقْطَعُ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ بَيْتٍ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ. فَصْلٌ إِذَا كَانَ الْحِرْزُ مِلْكًا لِلسَّارِقِ، نُظِرَ إِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِإِجَارَةٍ، فَسَرَقَ مِنْهُ الْمُؤَجِّرُ، قُطِعَ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ التَّصْوِيرَ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ بِالْإِجَارَةِ إِيوَاءَ الْمَتَاعِ دُونَ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَآوَى إِلَيْهَا مَاشِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْحِرْزُ فِي يَدِهِ بِإِعَارَةٍ وَسَرَقَ الْمُعِيرُ مِنْهُ مَالَ الْمُسْتَعِيرِ، قُطِعَ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَقِيلَ: لَا، وَقِيلَ: إِنْ دَخَلَ الْحِرْزَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ عَنِ الْعَارِيَةِ فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ دَخَلَ بِنِيَّةِ السَّرِقَةِ قُطِعَ، وَلَوْ أَعَارَ عَبْدًا لِحِفْظِ مَالٍ، أَوْ رَعْيِ غَنَمٍ، ثُمَّ سَرَقَ مِمَّا يَحْفَظُهُ عَبْدُهُ، فَقِيلَ: يُقْطَعُ قَطْعًا، وَقِيلَ: فِيهِ الْأَوْجُهُ، وَلَوْ أَعَارَ قَمِيصًا، فَلَبِسَهُ الْمُسْتَعِيرُ، وَطَرَّ الْمُعِيرُ جَيْبَهُ وَأَخَذَ مَا فِيهِ، قُطِعَ، وَلَوْ كَانَ الْحِرْزُ فِي يَدِهِ بِغَصْبٍ، فَسَرَقَ مَالِكُ الْحِرْزِ مِنْهُ، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ جَائِزٌ فَلَيْسَ مُحْرَزًا عَنْهُ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يُقْطَعْ عَلَى

فصل

الْأَصَحِّ، وَلَوِ اشْتَرَى الْحِرْزَ، وَسَرَقَ مِنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ مَالَ الْبَائِعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى الثَّمَنَ، قُطِعَ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ غَصَبَ مَالًا، أَوْ سَرَقَهُ وَوَضَعَهُ فِي حِرْزِهِ، فَجَاءَ مَالِكُ الْمَالِ وَسَرَقَ مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ مَالًا لِلْغَاصِبِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ لَهُ دُخُولُ الْحِرْزِ وَهَتْكُهُ لِأَخْذِ مَالِهِ، وَخَصَّصَ جَمَاعَةٌ الْوَجْهَيْنِ بِمَا إِذَا كَانَ مَالُ الْغَاصِبِ مُتَمَيِّزًا لَا عَنْ مَالِهِ، سَوَاءٌ أَخَذَهُ وَحْدَهُ أَمْ مَعَ مَالِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَخْلُوطًا بِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا، فَلَا قَطْعَ قَطْعًا، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ لَا يُقْطَعُ بِهِ الشَّرِيكُ، وَلَوْ سَرَقَ أَجْنَبِيٌّ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ أَوِ الْمَسْرُوقَ، لَمْ يُقْطَعْ عَلَى الْأَصَحِّ. فَصْلٌ سَرَقَ طَعَامًا فِي عَامِ الْقَحْطِ وَالْمَجَاعَةِ، فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ عَزِيزًا بِثَمَنٍ غَالٍ، قُطِعَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَا قَطْعَ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا قَطْعَ فِي عَامِ الْمَجَاعَةِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: نَفْسُ السَّرِقَةِ، وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْخَفِيَّةِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ أَخَذَ عِيَانًا، كَالْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ، فَالْمُخْتَلِسُ: هُوَ مَنْ يَعْتَمِدُ الْهَرَبَ، وَالْمُنْتَهِبُ: الَّذِي يَعْتَمِدُ الْقُوَّةَ وَالْغَلَبَةَ، وَلَا يُقْطَعُ الْمُودَعُ إِذَا جَحَدَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ: الْأَوَّلُ فِي إِبْطَالِ الْحِرْزِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالنَّقْبِ وَفَتْحِ الْبَابِ، وَقَدْ يَكُونُ بِتَغْيِيبِهِ عَنْ نَظَرِ الْمُلَاحِظِ، وَفِيهِ صُوَرٌ: الْأُولَى: إِذَا نَقَّبَ، ثُمَّ عَادَ وَأَخْرَجَ نِصَابًا فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ عَلِمَ صَاحِبُ الْحِرْزِ بِالنَّقْبِ، أَوْ كَانَ ظَاهِرًا يَرَاهُ الطَّارِقُونَ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ،

فَلَا قَطْعَ، لِانْتِهَاكِ الْحِرْزِ، وَإِلَّا فَيُقْطَعُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ، كَمَا لَوْ نَقَّبَ وَأَخْرَجَ الْمَالَ آخَرُ، وَلَوْ نَقَّبَ وَاحِدٌ، وَدَخَلَ آخَرُ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ الْمَالَ فِي الْحَالِ، أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَيَضْمَنُ الْأَوَّلُ الْجِدَارَ. وَالثَّانِي مَا أَخَذَهُ، وَقِيلَ: فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى الثَّانِي قَوْلَانِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، فَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ حَافِظٌ قَرِيبٌ مِنَ النَّقِيبِ، وَهُوَ يُلَاحِظُ الْمَتَاعَ فَهُوَ مُحْرِزٌ بِهِ، فَيُقْطَعُ الْآخِذُ. وَإِنْ كَانَ الْحَافِظُ نَائِمًا، لَمْ يُقْطَعْ فِي الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ فِيمَنْ نَامَ فِي الدَّارِ وَبَابُهَا مَفْتُوحٌ. الثَّانِيَةُ: تَعَاوَنَ شَرِيكَانِ عَلَى النَّقْبِ، وَأَخْرَجَا نِصَابَيْنِ، بِأَنْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ نِصَابًا، أَوْ حَمَلَا مَتَاعًا يُسَاوِي نِصَابَيْنِ، لَزِمَهُمَا الْقَطْعُ، وَإِنْ تَعَاوَنَا عَلَى النَّقْبِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْإِخْرَاجِ، فَالْقَطْعُ عَلَى الْمُخْرِجِ خَاصَّةً، وَحَكَى الْإِمَامُ فِي الْمُخْرِجِ وَجْهًا شَاذًّا جِدًّا، وَلَوْ نَقَّبَ وَاحِدٌ، وَدَخَلَ مَعَ آخَرَ، وَأَخْرَجَا الْمَالَ، قُطِعَ الْجَامِعُ بَيْنَ النَّقْبِ وَالْإِخْرَاجِ دُونَ الْآخَرِ، وَلَوِ اشْتَرَكَا فِي النَّقْبِ وَلَمْ يُخْرِجَا إِلَّا نِصَابًا، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي النَّقْبِ ثُلُثًا، وَالْآخَرُ سُدُسًا، قُطِعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ دُونَ الْآخَرِ، وَفِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الِاشْتِرَاكُ فِي النَّقْبِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَحْصُلْ بِأَخْذِ آلَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَسْتَعْمِلَاهَا مَعًا، كَمَا لَا يَحْصُلُ الِاشْتِرَاكُ فِي قَطْعِ الْيَدِ إِلَّا بِأَنْ يُمِرَّا حَدِيدَةً وَاحِدَةً، وَأَصَحُّهُمَا: تَحْصُلُ الشَّرِكَةُ وَإِنْ أَخَذَ هَذَا لَبِنَاتٍ وَهَذَا لَبِنَاتٍ. الثَّالِثَةُ: الشَّرِيكَانِ فِي النَّقْبِ، إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمَا وَوَضَعَ الْمَتَاعَ قَرِيبًا مِنَ النَّقْبِ، أَوْ دَخَلَ أَحَدُ السَّارِقَيْنِ وَوَضَعَهُ قَرِيبًا مِنْ بَابِ الْحِرْزِ، وَأَدْخَلَ الْآخَرُ يَدَهُ وَأَخَذَهُ، فَالْقَطْعُ عَلَى الثَّانِي الْمُخْرِجِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى طَرَفِ السَّطْحِ، وَنَزَلَ الْآخَرُ وَجَمَعَ الثِّيَابَ وَرَبَطَهَا

بِحَبْلٍ، فَرَفَعَهَا الْوَاقِفُ، فَالْقَطْعُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِمَا الضَّمَانُ، وَلَوْ وَضَعَ الدَّاخِلُ الْمَتَاعَ خَارِجَ الْحِرْزِ أَوِ الْبَابِ، وَأَخَذَهُ الْآخَرُ، فَالْقَطْعُ عَلَى الْمُخْرِجِ دُونَ الْآخِذِ، وَلَوْ وَضَعَ الْمَتَاعَ عَلَى وَسَطِ النَّقْبِ، فَأَخَذَهُ الْآخَرُ وَأَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابَيْنِ فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يُقْطَعَانِ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا قَطَعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ نَاوَلَ الدَّاخِلُ الْخَارِجَ فِي فَمِ النَّقْبِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، ذَكَرَهُ بَعْدَ حِكَايَتِهِ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ، وَلَوْ نَقَّبَ اثْنَانِ وَدَخَلَا، وَأَخَذَ أَحَدُهُمَا الْمَالَ وَشَدَّهُ عَلَى وَسَطِ الْآخَرِ، فَخَرَجَ بِهِ الْآخَرُ، فَالْقَطْعُ عَلَى هَذَا الْآخَرِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَنَّ الْآخَرَ أَخَذَ الْمَالَ فَأَخْرَجَهُ وَالْمَتَاعُ فِي يَدِهِ، قُطِعَ الْمَحْمُولُ، وَفِي الْحَامِلِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَامِلٍ لِلْمَالِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَحْمِلُ طَبَقًا، فَحَمَلَ رَجُلًا حَامِلًا طَبَقًا، لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ نَقَّبَ زَمِنٌ وَأَعْمَى، وَأَدْخَلَ الْأَعْمَى الزَّمِنَ فَأَخَذَ الْمَالَ، وَحَمَلَهُ الْأَعْمَى وَأَخْرَجَهُ، قُطِعَ الزَّمِنُ، وَفِي الْأَعْمَى الْوَجْهَانِ، قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : وَلَوْ أَنَّ الْأَعْمَى حَمَلَ الزَّمِنَ وَأَدْخَلَهُ، فَدَلَّ الزَّمِنُ الْأَعْمَى عَلَى الْمَالِ، وَأَخَذَهُ، وَخَرَجَ بِهِ قُطِعَ الْأَعْمَى، وَلَا يُقْطَعُ الزَّمِنُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ نَقَّبَ وَاحِدٌ وَدَخَلَ، فَوَضَعَ الْمَتَاعَ عَلَى وَسَطِ النَّقْبِ، فَأَخَذَهُ آخَرُ، أَوْ دَخَلَ غَيْرُ النَّاقِبِ وَوَضَعَهُ فِي الْوَسَطِ، فَأَخَذَهُ النَّاقِبُ، فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَرْعٌ لَا فَرْقَ فِي هَتْكِ الْحِرْزِ بَيْنَ النَّقْبِ، وَكَسْرِ الْبَابِ، وَقَلْعِهِ، وَفَتْحِ الْمِغْلَاقِ وَالْقُفْلِ، وَتَسَوُّرِ الْحَائِطِ، فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَخْذِ الْمَالِ فِي جَمِيعِ هَذَا الْأَحْوَالِ.

الطَّرَفُ الثَّانِي فِي وُجُوهِ النَّقْلِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: رَمَى الْمَالَ إِلَى خَارِجِ الْحِرْزِ مِنَ النَّقْبِ أَوِ الْبَابِ، أَوْ مِنْ فَوْقِ الْجِدَارِ، لَزِمَهُ الْقَطْعُ، سَوَاءٌ أَخَذَهُ بَعْدَ الرَّمْيِ، أَوْ تَرَكَهُ فَضَاعَ أَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ، فَلَا قَطْعَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَهُ مُعِينُهُ، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي النَّقْبِ، أَوْ أَدْخَلَ فِيهِ مِحْجَنًا، وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ، قُطِعَ، وَلَوْ أَرْسَلَ مِحْجَنًا أَوْ حَبْلًا فِي رَأْسِهِ كُلَّابٌ مِنَ السَّطْحِ، وَأَخْرَجَ بِهِ ثَوْبًا، أَوْ إِنَاءً وَنَحْوَهُ، قُطِعَ. الثَّانِيَةُ: لَوْ أَتْلَفَ الْمَالَ فِي الْحِرْزِ بِأَكْلٍ أَوْ إِحْرَاقٍ، فَلَا قَطْعَ، وَلَوِ ابْتَلَعَ فِي الْحِرْزِ جَوْهَرَةً أَوْ دِينَارًا فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: أَنَّهَا إِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، قُطِعَ، وَإِلَّا فَلَا، وَالثَّانِي: لَا يُقْطَعُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: يُقْطَعُ، وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ وَجْهًا رَابِعًا أَنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْهُ، قُطِعَ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ أَخَذَ الطِّيبَ، فَتَطَيَّبَ بِهِ فِي الْحِرْزِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْمَعَ مِنْهُ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا، فَلَا قَطْعَ، وَكَذَا إِنْ أَمْكَنَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ يُعَدُّ إِهْلَاكًا، كَأَكْلِ الطَّعَامِ. الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَ فِي الْحِرْزِ مَاءٌ جَارٍ فَوَضَعَ الْمَتَاعَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ، قُطِعَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا، وَحَرَّكَهُ حَتَّى خَرَجَ بِهِ، فَهُوَ كَالْجَارِي، وَإِنْ حَرَّكَهُ غَيْرُهُ، فَخَرَجَ، فَالْقَطْعُ عَلَى الْمُحَرِّكِ، وَإِنْ زَادَ الْمَاءُ بِانْفِجَارٍ أَوْ مَجِيءِ سَيْلٍ، فَخَرَجَ بِهِ، لَمْ يُقْطَعْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ كَانَ فِي بُسْتَانٍ أُتْرُجٌّ وَالْمَاءُ يَدْخُلُ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ وَيَخْرُجُ مِنَ الْآخَرِ، فَجَمَعَ نَارًا وَوَقُودًا وَوَضَعَهُ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى دَخَلَ وَعَلَا الدُّخَانُ، فَأَسْقَطَ الْأُتْرُجَّ فِي الْمَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَأَخَذَهُ، أَوْ رَمَى الْأَشْجَارَ بِحِجَارَةٍ مِنْ خَارِجِ الْبُسْتَانِ حَتَّى تَنَاثَرَتِ الثِّمَارُ فِي الْمَاءِ، وَخَرَجَتْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، لَمْ يُقْطَعْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانَتِ الرِّيحُ تَهُبُّ، فَعَرَضَ الْمَتَاعَ

حَتَّى خَرَجَتْ بِهِ، أَوْ وَضَعَهُ عَلَى طَرَفِ النَّقْبِ، فَطَارَتْ بِهِ الرِّيحُ، قُطِعَ، وَلَا أَثَرَ لِمُعَاوَنَةِ الرِّيحِ، كَمَا أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَحِلَّ الصَّيْدِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الرِّيحُ رَاكِدَةً، فَوَضَعَهُ عَلَى طَرَفِ النَّقْبِ، فَهَبَّتْ وَأَخْرَجَتْهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ. الرَّابِعَةُ: لَوْ وَضَعَ مَتَاعًا فِي حِرْزٍ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ، وَسَيَّرَهَا بِسُوقٍ أَوْ قَوْدٍ حَتَّى خَرَجَتْ، أَوْ عَقَدَ اللُّؤْلُؤَةَ عَلَى جَنَاحِ طَائِرٍ وَطَيَّرَهُ، قُطِعَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ، وَفِي «الْبَيَانِ» وَجْهٌ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّابَّةُ فِي السَّيْرِ، فَوَضَعَ الْمَتَاعَ عَلَيْهَا فَخَرَجَتْ بِهِ، فَلَا قَطْعَ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَيَّرَهَا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ سَائِرَةً وَلَا سَيَّرَهَا، بَلْ كَانَتْ وَاقِفَةً، فَوَضَعَ الْمَتَاعَ عَلَيْهَا، فَسَارَتْ وَخَرَجَتْ بِهِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ لَهَا اخْتِيَارًا فِي السَّيْرِ، وَقِيلَ: لَا قَطْعَ بِلَا خِلَافٍ، وَقِيلَ: إِنْ سَارَتْ فِي الْحَالِ، قُطِعَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَقِيلَ: إِنْ وَقَفَتْ، ثُمَّ سَارَتْ، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ سَارَتْ فِي الْحَالِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ أَخْرَجَ شَاةً، فَتَبِعَهَا أُخْرَى أَوْ سَخْلَتُهَا، وَلَمْ تَكُنِ الْأُولَى نِصَابًا، فَفِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَفِي دُخُولِ السَّخْلَةِ فِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ نَقَّبَ الْحِرْزَ، ثُمَّ أَمَرَ صَبِيًّا لَا يُمَيِّزُ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ، فَأَخْرَجَهُ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى الْآمِرِ قَطْعًا، وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ فِي خُرُوجِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي كَانَتْ وَاقِفَةً، وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا وَلَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَرُؤْيَةٌ، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ آلَةٌ لَهُ، وَالْعَبْدُ الْأَعْجَمِيُّ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ. الْخَامِسَةُ: لَوْ سَرَقَ عَبْدًا صَغِيرًا لَا يُمَيِّزُ، قُطِعَ إِنْ كَانَ مُحْرَزًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُحْرَزًا إِذَا كَانَ فِي دَارِ السَّيِّدِ، أَوْ بِفَنَاءِ دَارِهِ، فَإِنْ بَعُدَ عَنْهَا، وَدَخَلَ سِكَّةً أُخْرَى، فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ، وَسَوَاءٌ فِي الْمُحْرَزِ بِفَنَاءِ الدَّارِ كَانَ وَحْدَهُ، أَوْ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُضَيَّعًا، وَسَوَاءٌ

حَمَلَهُ نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا، أَوْ دَعَاهُ فَتَبِعَهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَهِيمَةِ يُسَاقُ أَوْ يُقَادُ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ فِي تَسْيِيرِ الْبَهِيمَةِ، وَالْمَجْنُونُ وَالْأَعْجَمِيُّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ كَصَغِيرٍ لَا يُمَيِّزُ، وَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ مُمَيِّزًا، فَسَرَقَهُ نَائِمًا أَوْ سَكْرَانَ أَوْ مَضْبُوطًا، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَلَوْ دَعَاهُ وَخَدَعَهُ فَتَبِعَهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَيْسَ بِسَرِقَةٍ، بَلْ هُوَ خِيَانَةٌ، وَلَوْ أَكْرَهُهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْحِرْزِ، قُطِعَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ حَمَلَ عَبْدًا قَوِيًّا قَادِرًا عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ، فَلَا قَطْعَ، وَلَوْ حَمَلَهُ نَائِمًا أَوْ سَكْرَانَ، قَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ عِنْدِي الْجَزْمُ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ تَلَفَ قَبْلَ التَّيَقُّظِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْيَدِ عَلَيْهِ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْمُقَاوَمَةِ عِنْدَ طَلَبِ الِاسْتِرْدَادِ، قَالَ: وَفِي تَحْقِيقِ السَّرِقَةِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَبْدِ مُحْرَزٌ بِيَدِهِ وَقُوتِهِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» عَلَى التَّرْدِيدِ، وَأَطْلَقَ فِي «الْوَجِيزِ» أَنَّهُ لَا قَطْعَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ جَلَسَ حَيْثُ لَا مُسْتَغَاثَ يُصَاحُ بِهِ، وَهُوَ يُلَاحِظُ مَتَاعَهُ، فَتَغَفَّلَهُ ضَعِيفٌ وَأَخَذَ الْمَالَ، وَلَوْ شَعَرَ بِهِ صَاحِبُ الْمَالِ لَطَرَدَهُ، فَهَلْ نَقُولُ: لَا قَطْعَ، كَمَا لَوْ أَخَذَهُ قَوِيٌّ لَا يُبَالِي بِصَاحِبِ الْمَالِ، أَمْ نَقُولُ: يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْآخِذِينَ؟ الظَّاهِرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ. السَّادِسَةُ: الْحُرُّ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ، فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَتِهِ وَإِنْ كَانَ طِفْلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَوْ كَانَ مَعَ الصَّبِيِّ مَالٌ، أَوْ فِي عُنُقِهِ قِلَادَةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا، فَلَا قَطْعَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ الصَّبِيِّ وَمُحْرَزٌ بِهِ فَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ الْوَجْهَيْنِ، وَصَوَّرَهُمَا الْإِمَامُ فِيمَا لَوْ كَانَ الصَّبِيُّ نَائِمًا أَوْ مَرْبُوطًا عِنْدَ الْحَمْلِ، قَالَ: وَيَجْرِيَانِ فِي أَنَّ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ السَّرِقَةِ هَلْ تَدْخُلُ الثِّيَابُ الَّتِي عَلَيْهِ فِي ضَمَانِهِ؟ وَلَوْ حَمَلَ حُرًّا مُسْتَقِلًّا وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، أَوْ مَعَهُ مَالٌ

آخَرُ، قَالَ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ نَامَ عَلَى بَعِيرٍ عَلَيْهِ أَمْتِعَةٌ. فَجَاءَ سَارِقٌ فَأَخَذَ بِزِمَامِهِ، وَأَخْرَجَهُ عَنِ الْقَافِلَةِ، وَجَعَلَهُ فِي مَضْيَعَةٍ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: يَجِبُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نِصَابًا مِنَ الْحِرْزِ وَالْمَأْمَنِ إِلَى الْمَضْيَعَةِ. وَالثَّانِي: لَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ الْبَعِيرَ وَمَا عَلَيْهِ مُحْرَزٌ بِالرَّاكِبِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ يَدِهِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الرَّاكِبُ قَوِيًّا لَا يُقَاوِمُهُ السَّارِقُ، لَوِ انْتَبَهَ فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يُبَالِي بِهِ السَّارِقُ، قُطِعَ وَلَا أَثَرَ لِيَدِ الضَّعِيفِ. وَالرَّابْعُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَثِيرُونَ سِوَاهُ: إِنْ كَانَ الرَّاكِبُ حُرًّا، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ وَالْبَعِيرَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، قُطِعَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي نَفْسِهِ مَسْرُوقٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَطْعُ، ثُمَّ بَنَى الْإِمَامُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ خِلَافًا حَكَاهُ فِي أَنَّ الْمُسْتَقِلَّ إِذَا حَمَلَهُ حَامِلٌ، هَلْ يَدْخُلُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ تَحْتَ يَدِ الْحَامِلِ؟ قَالَ: وَالْقَوْلُ بِدُخُولِهَا بَعِيدٌ، وَهُوَ فِي الْحُرِّ الْقَوِيِّ أَبْعَدُ مِنْهُ فِي الضَّعِيفِ وَحَيْثُ لَا تَثْبُتُ يَدُ الْحَامِلِ عَلَى الثِّيَابِ فَلَا سَرِقَةَ، وَأَنَّ مَا مَعَ الْحُرِّ لَا يَدْخُلُ فِي يَدِ الْحَامِلِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَحْمُولِ ثَابِتَةٌ عَلَى مَا مَعَهُ، وَلِهَذَا نَقُولُ: مَا يُوجَدُ مَعَ اللَّقِيطِ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ. فَرْعٌ لَوْ سَرَقَ حُلِيًّا مِنْ عُنُقِ صَبِيٍّ، أَوْ سَرَقَ ثِيَابَهُ، قُطِعَ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الْعَبْدُ الصَّغِيرُ مُحْرَزًا، وَلَوْ سَرَقَ قِلَادَةً مِنْ عُنُقِ كَلْبٍ، أَوْ سَرَقَهَا مَعَ الْكَلْبِ، قُطِعَ، وَحِرْزُ الْكَلْبِ كَحِرْزِ الدَّوَابِّ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي الْمَحَلِّ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ فَلَا قَطْعَ بِنَقْلِ الْمَتَاعِ مِنْ بَعْضِ زَوَايَا الْحِرْزِ إِلَى بَعْضِهَا، وَلَوْ نُقِلَ مِنْ بَيْتٍ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ، نُظِرَ إِنْ كَانَ بَابُ الْبَيْتِ مُغْلَقًا وَبَابُ الدَّارِ

مَفْتُوحًا قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مَنْ حِرْزِهِ، وَجَعَلَهُ فِي مَحَلِّ الضَّيَاعِ، وَإِنْ كَانَ بَابُ الْبَيْتِ مَفْتُوحًا وَبَابُ الدَّارِ مُغْلَقًا، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ كَانَ الْبَابَانِ مُغْلَقَيْنِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَقِيلَ: يُقْطَعُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الصَّحْنُ حِرْزًا، لَمْ يُقْطَعْ، وَإِلَّا فَيُقْطَعْ، وَإِنْ كَانَ بَابُ الْبَيْتِ وَالدَّارِ مَفْتُوحَيْنِ فَالْمَالُ ضَائِعٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْرَزًا بِاللِّحَاظِ، فَلَا قَطْعَ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ الْأَرْبَعُ ظَاهِرَةُ التَّصْوِيرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنَ السَّارِقِ تَصَرُّفٌ فِي بَابِ الدَّارِ، بِأَنْ تَسَوَّرَ الْجِدَارَ وَدَخَلَ، أَمَّا إِذَا فَتَحَ بَابَ الدَّارِ الْمُغْلَقَ، ثُمَّ أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الصَّحْنِ، فَالْحِرْزُ الَّذِي يَهْتِكُهُ السَّارِقُ فِي حُكْمِ الْحِرْزِ الدَّائِمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ كَمَا لَوْ نُقِلَ إِلَى الصَّحْنِ وَبَابُ الدَّارِ مُغْلَقٌ، هَذَا مَا رَآهُ الْإِمَامُ أَصَحَّ، فَإِنْ أَغْلَقَ الْبَابَ بَعْدَ فَتْحِهِ، فَهُوَ أَظْهَرُ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي دَارٍ هِيَ وَبُيُوتُهَا لِوَاحِدٍ، فَلَوْ سَكَنَهَا جَمَاعَةٌ، وَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِحُجْرَةٍ أَوْ بَيْتٍ وَفِي مَعْنَاهَا الْخَانَاتُ وَالْمَدَارِسُ وَالرِّبَاطَاتُ، فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَسْكُنُ الْخَانَ كَدَارٍ يَخْتَصُّ بِهَا وَاحِدٌ حَتَّى إِذَا سَرَقَ مِنْ حِجْرِهَا أَوْ صَحْنِهَا مَا يُحْرِزُهُ الصَّحْنُ، وَأَخْرَجَ مِنَ الْخَانِ، قُطِعَ، وَإِنْ أَخْرَجَ مِنَ الْبُيُوتِ وَالْحِجْرِ إِلَى صَحْنِ الْخَانِ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الصَّحْنَ لَيْسَ حِرْزًا لِصَاحِبِ الْبَيْتِ بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ السُّكَّانِ، كَالسِّكَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» ، وَجَمَاعَةٌ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالَيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهُ كَالْإِخْرَاجِ مِنْ بُيُوتِ الدَّارِ إِلَى صَحْنِهَا، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَابُ الْخَانِ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا حُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَ نَهَارًا، قُطِعَ، وَإِنْ كَانَ لَيْلًا، فَلَا؛ لِأَنَّ الْبَابَ يَكُونُ مُغْلَقًا، وَأَمَّا إِذَا سَرَقَ أَحَدُ السُّكَّانِ، فَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْعَرْصَةِ، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ وَمَا فِيهَا غَيْرُ مُحْرَزٍ عَنْهُمْ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا إِذَا كَانَ فَتْحُ الْبَابِ هَيِّنًا عَلَى مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، بِأَنْ كَانَ مُوثَقًا بِسَلَاسِلَ وَنَحْوِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُوثَقًا بِالْمَغَالِيقِ وَلَهُ مِفْتَاحٌ بِيَدِ حَارِسٍ وَكَانَ يَحْتَاجُ مُخْرِجُ الْمَتَاعِ إِلَى مُعَانَاةٍ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ يُحَاوِلُ

الدُّخُولَ مِنْ خَارِجٍ، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ بَعْضِ الْبُيُوتِ إِلَى الصَّحْنِ، وَكَانَ بَابُ الْبَيْتِ مُغْلَقًا، وَالصَّحْنُ فِي حَقِّ السُّكَّانِ كَسِكَّةٍ مُنْسَدَّةٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الدُّورِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَابُ الْخَانِ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى السِّكَّةِ بَابٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا. فَرْعٌ سَرَقَ الضَّيْفُ مَالَ الْمُضِيفِ مِنْ مَوْضِعٍ مُحْرِزٍ عَنْهُ، قُطِعَ، وَإِنْ سَرَقَهُ مِنْ غَيْرِ مُحْرِزٍ عَنْهُ، لَمْ يُقْطَعْ، وَلَوْ سَرَقَ جَارٌ مِنْ طَرْفِ حَانُوتٍ جَارَهُ حَيْثُ يُحْرَزُ بِلِحَاظِ الْجِيرَانِ، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِهِ لَا عَنْهُ. فَرْعٌ دَخَلَ رَجُلٌ الْحَمَّامَ مُغْتَسِلًا، فَسَرَقَ لَمْ يُقْطَعْ، فَإِنْ دَخَلَ سَارِقًا وَهُنَاكَ حَافَظُ الْحَمَّامِي أَوْ غَيْرُهُ، قُطِعَ، فَإِنْ كَانَ نَائِمًا أَوْ مُعْرِضًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ، فَلَا قَطَعَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ ثَوْبِ مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ إِذَا اسْتَحْفَظَ الْحَمَّامِيَّ فَحَفِظَهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَحْفِظْهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَمَّامِيِّ بِتَرْكِ الْحِفْظِ، وَلَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ، وَإِنِ اسْتَحْفَظَهُ، فَلَمْ يَحْفَظْ، ضَمِنَ وَلَا قَطَعَ عَلَى السَّارِقِ. فَرْعٌ أَذِنَ صَاحِبُ الدُّكَّانِ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ لِلشِّرَاءِ، فَمَنْ دَخَلَ مُشْتَرِيًا وَسَرَقَ، لَمْ يُقْطَعْ، وَمَنْ دَخَلَ سَارِقًا، قُطِعَ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي دُخُولِهِ، قُطِعَ كُلُّ دَاخِلٍ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: السَّارِقُ، وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ وَالِاخْتِيَارُ وَالِالْتِزَامُ، فَلَا قَطْعَ عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَمُكْرَهٍ وَحَرْبِيٍّ، وَفِي السَّكْرَانِ الْخِلَافُ

السَّابِقُ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، وَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَكَذَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ إِذَا زَنَى، ثُمَّ فِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ أَنَّا إِذَا أَلْزَمْنَا حَاكِمَهَا الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَقَطَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحُكْمُ، لَمْ يَحُدَّهُ وَلَمْ يَقْطَعْهُ إِلَّا بِرِضَاهُ، سَوَاءٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، لَا حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهُ يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ مَالَ مُسْلِمٍ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ مَالَ ذِمِّيٍّ، لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يَتَرَافَعُوا إِلَيْنَا، وَيَجِيءُ الْقَوْلَانِ فِي إِجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ إِذَا جَاءَنَا الْخَصْمُ، قَالَ: وَلَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ، فَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْحَدَّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ قَهْرًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّا لَوْ فَوَّضْنَا الْأَمْرَ إِلَى رِضَاهُ، لَجَرَّ ذَلِكَ فَضِيحَةً عَظِيمَةً، وَغَايَتُنَا أَنْ نَحْكُمَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَإِذَا طَلَبَ تَجْدِيدَهُ، وَجَبَ التَّجْدِيدُ، وَكَيْفَ قُدِّرَ الْخِلَافُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا سَبَقَ فِي بَابَيِ الزِّنَى وَالنِّكَاحِ، وَأَمَّا الْمُعَاهِدُ وَمَنْ دَخَلَ بِأَمَانٍ، فَفِيهِ أَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ، وَالثَّانِي: يُقْطَعُ كَالذِّمِّيِّ، وَكَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ حَسَنٌ: إِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْعَهْدِ قَطَعَهُ إِنْ سَرَقَ، قُطِعَ، وَإِلَّا فَلَا، وَمِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْرِقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالتَّفْصِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِنَفْيِ الْقَطْعِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَسْتَرِدُّ الْمَسْرُوقَ أَوْ بَدَلَهُ إِنْ تَلَفَ، وَلَوْ سَرَقَ مُسْلِمٌ مَالَ مُعَاهِدٍ، قَالَ الْإِمَامُ: التَّفْصِيلُ فِيهِ كَالتَّفْصِيلِ فِي مُعَاهِدٍ سَرَقَ مَالَ مُسْلِمٍ، وَلَوْ زَنَى مُعَاهِدٌ بِمُسْلِمَةٍ فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي حَدِّ الزِّنَى الْخِلَافَ، كَالْقَطْعِ، وَالثَّانِي: الْجَزْمُ بِأَنْ لَا حَدَّ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُومَةِ آدَمِيٍّ وَطَلَبِهِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِنَقْلِ

الْعِرَاقِيِّينَ، وَالْبَغَوِيِّ، وَفِي انْتِقَاضِ عَهْدِ الْمُعَاهِدِ بِالسَّرِقَةِ أَوْجُهٌ، ثَالِثُهَا: إِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يَسْرِقَ، انْتَقَضَ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ الْآبِقُ وَغَيْرُهُ. الْبَابُ الثَّانِي فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ السَّرِقَةُ تَثْبُتُ بِثَلَاثِ حُجَجٍ، إِحْدَاهَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ سَرِقَةً تُوجِبُ الْقَطْعَ، فَأَنْكَرَ وَحَلَفَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَكَلَ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ، وَجَبَ الْمَالُ وَالْقَطْعُ، هَكَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَذِيُّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْإِقْرَارِ وَكَالْبَيِّنَةِ، وَكِلَاهُمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبَا «الشَّامِلِ» وَ «الْبَيَانِ» وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهَا الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَكْرَهَ أَمَتِي عَلَى الزِّنَى، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، يَثْبُتُ الْمَهْرُ دُونَ حَدِّ الزِّنَى. قُلْتُ: صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» الْأَوَّلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: الْإِقْرَارُ، فَإِذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ تُوجِبُ الْقَطْعَ، أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَكْرِيرُ الْإِقْرَارِ، فَلَوْ أَقَرَّ ثُمَّ رَجَعَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ، وَأَنَّهُ يُقْبَلُ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ، فَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ قَطْعِ بَعْضِ الْيَدِ، سَقَطَ الْبَاقِي، فَإِنْ كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَذَاكَ وَإِلَّا فَلِلْمَقْطُوعِ قَطْعُ الْبَاقِي لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِمَامُ ذَلِكَ. وَلَوْ أَقَرَّ اثْنَانِ بِسَرِقَةِ نِصَابَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا، سَقَطَ الْقَطْعُ دُونَ الْآخَرِ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، كَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِإِكْرَاهِ أَمَةٍ عَلَى الزِّنَى، ثُمَّ رَجَعَ، فَالْمَذْهَبُ سُقُوطُ الْحَدِّ دُونَ الْمَهْرِ.

فَرْعٌ إِذَا أَقَرَّ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى بِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ زَيْدٍ الْغَائِبِ سَرِقَةً تُوجِبُ الْقَطْعَ، فَهَلْ يُقْطَعُ فِي الْحَالِ، أَمْ يَنْتَظِرُ حُضُورَ زَيْدٍ وَمُطَالَبَتَهُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا حَضَرَ، وَأَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَبَاحَهُ الْمَالَ، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّارِقُ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، فَتَأْخِيرُهُ أَوْلَى، وَلَوْ بِإِكْرَاهِ جَارِيَةِ غَائِبٍ عَلَى الزِّنَى فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُحَدُّ لِلزِّنَى وَلَا يُؤَخَّرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِ، وَلَوْ حَضَرَ وَقَالَ: كُنْتُ أَبَحْتُهَا لَهُ، لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُؤَخَّرُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجَارِيَةَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ قَالَ الْمَالِكُ: كُنْتُ بِعْتُهَا، أَوْ وَهَبْتُهَا، وَأَنَكَرَ الْمُقِرُّ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ، وَعَلَى قِيَاسِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ إِذَا أَقَرَّ بِوَقْفِ الْجَارِيَةِ، وَكَذَّبَهُ الْمَقِرُّ. قُلْتُ: لَيْسَ الْوَقْفُ كَالْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِلَا قَبُولٍ عَلَى الْمُخْتَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، فَهَلْ يُحْبَسُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: نَعَمْ، كَمَنْ أَقَرَّ بِقِصَاصٍ لِغَائِبٍ أَوْ صَبِيٍّ، وَالثَّانِي: إِنْ قَصُرَتِ الْمَسَافَةُ وَتُوُقِّعَ قُدُومُهُ عَلَى قُرْبٍ، حُبِسَ، وَإِلَّا فَلَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ تَالِفَةً، حُبِسَ لِلْغُرْمِ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، أُخِذَتْ مِنْهُ، ثُمَّ يُفَرَّقُ بَيْنَ طُولِ الْمَسَافَةِ وَقِصَرِهَا، وَلَوْ أَقَرَّ بِغَصْبِ مَالِ غَائِبٍ، لَمْ يُحْبَسْ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِمَالِ الْغَائِبِ. فَرْعٌ لَوْ أَقَرَّ عَبْدٌ بِسَرِقَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْقَطْعِ، قُطِعَ وَفِي قَبُولِهِ فِي الْمَالِ أَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا: لَا يُقْبَلُ، وَالثَّانِي: يُقْبَلُ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ، قُبِلَ، وَإِنْ

تَلَفَ، فَلَا، وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، هَذَا إِذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ فِي يَدِ السَّيِّدِ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ، فَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ دُونَ النِّصَابِ، لَمْ يُقْبَلْ بِلَا خِلَافٍ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ سَيِّدُهُ. فَرْعٌ مَتَى رُفِعَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَاتُّهِمَ بِمَا يُوجِبُ عُقُوبَةً لِلَّهِ تَعَالَى، فَلِلْقَاضِي أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِالْإِنْكَارِ، وَيَحْمِلَهُ عَلَيْهِ، فَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً، أَوْ بَعْدَ الدَّعْوَى، فَهَلْ يُعَرِّضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ: نَعَمْ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَاعِزٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ» وَالثَّانِي: لَا، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَالثَّالِثُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجَوَازِ الرُّجُوعِ، عَرَّضَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا، فَعَلَى الْأَوَّلِ هَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي التَّعْرِيضُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِلْحَدِيثِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ التَّعْرِيضَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ. وَالتَّعْرِيضُ فِي الزِّنَى: لَعَلَّكَ فَاخَذْتَ، أَوْ لَمَسْتَ، أَوْ قَبَّلْتَ. وَفِي شُرْبِ الْخَمْرِ: لَعَلَّكَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ مَا شَرِبْتَهُ مُسْكِرٌ. وَفِي السَّرِقَةِ: لَعَلَّكَ غَصَبْتَ، أَوْ أَخَذْتَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَنَحْوُهَا، وَلَا يَحْمِلُهُ الْقَاضِي عَلَى الرُّجُوعِ تَصْرِيحًا بِأَنْ يَقُولَ: ارْجِعْ عَنِ الْإِقْرَارِ، أَوِ اجْحَدْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّ، فَلَا يُعَرِّضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهَا، حَتَّى لَا يُعَرِّضَ فِي السَّرِقَةِ بِمَا يُسْقِطُ الْغُرْمَ، إِنَّمَا يَسْعَى فِي دَفْعِ الْقَطْعِ، وَهَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَرِّضَ لِلشُّهُودِ بِالتَّوَقُّفِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ إِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي السَّتْرِ، وَإِلَّا فَلَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: فِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ» : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ قَارَفَ مُوجِبَ حَدٍّ إِظْهَارُهُ لِلْإِمَامِ، قَالَ: وَكَانَ شَيْخِي يَقْطَعُ بِهِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ إِذَا قُلْنَا: الْحَدُّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ: الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِظْهَارُ لِقِصَّةِ مَاعِزٍ، وَإِنَّمَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ عَلَى قَوْلٍ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَالتَّوْبَةُ تُسْقِطُ أَثَرَ الْمَعْصِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الشَّهَادَةُ، فَيَثْبُتُ الْقَطْعُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالسَّرِقَةِ، أَوْ شَاهِدٌ وَحَلَفَ الْمُدِّعِي مَعَهُ، ثَبَتَ الْمَالُ وَلَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ عُلِّقَ الطَّلَاقَ أَوِ الْعِتْقَ عَلَى غَصْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ، فَشَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى الْغَصْبِ أَوِ السَّرِقَةِ، ثَبَتَ الْمَالُ دُونَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَقِيلَ: فِي ثُبُوتِ الْمَالِ فِي السَّرِقَةِ قَوْلَانِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلَا تُقْبَلُ فِي السَّرِقَةِ شَهَادَةُ مُطَلَّقَةٍ لِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا، فَيُشْتَرَطُ بَيَانُ السَّارِقِ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا، أَوْ ذِكْرِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ إِنْ كَانَ غَائِبًا، وَيَكْفِي عِنْدَ حُضُورِهِ أَنْ يَقُولَ: سَرَقَ هَذَا، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ، هَذَا بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُبَيِّنَ الْمَسْرُوقَ وَالْمَسْرُوقَ مِنْهُ، وَكَوْنُ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ بِتَعْيِينِ الْحِرْزِ أَوْ صِفَتِهِ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ الشَّاهِدَ يَقُولُ أَيْضًا: وَلَا أَعْلَمُ لَهُ فِيهِ شُبْهَةً. قَالَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» : وَلْيَكُنْ هَذَا تَأْكِيدًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الشُّبْهَةِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَتَّفِقَ شَهَادَةُ الشَّاهِدِينَ، فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ بُكْرَةً، وَالْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ عَشِيَّةً، أَوْ أَحَدُهُمَا بِسَرِقَةِ كَبْشٍ أَبْيَضَ، وَالْآخَرُ بِكَبْشٍ أَسْوَدَ، فَهُمَا شَهَادَتَانِ عَلَى سَرِقَتَيْنِ

مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَلَا قَطْعَ، وَلِلْمَشْهُودِ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا، فَيَغْرَمُهُ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ سَرَقَ كَذَا غَدْوَةً، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ عَشِيَّةً، فَالْبَيِّنَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ، فَلَا يُحْكَمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى لَا يُقَالُ: مُتَعَارِضَتَانِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَتِمَّ، فَلَوْ لَمْ تَتَوَارَدِ الشَّهَادَتَانِ عَلَى مُعَيَّنٍ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: سَرَقَ كَبْشًا غَدَاةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَرَقَ كَبْشًا عَشِيَّةً، فَإِنْ كَانَ الَّذِي شَهِدَ وَاحِدًا وَوَاحِدًا، فَلَا قَطْعَ، وَلِلْمَشْهُودِ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَيَأْخُذَ الْغُرْمَ، أَوْ مَعَهُمَا وَيَأْخُذُ غُرْمَ مَا شَهِدَا بِهِ جَمِيعًا، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ وَاثْنَانِ، وَجَبَ الْقَطْعُ، وَغَرِمَ مَا شَهِدَ بِهِ هَذَانِ وَهَذَانِ، لِكَمَالِ الْحُجَّتَيْنِ، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِسَرِقَةِ كَبْشٍ، وَآخَرُ بِسَرِقَةِ كَبْشَيْنِ، ثَبَتَ الْوَاحِدُ وَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَطْعُ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَشَهِدَ آخَرُ بِسَرِقَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَقَوَّمَهُ بِثُمُنِ دِينَارٍ، لَمْ يُقْطَعْ وَيَغْرَمُ ثُمُنَ دِينَارٍ، وَلِلْمَشْهُودِ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِ الرُّبُعِ وَيَسْتَحِقَّهُ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِسَرِقَتِهِ وَقَالَا: قِيمَتُهُ رُبُعٌ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِسَرِقَتِهِ، وَقَالَا: قِيمَتُهُ ثُمُنٌ، لَمْ يُقْطَعْ، وَلِلْمَشْهُودِ لَهُ الثُّمُنُ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ أَبْيَضَ قِيمَتُهُ رُبُعٌ، وَالْآخَرُ بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ أَسْوَدَ قِيمَتُهُ ثُمُنٌ، فَلَا قَطْعَ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِمَا شَيْءٌ لِاخْتِلَافِهِمَا، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ وَاثْنَانِ تَمَّتِ الشَّهَادَتَانِ، فَيُقْطَعُ وَيَغْرَمُ الرُّبُعَ وَالثُّمُنَ مَعًا. فَرْعٌ كَمَا يُشْتَرَطُ التَّفْصِيلُ فِي الشَّهَادَةِ بِالسَّرِقَةِ يُشْتَرَطُ فِي الْإِقْرَارِ بِهَا، فَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَظُنُّ غَيْرَ السَّرِقَةِ سَرِقَةً، وَاسْمُ السَّرِقَةِ يَقَعُ عَلَى مَا يُقْطَعُ بِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى يُشْتَرَطُ التَّفْصِيلُ، وَكَذَا فِي الْإِقْرَارِ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ.

فَرْعٌ الشَّهَادَةُ بِالسَّرِقَةِ إِنْ تَرَتَّبَتْ عَلَى دَعْوَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَوْ وَكِيلِهِ، فَذَاكَ، وَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى سَبِيلِ الْحِسْبَةِ، فَهَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبًا، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَنَصٌّ فِيمَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى بِجَارِيَةِ غَائِبٍ أَنَّهُ يُحَدُّ، وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْغَائِبِ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ فِيهِمَا، وَقِيلَ: يُنْتَظَرُ الْمَالِكُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَغَلَّطُوا نَاقِلَ نَصِّ الزِّنَى أَوْ تَأَوَّلُوهُ، وَالْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ حَدَّ الزِّنَى لَا يَسْقُطُ بِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ، وَحَدَّ السَّرِقَةِ يَسْقُطُ بِإِبَاحَةِ الْمَالِ، فَرُبَّمَا كَانَ الْغَائِبُ أَبَاحَهُ فَانْتُظِرَ اعْتِرَافَهُ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ مُتَعَلِّقُ حَقِّ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ شُرِعَ حِفْظًا لِمَالِهِ، فَاشْتُرِطَ حُضُورُهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقْطَعُ وَلَا يُحَدُّ فِي الْحَالِ، فَهَلْ يُحْبَسُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالِ غَائِبٍ، أَوْ بِالزِّنَى بِجَارِيَةِ غَائِبٍ، وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى حَضَرَ الْمَالِكُ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْمَالَ، أَوِ اعْتَرَفَ بِمَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ طَلَبَ وَلَمْ تَظْهَرْ شُبْهَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ مَقْبُولَةٌ، قُطِعَ، وَهَلْ تَجِبُ إِعَادَةُ الشَّهَادَةِ لِثُبُوتِ الْمَالِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْحِسْبَةِ لَا تُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ، وَالثَّانِي: لَا، وَيَثْبُتُ الْغُرْمُ تَبَعًا، وَإِنْ قُلْنَا: غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ لِلْمَالِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُعَادُ لِلْقَطْعِ. فَرْعٌ سَرَقَ مَالَ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: إِنِ انْتَظَرْنَا حُضُورَ الْغَائِبِ وَاعْتَبَرْنَا طَلَبَهُ، انْتُظِرَ بُلُوغُهُ وَإِفَاقَتُهُ، وَإِلَّا قَطَعْنَاهُ فِي الْحَالِ.

فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: يَسْقَطُ الْحَدُّ بِدَعْوَى الْمِلْكِ، فَهَلْ يَسْتَفْصِلُهُ الْقَاضِي سَعْيًا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ لَا يَسْتَفْصِلُهُ؛ لِأَنَّهُ إِغْرَاءٌ لَهُ بِادِّعَاءِ الْبَاطِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْوَاجِبِ عَلَى السَّارِقِ وَهُوَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: رَدُّ الْمَالِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَضَمَانُهُ إِنْ تَلَفَ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ. الثَّانِي: الْقَطْعُ، فَتُقْطَعُ مِنَ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ يَدُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ رَابِعًا، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ، عُزِّرَ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْقَدِيمِ قَوْلًا، أَنَّهُ يُقْتَلُ لِلْحَدِيثِ، وَالْمَشْهُورُ التَّعْزِيرُ، وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ لِاسْتِحْلَالِهِ، أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ، وَتُقْطَعُ الْيَدُ مِنَ الْكُوعِ، وَالرِّجْلُ مِنَ الْمِفْصَلِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَيُمَدُّ الْعُضْوُ مَدًّا عَنِيفًا حَتَّى يَنْخَلِعَ، ثُمَّ يُقْطَعُ بِحَدِيدَةٍ مَاضِيَةٍ، وَيُمَكَّنُ الْمَقْطُوعُ جَالِسًا وَيُضْبَطُ لِئَلَّا يَتَحَرَّكَ، وَيُحْسَمُ مَوْضِعُ الْقَطْعِ بِأَنْ يُغْمَسَ فِي زَيْتٍ أَوْ دُهْنٍ مَغْلِيٍّ؛ لِتَنْسَدَّ أَفْوَاهُ الْعُرُوقِ وَيَنْقَطِعَ الدَّمُ، وَهَلْ هَذَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَتِمَّةٌ لِلْحَدِّ، أَمْ هُوَ حَقٌّ لِلْمَقْطُوعِ وَنَظْرٌ لَهُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَتْرُكُهُ الْإِمَامُ، وَيَكُونُ ثَمَنُ الدُّهْنِ وَمُؤْنَةُ الْحَسْمِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُؤْنَةِ الْجَلَّادِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ، فَالْمُؤْنَةُ عَلَى

الْمَقْطُوعِ، وَلَوْ تَرَكَهُ السُّلْطَانُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لِلسَّارِقِ أَنْ يُحْسَمَ وَلَا يَجَبَ، لِأَنَّ فِي الْحَسْمِ أَلَمًا شَدِيدًا وَقَدْ يَهْلَكُ الضَّعِيفُ، وَالْمُدَاوَاةُ بِمِثْلِ هَذَا لَا تَجِبُ بِحَالٍ، وَقِيلَ: لِلْإِمَامِ إِجْبَارُهُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْحَسْمِ عَقِبَ الْقَطْعِ، وَلَا يَفْعَلْهُ إِلَّا بِإِذْنِ السَّارِقِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجْبَرَهُ، وَالسُّنَّةُ أَنْ تُعَلَّقَ الْيَدُ الْمَقْطُوعَةُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ الَّذِي يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا تُعَلَّقُ سَاعَةً، وَأَطْلَقُوا وَلَمْ يُفَوِّضُوهُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّهَا لَا تُعَلَّقُ، وَوَجْهًا تُعَلَّقُ ثَلَاثًا، وَوَجْهًا الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ غَرِيبَةٌ ضَعِيفَةٌ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ عَلَى يَمِينِهِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا تُقْطَعُ، بَلْ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَأَصَحُّهُمَا: تُقْطَعُ وَلَا يُبَالَى بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّنْكِيلُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الْمُسَاوَاةُ، وَلَوْ كَانَتِ الْيَمِينُ شَلَّاءً، فَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إِنْ قُطِعَتْ لَا يَنْقَطِعُ الدَّمُ، لَمْ تُقْطَعْ، وَيَكُونُ كَمَنْ لَا يَمِينَ لَهُ، وَإِنْ قَالُوا: يَنْقَطِعُ، قُطِعَتْ وَاكْتُفِيَ بِهَا، وَلَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً أَرْبَعَ أَصَابِعٍ، اكْتَفَيْنَا بِهَا لِحُصُولِ الْإِيلَامِ وَالتَّنْكِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْكَفُّ، أَوْ بَعْضُ الْكَفِّ بِلَا أَصَابِعٍ، فَفِي الِاكْتِفَاءِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الِاكْتِفَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَطَرَدَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِلَا إِبْهَامٍ. فَرْعٌ مَنْ لَا يَمِينَ لَهُ، تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ سَرَقَ وَيَمِينُهُ سَلِيمَةٌ، فَسَقَطَتْ بِآفَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ، سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ، وَقِيلَ: يُعْدَلُ إِلَى الرِّجْلِ، كَمَا لَوْ فَاتَ مَحَلُّ الْقِصَاصِ يُعْدَلُ إِلَى بَدَلِهِ، وَهُوَ الدِّيَةُ، وَالصَّحِيحُ

الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ تَعَلَّقَ بِهَا، وَلَوْ سَرَقَ مِرَارًا وَلَمْ يُقْطَعْ، اكْتُفِيَ بِقَطْعِ يَمِينِهِ عَنِ الْجَمِيعِ، كَمَنْ زَنَى، أَوْ شَرِبَ مَرَّاتٍ يَلْزَمُهُ حَدٌّ وَاحِدٌ. فَرْعٌ بَدَّرَ أَجْنَبِيٌّ، فَقَطَعَ يَمِينَ السَّارِقِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةُ الْقَطْعِ، فَلَوْ سَرَى إِلَى النَّفْسِ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ مُسْتَحِقٍّ، لَكِنْ يُعَزَّرُ الْمُبَادِرُ لِافْتِئَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُجْعَلَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَتْلِ الزَّانِي الْمُحَصَّنِ وَلَوْ قَطَعَ يَسَارَهُ جَانٍ، أَوْ قَطَعَهَا الْجَلَّادُ عَمْدًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاطِعِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنِ السَّارِقِ قَطْعُ الْيَمِينِ، فَلَوْ قَالَ الْقَاطِعُ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا يَسَارُهُ، حَلَفَ وَلَزِمَتْهُ الدِّيَةُ، وَلَوْ قَالَ الْجَلَّادُ لِلسَّارِقِ: أَخْرِجْ يَمِينَكَ، فَأَخْرَجَ يَسَارَهُ، فَقَطَعَهَا، فَطَرِيقَانِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ: إِنْ قَالَ الْمُخْرِجُ: ظَنَنْتُهَا الْيَمِينَ، أَوْ أَنَّ الْيَسَارَ تُجْزِئُ سَقَطَ بِهَا الْقَطْعُ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْقُطُ، فَقَالَ الْقَاطِعُ: عَلِمْتُ أَنَّهَا الْيَسَارُ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُهَا الْيَمِينَ، أَوْ أَنَّهَا تُجْزِئُ، لَزِمَهُ الدِّيَةُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يُرَاجَعُ الْقَاطِعُ أَوَّلًا، فَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُهَا الْيَسَارَ وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ وَبَقِيَ الْقَطْعُ وَاجِبًا فِي الْيَمِينِ، وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُهَا الْيَمِينَ، أَوْ أَنَّ الْيَسَارَ تُجْزِئُ، لَزِمَهُ الدِّيَةُ، وَفِي سُقُوطِ قَطْعِ الْيَمِينِ الْقَوْلَانِ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ يُوَافِقُ هَذَا الطَّرِيقَ، إِلَّا أَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْقَاطِعَ، وَإِنْ عَلِمَ الْحَالَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُخْرِجِ قَصْدُ بَذْلٍ وَإِبَاحَةٍ، وَلَوْ سَقَطَتْ يَسَارُ السَّارِقِ بِآفَةٍ بَعْدَ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَسْقُطُ قَطْعُ الْيَمِينِ فِي قَوْلٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ غَلَطِ الْجَلَّادِ. وَغَلَّطَهُ الْأَصْحَابُ وَقَالُوا: لَا يَسْقُطُ.

فصل

فَرْعٌ لَوْ كَانَ لِمِعْصَمِهِ كَفَّانِ نَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمَا تُقْطَعَانِ، وَلَا يُبَالَى بِالزِّيَادَةِ، كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ، وَاخْتَارَ هُوَ أَنْ يَفْصِلَ، فَإِنْ تَمَيَّزَتِ الْأَصْلِيَّةُ، وَأَمْكَنَ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَطْعِهَا، لَمْ تُقْطَعِ الزَّائِدَةُ، وَإِلَّا فَتُقْطَعُ، فَلَوْ أَشْكَلَ الْحَالُ، قَالَ الْإِمَامُ: فَالَّذِي رَأَيْتُهُ لِلْأَصْحَابِ أَنَّهُمَا يُقْطَعَانِ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ الْكَفَّيْنِ الْبَاطِشَتَيْنِ تُقْطَعَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ يَدٍ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ فِيهِمَا دِيَتَانِ، لَكِنْ فِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ تُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ إِحْدَاهُمَا، فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا، قُطِعَتِ الْأُخْرَى، وَلَا تُقْطَعَانِ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ يَدٍ وَهَذَا أَحْسَنُ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ يَبْطِشُ بِأَحَدِهِمَا، قُطِعَتِ الْبَاطِشَةُ دُونَ الْأُخْرَى، وَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا، قُطِعَتْ رِجْلُهُ، فَلَوْ صَارَتِ الْأُخْرَى بَاطِشَةً، فَسَرَقَ ثَانِيًا، قُطِعَتْ هِيَ لَا الرِّجْلُ، فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا، قُطِعَتِ الرِّجْلُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إِلَّا إِحْدَاهُمَا كَمَا ذَكَرَهُ فِي «التَّهْذِيبِ» ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ «الْبَحْرِ» وَالشَّيْخُ نَصْرُ الْمَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي وَالْمُقَدِّسِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ مِنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ، إِذَا كَانَ ثَوْبُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: احْفَظْ ثَوْبِي، فَقَالَ: نَعَمْ أَحْفَظَهُ، فَرَقَدَ صَاحِبُ الثَّوْبِ، وَذَهَبَ الرَّجُلُ، وَتَرَكَ الثَّوْبَ، فَسُرِقَ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَلَوْ سَرَقَهُ الْمُسْتَحْفِظُ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَغْلَقَ بَابَ دَارِهِ أَوْ حَانُوتِهِ، وَقَالَ لِلْحَارِسِ: انْظُرْ إِلَيْهِ أَوِ

احْفَظْهُ، فَأَهْمَلَهُ الْحَارِسُ، فَسُرِقَ مَا فِيهِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ يَدِهِ، وَلَوْ سَرَقَهُ الْحَارِسُ، قُطِعَ، وَفِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ: إِذَا تَغَفَّلَ السَّارِقُ الْحَمَّامِيَّ وَسَرَقَ الثِّيَابَ، اعْتُبِرَ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنَ الْحَمَّامِ، وَأَنَّ الْمَوْضُوعَ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الْقَطْعِ أَخَذُهُ، وَلَا النَّقْلُ بِخُطْوَةٍ وَنَحْوِهَا، بَلْ ضَبْطُ مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِحْرَازُ مِثْلِهِ بِالْمُعَايَنَةِ، فَإِذَا غَيَّبَهُ عَنْ عَيْنِهِ بِحَيْثُ لَوْ تَنَبَّهَ لَهُ لَمْ يَرَهُ، بِأَنْ دَفَنَهُ فِي تُرَابٍ، أَوْ وَارَاهُ تَحْتَ ثَوْبِهِ، أَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ عَلَّمَ قِرْدًا النُّزُولَ إِلَى الدَّارِ، وَإِخْرَاجَ الْمَتَاعِ، فَنَقَّبَ، وَأَرْسَلَ الْقِرْدَ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ؛ لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ اخْتِيَارًا بِخِلَافِ الْأَخْذِ بِالْمِحْجَنِ، وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ: لَوْ وُضِعَ مَيِّتٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَنُضِدَتِ الْحِجَارَةُ عَلَيْهِ، كَانَ ذَلِكَ كَالدَّفْنِ، حَتَّى يَجِبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْكَفَنِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُمُ الْحَفْرُ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ إِلَّا إِنْ تَعَذَّرَ الْحَفْرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَفْنٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا فِي بَحْرٍ، فَطُرِحَ الْمَيِّتُ فِي الْمَاءِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ كَفَنَهُ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وُضِعَ الْمَيِّتُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَأُخِذَ، وَلَوْ غَيَّبَهُ الْمَاءُ، فَغَاصَ سَارِقٌ، وَأَخَذَ الْكَفَنَ، لَمْ يُقْطَعْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ طَرْحَهُ لَا يُعَدُّ إِحْرَازًا، وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي هَذَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

باب قطاع الطرق

بَابُ قُطَّاعِ الطُّرُقِ فِيهِ أَطْرَافٌ: الْأَوَّلُ: فِي صِفَتِهِمْ، وَتُعْتَبَرُ فِيهِمُ الشَّوْكَةُ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْغَوْثِ، وَأَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ مُكَلَّفِينَ، فَالْكُفَّارُ لَيْسَ لَهُمْ حُكْمُ الْقُطَّاعِ وَإِنْ أَخَافُوا السَّبِيلَ، وَقِيلَ: وَالْمُرَاهِقُونَ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِمْ، وَيَضْمَنُونَ الْمَالَ وَالنَّفْسَ، كَمَا لَوْ أَتْلَفُوا فِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ، وَأَمَّا الشَّوْكَةُ، فَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ طَائِفَةٌ يَتَرَصَّدُونَ فِي الْمَكَامِنِ لِلرُّفْقَةِ، فَإِذَا رَأَوْهُمْ، بَرَزُوا قَاصِدِينَ الْأَمْوَالَ مُعْتَمِدِينَ فِي ذَلِكَ عَلَى قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ يَتَغَلَّبُونَ بِهَا، وَفِيهِمْ شُرِّعَتِ الْعُقُوبَاتُ الْغَلِيظَةُ الَّتِي سَنَصِفُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَعْتَمِدُونَ قُوَّةً، وَلَكِنْ يَنْتَهِزُونَ وَيَخْتَلِسُونَ، وَيُوَلُّونَ مُعْتَمِدِينَ عَلَى رَكْضِ الْخَيْلِ، أَوِ الْعَدْوِ عَلَى الْأَقْدَامِ، كَمَا يَتَعَرَّضُ الْوَاحِدُ وَالنَّفَرُ الْيَسِيرُ لِأَخْذِ الْقَافِلَةِ فَيَسْلِبُونَ شَيْئًا، فَلَيْسُوا بِقُطَّاعٍ، وَحُكْمُهُمْ فِي الضَّمَانِ وَالْقِصَاصِ حُكْمُ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ خَرَجَ وَاحِدٌ أَوْ شِرْذِمَةٌ يَسِيرَةٌ، فَقَصَدَهُمْ جَمَاعَةٌ يَغْلِبُونَهُمْ بِقُوَّتِهِمْ، فَهُمْ قُطَّاعٌ وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ عَدَدُهُمْ، لِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى الشَّوْكَةِ وَالنَّجْدَةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَاحِدِ وَالشِّرْذِمَةِ، كَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ طُرُقِ الْأَصْحَابِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ خَمْسَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ فِي كَهْفٍ، أَوْ شَاهِقِ جَبَلٍ، فَإِنْ مَرَّ بِهِمْ قَوْمٌ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَعُدَّةٌ، لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ، وَإِنْ مَرَّ قَوْمٌ قَلِيلُو الْعَدَدِ، قَصَدُوهُمْ بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ، فَحُكْمُهُمْ حَكَمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي حَقِّ الطَّائِفَةِ الْيَسِيرَةِ، وَإِنْ تَعَرَّضُوا لِلْأَقْوِيَاءِ وَأَخَذُوا شَيْئًا، فَهُمْ مُخْتَلِسُونَ، وَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُفَصِّلَ الْقَوْلَ فِي الرُّفْقَةِ الْيَسِيرَةِ وَالْوَاحِدِ، فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ يُعَدُّ تَضْيِيعًا وَتَغْرِيرًا بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، فَالْمُتَعَرِّضُونَ لَهُمْ لَيْسُوا بِقُطَّاعٍ، وَيَنْزِلُ خُرُوجُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَتَرْكِ الْمَالِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُعَدُّ حِرْزَا، وَأَقَامَ الْإِمَامُ

مَا رَآهُ وَجْهًا، وَلَوْ كَانَتِ الرُّفْقَةُ يَتَأَتَّى مِنْهُمْ دَفْعُ الْقَاصِدِينَ وَمُقَاوَمَتُهُمْ، فَاسْتَسْلَمُوا حَتَّى قُتِلُوا وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَالْقَاصِدُونَ لَهُمْ لَيْسُوا بِقُطَّاعٍ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ شَوْكَتِهِمْ، بَلِ الرُّفْقَةُ ضَيَّعُوا، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتِ الشَّوْكَةُ مُجَرَّدَ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، بَلْ تَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى اتِّفَاقِ كَلِمَةٍ وَمَتْبُوعٍ مُطَاعٍ وَعَزِيمَةٍ عَلَى الْقِتَالِ، وَالْقَاصِدُونَ لِلرُّفْقَةِ هَكَذَا يَكُونُونَ فِي الْغَالِبِ، وَالرُّفْقَةُ لَا تَجْتَمِعُ كَلِمَتُهُمْ، وَلَا يَضْبُطُهُمْ مُطَاعٌ، وَلَا عَزْمَ لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَخُلُوُّهُمْ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يُوقِعُهُمْ فِي التَّخَاذُلِ لَا عَنْ قَصْدٍ مِنْهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْعَلُوا مُضَيِّعِينَ، وَلَا يَخْرُجُ قَاصِدُوهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ قُطَّاعًا، وَلَوْ أَنَّ الرُّفْقَةَ قَاتَلُوهُمْ، وَنَالَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْأُخْرَى، فَهَلْ هُمْ قُطَّاعٌ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ، وَأَمَّا الْبُعْدُ عَنِ الْغَوْثِ، فَإِنَّمَا اشْتُرِطَ لِيُمْكِنَهُمُ الِاسْتِيلَاءُ وَالْقَهْرُ مُجَاهَرَةً؛ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ غَالِبًا فِي الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْعِمَارَةِ، وَلَوْ خَرَجَ جَمَاعَةٌ فِي الْمِصْرِ فَحَارَبُوا، أَوْ أَغَارَ عَسْكَرٌ عَلَى بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، أَوْ خَرَجَ أَهْلُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْبَلَدِ عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَكَانَ لَا يَلْحَقُ الْمَقْصُودِينَ غَوْثٌ لَوِ اسْتَغَاثُوا، فَهُمْ قُطَّاعُ طَرِيقٍ، وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُمْ غَوْثٌ، فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ لَيْسُوا قُطَّاعًا، وَامْتِنَاعُ لَحَاقِ الْغَوْثِ لِضَعْفِ السُّلْطَانِ أَوْ لِبُعْدِهِ وَبُعْدِ أَعْوَانِهِ، وَقَدْ يَغْلِبُ أَهْلُ الْفَسَادِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، فَلَا يُقَاوِمُهُمْ أَهْلُ الْعِفَّةِ، وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمُ الِاسْتِغَاثَةُ، وَلَوْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ بِاللَّيْلِ دَارًا وَكَابَرُوا، وَمَنَعُوا أَصْحَابَ الدَّارِ مِنَ الِاسْتِغَاثَةِ مَعَ قُوَّةِ السُّلْطَانِ وَحُضُورِهِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ قُطَّاعٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَفَّالُ وَالْبَغَوِيُّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ سُرَّاقٌ، وَالثَّالِثُ: مُخْتَلِسُونَ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الذُّكُورَةُ، بَلْ لَوِ اجْتَمَعَ نِسْوَةٌ لَهُنَّ شَوْكَةٌ وَقُوَّةٌ، فَهُنَّ قَاطِعَاتُ طَرِيقٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا شَهْرُ السِّلَاحِ، بَلْ

الْخَارِجُونَ بِالْعِصِيِّ وَالْحِجَارَةِ قُطَّاعٌ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّهُ يَكْفِي الْقَهْرُ وَأَخْذُ الْمَالِ بِاللَّكْزِ، وَالضَّرْبِ بِجَمْعِ الْكَفِّ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» نَحْوُهُ، وَكَلَامُ جَمَاعَةٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ آلَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ، بَلِ الْوَاحِدُ إِذَا كَانَ لَهُ فَضْلُ قُوَّةٍ يَغْلِبُ بِهَا الْجَمَاعَةَ، وَتَعَرَّضَ لِلنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ مُجَاهِرًا، فَهُوَ قَاطِعُ طَرِيقٍ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي عُقُوبَتِهِمْ: فَإِذَا عَلِمَ الْإِمَامُ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ يَتَرَصَّدُونَ لِلرُّفْقَةِ، وَيُخِيفُونَ السَّبِيلَ، وَلَمْ يَأْخُذُوا بَعْدُ مَالًا، وَلَا قَتَلُوا نَفْسًا، طَلَبَهُمْ، وَعَزَّرَهُمْ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: وَالْحَبْسُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَالْإِيحَاشِ، وَإِنْ أَخَذَ قَاطِعٌ مِنَ الْمَالِ قَدْرَ نِصَابِ السَّرِقَةِ، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ مِنْ خِلَافٍ لِئَلَّا يَفُوتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ النِّصَابُ لِوَاحِدٍ أَوْ لِجَمَاعَةِ الرُّفْقَةِ كَمَا سَبَقَ فِي السَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ دُونَ نِصَابٍ، فَلَا قَطْعَ، وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: فِيهِ قَوْلَانِ، كَالْقَوْلَيْنِ فِي قَتْلِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، هَلْ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ؛ لِأَنَّهُ فَارَقَ السَّرِقَةَ فِي اشْتِرَاطِ الْحِرْزِ فَكَذَا فِي النِّصَابِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» وَمَا ادَّعَاهُ فِي الْحِرْزِ مَمْنُوعٌ، بَلِ الَّذِي قَالَهُ الْأَصْحَابُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَالُ ضَائِعًا تَسِيرُ بِهِ الدَّوَابُّ بِلَا حَافِظٍ، فَلَا قَطْعَ، وَلَوْ كَانَتِ الْجِمَالُ مَقْطُورَةً وَلَمْ تُتَعَهَّدْ كَمَا شَرَطْنَا فِيهَا، لَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ، وَإِنْ قَتَلَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ، قُتِلَ، وَهُوَ قَتْلٌ مُتَحَتِّمٌ لَيْسَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الْقِصَاصِ، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ، قُتِلَ وَصُلِبَ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَالِ كَوْنُهُ نِصَابًا، وَيَجِيءُ فِيهِ خِلَافُ ابْنِ خَيْرَانَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَخَرَّجَ ابْنُ سَلَمَةَ قَوْلًا: أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ وَيُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ»

قَوْلًا: أَنَّهُ إِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ نِصَابًا، قُطِعَ وَقُتِلَ، وَلَمْ يُصْلَبْ، وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ دُونَ نِصَابٍ، لَمْ يُقْطَعْ بَلْ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ إِذَا اجْتَمَعَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ، وَعَلَى هَذَا كَمْ يُتْرَكُ مَصْلُوبًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ: ثَلَاثًا، فَإِذَا مَضَى الثَّلَاثُ، وَسَالَ صَلِيبُهُ، وَهُوَ الْوَدَكُ، أُنْزِلَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يُنْزَلُ بَلْ يُتْرَكُ حَتَّى يَسِيلَ صَلِيبُهُ، وَأَصَحُّهُمَا: يُنْزَلُ، وَيَكْفِي مَا حَصَلَ مِنَ النِّكَالِ، وَلَوْ خِيفَ التَّغَيُّرُ قَبْلَ الثَّلَاثِ هَلْ يُنْزَلُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ الْمَاسَرْجِسِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْأَصْلِ: يُتْرَكُ مَصْلُوبًا حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ وَيَتَهَرَّأَ، وَلَا يُنْزَلْ بِحَالٍ، وَالْوَجْهَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يُصْلَبَ عَلَى خَشَبَةٍ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُطْرَحُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ، قَالَ الْإِمَامُ وَذَكَرَ الصَّيْدَلَانِيُّ: أَنَّهُ يُتْرَكُ حَتَّى يَتَسَاقَطَ، وَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنِّي لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا قُلْنَا: يُنْتَظَرُ سَيَلَانُ الصَّلِيبِ، لَمْ نُبَالِ نَتْنَهُ، وَلَفْظُ الْبَغَوِيِّ فِي حِكَايَةِ وَجْهِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُتْرَكُ حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ إِلَّا أَنْ يَتَأَذَّى بِهِ الْأَحْيَاءُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَقْرَبُ إِلَى سِيَاقِ ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ: أَنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا، ثُمَّ يُقْتَلُ، وَعَلَى هَذَا كَيْفَ يُقْتَلُ، أَيُتْرَكُ بِلَا طَعَامٍ وَشَرَابٍ حَتَّى يَمُوتَ، أَمْ يُجْرَحُ حَتَّى يَمُوتَ، أَمْ يُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلَاثًا، ثُمَّ يُنْزَلُ وَيُقْتَلُ، فِيهِ أَوْجُهٌ، وَيُعْرَفُ بِهَذَا أَنَّ الصَّلْبَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُرَادُ بِهِ صَلْبٌ لَا يَمُوتُ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ حُكْمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ السَّابِقَ فِي إِنْزَالِهِ عَنِ الْخَشَبَةِ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَتَرْكِهِ جَارٍ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، أَمَّا إِذَا لَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَلَا قَتَلَ، وَلَكِنْ كَثَّرَ جَمْعَ الْقَاطِعِينَ، وَكَانَ رَدْءًا لَهُمْ، وَأَرْغَبَ الرُّفْقَةَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا حَدَّ فِي مُقَدِّمَاتِ الزِّنَى، وَلَوْ أَخَذَ بَعْضُهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا شَرَطْنَا النِّصَابَ، وَلَا يَكْمُلُ نِصَابُهُ بِمَا أَخَذَهُ غَيْرُهُ، وَفِيمَا يُعَاقَبُ بِهِ الرَّدْءُ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُعَزِّرُهُ الْإِمَامُ بِاجْتِهَادِهِ بِالْحَبْسِ

أَوِ التَّغْرِيبِ أَوْ سَائِرِ وُجُوهِ التَّأْدِيبِ، كَسَائِرِ الْمَعَاصِي. وَالثَّانِي: يُغَرِّبُهُ بِنَفْيِهِ إِلَى حَيْثُ يَرَى، وَلْيَخْتَرْ جِهَةً يَحِفُّ بِهَا أَهْلُ النَّجْدَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ، وَإِذَا عَيَّنَ صُوَبًا، مَنَعَهُ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يُعَزَّرُ فِي الْبَلَدِ الْمَنْفِيِّ إِلَيْهِ بِضَرْبٍ وَحَبْسٍ وَغَيْرِهِمَا، أَمْ يَكْفِي النَّفْيُ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَمَا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ قَتْلٌ وَصَلْبٌ، فَمَاتَ، فَهَلْ يَجِبُ صَلْبُهُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَالصَّلْبَ مَشْرُوعَانِ، تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا فَوَجَبَ الْآخَرُ. وَالثَّانِي: لَا، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَيُنْسَبُ إِلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْقَتْلِ، فَسَقَطَ بِسُقُوطِ الْمَتْبُوعِ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَهُوَ أَمْرَانِ الْأَوَّلُ: السُّقُوطُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إِذَا هَرَبَ، يُطْلَبُ وَيُقَامُ مَا يَسْتَوْجِبُهُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، فَلَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، سَقَطَ مَا يَخْتَصُّ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَإِنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ، لَمْ يَسْقُطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَهَلْ تُؤَثِّرُ التَّوْبَةُ فِي إِسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ فِي حَقِّ غَيْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَفِي حَقِّهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَبَعْدَهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ سَبَقَا، الْأَظْهَرُ: لَا يَسْقُطُ، صَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْجَدِيدِ لِإِطْلَاقِ آيَةِ الزِّنَى، وَقِيَاسًا عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ السُّقُوطَ. قُلْتُ: رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» مَنْعَ السُّقُوطِ، وَهُوَ أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ مَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ فِي حَقِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ يَسْقُطُ بِنَفْسِ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا تَوْبَتُهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ، وَتَوْبَةُ الزَّانِي وَالسَّارِقِ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: كَذَلِكَ، وَيَكُونُ إِظْهَارُ التَّوْبَةِ كَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ تَحْتَ السَّيْفِ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ مَعَ التَّوْبَةِ إِصْلَاحُ الْعَمَلِ لِيَظْهَرَ صِدْقُهُ فِيهَا، وَنَسَبَ الْإِمَامُ هَذَا الْوَجْهَ إِلَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَالْأَوَّلَ إِلَى سَائِرِ الْأَصْحَابِ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ هُوَ مَا نَسَبَهُ إِلَى الْقَاضِي، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) [الْمَائِدَةِ: 34] لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ التَّوْبَةِ، وَقَالَ فِي الزِّنَى: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) [النِّسَاءِ: 16] ، وَفِي السَّرِقَةِ: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ) [الْمَائِدَةِ: 36] قَالَ الْإِمَامُ: مَعْرِفَةُ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ بِأَنْ يُمْتَحَنَ سِرًّا وَعَلَنًا، فَإِنْ بَدَا الصَّلَاحُ، أَسْقَطْنَا الْحَدَّ عَنْهُ، وَإِلَّا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِنْ خُلِّيَ فَكَيْفَ يُعَرَفُ صَلَاحُهُ؟ وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا: إِذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ، امْتَنَعْنَا مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِنْ لَمْ يُظْهَرْ مَا يُخَالِفُ الصَّلَاحَ، فَذَاكَ، وَإِنْ ظَهَرَ، أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ حَدِّ الزِّنَى فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ طَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُهُمَا بِمَنْ تَابَ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي، فَإِنْ تَابَ بَعْدَ الرَّفْعِ، لَمْ يَسْقُطْ قَطْعًا. وَالثَّانِي: طَرْدُهُمَا فِي الْحَالَيْنِ، وَقَدْ يَرْجِعُ هَذَا الْخِلَافُ إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ بِمُجَرَّدِهَا تُسْقِطُ الْحَدَّ، أَمْ يُعْتَبَرُ الْإِصْلَاحُ؟ إِنِ اعْتَبَرْنَاهُ اشْتُرِطَ مُضِيُّ زَمَنٍ يَظْهَرُ بِهِ الصِّدْقُ، فَلَا تَكْفِي التَّوْبَةُ بَعْدَ الرَّفْعِ. فَرْعٌ إِذَا تَابَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَتَلَ، سَقَطَ عَنْهُ انْحِتَامُ الْقَتْلِ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتَصَّ، وَلَهُ الْعَفْوُ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ يُسْقِطُ الْقِصَاصَ، فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا، وَحُكِيَ وَجْهٌ

أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْقُطَانِ بِالشُّبْهَةِ، كَحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي الْقَذْفِ قَوْلًا قَدِيمًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، سَقَطَ الصَّلْبُ وَانْحِتَامُ الْقَتْلِ، وَبَقِيَ الْقِصَاصُ وَضَمَانُ الْمَالِ، وَفِي الْقِصَاصِ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الْمَالَ، سَقَطَ قَطْعُ الرِّجْلِ، وَكَذَا قَطْعُ الْيَدِ عَلَى الْمَذْهَبِ. الْأَمْرُ الثَّانِي فِي حُكْمِ قَتْلِهِ، فَإِذَا قَتَلَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ خَطَأً، بِأَنْ رَمَى شَخْصًا فَأَصَابَ غَيْرَهُ، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَتْلُ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ قَتَلَ عَمْدًا، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ قَتْلِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ: هَذَا قَتْلٌ فِيهِ مَعْنَى الْقِصَاصِ وَمَعْنَى الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَتْلٍ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ وَيَتَعَلَّقُ اسْتِيفَاؤُهُ بِالسُّلْطَانِ، وَمَا الْمُغَلَّبُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَلْ يَتَمَحَّضُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ فِيهِ أَيْضًا حَقُّ آدَمِيٍّ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي، وَيُقَالُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَصْلُ الْقَتْلِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَتْلِ، وَالتَّحَتُّمُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ صُوَرٌ. مِنْهَا: لَوْ قَتَلَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُ، كَابْنِهِ وَعَبْدٍ وَذِمِّيٍّ، فَإِنْ لَمْ يُرَاعِ مَعْنَى الْقِصَاصِ وَحَقَّ الْآدَمِيِّ، قَتَلْنَاهُ حَدًّا وَلَمْ نُبَالِ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَإِنْ رَاعَيْنَاهُ، لَمْ نَقْتُلْهُ بِهِ وَأَوْجَبْنَا الدِّيَةَ أَوِ الْقِيمَةَ، وَلَوْ قَتَلَ عَبْدٌ نَفْسَهُ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يُقْتَلُ قَطْعًا، كَمَا لَا يُقْطَعُ إِذَا أَخَذَ مَالَ نَفْسِهِ، وَاخْتَارَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ. وَمِنْهَا: لَوْ مَاتَ، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْقِصَاصَ أَخَذْنَا الدِّيَةَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِيهَا.

وَمِنْهَا: لَوْ قَتَلَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ جَمَاعَةً، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْقِصَاصَ، قُتِلَ بِوَاحِدٍ وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَاتُ، فَإِنْ قَتْلَهُمْ مُرَتَّبًا، قُتِلَ بِالْأَوَّلِ، وَلَوْ عَفَا وَلِي الْأَوَّلِ، لَمْ يَسْقُطْ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَإِنْ لَمْ نُرَاعِ الْقِصَاصَ، قُتِلَ بِهِمْ، وَلَا دِيَةَ. وَمِنْهَا: لَوْ عَفَا الْوَلِيُّ عَلَى مَالٍ إِنْ رَاعَيْنَا الْقِصَاصَ، سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَ الْمَالُ، وَقُتِلَ حَدًّا كَمُرْتَدٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، وَعُفِيَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ نُرَاعِهِ، فَالْعَفْوُ لَغْوٌ. وَمِنْهَا: لَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ إِنْ رَاعَيْنَا مَعْنَاهُ وَيَسْقُطُ الْحَدُّ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: لَوْ قَتَلَ بِمُثْقِلٍ، أَوْ بِقَطْعِ عُضْوٍ، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْقِصَاصَ، قَتَلْنَاهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ، وَإِلَّا فَيُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، كَالْمُرْتَدِّ. وَمِنْهَا: لَوْ قَتَلَهُ شَخْصٌ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ إِنْ رَاعَيْنَا الْقِصَاصَ، لَزِمَهُ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ وَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ مُتَحَتِّمٌ، وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهٌ، وَإِنْ لَمْ نُرَاعِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا التَّعْزِيرُ لِافْتِئَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ. فَرْعٌ إِذَا جَرَحَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ جُرْحًا سَارِيًا، فَهُوَ قَاتِلٌ، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ، وَإِنْ جَرَحَ جُرْحًا وَاقِفًا، نُظِرَ إِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِصَاصَ فِيهِ كَالْجَائِفَةِ، فَوَاجِبُهُ الْمَالُ وَلَا قَتْلَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ قِصَاصٌ، كَقَطْعِ يَدٍ وَرِجْلٍ، قُوبِلَتْ بِمِثْلِهِ، وَهَلْ يَتَحَتَّمُ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحَةِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا: لَا، كَمَا لَا كَفَّارَةَ. وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: يَتَحَتَّمُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ دُونَ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهَا، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: الْجِرَاحَةُ لَا تَتَحَتَّمُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَطَعَهُ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ ثُمَّ قَتَلَهُ فِيهَا،

فصل

وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قُلْنَا: يَتَحَتَّمُ، قُطِعَ ثُمَّ قُتِلَ. وَلَوْ قَطَعَ فِي الْمُحَارَبَةِ وَأَخْذَ الْمَالَ، نُظِرَ إِنْ قَطَعَ يَمِينَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَحَتَّمُ وَعَفَا، أَخَذَ دِيَةَ الْيَدِ، وَقَطَعْنَا يَمِينَ الْمُحَارِبِ وَرِجْلَهُ الْيُسْرَى حَدًّا، وَإِنْ لَمْ يَعْفُ، أَوْ قُلْنَا: يَتَحَتَّمُ، قُطِعَتْ يَمِينُهُ بِالْقِصَاصِ وَقُطِعَتْ رِجْلُهُ حَدًّا، كَمَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ وَلَا يَمِينَ لَهُ، وَإِنْ قَطَعَ يَسَارَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَحَتَّمُ وَعَفَا، أَخَذَ الدِّيَةَ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَإِنْ لَمْ يَعْفُ، أَوْ قُلْنَا: بِالتَّحَتُّمِ، قُطِعَتْ يَسَارُهُ، وَتُؤَخَّرُ قَطْعُ الْيَمِينِ وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى حَتَّى تَنْدَمِلَ الْيَسَارُ، وَلَا يُوَالَى بَيْنَ عُقُوبَتَيْنِ. فَصْلٌ يُوَالَى عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ قَطْعِ يَدِهِ وَرَجْلِهِ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُمَا عُقُوبَةٌ وَاحِدَةٌ، كَالْجَلَدَاتِ فِي الْحَدِّ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَمِينِ، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَلَا تُجْعَلْ الْيَدُ الْيُسْرَى بَدَلًا عَنِ الْيُمْنَى، فَإِنْ كَانَ مَفْقُودَ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى، وَلَوْ قَطَعَ يَسَارَ إِنْسَانٍ وَسَرَقَ، قُطِعَتْ يَسَارُهُ قِصَاصًا وَأُمْهِلَ إِلَى الِانْدِمَالِ ثُمَّ تُقْطَعُ يَمِينُهُ عَنِ السَّرِقَةِ وَلَا يُوَالَى؛ لِأَنَّهُمَا عُقُوبَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، وَقُدِّمَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي هِيَ حَقُّ آدَمِيٍّ آكِدٌ مِنَ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا تُسْقَطُ بِمَا لَا تَسْقُطُ بِهِ عُقُوبَةُ الْآدَمِيِّ بِخِلَافِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، فَإِنَّ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي أَنَّهُ يُقَدِّمُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَمِ الْآدَمِيِّ، أَمْ يَسْتَوِيَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّأَكُّدِ وَعَدَمِ السُّقُوطِ بِالشُّبْهَةِ، وَلَوْ وَجَبَ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَطْعُ الْيَدِ الْيُسْرَى بِقِصَاصٍ، قُدِّمَ قَطْعُ الْيُسْرَى قِصَاصًا، ثُمَّ يُمْهَلُ إِلَى الِانْدِمَالِ، ثُمَّ يُقْطَعُ الْعُضْوَانِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَلَوِ اسْتَحَقَّتْ يَمِينُهُ بِقِصَاصٍ وَقَطْعٍ لِلطَّرِيقِ، فَإِنْ عَفَا

فصل

مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ، قُطِعَتْ يَمِينُهُ مَعَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى حَدًّا، وَإِلَّا فَيُقَدَّمُ الْقِصَاصُ، وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى عَنِ الْحَدِّ، وَتُقْطَعُ عُقَيْبَ الْقِصَاصِ، وَقِيلَ: يُمْهَلُ بِهَا إِلَى الِانْدِمَالِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَلَوِ اسْتَحَقَّتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى بِقِصَاصٍ وَقَطْعِ طَرِيقٍ، نُظِرَ إِنْ عَفَا مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ، قُطِعَ الْعُضْوَانِ عَنِ الْحَدِّ، وَإِنِ اقْتَصَّ فِيهِمَا، سَقَطَ الْحَدُّ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ، وَلَوْ قَطَعَ الْعُضْوَيْنِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَأَخَذَ الْمَالَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْجِرَاحَةُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا تَتَحَتَّمُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْعُضْوَيْنِ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ وَقَطَعَ أَيْضًا الطَّرِيقَ، وَإِنْ قُلْنَا: تَتَحَتَّمُ، قَطَعْنَاهُمَا قِصَاصًا، وَسَقَطَ الْحَدُّ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا، وَسَوَّوْا بَيْنَ قَطْعِ الْعُضْوَيْنِ قَبْلَ أَخْذِ الْمَالِ وَبَعْدَهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» : إِنْ قُلْنَا بِالتَّحَتُّمِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ أَخْذُ الْمَالِ، وَاقْتُصَّ فِي الْعُضْوَيْنِ، سَقَطَ الْحَدُّ، وَإِنْ تَقَدَّمَ قَطْعُ الْعُضْوَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ الْمَالَ، لَمْ يَسْقُطْ بِالْقِصَاصِ حَدُّ قَطْعِ الطَّرِيقِ، بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى. فَصْلٌ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ عُقُوبَاتُ آدَمِيِّينَ، كَحَدِّ قَذْفٍ وَقِصَاصِ عُضْوٍ وَقِصَاصِ نَفْسٍ، فَإِنْ حَضَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ وَطَلَبُوا حُقُوقَهُمْ جَمِيعًا، جُلِدَ، ثُمَّ قُطِعَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَيُبَادَرُ بِالْقَتْلِ بَعْدَ الْقَطْعِ، وَلَا يُبَادَرُ بِالْقَطْعِ بَعْدَ الْجِلْدِ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقَّ الْقَتْلِ غَائِبًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَهْلَكُ بِالْمُوَالَاةِ فَيَفُوتُ قِصَاصُهُ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا وَقَالَ: عَجِّلُوا الْقَطْعَ وَأَنَا أُبَادِرُ بِالْقَتْلِ بَعْدَ الْقَطْعِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُبَادَرُ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ حَقَّهُ وَقَدْ رَضِيَ بِالتَّقْدِيمِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ خَوْفًا مِنْ هَلَاكِهِ بِالْمُوَالَاةِ، وَرَأَى الْإِمَامُ تَخْصِيصَ الْوَجْهَيْنِ بِمَنْ خِيفَ مَوْتُهُ بِالْمُوَالَاةِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ قِصَاصُ النَّفْسِ لِانْتِهَائِهِ إِلَى حَرَكَةِ

الْمَذْبُوحِ، وَرَأَى الْجَزْمَ بِالْمُبَادَرَةِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْقَطْعِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الطَّلَبِ، فَإِنْ أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ حَقَّهُ، جُلِدَ، فَإِذَا بَرِأَ، قُطِعَ، وَإِنْ أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ الطَّرْفِ حَقَّهُ، جُلِدَ، وَيَتَعَذَّرُ الْقَتْلُ لِحَقِّ مُسْتَحِقِّ الطَّرْفِ، وَعَلَى مُسْتَحِقِّ النَّفْسِ الصَّبْرُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مُسْتَحِقُّ الطَّرْفِ حَقَّهُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ مُكِّنَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ مِنَ الْقَتْلِ، وَقِيلَ لِمُسْتَحِقِّ الطَّرْفِ: بَادِرْ وَإِلَّا ضَاعَ حَقُّكَ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَلَوْ بَادَرَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ فَقَتَلَهُ، كَانَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَرَجَعَ مُسْتَحِقُّ الطَّرْفِ إِلَى الدِّيَةِ، وَلَوْ أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ الْجَلْدِ حَقَّهُ، فَقِيَاسُ مَا سَبَقَ أَنْ يَصْبِرَ الْآخَرَانِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حُدُودُ قَذْفٍ لِجَمَاعَةٍ، حُدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدًّا، وَلَا يُوَالَى بَلْ يُمْهَلُ بَعْدَ كُلِّ حَدٍّ حَتَّى يَبْرَأَ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، لَكِنَّهُ سَبَقَ فِي الْقِصَاصِ أَنَّهُ يُوَالَى بَيْنَ قَطْعِ الْأَطْرَافِ قِصَاصًا، وَقِيَاسُهُ أَنْ يُوَالَى بَيْنَ الْحُدُودِ، وَذَكَرُوا تَفْرِيعًا عَلَى الْأَوَّلِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ وَجَبَ عَلَى عَبْدٍ حَدَّانِ لَقَذْفِ شَخْصَيْنِ، هَلْ يُوَالَى؟ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: لَا؛ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُمَا كَحَدِّ حُرٍّ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا تَرْتِيبُ حُدُودِ الْقَذْفِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ قَذَفَهُمْ مُرَتِّبًا، حُدَّ لِلْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَإِنْ قَذْفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَقُلْنَا بِالْأَظْهَرِ: إِنَّهُ يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ، أُقْرِعَ. فَرْعٌ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ شَرِبَ وَزَنَى وَهُوَ بِكْرٌ، وَسَرَقَ، وَلَزِمَهُ قَتْلٌ بِرِدَّةٍ، قُدِّمَ الْأَخَفُّ فَالْأَخَفَّ، وَتَجِبُ رِعَايَةُ هَذَا التَّرْتِيبِ وَالْإِمْهَالِ سَعَيَا فِي إِقَامَةِ الْجَمِيعِ، وَأَخَفُّهَا حَدُّ الشُّرْبِ، ثُمَّ يُمْهَلُ حَتَّى يَبْرَأَ، ثُمَّ يُجْلَدُ لِلزِّنَى، وَيُمْهَلُ، ثُمَّ يُقْطَعُ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَتْلُ، قُتِلَ وَلَمْ يُمْهَلْ، وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ الطُّوسِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِيهَا قَتْلٌ يُوَالَى

بِلَا إِمْهَالٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَلَوِ اجْتَمَعَ مَعَهَا أَخْذُ مَالٍ فِي مُحَارَبَةٍ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ بَعْدَ جِلْدِ الزِّنَى، وَهَلْ يُوَالَى بَيْنَ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ أَمْ يُؤَخَّرُ قَطْعُ الرِّجْلِ حَتَّى تَنْدَمِلَ الْيَدُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُؤَخَّرُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْطُوعَةٌ عَنِ السَّرِقَةِ، وَالرِّجْلَ عَنِ الْمُحَارَبَةِ وَلَا يُوَالَى بَيْنَ حَدَّيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: يُوَالَى؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَقَعُ عَنِ الْمُحَارَبَةِ وَالسَّرِقَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوِ انْفَرَدَتِ الْمُحَارَبَةُ، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ عُقُوبَاتٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِآدَمِيٍّ، بِأَنِ انْضَمَّ إِلَى هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ حَدُّ قَذْفٍ، قُدِّمَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى حَدِّ الزِّنَى، نُصَّ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا لِمَ قُدِّمَ؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ: لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لِأَنَّهُ أَخَفُّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، وَفِيمَا يُقَدَّمُ مِنْ حَدِّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَيَجْرِيَانِ فِي حَدِّ الزِّنَى وَقِصَاصِ الطَّرْفِ وَالْإِمْهَالِ بَعْدَ كُلِّ عُقُوبَةٍ إِلَى الِانْدِمَالِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ بَدَلَ قَتْلِ الرِّدَّةِ قَتْلُ قِصَاصٍ، فَالْقَوْلُ فِي التَّرْتِيبِ وَالْإِمْهَالِ كَذَلِكَ، وَلَوِ اجْتَمَعَ الرَّجْمُ لِلزِّنَى وَقَتْلُ قِصَاصٍ، فَهَلْ يُقْتَلُ رَجْمًا بِإِذْنِ الْوَلِيِ لِيَتَأَدَّى الْحَقَّانِ، أَمْ يُسَلَّمَ إِلَى الْوَلِيِ لِيَقْتُلَهُ قِصَاصًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ قَتْلَ مُحَارَبَةٍ، فَهَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْحُدُودِ الْمُقَامَةِ قَبْلَ الْقَتْلِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ مُتَحَتِّمُ الْقَتْلِ، فَلَا مَعْنَى لِلْإِمْهَالِ بِخِلَافِ قَتْلِ الرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يُتَوَقَّعُ الْإِسْلَامُ وَالْعَفْوُ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ بِالْمُوَالَاةِ، فَتَفُوتُ سَائِرُ الْحُدُودِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ قَتْلُ مُحَارَبَةٍ مَعَ قِصَاصٍ فِي غَيْرِ مُحَارِبَةٍ، نُظِرَ إِنْ سَبَقَ قَتْلُ الْمُحَارَبَةِ، قُتِلَ حَدًّا، وَيَعْدِلُ صَاحِبُ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ، وَإِنْ سَبَقَ قَتْلُ الْقِصَاصِ، خُيِّرَ الْوَلِيُّ فِيهِ، فَإِنْ عَفَا، قُتِلَ وَصُلِبَ لِلْمُحَارِبَةِ، وَإِنِ اقْتَصَّ، عَدَلَ لِقَتْلِ الْمُحَارَبَةِ إِلَى الدِّيَةِ، وَهَلْ يُصْلَبُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا إِذَا مَاتَ الْمُحَارَبُ قَبْلَ قَتْلِهِ، وَلَوْ

سَرَقَ ثُمَّ قَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَهَلْ يُقْطَعُ لِلسَّرِقَةِ وَيُقْتَلُ لِلْمُحَارَبَةِ، أَمْ يُقْتَصَرُ عَلَى الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَيَنْدَرِجُ حَدُّ السَّرِقَةِ فِي حَدِّ الْمُحَارَبَةِ؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ مَنْ زَنَى مِرَارًا وَهُوَ بِكْرٌ، حُدَّ لَهَا حَدًّا وَاحِدًا، وَكَذَا لَوْ سَرَقَ، أَوْ شَرِبَ مِرَارًا، وَهَلْ يُقَالُ: تَجِبُ حُدُودٌ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى حَدٍّ وَاحِدٍ أَمْ لَا يَجُبْ إِلَّا حَدٌّ، وَتُجْعَلُ الزَّنْيَاتُ كَالْحَرَكَاتِ فِي زَنْيَةٍ وَاحِدَةٍ؟ ذَكَرُوا فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، وَلَوْ زَنَى أَوْ شَرِبَ فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ثُمَّ زَنَى أَوْ شَرِبَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ آخَرُ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الْأَوَّلِ، أُمْهِلُ حَتَّى يَبْرَأَ، وَلَوْ أُقِيمُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدِّ فَارْتَكَبَ الْجَرِيمَةَ ثَانِيًا، دَخَلَ الْبَاقِي فِي الْحَدِّ الثَّانِي، وَإِذَا زَنَى فَجُلِدَ، ثُمَّ زَنَى قَبْلَ التَّغْرِيبِ جُلِدَ ثَانِيًا وَكَفَاهُ تَغْرِيبٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ جُلِدَ خَمْسِينَ، فَزَنَى ثَانِيًا، جُلِدَ مِائَةً وَغُرِّبَ وَدَخَلَ فِي الْمِائَةِ الْخَمْسُونَ الْبَاقِيَةُ، وَلَوْ زَنَى وَهُوَ بِكْرٌ، ثُمَّ زَنَى قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ وَقَدْ أَحْصَنَ، فَهَلْ يُكْتَفَى بِالرَّجْمِ وَيَدْخَلُ فِيهِ الْجَلْدُ أَمْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: الْأَوَّلُ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ: الثَّانِي، لِاخْتِلَافِ الْعُقُوبَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَهَلْ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُغَرَّبُ عَامًا ثُمَّ يُرْجَمُ، أَمْ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ، وَيَدْخُلُ التَّغْرِيبُ فِي الرَّجْمِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَلَوْ زَنَى عَبْدٌ، فَعَتَقَ قَبْلَ الْحَدِّ، وَزَنَى ثَانِيًا، فَإِنْ كَانَ بِكْرًا، جُلِدَ مِائَةً وَغُرِّبَ عَامًا، وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا، جُلِدَ خَمْسِينَ، ثُمَّ رُجِمَ، هَكَذَا أُطْلَقَهُ الْبَغَوِيُّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ زَنَى وَهُوَ بِكْرٌ، ثُمَّ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ. وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ مُحْصَنٌ، ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ وَاسْتَرَقَ، فَزَنَى ثَانِيًا، فَفِي دُخُولِ الْجَلْدِ فِي الرَّجْمِ الْوَجْهَانِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، فَيُجْلَدُ خَمْسِينَ ثُمَّ يُرْجَمُ، وَإِنْ قُلْنَا: بِتَغْرِيبِ الْعَبْدِ، فَفِي انْدِرَاجِ التَّغْرِيبِ فِي الرَّجْمِ الْوَجْهَانِ.

فصل

فَصْلٌ لَا يَثْبُتُ قَطْعُ الطَّرِيقِ إِلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ التَّفْصِيلُ وَتَعْيِينُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ وَمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ، وَتُقَاسُ صُوَرُهُ بِمَا سَبَقَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى السَّرِقَةِ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنَ الرُّفْقَةِ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَتَعَرَضَا لِقَصْدِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ نَفْسًا وَمَالًا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُمَا هَلْ هُمَا مِنَ الرُّفْقَةِ أَمْ لَا، فَإِنْ بَحَثَ، فَلَهُمَا أَنْ لَا يُجِيبَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ قَالَا: قَطَعَ هَذَا وَهَؤُلَاءِ عَلَيْنَا الطَّرِيقَ، فَأَخَذُوا مَالَنَا وَمَالَ رُفْقَتِنَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا قَوْلَانِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا عَدُوَّيْنِ، قَالَ الْمَاسَرْجَسِيُّ وَغَيْرُهُ: لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ بِوَصِيَّةٍ لَهُمَا فِيهَا نَصِيبٌ أَوْ إِشْرَافٌ، لَمْ تُقْبَلْ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ قَالَا: نَشْهَدُ بِهَا سِوَى مَا يَتَعَلَّقُ بِنَا مِنَ الْمَالِ وَالْإِشْرَافِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا. فَصْلٌ يُحْسَمُ مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ كَمَا سَبَقَ فِي السَّارِقِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُحْسَمَ الْيَدُ، ثُمَّ تُقْطَعُ الرِّجْلُ، وَأَنْ تَقَطَّعَا جَمِيعًا، ثُمَّ تَحْسَمَا، قَالَ الْعَبَّادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» : إِنْ قُلْنَا: إِنَّ قَتْلَ قَاطِعِ الطَّرِيقِ يُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الْقِصَاصِ، لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ قُلْنَا: حَدٌّ مَحْضٌ، فَلَا كَفَّارَةَ.

باب حد شارب الخمر

بَابُ حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ شُرْبُ الْخَمْرِ مِنْ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ وَقُذِفَ بِالزُّبْدِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَسَوَاءً قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَيَفْسُقُ شَارِبُهُ وَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَمَنِ اسْتَحَلَّهُ كَفَرَ، وَعَصِيرُ الرُّطْبِ النَّيْءِ، كَعَصِيرِ الْعِنَبِ النَّيْءِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَطَائِفَةٌ، وَحَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَاخْتَارَ كَوْنَهُ كَسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ، أَمَّا سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، فَهِيَ فِي التَّحْرِيمِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ عِنْدَنَا كَعَصِيرِ الْعِنَبِ، لَكِنْ لَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا؛ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ خِلَافًا فِي أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ هَلْ يَتَنَاوَلُهَا؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْمَنْعِ، وَكُلُّ شَرَابٍ حَكَمْنَا بِتَحْرِيمِهِ، فَهُوَ نَجِسٌ، وَبَيْعُهُ بَاطِلٌ، وَمَا لَا يُسْكِرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ لَا يَحْرُمُ، لَكِنْ يُكْرَهُ شُرْبُ الْمُنَّصَفِ وَالْخَلِيطَيْنِ لِلْحَدِيثِ النَّاهِي عَنْهُمَا، وَالْمُنَّصَفُ: مَا عُمِلَ مِنْ تَمْرٍ وَرُطَبٍ، وَشَرَابُ الْخَلِيطَيْنِ مَا عُمِلَ مِنْ بُسْرٍ وَرُطَبٍ، وَقِيلَ: مَا عُمِلَ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ، وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّ الْإِسْكَارَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ، فَيَظُنُّ الشَّارِبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْكِرٍ وَيَكُونُ مُسْكِرًا، وَهَذَا كَالنَّهْيِ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَنْبِذُونَ فِيهَا، كَالدُّبَّاءِ وَهُوَ الْقَرْعُ، وَالْحَنْتَمُ وَهُوَ جِرَارٌ خَضْرٌ، وَالنَّقِيرُ وَهُوَ جِذْعٌ يُنْقَرُ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ إِنَاءٌ، وَالْمُزَفَّتُ وَهُوَ الْمَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ وَهُوَ الْقَارُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْمُقَيَّرُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْعِيَةَ يَشْتَدُّ فِيهَا وَلَا يُعْلَمُ بِهِ بِخِلَافِ الْأَسْقِيَةِ مِنَ الْأُدْمِ. قُلْتُ: وَالنَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ مَنْسُوخٌ، ثَبَتَ نَسْخُهُ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْبَابِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي الشَّرَابِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ، فَكُلُّ مُلْتَزِمٍ لِتَحْرِيمِ الْمَشْرُوبِ شَرِبَ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ مُخْتَارًا بِلَا ضَرُورَةٍ وَلَا عُذْرٍ، لَزِمَهُ الْحَدُّ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ قُيُودٍ.

الْأَوَّلُ: الْمُلْتَزِمُ، فَلَا حَدَّ عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَحَرْبِيٍّ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُحَدُّ بِالْخَمْرِ، وَأَنَّ الْحَنَفِيَّ يُحَدُّ بِشُرْبِ النَّبِيذِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمُهُ، وَيَأْتِي فِي الشَّهَادَةِ إِنْ شَرِبَ الْحَنَفِيُّ النَّبِيذَ هَلْ يَفْسُقُ بِهِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ؟ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِي: قَوْلُنَا: شَرِبَ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ يَخْرُجُ بِلَفْظِ الشُّرْبِ مَا لَوِ احْتَقَنَ، أَوِ اسْتَعَطَ بِالْخَمْرِ، فَلَا حَدَّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ، وَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الزَّجْرِ، وَقِيلَ: يُحَدُّ، وَقِيلَ: يُحَدُّ فِي السَّعُوطِ دُونَ الْحُقْنَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيَتَعَلَّقُ بِكَوْنِ الْمَشْرُوبِ مُسْكِرًا فِي جِنْسِهِ صُوَرٌ: مِنْهَا: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّبِيذُ وَدِرْدِيُّ الْخَمْرِ وَالثَّخِينُ مِنْهَا إِذَا أَكَلَهُ بِخُبْزٍ، أَوْ ثَرَدَ فِيهَا وَأَكَلَ الثَّرِيدَ، أَوْ طَبَخَ بِهَا، وَأَكَلَ الْمَرَقَ، فَيُحَدُّ بِكُلِّ ذَلِكَ، وَلَا يُحَدُّ بِأَكْلِ اللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ بِهَا، وَلَا بِأَكْلِ خُبْزٍ أَوْ مَعْجُونٍ عُجِنَ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا، وَعَلَى هَذَا قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ شَرِبَ كُوزَ مَاءٍ فِيهِ قَطَرَاتُ خَمْرٍ وَالْمَاءُ غَالِبٌ، لَمْ يُحَدُّ لِاسْتِهْلَاكِ الْخَمْرِ. الثَّالِثُ: كَوْنُ الشَّارِبِ مُخْتَارًا، فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ أُوجِرَ قَهْرًا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ مَنْ أُكْرِهَ حَتَّى شَرِبَ، وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ مُضْطَرًّا، فَلَوْ غَصَّ بِلُقْمَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ مَا يُسِيغُهَا غَيْرَ الْخَمْرِ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِسَاغَتُهَا بِالْخَمْرِ وَلَا حَدَّ، وَحَكَى إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَذِيُّ فِي تَحْرِيمِ الْإِسَاغَةِ وَجْهَيْنِ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا شُرْبُهَا لِلتَّدَاوِي وَالْعَطَشِ وَالْجُوعِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا فَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا وَالْمَنْصُوصُ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَجُوزُ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلِأَنَّ بَعْضَهَا يَدْعُو إِلَى بَعْضٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ شُرْبُ الْبَوْلِ وَالدَّمِ لِذَلِكَ، وَكَمَا يُتَدَاوَى بِالنَّجَاسَاتِ، كَلَحْمِ الْحَيَّةِ وَالسَّرَطَانِ وَالْمَعْجُونِ فِيهِ خَمْرٌ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ لِلتَّدَاوِي دُونَ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ، وَرَجَّحَهُ الرُّويَانِيُّ. وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْعَطَشِ مَوْثُوقٌ بِهِ فِي الْحَالِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَنَقَلَ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّدَاوِي، قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ

آحَادٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَوْلَ بِجَوَازِهِ مِنْ غَيْرِ تَدْوِينٍ فِي كِتَابٍ. وَالْخَامِسُ: يَجُوزُ لِلْعَطَشِ دُونَ الْجُوعِ؛ لِأَنَّهَا تَحْرِقُ كَبِدَ الْجَائِعِ، ثُمَّ الْخِلَافُ فِي التَّدَاوِي مَخْصُوصٌ بِالْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ، وَيُشْتَرَطُ خَبَرُ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ، أَوْ مَعْرِفَةُ الْمُتَدَاوِي إِنْ عَرَفَ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَجِدَ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، وَيُعْتَبَرُ هَذَانِ الشَّرْطَانِ فِي تَنَاوُلِ سَائِرِ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ، وَلَوْ قَالَ الطَّبِيبُ: يُتَعَجَّلُ بِهَا الشِّفَاءُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَرَجَاءِ الشِّفَاءِ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْغَزَالِيُّ: لَا حَدَّ عَلَى الْمُتَدَاوِي وَإِنْ حَكَمْنَا بِالتَّحْرِيمِ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: أَطْلَقَ الْأَئِمَّةُ الْمُعْتَبِرُونَ أَقْوَالَهُمْ فِي طُرُقِهِمْ أَنَّ التَّدَاوِيَ حَرَامٌ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، وَإِذَا جَوَّزْنَا الشُّرْبَ لِلْعَطَشِ، لَزِمَهُ الشُّرْبُ، كَتَنَاوُلِ الْمَيِّتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَلَا حَدَّ، وَإِذَا لَمْ نُجَوِّزْهُ، فَفِي الْحَدِّ الْخِلَافُ كَالتَّدَاوِي. الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فِي الشُّرْبِ، فَلَوْ شَرِبَ قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَادَّعَى جَهْلَ التَّحْرِيمِ، لَمْ يُحَدْ، فَلَوْ قَالَ: عَلِمَتُ التَّحْرِيمَ وَجَهِلَتُ الْحَدَّ، وَجَبَ الْحَدُّ، وَلَوْ شَرِبَ خَمْرًا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَشْرَبُ غَيْرَ مُسْكِرٍ فِي جِنْسِهِ، فَلَا حَدَّ، وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْكِرِ، وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يُسْكِرُ، حُدَّ، وَلَزِمَهُ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ فِي السُّكْرِ. فَرْعٌ إِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ إِذَا ثَبَتَ الشُّرْبُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يَجِبُ أَيْضًا إِذَا عَلِمْنَا شُرْبَهُ الْمُسْكِرَ، بِأَنْ رَأَيْنَاهُ شَرِبَ مِنْ شَرَابِ إِنَاءٍ شَرِبَ مِنْهُ غَيْرُهُ فَسَكِرَ، وَلِيَكُنْ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ، وَلَا تَعْوِيلَ عَلَى النَّكْهَةِ وَظُهُورِ الرَّائِحَةِ مِنْهَا، وَلَا عَلَى مُشَاهَدَةِ سُكْرِهِ وَتَقَيُّئِهِ الْخَمْرَ؛ لِاحْتِمَالِ غَلَطٍ أَوْ إِكْرَاهٍ، ثُمَّ صِيغَةُ الْمُقِرِّ وَالشَّاهِدِ إِنْ كَانَتْ مُفَصَّلَةً بِأَنْ قَالَ: شَرِبَتُ الْخَمْرَ، أَوْ شَرِبَتُ مَا شَرِبَ مِنْهُ غَيْرِي، فَسَكِرَ مِنْهُ، وَأَنَا بِهِ عَالِمٌ مُخْتَارٌ، وَفَصَّلَ الشَّاهِدِ

كَذَلِكَ، فَذَاكَ، وَإِنْ قَالَ: شَرِبْتُ الْخَمْرَ، أَوْ مَا شَرِبَهُ غَيْرِي فَشَرِبَ مِنْهُ فَسَكِرَ مِنْهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، أَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْعِلْمِ وَالِاخْتِيَارِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا حَدَّ، لِاحْتِمَالِ الْجَهْلِ وَالْإِكْرَاهِ، كَمَا لَا بُدَّ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي الزِّنَى، وَبِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ، وَأَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا وَظَاهِرُ النَّصِّ وَبِهِ قَطَعَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ إِضَافَةَ الشُّرْبِ إِلَيْهِ حَاصِلَةٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِكْرَاهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ الْعِلْمُ بِمَا يَشْرَبُهُ، وَصَارَ كَالْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا، وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِلِاخْتِيَارِ وَالْعِلْمِ بِخِلَافِ الزِّنَى فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ» . فَرَوْعٌ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ الْأَشْرِبَةِ، كَالْبَنْجِ، حَرَامٌ لَكِنْ لَا حَدَّ فِي تَنَاوُلِهِ، وَلَوِ احْتِيجَ فِي قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ إِلَى زَوَالِ عَقْلِهِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي مَسَائِلِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ مَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِهِ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى دَوَاءٍ يُزِيلُ الْعَقْلَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ جَازَ تَنَاوُلُهُ قَطْعًا كَمَا سَبَقَ هُنَاكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النِّدُّ الْمَعْجُونُ بِالْخَمْرِ نَجِسٌ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ، لِإِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِنَقْعِهِ فِي الْمَاءِ، وَمَنْ يَتَبَخَّرُ بِهِ هَلْ يَتَنَجَّسُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، كَدُخَانِ النَّجَاسَةِ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْحَدِّ الْوَاجِبِ فِي الشُّرْبِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً عَلَى الْحُرِّ، وَعِشْرُونَ عَلَى الرَّقِيقِ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ ثَمَانُونَ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُضْرَبَ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ وَالسَّوْطِ، أَمْ يَتَعَيَّنُ مَا عَدَا السَّوْطَ، أَمْ يَتَعَيَّنُ السَّوْطُ؟ فِيهِ

فصل

ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ جَوَازُ الْجَمِيعِ، وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ ثَمَانِينَ أَوْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْبَعِينَ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، فَعَلَى هَذَا هَلِ الزِّيَادَةُ تَعْزِيرٌ أَمْ حَدٌّ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: تَعْزِيرٌ؛ لِأَنَّهُا لَوْ كَانَتْ حَدًّا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهَا، وَتَرْكُهَا جَائِزٌ، فَعَلَى هَذَا هُوَ تَعْزِيرَاتٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ هَذَيَانٍ يَصْدُرُ مِنْهُ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ حَدٌّ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى جِنَايَةٍ مُخَفَّفَةٍ، ثُمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْحَصِرَ فِي ثَمَانِينَ وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَعَلَى هَذَا حَدُّ الشُّرْبِ مَخْصُوصٌ بِأَنْ يَتَحَتَّمَ بَعْضُهُ، وَيَتَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ. فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْجَلْدِ فِي الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَهُوَ بِسَوْطٍ مُعْتَدِلِ الْحَجْمِ بَيْنَ الْقَضِيبِ وَالْعَصَا، وَبِهِ تُعْتَبَرُ الْخَشَبَاتُ، وَلَا يَكُونُ رَطْبًا وَلَا شَدِيدَ الْيُبُوسَةِ، خَفِيفًا لَا يُؤْلِمُ، وَيُضْرَبُ ضَرْبًا بَيْنَ ضَرْبَيْنِ، فَلَا يَرْفَعُ الضَّارِبُ يَدَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ بِحَيْثُ يَبْدُو بَيَاضُ إِبِطِهِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَدُّ أَلَمُهُ، وَلَا يَضَعُ السَّوْطَ عَلَيْهِ وَضْعًا، فَإِنَّهُ لَا يُؤْلِمُ، وَلَكِنْ يَرْفَعُ ذِرَاعَهُ لِيُكْسِبَ السَّوْطَ ثِقْلًا، فَإِنْ كَانَ الْمَجْلُودُ رَقِيقَ الْجِلْدِ يُدْمَى بِالضَّرْبِ الْخَفِيفِ، لَمْ يُبَالِ بِهِ وَيُفَرِّقُ السِّيَاطَ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَيَتَّقِي الْوَجْهَ وَالْمَقَاتِلَ، كَثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْفَرْجِ وَنَحْوِهِمَا، وَهَلْ يَجْتَنِبُ الرَّأْسَ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا؛ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِالشَّعْرِ بِخِلَافِ الْوَجْهِ، وَلَا تُشَدُّ يَدُهُ بَلْ تَتْرُكُ يَدَاهُ لِيَتَّقِيَ بِهِمَا، وَلَا يُلْقَى عَلَى وَجْهِهِ، وَلَا يُمَدُّ، وَلَا يُجَرَّدُ عَنِ الثِّيَابِ بَلْ يُتْرَكُ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ قَمِيصَانِ، وَلَا يُتْرَكُ عَلَيْهِ مَا يَمْنَعُ الْأَلَمَ مِنْ جُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ وَفَرْوَةٍ، وَيُجْلَدُ الرَّجُلُ قَائِمًا، وَالْمَرْأَةُ

جَالِسَةً وَتُلَفُّ، أَوْ تُرْبَطُ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَيَتَوَلَّى لَفَّ ثِيَابِهَا امْرَأَةٌ، وَأَمَّا الضَّرْبُ، فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ، فَيَتَوَلَّاهُ رَجُلٌ، وَيُوَالِي بَيْنَ الضَّرَبَاتِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ، فَيَضْرِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ إِيلَامٌ وَتَنْكِيلٌ وَزَجْرٌ، وَلَوْ جُلِدَ فِي الزِّنَى فِي يَوْمٍ خَمْسِينَ مُتَوَالِيَةً، وَفِي يَوْمٍ يَلِيهِ خَمْسِينَ كَذَلِكَ، أَجْزَأَ، قَالَ الْإِمَامُ فِي ضَبْطِ التَّفْرِيقِ: إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ مِنْ كُلِّ دَفْعَةِ أَلَمٌ لَهُ وَقْعٌ، كَسَوْطٍ أَوْ سَوْطَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ يُؤْلِمُ وَيُؤَثِّرُ بِمَا لَهُ وَقْعٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ زَمَنٌ يَزُولُ فِيهِ الْأَلَمُ الْأَوَّلُ، كَفَى وَإِنْ تَخَلَّلَ، لَمْ يَكْفِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ لَا يُقَامُ حَدُّ الشُّرْبِ فِي السُّكْرِ، بَلْ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَضِيقَ. فَرْعٌ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا التَّعْزِيرُ، فَإِنْ فُعِلَ، وَقَعَ الْمَوْقِعُ، كَالصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ.

باب التعزير

بَابُ التَّعْزِيرِ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلَا كَفَّارَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ مُقَدِّمَاتِ مَا فِيهِ حَدٌّ، كَمُبَاشَرَةِ أَجْنَبِيَّةٍ بِغَيْرِ الْوَطْءِ، وَسَرِقَةِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ، وَالسَّبِّ وَالْإِيذَاءِ بِغَيْرِ قَذْفٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالضَّرْبِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالتَّزْوِيرِ، وَسَائِرِ الْمَعَاصِي، وَسَوَاءٌ تَعَلَّقَتِ الْمَعْصِيَةُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ بِحَقِّ آدَمِيٍّ، ثُمَّ جِنْسُ التَّعْزِيرِ مِنَ الْحَبْسِ أَوِ الضَّرْبِ جَلْدًا أَوْ صَفْعًا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، فَيَجْتَهِدُ وَيَعْمَلُ مَا يَرَاهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّوْبِيخِ بِاللِّسَانِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْإِمَامُ: قَالَ الْأَصْحَابُ: عَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَ التَّرْتِيبَ وَالتَّدْرِيجَ، كَمَا يُرَاعِيهِ دَافِعُ الصَّائِلِ، فَلَا يَرْقَى إِلَى مَرْتَبَةٍ وَهُوَ يَرَى مَا دُونَهَا مُؤَثِّرًا كَافِيًا، وَأَمَّا قَدْرُ التَّعْزِيرِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْحَدِّ، كَالْحَبْسِ، تَعَلَّقَ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَإِنْ رَأَى الْجَلْدَ فَيَجِبُ أَنْ يَنْقُصَ عَنِ الْحَدِّ، وَفِي ضَبْطِهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَعَاصِي وَتُقَاسُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ، فَيُعَزَّرُ فِي الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَا يُوجِبُ حَدًّا، وَفِي مُقَدِّمَاتِ الزِّنَى دُونَ حَدِّ الزِّنَى، وَفِي الْإِيذَاءِ وَالسَّبِّ بِغَيْرِ قَذْفٍ دُونَ حَدِّ الْقَذْفِ، وَفِي إِدَارَةِ كَأْسِ الْمَاءِ عَلَى الشُّرْبِ تَشْبِيهًا بِشَارِبِي الْخَمْرِ دُونَ حَدِّ الْخَمْرِ، وَفِي مُقَدِّمَاتِ السَّرِقَةِ دُونَ حَدِّ الزِّنَى، وَعَلَى هَذَا فَتَعْزِيرُ الْحُرِّ يُعْتَبَرُ بِحَدِّهِ، وَالْعَبْدِ بِحَدِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي سَوَاءٌ وَلَا يُزَادُ تَعْزِيرٌ عَلَى عَشْرِ جَلْدَاتٍ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ» ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَظَاهِرُ النَّصِّ: أَنَّهُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى عَشَرَةٍ بِحَيْثُ يَنْقُصُ عَنْ أَدْنَى حُدُودِ الْمُعَزَّرِ، فَلَا يُزَادُ تَعْزِيرُ حُرٍّ عَلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ جَلْدَةً، وَلَا الْعَبْدِ عَلَى تِسْعَ عَشَرَةَ،

فصل

وَالْحَدِيثُ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَاسْتَدَلَّ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِخِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَالرَّابِعُ: يُعْتَبَرُ أَدْنَى الْحُدُودِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا يُزَادُ حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ عَلَى تِسْعَ عَشَرَةَ. وَالْخَامِسُ حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ: الِاعْتِبَارُ بِحَدِّ الْحُرِّ، فَيَبْلُغُ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ. فَصْلٌ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يَخُصُّ لَفَظَ التَّعْزِيرِ بِضَرْبِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لِلتَّأْدِيبِ فِي غَيْرِ حَدٍّ، وَيُسَمِّي ضَرْبَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، وَالْمُعَلِّمِ الصَّبِيَّ، وَالْأَبِ وَلَدَهُ تَأْدِيبًا لَا تَعْزِيرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ التَّعْزِيرَ عَلَى النَّوْعَيْنِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، فَعَلَى هَذَا مُسْتَوْفِي التَّعْزِيرِ الْإِمَامُ وَالزَّوْجُ وَالْأَبُ وَالْمُعَلِّمُ وَالسَّيِّدُ، أَمَّا الْإِمَامُ فَيَتَوَلَّى بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ إِقَامَةَ الْعُقُوبَاتِ حَدًّا وَتَعْزِيرًا، وَالْأَبُ يُؤَدِّبُ الصَّغِيرَ تَعْلِيمًا وَزَجْرًا عَنْ سَيْءِ الْأَخْلَاقِ، وَكَذَا يُؤَدَّبُ الْمَعْتُوهُ بِمَا يَضْبُطُهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ فِي زَمَنِ الصَّبِيِّ فِي كَفَالَتِهِ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي تَعْلِيمِ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِهَا وَالضَّرْبِ عَلَيْهَا أَنِ الْأُمَّهَاتِ كَالْآبَاءِ، وَالْمُعَلِّمُ يُؤَدِّبُ الصَّبِيَّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَنِيَابَةً عَنْهُ، وَالزَّوْجُ يُعَزِّرُ زَوْجَتَهُ فِي النُّشُوزِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَا يُعَزِّرُهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالسَّيِّدُ يُعَزَّرُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَكَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِذَا أَفْضَى تَعْزِيرٌ إِلَى هَلَاكٍ، وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُعَزِّرِ، وَيَكُونُ قَتْلُهُ شِبْهَ عَمْدٍ، فَإِنْ كَانَ الْإِسْرَافُ فِي الضَّرْبِ ظَاهِرًا وَضَرَبَهُ بِمَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا، فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ، وَحَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ تَفْرِيعًا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْمُعَزِّرَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ التَّأْدِيبَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ وَلَا غَيْرُهُ، أَمَّا الْمُبَرِّحُ؛ فَلِأَنَّهُ مُهْلِكٌ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِهْلَاكُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ؛ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ.

فصل

فَصْلٌ الْجِنَايَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً، يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي تَعْزِيرِهَا بِمَا يَرَاهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ، أَوِ اقْتِصَارٍ عَلَى التَّوْبِيخِ بِالْكَلَامِ، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الْعَفْوِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ تَعَلَّقَتِ الْجِنَايَةُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ فَهَلْ يَجِبُ التَّعْزِيرُ إِذَا طَلَبَ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجِبُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُهَذَّبِ» كَالْقِصَاصِ، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ، كَالتَّعْزِيرِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَطْلَقَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْبَغَوِيِّ تَرْجِيحُهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ: قَدْرُ التَّعْزِيرِ وَمَا بِهِ التَّعْزِيرُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَلَا تَكَادُ تَظْهَرُ جِنَايَتُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ إِلَّا وَيُوَبِّخُهُ، وَيُغْلِظُ لَهُ الْقَوْلَ، فَيُؤَوَّلُ الْخِلَافُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّوْبِيخِ؟ وَلَوْ عَفَا مُسْتَحَقُّ الْعُقُوبَةِ عَنِ الْقِصَاصِ أَوِ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ، فَهَلْ لِلْإِمَامِ التَّعْزِيرُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: لَا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَهَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَيُحْتَاجُ إِلَى زَجْرِهِ وَزَجَرِ غَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَأَصَحُّهَا: إِنْ عَفَا عَنِ الْحَدِّ، فَلَا تَعْزِيرَ، وَإِنْ عَفَا عَنْ تَعْزِيرٍ، عُزِّرَ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مُقَدَّرٌ لَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ فِيهِ، فَإِذَا سَقَطَ، لَمْ يَعْدِلْ إِلَى غَيْرِهِ، وَالتَّعْزِيرُ يَتَعَلَّقُ أَصْلُهُ بِنَظَرِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِسْقَاطُ غَيْرِهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب ضمان إتلاف الإمام

كِتَابُ ضَمَانِ إِتْلَافِ الْإِمَامِ وَحُكْمُ الصِّيَالِ وَإِتْلَافِ الْبَهَائِمِ فِيهِ ثَلَاثَةٌ أَبْوَابٍ. الْأَوَّلُ: فِي ضَمَانٍ يُلْزِمُ الْوُلَاةَ بِتَصَرُّفَاتِهِمْ وَفِيهِ طَرَفَانِ، الْأَوَّلُ فِي مُوجِبِ الضَّمَانِ، وَالثَّانِي فِي مَحَلِّهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوُلَاةِ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: التَّعْزِيرُ، فَإِذَا مَاتَ مِنْهُ الْمُعَزَّرُ، وَجَبَ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْهَلَاكِ أَنَّهُ جَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ، وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ إِذَا عُزِّرَ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ إِذَا طَلَبَ الْمُسْتَحِقُّ فَصَارَ كَالْحَدِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ أَيْضًا فِي تَعْزِيرِ الزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ إِذَا أَفْضَى إِلَى الْهَلَاكِ، سَوَاءٌ ضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ بِإِذْنِ أَبِيهِ، أَوْ دُونَ إِذْنِهِ، لَكِنْ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا، فَضَرَبَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَذِنَ فِي قَتْلِهِ، فَقَتَلَهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ، ثُمَّ الضَّمَانُ الْوَاجِبُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ، وَفِي حَقِّ الْإِمَامِ هَلْ هُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ وَيَعُودُ أَيْضًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - لَكِنْ لَوْ أَسْرَفَ الْمُعَزِّرُ، وَظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ الْقَتْلِ، تَعَلَّقَ بِهِ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ الْمُغْلَظَةُ فِي مَالِهِ. الثَّانِي: الْحَدُّ، وَالْحُدُودُ فِي غَيْرِ الشُّرْبِ مَقَدَّرَةٌ بِالنَّصِّ، فَمَنْ مَاتَ مِنْهَا، فَالْحَقُّ قَتْلُهُ، فَلَا ضَمَانَ، لَكِنْ لَوْ أُقِيمَ الْحَدُّ فِي حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطَيْنِ، فَفِي الضَّمَانِ خِلَافٌ سَبَقَ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ أَيْضًا، وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ، فَإِنْ ضُرِبَ بِالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ فَمَاتَ مِنْهَا، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُحَدَّ هَكَذَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ،

وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلَا ضَمَانَ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَإِلَّا فَيَجِبُ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْجِنْسِ الْوَاجِبِ، وَلَوْ ضُرِبَ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً، فَمَاتَ، فَفِي الضَّمَانِ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ بِأَرْبَعِينَ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْمَشْهُورُ: لَا ضَمَانَ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّارِبَ يُضْرَبُ أَرْبَعِينَ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ، فَإِنْ قُلْنَا بِالضَّمَانِ، فَهَلْ يَجِبُ كُلُّ الضَّمَانِ أَمْ نِصْفُهُ، أَمْ يُوَزَّعُ عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَلَمِ السِّيَاطِ وَالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا الْأَوَّلُ، وَإِنْ ضَرَبَهُ أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ، فَهَلْ يَجِبُ كُلُّ الضَّمَانِ أَمْ نِصْفُهُ أَمْ جُزْءٌ مِنْ أَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا؟ فِيهِ أَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا: الثَّالِثُ، وَإِنْ ضُرِبَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَقُلْنَا بِالثَّالِثِ، وَجَبَ جُزْءَانِ مِنَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، حَتَّى إِذَا ضُرِبَ ثَمَانِينَ اسْتَوَى الْقَوْلُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَوَجَبَ النِّصْفُ، وَلَوْ جُلِدَ فِي الْقَذْفِ أَحَدًا وَثَمَانِينَ، فَمَاتَ، فَهَلْ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ، أَمْ جُزْءٌ مِنْ أَحَدٍ وَثَمَانِينَ جُزْءًا مِنْهَا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنَ الْجَلَّادِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ الْإِمَامُ إِلَّا بِالثَمَانِينَ، فَالضَّمَانُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْجَلَّادِ، وَإِنْ أَمَرَ الْإِمَامُ بِذَلِكَ، فَالضَّمَانُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِمَامِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْإِمَامُ: اضْرِبْ وَأَنَا أَعِدُّ، فَغَلِطَ فِي الْعَدِّ، فَزَادَ عَلَى الثَمَانِينَ، وَلَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ بِثَمَانِينَ فِي الشُّرْبِ، فَزَادَ الْجَلَّادُ جِلْدَةً وَاحِدَةً، وَمَاتَ الْمَجْلُودُ فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: تُوَزَّعُ الدِّيَةُ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ جُزْءًا، يُسْقَطُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ وَيَجِبُ أَرْبَعُونَ عَلَى الْإِمَامِ، وَجُزْءٌ عَلَى الْجَلَّادِ. وَالثَّانِي: يَسْقُطُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ثُلُثٌ، وَعَلَى الْجَلَّادِ ثُلُثٌ. وَالثَّالِثُ: يَسْقُطُ نِصْفُهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ رُبُعٌ، وَعَلَى الْجَلَّادِ رُبُعٌ. وَالرَّابِعُ: يَسْقُطُ نِصْفُهَا، وَيُوَزَّعُ نِصْفُهَا عَلَى أَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا: أَرْبَعُونَ عَلَى الْإِمَامِ، وَجُزْءٌ عَلَى الْجَلَّادِ.

الثَّالِثُ: الِاسْتِصْلَاحُ بِقَطْعِ سِلْعَةٍ وَبِالْخِتَانِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: فِي حُكْمِ قَطْعِ السِّلْعَةِ مِنَ الْعَاقِلِ الْمُسْتَقِلِّ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَالسِّلْعَةُ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ غُدَّةٌ تَخْرُجُ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْجِلْدَةِ نَحْوُ الْحِمْصَةِ إِلَى الْجَوْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا، وَقَدْ يُخَافُ مِنْهَا، وَقَدْ لَا يُخَافُ، لَكِنْ تُشِينُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَطْعِهَا خَطْرٌ، وَأَرَادَ الْمُسْتَقِلُّ قَطْعَهَا لِإِزَالَةِ الشَّيْنِ، فَلَهُ قَطْعُهَا بِنَفْسِهِ، وَلِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي قَطْعِهَا خَطْرٌ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهَا خَطَرٌ، لَمْ يَجُزِ الْقَطْعُ لِإِزَالَةِ الشَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَقَائِهَا خَوْفٌ أَيْضًا، نُظِرَ إِنْ كَانَ الْخَطَرُ فِي الْقَطْعِ أَكْثَرَ، لَمْ يَجُزِ الْقَطْعُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْإِبْقَاءِ أَكْثَرَ، جَازَ الْقَطْعُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لَا؛ لِأَنَّهُ فَتْحُ بَابِ الرُّوحِ بِخِلَافِ الْإِبْقَاءِ، وَإِنْ تَسَاوَى الْخَطَرُ، جَازَ الْقَطْعُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ مِمَّا لَا خَطَرَ فِيهِ، وَأَمَّا مَنْ عَظُمَتْ آلَامُهُ وَلَمْ يُطِقْهَا، فَأَرَادَ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ بِمُهْلِكٍ مُذَفَّفٍ، فَيَحْرُمُ ذَلِكَ، فَلَوْ وَقَعَ فِي نَارٍ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْهَا، وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي بَحْرٍ، وَرَأَى ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى لَفَحَاتِ النَّارِ، فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَلَوْ تَآكَلَ بَعْضُ الْأَعْضَاءِ، فَهُوَ كَسِلْعَةٍ يَخَافُ مِنْهَا، وَلَوْ قَطَعَ السِّلْعَةَ، أَوِ الْعُضْوَ الْمُتَآكِلَ مِنَ الْمُسْتَقِلِّ قَاطِعٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَمَاتَ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ فِيهِ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ. الثَّانِيَةُ: الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ الْخَاصِّ وَهُوَ الْأَبُ وَالْجَدُّ أَنْ يَقْطَعَ مِنَ السِّلْعَةِ وَالْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَوْفٌ وَخَطَرٌ إِذَا كَانَ الْخَطَرُ فِي التَّرْكِ أَكْثَرَ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ دَقِيقٍ، وَفَرَاغٍ تَامٍّ، وَشَفَقَةٍ كَامِلَةٍ، كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجَ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ دُونَ السُّلْطَانِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَقَدْ ذَكَرْنَا عِنْدَ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فِي الْخَوْفِ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُسْتَقِلَّ هَلْ لَهُ الْقَطْعُ مِنْ نَفْسِهِ، وَالْأَصَحُّ

وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ مِنْ طِفْلِهِ، وَأَمَّا مَا لَا خَطَرَ فِيهِ وَلَا خَوْفَ غَالِبًا، كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَقَطْعِ سِلْعَةٍ بِلَا خَطَرٍ، فَيَجُوزُ فِعْلُهُ لِلْوَلِيِّ الْخَاصِّ، وَكَذَا لِلسُّلْطَانِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَجْهٌ أَنَّ الْقَطْعَ الْمُخْطِرَ لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الْخَاصِّ، وَفِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» لِلرُّويَانِيِّ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ، وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ، وَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ الْمُعَالَجَةُ وَلَا الْقَطْعُ الْمُخْطِرُ بِحَالٍ، وَلَوْ فَعَلَ، فَسَرَى وَمَاتَ بِهِ، تَعَلَّقَ بِفِعْلِهِ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ، وَأَمَّا السُّلْطَانُ إِذَا فَعَلَ بِالصَّبِيِّ مَا مَنَعْنَاهُ، فَسَرَى إِلَى نَفْسِهِ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغْلَظَةً فِي مَالِهِ، لِتَعَدِّيهِ، وَقِيلَ: فِي كَوْنِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْقَوْلَانِ، كَمَا لَوْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِصْلَاحَ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِصْلَاحَ، وَاسْتَبْعَدَ الْأَئِمَّةُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْإِفْصَاحِ» : الْقَوْلَانِ إِذَا كَانَ لِلصَّبِيِّ أَبٌ أَوْ جَدٌّ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا فَلَا قَوَدَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِشَأْنِهِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ لِلسُّلْطَانِ قَطْعَ السِّلْعَةِ، وَلَوْ قَطَعَ الْأَبُ وَالْجَدُّ السِّلْعَةَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ، فَمَاتَ، فَلَا قِصَاصَ لِلْبَعْضِيَّةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَقِيلَ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ أَتَمُّ وَإِنَّمَا يَقْطَعُهَا لِلشَّفَقَةِ، وَأَمَّا مَا يَجُوزُ لِلْأَبِ وَالسُّلْطَانِ مِنْ فَصْدِ الصَّغِيرِ وَحِجَامَتِهِ وَقَطْعِ سِلْعَتِهِ لِلْأَبِ إِذَا أَفْضَى إِلَى تَلَفٍ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ الْجَمَاهِيرُ، لِئَلَّا يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَتَضَرَّرُ الصَّغِيرُ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ. الثَّالِثَةُ: الْخِتَانُ وَاجِبٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَقِيلَ: سُنَّةٌ، وَقِيلَ: وَاجِبٌ فِي الرَّجُلِ، سُنَّةٌ فِي الْمَرْأَةِ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَخِتَانُ الرَّجُلِ: قَطْعُ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ حَتَّى تَنْكَشِفَ جَمِيعُ الْحَشَفَةِ، وَيُقَالُ لِتِلْكَ الْجِلْدَةِ: الْقُلْفَةُ، قَالَ الْإِمَامُ: فَلَوْ بَقِيَ مِقْدَارٌ يَنْبَسِطُ عَلَى سَطْحِ الْحَشَفَةِ، وَجَبَ قَطْعُهُ، حَتَّى لَا يَبْقَى جِلْدٌ

مُتَجَافٍ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: عِنْدِي يَكْفِي قَطْعُ شَيْءٍ مِنَ الْحَشَفَةِ وَإِنْ قَلَّ بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَطْعُ تَدْوِيرَ رَأْسِهَا، وَأَمَّا مِنَ الْمَرْأَةِ، فَتُقْطَعُ مِنَ اللَّحْمَةِ الَّتِي فِي أَعْلَى الْفَرْجِ فَوْقَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَتُشْبِهُ تِلْكَ اللَّحْمَةُ عُرْفَ الدِّيكِ، فَإِذَا قُطِعَتْ، بَقِيَ أَصْلُهَا كَالنَّوَاةِ، وَيَكْفِي أَنْ يُقْطَعَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَإِنَّمَا يَجِبُ الْخِتَانُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْتَنَ فِي السَّابِعِ مِنْ وِلَادَتِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا لَا يَحْتَمِلُهُ فَيُؤَخَّرُ حَتَّى يَحْتَمِلَهُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ بِحَيْثُ لَوْ خُتِنَ خِيفَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَنَ، بَلْ يُنْتَظَرُ حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتُهُ، وَفِي وَجْهٍ فِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْبَغَوِيِّ: لَا يَجُوزُ خِتَانُ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَ سِنِينَ. قُلْتُ: وَلَنَا وَجْهٌ فِي «الْبَيَانِ» وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ خِتَانُ الصَّغِيرِ قَبْلَ بُلُوغِهِ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ، فَعَلَيْهِ النَّظَرُ لَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ حَتَّى يَبْلُغَ، وَهَلْ يُحْسَبُ يَوْمُ الْوِلَادَةِ مِنَ السَّبْعَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ؟ وَجْهَانِ فِي «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» أَصَحُّهُمَا: لَا، وَحَكَاهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَأَمَّا الْخُنْثَى، فَلَا يُخْتَنُ فِي صِغَرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجِبُ خِتَانُ فَرْجِهِ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَبِهَذَا قُطِعَ فِي «الْبَيَانِ» وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ خِتَانُهُ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ لَا يَجُوزُ بِالشَّكِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: إِنْ أَحْسَنَ الْخِتَانَ، خَتَنَ نَفْسَهُ، وَإِلَّا اشْتَرَى جَارِيَةً تَخْتِنُهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَوَلَّاهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِلضَّرُورَةِ، كَالتَّطْبِيبِ، وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ذَكَرَانِ، إِنْ كَانَا عَامِلَيْنِ، خُتِنَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا، خُتِنَ وَحْدَهُ، وَهَلْ يُعْرَفُ الْعَمَلُ بِالْجِمَاعِ أَوِ الْبَوْلِ؟ وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ مُؤْنَةُ الْخِتَانِ فِي مَالِ الْمَخْتُونِ، وَفِي وَجْهٍ: يَجِبُ عَلَى الْوَالِدِ إِذَا خَتَنَ صَغِيرًا. فَرْعٌ إِذَا بَلَغَ غَيْرُ مَخْتُونٍ، أَمَرَهُ بِهِ الْإِمَامُ، فَإِنِ امْتَنَعَ، أَجْبَرَهُ، فَإِنْ خُتِنَ الْمُمْتَنِعُ فَمَاتَ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ وَاجِبٍ، لَكِنْ لَوْ وَقَعَ خِتَانُهُ فِي حَرٍّ أَوْ بَرْدِ شَدِيدَيْنِ، فَفِي الضَّمَانِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الزِّنَى، وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهُ، وَأَجْرَى الْإِمَامُ هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا لَوْ خَتَنَهُ الْأَبُ فِي حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدَيْنِ، وَجَعْلُ الْأَبِ أَوْلَى بِنَفْيِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْخِتَانَ غَالِبًا، فَهُوَ فِي حَقِّهِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَمَنْ خَتَنَ صَبِيًّا فِي سِنٍّ لَا يَحْتَمِلُهُ، فَمَاتَ مِنْهُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ الْوَلِيُّ وَغَيْرُهُ، لَكِنْ لَا قِصَاصَ عَلَى الْأَبِ وَالْجَدِّ لِلْبَعْضِيَّةِ، وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ فِي سِنٍّ يَحْتَمِلُهُ، فَمَاتَ، نُظِرَ إِنْ خَتَنَهُ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ، أَوِ الْإِمَامُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌ غَيْرُهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ خَتَنَهُ أَجْنَبِيٌّ، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُبْنَى عَلَى خَتْنِ الْإِمَامِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ، إِنْ ضَمِنَاهُ، ضَمِنَ هُنَا، وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْجُرْحَ الْيَسِيرَ هَلْ فِيهِ قِصَاصٌ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ، إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَهُوَ عَمْدٌ، وَإِلَّا فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ فِي الْخِتَانِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، فَالْوَاجِبُ نِصْفُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: كُلُّهُ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي مَحَلِّ ضَمَانِ إِتْلَافِ الْإِمَامِ فَمَا تَعَدَّى بِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، وَقَصَّرَ فِيهِ، أَوْ أَخْطَأَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ، بِأَنْ رَمَى صَيْدًا، فَقَتَلَ إِنْسَانًا، حُكْمُهُ فِيهِ حُكْمُ سَائِرِ النَّاسِ، فَيَجِبُ

فِي مَالِهِ، أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَأَمَّا الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِخَطَئِهِ فِي الْأَحْكَامِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، فَهَلْ هُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ وَقَدْ سَبَقَا فِي بَابِ الْعَاقِلَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَهَلِ الْكَفَّارَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَمْ فِي مَالِهِ؟ وَجْهَانِ، فَلَوْ ضَرَبَ الْإِمَامُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، وَمَاتَ الْمَجْلُودُ، فَفِي مَحَلِّ الضَّمَانِ الْقَوْلَانِ وَلَوْ جَلَدَ حَامِلًا حَدًّا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَفِي مَحَلِّ الْغُرَّةِ الْقَوْلَانِ، إِنْ جَهِلَ حَمْلَهَا، فَإِنْ عَلِمَهُ، فَقِيلَ: بِالْقَوْلَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الصَّوَابِ عَمْدًا، وَلَوِ انْفَصَلَ حَيَّا وَمَاتَ وَجَبَ كُلُّ الدِّيَةِ وَمَحَلُّهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ مَاتَتِ الْحَامِلُ، فَقَدْ أُطْلِقَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» أَنُّهُ لَا يَضْمَنُهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: إِنْ مَاتَتْ مِنَ الْجَلْدِ وَحْدَهُ، بِأَنْ مَاتَتْ قَبْلَ الْإِجْهَاضِ، فَلَا ضَمَانَ وَهُوَ مَوْضِعُ النَّصِّ، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَنَّ فِيهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ حَدَّهُ فِي حَرٍّ مُفْرِطٍ، فَمَاتَ، وَإِنْ مَاتَتْ مِنَ الْإِجْهَاضِ وَحْدَهُ، بِأَنْ أَجْهَضَتْ، ثُمَّ مَاتَتْ، وَأُحِيلَ الْمَوْتُ عَلَى الْإِجْهَاضِ، وَجَبَ كَمَالُ دِيَتِهَا، وَإِنْ قِيلَ: مَاتَتْ بِالْحَدِّ وَالْإِجْهَاضِ جَمِيعًا، وَجَبَ نِصْفُ دِيَتِهَا. فَرْعٌ سَنَذْكُرُ فِي الشَّهَادَاتِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، ثُمَّ بَانَا عَبْدَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ، نَقَضَ الْحُكْمَ، وَإِنْ بَانَا فَاسِقَيْنِ، نَقَضَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَلَوْ أَقَامَ الْحَدَّ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، ثُمَّ بَانَا ذِمِّيَّيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ أَوْ مُرَاهِقَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ، وَمَاتَ الْمَحْدُودُ، فَقَدْ بَانَ بَطَلَانُ الْحُكْمِ، فَيُنْظَرُ إِنْ قَصَّرَ فِي الْبَحْثِ عَنْ حَالِهِمَا، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا بِالْعَاقِلَةِ أَيْضًا إِنْ تَعَمَّدَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَإِنَّمَا يَتَرَدَّدُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَالرَّاجِحُ الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّ الْهُجُومَ عَلَى الْقَتْلِ مَمْنُوعٌ

مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجِبَ بِإِسْنَادِهِ الْقَتْلُ إِلَى صُورَةِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي الْبَحْثِ، بَلْ بَذَلَ وُسْعَهُ، جَرَى الْقَوْلَانِ فِي أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ إِذَا ضَمِنَتِ الْعَاقِلَةُ أَوْ بَيْتُ الْمَالِ، فَهَلْ يَثْبُتُ الرُّجُوعُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُمَا غَرَّا الْقَاضِيَ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُمَا يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا صَادِقَانِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا تَعَدٍّ، وَقَدْ يُنْسَبُ الْقَاضِي إِلَى تَقْصِيرٍ فِي الْبَحْثِ. وَالثَّالِثُ: يَثْبُتُ الرُّجُوعُ لِلْعَاقِلَةِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الرُّجُوعَ، طُولِبَ الذِّمِّيَّانِ فِي الْحَالِ، وَفِي الْعَبْدَيْنِ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِمَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: بِالرَّقَبَةِ، وَأَمَّا الْمُرَاهِقَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدَيْنِ نَزَّلْنَا مَا وُجِدَ مِنْهُمَا مَنْزِلَةَ الْإِتْلَافِ، وَإِلَّا فَقَوْلُ الصَّبِيِّ لَا يَصْلُحُ لِلِالْتِزَامِ، فَلَا رُجُوعَ، وَإِنْ بَانَا فَاسِقَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْقُضُ الْحُكْمَ، فَلَا أَثَرَ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَنْقُضُ، فَفِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِمَا أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: نَعَمْ كَالْعَبْدَيْنِ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِإِظْهَارِ حَالِهِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ، وَأَصَحُّهَا: إِنْ كَانَ مُجَاهِرًا بِالْفِسْقِ، ثَبَتَ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِ مَعَ مُجَاهَرَتِهِ يُشْعِرُ بِتَعْزِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتِمًا، فَلَا. فَرْعٌ قَتْلُ الْجَلَّادِ وَضَرْبُهُ بِأَمْرِ الْإِمَامِ كَمُبَاشَرَةِ الْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ظُلْمَهُ وَخَطَأَهُ، وَيَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ وَالْقِصَاصُ بِالْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ؛ لِأَنَّهُ آلَتُهُ، وَلَوْ ضَمِنَاهُ لَمْ يَتَوَلَّ الْجَلْدَ أَحَدٌ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِمَامَ ظَالِمٌ أَوْ مُخْطِئٌ، وَلَمْ يُكْرِهْهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ فَالْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ دُونَ الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْحَالَ لَزِمَهُ الِامْتِنَاعُ وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِنَا: أَمْرُ الْإِمَامِ إِكْرَاهٌ، أَنَّ يَكُونَ هَذَا كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، وَإِنِ اقْتَضَى الْحَالُ الْقِصَاصَ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ، وَفِي الْجَلَّادِ قَوْلَانِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِضَرْبِهِ

فصل

وَقَالَ: أَنَا ظَالِمٌ فِي ضَرْبِهِ، فَضَرَبَهُ الْجَلَّادُ وَمَاتَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ قُلْنَا: أَمْرُ السُّلْطَانِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِكْرَاهٌ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ، وَلَوْ قَالَ: افْعَلْ إِنْ شِئْتَ، فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ قَطْعًا، وَلَوْ قَالَ: اضْرِبْ مَا شِئْتَ، أَوْ مَا أَحْبَبْتَ، لَمْ تَكُنْ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْحَدِّ، فَإِنْ زَادَ، ضَمِنَ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلٍ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، كَقَتْلِ مُسْلِمٍ بِذِمِّيٍّ، وَحُرٍّ بِعَبْدٍ، وَالْإِمَامُ وَالْجَلَّادُ يَعْتَقِدَانِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَقَتَلَهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ الْقَوَدُ عَلَيْهِمَا إِنْ جَعْلَنَا أَمْرَ السُّلْطَانِ إِكْرَاهًا، وَأَوْجَبْنَا الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ جَمِيعًا، وَلَوِ اعْتَقَدَ الْجَلَّادُ مَنْعَهُ، وَالْإِمَامُ جَوَازَهُ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ الْإِمَامَ اخْتَارَ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ عَلَى الْجَلَّادِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ: الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّ وَاجِبَهُ الِامْتِنَاعُ، فَإِنْ أُكْرِهَ فَحُكْمُهُ مَعْرُوفٌ، وَالثَّانِي: لَا اعْتِبَارَ بِاعْتِقَادِ الْإِمَامِ وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَ قَتْلِ حُرٍّ بِعَبْدٍ، فَأَمَرَهُ بِهِ تَارِكًا لِلْبَحْثِ، وَكَانَ الْجَلَّادُ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ، فَقَتَلَهُ عَمَلًا بِاعْتِقَادِهِ، فَقَدْ بُنِيَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ قَتْلُهُ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا اعْتِقَادَ الْإِمَامِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا اعْتِقَادَ الْجَلَّادِ، فَلَا، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ هُنَا؛ لِأَنَّ الْجَلَّادَ مُخْتَارٌ عَالِمٌ بِحَالٍ وَالْإِمَامُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاجْتِهَادَ بَلِ الْقَتْلَ فَقَطْ، فَالْجَلَّادُ كَالْمُسْتَقِلِّ. فَصْلٌ لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَجَّامِ إِذَا حَجَمَ أَوْ فَصَدَ بِإِذْنِ مَنْ يُعْتَبَرُ إِذْنُهُ، فَأَفْضَى إِلَى تَلَفٍ، وَكَذَا لَوْ قَطَعَ سِلْعَةً بِالْأُذُنِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْجَلَّادِ بِخِلَافِ مَنْ قَطَعَ يَدًا صَحِيحَةً بِإِذْنِ صَاحِبِهَا، فَمَاتَ مِنْهُ، حَيْثُ تُوجِبُ الدِّيَةَ عَلَى قَوْلٍ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ هُنَاكَ لَا يُبِيحُ الْقَتْلَ، وَهُنَا الْفِعْلُ جَائِزٌ

لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا إِذَا قَطَعَ بِالْأُذُنِ، وَوَقَفَ الْقَطْعُ فَلَمْ يَسْرِ، فَلَا ضَمَانَ بِلَا خِلَافٍ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي الصِّيَالِ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْرِفَةِ الصَّائِلِ وَهُوَ الْمَدْفُوعُ، وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ، وَكَيْفِيَّةُ الدَّفْعِ وَحُكْمُهُ. أَمَّا الصَّائِلُ، فَكُلُّ قَاصِدٍ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَعَبْدٍ وَحُرٍّ وَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَبَهِيمَةٍ، يَجُوزُ دَفْعُهُ فَإِنْ أَبَى الدَّفْعَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا ضَمَانَ بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ وَلَا قِيمَةَ، وَلَوْ سَقَطَتْ جَرَّةٌ مِنْ عُلُوٍّ، وَاسْتَوَتْ عَلَى رَأْسِ إِنْسَانٍ وَخَافَ مِنْهَا وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعَهَا إِلَّا بِإِتْلَافِهَا فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ لَهَا بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ وَالْبَهِيمَةِ، وَلَوْ حَالَتْ بَهِيمَةٌ بَيْنَ جَائِعٍ وَطَعَامِهِ فِي بَيْتٍ، وَلَمْ يَصِلْهُ إِلَّا بِقَتْلِهَا، فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَصَحُّ هُنَا نَفْيَ الضَّمَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا لَوْ عَمَّ الْجَرَادُ الْمَسَالِكَ فَوَطِئَهُ الْمُحْرِمُ. أَمَّا الْمَصُولُ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ الدَّفْعُ عَنِ النَّفْسِ وَالطَّرَفِ وَمَنْفَعَتِهِ، وَالْبِضْعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَعَنِ الْمَالِ وَإِنْ قَلَّ إِذَا كَانَتِ الْمَذْكُورَاتُ مَعْصُومَةً، وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ الدَّفْعُ، وَلَهُ دَفْعُ مُسْلِمٍ صَالَ عَلَى ذَمِّيٍّ، وَأَبٍ صَالَ عَلَى ابْنِهِ، وَسَيِّدٍ صَالَ عَلَى عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مَظْلُومُونَ، وَحَكَى الْإِمَامُ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ عَنِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ الدَّفْعُ إِلَّا بِقَتْلٍ، أَوْ قَطْعِ طَرَفٍ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» فَلَهُ الدَّفْعُ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَإِنْ أَتَى الدَّفْعُ عَلَى الصَّائِلِ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ، وَلَوْ وَجَدَهُ يَنَالُ مِنْ جَارِيَتِهِ مَا دُونُ الْفَرْجِ، فَلَهُ دَفْعُهُ، وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ دَفْعُهُ كَذَلِكَ حِسْبَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ مِلْكَ

الْقَاصِدِ، فَمَنْ رَأَى إِنْسَانًا يَتْلِفُ مَالَ نَفْسِهِ، بِأَنْ يُحْرِقَ كُدْسَهُ وَيُغْرِقَ مَتَاعَهُ، جَازَ لَهُ دَفْعُهُ، وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا بِأَنْ رَآهُ يَشْدَخُ رَأْسَ حِمَارِهِ، وَجَبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ دَفْعُهُ عَلَى الْأَصَحِّ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، لِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ، أَمَّا كَيْفِيَّةُ الدَّفْعِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ رِعَايَةُ التَّدْرِيجِ وَالدَّفْعِ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الدَّفْعُ بِالْكَلَامِ أَوِ الصِّيَاحِ، أَوِ الِاسْتِغَاثَةِ بِالنَّاسِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الضَّرْبُ، وَكَذَا لَوِ انْدَفَعَ شَرُّهُ، بِأَنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ، أَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، لَمْ يَضْرِبْهُ، وَكَذَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ أَوْ خَنْدَقٌ أَوْ نَهْرٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ حَالَ نَهْرٌ صَغِيرٌ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ عَبَرَ النَّهْرَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: فَلَهُ رَمْيُهُ وَمَنْعُهُ الْعُبُورَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ الصَّائِلُ إِلَّا بِالضَّرْبِ، فَلَهُ الضَّرْبُ، وَيُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ، فَإِنْ أَمْكَنَ بِالْيَدِ، لَمْ يَضْرِبْهُ بِسَوْطٍ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِسَوْطٍ، لَمْ يَجُزْ بِالْعَصَا، وَلَوْ أَمْكَنَ بِقَطْعِ عُضْوٍ، لَمْ يَجُزْ إِهْلَاكُهُ، وَإِذَا أَمْكَنَ بِدَرَجَةٍ، فَدَفَعَهُ بِمَا فَوْقَهَا، ضَمِنَ، وَكَذَا لَوْ هَرَبَ فَتَبِعَهُ وَضَرَبَهُ، ضَمِنَ، وَلَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً، فَوَلَّى هَارِبًا أَوْ سَقَطَ، وَبَطَلَ صِيَالُهُ فَضَرَبَهُ أُخْرَى، فَالثَّانِيَةُ مَضْمُونَةٌ بِالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ مَاتَ مِنْهُمَا، لَمْ يَجِبْ قِصَاصُ النَّفْسِ، وَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ مِنْ مَضْمُونٍ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ عَادَ بَعْدَ الْجُرْحَيْنِ فَصَالَ، فَضَرَبَهُ ثَالِثَةً فَمَاتَ مِنْهَا، لَزِمَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَمَتَى غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الَّذِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ يَقْصِدُهُ، فَلَهُ دَفْعُهُ بِمَا يُمْكِنُهُ، وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ الْمُقْبِلُ، وَلَوْ كَانَ الصَّائِلُ يَنْدَفِعُ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا، وَلَمْ يَجِدِ الْمَصُولُ عَلَيْهِ إِلَّا سَيْفًا أَوْ سِكِّينًا، فَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ الضَّرْبَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إِلَّا بِهِ وَلَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إِلَى التَّقْصِيرِ بِتَرْكِ اسْتِصْحَابِ سَوْطٍ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ حَاجَتُهُ، وَلِذَلِكَ نَقُولُ: الْحَاذِقُ الَّذِي يُحْسِنُ الدَّفْعَ بِأَطْرَافِ السَّيْفِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ يَضَمَنُ إِنْ جَرَحَ، وَمَنْ لَا يُحْسِنُ، لَا يُضَمَنُ بِالْجُرْحِ، وَلَوْ قَدَرَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ عَلَى الْهَرَبِ، أَوِ التَّحَصُّنِ بِمَوْضِعٍ حَصِينٍ، أَوْ عَلَى

فصل

الِالْتِجَاءِ إِلَى فِئَةٍ هَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، أَمْ لَهُ أَنْ يَثْبُتَ وَيُقَاتِلَ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ نَصٍّ، وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا: يَجِبُ الْهَرَبُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ بِالْأَهْوَنِ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: حَمْلُ نَصِّ الْهَرَبِ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ النَّجَاةَ بِالْهَرَبِ، وَالْآخَرُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ. فَرْعٌ عَضَّ شَخْصٌ يَدَهُ، أَوْ عُضْوًا آخَرَ، فَلْيُخَلِّصْهُ بِأَيْسَرَ الْمُمْكِنِ، فَإِنْ أَمْكَنَ رَفْعُ لِحَيَّيْهِ وَتَخْلِيصُ مَا عَضَّهُ فَعَلَ، وَإِلَّا ضَرَبَ شِدْقَهُ لِيَدَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَسَلَّ يَدَهُ، فَسَقَطَتْ أَسْنَانُهُ، فَلَا ضَمَانَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَاضُّ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا؛ لِأَنَّ الْعَضَّ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَمَتَى أَمْكَنَهُ التَّخَلُّصُ بِضَرْبِ فَمِهِ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا بِعُضْوٍ آخَرَ، بِأَنْ يَبْعَجَ بَطْنَهُ، أَوْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ، أَوْ يَعْصِرَ خَصِيَّيْهِ، فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ قَصْدُ عُضْوٍ آخَرَ. فَصْلٌ أَمَّا حُكْمُ الدَّفْعِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ جَائِزٌ، وَهَلْ يَجِبُ أَمْ يَجُوزُ الِاسْتِسْلَامُ وَتَرَكُ الدَّفْعِ؟ يُنْظَرُ إِنْ قَصَدَ أَخْذَ الْمَالِ، أَوْ إِتْلَافَهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَا رُوحٍ، لَمْ يَجِبِ الدَّفْعُ؛ لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْمَالِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ قَصَدَ أَهْلَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّفْعُ بِمَا أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ فِيهِ، وَشَرَطَ الْبَغَوِيُّ لِلْوُجُوبِ أَنْ لَا يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ قَصَدَ نَفْسَهُ، نُظِرَ إِنْ كَانَ كَافِرًا، وَجَبَ الدَّفْعُ، وَأَشَارَ الرُّويَانِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ، وَإِنْ كَانَ بَهِيمَةً، وَجَبَ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَقَوْلَانِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ الدَّفْعُ، بَلْ لَهُ الِاسْتِسْلَامُ، وَالثَّانِي: يَجِبُ، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَهُ دَفْعُهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ،

وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الِاسْتِسْلَامِ، مِنْهُمْ مَنْ يُزِيدُ وَيَصِفُهُ بِالِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ كَانَ الصَّائِلُ مَجْنُونًا، أَوْ مُرَاهِقًا، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِسْلَامُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُمَا لَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا، كَالْبَهِيمَةِ، وَالْمَذْهَبُ طَرَدَ الْقَوْلَيْنِ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ، وَرَضَيَ بِالشَّهَادَةِ. وَهَلْ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنِ الْغَيْرِ؟ فِيهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ، أَصَحُّهَا: أَنَّهُ كَالدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَجِبُ حَيْثُ يَجِبُ، وَلَا يَجِبُ حَيْثُ لَا يَجِبُ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ لَهُ الْإِيثَارَ بِحَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالثَّالِثُ وَنَسَبَهُ الْإِمَامُ إِلَى مُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ شَهْرَ السِّلَاحِ يُحَرِّكُ الْفِتَنَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ آحَادِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَظِيفَةُ الْإِمَامِ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَحْرُمُ أَمْ يَجُوزُ؟ فِيهِ خِلَافٌ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ: الْخِلَافُ فِي أَنَّ آحَادَ النَّاسِ هَلْ لَهُمْ شَهْرُ السِّلَاحِ حِسْبَةً لَا يَخْتَصُّ بِالصِّيَالِ، بَلْ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى مُحَرَّمٍ، مِنْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، هَلْ لِآحَادِ النَّاسِ مَنْعُهُ بِمَا يَجْرَحُ وَيَأْتِي عَلَى النَّفْسِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ نَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَنْعًا مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَالثَّانِي: لَا؛ خَوْفًا مِنَ الْفِتَنِ، وَنُسِبَ الثَّانِي إِلَى الْأُصُولِيِّينَ، وَالْأَوَّلُ إِلَى الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ لِلْأَصْحَابِ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ، حَتَّى قَالَ الْفُورَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ: مَنْ عَلِمَ خَمْرًا فِي بَيْتِ رَجُلٍ، أَوْ طَنْبُورًا، وَعَلِمَ شُرْبَهُ أَوْ ضَرْبَهُ، فَلَهُ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ، وَيُرِيقَ الْخَمْرَ، وَيَفْصِلَ الطُّنْبُورَ، وَيَمْنَعَ أَهْلَ الدَّارِ الشُّرْبَ وَالضَّرْبَ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا، فَلَهُ قِتَالُهُمْ وَإِنْ أَتَى الْقِتَالُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَذِيِّ أَنَّ مَنْ رَآهُ مُكِبًّا عَلَى مَعْصِيَةِ مِنْ زِنَى أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ رَآهُ يَشْدَخُ شَاةً أَوْ عَبْدًا، فَلَهُ دَفْعُهُ، وَإِنْ أَتَى الدَّفْعُ عَلَيْهِ، فَلَا ضَمَانَ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا وَجَدَ رَجُلًا يَزْنِي بِامْرَأَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا، لَزِمَهُ مَنْعُهُ وَدَفْعُهُ، فَإِنْ هَلَكَ فِي الدَّفْعِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنِ انْدَفَعَ بِضَرْبِ غَيْرِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّانِي مُحْصَنًا، فَإِنْ كَانَ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْجِنَايَاتِ، وَإِذَا قَالَ: قَتَلْتُهُ لِذَلِكَ، وَأَنْكَرَ وَلَيُّهُ، فَعَلَى الْقَاتِلِ الْبَيِّنَةُ، وَيُنْظَرُ إِنِ ادَّعَى أَنَّهُ قَصَدَ امْرَأَتَهُ، فَدَفَعَهُ فَأَتَى الدَّفْعُ عَلَى نَفْسِهِ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِشَاهِدِينَ، وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ زَنَى بِهَا وَهُوَ مُحْصَنٌ، لَمْ يَثْبُتِ الزِّنَى إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةً، حَلَفَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِمَا يَقُولُهُ، وَمُكِّنَ مِنَ الْقِصَاصِ، وَلَوْ كَانَ لِلْقَتِيلِ وَارِثَانِ، فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ، حَلَفَ الْقَاتِلُ لِلْآخَرِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَالِغًا، وَالْآخَرُ صَغِيرًا، وَحَلَفَ الْبَائِعُ لَمْ يُقْتَصَّ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ، فَيَحْلِفُ، أَوْ يَمُوتُ، فَيَحْلِفُ وَارِثُهُ، وَإِنْ أَخَذَ الْبَالِغُ نِصْفَ الدِّيَةِ حَكَى الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ لِلصَّغِيرِ أَيْضًا، فَإِذَا بَلَغَ، حَلَفَ، فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْقَاتِلُ، رَدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَ، وَلَوْ أَقَرَّ الْوَرَثَةُ أَنَّ مُورِثَهُمْ كَانَ مَعَهَا تَحْتَ ثَوْبٍ يَتَحَرَّكُ تَحَرُّكَ الْمُجَامِعِ وَأَنْزَلَ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، لَمْ يَسْقَطِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِمَا يُوجِبُهُ وَقَالُوا: كَانَ بِكْرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْبَيِّنَةُ بِالْحِصَانِ، وَلَوْ أَخْرَجَ سَارِقٌ الْمَتَاعَ مِنْ حِرْزِهِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ وَهَرَبَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ فَيَضْرِبُهُ، فَإِنْ تَبِعَهُ، فَقَطَعَ يَدَهُ الَّتِي وَجَبَ قَطْعُهَا بِالسَّرِقَةِ، فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةُ الْإِزَالَةِ، وَكَذَا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ إِذَا قَطَعَ مَا وَجَبَ قَطْعُهُ مِنْهُ لَا قِصَاصَ، لَكِنْ يُعَزَّرُ لِافْتِئَاتِهِ، وَيَجِيءُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَلَوْ وَجَبَ الْجَلْدُ عَلَى زَانٍ، فَجَلَدَهُ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ، لَمْ يَقَعْ حَدًّا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ الْقَطْعِ، وَفِي تَعْلِيقِ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَذِيِّ وَجْهَانِ فِيمَنْ جَلَدَ رَجُلًا ثَمَانِينَ، وَقَالَ: كَانَ قَذَفَنِي، وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِهِ، هَلْ يُحْسَبُ ذَلِكَ عَنْ

فصل

الْحَدِّ؟ وَبُنِيَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ إِنْ عَاشَ هَلْ يُعَادُ الْحَدُّ، وَإِنْ مَاتَ هَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الضَّارِبِ؟ فَصْلٌ إِذَا نَظَرَ إِلَى حُرْمَةِ إِنْسَانٍ فِي دَارِهِ مِنْ كُوَّةٍ، أَوْ ثُقْبٍ، أَوْ شَقِّ بَابٍ، فَنَهَاهُ صَاحِبُ الدَّارِ، فَلَمْ يَنْتَهِ، فَرَمَاهُ بِحَصَاةٍ وَنَحْوِهَا، فَأَصَابَ عَيْنَهُ فَأَعْمَاهُ، أَوْ أَصَابَ قَرِيبًا مِنْ عَيْنِهِ فَجَرَحَهُ، فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ سَرَى إِلَى النَّفْسِ لَمْ يَضْمَنْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَوْ ثَبَتَ الْمُطَّلِعُ، وَلَمْ يَنْدَفِعْ بَعْدَ رَمْيِهِ بِالشَّيْءِ الْخَفِيفِ، اسْتَغَاثَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الدَّارِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِ غَوْثٍ، قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَنْشُدَهُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ، فَلَهُ ضَرْبُهُ بِالسِّلَاحِ وَيَنَالَهُ بِمَا يَرْدَعُهُ، فَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا ضَمَانَ، وَلَوْ لَمْ يَنَلْ مِنْهُ صَاحِبُ الدَّارِ، عَاقَبَهُ السُّلْطَانُ، وَسَوَاءٌ كَانَ وُقُوفُ النَّاظِرِ فِي الشَّارِعِ أَوْ فِي سِكَّةٍ مُنْسَدَّةِ الْأَسْفَلِ، أَوْ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، إِذْ لَيْسَ لِلْوَاقِفِ فِي مِلْكِهِ مَدُّ النَّظَرِ إِلَى حُرَمِ النَّاسِ، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدُ عَيْنِهِ إِذَا وَقَفَ فِي الشَّارِعِ، أَوْ مِلْكُ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُهُ إِذَا وَقَفَ فِي مِلْكِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّمَا يَرْمِي عَيْنَهُ إِذَا قَصَدَ النَّظَرَ وَالتَّطَلُّعَ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُخْطِئًا، أَوْ وَقَعَ بَصَرُهُ اتِّفَاقًا، وَعَلِمَ صَاحِبُ الدَّارِ الْحَالَ، فَلَا يَرْمِيهِ، فَلَوْ رَمَاهُ، وَقَالَ النَّاظِرُ: لَمْ أَكُنْ قَاصِدًا، أَوْ لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّامِي؛ لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ حَاصِلٌ، وَقَصْدُهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَهَذَا ذِهَابٌ إِلَى جَوَازِ الرَّمْيِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ قَصْدِهِ، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْمِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَالَ، وَهُوَ حَسَنٌ. فَرْعٌ هَلْ يَجُوزُ رَمْيُهُ قَبْلَ إِنْذَارِهِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا يُحْكَى عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ: لَا، بَلْ يُنْذِرُهُ وَيَزْجُرُهُ وَيَأْمُرُهُ بِالِانْصِرَافِ،

فَإِنْ أَصَرَّ، رَمَاهُ، جَرْيًا عَلَى قِيَاسِ الدَّفْعِ بِالْأَهْوَنِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ، وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْمَاسَرْجَسِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَجَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ: يَجُوزُ رَمْيُهُ قَبْلَ الْإِنْذَارِ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» بِجَوَازِ الرَّمْيِ هُنَا قَبْلَ الْإِنْذَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِي دَفْعِ كُلِّ صَائِلٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَصُولِ عَلَيْهِ الِابْتِدَاءُ بِالْفِعْلِ، قَالَ الْإِمَامُ: مَجَالُ التَّرَدُّدِ فِي كَلَامِهِ هُوَ مَوْعِظَةٌ قَدْ تُفِيدُ وَقَدْ لَا تُفِيدُ، فَأَمَّا مَا يُوثَقُ بِكَوْنِهِ دَافِعًا مِنْ تَخْوِيفٍ وَزَعْقَةٍ مُزْعِجَةٍ، فَيَجِبُ قَطْعًا، وَهَذَا أَحْسَنُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: مَا لَا يُوثَقُ بِكَوْنِهِ دَافِعًا، وَيُخَافُ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِهِ مُبَادَرَةُ الصَّائِلِ لَا يَجِبُ الِابْتِدَاءُ بِهِ قَطْعًا. فَرْعٌ لِيَكُنَ الرَّمْيَ بِشَيْءٍ خَفِيفٍ تُقْصَدُ الْعَيْنَ بِمِثْلِهِ، كَبُنْدُقَةٍ وَحَصَى خَفِيفَةٍ، أَمَّا إِذَا رَشَقَهُ بِنِشَابٍ، أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ ثَقِيلٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ، لَكِنْ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ قَصْدُ عَيْنِهِ، أَوْ لَمْ يَنْزَجِرْ، فَيَسْتَغِيثُ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُهُ بِمَا أَمْكَنَهُ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَقْصِدُ رَمْيَ غَيْرِ الْعَيْنِ إِذَا أَمْكَنَهُ إِصَابَتُهَا، فَإِنْ لَمْ يُمَكَّنْ، فَرَمَى عُضْوًا آخَرَ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ فِيهِ، وَنُقِلَ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ مَوْضِعًا بَعِيدًا عَنْ عَيْنِهِ بِلَا قَصْدٍ، فَلَا يَضْمَنُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْأَشْبَهُ مَا ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ إِنْ رَمَاهُ، فَأَصَابَ غَيْرَ الْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا لَا يُخْطِئُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَيْهِ، ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا يُخْطِئُ إِلَيْهِ، لَمْ يَضْمَنْ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ لِلنَّاظِرِ مَحْرَمٌ فِي الدَّارِ، أَوْ زَوْجَةٌ، أَوْ مَتَاعٌ، لَمْ يَجُزْ قَصْدُ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي النَّظَرِ شُبْهَةً، وَقِيلَ: لَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الدَّارِ مَحْرَمٌ، بَلْ لَا يُمْنَعُ قَصْدُ عَيْنِهِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ إِلَّا مَحَارِمُهُ.

وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَانَ النَّاظِرُ مَحْرَمًا لَحَرِمَ صَاحِبُ الدَّارِ، فَلَا يَرْمِي إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُتَجَرِّدَةً، إِذَا لَيْسَ لِلْمَحْرَمِ النَّظَرُ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. فَرْعٌ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ حَرَمٌ، بَلْ كَانَ فِيهَا الْمَالِكُ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فَلَهُ الرَّمْيُ وَلَا ضَمَانَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ رَمْيُهُ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يُكْرَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْحُرُمُ فِي الدَّارِ مُسْتَتِرَاتٍ بِالثِّيَابِ، أَوْ فِي بَيْتٍ، أَوْ مُنْعَطَفٍ لَا يَمْتَدُّ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ، فَهَلْ يَجُوزُ قَصْدُ عَيْنِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّهُ يُرِيدُ سَتْرَهُنَّ عَنِ الْأَعْيُنِ وَإِنْ كُنَّ مَسْتُورَاتٍ بِثِيَابٍ، وَلِأَنَّ الْحُرُمَ فِي الدَّارِ لَا يُدْرَى مَتَى يُسْتَرْنَ وَيَنْكَشِفْنَ، فَيُحْسَمُ بَابُ النَّظَرَ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ بَابُ الدَّارِ مَفْتُوحًا، فَنَظَرَ مِنْهُ، أَوْ مِنْ كُوَّةٍ وَاسِعَةٍ، أَوْ ثُلْمَةٍ فِي الْجِدَارِ، فَإِنْ كَانَ مُجْتَازًا، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُ، وَإِنْ وَقَفَ وَنَظَرَ مُتَعَمِّدًا، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُ أَيْضًا فِي الْأَصَحِّ، لِتَفْرِيطِ صَاحِبِ الدَّارِ، وَلَوْ نَظَرَ مِنْ سَطْحِ نَفْسِهِ، أَوْ نَظَرَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْمَنَارَةِ، جَازَ رَمْيُهُ فِي الْأَصَحِّ، إِذْ لَا تَفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ، وَلَوْ وَضَعَ الْأَعْمَى عَيْنَهُ عَلَى شَقِ الْبَابِ، فَرَمَاهُ، ضَمِنَ، سَوَاءٌ عَلِمَ عَمَاهُ أَمْ لَا، وَلَوْ نَظَرَتِ الْمَرْأَةُ أَوِ الْمُرَاهِقُ، جَازَ رَمْيُهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَعَدَ فِي طَرِيقٍ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ نَاظِرٌ، لَمْ يَجُزْ لَهُ رَمْيُهُ؛ لِأَنَّهُ الْهَاتِكُ حُرْمَتَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ: لَوْ دَخَلَ مَسْجِدًا، وَكَشَفَ عَوْرَتَهُ، وَأَغْلَقَ الْبَابَ أَوْ لَمْ يُغْلِقْهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَمْيُهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ مِلْكًا لِلنَّاظِرِ، قَالَ السَّرَخَسِيُّ:

إِنْ كَانَ مَنْ فِيهَا غَاصِبًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّمْيُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجِرًا، فَلَهُ ذَلِكَ، وَفِي الْمُسْتَعِيرِ وَجْهَانِ. فَرْعٌ لَوِ انْصَرَفَ النَّاظِرُ قَبْلَ الرَّمْيِ إِلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيَرْمِيَهُ، كَالصَّائِلِ إِذَا أَدْبَرَ. فَرْعٌ لَوْ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَهُ أَمْرُهُ بِالْخُرُوجِ وَدَفْعُهُ، كَمَا يَدْفَعُهُ عَنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُهُ قَبْلَ الْإِنْذَارِ، كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الدَّفْعِ، وَبِهِ قَالَ الْمَاسَرْجَسِيُّ، ثُمَّ هَلْ يَتَعَيَّنُ قَصْدُ رِجْلِهِ لِكَوْنِ الدُّخُولِ بِهَا كَمَا يَتَعَيَّنُ قَصْدُ الْعَيْنِ فِي النَّظَرِ، أَمْ لَا يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَهَلْ يَجُوزُ قَصْدُ الْعَيْنِ؟ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرِيُّ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِأَوَّلِ الْهُجُومِ مُتَطَلِّعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّ لَهُ دَفْعَهُ بِمَا يَتَيَسَّرُ، وَلَا يَتَعَيَّنُ قَصْدُ عُضْوٍ بِعَيْنِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ قَصْدُ عُضْوٍ. وَدُخُولُ الْخَيْمَةِ فِي الصَّحْرَاءِ، كَالدَّارِ فِي الْبُنْيَانِ، وَلَوْ أَخَذَ الْمَتَاعَ وَخَرَجَ، فَلَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيُقَاتِلَهُ إِلَى أَنْ يَطْرَحَ مَتَاعَهُ، وَلَوْ قَتَلَهُ وَقَالَ: قَتَلْتُهُ، لِأَنَّهُ كَابَرَ وَلَمْ يَخْرُجْ، وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ فَهُوَ الْمُصَدَّقُ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ قَالَ: قَتَلْتُهُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَنِي، فَكَذَلِكَ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ بِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَهُ مُقْبِلًا شَاهِرًا سِلَاحَهُ، وَلَا تَكْفِي بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَهُ بِسِلَاحٍ مِنْ غَيْرِ شَهْرٍ. فَرْعٌ لَوْ وَضَعَ أُذُنَهُ عَلَى شَقِّ الْبَابِ، أَوْ وَقَفَ عَلَى الْبَابِ يَتَسَمَّعُ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُ أُذُنِهِ، إِذْ لَيْسَ السَّمْعُ كَالْبَصَرِ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: وَفِي بَعْضِ التَّعَالِيقِ عَنْ شَيْخِي وَجْهٌ، وَلَا أَثِقُ بِالْمُعَلِّقِ.

فصل

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مِنَ الصِّيَالِ قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَوْ صَالَ عَلَيْهِ فَحْلٌ، وَأَمْكَنَهُ الْهَرَبُ، فَلَمْ يَهْرُبْ وَقَتَلَهُ دَفْعًا، هَلْ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ الْهَرَبُ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ، إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا، وَأَبْدَى تَرَدُّدًا فِي حِلِّ أَكْلِ لَحْمِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تَلَفَتْ بِالدَّفْعِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَذِيُّ: إِنْ لَمْ يُصِبِ الْمَذْبَحَ، لَمْ تَحُلْ، وَإِنْ أَصَابَهُ، فَوَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الذَّبْحَ وَالْأَكْلَ، وَلَوْ صَالَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ عَلَى الْبَائِعِ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَقَتَلَهُ دَفْعًا، انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَوْ صَالَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَتَلَهُ، فَفِي مَصِيرِهِ قَابِضًا وَجْهَانِ. وَلَوْ صَالَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ أَوِ الْمُسْتَعَارُ عَلَى مَالِكِهِ، فَقَتَلَهُ دَفْعًا، لَمْ يَبْرَأِ الْغَاصِبُ وَالْمُسْتَعِيرُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي «الْبَيَانِ» أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَ الصَّائِلِ دَفْعًا، فَلَمَّا وَلَّى تَبِعَهُ فَقَتَلَهُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ حَكَى عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّ لِوَرَثَةِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعُوا فِي تَرِكَةِ الصَّائِلِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ، أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَنْقُصُ بِنَقْصِ الْيَدِ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي ضَمَانِ مَا تَتْلِفُهُ الْبَهَائِمُ إِذَا أَتْلَفَتِ الْبَهِيمَةُ، فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا أَحَدٌ مِنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ. الْحَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ، وَأَتْلَفَتْ زَرْعًا أَوْ غَيْرَهُ، نُظِرَ إِنْ أَتْلَفَتْهُ بِالنَّهَارِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِنْ أَتْلَفَتْهُ بِاللَّيْلِ، لَزِمَ صَاحِبَهَا الضَّمَانُ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ، وَلِأنَ الْعَادَةَ أَنَّ أَصْحَابَ الزُّرُوعِ وَالْبَسَاتِينِ يَحْفَظُونَهَا نَهَارًا، وَلَا بُدَّ مِنْ إِرْسَالِ الْمَوَاشِي لِلرَّعْيِ، ثُمَّ الْعَادَةُ أَنَّهَا لَا تُتْرَكُ

مُنْتَشِرَةً لَيْلًا، فَإِذَا تَرَكَهَا لَيْلًا، فَقَدْ قَصَّرَ، فَضَمِنَ، وَلَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ فِي نَاحِيَةٍ بِالْعَكْسِ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ الْمَوَاشِيَ لَيْلًا لِلرَّعْيِ، وَيَحْفَظُونَهَا نَهَارًا، وَكَانُوا يَحْفَظُونَ الزَّرْعَ لَيْلًا، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَنْعَكِسُ الْحُكْمُ، فَيَضَمَنُ مَا أَتْلَفَتْهُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ اتِّبَاعًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْعَادَةِ. وَالثَّانِي: لَا تَأْثِيرَ لِلْعَادَةِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ فُرُوعٌ. الْأَوَّلُ: الْمَزَارِعُ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْبَسَاتِينُ الَّتِي لَا جِدَارَ لَهَا، حُكْمُهَا مَا ذَكَرْنَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّرْعُ فِي مَحْوَطٍ، وَكَانَ لِلْبَسَاتِينِ بَابٌ يُغْلَقُ، فَتَرَكَهُ مَفْتُوحًا فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْحُكْمُ كَذَلِكَ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ حِفْظُ الْبَهَائِمِ وَرَبْطُهَا لَيْلًا، فَإِرْسَالُهَا تَقْصِيرٌ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا ضَمَانَ وَإِنْ أَتَلَفَتْ بِاللَّيْلِ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ بِفَتْحِ الْبَابِ. الثَّانِي: إِنَّمَا يَعْتَادُ إِرْسَالَ الْمَوَاشِي إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَرَاعٍ بَعِيدَةٌ عَنِ الْمَزَارِعِ، وَحِينَئِذٍ إِنْ فَرَضَ انْتِشَارَهَا إِلَى أَطْرَافِ الْمَزَارِعِ، لَمْ يُعَدْ تَقْصِيرًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَرَاعِي مُتَوَسِّطَةً لِلْمَزَارِعِ، أَوْ كَانَتِ الْبَهَائِمُ تَرْعَى فِي حَرِيمِ السَّوَاقِي، فَلَا يَعْتَادُ إِرْسَالَهَا بِلَا رَاعٍ، فَإِنْ أَرْسَلَهَا، فَمُقَصِّرٌ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَتْهُ وَإِنْ كَانَ نَهَارًا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. الثَّالِثُ: لَوْ رَبَطَ بَهِيمَتَهُ، وَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَاحْتَاطَ عَلَى الْعَادَةِ، فَفَتَحَ الْبَابَ لِصٌّ، أَوِ انْهَدَمَ الْجِدَارُ، فَخَرَجَتْ لَيْلًا، فَلَا ضَمَانَ، إِذْ لَا تَقْصِيرَ، وَلَوْ قَصَّرَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ، وَحَضَرَ صَاحِبُ الزَّرْعِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَنْفِيرِهَا، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنْ تَهَاوَنَ فَهُوَ الْمُقَصِّرُ الْمُضَيِّعُ لِزَرْعِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُبَالِغَ التَّنْفِيرَ وَالْإِبْعَادَ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَإِنْ زَادَ، فَضَاعَتْ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَذِيُّ: لَزِمَهُ الضَّمَانُ وَتَصِيرُ دَاخِلَةً فِي ضَمَانِهِ بِالتَّبْعِيدِ فَوْقَ قَدَرِ الْحَاجَةِ، وَلَوْ أَخْرَجَهَا مِنْ زَرْعِهِ وَأَدْخَلَهَا فِي زَرْعِ غَيْرِهِ، فَأَفْسَدَتْهُ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ. فَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوفَةً بِمَزَارِعِ النَّاسِ، وَلَمْ

يُمْكِنُ إِخْرَاجُهَا إِلَّا بِإِدْخَالِهَا مَزْرَعَةَ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقِيَ مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ، بَلْ يَصْبِرُ وَيَغْرُمُ صَاحِبُهَا. الرَّابِعُ: إِذَا أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الْبَلَدِ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، ضَمِنَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا تَعَلَّقَ إِرْسَالُ الدَّابَّةِ وَضَبْطُهَا بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنِ انْفَلَتَتْ، لَمْ يَضَمَنْ مَا أَتْلَفَتْهُ بِحَالٍ، وَلَوْ رَبَطَ دَابَّتَهُ فِي مَوَاتٍ، أَوْ مِلْكِ نَفْسِهِ، وَغَابَ عَنْهَا، لَمْ يَضَمَنْ مَا تُتْلِفُهُ، وَإِنْ رَبَطَهَا فِي الطَّرِيقِ عَلَى بَابِ دَارِهِ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا أَوْ وَاسِعًا؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ فِي الطَّرِيقِ إِنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، كَإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ وَاسِعًا، فَلَا ضَمَانَ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْفَرْقِ بَيْنَ رَبْطِهِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَدُونَ إِذْنِهِ. فَرْعٌ إِذَا أَرْسَلَ الْحَمَامَ، أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الطَّيْرِ، فَكَسَرَتْ شَيْئًا، أَوِ الْتَقَطَتْ حَبًّا، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ إِرْسَالُهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. الْحَالُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ مَعَ الْبَهِيمَةِ شَخْصٌ، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ، سَوَاءٌ أَتْلَفَتْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَسَوَاءٌ كَانَ سَائِقُهَا أَوْ رَاكِبُهَا أَوْ قَائِدُهَا، وَسَوَاءٌ أَتْلَفَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ عَضِّهَا أَوْ ذَنَبِهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَ يَدِهِ وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الَّذِي مَعَ الْبَهِيمَةِ مَالِكَهَا أَوْ أَجِيرَهُ، أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ مُسْتَعِيرًا أَوْ غَاصِبًا، لِشُمُولِ الْيَدِ، وَسَوَاءٌ الْبَهِيمَةُ الْوَاحِدَةُ وَالْعَدَدُ، كَالْإِبِلِ الْمَقْطُورَةِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمَاشِيَةُ مِمَّا تُسَاقُ، كَالْغَنَمِ، فَسَاقَهَا، لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُقَادُ،

فُسَاقَهَا، ضَمِنَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَضَمَنُ فِي الْحَالَيْنِ وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا قَائِدٌ وَسَائِقٌ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَفِي الرَّاكِبِ مَعَ السَّائِقِ أَوِ الْقَائِدِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَالثَّانِي: يَخُصُّ الرَّاكِبَ بِالضَّمَانِ لِقُوَّةِ يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ رَاكِبٌ وَسَائِقٌ وَقَائِدٌ، فَهَلْ يَخْتَصُّ الرَّاكِبُ بِالضَّمَانِ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ كَانَ يُسَيِّرُ دَابَّةً، فَنَخَسَهَا إِنْسَانٌ، فَرَمَحَتْ وَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: عَلَيْهِمَا، وَلَوِ انْفَلَتَتِ الدَّابَّةُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا وَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مِنْ يَدِهِ، فَلَوْ أَمْسَكَ عَلَى اللِّجَامِ، وَرَكِبَتْ رَأْسَهَا فَهَلْ يَضْمَنُ مَا تُتْلِفُهُ؟ قَوْلَانِ، وَعَنْ صَاحِبِ «التَّلْخِيصِ» طَرْدُ الْخِلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا الرَّاكِبُ، كَمَا إِذَا غَلَبَتِ السَّفِينَتَانِ الْمَلَّاحِينَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالدَّابَّةُ النَّزِقَةُ الَّتِي لَا تَنْضَبِطُ بِالْكَبْحِ، وَالتَّرْدِيدِ فِي مَعَاطِفِ اللِّجَامِ، لَا تُرْكَبُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَمَنْ رَكْبِهَا، فَهُوَ مُقَصِّرٌ ضَامِنٌ لِمَا تُتْلِفُهُ، وَإِذَا رَاثَتِ الدَّابَّةُ، أَوْ بَالَتْ فِي سَيْرِهَا فِي الطَّرِيقِ، فَزَلَقَ بِهِ إِنْسَانٌ، وَتَلَفَتَ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ، أَوْ فَسَدَ شَيْءٌ مِنْ رَشَاشِ الْوَحْلِ بِمَمْشَاهَا وَقْتَ الْوُحُولِ وَالْأَنْدَاءِ، أَوْ مِمَّا يَثُورُ مِنَ الْغُبَارِ، وَقَدْ يَضُرُّ ذَلِكَ بِثِيَابِ الْبَزَّازِينَ وَالْفَوَاكِهِ، فَلَا ضَمَانَ فِي كُلِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ لَا يَخْلُو عَنْهُ، وَالْمَنْعُ مِنَ الطُّرُقِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ مِمَّا لَا يُعْتَادُ، كَالرَّكْضِ الْمُفْرِطِ فِي الْوَحْلِ، وَالْإِجْرَاءِ فِي مُجْتَمَعِ الْوُحُولِ، فَإِنْ خَالَفَ، ضَمِنَ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ سَاقَ الْإِبِلَ فِي الْأَسْوَاقِ غَيْرَ مَقْطُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا حِينَئِذٍ، وَإِذَا بَالَتِ الدَّابَّةُ، أَوْ رَاثَتْ فِي الطَّرِيقِ وَقَدْ وَقَفَهَا فِيهِ، فَأَفْضَى الْمُرُورُ فِي مَوْضِعِ الْبَوْلِ إِلَى تَلَفٍ، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِيمَا لَوْ أَتْلَفَتِ الدَّابَّةُ الْمَوْقُوفَةُ هُنَاكَ شَيْئًا، وَالْمُذَهَبُ: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ طَرِيقٍ وَاسِعٍ وَضَيِّقٍ، وَعَنِ ابْنِ الْوَكِيلِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقِفَ الدَّابَّةُ فِي الطَّرِيقِ مُطْلَقًا، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُجْرِيَهَا، فَإِذَا بَالَتْ أَوْ

رَاثَتْ فِي وُقُوفِهَا، وَتَلَفَ بِهِ إِنْسَانٌ، فَلَا ضَمَانَ، وَلَوْ كَانَ يَرْكُضُ دَابَّتَهُ، فَأَصَابَ شَيْءٌ مِنْ مَوْضِعِ السَّنَابِكِ عَيْنَ إِنْسَانٍ، وَأَبْطَلَ ضَوْءُهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ رَكْضٍ، فَلَا ضَمَانَ، وَإِلَّا فَيَضْمَنُ، وَلَوْ كَانَ يَسُوقُ دَابَّةً عَلَيْهَا حَطَبٌ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، أَوْ عَلَى عَجَلَةٍ، فَاحْتَكَّ بِبِنَاءٍ وَأَسْقَطَهُ، لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، وَإِنْ دَخَلَ السُّوقَ بِهِ، وَتَلَفَ مِنْهُ مَالٌ أَوْ نَفْسٌ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ الزِّحَامِ، ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زِحَامٌ، وَتَمَزَّقَ ثَوْبُهُ بِخَشَبَةٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ مُسْتَقْبِلًا لِلدَّابَّةِ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْمَى، فَعَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ إِعْلَامُهُ، وَإِنْ كَانَ يَمْشِي قُدَّامَ الدَّابَّةِ، لَزِمَ صَاحِبَهَا الضَّمَانُ إِذَا لَمْ يُعْلِمْهُ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي الْعَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الثَّوْبِ جَذَبَهُ أَيْضًا بِأَنْ تَعَلَّقَتِ الْخَشَبَةُ بِثَوْبِهِ فَجَذَبَهُ وَجَذَبَتْهَا الدَّابَّةُ، فَعَلَى صَاحِبِهَا نِصْفُ الضَّمَانِ، وَلَوْ كَانَ يَمْشِي، فَوَقَعَ مُقَدَّمُ مَدَاسِهِ عَلَى مُؤَخَّرِ مَدَاسِ غَيْرِهِ وَتَمَزَّقَ، لَزِمَهُ نِصْفُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ تَمَزَّقَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَذِيُّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَمَزَّقَ مُؤَخَّرُ مَدَاسِ السَّابِقِ، فَالضَّمَانُ عَلَى اللَّاحِقِ، وَإِنْ تَمَزَّقَ مُقَدَّمُ مَدَاسِ اللَّاحِقِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّابِقِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ هُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ تَقْصِيرٌ، فَإِنْ وُجِدَ بِأَنْ عَرَضَهُ لِلدَّابَّةِ، أَوْ وَضَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ. فَرْعٌ إِذَا كَانَتْ لَهُ هِرَّةٌ تَأْخُذُ الطُّيُورَ، وَتَقْلِبُ الْقُدُورَ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَهَلْ عَلَى صَاحِبِهَا ضَمَانٌ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، سَوَاءٌ أَتْلَفَتْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْهِرَّةِ يَنْبَغِي أَنْ تُرْبَطَ وَيُكَفَّ شَرُّهَا، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ تَوَلَّعَ بِالتَّعَدِّي. وَالثَّانِي: لَا ضَمَانَ، سَوَاءٌ أَتَلِفَتْ لَيْلًا

أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَا تُرْبَطُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْهَدْ مِنْهَا ذَلِكَ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ حِفْظُ الطَّعَامِ عَنْهَا لَا رَبْطُهَا. وَالثَّانِي: يُفَرَّقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَهِيمَةِ، وَأَطْلَقَ الْإِمَامُ فِي ضَمَانِ مَا تُتْلِفُهُ الْهِرَّةُ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: يَضْمَنُ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: يَضْمَنُ لَيْلًا لَا نَهَارًا، كَالْبَهِيمَةِ، وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُحْفَظُ عَنْهَا لَيْلًا، وَإِذَا أَخَذَتِ الْهِرَّةُ حَمَامَةً وَهِيَ حَيَّةٌ، جَازَ فَتْلُ أُذُنِهَا وَضَرْبُ فَمِهَا لِتُرْسِلَهَا، وَإِذَا قَصَدَتِ الْحَمَامَ، فَأُهْلِكَتْ فِي الدَّفْعِ، فَلَا ضَمَانَ، فَلَوْ صَارَتْ ضَارِيَةً مَفْسِدَةً فَهَلْ يَجُوزُ قَتْلُهَا فِي حَالِ سُكُونِهَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ضَرَاوَتَهَا عَارِضَةٌ وَالتَّحَرُّزَ عَنْهَا سَهَلٌ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: تَلْتَحِقُ بِالْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ، فَيَجُوزُ قَتْلُهَا، وَلَا يَخْتَصُّ بِحَالِ ظُهُورِ الشَّرِّ، قَالَ الْإِمَامُ: وَقَدِ انْتَظَمَ لِي كَلَامُ الْأَصْحَابِ أَنِ الْفَوَاسِقَ مَقْتُولَاتٌ لَا يَعْصِمُهَا الِاقْتِنَاءُ، وَلَا يَجْرِي الْمِلْكُ عَلَيْهَا، وَلَا أَثَرَ لِلْيَدِ وَالِاخْتِصَاصِ فِيهَا. فَرْعٌ لَوْ كَانَ فِي دَارِهِ كَلْبٌ عَقُورٌ، أَوْ دَابَّةٌ رَمُوحٌ، فَدَخَلَهَا إِنْسَانٌ، فَرَمَحَتْهُ، أَوْ عَضَّهُ الْكَلْبُ، فَلَا ضَمَانَ إِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ، أَوْ بِإِذْنِهِ وَأَعْلَمَهُ بِحَالِ الْكَلْبِ وَالدَّابَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ فَقَوْلَانِ، كَمَا لَوْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامًا مَسْمُومًا، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْخِلَافَ بِمَنْ كَانَ أَعْمَى، أَوْ فِي ظُلْمَةٍ، وَقَطَعَ بِنَفْيِ الضَّمَانِ إِذَا كَانَ بَصِيرًا يَرَى. فَرْعٌ لَوِ ابْتَلَعَتِ الْبَهِيمَةُ فِي مُرُورِهَا جَوْهَرَةً، ضَمِنَهَا صَاحِبُهَا إِنْ كَانَ مَعَهَا، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ، بِأَنْ طَرَحَ لُؤْلُؤَةَ غَيْرِهِ بَيْنَ يَدَيْ دَجَاجَةٍ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُفَرَّقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَالزَّرْعِ، وَالثَّانِي: يَضْمَنُ

فصل

لَيْلًا وَنَهَارًا، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ، فَطَلَبَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ ذَبْحَهَا وَرَدَّ الْجَوْهَرَةِ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْغَصْبِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ مِنَ الْبَابِ وَرُبَّمَا سَبَقَ بَعْضُهَا فَأَعَدْنَاهُ، أَوْ صَحَّ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنِ الرَّاعِي كَالْمَالِكِ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْهُ الدَّابَّةُ فِي يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ دَابَّةٌ وَدِيعَةٌ، فَأَرْسَلَهَا فَأَتْلَفَتْ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ حِفْظَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَفِي هَذَا تَوَقُّفٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: عَلَيْهِ حِفْظُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْفَظُ الْمُلَّاكُ، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لَحِفْظِ دَوَابِّهِ، فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَعَلَى الْأَجِيرِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ حِفْظَهَا فِي الْوَقْتَيْنِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى الْمَسْأَلَةَ كَذَلِكَ فِي طَرِيقَةِ الْعِرَاقِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْأَجِيرُ وَالْمُودِعُ إِذَا أَتْلَفَتْ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ حِفْظَهُ نَهَارًا، وَتَفْرِيطُ الْأَجِيرِ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي أَنَّ مَالِكَ الدَّابَّةِ يَضْمَنُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ دَخَلَتْ دَابَّةٌ مِلْكَ رَجُلٍ فَأَخْرَجَهَا، ضَمِنَ، كَمَا لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ بِثَوْبٍ فِي حِجْرِهِ، فَأَلْقَاهُ، ضَمِنَ، بَلْ عَلَيْهِ رَدُّهَا إِلَى الْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ سَلَّمَهَا إِلَى الْحَاكِمِ إِلَّا أَنَّ تَكُونَ مُسَيَّبَةً مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ، كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَعَلَى هَذَا فَالَّذِي سَبَقَ أَنَّهُ يُخْرِجُهَا مِنْ زَرْعِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ زَرْعُهُ مَحْفُوفًا بِزَرْعِ الْغَيْرِ يُحْمَلُ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ مُسَيَّبَةً مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ، وَأَنَّهَا لَوْ دَخَلَتْ بَهِيمَةٌ أَرْضَهُ، فَتَلَفَ زَرْعُهُ، دَفَعَهَا كَمَا يَدْفَعُهَا لَوْ صَالَتْ، فَإِنْ نَحَّاهَا عَنِ الزَّرْعِ، وَانْدَفَعَ ضَرَرُهَا، لَمْ يَجُزِ إِخْرَاجُهَا عَنِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ شَغْلَهَا الْمَكَانَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ بِحَيْثُ لَا يُبِيحُ إِضَاعَةَ مَالِ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَنَّ مَالِكَهَا أَدْخَلَهَا فِي مِلْكِ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَأَخْرَجَهَا بَعْدَ غَيْبَةِ

مَالِكِهَا، أَوْ وَضَعَ إِنْسَانٌ مَتَاعَهُ فِي الْمَفَازَةِ عَلَى دَابَّةِ شَخْصٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَغَابَ، أَلْقَاهُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ فِي الضَّمَانِ وَعَدَمَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقْطَعُ شَجَرَةً فِي مِلْكِهِ، فَسَقَطَتْ عَلَى رِجْلِ أَحَدِ النَّظَّارَةِ، فَانْكَسَرَتْ، فَإِنْ عَرَفَ الْقَاطِعُ أَنَّهَا إِذَا سَقَطَتْ تُصِيبُ النَّاظِرَ، وَلَمْ يَعْرِفِ النَّاظِرُ ذَلِكَ، وَلَا أَعْلَمَهُ الْقَاطِعُ، ضَمِنَ الْقَاطِعُ، سَوَاءٌ دَخَلَ مِلْكَهُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِنْ عَرَفَ النَّاظِرُ ذَلِكَ، أَوْ عَرَفَاهُ جَمِيعًا، أَوْ جَهِلَاهُ، فَلَا ضَمَانَ، وَأَنَّهُ لَوْ دَخَلَتْ بَقَرَةٌ مِلْكَهُ، فَأَخْرَجَهَا مِنْ ثُلْمَةٍ، فَهَلَكَتْ، ضَمِنَ إِنْ لَمْ تَكُنِ الثُّلْمَةُ بِحَيْثُ تَخْرُجُ الْبَقَرَةُ مِنْهَا بِسُهُولَةٍ، وَأَنَّهُ لَوْ دَخَلَتْ دَابَّةٌ مِلْكَهُ، فَرَمَحَتْ صَاحِبَ الْمِلْكِ، فَمَاتَ، فَحُكْمُ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَتْ زَرْعَهُ، يُفَرَّقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ، فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ، وَأَنَّهُ لَوْ رَكِبَ صَبِيٌّ أَوْ بَالَغٌ دَابَّةَ رَجُلٍ دُونَ إِذْنِهِ، فَغَلَبَتْهُ الدَّابَّةُ وَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، فَعَلَى الرَّاكِبِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَكِبَ الْمَالِكُ، فَغَلَبَتْهُ، حَيْثُ لَا يَضَمَنُ فِي قَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَأَنَّهُ إِذَا أَهَاجَتِ الرِّيَاحُ وَأَظْلَمَ النَّهَارُ، فَتَفَرَّقَتْ غَنَمُ الرَّاعِي وَوَقَعَتْ فِي زَرْعٍ، فَأَفْسَدَتْهُ، فَالرَّاعِي مَغْلُوبٌ، وَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا ضَمَانَ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ نَدَّ بِعِيرٌ مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا، وَلَوْ نَامَ وَتَفَرَّقَتِ الْأَغْنَامُ وَأَتْلَفَتْ، ضَمِنَ لِتَقْصِيرِهِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ، فَسَقَطَتْ مَيْتَةً وَأَهْلَكَتْ شَيْئًا، أَوْ مَاتَ الرَّاكِبُ وَسَقَطَ عَلَى شَيْءٍ، لَمْ يَضَمَنْ، وَكَذَا لَوِ انْتَفَخَ مَيِّتٌ، وَتَكَسَّرَ بِسَبَبِ انْتِفَاخِهِ قَارُورَةٌ، بِخِلَافِ الطِّفْلِ يَسْقُطُ عَلَى قَارُورَةٍ، يَضَمَنُ؛ لِأَنَّ لِلطِّفْلِ فِعْلًا بِخِلَافِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَقْبَلَ دَابَّةً فَرَدَّهَا، فَأَتْلَفَتْ فِي انْصِرَافِهَا شَيْئًا، ضَمِنَهُ الرَّادُّ، وَلَوْ نَخَسَهَا، فَأَسْقَطَتِ الرَّاكِبَ، أَوْ رَمَحَتْ مِنْهُ إِنْسَانًا، فَأَتْلَفَتْهُ، فَعَلَى النَّاخِسِ الضَّمَانُ، فَإِنْ نَخَسَ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ، تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالرَّاكِبِ،

وَلَوْ حَلَّ قَيْدًا عَنْ دَابَّةٍ، فَخَرَجَتْ وَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، لَا يَضْمَنُ، كَمَا لَوْ أَبْطَلَ الْحِرْزَ فَأَخَذَ الْمَالَ، وَأَنَّهُ لَوْ سَقَطَتْ دَابَّةٌ فِي وَهْدَةٍ، فَنَفَرَ مِنْ سَقْطِهَا بَعِيرٌ وَهَلَكَ، لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَأَنَّهُ إِذَا ابْتَاعَ بَهِيمَةً بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَأَتْلَفَتْ عَلَى الْمُشْتَرِي مَالًا، ضَمِنَهُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَتِ الْمُسْتَعَارَةُ شَيْئًا عَلَى الْمُعِيرِ، يَضْمَنُهُ الْمُسْتَعِيرُ، وَأَنَّهُ لَوْ أَلْقَى نُخَاعَتَهُ فِي الْحَمَّامِ، فَزَلَقَ بِهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ وَانْكَسَرَ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ إِنْ أَلْقَاهَا عَلَى الْمَمَرِّ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب السير

كِتَابُ السِّيَرِ هِيَ جَمْعُ سِيرَةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ، وَالْمَقْصُودُ: الْكَلَامُ فِي الْجِهَادِ وَأَحْكَامُهُ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِي وُجُوبِ الْجِهَادِ، وَبَيَانِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَفِيهِ أَطْرَافٌ. الْأَوَّلُ: فِي مُخْتَصَرٍ يَتَعَلَّقُ بِابْتِدَاءِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ وَالْإِنْذَارِ بِلَا قِتَالٍ، وَاتَّبَعَهُ قَوْمٌ بَعْدَ قَوْمٍ، وَفُرِضَتِ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ، ثُمَّ فُرِضَ الصَّوْمُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ بَعْدَ الصَّوْمِ أَمْ قَبْلَهُ، ثُمَّ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ، وَكَانَ الْقِتَالُ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَأُمِرُوا بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ، وَجَبَتِ الْهِجْرَةُ عَلَى مَنْ قَدَرَ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ، ارْتَفَعَتِ الْهِجْرَةُ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَنُفِي وُجُوبُ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْقِتَالِ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا ابْتَدَأَهُمُ الْكُفَّارُ بِقِتَالٍ، ثُمَّ أَبَاحَ الْقِتَالَ ابْتِدَاءً، لَكِنْ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَرْطٍ وَلَا زَمَانٍ، وَلَمْ يَعْبُدْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَمًا قَطُّ قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : كَانَ مُتَمَسِّكًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْتُ: تَعَرَّضَ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِهَذِهِ النُّبَذِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا بِهَذَا الْكِتَابِ، وَأَنَا أُشِيرُ إِلَى أُصُولِ مَقَاصِدِهَا بِأَلْفَاظٍ وَجِيزَةٍ - إِنْ

شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. اتَّفَقُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْبُدْ صَنَمًا قَطُّ، وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكُفْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِصْمَةِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا بَعْدُ النُّبُوَّةِ فَمَعْصُومُونَ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْ كُلِّ مَا يُخِلُّ بِالتَّبْلِيغِ، وَمَا يُزْرِي بِالْمُرُوءَةِ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّغَائِرِ فَجَوَّزَهَا الْأَكْثَرُونَ، وَمَنَعَهَا الْمُحَقِّقُونَ وَقَطَعُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْهَا، وَتَأَوَلُوا الظَّوَاهِرَ الْوَارِدَةَ فِيهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ يَتَعَبَّدُ عَلَى دِينِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ أَمْ مُوسَى أَمْ عِيسَى، أَمْ يَتَعَبَّدُ لَا مُلْتَزِمًا دِينٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورِينَ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُجْزَمُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عَقْلٍ وَلَا ثَبَتَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا إِذَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِنَسْخِ ذَلِكَ الْحُكْمِ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا، وَقِيلَ: بَلَى، وَقِيلَ: شَرْعُ إِبْرَاهِيمَ فَقَطْ؛ وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ وَيَوْمٌ، فَأَقَامَ فِي مَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: عَشْرًا، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشَرَةَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا عَشْرًا بِالْإِجْمَاعِ، وَدَخْلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضُحَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعِ الْأَوَّلِ، وَتُوُفِّيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضُحَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشَرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ؛ وَمِنْهَا ابْتِدَاءُ التَّارِيخِ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ، وَقِيلَ: لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ، وَمُدَّةُ مَرَضِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَغَسَّلَهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ وَقُثَمٌ وَأُسَامَةُ وَشُقْرَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْرَادًا، بِلَا إِمَامٍ، وَدَخَلَ قَبْرَهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ وَقُثَمٌ وَشُقْرَانُ، وَدُفِنَ فِي اللَّحْدِ وَجُعِلَ فِيهِ تِسْعُ لَبِنَاتٍ، وَدُفِنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، وَهُوَ

حُجْرَةُ عَائِشَةَ، ثُمَّ دُفِنَ عِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يَحُجَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَّا حَجَّةَ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَسُمِّيَتْ حَجَّةَ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّهُ وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاعْتَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عُمَرٍ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ خَمْسٍ أَوْ تِسْعٍ، وَأَوَّلُ مَا وَجَبَ الْإِنْذَارُ وَالدُّعَاءُ إِلَى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِمَا فِي أَوَاخِرِهَا، ثُمَّ نَسَخَهُ بِإِيجَابِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِعَشْرِ سِنِينَ وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورًا بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مُدَّةَ مَقَامِهِ بِمَكَّةَ وَبَعْدَ الْهِجْرَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ. ذِكْرُ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَلَى تَرْتِيبِ السِّنِينَ: السَنَةُ الْأُولَى: فِيهَا بَنَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ، وَآخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَشَرَعَ الْأَذَانَ وَأَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. السَنَةُ الثَّانِيَةُ: فِيهَا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ الْهَاشِمِيُّ: حُوِّلَتْ فِي الظُّهْرِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ نِصْفَ شَعْبَانَ، كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَصْحَابِهِ، فَحَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ فِي مَنَازِلِ بَنِي سَلَمَةَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ فِي مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ إِلَى الْقُدْسِ، ثُمَّ أُمِرَ فِي الصَّلَاةِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَدَارَ وَاسْتَدَارَتِ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَتَمَّ الصَّلَاةَ، فَسُمِّيَ مَسْجِدَ الْقِبْلَتَيْنِ. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا فُرِضَ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَفِيهَا فُرِضَتْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ فِي رَمَضَانَ، وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا تَزَوَّجَ عَائِشَةَ، وَفِيهَا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ.

السَنَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهَا غَزَوَاتٌ وَأَرْبَعُ سَرَايَا، مِنْهَا غَزْوَةُ أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ السَّابِعِ مِنْ شَوَّالٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَدْرٍ الصُّغْرَى فِي هِلَالِ ذِي الْقِعْدَةِ، وَفِيهَا غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ، وَحُرِّمَتِ الْخَمْرُ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَتَزَوَّجَ حَفْصَةَ، وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ أُمَّ كُلْثُومٍ، وَوُلِدَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ. الرَّابِعَةُ: فِيهَا غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ وَذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ فِي الْخَامِسَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فِي الرَّابِعَةِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْأَحْزَابُ أَيْضًا، وَكَانَ حِصَارُ الْأَحْزَابِ الْمَدِينَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ هَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهَا قُصِرَتِ الصَّلَاةُ وَنَزَلَ التَّيَمُّمُ، وَتَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ. الْخَامِسَةُ: فِيهَا غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ وَبِهَا صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَهِيَ أَوَّلُ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ، ثُمَّ غَزْوَةُ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَغَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ. السَّادِسَةُ: غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَغَزْوَةُ بَنِيَ الْمُصْطَلِقِ، وَكُسِفَتِ الشَّمْسُ، وَنَزَلَ الظِّهَارُ. السَّابِعَةُ: فِيهَا غَزْوَةُ خَيْبَرَ، وَتَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ وَمَيْمُونَةَ وَصْفِيَّةَ، وَجَاءَتْهُ مَارِيَةُ وَبَغْلَتُهُ دُلْدُلُ، وَقَدِمَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَأَسْلَمَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ. الثَّامِنَةُ: فِيهَا غَزْوَةُ مُؤْتَةَ، وَذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، وَوُلِدَ إِبْرَاهِيمُ، وَتُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ، وَغَزْوَةُ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ، وَفِيهَا غَلَاءُ السِّعْرِ، فَقَالُوا: سَعِّرَ لَنَا. التَّاسِعَةُ: فِيهَا غَزَا تَبُوكَ، وَحَجَّ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالنَّاسِ، وَتُوَفِّيَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ وَالنَّجَاشِيُّ، وَتَتَابَعَتِ الْوُفُودُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا.

الْعَاشِرَةُ: فِيهَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ، وَوَفَاةُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْلَامُ جَرِيرٍ، وَنَزَلَ (الْيَوْمَ أَكْمَلَتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) . وَغَزَوَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ غَزْوَةً، وَقِيلَ: سَبْعٌ وَعِشْرُونَ، وَسَرَايَاهُ سِتٌّ وَخَمْسُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي وُجُوبِ الْجِهَادِ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَلْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمْ فَرْضَ عَيْنٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: فَرْضُ كِفَايَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ) الْآيَةَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَهُوَ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ مُسْتَقِرِّينَ فِي بُلْدَانِهِمْ، فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ مِنْهُ، أَثِمُوا، وَهَلْ يَعُمُّهُمُ الْإِثْمُ، أَمْ يَخْتَصُّ بِالَّذِينِ يَدْنُوَا إِلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَأْثَمُ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ الْأَعْذَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ قَامَ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ، سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. وَتَحْصُلُ الْكِفَايَةُ بِشَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْحِنَ الْإِمَامُ الثُّغُورَ بِجَمَاعَةٍ يُكَافِئُونَ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَاطَ بِإِحْكَامِ الْحُصُونِ وَحَفْرِ الْخَنَادِقِ وَنَحْوِهِمَا، وَيُرَتِّبُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ أَمِيرًا كَافِيًا يُقَلِّدُهُ الْجِهَادَ وَأُمُورَ الْمُسْلِمِينَ. الثَّانِي: أَنْ يَدْخُلَ الْإِمَامُ دَارَ الْكُفْرِ غَازِيًّا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِجَيْشٍ يُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَأَقَلُّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَإِنْ زَادَ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِ مَنْ يَلِي دَارَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْأَبْعَدِينَ أَكْثَرَ، بَدَأَ بِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ إِخْلَاءُ سَنَةٍ عَنْ جِهَادٍ

إِلَّا لِضَرُورَةٍ، بِأَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَفِي الْعَدُوِّ كَثْرَةٌ، وَيَخَافُ مِنَ ابْتِدَائِهِمُ الِاسْتِئْصَالَ، أَوْ لِعُذْرٍ بِأَنْ يَعِزَّ الزَّادُ وَعَلْفُ الدَّوَابِّ فِي الطَّرِيقِ، فَيُؤَخِّرُ إِلَى زَوَالِ ذَلِكَ، أَوْ يَنْتَظِرُ لِحَاقَ مَدَدٍ، أَوْ يَتَوَقَّعُ إِسْلَامَ قَوْمٍ، فَيَسْتَمِيلُهُمْ بِتَرْكِ الْقِتَالِ، هَذَا مَا نَصَرَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ الْإِمَامُ: الْمُخْتَارُ عِنْدِي فِي هَذَا مَسْلَكُ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْجِهَادُ دَعْوَةٌ قَهْرِيَّةٌ، فَيَجِبُ إِقَامَتُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَرَّةٍ فِي السَنَةِ، وَلَا يُعَطَّلُ إِذَا أَمْكَنَتِ الزِّيَادَةُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ حَمَلُوهُ عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْعَدَدَ لَا تَتَأَتَّى لِتَجْهِيزِ الْجُنُودِ فِي السَنَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، ثُمَّ إِنْ تَمَكَّنَ الْإِمَامُ مِنْ بَثِّ الْأَجْنَادِ لِلْجِهَادِ فِي جَمِيعِ الْأَطْرَافِ، فَعَلَ، وَإِلَّا فَيَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْعَى النِّصْفَةَ بِالْمُنَاوَبَةِ بَيْنَ الْأَجْنَادِ فِي الْإِغْزَاءِ، وَيَسْقُطُ الْوُجُوبُ فِي هَذَا الضَّرْبِ بِأَعْذَارٍ. مِنْهَا: الصِّغَرُ وَالْجُنُونُ وَالْأُنُوثَةُ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُرَاهِقِينَ وَالنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ، وَأَنْ يَسْتَصْحِبَهُمْ لِسَقْيِ الْمَاءِ وَمُدَاوَاةِ الْمَرْضَى وَمُعَالَجَةِ الْجَرْحَى، وَلَا يَأْذَنُ لِلْمَجَانِينِ بِحَالٍ، وَلَا جِهَادَ عَلَى الْخُنْثَى. وَمِنْهَا: الْمَرَضُ، فَلَا جِهَادَ عَلَى مَنْ بِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِتَالِ وَالرُّكُوبِ عَلَى دَابَّةٍ، وَلَا عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْقِتَالُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالصُّدَاعِ وَوَجَعِ الضِّرْسِ وَالْحُمَّى الْخَفِيفَةِ وَنَحْوِهَا. وَمِنْهَا: الْعَرَجُ، فَلَا جِهَادَ عَلَى مَنْ بِهِ عَرَجٌ بَيِّنٌ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوبِ وَوَجَدَ دَوَابَّ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْجِهَادُ رَاكِبًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَسَوَاءٌ الْعَرَجُ فِي رِجْلٍ أَوْ رِجْلَيْهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِعَرَجٍ يَسِيرٍ لَا يَمْنَعُ الْمَشْيَ، وَلَا جِهَادَ عَلَى أَشَلِّ الْيَدِ، وَلَا مَنْ فَقَدَ مُعْظَمَ أَصَابِعِهِ بِخِلَافِ فَاقِدِ الْأَقَلِّ. وَمِنْهَا: الْعَمَى، فَلَا جِهَادَ عَلَى أَعْمَى، وَيَجِبُ عَلَى الْأَعْوَرِ وَالْأَعْشَى

وَعَلَى ضَعِيفِ الْبَصَرِ إِنْ كَانَ يُدْرِكُ الشَّخْصَ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّقِيَ السِّلَاحَ. وَمِنْهَا: الْفَقْرُ، فَلَا جِهَادَ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ سِلَاحٍ وَأَسْبَابِ الْقِتَالِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَجِدَ نَفَقَةَ طَرِيقِهِ ذِهَابًا وَرُجُوعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ وَلَا عَشِيرَةٌ، فَفِي اشْتِرَاطِ نَفَقَةِ الرُّجُوعِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي الْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ الْقِتَالُ عَلَى بَابِ الْبَلَدِ، أَوْ حَوَالَيْهِ، سَقَطَ اشْتِرَاطُ نَفَقَةِ الطَّرِيقِ، وَيُشْتَرَطُ وِجْدَانُ رَاحِلَةٍ إِنْ كَانَ سَفَرُهُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ جَمِيعِ ذَلِكَ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ مَنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَجِّ، وَكُلُّ عُذْرٍ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَجِّ، يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِهَادِ إِلَّا أَمْنَ الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ شُرِطَ هُنَاكَ وَلَا يُشْتَرَطُ هُنَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْغَزْوِ عَلَى رُكُوبِ الْمَخَاوِفِ، هَذَا إِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنْ طَلَائِعِ الْكُفَّارِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مِنْ مُتَلَصِّصِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ بَذَلَ لِلْفَاقِدِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، إِلَّا أَنْ يَبْذُلَهُ الْإِمَامُ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْبَلَ وَيُجَاهِدَ؛ لِأَنَّ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ حَقَّهُ، وَلَا يَلْزَمُ الذِّمِّيَّ الْجِهَادُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجِهَادَ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ ذَكَرٍ حُرٍّ مُسْتَطِيعٍ، وَلَا جِهَادَ عَلَى رَقِيقٍ وَإِنْ أَمْرَهُ سَيِّدُهُ؛ إِذْ لَيْسَ الْقِتَالُ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ الْمُسْتَحَقِّ لِلسَّيِّدِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْ سَيِّدِهِ عِنْدَ خَوْفِهِ عَلَى رُوحِهِ إِذَا لَمْ نُوجِبُ الدَّفْعَ عَنِ الْغَيْرِ، بَلِ السَّيِّدُ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِلسَّيِّدِ اسْتِصْحَابُهُ فِي سِفْرِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ لِيَخْدِمَهُ وَيَسُوسَ دَوَابَّهُ، وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَا جِهَادَ عَلَيْهِمْ. فَرْعٌ مِمَّا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِهَادِ الدَّيْنُ، فَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنُ حَالٍ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَفَرِ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ السَّفَرَ لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَالْحَبْسُ إِنِ امْتَنَعَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ عَلَى الصَّحِيحِ؛ إِذْ لَا مُطَالَبَةَ فِي الْحَالِ، وَلَوِ اسْتَنَابَ الْمُوسِرُ مَنْ يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ، فَلَهُ الْخُرُوجُ، وَإِنْ أَمْرَهُ بِالْقَضَاءِ مِنْ مَالِ

غَائِبٍ، فَلَا، وَمَتَى أَذِنَ صَاحِبُ الدَّيْنِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ، وَيَلْتَحِقُ بِأَصْحَابِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَفَرٍ لَا يَغْلِبُ فِيهِ الْخَطَرُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي التَّفْلِيسِ، وَهَلْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مَنْعُهُ مِنْ سَفَرِ الْجِهَادِ؟ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ كَفِيلًا بِالدَّيْنِ. وَالثَّالِثُ: لَهُ الْمَنْعُ إِنْ لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً. وَالرَّابِعُ: لَهُ الْمَنْعُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ، وَالْخَامِسُ: لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ يَحُلُّ قَبْلَ رُجُوعِهِ، وَرُكُوبِ الْبَحْرِ كَسَفَرِ الْجِهَادِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ حَيٌّ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ بِإِذْنِهِمَا إِنْ كَانَا حَيَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ كَافِرٍ، وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ كَالْوَالِدَيْنِ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ إِذْنُ الْجَدِّ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ، وَلَا الْجَدَّةِ مَعَ وُجُودِ الْأُمِّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَلَيْسَ لِلْوَالِدِ مَنْعُ الْوَلَدِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ، وَأَمَّا سَفَرُهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ لِطَلَبِ مَا هُوَ مُتَعَيِّنٌ، فَلَهُ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، وَلَيْسَ لَهُمَا الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَ لِطَلَبِ مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، بِأَنْ خَرَجَ لِطَلَبِ دَرَجَةِ الْفَتْوَى وَفِي النَّاحِيَةِ مُسْتَقِلٌّ بِالْفَتْوَى، فَلَيْسَ لَهُمَا الْمَنْعُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْتَقِلٌّ، وَلَكِنْ خَرَجَ جَمَاعَةٌ، فَلَيْسَ لَهُمَا عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْحَالِ مَنْ يَقُومُ بِالْمَقْصُودِ، وَالْخَارِجُونَ، فَلَا يَظْفَرُونَ بِالْمَقْصُودِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ أَحَدٌ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِذْنٍ، وَلَا مَنْعَ لَهُمَا قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْإِثْمَ عَنْ نَفْسِهِ، كَالْفَرْضِ الْمُتَعَيِّنِ عَلَيْهِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الصُّورَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّعَلُّمَ فِي بَلَدِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يُتَوَقَّعَ فِي السَّفَرِ زِيَادَةَ فَرَاغٍ أَوْ إِرْشَادَ أُسْتَاذٍ أَوْ غَيْرَهُمَا، كَمَا لَمْ يُقَيَّدِ الْحُكْمُ فِي سَفَرِ التِّجَارَةِ بِمَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهَا بِبَلَدِهِ، بَلِ اكْتُفِيَ بِتَوَقُّعِ زِيَادَةِ رِبْحٍ، أَوْ رَوَاجٍ، وَأَمَّا سَفَرُ

التِّجَارَةِ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ قَصِيرًا، فَلَا مَنْعَ مِنْهُ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا، نُظِرَ إِنْ كَانَ فِيهِ خَوْفٌ ظَاهِرٌ، كَرُكُوبِ بِحْرٍ أَوْ بَادِيَةٍ مُخْطِرَةٍ، وَجَبَ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَهُمَا الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْنُ غَالِبًا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا مَنْعَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْذَانُ، وَالْوَلَدُ الْكَافِرُ فِي هَذِهِ الْأَسْفَارِ كَالْمُسْلِمِ، بِخِلَافِ سَفَرِ الْجِهَادِ، فَإِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ، وَالرَّقِيقُ كَالْحُرِّ عَلَى الصَّحِيحِ لِشُمُولِ مَعْنَى الْبِرِّ وَالشَّفَقَةِ. فَرْعٌ مَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنِ الْإِذْنِ، أَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ كَافِرَيْنِ، فَخَرَجَ ثُمَّ أَسْلَمَا، وَلَمْ يَأْذَنَا، وَعَلِمَ الْمُجَاهِدُ الْحَالَ، فَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ فِي الْقِتَالِ، وَلَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ لَزِمَهُ الِانْصِرَافُ إِلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ يَخَافَ انْكِسَارَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَلْزَمُهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الِانْصِرَافُ لِلْخَوْفِ، وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُقِيمَ فِي قَرْيَةٍ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى يَرْجِعَ الْجَيْشُ، لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ، وَأَوْهَمَ فِي «الْوَسِيطِ» خِلَافًا فِي وُجُوبِ الْإِقَامَةِ هُنَاكَ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِانْصِرَافُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: تَجِبُ الْمُصَابَرَةُ، وَيَحْرُمُ الِانْصِرَافُ، وَالثَّانِي: يَجِبُ الِانْصِرَافُ، وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الِانْصِرَافِ وَالْمُصَابَرَةِ، وَالرَّابِعُ: يَجِبُ الِانْصِرَافُ إِنْ رَجَعَ صَاحِبُ الدَّيْنِ دُونَ الْأَبَوَيْنِ إِنْ رَجَعَ، لِعَظْمِ شَأْنِ الدَّيْنِ وَمَنْ شُرِطَ عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ، فَخَرَجَ بِلَا إِذْنٍ، لَزِمَهُ الِانْصِرَافُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ سَفَرُ مَعْصِيَةٍ إِلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، فَإِنْ شَرَعَ فِي الْقِتَالِ، فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ أَوْلَى بِوُجُوبِ الِانْصِرَافِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْخُرُوجِ مَعْصِيَةٌ، وَلَوْ خَرَجَ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، لَزِمَهُ الِانْصِرَافُ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ، فَإِنْ حَضَرَ، فَلَا، قَالَ الرُّويَانِيُّ: يُسْتَحَبُّ الرُّجُوعُ.

فَرْعٌ لَوْ مَرِضَ مَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ أَوْ عَرَجَ، أَوْ فَنِيَ زَادُهُ، أَوْ هَلَكَتْ دَابَّتُهُ، فَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ كَانَ الْعُذْرُ حَاصِلًا وَقْتَ الْخُرُوجِ، فَإِنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الثَّبَاتُ أَمْ لَهُ الرُّجُوعُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهَانِ إِذَا لَمْ يُورِثِ انْصِرَافُهُ فَشَلًا فِي الْجُنْدِ، فَإِنْ أَوْرَثَهُ، حُرِّمَ الرُّجُوعُ قَطْعًا، وَفِي «التَّهْذِيبِ» فِي صُورَةِ مَوْتِ الدَّابَّةِ يَلْزَمُهُ الْقِتَالُ رَاجِلًا إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: إِذَا انْقَطَعَ عَنْهُ سِلَاحُهُ، أَوِ انْكَسَرَ، لَزِمَهُ الْقِتَالُ بِالْحِجَارَةِ إِنْ أَمْكَنَهُ. فَرْعٌ حَيْثُ جَوَّزْنَا الِانْصِرَافَ لِرُجُوعِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَنِ الْإِذْنِ، أَوْ لِحُدُوثِ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، فَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ حَبْسُهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ، وَيُخْشَى مِنَ انْصِرَافِهِمْ خَلَّلٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَوِ انْصَرَفَ لِذَهَابِ نَفَقَةٍ، أَوْ هَلَاكِ دَابَّةٍ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى النَّفَقَةِ وَالدَّابَّةِ فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ، لَزِمَهُ الرُّجُوعُ لِلْجِهَادِ، وَإِنْ كَانَ فَارَقَ بِلَادَ الْكُفْرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ، وَعَنْ نَصِّهِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ، وَبِهِ عُذْرُ مَرَضٍ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ، وَصَارَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنِ الْغَزْوِ، وَكَذَا لَوْ حَدَثَ الْعُذْرُ، وَزَالَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ. فَرْعٌ مَنْ شَرَعَ فِي قِتَالٍ وَلَا عُذْرَ لَهُ، لَزِمَهُ الْمُصَابَرَةُ، وَعَبَّرَ الْأَصْحَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْجِهَادَ يَصِيرُ مُتَعَيَّنًا عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ بِالشُّرُوعِ، وَلَوِ اشْتَغَلَ شَخْصٌ بِالتَّعَلُّمِ، وَأَنِسَ الرُّشْدَ فِيهِ مِنْ نَفْسِهِ، هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَطْعُهُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، فَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ بِخِلَافِ الْجِهَادِ، فَإِنَّ رُجُوعَهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّخْذِيلِ، وَهَلْ يَجِبُ إِتْمَامُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إِذَا

شَرَعَ فِيهَا؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْقَفَّالُ: لَا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَعَمْ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْعِلْمَ وَسَائِرَ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ تَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْجِهَادُ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ، فَإِذَا وَطِئَ الْكُفَّارُ بَلْدَةً لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَطَلُّوا عَلَيْهَا، وَنَزَلُوا بَابَهَا قَاصِدِينَ، وَلَمْ يَدْخُلُوا، صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَبْقَى فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ الدَّفْعُ بِمَا أَمْكَنَهُمْ، وَلِلدَّفْعِ مَرْتَبَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَحْتَمِلَ الْحَالُ اجْتِمَاعَهُمْ وَتَأَهُّبَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ لِلْحَرْبِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ التَّأَهُّبُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُمُ الْمُقَاوَمَة إِلَّا بِمُوَافَقَةِ الْعَبِيدِ، وَجَبَ عَلَى الْعَبِيدِ الْمُوَافَقَةُ، فَيَنْحَلُّ الْحَجْرُ عَنِ الْعَبِيدِ حَتَّى لَا يُرَاجِعُوا السَّادَاتِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُمُ الْمُقَاوَمَةُ مِنْ غَيْرِ مُوَافِقَةِ الْعَبِيدِ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ، لِتَقْوَى الْقُلُوبُ، وَتَعْظُمُ الشَّوْكَةُ، وَتَشْتَدُّ النِّكَايَةُ، وَالثَّانِي: لَا يَنْحَلُّ الْحَجْرُ عَنْهُمْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ. وَالنِّسْوَةُ إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِنَّ قُوَّةُ دِفَاعٍ لَا يَحْضُرْنَ، وَإِنْ كَانَ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَحُوجَ الْمُزَوَّجَةُ إِلَى إِذْنِ الزَّوْجِ، كَمَا لَا يُحْوَجُ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ، وَلَا يَجِبُ فِي هَذَا النَّوْعِ اسْتِئْذَانُ الْوَالِدَيْنِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَغَشَّاهُمِ الْكُفَّارُ، وَلَا يَتَمَكَّنُوا مِنَ اجْتِمَاعٍ وَتَأَهُّبٍ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ كَافِرٌ، أَوْ كُفَّارٌ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ إِنْ أُخِذَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّكَ، وَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا أَمْكَنَ، يَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَالْمَرْأَةُ وَالْأَعْمَى، وَالْأَعْرَجُ، وَالْمَرِيضُ، وَلَا تَكْلِيفَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ وَيُؤْسَرَ، وَلَوِ امْتَنَعَ لِقَتْلٍ، جَازَ أَنْ

يَسْتَسْلِمَ، فَإِنَّ الْمُكَاوَحَةَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ اسْتِعْجَالُ الْقَتْلِ، وَالْأَسْرُ يَحْتَمِلُ الْخَلَاصُ، وَلَوْ عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا لَوِ اسْتَسْلَمَتِ امْتَدَّتِ الْأَيْدِي إِلَيْهَا، لَزِمَهَا الدَّفْعُ وَإِنْ كَانَتْ تُقْتَلُ؛ لِأَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى لَا تَحِلُّ لَهُ الْمُطَاوَعَةُ لِدَفْعِ الْقَتْلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَقْصِدُ بِالْفَاحِشَةِ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يُظُنُّ ذَلِكَ بَعْدَ السَّبْيِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ لَهَا الِاسْتِسْلَامُ فِي الْحَالِ، ثُمَّ تَدْفَعُ حِينَئِذٍ، وَلَوْ كَانَ فِي أَهْلِ الْبُقْعَةِ كَثْرَةٌ، خَرَجَ بَعْضُهُمْ وَفِيهِمْ كِفَايَةٌ، فَفِي تَحَتُّمِ الْمُسَاعَدَةِ عَلَى الْآخَرِينَ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ عَظِيمَةٌ، وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَهُوَ كَبَعْضِهِمْ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْبَلْدَةِ كِفَايَةٌ، وَجَبَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَطِيرُوا إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كِفَايَةٌ، فَفِي وُجُوبِ الْمُسَاعَدَةِ عَلَيْهِمُ الْوَجْهَانِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْبَلْدَةِ وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ كِفَايَةٌ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَطِيرُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنْ طَارَ إِلَيْهِمْ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ، سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْبَغَوِيِّ: إِذَا دَخَلَ الْكُفَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَالْجِهَادُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنْ قَرُبَ، وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ مَنْ بَعُدَ، وَعَلَى هَذَا فَحُكْمُ أَهْلِ الْأَعْذَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ وَفِيهِ وَجْهٌ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِهِمُ الْمُسَاعَدَةُ وَالْمُسَارَعَةُ، وَلْيَكُنْ هَذَا فِي الْأَقْرَبِينَ مِمَّنْ هُوَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِ الْبَلْدَةِ وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ كِفَايَةٌ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الَّذِينَ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ الْمُسَاعَدَةُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِيجَابٍ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَالثَّانِي: يَجِبُ عَلَى الْأَقْرَبِينَ فَالْأَقْرَبِينَ بِلَا ضَبْطٍ حَتَّى يَصِلَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُمْ قَدْ دَفَعُوا وَأَخْرَجُوا، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْبَلْدَةِ، ثُمَّ الْأَقْرَبِينَ

فَالْأَقْرَبِينَ إِذَا قَدَرُوا عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يَلْبِثُوا إِلَى لُحُوقِ الْآخَرِينَ، وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَرْكُوبِ فِيمَنْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَفِيمَنْ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَمَا فَوْقَهَا وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الِاشْتِرَاطُ، كَالْحَجِّ، وَالثَّانِي: لَا، لِشِدَّةِ الْخَطْبِ، وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَدُونِهَا وُجُودُ الزَّادِ عَلَى الْأَصَحِّ، إِذْ لَا اسْتِقْلَالَ بِغَيْرِ زَادٍ، وَلَا مَعْنَى لِإِلْزَامِهِمُ الْخُرُوجَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ سَيُهْلَكُونَ، وَلَوْ نَزَلَ الْكُفَّارُ عَلَى خَرَابٍ، أَوْ جَبَلٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَعِيدٌ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْبُلْدَانِ، فَفِي نُزُولِهِ مَنْزِلَةَ دُخُولِ الْبَلْدَةِ وَجْهَانِ أَطْلَقَهُمَا الْغَزَالِيُّ، وَالَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَارَ هُوَ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ الدَّارَ تَشْرُفُ بِسَكَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْكَنًا لِأَحَدٍ، فَتَكْلِيفُ الْمُسْلِمِينَ التَّهَاوِي عَلَى الْمَتَالِفِ بَعِيدٌ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكَيْفَ يَجُوزُ تَمْكِينُ الْكُفَّارِ مِنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مَعَ إِمْكَانِ الدَّفْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ أَسَرُوا مُسْلِمًا، أَوْ مُسْلِمَيْنِ، فَهَلْ هُوَ كَدُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ إِزْعَاجَ الْجُنُودِ لِوَاحِدٍ بَعِيدٌ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الدَّارِ، فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ النَّظَرِ، فَإِنْ كَانُوا عَلَى قُرْبِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَوَقَّعْنَا اسْتِخْلَاصَ مَنْ أَسَرُوهُ لَوْ طِرْنَا إِلَيْهِمْ، فَعَلْنَا، وَإِنْ تَوَغَّلُوا فِي بِلَادِ الْكُفْرِ وَلَا يُمْكِنُ التَّسَارُعُ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ لَا يَتَأَتَّى خَرْقُهَا بِالْجُنُودِ، اضْطُرِرْنَا إِلَى الِانْتِظَارِ، كَمَا لَوْ دَخَلَ مِنْهُمْ مَلِكٌ عَظِيمُ الشَّوْكَةِ طَرْفَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، لَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ آحَادُ الطَّوَائِفِ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ هِيَ كَثِيرَةٌ مُفَرَّقَةٌ فِي أَبْوَابِهَا، كَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ

وَدَفْنَهُ، وَكَذَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ وَالْأَذَانُ وَالْعِيدُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُنَّ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَكَذَا الْتِقَاطُ الْمَنْبُوذِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَفُرُوضُ الْكِفَايَةِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ لَا يَنْتَظِمُ الْأَمْرُ إِلَّا بِحُصُولِهَا، فَيَطْلُبُ الشَّارِعُ تَحْصِيلَهَا، وَلَا يَطْلُبُ تَكْلِيفَ وَاحِدٍ فَوَاحِدٍ بِهَا، بِخِلَافِ فَرَضِ الْعَيْنِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُكَلَّفٌ بِتَحْصِيلِهِ، وَفُرُوضُ الْكِفَايَةِ أَقْسَامٌ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الدِّينِ، وَهُوَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ كَمَا تَجِبُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ الْقَهْرِيَّةِ بِالسَّيْفِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقِيمُ الْبَرَاهِينَ، وَيُظْهِرُ الْحُجَجَ، وَيَدْفَعُ الشُّبَهَاتِ، وَيَحِلُّ الْمُشْكِلَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفُرُوعِ، كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْأَمْرُ بِوَاجِبَاتِ الشَّرْعِ، وَالنَّهْيُ عَنْ مَحْرَمَاتِهِ، فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ نُصِّبَ لِذَلِكَ رَجُلٌ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، وَهُوَ الْمُحْتَسِبُ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَقَضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ تَرْتِيبَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَتَقْسِيمَهُ، فَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: يُؤْمَرُ بِهِ الْجَمِيعُ دُونَ الْأَفْرَادِ، كَإِقَامَةِ الْجُمْعَةِ حَيْثُ تَجْتَمِعُ شُرُوطُهَا، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا يَرَوْنَ انْعِقَادَ الْجُمْعَةِ بِهِمْ، وَالْمُحْتَسِبُ لَا يَرَاهُ، فَلَا يَأْمُرُهُمْ بِمَا لَا يُجَوِّزُهُ، وَلَا يَنْهَاهُمْ عَمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْأَمْرِ، وَإِنْ قُلْنَا: صَلَاةُ الْعِيدِ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ، لَا سِيَّمَا مَا كَانَ شِعَارًا ظَاهِرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النَّوْعُ الثَّانِي: يُؤْمَرُ بِهِ الْآحَادُ، مِثْلُ إِنْ أَخَّرَ بَعْضُ النَّاسِ

الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، فَإِنْ قَالَ: نَسِيتُهَا، حَثَّهُ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَنْ أَخَّرَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي فَضْلِ التَّأْخِيرِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ، كَالْبَلَدِ إِذَا تَعَطَّلَ شَرْبُهُ، أَوِ انْهَدَمَ سُورُهُ، أَوْ طَرَقَهُ أَبْنَاءُ السَّبِيلِ الْمُحْتَاجُونَ وَتَرَكُوا مَعُونَتَهُمْ، فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، لَمْ يُؤْمَرِ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، أَمَرَ أَهْلَ الْمُكْنَةِ بِرِعَايَتِهَا. وَإِلَى خَاصٍّ، كَمَطْلِ الْمَدِينِ الْمُوسِرَ، فَالْمُحْتَسِبُ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ إِذَا اسْتَعْدَاهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ الضَّرْبُ وَالْحَبْسُ. الثَّالِثُ: الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ، كَأَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ بِإِنْكَاحِ الْأَكْفَاءِ، وَإِلْزَامِ النِّسَاءِ أَحْكَامَ الْعِدَدِ، وَأَخْذِ السَّادَةِ بِحُقُوقِ الْأَرِقَّاءِ، وَأَصْحَابِ الْبَهَائِمِ بِتَعَهُّدِهَا، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تَطِيقُ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْكَرَاتِ أَنَّ مَنْ يُغَيِّرُ هَيْئَةَ عِبَادَةٍ، كَجَهْرِهِ فِي صَلَاةٍ سِرِّيَّةٍ وَعَكْسِهِ، وَزِيَادَةٍ فِي الْأَذَانِ، يَمْنَعُهُ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ، أَوِ الْوَعْظِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يُؤْمَنُ اغْتِرَارُ النَّاسِ بِهِ فِي تَأْوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفٍ، أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمُحْتَسِبُ، وَشَهَرَ أَمْرَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ، وَإِذَا رَأَى رَجُلًا وَاقِفًا مَعَ امْرَأَةٍ فِي شَارِعٍ يَطْرُقُهُ النَّاسُ، لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقٍ خَالٍ، فَهُوَ مَوْضِعُ رِيبَةٍ، فَيُنْكِرُ وَيَقُولُ: وَإِنْ كَانَتْ مُحْرَمًا لَكَ، فَصُنْهَا عَنْ مَوَاقِفِ الرَّيْبِ، وَلَا يُنْكِرُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، كَتَعَدِّيهِ فِي جِدَارِ جَارِهِ إِلَّا بِاسْتِعْدَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ يُطِيلُ الصَّلَاةَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ الْمَطْرُوقَةِ، وَعَلَى الْقُضَاةِ إِذَا حَجَبُوا الْخُصُومَ، وَقَصَرُوا فِي النَّظَرِ وَالْخُصُومَاتِ. وَالسُّوقِيُّ الَّذِي يُخْتَصُّ بِمُعَامَلَةِ النِّسَاءِ تُخْتَبَرُ أَمَانَتُهُ، فَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ، مُنِعَ مِنْ مُعَامَلَتِهِنَّ، وَهَذَا بَابٌ لَا تَتَنَاهَى صُوَرُهُ. قُلْتُ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ،

وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ لِكَوْنِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ، أَوْ يَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ كَلَامُهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، بَلْ وَاجِبُهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ) قَالُوا: وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: أَنْ يَرَى مَكْشُوفَ بَعْضِ عَوْرَتِهِ فِي حَمَّامٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي كَوْنُهُ مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ، مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ، بَلْ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا، لَمْ يَجُزِ الْإِخْلَالُ بِالْآخَرِ، وَلَا يَخْتَصُّ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِأَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ وَالْمَرَاتِبِ، بَلْ ذَلِكَ ثَابَتٌ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ غَيْرَ الْوُلَاةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَانُوا يَأْمُرُونَ الْوُلَاةَ وَيَنْهَوْنَهُمْ مَعَ تَقْرِيرِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ وَتَرْكِ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى التَّشَاغُلِ بِذَلِكَ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ» قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى مَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزِّنَى وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا، فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَاءُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِقِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ، لَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ الِابْتِدَاءُ بِإِنْكَارِهِ، بَلْ ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِمْ مَنْ أَعْلَمَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أُجْمِعَ عَلَى إِنْكَارِهِ، أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا إِنْكَارَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَلَا نَعْلَمُهُ، وَلَا إِثْمَ عَلَى الْمُخْطِئِ، لَكِنْ إِنْ نَدَبَهُ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ، فَهُوَ حَسَنٌ مَحْبُوبٌ، وَيَكُونُ بِرِفْقٍ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِخْلَالٌ بِسُنَّةٍ

ثَابِتَةٍ، أَوْ وُقُوعٌ فِي خِلَافٍ آخَرَ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ خِلَافًا فِي أَنَّ مَنْ قَلَّدَهُ السُّلْطَانُ الْحِسْبَةَ، هَلْ لَهُ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِيمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ إِذَا كَانَ الْمُحْتَسِبُ مُجْتَهِدًا أَمْ لَيْسَ لَهُ تَغْيِيرُ مَا كَانَ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَغْيِيرُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْخِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا خَالَفَ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا، أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا. وَأَمَّا صِفَةُ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَمَرَاتِبُهُ، فَضَابِطُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ» فَعَلَيْهِ أَنْ يُغَيِّرَ بِكُلِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ، وَلَا يَكْفِي الْوَعْظُ لِمَنْ أَمْكَنَهُ إِزَالَتَهُ بِالْيَدِ، وَلَا تَكْفِي كَرَاهَةُ الْقَلْبِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى النَّهْيِ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ، صِفَةُ كَسِرِّ الْمَلَاهِي وَجُمْلَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُنْكَرَاتِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفُقَ فِي التَّغْيِيرِ بِالْجَاهِلِ وَبِالظَّالِمِ الَّذِي يَخَافُ شَرَّهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى قَبُولِ قَوْلِهِ، وَإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِقْلَالُ، اسْتَعَانَ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى إِظْهَارِ سِلَاحٍ وَحَرْبٍ، فَإِنْ عَجَزَ، رَفَعَ ذَلِكَ إِلَى صَاحِبِ الشَّوْكَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي كِتَابِ الصِّيَالِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَلَيْسَ لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي الْبَحْثُ وَالتَّنْقِيبُ وَالتَّجَسُّسُ وَاقْتِحَامُ الدُّورِ بِالظُّنُونِ، بَلْ إِنْ رَأَى شَيْئًا غَيَّرَهُ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُحْتَسِبِ أَوْ غَيْرِهِ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِالْمُنْكَرِ بِأَمَارَةٍ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ تَدَارُكُهَا، بِأَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ التَّجَسُّسُ وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالْإِنْكَارِ، وَالثَّانِي: مَا قَصَرَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْكَشْفُ وَالتَّجَسُّسُ.

فصل

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَّا بِأَنْ يَخَافَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ يَخَافَ عَلَى غَيْرِهِ مَفْسَدَةً أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمُنْكَرِ الْوَاقِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إِحْيَاءُ الْكَعْبَةِ بِالْحَجِّ فِي كُلِّ سَنَةٍ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ، بَلِ الِاعْتِكَافُ وَالصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ التَّعْظِيمَ وَإِحْيَاءَ الْبُقْعَةِ يَحْصُلُ بِكُلِّ ذَلِكَ. قُلْتُ: لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْحَجِّ بِمَا ذُكِرَ فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى، وَإِحْيَاءُ تِلْكَ الْبِقَاعِ بِالطَّاعَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْمَعَايِشِ وَانْتِظَامِ أُمُورِ النَّاسِ، كَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِزَالَةِ فَاقَتِهِمْ، كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَإِطْعَامِ الْجَائِعِينَ، وَإِغَاثَةِ الْمُسْتَغِيثِينَ فِي النَّائِبَاتِ، فَكُلُّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الثَّرْوَةِ وَالْقُدْرَةِ إِذَا لَمْ تَفِ الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ بِسَدِّ حَاجَاتِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يُصْرَفُ إِلَيْهَا، فَلَوِ انْسَدَّتِ الضَّرُورَةُ، فَهَلْ يَكْفِي ذَلِكَ أَمْ تَجِبُ الزِّيَادَةُ إِلَى تَمَامِ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا مَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ؟ حَكَى الْإِمَامُ فِيهِ وَجْهَيْنِ.

فصل

قُلْتُ: قَالَ الْإِمَامُ فِي كِتَابِهِ «الْغَيَاثِي» : يَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ الْمُوَاسَاةُ بِمَا زَادَ عَلَى كِفَايَةِ سَنَةٍ. وَأَمَّا الْحِرْفُ وَالصِّنَاعَاتُ وَمَا بِهِ قَوَامُ الْمَعَايِشِ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْحِرَاثَةِ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ حَتَّى الْحِجَامَةِ وَالْكُنَّسِ، فَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى حَثٍّ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبٍ فِيهَا، لَكِنْ لَوِ امْتَنَعَ الْخَلْقُ مِنْهَا، أَثِمُوا وَكَانُوا سَاعِينَ فِي إِهْلَاكِ أَنْفُسِهِمْ، فَهِيَ إِذَنْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. فَصْلٌ وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَبِصَلَاحِ الْمَعِيشَةِ، كَتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَإِعَانَةِ الْقُضَاةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى غُسْلًا وَتَكْفِينًا وَصَلَاةً وَدَفْنًا وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَصْلٌ مِنَ الْعُلُومِ مَا يَتَعَيَّنُ طَلَبُهُ وَتَعَلُّمُهُ، وَمِنْهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ. فَمِنَ الْمُتَعَيَّنِ: مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِإِقَامَةِ مَفْرُوضَاتِ الدِّينِ، كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ وَشُرُوطَهَا لَا يُمْكِنُهُ إِقَامَتَهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ تَعَلُّمُ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الدَّقَائِقِ وَالْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تَعُمُّ بِهَا بَلْوَى، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ زَكَوِيٌّ، لَزِمَهُ تَعَلُّمُ

ظَوَاهِرِ أَحْكَامِ الزَّكَاةِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَاعٍ يَكْفِيهِ الْأَمْرَ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّعَلُّمُ بِالسَّاعِي، إِذْ قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ السَّاعِي. وَمَنْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَيَتَّجِرُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ التِّجَارَاتِ، وَكَذَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ صَاحِبُ كُلِّ حِرْفَةٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُهُ، وَالْمُرَادُ الْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ الْغَالِبَةُ دُونَ الْفُرُوعِ النَّادِرَةِ وَالْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ. وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ، فَالْقِيَامُ بِعُلُومِ الشَّرْعِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: التَّفْسِيرُ وَالْحَدِيثُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَنْتَهِيَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ إِلَى حَيْثُ يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُنَاكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي الشَّرْعِ مُطْلَقًا يُفْتِي، وَأَنَّ الْمُتَبَحِّرَ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ يُفْتِي أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ فِي الْإِقْلِيمِ مُفْتٍ وَاحِدٌ، لِعُسْرِ مُرَاجَعَتِهِ، وَاعْتَبَرَ الْأَصْحَابُ فِيهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا يَزِيدَ مَا بَيْنَ كُلِّ مُفْتِيَيْنِ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَأَمَّا الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ، فَمِنْهَا مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَقِسْمَةِ الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا يُسْتَبْعَدُ عَدُّ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ الْحِرْفَ وَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهَا فِي مَعَايِشِهِمْ، كَالْفِلَاحَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَالطِّبُّ وَالْحِسَابُ أَوْلَى، وَأَمَّا أُصُولُ الْعَقَائِدِ، فَالِاعْتِقَادُ الْمُسْتَقِيمُ مَعَ التَّصْمِيمِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الْمُسَمَّى عِلْمَ الْكَلَامِ، فَلَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَلَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَشْتَغِلُونَ بِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ بَقِيَ النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي صَفْوَةِ الْإِسْلَامِ لَمَا أَوْجَبْنَا التَّشَاغُلَ بِهِ، وَرُبَّمَا نَهَيْنَا عَنْهُ، فَأَمَّا الْيَوْمَ وَقَدْ ثَارَتِ الْبِدَعُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِهَا

تَلْتَطِمُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِعْدَادِ مَا يُدْعَى بِهِ إِلَى الْمَسْلَكِ الْحَقِّ، وَتُزَالُ بِهِ الشُّبَهُ، فَصَارَ الِاشْتِغَالُ بِأَدِلَّةِ الْعُقُولِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، فَأَمَّا مَنِ اسْتَرَابَ فِي أَصْلٍ مِنْ أَصُولِ الِاعْتِقَادِ، فَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ فِي إِزَاحَتِهِ حَتَّى تَسْتَقِيمَ عَقِيدَتُهُ. قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ تَعَلُّمُ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَشِبْهُهُمَا إِلَّا بَعْدَ وُجُوبِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ صَبَرَ إِلَى دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِتْمَامِ تَعَلُّمِهَا مَعَ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّعَلُّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ؟ تَرَدَّدَ فِيهِ الْغَزَالِيُّ، وَالْأَصَحُّ: مَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، كَمَا يَلْزَمُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمْعَةِ قَبْلَ الْوَقْتِ لِمَنْ بَعُدَ مَنْزِلُهُ، وَإِذَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ، كَانَ تَعَلُّمُ كَيْفِيَّتِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَالْحَجِّ، فَتَعَلًّمُ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى التَّرَاخِي، وَأَمَّا عِلْمُ الْقَلْبِ، كَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَشِبْهِهَا، فَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَعْرِفَةُ حُدُودِهَا وَأَسْبَابِهَا وَطِبِّهَا وَعِلَاجِهَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَمْنَ رُزِقَ قَلْبًا سَلِيمًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الْمُحَرَّمَةِ كَفَاهُ ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَسَلَمْ وَتَمَكَّنَ مِنْ تَطْهِيرِ قَلْبِهِ بِغَيْرِ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمَذْكُورِ، وَجَبَ تَطْهِيرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ إِلَّا بِتَعَلُّمٍ، وَجَبَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وُجُوبُ تَعْلِيمِ الصِّغَارِ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَمِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالتَّصْرِيفِ، وَأَسْمَاءِ الرُّوَاةِ، وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْعِلْمِ مُسْتَحَبٌّ، كَالتَّبَحُّرِ فِي أُصُولِ الْأَدِلَّةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَكَتَعَلُّمِ الْعَامِّيِّ نَوَافِلَ الْعِبَادَاتِ لِغَرَضِ الْعَمَلِ، لَا لِمَا يَقُومُ بِهِ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ تَمْيِيزِ الْفَرْضِ مِنَ النَّفْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ، قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ فِي الْعِلْمِ عَلَى مَنْ جَمَعَ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَمِمَّنْ يَتَقَلَّدُ الْقَضَاءَ، لَا عَبْدًا وَلَا امْرَأَةً، وَأَنْ يَكُونَ بَلِيدًا، وَأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ بِأَنْ تَكُونَ لَهُ كِفَايَةٌ، وَيَدْخُلُ الْفَاسِقُ فِي الْفَرْضِ وَلَا

يَسْقُطُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ لِلْمُسْتَفْتِينَ، وَفِي دُخُولِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى دُونَ الْقَضَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَعْلِيمَ الطَّالِبِينَ، وَإِفْتَاءَ الْمُسْتَفْتِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ إِلَّا وَاحِدًا وَكَانَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ، وَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ إِلَّا بِكُلِّهِمْ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ غَيْرُ الْمُفْتِي، هَلْ يَأْثَمُ بِالرَّدِّ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ كَذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ الرِّفْقَ بِالْمُتَعَلِّمِ وَالْمُسْتَفْتِي، فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَوَرَاءُهَا أَشْيَاءٌ تُسَمَّى عُلُومًا، مِنْهَا: مُحَرَّمٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُبَاحٌ، فَالْمُحَرَّمُ، كَالْفَلْسَفَةِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالرَّمْلِ وَعُلُومِ الطَّبَائِعِيِّينَ، وَكَذَا السِّحْرُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَتَتَفَاوَتُ دَرَكَاتُ تَحْرِيمِهِ. وَالْمَكْرُوهُ: كَأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْغَزَلِ وَالْبَطَالَةِ. وَالْمُبَاحُ: كَأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُخْفٌ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا يُكَرَهُ، وَلَا يُنْشَطُ إِلَى الشَّرِّ أَوْ يُثَبَّطُ عَنِ الْخَيْرِ وَلَا يُحَثُّ عَلَيْهِ، أَوْ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا تَعَطَّلَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، أَثِمَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِهِ، وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَكَذَا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْضِعِ يَلِيقُ بِهِ الْبَحْثُ وَالْمُرَاقَبَةُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَيَخْتَلِفُ هَذَا بِكِبَرِ الْبَلَدِ وَصِغَرِهِ، وَقَدْ يَبْلُغُ التَّعَطُّلُ مَبْلَغًا يَنْتَهِي خَبَرُهُ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ السَّعْيُ فِي التَّدَارُكِ، وَفِي الصُّورَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ وَالْإِهْمَالُ، وَيَجِبُ الْبَحْثُ وَالْمُرَاقَبَةُ عَلَى مَا يَلِيقُ الْحَالَ. فَرْعٌ إِذَا قَامَ بِالْفَرْضِ جَمْعٌ لَوْ قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ يَسْقُطُ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ،

فصل

كَانُوا كُلُّهُمْ مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، وَلَا مَزِيَّةَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَإِذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ جَمْعٌ، ثُمَّ آخَرُونَ، كَانَتْ صَلَاةُ الْآخَرِينَ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْأَوَّلِينَ. قُلْتُ: لِلْقَائِمِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْقَائِمِ بِفَرْضِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ «الْغَيَاثِي» : الَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمُتَعَيِّنَ، اخْتَصَّ هُوَ بِالْإِثْمِ، وَلَوْ فَعَلَهُ، اخْتَصَّ بِسُقُوطِ الْفَرْضِ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ لَوْ تَرَكَهُ، أَثِمَ الْجَمِيعُ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ لَوْ فَعَلَهُ، سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَفَاعِلُهُ سَاعٍ فِي صِيَانَةِ الْأُمَّةِ عَنِ الْمَأْثَمِ، وَلَا يُشَكُّ فِي رُجْحَانِ مَنْ حَلَّ مَحَلَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ فِي الْقِيَامِ بِمُهِمٍّ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي السَّلَامِ فِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: ابْتِدَاءُ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَى وَاحِدٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ، فَالرَّدُّ فِي حَقِّهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ رَدَّ أَحَدُهُمْ، سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ رَدَّ الْجَمِيعُ، كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، سَوَاءٌ رَدُّوا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، فَإِنِ امْتَنَعُوا كُلُّهُمْ، أَثِمُوا، وَلَوْ رَدَّ غَيْرُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ، لَمْ يَسْقِطِ الْفَرْضُ عَمَّنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ أَيْضًا سُنَّةً عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا لَقِيَ جَمَاعَةٌ آخَرِينَ، فَسَلَّمَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، كَفَى ذَلِكَ فِي إِقَامَةِ أَصْلِ السُّنَّةِ. الثَّانِيَةُ: لَا بُدَّ مِنَ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ وَرَدِّهُ مَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْمَاعُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مُتَّصِلًا بِالسَّلَامِ الِاتِّصَالَ

الْمُشْتَرِطَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْعُقُودِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ نَادَاهُ مِنْ وَرَاءِ حَائِطٍ أَوْ سِتْرٍ، وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ، أَوْ كَتَبَ كِتَابًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِيهِ، أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَالَ: سَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ وَالرِّسَالَةُ، لَزِمَهُ الرَّدُّ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى أَصَمٍّ، أَتَى بِاللَّفْظِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ بِالْيَدِ لِيَحْصُلَ الْإِفْهَامُ، فَإِنْ لَمْ يَضُمَّ الْإِشَارَةَ إِلَى اللَّفْظِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ، وَكَذَا فِي جَوَابِ سَلَامِ الْأَصَمِّ، يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ، وَسَلَامُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ مُعْتَدٌّ بِهِ، وَكَذَا رَدُّهُ. الثَّالِثَةُ: صِيغَتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، قَالَ الْإِمَامُ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَسْلِيمٌ يَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ، وَمِمَّنْ قَالَ أَيْضًا إِنَّهُ تَسْلِيمٌ أَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنْ يُكْرَهُ الِابْتِدَاءُ بِهِ، نَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي جُرَيٍّ بِضَمِّ الْجِيمِ تَصْغِيرُ جَرْوٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «لَا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُسْتَحَبُّ مُرَاعَاةُ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا خِطَابًا وَلِمَلَائِكَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَتَرَكَ صِيغَةَ الْجَمْعِ، حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ، وَصِيغَةُ الْجَوَابِ، وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، أَوْ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ لِلْوَاحِدِ، فَلَوْ تَرَكَ حَرْفَ الْعَطْفِ فَقَالَ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، قَالَ الْإِمَامُ: يَكْفِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ جَوَابًا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُدْخِلَ الْوَاوَ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَيْسَ بِجَوَابٍ.

قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ جَوَابٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ الْمُجِيبُ: وَعَلَيْكُمْ، قَالَ الْإِمَامُ: الرَّأْيُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ جَوَابًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلسَّلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ جَوَابًا لِلْعَطْفِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ وَاوٍ، فَلَيْسَ بِجَوَابٍ قَطْعًا، وَكَمَالُ السَّلَامِ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَكَمَالُ الرَّدِّ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. قُلْتُ: قَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْأَفْضَلَ فِي الِابْتِدَاءِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَفِيهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَوْ قَالَ الْمُجِيبُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، كَانَ جَوَابًا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ أَفْضَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَلَاقَى رَجُلَانِ فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَوَابُ الْآخَرِ، وَلَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ بِالسَّلَامِ، وَإِنْ تَرَتَّبَ السِّلَامَانِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. قُلْتُ: قَدْ قَالَهُ أَيْضًا شَيْخُهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، لَكِنْ أَنْكَرَهُ الشَّاشِيُّ فَقَالَ: هَذَا يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ كَانَ جَوَابًا، وَإِنْ كَانَا دُفْعَةً، لَمْ يَكُنْ جَوَابًا، هَذَا كَلَامُ الشَّاشِيِّ، وَتَفْصِيلُهُ حَسَنٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَقَصَدَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، جَازَ، وَسَقَطَ الْفَرْضُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، كَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى جَنَائِزَ صَلَاةً وَاحِدَةً. الْخَامِسَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى

الْجَالِسِ، وَالطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ عَلَى الْكَثِيرَةِ، وَلَا يُكْرَهُ ابْتِدَاءُ الْمَاشِي وَالْجَالِسِ. قُلْتُ: وَكَذَا لَا يُكْرَهُ ابْتِدَاءُ الْكَثِيرِينَ بِالسَّلَامِ عَلَى الْقَلِيلِ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ السُّنَّةِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، ثُمَّ هَذَا الْأَدَبُ فِيمَا إِذَا تَلَاقَيَا، أَوْ تَلَاقُوا فِي الطَّرِيقِ، فَأَمَّا إِذَا وَرَدَ عَلَى قَاعِدٍ، أَوْ قُعُودٍ، فَإِنَّ الْوَارِدَ يَبْدَأُ، سَوَاءً كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَخُصَّ طَائِفَةً مِنَ الْجَمْعِ بِالسَّلَامِ. السَّابِعَةُ: لَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ جَوَابُ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ صَبِيٌّ، لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ عَنْهُمْ بِجَوَابِهِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي، وَقَالَ الشَّاشِيُّ: يَسْقُطُ، كَمَا يَصِحُّ أَذَانُهُ لِلرِّجَالِ وَيَتَأَدَّى بِهِ الشِّعَارُ، وَهَذَا كَالْخِلَافِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ بِصَلَاتِهِ عَلَى الْمَيِّتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ سَلَّمَ صَبِيٌّ عَلَى بَالِغٍ، فَفِي وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِهِ. قُلْتُ: كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الرَّدِّ، قَالَ الشَّاشِيُّ: هَذَا الْبِنَاءُ فَاسِدٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَاعْلَمْ أَنَّ السَّلَامَ عَلَى الصِّبْيَانِ سُنَّةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ: سَلَامُ النِّسَاءِ عَلَى النِّسَاءِ، كَسَلَامِ الرِّجَالِ عَلَى الرِّجَالِ، وَلَوْ سَلَّمَ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَوْ عَكْسُهُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا زَوْجِيَّةٌ

أَوْ مَحْرَمِيَّةٌ، جَازَ وَوَجَبَ الرَّدُّ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَجُوزًا خَارِجَةً عَنْ مَظِنَّةِ الْفِتْنَةِ. قُلْتُ: وَجَارِيَتُهُ كَزَوْجَتِهِ، وَقَوْلُهُ: جَازَ، نَاقِصٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ سُنَّةٌ كَسَلَامِ الرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ، قَالَهُ أَصْحَابُنَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى شَابَّةٍ، لَمْ يَجُزْ لَهَا الرَّدُّ، وَلَوْ سَلَّمَتْ، كُرِهَ لَهُ الرَّدُّ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ جَمْعًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ الرَّجُلُ، جَازَ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ: فِي السَّلَامِ بِالْعَجَمِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، ثَالِثُهَا: إِنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ صِحَّةُ سَلَامِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُهَا، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَا، وَيَجِبُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى تَحِيَّةً وَسَلَامًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ لَا يَسْتَقِيمُ نُطْقُهُ بِالسَّلَامِ، يُسَلِّمُ كَيْفَ أَمْكَنَهُ. الْعَاشِرَةُ: فِي اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ عَلَى الْفُسَّاقِ، وَوُجُوبِ الرَّدِّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ إِذَا سَلَّمَا، وَجْهَانِ، وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ، فَلَوْ سَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَبَانَ ذِمِّيًّا، اسْتُحِبَّ أَنْ يَسْتَرِدَّ سَلَامَهُ، بِأَنْ يَقُولَ: اسْتَرْجَعْتُ سَلَامِي، تَحْقِيرًا لَهُ، وَلَهُ أَنْ يُحْيِيَ الذِّمِّيَّ بِغَيْرِ السَّلَامِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَدَاكَ اللَّهُ، أَوْ أَنْعَمَ اللَّهُ صَبَاحَكَ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ ذِمِّيٌّ، لَمْ يَزِدْ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَيْكَ. قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ مِنَ اسْتِحْبَابِ اسْتِرْدَادِ السَّلَامِ مِنَ الذِّمِّيِّ، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي، وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَوْلُهُ: أَنْ يُحْيِيَ الذِّمِّيَّ بِغَيْرِ السَّلَامِ، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي، وَهَذَا إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ لِعُذْرٍ، فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَالِاخْتِيَارُ أَنْ لَا يَبْتَدِئَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِكْرَامِ أَصْلًا، فَإِنَّ ذَلِكَ بَسْطٌ

لَهُ وَإِينَاسٌ وَمُلَاطَفَةٌ وَإِظْهَارُ وِدٍّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَبْدَأُ بِسَلَامٍ إِلَّا لِعُذْرٍ، أَوْ خَوْفًا مِنْ مَفْسَدَةٍ، وَلَوْ مَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ، أَوْ مُسْلِمٌ وَكُفَّارٌ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ وَيَقْصِدَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُسْلِمَ، وَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى مُشْرِكٍ، وَكَتَبَ فِيهِ سَلَامًا، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ: «سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: مَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ مِنَ السَّلَامِ عِنْدَ الْقِيَامِ وَمُفَارَقَةِ الْقَوْمِ دُعَاءً وَلَيْسَ بِتَحِيَّةٍ، فَيُسْتَحَبُّ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَلَا يَجِبُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُتَوَلِّي قَالَهُ شَيْخُهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ الشَّاشِيُّ، فَقَالَ: هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ عِنْدَ الِانْصِرَافِ، كَمَا هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْقُدُومِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقِّ مِنَ الْآخِرَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ دَارَ نَفْسِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ، وَلِمَنْ دَخَلَ مَسْجِدًا أَوْ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. قُلْتُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ دُخُولِهِ، وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشَرَةَ: مَنْ سَلَّمَ فِي حَالٍ لَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا السَّلَامُ، لَمْ

يَسْتَحِقَّ جَوَابًا، فَمِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ، وَلَا عَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْمُتَوَلِّي: لَا يُسَلِّمُ عَلَى مُشْتَغِلٍ بِالْأَكْلِ، وَرَأَى الْإِمَامُ حَمْلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ اللُّقْمَةُ فِي فَمِهِ وَكَانَ يَمْضِي زَمَانٌ فِي الْمَضْغِ وَالِابْتِلَاعِ، وَيَعْسُرُ الْجَوَابُ فِي الْحَالِ، أَمَّا إِذَا سَلَّمَ بَعْدَ الِابْتِلَاعِ وَقَبْلَ وَضْعِ لُقْمَةٍ أُخْرَى، فَلَا يَتَوَجَّهُ الْمَنْعُ، وَأَمَّا الْمُصَلِّي، فَأَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ الْمُتَوَلِّي لَكِنْ قَالَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ لَمْ يَرُدْ عَلَيْهِ حَتَّى يَفْرُغَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِشَارَةِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَقِيلَ: يَجِبُ، وَقِيلَ: يَجِبُ الرَّدُّ بِاللَّفْظِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُبِ الرَّدُّ مُطْلَقًا، فَإِنْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، بَطَلَتْ، وَإِنْ قَالَ: عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لَمْ تَبْطُلْ وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَلَا مَنْعَ مِنَ السَّلَامِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي مُسَاوَمَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ. قُلْتُ: وَمِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا يُسَلَّمُ فِيهَا حَالَةُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْخُطْبَةِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ سَبَقَ فِيهَا، وَأَمَّا الْمُشْتَغِلُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ مِنْ أَصْحَابِنَا: الْأَوْلَى تَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِ، قَالَ: فَإِنْ سَلَّمَ، كَفَاهُ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنْ رَدَّ بِاللَّفْظِ، اسْتَأْنَفَ الِاسْتِعَاذَةِ، ثُمَّ يَقْرَأُ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ الرَّدُّ بِاللَّفْظِ، وَأَمَّا الْمُلَبِّي فِي الْإِحْرَامِ فَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِ، فَإِنْ سَلَّمَ، رَدَّ عَلَيْهِ لَفْظًا، نُصَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَجِّ، وَلَوْ سَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّ فِيهَا جَوَابًا، هَلْ يَشْرَعُ الرَّدُّ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ، أَمَّا الْمُشْتَغِلُ بِالْبَوْلِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِهِمَا، فَيُكْرَهُ لَهُ الرَّدُّ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الِاسْتِطَابَةِ، وَأَمَّا الْأَكْلُ وَمَنْ فِي الْحَمَّامِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الرَّدُّ، وَأَمَّا الْمُصَلِّي، فَيُسَنُّ لَهُ الرَّدُّ إِشَارَةً كَمَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الرَّابِعَةَ عَشَرَةَ: التَّحِيَّةُ بِالطَّلْبَقَةِ وَهِيَ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاكَ، وَحَنْيُ الظَّهْرِ، وَتَقْبِيلُ الْيَدِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ تَعْظِيمِ الْمُسَلِّمِ بِهَا، وَلَا يُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْيَدِ لِزُهْدٍ وَعِلْمٍ وَكِبَرِ سِنٍّ، وَتُسَنُّ الْمُصَافَحَةُ، وَيُكْرَهُ لِلدَّاخِلِ أَنْ يَطْمَعَ فِي قِيَامِ الْقَوْمِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يُكْرِمُوهُ، وَيُسَنُّ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَمَا سَبَقَ فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ، وَإِنَّمَا يُسَنُّ إِذَا قَالَ الْعَاطِسُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالتَّشْمِيتُ أَنْ يَقُولَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَوْ يَرْحَمُكَ رَبُّكَ، وَيُكَرِّرُ التَّشْمِيتَ إِذَا تَكَرَّرَ الْعُطَاسُ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَزْكُومٌ، فَيَدْعُو لَهُ بِالشِّفَاءِ، وَيُسَنُّ لِلْعَاطِسِ أَنْ يُجِيبَ الْمُشَمِّتَ، فَيَقُولُ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، أَوْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَتُسَنُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَزِيَارَةُ الْقَادِمِ وَمُعَانَقَتُهُ. قُلْتُ: قَدِ اخْتَصَرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ الْكَلَامَ فِي السَّلَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقَدْ جَمَعْتُ فِيهِ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» جُمَلًا نَفِيسَةً مُوَضَّحَةً بِدَلَائِلِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَعَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَضَمَمْتُ إِلَيْهَا مُهِمَّاتٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَا لَا يَسْتَغْنِي رَاغِبٌ فِي الْخَيْرِ عَنْ مَعْرِفَةِ مِثْلِهَا، وَقَدْ خَلَّلْتُ بَعْضَهَا فِيمَا سَبَقَ، وَأَنَا أَرْمُزُ إِلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْبَاقِي إِنْ - شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَمِنْ ذَلِكَ، السُّنَّةُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلَامِ رَفْعًا يَسْمَعُهُ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ سَمَاعًا مُحَقَّقًا، وَلَا يَزِيدُ رَفْعُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا شَكَّ فِي سَمَاعِهِمْ، زَادَ فِي الرَّفْعِ وَاسْتَظْهَرَ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى أَيْقَاظٍ عِنْدَهُمْ نِيَامٌ، خَفَضَ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يُسْمِعُ الْأَيْقَاظَ وَلَا يُوقِظُ النِّيَامَ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْإِشَارَةُ بِالسَّلَامِ بِالْيَدِ وَنَحْوِهَا بِلَا لَفْظٍ خِلَافُ الْأُولَى، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَاللَّفْظِ، فَحَسَنٌ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرْسِلَ سَلَامَهُ إِلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ، وَيُلْزِمُ

الرَّسُولَ أَنْ يَبَلِّغَهُ، فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ وَيَجِبُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ رَدُّ السَّلَامِ عَلَى الْفَوْرِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُبْلِغِ أَيْضًا، فَيَقُولُ: وَعَلَيْهِ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهُ وَبَرَكَاتُهُ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى إِنْسَانٍ، ثُمَّ لَقِيَهُ عَلَى قُرْبٍ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا وَأَكْثَرَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ قَبْلَ كُلِّ كَلَامٍ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَعَمَلُ الْأُمَّةِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ السَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ فَضَعِيفٌ، وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَلَاقِينَ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ لِلْحَدِيثِ الْحَسَنِ: «أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ تَعَالَى مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ» وَلَوْ مَشَى فِي سُوقٍ، أَوْ شَارِعٍ يَطْرُقُ كَثِيرًا، وَنَحْوُهُ مِمَّا يَكْثُرُ فِيهِ الْمُتَلَاقَوْنَ، قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنَّمَا يُسَلِّمُ هُنَا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى الْجَمِيعِ، تَعَطَّلَ عَنْ كُلِّ مُهِمٍّ، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْعُرْفِ، قَالَ: وَلَوْ دَخَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ يَعُمُّهُمْ سَلَامٌ، اقْتَصَرَ عَلَى سَلَامٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِمْ، وَمَا زَادَ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ، فَهُوَ أَدَبٌ، وَيَكْفِي أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ زَادُوا، فَأَفْضَلُ، فَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا لَا يَنْتَشِرُ فِيهِمْ سَلَامٌ وَاحِدٌ، كَالْجَامِعِ وَالْمَجْلِسِ الْحَفْلِ، فَسُنَّةُ السَّلَامِ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ إِذَا شَاهَدَهُمْ، وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا سُنَّةَ السَّلَامِ فِي حَقِّ مَنْ سَمِعَهُ، وَيَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِي الرَّدِّ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ، فَإِنْ جَلَسَ فِيهِمْ، سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلَامِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَإِنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُنَّةَ السَّلَامِ حَصَلَتْ بِالسَّلَامِ عَلَى أَوَّلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ أَعَادَ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ، كَانَ أَدَبًا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا بَاقِيَةٌ لَمْ تَحْصُلْ، قَالَ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ عَنِ الْأَوَّلِينَ بَرْدِ وَاحِدٍ مِنَ الْآخِرِينَ، وَعَلَى الثَّانِي لَا يَسْقُطُ، وَلَعَلَّ الثَّانِي أَصَحُّ، وَلَا يَتْرُكُ السَّلَامَ لِكَوْنِهِ يَغْلُبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُسَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَأَمَّا التَّحِيَّةُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحَمَّامِ بِقَوْلِ: طَابَ

حَمَّامُكَ وَنَحْوِهِ، فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا شَيْءٌ، لَكِنْ لَوْ قَالَ لِصَاحِبِهِ حِفْظًا لِوِدِّهِ: أَدَامَ اللَّهُ لَكَ هَذَا النَّعِيمَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا ابْتَدَأَ الْمَارُّ فَقَالَ: صَبَّحَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ، أَوْ بِالسَّعَادَةِ، أَوْ قَوَّاكَ اللَّهُ، أَوْ لَا أَوْحَشَ اللَّهُ مِنْكَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ أَهْلِ الْعُرْفِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ جَوَابًا، لَكِنْ لَوْ دَعَا لَهُ قُبَالَتَهُ كَانَ حَسَنًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ تَأْدِيبَهُ وَتَأْدِيبَ غَيْرِهِ لِتَخَلُّفِهِ وَإِهْمَالِهِ السَّلَامَ. وَإِذَا قَصَدَ بَابَ إِنْسَانٍ وَهُوَ مُغْلَقٌ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ يَسْتَأْذِنَ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، أَعَادَ ذَلِكَ ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، انْصَرَفَ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» خِلَافًا فِي تَقْدِيمِ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ وَعَكْسِهِ، وَاخْتَارَ مَذْهَبًا ثَالِثًا، فَقَالَ: إِنْ وَقَعَتْ عَيْنُ الْمُسْتَأْذِنِ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ قَبْلَ دُخُولِهِ، قَدَّمَ السَّلَامَ، وَإِنْ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ عَيْنُهُ، قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ، وَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ تَقْدِيمُ السَّلَامِ، فَقَدْ صَحَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ، وَإِذَا اسْتَأْذَنَ بِدَقِّ الْبَابِ وَنَحْوِهِ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَلْيَقُلْ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ الْفُلَانِيُّ، أَوِ الْمَعْرُوفُ بِكَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ تَعْرِيفٌ تَامٌّ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَا، أَوِ الْخَادِمُ، أَوِ الْمُحِبُّ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ وَإِنْ تَضَمَّنَ تَبْجِيلًا لَهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُخَاطَبُ إِلَّا بِهِ، بِأَنْ يُكَنِّيَ نَفْسَهُ، أَوْ يَقُولَ: الْقَاضِي فُلَانٌ، أَوِ الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ نَحْوُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِعِيُّ: إِذَا قَالَ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ إِلَى آخِرِهِ، فَيُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَتِمَاتٍ، فَأَمَّا أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، فَقَدْ نَصَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَأَمَّا حَنْيُ الظَّهْرِ فَمَكْرُوهٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا يُغْتَرُّ بِكَثْرَةِ مَنْ يَفْعَلُهُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى عِلْمٍ وَصَلَاحٍ.

وَأَمَّا الْقِيَامُ، فَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِمَنْ فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ وِلَادَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ مَصْحُوبَةٍ بِصِيَانَةٍ، وَيَكُونُ عَلَى جِهَةِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالْإِعْظَامِ، وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ عَمَلُ الْجُمْهُورِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَقَدْ جَمَعْتُ جُزْءًا فِي ذَلِكَ ضَمَّنْتُهُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً وَآثَارًا وَأَفْعَالَ السَّلَفِ وَأَقْوَالَهُمُ الدَّالَّةَ لِمَا ذَكَرْتُهُ، وَأَجَبْتُ عَمَّا خَالَفَهَا، وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُحِبَّ قِيَامَهُمْ لَهُ، فَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ أَوْضَحْتُهَا مَعَ مَعْنَاهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي جُزْءِ التَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ تَعْظِيمِ الْمُسَلِّمِ بِهَا، فَلَا نُوَافِقُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا تَقْبِيلُ الْيَدِ، فَإِنْ كَانَ لِزُهْدِ صَاحِبِ الْيَدِ وَصَلَاحِهِ، أَوْ عِلْمِهِ أَوْ شَرَفِهِ وَصِيَانَتِهِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَمُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ كَانَ لِدُنْيَاهُ وَثَرْوَتِهِ وَشَوْكَتِهِ وَوَجَاهَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَكْرُوهٌ شَدِيدُ الْكَرَاهَةِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَجُوزُ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ، وَأَمَّا تَقْبِيلُهُ خَدَّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَبِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ وَسَائِرَ أَطْرَافِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ وَمَحَبَّةِ الْقَرَابَةِ، فَسُنَّةٌ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِيهِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَكَذَا قُبْلَةُ وَلَدِ صَدِيقِهِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَا يَشْتَهُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا التَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْوَالِدُ وَغَيْرُهُ، بَلِ النَّظَرُ إِلَيْهِ بِالشَّهْوَةِ حَرَامٌ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَالْقَرِيبِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ لِلتَّبَرُّكِ. وَسُنَّ تَقْبِيلُ وَجْهِ صَاحِبِهِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِهِ، وَمُعَانَقَتُهُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيهِمَا، وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيلُ الْوَجْهِ لِغَيْرِ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِهِ، فَمَكْرُوهَانِ، صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا، وَأَمَّا الْمُصَافَحَةُ، فَسُنَّةٌ عِنْدَ التَّلَاقِي، سَوَاءٌ فِيهِ الْحَاضِرُ وَالْقَادِمُ مِنْ سَفَرٍ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِيهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَأَمَّا مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنَ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاتَيِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، فَلَا أَصْلَ لِتَخْصِيصِهِ، لَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُصَافَحَةِ، وَقَدْ حَثَّ الشَّرْعُ عَلَى الْمُصَافَحَةِ، وَجَعَلَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ، وَيُسْتَحَبُّ مَعَ الْمُصَافَحَةِ الْبَشَاشَةُ بِالْوَجْهِ وَالدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ وَغَيْرِهَا. وَيُسَنُّ زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ وَالْإِخْوَانِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَصْدِقَاءِ وَالْأَقَارِبِ وَإِكْرَامُهُمْ وَبِرُّهُمْ وَصِلَتُهُمْ، وَضَبْطُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ وَفَرَاغِهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ زِيَارَتُهُ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَضُونَهُ وَفِي وَقْتٍ لَا يَكْرَهُونَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ أَخِيهِ الصَّالِحِ أَنْ يَزُورَهُ، وَأَنْ يُكْثِرَ زِيَارَتَهُ إِذَا لَمْ يَشُقَّ، وَأَمَّا الْعَاطِسُ، فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ قَالَهُ وَأَسْمَعُ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كَانَ أَفْضَلَ، فَفِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَيُسَنُّ بِمَنْ جَاءَهُ الْعُطَاسُ، أَنْ يَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ وَنَحْوَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَيَخْفِضَ صَوْتَهُ، وَتَشْمِيتُهُ إِلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، فَإِنْ زَادَ، دَعَا لَهُ بِالشِّفَاءِ، وَلَا يُشَمِّتُهُ حَتَّى يَسْمَعَ تَحْمِيدَهُ، وَأَقَلُّ التَّشْمِيتِ وَجَوَابُهُ أَنْ يَسْمَعَهُ، وَلَوْ قَالَ لَفْظًا آخَرَ غَيْرَ الْحَمْدِ لِلَّهِ، لَمْ يُشَمَّتْ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، فَشَمِّتُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى، فَلَا تُشَمِّتُوهُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظُهُ وَإِشَاعَتُهُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتَسَاهَلُونَ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى، يُسْتَحَبُّ لِمَنْ عِنْدَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ الْحَمْدَ، وَلَوْ سَمِعَ حَمْدَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ، يُشَمِّتُهُ السَّامِعُونَ فَقَطْ، وَلَوْ عَطَسَ يَهُودِيٌّ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَلَا يَقُلَّ: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَفِيهِ

حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَوْ تَثَاءَبَ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَأَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَسَوَاءً كَانَ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَيُسْتَحَبُّ إِجَابَةُ مَنْ نَادَاهُ، بِلَبَّيْكَ، وَأَنْ يَقُولَ لِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ: مَرْحَبًا، وَأَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، أَوْ حَفِظَكَ اللَّهُ وَنَحْوُهُمَا، وَيُسَنُّ لِمَنْ أَحَبَّ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَهَذَا الْبَابُ وَاسِعٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْتُهُ مُقْنِعٌ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ جَمِيعَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَظَاهِرَةِ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» وَفِيهِ مَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ مِثْلِهِ مِنْ أَشْبَاهِهِ، وَإِنَّمَا بَسَطْتُ هَذَا الْفَصْلَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحْكَامٌ وَسُنَنٌ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، وَيَكْثُرُ الْعَمَلُ بِهَا، فَهِيَ أَوْلَى مِنْ نَوَادِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تَقَعُ فِي الْعَادَةِ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ التَّوْفِيقَ لِلْخَيِّرَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ الْجِهَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فِيهِ أَطْرَافٌ الْأَوَّلُ: فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يُكْرَهُ الْغَزْوُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ أَوِ الْأَمِيرِ الْمَنْصُوبِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يَحْرُمُ، وَإِذَا بَعَثَ سَرِّيَّةً، أَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، وَيَأْمُرُهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَيُوصِيهِ بِهِمْ، وَيُسَنُّ أَنْ يَأْخُذَ الْبَيْعَةَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَأَنْ يَبْعَثَ الطَّلَائِعَ، وَيَتَجَسَّسَ أَخْبَارَ الْكُفَّارِ، وَيُسْتَحَبُّ خُرُوجُهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَأَنْ يَعْقِدَ الرَّايَاتِ، وَيَجْعَلَ كُلَّ فَرِيقٍ تَحْتَ رَايَةٍ، وَيَجْعَلَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شِعَارًا حَتَّى لَا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَيَاتًا، وَأَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ بِتَعْيِينِهِ الْحَرْبَ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَهْيَبُ، وَأَنْ يَسْتَنْصِرَ بِالضُّعَفَاءِ، وَأَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ، وَأَنْ يُكِبِّرَ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، وَأَنْ يُحَرِّضَ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ وَعَلَى الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ.

الثَّانِيَةُ: لَا يُقَاتِلُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَيَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، وَيَجُوزَ بَيَاتُهُمْ بِغَيْرِ دُعَاءٍ، ثُمَّ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، يُقَاتَلُونَ، وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ، وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَالَّذِينَ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ يُقَاتَلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يَبْذُلُوا الْجِزْيَةَ. الثَّالِثَةُ: تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَبِالْمُشْرِكِينَ فِي الْغَزْوِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِمَامُ حُسَنَ رَأْيِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْمَنَ خِيَانَتَهُمْ، وَشَرَطَ الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ شَرْطًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنْ يَكْثُرَ الْمُسْلِمُونَ بِحَيْثُ لَوْ خَانَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ، وَانْضَمُّوا إِلَى الَّذِينَ يَغْزُوهُمْ، لَأَمْكَنَنَا مُقَاوَمَتُهُمْ جَمِيعًا. وَفِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ، وَتَمُسُّ الْحَاجَةُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ، وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ كَالْمُتَنَافِيَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا قَلُّوا حَتَّى احْتَاجُوا لِمُقَاوَمَةِ فَرْقَةٍ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْأُخْرَى، فَكَيْفَ يُقَاوِمُونَهُمَا؟ قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ، فَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ فِرْقَةً لَا يَكْثُرُ الْعَدِوُّ بِهِمْ كَثْرَةً ظَاهِرَةً، وَشَرَطَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» أَنْ يُخَالِفُوا مُعْتَقَدَ الْعَدِوِّ، كَالْيَهُودِ مَعَ النَّصَارَى، قَالَ: وَإِذَا خَرَجُوا بِشُرُوطِهِ، اجْتَهَدَ الْأَمِيرُ فِيهِمْ، فَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي تَمِيِزِهِمْ لِيَعْلَمَ نِكَايَتَهُمْ، أَفْرَدَهُمْ فِي جَانِبِ الْجَيْشِ بِحَيْثُ يَرَاهُ أَصْلَحَ، وَإِنْ رَآهَا فِي اخْتِلَاطِهِمْ بِالْجَيْشِ لِئَلَّا تَقْوَى شَوْكَتُهُمْ، فَرَّقَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنْ حَضَرَ الذِّمِّيُّ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، اسْتَحَقَّ الرَّضْخَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ نَهَاهُ عَنِ الْحُضُورِ، فَحَضَرَ،

فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَلِلْإِمَامِ تَعْزِيزُهُ إِذَا رَآهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، لَمْ يَرْضَخْ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِالْعَبْدِ إِذَا أَذِنَ سَيِّدُهُ، وَأَنْ يَسْتَصْحِبَ الْمُرَاهِقِينَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ جَلَادَةٌ وَغَنَاءٌ فِي الْقِتَالِ، وَكَذَا لِمَصْلَحَةِ سَقْيِ الْمَاءِ، وَمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى، وَيَسْتَصْحِبُ النِّسَاءَ لِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ. وَفِي جَوَازِ إِحْضَارِ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَصِبْيَانِهِمْ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَالْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: لَا، إِذَا كَانَ لَا قِتَالَ فِيهِمْ وَلَا رَأْيَ وَلَا يُتَبَرَّكُ بِحُضُورِهِمْ. الْخَامِسَةُ: يَمْنَعُ الْمُخَذِّلَ مِنَ الْخُرُوجِ فِي الْجَيْشِ، فَإِنْ خَرَجَ، رَدَّهُ، فَلَوْ قَاتَلَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَلَوْ قَتَلَ كَافِرًا، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ، وَالْمُخَذِّلُ مَنْ يُخَوِّفُ النَّاسَ، بِأَنْ يَقُولَ: عَدُوُّنَا كَثِيرٌ، وَخُيُولُنَا ضَعِيفَةٌ، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفِي مَعْنَاهُ الْمُرْجِفُ وَالْخَائِنُ، فَالْمُرْجِفُ: مَنْ يُكْثِرُ الْأَرَاجِيفَ، بِأَنْ يَقُولَ: قُتِلَتْ سَرِيَّةُ كَذَا، أَوْ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ لِلْعَدُوِّ مِنْ جِهَةِ كَذَا، أَوْ لَهُمْ كَمِينٌ فِي مَوْضِعِ كَذَا. وَالْخَائِنُ: مَنْ يَتَجَسَّسُ لَهُمْ، وَيُطْلِعُهُمْ عَلَى الْعَوْرَاتِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ يُسْهِمُ لِلْمُخَذِّلِ إِذَا لَمْ يَنْهَهُ الْإِمَامُ، وَوَجْهًا أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، لَا سَهْمَ وَلَا رَضْخَ مُطْلَقًا. السَّادِسَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْإِمَامُ وَلَا أَحَدُ الرَّعِيَّةِ مُسْلِمًا لِلْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ، فَمَتَى حَضَرَ الصَّفَّ، تَعِيَّنَ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةٍ عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ، وَعَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ، وَيُعْطِيَهُ أُجْرَةً مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لَكِنِ الْإِمَامُ يَرْغَبُ فِي الْجِهَادِ بِبَذْلِ الْأُهْبَةِ وَالسِّلَاحِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَيَنَالُ ثَوَابَ الْإِعَانَةِ، وَيَقَعُ الْجِهَادُ عَنِ الْمُبَاشِرِ، وَكَذَا إِذَا بَذَلَ أُهْبَتَهُ وَاحِدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ مِنْ مَالِهِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَمَا يُدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَزِقَةِ

مِنَ الْفَيْءِ، وَإِلَى الْمُطَّوِّعَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ حُقُوقُهُمُ الْمُرَتَّبَةَ، وَلَيْسَ أُجْرَةً، وَجِهَادُهُمْ وَاقِعٌ عَنْهُمْ، وَلَوْ أَكْرَهَ الْإِمَامُ جَمَاعَةً عَلَى الْخُرُوجِ وَالْجِهَادِ، لَمْ يَسْتَحِقُّوا أُجْرَةً لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ الْجِهَادِ عَنْهُمْ، وَامْتِنَاعِ اسْتِئْجَارِهِمْ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَهُمُ الْأُجْرَةُ مِنْ حِينِ أَخْرَجَهُمْ إِلَى أَنْ حَضَرُوا الْوَقْعَةَ. وَأَطْلَقَ مُطَلِقُونَ أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ الْإِمَامُ رَجُلًا، وَأَلْزَمَهُ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ، وَاسْتَدْرَكَ الْإِمَامُ فَقَالَ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ، وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ اتِّسَاعٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ، فَمُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِلَّا فَفِي بَيْتِ الْمَالِ إِنِ اتَّسَعَ، فَيَسْتَحِقُّ الْمُكْرَهُ الْأُجْرَةَ، وَالتَّفْصِيلَانِ حَسَنَانِ، فَلْيُحْمَلْ عَلَيْهِمَا الْإِطْلَاقَانِ. وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ اسْتِئْجَارُ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ جَوَّزْنَا اسْتِئْجَارَ الْحُرِّ، فَكَذَا الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ الْكُفَّارُ دَارَ الْمُسْلِمِينَ هَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَبِيدِ الْجِهَادُ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَهُمْ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، فَإِذَا وَافَوُا الصَّفَّ، وَقَعَ الْجِهَادُ عَنْهُمْ، فَيَكُونُ اسْتِئْجَارُهُمْ كَالْأَحْرَارِ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُمْ، وَإِنْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ الْعَبِيدَ قَهْرًا، لَزِمَتْ أُجْرَتُهُمْ مِنْ يَوْمِ الْإِخْرَاجِ إِلَى أَنْ يَعُودَ كُلُّ عَبْدٍ إِلَى يَدِ سَيِّدِهِ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، فَكَالْأَحْرَارِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ لِلْجِهَادِ بِمَالٍ يَبْذُلُهُ لَهُ، وَهَلْ طَرِيقُهُ الْإِجَارَةُ أَمِ الْجَعَالَةُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْجَعَالَةُ، لِجَهَالَةِ الْعَمَلِ، وَأَصَحُّهُمَا: الْإِجَارَةُ، وَتَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْقِتَالُ، وَلَوْ كَانَ جَعَالَةً لَجَازَ لِلذِّمِّيِّ الِانْصِرَافُ مَتَى شَاءَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنَّ يَبْلُغَ بِالْأُجْرَةِ سَهْمَ رَاجِلٍ، وَكَانَ حَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ الْحُكْمَ بِالِانْفِسَاخِ وَالرَّدِّ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ إِنْ بَانَ زِيَادَةُ الْأُجْرَةِ عَلَى سَهْمٍ، وَإِلَّا فَفِي الِابْتِدَاءِ لَا يُعْلَمُ سَهْمَ الرَّاجِلِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالصَّحِيحُ

أَنَّهُ لَا حَجْرَ فِي قَدَرِ الْأُجْرَةِ، كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ، وَهَلْ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ لِلْجِهَادِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْآحَادَ لَا يَتَوَلَّوْنَ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي حُضُورِهِ مَفْسَدَةٌ يَعْلَمُهَا الْإِمَامُ دُونَ الْآحَادِ. فَرْعٌ لَوْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَهْلَ الذِّمَّةِ، اسْتُحِبَّ أَنْ يُسَمِّيَ لَهُمْ أُجْرَةً، فَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مَجْهُولًا، بِأَنْ قَالَ: نُرْضِيكُمْ، أَوْ نُعْطِيكُمْ مَا تَسْتَعِينُونَ بِهِ، وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَإِنْ أَخْرَجَهُمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ كُرْهًا، وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَإِنْ خَرَجُوا رَاضِينَ، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمْ شَيْئًا، فَهَذَا مَوْضِعُ الرَّضْخِ، وَفِي مَحَلِّهِ أَقْوَالٌ سَبَقَتْ فِي قِسْمِ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا الْأُجْرَةُ الْوَاجِبَةُ، مُسَمَّاةً كَانَتْ أَوْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، فَهَلْ تُؤَدَّى مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ أَوْ غَيْرِهَا، أَمْ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ، أَمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا؟ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ. فَرْعٌ لَوْ أَخْرَجَهُمْ قَهْرًا، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُمْ قَبْلَ وُقُوفِهِمْ فِي الصَّفِّ، أَوْ هَرَبُوا وَلَمْ يَقِفُوا، لَمْ يَجِبْ لَهُمْ إِلَّا أُجْرَةُ الذَّهَابِ، وَإِنْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُمْ فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ حِينَئِذٍ كَيْفَ شَاءُوا، وَلَوْ وَقَفَ الْمَقْهُورُونَ وَلَمْ يُقَاتِلُوا، فَهَلْ لَهُمْ أُجْرَةُ مُدَّةِ الْوُقُوفِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ حَبْسٌ وَقَهْرٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ، وَإِلَّا فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ مَنْفَعَةَ الْحُرِّ هَلْ تُضْمَنُ بِالْحَبْسِ وَالتَّعْطِيلِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ؟ وَلَوِ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيَّ فَلَمْ يُقَاتِلْ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ الْوَجْهَانِ.

السَّابِعَةُ: فِيمَنْ يَمْتَنِعُ قَتْلُهُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ، فَيُكْرَهُ لِلْغَازِي قَتْلُ قَرِيبِهِ، فَإِنْ كَانَ الْقَرِيبُ مَحْرَمًا ازْدَادَتِ الْكَرَاهَةُ، فَإِنْ سَمِعَ أَبًا، أَوْ قَرِيبًا آخَرَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسُوءٍ، لَمْ يُكْرَهْ قَتْلُهُ، وَيُحَرَّمُ قَتْلُ نِسَاءِ الْكُفَّارِ وَصِبْيَانِهِمْ وَالْمَجَانِينِ وَالْخُنَاثَى، فَإِنْ قَاتَلُوا، جَازَ قَتْلُهُمْ، وَلَوْ أُسِرَ مِنْهُمْ مُرَاهِقٌ، وَشَكَكْنَا فِي بُلُوغِهِ، كُشِفَتْ عَانَتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَنْبَتَ، حُكِمَ بِبُلُوغِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ صَبِيٌّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ قَوْلَانِ فِي أَنَّ الْإِنْبَاتَ بُلُوغٌ أَمْ دَلِيلُ بُلُوغٍ، فَإِنْ قَالَ الْمَأْسُورُ: اسْتَعْجَلْتُ الشَّعْرَ بِالدَّوَاءِ، فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ بُلُوغٌ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، بَلْ يُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: دَلِيلُ الْبُلُوغِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَيُحْكَمُ بِالصِّغَرِ، هَكَذَا نُصَّ عَلَيْهِ وَبِهِ أَخَذَ الْأَصْحَابُ وَذَكَرُوا فِيهِ إِشْكَالَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَمِينَ تَعْمَلُ فِي النَّفْيِ وَهَذِهِ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِعْجَالِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّا فَعَلْنَاهُ لِحَقْنِ الدَّمِ، وَقَدْ يُخَالَفُ الْقِيَاسُ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَبِلْنَا جِزْيَةَ الْمَجُوسِ دُونَ نِكَاحِهِمْ، وَالثَّانِي: كَيْفَ يَحْلِفُ مَنْ يَدَّعِي الصِّبَا، فَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: الْيَمِينُ احْتِيَاطٌ أَوِ اسْتِظْهَارٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا بُدَّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الظَّاهِرَ مَوْجُودٌ، فَلَا يُتْرَكُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَجْرِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الشَّعْرُ الْخَشِنُ دُونَ اللِّيِّنِ، وَأَنَّ فِي إِلْحَاقِ شَعْرِ الْإِبِطِ وَالْوَجْهِ الْخَشِنِ بِالْعَانَةِ وَجْهَيْنِ، وَنَبَاتُ الشَّارِبِ كَاللِّحْيَةِ، وَلَا أَثَرَ لِاخْضِرَارِهِ. الثَّامِنَةُ: فِي جَوَازِ قَتْلِ الرَّاهِبِ، شَيْخًا كَانَ أَوْ شَابًّا، وَالْأَجِيرِ وَالْمُحْتَرِفِ الْمَشْغُولِ بِحِرْفَتِهِ، وَالشَّيْخِ الضَّعِيفِ وَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ، وَمَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ. وَقِيلَ: يُقْتَلُ الْأَجِيرُ وَالْمُحْتَرِفُ قَطْعًا، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ رَأْيٌ يَسْتَعِينُ الْكُفَّارُ بِرَأْيِهِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ، قُتِلَ قَطْعًا، ثُمَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ

أَنْ يَحْضُرَ ذُو الرَّأْيِ فِي صَفِّ الْقِتَالِ، أَوْ لَا يَحْضُرَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَخْرَقِ مِنْهُمْ فِي صَفِّ الْقِتَالِ، أَوْ يَدْخُلَ بَعْضَ بِلَادِهِمْ، فَيَجِدَهُ هُنَاكَ فِي أَنَّ فِي قَتْلِهِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي السُّوقَةِ طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِقَتْلِهِمْ، وَالثَّانِي: عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا قَتْلَ هَؤُلَاءِ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ، وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ، وَاغْتِنَامُ أَمْوَالِهِمْ، وَإِلَّا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمْ يُرَقُّونَ بِنَفْسِ الْأَسْرِ كَالنِّسَاءِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، كَأَسِيرٍ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الِاسْتِرْقَاقِ، فَفِي قَوْلٍ: يَتَعَيَّنُ رِقُّهُ، وَفِي قَوْلٍ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَرِقَّهُ وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، أَوْ يُفَادِيَهُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، بَلْ يُتْرَكُونَ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ، وَيَجُوزُ سَبْيُ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ سَبْيُ نِسَائِهِمْ دُونَ صِبْيَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَبْعَاضُهُمْ، وَأَجْرَى بَعْضُهُمُ الْخِلَافَ فِي اغْتِنَامِ الْأَمْوَالِ، قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ مَنَعَ اغْتِنَامَ أَمْوَالِ السُّوقَةِ، فَقَدْ قَرُبَ مِنْ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ، وَلَوْ تَرَهَّبَتِ امْرَأَةٌ فَفِي جَوَازِ سَبْيِهَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى قَتْلِ الرَّاهِبِ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ قَتْلُ رَسُولِ الْكُفَّارِ. التَّاسِعَةُ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مُحَاصَرَةُ الْكُفَّارِ فِي بِلَادِهِمْ، وَالْحُصُونِ وَالْقِلَاعِ، وَتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِالْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُصِيبَهُمْ، وَيَجُوزَ التَّحْرِيقُ بِإِضْرَامِ النَّارِ وَرَمْيِ النِّفْطِ إِلَيْهِمْ، وَالتَّغْرِيقُ بِإِرْسَالِ الْمَاءِ، وَيُبَيِّتُهُمْ وَهُمْ غَافِلُونَ، وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، نُظِرَ إِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إِلَى الرَّمْيِ وَالضَّرْبِ، بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ وَلَوْ تُرِكُوا لَغَلَبُوا الْمُسْلِمِينَ، جَازَ الرَّمْيُ وَالضَّرْبُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ، بِأَنْ كَانُوا يَدْفَعُونَ بِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَاحْتَمَلَ الْحَالُ تَرْكَهُمْ، فَطَرِيقَانِ.

أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ رَمْيُهُمْ، كَمَا يَجُوزُ نَصْبُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى الْقَلْعَةِ وَإِنْ كَانَ يُصِيبُهُمْ، وَلِئَلَّا يَتَّخِذُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْقَفَّالِ. وَمَالَ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ مَائِلُونَ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ وَرَدُّ الْمَنْعِ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَقِيلَ: فِي الْكَرَاهَةِ عَلَى هَذَا قَوْلَانِ، وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِهِمْ فِي الْقَلْعَةِ، فَقِيلَ: هَذِهِ الصُّورَةُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ حِيلَةً إِلَى اسْتِبْقَاءِ الْقِلَاعِ لَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ فَسَادٌ عَظِيمٌ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَإِنْ عَجَزْنَا عَنِ الْقَلْعَةِ إِلَّا بِهِ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ فِي الصُّورَتَيْنِ، الْجَوَازُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ فِي الْبَلْدَةِ أَوِ الْقَلْعَةِ مُسْلِمٌ، أَوْ أَسِيرٌ، أَوْ تَاجِرٌ، أَوْ مُسْتَأْمَنٌ، أَوْ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَهَلْ يَجُوزُ قَصْدُ أَهْلِهَا بِالنَّارِ وَالْمَنْجَنِيقِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا؟ فِيهِ طُرُقٌ، الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةٌ، كُرِهَ وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَظْهَرِ لِئَلَّا يُعَطِّلُوا الْجِهَادَ بِحَبْسِ مُسْلِمٍ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ ضَرُورَةٌ، كَخَوْفِ ضَرَرِهِمْ، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ فَتْحُ الْقَلْعَةِ إِلَّا بِهِ، جَازَ قَطْعًا، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا اعْتِبَارَ بِالضَّرُورَةِ، بَلْ إِنْ كَانَ مَا يُرْمَى بِهِ يُهْلِكُ الْمُسْلِمَ، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَالثَّالِثُ وَبِهِ أَجَابَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» : إِنْ كَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِيهِمْ مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَذْهَبُ: الْجَوَازُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُصِيبُ مُسْلِمًا وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» لِأَنَّ حُرْمَةَ مَنْ مَعَنَا أَعْظَمُ حُرْمَةً مِمَّنْ فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ هَلَكَ مِنْهُمْ هَالِكٌ، فَقَدْ رُزِقَ الشَّهَادَةَ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَلَوْ رَمَى بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلَى الْقَلْعَةِ، أَوْ

الْبَلْدَةِ، فَقَتَلَ مُسْلِمًا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِيهَا مُسْلِمًا، لَمْ يَجِبْ إِلَّا الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ عَلِمَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ. فَرْعٌ لَوْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِمُسْلِمِينَ مِنَ الْأُسَارَى وَغَيْرِهِمْ، نُظِرَ إِنْ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إِلَى رَمْيِهِمْ وَاحْتَمَلَ الْحَالُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ، فَإِنْ رَمَى رَامٍ، فَقَتَلَ مُسْلِمًا قَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، إِنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ ظَنَّهُ كَافِرًا فَلَا قِصَاصَ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَفِي الدِّيَةِ قَوْلَانِ، وَإِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إِلَى رَمْيِهِمْ، بِأَنْ تَتَرَّسُوا بِهِمْ فِي حَالِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ وَكَانُوا بِحَيْثُ لَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ ظَفِرُوا بِنَا، وَكَثُرَتْ نِكَايَتُهُمْ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَرْبُ الْكُفَّارِ إِلَّا بِضَرْبِ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ نَخَافَ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَدَمُ الْمُسْلِمِ لَا يُبَاحُ بِالْخَوْفِ بِدَلِيلِ صُورَةِ الْإِكْرَاهِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ: جَوَازُ الرَّمْيِ عَلَى قَصْدِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمِينَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْإِعْرَاضِ أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِقْدَامِ، وَلَا يَبْعُدُ احْتِمَالُ طَائِفَةٍ لِلدَّفْعِ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ وَمُرَاعَاةً لِلْأُمُورِ الْكُلِّيَّاتِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الرَّمْيَ، فَرَمَى وَقَتَلَ مُسْلِمًا، فَلَا قِصَاصَ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَفِي الدِّيَةِ طُرُقٌ، أَصَحُّهَا وَظَاهِرُ النَّصِّ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَابْنُ سَلَمَةَ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَرْمِيَّ مُسْلِمٌ، وَجَبَتْ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ قَصَدَهُ بِعَيْنِهِ، وَجَبَتْ، سَوَاءٌ عَلِمَهُ مُسْلِمًا أَمْ لَا، وَإِلَّا فَلَا، وَالثَّالِثُ: قَوْلَانِ مُطْلَقًا، وَالرَّابِعُ قَالَهُ ابْنُ الْوَكِيلِ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ هُنَاكَ مُسْلِمًا، وَجَبَتْ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزِ الرَّمْيَ، فَرَمَى وَقَتَلَ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا قَوْلَانِ، كَالْمُكْرَهِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ قَطْعًا، كَالْمُضْطَرِّ إِذَا قَتَلَ رَجُلًا لِيَأْكُلَهُ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ، فَإِنَّهُ مُلْجَأٌ، وَلِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُحَالُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكْرَهُ.

وَلَوْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ عَبْدٍ، فَالْحُكْمُ فِي جَوَازِ الرَّمْيِ وَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ حَيْثُ تَجِبُ دِيَةٌ، يَجِبُ فِي الْعَبْدِ قِيمَتُهُ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَوْ تَتَرَّسَ كَافِرٌ بِتِرْسِ مُسْلِمٍ، أَوْ رَكِبَ فَرَسَهُ، فَرَمَاهُ مُسْلِمٌ فَأَتْلَفَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْتِحَامٍ، أَوْ فِي الْتِحَامٍ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَتَوَقَّى التِّرْسَ وَالْفَرَسَ، ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فِي الِالْتِحَامِ الدَّفْعُ إِلَّا بِإِصَابَتِهِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالْمُكْرَهِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ فِي الْمَالِ يَكُونُ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ، وَهُنَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ حَتَّى يَجْعَلَ الْمُسْلِمَ طَرِيقًا، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُخْتَارًا، لَزِمَهُ الضَّمَانُ. الْعَاشِرَةُ: فِي حُكْمِ الْهَزِيمَةِ، إِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ، قَدْ أَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي انْهِزَامِهِ كَسْرُ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَجُزِ الِانْهِزَامُ بِحَالٍ، وَإِلَّا فَفِيهِ التَّفْصِيلُ الْآتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِذَلِكَ بَلْ قَالُوا: إِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ، فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَزِيدَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى ضِعْفِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ كَانُوا مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَقَلَّ، فَتَحْرُمُ الْهَزِيمَةُ وَالِانْصِرَافُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، فَالْمُتَحَرِّفُ: مَنْ يَنْصَرِفُ لِيَكْمُنَ فِي مَوْضِعٍ، وَيَهْجُمُ، أَوْ يَكُونُ فِي مَضِيقٍ، فَيَنْصَرِفُ لِيَتْبَعَهُ الْعَدُوُّ إِلَى مُتَّسَعٍ سَهْلٍ لِلْقِتَالِ، أَوْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي التَّحَوُّلِ إِلَى مَضِيقٍ، أَوْ يَتَحَوَّلُ مِنْ مُقَابَلَةِ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ إِلَى مَوْضِعٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقِتَالُ. وَالْمُتَحَيِّزُ إِلَى فِئَةٍ: مَنْ يَنْصَرِفُ عَلَى قَصْدِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى طَائِفَةٍ يَسْتَنْجِدُ بِهَا فِي الْقِتَالِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ قُرْبُهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَلْزَمُهُ تَحْقِيقُ عَزْمِهِ بِالْقِتَالِ مَعَ الْفِئَةِ الْمُتَحَيِّزِ إِلَيْهَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ مُرَخَّصٌ، فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْجِهَادُ لَا يَجِبْ قَضَاؤُهُ، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ، أَنَّ التَّحَيُّزَ إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا اسْتَشْعَرَ الْمُتَحَيِّزُ

عَجْزًا مُحْوِجًا إِلَى الِاسْتِنْجَادِ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ الْغَزَالِيِّ أَخَذَهُ مِنْ هَذَا، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْأَصْحَابُ مَا ذَكَرَاهُ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا تَرْكَ الْقِتَالِ وَالِانْهِزَامَ فِي الْحَالِ مَجْبُورًا بِعَزْمِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ يَتَضَمَّنُ الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الْقِتَالِ، وَالرُّخْصَةُ مَنُوطَةٌ بِعَزْمِهِ، وَلَا يُمْكِنُ مُخَادَعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَزْمِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْهَزِيمَةِ إِلَّا لِمُتَحَرِّفٍ أَوْ مُتَحَيِّزٍ هُوَ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ، أَمَّا مَنْ عَجَزَ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِلَاحٌ، فَلَهُ الِانْصِرَافُ بِكُلِّ حَالٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَلِّيَ مُتَحَرِّفًا أَوْ مُتَحَيِّزًا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الرَّمْيُ بِالْأَحْجَارِ، فَهَلْ تَقُومُ مَقَامَ السِّلَاحِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: تَقُومُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ مَاتَ فَرَسُهُ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ رَاجِلًا، فَلَهُ الِانْصِرَافُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ قُتِلَ، هَلْ لَهُ الِانْصِرَافُ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. ثُمَّ الْمُتَحَيِّزُ إِلَى فِئَةٍ بَعِيدَةٍ لَا يُشَارِكُ الْجَيْشَ فِيمَا يَغْنَمُونَهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ، وَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ مِمَّا غَنِمُوهُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَبِمِثْلِهِ أَجَابَ فِي الْمُتَحَرِّفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ بِأَنَّ الْمُتَحَرِّفَ يُشَارِكُ، وَلَعَلَّهُ فِيمَنْ لَمْ يَبْعُدْ، وَلَمْ يَغِبْ، وَالنَّصُّ فِيمَا إِذَا تَحَرَّفَ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنِ الْقَوْمِ قَبْلَ أَنْ يَغْنَمُوا، وَهَلْ يُشَارِكُ الْمُتَحَيِّزُ إِلَى فِئَةٍ قَرِيبَةٍ فِيمَا غَنِمُوهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِبَقَاءِ نُصْرَتِهِ وَالِاسْتِنْجَادِ بِهِ، فَهُوَ كَالسَّرِيَّةِ الْقَرِيبَةِ تُشَارِكُ الْجَيْشَ فِيمَا غَنِمَهُ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا زَادَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ، جَازَ الِانْهِزَامُ، وَهَلْ يَجُوزُ انْهِزَامُ مِائَةٍ مِنْ أَبْطَالِنَا مِنْ مِائَتَيْنِ، وَوَاحِدٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْكُفَّارِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَهُمْ لَوْ ثَبَتُوا، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْعَدَدُ عِنْدَ تَقَارُبِ الْأَوْصَافِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ

الْأَوْصَافِ يَعْسُرُ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْعَدَدِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي عَكْسِهِ، وَهُوَ فِرَارُ مِائَةٍ مِنْ ضُعَفَائِنَا مِنْ مِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ مِنْ ضُعَفَائِهِمْ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْعَدَدَ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى، جَازَ، وَإِذَا جَازَ الْفِرَارُ، نُظِرَ إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ ثَبَتُوا ظَفِرُوا، اسْتُحِبَّ الثَّبَاتُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الْهَلَاكُ، فَفِي وُجُوبِ الْفِرَارِ وَجْهَانِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ كَانَ فِي الثَّبَاتِ الْهَلَاكُ الْمَحْضُ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ، وَجَبَ الْفِرَارُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نِكَايَةٌ فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ هُوَ الْحَقُّ، وَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَقِيَ مُسْلِمٌ مُشْرِكَيْنِ، إِنْ طَلَبَاهُ، فَلَهُ الْفِرَارُ، وَإِنْ طَلَبَهُمَا وَلَمْ يَطْلُبَاهُ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ وَالثَّبَاتِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَلَوْ وَلَّى النِّسَاءُ، لَمْ يَأْثَمْنَ، فَلَسْنَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، نُصَّ عَلَيْهِ، كَمَا لَا إِثْمَ عَلَى صَبِيٍّ وَمَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ إِذَا وَلَّيَا، وَيَأْثَمُ السَّكْرَانُ. وَلَوْ قَصَدَ الْكُفَّارُ بَلَدًا، فَتَحَصَّنَ أَهْلُهُ إِلَى أَنْ يَجِدُوا قُوَّةً وَمَدَدًا، لَمْ يَأْثَمُوا، إِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ وَلَّى بَعْدَ اللِّقَاءِ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبَا «الْحَاوِي» وَ «الْبَحْرِ» : تَجُوزُ الْهَزِيمَةُ مِنْ أَكْثَرَ مِنَ الْمِثْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فُرْسَانًا وَالْكُفَّارُ رَجَّالَةً، وَتَحْرُمُ الْهَزِيمَةُ مِنَ الْمِثْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ رَجَّالَةً وَالْكُفَّارُ فُرْسَانًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَعْنَى أَمْ بِالْعَدَدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ الْمُبَارَزَةُ جَائِزَةٌ، وَلَوْ خَرَجَ كَافِرٌ وَطَلَبَهَا، اسْتُحِبَّ الْخُرُوجُ إِلَيْهِ، وَابْتِدَاءُ الْمُبَارَزَةِ لَا مُسْتَحَبٌّ وَلَا مَكْرُوهٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: تُكْرَهُ، وَأَطْلَقَ ابْنُ كَجٍّ اسْتِحْبَابَهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا تَحْسُنُ الْمُبَارَزَةُ مِمَّنْ جَرَّبَ نَفْسَهُ وَعَرَفَ قُوَّتَهُ وَجُرْأَتَهُ، فَأَمَّا الضَّعِيفُ الَّذِي لَا يَثِقُ بِنَفْسِهِ، فَتُكْرَهُ لَهُ الْمُبَارَزَةُ ابْتِدَاءً وَإِجَابَةً، نُصَّ عَلَيْهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَحْرُمُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُبَارِزَ إِلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ، فَلَوْ بَارَزَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ التَّغْرِيرَ بِالنَّفْسِ فِي الْجِهَادِ جَائِزٌ، وَالثَّانِي: يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ نَظَرًا فِي تَعْيِينِ الْأَبْطَالِ. فَصْلٌ نَقْلُ رُءُوسِ الْكُفَّارِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يُكْرَهُ لِلْإِرْعَابِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ: يُكْرَهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ كَافِرٍ فِيهِ نِكَايَةٌ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : لَا يُكْرَهُ، إِنْ كَانَ فِيهِ نِكَايَةٌ، بَلْ يُسْتَحَبُّ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي سَبْيِ الْكُفَّارِ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ إِحْدَاهَا: نِسَاءُ الْكُفَّارِ وَصِبْيَانُهُمْ إِذَا وَقَعُوا فِي الْأَسْرِ، رُقُّوا، وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ سَائِرِ أَمْوَالِ الْغَنِيمَةِ، فَالْخُمُسُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَالْبَاقِي لِلْغَانِمِينَ، وَالْعَبِيدُ إِذَا وَقَعُوا فِي الْأَسْرِ، كَانُوا كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْغَنِيمَةِ، لَا يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْحَرْبِيِّ مَالٌ لَهُ، وَاحْتَجَّ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ بِأَنَّ عَبْدَ الْحَرْبِيِّ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَخْرُجْ، وَلَا قَهَرَ سَيِّدَهُ،

لَا يَزُولُ مِلْكُ الْحَرْبِيِّ عَنْهُ، وَإِذَا سَبَاهُ الْمُسْلِمُونَ، كَانَ عَبْدًا مُسْلِمًا، وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِ، وَيُسْتَرَقُ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مَالٌ يُخْلَى سَبِيلُهُ، كَالْحُرِّ، وَلَمَا جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ قَتْلُ الْعَبِيدِ، وَلَا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ، وَتَابَعَهُ الْأَصْحَابُ عَلَى هَذَا، وَفِي «الْمُهَذَّبِ» أَنَّهُ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَهُ لِشَرِّهِ وَقُوَّتِهِ، قَتَلَهُ وَضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْغَانِمِينَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ الْكَامِلُونَ إِذَا أُسِرُوا، فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ صَبْرًا بِضَرْبِ الرَّقَبَةِ، لَا بِتَحْرِيقٍ وَتَغْرِيقٍ، وَلَا يُمَثِّلُ بِهِمْ، أَوْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ، أَوْ يُفَادِيهِمْ بِالرِّجَالِ، أَوْ بِالْمَالِ، أَوْ يَسْتَرِقُّهُمْ، وَيَكُونُ مَالُ الْفِدَاءِ وَرِقَابُهُمْ إِذَا اسْتُرِقُّوا، كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْغَنِيمَةِ، وَلَيْسَ هَذَا التَّخْيِيرُ لِلتَّشَهِّي، بَلْ يَلْزَمُ الْإِمَامُ أَنَّ يَجْتَهِدَ وَيَفْعَلَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ مَا هُوَ الْحَظُّ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهُ الصَّوَابِ فِي الْحَالِ وَتَرَدَّدَ، حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ، وَسَوَاءٌ فِي الِاسْتِرْقَاقِ كَانَ الْأَسِيرُ كِتَابِيًّا أَوْ وَثَنِيًّا، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَحْرُمُ اسْتِرْقَاقُ الْوَثَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَافِرُ مِنَ الْعَرَبِ، أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَى الْجَدِيدِ الْمَشْهُورِ، وَفِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْعَرَبِ، وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ بَعْضِ شَخْصٍ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، فَضَرْبُ الرِّقِّ عَلَى بَعْضِهِ، رِقٌّ كُلُّهُ، وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَرِقُّ شَيْءٌ، وَإِذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ، جَازَ بِالْمَالِ سِلَاحًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَيَجُوزُ بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَرُدُّ مُشْرِكًا بِمُسْلِمٍ، أَوْ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ مُشْرِكَيْنِ بِمُسْلِمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَفْدِيَهُمْ بِأَسْلِحَتِنَا الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ أَسْلِحَتَهُمُ الَّتِي فِي أَيْدِينَا بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُمُ السِّلَاحَ، وَفِي جَوَازِ رَدِّهَا بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَجْهَانِ. فَرْعٌ لَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ الْأَسِيرَ قَبْلَ أَنْ يَرَى الْإِمَامُ رَأْيَهُ فِيهِ، عُزِّرَ

وَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُ وَهُوَ حُرٌّ إِلَى أَنْ يُسْتَرَقَّ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُخْلَى سَبِيلُهُ، وَالْأَمْوَالُ لَا تُرَدُّ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الِاغْتِنَامِ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْأَسْرِ صَبِيٌّ أَوِ امْرَأَةٌ، فَقِيلَ: وَجَبَتِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا بِنَفْسِ الْأَسْرِ، ثُمَّ إِنْ سُبِيَ الصَّبِيُّ وَحْدَهُ، فَهُوَ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلسَّابِي، فَفِيهِ قِيمَةُ عَبْدٍ مُسْلِمٍ، وَإِنْ كَانَ قَاتِلُهُ عَبْدًا، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. فَرْعٌ لَوْ أُسِرَ بَالِغٌ لَهُ زَوْجَةٌ، لَمْ يَنْفَسِخْ عَقْدُ نِكَاحِهِ بِالْأَسْرِ، فَإِنْ فَادَاهُ الْإِمَامُ، أَوْ مَنَّ عَلَيْهِ، اسْتَمَرَّتِ الزَّوْجِيَّةُ، وَإِنِ اسْتَرَقَّهُ، ارْتَفَعَ النِّكَاحُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ أُسِرَ صَبِيٌّ لَهُ زَوْجَةٌ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِنَفْسِ أَسْرِهِ. فَرْعٌ لَوْ أُسِرَ كَافِرٌ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ وَصِبْيَانُهُ، يُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِ دُونَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا أَسْلَمَ الْأَسِيرُ وَهُوَ رَجُلٌ حُرٌّ مُكَلَّفٌ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْإِمَامُ فِيهِ شَيْئًا، عُصِمَ دَمُهُ، وَهَلْ يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ أَسِيرٌ مُحَرَّمُ الْقَتْلِ فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يُرَقُّ، بَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ، أَوْ يَمُنَّ، أَوْ يُفَادِيَ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالتَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا، فَلَا يَزُولُ، فَإِنِ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِمْ عِزٌّ أَوْ عَشِيرَةٌ يُسَلِّمُ بِهَا دِيَتَهُ وَنَفْسَهُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: يَرِقُّ، أَوْ يَجُوزُ إِرْقَاقُهُ، فَأَرَقَّهُ، كَانَ غَنِيمَةً، وَكَذَا لَوْ فَادَاهُ بِمَالٍ، كَانَ غَنِيمَةً، وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَسْرِهِ وَالظَّفَرِ بِهِ، عَصَمَ دَمَهُ وَمَالَهُ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ وَهُوَ مَحْصُورٌ وَقَدْ قَرُبَ الْفَتْحُ، أَوْ أَسْلَمَ فِي حَالِ أَمْنِهِ، وَسَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوِ الْإِسْلَامِ، وَيَعْصِمُ أَيْضًا أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ عَنِ السَّبْيِ، وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لَهُ، وَالْحَمْلُ كَالْمُنْفَصِلِ، فَلَا يَسْتَرِقُّ تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَهَلْ يَعْصِمُ إِسْلَامُ الْجَدِّ وَلَدَ ابْنِهِ

الصَّغِيرَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: نَعَمْ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الِابْنُ مَيِّتًا، عَصَمَ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْمَجْنُونُ مِنْ أَوْلَادِهِ، كَالصَّغِيرِ، فَلَوْ كَانَ بَلَغَ عَاقِلًا، ثُمَّ جُنَّ، عَصَمَهُ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الظَّفَرِ بِهَا، عَصَمَتْ نَفْسَهَا وَمَالَهَا وَأَوْلَادَهَا الصِّغَارَ، وَحَكَى الْفُورَانِيُّ فِي الْأَوْلَادِ قَوْلًا، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ، وَأَمَّا الْأَوْلَادُ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ، فَلَا يَعْصِمُهُمْ إِسْلَامُ الْأَبِ لِاسْتِقْلَالِهِمْ بِالْإِسْلَامِ، وَهَلْ يَعْصِمُ إِسْلَامُهُ قَبْلَ الْأَسْرِ زَوْجَتَهُ عَنِ الِاسْتِرْقَاقِ؟ نُصَّ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا، وَنُصَّ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ أَعْتَقَ كَافِرًا، فَالْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ، فَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا تُسْتَرَقُّ زَوْجَتُهُ وَلَا عَتِيقُهُ لِئَلَّا يُبْطَلَ حَقُّهُ، كَمَا لَا يُغْنَمُ مَالُهُ، وَالثَّانِي: يُسْتَرَقَّانِ لِاسْتِقْلَالِهِمَا، وَالْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَرْتَفِعُ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي اسْتِرْقَاقِ حَرْبِيَّةٍ نَكَحَهَا مُسْلِمٌ وَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَعْصِمُهَا وَكَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ إِسْلَامِهِ، فَفِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، فَلَا تُمْلَكُ دُونَهُ كَمَا لَا تُبَاعُ دُونَهُ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهَا حَرْبِيَّةٌ، فَأَشْبَهَتْ غَيْرَهَا، وَإِذَا اسْتُرِقَّتْ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، انْقَطَعَ النِّكَاحُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَمِلْكُ الزَّوْجِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهَا صَارَتْ أَمَةً كَافِرَةً، وَلَا يَجُوزُ إِمْسَاكُ أَمَةٍ كَافِرَةٍ لِلنِّكَاحِ، وَقِيلَ: يَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ وَإِنِ اسْتُرِقَّتْ، حَكَاهُ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: انْقِطَاعُ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: يُتَوَقَّفُ مُدَّةَ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أُعْتِقَتْ، وَأَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ، وَكَذَا لَوْ أُعْتِقَتْ وَلَمْ تُسْلِمْ؛ لِأَنَّ إِمْسَاكَ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ لِلنِّكَاحِ جَائِزٌ، فَلَوْ أَسْلَمَتْ وَلَمْ تُعْتَقْ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، فَلَهُ إِمْسَاكُهَا، وَإِلَّا فَفِي جَوَازِ إِمْسَاكِهَا وَجْهَانِ، وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَمَا اسْتُرِقَّتْ زَوْجَتُهُ الْحَامِلُ، حُكِمَ بِإِسْلَامِ الْحَمْلِ، وَلَمْ

يَبْطُلْ رِقُّهُ، وَلَوْ أَسْلَمَتْ حَامِلٌ تَحْتَ حَرْبِيٍّ، لَمْ تُسْتَرَقَّ هِيَ وَلَا وَلَدُهَا؛ لِأَنَّهُمَا مُسْلِمَانِ. فَرْعٌ لَوِ اسْتَأْجَرَ مُسْلِمٌ دَارَ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، أَوِ اسْتَأْجَرَ حَرْبِيًّا رَقِيقًا، أَوْ حُرًّا، فَاسْتُرِقَّ، لَمْ تَنْقَطِعِ الْإِجَارَةُ، بَلْ يَبْقَى لِلْمُسْتَأْجِرِ اسْتِحْقَاقُ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَمْوَالِ مَمْلُوكَةٌ مِلْكًا تَامًّا مَضْمُونَةٌ، كَأَعْيَانِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، فَإِنَّهَا تُسْتَبَاحُ، وَلَا تُمَلَّكُ مِلْكًا تَامًّا، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ بِالْيَدِ، وَقِيلَ: فِي انْقِطَاعِ الْإِجَارَةِ خِلَافٌ كَانْقِطَاعِ النِّكَاحِ. فَرْعٌ يَجُوزُ سَبْيُ مَنْكُوحَةِ الذِّمِّيِّ إِذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً، وَيَنْقَطِعُ بِهِ نِكَاحُهُ، وَأَمَّا سَبْيُ عَتِيقِهِ وَاسْتِرْقَاقُهُ فَيُبْنَى عَلَى اسْتِرْقَاقِ عَتِيقِ الْمُسْلِمِ، إِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوِ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، اسْتُرِقَّ، فَعَتِيقُهُ أَوْلَى، وَلَوْ أَعْتَقَ ذِمِّيٌّ عَبْدًا، ثُمَّ نَقَضَ السَّيِّدُ الْعَهْدَ وَصَارَ حَرْبِيًّا، فَالصَّحِيحُ أَنَّ وَلَاءَهُ عَلَى عَتِيقِهِ لَا يُبْطَلُ، حَتَّى لَوْ عَتَقَ كَانَ وَلَاؤُهُ بَاقِيًا عَلَيْهِ، وَلِمُعْتِقِهِ أَيْضًا الْوَلَاءُ عَلَى عَتِيقِهِ، وَلَوْ مَلَكَ عَتِيقَهُ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَلَاءُ عَلَى الْآخَرِ، وَفِي وَجْهٍ يَبْطُلُ بِاسْتِرْقَاقِهِ وَلَاؤُهُ عَلَى عَتِيقِهِ، كَمَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ عَلَى عَبْدِهِ. فَرْعٌ إِذَا سُبِيَ الزَّوْجَانِ مَعًا، أَوْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، صَغِيرَيْنِ كَانَا أَوْ كَبِيرَيْنِ، وَاسْتُرِقَّ الزَّوْجُ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)

وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ» وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ يُزِيلُ مِلْكَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَعِصْمَةُ النِّكَاحِ أَوْلَى بِالزَّوَالِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ رَقِيقَيْنِ، فَغُنِمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا، فَفِي انْقِطَاعِ النِّكَاحِ وَجْهَانِ، سَوَاءٌ أَسْلَمَا أَمْ لَا، أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْقَطِعُ إِذَا لَمْ يَحْدُثْ رِقٌّ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ، وَالثَّانِي: يَنْقَطِعُ، لِحُدُوثِ السَّبْيِ، وَلِهَذَا لَوْ سُبِيَتْ مُسْتَوْلَدَةٌ، صَارَتْ قِنَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْأَوَّلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ عَلَى حَرْبِيٍّ دَيْنٌ، فَاسْتُرِقَّ، لَمْ يَسْقُطِ الدَّيْنُ، فَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِلسَّابِي، فَفِي سُقُوطِهِ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَمَلَكَهُ، وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ، قَضَى مِنَ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ اسْتِرْقَاقِهِ، وَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ عَلَى الْغَنِيمَةِ، كَمَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُ بِالرِّقِّ، كَمَا أَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمُرْتَدِّ يُقْضَى مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ أَزَلْنَا مِلْكَهُ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ كَالْمَوْتِ وَالْحَجْرِ، وَكِلَاهُمَا يُعَلِّقُ الدَّيْنَ بِالْمَالِ، فَإِنْ غُنِمَ الْمَالُ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِ، مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ، وَلَمْ يُقْضَ مِنْهُ الدَّيْنُ، كَمَا لَوِ انْتَقَلَ مِلْكُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَإِنْ غُنِمَ مَعَ اسْتِرْقَاقِهِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُ الدَّيْنُ، كَمَا يُقَدَّمُ فِي التَّرِكَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: تُقَدَّمُ الْغَنِيمَةُ، لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ، كَمَا يُقَدَّمُ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَعِيَّةِ أَنْ يَقَعَ الِاغْتِنَامُ مَعَ الْأَسْرِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يُمْلَكُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، وَالرِّقُّ لَا يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْأَسْرِ فِي

الرِّجَالِ الْكَامِلِينَ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي النِّسْوَةِ، وَفِيمَا إِذَا وَقَعَ الِاغْتِنَامُ مَعَ إِرْقَاقِ الْإِمَامِ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدُ مَالٌ يَقْضِي مِنْهُ الدَّيْنَ، فَهُوَ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يُعْتَقَ، وَهَلْ يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ بِالرِّقِّ؟ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحُلُولِ بِالْإِفْلَاسِ، وَأَوْلَى بِالْحُلُولِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَوْتَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ، وَيَقْطَعُ النِّكَاحَ، هَذَا إِنْ كَانَ الدَّيْنُ لِمُسْلِمٍ، فَإِنْ كَانَ لِذِمِّيٍّ، فَمِثْلُهُ أَجَابَ الْإِمَامُ، وَقَالَ: دَيْنُ الذِّمِّيِّ مُحْتَرَمٌ، كَعَيْنِ مَالِهِ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ، وَاسْتُرِقَّ الْمَدِينُ، فَالْمَحْكِيُّ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ: سُقُوطُ الدَّيْنِ وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، هَذَا إِذَا اسْتُرِقَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، أَمَّا إِذَا اسْتُرِقَّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَدِينِ، بَلْ هُوَ كَوَدَائِعِ الْحَرْبِيِّ الْمَسْبِي، هَذَا لَفْظُهُ فِي «الْوَسِيطِ» وَلَمْ يَنُصَّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى حَالِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ هَذَا الْجَوَابَ فِيمَا إِذَا اسْتَقْرَضَ مُسْلِمٌ مِنْ حَرْبِيٍّ، أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا وَالْتَزَمَ الثَّمَنَ ثُمَّ اسْتُرِقَّ الْمُسْتَحِقُّ، قَالَ: لَا يَسْقُطُ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَرْبِيٍّ عَلَى حَرْبِيٍّ دَيْنٌ، وَاسْتُرِقَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، سَقَطَ لِزَوَالِ مِلْكِهِ، قَالَ: وَلَوْ قَهَرَ الْمَدِينُ رَبَّ الدَّيْنِ، سَقَطَ؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ حَرْبٍ، حَتَّى إِذَا قَهَرَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ يَصِيرُ حُرًّا وَيَصِيرُ السَّيِّدُ عَبْدًا لَهُ، وَلَوْ قَهَرَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا، مَلَكَتْهُ، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ دَيْنُ الْمُسْتَرَقِّ عَلَى مُسْلِمٍ، طُولِبَ بِهِ، كَمَا يُطَالَبُ بِوَدَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَرْبِيٍّ، سَقَطَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ زَالَ مِلْكُهُ، وَالْحَرْبِيُّ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حَتَّى يُطَالَبَ، وَلَوِ اقْتَرَضَ مِنْ حَرْبِيٍّ، أَوِ الْتَزَمَ بِالشِّرَاءِ ثَمَنًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ قَبِلَا الْجِزْيَةَ، أَوِ الْأَمَانَ، فَالِاسْتِحْقَاقُ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَا يَبْقَى مَهْرُ الزَّوْجَةِ إِذَا أَسْلَمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ خَمْرًا وَنَحْوَهُ، وَلَوْ سَبَقَ الْمُسْتَقْرِضُ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْأَمَانِ، فَالنَّصُّ أَنَّ الدَّيْنَ يَسْتَمِرُّ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَا، وَنَصَّ أَنَّهُ لَوْ مَاتَتْ زَوْجَةُ حَرْبِيٍّ، فَجَاءَنَا مُسْلِمًا، أَوْ

مُسْتَأْمَنًا، فَجَاءَ وَرَثَتُهَا يَطْلُبُونَ مَهْرَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ، وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: فِيهِمَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ، وَعَلَى هَذَا تُبْتَنَى قَوَاعِدُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُمَكَّنَ الْحَرْبِيُّ مِنْ مُطَالَبَةِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَحَمْلُ النَّصِّ الثَّانِي عَلَى مَنْ أَصْدَقَهَا خَمْرًا، وَقَبَضَتْهُ فِي الْكُفْرِ، وَلَوْ أَتْلَفَ حَرْبِيٌّ مَالًا عَلَى حَرْبِيٍّ، أَوْ غَصَبَهَ، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَسْلَمَ الْمُتْلِفُ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يُطَالِبُهُ بِالضَّمَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالْإِتْلَافُ لَيْسَ عَقْدًا يُسْتَدَامُ، وَلِأَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ قَهَرَ حَرْبِيًّا عَلَى مَالِهِ مَلَكَهُ، وَالْإِتْلَافُ نَوْعٌ مِنَ الْقَهْرِ، وَلِأَنَّ إِتْلَافَ مَالِ الْحَرْبِيِّ لَا يَزِيدُ عَلَى إِتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ، وَالثَّانِي: يُطَالَبُ، لِأَنَّهُ لَازِمٌ عِنْدَهُمْ، فَكَأَنَّهُمْ تَرَاضَوْا عَلَيْهِ، وَيَزِيدُ عَلَى هَذَا مَا نُقِلَ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ جَنَى عَلَى مُسْلِمٍ، فَاسْتُرِقَّ، فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي ذِمَّتِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا إِخْلَالٌ مِنْ نَاقِلٍ، أَوْ هَفْوَةٌ مِنَ الْقَاضِي. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا سُبِيَتِ امْرَأَةٌ وَوَلَدُهَا الصَّغِيرُ، لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي الْقِسْمَةِ، بَلْ يُقَوِّمُهُمَا، فَإِنْ وَافَقَتْ قِيمَتُهُمَا نَصِيبَ أَحَدِ الْغَانِمِينَ، جَعَلَهُمَا لَهُ، وَإِلَّا اشْتَرَكَ فِيهِمَا اثْنَانِ، أَوْ بَاعَهُمَا، وَجَعَلَ ثَمَنَهُمَا فِي الْمَغْنَمِ، فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْقِسْمَةِ، فَفِي صِحَّتِهَا قَوْلَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَعَنْ صَاحِبِ «الْحَاوِي» أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا يُقَرَّانِ عَلَى التَّفْرِيقِ، بَلْ يُقَالُ لَهُمَا: إِنْ تَرَاضَيْتُمَا بِبَيْعِ الْآخَرِ لِيَجْتَمِعَا فِي الْمِلْكِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: يُقَالُ لِلْبَائِعِ: يَتَطَوَّعُ بِتَسْلِيمِ الْآخَرِ، أَوْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ، فَإِنْ تَطَوَّعَ، فَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْقَبُولِ، فُسِخَ الْبَيْعُ، وَلَوْ رَضِيَتِ الْأُمُّ بِالتَّفْرِيقِ، لَمْ يَرْتَفِعِ التَّحْرِيمُ عَلَى الصَّحِيحِ رِعَايَةً لِحَقِّ الْوَلَدِ، وَأُمُّ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأُمِّ كَالْأُمِّ، فَلَوْ كَانَ لَهُ أُمٌّ وَجَدَّةٌ، فَبِيعَ مَعَ الْأُمِّ، فَلَا تَحْرِيمَ، وَإِنْ بِيعَ مَعَ الْجَدَّةِ، وَقُطِعَ عَنِ الْأُمِّ، حَرُمَ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَالْأَبُ كَالْأُمِّ عَلَى

الْأَظْهَرِ أَوِ الْأَصَحِّ، وَفِي الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْجُهٌ، ثَالِثُهَا: يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْدَادِ دُونَ الْجَدَّاتِ، لِأَنَّهُنَّ أَصْلَحُ لِلتَّرْبِيَةِ، وَلَا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَحَارِمِ، كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَغَيْرِهِمَا، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: هُمْ كَالْأَبِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ، حَرُمَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبِ، وَيَجُوزُ التَّفْرِيقُ لِلضَّرُورَةِ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ حُرَّةً، فَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَلَدِ، وَلَوْ كَانَتِ الْأُمُّ لِوَاحِدٍ وَالْوَلَدُ لِآخَرَ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيْعُ مِلْكِهِ مُنْفَرِدًا، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ أَنَّ التَّحْرِيمَ هَلْ يَنْتَهِي لِسِنِّ التَّمْيِيزِ أَمْ يَبْقَى إِلَى الْبُلُوغِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي إِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ إِنِ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى إِتْلَافِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ، كَتَخْرِيبِ بِنَاءٍ، وَقَطْعِ شَجَرٍ، لِيَكُفُّوا عَنِ الْقِتَالِ أَوْ لِيَظْفَرُوا بِهِمْ، فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَاجُوا، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِمْ حُصُولُ ذَلِكَ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِينَ، جَازَ إِتْلَافُهُ مُغَايَظَةً لَهُمْ وَتَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ حُصُولُهُ، كُرِهَ الْإِتْلَافُ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَصَحِّ، هَذَا إِذَا دَخَلَ الْإِمَامُ دَارَهُمْ مُغَيِّرًا وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِقْرَارُ فِيهَا، فَأَمَّا إِذَا فَتَحَهَا قَهْرًا، فَيَحْرُمُ التَّخْرِيبُ وَالْقَطْعُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ غَنِيمَةً، وَكَذَا لَوْ فَتَحَهَا صُلْحًا عَلَى أَنْ تَكُونَ لَنَا، أَوْ لَهُمْ، وَلَوْ غَنِمَا أَمْوَالَهُمْ وَانْصَرَفْنَا، وَخِفْنَا الِاسْتِرْدَادَ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَيَوَانٍ، جَازَ إِتْلَافُهَا، لِئَلَّا يَأْخُذُوهَا فَيَتَقَوَّوْا بِهَا، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ، فَإِنْ قَاتَلُونَا عَلَيْهِ وَاحْتَجْنَا فِي الْقِتَالِ إِلَى عَقْرِهِ لِدَفْعِهِمْ أَوْ لِلظَّفَرِ بِهِمْ، جَازَ، وَإِنْ غَنِمْنَا خَيْلَهُمْ وَمَاشِيَتَهُمْ، وَلَحِقُونَا وَخِفْنَا الِاسْتِرْدَادَ، أَوْ ضَعُفَ بَعْضُهَا، وَتَعَذَّرَ سَوْقُهَا، لَمْ يَجُزْ عَقْرُهَا وَإِتْلَافُهَا، لَكِنْ تُذْبَحُ لِلْأَكْلِ، وَإِنْ خِفْنَا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْخَيْلَ، وَيُقَاتِلُونَنَا عَلَيْهَا، وَيَشْتَدُّ الْأَمْرُ، جَازَ إِتْلَافُهَا، وَلَوْ لَحِقُونَا وَمَعَنَا نِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ، وَخِفْنَا اسْتِرْدَادَهُمْ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ قَطْعًا.

فَرْعٌ لَوْ ظَفَرْنَا بِكُتُبٍ لَهُمْ مِمَّا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَطِبٍّ وَشِعْرٍ وَلُغَةٍ وَحِسَابٍ وَتَوَارِيخَ، فَلَهَا حُكْمُ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَتُبَاعُ أَوْ تُقَسَّمُ، وَمَا حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَكُتُبِ الْكُفْرِ وَالْهَجْوِ وَالْفُحْشِ الْمَحْضِ، لَمْ يُتْرَكْ بِحَالِهِ بَلْ إِنْ كَانَ فِي رَقٍّ أَوْ كَاغِدٍ ثَخِينٍ وَأَمْكَنَ غَسْلُهُ، غُسِلَ، ثُمَّ هُوَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، أُبْطِلَتْ مَنْفَعَتُهُ بِتَمْزِيقٍ، ثُمَّ الْمُمَزَّقُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهَا تُمَزَّقُ أَوْ تُحْرَقُ، وَضَعَّفُوا الْإِحْرَاقَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيعِ، لِأَنَّ لِلْمُمَزَّقِ قِيمَةً وَإِنْ قَلَّتْ، وَكُتُبُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِمَّا يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، لِأَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا، وَإِنَّمَا نُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ كَمَا نُقِرُّ الْخَمْرَ. فَرْعٌ إِذَا دَخَلْنَا دَارَهُمْ غُزَاةً، قَتَلْنَا الْخَنَازِيرَ، وَأَرَقْنَا الْخُمُورَ، وَتُحْمَلُ ظُرُوفُهَا إِلَّا أَنْ لَا تَزِيدَ قِيمَتُهَا عَلَى مُؤْنَةِ حَمْلِهَا، فَنُتْلِفُهَا، وَإِنْ وَقَعَ كَلْبٌ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلِاصْطِيَادِ أَوْ لِلْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ، فَحَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِعِلْمِهِ بِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الْكَلْبَ مُنْتَفَعٌ بِهِ، فَلْيَكُنْ حَقُّ الْيَدِ فِيهِ لِجَمِيعِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَهُ كَلْبٌ لَا يَسْتَبِدُّ بِهِ بَعْضُ الْوَرَثَةِ، وَالْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَهُ بَعْضُ الْغَانِمِينَ، أَوْ أَهْلُ الْخُمُسِ وَلَمْ يُنَازِعْهُ غَيْرُهُ، سُلِّمَ إِلَيْهِ، وَإِنْ تَنَازَعُوا، فَإِنْ وَجَدْنَا كِلَابًا وَأَمْكَنَتِ الْقِسْمَةُ عَدَدًا، قَسَّمَ، وَإِلَّا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَقَدْ سَبَقَ فِي الْوَصِيَّةِ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى لَهَا قِيمَةً، وَتُعْتَبَرُ مَنَافِعُهَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِهِ هُنَا. الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِي الِاغْتِنَامِ قَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ أَنَّ الْغَنِيمَةَ: الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنَ

الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ وَإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ، وَالْفَيْءُ: مَا حَصَلَ مِنْهُمْ بِلَا قِتَالٍ، وَإِذَا دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ شِرْذِمَةٌ دَارَ الْحَرْبِ مُسْتَخْفِينَ، وَأَخَذُوا مَالًا عَلَى صُورَةِ السَّرِقَةِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ، وَادَّعَى الْإِمَامُ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ مِلْكُ مَنْ أَخَذَهُ خَاصَّةً، وَالْأَصَحُّ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ غَنِيمَةٌ مُخَمَّسَةٌ، وَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ غَزَتْ طَائِفَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ مُتَلَصِّصِينَ وَأَخَذَتْ مَالًا، فَهُوَ غَنِيمَةٌ مُخَمَّسَةٌ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، وَأَخَذَ مَالَ حَرْبِيٍّ بِقِتَالٍ، أُخِذَ مِنْهُ الْخُمُسُ، وَالْبَاقِي لَهُ، وَإِنْ أَخَذَهُ عَلَى جِهَةِ السَّوْمِ، ثُمَّ جَحَدَهُ، أَوْ هَرَبَ، فَهُوَ لَهُ، وَلَا يُخَمَّسُ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ قَرِيبَةٌ مِنَ السَّرِقَةِ، وَالْمَأْخُوذُ عَلَى صُورَةِ اخْتِلَاسٍ كَالْمَأْخُوذِ عَلَى صُورَةِ السَّرِقَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: هُوَ غَنِيمَةٌ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ فَيْءٌ، لِأَنَّهُ بِغَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ، وَلْيَكُنِ الْوَجْهُ الْقَائِلُ بِاخْتِصَاصِ السَّارِقِ وَالْمُخْتَلِسِ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ نَفَرٌ يَسِيرٌ دَارَ الْحَرْبِ، وَأَخَذُوا، فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ بَعْضُ الْجَيْشِ بِسَرِقَةٍ أَوِ اخْتِلَاسٍ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ غُلُولًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الرُّويَانِيَّ نَقَلَ أَنَّ مَا يَهْدِيهِ الْكَافِرُ إِلَى الْإِمَامِ، أَوْ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، لَا يَمْلِكُهُ الْمُهْدَى إِلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَصَّ الْمُهْدَى إِلَيْهِ بِالْهَدِيَّةِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَخْتَصَّ سَارِقٌ بِمَسْرُوقٍ. فَرْعٌ الْمَالُ الضَّائِعُ الَّذِي يُؤْخَذُ فِي دَارِهِمْ عَلَى هَيْئَةِ اللَّقِيطَةِ، إِنْ كَانَ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ لِلْكُفَّارِ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ غَنِيمَةٌ، لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ، وَقَالَ الْإِمَامُ والْغَزَالِيُّ: هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْرُوقَ لِمَنْ أَخَذَهُ، فَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، بِأَنْ كَانَ هُنَاكَ مُسْلِمُونَ، أَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ضَالَّةَ بَعْضِ الْجَيْشِ، وَجَبَ تَعْرِيفُهُ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَعُودُ خِلَافُ الْجُمْهُورِ وَالْإِمَامِ فِي أَنَّهُ غَنِيمَةٌ أَمْ لِلْآخِذِ؟ وَأَمَّا صِفَةُ التَّعْرِيفِ،

فصل

فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يُعَرِّفُهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ: يَكْفِي بُلُوغُ التَّعْرِيفِ إِلَى الْأَجْنَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْلِمٌ سِوَاهُمْ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى احْتِمَالِ مُرُورِ التُّجَّارِ، وَفِي الْمُهَذَّبِ وَالتَّهْذِيبِ يُعَرِّفُهُ سَنَةً، وَلَفْظُ التَّهْذِيبِ: أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ ضَالَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ لِحَرْبِيٍّ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ، فَالْخُمُسُ لِأَهْلِهِ، وَالْبَاقِي لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، وَلَوْ وَجَدَ ضَالَّةً لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَخْتَصَّ هُوَ بِهَا، بَلْ تَكُونُ فَيْئًا، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ صَبِيٌّ، أَوِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ بِلَادَنَا، فَأَخَذَهُ رَجُلٌ، يَكُونُ فَيْئًا، وَإِنْ دَخَلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَخَذَهُ مُسْلِمٌ، كَانَ غَنِيمَةً، لِأَنَّ لِأَخْذِهِ مُؤْنَةً، وَلِلْإِمَامِ الْخِيَارُ فِيهِ، فَإِنِ اسْتَرَقَّهُ، كَانَ الْخُمُسُ لِأَهْلِهِ، وَالْبَاقِي لِمَنْ أَخَذَهُ بِخِلَافِ الضَّالَّةِ، لِأَنَّهَا مَالٌ لِلْكُفَّارِ حَصَلَ فِي أَيْدِينَا بِلَا قِتَالٍ. فَرْعٌ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي لَمْ يَمْلِكْهَا أَحَدٌ، كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْحَجَرِ وَالصَّيْدِ الْبَرِّيِّ وَالْبَحْرِيِّ، مِنْ أَخْذِهَا، مَلَكَهَا كَدَارِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَصْنُوعًا أَوْ صَيْدًا مُقَرَّطًا أَوْ مَوْسُومًا، فَلَا يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَهُ، يَعْنِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَجَرًا مَصْنُوعًا بِنَقْرٍ أَوْ نَقْشٍ، أَوْ مَنْحُوتًا، وَالْمُقَرَّطُ: فِي أُذُنِهِ قُرْطٌ، وَيُرْوَى مُقْرَطَقٌ، وَهُوَ الَّذِي جُزَّ صُوفُهُ، وَجُعِلَ عَلَى هَيْئَةِ الْقُرْطَقِ، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ آثَارٌ لِلْمِلْكِ وَالدَّارُ لِلْكُفَّارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ، فَتَكُونُ غَنِيمَةً، فَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهَا لِمُسْلِمٍ، فَهِيَ كَسَائِرِ الضَّوَالِّ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا كَمَا سَبَقَ. فَصْلٌ لِلْغَنِيمَةِ أَحْكَامٌ، أَحَدُهَا: يَجُوزُ التَّبَسُّطُ بِتَنَاوُلِ أَطْعِمَتِهَا، وَبِعَلَفِ الدَّوَابِّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِلَا عِوَضٍ، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ جِنْسِ الْمَأْخُوذِ، وَالْمَنْفَعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَالْأَخْذِ وَمَكَانِ الْأَخْذِ، أَمَّا جِنْسُهُ، فَهُوَ الْقُوتُ وَمَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ، وَاللَّحْمُ وَالشَّحْمُ وَكُلُّ طَعَامٍ يُعْتَادُ أَكْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَلِعَلَفِ

الدَّوَابِّ التِّبْنُ وَالشَّعِيرُ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِيمَا لَيْسَ بِقُوتٍ، وَلَكِنْ يُؤْكَلُ غَالِبًا، كَالْفَوَاكِهِ، وَجْهَيْنِ، وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِجَوَازِ التَّبَسُّطِ فِي الْجَمِيعِ، وَأَمَّا الْفَانِيدُ وَالسُّكَّرُ وَالْأَدْوِيَةُ الَّتِي تَنْدُرُ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، فَفِيهَا أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تُبَاحُ لِنَدُورِ الْحَاجَةِ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا مَرِيضٌ مِنْهُمْ، أَخَذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ بِقِيمَتِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يُرَاجَعُ أَمِيرُ الْجَيْشِ فِيهِ، وَالثَّانِي: تُبَاحُ لِلْحَاجَةِ بِلَا عِوَضٍ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا لَا يُؤْكَلُ إِلَّا تَدَاوِيًا، يُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَمَا يَكُونُ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِهِ، لَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُعْتَبَرَةُ، فَمَنْفَعَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْعَلَفِ، وَفِي جَوَازِ أَخْذِ الشَّحْمِ وَالدُّهْنِ لِتَوْقِيحِ الدَّوَابِّ، وَهُوَ مَسْحُهَا بِالْمُذَابِ، وَهُوَ الْمَغْلِيُّ وَلِجَرَبِهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، كَعَلَفِهَا، وَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الْمَنْعُ، كَالْمُدَاوَاةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْإِدْهَانُ بِهَا، وَلَا يَجُوزَ إِطْعَامُ الْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ مِنْهَا بِخِلَافِ الدَّوَابِّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ. وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا، كَلُبْسِ ثَوْبٍ وَرُكُوبِ دَابَّةٍ، فَلَوْ خَالَفَ، لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ، كَمَا تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ إِذَا أَتْلَفَ بَعْضَ الْأَعْيَانِ، فَإِنِ احْتَاجَ لِبَرَدٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: يَسْتَأْذِنُ الْإِمَامَ وَيُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِي لُبْسِهِ بِالْأُجْرَةِ مُدَّةَ الْحَاجَّةِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ السِّلَاحِ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ فِي الْقِتَالِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ، رَدَّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِلَحْمِهِ، كَتَنَاوُلِ الْأَطْعِمَةِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، لِنَدُورِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ قَالَ الْجَمَاهِيرُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْغَنَمِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ، وَأَشَارَ

الْإِمَامُ إِلَى تَخْصِيصِ الذَّبْحِ بِالْغَنَمِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ مَا يُذْبَحُ يَجِبُ رَدُّ جِلْدِهِ إِلَى الْمَغْنَمِ، إِلَّا مَا يُؤْكَلُ مَعَ اللَّحْمِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الذَّابِحِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ جِلْدِهِ سِقَاءً أَوْ حِذَاءً أَوْ شِرَاكًا، فَإِنْ فَعَلَ، وَجَبَ رَدُّ الْمَصْنُوعِ كَذَلِكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الصَّنْعَةِ، بَلْ إِنْ نَقَصَ لَزِمَهُ الْأَرْشُ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ لَزِمَهُ الْأُجْرَةُ وَمَتَى ذَبَحَ مَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ، هَلْ تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ لِنَدُورِ الْحَاجَةِ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ، كَالْأَطْعِمَةِ، وَدَعْوَى النُّدُورِ مَمْنُوعَةٌ. أَمَّا الْأَخْذُ وَقَدْرُ الْمَأْخُوذِ، فَيَجُوزُ أَخْذُ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَا يُغْنِيهِ عَنْهُمَا، هَلْ لَهُ الْأَخْذُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، لِاسْتِغْنَائِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ، وَكُلُّ مَنْ أَخَذَ فَلْيَأْخُذْ كِفَايَتَهُ، وَلَا بَأْسَ بِاخْتِلَافِ قَدْرِ مَا يَأْخُذُونَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَهُمُ التَّزَوُّدُ لِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَلَوْ أَكَلَ فَوْقَ حَاجَتِهِ، لَزِمَهُ قِيمَتُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ دَابَّتَانِ فَأَكْثَرَ، فَلَهُ أَخْذُ عَلَفِهِنَّ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَأْخُذُ إِلَّا عَلَفَ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَا يُسْهَمُ إِلَّا لِفَرَسٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ أَخَذَ غَانِمٌ فَوْقَ حَاجَتِهِ، وَضَيَّفَ بِهِ غَانِمًا أَوْ غَانِمِينَ، جَازَ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ تَوَلَّى إِصْلَاحَ الطَّعَامِ لَهُمْ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّفَ بِهِ غَيْرَ الْغَانِمِينَ، فَإِنْ فَعَلَ، لَزِمَ الْآكِلَ الضَّمَانُ، وَيَكُونُ الْمُضَيِّفُ كَمَنْ قَدَّمَ طَعَامًا مَغْصُوبًا إِلَى ضَيْفٍ فَأَكَلَهُ، فَيُنْظَرُ أَعَلِمَ الْحَالَ أَمْ جَهِلَهُ، وَالْحُكْمُ مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْغَصْبَ، وَلَوْ أَتْلَفَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ مِنْ طَعَامِ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا، كَانَ كَإِتْلَافِهِ مَالًا آخَرَ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْقِيمَةِ إِلَى الْمَغْنَمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ فِي الْوَجْهِ الْمُسَوَّغِ شَرْعًا، وَمَا يَأْخُذُهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالْأَخْذِ، لَكِنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَخْذُ، كَالضَّيْفِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ. وَلَوْ لَحِقَ الْجَيْشَ مَدَدٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَحِيَازَةِ الْمَالِ، هَلْ لَهُمْ

التَّبَسُّطُ فِي الْأَطْعِمَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ مَظِنَّةُ الْحَاجَّةِ وَعِزَّةُ الطَّعَامِ هُنَاكَ، وَمَنْ دَخَلَ مِنَ الْغَانِمِينَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَقَدْ فَضَلَ مِمَّا أَخَذَهُ شَيْءٌ، فَفِي وُجُوبِ رَدِّهِ إِلَى الْمَغْنَمِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: يَجِبُ، لِزَوَالِ الْحَاجَةِ وَالْمَأْخُوذُ مُتَعَلِّقُ حَقِّ الْجَمِيعِ، وَالثَّانِي: لَا، لِإِبَاحَةِ الْأَخْذِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ قَلِيلًا لَا يُبَالَى بِهِ، كَكِسَرِ الْخُبْزِ وَبَقِيَّةِ التِّبْنِ فِي الْمَخَالِي، لَمْ يَرُدَّ، وَإِلَّا فَيَرُدُّ، وَمَتَى وَجَبَ الرَّدُّ، فَإِنْ لَمْ تُقَسَّمِ الْغَنِيمَةُ، رَدَّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَإِنْ قُسِّمَتْ، رَدَّهُ إِلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ كَمَا قُسِّمَتِ الْغَنِيمَةُ، فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِنَزَارَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ وَلِتَفَرُّقِ الْغَانِمِينَ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُجْعَلُ فِي سَهْمِ الْمَصَالِحِ، أَمَّا مَكَانُ الْأَخْذِ وَالتَّبَسُّطِ، فَهُوَ دَارُ الْحَرْبِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى عُمْرَانِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَمَكَّنُوا مِنَ الشِّرَاءِ، أَمْسَكُوا، وَلَوْ خَرَجُوا عَنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَنْتَهُوا إِلَى عُمْرَانِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: جَوَازُ التَّبَسُّطِ، لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِأَنَّ مَظِنَّةَ الْحَاجَةِ دَارُ الْحَرْبِ فَيُنَاطُ الْحُكْمُ بِهِ وَعَكْسُهُ، وَلَوْ وَجَدُوا سُوقًا فِي دَارِ الْحَرْبِ: وَتَمَكَّنُوا مِنَ الشِّرَاءِ، فَقَدْ طَرَدَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ لِانْعِكَاسِ الدَّلِيلَيْنِ، وَقَطَعَ الْإِمَامُ بِالْجَوَازِ وَقَالَ: لَمْ أَرَ أَحَدًا مَنَعَ التَّبَسُّطَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَنَزَّلُوا دَارَ الْحَرْبِ فِي إِبَاحَةِ الطَّعَامِ مَنْزِلَةَ السَّفَرِ فِي الرُّخَصِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ ثَبَتَتْ لِمَشَقَّةِ السَّفَرِ، فَالْمُرَفَّهُ الَّذِي لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ يُشَارِكُ فِيهَا، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ مَعَنَا مُهَادَنَةٌ، وَكَانُوا لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ مُبَايَعَةِ مَنْ يَطْرُقُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْكَفِّ عَنْ أَطْعِمَةِ الْمَغْنَمِ فِي دَارِهِمْ، لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُضَافَةً إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ بِمَثَابَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ. فَرْعٌ لَيْسَ لِلْغَانِمِ أَنْ يُقْرِضَ مَا أَخَذَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ لِغَيْر الْغَانِمِينَ

وَلَا أَنْ يَبِيعَهُ، فَإِنْ فَعَلَ، لَزِمَ الْآخِذَ رَدُّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، فَلَوْ أَقْرَضَهُ غَانِمًا آخَرَ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: أَنَّ لِلْمُقْرِضِ مُطَالَبَةَ الْمُقْتَرِضِ بِعَيْنِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، لَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَهُ صَارَ أَحَقَّ بِهِ، وَلَمْ تَزُلْ يَدُهُ عَنْهُ إِلَّا بِبَدَلٍ. وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ: أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ، لِأَنَّ الْآخِذَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِهِ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ بِنَفْسِهِ، وَالْوَجْهَانِ مُتَّفِقَانِ أَنَّهُ لَيْسَ قَرْضًا مُحَقَّقًا، لِأَنَّ الْآخِذَ لَا يَمْلِكُ الْمَأْخُوذَ حَتَّى يَمْلِكُهُ لِغَيْرِهِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ رَدَّ عَلَيْهِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ، لَمْ يَأْخُذْهُ الْمُقْرِضُ، لَأَنَّ غَيْرَ الْمَمْلُوكِ لَا يُقَابَلُ بِالْمَمْلُوكِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَغْنَمِ طَعَامٌ آخَرُ، سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَإِذَا رُدَّ مِنَ الْمَغْنَمِ، الْأَوَّلُ أَحَقُّ بِهِ لِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ، انْقَطَعَتْ حُقُوقُ الْغَانِمِينَ عَنْ أَطْعِمَةِ الْمَغْنَمِ، فَيُرَدُّ الْمُسْتَقْرَضُ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَقِيَ عَيْنُ الْمُسْتَقْرَضِ فِي يَدِ الْمُقْتَرِضِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ طَعَامِ الْمَغْنَمِ هَلْ يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، رَدَّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَإِلَّا، فَإِنْ جَعَلْنَا لِلْقَرْضِ اعْتِبَارًا، رَدَّهُ إِلَى الْمُقْرِضِ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. فَرْعٌ لَوْ بَاعَ غَانِمٌ مَا أَخَذَهُ لِغَانِمٍ آخَرَ، فَهَذَا إِبْدَالُ مُبَاحٍ بِمُبَاحٍ، وَهُوَ كَإِبْدَالِ الضِّيفَانِ لِقِمَّةً بِلُقْمَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْلَى بِمَا صَارَ إِلَيْهِ، وَلَوْ تَبَايَعَا صَاعًا بِصَاعَيْنِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رِبًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مُحَقَّقَةٍ. فَرْعٌ مُقْتَضَى مَا تَكَرَّرَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مُبَاحٌ لِلْغَانِمِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ نَفْسِهِ، وَيَصْرِفَ الْمَأْخُوذَ إِلَى حَاجَةٍ أُخْرَى بَدَلًا عَنْ طَعَامِهِ، كَمَا لَا يَتَصَرَّفُ الضَّيْفُ فِيمَا قُدِّمَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْأَكْلِ.

فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ قَلَّ الطَّعَامُ، وَاسْتَشْعَرَ الْأَمِيرُ الِازْدِحَامَ وَالتَّنَازُعَ فِيهِ، جَعَلَهُ تَحْتَ يَدِهِ، وَقَسَّمَهُ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ مَعَهُ كِفَايَتُهُ مُزَاحَمَةَ الْمُحْتَاجِينَ. الْحُكْمُ الثَّانِي: سُقُوطُ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِالْإِعْرَاضِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يَسْقُطُ حَقُّ الْغَانِمِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْغَنِيمَةِ، وَتَرْكِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْجِهَادِ إِعْلَاءُ الدِّينِ، وَالذَّبُّ عَنِ الْمِلَّةِ، وَالْغَنِيمَةُ تَابِعَةٌ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا، فَقْد مَحَّضَ عَمَلَهُ لِلْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمْ: وَهَبْتُ نَصِيبِي لِلْغَانِمِينَ، فَإِنْ أَرَادَ الْإِسْقَاطَ، سَقَطَ حَقُّهُ، وَإِنْ أَرَادَ التَّمْلِيكَ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ «الشَّامِلِ» : الصِّحَّةُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَقْوَاهُمَا: الْمَنْعُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ، كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ، وَلَوْ أَفْرَزَ الْخُمُسَ، وَلَمْ يُقَسِّمِ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ فَوَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: يَصِحُّ الْإِعْرَاضُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّهُ، وَالثَّانِي خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَمَيَّزَ عَنِ الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ، فَصَارَ كَمَالٍ مُشْتَرَكٍ، وَلَوْ قَالَ: اخْتَرْتُ الْغَنِيمَةَ، هَلْ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْإِعْرَاضِ وَجْهَانِ، أَشْبَهُهُمَا: نَعَمْ، وَلَوْ أَعْرَضَ جَمِيعُ الْغَانِمِينَ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ إِعْرَاضُهُمْ، فَيُصْرَفُ الْجَمِيعُ إِلَى مَصْرِفِ الْخُمُسِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُصَحَّحَ لِلْإِعْرَاضِ يَشْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْخُمُسِ فَغَيْرُ ذَوِي الْقُرْبَى جِهَاتٌ عَامَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا إِعْرَاضٌ، وَفِي صِحَّةِ إِعْرَاضِ ذَوِي الْقُرْبَى وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَالْغَانِمِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِلَا عَمَلٍ، فَأَشْبَهَ الْإِرْثَ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْغَانِمِينَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ، صَحَّ إِعْرَاضُهُ، لِأَنَّ اخْتِيَارَ التَّمَلُّكِ كَالِاكْتِسَابِ، فَلَا يَلْزَمُهُ، وَلِأَنَّ الْإِعْرَاضَ يُمَحِّضُ جِهَادَهُ لِلْآخِرَةِ، فَلَا يُمْنَعُ

مِنْهُ، وَلَوْ أَعْرَضَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، قَالَ الْإِمَامُ: فَفِي صِحَّةِ إِعْرَاضِهِ تَرَدُّدٌ، وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ: الْمَنْعُ، فَلَوْ فُكَّ حَجْرُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، صَحَّ إِعْرَاضُهُ، وَلَا يَصِحُّ إِعْرَاضُ صَبِيٍّ عَنِ الرَّضْخِ، وَلَا إِعْرَاضُ وَلِيِّهِ، فَإِنْ بَلَغَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، صَحَّ إِعْرَاضُهُ، وَلَا يَصِحُّ إِعْرَاضُ الْعَبْدِ عَنْ رَضْخِهِ، وَيَصِحُّ إِعْرَاضُ سَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ، وَلَا يَصِحُّ إِعْرَاضُ مُسْتَحِقِّ السَّلَبِ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ كَالْوَارِثِ، وَكَنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. فَرْعٌ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ الْغَانِمِينَ، قُدِّرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ، وَضُمَّ نَصِيبُهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَقِيلَ: يُضَمُّ إِلَى الْخُمُسِ خَاصَّةً، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ مَاتَ غَانِمٌ وَلَمْ يُعْرِضْ، انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَإِنْ شَاءُوا طَلَبُوا، أَوْ أَعْرَضُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَقْتِ مِلْكِ الْغَانِمِينَ الْغَنِيمَةَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لَا يَمْلِكُونَ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ، لَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَتَمَلَّكُوا بَيْنَ الْحِيَازَةِ وَالْقِسْمَةِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا لَمْ يَصِحَّ إِعْرَاضُهُمْ، كَمَنِ احْتَطَبَ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ كُلَّ طَائِفَةٍ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ مَلَكُوا، لَمْ يَصِحَّ إِبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ نَوْعٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، وَالثَّانِي: يَمْلِكُونَ بِالْحِيَازَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنَ الْمَالِ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ،. وَلِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ زَالَ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَمْلِكُوا، لَزَالَ الْمِلْكُ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ، لَكِنَّهُ مِلْكٌ ضَعِيفٌ يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ، وَالثَّالِثُ: مَوْقُوفٌ، فَإِنْ سَلِمَتِ الْغَنِيمَةُ حَتَّى قَسَّمُوهَا، بَانَ أَنَّهُمْ مَلَكُوا بِالِاسْتِيلَاءِ، وَإِلَّا فَإِنْ تَلِفَتَ، أَوْ أَعْرَضُوا، تَبَيَّنَّا عَدَمَ الْمِلْكِ، فَعَلَى هَذَا قَالَ الْإِمَامُ: لَا نَقُولُ بَانَ بِالْقِسْمَةِ أَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهَا صَارَتْ مِلْكَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ، بَلْ نَقُولُ: إِذَا اقْتَسَمُوا، بَانَ أَنَّهُمْ مَلَكُوا الْغَنِيمَةَ مِلْكًا مُشَاعًا، ثُمَّ بِالْقِسْمَةِ تَمَيَّزَتِ الْحِصَصُ، وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ بِالْقِسْمَةِ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مَلَكَ حِصَّتَهُ عَلَى التَّعَيُّنِ،

وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْغَانِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوا الْغَنِيمَةَ، فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: اخْتَرْتُ مِلْكَ نَصِيبِي، مَلَكَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا الِاعْتِبَارُ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ لَا بِالْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْقِسْمَةُ لِتَضَمُّنِهَا اخْتِيَارَ التَّمَلُّكِ. فَرْعٌ ذَكَرُوا هُنَا وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنِيمَةَ قِسْمَةَ تَحَكُّمٍ، فَيَخُصُّ بَعْضَهُمْ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ وَبِبَعْضِ الْأَعْيَانِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُنَا: تَمَلَّكَ بِالْقِسْمَةِ، مَعْنَاهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ، وَهُوَ إِذَا رَضِيَ الْغَانِمُ بِالْقِسْمَةِ، أَوْ قَبِلَ مَا عَيَّنَهُ لَهُ الْإِمَامُ، فَأَمَّا إِذَا رَدَّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ رَدُّهُ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِيهِ خِلَافًا، فَقَالَ: إِذَا أَفْرَزَ الْإِمَامُ الْخُمُسَ، وَأَفْرَزَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَوْ أَفْرَزَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا، فَلَا يَمْلِكُونَهُ قَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ عَلَى الْأَصَحِّ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ بَعْضُهُمْ حَقَّهُ، صُرِفَ إِلَى الْبَاقِينَ. فَرْعٌ لَوْ سَرَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ، لَمْ يُقْطَعْ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي خُمُسِ الْخُمُسِ وَفِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ، نُظِرَ إِنْ سُرِقَ مِنْهُ، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْأَخْمَاسِ قَدْرَ نَصِيبِهِ أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ تَبْلُغِ الزِّيَادَةُ نِصَابًا، فَلَا قَطْعَ، وَكَذَا إِنْ بَلَغَتْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْغَنِيمَةِ لِجَوَازِ إِعْرَاضِ الْبَاقِينَ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ لَهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يُسْتَرَدُّ الْمَسْرُوقُ، وَإِنْ تَلِفَ، فَبَدَلُهُ، وَيُجْعَلْ فِي الْمَغْنَمِ، وَلَوْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ بَعْضَ الْغَانِمِينَ، عُزِّرَ، وَإِنْ سَرَقَ غَيْرُ الْغَانِمِينَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ لَهُ فِي الْغَانِمِينَ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ عَبْدٌ، فَهُوَ كَسَرِقَةِ الْغَانِمِ، وَإِلَّا فَإِنْ سَرَقَ قَبْلَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ، فَهُوَ كَسَرِقَتِهِ مَالَ بَيْتِ

الْمَالِ، لِأَنَّ فِيهِ مَالًا لِبَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ، فَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، قُطِعَ، وَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْخُمُسِ قَبْلَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ خُمُسِ الْمَصَالِحِ بَعْدَ إِفْرَازِهِ، فَهُوَ سَرِقَةُ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، لَمْ يُقْطَعْ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِهَا، وَإِلَّا فَيُقْطَعُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِنْهُمْ. فَرْعٌ لَوْ وَطِئَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ جَارِيَةً مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ، يُحَدُّ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً، لَكِنْ يُعَزَّرُ إِنْ كَانَ عَالِمًا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ نُهِيَ عَنْهُ، وَيُعَرَّفُ حُكْمُهُ، وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ، وَجَبَ الْمَهْرُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ كَانَ الْغَانِمُونُ مَحْصُورِينَ يَتَيَسَّرُ ضَبْطُهُمْ، فَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: كُلُّ الْمَهْرِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يَغْرَمُ مِنْهُ حِصَّةَ الْخُمُسِ وَحِصَّةَ غَيْرِهِ مِنَ الْغَانِمِينَ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ، وَفِي قَوْلٍ: إِنْ وَقَعَتِ الْجَارِيَةُ فِي حِصَّةِ الْوَاطِئِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَخَرَّجَ الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّهَا إِنْ وَقَعَتْ فِي حِصَّةِ غَيْرِهِ، وَجَبَ لَهُ الْمَهْرُ، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ عَنِ الْمَنْصُوصِ، وَإِنْ كَانَ الْغَانِمُونَ غَيْرَ مَحْصُورِينَ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَعْسُرَ ضَبْطُهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ، نُظِرَ إِنْ أَفْرَزَ الْإِمَامُ الْخُمُسَ، وَعَيَّنَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شَيْئًا، وَكَانَتِ الْجَارِيَةُ مُعَيَّنَةً لِمَخْصُوصِينَ، فَإِنْ وَطِئَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ اخْتِيَارِهِمْ تَمَلُّكِهَا، فَهَذَا وَطْءُ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَيَغْرَمُ مِنَ الْمَهْرِ قِسْطَ شُرَكَائِهِ، وَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ اخْتِيَارِهِمُ التَّمَلُّكَ، فَقِيلَ: هُوَ كَمَا بَعْدَ الِاخْتِيَارِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَمَا لَوْ كَانُوا مَحْصُورِينَ فِي الْأَصْلِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ الْمَهْرُ هُنَا، بَلْ يُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ، فَيَسْقُطُ قِسْطُ الْوَاطِئِ، وَيَلْزَمُهُ قِسْطُ الْبَاقِينَ، وَإِنْ لَمْ يَفْرِزِ الْإِمَامُ، وَلَا عَيَّنَ شَيْئًا، غَرِمَ الْوَاطِئُ كُلَّ الْمَهْرِ، وَضُمَّ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَقُسِّمَ بَيْنَ

الْجَمِيعِ، فَيَعُودُ إِلَى الْوَاطِئِ حِصَّتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ الْإِمَامُ أَنْ يَضْبِطَهُمْ وَيَعْرِفَ حِصَّتَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانُوا مَحْصُورِينَ وَسَهُلَ الضَّبْطُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلْيَكُنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا طَابَتْ نَفْسُ الْوَاطِئِ بِغُرْمِ الْجَمِيعِ، فَإِنْ قَالَ: أَسْقِطُوا حِصَّتِي، فَلَا بُدَّ مِنْ إِجَابَتِهِ. قُلْتُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ خِلَافُ قَوْلِ الْإِمَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَخْذُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَالْمَشَقَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَلِئَلَّا يُقَدَّمَ بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي الْإِعْطَاءِ عَلَى بَعْضٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إِذَا أَحْبَلَهَا، فَحُكْمُ الْحَدِّ وَالْمَهْرِ مَا ذَكَرْنَا، وَيَزِيدُ أُمُورٌ. مِنْهَا: الِاسْتِيلَادُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَفِي نُفُوذِهِ فِي نَصِيبِهِ طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَكَثِيرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا إِنْ مَلَكَ الْجَارِيَةَ بِسَهْمِهِ، أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ، فَفِي نُفُوذِ الِاسْتِيلَادِ قَوْلَانِ يَطَّرِدَانِ فِي نَظَائِرِهِ، الْأَظْهَرُ: النُّفُوذُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، وَلَمْ يَغْنَمُوا غَيْرَ تِلْكَ الْجَارِيَةِ، نَفَذَ الِاسْتِيلَادُ فِي حِصَّتِهِ قَطْعًا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ الْجَارِيَةَ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ اسْتِيلَادُ نَصِيبِهِ، سَرَى لِيَسَارِهِ إِلَى الْبَاقِي، وَهَلْ تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ، أَمْ بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ؟ قَوْلَانِ مَوْضِعُهُمَا كِتَابُ الْعِتْقِ، قَالَ الْإِمَامُ والْغَزَالِيُّ: وَيَحْصُلُ الْيَسَارُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ لِغَيْرِهَا، فَإِنْ لَمْ تَفِ حِصَّتُهُ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْجَارِيَةِ بِالْقِيمَةِ، سَرَى بِقَدْرِ الْحِصَّةِ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْغَنِيمَةِ هَلْ يَحْصُلُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، لَمْ

يَكُنْ مُوسِرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِمَامَ ذَكَرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِغِنَاهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ لَا يَعْرِضَ وَيَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ، فَإِنْ أَعْرَضَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا، وَلَا تَقُولَ: حَقُّ السِّرَايَةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ، لِأَنَّ التَّمَلُّكَ كَابْتِدَاءِ كَسْبٍ، وَمَتَى حَكَمْنَا بِالِاسْتِيلَادِ فِي الْحَالِ، أَوْ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي حِصَّتِهِ، لَزِمَهُ الْقِيمَةُ، ثُمَّ هُوَ فِي سُقُوطِ حِصَّتِهِ، وَأَخْذِ الْجَمِيعِ بِحَسَبِ انْحِصَارِ الْقَوْمِ، وَعَدَمِ انْحِصَارِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ بِالِاسْتِيلَادِ، فَإِنْ تَأَخَّرَتِ الْقِسْمَةُ حَتَّى وَضَعَتْ، جُعِلَتْ فِي الْمَغْنَمِ وَدَخَلَتْ فِي الْقِسْمَةِ فَإِنْ دَخَلَهَا نَقْصٌ بِالْوِلَادَةِ لَزِمَهُ الْأَرْشُ، وَأَمَّا قَبْلَ الْوَضْعِ، فَهِيَ حَامِلٌ بِحُرٍّ وَبَيْعُ الْحَامِلِ بِحُرٍّ لَا يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ، وَإِذَا جَعَلْنَا الْقِسْمَةَ بَيْعًا، لَمْ يَكُنْ إِدْخَالُهَا فِي الْقِسْمَةِ فَهَلْ تُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهَا وَتُجْعَلُ فِي الْمَغْنَمِ لِأَنَّهُ بِالْإِحْبَالِ حَالَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَبَيْنَهَا بَيْعًا وَقِسْمَةً أَمْ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ بِحِصَّتِهِ إِنِ احْتَمَلَتْهَا أَمْ يَجُوزُ إِدْخَالُهَا فِي الْقِسْمَةِ لِلضَّرُورَةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ أَوْ غَيْرَ مَحْصُورِينَ وَأَفْرَزَ الْإِمَامُ الْجَارِيَةَ لِطَائِفَةٍ فَفِي ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ فِي حِصَّتِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي حِصَّةِ الْمُوسِرِ فَإِنْ أَثْبَتْنَاهُ فَلَا سِرَايَةَ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ وَلَمْ يُفْرِزْهَا فَلَا اسْتِيلَادَ فِي الْحَالِ فَإِنْ وَقَعَتْ فِي حِصَّتِهِ، ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُ بَعْضُهَا، ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ. وَمِنْهَا: الْوَلَدُ، وَهُوَ حُرٌّ نَسِيبٌ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْجَارِيَةَ هَلْ تُقَوَّمُ عَلَيْهِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَلَا، لِأَنَّهَا مِلْكُهُ حِينَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَنَعَمْ، لِأَنَّهُ مَنَعَ رِقَّهُ بِوَطْئِهِ، ثُمَّ حُكْمُ قِيمَةِ الْوَلَدِ حُكْمُ الْمَهْرِ، هَذَا إِذَا كَانَ مُوسِرًا وَثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ فِي كُلِّهَا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَثَبَتَ فِي حِصَّتِهِ وَلَمْ يَسْرِ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْوَلَدُ حُرًّا كُلُّهُ أَمْ قَدْرُ حِصَّتِهِ حُرٌّ وَالْبَاقِيَ رَقِيقٌ؟ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: كُلُّهُ حُرٌّ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَعُمُّ

الْجَارِيَةَ، وَحُرِّيَّةُ الْوَلَدِ تَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الِاسْتِيلَادُ، وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ وَهُوَ يَظُنُّهَا أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ، انْعَقَدَ الْوَلَدُ حُرًّا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الِاسْتِيلَادُ، وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ تَبَعٌ لِلِاسْتِيلَادِ وَهُوَ مُتَبَعِّضٌ بِخِلَافِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهَا نَاشِئَةٌ مِنْ ظَنٍّ لَا يَتَبَعَّضُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَلَكَ بَاقِيَ الْجَارِيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَ الرِّقُّ فِيهِ، لِأَنَّهَا عَلَقَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِرَقِيقٍ، وَإِنْ قُلْنَا: جَمِيعُهُ حُرٌّ، فَفِي ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ فِي بَاقِيهَا إِذَا مَلَكَهُ قَوْلَانِ، لِأَنَّهُ أَوْلَدَهَا حُرًّا فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي تَبْعِيضِ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ يَجْرِي فِيمَا إِذَا أَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْمُشْتَرَكَةَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنْ قُلْنَا: جَمِيعُهُ حُرٌّ، لَزِمَ الْمُسْتَوْلِدَ قِيمَةُ حِصَّةِ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْوَلَدِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَكَذَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَسَوَاءٌ فِي تَرْجِيحِ حُرِّيَّةِ جَمِيعِهِ اسْتِيلَادُ أَحَدِ الْغَانِمِينَ وَاسْتِيلَادُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَسُئِلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَمَّنْ أَوْلَدَ امْرَأَةً، نِصْفُهَا حُرٌّ، وَنِصْفُهَا رَقِيقٌ بِنِكَاحٍ أَوْ زِنًى، كَيْفَ حَالُ الْوَلَدِ؟ فَقَالَ: يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي وَلَدِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنَ الشَّرِيكِ الْمُعْسِرِ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ جَوَابُهُ عَلَى أَنَّهُ كَالْأُمِّ حُرِّيَّةً وَرِقًّا، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِحُرِّيَّتِهِ إِلَّا حُرِّيَّةَ الْأُمِّ فَيَتَقَدَّرُ بِهَا، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ فِي حِصَّةِ الْمُعْسِرِ، وَالْخِلَافُ فِي حَالِ الْوَلَدِ مَوْضِعُهُ مَا إِذَا انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ، فَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرُوا، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ قُلْنَا عِنْدَ الِانْحِصَارِ: كُلُّ الْوَلَدِ حُرٌّ، أُخِذَ مِنْهُ قِيمَتُهُ، وَجُعِلَتْ فِي الْمَغْنَمِ، وَقُسِّمَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْحُرُّ بَعْضُهُ، كَانَ كُلُّهُ هُنَا رَقِيقًا، ثُمَّ الْإِمَامُ يَجْتَهِدُ حَتَّى تَقَعَ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ فِي حِصَّةِ الْوَاطِئِ، فَإِنْ وَقَعَا فِيهَا، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ وَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَإِنْ وَقَعَ الْبَعْضُ، ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ بِقَدْرِهِ، وَعَتَقَ مِنَ الْوَلَدِ بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُ، هَذَا كَلَامُ الْبَغَوِيِّ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: قَدْ سَبَقَ أَنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنِيمَةَ قِسْمَةَ تَحَكُّمٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَى الْغَانِمِينَ وَلَا الْإِقْرَاعُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى سَعْيٍ وَاجْتِهَادٍ، بَلْ

يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يُوقِعُهُمَا فِي حِصَّتِهِ، أَوْ يُوقِعُ بَعْضَهُمَا. وَقَوْلُهُ: وَعَتَقَ مِنَ الْوَلَدِ بِقَدْرِ مَا مَلَكَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْوَلَدَ يُعْتَقُ كُلَّهُ أَوْ بِالْحِصَّةِ، فَلَعَلَّهُ فَرَّعَهُ عَلَى وَجْهِ التَّبْعِيضِ أَوْ أَرَادَ أَنَّ قَدْرَ الْحِصَّةِ يُعْتَقُ قَطْعًا، وَفِي الْبَاقِي الْخِلَافُ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا إِذَا كَانَ الِاسْتِيلَادُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، وَسَوَاءً كَانَ قَبْلَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ أَمْ بَعْدَهُ، وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ إِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فَهُوَ كَوَطْءِ جَارِيَتِهِ أَوْ جَارِيَةِ غَيْرِهِ أَوْ مُشْتَرَكَةٍ، وَلَا يَخْفَى حُكْمُهُ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَقَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فَهُوَ كَمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، أَوْ أُفْرِزَتِ الْجَارِيَةُ لِطَائِفَةٍ مَحْصُورِينَ، فَهُوَ كَمَا بَعَدَ الْقِسْمَةِ وَاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ، وَلَوْ وَطِئَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ جَارِيَةً مِنَ الْخُمُسِ، فَكَوَطْءِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيٌّ جَارِيَةً مِنَ الْخُمُسِ، أَوْ قَبْلَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ فِيهِ النَّفَقَةَ دُونَ الْإِعْفَافِ، وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ وَطِئَ الْأَجْنَبِيُّ جَارِيَةً مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، حُدَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْغَانِمِينَ وَلَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا أُسِرَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى بَعْضِ الْغَانِمِينَ، وَرُقَّ بِنَفْسِ الْأَسْرِ أَوْ بِإِرْقَاقِهِ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، وَنَصَّ فِيمَا لَوِ اسْتَوْلَدَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ جَارِيَةً مِنَ الْمَغْنَمِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ كَمَا سَبَقَ، فَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمَلَّكُ بِالْحِيَازَةِ أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، نَفَذَ، أَوْ غَرِمَ الْقِيمَةَ وَجُعِلَتْ فِي الْمَغْنَمِ، وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: بِتَقْرِيرِ النَّصَّيْنِ، لِقُوَّةِ الِاسْتِيلَادِ، وَلِهَذَا يَنْفُذُ اسْتِيلَادُ الْمَجْنُونِ وَاسْتِيلَادُ جَارِيَةِ ابْنِهِ دُونَ الْإِعْتَاقِ، وَسَوَاءً ثَبَتَ الْخِلَافُ أَمْ لَا،

فَالْمَذْهَبُ مَنْعُ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ، وَاخْتَارَ تَمَلُّكَهُ، أَوْ وَقَعَ بَعْضُهُ وَاخْتَارَهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ وَنُظِرَ إِلَى يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ فِي تَقْوِيمِ الْبَاقِي، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنِ انْحَصَرُوا، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغَنِيمَةِ غَيْرُ قَرِيبِهِ، مَلَكَ حِصَّتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ التَّمَلُّكَ، وَعَلَى هَذَا لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْبَاقِي، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ عَبْدًا مِنْهَا، فَفِي ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عِتْقِ الْقَرِيبِ، كَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: لَا يُعْتَقُ بِحَالٍ بِخِلَافِ عِتْقِ الْقَرِيبِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِلَا اخْتِيَارٍ وَهُوَ أَقْوَى مِمَّا يَثْبُتُ بِاخْتِيَارٍ، وَلِهَذَا يُعْتَقُ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ قَرِيبُهُ إِذَا مَلَكَهُ، وَلَوْ أَعْتَقَ، لَمْ يُنَفَّذْ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْغَانِمُونَ طَائِفَةً يَسِيرَةً، وَوَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، لَمْ يَتَوَقَّفِ الْعِتْقُ إِلَّا عَلَى اخْتِيَارِهِمُ التَّمَلُّكَ، وَيَجِيءُ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الِاخْتِيَارِ، وَإِذَا اخْتَارُوا جَمِيعًا، لَمْ يُفْرَضْ فِيهِ تَقْدِيمُ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ. فَرْعٌ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ مُنْفَرِدًا، وَأَسَرَ أَبَاهُ، أَوِ ابْنَهُ الْبَالِغَ، لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ الْأَسْرِ، فَإِنِ اخْتَارَ الْإِمَامُ قَتْلَهُ أَوِ الْمَنَّ أَوِ الْفِدَاءَ، فَذَاكَ، وَإِنِ اخْتَارَ تَمَلُّكَهُ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْآسِرُ التَّمَلُّكَ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنِ اخْتَارَ، صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَيُقَوَّمُ الْخُمُسُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَلَوْ أَسَرَ أُمَّهُ، أَوْ بِنْتَهُ الْبَالِغَةَ، رَقَّتْ بِنَفْسِ الْأَسْرِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْآسِرُ التَّمَلُّكَ، كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَا، وَأَلْحَقَ ابْنُ الْحَدَّادِ الِابْنَ الصَّغِيرَ بِالْأُمِّ، وَهُوَ هَفْوَةٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتْبَعُهُ وَلَدُهُ الصَّغِيرُ فِي الْإِسْلَامِ،

فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ سَبْيُهُ، وَلَوْ أَسَرَ أَبَاهُ فِي الْقِتَالِ، زَادَ النَّظَرُ فِي أَنَّ الْأَسِيرَ إِذَا رُقَّ هَلْ يَكُونُ مِنَ السَّلَبِ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْغَنَائِمِ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْأَرْضِ: أَرْضُ الْكُفَّارِ وَعَقَارُهُمْ تُمَلَّكُ بِالِاسْتِيلَاءِ، كَمَا تُمَلَّكُ الْمَنْقُولَاتُ، وَأَمَّا مَكَّةُ فَفُتِحَتْ صُلْحًا، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : عِنْدِي أَنَّ أَسْفَلَهَا، دَخَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْوَةً، وَأَعْلَاهَا فُتِحَ صُلْحًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَدُورُهَا وَعِرَاصُهَا الْمُحْيَاةُ مَمْلُوكَةٌ، كَسَائِرِ الْبِلَادِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهَا وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَهَا، وَأَمَّا سَوَادُ الْعِرَاقِ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فُتِحَ صُلْحًا، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَحَهُ عَنْوَةً، وَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، ثُمَّ اسْتَطَابَ قُلُوبَهُمْ وَاسْتَرَدَّهُ، وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيمَا فَعَلَهُ بِأَرْضِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، الصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ، وَفِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ: أَنَّهُ وَقَفَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآجَرَهُ لِأَهْلِهِ، وَالْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ مُنَجَّمَةٌ تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ، وَالثَّانِي وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ بَاعَهُ لَهُمْ وَالْخَرَاجُ ثَمَنٌ مَنَجَّمٌ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ رَهْنُهُ وَهِبَتُهُ وَبَيْعُهُ، وَعَلَى الصَّحِيحِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لِأَهْلِهِ إِجَارَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَلَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ مُؤَبَّدًا عَلَى الْأَصَحِّ بِخِلَافِ إِجَارَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُؤَبَّدًا، فَإِنَّهَا احْتُمِلَتْ لِمَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ سُكَّانِهِ أَنْ يُزْعِجَ سَاكِنًا وَيَقُولَ: أَنَا أَسْتَغِلُّهُ وَأُعْطِي الْخَرَاجَ، لِأَنَّهُ مَلَّكَ بِالْإِرْثِ الْمَنْفَعَةَ أَوِ الرَّقَبَةَ، هَذَا حُكْمُ الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ، فَأَمَّا مَا فِي حَدِّ السَّوَادِ مِنَ الْمَسَاكِنِ وَالدُّورِ، فَالْمَذْهَبُ جَوَازُ بَيْعِهَا، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَمْنَعْ شِرَاءَهَا، وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ فِي يَدِهِ الْأَرْضُ تَنَاوُلُ ثَمَرِ أَشْجَارِهَا؟ إِنْ قُلْنَا: الْأَرْضُ مَبِيعَةٌ، فَكَذَا الشَّجَرُ وَالثَّمَرُ، وَإِنْ قُلْنَا: مُسْتَأْجَرَةٌ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُ تُنَاوُلُهَا لِلْحَاجَةِ، وَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ

كَمَا يُحْتَمَلُ التَّأْيِيدُ، وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، بَلِ الْإِمَامُ يَصْرِفُهَا وَأَثْمَانَهَا إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا حَدُّ السَّوَادِ، فَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ مِنْ عَبَّادَانَ إِلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ طُولًا، وَمِنْ عَذِيبِ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ عَرْضًا، وَهُوَ بِالْفَرَاسِخِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ فَرْسَخًا طُولًا، وَثَمَانُونَ عَرْضًا، وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ تَسَاهُلٌ لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ أَرْضَ الْبَصْرَةِ كَانَتْ سَبِخَةً أَحْيَاهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِي وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَعْدَ فَتْحِ الْعِرَاقِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْحَدِّ وَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِثْنَائِهَا، وَقَدْ أَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ الْبَصْرَةَ لَا تَدْخُلُ فِي حُكْمِ السَّوَادِ وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي حَدِّهِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : حَضَرْتُ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ وَهُوَ يُدَرِّسُ فِي تَحْدِيدِ السَّوَادِ فَأَدْخَلَ فِيهِ الْبَصْرَةَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: هَكَذَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: لَا إِنَّمَا كَانَتْ مَوَاتًا أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: عَلِّقُوا مَا يَقُولُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَعْرَفُ بِهَا، وَلَكِنْ فِي إِطْلَاقِ اسْتِثْنَاءِ الْبَصْرَةِ تَسَاهُلٌ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ مَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْبَصْرَةَ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ السَّوَادِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ مِنْ شَرْقِيِّ دِجْلَتِهَا يُسَمَّى الْفُرَاتَ، وَمَوْضِعٍ مِنْ غَرْبِيِّ دِجْلَتِهَا يُسَمَّى نَهْرَ الصَّرَاةِ. فَرْعٌ مَا يُؤْخَذُ مِنْ خَرَاجِ هَذِهِ الْأَرْضِ يَصْرِفُهُ الْإِمَامُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْرُ الْخَرَاجِ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ شَعِيرٍ دِرْهَمَانِ، وَجَرِيبِ الْحِنْطَةِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَجَرِيبِ الشَّجَرِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةٌ، وَالنَّخْلِ ثَمَانِيَةٌ، وَالْكَرْمِ عَشَرَةٌ، وَقِيلَ: النَّخْلُ عَشَرَةٌ، وَالزَّيْتُونُ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا.

فَرْعٌ: لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْيَوْمَ أَنْ يَقِفَ أَرْضَ الْغَنِيمَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَازَ إِذَا اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ فِي النُّزُولِ عَنْهَا بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، فَهُوَ أَحَقُّ بِمَالِهِ، وَكَذَا الْمَنْقُولَاتُ وَالصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ لَا يَجُوزُ رَدُّ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَى الْكُفَّارِ إِلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِ الْغَانِمِينَ، لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ قَهْرًا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَتَوَانَوْنَ بِسَبَبِهَا فِي الْجِهَادِ، وَلَكِنْ يَقْهَرُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ.

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ بِالْأَمَانِ قَدْ تَقْتَضِي الْمُصْلِحَةُ الْأَمَانَ لِاسْتِمَالَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ إِرَاحَةِ الْجَيْشِ، أَوْ تَرْتِيبِ أَمْرِهِمْ، أَوْ لِلْحَاجَةِ إِلَى دُخُولِ الْكُفَّارِ، أَوْ لِمَكِيدَةٍ وَغَيْرِهَا، وَيَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِأَهْلِ إِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ، وَهُوَ عَقْدُ الْهُدْنَةِ، وَيَخْتَصُّ بِالْإِمَامِ وَوُلَاتِهِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِلَى خَاصٍّ وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِآحَادٍ، وَيَصِحُّ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْآحَادِ، وَالْبَابُ مَعْقُودٌ لِهَذَا وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِنَّمَا يَجُوزُ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ أَمَانُ كَافِرٍ، أَوْ كُفَّارٍ مَحْصُورِينَ، كَعَشَرَةٍ وَمِائَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ نَاحِيَةٍ وَبَلْدَةٍ، وَفِي الْبَيَانِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَمِّنَ وَاحِدٌ أَهْلَ قَلْعَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَرْيَةَ الصَّغِيرَةَ فِي مَعْنَاهَا، وَعَنِ الْمَاسَرْجَسِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمَانُ وَاحِدٍ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُ مَنْ فِيهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَضَابِطُهُ أَنْ لَا يَنْسَدَّ بِهِ بَابُ الْجِهَادِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَإِذَا تَأَتَّى الْجِهَادُ بِغَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَنْ أُمِّنَ، نَفَذَ الْأَمَانُ، لِأَنَّ الْجِهَادَ شِعَارُ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ الْقَهْرِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَكَاسِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ بِأَمَانِ الْآحَادِ انْسِدَادُهُ أَوْ نُقْصَانٌ يُحَسُّ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ أُمِّنَ مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْكُفَّارِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ لَمْ يُؤَمِّنْ إِلَّا وَاحِدًا، لَكِنْ إِذَا ظَهَرَ انْسِدَادٌ أَوْ نُقْصَانٌ، فَأَمَانُ الْجَمِيعِ مَرْدُودٌ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَمَّنُوهُمْ مَعًا فَرَدُّ الْجَمِيعِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ أَمَّنُوهُمْ مُتَعَاقِبِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ أَمَانُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ إِلَى ظُهُورِ الْخَلَلِ، عَلَى أَنَّ الرُّويَانِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ أَمَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدًا، جَازَ، وَإِنْ كَثُرُوا حَتَّى زَادُوا عَلَى عَدَدِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ.

الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ الْمُتَعَاقِبِينَ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ الْخَلَلُ، وَهُوَ مُرَادُ الْإِمَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَوَاءً كَانَ الْكَافِرُ الْمُؤَمَّنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ فِي حَالِ الْقِتَالِ أَوِ الْهَزِيمَةِ، أَوْ عِنْدَ مَضِيقٍ، بَلْ يَصِحُّ الْأَمَانُ مَا دَامَ الْكَافِرُ مُمْتَنِعًا، فَأَمَّا بَعْدَ الْأَسْرِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْآحَادِ أَمَانُهُ وَلَا الْمَنُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: كُنْتُ أَمَّنْتُهُ قَبْلَ هَذَا، لَمْ يُقْبَلْ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِأَمَانِ مَنْ يَجُوزُ أَمَانُهُ فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلَوْ قَالَ جَمَاعَةٌ: كُنَّا أَمَّنَّاهُ، لَمْ يُقْبَلْ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَلَوْ قَالَ وَاحِدٌ: كُنْتُ أَمَّنْتُهُ، وَشَهِدَ بِهِ اثْنَانِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا. فَرْعٌ فِي جَوَازِ عَقْدِ الْمَرْأَةِ اسْتِقْلَالًا وَجْهَانِ. الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ الْأَمَانُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ كَافِرًا، وَالْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى، وَالْفَقِيرِ وَالْمُفْلِسِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، وَالْمَرِيضِ وَالشَّيْخِ الْهَرَمِ، وَالْفَاسِقِ وَفِي الْفَاسِقِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ كَافِرٍ وَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَمُكْرَهٍ، وَفِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَجْهٌ كَتَدْبِيرِهِ. الثَّالِثَةُ: يَنْعَقِدُ الْأَمَانُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفِيدُ الْغَرَضَ، صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ، فَالصَّرِيحُ: أَجَرْتُكَ، أَوْ أَنْتَ مُجَارٌ، أَوْ أَمَّنْتُكَ، أَوْ أَنْتَ آمِنٌ، أَوْ فِي أَمَانِي، أَوْ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، أَوْ لَا خَوْفَ عَلَيْكَ، أَوْ لَا تَخَفْ، أَوْ لَا تَفْزَعْ، أَوْ قَالَ بِالْعَجَمِيَّةِ: مُتَرَّسٌ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : لَا تَخَفْ، لَا تَفْزَعْ. كِنَايَةٌ. وَالْكِنَايَةُ، كَقَوْلِهِ: أَنْتَ عَلَى مَا تُحِبُّ، أَوْ كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، وَتَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ، سَوَاءً كَانَ الرَّسُولُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَبِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنْ قَادِرٍ عَلَى الْعِبَارَةِ. وَبِنَاءُ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ. فَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُؤَمَّنُ فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ وَبُلُوغِ خَبَرِ الْأَمَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، فَلَا أَمَانَ، فَلَوْ

بَدَرَ مُسْلِمٌ فَقَتَلَهُ، جَازَ وَإِذَا خَاطَبَهُ بِالْأَمَانِ، أَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَرَدَّهُ، بَطَلَ، وَإِنْ قَبِلَ، أَوْ كَانَ قَدِ اسْتَجَارَ مِنْ قَبْلُ، تَمَّ الْأَمَانُ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ لَفْظًا، بَلْ تَكْفِي الْإِشَارَةُ وَالْأَمَارَةُ الْمُشْعِرَةُ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الْقِتَالُ، فَلَوْ سَكَتَ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ، قَالَ الْإِمَامُ: فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالظَّاهِرُ: اشْتِرَاطُ قَبُولِهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ، وَاكْتَفَى الْبَغَوِيُّ بِالسُّكُوتِ، وَلَوْ قَالَ الْكَافِرُ: قَبِلْتُ أَمَانَكَ، وَلَسْتُ أُؤَمِّنُكَ فَخُذْ حِذْرَكَ، قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ رَدٌّ لِلْأَمَانِ، لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَثْبُتُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْأَمَانِ بِالْأَعْذَارِ، وَلَوْ أَشَارَ مُسْلِمٌ إِلَى كَافِرٍ فِي الْقِتَالِ، فَانْحَازَ إِلَى صَفِّ الْمُسْلِمِينَ، وَتَفَاهَمَا الْأَمَانَ، فَهُوَ أَمَانٌ، وَإِنْ قَالَ الْكَافِرُ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ يُؤَمِّنُنِي، وَقَالَ الْمُسْلِمُ: لَمْ أَرُدَّهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ وَلَا أَمَانَ، وَلَكِنْ لَا يُغْتَالُ، بَلْ يَلْحَقُ بِمَأْمَنِهِ، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ بِأَمَانِ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ مُكْرَهٍ، وَقَالَ: ظَنَنْتُ صِحَّتَهُ، أَوْ ظَنَنْتُهُ بَالِغًا، أَوْ عَاقِلًا، أَوْ مُخْتَارًا، وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ الْأَمَانَ، فَقَدْ دَخَلَ بِلَا أَمَانٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا وَأَنَّهُ لَا أَمَانَ لِلصَّبِيِّ، وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ الْمُشِيرُ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَلَا أَمَانَ وَلَا اغْتِيَالَ. فَرْعٌ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اعْتِبَارِ صِيغَةِ الْأَمَانِ هُوَ فِيمَا إِذَا دَخَلَ الْكَافِرُ بِلَادَنَا بِلَا سَبَبٍ، فَلَوْ دَخَلَ رَسُولًا، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَلَوْ دَخَلَ لِيَسْمَعَ الذِّكْرَ، وَيَنْقَادَ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُ، فَكَذَلِكَ، وَقَصْدُ التِّجَارَةِ لَا يُفِيدُ الْأَمَانَ، وَلَكِنْ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي دُخُولِ التُّجَّارِ، فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ تَاجِرًا، فَهُوَ آمِنٌ، جَازَ، وَمِثْلُ هَذَا الْأَمَانِ لَا يَصَحُّ مِنَ الْآحَادِ، وَلَوْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ يُفِيدُ الْأَمَانَ، فَلَا أَثَرَ لِظَنِّهِ وَيُغْتَالُ إِذْ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، وَلَوْ سَمِعَ مُسْلِمًا يَقُولُ: مَنْ دَخَلَ تَاجِرًا، فَهُوَ آمِنٌ، فَدَخَلَ وَقَالَ: ظَنَنْتُ صِحَّتَهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُغْتَالُ.

الرَّابِعَةُ: شَرْطُ الْأَمَانِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ مَا لَمْ يَبْلُغْ سَنَةً، فَلَوْ زَادَ عَلَى الْجَائِزِ، بَطَلَ الزَّائِدُ، وَلَا يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي عَلَى الْأَصَحِّ تَخْرِيجًا مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَإِذَا أُطْلِقَ حُمِلَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَيَبْلُغُ بَعْدَهَا الْمَأْمَنَ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَلَوْ أَمَّنَ جَاسُوسًا، أَوْ طَلِيعَةً لَمْ يَنْعَقِدِ الْأَمَانُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ تَبْلِيغَ الْمَأْمَنِ، لِأَنَّ دُخُولَ مِثْلِهِ خِيَانَةً، فَحَقُّهُ أَنْ يُغْتَالَ، وَلَوْ أَمَّنَ آحَادًا عَلَى مَدَارِجِ الْغُزَاةِ، وَعَسِرَ بِسَبَبِهِ مَسِيرُ الْعَسْكَرِ وَاحْتَاجُوا إِلَى نَقْلِ الزَّادِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ لِلضَّرَرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْأَمَانِ ظُهُورُ الْمَصْلَحَةِ، بَلْ يَكْفِي عَدَمُ الْمُضِرَّةِ. الْخَامِسَةُ: إِذَا انْعَقَدَ الْأَمَانُ، صَارَ الْمُؤَمَّنُ مَعْصُومًا عَنِ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، فَلَوْ قُتِلَ، قَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُضْمَنُ بِمَا يُضْمَنُ بِهِ الذِّمِّيُّ، وَهُوَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ نَبْذُهُ، فَإِنِ اسْتَشْعَرَ مِنْهُ خِيَانَةً، نَبَذَهَ، لِأَنَّ الْمُهَادَنَةَ تُنْبَذُ بِذَلِكَ، فَأَمَانُ الْآحَادِ أَوْلَى وَهُوَ جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الْكَافِرِ يَنْبِذُهُ مَتَى شَاءَ، وَلَا يَتَعَدَّى الْأَمَانُ إِلَى مَا خَلَّفَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، وَأَمَّا مَا مَعَهُ مِنْهُمَا، فَإِنْ تَعَرَّضَ لَهُ، اتْبَعِ الشَّرْطَ، وَإِلَّا فَلَا أَمَانَ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِقُصُورِ اللَّفْظِ. السَّادِسَةُ: الْأَسِيرُ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ إِذَا أَمَّنَ بَعْضَهُمْ مُكْرَهًا، لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ أَمَّنَهُ مُخْتَارًا، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ فِي أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ أَمَّنَ مَنْ هُوَ فِي أَسْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ كَالْمُكْرَهِ مَعَهُ، وَإِنْ أَمَّنَ غَيْرَهُ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، فَإِنْ أَبْطَلْنَا، فَهَلْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ فِي حَقِّ الْأَمْنِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ.

فَرْعٌ الْمُسْلِمُ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي دَارِ الْكُفْرِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ، حَرُمَ عَلَيْهِ الْإِقَامَةُ هُنَاكَ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَهُوَ مَعْذُورٌ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ، فَإِنْ فُتِحَ الْبَلَدُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، سَقَطَ عَنْهُ الْهِجْرَةُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ، لِكَوْنِهِ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، أَوْ لِأَنَّ لَهُ هُنَاكَ عَشِيرَةً يَحْمُونَهُ، وَلَمْ يَخَفْ فِتْنَةً فِي دِينِهِ، لَمْ تَجِبِ الْهِجْرَةُ، لَكِنْ تُسْتَحَبُّ، لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ، أَوْ يَمِيلَ إِلَيْهِمْ، أَوْ يَكِيدُوا لَهُ، وَقِيلَ: تَجِبُ الْهِجْرَةُ، حَكَاهُ الْإِمَامُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : فَإِنْ كَانَ يَرْجُو ظُهُورَ الْإِسْلَامِ هُنَاكَ بِمُقَامِهِ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ، قَالَ: وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالِاعْتِزَالِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ بِهَا، لِأَنَّ مَوْضِعَهُ دَارُ إِسْلَامٍ، فَلَوْ هَاجَرَ، لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ، فَيَحْرُمُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، لَزِمَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْأَسِيرُ الْمَقْهُورُ مَتَى قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ، لَزِمَهُ، وَلَوْ أَطْلَقُوا أَسِيرًا بِلَا شَرْطٍ، فَلَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ قَتْلًا وَسَبْيًا وَأَخْذًا لِلْمَالِ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ وَهُمْ فِي أَمَانٍ مِنْهُ، حَرُمَ عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَسْتَأْمِنُوهُ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ لَهُ اغْتِيَالَهُمْ، وَلَوْ تَبِعَهُ قَوْمٌ بَعْدَ خُرُوجِهِ، فَلَهُ قَصْدُهُمْ وَقَتْلُهُمْ فِي الدَّفْعِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ أَطْلَقُوهُ وَشَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ، لَزِمَهُ الْخُرُوجُ وَحَرُمَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، فَإِنْ حَلَّفُوهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ، فَإِنْ حَلَفَ مُكْرَهًا، خَرَجَ وَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ تَنْعَقِدْ

يَمِينُهُ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ إِنْ حَلَّفُوهُ بِالطَّلَاقِ، وَإِنْ حَلَفَ ابْتِدَاءً بِلَا تَحْلِيفٍ لِيَتَوَثَّقُوا بِهِ وَلَا يَتَّهِمُوهُ بِالْخُرُوجِ، نُظِرَ إِنْ حَلَفَ بَعْدَمَا أَطْلَقُوهُ، لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ بِالْخُرُوجِ، وَإِنْ حَلَفَ وَهُوَ مَحْبُوسٌ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِذَا أُطْلِقَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ يَمِينَ إِكْرَاهٍ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَالُوا: لَا نُطْلِقُكَ حَتَّى تَحْلِفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ، فَحَلَفَ، فَأَطْلَقُوهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ بِالْخُرُوجِ، وَلَوْ حَلَّفُوهُ بِالطَّلَاقِ، لَمْ يَقَعْ، كَمَا لَوْ أَخَذَ اللُّصُوصُ رَجُلًا وَقَالُوا: لَا نَتْرُكُكَ حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّكَ لَا تُخْبِرُ بِمَكَانِنَا، فَحَلَفَ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَكَانِهِمْ، لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهُ يَمِينُ إِكْرَاهٍ، وَلْيَكُنْ هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ التَّخْوِيفَ بِالْحَبْسِ إِكْرَاهٌ. قُلْتُ: لَيْسَ هُوَ كَالتَّخْوِيفِ بِالْحَبْسِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ هُنَا الْهِجْرَةُ وَالتَّوَصُّلُ إِلَيْهَا بِمَا أَمْكَنَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى الْأَحْوَالِ لَا يَغْتَالُهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ عَيْنُ مَالٍ لِمُسْلِمٍ، فَأَخَذَهَا عِنْدَ خُرُوجِهِ لِيَرُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا، جَازَ، فَإِنْ شَرَطُوا الْأَمَانَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، فَهَلْ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا أَخَذَ الْمَغْصُوبَ مِنَ الْغَاصِبِ لِيَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ، وَعَنِ الْقَفَّالِ: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الْحَرْبِيِّ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ. وَلَوْ شَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْخُرُوجِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ، وَلَوْ شَرَطُوا أَنْ يَعُودَ، أَوْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَالًا فِدَاءً، فَالْعَوْدُ حَرَامٌ وَأَمَّا الْمَالُ، فَإِنْ شَارَطَهُمْ عَلَيْهِ مُكْرَهًا، فَهُوَ لَغْوٌ، وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُخْتَارًا، لَمْ يَجِبْ بَعْثُهُ، لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ، لِئَلَّا يَمْتَنِعُوا مِنْ إِطْلَاقِ

الْأَسَارَى، وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: يَجِبُ بَعْثُ الْمَالِ، أَوِ الْعَوْدُ إِلَيْهِمْ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَالَّذِي يَقْتَضِي الْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا لَا يَمْلِكُونَهُ، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوِ اشْتَرَى مِنْهُمُ الْأَسِيرُ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ ثَمَنَهُ، أَوِ اقْتَرَضَ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا، فَثَلَاثُ طُرُقٍ، الْمُذَهَبُ وَالْمَنْصُوصُ: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، وَيَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا عَلَى الشِّرَاءِ، وَالثَّانِي: الصِّحَّةُ وَيَلْزَمُ الثَّمَنُ، لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مَعَ الْكُفَّارِ يَتَسَاهَلُ فِيهَا، وَالثَّالِثُ: قَوْلَانِ، الْجَدِيدُ: الْبُطْلَانُ، وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدِّ الْعَيْنِ وَرَدِّ الثَّمَنِ، وَلَوْ لَمْ يَجُرْ لَفْظُ بَيْعٍ، بَلْ قَالُوا: خُذْ هَذَا، وَابْعَثْ كَذَا مِنَ الْمَالِ، فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ كَالشِّرَاءِ مُكْرَهًا، وَلَوْ أَعْطَوْهُ شَيْئًا لِيَبِيعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ ثَمَنَهُ، فَهُوَ وَكِيلٌ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْوَكِيلِ. السَّابِعَةُ: إِذَا بَارَزَ مُسْلِمٌ كَافِرًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَقُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّهُ يَجُوزُ، وَشَرَطَ الْمُتَبَارِزَانِ أَنْ لَا يُعِينَ الْمُسْلِمُونَ الْمُسْلِمَ، وَلَا الْكُفَّارُ الْكَافِرَ إِلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ فِي الصَّفِّ الْإِعَانَةُ، ثُمَّ إِنْ هَرَبَ أَحَدُهُمَا، أَوْ قُتِلَ الْمُسْلِمُ، جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ قَصْدُ الْكَافِرِ، لِأَنَّ الْأَمَانَ كَانَ إِلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَقَدِ انْقَضَى، فَإِنْ شُرِطَ الْأَمَانُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الصَّفِّ، وَفَّى بِهِ، فَإِنْ وَلَّى الْمُسْلِمُ عَنْهُ، فَتَبِعَهُ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ تَرَكَ قِتَالَ الْمُسْلِمِ وَقَصَدَ الصَّفَّ، فَلَهُمْ قَتْلُهُ لِنَقْضِهِ الْأَمَانَ، وَلَوْ أُثْخِنَ، جَازَ قَتْلُهُ أَيْضًا لِانْقِطَاعِ الْقِتَالِ، وَإِذَا قَصَدَ قَتْلَ الْمُثْخَنِ، مُنِعَ، وَقِيلَ: فَإِنْ شُرِطَ لَهُ التَّمْكِينُ مِنْهُ، فَهُوَ شَرْطٌ بَاطِلٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَهَلْ يَفْسُدُ بِهِ أَصْلُ الْأَمَانِ؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُشْرِكُونَ لِإِعَانَةِ الْمُشْرِكِ، خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ لِإِعَانَةِ الْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ اسْتَنْجَدَهُمْ، جَازَ قَتْلُهُ مَعَهُمْ، وَكَذَا لَوْ خَرَجُوا بِغَيْرِ اسْتِنْجَادِهِ

فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ، وَإِنْ خَرَجُوا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَمَنَعَهُمْ، فَلَمْ يَمْتَنِعُوا، جَازَ قَتْلُهُمْ وَلَمْ يَجُزِ التَّعَرُّضُ لَهُ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا شَرَطَا الْأَمَانَ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ، وَلَكِنِ اطَّرَدَتْ عَادَةُ الْمُتَبَارِزِينَ بِالْأَمَانِ، فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ، وَلَمْ تَجْرِ عَادَةٌ، فَلِلْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُ. فَرْعٌ لَوْ أَثْخَنَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، فَهَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُ أَمْ يُتْرَكُ؟ وَجْهَانِ، نَقَلَهُمَا ابْنُ كَجٍّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ شَرَطَ الْأَمَانَ إِلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ، جَازَ قَتْلُهُ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لِلْمُثْخَنِ، وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ. الثَّامِنَةُ: مَسْأَلَةُ الْعِلْجِ، وَهُوَ الْكَافِرُ الْغَلِيظُ الشَّدِيدُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِقُوَّتِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَمِنْهُ سُمِّي الْعِلَاجُ لِدَفْعِهِ الدَّاءَ وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ كَافِرٌ لِلْإِمَامِ: أَدُلُّكَ عَلَى قَلْعَةِ كَذَا عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مِنْهَا جَارِيَةً كَذَا، فَيُعَاقِدُهُ الْإِمَامُ، فَيَجُوزُ وَهِيَ جَعَالَةٌ بِجَعْلٍ مَجْهُولٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ احْتُمِلَتْ لِلْحَاجَةِ، وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ ابْتِدَاءً: إِنْ دَلَلْتِنِي عَلَى هَذِهِ الْقَلْعَةِ، فَلَكَ مِنْهَا جَارِيَةٌ كَذَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، وَسَوَاءً كَانَتِ الْمُعَيَّنَةُ حُرَّةً أَمْ أَمَةً لِأَنَّ الْحُرَّةَ تَرِقُّ بِالْأَسْرِ، وَلَوْ شَرَطَ الْعَلْجُ أَوِ الْإِمَامُ جَارِيَةً مُبْهَمَةً، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْجَعْلِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِلْجُ، فَلَوْ قَالَ: أُعْطِيكَ جَارِيَةً مِمَّا عِنْدِي، أَوْ ثُلُثَ مَالِي، لَمْ يَصِحَّ كَوْنُهُ مَجْهُولًا كَسَائِرِ الْجَعَالَاتِ، وَلَوْ قَالَ مُسْلِمٌ: أَدُلُّكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مِنْهَا جَارِيَةً كَذَا، أَوْ ثُلُثَ مَا فِيهَا، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ أَنْوَاع غَرَرٍ، فَلَا تُحْتَمَلُ مَعَ الْمُسْلِمِ الْمُلْتَزِمِ لِلْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِقِلَاعِهِمْ وَطُرُقِهِمْ غَالِبًا، وَالثَّانِي: يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ لِلْحَاجَةِ، فَقَدْ يَكُونُ الْمُسْلِمُ أَعْرَفَ وَهُوَ أَنْصَحُ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكُفَّارِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى تَجْوِيزِ

اسْتِئْجَارِ الْمُسْلِمِ لِلْجِهَادِ، وَإِلَّا فَلَا تَصِحُّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ مَعَ مُسْلِمٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، ثُمَّ إِذَا فَتَحْنَا الْقَلْعَةَ بِدَلَالَةِ الْعِلْجِ، وَظَفِرْنَا بِالْجَارِيَةِ، سَلَّمْنَاهَا إِلَيْهِ، وَلَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِ، وَإِنْ دَلَّنَا، وَفَتَحْنَاهَا بِغَيْرِ دَلَالَتِهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ نَفْتَحْهَا، فَإِنْ عُلِّقَ الشَّرْطُ بِالْفَتْحِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِلَّا فَأَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَالثَّانِي: يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَالثَّالِثُ: يُرْضَخُ لَهُ، وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ الْقِتَالُ مُمْكِنًا وَالْفَتْحُ مُتَوَقَّعًا قَرِيبًا، اسْتَحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يُتَوَقَّعْ إِلَّا بِاحْتِمَالٍ نَادِرٍ، فَلَا، أَمَّا إِذَا قَاتَلْنَا، فَلَمْ نَظْفَرْ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ تَرَكْنَاهَا، ثُمَّ عُدْنَا، فَفَتَحْنَاهَا بِدَلَالَتِهِ، فَلَهُ الْجَارِيَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ فَتَحْنَاهَا بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ فَتَحَهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى بِالطَّرِيقِ الَّذِي دَلَّنَا عَلَيْهِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ مَعَهُمْ شَرْطٌ. فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَلْعَةِ تِلْكَ الْجَارِيَةُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ وَمَاتَتْ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ الشَّرْطِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا إِنْ مَاتَتْ بَعْدَ الظَّفَرِ، وَجَبَ بَدَلُهَا، لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي يَدِ الْإِمَامِ، فَتَلَفَتْ مِنْ ضَمَانِهِ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ الظَّفَرِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ فِي الْحَالَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ الْبَدَلُ، فَمَا الْبَدَلُ؟ بَنَاهُ الْإِمَامُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ فِي جَعْلِ الْجَعَالَةِ، فَقَالَ: إِذَا جُعِلَ الْجَعْل عَيْنًا، كَثَوْبٍ وَعَبْدٍ، وَتَمَّمَ الْعَامِلُ الْعَمَلَ وَالْعَيْنُ تَالِفَةٌ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَمَلِ، نُظِرَ إِنْ عَلِمَ الْعَامِلُ تَلَفَهَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّ الْمُعَاقَدَةَ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى تِلْكَ الْعَيْنِ، فَإِذَا عَمِلَ عَالِمًا بِتَلَفِهَا، كَانَ كَالْمُتَبَرِّعِ، وَإِنْ جَهِلَ، فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِعَدَمِ التَّبَرُّعِ، وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْعَمَلِ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ الْعَامِلُ بِتَسْلِيمِهَا، فَهَلْ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ أَوْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ؟ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَعْلَ الْمُعَيَّنَ مَضْمُونٌ ضَمَانَ الْعَقْدِ،

أَمْ ضَمَانَ الْيَدِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ، كَالصَّدَاقِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي الْقَطْعُ بِأَنَّ الْجَعْلَ يُضْمَنُ ضَمَانَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْجَعَالَةِ وَلَيْسَ الصَّدَاقُ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ وَامْتِنَاعِ الْجَاعِلِ مِنَ التَّسْلِيمِ، فَإِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانُ الْعَقْدِ، فَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: التَّلَفُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ كَإِتْلَافِ الْجَاعِلِ، فَيَكُونُ فِي قَوْلٍ: كَتَلَفِهِ بِآفَةٍ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلٍ: كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، فَيَتَخَيَّرُ الْعَامِلُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَارَةِ إِذَا عَرَفْتَ الْمُقَدِّمَةَ، فَبَدَلُ الْجَارِيَةِ حَيْثُ حَكَمْنَا بِهِ هُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْعَقْدِ، وَقِيمَتُهَا إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، هَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ قَوْلَيِ الصَّدَاقِ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْمَوْجُودُ لِجُمْهُورِ الْأَصْحَابِ هُنَا قِيمَةُ الْجَارِيَةِ، ثُمَّ مَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُبْهَمَةً وَمَاتَ كُلُّ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجَوَارِي، وَأَوْجَبْنَا الْبَدَلَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ قَطْعًا، لِتَعَذُّرِ تَقْوِيمِ الْمَجْهُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تُسَلَّمُ إِلَيْهِ قِيمَةُ مَنْ تَسَلُّمُ إِلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، ثُمَّ الْبَدَلُ الْوَاجِبُ هَلْ يَجِبُ فِي مَالِ الْمَصَالَحِ أَمْ فِي أَصْلِ الْغَنِيمَةِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الرَّضْخِ. فَرْعٌ إِذَا شَرَطَ جَارِيَةً مُبْهَمَةً وَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا جَارِيَةٌ، سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ وُجِدَ جَوَارٍ، فَلِلْإِمَامِ التَّعْيِينُ، وَيُجْبَرُ الْعِلْجُ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ جَارِيَةٌ وَهَذِهِ جَارِيَةٌ، كَمَا أَنَّ لِلْمُسْلِمِ إِلَيْهِ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ بِالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَيُجْبُرُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الْقَبُولِ، وَلَوْ شَرَطَ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً، فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا سِوَى تِلْكَ الْجَارِيَةِ، فَهَلْ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَفَاءً بِالشَّرْطِ، وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّ سَعْيَنَا حِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْعِلْجِ خَاصَّةً،

وَالْخِلَافُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْقَلْعَةَ، وَيُدِيمَ الْيَدَ عَلَيْهَا، لِكَوْنِهَا مَحْفُوفَةً بِبِلَادِ الْكُفْرِ، فَإِنْ أَمْكَنَ، وَجَبَ الْوَفَاءُ قَطْعًا. فَرْعٌ لَوْ وَجَدْنَا الْجَارِيَةَ مَسْلَمَةً، نُظِرَ إِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الظَّفَرِ وَهِيَ حُرَّةٌ، لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهَا، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ فِيهِ قَوْلًا أَنَّهَا تُسَلَّمُ إِلَى الْعِلْجِ، لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ الظَّفَرِ، فَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ مُسْلِمًا، وَصَحَّحْنَا هَذِهِ الْمُعَاقَدَةَ مَعَهُ، أَوْ كَافِرًا وَأَسْلَمَ، سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَيُبْنَى عَلَى شِرَاءِ الْكَافِرِ عَبْدًا مُسْلِمًا، إِنْ جَوَّزْنَاهُ، سَلَّمْنَاهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ، لَمْ تُسَلَّمْ إِلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ تُسَلَّمْ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَفِي وُجُوبِ بَدَلِهَا طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْخِلَافِ فِي الْمَوْتِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ، وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْبَدَلِ، وَإِنْ ثَبَتَ الْخِلَافُ وَهُوَ فِيمَا إِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ الظَّفَرِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِيمَا إِذَا أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ، لِأَنَّهَا إِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ تَكُونُ مَمْلُوكَةً. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، فَإِنْ فُتِحَتْ صُلْحًا، نُظِرَ إِنْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ الْمَشْرُوطَةُ خَارِجَةً عَنِ الْأَمَانِ، بِأَنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَمَانِ صَاحِبِ الْقَلْعَةِ وَأَهْلِهِ وَلَمْ تَكُنِ الْجَارِيَةُ مِنْ أَهْلِهِ، سُلِّمَتْ إِلَى الْعِلْجِ، وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْأَمَانِ، أَعْلَمْنَا صَاحِبَ الْقَلْعَةِ بِشَرْطِنَا مَعَ الْعِلْجِ وَقُلْنَا لَهُ: إِنْ رَضِيتَ بِتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، غَرِمْنَا لَكَ قِيمَتَهَا وَأَمْضَيْنَا الصُّلْحَ، وَتَكُونُ الْقَيِّمَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ، وَفِي الشَّامِلِ أَنَّهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي الرَّضْخِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ، رَاجَعْنَا الْعِلْجَ، فَإِنْ رَضِيَ بِقِيمَتِهَا أَوْ بِجَارِيَةٍ أُخْرَى، فَذَاكَ، وَإِلَّا قُلْنَا لِصَاحِبِ الْقَلْعَةِ: إِنْ لَمْ تُسَلِّمْهَا،

فَسَخْنَا الصُّلْحَ، وَنَبَذْنَا عَهْدَكَ، فَإِنِ امْتَنَعَ، رَدَدْنَاهُ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَاسْتَأْنَفْنَا الْقِتَالَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ الصُّلْحَ فِي الْجَارِيَةِ فَاسِدٌ، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْإِمَامُ نَازِلًا بِجَنْبِ قَلْعَةٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا فَقَالَ: مَنْ دَلَّنِي عَلَى قَلْعَةِ كَذَا، فَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ، فَقَالَ لَهُ عِلْجٌ: هِيَ هَذِهِ الَّتِي أَنْتَ عِنْدَهَا، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ تِلْكَ الْجَارِيَةَ إِذَا فُتِحَتْ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ، فَلَهُ كَذَا، فَجَاءَ بِهِ إِنْسَانٌ مِنَ الْبَلَدِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا دَخَلَ كَافِرٌ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ أَوْ ذِمَّةٍ، كَانَ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْأَوْلَادِ فِي أَمَانٍ، فَإِنْ شَرَطَ الْأَمَانَ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ وَلَا أَمَانَ لِمَا خَلَّفَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَيَجُوزُ اغْتِنَامُ مَالِهِ وَسَبْيُ أَوْلَادِهِ هُنَاكَ، وَعَنْ صَاحِبِ «الْحَاوِي» أَنَّهُ إِنْ قَالَ: لَكَ الْأَمَانُ، ثَبَتَ الْأَمَانُ فِي ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ، وَإِنْ قَالَ: لَكَ الْأَمَانُ فِي نَفْسِكَ، لَمْ يَثْبُتْ فِي الذُّرِّيَّةِ وَالْمَالِ، وَأَطْلَقَ الْجُمْهُورُ قَالُوا: وَقَدْ يَفْتَرِقُ الْمَالِكُ وَالْمَمْلُوكُ فِي الْأَمَانِ، وَلِهَذَا لَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَبَعَثَ مَعَهُ حَرْبِيٌّ مَالًا لِشِرَاءِ مَتَاعٍ، كَانَ مَالُهُ فِي أَمَانٍ حَتَّى يَرُدَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالِكُ فِي أَمَانٍ، وَكَذَا لَوْ بَعَثَهُ مَعَ ذِمِّيٍّ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَفِي قَوْلٍ: لَا يَكُونُ مَعَ الذِّمِّيِّ فِي أَمَانٍ، لِأَنَّ أَمَانَ الذِّمِّيِّ بَاطِلٌ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ، فَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِ، وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ أَوْ ذِمَّةٍ أَوْ لِرِسَالَةٍ فَنَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَمِنْ أَسْبَابِ النَّقْضِ أَنْ يَعُودَ لِيَتَوَطَّنَ هُنَاكَ، فَلَا يُسْبَى أَوْلَادُهُ عِنْدَنَا، وَإِنْ مَاتَ فَأَبْلَغُوا، فَإِذَا بَلَغُوا وَقَبِلُوا الْجِزْيَةَ، تُرِكُوا، وَإِلَّا بُلِّغُوا الْمَأْمَنَ، وَمَا خَلَّفَهُ عِنْدَنَا مِنْ وَدِيعَةٍ وَدَيْنٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ فِي أَمَانٍ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا، هَذَا هُوَ

الصَّحِيحُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ الْأَمَانُ فِي مَالِهِ لِانْتِقَاضِهِ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الْمَالِ تَبَعًا، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْأَمَانِ فِي مَالِهِ، حَصَلَ الْأَمَانُ فِيهِ تَبَعًا، فَيَنْتَقِضُ فِيهِ تَبَعًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْأَمَانِ لَمْ يَنْتَقِضْ، قَالَ الْإِمَامُ: فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَلِلْكَافِرِ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ أَمَانٍ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَالِ، وَالدُّخُولُ لَهُ يُؤَمِّنُهُ، كَالدُّخُولِ لِرِسَالَةٍ وَسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعَجِّلَ فِي تَحْصِيلِ غَرَضِهِ، وَلَا يُعَرِّجَ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَا لَا يُكَرِّرُ الْعَوْدَ لِأَخْذِ قِطْعَةٍ مِنَ الْمَالِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَإِنْ خَالَفَ، تَعَرَّضَ لِلْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ، وَثُبُوتُ الْأَمَانِ فِي الْمَالِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَهُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْقَى الْأَمَانُ فِي مَالِهِ كَانَ فَيْئًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْخِلَافُ فِي مَالِهِ الْمُخَلَّفِ بَعْدَ الْتِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَمَّا إِذَا فَارَقَ الْمَالَ وَلَمْ يَلْتَحِقْ بَعْدُ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَالْوَجْهُ الْجَزْمُ بِبَقَاءِ الْأَمَانِ، وَيُحْتَمَلُ طَرْدُ الْخِلَافِ، وَإِذَا نَبَذَ الْمُسْتَأْمَنُ الْعَهْدَ، وَجَبَ تَبْلِيغُهُ الْمَأْمَنَ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لِمَا مَعَهُ بِلَا خِلَافٍ، هَذَا حُكْمُ مَا تَرَكَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَلَوْ مَاتَ هُنَاكَ أَوْ قُتِلَ وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ، وَهُوَ بَقَاءُ الْأَمَانِ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ، فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فَيْئًا، وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لِوَارِثِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ، فَهُوَ فَيْءٌ قَطْعًا، وَلَوْ مَاتَ عِنْدَنَا، فَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِرَدِّهِ إِلَى وَارِثِهِ، لِأَنَّهُ مَاتَ وَالْأَمَانُ بَاقٍ فِي نَفْسِهِ، فَكَذَا فِي مَالِهِ، وَهُنَاكَ انْتَقَضَ فِي نَفْسِهِ، فَكَذَا فِي مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ وَارِثُهُ حَرْبِيًّا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الذِّمِّيَّ وَالْحَرْبِيَّ هَلْ يَتَوَارَثَانِ؟ وَلَوْ خَرَجَ الْمُسْتَأْمَنُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ غَيْرَ نَاقِضٍ لِلْعَهْدِ بَلْ لِرِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ وَمَاتَ هُنَاكَ، فَهُوَ كَمَوْتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَوِ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، بُنِيَ عَلَى مَا إِذَا مَاتَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا مَاتَ يَكُونُ لِوَارِثِهِ، وُقِفَ، فَإِنْ عَتَقَ، فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ رَقِيقًا فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يُصْرَفُ إِلَى وَارِثِهِ كَمَا لَوْ

مَاتَ حُرًّا، وَأَظْهَرُهُمَا: يَكُونُ فَيْئًا، لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُورَثُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِذَا مَاتَ يَكُونُ فَيْئًا، فَهُنَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يُوقَفُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُعْتَقَ وَيَعُودَ بِخِلَافِ الْمَوْتِ، فَإِنْ عَتَقَ، سُلِّمَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ فَيْءٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لِلسَّيِّدِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا صَرَفْنَاهُ إِلَى الْوَرَثَةِ، احْتَمَلَ أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِمْ إِرْثًا، وَلَا يَلْزَمُ الْكُفَّارَ تَفْضِيلُ شَرْعِنَا فِي مَنْعِ التَّوْرِيثِ مِنْ رَقِيقٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُصْرَفَ إِلَيْهِمْ إِرْثًا، بَلْ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِالتَّوْرِيثِ، فَهَلْ يَرِثُونَ إِذَا مَاتَ أَمْ يَسْتَنِدُ اسْتِحْقَاقُ الْوَرَثَةِ إِلَى مَا قَبْلَ جَرَيَانِ الرِّقِّ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، وَإِذَا قُلْنَا: الصَّرْفُ إِلَى الْوَرَثَةِ، فَلَهُمْ دُخُولُ الْإِسْلَامِ لِطَلَبِ ذَلِكَ الْمَالِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ فِي صَاحِبِ الْمَالِ. فَرْعٌ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَاقْتَرَضَ مِنْهُمْ شَيْئًا، أَوْ سَرَقَ وَعَادَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ إِذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ. الْعَاشِرَةُ: إِذَا حَاصَرْنَا قَلْعَةً أَوْ بَلْدَةً، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ الْإِمَامِ، جَازَ، وَكَذَا لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، وَشَرْطُهُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا ذَكَرًا حُرًّا مُكَلَّفًا عَدْلًا، لِأَنَّهُ وِلَايَةُ حُكْمٍ، كَالْقَضَاءِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا الرَّأْيُ، فَهُوَ كَالشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ تَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى، وَأَطْلَقُوا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ عَالِمًا، وَرُبَّمَا قَالُوا: فَقِيهًا، وَرُبَّمَا قَالُوا: مُجْتَهِدًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا أَظُنُّهُمْ شَرَطُوا أَوْصَافَ الِاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْمُفْتِي، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا التَّهَدِّي إِلَى طَلَبِ الصَّلَاحِ وَمَا فِيهِ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ حُسْنَ الرَّأْيِ فِي الْكُفَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اثْنَيْنِ، أَوْ عَلَى حُكْمِ مَنْ يَخْتَارُهُ الْإِمَامُ، أَوْ مَنْ يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى حُكْمِ مَنْ يَخْتَارُونَهُ إِلَّا إِذَا شَرَطُوا الْأَوْصَافَ

الْمَشْرُوطَةَ، وَلَوِ اسْتَنْزَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كُرِهَ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مَنْصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَحْصُلُ مِنْهُ اخْتِلَافٌ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوِ اسْتَنْزَلَهُمْ عَلَى أَنَّ مَا يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ يُنَفِّذُهُ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْحُكْمَ فِيهِمْ وَإِذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ اثْنَيْنِ، فَلْيَتَّفِقَا عَلَى الْحُكْمِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا، لَمْ يُنَفَّذْ إِلَّا أَنْ تَتَّفِقَ الطَّائِفَتَانِ عَلَى حُكْمٍ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ، أَوْ نَزَلُوا عَلَى حَكَمٍ وَاحِدٍ، فَمَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ، أَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ مَنْ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ، رُدُّوا إِلَى الْقَلْعَةِ إِلَى أَنْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ حَاكِمٍ فِي الْحَالِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ إِلَّا بِمَا فِيهِ الْحَظُّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمَنِّ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَاسْتَغْرَبَهُ، وَلَوْ حَكَمَ بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، كَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، لَمْ يُنَفَّذْ، وَلَوْ حَكَمَ بِقَتْلِ الْمُقَاتِلَةِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، جَازَ. وَتَكُونُ الْأَمْوَالُ غَنِيمَةً، لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ بِالْقَهْرِ، وَإِنْ حَكَمَ بِاسْتِرْقَاقِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَقَتْلِ مَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ بِاسْتِرْقَاقِ مَنْ أَسْلَمَ، وَمَنْ أَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ، جَازَ، وَيُنَفَّذُ حُكْمُ الْحَاكِمِ عَلَى الْإِمَامِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حُكْمِهِ فِي التَّشْدِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْقِصَ مِنْهُ وَيُسَامِحَ، فَإِذَا حَكَمَ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، فَلَيْسَ لَهُ الْقَتْلُ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْقَتْلِ، فَلَهُ الْمَنُّ، وَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِرْقَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ ذُلٌّ مُؤَبَّدٌ، وَإِنْ حَكَمَ بِالِاسْتِرْقَاقِ، فَلَيْسَ لَهُ الْمَنُّ إِلَّا بِرِضَى الْغَانِمِينَ، لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا لَهُمْ، وَإِنْ حَكَمَ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ، فَهَلْ يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ حُكْمُهُ وَقَدِ الْتَزَمُوهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُجْبَرُونَ، بُلِّغُوا الْمَأْمَنَ، وَإِنْ قُلْنَا: يُجْبَرُونَ، فَامْتَنَعُوا، فَهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ بَعْدَ قَبُولِهَا، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَطُرِدَ الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ حَكَمَ

فصل

بِالْمُفَادَاةِ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ قَبِلَ الْحُكْمَ، حُقِنَ دَمُهُ وَمَالُهُ، وَلَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ بِخِلَافِ الْأَسِيرِ فَإِنَّهُ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْقَتْلِ، امْتَنَعَ قَتْلُهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ بِقَتْلِ الرِّجَالِ وَسَبْيِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، لَمْ يَنْدَفِعْ بِإِسْلَامِ الرِّجَالِ إِلَّا قَتْلُهُمْ، وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْمَحْكُومِ بِقَتْلِهِ إِذَا أَسْلَمَ؟ نَقَلَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْزِلُوا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَيُطْلِقُهُمْ، وَلَا يُفَادِيهِمْ بِمَالٍ، وَيَجِيءُ عَلَى تَجْوِيزِ اسْتِرْقَاقِهِ لَوْ لَمْ يُسْلِمْ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَيْضًا، وَلَوْ حَكَمَ بِالْإِرْقَاقِ، فَأَسْلَمَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِرْقَاقِ جَازَ إِرْقَاقُهُ، عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ حَاصَرْنَا قَلْعَةً، فَصَالَحَ زَعِيمُهَا عَلَى أَمَانِ مِائَةِ شَخْصٍ مِنْهُمْ، صَحَّ لِلْحَاجَةِ، وَيُعَيِّنُ الزَّعِيمُ مِائَةً، فَإِنْ عَدَّ مِائَةً وَأَغْفَلَ نَفْسَهُ، جَازَ قَتْلُهُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ السَّيْرِ إِذَا أَسْلَمَ كَافِرٌ وَقَدْ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ، فَفِي سُقُوطِهَا عَنْهُ وَجْهَانِ، نَقَلَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، كَالدَّيْنِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا ضَعِيفٌ هَادِمٌ لِلْقَوَاعِدِ. قُلْتُ: وَلَوْ وَجَبَ عَلَى ذِمِّيٍّ حَدُّ زِنَى فَأَسْلَمَ، نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي «الْإِشْرَافِ» عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَحَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا، وَرِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَسْقُطُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَمْلِكُوهَا سَوَاءً

أَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ الْعَقَارُ وَغَيْرُهُ، وَإِذَا أَسْلَمُوا وَالْمَالُ فِي أَيْدِيهِمْ، لَزِمَهُمْ رَدُّهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَإِنْ غَنِمَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَزِمَهُمْ رَدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ الْحَالُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، رَدَّهُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، وَيُعَوِّضُهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، أَعَادَ الْقِسْمَةَ، وَنَصَّ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَزَ مُشْرِكٌ جَارِيَةَ مُسْلِمٍ وَأَوْلَدَهَا، ثُمَّ ظَفَرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ، فَالْجَارِيَةُ وَالْوَلَدُ لِلْمُسْلِمِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْوَاطِئُ، أَخَذَ مَالِكُهَا مِنْهُ الْمَهْرَ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا وَطِئَ وَأَوْلَدَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْمَهْرُ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ لِلشُّبْهَةِ، وَلَوْ أُسِرَتْ مَسْلَمَةً، فَنَكَحَهَا حَرْبِيٌّ، أَوْ أَصَابَهَا بِلَا نِكَاحٍ، فَأَوْلَدَهَا، ثُمَّ ظَفَرْنَا بِهِمْ، لَمْ يُسْتَرَقَّ أَوْلَادُهَا، لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهَا، وَيَلْحَقُونَ النَّاكِحَ لِلشُّبْهَةِ، وَنَصَّ أَنَّ جَارِيَةَ الْمُسْلِمِ لَوِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا كُفَّارٌ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى مَالِكِهَا، فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ، لَأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَلَوْ أَسَرْنَا قَوْمًا، فَقَالُوا: نَحْنُ مُسْلِمُونَ أَوْ أَهْلُ ذِمَّةٍ، صُدِّقُوا بِأَيْمَانِهِمْ إِنْ وُجِدُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ وُجِدُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يُصَدَّقُوا، وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ، فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا، وَخَرَجَ بِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَظَفَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الشِّرَاءُ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ لِبَائِعِهِ، وَيَلْزَمُهُ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ. فَرْعٌ نَصَّ فِي حَرْمَلَةَ، أَنَّهُ لَوْ أَهْدَى مُشْرِكٌ إِلَى الْأَمِيرِ، أَوْ إِلَى الْإِمَامِ هَدِيَّةً وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَهْدَى قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلُوا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ. فَرْعٌ فِدَاءُ الْأَمِيرِ الْأَسِيرَ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ قَالَ مُسْلِمٌ لِكَافِرٍ: أَطْلِقْ أَسِيرَكَ

وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، فَأَطْلَقَهُ، لَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَمَتَى فَدَى أَسِيرًا بِمَالٍ بِغَيْرِ سُؤَالِ الْأَسِيرِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِهِ، وَلَوْ قَالَ الْأَسِيرُ: افْدِنِي بِكَذَا عَلَى أَنْ تَرْجِعَ عَلَيَّ، فَفَعَلَ، رَجَعَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَشْرُطِ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ الْأَسِيرُ لِلْكَافِرِ: أَطْلِقْنِي عَلَى كَذَا، فَفَعَلَ، أَوْ قَالَ لَهُ كَافِرٌ: افْتَدِ نَفْسَكَ بِكَذَا، فَفَعَلَ، لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَ، وَالْمَالُ الَّذِي فَدَى الْأَسِيرَ بِهِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، هَلْ يَكُونُ غَنِيمَةً أَمْ يُرَدُّ إِلَى الْفَادِي؟ وَجْهَانِ: قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ أَنَّ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُرَدُّ وَهُوَ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ، فَوَجَدَ مُسْلِمَةً أَسَرُوهَا، لَزِمَهُ إِخْرَاجُهَا إِنْ أَمْكَنَهُ. فَرْعٌ سَبَقَ أَنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ فِي الْأَمَانِ عَلَى قَوْلِهِ: أَمَّنْتُكَ، هَلْ يَتَعَدَّى إِلَى مَا مَعَهُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ؟ وَجْهَانِ، وَإِنْ تَعَرَّضَ لَهُ، تَعَدَّى قَطْعًا، وَفِي «الْبَحْرِ» تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، حَكَاهُ أَوْ بَعْضَهُ عَنِ الْحَاوِي وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَطْلَقَ الْأَمَانَ، دَخَلَ فِيهِ مَا يَلْبَسُهُ مِنْ ثِيَابٍ، وَمَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي حِرْفَتِهِ مِنْ آلَاتٍ، وَمَا يُنْفِقُهُ فِي مُدَّةِ الْأَمَانِ لِلْعُرْفِ الْجَارِي بِذَلِكَ، وَمَرْكُوبُهُ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، وَلَا يَدْخُلُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْأَمَانَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَالْمَالُ أَيْضًا فِي أَمَانٍ إِنْ كَانَ حَاضِرًا، سَوَاءً أَمَّنَهُ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، لَمْ يَصِحَّ الْأَمَانُ فِيهِ إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَكَذَلِكَ الذَّرَارِيُّ يُفَرَّقُ فِيهِمْ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ، قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَمَّنْتُكَ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، كَانَ آمِنًا فِي جَمِيعِهَا، سَوَاءً أَمَّنَهُ الْإِمَامُ

أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنْ قَالَ: أَمَّنْتُكَ فِي بَلَدِ كَذَا، كَانَ آمِنًا فِيهِ، وَفِي الطَّرِيقِ إِلَيْهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَا غَيْرَ، وَإِنْ أَطْلَقَ، نُظِرَ إِنْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ، كَانَ آمِنًا فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَمَّنَهُ وَالِي الْإِقْلِيمِ، كَانَ آمِنًا فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ أَمَّنَهُ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ، اخْتَصَّ الْأَمَانُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُنُهُ الْمُؤَمَّنُ، بَلْدَةً كَانَتْ أَوْ قَرْيَةً، وَبِالطَّرِيقِ إِلَيْهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ آمِنًا فِي الطَّرِيقِ إِذَا اجْتَازَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْأَمَانُ مُقَدَّرًا بِمُدَّةِ، فَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا بِبَلَدٍ، فَلَهُ اسْتِيفَاءُ الْمُدَّةِ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ، وَلَهُ الْأَمَانُ بَعْدَهَا إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَأْمَنِهِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، انْقَضَى أَمَانُهُ بِمُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَا أَمَانَ لَهُ بَعْدَهَا لِلْعَوْدِ، لِأَنَّ مَا يَتَّصِلُ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِدَارِ الْحَرْبِ مِنْ مَحَلِّ أَمَانِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُدَّةِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَمَانِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب عقد الجزية والهدنة

كِتَابُ عَقْدِ الْجِزْيَةِ وَالْهُدْنَةِ فِيهِ بَابَانِ: الْأَوَّلُ: فِي الْجِزْيَةِ، وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ: نَفْسُ الْعَقْدِ، وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ: أَقْرَرْتُكُمْ، أَوْ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنْ تَبْذُلُوا كَذَا، وَتَنْقَادُوا لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِقَدْرِ الْجِزْيَةِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، وَيَجِبُ الْأَقَلُّ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِكَفِّهِمُ اللِّسَانَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِينِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الِانْقِيَادِ، وَيُشْتَرَطُ مِنَ الذِّمِّيِّ لَفْظُ، كَقَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ بِذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ: قَرِّرْنِي بِكَذَا، فَأَجَابَهُ الْإِمَامُ، تَمَّ الْعَقْدُ، وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الذِّمَّةِ مُؤَقَّتًا عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ، وَمَنْ صَحَّحَ، قَاسَهُ عَلَى الْهُدْنَةِ، وَلَوْ قَالَ: أُقِرُّكُمْ مَا شِئْتُ، أَوْ أُقِرِّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، أَوْ إِلَى أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُؤَقَّتِ بِمَعْلُومٍ وَعَكْسِهِ، وَجَعَلَ هَذَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَلَوْ قَالَ: أُقِرُّكُمْ مَا شِئْتُمْ، جَازَ، لِأَنَّ لَهُمْ نَبْذَ الْعَقْدِ مَتَى شَاءُوا، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَاهُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَوْ قَالَ فِي الْهُدْنَةِ: هَادَنْتُكُمْ مَا شِئْتُمْ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْكُفَّارَ مُحَكِّمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَرْعٌ إِذَا طَلَبَتْ طَائِفَةٌ تُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ عَقَدَ الذِّمَّةِ، وَجَبَتْ إِجَابَتُهُمْ، وَفِي «الْبَيَانِ» وَغَيْرِهِ وَجْهٌ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا إِذَا رَأَى الْإِمَامُ فِيهَا مَصْلَحَةً

كَمَا فِي الْهُدْنَةِ، وَهَذَا شَاذٌّ مَتْرُوكٌ، فَلَوْ خَافَ غَائِلَتَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَكِيدَةٌ مِنْهُمْ، لَمْ يُجِبْهُمْ. فَرْعٌ إِذَا عُقِدَتِ الذِّمَّةُ مَعَ إِخْلَالٍ بِشَرْطٍ، لَمْ يَلْزَمِ الْوَفَاءُ، وَلَمْ تَجْبِ الْجِزْيَةُ الْمُسَمَّاةُ، لَكِنْ لَا يُغْتَالُونَ، بَلْ يَبْلُغُونَ الْمَأْمَنَ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْدِ عِنْدَنَا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَجَبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ سَنَةٍ دِينَارٌ، وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا وَبَقِيَ مُدَّةً، فَاطَّلَعْنَا عَلَيْهِ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الَّذِي حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ: أَنَّا لَا نَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا لِمَا مَضَى بِخِلَافِ مَنْ سَكَنَ دَارًا غَصْبًا، لِأَنَّ عِمَادَ الْجِزْيَةِ الْقَبُولُ، وَهَذَا حَرْبِيٌّ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، وَخَرَّجَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَجْهًا آخَرَ: أَنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةُ مَا مَضَى، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ: لَنَا قَتْلُهُ وَاسْتِرْقَاقُهُ، وَأَخْذُ مَالِهِ، وَيَكُونُ فَيْئًا، وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، وَيَتْرُكَ أَمْوَالَهُ وَذُرِّيَّتَهُ لَهُ، جَازَ بِخِلَافِ سَبَايَا الْحَرْبِ وَأَمْوَالِهَا، لِأَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوهَا، فَاشْتُرِطَ اسْتِرْضَاؤُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ كِتَابِيًّا، وَطَلَبَ عَقَدَ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ، فَهَلْ يُجِيبُهُ وَنَعْصِمُهُ؟ تَقَدَّمَ عَلَى هَذَا حُكْمُ الْأَسِيرِ إِذَا كَانَ كِتَابِيًّا، وَطَلَبَ عَقَدَ الذِّمَّةِ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَفِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ حِينَئِذٍ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: التَّحْرِيمُ، لِأَنَّ بَذْلَ الْجِزْيَةِ يَقْتَضِي حَقْنَ الدَّمِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهَا قَبْلَ الْأَسْرِ، فَعَلَى هَذَا فِي اسْتِرْقَاقِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ أَيْضًا، وَيَجِبُ تَقْرِيرُهُ بِالْجِزْيَةِ كَمَا قَبْلَ الْأَسْرِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَحْرُمُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْظَمُ مِنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَالْإِسْلَامُ بَعْدَ الْأَسْرِ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِرْقَاقَ، وَمَالُهُ مَغْنُومٌ سَوَاءً قُلْنَا: يَحْرُمُ، أَمْ لَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَبَدَلُ الدَّاخِلِ الَّذِي أَطْلَقْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ وَجَبَ قَبُولُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، كَالْأَسِيرِ.

فَرْعٌ اطَّلَعْنَا عَلَى كَافِرٍ فِي دَارِنَا، فَقَالَ: دَخَلْتُ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِرِسَالَةٍ، صُدِّقَ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، سَوَاءً كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ أَمْ لَا، وَفِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ النَّصِّ أَنَّهُ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ إِنِ اتُّهِمَ، حَلَفَ، وَفِي «الْبَحْرِ» أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَحْلِيفُهُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: دَخَلْتُ بِأَمَانِ مُسْلِمٍ، فَهَلْ يُطَالَبُ بِبَيِّنَةٍ لِإِمْكَانِهَا غَالِبًا أَمْ يُصَدَّقُ بِلَا بَيِّنَةٍ كَدَعْوَى الرِّسَالَةِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِغَيْرِ أَمَانٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَمَا اشْتُهِرَ أَنَّ الرَّسُولَ آمِنٌ هُوَ فِي رِسَالَةٍ فِيهَا مُصْلِحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هُدْنَةٍ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ رَسُولًا فِي وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ، فَلَا أَمَانَ لَهُ، وَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ كَأَسِيرٍ. قُلْتُ: لَيْسَ مَا ادَّعَاهُ الرُّويَانِيُّ بِمَقْبُولٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَهُوَ آمِنٌ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْعَاقِدُ، وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الذِّمَّةِ إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ فَوَّضَهُ إِلَيْهِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَصِحُّ عَقْدُهَا مِنْ آحَادِ الرَّعِيَّةِ، كَالْأَمَانِ، وَهَذَا شَاذٌّ مَتْرُوكٌ، لَكِنْ لَوْ عَقَدَهَا أَحَدُ الرَّعِيَّةِ، لَمْ يُغْتَلِ الْمَعْقُودُ لَهُ، بَلْ يُلْحِقُهُ بِمَأْمَنِهِ، فَإِنْ أَقَامَ سَنَةً فَأَكْثَرَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ سَنَةٍ دِينَارٌ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ فَسَدَ عَقْدُ الْإِمَامِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ لَغْوٌ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَعْقُودُ لَهُ خَمْسَةُ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: الْعَقْلُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَى مَجْنُونٍ، لِأَنَّهَا لِحَقْنِ الدَّمِ، وَهُوَ مَحْقُونٌ، وَفِي الْبَيَانِ وَجْهٌ: أَنَّ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، كَالْمَرِيضِ وَالْهَرِمِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنْ كَانَ يَجُنُّ وَيَفِيقُ، نُظِرَ إِنْ قَلَّ زَمَنُ جُنُونِهِ، كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ، أَخِذَتْ مِنْهُ

الْجِزْيَةُ، وَإِنْ كَثُرَ بِأَنْ يُقْطَعَ يَوْمًا وَيَوْمًا، أَوْ يَوْمَيْنِ، فَأَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: تُلَفَّقُ أَيَّامُ الْإِفَاقَةِ، فَإِذَا تَمَّتْ سَنَةً، أُخِذَتِ الْجِزْيَةُ، وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَنَ بَعْضُهُ رَقِيقٌ، وَالثَّالِثُ: حُكْمُهُ كَالْعَاقِلِ وَمَا يَطْرَأُ وَيَزُولُ كَالْإِغْمَاءِ، وَالرَّابِعُ: يُحْكُمُ بِمُوجِبِ الْأَغْلَبِ، فَإِنِ اسْتَوَى الزَّمَانُ، وَجَبَتِ الْجِزْيَةُ، وَالْخَامِسُ: إِنْ كَانَ فِي آخِرِ السَّنَةِ عَاقِلًا، أُخِذَتِ الْجِزْيَةُ وَإِلَّا فَلَا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُفِيقًا، ثُمَّ جُنَّ بَعْدَ انْتِصَافِ السَّنَةِ، فَهُوَ كَمَوْتِهِ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ افْتَتَحَ سَنَةً، وَسَنَذْكُرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ وَقَعَ فِي الْأَسْرِ مَنْ يُجَنُّ وَيَفِيقُ، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ غَلَّبْنَا حُكْمَ الْمَجْنُونِ، رُقَّ وَلَا يُقْتَلُ، وَإِنْ غَلَّبْنَا حُكْمَ الْإِفَاقَةِ، لَمْ يُرَقَّ بِالْأَسْرِ، وَالظَّاهِرُ الْحَقْنُ، وَيَتَّجِهُ أَنْ تُعْتَبَرَ حَالَةُ الْأَسْرِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ. الشَّرْطُ الثَّانِي: الْبُلُوغُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ، وَإِذَا بَلَغَ وَلَدُ ذِمِّيٍّ، فَهُوَ فِي أَمَانٍ، فَلَا يُغْتَالُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ: لَا نُقِرُّكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِجِزْيَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْذُلِ الْجِزْيَةَ، أَلْحَقْنَاهُ بِمَأْمَنِهِ، وَإِنِ اخْتَارَ بَذْلَهَا، فَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، أَمْ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: الْأَوَّلُ، فَإِنِ اكْتَفَيْنَا بِعَقْدِ أَبِيهِ، لَزِمَهُ مِثْلُ جِزْيَةِ أَبِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ وَقَالَ: لَا أَبْذُلُ الزِّيَادَةَ، فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: هُوَ كَذِمِّيٍّ عَقَدَ بِأَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ، ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِ الزِّيَادَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْقَبُولِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُجْعَلَ بِالِامْتِنَاعِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُسْتَأْنَفُ مَعَهُ عَقْدٌ، رَفَقَ بِهِ الْإِمَامُ لِيَلْتَزِمَ مَا الْتَزَمَ أَبُوهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ، عُقِدَ لَهُ بِالدِّينَارِ، وَسَوَاءً اكْتَفَيْنَا بِعَقْدِ أَبِيهِ، أَمِ احْتَجْنَا إِلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ قَدْ قَالَ: الْتَزَمْتُ هَذَا عَنْ نَفْسِي وَفِي حَقِّ ابْنِي إِذَا بَلَغَ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلِابْنِ، وَلَوْ بَلَغَ الِابْنُ سَفِيهًا وَبَذَلَ جِزْيَةَ أَبِيهِ وَهِيَ فَوْقَ دِينَارٍ

فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ، وَلِيَكُونَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَكْتَفِي بِعَقْدِ أَبِيهِ أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ إِنِ اكْتَفَيْنَا، أَخْذنَا، وَإِلَّا فَهُوَ كَسَفِيهٍ جَاءَ يَطْلُبُ عَقْدَ الذِّمَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُجَابُ وَلَا يُشْتَرَطُ إِذْنُ وَلَيِّهِ، لِأَنَّ فِيهِ مُصْلِحَةَ حَقْنِ الدَّمِ، لَكِنْ لَوِ الْتَزَمَ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الْوَلِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوِلَايَةِ، حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْهُ، وَلَمْ يَرْتَضِهِ، وَقَالَ: الْحَقْنُ مُمْكِنٌ بِدِينَارٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ بَذْلِ الزِّيَادَةِ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ نَحْوَهُ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الزِّيَادَةُ وَإِنْ أَذِنَ الْوَلِيُّ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَصِحُّ عَقْدُ السَّفِيهِ بِالزِّيَادَةِ لِحَقْنِ الدَّمِ تَشْبِيهًا بِمَا إِذَا كَانَ عَلَى السَّفِيهِ قِصَاصٌ، وَصَالَحَ الْمُسْتَحِقَّ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ قَدْرِ الدِّيَةِ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ مَنْعُهُ، وَزَادَ فَقَالَ: لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْقِدَ لَهُ بِالزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ لِلسَّفِيهِ الْمَنْعُ، كَمَا يَشْتَرِي لَهُ الطَّعَامَ بِثَمَنٍ غَالٍ صِيَانَةً لِرُوحِهِ، وَفِرَّقَ الْإِمَامُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْجِزْيَةِ وَقَالَ: صِيَانَةُ الرُّوحِ لَا تَحْصُلُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَّا بِالزِّيَادَةِ، وَهُنَا بِخِلَافِهِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُ السَّفِيهِ وَالْوَلِيِّ بِالزِّيَادَةِ، وَإِذَا اخْتَارَ السَّفِيهُ الِالْتِحَاقَ، وَاخْتَارَ الْوَلِيُّ عَقْدَ الذِّمَّةِ، فَالْمُتَّبَعُ اخْتِيَارُ السَّفِيهِ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْحَرِيَّةُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَى عَبْدٍ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ بِسَبَبِهِ، وَمَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ كَالْعَبْدِ، وَقِيلَ: يَجِبُ مِنَ الْجِزْيَةِ بِقِسْطِ حُرِّيَّتِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْتُولٍ بِالْكُفْرِ، كَمَنْ تَمَحَّضَ رِقُّهُ، وَإِذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ مَنْ لَا يُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ، فَلْيُسْلِمْ، وَإِلَّا فَلْيُبَلَّغِ الْمَأْمَنَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقِرُّ، فَلْيُسْلِمْ أَوْ لِيَبْذُلِ الْجِزْيَةَ، وَإِلَّا فَلْيُبَلَّغِ الْمَأْمَنَ، سَوَاءً أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ ذِمِّيٌّ، فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةُ سَيِّدِهِ أَمْ جِزْيَةُ عُصْبَتِهِ، لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِهِ، أَمْ يُسْتَأْنَفُ لَهُ عَقْدٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الِاسْتِئْنَافُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الذُّكُورَةُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَخُنْثَى، فَإِنْ بَانَتْ ذُكُورَتُهُ، فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ الْأَخْذَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ جَاءَتْنَا امْرَأَةٌ حَرْبِيَّةٌ، فَطَلَبَتْ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِجِزْيَةٍ، أَوْ بَعَثَتْ بِذَلِكَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، أَعْلَمَهَا الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا، فَإِنْ رَغِبَتْ مَعَ ذَلِكَ فِي الْبَذْلِ، فَهَذِهِ هِبَةٌ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَإِنْ طَلَبَتِ الذِّمَّةَ بِلَا جِزْيَةٍ، أَجَابَهَا الْإِمَامُ، وَشَرَطَ عَلَيْهَا الْتِزَامَ الْأَحْكَامِ. وَلَوْ حَاصَرْنَا قَلْعَةً، فَأَرَادُوا الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، لَمْ يُجَابُوا، فَإِنْ صُولِحُوا عَلَيْهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا النِّسَاءُ فَطَلَبْنَ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ، فَقَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي «الْأُمِّ» أَحَدُهُمَا: يَعْقِدُ لَهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ يَحْتَجْنَ إِلَى صِيَانَةِ أَنْفُسِهِنَّ عَنِ الرِّقِّ، كَمَا يَحْتَاجُ الرِّجَالُ لِلصِّيَانَةِ عَنِ الْقَتْلِ، فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِنَّ أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِنَّ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُسْتَرْقَقْنَ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَإِنْ أَخَذَ الْإِمَامُ مَالًا، رَدَّهُ، لِأَنَّهُنَّ دَفَعْنَهُ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، فَإِنْ دَفَعْنَهُ عَلَى عِلْمٍ، فَهُوَ هِبَةٌ، وَالْحُكْمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَرْبِيَّةٍ بَعَثَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ تَطْلُبُ الذِّمَّةَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُعْقَدُ لَهُنَّ، وَيَتَوَصَّلُ الْإِمَامُ إِلَى الْفَتْحِ بِمَا أَمْكَنَهُ، وَإِنْ عَقَدَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُنَّ حَتَّى يَرْجِعْنَ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَإِذَا فَتَحَهَا، سَبَاهُنَّ، لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ لِقَطْعِ الْحَرْبِ، وَلَا حَرْبَ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ قَرَّبْنَ مِنْ مَصِيرِهِنَّ غَنِيمَةً فَلَا يُعْرِضُ عَنْهُنَّ بَعْدَ تَحَمُّلِ التَّعَبِ وَالْمُؤْنَةِ، وَالْقَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُنَّ جِزْيَةٌ، وَلَا يُوجَدُ أَحَدُ إِلْزَامٍ، هَذَا مَا نَقَلَهُ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِمْ، وَشَذَّ عَنْهُمُ الْإِمَامُ فَنَقَلَ فِي الْخِلَافِ وَجْهَيْنِ وَجَعَلَهُمَا فِي أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُ قَبُولُ الْجِزْيَةِ وَتُرْكُ إِرْقَاقِهِنَّ؟

وَضَعَّفَ وَجْهَ اللُّزُومِ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ الطَّرِيقَةَ الْمَشْهُورَةَ، ثُمَّ حَكَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ عَنْ بَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقَلْعَةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَبَذَلَ الْجِزْيَةَ، جَازَ، وَصَارَتِ النِّسَاءُ تَبَعًا لَهُ فِي الْعِصْمَةِ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ مُطْلِقُونَ، وَخَصَّهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ بِمَا إِذَا كُنَّ مِنْ أَهْلِهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ. فَرْعٌ عَقْدُ الذِّمَّةِ يُفِيدُ الْأَمَانَ لِلْكَافِرِ نَفْسًا وَمَالًا وَعَبِيدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَتْبِعَ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينَ مَنْ شَاءَ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الضَّبْطِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقٍ وَاتِّصَالٍ، فَيَسْتَتْبِعُ مِنْ نِسْوَةِ الْأَقَارِبِ وَصِبْيَانِهِمْ وَمَجَانِينِهِمْ مَنْ شَاءَ، بِأَنْ يُدْرِجَهُمْ فِي الْعَقْدِ شَرْطًا، وَسَوَاءٌ الْمَحَارِمُ وَغَيْرُهُمْ، فَإِنْ أَطْلَقَ، لَمْ يَتْبَعُوهُ. وَمَنْ لَهُ مُصَاهَرَةٌ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ لَهُمْ حُكْمُ الْأَقَارِبِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: كَالْأَجَانِبِ، وَفِي دُخُولِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الدُّخُولُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَالزَّوْجَاتُ كَالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ، وَقِيلَ: كَنِسَاءِ الْقَرَابَةِ. فَرْعٌ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ، زَالَتِ التَّبَعِيَّةُ، وَلَزِمَتْهُمُ الْجِزْيَةُ وَابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ حَدَثَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَإِنِ اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي نِصْفِ حَوْلِ أَهْلِهِمُ الذِّمِّيِّينَ مَثَلًا، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ أَهْلِهِمْ، وَرَغِبَ هَؤُلَاءِ فِي أَنْ يُؤَدُّوا نِصْفَ الْجِزْيَةِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ أَخَذَ جِزْيَتَهُمْ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلٌ ثَانٍ لِأَهْلِهِمْ، فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ جِزْيَةَ سَنَةٍ وَنِصْفٍ لِئَلَّا تَخْتَلِفَ الْأَحْوَالُ.

فَرْعٌ لَوْ دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ دَارَنَا بِغَيْرِ تَبَعِيَّةٍ وَلَا أَمَانٍ وَلَا طَلَبِ أَمَانٍ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهَا، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الصَّبِيِّ، كَمَا يَجُوزُ قَتْلُ الْكَافِرِ إِذَا دَخَلَ، كَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ، وَكُلُّ حُكْمٍ بِجِزْيَةٍ فِي الْقِتَالِ بِجِزْيَةٍ فِيمَنْ يَظْفَرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذِمَّةٍ وَلَا أَمَانٍ. فَرْعٌ عَنْ نَصِّهِ إِذَا صَالَحَنَا قَوْمٌ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ صِبْيَانِهِمْ وَمَجَانِينِهِمْ وَنِسَائِهِمْ سِوَى مَا يُؤَدُّونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يُؤَدُّوا مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ، جَازَ، وَكَأَنَّهُمْ قَبِلُوا جِزْيَةً كَثِيرَةً، وَإِنْ شَرَطُوهُ مِنْ مَالِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: كَوْنُهُ كِتَابِيًّا، فَالْكُفَّارُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ. أَحَدُهَا: أَهْلُ كِتَابٍ، وَمِنْهُمْ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَيُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، فَلَوْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، فَهَلْ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَذَبِيحَتُهُمْ عَلَى الْمَذْهَبِ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ فِي حِلِّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ إِلْحَاقًا لِكُتُبِهِمْ بِكِتَابِ الْيَهُودِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا أَلْحَقْنَاهُمْ بِالْيَهُودِ، فَإِنْ تَحَقَّقْنَا صِدْقَهُمْ، أَوْ أَسْلَمَ اثْنَانِ مِنْهُمْ، وَشَهِدُوا بِذَلِكَ، فَذَاكَ، وَعَنْ صَاحِبِ الْحَاوِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ تَحْصُلُ الِاسْتِفَاضَةُ بِقَوْلِهِمْ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي أَمْرِهِمْ، كَالْمَجُوسِ. الصِّنْفُ الثَّانِي: الْمَجُوسُ، فَيُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، وَهَلْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ أَمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ؟ قَوْلَانِ سَبَقَا فِي النِّكَاحِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ.

الثَّالِثُ: مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَا شُبْهَةَ، كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّمْسِ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ، فَلَا يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، سَوَاءً فِيهِمُ الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ. فَرْعٌ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، مَهْمَا دَخَلَ آبَاؤُهُمْ فِي الْيَهُودِ أَوِ التَّنَصُّرِ قَبْلَ تَبَدُّلِ ذَلِكَ الدِّينِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوْلَادِ الْمُبَدِّلِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَوْ دَخَلَ وَثَنِيٌّ فِي يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ بَعْدَ مَبْعَثِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَمْ يُقَرُّوا، هُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، لِأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِدِينٍ بَاطِلٍ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يُقَرُّونَ، وَالتَّهَوُّدُ بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالتَّهَوُّدِ وَالتَّنَصُّرِ بَعْدَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ دَخَلُوا فِيهِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ وَقَبْلَ النَّسْخِ، فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا لَمْ يُحَرَّفْ، قُرِّرَ، وَإِنْ تَمَسَّكَ بِمُحَرَّفٍ، لَمْ يُقَرَّرْ هُوَ وَلَا أَوْلَادُهُ، وَهَلْ فِي الْأَوْلَادِ قَوْلَانِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ، وَالثَّانِي: يُقَرُّونَ بِلَا تَفْصِيلٍ وَلَا خِلَافٍ، وَهَذَا الطَّرِيقُ يُدِيرُ الْحُكْمَ عَلَى الدُّخُولِ قَبْلَ النَّسْخِ وَبَعْدَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ كَجٍّ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَالْإِمَامِ، وَالرُّويَانِيِّ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا أَحْفَظُ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ لِلشَّافِعِيِّ، إِنَّمَا فَرَّقَ فِي كُتُبِهِ بَيْنَ مَا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَمَا بَعْدَهُ، وَهَذَا أَصَحُّ، قَالَ الْإِمَامُ: لِأَنَّهُمْ وَإِنْ بَدَّلُوا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِ مَا لَمْ يُبَدَّلْ، فَلَا تَنْحَطُّ عَنْ شُبْهَةِ كِتَابِ الْمَجُوسِ، أَوْ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ، وَلَوْ لَمْ نَعْرِفْ أَدَخَلُوا قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ، قَرَّرْنَاهُمْ بِالْجِزْيَةِ كَالْمَجُوسِ. فَرْعٌ الْمَذْهَبُ أَنَّ السَّامِرَةَ وَالصَّابِئِينَ إِنْ خَالَفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي

أُصُولِ دِينِهِمْ فَلَيْسُوا مِنْهُمْ، وَإِلَّا فَمِنْهُمْ، وَهَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّصَّانِ الْآخَرَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ قَطْعًا، وَهَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ يُكَفِّرْهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَإِنْ كَفَّرُوهُمْ، لَمْ يُقَرُّوا قَطْعًا، فَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُمْ، فَفِي تَقَرُّرِهِمُ احْتِمَالَانِ ذَكَرَهُمَا الْإِمَامُ، الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ. فَرْعٌ لَوْ أَحَاطَ الْإِمَامُ بِقَوْمٍ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، أَوْ أَنَّ آبَاءَهُمْ تَمَسَّكُوا بِذَلِكَ الدِّينِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ، قَرَّرَهُمْ بِالْجِزْيَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْأَمْرُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ إِنْ بَانَ خِلَافُ قَوْلِهِمْ، نَبَذَ عَهْدَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ، وَإِنِ ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، عَامَلَ كُلَّ طَائِفَةٍ بِمُقْتَضَى قَوْلِهَا، وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَوْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ اثْنَانِ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمَا، وَشَهِدَا بِخِلَافِ دَعْوَاهُمْ، نَبَذَ عَهْدَهُمْ، هَذَا لَفْظُ جَمَاعَةٍ وَقَالَ الْإِمَامُ: يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ، وَهَلْ يَغْتَالُهُمْ لِتَلْبِيسِهِمْ عَلَيْنَا أَمْ يُلْحِقُهُمْ بِالْمَأْمَنِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالظَّاهِر: اغْتِيَالُهُمْ لِتَدْلِيسِهِمْ، وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ مِنَ السَّامِرَةِ أَوِ الصَّابِئِينَ اثْنَانِ، فَشَهِدَا بِكُفْرِهِمْ. فَرْعٌ مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيٌّ وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ، فِيهِ طُرُقٌ، وَالْمَذْهَبُ: تَقْرِيرُهُ، سَوَاءً كَانَ الْكِتَابِيُّ الْأَبَ أَوِ الْأُمَّ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَقِيلَ: لَا يُقَرَّرُ، وَقِيلَ: يُلْحَقُ بِالْأَبِ، وَقِيلَ: بِالْأُمِّ. فَرْعٌ تَوَثَّنَ نَصْرَانِيٌّ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُمْ نَصْرَانِيَّةً، اسْتَمَرَّ لَهُمْ حُكْمُ التَّنَصُّرِ، فَتُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ وَثَنِيَّةً،

فصل

فَفِي تَقْرِيرِهِمْ بِالْجِزْيَةِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُمْ عُلْقَةُ التَّنَصُّرِ فَلَا تَزُولُ، وَحَقِيقَةُ الْقَوْلَيْنِ تَرْجِعُ إِلَى أَنْ تَوَثُّنَهُ هَلْ يَسْتَتْبِعُ أَوْلَادَهُ؟ فَإِنْ أَتْبَعْنَاهُمْ، لَمْ يُغْتَالُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَانٍ، وَلَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ، وَأَمَّا أَبُوهُمْ، فَيُبْنَى حُكْمُهُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّهُ هَلْ يُقْنَعُ مِنْهُ بِالْعَوْدِ إِلَى دِينِهِ أَمْ لَا يُقْنَعُ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَاهُمَا، فَيُقْتَلُ أَمْ يَلْحَقُ بِالْمَأْمَنِ؟ قَوْلَانِ الْأَظْهَرُ: الثَّانِي. فَرْعٌ الْوَلَدُ الْمُنْعَقِدُ مِنْ مُرْتَدَّيْنِ، هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ، أَمْ مُرْتَدٌّ، أَمْ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ سَبَقَتْ فِي الرِّدَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا: مُسْلِمٌ، فَبَلَغَ وَصَرَّحَ بِالْكُفْرِ، فَمُرْتَدٌّ، وَإِنْ قُلْنَا: أَصْلِيٌّ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ بِجِزْيَةٍ. فَرْعٌ يَهُودُ خَيْبَرَ كَغَيْرِهِمْ فِي ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، وَسُئِلَ ابْنُ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّا يَدَّعُونَهُ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا بِإِسْقَاطِهَا، فَقَالَ: لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي «الْبَحْرِ» أَنَّ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَسْقَطَ الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَاهُمْ، وَجَعَلَهُمْ بِذَلِكَ خَوَلًا، قَالَ: وَهَذَا شَيْءٌ تَفَرَّدَ بِهِ، وَالْمُسَاقَاةُ مُعَامَلَةٌ لَا تَقْتَضِي إِسْقَاطَ الْجِزْيَةِ. فَصْلٌ الزَّمِنُ وَالشَّيْخُ الْفَانِي، وَالْأَجِيرُ وَالرَّاهِبُ وَالْأَعْمَى تُضْرَبُ عَلَيْهِمِ الْجِزْيَةُ كَغَيْرِهِمْ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ، لِأَنَّ الْجِزْيَةَ كَأُجْرَةِ الدَّارِ، وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: لَا يُقْتَلُونَ، فَلَا جِزْيَةَ، كَالنِّسَاءِ، وَأَمَّا الْفَقِيرُ الْعَاجِزُ عَنِ الْكَسْبِ، فَالْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ، أَنَّ عَلَيْهِ جِزْيَةً، وَفِي قَوْلٍ:

مُوسِرٌ، أَخَذْنَاهَا مِنْهُ، وَإِلَّا فَهِيَ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ، وَكَذَا حُكْمُ الْحَوْلِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ، وَفِي وَجْهٍ: لَا يُمْهَلُ وَلَا يُقَرُّ فِي دَارِنَا، بَلْ يُقَالُ: إِمَّا أَنْ تُحَصِّلَ الْجِزْيَةَ بِمَا أَمْكَنَكَ، وَإِمَّا أَنْ نُبَلِّغَكَ الْمَأْمَنَ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى رَفْعِ الْجِزْيَةِ بِالْإِسْلَامِ، وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ، عَقَدْنَا لَهُ الذِّمَّةَ عَلَى شَرْطِ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَبَذْلِ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِذَا أَيْسَرَ، فَهُوَ أَوَّلُ حَوْلِهِ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ. فَرْعٌ الْجَاسُوسُ الَّذِي يُخَافُ شَرُّهُ، لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَكَانُ الْقَابِلُ لِلتَّقْرِيرِ بِلَادُ الْإِسْلَامِ حِجَازٌ وَغَيْرُهُ، فَالْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا أَيْ: قُرَاهَا، قَالَ الْإِمَامُ: قَالَ الْأَصْحَابُ: الطَّائِفُ وَوَجٌّ، وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ، وَمَا يُضَافُ إِلَيْهِمَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى مَكَّةَ مَعْدُودَةٌ مِنْ أَعْمَالِهَا، وَخَيْبَرُ مِنْ مَخَالِيفِ الْمَدِينَةِ. ثُمَّ الْحِجَازُ ضَرْبَانِ: حَرُمُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُ، أَمَّا غَيْرُهُ، فَيُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنَ الْإِقَامَةِ بِهِ، وَفِي مَنْعِهِمْ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي الطُّرُقِ الْمُمْتَدَّةِ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، الصَّحِيحُ وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْجُمْهُورِ: نَعَمْ، لِأَنَّهَا مِنَ الْحِجَازِ، وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُجْتَمَعَ النَّاسِ، وَلَا مَوْضِعَ إِقَامَةٍ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ بَحْرِ الْحِجَازِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ إِقَامَةٍ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي سَوَاحِلِهِ فِي الْجَزَائِرِ الْمَسْكُونَةِ فِي الْبَحْرِ وَمَتَى دَخَلَ كَافِرٌ الْحِجَازَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، أَخْرَجَهُ وَعَزَّرَهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ دُخُولِهِ، وَإِنِ اسْتَأْذَنَ فِي دُخُولِهِ، أُذِنَ لَهُ إِنْ كَانَ فِي دُخُولِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، كَرِسَالَةٍ أَوْ عَقْدِ هُدْنَةٍ أَوْ ذِمَّةٍ، أَوْ حَمْلِ مَتَاعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِتِجَارَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ حَاجَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَأْذَنْ لَهُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تِجَارَتِهِ شَيْئًا، هَكَذَا أَطْلَقَهُ جَمَاعَةٌ، وَحَكَوْهُ

عَنِ النَّصِّ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يَشْرُطُ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَهُوَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ قَدْرَ الْمَشْرُوطِ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، لَا أَصْلُ الشَّرْطِ فَلَا يُخَالِفُ مَا أَطْلَقَهُ غَيْرُهُ. قُلْتُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ هُوَ مُرَادُهُ مِنْ غَيْرِ تَرْدِيدٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى عِبَارَتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يُمَكَّنُ مَنْ دَخَلَ بِالْإِذْنِ أَنْ يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيَشْرُطُ عَلَيْهِ ذَلِكَ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَلَا يُحْسَبُ مِنَ الثَّلَاثَةِ يَوْمُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ دُيُونٌ، حُصِّلَتْ بِمُعَامَلَاتِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَلَمْ يُمْكِنْ قَبْضُهَا فِي الْحَالِ، أُمِرَ أَنْ يُوَكِّلَ مُسَلَّمًا بِقَبْضِهَا، وَأُخْرِجَ هُوَ، وَلَوْ كَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى أُخْرَى وَيُقِيمُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَمْ يُمْنَعْ وَأَمَّا حَرَمُ مَكَّةَ زَادَهُ اللَّهُ شَرَفًا، فَيُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُولِهِ، وَلَوْ كَانَ مُجْتَازًا، فَإِنْ جَاءَ بِرِسَالَةٍ وَالْإِمَامُ فِي الْحَرَمِ، بَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُهُ، ثُمَّ يُخْبِرُ الْإِمَامَ، أَوْ خَرَجَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إِذَا قَالَ الْكَافِرُ: لَا أُؤَدِّي الرِّسَالَةَ إِلَّا مُشَافَهَةً، وَإِنْ جَاءَ كَافِرٌ لِيُنَاظِرَهُ لِيُسْلِمَ، خَرَجَ إِلَيْهِ مَنْ يُنَاظِرُهُ، وَإِنْ حَمَلَ مِيرَةً، خَرَجَ إِلَيْهِ الرَّاغِبُونَ فِي الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لِذِمِّيٍّ مَالٌ فِي الْحَرَمِ، أَوْ دَيْنٌ، وَكَّلَ مُسْلِمًا لِيَقْبِضَهُ وَيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ بَذَلَ الْكَافِرُ عَلَى الدُّخُولِ مَالًا، لَمْ يَجِبْهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ، فَالصُّلْحُ فَاسِدٌ، فَإِنْ دَخَلَ، أُخْرِجَ وَثَبَتَ الْعِوَضُ الْمُسَمَّى بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَثْبُتُ فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ هُنَا اسْتَوْفَى الْمُعَوِّضَ وَلَيْسَ لِمِثْلِهِ أُجْرَةً، وَإِنْ دَخَلَ وَلَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ، وَجَبَتِ الْحِصَّةُ مِنَ الْمُسَمَّى، وَلَوْ دَخَلَ كَافِرٌ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، أُخْرِجَ وَعُزِّرَ إِنْ كَانَ عَلِمَ، فَلَوْ مَاتَ فِيهِ، لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ، فَإِنْ دُفِنَ، نُبِشَ وَأُخْرِجَ، فَإِنْ تَقَطَّعَ، تُرِكَ، وَفِي «الْبَحْرِ» وَجْهٌ أَنَّهُ تُجْمَعَ عِظَامُهُ إِنْ أَمْكَنَ وَتُخْرَجُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْإِمَامُ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْجُمْهُورُ،

وَلَوْ مَرِضَ فِيهِ، لَمْ يُمَرَّضْ فِيهِ، بَلْ يُنْقَلُ وَإِنْ خِيفَ مِنَ النَّقْلِ مَوْتُهُ، وَلَوْ مَرِضَ كَافِرٌ فِي الْحِجَازِ خَارِجَ الْحَرَمِ، قَالَ: إِنْ أَمْكَنَ نَقْلُهُ بِلَا مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ عَلَيْهِ، كُلِّفَ الِانْتِقَالَ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، تَرَكَ حَتَّى يَبْرَأَ، وَإِنْ لَمْ يَخَفِ الْمَوْتَ، وَلَكِنْ تَنَالُهُ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ، فَالْأَصَحُّ تَكْلِيفُهُ الِانْتِقَالَ، وَجَوَابُ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُنْقَلُ مُطْلَقًا، فَلَوْ مَاتَ فِي الْحِجَازِ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، دُفِنَ فِيهِ، وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَنَّا نُوَارِيهِ مُوَارَاةَ الْجِيَفِ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِ الْحِجَازِ، نُقِلَ لِسُهُولَتِهِ، وَأَطْلَقَ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ يُدْفَنُ فِيهِ، وَقَالُوا: إِذَا جَازَ تَرْكُهُ فِي الْحِجَازِ لِلْمَرَضِ، فَلِلْمَوْتِ أَوْلَى، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ تَفْصِيلًا جَيِّدًا وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ نَقْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ، نُقِلَ وَلَمْ يُدْفَنْ فِيهِ، وَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ، دُفِنَ لِلضَّرُورَةِ، وَإِذَا دُفِنَ حَيْثُ لَا يُؤْذَنُ فِيهِ، هَلْ يُنْبَشُ وَيُخْرَجُ عِنْدَ التَّمَكُّنِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، وَالصَّحِيحُ: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، فَعَلَى هَذَا قَالَ الْإِمَامُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يُرْفَعَ نَعْشُ قَبْرِهِ، وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَلَا يُلْحَقُ بِحَرَمِ مَكَّةَ فِيمَا ذَكَرْنَا، لَكِنِ اسْتَحْسَنَ الرُّويَانِيُّ أَنْ يُخْرَجَ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَتَعَذَّرِ الْإِخْرَاجُ وَيُدْفَنُ خَارِجُهُ، أَمَّا غَيْرُ الْحِجَازِ، فَيَجُوزُ تَقْرِيرُ الْكُفَّارِ فِيهِ بِالْجِزْيَةِ وَلِكُلِّ كَافِرٍ دُخُولُهُ بِالْأَمَانِ، وَإِذَا اسْتَأْذَنَ كَافِرٌ فِي الدُّخُولِ، لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ إِلَّا لِحَاجَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَجُسَّ، أَوْ يَطَّلِعَ عَلَى عَوْرَةٍ، وَيَتَوَلَّدَ مِنَ اطِّلَاعِهِ فَسَادٌ، أَوْ يَفْتِكَ بِمُسْلِمٍ، وَيُؤْذَنُ لَهُ إِذَا كَانَ فِي دُخُولِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، كَرِسَالَةٍ وَعَقْدِ ذِمَّةٍ أَوْ هُدْنَةٍ، وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ لِتِجَارَةٍ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ، وَيَأْخُذُ مِنْ تِجَارَتِهِ شَيْئًا كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا دَخَلَ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ فَلْيَكُنْ مُكْثُهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَلَيْسَ لِكَافِرٍ أَنْ يَدْخُلَ مَسَاجِدَ هَذِهِ الْبِلَادِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِهَا لِأَكْلٍ وَلَا نَوْمٍ، لَكِنْ يُؤْذَنُ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَكَذَا لِحَاجَتِهِ إِلَى مُسْلِمٍ، أَوْ حَاجَةِ مُسْلِمٍ إِلَيْهِ، وَإِذَا دَخَلَ بِلَا إِذْنٍ إِنْ كَانَ جَاهِلًا فَمَعْذُورٌ وَيُعَرَّفُ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا، عُزِّرَ، وَقِيلَ: لَا يُعَزَّرُ إِلَّا أَنْ

يَشْرُطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ بِلَا إِذْنٍ، وَجُلُوسُ الْقَاضِي فِي الْمَسْجِدِ إِذْنٌ لِلْكَافِرِ فِي الدُّخُولِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ. وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِهِ جُنُبًا وَغَيْرَهُ؟ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ يَكْفِي إِذْنُ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي دُخُولِ كُلِّ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: لَا يَكْفِي فِي الْجَامِعِ إِلَّا إِذْنُ السُّلْطَانِ، وَفِي مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ وَالْمَحَالِّ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ إِذْنُ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْجِهَادِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَكْفِي إِذْنُ مَنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ، وَإِذَا قَدِمَ وَفْدٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُنْزِلَهُمُ الْإِمَامُ فِي دَارٍ مُهَيَّأَةٍ لِذَلِكَ، أَوْ فِي فُضُولِ مَسَاكِنِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ، فَلَهُ إِنْزَالُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ تَعْلِيمُهُمُ الْقُرْآنَ إِذَا رُجِيَ إِسْلَامُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ إِذَا خِيفَ اسْتِخْفَافُهُمْ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَعْلِيمِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْفِقْهِ وَالْكَلَامِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ الشِّعْرِ وَالنَّحْوِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، لِئَلَّا يَتَطَاوَلُوا بِهِ عَلَى مُسْلِمٍ لَا يُحْسِنُهُ. قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَيُمْنَعُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيمُهُ الْقُرْآنَ إِنْ لَمْ يُرْجَ إِسْلَامُهُ وَيَمْنَعُهُ التَّعْلِيمُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ رُجِيَ، جَازَ تَعْلِيمُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ لِتِجَارَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ إِظْهَارِ خَمْرٍ وَلَا خِنْزِيرٍ، وَلَا يَأْذَنُ لَهُ الْإِمَامُ فِي حَمْلِهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. الرَّكْنُ الْخَامِسُ: الْمَالُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: أَقَلُّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ لِكُلِّ سَنَةٍ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ الْأَقَلَّ دِينَارٌ، أَوِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا نَقْرَةً خَالِصَةً مَسْكُوكَةً، يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَلْزَمُ الْإِمَامُ أَنْ يُخَيِّرَهُمْ بِأَقَلِّ الْجِزْيَةِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُمَاكِسَ حَتَّى يَأْخُذَ مِنَ الْغَنِيِّ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَمِنَ الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَيْنِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: مَوْضِعُ الْمُمَاكَسَةِ مَا إِذَا لَمْ

يَعْلَمِ الْكَافِرُ جَوَازَ الِاقْتِصَارِ عَلَى دِينَارٍ، فَإِنْ عَلِمَ، تُطْلَبُ الزِّيَادَةُ اسْتِمَاحَةً، فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِ مَا زَادَ عَلَى دِينَارٍ، وَجَبَ تَقْرِيرُهُمْ بِالدِّينَارِ سَوَاءٌ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَلَوْ عَقَدَ بِأَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ، لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَ، كَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُقْنَعُ بِالدِّينَارِ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ نَاقِضٌ لِلْعَهْدِ بِذَلِكَ، كَمَا لَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ أَصْلِ الْجِزْيَةِ، وَحِينَئِذٍ هَلْ يُبَلَّغُ الْمَأْمَنَ أَمْ يُقْتَلُ؟ قَوْلَانِ سَنَذْكُرُهُمَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ بُلِّغَ الْمَأْمَنَ وَعَادَ، فَطَلَبَ الْعَقْدَ بِدِينَارٍ، أَجَبْنَاهُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَأَطْلَقَ الْإِمَامُ أَنَّهُ إِذَا قَبِلَ الزِّيَادَةَ، ثُمَّ نَبَذَ الْعَهْدَ إِلَيْنَا لَا يُغْتَالُ، وَإِذَا طَلَبَ تَجْدِيدَ عَقْدٍ بِالدِّينَارِ، لَزِمَ إِجَابَتُهُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ النَّبْذُ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ، لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهَا، لَزِمَهُ بِقِسْطِهِ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَذْهَبِ فِيمَا إِذَا مَاتَ الذِّمِّيُّ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ. فَرْعٌ نَصَّ أَنَّهُ لَوْ شَرَطٌ عَلَى قَوْمٍ أَنَّ عَلَى فَقِيرِهِمْ دِينَارًا، وَمُتَوَسَّطِهِمْ دِينَارَيْنِ، وَغَنِيِّهِمْ أَرْبَعَةً، جَازَ، وَالِاعْتِبَارُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِوَقْتِ الْأَخْذِ لَا بِوَقْتِ الْعَقْدِ، وَلَا بِمَا يَطْرَأُ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا مُتَوَسِّطٌ أَوْ فَقِيرٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ مَاتَ الذِّمِّيُّ، أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ، لَمْ تَسْقُطِ الْجِزْيَةُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، فَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَمِنْهُ إِذَا أَسْلَمَ، وَلَوْ مَضَتْ سُنُونَ وَلَمْ يُؤَدِّ الْجِزْيَةَ، أُخِذَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ، وَلَوْ مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ، فَهَلْ يَجِبُ قِسْطُ مَا مَضَى كَالْأُجْرَةِ أَمْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ كَالزَّكَاةِ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: تَجِبُ قَطْعًا، وَقِيلَ: عَكْسُهُ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ فِي الْمَوْتِ، وَفِي الْإِسْلَامِ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا، فَهَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطَالِبَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ بِقِسْطِ مَا مَضَى؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا:

لَا، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ تَعْجِيلَهَا؟ وَجْهَانِ، وَجْهُ الْجَوَازِ إِلْحَاقُهَا بِالْأُجْرَةِ، وَمَتَى مَاتَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ، أُخِذَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصِيَّةِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ، فَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَمِنْهُ إِذَا أَسْلَمَ، فَلَوْ كَانَ مَعَهَا دَيْنُ آدَمِيٍّ، فَالْمُذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَقِيلَ: فِيهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي اجْتِمَاعِ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَيْنِ الْآدَمِيِّ هَلْ يُقَدَّمُ ذَا أَمْ ذَاكَ أَمْ يَسْتَوِي، وَفِي «الْوَسِيطِ» طَرِيقَةٌ حَازِمَةٌ بِتَقْدِيمِ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ غَلَطٌ. الثَّالِثَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَشْرُطَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا صُولِحُوا فِي بُلْدَانِهِمْ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَرْطُ الضِّيَافَةِ يَكُونُ لِجَمِيعِ الطَّارِقِينَ، وَلَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْفَيْءِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: فِي اخْتِصَاصِهِمْ وَجْهَانِ، وَهَلِ الضِّيَافَةُ زِيَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي نَفْسِهَا أَمْ مَحْسُوبَةٌ مِنَ الْجِزْيَةِ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: أَنَّهَا زِيَادَةٌ وَرَاءَ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قَبِلُوهَا، لَزِمَ الْوَفَاءُ، وَجَرَتْ مَجْرَى الزِّيَادَةِ عَلَى دِينَارٍ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا مِنَ الْجِزْيَةِ فَعَلِمْنَا فِي آخِرِ السَّنَةِ أَنَّ مَا ضَيَّفُوا بِهِ لَا يَنْقُصُ عَنْ دِينَارٍ فَذَاكَ، وَإِنْ نَقَصَ، لَزِمَهُمْ تَتْمِيمُهُ، وَإِذَا شَرَطْنَا الضِّيَافَةَ، ثُمَّ رَأَى الْإِمَامُ نَقْلَهَا إِلَى الدَّنَانِيرِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ إِلَّا بِرِضَاهُمْ، فَإِنْ رُدَّتْ إِلَى الدَّنَانِيرِ، فَهَلْ يَبْقَى لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، أَمْ يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْفَيْءِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الِاخْتِصَاصُ، كَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ، وَتُشْتَرَطُ الضِّيَافَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ، وَفِي الْفَقِيرِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: لَا تُشْتَرَطُ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: بَلَى، وَالثَّالِثُ: تُشْتَرَطُ عَلَى الْمُعْتَمِلِ دُونَ غَيْرِهِ وَيَتَعَرَّضُ الْإِمَامُ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الضِّيَافَةِ لِأُمُورٍ مِنْهَا: أَنْ يُبَيِّنَ عَدَدَ أَيَّامِ الضِّيَافَةِ فِي الْحَوْلِ، كَمِائَةِ يَوْمٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي «الْبَحْرِ» أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ عَدَدَ الْأَيَّامِ فِي الْحَوْلِ وَشَرَطَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا عِنْدَ قُدُومِ كُلِّ قَوْمٍ، فَوَجْهَانِ، إِنْ جَعَلْنَاهَا جِزْيَةً، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ.

وَمِنْهَا: بَيَانُ عَدَدِ الضِّيفَانِ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ، وَعَنْ «الْحَاوِي» أَنَّ التَّعَرُّضَ لِعَدَدِ الضِّيفَانِ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ إِذَا جَعَلَنَا الضِّيَافَةَ مِنَ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهَا وَرَاءَهَا، جَازَ أَنْ لَا يُبَيِّنَ الْعَدَدَ، ثُمَّ إِنْ تَسَاوَوْا فِي الْجِزْيَةِ، تَسَاوَوْا فِي الضِّيَافَةِ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا، فَاوَتَ بَيْنَهُمْ، فَيَجْعَلُ عَلَى الْغَنِيِّ ضِيَافَةَ عِشْرِينَ مَثَلًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ عَشَرَةً، وَالْفَقِيرِ إِنْ قُلْنَا بِاشْتِرَاطِهَا عَلَيْهِ خَمْسَةً، وَفِي وَجْهٍ يُسَوِّي بَيْنَهُمْ فِي الضِّيَافَةِ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي الْجِزْيَةِ، وَلَوْ شَرَطَ عَدَدَ الضِّيفَانِ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَقَالَ: تُضَيِّفُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ مُسْلِمٍ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: يَكْفِي ذَلِكَ، ثُمَّ هُمْ يُوَزِّعُونَهَا أَوْ يَتَحَمَّلُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. وَمِنْهَا: بَيَانُ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَجِنْسِهِمَا، فَيَقُولُ: لِكُلِّ وَاحِدٍ كَذَا مِنَ الْخُبْزِ، وَكَذَا مِنَ السَّمْنِ أَوِ الزَّيْتِ، وَيَتَعَرَّضُ لِعَلَفِ الدَّوَابِّ مِنَ التِّبْنِ أَوِ الْحَشِيشِ أَوِ الْقَتِّ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَرِ قَدْرِ الْعَلَفِ، وَإِنْ ذَكَرَ الشَّعِيرَ، بَيَّنَ قَدْرَهُ، وَإِطْلَاقُ الْعَلَفِ لَا يَقْتَضِي الشَّعِيرَ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: مَنْزِلُ الضِّيفَانِ مِنْ فُضُولِ مَنَازِلِهِمْ أَوْ كَنَائِسِهِمْ، أَوْ بُيُوتِ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا يُضَيِّفُونَ، وَلْيَكُنِ الْمَوْضِعُ بِحَيْثُ يَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَلَا يُخْرِجُونَ أَهْلَ الْمَنَازِلِ مِنْهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يُبَيِّنَ مُدَّةَ مُقَامِ الضَّيْفُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: يُشْتَرَطُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَالْغَنِيِّ سِتَّةً. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا حَصَلَ التَّوَافُقُ عَلَى الزِّيَادَةِ، فَلَا مَنْعَ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الطَّبَقَاتِ فِي جِنْسِ الطَّعَامِ. فَرْعٌ لَوْ أَرَادَ الضَّيْفُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ ثَمَنَ الطَّعَامِ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الطَّعَامَ وَيَذْهَبَ بِهِ وَلَا يَأْكُلَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ طَعَامِ الْوَلِيمَةِ،

فصل

لِأَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ، وَتِلْكَ مَكْرُمَةٌ، وَلَا يُطَالِبُهُمْ بِطَعَامِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَلَوْ لَمْ يَأْتُوا بِطَعَامِ الْيَوْمِ، فَهَلْ لِلضَّيْفِ الْمُطَالَبَةُ مِنَ الْغَدِ، إِنْ جَعَلْنَا الضِّيَافَةَ مَحْسُوبَةً مِنَ الدِّينَارِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَا تَلْزَمُهُمْ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْحَمَّامِ وَثَمَنُ الدَّوَاءِ، وَلَوْ تَنَازَعُوا فِي إِنْزَالِ الضَّيْفِ، فَالْخِيَارُ لَهُ، وَلَوْ تَزَاحَمَ الضِّيفَانِ عَلَى ذِمِّيٍّ، فَالْخِيَارُ لَهُ، وَلَوْ قَلَّ عَدَدُهُمْ، وَكَثُرَ الضِّيفَانِ، فَالسَّابِقُ أَحَقُّ، فَإِنْ تَسَاوَوْا، أَقْرَعَ، وَلْيَكُنْ لَلضِّيفَانِ عَرِّيفٌ يُرَتِّبُ أَمْرَهُمْ. فَصْلٌ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ عَلَى سَبِيلِ الصَّغَارِ وَالْإِهَانَةِ، بِأَنْ يَكُونَ الذِّمِّيُّ قَائِمًا، وَالْمُسْلِمُ الَّذِي يَأْخُذُهَا جَالِسًا، وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُخْرِجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ، وَيَحْنِيَ ظَهْرَهُ وَيُطَأْطِئَ رَأْسَهُ، وَيَصُبَّ مَا مَعَهُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَيَأْخُذُ الْمُسْتَوْفِي بِلِحْيَتِهِ وَيَضْرِبُ فِي لِهْزَمَتِهِ: وَهِيَ مُجْتَمَعُ اللَّحْمِ بَيْنَ الْمَاضِغِ وَالْأُذُنِ [مِنَ اللِّحْيِ] ، وَهَذَا مَعْنَى الصَّغَارِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَهَلْ هَذِهِ الْهَيْئَةُ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: مُسْتَحَبَّةٌ، وَيُبْنَى عَلَيْهِمَا أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمًا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَأَنْ يَضْمَنَهَا مُسْلِمٌ عَنْ ذِمِّيٍّ، وَأَنْ يُحِيلَ ذِمِّيٌّ بِهَا عَلَى مُسْلِمٍ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا إِقَامَةَ الصَّغَارِ عِنْدَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْمَالِ، وَيَحْصُلُ الصَّغَارُ بِالْتِزَامِهِ الْمَالَ وَالْأَحْكَامَ كُرْهًا، جَازَ، وَالضَّمَانُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مُطَالَبَةَ الذِّمِّيِّ وَإِقَامَةَ الصَّغَارِ عَلَيْهِ، وَلَوْ وَكَّلَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا بِالْأَدَاءِ، قَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ طَرْدُ الْخِلَافِ، وَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمًا ءفِي عَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُ، جَازَ، لِأَنَّ الصَّغَارَ يُرْعَى عِنْدَ الْأَدَاءِ دُونَ الْعَقْدِ. قُلْتُ: هَذِهِ الْهَيْئَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا، لَا نَعْلَمُ لَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَصْلًا مُعْتَمَدًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَقَالَ جُمْهُورٌ

فصل

الْأَصْحَابِ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ بِرِفْقٍ، كَأَخْذِ الدُّيُونِ، فَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِأَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ بَاطِلَةٌ مَرْدُودَةٌ عَلَى مَنِ اخْتَرَعَهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا مَعَ أَخْذِهِمِ الْجِزْيَةَ، وَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِزْيَةِ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ: تَفْسِيرُ الصَّغَارِ بِالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَشَدُّ الصَّغَارِ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ وَيَضْطَرَّ إِلَى احْتِمَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ طَلَبَ الْجِزْيَةَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَهُمْ: تَنُوخُ وَبَهْرَاءُ وَبَنُو تَغَلِبَ، وَهُمْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ تَنَصَّرُوا لَا يُعْلَمُ مَتَى تَنَصَّرُوا، وَهُمْ مُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، فَقَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ، فَخُذْ مِنَّا مَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، يَعْنُونَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا فَرْضُ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: زِدْ مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسْمِ لَا بَاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَرَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ تُضَعَّفَ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَمْ يُخَالِفْ عُمَرَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ، وَعَقْدُ الذِّمَّةُ لَهُمْ مُؤَبَّدًا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُ مَا فَعَلَهُ، قَالُوا: وَفِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُقِلُّ مَالُهُ الزَّكَوِيُّ، فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ، وَرُبَّمَا قَلَّتْ أَمْوَالُهُمُ الزَّكَوِيَّةُ، فَيَنْقُصُ الْمَأْخُوذُ عَنْ دِينَارٍ لِكُلِّ رَأْسٍ، الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ وَفَّى الْمَأْخُوذَ بِدِينَارٍ لِكُلِّ رَأْسٍ، فَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَمْلِكُ مَالًا زَكَوِيًّا فَيَكُونُ قَدْ قَرَّرَ بِلَا جِزْيَةٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَإِنْ بَذَلَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ، كَمَا لَوْ قَالَ وَاحِدٌ: خُذُوا مِنِّي عَشْرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى تِسْعَةٍ مَعِي، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ فِعْلَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْخُوذَ لَا يَنْقُصُ عَنْ

دِينَارٍ لِكُلِّ رَأْسٍ، أَوْ أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِمِ الْإِتْمَامُ إِنْ نَقَصَ، وَقِيلَ: احْتَمَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنْ نَقَصَ فِي وَقْتٍ فَرُبَّمَا زَادَ فِي وَقْتٍ فَتَجْبُرُ الزِّيَادَةُ النَّقْصَ، وَعَنِ الثَّانِي، بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ مَأْخُوذٌ عَنْهُمْ وَعَنِ الْآخَرِينَ، وَلِبَعْضِهِمْ أَنْ يَلْتَزِمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَغَرَضُنَا تَحْصِيلُ دِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ تَقْرِيرَ بَعْضِهِمْ بِلَا مَالٍ،. وَأُجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوِ الْتَزَمَ وَاحِدٌ عَشْرَ دَنَانِيرَ عَنْهُ وَعَنْ تِسْعَةٍ، إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَوْ طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، وَلَا يُؤَدُّوهَا بِاسْم الْجِزْيَةِ، فَلِلْإِمَامِ إِجَابَتُهُمْ إِذَا رَأَى ذَلِكَ، وَيُسْقِطُ عَنْهُمُ الْإِهَانَةَ وَاسْمَ الْجِزْيَةِ، وَيَأْخُذُ ضِعْفَ الصَّدَقَةِ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِالْعَرَبِ لِشَرَفِهِمْ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ بِمَالِ الزَّكَاةِ وَقَدْرِهَا، وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ: جَعَلْتُ عَلَيْكُمْ ضِعْفَ الصَّدَقَةِ، أَوْ صَالَحْتُكُمْ عَلَى ضِعْفِ الصَّدَقَةِ، وَالْمَأْخُوذُ جِزْيَةٌ تُصْرَفُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ، وَلَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالنِّسْوَةِ وَيُنْظَرُ فِي الْحَاصِلِ هَلْ يَفِي بِدِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ؟ فَإِنْ لَمْ يَفِ، زَادَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَضْعَافٍ فَأَكْثَرَ، وَهَلْ يَدْخُلُ الْفَقِيرُ فِي التَّوْزِيعِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةٌ أَمْ لَا، وَلَوْ كَثُرُوا وَعَسِرَ عَدَدُهُمْ لِمَعْرِفَةِ الْوَفَاءِ بِالدِّينَارِ، فَهَلْ يَجُوزُ الْأَخْذُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، بَلْ يُشْتَرَطُ تَحَقُّقُ أَخْذِ دِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَدْرِ الصَّدَقَةِ وَعَلَى نِصْفِهَا إِذَا حَصَلَ الْوَفَاءُ بِالدِّينَارِ، وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ زِيَادَةَ شَيْءٍ عَلَى قَدْرِ الصَّدَقَةِ لِإِسْقَاطِ اسْمِ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يَسْتَبْعِدِ الْإِمَامُ الْمَنْعَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْبِيهِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَأْخُوذِ، وَحَطِّ الصَّغَارِ بِلَا غَرَضٍ مَالِيٍّ، وَإِذَا

شَرَطَ ضِعْفَ الصَّدَقَةِ، وَزَادَ عَلَى دِينَارٍ، ثُمَّ سَأَلُوا إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ وَإِعَادَةَ اسْمِ الْجِزْيَةِ، أَجِيبُوا عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ يَأْخُذُ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاتَيْنِ، وَمِنْ عَشْرٍ أَرْبَعًا، وَمِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتَيْ مَخَاضٍ، وَمِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاتَيْنِ، وَمِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعَتَيْنِ، وَمِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا، وَمِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَمِمَّا سَقَتِ السَّمَاءُ الْخُمُسَ، وَمِمَّا سُقِيَ بِالنَّوَاضِحِ الْعُشُرَ، وَمِنَ الرِّكَازِ خَمْسِينَ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَمِنْ مِائَتَيْ بَعِيرٍ ثَمَانِ حِقَاقٍ أَوْ عَشْرَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَلَا يُفَرِّقُ فَيُؤْخَذُ أَرْبَعُ حِقَاقٍ وَخَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، كَمَا لَا يُفَرِّقُ فِي الصَّدَقَةِ، وَمِنْ سِتِّينَ بَقَرَةً أَرْبَعَةَ أَتْبِعَةٍ لَا ثَلَاثَ مُسِنَّاتٍ، وَمِنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ بَعِيرًا حِقَّتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمَا فَبِنْتَيْ لَبُونٍ مَعَ الْجُبْرَانِ، وَمِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتَيْ لَبُونٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِنْتَيْ مَخَاضٍ مَعَ الْجُبْرَانِ، وَفِي تَضْعِيفِ الْجُبْرَانِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُضَعَّفُ، فَيُؤْخَذُ مَعَ كُلِّ بِنْتِ مَخَاضٍ شَاتَانِ، أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، فَإِنْ لَمْ نَجِدْ فِي مَالِ صَاحِبِ السِّتِّ وَالثَلَاثِينَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَاقٌ، أَخَذْنَا حِقَّتَيْنِ وَرَدَدْنَا جُبْرَانَيْنِ وَلَا يُضَعَّفُ الْجُبْرَانُ هُنَا قَطْعًا، وَيُخَرِّجُ الْإِمَامُ الْجُبْرَانَ مِنَ الْفَيْءِ كَمَا يَصْرِفُهُ إِذَا أَخَذَهُ إِلَى الْفَيْءِ، وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِ النِّصَابِ قِسْطُهُ مِنْ وَاجِبِ النَّصَّابِ، كَشَاةٍ مِنْ عِشْرِينَ وَنِصْفِ شَاةٍ مِنْ عَشْرٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ، رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ مِائَةِ شَاةٍ وَنِصْفِ شَاةٍ ثَلَاثَ شِيَاهٍ، وَمِنْ سَبْعَةِ أَبْعِرَةٍ وَنِصْفٍ ثَلَاثَ شِيَاهٍ، وَمِنْ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ، وَأَجْرَى الْخِلَافَ فِي الْأَوْقَاصِ، هَلْ يُحَطُّ عَنْهُمْ أَمْ يَجِبُ قِسْطُ الْمَأْخُوذِ فِي حَقِّهِمْ، وَقِيلَ: إِنْ أَدَّى الْأَخْذَ مِنَ الْوَقَصِ إِلَى التَّشْقِيصِ مَعَ التَّضْعِيفِ لَمْ يُؤْخَذْ، وَإِلَّا فَيُؤْخَذُ.

فصل

فَرْعٌ إِذَا ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَا يَحْصُلُ مِنْ أَرْضِهِمْ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، فَبَاعَ أَرْضَهُمْ، صَحَّ بَيْعُهُ، فَإِنْ بَقِيَ مَعَ الْبَائِعِ مَا بَقِيَ الْحَاصِلُ مِنْهُ بِالْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا انْقَلَبَتِ الْجِزْيَةُ إِلَى رَقَبَةِ الْبَائِعِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا اشْتَرَاهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا، فَإِنْ كَانَتِ الْجِزْيَةُ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى حَاصِلِ أَرْضِهِ، زَادَ الْوَاجِبُ بِمَا اشْتَرَاهُ. فَصْلٌ إِذَا اسْتَأْذَنَ حَرْبِيٌّ فِي دُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ، أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ إِنْ كَانَ يَدْخُلُ لِرِسَالَةٍ، أَوْ حَمْلِ مِيرَةٍ، أَوْ مَتَاعٍ تَشْتَدُّ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَجُوزُ تَوْظِيفُ مَالٍ عَلَى رَسُولٍ، وَلَا عَلَى مُسْتَجِيرٍ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ لَهُمَا الدُّخُولَ بِلَا إِذْنٍ، وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ لِتِجَارَةٍ لَا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ وَيَشْرُطَ عَلَيْهِ عُشُرَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ، وَلَوْ دَخَلَ غَيْرُ تَاجِرٍ بِأَمَانِ مُسْلِمٍ، لَمْ يُطَالَبْ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: إِنْ دَخَلَ الْحِجَازَ، وَجَبَ دِينَارٌ، لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ، وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَزِيدَ الْمَشْرُوطُ عَلَى الْعُشُرِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجْتَهِدُ فِيهِ كَمَا فِي زِيَادَةِ الْجِزْيَةِ عَلَى دِينَارٍ، وَلَوْ رَأَى أَنْ يَحُطَّ الضَّرِيبَةَ عَنِ الْعُشُرِ، وَيَرُدَّهَا إِلَى نِصْفِ الْعُشُرِ فَمَا دُونَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَشْرُطَ فِي نَوْعٍ مِنْ تِجَارَتِهِمْ نِصْفَ الْعُشُرِ، وَفِي غَيْرِهِ الْعُشُرَ، وَلَوْ رَأَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ لِاتِّسَاعِ الْمَكَاسِبِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تِجَارَةِ الْكَافِرِ، أَخَذَ، سَوَاءً بَاعَ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ تِجَارَتِهِ، لَمْ يَأْخُذْ حَتَّى

فصل

يَبِيعَ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ، فَلَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيمَا سِوَى الْحِجَازِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ تِجَارَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ فِي «الْبَيَانِ» : إِلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ مَعَ الْجِزْيَةِ شَيْءٌ مِنْ تِجَارَتِهِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْحِجَازَ، وَيَتَّجِرَ فِيهِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَجِيزِ» خِلَافًا فِي أَنَّهُ هَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ؟ وَلَا وُجُودَ لِهَذَا الْخِلَافِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» بَلِ الَّذِي نَقَلَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّ الذِّمِّيَّ فِي الْحِجَازِ كَالْحَرْبِيِّ فِي سَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ لَا يُؤْخَذُ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَّا مَرَّةً، كَالْجِزْيَةِ، وَكَذَا الْحَرْبِيُّ إِذَا أُخِذَتْ مِنْهُ الضَّرِيبَةُ مَرَّةً لَا تُؤْخَذُ ثَانِيًا حَتَّى يَمْضِيَ إِذَا كَانَ يَطُوفُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِأَجْرٍ أَوْ يُكْتَبُ لَهُ وَلِلذِّمِّيِّ بَرَاءَةٌ حَتَّى لَا يُطَالَبَ فِي بَلَدٍ آخَرَ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ فِي الْحَوْلِ، فَهَلْ تُؤْخَذُ كُلُّ مَرَّةٍ أَمْ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مَرَّةً؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ، وَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ فِيمَا يَضْرِبُهُ بَيْنَ اسْتِيفَائِهِ دُفْعَةً أَوْ دُفُعَاتٍ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ تِجَارَةِ الْحَرْبِيِّ أَوِ الذِّمِّيِّ هُوَ فِيمَا إِذَا شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا أُذِنَ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ لِذِمِّيٍّ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ بِلَا شَرْطٍ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُؤْخَذُ، حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا. فَرْعٌ الْمَرْأَةُ التَّابِعَةُ لِلزَّوْجِ أَوِ الْقَرِيبِ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ إِذَا تَرَدَّدَتْ مُتَّجِرَةً فِي الْحِجَازِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ، حُكْمُهَا حُكْمُ الذِّمِّيِّ. فَصْلٌ إِذَا صَالَحْنَا طَائِفَةً مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَرْضُهُمْ لَهُمْ، وَيُؤَدُّوا خَرَاجًا عَنْ كُلِّ جَرِيبٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ كَذَا، جَازَ وَيَسْتَمِرُّ مِلْكُهُمْ وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ جِزْيَةً تُصْرَفُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ، وَالتَّوْكِيلُ بِإِعْطَائِهِ كَالتَّوْكِيلِ بِإِعْطَاءِ

الْجِزْيَةِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ قَدْرًا يَخُصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ مِنْهُ دِينَارًا إِذَا وُزِّعَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، وَيَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ زَرَعُوا أَمْ لَا، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَهُمْ بَيْعُ تِلْكَ الْأَرْضِ وَهِبَتُهَا وَإِجَارَتُهَا، وَإِذَا أَجَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضَهَا لِمُسْلِمٍ بَقِيَ الْخَرَاجُ عَلَى الْمُكْرِيِّ، وَيَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرُ الْأُجْرَةَ، وَإِنْ بَاعَ لِمُسْلِمٍ، انْتَقَلَ الْوَاجِبُ إِلَى رَقَبَةِ الْبَائِعِ وَلَا خَرَاجَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الصُّلْحِ، سَقَطَ الْخَرَاجُ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا عَنِ الْمَوَاتِ الَّذِي يَمْنَعُونَنَا مِنْهُ دُونَ مَا لَا يَمْنَعُونَ مِنْهُ، وَلَوْ أَحْيَوْا مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ الصُّلْحِ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ شَيْءٌ لِمَا أَحْيَوْا إِلَّا إِذَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا عَمَّا يُحْيُونَ، وَلَوْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا وَيَسْكُنُونَهَا وَيُؤَدُّونَ عَنْ كُلِّ جَرِيبٍ، فَهُوَ عَقْدُ إِجَارَةٍ، وَالْمَأْخُوذُ أُجْرَةٌ، فَتَجِبُ مَعَهَا الْجِزْيَةُ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَبْلُغَ دِينَارًا عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، وَتُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، وَيَجُوزُ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ فِي أَدَائِهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ بَيْعُ تِلْكَ الْأَرْضِ وَلَا هِبَتُهَا، وَلَهُمْ إِجَارَتُهَا. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَإِذَا صَحَّ عَقْدُهَا، لَزِمَنَا شَيْءٌ، وَلَزِمَهُمْ شَيْءٌ، أَمَّا مَا يَلْزَمُنَا فَأَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: الْكَفُّ عَنْهُمْ، بِأَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لَهُمْ نَفْسًا وَمَالًا، وَيَضْمَنُهُمَا الْمُتْلِفُ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لِكَنَائِسِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا تُتْلَفُ خُمُورُهُمْ وَخَنَازِيرُهُمْ إِلَّا إِذَا أَظْهَرُوهَا، فَمَنْ أَرَاقَ أَوْ قَتَلَ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارٍ، عَصَى، وَلَكِنْ لَا ضَمَانَ، وَلَوْ بَاعَ ذِمِّيٌّ لِمُسْلِمٍ خَمْرًا، أُرِيقَتْ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَا ثَمَنَ لِلذِّمِّيِّ، وَإِنْ غَصَبَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ، وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ عَلَى ذِمِّيٍّ دَيْنٌ، فَقَضَاهُ، وَجَبَ الْقَبُولُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَدَّى ثَمَنٌ مُحَرَّمٌ، فَإِنْ عَلِمَ، بِأَنْ بَاعَ الْخَمْرَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَخَذَ ثَمَنَهَا، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ؟ وَجْهَانِ،

أَصَحُّهُمَا: لَا يُجْبَرُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، بَلْ لَا يَجُوزُ الْقَبُولُ، وَلَوْ كَانَ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ دَيْنٌ، وَرَهَنَ بِهِ خَمْرًا، لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمَا، كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْخَمْرَ، فَإِنْ وَضَعَاهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِمْسَاكُهَا، وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ عَلَى ذَمِّيٍّ دَيْنٌ، فَرَهَنَ بِهِ خَمْرًا، لَمْ يَجُزْ. الْأَمْرُ الثَّانِي: يَلْزَمُ الْإِمَامَ دَفْعُ مَنْ قَصَدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَوْطِنِينَ دَارَ الْحَرْبِ وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ، لَمْ يَجِبِ الذَّبُّ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ بِبَلْدَةٍ فِي جِوَارِ الدَّارِ، وَجَبَ الذَّبُّ عَلَى الْأَصَحِّ، هَذَا إِذَا جَرَى الْعَقْدُ مُطْلَقًا، فَإِنْ جَرَى بِشَرْطِ أَنْ يَذُبَّ أَهْلَ الْحَرْبِ، وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالْمُلْتَزَمِ وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَإِنْ جَرَى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَذُبَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ إِذَا قَصَدَهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ كَانَ مُرُورُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَسَدَ الشَّرْطُ، وَكَذَا الْعَقْدُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ وَلَا يَمُرُّ أَهْلُ الْحَرْبِ بِهِمْ، صَحَّ الشَّرْطُ، وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّ شَرْطَ تَرْكِ الذَّبِّ فَاسِدٌ مُطْلَقًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهَلْ يُكْرَهُ؟ فِيهِ نَصَّانِ حَمَلُوهُمَا عَلَى حَالَيْنِ، فَإِنْ طَلَبَ الْإِمَامُ الشَّرْطَ، كُرِهَ، لِأَنَّ فِيهِ إِظْهَارَ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ طَلَبَ أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَلَا، وَيَجِبُ دَفْعُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْهُمْ، كَمَا يَجِبُ دَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ عَنْهُمْ حَتَّى مَضَى حَوْلٌ، لَمْ تُجْبَ جِزْيَتُهُ، كَمَا لَا تُجْبَ الْأُجْرَةُ إِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّمَكُّنُ مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَلَوْ أَغَارَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ ظَفَرَ الْإِمَامُ بِهِمْ، فَاسْتَرْجَعَهَا، لَزِمَهُ رَدُّهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَتْلَفُوا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ أَتْلَفُوا مَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ أَغَارَ مَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ هُدْنَةٌ وَأَتْلَفَ أَمْوَالَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، ضَمِنَ، فَإِنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَامْتَنَعُوا، ثُمَّ أَغَارُوا وَأَتْلَفُوا لَهُمْ مَالًا أَوْ نَفْسًا، فَفِي الضَّمَانِ قَوْلَانِ، كَأَهْلِ الْبَغْيِ.

فصل

فَصْلٌ وَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُمْ: فَخَمْسَةُ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، فَالْبِلَادُ الَّتِي فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ قِسْمَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ، كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَلَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إِحْدَاثِ بَيْعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَصَوْمَعَةِ رَاهِبٍ فِيهَا، وَلَوْ صَالَحَهُمْ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ إِحْدَاثِهَا، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَالَّذِي يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَبُيُوتِ النَّارِ لَا يُنْقَضُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَرِيَّةٍ فَاتَّصَلَ بِهَا عِمَارَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ عُرِفَ إِحْدَاثُ شَيْءٍ بَعْدَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، نُقِضَ. الثَّانِي: بِلَادٌ لَمْ يُحْدِثُوهَا وَدَخَلَتْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا، كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ، فَحُكْمُهَا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَإِمَّا أَنْ تُفْتَحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مَا فُتِحَ عَنْوَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا كَنِيسَةٌ، أَوْ كَانَتْ وَانْهَدَمَتْ، أَوْ هَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بِنَاؤُهَا، وَهَلْ يَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى الْكَنِيسَةِ الْقَائِمَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ، الثَّانِي: مَا فُتِحَ صُلْحًا وَهُوَ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: فُتِحَ عَلَى أَنَّ رَقَبَةَ الْأَرْضِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ يَسْكُنُونَهَا بِخَرَاجٍ، فَإِنْ شَرَطُوا إِبْقَاءَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، جَازَ، وَكَأَنَّهُمْ صَالَحُوا عَلَى أَنَّ الْكَنَائِسَ لَهُمْ وَمَا سِوَاهَا لَنَا، وَإِنْ صَالَحُوا عَلَى إِحْدَاثِهَا أَيْضًا، جَازَ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ أَطْلَقُوا، لَمْ تُبْقَ الْكَنَائِسُ عَلَى الْأَصَحِّ، الثَّانِي: مَا فُتِحَ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَهُمْ يُؤَدُّونَ خَرَاجَهُ، فَيُقَرُّونَ عَلَى الْكَنَائِسِ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِحْدَاثِهَا فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ، وَيُمَكَّنُونَ فِيهَا مِنْ إِظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ، وَإِظْهَارِ مَا لَهُمْ

مِنَ الْأَعْيَادِ، وَضَرْبِ النَّاقُوسِ، وَالْجَهْرِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِيوَاءِ الْجَاسُوسِ، وَتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ، وَمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِيَارِهِمْ، وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ، وَجَوَّزْنَا إِبْقَاءَ الْكَنِيسَةِ، فَلَا مَنْعَ مِنْ عِمَارَتِهَا إِذَا اسْتَرَمَّتْ، وَهَلْ يَجِبُ إِخْفَاءُ الْعِمَارَةِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّ إِظْهَارَهَا زِينَةٌ تُشْبِهُ الِاسْتِحْدَاثَ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، فَيَجُوزُ تَطْيِينُهَا مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ، وَيَجُوزُ إِعَادَةُ الْجِدَارِ السَّاقِطِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُمْنَعُونَ مِنْ تَطْيِينِ خَارِجِهَا، وَإِذَا أَشْرَفَ الْجِدَارُ عَلَى الْخَرَابِ، فَلَا وَجْهَ إِلَّا أَنْ يَبْنُوا جِدَارًا دَاخِلَ الْكَنِيسَةِ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى جِدَارٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ، فَيَنْتَهِي الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى مِنَ الْكَنِيسَةِ شَيْءٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكْتَفِيَ مَنْ يُوجِبُ الْإِخْفَاءَ بِإِسْبَالِ سِتْرٍ تَقَعُ الْعِمَارَةُ وَرَاءَهُ، أَوْ بِإِيقَاعِهَا فِي اللَّيْلِ، وَإِذَا انْهَدَمَتِ الْكَنِيسَةُ الْمُبْقَاةُ، فَلَهُمْ إِعَادَتُهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَمَنَعَهَا الْإِصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنْ جَوَّزْنَا، فَلَيْسَ لَهُمْ تَوْسِيعُ خُطَّتِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي الْكَنِيسَةِ، كَمَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ الْخَمْرِ، وَقِيلَ: لَا يُمْنَعُونَ تَبَعًا لِلْكَنِيسَةِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي كَنِيسَةِ بَلَدٍ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ أَرْضَهُ لَنَا، فَإِنْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ، فَلَا مَنْعَ قَطْعًا كَمَا سَبَقَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَأَمَّا نَاقُوسُ الْمَجُوسِ، فَلَسْتُ أَرَى فِيهِ مَا يُوجِبُ الْمَنْعَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحُوطٌ وَبُيُوتُ يَجْمَعُ فِيهَا الْمَجُوسُ جِيَفَهُمْ، وَلَيْسَ كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالشِّعَارِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: فِي الْبِنَاءِ، فَيُمْنَعُونَ مِنْ إِطَالَتِهِ وَرَفْعِهِ عَلَى بِنَاءِ جِيرَانِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ فَعَلُوا، هُدِمَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا آخَرَ: أَنَّ لَهُمُ الرَّفْعَ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ الِاعْتِبَارُ بِبِنَاءِ جَارِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ: لَا يُطِيلُ عَلَى بِنَاءِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ، وَسَوَاءً كَانَ بِنَاءُ الْجَارِ مُعْتَدِلًا أَوْ فِي غَايَةِ الْقِصَرِ، وَلِلْإِمَامِ احْتِمَالٌ فِيمَا هُوَ فِي غَايَةِ الْقِصَرِ، ثُمَّ الْمَنْعُ لِحَقِّ الدِّينِ لَا لِمَحْضِ حَقِّ الْجَارِ، فَيُمْنَعُ وَلَوْ

رَضِيَ الْجَارُ، وَهَذَا الْمَنْعُ وَاجِبٌ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي مَوْضِعٍ مُنْفَرِدٍ، كَطَرَفٍ مِنَ الْبَلَدِ مُنْقَطِعٍ عَنِ الْعِمَارَةِ، فَلَا مَنْعَ مِنْ رَفْعِ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ مَلَكَ ذِمِّيٌّ دَارًا رَفِيعَةَ الْبِنَاءِ، لَمْ يُكَلَّفْ هَدْمَهَا، فَإِنِ انْهَدَمَتْ، فَأَعَادَهَا، مُنِعَ مِنَ الرَّفْعِ، وَفِي الْمُسَاوَاةِ الْوَجْهَانِ، وَلَوْ فُتِحَتْ بَلْدَةٌ صُلْحًا عَلَى أَنَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ، لَمْ تُهْدَمْ أَبْنِيَتُهُمُ الرَّفِيعَةُ فِيهَا وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْإِحْدَاثِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. الثَّالِثُ: يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ فِيهِ عِزًّا، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ أَنْ لَا مَنْعَ، كَمَا لَا مَنْعَ مِنْ ثِيَابٍ نَفِيسَةٍ، وَاسْتَثْنَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَرَاذِينَ، وَفِي الْبِغَالِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ الْفُورَانِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا مَنْعَ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْحُمُرِ وَإِنْ كَانَتْ رَفِيعَةَ الْقِيمَةِ، وَإِذَا رَكِبُوا، لَمْ يَرْكَبُوا السُّرُوجَ بَلِ الْأَكُفَّ، وَيَرْكَبُونَ عَرْضًا، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الرَّاكِبُ رِجْلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ لَهُمُ الرُّكُوبَ عَلَى اسْتِوَاءٍ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَتَوَسَّطَ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَرْكَبَ إِلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ فِي الْبَلَدِ، أَوْ إِلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَيُمْنَعُ فِي الْحَضَرِ وَيَكُونُ رِكَابُهُمْ مِنْ خَشَبٍ لَا حَدِيدٍ، وَجَوَّزَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْحَدِيدَ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ تَقَلُّدِ السُّيُوفِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ، وَمِنْ لُجُمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي الذُّكُورِ الْبَالِغِينَ، فَأَمَّا النِّسَاءُ وَالصِّغَارُ، فَلَا يُلْزَمُونَ الصَّغَارَ، كَمَا لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ. فَرْعٌ لَا يُتْرَكُ لِذِمِّيٍّ صَدْرَ الطَّرِيقِ، بَلْ يُلْجَأُ إِلَى أَضْيَقِهِ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَطْرُقُونَ، فَإِنْ خَلَتِ الطُّرُقُ عَنِ الزَّحْمَةِ، فَلَا حَرَجَ، وَلْيَكُنِ الضِّيقُ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِي وَهْدَةٍ، وَلَا يَصْدِمُهُ جِدَارٌ، وَلَا يُوقَرُ، وَلَا يُصَدَّرُ فِي مَجْلِسٍ إِذَا

كَانَ فِيهِ مُسْلِمُونَ، وَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُوَادَّهُمْ، وَلَا أَنْ يَبْدَأَ مَنْ لَقِيَهُ مِنْهُمْ بِسَلَامٍ، وَإِنْ بَدَأَ الذِّمِّيُّ بِهِ، فَلَا يُجِيبُهُ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ هُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ: أَنْ يُجَابَ بِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَعَلَيْكُمْ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَتَفْصِيلٌ أَوْضَحْتُهُ فِي كِتَابِ السَّلَامِ مِنْ كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعُ: يُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِالتَّمَيُّزِ فِي اللِّبَاسِ، بِأَنْ يَلْبَسُوا الْغِيَارَ، وَهُوَ أَنْ يَخِيطُوا عَلَى ثِيَابِهِمُ الظَّاهِرَةِ مَا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَهَا، وَتَكُونُ الْخِيَاطَةُ عَلَى الْكَتِفِ دُونَ الذَّيْلِ، هَكَذَا أَطْلَقَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَخْتَصُّ بِالْكَتِفِ، وَالشَّرْطُ الْخِيَاطَةُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُعْتَادُ، وَإِلْقَاءُ مَنْدِيلٍ وَنَحْوِهِ، كَالْخِيَاطَةِ، ثُمَّ الْأَوْلَى بِالْيَهُودِ الْعَسَلِيُّ، وَهُوَ الْأَصْفَرُ، وَبِالنَّصَارَى الْأَزْرَقُ أَوِ الْأَكْهَبُ، وَيُقَالُ لَهُ: الرَّمَادِيُّ، وَبِالْمَجُوسِ الْأَسْوَدُ أَوِ الْأَحْمَرُ، وَيُؤْخَذُونَ أَيْضًا بِشَدِّ الزُّنَّارِ، وَهُوَ خَيْطٌ غَلِيظٌ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ خَارِجَ الثِّيَابِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِبْدَالُهُ بِمِنْطَقَةٍ وَمَنْدِيلٍ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ لَبِسُوا قَلَانِسَ، مُيِّزَتْ عَنْ قَلَانِسِ الْمُسْلِمِينَ بِذُؤَابَةٍ، أَوْ عَلَمٍ فِي رَأْسِهَا، وَإِذَا دَخَلُوا حَمَّامًا فِيهِ مُسْلِمُونَ، أَوْ تَجَرَّدُوا عَنِ الثِّيَابِ، فَلْيَكُنْ عَلَيْهِمْ جَلَاجِلُ، أَوْ فِي أَعْنَاقِهِمْ خَوَاتِيمُ حَدِيدٍ، أَوْ رَصَاصٍ لَا ذَهَبَ وَفِضَّةَ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ فِي «الْمُهَذَّبِ» : يُجْعَلُ فِي عُنُقِهِ خَاتَمٌ لِيَتَمَيَّزَ فِي الْحَمَّامِ وَفِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَجَرَّدُ فِيهَا، وَبَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ تَفَاوُتٌ ظَاهِرٌ، وَإِذَا كَانَ لَهُمْ شَعْرٌ، أُمِرُوا بِجَزِّ النَّوَاصِي، وَمُنِعُوا مِنْ إِرْسَالِ الضَّفَائِرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ تَأْكِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي شَهْرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ الْإِمَامُ عَلَى اشْتِرَاطِ أَحَدِهِمَا، وَهَلْ تُؤْخَذُ النِّسَاءُ بِالْغِيَارِ، وَشَدِّ الزُّنَّارِ، وَالتَّمَيُّزِ فِي الْحَمَّامِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ، وَالثَّانِي: لَا، لِنَدُورِ خُرُوجِهِنَّ،

فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّمَيُّزِ، فَعَلَى الْأَصَحِّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يُجْعَلُ الزُّنَّارُ فَوْقَ الْإِزَارِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» : وَغَيْرِهِ تَحْتَهُ لِئَلَّا يَصِفَ بَدَنَهَا، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى اشْتِرَاطِ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْهُ. قُلْتُ: هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ كَبِيرُ فَائِدَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالتَّمَيُّزُ فِي الْحَمَّامِ يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لَهُنَّ دُخُولُهُ مَعَ الْمُسَلَّمَاتِ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالْأَصَحُّ مَنْعُهُ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ لِلْمُسْلِمَاتِ دُخُولَهُ بِلَا حَجْرٍ، لَكِنْ نَقَلَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُنَّ دُخُولُهُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ، لَكِنْ يُكْرَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ مَسَائِلَ الْحَمَّامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي آخِرِ صِفَةِ الْغُسْلِ مِنْ شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا خَرَجَتْ ذِمِّيَّةٌ بِخُفٍّ، فَلْيَكُنْ أَحَدُ خُفَّيْهَا أَسْوَدَ وَالْآخَرُ أَبْيَضَ أَوْ أَحْمَرَ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّمَيُّزُ بِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، بَلْ يَكْفِي بَعْضُهَا. فَرْعٌ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَتَعَمَّمَ وَيَتَطَلَّسَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَلْبَسَ الدِّيبَاجَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَرَفِيعِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ أَصْلَ الْغِيَارِ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَالَّذِي يُوَافِقُ كَلَامَ الْجُمْهُورِ وَإِطْلَاقَهُمُ الْوُجُوبُ. الْخَامِسُ: الِانْقِيَادُ لِلْحُكْمِ، فَيَلْزَمُ أَهْلَ الذِّمَّةِ الِانْقِيَادُ لِحُكْمِنَا، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ، وَحَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ إِذَا

فَعَلُوا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُمْ، وَذَلِكَ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، فَإِنَّهُمَا مُحَرَّمَانِ عِنْدَهُمْ كَشَرْعِنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُمَا فِي الْبَابَيْنِ، وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَزْنِيَ بِمُسْلِمَةٍ، وَيَسْرِقَ مَالَ مُسْلِمٍ، أَوْ يُزْنَى بِذِمِّيَّةٍ، وَيُسْرَقُ مَالُ ذِمِّيٍّ، وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ لَا يُقَامُ عَلَى ذَمِّيٍّ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ رَضِيَ بِحُكْمِنَا، وَلَوْ نَكَحَ مَجُوسِيٌّ مَحْرَمًا لَهُ، لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ، فَإِنْ رَفَعُوا إِلَيْنَا وَرَضُوا بِحُكْمِنَا، حَكَمْنَا، وَهَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَعْرُوفَانِ، وَيَلْزَمُهُمْ كَفُّ اللِّسَانِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ إِظْهَارِ الْمُنْكَرَاتِ، كَإِسْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ شِرْكَهُمْ، وَقَوْلِهِمْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَاعْتِقَادِهِمْ فِي الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالنَّاقُوسِ وَأَعْيَادِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَإِحْدَاثِهِمُ الْكَنَائِسَ فِي بِلَادِنَا، وَإِطَالَتِهِمُ الْبِنَاءَ، وَتَرْكِهِمْ مُخَالَفَةً لِمَا شُرِطَ، فَإِنْ أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ، مُنِعُوا وَعُزِّرُوا وَلَكِنْ لَا يَنْتَقِضُ بِهِ عَهْدُهُمْ، سَوَاءً شُرِطَ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا فِي الْعَقْدِ أَمْ لَا، فَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِمُ الِانْتِقَاضُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَقَالَ الْإِمَامُ: يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ مُؤَقَّتًا، إِنْ صَحَّحْنَاهُ، صَحَّ الْعَقْدُ، فَيَنْتَقِضُ إِذْ أَظْهَرُوا، وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْهُ، فَسَدَ الْعَقْدُ مَنْ أَصْلِهِ، وَالْحِكَايَةُ عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ، بَلْ يَفْسُدُ الشَّرْطُ، وَيَتَأَبَّدُ الْعَقْدُ، وَيُحْمَلُ مَا جَرَى عَلَى تَخْوِيفِهِمْ، وَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِقِتَالِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءً شُرِطَ عَلَيْهِمُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ أَمْ لَا، هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ، فَلَوْ أَعَانُوا الْبُغَاةَ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْحَالَ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ، وَلَوْ مَنَعُوا الْجِزْيَةَ، أَوِ امْتَنَعُوا مِنْ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ، انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا إِذَا مَنَعَ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَأَمَّا الْعَاجِزُ إِذَا اسْتُمْهِلَ فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْمُوسِرِ الْمُمْتَنِعِ قَهْرًا، وَلَا يُجْعَلُ الِامْتِنَاعُ نَاقِضًا كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَيُخَصَّصُ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ بِالْمُتَغَلِّبِ

الْمُقَاتِلِ، قَالَ: وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، فَإِنِ امْتَنَعَ هَارِبًا، فَلَا أَرَاهُ نَاقِضًا، وَإِنِ امْتَنَعَ رَاكِبًا إِلَى قُوَّةٍ وَعِدَّةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى إِلَى الِانْقِيَادِ، فَإِنْ نَصَبَ الْقِتَالَ، انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ أَسْنَدَ الْإِمَامُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ إِلَى مَنْ تُقَدِّمُهُ، فَحَكَى عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ حَصْرَ الِانْتِقَاضِ فِي الْقِتَالِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ قَوْلَيْنِ فِي امْتِنَاعِهِمْ مِنْ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، وَعَنْ «الْحَاوِي» أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْبَدَلِ نَقْضُ الْعَهْدِ مِنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنَ الْأَدَاءِ مَعَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الِالْتِزَامِ نَقْضٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ دُونَ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ يَسْهُلُ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسَلِّمَةٍ، أَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ، أَوْ تَطَلَّعَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَقَلَهَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، وَدَعَاهُ إِلَى دِينِهِمْ، فَفِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِ طُرُقٌ، أَصَحُّهَا: أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهَا فِي الْعَقْدِ، لَمْ يُنْتَقَضْ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْتَقِضُ قَطْعًا، وَالثَّالِثُ: إِنْ شَرَطَ، انْتَقَضَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَهَلِ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْطِ الِامْتِنَاعُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، أَمِ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ إِذَا ارْتَكَبَهَا؟ صَرَّحَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ بِالثَّانِي، وَكَثِيرُونَ بِالْأَوَّلِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَوَسَّطَ فَيُقَالُ: إِنْ شَرَطَ الِانْتِقَاضَ، فَالْأَصَحُّ الِانْتِقَاضُ، وَإِلَّا، فَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ، وَأُلْحِقَ بِالْخِصَالِ الثَّلَاثِ إِيوَاءُ عُيُونِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا قَطْعُ الطَّرِيقِ وَالْقَتْلُ الْمُوجِبُ لِلْقِصَاصِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا كَالزِّنَى بِمُسْلِمَةٍ، وَقِيلَ: كَالْقِتَالِ، وَلَا يُلْحَقُ بِالْمُنَابَذَةِ التَّوَثُّبَ عَلَى رُفْقَةٍ، أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَلْيَجْرِ الطَّرِيقَانِ فِيمَا لَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا، وَسَوَاءً قُلْنَا: يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ، أَوْ لَا يَنْتَقِضُ، فَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُقَامُ عَلَيْهِمْ مُوجِبُ مَا فَعَلُوهُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، ثُمَّ يَجْرِي عَلَى مُقْتَضَى الِانْتِقَاضِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا قُتِلَ الذِّمِّيُّ لِقَتْلِهِ مُسْلِمًا، أَوْ لِزِنًى وَهُوَ مُحْصِنٌ، فَهَلْ يَصِيرُ مَالُهُ فَيْئًا تَفْرِيعًا عَلَى الْحُكْمِ بِالِانْتِقَاضِ؟ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا. وَأَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسُّوءِ إِذَا جَهَرُوا بِهِ، وَطَعْنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَنَفْيِهِمُ الْقُرْآنَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَالزِّنَى بِمُسْلِمَةٍ وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ: يَنْتَقِضُ قَطْعًا، كَالْقِتَالِ، وَفِي مَحَلِّ الْخِلَافِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِيمَا إِذَا ذَكَرَ الذِّمِّيُّ سَوَاءً يَعْتَقِدُهُ وَيَتَدَيَّنُ بِهِ، كَتَكْذِيبٍ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا مَا لَا يَعْتَقِدُهُ، وَلَا يَتَدَيَّنُ بِهِ، بِأَنْ طَعَنَ فِي نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ نَسَبَهُ إِلَى الزِّنَى، فَلْيَلْتَحِقْ بِالْقِتَالِ، وَيَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِهِ قَطْعًا سَوَاءً شَرَطَ عَلَيْهِ الْكَفَّ عَنْهُ أَمْ لَا، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا ذَكَرَ مَا لَا يَتَدَيَّنُ بِهِ، فَأَمَّا مَا يَتَدَيَّنُ بِهِ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِإِظْهَارِهِ قَطْعًا، وَمِنْ هَذَا نَفْيُهُمُ الْقُرْآنَ. وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَهُمُ اللَّهَ تَعَالَى كَذِكْرِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ، صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا إِظْهَارَ الشِّرْكَ، وَقَوْلَهُمْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَمُعْتَقَدَهُمْ فِي الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، كَإِظْهَارِهِمُ الْخَمْرَ، فَلَا يَنْتَقِضُ قَطْعًا، مَعَ أَنَّ جَمِيعَ هَذَا يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالسُّوءِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا إِلَّا عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ السُّوءَ الَّذِي يَتَدَيَّنُ بِهِ لَا يَنْقُضُ قَطْعًا، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَتَمَ مِنْهُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُتِلَ حَدًّا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ وَالْقِينَتَيْنِ، وَزَيَّفُوهُ وَقَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ لَا أَمَانَ لَهُمْ.

فَرْعٌ حَيْثُ حَكَمْنَا بِانْتِقَاضِ الْعَهْدِ، هَلْ يُبَلِّغُهُمُ الْمَأْمَنَ؟ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَمَنْ دَخَلَ بِأَمَانِ صَبِيٍّ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا، بَلْ يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَ قَتْلِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ، وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، لِأَنَّهُ كَافِرٌ لَا أَمَانَ لَهُ، وَالْقَوْلَانِ فِي الِانْتِقَاضِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَأَمَّا إِذَا نَصَبُوا الْقِتَالَ، وَصَارَ حَرْبًا لَنَا فِي دَارِنَا، فَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهِمْ، وَالسَّعْيِ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ، وَلَوْ أَسْلَمَ مَنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْإِمَامُ شَيْئًا، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ بِخِلَافِ الْأَسِيرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِ الْإِمَامِ بِالْقَهْرِ، فَخَفَّ أَمْرُهُ، وَهَلْ يَبْطُلُ أَمَانُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ تَبَعًا كَمَا يَثْبُتُ تَبَعًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، إِذَا لَمْ تُوجَدُ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ نَاقِضَةٌ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ، وَيَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ فِي دَارِنَا، فَإِنْ طَلَبُوا الرُّجُوعَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أُجِيبَ النِّسَاءُ دُونَ الصِّبْيَانِ، إِذْ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ، أُجِيبَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ نَبَذَ ذِمِّيٌّ إِلَيْنَا الْعَهْدَ، وَاخْتَارَ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، بَلَّغْنَاهُ الْمَأْمَنَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَجْرَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِيهِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ كَافِرٌ لَا أَمَانَ لَهُ.

فَرْعٌ الْمُسْلِمُ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ، أَوْ كَذَّبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ مُرْتَدٌّ، فَيُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ عَادَ وَتَابَ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَوْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْدًا، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكْفُرُ وَيُرَاقُ دَمُهُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ زَلَّةٌ، وَلَمْ أَرَ مَا قَالَهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَا يَكْفُرُ، وَلَا يُقْتَلُ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى قَوْمًا، وَزَعَمَ أَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَكْرَمُوهُ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِقَتْلِهِ، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ قَذَفَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَى، فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ أَسْلَمَ، وَالثَّانِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ يُقْتَلُ حَدًّا، لِأَنَّهُ حَدُّ قَذْفٍ، فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَالثَّالِثُ قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ثُمَّ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: يَثْبُتُ حَدُّ الْقَذْفِ، فَعَفَا أَحَدُ بَنِي أَعْمَامِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ، أَوْ يَقُولَ: هُمْ لَا يَنْحَصِرُونَ، فَهُوَ كَقَذْفِ مَيِّتٍ لَيْسَ لَهُ وَرَثَةٌ خَاصُّونَ، وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِقَتْلِ مِثْلِ هَذَا الشَّخْصِ، وَقَدْ يُقَالُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي الْأَعْمَامِ غَيْرُ وَارِثٍ، بَلِ الْإِرْثُ لِلْأَقْرَبِ، وَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ الْأَقْرَب مِمَّنْ فِي الدُّنْيَا، وَيَقَعُ النَّظَرُ فِي أَنَّ عَفْوَ بَعْضِ الْوَرَثَةِ هَلْ يُؤَثِّرُ؟ وَوَرَاءَهُ نَظَرٌ آخَرُ، وَهُوَ حَدُّ قَذْفِهِ هَلْ يُوَرَّثُ؟ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُوَرَّثُ، كَمَا لَا يُوَرَّثُ الْمَالُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْذِفْ صَرِيحًا، لَكِنْ عَرَّضَ، فَقَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ كَالسَّبِّ الصَّرِيحِ فِي اقْتِضَاءِ الْكُفْرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِهَانَةِ.

فصل

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ مُتَعَيِّنٌ، وَقَدْ قَالَهُ آخَرُونَ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَذَفَ نَبِيًّا غَيْرَ نَبِيِّنَا، فَهُوَ كَقَذْفِ نَبِيِّنَا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ يُؤْخَذُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُخْفُوا دَفْنَ مَوْتَاهُمْ، وَلَا يُخْرِجُوا جَنَائِزَهُمْ ظَاهِرًا، وَلَا يُظْهِرُوا عَلَى مَوْتَاهُمْ لَطْمًا وَلَا نَوْحًا، وَلَا يَسْقُوا الْمُسْلِمِينَ خَمْرًا، وَلَا يُطْعِمُوهُمْ خِنْزِيرًا، وَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَعَرَضَ بَعْضُهُمْ خَمْرًا عَلَى مُسْلِمٍ، فَشَرِبَهَا اخْتِيَارًا، حُدَّ الْمُسْلِمُ وَعُزِّرَ الذِّمِّيُّ، وَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الْمُسْلِمُ بِطَلَبِهَا فَأَجَابَهُ، لَكِنَّ تَعْزِيرَهُ هُنَا أَخَفُّ، وَأَنْ لَا يُعْلُوا أَصْوَاتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُعِينُوهُمْ إِذَا اسْتَعَانُوا بِهِمْ فِيمَا لَا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ، وَأَنْ لَا يَسْتَذِلُّوا الْمُسْلِمِينَ فِي مِهَنِ الْأَعْمَالِ بِأُجْرَةٍ وَلَا بِتَبَرُّعٍ، حُكِيَ أَكْثَرُ هَذَا عَنْ «الْحَاوِي» أَنَّهُمْ لَوِ انْفَرَدُوا بِقَرْيَةٍ، هَلْ يُمْنَعُونَ رُكُوبَ الْخَيْلِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا كَإِظْهَارِ الْخَمْرِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ بَنَى ذِمِّيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِنَاءً لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، مُكِّنَ إِنْ جَعَلَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّ خَصَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَوَجْهَانِ، وَيَكْتُبُ الْإِمَامُ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَسْمَاءَهُمْ وَأَدْيَانَهُمْ وَحِلَاهُمْ، فَيَتَعَرَّضُ لِسِنِّهِ أَهْوَ شَيْخٌ أَمْ شَابٌّ، وَلِكَوْنِهِ مِنْ سُمْرَةٍ وَشُقْرَةٍ وَغَيْرِهِمَا، وَيَصِفُ وَجْهَهُ وَلِحْيَتَهُ وَجَبْهَتَهُ وَحَاجِبَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَشَفَتَيْهِ وَأَنْفَهُ وَأَسْنَانَهُ، وَآثَارَ وَجْهِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ آثَارٌ، وَيَجْعَلُ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ عَرِّيفًا يَضْبُطُهُمْ لِمَعْرِفَةِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَمَنْ مَاتَ، وَمَنْ بَلَغَ، وَمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ، وَلِيَحْضُرَهُمْ لِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَالشَّكْوَى إِلَيْهِ مِمَّنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ يَتَعَدَّى مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرِّيفُ لِلْعَرْضِ الثَّانِي ذِمِّيًّا، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَرْضِ الْأَوَّلِ إِلَّا مُسْلِمٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ وَيُقَالُ لَهَا: الْمُوَادَعَةُ، وَالْمُعَاهَدَةُ، وَهِيَ جَائِزَةٌ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي شُرُوطِهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِيهِ، هَذَا فِي مُهَادَنَةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا، أَوْ أَهْلِ إِقْلِيمٍ، كَالْهِنْدِ وَالرُّومِ، وَيَجُوزُ لِوَالِي الْإِقْلِيمِ الْمُهَادَنَةُ مَعَ أَهْلِ قَرْيَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ فِي إِقْلِيمِهِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَكَأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ بِتَفْوِيضِ مَصْلَحَةِ الْإِقْلِيمِ إِلَيْهِ. وَلَوْ عَقْدَ الْهُدْنَةَ وَاحِدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، فَدَخَلَ قَوْمٌ مِمَّنْ هَادَنَهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُقَرُّوا، لَكِنْ يُلْحَقُونَ بِمَأْمَنِهِمْ، لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى اعْتِقَادِ أَمَانِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ، بِأَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ لِقِلَّةِ عَدَدٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ بُعْدَ الْعَدُوِّ، أَوْ يَطْمَعُ فِي إِسْلَامِهِمْ لِمُخَالَطَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي قَبُولِهِمِ الْجِزْيَةَ، أَوْ فِي أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ، وَإِذَا طَلَبَ الْكُفَّارُ الْهُدْنَةَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُمْ لَا يُجَابُونَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تَجِبُ إِجَابَتُهُمْ، وَالصَّحِيحُ: لَا تَجِبُ، بَلْ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ وَيَفْعَلُ الْأَصْلَحَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَمَا يَتَعَلَّقُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ لَا يُعَدُّ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الْأَصَحِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَخْلُوَ عَنِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنْ عَقَدَهَا عَلَى أَنْ لَا يَنْتَزِعَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، أَوْ يَرُدَّ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمَ الَّذِي أَسَرُوهُ، وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ، أَوْ شَرَطَ تَرْكَ مَالِ مُسْلِمٍ فِي أَيْدِيهِمْ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَعْقِدَ لَهُمُ الذِّمَّةَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يُقِيمُوا

بِالْحِجَازِ، أَوْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ، أَوْ يُظْهِرُوا الْخُمُورَ فِي دَارِنَا، أَوْ شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ إِذَا جِئْنَ مُسْلِمَاتٍ، وَكَذَا وَلَوْ عَقَدَ بِشَرْطِ الْتِزَامِ مَالٍ، فَإِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إِلَى بَذْلِ مَالٍ، بِأَنْ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْأَسْرَى فِي أَيْدِيهِمْ فَفَدَيْنَاهُمْ، أَوْ أَحَاطُوا بِنَا وَخِفْنَا الِاصْطِدَامَ، فَيَجُوزُ بَذْلُ الْمَالِ، وَدَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا، وَفِي وُجُوبِ بَذْلِ الْمَالِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ. قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا الْبِنَاءُ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الصَّائِلَ إِذَا كَانَ كَافِرًا، وَجَبَ دَفْعُهُ قَطْعًا، ثُمَّ الْخِلَافُ هُنَاكَ فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ بِالْقِتَالِ، وَهُنَا بِالْمَالِ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ الْبَذْلِ هُنَا لِلضَّرُورَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَمْلِكُ الْكُفَّارُ مَا يَأْخُذُونَهُ، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، قَالَهُ فِي «الْمُهَذَّبِ» وَإِذَا جَرَى فِي الْمُهَادَنَةِ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، أَوْ يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَرَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي الْهُدْنَةِ، هَادَنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَقَلَّ، وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ قَطْعًا، وَلَا سَنَةً عَلَى الْمَذْهَبِ وَلَا مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى الْأَظْهَرِ وَإِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ جَازَتِ الزِّيَادَةُ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَلَا تَجُوزُ زِيَادَةٌ عَلَى الْعَشْرِ، لَكِنْ إِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَالْحَاجَةُ بَاقِيَةٌ، اسْتُؤْنِفَ الْعَقْدُ، وَقِيلَ: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى عَشْرٍ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ سَنَةٍ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهَذِهِ أَوْجُهٌ شَاذَّةٌ مَرْدُودَةٌ، فَإِذَا قُلْنَا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى عَشْرٍ، فَهَادَنَ مُطْلَقًا، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ، وَقِيلَ: يَنْزِلُ عِنْدَ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَشْرٍ، وَعِنْدَ الْقُوَّةِ قَوْلَانِ،

أَحَدُهُمَا: يَنْزِلُ عَلَى سَنَةٍ، وَالثَّانِي: عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُوقِفَ الْإِمَامُ الْهُدْنَةَ، وَيَشْرُطُ انْقِضَاءَهَا مَتَى شَاءَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَادَنَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَقَالَ: «أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ» لَكِنْ لَوِ اقْتَصَرَ الْإِمَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، أَوْ قَالَ: هَادَنْتُكُمْ إِلَى أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فَسَدَ الْعَقْدُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ: هَادَنْتُكُمْ مَا شَاءَ فُلَانٌ، وَهُوَ مُسْلِمٌ عَدْلٌ ذُو رَأْيٍ، فَإِذَا نَقَضَهَا، انْتَقَضَتْ، وَلَوْ قَالَ: مَا شَاءَ فُلَانٌ مِنْكُمْ، لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَحْكُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَرْعٌ إِذَا زَادَ قَدْرُ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ عَلَى الْجَائِزِ، بِأَنْ زَادَ عِنْدَ الضَّعْفِ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ، أَوِ احْتَاجَ إِلَى أَرْبَعٍ مَثَلًا، فَزَادَ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الزَّائِدِ، وَفِي الْبَاقِي قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ فِيهِ قَطْعًا لِعَدَمِ الْعِوَضِ، وَلِأَنَّهُ يَتَسَامَحُ فِي مُعَاقَدَةِ الْكُفَّارِ. فَرْعٌ إِذَا طَلَبَ الْكَافِرُ الْأَمَانَ لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَبَتْ إِجَابَتُهُ قَطْعًا كَمَا سَبَقَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَلْ يُمْهَلُ لِذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَمْ يُقَالُ: إِذَا لَمْ يُفَصَّلِ الْأَمْرُ بِمَجَالِسَ يَحْصُلُ فِيهَا الْبَيَانُ التَّامُّ يُقَالُ لَهُ: الْحَقْ بِمَأْمَنِكَ؟ فِيهِ تَرَدَّدٌ أَخَذْتُهُ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِهَا فَمَتَى فَسَدَ الْعَقْدُ لِزِيَادَةِ الْمُدَّةِ، أَوْ لِالْتِزَامِ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لَا يُمْضَى بَلْ يَجِبُ نَقْضُهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ اغْتِيَالُهُمْ، بَلْ يَجِبُ إِنْذَارُهُمْ وَإِعْلَامُهُمْ،

وَإِذَا وَقَعَ صَحِيحًا، وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، أَوْ صُدُورِ خِيَانَةٍ مِنْهُمْ تَقْتَضِي الِانْتِقَاضَ، وَإِذَا مَاتَ الْإِمَامُ الَّذِي عَقَدَهَا، أَوْ عُزِلَ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الَّذِي بَعْدَهُ إِمْضَاؤُهُ، فَإِنْ رَآهُ فَاسِدًا، قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ كَانَ فَسَادُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، لَمْ يَفْسَخْهُ، وَإِنْ كَانَ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَسَخَهُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذْ هَادَنَ أَنْ يَكْتُبَ عَقْدَ الْهُدْنَةِ وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ لِيَعْمَلَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ: لَكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذِمَّتِي، وَمَتَى صَرَّحُوا بِنَقْضِ الْعَقْدِ، أَوْ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ، أَوْ آوَوْا عَيْنًا عَلَيْهِمْ، أَوْ كَاتَبُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، أَوْ قَتَلُوا مُسْلِمًا، أَوْ أَخَذُوا مَالًا، أَوْ سَبُّوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِنَقْضِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْمَضَرَّاتُ الَّتِي اخْتُلِفَ فِي انْتِقَاضِ عَقْدِ الذِّمَّةِ بِهَا تَنْقُضُ الْهُدْنَةَ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الْهُدْنَةَ ضَعِيفَةٌ غَيْرُ مُتَأَكِّدَةٍ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَإِذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، جَازَ قَصْدُ بَلَدِهِمْ وَتَبْيِيتُهُمْ وَالْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ إِنْ عَلِمُوا أَنَّ مَا فَعَلُوهُ نَاقِضٌ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَعْلَمُوا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا يُقَاتَلُونَ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ خِيَانَةٌ لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ مِمَّا لَا يُشَكُّ فِي مُضَادَّتِهِ لِلْهُدْنَةِ، كَالْقِتَالِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَصْدِهِمْ وَالْإِغَارَةِ عَلَيْهِمْ هُوَ إِذَا كَانُوا فِي بِلَادِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ أَوْ مُهَادَنَةٍ، فَلَا يُغْتَالُ وَإِنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ، بَلْ يُبَلَّغُ الْمَأْمَنَ، هَذَا إِذَا نَقَضَ جَمِيعُهُمُ الْعَهْدَ، فَإِنْ نَقَضَهُ بَعْضُهُمْ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يُنْكِرِ الْآخَرُونَ عَلَى النَّاقِضِينَ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، بَلْ سَاكَنُوهُمْ وَسَكَتُوا، انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ أَيْضًا، وَإِنْ أَنْكَرُوا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، بِأَنِ اعْتَزَلُوهُمْ أَوْ بَعَثُوا إِلَى الْإِمَامِ بِأَنَّا مُقِيمُونَ عَلَى الْعَهْدِ، لَمْ يَنْتَقِضْ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَوَرَاءَهُ شَيْئَانِ غَرِيبَانِ، أَحَدُهُمَا: قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ بَدَتْ خِيَانَةُ بَعْضِهِمْ وَسَكَتَ الْآخَرُونَ، كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ، وَالثَّانِي فِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ: أَنَّهُ لَوْ

نَقَضَ السُّوقَةُ الْعَهْدَ وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّئِيسُ وَالْأَشْرَافُ بِذَلِكَ فَفِي انْتِفَاضِ الْعَهْدِ فِي حَقِّ السُّوقَةِ وَجْهَانِ، وَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِعَقْدِهِمْ فَكَذَا بِنَقْضِهِمْ، وَأَنَّهُ لَوْ نَقَضَ الرَّئِيسُ وَامْتَنَعَ الْأَتْبَاعُ وَأَنْكَرُوا، فَفِي الِانْتِقَاضِ فِي حَقِّهِمْ قَوْلَانِ، وَجْهُ النَّقْضِ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْمَتْبُوعِ، فَكَذَا التَّابِعُ، وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ، وَإِذَا انْتَقَضَ فِي حَقِّ بَعْضِهِمْ، فَإِنْ تَمَيِّزُوا، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَا يُبَيِّتُهُمُ الْإِمَامُ، وَلَا يَغَارُ عَلَيْهِمْ إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ، وَيَبْعَثُ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَنْقُضُوا لِيَتَمَيَّزُوا أَوْ يُسْلِمُوهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا مَعَ الْقُدْرَةِ صَارُوا نَاقِضِينَ أَيْضًا، وَمَنْ أُخِذَ مِنْهُمْ وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مِنَ النَّاقِضِينَ، أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، لَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ، وَإِلَّا فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ، وَأَمَّا عَقْدُ الذِّمَّةِ فَنَقْضُهُ مِنَ الْبَعْضِ لَيْسَ نَقْضًا مِنَ الْبَاقِينَ بِحَالٍ. فَرْعٌ إِذَا اسْتَشْعَرَ الْإِمَامُ مِمَّنْ هَادَنَهُ خِيَانَةً وَظَهَرَتْ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِيَانَتِهِمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ، بَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَحُكِيَ قَوْلٌ أَنَّهُ لَا يَنْبِذُهُ كَمَا لَا يَنْبِذُ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِالتُّهْمَةِ، وَحُكِيَ وَجْهٌ فِي نَبْذِ الذِّمَّةِ بِالتُّهْمَةِ، وَالْمَذْهَبُ الْفَرْقُ، وَإِذَا نَبَذَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ إِنْذَارِهِمْ وَإِبْلَاغِهِمُ الْمَأْمَنَ، لَكِنْ مَنْ عَلَيْهِ حَقُّ آدَمِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ حَدِّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصٍ، يُسْتَوْفَى مِنْهُ أَوَّلًا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي إِبْلَاغِ الْكَافِرِ الْمَأْمَنَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ عَهْدِهِمْ، وَيُلْحِقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَاكْتَفَى ابْنُ كَجٍّ بِإِلْحَاقِهِ بِأَوَّلِ بِلَادِ الْكُفْرِ وَقَالَ: لَا يَلْزَمُ إِلْحَاقُهُ بِبَلَدِهِ الَّذِي يَسْكُنُهُ فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ أَوَّلِ بِلَادِ الْكُفْرِ وَبَلَدِهِ الَّذِي يَسْكُنُهُ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُرُورِ عَلَيْهِ، وَفِي «الْبَحْرِ» أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَأْمَنَانِ، لَزِمَ الْإِمَامَ إِلْحَاقُهُ بِمَسْكَنِهِ مِنْهُمَا، وَلَوْ

فصل

كَانَ يَسْكُنُ بَلَدَيْنِ، فَالِاخْتِيَارُ لِلْإِمَامِ، وَفِي هَذَا مَا يُنَازَعُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِأَوَّلِ بِلَادِ الْكُفْرِ، وَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ أَمَارَةٌ يَخَافُ بِسَبَبِهَا مِنْهُمْ نَبْذَ الْعَهْدِ، وَلَا اعْتِبَارَ الْوَهْمِ الْمَحْضَ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» . فَرْعٌ إِذَا هَادَنَ الْإِمَامُ مُدَّةً لِضَعْفٍ وَخَوْفٍ اقْتَضَاهَا، ثُمَّ زَالَ الْخَوْفُ وَقَوِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَجَبَ الْوَفَاءُ بِمَا جَرَى. فَرْعٌ قَالَ فِي «الْحَاوِي» : يَجِبُ عَلَى الَّذِينَ هَادَنَهُمُ الْإِمَامُ الْكَفُّ عَنْ قَبِيحِ الْقَوْلِ وَالْعَمَل فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَبَذْلُ الْجَمِيلِ مِنْهُمَا، فَلَوْ كَانُوا يُكْرِمُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَصَارُوا يُهِينُونَهُمْ، أَوْ يُضِيفُونَ النَّزِيلَ وَيَصِلُونَهُمْ، فَصَارُوا يَقْطَعُونَهُمْ، أَوْ يُعَظِّمُونَ كِتَابَ الْإِمَامِ، فَصَارُوا يَسْتَخِفُّونَ بِهِ، أَوْ نَقَصُوا عَمَّا كَانُوا يُخَاطَبُونَ بِهِ، سَأَلَهُمُ الْإِمَامُ عَنْ سَبَبِ فِعْلِهِمْ، فَإِنِ اعْتَذَرُوا بِمَا يَجُوزُ قَبُولُ مِثْلِهِ، قَبِلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا عُذْرًا، أَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى عَادَتِهِمْ، فَإِنِ امْتَنَعُوا، أَعْلَمَهُمْ بِنَقْضِ الْهُدْنَةِ وَنَقَضَهَا. فَصْلٌ إِذَا شَرَطَ رَدَّ الْمَرْأَةِ إِذَا جَاءَتْنَا مِنْهُمْ مُسْلِمَةً، لَمْ يَجُزْ بِحَالٍ، وَشَرْطُ رَدِّ الرَّجُلِ إِذَا هَاجَرَ مُسْلِمًا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهَا زَوْجُهَا الْكَافِرُ، أَوْ أَنْ تُزَوَّجَ كَافِرًا، وَلِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنِ الْهَرَبِ وَأَقْرَبُ إِلَى الِافْتِتَانِ، فَإِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ هُدْنَةً، فَإِمَّا أَنْ يَشْرُطَ أَنْ لَا يَرُدَّ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا، أَوْ يُطْلِقَ، أَوْ يَشْرُطَ الرَّدَّ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يَرُدَّ، فَلَا رَدَّ وَلَا غُرْمَ، وَكَذَا لَوْ خَصَّ النِّسَاءَ، يُمْنَعُ الرَّدُّ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَهَلْ يَغْرَمُ الْإِمَامُ

مَهْرَ مَنْ جَاءَتْ مُسْلِمَةً؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ الْغُرْمُ قَطْعًا، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هَذَا سَهْوٌ مِنْ قَائِلِهِ، وَإِنْ شَرَطَ الرَّدَّ، نُظِرَ إِنْ أَطْلَقَ فَقَالَ: بِشَرْطِ أَنْ نَرُدَّ مَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ، فَفِي وُجُوبِ الْغُرْمِ الْقَوْلَانِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنْ أَوْجَبْنَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِشَرْطِ رَدِّ النِّسَاءِ، فَهُوَ فَاسِدٌ، وَفِي فَسَادِ الْعَقْدِ بِهِ مَا سَبَقَ، فَإِنْ لَمْ يُفْسِدْهُ، فَفِي الْغُرْمِ الْخِلَافُ السَّابِقُ بِالتَّرْتِيبِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى وُجُوبِ الْغُرْمِ مَسَائِلُ: مِنْهَا: الْمَغْرُومُ، وَهُوَ الْمَبْذُولُ مِنْ صَدَاقِهَا، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عِنْدِي أَنَّهُ هُوَ الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالْمَبْذُولِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهَا شَيْئًا، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَّا بَعْضَهُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ إِلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَلَوْ كَانَ أُعْطَاهَا أَكْثَرَ مِنَ الْمُسَمَّى، لَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ، كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ مَا أَطْعَمَهَا وَكَسَاهَا وَأَنْفَقَهُ فِي الْعُرْسِ، لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بَدَلَ الْبُضْعِ الَّذِي حُلْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَمِنْهَا: لَا يَثْبُتُ الْغُرْمُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: أَعْطَيْتُهَا صَدَاقَهَا، بَلْ يُنْظَرُ إِنْ أَنْكَرَتِ النِّكَاحَ، فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ وَأَنْكَرَتِ الْقَبْضَ، فَفِي «الشَّامِلِ» وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا تُصَدَّقُ بِالْيَمِينِ، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: لَا يَمِينَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الصَّدَاقَ عَلَى غَيْرِهَا، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يَفْحَصُ الْإِمَامُ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، فَقَدْ يَعْرِفُهُ مَنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ، وَمِنَ الْأَسَارَى، ثُمَّ يَحْلِفُ الرَّجُلُ أَنَّهُ أَصْدَقَهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ وَسَلَّمَهُ، وَلَوِ ادَّعَى الدَّفْعَ وَصَدَّقَتْهُ، فَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ إِقْرَارَهَا كَالْبَيِّنَةِ، وَقَالُوا: تَعْسِرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا يَجْرِي بَيْنَ الْكُفَّارِ، وَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَعْتَمِدَ قَوْلَهَا وَلَا يَجْعَلَهُ حُجَّةً عَلَيْنَا. وَمِنْهَا: مَحَلُّ الْغُرْمِ سَهْمُ الْمَصَالِحِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ إِنْ

كَانَ لِلْمَرْأَةِ مَالٌ، أُخِذَ مِنْهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ هَاجَرَتْ إِلَى بَلَدٍ فِيهِ الْإِمَامُ، غَرِمَ الْمَهْرَ، وَإِنْ هَاجَرَتْ إِلَى بَلَدٍ فِيهِ نَائِبُهُ، فَكَذَلِكَ، وَهَلِ الْمُعْتَبَرُ نَائِبُهُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ وَجْهَانِ، وَإِنْ هَاجَرَتْ إِلَى بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ الْإِمَامُ وَلَا نَائِبُهُ، فَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ مَنْعُهَا حِسْبَةً وَلَا يَغْرَمُونَ الْمَهْرَ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ وَالْحَالَةِ هَذِهِ رَدُّ الْمَهْرِ، كَمَا لَوْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى غَيْرِ بَلَدِ الْإِمَامِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَطْلُبُهُ، وَالْأَحْسَنُ مَا حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ إِنْ قَالَ عِنْدَ الْمُهَادَنَةِ: مَنْ جَاءَنِي مِنْكُمْ مُسْلِمًا رَدَدْتُهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّهَا مَا جَاءَتْهُ، وَإِنْ قَالَ: مَنْ جَاءَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَنْ جَاءَنَا، وَجَبَ. وَمِنْهَا: لَوْ وَهَبَتْهُ الصَّدَاق، أَوْ أَبْرَأَتْهُ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي التَّشَطُّرِ. وَمِنْهَا: إِذَا جَاءَتْ مُسْلِمَةً، ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ، نُظِرَ إِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَالنِّكَاحُ مُسْتَمِرٌّ، وَلَيْسَ لَهَا طَلَبُ الْمَهْرِ، وَإِنْ أَخَذَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ إِذَا زَالَتِ الْحَيْلُولَةُ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، نُظِرَ إِنْ أَخَذَ الْمَهْرَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ، وَصَارَ بِالْقَبْضِ كَالْمُسْتَهْلَكِ فِي الشِّرْكِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ، فَإِنْ طَالَبَتْ بِهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، اسْتَقَرَّ لَهُ الْمَهْرُ لِحُصُولِ الْحَيْلُولَةِ بِإِسْلَامِهَا، وَمَنَعْنَا إِيَّاهَا مِنْهُ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ بِهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ حَصَلَتْ بِالْبَيْنُونَةِ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلَا مُطَالَبَةَ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ بِحَالِهَا، وَلَمْ يَكُنْ أُعْطَاهَا الْمَهْرَ، فَلَمَّا أَسْلَمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَخَذَتِ الْمَهْرَ بِسَبَبِ الْمَسِيسِ، فَهَلْ تَغْرَمُ لَهُ ذَلِكَ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، وَجَعَلَهُمَا الْغَزَالِيُّ وَجْهَيْنِ، أَرْجَحُهُمَا: الْمَنْعُ، هَذَا إِذَا كَانَ إِسْلَامُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَإِنْ جَاءَتْ مُسْلِمَةً قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ طَلَبُ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ.

وَمِنْهَا: لَوْ جَاءَ فِي طَلَبِهَا غَيْرُ زَوْجِهَا، كَأَبِيهَا وَعَشِيرَتِهَا، لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا، لَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ طَلَبُ مَنْ كَانَ لَهُ مِلْكُ الْبُضْعِ، أَوْ طَلَبُ وَكِيلِهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ جَاءَنَا الزَّوْجُ وَلَمْ يَطْلُبْهَا، لَمْ يَغْرَمْ أَيْضًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ فِي الْعِدَّةِ، فَأَمَّا إِذَا بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَا أَثَرَ لِلطَّلَبِ. وَمِنْهَا: إِذَا دَخَلَتْ كَافِرَةً، رَدَدْنَاهَا سَوَاءً طَلَبَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَحَارِمُهَا، فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ دُخُولِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ جَاءَتْ مُسْلِمَةً فِي أَنَّا لَا نَرُدُّهَا وَفِي غُرْمِ الْمَهْرِ، وَقِيلَ: فِي الْغُرْمِ وَجْهَانِ، وَلَوِ ارْتَدَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَجَاءَ الزَّوْجُ يَطْلُبُهَا، نُظِرَ إِنْ طَلَبَهَا بَعْدَ قَتْلِهَا، لَمْ نَغْرَمْ شَيْئًا لِحُصُولِ الْحَيْلُولَةِ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ طَلَبَهَا قَبْلَ الْقَتْلِ، لَمْ نَرُدَّهَا لِوُجُوبِ قَتْلِهَا، وَفِي الْغُرْمِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ لِحُصُولِ الْحَيْلُولَةِ بِالْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا: لَوْ جَاءَتْنَا مُسْلِمَةً، فَجُنَّتْ، أَوْ جَاءَتْنَا مَجْنُونَةً ثُمَّ أَفَاقَتْ وَأَسْلَمَتْ، فَحُكْمُهَا فِي الرَّدِّ وَالْغُرْمِ حُكْمُ الْعَوَاقِلِ، وَإِنْ جَاءَتْ مَجْنُونَةً تَصِفُ الْإِسْلَامَ أَوْ لَا تَصِفُهُ، وَأُخْبِرَ عَنْهَا أَنَّهَا وَصَفَتْهُ وَلَمْ نَعْلَمْ، أَوْ وَصَفَتْهُ قَبْلَ الْجُنُونِ أَمْ فِيهِ، أَوْ لَمْ نُخْبَرْ عَنْهَا بِشَيْءٍ، لَمْ تُرَدَّ لِاحْتِمَالِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْجُنُونِ، وَلَا غُرْمَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا لَمْ تُسْلِمْ حِينَئِذٍ، فَلَا نَغْرَمُ بِالشَّكِّ، فَإِنْ أَفَاقَتْ وَأَقَرَّتْ بِالْإِسْلَامِ، غَرَمْنَا، وَإِلَّا رَدَدْنَاهَا وَلَا غُرْمَ، وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مَجْنُونَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ. وَمِنْهَا: إِذَا جَاءَتْ صَبِيَّةً مُمَيِّزَةً وَهِيَ تَصِفُ الْإِسْلَامَ لَا نَرُدُّهَا، لِأَنَّا وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْ إِسْلَامَهَا فَنَتَوَقَّعُهُ، فَيُحْتَاطُ لِحُرْمَةِ الْكَلِمَةِ، وَقِيلَ: تُرَدُّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا غُرْمَ فِي الْحَالِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ كَالْمَجْنُونَةِ، فَإِنْ بَلَغَتْ وَوَصَفَتِ الْكُفْرَ، رَدَدْنَاهَا، وَإِنْ وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ، غَرَمْنَا.

وَمِنْهَا: لَوْ جَاءَتْ رَقِيقَةً مِنْهُمْ مُسْلِمَةً، فَلَا تُرَدُّ عَلَى سَيِّدِهَا وَلَا زَوْجِهَا، وَيُحْكَمُ بِعِتْقِهَا إِنْ فَارَقَتْهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، لِأَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ مُرَاغَمَةً لَهُمْ، مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِالْقَهْرِ فَتُعْتَقُ، كَعَبْدٍ قَهَرَ سَيِّدَهُ الْحَرْبِيَّ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ حُرًّا، وَهَلْ يَغْرَمُ لِسَيِّدِهَا قِيمَتَهَا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ إِذَا جَاءَ يَطْلُبُهَا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَالثَّانِي: لَا غُرْمَ قَطْعًا، لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ حَصَلَتْ بِالْعِتْقِ وَالْقَهْرِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ قَالَ بِالْمَذْهَبِ، قَالَ: الْمَانِعُ هُوَ الْإِسْلَامُ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً كَافِرَةً لَمْ يُمْنَعْ زَوْجُهَا، وَلَوْ أَسْلَمَتْ، ثُمَّ فَارَقَتْهُمْ، وَهَاجَرَتْ مُسْلِمَةً، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا تَصِيرُ حُرَّةً، لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانِنَا، وَأَمْوَالُهُمْ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْنَا، فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهَا بِالْهِجْرَةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا هَاجَرَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ، لِأَنَّ الْهُدْنَةَ لَا تُوجِبُ أَمَانَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَمَلَكَتْ نَفْسَهَا بِالْقَهْرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ جَمَاعَةٌ لِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَأَطْلَقُوا الْحُكْمَ بِالْعِتْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، لِأَنَّ الْهُدْنَةَ جَرَتْ مَعَنَا لَا مَعَهَا، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرَّجُلِ إِذَا جَاءَنَا مُسْلِمًا وَرَدَدْنَاهُ، أَنَّ لَهُ التَّعَرُّضَ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا تُرَدُّ إِلَى سَيِّدِهَا لِإِسْلَامِهَا وَشِرْكِهِ، وَلَكِنْ نَغْرَمُ لَهُ قِيمَتَهَا، كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُمْ مَالٌ وَتَلِفَ، وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» وَقَالَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّا لَا نَغْرَمُ الْقِيمَةَ وَيَأْمُرُهُ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْهَا، كَأَمَةِ كَافِرٍ أَسَلَمَتْ، وَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْكَلَامِ وَالتَّفْصِيلِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ مُزَوَّجَةً، فَفِي غُرْمِ الْمَهْرِ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا بِغَرَامَةِ الْمَهْرِ وَالْقِيمَةِ، نُظِرَ إِنْ حَضَرَ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ مَعًا، أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ حَقَّهُ، وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: نَغْرَمُ حَقَّ الطَّالِبِ، وَالثَّانِي: لَا نَغْرَمُ شَيْئًا، لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ مُشْتَرَكٌ وَلَمْ يَتِمَّ الطَّلَبُ، وَالثَّالِثُ: نَغْرَمُ لِلسَّيِّدِ إِنِ انْفَرَدَ بِالطَّلَبِ، وَلَا نَغْرَمُ لِلزَّوْجِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ فِي الْمُزَوَّجَةِ لِلسَّيِّدِ آكِدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسَافِرُ بِهَا بِخِلَافِ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ زَوْجُ الْأَمَةِ عَبْدًا، فَلَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ إِذَا عَتَقَتْ، فَإِنْ فَسَخَتِ النِّكَاحَ،

لَمْ نَغْرَمِ الْمَهْرَ لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ حَصَلَتْ بِالْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ تَفْسَخْ وَأَوْجَبْنَا غُرْمَ الْمَهْرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ جَمِيعًا، وَطَلَبُ الزَّوْجِ الْمَرْأَةَ وَالسَّيِّدِ الْمَهْرَ، فَإِنِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا، لَمْ نَغْرَمْ لِأَنَّ الْبُضْعَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلسَّيِّدِ، وَالْمَهْرَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْعَبْدِ. وَمِنْهَا: إِنَّمَا نَغْرَمُ إِذَا طَلَبَهَا الزَّوْجُ فَمَنَعْنَاهَا بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ قَبْلَ الطَّلَبِ، فَلَا غُرْمَ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَهَا مِنَّا وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الطَّلَبِ وَالْمَنْعِ، لَمْ يَسْقُطِ الْغُرْمُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتُ، صُرِفَ الْمَهْرُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ قُتِلَتْ قَبْلَ الطَّلَبِ، فَلَا غُرْمَ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ، وَإِنْ قُتِلَتْ بَعْدَهُ، ثَبَتَ الْغُرْمُ، ثُمَّ نَقَلَ الْإِمَامُ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ، لِأَنَّهُ الْمَانِعُ بِالْقَتْلِ، وَرَأَى أَنْ يُفَصَّلَ فَيُقَالُ: إِنْ قَتَلَهَا عَلَى الِاتِّصَالِ بِالطَّلَبِ، فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرُوهُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَتْلُ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْغُرْمُ عَلَيْنَا بِالْمَنْعِ، فَلَا أَثَرَ لِلْقَتْلِ بَعْدَهُ، وَفِي الْحَالَتَيْنِ لَا حَقَّ لِلزَّوْجِ فِيمَا عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ قِصَاصٍ وَدِيَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهَا، وَلَوْ جَرَحَهَا شَخْصٌ قَبْلَ الطَّلَبِ، ثُمَّ طَلَبَهَا الزَّوْجُ وَقَدِ انْتَهَتْ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِينَ، فَهُوَ كَالطَّلَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ بَقِيَتْ فِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَهَلِ الْغُرْمُ عَلَى الْجَارِحِ، أَمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي الْحَيَاةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَلَا يَسْقُطُ الْغُرْمُ، بِأَنْ يُطْلِقَهَا بَعْدَ طَلَبِهَا، وَأَمَّا قَبْلَهُ، فَإِنْ خَالَعَهَا، أَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا، فَلَا غُرْمَ، لِأَنَّهُ تَرَكَ بِاخْتِيَارِهِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَكَذَا لَوْ مَلَّكَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ يُلَائِمُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ أَنْ يُقَالَ: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الطَّلَبِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا، أَوْ طَلَّقَهَا، فَأَسْلَمَتْ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، ثُمَّ جَاءَ الزَّوْجُ يَطْلُبُهَا، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّا إِنَّمَا نَغْرَمُ لَهُ إِذَا رَاجَعَهَا لِظُهُورِ قَصْدِ الْإِمْسَاكِ بِالرَّجْعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعَةُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ لَا تَصِحُّ، قَالَ الْإِمَامُ: وَخَرَّجَ الْمُحَقِّقُونَ قَوْلًا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ بِلَا رَجْعَةٍ، لِأَنَّهَا فَاسِدَةٌ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِهَا.

فَرْعٌ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِي رَدِّ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ، أَمَّا الْإِمَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ، فَلَا يُرَدُّونَ لِضَعْفِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ بِشَرْطِ رَدِّهِمْ، وَلَا غُرْمَ فِي تَرْكِ رَدِّهِمْ، كَمَا فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ، فَإِنْ وَصَفَا الْإِسْلَامَ، فَذَاكَ، وَإِنْ وَصَفَا كُفْرًا لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمَا، وَإِمَّا أَنْ يُرَدَّا إِلَى مَأْمَنِهِمَا، وَإِنْ وَصَفَا كُفْرًا يُقَرُّ أَهْلُهُ، فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمَا وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَا الْجِزْيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يُرَدَّا إِلَى مَأْمَنِهِمَا. وَأَمَّا الذُّكُورُ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ، فَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي رَدِّ الْعَبْدِ وَجْهَيْنِ، الصَّحِيحُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ: لَا يُرَدُّ، لِأَنَّهُ جَاءَ مُسْلِمًا مُرَاغَمًا لَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَسْتَرِقُّونَهُ وَيُهِينُونَهُ وَلَا عَشِيرَةَ لَهُ تَحْمِيهِ، وَالثَّانِي: يُرَدُّ، وَالْمَنْعُ فِي النِّسَاءِ لِخَوْفِ الْفَاحِشَةِ، وَهَلْ يُعْتَقُ الْعَبْدُ الَّذِي جَاءَ مُسْلِمًا؟ قَالَ فِي «الْحَاوِي» : إِنْ غَلَبَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ، عَتَقَ، لِأَنَّ الْهُدْنَةَ لَا تُوجِبُ أَمَانَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ غَلَبَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَجَاءَنَا، نُظِرَ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ هَادَنَّاهُمْ، فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ غَلَبَ فِي حَالِ الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ فَعَلَهُ بَعْدَ الْهُدْنَةِ، لَمْ يُعْتَقْ، لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُحَرَّمَةٌ حِينَئِذٍ لَا يَمْلِكُهَا بِالْقَهْرِ، ثُمَّ لَا يُرَدُّ إِلَى السَّيِّدِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَقْ، وَلَا يُمْكِنُ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ وَإِلَّا بَاعَهُ الْإِمَامُ لِمُسْلِمٍ، أَوْ دَفَعَ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَعْتَقَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً، وَوَلَاؤُهُ لَهُمْ. وَأَمَّا الْحُرُّ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَشِيرَةٌ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يُذَلُّ وَيُهَانُ، فَفِي رَدِّهِ طَرِيقَانِ، الصَّحِيحُ طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ فِي رَدِّ الْعَبْدِ، وَالثَّانِي: يُرَدُّ قَطْعًا لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ فِي الْجُمْلَةِ مَظَنَّةُ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: يُرَدُّ، قَالَ الْإِمَامُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُهِينُوا الْمُسْلِمَ الْمَرْدُودَ، فَإِنْ أَهَانُوهُ كَانُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ لِلْحُرِّ عَشِيرَةٌ وَطَلَبَتْهُ، رُدَّ كَمَا رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا جَنْدَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يَحْمُونَهُ، وَأَمَّا كَوْنُ عَشِيرَتِهِ تُؤْذِيهِ بِالتَّقْيِيدِ وَنَحْوِهِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ

تَأْدِيبًا فِي زَعْمِهِمْ، وَإِنْ طَلَبَهُ عَيْنُ عَشِيرَتِهِ، لَمْ يُرَدَّ إِلَّا إِذَا كَانَ الطَّالِبُ مِمَّنْ يَقْدِرُ الْمَطْلُوبُ عَلَى قَهْرِهِ وَالْإِفْلَاتِ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا حُمِلَ رَدُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَصِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ أَحَدٌ، فَلَا رَدَّ كَمَا لَا غُرْمَ إِذَا لَمْ يَطْلُبُ أَحَدٌ الْمَرْأَةَ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَمَعْنَى الرَّدِّ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الرُّجُوعِ، وَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَطْلُبُهُ، لَا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الرُّجُوعِ، وَهَذَا مَعْنَى رَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا جَنْدَلٍ وَأَبَا بَصِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَا يَبْعُدُ تَسْمِيَةُ التَّخْلِيَةِ رَدًّا كَمَا فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ، وَلَوْ شَرَطَ الْإِمَامُ فِي الْهُدْنَةِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الطَّلَبُ، وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنِ النَّصِّ أَنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لَوْ طَلَبُوا مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى كُفْرِهِ، مَكَّنَّاهُمْ مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا شَرَطُوا أَنْ يَقُومَ بِرَدِّهِ عَلَيْهِمْ، وَفَّيْنَا بِالشَّرْطِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي بَصِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امْتِنَاعَهُ، فَإِنِ اخْتَارَ الْإِقَامَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُمْنَعْ، وَيَقُولُ الْإِمَامُ لِلطَّالِبِ: لَا أَمْنَعُكَ مِنْهُ إِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ، وَلَا أَعِينُكَ إِنْ لَمْ تَقْدِرْ، وَعَنِ النَّصِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ لِلْمَطْلُوبِ سِرًّا: لَا تَرْجِعُ، وَإِنْ رَجَعْتَ فَاهْرُبْ إِذَا قَدَرْتَ، وَلِلْمَطْلُوبِ أَنْ يَقْتُلَ الطَّالِبَ، وَلَنَا أَنْ نُرْشِدَهُ إِلَى قَتْلِهِ تَعْرِيضًا لَا تَصْرِيحًا، لِأَنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا الْتَزَمَ بِالْهُدْنَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْهُمْ، وَيُمْنَعَ الَّذِينَ يُعَادُونَهُمْ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ، فَأَمَّا مَنْ أَسْلَمَ بَعْدُ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا تَنَاوَلَهُ شَرْطُ الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قَبْضَتِهِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّعَرُّضُ لِمَنْ عَصَمَ الْإِمَامُ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَلِهَذَا مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا وَلَمْ يُطْلَبْ، يَلْزَمُهُ بِعَقْدِ الْهُدْنَةِ مَا لَزِمَنَا.

فصل

فَرْعٌ عَنْ «الْبَحْرِ» : كَافِرٌ تَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَسْلَمْنَ، وَهَاجَرْنَ، وَجَاءَ يَطْلُبُهُنَّ، يُؤْمَرُ بِاخْتِيَارِ أَرْبَعٍ، وَيُعْطَى مُهُورَهُنَّ عَلَى قَوْلِ غَرَامَةِ الْمَهْرِ، وَالْمُسْتَوْلَدَةُ إِذَا جَاءَتْ مُسْلِمَةً كَالْأَمَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ إِنِ اقْتَضَى الْحَالُ عِتْقَهَا كَذَلِكَ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ وَإِلَّا فَهِيَ عَلَى كِتَابَتِهَا، فَإِنْ أَدَّتْ، عَتَقَتْ وَلِلسَّيِّدِ الْوَلَاءُ، وَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ حُسِبَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ إِسْلَامِهَا مِنْ ضَمَانِهَا وَلَا يُحْسَبُ مِنْهُ مَا أَخَذَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ بَلَغَ الْمَحْسُوبُ عَلَيْهِ قَدْرَ الْقِيمَةِ، فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَعَتَقَتْ، وَوَلَاؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَلْ يُرَدُّ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؟ قَوْلَانِ بِنَاءٍ عَلَى أَنَّا هَلْ نَغْرَمُ لِلسَّيِّدِ قِيمَةَ الْأَمَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى أَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، لَمْ يُسْتَرْجِعِ الْفَاضِلُ مِنْ سَيِّدِهَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، فَلِلسَّيِّدِ تَمَامُ الْقِيمَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَصْلٌ إِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ بِشَرْطِ أَنْ يَرُدُّوا مَنْ جَاءَهُمْ مِنَّا مُرْتَدًّا، وَيُسَلِّمُوهُ إِلَيْنَا، لَزِمَهُمُ الْوَفَاءُ، فَإِنِ امْتَنَعُوا، كَانُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ، فَإِنْ عُقِدَتْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَرُدُّوا مَنْ جَاءَهُمْ، فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اسْتِرْدَادِهِ لِإِقَامَةِ حُكْمِ الْمُرْتَدِّينَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي صِحَّةُ الشَّرْطِ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، لِأَنَّ الْأَبْضَاعَ يُحْتَاطُ لَهَا، وَيَحْرُمُ عَلَى الْكَافِرِ مِنَ الْمُرْتَدَّةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْمُسْلِمَةِ، وَرُبَّمَا حَاوَلَ تَنْزِيلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الصِّنْفَيْنِ، فَإِنْ أَبْطَلْنَا الشَّرْطَ وَأَوْجَبْنَا الرَّدَّ، فَالَّذِي عَلَيْهِمُ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ دُونَ التَّسْلِيمِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ جَرَتِ الْمُهَادَنَةُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِرَدِّ الْمُرْتَدِّ، وَحَيْثُ لَا يَلْزَمُهُمُ التَّمْكِينُ وَالتَّسْلِيمُ، يَلْزَمُهُمْ مَهْرُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ،

وَقِيمَةُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ رَقِيقِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ غُرْمُ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ، وَلَوْ عَادَ الْمُرْتَدُّونَ إِلَيْنَا، لَمْ نَرُدَّ الْمُهُورَ، وَنَرُدُّ الْقِيَمَ، لِأَنَّ الرَّقِيقَ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ، وَالنِّسَاءَ لَا يَصِرْنَ زَوْجَاتٍ، وَحَيْثُ يَجِبُ التَّمْكِينُ دُونَ التَّسْلِيمِ تَمَكَّنُوا، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِمْ، سَوَاءً وَصَلْنَا إِلَى الْمَطْلُوبِينَ أَمْ لَا، وَحَيْثُ يَجِبُ التَّسْلِيمُ يُطَالِبُهُمْ بِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ فَاتَ التَّسْلِيمُ بِالْمَوْتِ، لَزِمَهُمُ الْغُرْمُ، وَإِنْ هَرَبُوا، نُظِرَ إِنْ هَرَبُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَلَا غُرْمَ، وَبَعْدَهَا يَجِبُ الْغُرْمُ، وَإِذَا قُلْنَا: لَا تُسْتَرَدُّ الْمُرْتَدَّةُ، غَرِمَ الْإِمَامُ لِزَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِهَا، لِأَنَّا بِعَقْدِ الْهُدْنَةِ حُلْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَلَوْلَاهُ، لَقَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى يَرُدُّوهَا، وَإِنْ قُلْنَا: تُسْتَرَدُّ، فَتَعَذَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: نَغْرَمُ لَهُ أَيْضًا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ لِزَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ مُفَرَّعًا عَلَى الْغُرْمِ لِزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ الْمُهَاجِرَةِ، وَلَمْ أَرَهُ مُصَرِّحًا بِهِ، وَقَدْ يُشْعِرُ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ لَوْ جَاءَتْهُمُ امْرَأَةٌ مِنَّا مُرْتَدَّةً، وَهَاجَرَتْ إِلَيْنَا امْرَأَةٌ مِنْهُمْ مُسْلِمَةً، وَطَلَبهَا زَوْجُهَا، فَلَا نَغْرَمُ لَهُ الْمَهْرَ، بَلْ نَقُولُ: هَذِهِ بِهَذِهِ، وَيَجْعَلُ الْمَهْرَيْنِ قِصَاصًا، وَيَدْفَعُ الْإِمَامُ الْمَهْرَ إِلَى زَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ، وَيَكْتُبُ إِلَى زَعِيمِهِمْ لِيَدْفَعَ مَهْرَهَا إِلَى زَوْجِ الْمُهَاجِرَةِ، هَذَا إِنْ تَسَاوَى الْقِدْرَانِ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمُهَاجِرَةِ أَكْثَرَ، صَرَفْنَا مِقْدَارَ مَهْرِ الْمُرْتَدَّةِ مِنْهُ إِلَى زَوْجِهَا وَالْبَاقِي إِلَى الْمُهَاجِرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمُرْتَدَّةِ أَكْثَرَ، صَرَفْنَا مِقْدَارَ مَهْرِ الْمُهَاجِرَةِ إِلَى زَوْجِهَا، وَالْبَاقِي إِلَى زَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ، وَبِهَذِهِ الْمُقَاصَّةِ فَسَّرَ مُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) .

كتاب الصيد والذبائح والضحايا والعقيقة والأطعمة.

فَصْلٌ عَلَى الْإِمَامِ مَنْعُ مَنْ يَقْصِدُ أَهْلَ الْهُدْنَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مَنْعُ الْحَرْبِيِّينَ، وَلَا مَنْعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ لِمُجَرَّدِ الْكَفِّ لَا لِلْحِفْظِ بِخِلَافِ الذِّمَّةِ. وَلَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى مُهَادِنٍ نَفْسًا أَوْ مَالًا، ضَمِنَهُ، وَإِنْ قَذَفَهُ عُزِّرَ، وَعَلَيْهِمْ بِإِتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ الضَّمَانُ، وَبِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ، وَبِالْقَذْفِ الْحَدُّ. وَلَوْ أَغَارَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ ظَفَرَ الْإِمَامُ بِأَهْلِ الْحَرْبِ، فَاسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالَ أَهْلِ الْهُدْنَةِ، لَزِمَهُ رَدُّهَا إِلَيْهِمْ، وَفِي إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَالزِّنَى عَلَى الْمَعَاهَدِ، وَانْتِقَاضُ عَهْدِهِ بِالسَّرِقَةِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي آخِرِ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ وَالْأَطْعِمَةِ. هَذِهِ الْكُتُبُ تَقَدَّمَتْ فِي آخِرِ الْعِبَادَاتِ.

كتاب السبق والرمي

كِتَابُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ وَهُوَ الْمُنَاضَلَةُ، الْمُسَابَقَةُ وَالْمُنَاضَلَةُ جَائِزَتَانِ بَلْ سُنَّتَانِ إِذَا قُصِدَ بِهِمَا التَّأَهُّبُ لِلْجِهَادِ. قُلْتُ: يُكْرَهُ لِمَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ تَرْكُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مِنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ شَرْطُ الْمَالِ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ، وَفِي الْكِتَابِ بَابَانِ، بَابٌ فِي السَّبْقِ، وَبَابٌ فِي الرَّمْيِ، وَقَدْ تَدْخُلُ مَسَائِلُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ لِتَقَارُبِهِمَا. الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي السَّبْقِ وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي شُرُوطِهِ، وَهِيَ عَشَرَةٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عُدَّةً لِلْقِتَالِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّأَهُّبُ لِلْقِتَالِ، وَلِهَذَا قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: لَا يَجُوزُ السَّبْقُ وَالرَّمْيُ مِنَ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ أَهْلًا لِلْحَرْبِ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي السَّبْقِ الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ، لِأَنَّهَا الَّتِي يُقَاتَلُ عَلَيْهَا غَالِبًا، وَتَصْلُحُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، وَتَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَى الْفِيلِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ بِالْمَنْعِ فِيهَا، وَقِيلَ بِالْمَنْعِ فِي الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَقِيلَ فِي الْجَمِيعِ خِلَافٌ. وَأَمَّا الْمُنَاضَلَةُ فَتَجُوزُ عَلَى السِّهَامِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ وَهِيَ النُّشَّابُ، وَعَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِسِيِّ، حَتَّى تَجُوزَ عَلَى

الرَّمْيِ بِالْمِسَلَّاتِ وَالْإِبَرِ، وَفِي الْمَزَارِيقِ وَالرَّانَّاتِ وَرَمْيِ الْحِجَارَةِ بِالْيَدِ وَبِالْمِقْلَاعِ وَالْمَنْجَنِيقِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، وَالثَّانِي: وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، وَلَا تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِإِشَالَةِ الْحَجَرِ بِالْيَدِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، وَأَمَّا مُرَامَاةُ الْأَحْجَارِ، وَهِيَ أَنْ يَرْمِيَ كُلُّ وَاحِدٍ الْحَجَرَ إِلَى صَاحِبِهِ، فَبَاطِلَةٌ، وَأَمَّا الْمُسَابَقَةُ عَلَى التَّرَدُّدِ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ، فَقِيلَ بِمَنْعِهَا، لِأَنَّهَا لَا تُفَارِقُ صَاحِبَهَا، وَإِلَّا يَصِحُّ الْجَوَازُ، لِأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ عُدَدِ الْقِتَالِ، وَاسْتِعْمَالُهَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعَلُّمٍ وَتَحَذُّقٍ، وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى الْحَمَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الطُّيُورِ، وَعَلَى الْأَقْدَامِ وَالسِّبَاحَةِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالزَّوَارِقِ وَالصِّرَاعِ، فَجَائِزَةٌ بِلَا عِوَضٍ، وَالْأَصَحُّ مِنْهَا بِالْعِوَضِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الصِّرَاعَ، فَفِي الْمُشَابَكَةِ بِالْيَدِ وَجْهَانِ، وَلَا تَجُوزُ عَلَى مُنَاطَحَةِ الشِّيَاهِ، وَمُهَارَشَةِ الدِّيَكَةِ لَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِهِ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْمُسَابَقَةِ عَلَى مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْحَرْبِ، كَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْخَاتَمِ وَالصَّوْلَجَانِ، وَرَمْيِ الْبُنْدُقِ وَالْجَلَاهِقِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وَمَعْرِفَةِ مَا فِي الْيَدِ مِنْ شَفْعٍ وَوَتْرٍ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ اللَّعِبِ، وَأَمَّا الْمَقْلُ فِي الْمَاءِ فَقَالَ الشَّيْخُ الْمَرْوَزِيُّ: إِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي الْحَرْبِ، فَهُوَ كَالسِّبَاحَةِ، وَإِلَّا فَلَا تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ.

قُلْتُ: لَا تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَى الْبَقَرِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ قَالَ: وَالَّذِي تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْلِ. قِيلَ: مَا يُسْهَمُ لَهُ وَهُوَ الْجَذَعُ أَوِ الثَّنِيُّ، وَقِيلَ: وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا قَالَ: وَلَا تَجُوزُ عَلَى الْكَلْبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: الْإِعْلَامُ، فَيُشْتَرَطُ إِعْلَامُ الْمَوْقِفِ الَّذِي يَبْدَآنِ بِالْجَرْيِ مِنْهُ، وَالْغَايَةِ الَّتِي يَجْرِيَانِ إِلَيْهَا، وَيُشْتَرَطُ تَسَاوِي الْمُتَسَابِقَيْنِ فِيهِمَا، وَلَوْ لَمْ يُعَيِّنَا غَايَةً وَشَرَطَا الْمَالَ لِأَسْبَقِهِمَا حَيْثُ سَبَقَ، لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ عَيَّنَا غَايَةً وَشَرَطَا أَنَّ السَّبْقَ إِنِ اتَّفَقَ فِي وَسَطِ الْمَيْدَانِ لِأَحَدِهِمَا كَانَ فَائِزًا، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا السَّبْقَ فِي خِلَالِ الْمَيْدَانِ لَاعْتَبَرَنَاهُ بِلَا غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَوْ عَيَّنَا غَايَةً وَقَالَا: إِنِ اتَّفَقَ السَّبْقُ عِنْدَهَا فَذَاكَ، وَإِلَّا عَدَّيْنَا إِلَى غَايَةٍ أُخْرَى اتَّفَقَا عَلَيْهَا، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ وَكَوْنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْغَايَتَيْنِ مَعْلُومَةً. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمَالِ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُشْتَرَطَ لِلسَّابِقِ كُلُّ الْمَالِ أَوْ أَكْثَرُهُ، فَإِذَا تَسَابَقَ اثْنَانِ، وَبَذَلَ الْمَالَ غَيْرُهُمَا، فَإِنْ شَرَطَهُ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا، فَذَاكَ، وَإِنْ شَرَطَهُ لِلثَّانِي، أَوْ شَرَطَ لَهُ مِثْلَ الْأَوَّلِ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ شَرَطَ لِلثَّانِي أَقَلَّ مِمَّا شَرَطَ لِلْأَوَّلِ جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ تَسَابَقَ ثَلَاثَةٌ، وَشَرَطَ بَاذِلُ الْمَالِ الْمَالَ لِلْأَوَّلِ، جَازَ، وَإِنْ شَرَطَهُ لِلثَّانِي، أَوْ شَرَطَ لَهُ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يَجُوزُ، لِأَنَّ ضَبْطَ الْفَرَسِ فِي شِدَّةِ عَدْوِهِ لِيَقِفَ فِي مُقَامِ الثَّانِي يَحْتَاجُ إِلَى حَذَقٍ وَمَعْرِفَةٍ، وَإِنْ شَرَطَ لَهُ مِثْلَ مَا شَرَطَ لِلْأَوَّلِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَجْتَهِدُ هُنَا أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا وَثَانِيًا، وَإِنْ شَرَطَ لَهُ

دُونَ مَا شَرَطَ لِلْأَوَّلِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي الثَّلَاثَةِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ الْجَمِيعَ لِلثَّانِي، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ شَرْطُ شَيْءٍ لَهُ، وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ لَهُ شَرْطٌ بِشَرْطِ تَفْضِيلِ السَّابِقِ، وَالْأَصَحُّ: يَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ لَهُ بِحَيْثُ لَا يُفَضَّلُ عَلَى السَّابِقِ، وَأَمَّا الْفِسْكِلُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْكَافِ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْأَخِيرُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَاوَى بِمَنْ قَبْلَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ لَهُ دُونَ مَا شَرَطَ لِمَنْ قَبْلَهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ فِي الِاثْنَيْنِ، وَيُقَاسُ بِهَا مَا إِذَا تَسَابَقَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ حَتَّى لَوْ كَانُوا عَشَرَةً، وَشَرَطَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سِوَى الْفِسْكِلِ مِثْلُ الْمَشْرُوطِ لِمَنْ قَبْلَهُ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْأَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دُونَ الْمَشْرُوطِ لِمَنْ قَبْلَهُ، وَفِي شَرْطِ شَيْءٍ لِلْفِسْكِلِ الْوَجْهَانِ، وَلَوْ أَهْمَلَ بَعْضَهُمْ، بِأَنْ شَرَطَ لِلْأَوَّلِ عَشَرَةً، وَلِلثَّالِثِ تِسْعَةً، وَلِلرَّابِعِ ثَمَانِيَةً، فَهَلْ يَجُوزُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الرَّابِعَ وَالثَّالِثَ يَفْضُلَانِ مَنْ قَبْلَهُمَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَيُقَامُ الثَّالِثُ مَقَامَ الثَّانِي، وَالرَّابِعُ مَقَامَ الثَّالِثِ، وَكَأَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا بَطَلَ الْمَشْرُوطُ فِي حَقِّ بَعْضِهِمْ، فَفِي بُطْلَانِهِ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ وَجْهَانِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَعَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْإِهْمَالِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ مَنْ بَطَلَ السَّبْقُ فِي حَقِّهِ هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْبَاذِلِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ قُلْنَا: لَا، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ لِئَلَّا يَفْضُلَ مَنْ سَبَقَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، لَمْ يَبْطُلْ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ الْمَشْرُوطِ لَهُ زَائِدًا عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ أَنْ يَفْضُلَ الْمَسْبُوقُ السَّابِقَ فِيمَا يَسْتَحِقَّانِهِ بِالْعَقْدِ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِالْعَقْدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصُّوَرَ الْمَذْكُورَةَ وَضَعُوهَا فِيمَا لَوْ كَانَ بَاذِلُ الْمَالِ غَيْرَ الْمُتَسَابِقِينَ، وَيُمْكِنُ فَرْضُهَا أَوْ فَرْضُ بَعْضِهَا فِيمَا لَوْ بَذَلَهُ أَحَدُهُمَا، بِأَنْ

يَتَسَابَقَ اثْنَانِ، وَيَبْذُلَ أَحَدُهُمَا مَالًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ سَبَقَ دَفَعَ إِلَى الْآخَرِ مِنْهُ كَذَا، وَإِنْ سَبَقَهُ الْآخَرُ أَمْسَكَ لِنَفْسِهِ مِنْهُ كَذَا. فَرْعٌ قَالَ: مَنْ سَبَقَ فَلَهُ كَذَا فَجَاءَ الْمُتَسَابِقُونَ مَعًا فَلَا شَيْءَ لَهُمْ، وَلَوْ جَاءَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مَعًا، وَتَأَخَّرَ الْبَاقُونَ فَالْمَشْرُوطُ لِلْأَوَّلِينَ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَوْ قَالَ: مَنْ سَبَقَ، فَلَهُ دِينَارٌ، وَمَنْ جَاءَ ثَانِيًا، فَلَهُ نِصْفُ دِينَارٍ، فَسَبَقَ وَاحِدٌ، ثُمَّ جَاءَ ثَلَاثَةٌ مَعًا، ثُمَّ الْبَاقُونَ، فَلِلسَّابِقِ دِينَارٌ، وَلِلثَّلَاثَةِ نِصْفٌ، وَإِنْ سَبَقَ وَاحِدٌ، ثُمَّ جَاءَ الْبَاقُونَ، فَلَهُ دِينَارٌ، وَلَهُمْ نِصْفٌ، وَإِنْ جَاءَ الْجَمِيعُ مَعًا، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَنْ سَبَقَ فَلَهُ دِينَارٌ، فَسَبَقَ ثَلَاثَةٌ، قَالَ الدَّارِكِيُّ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارٌ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُحَلِّلٌ، وَمَالُ الْمُسَابَقَةِ قَدْ يُخْرِجُهُ الْمُتَسَابِقَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ غَيْرُهُمَا. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُخْرِجَهُ غَيْرُهُمَا، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَ الْمَالَ مِنْ خَاصِّ نَفْسِهِ وَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى تَعَلُّمِ الْفُرُوسِيَّةِ، وَإِعْدَادِ أَسْبَابِ الْقِتَالِ، وَيَجُوزُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الرَّعِيَّةِ إِخْرَاجُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ بَذْلُ مَالٍ فِي طَاعَةٍ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا نَوَى، وَسَوَاءٌ تَسَابَقَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَمَنْ سَبَقَ، أَخَذَ الْمَالَ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُخْرِجَهُ أَحَدُهُمَا، وَيَشْرُطَانِهِ إِنْ سَبَقَ أَحْرَزَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ سَبَقَ الْآخَرُ، أَخَذَهُ، فَيَجُوزُ، وَلَوْ تَسَابَقَ أَكْثَرُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَشَرَطُوا أَنَّ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْمُخْرِجِينَ لَمْ يُحْرِزْ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ، وَمَنْ سَبَقَ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَخَذَ مَا أَخْرَجَهُ الْمُخْرِجُونَ، جَازَ أَيْضًا. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُخْرِجَهُ الْمُتَسَابِقَانِ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ: إِنْ سَبَقْتُكَ، فَلِيَ

عَلَيْكَ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتَنِي، فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ صُورَةُ قِمَارٍ إِلَّا أَنْ يُدْخِلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا وَهُوَ ثَالِثٌ يُشَارِكُهُمَا فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ سَبَقَ أَخَذَ مَا شَرَطَاهُ، وَإِنْ سُبِقَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ، ثُمَّ إِنْ شَرَطَا أَنْ يَخْتَصَّ الْمُحَلِّلُ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَأْخُذُ إِلَّا مَا أَخْرَجَ، فَهَذَا جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ شَرَطَا أَنَّ الْمُحَلِّلَ يَأْخُذُ السَّبَقَيْنِ وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا أَحَدَهُمَا، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَمَنَعَهُ ابْنُ خَيْرَانَ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَنْصُوصِ وَكَانَ الْمُتَسَابِقُونَ مِائَةً مَثَلًا، وَلَيْسَ فِيهِمْ إِلَّا مُحَلِّلٌ وَاحِدٌ، وَشَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ مَا أَخْرَجُوهُ إِنْ سَبَقَ وَلَا يَغْرَمُ إِنْ سُبِقَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَسَابِقِينَ إِنْ سَبَقَ، غَنِمَ، وَإِنْ سُبِقَ، غَرِمَ، صَحَّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهُنَا أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمَا إِذَا أَطْلَقَا شَرْطَ الْمَالِ لِلسَّابِقِ، فَهَلِ اللَّفْظُ لِلسَّابِقِ الْمُطْلَقِ، أَمْ يَتَنَاوَلُ مَنْ سَبَقَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا لِغَيْرِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَصْلَيْنِ الْحُكْمُ فِي صُوَرِ مَجِيءِ الْمُتَسَابِقِينَ، فَإِذَا تَسَابَقَ اثْنَانِ وَمُحَلِّلٌ، نُظِرَ إِنْ جَاءَ الْمُحَلِّلُ ثُمَّ أَحَدُهُمَا ثُمَّ الْفِسْكِلُ، فَلِلْمُحَلِّلِ مَا أَخْرَجَهُ الْآتِي بَعْدَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَفِيمَا أَخْرَجَهُ الْفِسْكِلُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: أَنَّهُ لِلْمُحَلِّلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ السَّابِقُ الْمُطْلَقُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَهُ وَلِلْآتِي بَعْدَهُ، لِأَنَّهُمَا سَبَقَا الْفِسْكِلَ، وَالثَّالِثُ: هُوَ لِلْآتِي بَعْدَهُ وَحْدَهُ، وَلَوْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ ثُمَّ جَاءَا مَعًا، فَلَهُ السَّبَقَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ مَعَ أَحَدِهِمَا، فَالَّذِي سَبَقَ مَعَ الْمُحَلِّلِ يُحْرِزُ مَا أَخْرَجَهُ وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْآخَرُ، فَهُوَ لَهُ، وَلِلْمُحَلِّلِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَعِنْدَ ابْنِ خَيْرَانَ لِلْمُحَلِّلِ خَاصَّةً، وَلَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي مَعَ الْمُحَلِّلِ، أَوْ جَاءَ الثَّانِي، ثُمَّ الْمُحَلِّلُ، أَحْرَزَ السَّابِقُ مَا أَخْرَجَهُ وَلَهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْآخَرُ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَعِنْدَ ابْنِ خَيْرَانَ لَا يَأْخُذُهُ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، وَلَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ جَاءَ الْمُحَلِّلُ، ثُمَّ الْآخَرُ، أَحْرَزَ السَّابِقُ مَا أَخْرَجَهُ الْآخَرُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْصُوصِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ،

أَصَحُّهَا: أَنَّهُ لِلسَّابِقِ أَيْضًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَهُ وَلِلْمُحَلِّلِ مَعًا، لِأَنَّهُمَا سَبَقَا الْآخَرَ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لِلْمُحَلِّلِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ، فَهَلْ هُوَ لِلْمُحَلِّلِ، أَمْ يُحْرِزُهُ مُخْرِجُهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُحَلِّلُ وَلَا السَّابِقُ؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ سَبَقَا مَعًا، ثُمَّ جَاءَ الْمُحَلِّلُ، أَوْ جَاءَ الثَّلَاثَةُ مَعًا، لَمْ يَأْخُذْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَإِذَا تَسَابَقَ اثْنَانِ وَمُحَلِّلَانِ، فَسَبَقَ أَحَدُ الْمُحَلِّلَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ، ثُمَّ الْمُحَلِّلُ الثَّانِي، ثُمَّ الْمُتَسَابِقُ الثَّانِي، فَمَا أَخْرَجَهُ الْمُتَسَابِقُ الْأَوَّلُ، فَلِلْمُحَلِّلِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْآخَرُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْصُوصِ، فَهُوَ لِلْمُحَلِّلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ السَّابِقُ الْمُطْلَقُ، وَقِيلَ: هُوَ لِلْمُحَلِّلَيْنِ وَالْمُتَسَابِقِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا سَبَقُوا الثَّانِيَ، وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الضَّعِيفِ أَنَّهُ لِلْمُحَلِّلِ الثَّانِي، وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ، فَهُوَ لِلْمُحَلِّلِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: لِلْمُحَلِّلَيْنِ، وَلَوْ جَاءَ أَوَّلًا أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ، ثُمَّ أَحَدُ الْمُحَلِّلَيْنِ ثُمَّ الْمُحَلِّلُ الثَّانِي، أَحْرَزَ الْأَوَّلُ مَا أَخْرَجَهُ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْآخَرُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْصُوصِ، فَهُوَ لِلْمُتَسَابِقِ الْأَوَّلِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لَهُ وَلِلْمُحَلِّلِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ: هُوَ لِلْمُحَلِّلِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ: هُوَ لِلْمُحَلِّلِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرَ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ سَبْقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْكِنًا، فَإِنْ كَانَ فَرَسُ أَحَدِهِمَا، أَوْ فَرَسُ الْمُحَلِّلِ ضَعِيفًا يُقْطَعُ بِتَخَلُّفِهِ، أَوْ فَارِهًا يُقْطَعُ بِتَقَدُّمِهِ، لَمْ يَجُزْ، هَكَذَا أَطْلَقَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا الْمَالَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ فَازَ، أَحْرَزَ مَا أَخْرَجَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ، وَكَانَ صَاحِبُهُ بِحَيْثُ يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَسْبِقُ، فَهَذِهِ مُسَابَقَةٌ بِلَا مَالٍ، وَإِنْ كَانَ يُقْطَعُ بِأَنَّهُ يَسْبِقُ، فَفِي صِحَّةِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، وَحَاصِلُهَا إِخْرَاجُ مَالٍ لِمَنْ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ يَسْبِقُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: ارْمِ كَذَا، فَإِنْ أَصَبْتَ مِنْهُ كَذَا، فَلَكَ هَذَا الْمَالُ، وَإِنْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا، وَأَدْخَلَا مُحَلِّلًا يُعْلَمُ تَخَلُّفُهُ قَطْعًا، فَلَا فَائِدَةَ فِي إِدْخَالِهِ، وَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى

صُورَةِ الْقِمَارِ، فَيَبْطُلُ، وَإِنْ تَيَقَّنَ سَبْقَهُ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، وَإِنْ أَخْرَجَا الْمَالَ وَلَا مُحَلِّلَ وَأَحَدُهُمَا بِحَيْثُ يُقْطَعُ بِسَبْقِهِ، فَالَّذِي يَسْبِقُ كَالْمُحَلِّلِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَشَرْطُ الْمَالِ مِنْ جِهَتِهِ لَغْوٌ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ حَسَنٌ، وَلَوْ كَانَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا مُمْكِنًا عَلَى النُّدُورِ، فَفِي الِاكْتِفَاءِ بِهِ لِلصِّحَّةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَأَقْرَبُهُمَا إِلَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ: الْمَنْعُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالِاحْتِمَالِ النَّادِرِ، وَيَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَرْكُوبَيْنِ جِنْسًا وَنَوْعًا، أَمَّا النَّوْعُ فَلَا يَضُرُّ، فَتَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بَيْنَ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ، وَعَرَبِيٍّ وَتُرْكِيٍّ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إِذَا تَبَاعَدَ نَوْعَانِ، كَالْعَتِيقِ وَالْهَجِينِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالنَّجِيبِ وَالْبُخْتِيِّ مِنَ الْإِبِلِ، لَمْ يَجُزْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَجِّحَ هَذَا وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشْهَرَ، لِأَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ التَّخَلُّفُ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِضَعْفٍ، أَوْ لِرَدَاءَةِ نَوْعٍ. قُلْتُ: قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ تَجُوزُ بَيْنَ الْعَتِيقِ وَالْهَجِينِ، وَالنَّجِيبِ وَالْبُخْتِيِّ، مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يُقْطَعْ بِسَبْقِ الْعَتِيقِ وَالنَّجِيبِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا فَإِنْ أَرَادَهُ، ارْتَفَعَ الْخِلَافُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، فَإِنْ كَانَ كَبَعِيرٍ وَفَرَسٍ، أَوْ فَرَسٍ وَحِمَارٍ فَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَ بَغْلًا وَحِمَارًا وَجَوَّزْنَا الْمُسَابَقَةَ عَلَيْهِمَا، فَالْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ، وَبِهِ أَجَابَ ابْنُ الصَّبَّاغِ. الشَّرْطُ السَّادِسُ: تَعْيِينُ الْمَرْكُوبَيْنِ، فَإِنْ أُحْضِرَتِ الْأَفْرَاسُ، وَعُقِدَ عَلَى عَيْنِهَا، فَذَاكَ، وَإِنْ وُصِفَتْ وَعُقِدَ عَلَى الْوَصْفِ، فَهَلْ تَصِحُّ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ، قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ الْأَوْجَهُ، كَمَا قَامَ الْوَصْفُ فِي السَّلَمِ وَالزِّنَى مَقَامَ الْإِحْضَارِ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا جَرَتِ الْمُسَابَقَةُ مُطْلَقَةً، كَانَ كَجَرَيَانِ الْمُنَاضَلَةِ مُطْلَقَةً،

وَسَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا عَلَى مَاذَا تُحْمَلُ، وَإِذَا تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِعَيْنِ فَرَسٍ، لَمْ يَجُزْ إِبْدَالُهُ، فَإِنْ هَلَكَ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَإِذَا عُقِدَ عَلَى الْوَصْفِ، ثُمَّ أُحْضِرَ فَرَسٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفَسِخَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ. الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ يَسْبِقَ عَلَى الدَّابَّتَيْنِ، فَلَوْ شَرَطَا إِرْسَالَهُمَا لِيَجْرِيَا بِأَنْفُسِهِمَا، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا تَنْفِرُ، وَلَا تَقْصِدُ الْغَايَةَ بِخِلَافِ الطُّيُورِ إِذَا جَوَّزْنَا الْمُسَابَقَةَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ لَهَا هِدَايَةً إِلَى الْغَايَةِ. الشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ تَكُونَ الْمَسَافَةُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ لِلْفَرَسَيْنِ قَطْعَهَا وَلَا يَنْقَطِعَانِ، فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَصِلَانِ غَايَتَهَا إِلَّا بِانْقِطَاعٍ وَتَعَبٍ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ. الشَّرْطُ التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَشْرُوطُ مَعْلُومًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَدَيْنًا، وَبَعْضُهُ عَيْنًا وَبَعْضُهُ دَيْنًا، وَحَالًّا وَمُؤَجَّلًا، فَلَوْ شَرَطَا مَالًا مَجْهُولًا بِأَنْ قَالَ: أُعْطِيكَ مَا شِئْتَ أَوْ شِئْتَ، أَوْ شَرَطَ دِينَارًا أَوْ ثَوْبًا وَلَمْ يَصِفِ الثَّوْبَ، أَوْ دِينَارًا إِلَّا ثَوْبًا، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَا دِينَارًا إِلَّا دِرْهَمًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ قِدْرَ الدِّرْهَمِ وَعُرْفًا قِيمَةَ الدِّينَارِ بِالدَّرَاهِمِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ سَبَقْتَنِي، فَلَكَ هَذِهِ الْعَشَرَةُ وَتَرُدُّ ثَوْبًا، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ شَرْطُ عِوَضٍ عَنِ السَّابِقِ، وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ، وَلَوْ تَسَابَقَا عَلَى عِوَضٍ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ، وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَالَ غَيْرُهُمَا، جَازَ أَنْ يَشْرُطَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، وَإِنْ أَخْرَجَاهُ جَازَ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ، وَقَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَخْرَجَاهُ وَجَبَ التَّسَاوِي جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا. الشَّرْطُ الْعَاشِرُ: اجْتِنَابُ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ، فَلَوْ قَالَ: إِنْ سَبَقْتَنِي، فَلَكَ هَذَا الدِّينَارُ وَلَا أَرْمِي بَعْدَ هَذَا أَوْ لَا أَنَاضِلُكَ إِلَى شَهْرٍ، بَطَلَ الْعَقْدُ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ شَرَطَ عَلَى السَّابِقِ أَنْ يُطْعِمَ السَّبْقَ أَصْحَابَهُ، بَطَلَ الْعَقْدُ

فصل

عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَصِحُّ، وَقَبُولُهُ الْإِطْعَامَ وَعْدٌ إِنْ شَاءَ وَفَّى بِهِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفِ. قُلْتُ: وَفِي «التَّنْبِيهِ» وَجْهَانِ آخَرَانِ، أَحَدُهُمَا: يَفْسُدُ الْمُسَمَّى، وَيَجِبُ عِوَضُ الْمِثْلِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ الْعَقْدُ وَلَا عِوَضَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذَكَرَ الْأَصْحَابُ اعْتِبَارَ السَّبْقِ بِهَا ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الْكَتَدُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحِ أَشْهَرُ، وَهُوَ مَجْمَعُ الْكَفَّيْنِ بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالظَّهْرِ. الثَّانِي: الْأَقْدَامُ وَهِيَ الْقَوَائِمُ. الثَّالِثُ: الْهَادِي وَهُوَ الْعُنُقُ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ اخْتِلَافَ وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ فِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْهَادِي، أَمْ بِمَوْضِعِ الْأَقْدَامِ وَالْكَتَدِ، وَرَأَيُ الثَّانِي أَقْيَسُ، وَالَّذِي يُوجَدُ لِعَامَّةِ الْأَصْحَابِ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِبِلِ بِالْكَتَدِ، وَفِي الْخَيْلِ بِالْهَادِي، لِأَنَّ الْإِبِلَ تَرْفَعُ أَعْنَاقَهَا فِي الْعَدْوِ، فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ، وَالْخَيْلُ تَمُدُّهَا، قَالُوا: فَإِذَا اسْتَوَى الْفَرْسَانِ فِي خِلْقَةِ الْعُنُقِ طُولًا وَقِصَرًا، فَالَّذِي تَقَدَّمَ بِالْعُنُقِ، أَوْ بَعْضِهِ هُوَ السَّابِقُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَإِنْ تَقَدَّمَ أَقْصَرُهُمَا عُنُقًا، فَهُوَ السَّابِقُ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْآخَرُ، نُظِرَ إِنْ تَقَدَّمَ بِقَدْرِ زِيَادَةِ الْخِلْقَةِ فَمَا دُونَهَا، فَلَيْسَ بِسَابِقٍ، وَإِنْ تَقَدَّمَ بِأَكْثَرَ، فَسَابِقٌ، وَحَكَيْتُ أَوْجُهَ أُخَرَ ضَعِيفَةً، أَحَدُهَا: أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ خِلْقَةِ الْعُنُقِ يُعْتَبَرُ فِي الْخَيْلِ الْكَتَدُ، حُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَرَجَّحَهُ الرُّويَانِيُّ، وَالثَّانِي: أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْخِلْقَةِ إِذَا سَبَقَ أَطْوَلُهُمَا عُنُقًا بِبَعْضِ عُنُقِهِ، وَكَتَدُهُمَا سَوَاءٌ، كَانَ سَابِقًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي جِنْسِ الْخَيْلِ مَا يَرْفَعُ الرَّأْسَ عِنْدَ الْعَدْوِ، اعْتُبِرَ فِيهِ الْكَتَدُ كَمَا فِي الْإِبِلِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ التَّقَدُّمَ بِأَيِّهِمَا حَصَلَ، حَصَلَ السَّبْقُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا بِأَحَدِهِمَا، وَالْآخَرُ بِالْآخَرِ فَلَا سَبْقَ. وَالْخَامِسُ: حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يُعْتَبَرُ هَذَا وَلَا ذَاكَ، بَلْ يُعْتَبَرُ عُرْفُ النَّاسِ وَمَا

يَعَدُّونَهُ سَبْقًا. وَالسَّادِسُ: الْمُعْتَبَرُ تَقَدُّمُ الْأُذُنِ. وَالسَّابِعُ: الْمُعْتَبَرُ مَا شَرَطَاهُ مِنَ الْكَتَدِ أَوِ الْهَادِي. قُلْتُ: هَذَا السَّابِعُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إِذَا أَطْلَقَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْهَادِي وَالْكَتَدِ، أَمَّا الْكَتَدُ مَعَ الْقَدَمِ، فَقَدْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا قَارِنُونِ، وَأَقَامَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ آخَرُونَ، وَأَشَارَ الْفَرِيقَانِ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الِاعْتِبَارِ بِهِمَا وَلَا خِلَافَ، لِأَنَّهُمَا قَرِيبَانِ مِنَ التَّحَاذِي، لَكِنْ بَيْنَهُمَا مَعَ التَّفَاوُتِ تَفَاوُتٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجْعَلَ اعْتِبَارَ الْقَدَمِ وَرَاءَ اعْتِبَارِ الْكَتَدِ وَالْهَادِي، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : لَوِ اعْتُبِرَ السَّبْقُ بِالْقَدَمِ، فَأَيُّهُمَا تَقَدَّمَتْ يَدَاهُ، فَهُوَ السَّابِقُ، لَأَنَّ السَّعْيَ بِهِمَا وَالْجَرْيَ عَلَيْهِمَا، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ الْهَادِيَ وَالْكَتَدَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: الِاعْتِمَادُ عَلَى الْقَدَمِ، فَخِلَافُ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْخِلَافُ فِي أَنَّ السَّبْقَ بِمَاذَا يُعْتَبَرُ؟ مَخْصُوصٌ بِآخِرِ الْمَيْدَانِ، فَأَمَّا فِي أَوَّلِهِ، فَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِي الْأَقْدَامِ قَطْعًا. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالسَّبْقِ لَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فِي وَسَطِ الْمَيْدَانِ، وَالْآخَرُ فِي آخِرِهِ، فَالسَّابِقُ الثَّانِي. وَلَوْ عَثَرَ أَحَدُ الْفَرَسَيْنِ، أَوْ سَاخَتْ قَوَائِمُهُ فِي الْأَرْضِ فَتَقَدَّمَ الْآخَرُ، لَمْ يَكُنْ سَابِقًا، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ بَعْدَ مَا جَرَى لَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ وَقَفَ بِلَا عِلَّةٍ، فَهُوَ مَسْبُوقٌ، وَلَوْ وَقَفَ قَبْلَ أَنْ يَجْرِيَ، فَلَيْسَ بِمَسْبُوقٍ، سَوَاءً وَقَفَ لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ تَسَابَقَا عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا بِأَقْدَامٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَهُ السَّبْقُ جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْغَايَةُ فِي الْحَقِيقَةِ نِهَايَةُ الْأَقْدَامِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَكِنَّهُ شَرْطٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ تَخَلَّفَ الْآخَرُ عَنْهَا بِالْقَدْرِ الْمَذْكُورِ.

فَرْعٌ لِيَجْرِيَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ فِي الْغَايَةِ قَصَبَةٌ مَغْرُوزَةٌ لِيَقْطَعَهَا السَّابِقُ، فَيَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقَدَمِهِ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِهِ وَفِيهِ قَاعِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: هَلْ عَقْدُ الْمُسَابَقَةِ لَازِمٌ كَالْإِجَارَةِ أَمْ جَائِزٌ كَالْجَعَالَةِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، ثُمَّ قِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا أَخْرَجَا الْعِوَضَ جَمِيعًا، أَمَّا إِذَا أَخْرَجَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ غَيْرُهُمَا، فَجَائِزٌ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْأَئِمَّةُ: الْقَوْلَانِ فِيمَنِ الْتَزَمَ الْمَالَ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، فَجَائِزٌ فِي حَقِّهِ قَطْعًا، وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ جَائِزًا مِنْ جَانِبٍ لَازِمًا مِنْ جَانِبٍ، كَالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ، وَقِيلَ بِطَرْدِهِمَا فِيمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِمُعَاقَدَتِهِ تَعَلُّمَ الْفُرُوسِيَّةِ وَالرَّمْيِ فَيَكُونُ كَالْأَجِيرِ، وَالْمَذْهَبُ يُخَصِّصُهُمَا بِالْمُلْتَزِمِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ تَرْكُ الْعَمَلِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ فِي الْعَمَلِ، وَفِي الْمَالِ بِالتَّرَاضِي، وَإِذَا بَذَلَ أَحَدُهُمَا الْمَالَ لَا يُشْرَطُ مِنْ صَاحِبِهِ الْقَبُولُ عَلَى الصَّحِيحِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَأَجْرَى الْأَصْحَابُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْجَعَالَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمُعَيَّنٍ، بِأَنْ يَقُولَ: إِنْ أَرَدْتَ عَبْدِي فَلَكَ كَذَا، وَفِي ضَمَانِ السَّبْقِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ وَالرَّهْنِ بِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي ضَمَانِ الْجَعْلِ وَالرَّهْنِ بِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ، لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ أَوْسَعُ بَابًا، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ ضَمَانُ الدَّرَكِ دُونَ الرَّهْنِ بِهِ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِاللُّزُومِ، فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَسْخُ الْعَقْدِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِالْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ عَيْبٌ، ثَبَتَ حَقُّ

الْفَسْخِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ إِنْ كَانَ مَفْضُولًا أَوْ فَاضِلًا وَأَمْكَنَ أَنْ يُدْرِكَهُ صَاحِبُهُ وَيَسْبِقَهُ، وَإِلَّا فَلَهُ التَّرْكُ، لِأَنَّهُ تَرْكُ حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ وَالْمَالِ وَلَا النَّقْصُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَفْسَخَا الْعَقْدَ الْأَوَّلَ، وَيَسْتَأْنِفَا عَقْدًا، وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا اشْتَرَطَ قَبُولَ الْآخَرِ بِالْقَوْلِ، وَلَا يُكَلَّفُ الْمُسْبَقُ الْبُدَاءَةَ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ، لِأَنَّ فِي الْمُسَابَقَةِ خَطَرًا، فَيَبْدَأُ بِالْعَمَلِ، وَيَجُوزُ ضَمَانُ السَّبْقِ وَالرَّهْنِ بِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلَانِ كَضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ، وَجَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ فَيَجُوزُ ضَمَانُ السَّبْقِ وَالرَّهْنِ بِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ السَّبْقُ عَيْنًا، لَزِمَ الْمُسْبَقَ تَسْليِمُهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ وَحَبَسَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ كَالْمَبِيعِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْعَمَلِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَوْ غَابَ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ، فَلَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ، بَلْ يَنْتَظِرُ زَوَالَهُ. فَرْعٌ اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَقَدَ الْمُسَابَقَةَ بِعَشَرَةٍ، إِنْ قُلْنَا: الْمُسَابَقَةُ لَازِمَةٌ، فَهُوَ جَمْعُ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ فِي صَفْقَةٍ وَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: جَائِزَةٌ، لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ جَعَالَةٍ لَا تَلْزَمُ، وَبَيْعٍ يَلْزَمُ فِي صَفْقَةٍ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا فَسَدَتِ الْمُسَابَقَةُ، وَرَكَضَ الْمُتَسَابِقَانِ، وَسَبَقَ مَنْ لَوْ صَحَّتْ، اسْتَحَقَّ السَّبْقَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ كَالْإِجَارَةِ وَالْقِرَاضِ الْفَاسِدَيْنِ، وَقِيلَ: لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ لِغَيْرِهِ شَيْئًا، وَفَائِدَةُ عَمَلِهِ تَعُودُ إِلَيْهِ بِخِلَافِ الْإِجَارَة وَالْجَعَالَةِ الْفَاسِدَتَيْنِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْفَسَادُ لِخَلَلٍ فِي الْعِوَضِ وَأَمْكَنَ تَقْوِيمُهُ بِأَنْ كَانَ مَغْصُوبًا، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ

اعْتِبَارِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: هِيَ أُجْرَةُ مِثْلِ الزَّمَنِ الَّذِي اشْتَغَلَ بِالرَّمْيِ فِيهِ، وَأَصَحُّهُمَا: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: يَجِبُ مَا يَتَسَابَقُ بِمِثْلِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُسَابَقَةِ غَالِبًا. الْبَابُ الثَّانِي فِي الرَّمْيِ فِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي شُرُوطِهِ، وَهِيَ سِتَّةٌ، أَحَدُهَا: الْمُحَلِّلُ، فَمَالُ الْمُنَاضَلَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُسَابَقَةِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَهُ غَيْرُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، وَصُورَةُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ: ارْمِيَا عَشَرَةً، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا كَذَا، فَلَهُ كَذَا، وَصُورَةُ الْقِسْمِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: نَرْمِي كَذَا، فَإِنْ أَصَبْتَ أَنْتَ مِنْهَا كَذَا، فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ أَصَبْتَهَا أَنَا، فَلَا شَيْءَ لِأَحَدِنَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَصُورَةُ الثَّالِثِ: أَنْ يَشْرُطَ كُلُّ وَاحِدٍ الْمَالَ عَلَى صَاحِبِهِ إِنْ أَصَابَ، وَهَذَا الثَّالِثُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِمُحَلِّلٍ مَعَهُمَا كَمَا سَبَقَ. وَكَمَا تَجُوزُ الْمُنَاضَلَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَجُوزُ بَيْنَ حِزْبَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَحِينَئِذٍ، فَكُلُّ حِزْبٍ كَشَخْصٍ، فَإِنْ أَخْرَجَ الْمَالَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، جَازَ، وَإِنْ أَخْرَجَاهُ اشْتُرِطَ مُحَلِّلٌ، إِمَّا وَاحِدٌ وَإِمَّا حِزْبٌ، وَلَوْ أَخْرَجَهُ الْحِزْبَانِ، وَشَرَطُوا لِوَاحِدٍ مِنْ أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ إِنْ كَانَ الْفَوْزُ لِحِزْبِهِ، شَارَكَهُمْ فِي أَخْذِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ لِلْحِزْبِ الْآخَرِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ إِنَّمَا يَغْرَمُ أَصْحَابُهُ، أَوِ اشْتَمَلَ كُلُّ حِزْبٍ عَلَى مُحَلِّلٍ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ مَنْ إِذَا فَازَ، اسْتَبَدَّ بِالْمَالِ، وَهَذَا يُشَارِكُ أَصْحَابَهُ، وَالثَّانِي: الصِّحَّةُ، وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، وَلَوْ شَرَطَ كُلُّ حِزْبٍ كُلَّ الْمَالِ لِمُحَلِّلِهِمْ، بَطَلَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ فَائِزًا لِغَيْرِهِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: اتِّحَادُ الْجِنْسِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ، كَالسِّهَامِ مَعَ الْمَزَارِيقِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُ الْقِسِيِّ وَالسِّهَامِ، جَازَ قَطْعًا، كَقِسِيٍّ عَرَبِيَّةٍ مَعَ فَارِسِيَّةٍ، وَدُورَانِيَّةٍ، وَتُنْسَبُ إِلَى دُورَانَ قَبِيلَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، مَعَ هِنْدِيَّةٍ، وَكَالنَّبْلِ، وَهُوَ مَا يُرْمَى بِهِ عَنِ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ، مَعَ النُّشَّابِ، وَهُوَ مَا يُرْمَى بِهِ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ، وَمِنْ أَنْوَاعِ الْقِسِيِّ: الْحُسْبَانُ، وَهِيَ قَوْسٌ تُجْمَعُ سِهَامُهَا الصِّغَارُ فِي قَصَبَةٍ، وَيُرْمَى بِهَا، فَتَتَفَرَّقُ عَلَى النَّاسِ، وَيَعْظُمُ أَثَرُهَا وَنِكَايَتُهَا، وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَجْهًا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُنَاضَلَةُ بِالنَّبْلِ مَعَ النُّشَّابِ، كَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ أَنْوَاعِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ لَا يَضُرُّ، فَهَذَا أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّ عَيَّنَا فِي عَقْدِ الْمُنَاضَلَةِ نَوْعًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَفَّيَا بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنِ الْمُعَيَّنِ إِلَى مَا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهُ، بِأَنْ عَيَّنَا الْقَوْسَ الْعَرَبِيَّةَ، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى الْفَارِسِيَّةِ، وَلَوْ عَدَلَ إِلَى مَا دُونَهُ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ إِلَّا بِرِضَى صَاحِبِهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ، وَرَمْيُهُ بِهِ أَجْوَدَ، وَلَوْ عَيَّنَا سَهْمًا أَوْ قَوْسًا، لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَجَازَ إِبْدَالُهُ بِمِثْلِهِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، سَوَاءً حَدَثَ فِيهِ خَلَلٌ يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَهُ أَمْ لَا بِخِلَافِ الْفَرَسِ، فَلَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُبَدَّلَ، فَسَدَ الشَّرْطُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الرَّامِيَ قَدْ تَعْرِضُ لَهُ أَحْوَالٌ خَفِيَّةٌ تُحْوِجُهُ إِلَى الْإِبْدَالِ، وَفِي مَنْعِهِ مِنَ الْإِبْدَالِ تَضْيِيقٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ الشَّرْطُ، فَإِنْ أَفْسَدْنَا الشَّرْطَ، فَسَدَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي كُلِّ مَا لَوْ طُرِحَ مِنْ أَصْلِهِ لَاسْتَقَلَّ الْعَقْدُ بِإِطْلَاقِهِ، فَأَمَّا مَا لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْدُ بِإِطْلَاقِهِ لَوْ طُرِحَ، كَإِهْمَالِ ذِكْرِ الْغَايَةِ فِي الْمُسَابَقَةِ، وَصِفَةِ الْإِصَابَةِ فِي الْمُنَاضَلَةِ، فَإِذَا فَسَدَ، فَسَدَ الْعَقْدُ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ صَحَّحْنَا هَذَا الشَّرْطَ، لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ مَا لَمْ يَنْكَسِرِ الْمُعَيَّنُ، وَيَتَعَذَّرِ اسْتِعْمَالُهُ، فَإِنِ انْكَسَرَ جَازَ الْإِبْدَالُ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يُبَدَّلَ وَإِنِ انْكَسَرَ، فَسَدَ الْعَقْدُ قَطْعًا، وَلَوْ أَطْلَقَا الْمُنَاضَلَةَ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِنَوْعٍ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: الصِّحَّةُ، لِأَنَّ

الِاعْتِمَادَ عَلَى الرَّامِي، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَتَفَاوُتِ الْحِذْقِ فِي اسْتِعْمَالِهَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ غَلَبَ نَوْعٌ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَرَامَوْنَ فِيهِ، صَحَّ وَنَزَلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَبَاطِلٌ، فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ، فَتَرَاضَيَا عَلَى نَوْعٍ، فَذَاكَ، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى نَوْعٍ مِنْ جَانِبٍ، وَنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، جَازَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوِ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا نَوْعًا، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ يَرْمِي بِنَوْعٍ آخَرَ، وَأَصَرَّا عَلَى الْمُنَازَعَةِ، فُسِخَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يَنْفَسِخُ. فَرْعٌ قَالَ الْإِمَامُ: اخْتِلَافُ السِّهَامِ وَإِنِ اتَّحَدَ نَوْعُ الْقَوْسِ كَاخْتِلَافِ نَوْعِ الْفَرَسِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الرَّمْيَ بِنِبَالِ الْحُسْبَانِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: النَّاوِلُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ، لَكِنَّهَا مَعَ الْآلَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهَا كَنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْقَوْسِ، وَكَذَا الْقَوْسُ الْجَرْخُ مَعَ قَوْسِ الْيَدِ، وَالْجَرْخُ وَالنَّاوِلُ مُخْتَلِفَانِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ الْمَشْرُوطَةُ مُمْكِنَةً لَا مُمْتَنِعَةً وَلَا مُتَيَقَّنَةً، فَإِنْ شَرَطَ مَا يُتَوَقَّعُ إِصَابَتُهُ، صَحَّ، وَإِنْ شَرَطَ مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْعَادَةِ، بَطَلَ الْعَقْدُ، وَالِامْتِنَاعُ قَدْ يَكُونُ لِشِدَّةِ صِغَرِ الْغَرَضِ أَوْ بُعْدِ الْمَسَافَةِ أَوْ كَثْرَةِ الْإِصَابَةِ الْمَشْرُوطَةِ، كَإِصَابَةِ مِائَةٍ أَوْ عَشَرَةٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَفِي الْعَشَرَةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَإِنْ شَرَطَ مَا هُوَ مُتَيَقَّنٌ فِي الْعَادَةِ، كَإِصَابَةِ الْحَاذِقِ وَاحِدًا مِنْ مِائَةٍ، فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ، وَجْهُ الْمَنْعِ، أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ خَطَرٌ لِيَتَأَنَّقَ الرَّامِي فِي الْإِصَابَةِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا. وَلَوْ شَرَطَ مَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ نَادِرًا، فَوَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ،

أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ، لِلْإِمْكَانِ وَحُصُولِ الْحِذْقِ، وَأَصَحُّهُمَا: الْفَسَادُ، لِبُعْدِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي كُلِّ صُورَةٍ تَنْدُرُ فِيهَا الْإِصَابَةُ الْمَشْرُوطَةُ، فَمِنْهَا: التَّنَاضُلُ إِلَى مَسَافَةٍ تَنْدُرُ فِيهَا الْإِصَابَةُ، وَالتَّنَاضُلُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ قَدْ يَتَرَاءَى لَهُمَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّ الْمُتَنَاضِلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَارَبَا فِي الْحِذْقِ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فَاضِلًا وَمَفْضُولًا، فَإِنْ تَفَاوَتَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُصِيبًا فِي أَكْثَرِ رَمْيِهِ، وَالْآخَرُ يُخْطِئُ فِي أَكْثَرِهِ، فَوَجْهَانِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْمُحَلِّلَ بَيْنَ الْمُتَنَاضِلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ فَوْزُهُ وَقُصُورُهُ، فَإِنْ عُلِمَ قُصُورُهُ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ عُلِمَ فَوْزُهُ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي إِصَابَةِ وَاحِدٍ مِنْ مِائَةٍ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْإِعْلَامُ، فَيُشْتَرَطُ فِي الْمُنَاضَلَةِ الْعِلْمُ بِأُمُورٍ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِاخْتِلَافِهَا، مِنْهَا: الْمَالُ الْمَشْرُوطُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُسَابَقَةِ، وَمِنْهَا: عَدَدُ الْإِصَابَةِ، كَخَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ، وَلْيُبَيِّنَا صِفَةَ الْإِصَابَةِ مِنَ الْقَرْعِ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ الْمُجَرَّدَةُ، وَالْخَرْقُ، وَهُوَ أَنْ يَثْقُبَ الْغَرَضَ، وَلَا يَثْبُتَ فِيهِ، وَالْخَسْقُ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ، وَالْخَرْمُ وَهُوَ أَنْ يُصِيبَ طَرَفَ الْغَرَضِ فَيَخْرِمُهُ، وَالْمَرْقُ وَهُوَ أَنْ يَثْقُبَهُ، وَيَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، ثُمَّ كَتَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ مِنْهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ مُصَرَّحَةً بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يُرِيدَانِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ سِوَى الْخَرْمِ وَالْمَرْقِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْرُطُوا التَّعَرُّضَ لَهُمَا، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِشَيْءٍ مِنْهَا، كَالْخَرْمِ وَالْمَرْقِ، وَكَإِصَابَةِ أَعْلَى الشَّنِّ وَأَسْفَلِهِ، قَالَ: وَإِذَا أَطْلَقَا الْعَقْدَ حَمِلَ عَلَى الْقَرْعِ، لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: حَقِيقَةُ اللَّفْظِ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا: إِعْلَامُ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَرْمِيَانِ فِيهَا، وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِهَا، وَالثَّانِي: لَا، وَيَنْزِلُ عَلَى الْعَادَةِ

الْغَالِبَةِ لِلرُّمَاةِ هُنَاكَ إِنْ كَانَتْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَادَةً وَجَبَ قَطْعًا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا أَطْلَقَهُ الْأَكْثَرُونَ مِنَ اشْتِرَاطِ الْإِعْلَامِ، وَلْيُرَجِّحْ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: التَّنْزِيلُ عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ الْعِلْمُ بِهَا، وَذَلِكَ تَارَةً يَكُونُ بِالْإِعْلَامِ، وَتَارَةً بِقَرِينَةِ الْحَالِ، كَنَظَائِرِهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ، وَفِي «الْمُهَذَّبِ» «وَالتَّهْذِيبِ» أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ غَرَضٌ مَعْلُومُ الْمَدَى، حُمِلَ مُطْلَقُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَلَوْ ذَكَرَا غَايَةً لَا تَبْلُغُهَا السِّهَامُ، بَطَلَ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِصَابَةُ فِيهَا نَادِرَةً، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، أَوِ الْقَوْلَانِ فِي الشُّرُوطِ النَّادِرَةِ، وَقَدَّرَ الْأَصْحَابُ الْمَسَافَةَ الَّتِي يَقْرُبُ تَوَقُّعُ الْإِصَابَةِ فِيهَا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا، وَمَا تَتَعَذَّرُ فِيهِ بِمَا فَوْقَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَمَا تَنْدُرُ فِيهِ بِمَا بَيْنَهُمَا، وَفِي وَجْهٍ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مِائَتَيْنِ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يَكُونَ السَّبْقُ لِأَبْعَدِهِمَا رَمْيًا، وَلَمْ يَقْصِدَا غَرَضًا، صَحَّ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْإِبْعَادَ مَقْصُودٌ أَيْضًا فِي مُقَاتَلَةِ الْقِلَاعِ وَنَحْوِهَا، وَحُصُولِ الْإِرْعَابِ، وَامْتِحَانِ شِدَّةِ السَّاعِدِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالَّذِي أَرَاهُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ اسْتِوَاءُ الْقَوْسَيْنِ فِي الشِّدَّةِ، وَتُرَاعَى خِفَّةُ السَّهْمِ وَرَزَانَتُهُ، لِأَنَّهُمَا تُؤَثِّرَانِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا. وَمِنْهَا: إِعْلَامُ قَدْرِ الْغَرَضِ طُولًا وَعَرْضًا، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَافَةِ. وَمِنْهَا: ارْتِفَاعُهُ عَنِ الْأَرْضِ وَانْخِفَاضُهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ بَيَانُهُ أَمْ لَا يُشْتَرَطُ؟ وَيُحْمَلُ عَلَى الْوَسَطِ فِيهِ مِثْلَ الْخِلَافِ السَّابِقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْهَدَفَ هُوَ التُّرَابُ الَّذِي يَجْتَمِعُ، أَوِ الْحَائِطُ الَّذِي يُبْنَى لِيُنْصَبَ فِيهِ الْغَرَضُ، وَالْغَرَضُ قَدْ يَكُونُ مِنْ خَشَبٍ أَوْ قِرْطَاسٍ أَوْ جِلْدٍ، أَوْ شَنٍّ وَهُوَ الْجِلْدُ الْبَالِي، وَقِيلَ: كُلُّ مَا نُصِبَ فِي الْهَدَفِ، فَهُوَ قِرْطَاسً، سَوَاءً كَانَ مِنْ كَاغِدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمَا تَعَلَّقَ فِي الْهَوَاءِ، فَهُوَ الْغَرَضُ وَالرُّقْعَةُ،

عَظْمٌ وَنَحْوُهُ، يُجْعَلُ فِي وَسَطِ الْغَرَضِ وَقَدْ يُجْعَلُ فِي الشَّنِّ نَقْشٌ كَالْقَمَرِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِهِ يُقَالُ لَهَا: الدَّارَةُ، وَفِي وَسَطِهَا نَقْشٌ يُقَالُ لَهُ: الْخَاتَمُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَا مَوْضِعَ الْإِصَابَةِ أَهْوَ الْهَدَفُ، أَمِ الْغَرَضُ الْمَنْصُوبُ فِيهِ، أَمِ الدَّارَّةُ فِي الشَّنِّ، أَمِ الْخَاتَمُ فِي الدَّارَةِ؟ وَقَدْ يُقَالُ لَهُ: الْحَلْقَةُ وَالرُّقْعَةُ، وَفِي الصِّحَّةِ مَعَ اشْتِرَاطِ إِصَابَتِهِ الْخِلَافُ فِي الشُّرُوطِ النَّادِرَةِ، وَقَدْ يَجْعَلُ الْعَرَبُ بَدَلَ الْهَدَفِ تُرْسًا وَيُعَلَّقُ فِيهِ الشَّنُّ. وَمِنْهَا: عَدَدُ الْأَرْشَاقِ وَهُوَ جَمْعُ رِشْقٍ بِالْكَسْرِ، وَهِيَ النَّوْبَةُ مِنَ الرَّمْيِ تَجْرِي بَيْنَ الْمُتَرَامِيَيْنِ، سَهْمًا سَهْمًا أَوْ خَمْسَةً خَمْسَةً، أَوْ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ الْعَدَدِ، ثُمَّ الْآخَرُ كَذَلِكَ، وَالْإِطْلَاقُ مَحْمُولٌ عَلَى سَهْمٍ سَهْمٍ، وَالْمُحَاطَةُ أَنْ يُشْتَرَطَ طَرْحُ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنَ الْإِصَابَاتِ، وَيَفْضُلُ لِأَحَدِهِمَا إِصَابَاتٌ مَعْلُومَةٌ، فَإِذَا شَرَطَا عِشْرِينَ رِشْقًا وَفَضَلَ خَمْسُ إِصَابَاتٍ، فَرَمَيَا عِشْرِينَ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً وَالْآخُرُ خَمْسَةً، فَالْأَوَّلُ نَاضِلٌ، وَإِنْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَةً أَوْ غَيْرَهَا وَلَمْ يَفْضُلْ لِأَحَدِهِمَا خَمْسَةٌ، فَلَا نَاضِلَ، وَالْمُبَادَرَةُ أَنْ يُشْتَرَطَ الِاسْتِحْقَاقُ لِمَنْ بَدَرَ إِلَى إِصَابَةِ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ مَثَلًا مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَدَدِ الْمَرْمِيِّ بِهِ، فَإِذَا رَمَيَا عِشْرِينَ وَأَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً، وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً، فَالْأَوَّلُ نَاضِلٌ، فَلَوْ رَمَى أَحَدُهُمَا عِشْرِينَ، وَأَصَابَ خَمْسَةً، وَرَمَى الْآخَرُ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَأَصَابَ أَرْبَعَةً، فَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِنَاضِلٍ الْآنَ، فَيَرْمِي الْآخَرُ سَهْمَهُ، فَإِنْ أَصَابَ، فَقَدِ اسْتَوَيَا، وَإِلَّا فَالْأَوَّلُ نَاضِلٌ، وَقَوْلُنَا: مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَدَدِ الْمَرْمِيِّ بِهِ احْتِرَازٌ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ بَدَرَ، لَكِنْ لَمْ يَسْتَوِيَا بَعْدُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ فِي الْعَقْدِ لِلْمُحَاطَةِ وَالْمُبَادَرَةِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَيَفْسُدُ الْعَقْدُ إِنْ تَرَكَاهُ لِتَفَاوُتِ الْأَغْرَاضِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، فَإِنْ أَطْلَقَا، حُمِلَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ،

لِأَنَّهَا الْغَالِبُ مِنَ الْمُنَاضَلَةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْأَرْشَاقِ وَبَيَانُ عَدَدِهَا فِي الْعَقْدِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْمُحَاطَةِ وَالْمُبَادَرَةِ، لِيَكُونَ لِلْعَمَلِ ضَبْطٌ، وَالْأَرْشَاقُ فِي الْمُنَاضَلَةِ كَالْمَيْدَانِ فِي الْمُسَابَقَةِ. وَالثَّانِي: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ، وَجَعَلَهَا الْغَزَالِيُّ أَقْوَالًا، أَحَدُهَا: هَذَا، وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ، لِأَنَّ الرَّامِيَ لَا يَجْرِي عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ لَا يَسْتَوْفِي الْأَرْشَاقَ لِحُصُولِ الْفَوْزِ فِي خِلَالِهَا كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلْيَكُنِ التَّعْوِيلُ عَلَى الْإِصَابَاتِ، وَالثَّالِثُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَاطَةِ لِيَنْفَصِلَ الْأَمْرُ، وَيَبِينَ نِهَايَةُ الْعَقْدِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُبَادَرَةِ لِتَعَلُّقِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْبِدَارِ إِلَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ. فَرْعٌ تَنَاضَلَا عَلَى رَمْيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَشَرَطَا الْمَالَ لِلْمُصِيبِ فِيهَا، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا، فَقَدْ يَتَّفِقُ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ إِصَابَةَ الْأُخْرَى دُونَ الْحَاذِقِ، فَلَا يَظْهَرُ الْحِذْق إِلَّا بِرَمَيَاتٍ، وَلَوْ رَمَى أَحَدُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ النَّوْبَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ، إِمَّا بِاتِّفَاقِهِمَا وَإِمَّا بِغَيْرِهِ، لَمْ تُحْسَبِ الزِّيَادَةُ لَهُ إِنْ أَصَابَ، وَلَا عَلَيْهِ إِنْ أَخْطَأَ، وَلَوْ عَقَدَا عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ عَلَى أَنْ يَرْمِيَا كُلَّ يَوْمٍ بُكْرَةً كَذَا وَعَشِيَّةً كَذَا، جَازَ، وَلَا يَتَفَرَّقَانِ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَا الْمَشْرُوطَ فِيهِ إِلَّا لِعُذْرٍ، كَمَرَضٍ وَرِيحٍ عَاصِفَةٍ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ يَرْمِيَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَا الرَّمْيَ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَحِينَئِذٍ يَفِيَانِ بِهِ وَلَا يَدَعَانِ إِلَّا فِي وَقْتِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ وَنَحْوِهَا، وَتَقَعُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مُسْتَثْنَاةً، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَلَوْ أَطْلَقَا وَلَمْ يُبَيِّنَا وَظِيفَةَ كُلِّ يَوْمٍ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، وَلَا يَتْرُكَانِ الرَّمْيَ إِلَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ لِعَارِضٍ، كَمَرَضٍ وَرِيحٍ وَمَطَرٍ وَنَحْوِهَا، وَالْحَرُّ لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَكَذَا الرِّيحُ

الْخَفِيفَةُ، وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ فَرَاغِ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ، لَمْ يَرْمِيَا بِاللَّيْلِ لِلْعَادَةِ إِلَّا أَنْ يَشْرُطَ لَهُ وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجَانِ إِلَى مَشْمَعَةٍ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ يَكْفِي ضَوْءُ الْقَمَرِ كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ رَمْيُهُمَا مُرَتَّبًا، لِأَنَّهُمَا لَوْ رَمَيَا مَعًا، اشْتَبَهَ الْمُصِيبُ بِالْمُخْطِئِ، فَإِنْ ذَكَرَا فِي الْعَقْدِ مَنْ يَبْدَأُ بِالرَّمْيِ، اتُّبِعَ الشَّرْطُ، وَإِنْ أَطْلَقَا، فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: بُطْلَانُ الْعَقْدِ، وَالثَّانِي: صِحَّتُهُ، وَكَيْفَ يَمْضِي؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يَنْزِلُ عَلَى عَادَةِ الرُّمَاةِ وَهِيَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى الْمُسْبِقِ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ مُخْرِجُ السَّبْقِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ أَحَدُهُمَا، فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ أَخْرَجَهُ غَيْرُهُمَا، قَدَّمَ مَنْ شَاءَ، وَإِنْ أَخْرَجَاهُ، أَقْرَعَ، وَالثَّانِي: يَقْرَعُ بِكُلِّ حَالٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: الْقَوْلَانِ فِي الْأَصْلِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّا نَتَّبِعُ الْقِيَاسَ أَمْ عَادَةَ الرُّمَاةِ؟ وَيَجْرِي مِثْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي صُوَرٍ مِنَ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ، وَهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِالْخِلَافِ فِي أَنَّ سَبِيلَ هَذَا الْعَقْدِ سَبِيلُ الْإِجَارَةِ أَمِ الْجَعَالَةِ، إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، اتَّبَعْنَا الْقِيَاسَ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، اتَّبَعْنَا الْعَادَاتِ، وَقِيلَ: فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ آخَرَانِ، أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْفَسَادِ، وَالثَّانِي: بِالْقُرْعَةِ، ثُمَّ إِذَا شَرَطَ تَقْدِيمَ وَاحِدٍ، أَوِ اعْتَمَدْنَا الْقُرْعَةَ فَخَرَجَتْ لِوَاحِدٍ، فَهَلْ يُقَدَّمُ فِي كُلِّ رِشْقٍ، أَمْ فِي الرِّشْقِ الْأَوَّلِ فَقَطْ؟ حَكَى الْإِمَامُ فِيهِ وَجْهَيْنِ قَالَ: وَلَوْ صَرَّحُوا بِتَقْدِيمِ مَنْ قَدَّمُوهُ فِي كُلِّ رِشْقٍ، أَوْ أَخْرَجَا الْقُرْعَةَ لِلتَّقْدِيمِ فِي كُلِّ رِشْقٍ، اتَّبَعَ الشَّرْطَ وَمَا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِذَا ابْتَدَأَ الْمُقَدَّمُ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ الثَّانِي فِي الثَّانِيَةِ بِلَا قُرْعَةٍ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْأُولَى فِي الثَّالِثَةِ، ثُمَّ الثَّانِي وَهَذَا لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ لَوْ شُرِطَ كَوْنُ الِابْتِدَاءِ لِأَحَدِهِمَا أَبَدًا، لَمْ يَجُزْ، لَأَنَّ الْمُنَاضَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّسَاوِي، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَوْنُ الرَّمْيِ بَيْنَ غَرَضَيْنِ

مُتَقَابِلَيْنِ يَرْمِي الْمُتَنَاضِلَانِ، أَوِ الْجَرَيَانُ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، ثُمَّ يَأْتِيَانِ الثَّانِي، وَيَلْتَقِطَانِ السِّهَامَ، وَيَرْمِيَانِ إِلَى الْأَوَّلِ، ثُمَّ نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ إِذَا بَدَأَ أَحَدُهُمَا بِالشَّرْطِ، أَوْ بِالْقُرْعَةِ، أَوْ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ، ثُمَّ انْتَهَيَا إِلَى الْغَرَضِ الثَّانِي، بَدَأَ الثَّانِي فِي النَّوْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ وَاحِدًا وَحِينَئِذٍ فَيَتَّصِلُ رَمْيُهُ فِي النَّوْبَةِ الثَّانِيَةِ بِرَمْيِهِ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: يُقْرَعُ لِلِابْتِدَاءِ، هَلْ يَدْخُلُ الْمُحَلِّلُ فِي الْقُرْعَةِ إِذَا أَخْرَجَا الْمَالَ؟ وَجْهَانِ، وَإِذَا ثَبَتَ الِابْتِدَاءُ لِوَاحِدٍ، فَرَمَى الْآخَرُ قَبْلَهُ، لَمْ يُحْسَبْ لَهُ إِنْ أَصَابَ، وَلَا عَلَيْهِ إِنْ أَخْطَأَ، وَيَرْمِي ثَانِيًا عِنْدَ انْتِهَاءِ النَّوْبَةِ إِلَيْهِ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: تَعْيِينُ الرُّمَاةِ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إِلَّا عَلَى رَامِيَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، أَوْ رُمَاةٍ مُعَيَّنِينَ، وَتَجُوزُ الْمُنَاضَلَةُ بَيْنَ حِزْبَيْنِ فَصَاعِدًا، وَيَكُونُ كُلُّ حِزْبٍ فِي الْخَطَأِ وَالْإِصَابَةِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَمَنَعَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ جَوَازَ الْحِزْبَيْنِ لِئَلَّا يَأْخُذَ بَعْضُهُمْ بِرَمْيِ بَعْضٍ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ، وَلْيَكُنْ لِكُلِّ حِزْبٍ زَعِيمٌ يُعَيِّنُ أَصْحَابَهُ، فَإِذَا تَرَاضَيَا، تَوَكَّلَ عَنْهُمْ فِي الْعَقْدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَعِيمُ الْحِزْبَيْنِ وَاحِدًا، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ وَاحِدٌ فِي طَرَفَيِ الْبَيْعِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَا قَبْلَ تَعْيِينِ الْأَعْوَانِ، وَطَرِيقُ التَّعْيِينِ الِاخْتِيَارُ بِالتَّرَاضِي، فَيَخْتَارُ زَعِيمٌ وَاحِدًا ثُمَّ الزَّعِيمُ الْآخَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ وَاحِدًا، ثُمَّ الْأَوَّلُ وَاحِدًا، ثُمَّ الثَّانِي وَاحِدًا وَهَكَذَا حَتَّى يَسْتَوْعِبُوا، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدٌ جَمِيعَ الْحِزْبِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْحُذَّاقَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَيِّنَا الْأَعْوَانَ بِالْقُرْعَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تَجْمَعُ الْحُذَّاقَ فِي جَانِبٍ، فَيَفُوقُ مَقْصُودُ الْمُنَاضَلَةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ: أَنَا أَخْتَارُ الْحُذَّاقَ، وَأُعْطِي السَّبْقَ أَوِ الْخَرْقَ، وَآخُذُ

السَّبْقَ، لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعُقُودِ، وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْمُنَاضَلَةُ عَلَى تَعَيُّنِ مَنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّ الْقُرْعَةَ بَعْدَ تَعْدِيلِ الْحِصَصِ وَالْأَقْسَاطِ مَعْهُودَةٌ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» «وَالتَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا: الْمَنْعُ، وَنَصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُمَا لَوْ تَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يَخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةً وَلَمْ يُسَمِّهِمْ، لَمْ يَجُزْ، وَأَنَّهُ يَشْتَرِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مَنْ يَرْمِي مَعَهُ بِأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا يُعَرِّفُهُ، وَاحْتَجَّ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ تَكْفِي مَعْرِفَةُ الزَّعِيمَيْنِ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يُعَرِّفَ الْأَصْحَابُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَابْتِدَاءُ أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ بِالرَّمْيِ كَابْتِدَاءِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَا أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ مِنْ هَذَا الْحِزْبِ فُلَانٌ وَيُقَابِلُهُ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ فُلَانٌ ثُمَّ فُلَانٌ، لِأَنَّ تَدْبِيرَ كُلِّ حِزْبٍ إِلَى زَعِيمِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ. فُرُوعٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: حَضَرَهُمْ غَرِيبٌ، فَاخْتَارَهُ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ، وَظَنَّهُ يُجِيدُ الرَّمْيَ، فَبَانَ خِلَافُهُ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الرَّمْيَ أَصْلًا، بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ، وَسَقَطَ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ وَاحِدٌ بِإِزَائِهِ، وَهَلْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي؟ فِيهِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَقِيلَ: يَبْطُلُ قَطْعًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْطُلُ، فَلِلْحِزْبَيْنِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِلتَّبْعِيضِ، فَإِنْ أَجَازُوا، وَتَنَازَعُوا فِي تَعْيِينِ مَنْ يُجْعَلُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فُسِخَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ إِمْضَائِهِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ ضَعِيفُ الرَّمْيِ أَوْ قَلِيلُ الْإِصَابَةِ، فَلَا فَسْخَ لِأَصْحَابِهِ، وَلَوْ بَانَ فَوْقَ مَا ظَنُّوهُ، فَلَا فَسْخَ لِلْحِزْبِ الْآخَرِ هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ مُتَدَانِيَيْنِ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِإِطْلَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَذَا التَّفَاوُتِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّ مِنْ فَوَائِدِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَجْهُولَ الَّذِي لَمْ يُخْتَبَرُ يَجُوزُ إِدْخَالُهُ فِي رِجَالِ الْمُنَاضَلَةِ، قَالَ: وَكَانَ لَا يَبْعُدُ مَنْعُهُ لِلْجَهَالَةِ الْعَظِيمَةِ، لَكِنْ نَصَّ

الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى جَوَازِهِ، فَلَوْ تَنَاضَلَ غَرِيبَانِ لَا يَعْرِفُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، حُكِمَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ، فَإِنْ بَانَ أَنَّهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا لَا يُحْسِنُ الرَّمْيَ، بَطَلَ الْعَقْدُ، وَإِنْ بَانَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَخْرَقُ لَا يُقَاوِمُ الْآخَرَ، فَفِي تَبَيُّنِ بُطْلَانِ الْعَقْدِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا لَوْ عَاقَدَ فَاضِلٌ أَخْرَقَ. الْفَرْعُ الثَّانِي: يُشْتَرَطُ اسْتِوَاءُ الْحِزْبَيْنِ فِي عَدَدِ الْأَرْشَاقِ وَالْإِصَابَاتِ، وَأَمَّا عَدَدُ الْحِزْبَيْنِ وَالْأَحْزَابِ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ ثَلَاثَةً وَالثَّانِي أَرْبَعَةً، وَالْأَرْشَاقُ مِائَةٌ عَلَى كُلِّ حِزْبٍ، وَأَنْ يُرَامِيَ رَجُلٌ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَيَرْمِي هُوَ ثَلَاثَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَاحِدًا، وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» «وَالتَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا: يُشْتَرَطُ، لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْحِذْقُ، فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ عَدَدِ الْأَرْشَاقِ تَنْقَسِمُ صَحِيحًا عَلَى الْأَحْزَابِ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَحْزَابٍ، فَلْيَكُنْ لِلْأَرْشَاقِ ثُلُثٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً، فَرُبُعٌ صَحِيحٌ. الثَّالِثُ: مَنِ الْتَزَمَ السَّبْقَ مِنَ الزَّعِيمَيْنِ، لَزِمَهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَصْحَابُهُ إِلَّا أَنْ يَلْتَزِمُوا مَعَهُ، أَوْ يَأْذَنُوا لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ عَنْهُمْ، وَحِينَئِذٍ يُوَزَّعُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَإِذَا فَضَلَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ فَهَلْ يُوَزَّعُ الْمَالُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ أَمْ عَلَى عَدَدِ الْإِصَابَاتِ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْإِصَابَاتِ، فَمَنْ لَمْ يُصِبْ، لَا شَيْءَ لَهُ، هَذَا إِذَا أَطْلَقُوا الْعَقْدَ، فَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يَقْتَسِمُوا عَلَى الْإِصَابَةِ، فَالشَّرْطُ مُتَّبَعٌ وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. الشَّرْطُ السَّادِسُ: تَعْيِينُ الْمَوْقِفِ، وَتَسَاوِي الْمُتَنَاضِلَيْنِ فِيهِ، فَلَوْ شَرَطَ كَوْنَ مَوْقِفِ أَحَدِهِمَا أَقْرَبَ، لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ قَدَّمَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ قَدَمَيْهِ عِنْدَ الرَّمْيِ، فَلَا بَأْسَ، وَإِذَا وَقَفَ الرُّمَاةُ صَفًّا، فَالْوَاقِفُ فِي

الْوَسَطِ أَقْرَبُ إِلَى الْغَرَضِ، لَكِنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ مُحْتَمَلٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ تَنَاوُبَ الرُّمَاةِ عَلَى الْمَوْقِفِ لِلْمَشَقَّةِ فِي الِانْتِقَالِ، وَقَدْ نَصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّ عَادَةَ الرُّمَاةِ أَنَّ الرَّامِيَ الثَّانِيَ قَدْ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَوَّلِ بِخُطْوَةٍ أَوْ خُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنْ لَمْ تَطَّرِدْ هَذِهِ الْعَادَةُ، بَلْ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا تَارَةً دُونَ تَارَةٍ لَمْ تُعْتَبَرْ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، فَإِنِ اعْتُبِرَتْ وَلَمْ تَخْتَلِفِ الْعَادَةُ فِي عَدَدِ الْأَقْدَامِ رُوعِيَ ذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ، اعْتُبِرَ الْأَقَلُّ. فَرْعٌ تَنَافَسُوا فِي الْوُقُوفِ فِي وَسَطِ الصَّفِّ، قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: هُوَ كَالتَّنَافُسِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الِاخْتِيَارَ لِمَنْ لَهُ الِابْتِدَاءُ، فَمَنِ اسْتَحَقَّ الِابْتِدَاءَ بِشَرْطٍ أَوْ غَيْرِهِ يَخْتَارُ الْمَكَانَ، فَيَقِفُ فِي مُقَابَلَتِهِ، أَوْ مُتَيَامِنًا، أَوْ مُتَيَاسِرًا كَيْفَ شَاءَ، وَلْيُحْمَلْ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَفَ، وَقَفَ الْآخَرُ بِجَنْبِهِ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِأَنْ يَقِفَ عِنْدَ الرَّمْيِ فِي مَوْقِفِ الْأَوَّلِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُزِيلَهُ عَنْ مَوْقِفِهِ؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ رَمَيَا بَيْنَ غَرَضَيْنِ، فَانْتَهَيَا إِلَى الْغَرَضِ الثَّانِي، فَالثَّانِي كَالْأَوَّلِ يَقِفُ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَقْرَعُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ عِنْدَ الْغَرَضِ الثَّانِي، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَقَفَ حَيْثُ شَاءَ، ثُمَّ إِذَا عَادُوا إِلَى الْغَرَضِ الْأَوَّلِ بَدَأَ الثَّالِثُ بِلَا قُرْعَةٍ، وَيَقِفُ حَيْثُ شَاءَ، وَحُكِيَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُمَا حَيْثُ تَنَازَعَا فِي الْمَوْقِفِ يُحْمَلَانِ عَلَى عَادَةِ الرُّمَاةِ إِنْ كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ. فَرْعٌ لَوْ رَضُوا بَعْدَ الْعَقْدِ بِتَقَدُّمِ وَاحِدٍ، نُظِرَ إِنْ تَقَدَّمَ بِقَدْرٍ يَسِيرٍ، جَازَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، فَلَا، وَلَوْ تَأَخَّرَ وَاحِدٌ بِرِضَى الْآخَرِينَ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوِ اتَّفَقُوا عَلَى تَقَدُّمِ الْجَمِيعِ أَوْ تَأَخُّرِهِمْ، أَوْ تَعْيِينِ عَدَدِ

الْأَرْشَاقِ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْمُسَابَقَةَ وَالْمُنَاضَلَةَ جَائِزَتَانِ، أَمْ لَازِمَتَانِ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: يُنْصَبُ الْغَرَضُ بِحَيْثُ يَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ يَسْتَدْبِرُهَا، أُجِيبَ الثَّانِي، لِأَنَّهُ أَصْلَحُ لِلرَّمْيِ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْمُنَاضَلَةِ وَفِيهِ فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْمَالِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِذَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ الْإِصَابَةَ أَوِ الْقَرْعَ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّأْثِيرَ بِالْخَدْشِ وَالْخَرْقِ وَلَا يَضُرُّ، فَيُحْسَبُ مَا أَصَابَ وَارْتَدَّ بِلَا تَأْثِيرٍ، وَمَا أَثَّرَ بِخَسْقٍ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الشَّنُّ بَالِيًا، فَأَصَابَ مَوْضِعَ الْخَرْقِ مِنْهُ حُسِبَ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَقَدْ يَجِيءُ فِيهِ وَجْهٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُصِبِ الْغَرَضَ. ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُصَابُ وَمَا يُصِيبُ بِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنْ ذَكَرَ إِصَابَةَ الْغَرَضِ، حُسِبَ مَا أَصَابَ الْجِلْدَ وَالْجَرِيدَ وَهُوَ الدَّائِرُ عَلَى الشَّنِّ، وَالْعُرْوَةُ وَهِيَ السَّيْرُ أَوِ الْخَيْطُ الْمَشْدُودُ بِهِ الشَّنُّ عَلَى الْجَرِيدِ، فَكُلُّ ذَلِكَ الْغَرَضِ وَفِيمَا يُعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْغَرَضِ، فَإِنْ ذَكَرَ إِصَابَةَ الشَّنِّ، لَمْ تُحْسَبْ إِصَابَةُ الْجَرِيدِ وَالْعُرْوَةِ، وَإِنْ ذَكَرَا إِصَابَةَ الْخَاصِرَةِ وَهِيَ يَمِينُ الْغَرَضِ أَوْ يَسَارِهِ، لَمْ تُحْسَبْ إِصَابَةُ غَيْرِهِمَا، وَأَمَّا مَا يُصِيبُ مِنَ السَّهْمِ فَالِاعْتِبَارُ بِالنَّصْلِ فَلَا تُحْسَبُ الْإِصَابَةُ بِفَوْقِ السَّهْمِ وَعَرْضِهِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى سُوءِ الرَّمْيِ، وَتُحْسَبُ هَذِهِ الرَّمْيَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَقِيلَ: إِذَا أَصَابَ بِالْفَوْقِ لَا تُحْسَبُ عَلَيْهِ وَهُوَ شَاذٌّ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ مُعَلَّقًا بِإِصَابَةٍ مُقَيَّدَةٍ

كَالْخَسْقِ وَغَيْرِهِ، فَالْحُكْمُ فِيمَا يُصَابُ وَيُصَابُ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا لَا يَخْتَلِفُ، وَلَوِ اصْطَدَمَ السَّهْمُ بِجِدَارٍ أَوْ شَجَرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَصَابَ الْغَرَضَ، أَوِ اصْطَدَمَ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ ازْدَلَفَ وَأَصَابَ الْغَرَضَ، حُسِبَ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: لَا يُحْسَبُ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ أَعَانَتْهُ الصَّدْمَةُ وَزَادَتْهُ حِدَّةً، لَمْ يُحْسَبْ، وَإِلَّا فَيُحْسَبُ، وَإِنِ ازْدَلَفَ وَلَمْ يُصِبِ الْغَرَضَ، حُسِبَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا شَرَطَ الْخَسْقَ، فَأَصَابَ السَّهْمُ الْغَرَضَ وَثَقَبَهُ، وَتَعَلَّقَ النَّصْلُ بِهِ وَثَبَتَ، فَهُوَ خَسْقٌ، وَلَا يَضُرُّ سُقُوطُهُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ كَمَا لَوْ نَزَعَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ خَدَشَهُ، وَلَمْ يَثْقُبْهُ فَلَيْسَ بِخَاسِقٍ وَإِنْ ثَقَبَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ فَقَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَيْسَ بِخَاسِقٍ لِمَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ الْخَسْقِ، وَلَوْ ثَقَبَ وَمَرَقَ فَهُوَ خَاسِقٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَلَوْ أَصَابَ السَّهْمُ طَرَفَ الْغَرَضِ فَخَرَمَهُ، وَثَبَتَ هُنَاكَ، فَهَلْ يُحْسَبُ خَاسِقًا؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، وَفِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ طُرُقٌ، أَصَحُّهَا: أَنَّهُمَا فِيمَا إِذَا كَانَ بَعْضُ جِرْمِ النَّصْلِ خَارِجًا، فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ دَاخِلًا، فَهُوَ خَاسِقٌ قَطْعًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَعْضُهُ خَارِجًا، فَلَيْسَ بِخَاسِقٍ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ إِذَا بَقِيَتْ طُفْيَةٌ أَوْ جُلَيْدَةٌ تُحِيطُ بِالنَّصْلِ، وَالطُّفْيَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْخُوصِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ أَبَانَ مِنَ الطَّرَفِ قِطْعَةً لَوْ لَمْ يُبِنْهَا، لَكَانَ الْغَرَضُ مُحِيطًا بِالنَّصْلِ، فَهُوَ خَاسِقٌ قَطْعًا، وَالْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا خَرَمَ الطَّرَفَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ إِنْ خَرَمَ الطَّرَفَ، فَلَيْسَ بِخَاسِقٍ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ إِذَا خَرَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَسَطِ، وَثَبَتَ مَكَانَهُ، وَهَذَا أَضْعَفُهَا، وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنْ كَانَ بَيْنَ النَّصْلِ وَالطَّرَفِ، لَكِنَّهُ تَشَقَّقَ،

فَالْخَرْمُ لِيُبُوسَةِ الشَّنِّ وَنَحْوِهَا، فَهُوَ خَاسِقٌ، وَلَوْ فُرِضَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِصَابَةِ الطَّرَفِ، وَالْمَشْرُوطُ الْقَرْعُ أَوِ الْإِصَابَةُ دُونَ الْخَسْقِ فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ وَقَعَ السَّهْمُ فِي ثُقْبَةٍ قَدِيمَةٍ وَثَبَتَ، فَهَلْ يُحْسَبُ خَاسِقًا؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ النَّصْلَ صَادَفَ الثُّقْبَ فَلَمْ يَخْسِقْ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّ السَّهْمَ فِي قُوَّتِهِ مَا يَخْرُقُ لَوْ أَصَابَ مَوْضِعًا صَحِيحًا، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يُجْعَلَ خَاسِقًا إِذَا لَمْ تُعْرَفُ قُوَّةُ السَّهْمِ، وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَوْ أَصَابَ مَوْضِعَ خَرْقٍ فِي الْغَرَضِ، وَثَبَتَ فِي الْهَدَفِ كَانَ خَاسِقًا، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: أَرَادَ إِذَا كَانَ الْهَدَفُ فِي قُوَّةِ الْغَرَضِ أَوْ أَصْلَبَ مِنْهُ، بِأَنْ كَانَ مِنْ خَشَبٍ أَوْ آجِرٍ أَوْ طِينٍ يَابِسٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَلْ كَانَ تُرَابًا، أَوْ طِينًا لَيِّنًا، لَمْ يُحْسَبْ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ كَانَ يَثْبُتُ لَوْ أَصَابَ مَوْضِعًا صَحِيحًا أَمْ لَا؟ وَفِي «الْحَاوِي» وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ خَاسِقًا وَإِنْ كَانَ الْهَدَفُ فِي قُوَّةِ الْغَرَضِ، أَمَّا إِذَا خَدَشَ النَّصْلُ مَوْضِعَ الْإِصَابَةِ، وَخَرَقَ بِحَيْثُ يَثْبُتُ فِيهِ مِثْلُ هَذَا السَّهْمِ، لَكِنَّهُ رَجَعَ لِغِلَظٍ لَقِيَهُ مِنْ حَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ، فَيُحْسَبُ خَاسِقًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَفِي قَوْلٍ: لَا يُحْسَبُ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّامِي: خَسَقَ، لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ لِغِلَظٍ لَقِيَهُ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خُرُوقٌ وَلَمْ يُعْلَمْ مَوْضِعُ الْإِصَابَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآخَرِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخَسْقِ وَالْخَدْشِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ عَيَّنَ الرَّامِي مَوْضِعًا وَقَالَ: هَذَا الْخَرْقُ حَصَلَ بِسَهْمِي، وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ، ثُمَّ إِنْ فُتِّشَ الْغَرَضُ، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ حَصَاةٌ وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا، لَمْ يَحْلِفْ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ مَانِعٌ، حَلَفَ، وَإِذَا حَلَفَ، لَمْ يُحْسَبْ لِلرَّامِي، وَهَلْ يُحْسَبُ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَإِنْ عُلِمَ مَوْضِعُ الْإِصَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانَعٌ، أَوْ كَانَ وَلَمْ يُؤَثِّرِ السَّهْمُ فِيهِ بِخَدْشٍ وَخَرْقٍ، صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ، وَحُسِبَتِ الرَّمْيَةُ عَلَى الرَّامِي، وَإِنْ قُلْنَا: الْخَرْقُ بِلَا ثُبُوتٍ

خَسْقٌ، حُسِبَ خَاسِقًا بِلَا يَمِينٍ، وَإِلَّا فَلَا يُحْسَبُ لَهُ، وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ مَرَقَ سَهْمٌ، وَثَبَتَ فِي الْهَدَفِ وَعَلَى النَّصْلِ قِطْعَةٌ مِنَ الْغَرَضِ، فَقَالَ الرَّامِي: هَذِهِ الْقِطْعَةُ أَبَانَهَا سَهْمِي لِقُوَّتِهِ وَذَهَبَ بِهَا، فَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ كَانَتِ الْقِطْعَةُ مُبَانَةً قَبْلَهُ، فَتَعَلَّقَتْ بِالسَّهْمِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآخَرِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخَسْقِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هَذَا إِذَا لَمْ نَجْعَلِ الثُّبُوتَ فِي الْهَدَفِ كَالثُّبُوتِ فِي الْغَرَضِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِهَذَا الِاخْتِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا تَنَاضَلَا مُبَادَرَةً، وَشَرَطَا الْمَالَ لِمَنْ سَبَقَ إِلَى إِصَابَةِ عَشَرَةٍ مِنْ مِائَةٍ مَثَلًا، فَسَبَقَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْإِصَابَةِ الْمَشْرُوطَةِ قَبْلَ كَمَالِ عَدَدِ الْأَرْشَاقِ، بِأَنْ رَمَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمَا مِنْهَا عَشَرَةً وَالْآخَرُ دُونَهَا، فَالْأَوَّلُ نَاضِلٌ وَقَدِ اسْتَحَقَّ الْمَالَ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ الْعَمَلِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ تَمَّ الْعَمَلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ، فَلَا يَلْزَمُهُ عَمَلٌ آخَرُ، وَالثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، ثَانِيهِمَا: يَلْزَمُهُ لِيَنْتَفِعَ صَاحِبُهُ بِمُشَاهَدَةِ رَمْيِهِ وَيَتَعَلَّمَ مِنْهُ، وَلَوْ تَنَاضَلَا مُحَاطَةً وَشَرَطَا الْمَالَ لِمَنْ خَلُصَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنْ مِائَةٍ، فَرَمَى كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْآخَرُ فِي خَمْسَةٍ، فَقَدْ خَلُصَ لِلْأَوَّلِ عَشَرَةٌ هَلْ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْمَالَ، أَمْ يَتَوَقَّفُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى اسْتِكْمَالِ الْأَرْشَاقِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ بِهَا كَالْمُبَادَرَةِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ: لَا يَسْتَحِقُّ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ مَنُوطٌ بِخُلُوصِ عَشَرَةٍ مِنْ مِائَةٍ، وَقَدْ يُصِيبُ الْآخَرُ فِيمَا بَقِيَ مَا يَمْنَعُ خُلُوصَ عَشَرَةٍ لِلْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْمُبَادَرَةِ، فَإِنَّ الْإِصَابَةَ بَعْدَهَا لَا تَرْفَعُ ابْتِدَارَ الْأَوَّلِ إِلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ، فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا، وَجَبَ إِتْمَامُ الْأَرْشَاقِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَأَنَّهُ لَا حَطَّ بَعْدَ خُلُوصِ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ،

فَهَلْ لِلْآخَرِ أَنْ يُكَلِّفَهُ إِتْمَامَ الْعَمَلِ؟ فِيهِ الطَّرِيقَانِ فِي الْمُبَادَرَةِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي كُلِّ صُورَةٍ يَتَوَقَّعُ الْآخَرُ مَنْعَ الْأَوَّلِ مِنْ خُلُوصِ الْمَشْرُوطِ أَوْ نَصْلِهِ، كَمَا إِذَا شَرَطَا خُلُوصَ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ، فَرَمَى كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً وَالْآخَرُ ثَلَاثَةً، لِأَنَّهُمَا إِذَا اسْتَكْمَلَا الْأَرْشَاقَ، فَقَدْ يُصِيبُ الْآخَرُ فِي الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ، وَلَا يُصِيبُ الْأَوَّلُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، فَلَا يَخْلُصُ لَهُ عَشَرَةٌ، فَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ بِحَالِهَا، وَأَصَابَ الْأَوَّلُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلَمْ يُصِبِ الْآخَرُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، فَلَا يَرْجُو الْآخَرُ مَنْعَ الْأَوَّلِ مِنَ الْخُلُوصِ، فَيَثْبُتُ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْمَالِ فِي الْحَالِ قَطْعًا، قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ الْأَرْشَاقِ، وَلَا يَشُكُّ أَنَّهُ يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْمُبَادَرَةِ، وَلَوْ رَمَى أَحَدُهُمَا وَالشَّرْطُ الْمُبَادَرَةَ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ خَمْسِينَ، وَأَصَابَ عَشَرَةً، وَرَمَى الْآخَرُ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ، وَأَصَابَ تِسْعَةً، فَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِنَاضِلٍ، بَلْ يَرْمِي الْآخَرُ سَهْمًا آخَرَ فَإِنْ أَصَابَ، فَقَدْ تَسَاوَيَا وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ أَصَابَ الْأَوَّلُ مِنْ خَمْسِينَ عَشَرَةً، وَالْآخَرُ مِنْ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثَمَانِيَةً، فَالْأَوَّلُ نَاضِلٌ لِأَنَّ الْآخَرَ وَإِنْ أَصَابَ فِي رَمْيَتِهِ الْبَاقِيَةِ لَا يُسَاوِي الْأَوَّلَ، وَيَظْهَرُ بِالصُّورَتَيْنِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ بَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ الِابْتِدَارِ مُسَاوَاتُهُمَا فِي عَدَدِ الْأَرْشَاقِ، أَوْ عَجْزُ الثَّانِي مِنَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِصَابَةِ، وَإِنْ سَاوَاهُ فِي عَدَدِ الْأَرْشَاقِ، وَلَوْ خَلُصَ لِأَحَدِهِمَا فِي الْمُحَاطَةِ عَشَرَةٌ مِنْ خَمْسِينَ، وَرَمَى الْآخَرُ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ وَلَمْ يُصِبْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَلَهُ أَنْ يَرْمِيَ سَهْمًا آخَرَ فَلَعَلَّهُ يُصِيبُ فِيهِ، فَيَمْنَعُ خُلُوصَ عَشْرِ إِصَابَاتٍ لِلْأَوَّلِ. فَرْعٌ إِذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَامٍ: ارْمِ خَمْسَةً عَنِّي، وَخَمْسَةً عَنْ نَفْسِكَ، فَإِنْ أَصَبْتَ فِي خَمْسَتِكَ، أَوْ كَانَ الصَّوَابُ فِيهَا أَكْثَرَ، فَلَكَ كَذَا، أَوْ قَالَ:

ارْمِ عَشَرَةً، وَاحِدَةً عَنْكَ وَوَاحِدَةً عَنِّي، فَإِنْ كَانَتْ إِصَابَتُكَ فِيمَا رَمَيْتُ عَنْكَ أَكْثَرَ، فَلَكَ كَذَا، لَمْ يَجُزْ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» لِأَنَّ الْمُنَاضَلَةَ عَقْدٌ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ نَفْسَيْنِ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجْتَهِدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ وَلَوْ قَالَ: ارْمِ عَشَرَةً فَإِنْ كَانَ صَوَابُكَ مِنْهَا أَكْثَرَ، فَلَكَ كَذَا، فَظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَشَارَ فِي تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ يُنَاضِلُ نَفْسَهُ، فَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: هُوَ جَائِزٌ، وَحَكُوهُ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ بَذْلُ الْمَالِ عَلَى عِوَضٍ مَعْلُومٍ، وَلَهُ فِيهِ غَرَضٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ تَحْرِيضُهُ عَلَى الرَّمْيِ وَمُشَاهَدَةِ رَمْيِهِ، قَالُوا: وَلَيْسَ هُوَ بِنِضَالٍ، بَلْ هُوَ جَعَالَةٌ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ غَلَّطَ الْمُزَنِيَّ فِي الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَا لَوْ قَالَ: ارْمِ كَذَا، فَإِنْ كَانَ صَوَابُكَ أَكْثَرَ، فَقَدَ نَضَلْتَنِي، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ النِّضَالَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ، فَرَمَى سِتَّةً وَأَصَابَهَا كُلَّهَا، فَقَدْ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَلِلشَّارِطِ أَنْ يُكَلِّفَهُ اسْتِكْمَالَ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الِاسْتِحْقَاقَ بِعَشَرَةٍ إِصَابَتُهَا أَكْثَرُ، وَلَوْ قَالَ لِمُتَرَامِيَيْنِ: ارْمِيَا عَشَرَةً، فَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمَا خَمْسَةً، فَلَهُ كَذَا، جَازَ، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: نَرْمِي عَشَرَةً، فَإِنْ أَصَبْتَ فِي خَمْسَتِكَ، فَلَكَ كَذَا، وَإِنْ أَصَبْتُ أَنَا، فَلَا شَيْءَ لِي عَلَيْكَ، جَازَ أَيْضًا، وَإِنْ قَالَ: وَإِنْ أَصَبْتَ فِي خَمْسَتِي، فَلِي عَلَيْكَ كَذَا، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِمُحَلِّلٍ، وَلَوْ قَالَ: ارْمِ سَهْمًا، فَإِنْ أَصَبْتَ، فَلَكَ كَذَا، وَإِنْ أَخْطَأْتَ، فَعَلَيْكَ كَذَا، فَهُوَ قِمَارٌ. فَرْعٌ لَوْ كَانُوا يَتَنَاضَلُونَ، فَمَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ، فَقَالَ لِمَنِ انْتَهَتِ النَّوْبَةُ إِلَيْهِ وَهُوَ يُرِيدُ الرَّمْيَ: ارْمِ، فَإِنْ أَصَبْتَ بِهَذَا السَّهْمِ، فَلَكَ دِينَارٌ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ، اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ، وَتَكُونُ تِلْكَ

الْإِصَابَةُ مَحْسُوبَةً مِنْ مُعَامَلَتِهِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: قِيَاسًا عَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ يُنَاضِلُ رَجُلًا وَالْمَشْرُوطُ عَشْرُ قُرْعَاتٍ، فَشَرَطَ أَنْ يُنَاضِلَ بِهَا ثَانِيًا ثُمَّ ثَالِثًا إِلَى غَيْرِ ضَبْطٍ، وَإِذَا فَازَ بِهَا، كَانَ نَاضِلًا لَهُمْ جَمِيعًا، جَازَ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْقِطَاعِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ عَنْ مُضَاهَاةِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِثْلَهَا لَمَا اسْتَحَقَّ بِعَمَلٍ وَاحِدٍ مَالَيْنِ عَنْ جِهَتَيْنِ، وَسَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ فِيهَا الشَّرْطُ لَا رُجُوعُ الْعَمَلِ إِلَى الشَّارِطِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْحَابِي، فَقِيلَ: هُوَ السَّهْمُ الَّذِي يَقَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَزْحَفُ إِلَيْهِ فَيُصِيبُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَبَا الصَّبِيُّ، وَهُوَ كَالْمُزْدَلِفِ إِلَّا أَنَّ الْحَابِيَ أَضْعَفُ حَرَكَةً مِنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُصِيبُ الْهَدَفَ حَوَالَيِ الْغَرَضِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَرِيبُ مِنَ الْهَدَفِ، كَأَنَّ صَاحِبَهُ يُحَابِي، وَلَا يُرِيدُ إِصَابَةَ الْهَدَفِ، وَيُرْوَى هَذَا التَّفْسِيرُ عَنِ الرَّبِيعِ، وَلَمْ يَجْعَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ الْحَوَابِيَ صِفَةَ السِّهَامِ، لَكِنْ قَالُوا: الرَّمْيُ ثَلَاثَةٌ: الْمُبَادَرَةُ وَالْمُحَاطَةُ وَالْحَوَابِي، وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَا عَلَى أَنْ يَسْقُطَ الْأَقْرَبُ وَالْأَسَدُّ الْأَبْعَدُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَوْ شَرَطُوا احْتِسَابَ الْقَرِيبِ مِنَ الْغَرَضِ، نُظِرَ إِنْ ذَكَرُوا حَدَّ الْقُرْبِ مِنْ ذِرَاعٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، جَازَ وَصَارَ الْحَدُّ الْمَضْبُوطُ كَالْغَرَضِ، وَصَارَ الشَّنُّ فِي وَسَطِهِ كَالدَّارَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا حَدَّ الْقُرْبِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ لِلرُّمَاةِ عَادَةٌ مُطَّرَدَةٌ، حُمِلَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، كَمَا تُحْمَلُ الدَّرَاهِمُ الْمُطْلَقَةُ عَلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَادَةٌ مُطَّرَدَةٌ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: بُطْلَانُ الْعَقْدِ لِلْجَهَالَةِ، وَالثَّانِي: الصِّحَّةُ، فَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَبَ يُسْقِطُ الْأَبْعَدَ كَيْفَ كَانَ، وَالثَّانِي: يُحْمَلُ عَلَى إِسْقَاطِ الْبَعِيدِ أَوِ الْأَقْرَبِ لِلْأَبْعَدِ، أَمَّا إِذَا قَالَا: يَرْمِي عِشْرِينَ رِشْقًا عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْأَقْرَبُ الْأَبْعَدَ، فَمَنْ فَضَلَ لَهُ خَمْسَةٌ، فَهُوَ نَاضِلٌ، فَهُوَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ مُتَّبَعٌ، وَعَنْ «الْحَاوِي» مَا يُشِيرُ إِلَى خِلَافِهِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الرَّمْيِ مُعْتَادٌ لِلرُّمَاةِ، وَهُوَ

ضَرْبٌ مِنَ الْمُحَاطَةِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ تَسَاوَتِ السِّهَامُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، فَلَا نَاضِلَ وَلَا مَنْضُولَ، وَكَذَا لَوْ تَسَاوَى سَهْمَانِ فِي الْقُرْبِ، أَحَدُهُمَا لِهَذَا وَالْآخَرُ لِلْآخَرِ، وَكَانَ بَاقِي السِّهَامُ أَبْعَدَ، وَمَهْمَا كَانَ بَيْنَ سَهْمِ أَحَدِهِمَا وَبَيْنَ الْغَرَضِ قَدْرُ شِبْرٍ، وَبَيْنَ سَهْمِ الْآخَرِ وَالْغَرَضِ دُونَ شِبْرٍ، أَسْقَطَ الثَّانِي الْأَوَّلَ، فَإِنْ رَمَى الْأَوَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَوَقَعَ أَقْرَبُ، أَسْقَطَ مَا رَمَاهُ الثَّانِي، وَلَوْ وَقَعَ سَهْمُ أَحَدِهِمَا قَرِيبًا مِنَ الْغَرَضِ، وَرَمَى الْآخَرُ خَمْسَةً، فَوَقَعَتْ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ السَّهْمِ، ثُمَّ عَادَ الْأَوَّلُ، فَرَمَى سَهْمًا، فَوَقَعَ أَبْعَدَ مِنَ الْخَمْسَةِ، سَقَطَ هَذَا السَّهْمُ بِالْخَمْسَةِ، وَسَقَطَتِ الْخُمُسَةُ بِالْأَوَّلِ، وَلَوْ رَمَى أَحَدُهُمَا خَمْسَةً، فَوَقَعَتْ قَرِيبَةً مِنَ الْغَرَضِ وَبَعْضُهَا أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ رَمَى الثَّانِي خَمْسَةً، فَوَقَعَتْ أَبْعَدَ مِنْ خَمْسَةِ الْأَوَّلِ، سَقَطَتْ خَمْسَةُ الثَّانِي بِخَمْسَةِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْ خَمْسَةِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْقُرْبِ، لِأَنَّ قَرِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ يُسْقِطُ بَعِيدَ الْآخَرِ، وَلَا يُسْقِطُ بُعْدَ نَفْسِهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: يُسْقِطُ بَعِيدَ نَفْسِهِ، كَمَا يُسْقِطُ بِعِيدَ غَيْرِهِ، وَلَوْ وَقَعَ سَهْمُ أَحَدِهِمَا بِقُرْبِ الْغَرَضِ، وَأَصَابَ سَهْمُ الْآخَرِ الْغَرَضَ، فَالْمَنْقُولُ أَنَّ الثَّانِيَ يُسْقِطُ الْأَوَّلَ كَمَا يُسْقِطُ الْأَقْرَبُ الْأَبْعَدَ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ أَنَّ الْأَسَدَ أَوِ الْأَصْوَبَ يُسْقِطُ غَيْرَهُ، وَأَنَّ الْأَقْرَبَ يُسْقِطُ الْأَبْعَدَ عَلَى مَعْنَى الْأَقْرَبِ إِلَى الصَّوَابِ، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى الْغَرَضِ يُسْقِطُ الْأَبْعَدَ عَنْهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَسَاوَيَا، وَلَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا الرُّقْعَةَ فِي وَسَطِ الْغَرَضِ، وَالْآخَرُ الْغَرَضَ خَارِجَ الرُّقْعَةِ، أَوْ أَصَابَا خَارِجَ الرُّقْعَةِ وَأَحَدُهمَا أَقْرَبُ إِلَيْهَا، فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِ الرُّمَاةِ أَنَّ الَّذِي أَصَابَ الرُّقْعَةَ، أَوْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهَا يُسْقِطُ الْآخَرَ، قَالَ: وَالْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يُسْقِطُ الْقَرِيبُ الْبَعِيدَ إِذَا كَانَا خَارِجَيْنِ عَنِ الشَّنِّ، وَفِي هَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا اسْتَدْرَكْنَاهُ، وَعَدَّ صَاحِبُ

«الْحَاوِي» الْمَذْهَبَيْنِ وَجْهَيْنِ، وَنَقَلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِ الرُّمَاةِ أَنَّهُ قَالَ: الْقَرِيبُ الَّذِي يُسْقِطُ الْبَعِيدَ هُوَ السَّاقِطُ، وَهُوَ السَّهْمُ الَّذِي يَقَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْغَرَضِ، وَالْعَاضِدُ، وَهُوَ الَّذِي يَقَعُ فِي الْيَمِينِ أَوِ الْيَسَارِ دُونَ الْخَارِجِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَجَاوَزُهُ وَيَقَعُ فَوْقَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ لِوُقُوعِ اسْمِ الْقَرِيبِ مِنَ الْغَرَضِ، فَالِاعْتِبَارُ بِمَوْضِعِ ثُبُوتِ السَّهْمِ وَاسْتِقْرَارِهِ لَا بِحَالَةِ الْمُرُورِ، حَتَّى لَوْ قَرُبَ مُرُورُهُ مِنَ الْغَرَضِ، وَوَقَعَ بَعِيدًا مِنْهُ، لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ إِلَّا إِذَا شَرَطَ اعْتِبَارَ حَالَةِ الْمُرُورِ، وَلَوْ شَرَطَا أَنَّ مَا أَصَابَ الْقِرْطَاسَ أَسْقَطَ مَا وَقَعَ حَوَالَيْهِ، فَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي صِحَّتِهِ قَوْلَيْنِ حَكَيَاهُمَا عَنْ نَقْلِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ بِأَنَّهُ تَعْسِرُ إِصَابَةُ الْوَسَطِ، وَقَدْ يُصِيبُهُ الْأَخْرَقُ اتِّفَاقًا، وَهَذَا النَّقْل لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِمُ الْقَطْعُ بِاتِّبَاعِ الشَّرْطِ. الْخَامِسَةُ: النَّكَبَاتُ: هِيَ الَّتِي تَطْرَأُ عِنْدَ الرَّمْيِ وَتُهَوِّشُهُ، وَذَلِكَ يَعُمُّ شَرْطَ الْقَرْعِ وَالْخَسْقِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّهْمَ مَتَى وَقَعَ مُبَاعِدًا تَبَاعُدًا مُفْرِطًا إِمَّا مُقَصِّرًا عَنِ الْغَرَضِ، وَإِمَّا مُجَاوِزًا لَهُ، نُظِرَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِسُوءِ الرَّمْيِ، حُسِبَ عَلَى الرَّامِي، وَلَا يُرَدُّ إِلَيْهِ السَّهْمُ لِيَرْمِيَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لِنَكْبَةٍ عَرَضَتْ، أَوْ خَلَلٍ فِي آلَةِ الرَّمْيِ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنَ الرَّامِي، فَذَلِكَ السَّهْمُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَيْهِ، وَيُوَضَّحُ هَذَا الْأَصْلُ بِصُوَرٍ، إِحْدَاهَا: إِذَا عَرَضَ فِي مُرُورِ السَّهْمِ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ فَمَنَعَ السَّهْمَ، أَوِ الْقَوْسَ إِنْ كَانَ لِتَقْصِيرِهِ وَسُوءِ رَمْيِهِ حُسِبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الرَّمْيَةَ عَلَيْهِ، فَيُعِيدُهَا، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَلَوِ انْقَطَعَ الْوَتَرُ، أَوِ انْكَسَرَ السَّهْمُ، أَوِ الْقَوْسُ إِنْ كَانَ تَقْصِيرُهُ وَسُوءُ رَمْيِهِ حُسِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِضَعْفِ الْآلَةِ وَغَيْرِهِ لَا لِتَقْصِيرِهِ وَإِسَاءَتِهِ، لَمْ تُحْسَبْ، كَمَا لَوْ حَدَثَ فِي يَدِهِ عِلَّةٌ أَوْ رِيحٌ، وَقِيلَ: إِنْ وَقَعَ السَّهْمُ عِنْدَ هَذِهِ الْعَوَارِضِ قَرِيبًا مِنَ الْغَرَضِ، حُسِبَ عَلَيْهِ، حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقِيلَ

إِنْ وَقَعَ السَّهْمُ مُجَاوِزًا لِلْغَرَضِ، حُسِبَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَارِضَ لَمْ يُؤَثِّرْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِإِسَاءَتِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، لِأَنَّ الْخَلَلَ يُؤَثِّرُ تَارَةً فِي التَّقْصِيرِ، وَتَارَةً فِي الْإِسْرَافِ، فَإِنْ قُلْنَا: تُحْسَبُ عَلَيْهِ، فَلَوْ أَصَابَ حُسِبَ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْصُوصِ: إِنَّهُ لَا يُحْسُبُ عَلَيْهِ، فَأَصَابَ، حُسِبَ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ مَعَ النَّكْبَةِ تَدُلُّ عَلَى جَوْدَةِ الرَّمْيِ، ثُمَّ فِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ أَنَّ الِانْقِطَاعَ وَالِانْكِسَارَ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ حُدُوثُهُمَا قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنَ الْقَوْسِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ، فَلَا أَثَرَ لَهُ، وَصَوَّرَ الْبَغَوِيُّ انْكِسَارَ السَّهْمِ فِيهَا إِذَا كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْقَوْسِ، وَجَعَلَهُ عُذْرًا، وَلَوِ انْكَسَرَ السَّهْمُ نِصْفَيْنِ بِلَا تَقْصِيرٍ، وَأَصَابَ أَحَدُ نِصْفَيْهِ الْغَرَضَ إِصَابَةً شَدِيدَةً، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: لَا تُحْسَبُ، وَالثَّانِي: تُحْسَبُ الْإِصَابَةُ بِالنِّصْفِ الْأَعْلَى، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْفَوْقُ دُونَ الَّذِي فِيهِ النَّصْلُ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْأَكْثَرُونَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: تُحْسَبُ الْإِصَابَةُ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِيهِ النَّصْلُ دُونَ الْأَعْلَى، وَلَوْ أَصَابَ بِالنِّصْفَيْنِ، لَمْ تُحْسَبْ إِصَابَتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ رَمَى سَهْمَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَلَوْ حَادَ السَّهْمُ عَنْ سُنَنِ الْهَدَفِ، وَخَرَجَ عَنِ السِّمَاطَيْنِ، حُسِبَ عَلَيْهِ لِسُوءِ رَمْيِهِ، وَلَوْ رَمَى إِلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا الْهَدَفُ، فَهَذَا اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ النِّضَالِ الَّذِي تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، فَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ. الثَّانِيَةُ: كَانَ فِي الْغَرَضِ سَهْمٌ، فَأَصَابَ سَهْمُهُ فَوْقَ ذَلِكَ السَّهْمِ، نُظِرَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ السَّهْمُ تَعَلَّقَ بِهِ، وَبَعْضُهُ خَارِجٌ، لَمْ يُحْسَبْ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ كَانَ يَبْلُغُ الْغَرَضَ لَوْلَا هَذَا السَّهْمُ، وَلَا يُحْسُبُ عَلَيْهِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ عَرَضَ دُونَ الْغَرَضِ عَارِضٌ، فَإِنْ شَقَّهُ، وَأَصَابَ الْغَرَضَ، حُسِبَ، وَقَدْ يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْبَهِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ السَّهْمُ قَدْ غَرِقَ فِيهِ، حُسِبَ إِصَابَةً، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ الْخَسْقَ، لَمْ يُحْسَبْ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ كَانَ بِخَسْقٍ أَمْ لَا؟ وَيَنْبَغِي أَنْ

يُنْظَرُ إِلَى ثُبُوتِهِ فِيهِ، وَتُقَاسُ صَلَابَةُ ذَلِكَ السَّهْمِ بِصَلَابَةِ الْغَرَضِ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ، وَلَوْ أَغْرَقَ الرَّامِي، وَبَالَغَ فِي الْمَدِّ حَتَّى دَخَلَ النَّصْلُ مَقْبِضَ الْقَوْسِ، وَوَقَعَ السَّهْمُ عِنْدَهُ، فَالنَّصُّ إِلْحَاقُهُ بِانْكِسَارِ الْقَوْسِ وَانْقِطَاعِ الْوَتَرِ وَنَحْوِهِمَا، لِأَنَّ سُوءَ الرَّمْيِ أَنْ يُصِيبَ غَيْرَ مَا قَصَدَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا هُنَا، وَعَنْ صَاحِبِ «الْحَاوِي» أَنَّهُ يُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إِنْ بَلَغَ مَدَى الْغَرَضِ، حُسِبَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا. الثَّالِثَةُ: الرِّيحُ اللَّيِّنَةُ لَا تُؤْثِرُ حَتَّى لَوْ رَمَى زَائِلًا عَنِ الْمُسَامَتَةِ، فَرَدَّتْهُ الرِّيحُ اللَّيِّنَةُ، أَوْ رَمَيَا ضَعِيفًا، فَقَوَّتْهُ، فَأَصَابَ، حُسِبَ لَهُ وَإِنْ صَرَفَتْهُ عَنِ السَّمْتِ بَعْضَ الصَّرْفِ، فَأَخْطَأَ، حُسِبَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْجَوَّ لَا يَخْلُو عَنِ الرِّيحِ اللَّيِّنَةِ غَالِبًا، وَيَضْعُفُ تَأْثِيرُهَا فِي السَّهْمِ مَعَ سُرْعَةِ مُرُورِهِ، وَقِيلَ: يُمْنَعُ الِاحْتِسَابُ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَقِيلَ: يُمْنَعُ الِاحْتِسَابُ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَانَتِ الرِّيحُ عَاصِفَةً، وَاقْتَرَنَتْ بِابْتِدَاءِ الرَّمْيِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَبِهِ أَجَابَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَا يُؤَثِّرُ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الرَّمْيِ وَالرِّيحِ عَاصِفَةً تَقْصِيرٌ، وَلِأَنَّ لِلرُّمَاةِ حِذْقًا فِي الرَّمْيِ وَقْتَ هُبُوبِ الرِّيحِ لِيُصِيبُوا، فَإِذَا أَخْطَأَ، فَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ، وَظَهَرَ سُوءُ رَمْيِهِ، وَأَصَحُّهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سَلَمَةَ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: لَا يُحْسَبُ لَهُ إِنْ أَصَابَ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا، وَلِهَذَا يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ تَرْكُ الرَّمْيِ إِلَى أَنْ تَرْكُدَ بِخِلَافِ اللَّيِّنَةِ، وَلَوْ هَجَمَ هُبُوبُ الْعَاصِفَةِ بَعْدَ خُرُوجِ السَّهْمِ مِنَ الْقَوْسِ، فَمُقْتَضَى التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا: اقْتِرَانُهَا مُؤَثِّرٌ، فَهُبُوبُهَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَالنَّكَبَاتِ الْعَارِضَةِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْجَوَّ لَا يَخْلُو عَنِ الرِّيحِ،

وَلَوْ فَتِحَ هَذَا الْبَابُ، لَتَعَلَّقَ بِهِ الْمُخَطِّئُونَ، وَطَالَ النِّزَاعُ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ أَخْطَأَ فِي الْهُجُومِ لَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَصَابَ، فَهَلْ يُحْسَبُ لَهُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِي السَّهْمِ الْمُزْدَلِفِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ لَهُ قَطْعًا، لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ أَصَابَ بِرَمْيهِ، وَلَوْ هَبَّتْ رِيحٌ نَقَلَتِ الْغَرَضَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَأَصَابَ السَّهْمُ الْمَوْضِعَ الْمُنْتَقِلَ عَنْهُ، حُسِبَ لَهُ، إِنْ كَانَ الشَّرْطُ الْإِصَابَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ الْخَسْقُ، نُسِبَتْ صَلَابَةُ الْمَوْضِعِ بِصَلَابَةِ الْغَرَضِ، وَلَوْ أَصَابَ الْغَرَضَ فِي الْمَوْضِعِ الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ، حُسِبَ عَلَيْهِ، لَا لَهُ، وَلَوْ أَزَالَتِ الرِّيحُ الْغَرَضَ حَتَّى اسْتَقَلَّ السَّهْمَ، فَأَصَابَهُ السَّهْمُ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَا يُحْسَبُ لَهُ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي حُكْمِ الْمُنَاضَلَةِ جَوَازًا وَلُزُومًا وَفِي كَوْنِهَا لَازِمَةً أَوْ جَائِزَةً قَوْلَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمُسَابَقَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: تَلْزَمُ، انْفَسَخَتْ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، كَالْأَجِيرِ الْمُعِينِ، وَلَوْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا، أَوْ أَصَابَهُ رَمَدٌ وَنَحْوُهُ، لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ، بَلْ يُؤَخَّرُ الرَّمْيُ، وَفِي الْمُسَابَقَةِ يَحْصُلُ الِانْفِسَاخُ بِمَوْتِ الْفَرَسِ، لِأَنَّ التَّعْوِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْصُلُ بِمَوْتِ الْفَارِسِ، بَلْ يَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَهُ، وَقِيلَ: فِيهِ احْتِمَالٌ، لِأَنَّ لِلْفَارِسِ أَثَرًا ظَاهِرًا، وَإِلْزَامُ الْوَارِثِ عَلَى الْمُسَابَقَةِ كَالْمُسْتَبْعَدِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا إِلْحَاقُ زِيَادَةٍ فِي عَدَدِ الْأَرْشَاقِ وَلَا عَدَدِ الْإِصَابَاتِ، وَطَرِيقُهُمَا إِنْ أَرَادَا ذَلِكَ أَنْ يَفْسَخَا الْعَقْدَ، وَيَسْتَأْنِفَا عَقْدًا، وَلَيْسَ لِلْمُنَاضِلِ أَنْ يَتْرُكَ النِّضَالَ وَيَجْلِسَ، بَلْ يُلْزَمُ بِهِ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِخِيَاطَةٍ وَنَحْوِهَا، وَيُحْبَسُ عَلَى ذَلِكَ وَيُعَزَّرُ، هَذَا إِذَا كَانَ مَفْضُولًا أَوْ كَانَ لَهُ الْفَضْلُ،

وَلَكِنْ تَوَقَّعَ صَاحِبُهُ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيُسَاوِيَهُ أَوْ يَفْضُلَهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَوَقَّعِ الْإِدْرَاكَ بِأَنْ شَرَطَا إِصَابَةَ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً، وَالْآخَرُ وَاحِدًا وَلَمْ يَبْقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ إِلَّا رَمْيَتَانِ، فَلِصَاحِبِ الْخَمْسَةِ أَنْ يَجْلِسَ: وَيَتْرُكَ الْبَاقِيَ، هَذَا تَفْرِيعُ قَوْلِ اللُّزُومِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَتَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسْأَلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي عَدَدِ الْأَرْشَاقِ وَالْإِصَابَاتِ، وَفِي الْمَالِ بِالتَّرَاضِي، وَفِي الْجَمِيعِ وَجْهٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهَلْ يَسْتَبِدُّ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ؟ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: نَعَمْ، لِجَوَازِ الْعَقْدِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ صَاحِبُهُ فَلْيَفْسَخْ، وَالثَّانِي: لَا، إِذْ لَا بُدَّ فِي الْعَقْدِ مِنَ الْقَبُولِ، وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ الْإِلْحَاقُ لِلْفَاضِلِ وَالْمُسَاوِي دُونَ الْمَفْضُولِ لِئَلَّا يَتَّخِذَ الْمَفْضُولُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِبْطَالِ النِّضَالِ، وَمَتَى يَصِيرُ مَفْضُولًا؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: مَتَى زَادَ صَاحِبُهُ بِإِصَابَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا تَكْفِي إِصَابَةٌ وَإِصَابَتَانِ، بَلْ لَا يَصِيرُ مَفْضُولًا إِلَّا إِذَا قَرُبَ صَاحِبُهُ مِنَ الْفَوْزِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلْحَاقُ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ بِالتَّرَاضِي، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الِاسْتِبْدَادُ يَطَّرِدَانِ فِي الْمُسَابَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُمَا هُنَاكَ، وَفِي الْجَعَالَةِ إِذَا زَادَ الْجَاعِلُ فِي الْعَمَلِ كَانَ مُتَّهَمًا كَالْمَفْضُولِ، فَفِي زِيَادَتِهِ الْخِلَافُ، فَإِنْ لَمْ تُلْحَقِ الزِّيَادَةُ بِهَا، فَذَاكَ، وَإِنْ أَلْحَقْنَاهَا وَقَدْ عَمِلَ الْعَامِلُ بَعْضَ الْعَمَلِ وَلَمْ يَرْضَ بِالزِّيَادَةِ، فُسِخُ الْعَقْدُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، لِأَنَّ التَّرْكَ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا تُرِكَ فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ بِلَا عُذْرٍ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.

فصل

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَأْخِيرُ الرَّمْيِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ، وَكَذَا الْفَسْخُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَعْرِضُ مَفْضُولًا مُتَّهَمًا، فَإِنْ كَانَ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ وَيَتْرُكَ النِّضَالَ؟ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُسَابَقَةِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَفِي جَوَازِ فَسْخِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الزِّيَادَةِ، وَيُفْضِي الْأَمْرُ إِذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ الْمَفْضُولِ وَغَيْرِهِ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ مُطْلَقًا مَقْصُورٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَصِرْ أَحَدُهُمَا مَفْضُولًا، فَإِنْ صَارَ، لَزِمَ فِي حَقِّهِ، وَبَقِيَ الْجَوَازُ فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي نُفُوذِ فَسْخِ الْمَفْضُولِ طَرْدٌ فِي فَسْخِ الْجَاعِلِ الْجَعَالَةَ بَعْدَمَا عَمِلَ الْعَامِلُ بَعْضَ الْعَمَلِ، وَكَانَتْ حِصَّةُ عَمَلِهِ مِنَ الْمُسَمَّى تَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَلَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَجْلِسَ وَيَتْرُكَ الرَّمْيَ إِنْ شَاءَ، فَسَدَ الْعَقْدُ إِنْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ، وَكَذَا إِنْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ وَقُلْنَا: لَيْسَ لِلْمَفْضُولِ التَّرْكُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ شَرْطُهُ، لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَلَوْ شَرَطَا أَنَّ الْمُسْبَقَ إِنْ جَلَسَ كَانَ عَلَيْهِ السَّبْقُ، فَهُوَ فَاسِدٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ السَّبْقَ إِنَّمَا يُشْرَعُ فِي الْعَمَلِ، وَلَوْ تَنَاضَلَا، فَفَضَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِإِصَابَاتٍ، فَقَالَ الْمَفْضُولُ: حُطَّ فَضْلَكَ، وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، سَوَاءً جَوَّزْنَا إِلْحَاقَ الزِّيَادَةِ أَمْ لَا، لِأَنَّ حَطَّ الْفَضْلِ لَا يُقَابَلُ بِمَالٍ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمُنَاضَلَةِ وَالْمُسَابَقَةِ لَوْ كَانَ أَحَدُ الرَّامِيَيْنِ إِذَا أَصَابَ، أَطَالَ الْكَلَامَ بِالتَّبَجُّحِ وَالِافْتِخَارِ وَأَضْجَرَ صَاحِبَهُ، أَوْ عَنَّفَهُ إِذَا أَخْطَأَ، مُنِعَ مِنْهُ، وَلَوْ كَلَّمَ أَحَدَهُمَا

رَجُلٌ، قِيلَ لَهُ: أَجِبْ جَوَابًا وَسَطًا، وَلَا تُطَوِّلْ، وَلَا تَحْبِسِ الْقَوْمَ، وَلَوْ تُعَلِّلْ بَعْدَمَا رَمَى صَاحِبُهُ بِمَسْحِ الْقَوْسِ وَالْوَتَرِ، وَأَخْذِ النَّبْلِ بَعْدَ النَّبْلِ وَالنَّظَرِ فِيهِ، قِيلَ لَهُ: ارْمِ، لَا مُسْتَعْجِلًا وَلَا مُتَبَاطِئًا، وَلَوْ شَرَطَا أَنْ تُحْسَبَ لِأَحَدِهِمَا الْإِصَابَةُ الْوَاحِدَةُ الْإِصَابَتَيْنِ، أَوْ يُحَطُّ مِنْ إِصَابَاتِهِ شَيْءٌ، أَوْ أَنَّهُ إِنْ أَخْطَأَ رُدَّ عَلَيْهِ سَهْمٌ أَوْ سَهْمَانِ لِيُعِيدَ رَمْيَهُمَا، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مِنَ النَّبْلِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي يَدِ الْآخَرِ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مُبَيَّنَةٌ عَلَى التَّسَاوِي، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ خَاسِقُ أَحَدِهِمَا خَاسِقَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ الْحَوَابِيَ، فَشَرَطَا أَنْ يَحْسِبَ الْخَاسِقَ حَابِيَيْنِ، جَازَ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» لِأَنَّ الْخَاسِقَ يَخْتَصُّ بِالْإِصَابَةِ وَالثُّبُوتِ فَجَازَ أَنْ تُجْعَلَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مَقَامَ حَابٍ، وَقِيلَ: فِيهِمَا جَمِيعًا قَوْلَانِ، وَلَوْ تَنَاضَلَا فَرَمَيَا بَعْضَ الْأَرْشَاقِ ثُمَّ مَلَّا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: ارْمِ، فَإِنْ أَصَبْتَ فَقَدَ نَضَلْتَنِي، أَوْ قَالَ: أَرْمِي أَنَا فَإِنْ أَصَبْتُ هَذِهِ الْوَاحِدَةَ فَقْد نَضَلْتُكَ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ النَّاضِلَ مَنْ سَاوَى صَاحِبَهُ فِي عَدَدِ الْأَرْشَاقِ وَفَضَلَهُ فِي الْإِصَابَةِ، وَلَوْ تَنَاضَلَا، أَوْ تَسَابَقَا، وَأَخْرَجَ السَّبْقُ أَحَدَهُمَا، فَقَالَ أَجْنَبِيٌّ: شَارِكْنِي فِيهِ، فَإِنْ غَنِمْتَ أَخَذْتُ مَعَكَ مَا أَخْرَجْتَهُ، وَإِنْ غَرِمْتَ، غَرِمْتُ مَعَكَ، لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَاهُ، وَبَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ، فَقَالَ أَجْنَبِيٌّ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا. وَلَوْ عَقَدَ الْمُنَاضَلَةَ فِي الصِّحَّةِ، وَدَفَعَ الْمَالَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، فَهُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِنْ جَعَلْنَاهَا إِجَارَةً، وَإِنْ قُلْنَا: جَعَالَةٌ، فَوَجْهَانِ، وَلَوِ ابْتَدَأَ الْعَقْدُ فِي الْمَرَضِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْسَبَ مِنَ الثُّلُثِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ ذَكَرَهُ فِي «الْبَحْرِ» . قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَوِ الصَّوَابُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ، سَوَاءً قُلْنَا إِجَارَةً أَوْ جَعَالَةً، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ وَلَا مُحَابَاةَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ

مَا يَصْرِفُهُ فِي مَلَاذِّ شَهَوَاتِهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَنِكَاحٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا ضَرُورَةَ لَهُ إِلَيْهِ، وَلَا نَدَبَهُ الشَّرْعُ إِلَيْهِ مَحْسُوبًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَالْمُسَابَقَةُ الَّتِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهَا، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَعَلُّمِهَا أَوْلَى، لَكِنَّ هَذَا فِيمَا إِذَا سَابَقَ بِعِوَضِ الْمِثْلِ فِي الْعَادَةِ، فَإِنْ زَادَ، فَالزِّيَادَةُ تَبَرُّعٌ مِنَ الثُّلُثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي «الْبَحْرِ» أَنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ لَهُ صَرْفُ مَالِ الصَّبِيِّ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ لِيَتَعَلَّمَ، وَأَنَّ السَّبْقَ الَّذِي يَلْتَزِمُهُ الْمُتَنَاضِلَانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمَا، وَيَجُوزُ وَضْعُهُ عِنْدَ عَدْلٍ يَثِقَانِ بِهِ وَهُوَ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ عَنِ النِّزَاعِ، وَأَنَّهُمَا لَوْ تَنَازَعَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يُتْرَكُ السَّبْقُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ عِنْدَ عَدْلٍ، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا، أُجِيبَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا، فَالثَّانِي، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: نَضَعُهُ عِنْدَ زَيْدٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: عِنْدَ عَمْرٍو، اخْتَارَ الْحَاكِمُ أَمِينًا، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْأَمِينَيْنِ الْمُتَنَازَعُ فِيهِمَا أَمْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَهُمَا؟ وَجْهَانِ وَأَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لِلْأَمِينِ إِلَّا إِذَا اطَّرَدَ الْعُرْفُ بِأُجْرَةٍ لَهُ فَوَجْهَانِ، وَفِيهِ: أَنَّ الْمُحَلِّلَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فَرَسُهُ بَيْنَ فَرَسَيِ الْمُتَسَابِقَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَتَوَسَّطْهُمَا، وَأَجْرَى بِجَنْبِ أَحَدِهِمَا، جَازَ إِنْ تَرَاضَيَا بِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِعُدُولِهِ عَنِ الْوَسَطِ، وَلَمْ يَرْضَ الْآخَرُ، لَزِمَهُ التَّوَسُّطُ، وَأَنَّهُمَا لَوْ رَضِيَا بِتَرْكِ تَوَسُّطِهِ وَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عَنِ الْيَمِينِ، وَقَالَ الْآخَرُ: عَنِ الْيَسَارِ، لَزِمَ التَّوَسُّطُ، وَأَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ الْمُتَسَابِقَانِ فِي الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، أَقْرَعَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْمُخْتَصَرِ» : لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ مُتَنَكِّبًا لِلْقَوْسِ وَالْقَرَنِ إِلَّا أَنْ يَتَحَرَّكَا عَلَيْهِ حَرَكَةً تَشْغَلُهُ، فَأَكْرَهُهُ وَيُجْزِئُهُ، وَالتَّنَكُّبُ: التَّقَلُّدُ، وَالْقَرَنُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ: هُوَ الْجُعْبَةُ الْمَشْقُوقَةُ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَهَارَةِ ذَلِكَ، وَلَا

يَجْلِبُ عَلَى الْفَرَسِ فِي السِّبَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَصِيحَ بِهِ الْقَوْمُ لِيَزِيدَ عَدْوُهُ، وَلَكِنْ يَرْكُضَانِ بِتَحْرِيكِ اللِّجَامِ وَالِاسْتِحْثَاثِ بِالسَّوْطِ، وَإِذَا وَقَفَ الْمُتَنَاضِلَانِ فِي الْمَوْقِفِ، فَهَلْ يَحْتَاجُ مَنْ يَرْمِي إِلَى اسْتِئْذَانِ صَاحِبِهِ؟ قَالَ ابْنُ كَجٍّ عَادَةُ الرُّمَاةِ الِاسْتِئْذَانُ، حَتَّى إِنَّ مَنْ رَمَى بِلَا اسْتِئْذَانٍ لَا يُحْسَبُ مَا رَمَاهُ، أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، وَيَجِبُ اتِّبَاعُ عُرْفِهِمْ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: يُحْسَبُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الأيمان

كِتَابُ الْأَيْمَانِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِي نَفْسِ الْيَمِينِ وَلِلْأَئِمَّةِ عِبَارَاتٌ فِي حَقِيقَةِ الْيَمِينِ، أَجْوَدُهَا وَأَصْوَبُهَا عَنِ الِانْتِقَاضِ وَالِاعْتِرَاضِ عِبَارَةُ الْبَغَوِيِّ، قَالَ: الْيَمِينُ تَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَوْ تَوْكِيدُهُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. وَيَتَعَلَّقُ بِالضَّبْطِ مَسَائِلُ إِحْدَاهَا: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَاضٍ كَاذِبًا وَهُوَ عَالِمٌ، فَهُوَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، سُمِّيَتْ غَمُوسًا، لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ أَوْ فِي النَّارِ، وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْكَفَّارَةُ. فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْقَوْلَانِ: فِيمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا. الثَّانِيَةُ: مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى لَفْظِ الْيَمِينِ بِلَا قَصْدٍ، كَقَوْلِهِ فِي حَالَةِ غَضَبٍ أَوْ لَجَاجٍ أَوْ عَجَلَةٍ أَوْ صِلَةِ كَلَامٍ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ. وَلَوْ كَانَ يَحْلِفُ عَلَى شَيْءٍ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ يُسَمَّى لَغْوَ الْيَمِينِ. وَإِذَا حَلَفَ وَقَالَ: لَمْ أَقْصِدِ الْيَمِينَ صُدِّقَ، وَفِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِيلَاءِ لَا يُصَدَّقُ فِي الظَّاهِرِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ. قَالَ الْإِمَامُ فِي الْفَرْقِ: جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِجْرَاءِ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ بِلَا قَصْدٍ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَدَعْوَاهُ فِيهَا تُخَالِفُ الظَّاهِرَ، فَلَا يُقْبَلُ. قَالَ: فَلَوِ اقْتَرَنَ بِالْيَمِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْدِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ.

الثَّالِثَةُ: إِذَا قَالَ غَيْرُهُ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ، أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ، أَوْ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ: لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ الشَّفَاعَةَ، أَوْ قَصَدَ عَقْدَ الْيَمِينِ لِلْمُخَاطَبِ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ قَصَدَ عَقْدَ الْيَمِينِ لِنَفْسِهِ، كَانَ يَمِينًا عَلَى الصَّحِيحِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَسْأَلُكَ ثُمَّ حَلَفَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَيْسَ بِيَمِينٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُخَاطَبِ إِبْرَارُهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَحَنِثَ الْحَالِفُ، لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا يُحْمَلُ عَلَى الشَّفَاعَةِ قُلْتُ: يُسَنُّ إِبْرَارُ الْمُقْسِمِ، كَمَا ذُكِرَ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْإِبْرَارِ مَفْسَدَةٌ، بِأَنْ تَضَمَّنَ ارْتِكَابَ مُحَرَّمٍ، أَوْ مَكْرُوهٍ. وَيُكْرَهُ السُّؤَالُ بِوَجْهِ اللَّهِ، وَرَدُّ مَنْ سَأَلَ بِهِ، لِلْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ فِيهِمَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرَّابِعُ: يَجُوزُ تَعْقِيبُ الْيَمِينِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ عَقَّبَ، لَمْ يَحْنَثْ بِالْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ، وَهَلْ نَقُولُ: انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لَكِنَّ الْمَشِيئَةَ مَجْهُولَةٌ فَلَا يَحْنَثُ نَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ، وَالثَّانِي: لَا، نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَأَنْ يَقْصِدَ لَفْظَهُ، وَيَصِلَهُ بِالْيَمِينِ، فَلَا يَسْكُتُ بَيْنَهُمَا إِلَّا سَكْتَةً لَطِيفَةً لِتَذَكُّرٍ أَوْ عِيٍّ أَوْ تَنَفُّسٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ، وَأَنْ يَقْصِدَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَوَّلِ الْيَمِينِ، فَلَوْ قَصَدَهُ، فِي خِلَالِ الْيَمِينِ، فَوَجْهَانِ سَبَقَا فِي الطَّلَاقِ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الدَّارَكِيُّ وَالْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ، وَمِمَّنْ مَنَعَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ الْمَرْزُبَانِ وَابْنُ كَجٍّ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ،

وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ: لَا أَفْعَلُ كَذَا، صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَكَذَا لَوْ قَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءَ، فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ إِلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ: لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ عَبْدِي حُرٌّ، لَمْ تُطَلَّقْ وَلَمْ يُعْتَقْ، لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ قَدْ يُحْذَفُ مَعَ إِرَادَةِ الْعَطْفِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُنَا: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ، وَلْيَكُنْ هَذَا فِيمَا إِذَا نَوَى صَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَإِنْ أَطْلَقَ فَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى أَمْ يَعُمُّهُمَا؟ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ أَمْ يَعُمُّهُمَا؟ . قُلْتُ: الصَّحِيحُ التَّعْمِيمُ فِي الصُّورَتَيْنِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوِ امْرَأَتِي طَالِقٌ، وَنَوَى صَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَيْهِمَا، صَحَّ ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ. وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ الِاسْتِثْنَاءَ وَيُؤَخِّرَهُ، يَجُوزُ أَنْ يُوَسِّطَهُ. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَوْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَفِيهِ خِلَافٌ كَمَا سَبَقَ فِي نَظِيرِهِ فِي الطَّلَاقِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ ابْنِ كَجٍّ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ إِنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يَفْعَلْ، حَنِثَ، وَإِنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ فَعَلَ حَنِثَ. فَرْعٌ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ، وَقَصَدَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ لَا أَدْخُلَهَا، فَقَدْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى الدُّخُولِ، فَإِنْ دَخَلَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَشَاءَ زَيْدٌ أَنْ لَا يَدْخُلَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ

فَلَمْ يَدْخُلْ، حَنِثَ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْرِفْ مَشِيئَةً بِأَنْ جُنَّ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ، حَنِثَ هَكَذَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ النَّصِّ، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ الدُّخُولَ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ دَخَلَ وَقَدْ شَاءَ زَيْدٌ دُخُولَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ شَاءَ أَنْ لَا يَدْخُلَ، حَنِثَ، وَلَا تُغْنِي مَشِيئَةُ الدُّخُولِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَشِيئَتَهُ، فَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَالرِّوَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَالصُّورَتَانِ مُتَشَابِهَتَانِ، وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِمَا طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْحِنْثِ، وَحَمْلُ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْيَأْسُ مِنْ مَشِيئَةٍ، أَوْ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّبِيعُ رُجُوعَهُ. وَالثَّانِي فِيهِمَا قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ حِنْثِهِ الْمَشِيئَةُ وَقَدْ جَعَلْنَاهَا، وَالثَّانِي: لَا، لِلشَّكِّ. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ إِنْ شَاءَ فُلَانٌ، إِنْ دَخَلَ، فَالْيَمِينُ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَلَا يَنْعَقِدُ قَبْلَهَا وَلَا حُكْمَ لِلدُّخُولِ قَبْلَهَا، فَإِنْ شَاءَ انْعَقَدَتْ، فَإِنْ دَخَلَ بَعْدَهُ، بَرَّ، وَإِلَّا حَنِثَ. وَيُنْظَرُ هَلْ قَيَّدَ الدُّخُولَ بِزَمَانٍ أَوْ أَطْلَقَ؟ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ عُمُرُهُ وَقْتُ الدُّخُولِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ، حَكَمْنَا بِالْحِنْثِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَإِنْ شَاءَ فُلَانٌ أَنْ لَا يَدْخُلَ أَوْ لَمْ يَشَأْ شَيْئًا، أَوْ لَمْ تُعْرَفْ مَشِيئَتُهُ، فَلَا حِنْثَ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تَنْعَقِدْ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ إِنْ شَاءَ فُلَانٌ أَنْ لَا أَدْخُلَ، فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ حَتَّى يَشَاءَ فُلَانٌ أَنْ لَا يَدْخُلَ. الْخَامِسَةُ: الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقِ مَكْرُوهٌ كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَجِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةِ وَالْآلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةً. قَالَ الْأَصْحَابُ: أَيْ حَرَامًا وَإِثْمًا، فَأَشَارَ إِلَى تَرَدُّدٍ فِيهِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، بَلْ مَكْرُوهٌ. ثُمَّ مَنْ حَلَفَ بِمَخْلُوقٍ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلَا كَفَّارَةَ فِي حِنْثِهِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: فَلَوِ اعْتَقَدَ الْحَالِفُ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى كَفَرَ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:

«مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ كَفَرَ» ، وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَيْهِ بِلَا قَصْدٍ لَمْ يُوصَفْ بِكَرَاهَةٍ، بَلْ هُوَ لَغْوُ يَمِينٍ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» . السَّادِسَةُ: إِذَا قَالَ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَأَنَا يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ بَرِىءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ مِنَ الْكَعْبَةِ، أَوْ مُسْتَحِلٌّ الْخَمْرَ أَوِ الْمَيْتَةَ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْحِنْثِ بِهِ، ثُمَّ إِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ تَبْعِيدَ نَفْسِهِ عَنْهُ لَمْ يَكْفُرْ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الرِّضَا بِذَلِكَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ إِذَا فَعَلَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْحَالِ. قُلْتُ: قَالَ الْأَصْحَابُ: وَإِذَا لَمْ يَكْفُرْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَيُسْتَدَلُّ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِقُبْحٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ. وَتَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ قَبِيحٍ مُحَرَّمٍ، وَسَتَأْتِي صِفَةُ التَّوْبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْأَذْكَارِ جُمَلًا كَثِيرَةً مِنْ حُكْمِ الْأَلْفَاظِ الْقَبِيحَةِ، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَطُرُقِ الْخُرُوجِ مِنْهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. السَّابِعَةُ: قَالَ أَهْلُ اللِّسَانِ: حُرُوفُ الْقَسَمِ ثَلَاثَةٌ الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ الْمُثَنَّاةُ فَوْقُ، قَالُوا: وَالْأَصْلُ الْبَاءُ وَهِيَ مِنْ صِلَةِ الْحَلِفِ، كَأَنَّ الْقَائِلَ يَقُولُ: حَلِفْتُ بِاللَّهِ، أَوْ أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ، أَوْ آلَيْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ الِاسْتِعْمَالُ وَفُهِمَ الْمَقْصُودُ، حُذِفَ الْفِعْلُ، وَيَلِي الْبَاءَ الْوَاوُ، لِأَنَّ الْبَاءَ تَدْخُلُ عَلَى الْمُضْمَرِ تَقُولُ: بِكَ وَبِهِ لَأَفْعَلَنَّ، كَمَا تَدْخُلُ فِي الْمُظْهَرِ، وَالْوَاوُ تَخْتَصُّ بِالْمُظْهَرِ فَتَأَخَّرَتْ، وَالتَّاءُ بَعْدَ الْوَاوِ، لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى «اللَّهِ» ، فَإِذَا قَالَ بِاللَّهِ - بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - لَأَفْعَلَنَّ، فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ، أَوْ أَطْلَقْ، فَهِيَ يَمِينٌ لِاشْتِهَارِ الصِّيغَةِ بِالْحَلِفِ لُغَةً وَشَرْعًا.

وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ خِلَافًا فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ الْيَمِينِ بِأَنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِاللَّهِ وَثِقْتُ، أَوِ اعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ أَوْ أَسْتَعِينُ أَوْ أُؤْمِنُ بِاللَّهِ ثُمَّ ابْتَدَأْتُ لَأَفْعَلَنَّ، فَالْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ هَذَا وَجَعَلَهُ زَلَلًا أَوْ خَلَلًا مِنْ نَاسِخٍ. وَنُقِلَ أَنَّهُ لَوْ نَوَى غَيْرَ الْيَمِينِ وَادَّعَى التَّوْرِيَةَ لَمْ يُقْبَلْ فِيمَا تَعَلَّقَ بِحَقِّ آدَمِيٍّ، وَهَلْ يُدَيَّنُ بَاطِنًا؟ قِيلَ: وَجْهَانِ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يُدَيَّنُ قَطْعًا، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي أَظْهَرَ مَا يُخَالِفُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: بِاللَّهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ يَمِينٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِهِ الْقَائِلَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ثُمَّ يَبْتَدِئُ لَأَفْعَلَنَّ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِلَّا لَحْنٌ فِي الْإِعْرَابِ وَسَيَأْتِي نَظَائِرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا إِذَا قَالَ: تَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ بِالْمُثَنَّاةِ فَوْقُ، فَالْمَنْصُوصُ هُنَا وَفِي الْإِيلَاءِ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَعَنْ نَصِّهِ فِي الْقَسَامَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ طُرُقٌ، أَحَدُهَا: الْعَمَلُ بِظَاهِرِ النَّصِّ. وَالثَّانِي: فِيهِمَا قَوْلَانِ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ الْوَكِيلِ: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَمِينٌ. قَالُوا: وَرِوَايَةُ النَّصِّ فِي الْقَسَامَةِ مُصَحَّفَةٌ إِنَّمَا هِيَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَّلَ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُثَنَّاةِ تَحْتُ. ثُمَّ قِيلَ: أَرَادَ إِذَا قَالَ يَا اللَّهُ عَلَى النِّدَاءِ أَوْ قِيلَ أَرَادَ يَا لَلَّهِ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الِاسْتِغَاثَةِ، وَهَذَا أَشْبَهُ وَأَقْرَبُ إِلَى التَّصْحِيفِ، وَقِيلَ: لَيْسَتْ مُصَحَّفَهً، بَلْ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَالَ لَهُ الْقَاضِي: قُلْ: بِاللَّهِ، فَقَالَ: تَاللَّهِ، فَلَا يُحْسَبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْيَمِينَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ التَّحْلِيفِ، وَكَذَا

لَوْ قَالَ: قُلْ: بِاللَّهِ فَقَالَ: بِالرَّحْمَنِ، لَا تُحْسَبُ يَمِينُهُ. وَعَكْسُهُ لَوْ قَالَ: قُلْ: تَاللَّهِ بِالْمُثَنَّاةِ فَوْقُ، فَقَالَ: بِاللَّهِ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ الْقَفَّالُ: يَكُونُ يَمِينًا، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَلَوْ قَالَ: قُلْ: بِاللَّهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ، قَالَ الْإِمَامُ: فِيهِ تَرَدُّدٌ، لِأَنَّ الْبَاءَ وَالْوَاوَ لَا تَكَادَانِ تَتَفَاوَتَانِ، وَلَا يُمْتَنَعُ، الْمَنْعُ لِلْمُخَالَفَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَجِيءُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَفَّالِ، وَهَذَا الْخِلَافُ إِذَا قَالَ: تَاللَّهِ وَلَمْ يَقْصِدِ الْيَمِينَ وَلَا غَيْرَهَا، فَإِنْ نَوَى غَيْرَ الْيَمِينِ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قُلْتُ: قَالَ الدَّارِمِيُّ: لَوْ قَالَ يَا اللَّهُ بِالْمُثَنَّاةِ تَحْتُ، أَوْ فَاللَّهُ بِالْفَاءِ، أَوْ أَآللَّهُ بِالِاسْتِفْهَامِ وَنَوَى الْيَمِينَ، فَيَمِينٌ، وَإِلَّا فَلَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ : لَوْ قَالَ: وَاللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ بِرَفْعِ الْهَاءِ أَوْ نَصْبِهَا، كَانَ يَمِينًا، وَاللَّحْنُ لَا يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: فِي الرَّفْعِ لَا يَكُونُ يَمِينًا إِلَّا بِالنِّيَّةِ. فَرْعٌ : لَوْ حَذَفَ حَرْفَ الْقَسَمِ، فَقَالَ: اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا بِجَرِّ الْهَاءِ أَوْ نَصْبِهَا أَوْ رَفْعِهَا وَنَوَى الْيَمِينَ، فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ فِي الرَّفْعِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا فِي النَّاصِبِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا فِي الْجَرِّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الرَّفْعَ يَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ فَيَبْعُدُ الْحِنْثُ، وَيَقْرُبُ فِي الْجَرِّ الِاسْتِعَارَةُ بِالصِّلَةِ الْجَارَّةِ وَيَلِيهِ النَّصْبُ بِنَزْعِ الْجَارِّ. فَرْعٌ: لَوْ قَالَ: بَلَّهِ فَشَدَّدَ اللَّامَ كَمَا كَانَتْ وَحَذَفَ الْأَلِفَ بَعْدَهَا،

فَهُوَ غَيْرُ ذَاكِرٍ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا حَالِفٌ، لِأَنَّ الْبَلَّةَ هِيَ الرُّطُوبَةُ، فَلَوْ نَوَى بِذَلِكَ الْيَمِينَ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: وَهُوَ يَمِينٌ وَيُحْمَلُ حَذْفُ الْأَلِفِ عَلَى اللَّحْنِ، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تَجْرِي كَذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ أَوِ الْخَوَاصِّ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَتِهِ، وَلَا يُسَلَّمُ أَنَّ هَذَا لَحْنٌ، لِأَنَّ اللَّحْنَ مُخَالَفَةُ صَوَابِ الْإِعْرَابِ، بَلْ هَذِهِ كَلِمَةٌ أُخْرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّامِنَةُ: فِي ضَبْطِ مَا يُحْلَفُ بِهِ، وَفِيهِ طَرِيقَانِ، إِحْدَاهُمَا وَهِيَ أَقْصَرُهُمَا: أَنَّ الْيَمِينَ يَنْعَقِدُ إِذَا حَلَفَ بِمَا مَفْهُومُهُ ذَاتُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ أَقْرَبُ إِلَى سِيَاقِ «الْمُخْتَصَرِ» : أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا إِذَا حَلِفَ بِاللَّهِ، أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَأَرَادَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَذْكُرَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتِيَ بَاسِمٍ مُفْرَدٍ، أَوْ مُضَافٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِي أَعْبُدُهُ، أَوْ أَسْجُدُ لَهُ، أَوْ أُصَلِّي لَهُ، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، أَوْ نَفْسِي بِيَدِهِ، أَوْ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ فَتَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، سَوَاءً أَطْلَقَ أَوْ نَوَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ غَيْرَهُ، وَإِذَا قَالَ قَصَدْتُ غَيْرَهُ، لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا قَطْعًا، وَكَذَا لَا يُقْبَلُ أَيْضًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ فِي الْمَذْهَبِ، وَحُكِيَ فِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْأَسْمَاءِ، فَالْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: مَا يُخْتَصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُطْلَقُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، كَاللَّهِ وَالْإِلَهِ، وَالرَّحْمَنِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَخَالِقِ الْخَلْقِ، وَالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْأَوَّلِ الَّذِي

لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَالْوَاحِدِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَحُكْمُ الْحَلِفِ بِهِ حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ صَرِيحٌ فِي الْحَلِفِ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يُطْلَقُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّ الْغَالِبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يُقَيَّدُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِضَرْبِ تَقْيِيدٍ، كَالْجَبَّارِ وَالْحَقِّ وَالرَّبِّ وَالْمُتَكَبِّرِ وَالْقَادِرِ وَالْقَاهِرِ، فَإِنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْهَا وَنَوَى اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ فَيَمِينٌ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ بِيَمِينٍ وَالْخَالِقُ وَالرَّازِقُ وَالرَّحِيمُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ مِنَ الْأَوَّلِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يُطْلَقُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَالْحَيِّ وَالْمَوْجُودِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَرِيمِ وَالْغَنِيِّ وَشِبْهِهَا، فَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَطْلَقَ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ نَوَى اللَّهَ تَعَالَى، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَمِينٌ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» ، وَفِي شَرْحِ الْمُوَفَّقِ بْنِ طَاهِرٍ أَنَّ صَاحِبَ «التَّقْرِيبِ» وَأَبَا يَعْقُوبَ قَطَعَا بِهِ، وَنَقَلَاهُ عَنْ شُيُوخِ الْأَصْحَابِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ وَبِهِ أَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَا يَكُونُ يَمِينًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَنْعَقِدُ بِاسْمِ مُعَظَّمٍ، وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي تُطْلَقُ فِي حَقِّ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ إِطْلَاقًا وَاحِدًا لَيْسَ لَهَا حُرْمَةٌ وَلَا عَظَمَةٌ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَبِهِ قَطَعَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» وَصَاحِبُ «التَّنَبُّهِ» وَالْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ لِأَنَّهُ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ نَوَاهُ، وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ مَرْدُودٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ أَوِ الْعَلِيمُ وَالْحَكِيمُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، لَا مِنَ الثَّانِي عَلَى الْأَصَحِّ، فَقَدْ عَدَّ الْبَغَوِيُّ الْعَالِمَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ كَجٍّ

نَقَلَ وَجْهًا أَنَّ الْحَلِفَ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ صَرِيحٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ، وَهَذَا غَرِيبٌ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَالْحَلِفُ بِالصِّفَاتِ. فَمُتَكَلِّمٌ فِي صُوَرٍ: مِنْهَا: إِذَا قَالَ: وَحَقِّ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَإِنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ، فَيَمِينٌ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرَهَا، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَيْسَ بِيَمِينٍ، حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَمِينٌ، لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَمِينِ، فَتَصِيرُ هَذِهِ الْقَرِينَةُ صَارِفَةً لِلَّفْظِ إِلَى مَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعَظَمَةِ وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ قَالَ وَحَقُّ اللَّهِ بِالرَّفْعِ وَنَوَى الْيَمِينَ فَيَمِينٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَلَا، وَإِنْ قَالَهُ بِالنَّصْبِ وَأَطْلَقَ فَوَجْهَانِ: وَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْبَغَوِيُّ الْمَنْعُ فِي النَّصْبِ أَيْضًا. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ وَحُرْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَحَقِّ اللَّهِ، وَقِيلَ هُوَ كَقَوْلِهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ وَقُدْرَةِ اللَّهِ، وَعِلْمِ اللَّهِ، وَمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَسَمْعِ اللَّهِ، وَبَصَرِ اللَّهِ فَهَذِهِ صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ، فَإِنْ نَوَى بِهَا الْيَمِينَ، أَوْ أَطْلَقَ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ. وَإِنْ أَرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومَ، وَبِالْقُدْرَةِ الْمَقْدُورَ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: اغْفِرْ عِلْمَكَ فِينَا، أَيْ مَعْلُومَكَ، وَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ أَيْ مَقْدُورِهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: وَمَعْلُومِ اللَّهِ، وَمَقْدُورِهِ، وَخَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَبِمِثْلِهِ أَجَابَ الْإِمَامُ فِي: إِحْيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ: وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَاءِ اللَّهِ وَعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ وَبَقَائِهِ، فَالْحُكْمُ كَمَا فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الذَّاتِ وَغَيْرِهَا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهَانِ: أَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَالْحَلِفِ بِاللَّهِ. حَتَّى لَوْ قَالَ أَرَدْتُ غَيْرَ الْيَمِينِ، لَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا وَوَجْهًا أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ

غَيْرَ الْيَمِينِ، يُقْبَلْ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، لِلِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ إِذْ لَا يُتَخَيَّلُ فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَضُعِّفَ هَذَا، وَقَالَ: قَدْ يُقَالُ عَايَنْتُ عَظَمَةَ اللَّهِ وَكِبْرِيَاءَهُ، وَيُرِيدُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْهَا لَوْ قَالَ وَكَلَامِ اللَّهِ، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَكِتَابِ اللَّهِ وَقُرْآنِ اللَّهِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَالْقُرْآنِ أَوْ وَالْمُثْبَتِ فِي الْمُصْحَفِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَإِنْ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ نُظِرَ، إِنْ قَالَ: وَحُرْمَةِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ، فَهُوَ يَمِينٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَحُرْمَةِ هَذَا الْمُصْحَفِ، لِأَنَّ احْتِرَامَهُ لِمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ، وَإِذَا أَرَادَ الرِّقَّ وَالْجِلْدَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا. قُلْتُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا إِذَا قَالَ: وَالْمُصْحَفِ، وَأَطْلَقَ، وَهُوَ يَمِينٌ، صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَبِهِ أَفْتَى الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّوْلَعِيُّ خَطِيبُ دِمَشْقَ، مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا، قَالَ: لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ الْمَكْتُوبِ وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، وَلَا يَقْصِدُ الْحَالِفُ نَفْسَ الْوَرَقِ وَالْمِدَادِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، اسْتَحْسَنَ التَّحْلِيفَ بِالْمُصْحَفِ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدِ الْيَمِينُ، بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَمْ يَحْلِفْ بِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ قَالَ: وَالْقُرْآنِ، وَأَرَادَ غَيْرَ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، فَقَدْ يُرَادُ بِالْقُرْآنِ الْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ. التَّاسِعَةُ: إِذَا قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ، أَوْ أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ، أَوْ أَحْلِفُ بِاللَّهِ، أَوْ حَلَفْتُ بِاللَّهِ فَلَهُ أَحْوَالٌ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ أَرَدْتُ بِالْأَوَّلِ الْوَعْدَ بِالْحَلِفِ، وَبِالثَّانِي الْإِخْبَارَ عَنْ مَاضٍ، فَيُقْبَلُ بَاطِنًا، وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ عُلِمَ لَهُ يَمِينٌ مَاضِيَةٌ قَبْلَ قَوْلِهِ فِي إِرَادَتِهَا بِأَقْسَمْتُ وَحَلَفْتُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِلَّا فَالنَّصُّ أَنَّهُ يُقْبَلُ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي إِرَادَةِ الْوَعْدِ وَالْإِخْبَارِ، وَقَالَ فِي الْإِيلَاءِ: إِذَا قَالَ: أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ لَا وَطَئْتُكِ، ثُمَّ قَالَ، أَرَدْتُ يَمِينًا مَاضِيَةً لَمْ يُقْبَلْ، وَلِلْأَصْحَابِ فِيهَا ثَلَاثَةُ طُرُقٍ، الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ فِي الْإِيلَاءِ وَسَائِرِ الْأَيْمَانِ قَوْلَيْنِ أَظْهَرُهُمَا: الْقَبُولُ، لِظُهُورِ الِاحْتِمَالِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِظُهُورِهِ فِي الْإِنْشَاءِ، وَالطَّرِيقِ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، وَحَمْلُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا عَلَى الْقَبُولِ بَاطِنًا، وَالثَّالِثُ: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِيلَاءَ مُتَعَلِّقُ حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُضَايَقَةِ، وَسَائِرُ الْأَيْمَانِ وَاجِبُهَا الْكَفَّارَةُ، وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ الْيَمِينَ، فَيَكُونُ يَمِينًا قَطْعًا. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَخَالَفَهُمُ الْإِمَامُ فِي التَّرْجِيحِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَقِيلَ: أُقْسِمُ صَرِيحٌ، بِخِلَافِ أَقْسَمْتُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قُلْتُ: لَوْ قَالَ: آلَيْتُ أَوْ أُؤْلِي، فَهُوَ كَحَلَفْتُ أَوْ أَحْلِفُ، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْعَاشِرَةُ: إِذَا قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَوْ شَهِدْتُ بِاللَّهِ، فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ، فَيَمِينٌ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ الْيَمِينِ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ أَطْلَقَ: فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، لِتَرَدُّدِ الصِّيغَةِ، وَعَدَمِ اطِّرَادِ عُرْفٍ شَرْعِيٍّ أَوْ لُغَوِيٍّ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ هَذَا عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ. فَرْعٌ : لَوْ قَالَ أَعْزِمُ بِاللَّهِ، أَوْ عَزَمْتُ بِاللَّهِ، لَأَفْعَلَنَّ، فَإِنْ نَوَى غَيْرَ الْيَمِينِ، أَوْ أَطْلَقَ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَيَمِينٌ.

فَرْعٌ لَوْ قَالَ: أُقْسِمُ أَوْ أَقْسَمْتُ، أَوْ أَحْلِفُ أَوْ حَلَفَ، أَوِ أَشْهَدُ أَوْ شَهِدْتُ، أَوِ أَعْزِمُ أَوْ عَزَمْتُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَلَمْ يَقُلْ بِاللَّهِ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِصِفَتِهِ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ الْمُلَاعِنُ فِي لِعَانِهِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ وَكَانَ كَاذِبًا هَلْ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَالْخِلَافُ شَبِيهٌ بِالْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُؤْلِي إِذَا وَطِئَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالصُّورَةُ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ أَوْ أَطْلَقَ، وَجَعَلْنَا مُطْلَقَهُ يَمِينًا، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ الْخِلَافُ وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ الْيَمِينِ، لِأَنَّ أَلْفَاظَ اللِّعَانَ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَلَا أَثَرَ لِلتَّوْرِيَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ. الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: إِذَا قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ، أَوْ وَايْمُنُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَيَمِينٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا فِي اللُّغَةِ فَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَوْ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ وَلَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي اللُّغَةِ، لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ. قُلْتُ: وَقَوْلُهُ: وَايْمُ اللَّهِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا وَالضَّمُّ أَشْهَرُ، وَلَاهَا اللَّهِ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا قَطْعًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ: إِذَا قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّتُهُ وَأَمَانَتُهُ وَكَفَالَتُهُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَيَمِينٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ اسْتِحْقَاقُهُ لِإِيجَابِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْنَا، أَوْ تَعَبُّدِنَا بِهِ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ الْيَمِينِ، كَالْعِبَادَاتِ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَوَجْهَانِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَمِينٌ لِلْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ، لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْأَمَانَةُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ) بِالْعِبَادَاتِ وَإِذَا أَرَادَ الْيَمِينَ بِهَذِهِ الْأَلِفَاظِ، انْعَقَدَتْ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ تَأْكِيدٌ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ فِيهَا إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ قَصَدَ بِكُلِّ لَفْظٍ يَمِينًا، فَلْيَكُنْ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِرَارًا. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي اسْتَدْرَكَهُ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِلنَّقْلِ، قَالَ الدَّارِمِيُّ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إِذَا نَوَى التَّكْرَارَ، فَفِي تَكْرَارِ الْكَفَّارَةِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِرَارًا، وَطَرَّدَهُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. أَمَّا إِذَا قَالَ: وَعَهْدِ اللَّهِ، وَمِيثَاقِ اللَّهِ، وَأَمَانَةِ اللَّهِ، فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَيَمِينٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَلَا. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ قَدَّمْتُهُ فِي كِتَابِ النُّذُورِ.

فصل

الْبَابُ الثَّانِي فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ: الْأَوَّلُ: فِي سَبَبِ الْكَفَّارَةِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ حَنِثَ، وَفِي سَبَبِ وُجُوبِهَا وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ الْيَمِينُ وَالْحِنْثُ جَمِيعًا وَالثَّانِي أَنَّهُ الْيَمِينُ فَقَطْ، وَلَكِنَّ الْحِنْثَ شَرْطٌ. فَصْلُ يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ إِنْ كَفَّرَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ وَلَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ مَعْصِيَةً، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّكْفِيرَ عَنِ الْحِنْثِ، لِيَخْرُجَ مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْحِنْثِ، وَفِيهِ وَجْهٌ. وَقَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ بِمَعْصِيَةٍ بِأَنْ حَلَفَ لَا يَزْنِي فَهَلْ يُجْزِئُهُ التَّكْفِيرُ قَبْلَهُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ نَعَمْ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ هَذَا الْعَبْدَ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي إِذَا حَنِثْتُ، عُتِقَ الْعَبْدُ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِذَا حَنِثَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِذَا حَلَفْتُ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ التَّعْلِيقَ عَلَى الْيَمِينِ، وَفِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ قَدَّمَهُ عَلَى الْحِنْثِ فَقَطْ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا حَنِثْتُ فِي يَمِينِي غَدًا، فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَتِي، فَإِنْ حَنِثَ غَدًا، عَتَقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَعْتِقْ، لِأَنَّ الْمُعَلِّقَ عَلَيْهِ لَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي إِنْ حَنِثْتُ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ حَنِثَ، عَتَقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَعْتِقْ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي إِنْ حَلِفْتُ وَحَنِثْتُ، فَبَانَ حَالِفًا قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي أَلَّا يُجْزِئَهُ، لِأَنَّهُ شَاكٌّ فِي الْيَمِينِ، وَفِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ الشَّكُّ فِي الْحِنْثِ، وَالتَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ جَائِزٌ، وَعَلَى قِيَاسِهِ لَوْ قَالَ: هُوَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي إِنْ ظَاهَرْتُ، فَبَانَ أَنَّهُ ظَاهَرَ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ.

فَرْعٌ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ، ثُمَّ ارْتَدَّ الْعَبْدُ، أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحِنْثِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، كَمَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، وَتَغَيَّرِ الْحَالُ فِي التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ كَهُوَ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْزِئَهُ إِذَا ارْتَدَّ أَوْ مَاتَ، كَمَا لَوْ مَاتَتِ الشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ قَبْلَ الْحَوْلِ. فَرْعٌ يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ عَلَى الزَّهُوقِ بَعْدَ حُصُولِ الْجُرْحِ، وَتَقْدِيمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى الزَّهُوقِ بَعْدَ جُرْحِ الصَّيْدِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقِيلَ: فِيهِمَا الْخِلَافُ، فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ الْمُحَرَّمِ، لِأَنَّ سِرَايَةَ فِعْلِهِ كَفِعْلِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالَ الْإِمَامُ: وَقِيَاسُهُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ حَلَفَ لَا يَقْتُلُ زَيْدًا فَجَرَحَهُ وَكَفَّرَ عَنِ الْيَمِينِ قَبْلَ حُصُولِ الزَّهُوقِ، فَفِي الْإِجْزَاءِ الْوَجْهَانِ. قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ، ثُمَّ هَذَا فِي التَّكْفِيرِ بِالْإِعْتَاقِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةٍ بِالْإِعْتَاقِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ عَلَى الْجُرْحِ بِحَالٍ لَا فِي الْآدَمِيِّ وَلَا فِي الصَّيْدِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِابْنِ سَلَمَةَ، تَنْزِيلًا لِلْعِصْمَةِ مَنْزِلَةَ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى جُرْحِ الصَّيْدِ، وَوَجْهًا إِنَّهُ إِنْ كَانَ يَقْتُلُهُ مُخْتَارًا بِلَا ضَرُورَةٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ اضْطَرَّ الصَّيْدُ إِلَيْهِ جَازَ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ التَّكْفِيرُ عَنِ الظِّهَارِ بِالْمَالِ بَعْدَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ جَائِزٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَقِيلَ: فِيهِ الْخِلَافُ فِي الْحِنْثِ الْمُحَرَّمِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْعَوْدَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَيُتَصَوَّرُ التَّكْفِيرُ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْعَوْدِ، فِيمَا إِذَا ظَاهَرَ مِنْ رَجْعِيَّةٍ، ثُمَّ كَفَّرَ،

ثُمَّ رَاجَعَهَا، وَفِيمَا إِذَا ظَاهَرَ ثُمَّ طَلَّقَ رَجْعِيًّا، ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ رَاجَعَ أَوْ طَلَّقَ بَائِنًا وَكَفَّرَ ثُمَّ نَكَحَهَا، وَقُلْنَا: يَعُودُ الْحِنْثُ فِيمَا إِذَا ظَاهَرَ مُؤَقَّتًا وَصَحَّحْنَا، وَكَفَّرَ وَصَارَ عَائِدًا بِالْوَطْءِ، وَفِيمَا إِذَا ظَاهَرَ وَارْتَدَّتِ الزَّوْجَةُ عَقِبَهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِتَكْفِيرٍ قَبْلَ الْعَوْدِ، بَلْ هُوَ تَكْفِيرٌ مَعَ الْعَوْدِ، لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالْإِعْتَاقِ عَوْدٌ وَالْحُكْمُ الْإِجْزَاءُ أَيْضًا. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ لَا تُنْسَبُ إِلَى الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ بَلْ إِلَى الْجِمَاعِ، وَتِلْكَ تُنْسَبُ إِلَى الْيَمِينِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ فِدْيَةِ الْحَلْقِ وَالتَّطَيُّبِ وَاللَّبْسِ عَلَيْهَا، فَإِنْ وُجِدَ سَبَبٌ يَجُوزُ فِعْلُهَا، بِأَنِ احْتَاجَ إِلَى الْحَلْقِ أَوِ التَّطَيُّبِ لِمَرَضٍ أَوِ اللَّبْسِ لِبَرْدٍ جَازَ التَّقْدِيمُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْمَنْذُورِ إِذَا كَانَ مَالِيًّا، بِأَنْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ رَدَّ غَائِبِي، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ أَوْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْإِعْتَاقِ وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الشِّفَاءِ وَرُجُوعِ الْغَائِبِ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ مَا يُنَازِعُ فِيهِ. فَرْعٌ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا شَرَعَتَا فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَرَادَتَا الْإِفْطَارَ، فَأَخْرَجَتَا الْفِدْيَةَ قَبْلَ الْإِفْطَارِ جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى هَذَا فَفِي جَوَازِ تَعْجِيلِ الْفِدْيَةِ لِسَائِرِ الْأَيَّامِ وَجْهَانِ: كَتَعْجِيلِ زَكَاةِ عَامَيْنِ.

فصل

فَصْلٌ تُكْرَهُ الْيَمِينُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي طَاعَةٍ كَالْبَيْعَةِ عَلَى الْجِهَادِ، وَيُسْتَثْنَى أَيْضًا الْأَيْمَانُ الْوَاقِعَةُ فِي الدَّعَاوَى، إِذَا كَانَتْ صَادِقَةٌ، فَإِنَّهَا لَا تُكْرَهُ. قُلْتُ: وَكَذَا لَا يُكْرَهُ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ كَتَوْكِيدِ كَلَامٍ أَوْ تَعْظِيمِ أَمْرِهِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، «وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» وَأَشْبَاهُهُ فِي الصَّحِيحِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. ثُمَّ إِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ وَاجِبٍ، أَوْ تَرْكِ حَرَامٍ، فَيَمِينُهُ طَاعَةٌ، وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ، وَالْحِنْثُ مَعْصِيَةٌ، وَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ حَرَامٍ، فَيَمِينُهُ مَعْصِيَةٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرَ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْلٍ كَصَلَاةِ تَطَوُّعٍ، وَصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ، فَالْإِقَامَةُ عَلَى ذَلِكَ طَاعَةٌ، وَالْمُخَالَفَةُ مَكْرُوهَةٌ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ نَفْلٍ، فَالْيَمِينُ مَكْرُوهَةٌ وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهَا مَكْرُوهَةٌ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَحْنَثَ، وَعَدَّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، مَا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَيِّبًا، وَلَا يَلْبَسُ نَاعِمًا، وَقَالُوا: الْيَمِينُ عَلَيْهِ مَكْرُوهَةٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهَا يَمِينُ طَاعَةٍ، لِمَا عُرِفَ مِنِ اخْتِيَارِ السَّلَفِ خُشُونَةَ الْعَيْشِ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَقُصُودِهِمْ وَفَرَاغِهِمْ لِلْعِبَادَةِ، وَإِشْغَالِهِمْ بِالضِّيقِ وَالسِّعَةِ، وَهَذَا أَصْوَبُ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُبَاحٍ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِثْلُ هَذَا الْغَرَضِ، كَدُخُولِ دَارٍ، وَأَكْلِ طَعَامٍ، وَلُبْسِ ثَوْبٍ، وَتَرَكَهَا، فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْيَمِينِ، وَلَهُ أَنْ يَحْنَثَ، وَهَلِ الْأَفْضَلُ الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ؟ أَمِ الْحِنْثُ؟ أَمْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَا تَرْجِيحَ كَمَا كَانَ

قَبْلَ الْيَمِينِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَاخْتَارَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ حَصَلَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تُغَيِّرُ حَالَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَمَّا كَانَ، وُجُوبًا وَتَحْرِيمًا وَنَدْبًا وَكَرَاهَةً وَإِبَاحَةً. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِاشْتِمَالِهَا عَلَى تَخْيِيرٍ فِي الِابْتِدَاءِ، وَتَرْتِيبٍ فِي الِانْتِهَاءِ فَيَتَخَيَّرُ الْحَالِفُ بَيْنَ أَنْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ، أَوْ يَكْسُوهُمْ، أَوْ يَعْتِقَ رَقَبَةً، فَإِنْ اخْتَارَ الْإِطْعَامَ، أَطْعَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مُدًّا، وَالْقَوْلُ فِي جِنْسِ الطَّعَامِ، وَكَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِهِ، وَمَنْ يُصْرَفُ إِلَيْهِ، وَامْتِنَاعِ إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ، وَصَرْفِ الْأَمْدَادِ الْعَشْرَةِ إِلَى بَعْضٍ، وَسَائِرِ الْمَسَائِلِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْكُسْوَةَ، كَسَاهُمْ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ اخْتَارَ الْإِعْتَاقَ، فَلْتَكُنِ الرَّقَبَةُ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ. وَلَوْ أَطْعَمَ بَعْضَ الْعَشْرَةِ، وَكَسَا بَعْضَهُمْ، لَمْ يُجْزِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتِقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ، أَوْ أَطْعَمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، أَوْ كَسَاهُمْ عَنْ ثَلَاثِ كَفَّارَاتٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ، أَجْزَأَهُ عَنْهُنَّ، فَإِنْ عَجَزَ مِنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالْقَوْلُ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْعَجْزُ ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَمَنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ مِنَ الزَّكَوَاتِ، أَوِ الْكَفَّارَاتِ، لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ، لِأَنَّهُ فَقِيرٌ فِي الْأَخْذِ، فَكَذَا فِي الْإِعْطَاءِ، وَقَدْ يَمْلِكُ نِصَابًا، وَلَا يَفِي دَخْلُهُ بِخَرْجِهِ، فَيَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَلَهُ أَخْذُهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّا لَوْ أَسْقَطْنَا الزَّكَاةَ خَلَا النِّصَابُ عَنْهَا بِلَا بَدَلٍ، وَلِلتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ بَدَلٌ، وَهُوَ الصَّوْمُ. وَهَلْ يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا، قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ الْجَدِيدُ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَالْفِطْرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوِ السَّفَرِ عَلَى الْخِلَافِ فِي

كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْحَيْضُ هُنَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ بِخِلَافِ الشَّهْرَيْنِ، وَقِيلَ: لَا يَقْطَعُهُ كَالشَّهْرَيْنِ، وَقِيلَ قَوْلَانِ: كَالْمَرَضِ، وَالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَحِضْ قَطُّ، فَشَرَعَتْ فِي الصَّوْمِ، فَابْتَدَأَهَا الْحَيْضُ، فَهُوَ كَالْمَرَضِ. فَرْعٌ يَجِبُ فِي الْكُسْوَةِ التَّمْلِيكُ، وَالْوَاجِبُ ثَوْبٌ، قَمِيصٌ، أَوْ سَرَاوِيلُ، أَوْ عِمَامَةٌ، أَوْ جُبَّةٌ، أَوْ قَبَاءُ، أَوْ مُقَنَّعَةٌ، أَوْ إِزَارٌ، أَوْ رِدَاءٌ، أَوْ طَيْلَسَانُ، لِأَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَى كُلِّ هَذَا، وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ سَاتِرُ الْعَوْرَةِ، بِحَيْثُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ، فَتَخْتَلِفُ الْحَالُ بِذُكُورَةِ الْآخِذِ وَأُنُوثَتِهِ، فَيُجْزِئُ الْإِزَارُ إِنْ أَعْطَاهُ لِرَجُلٍ، وَلَا يُجْزِئُ إِنْ أَعْطَاهُ لِامْرَأَةٍ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: وَيُجْزِئُ الْمِنْدِيلُ، صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا، وَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُحْمَلُ فِي الْيَدِ، وَقَدْ صَرَّحَ الدَّارِمِيُّ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمِنْدِيلِ وَالْعِمَامَةِ يُجْزِئُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الثَّوْبُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَكْفِي لِرَضِيعٍ وَصَغِيرٍ دُونَ كَبِيرٍ، فَإِنْ أَخَذَهُ الْوَلِيُّ لِصَغِيرٍ، جَازَ، لِأَنَّ صَرْفَ طَعَامِ الْكَفَّارَةِ وَكُسْوَتِهَا لِلصِّغَارِ جَائِزٌ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، وَيَتَوَلَّى الْوَلِيُّ الْأَخْذَ، وَإِنْ أَخَذَهُ كَبِيرٌ لِنَفْسِهِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَلْبَسَ الْآخِذُ مَا يَأْخُذُهُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ كُسْوَةَ الْمَرْأَةِ، وَعَكْسُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْمَخِيطُ، بَلْ يَجُوزُ دَفْعُ الْكِرْبَاسِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ جَدِيدًا، خَامًا كَانَ أَوْ مَقْصُورًا، فَإِنْ كَانَ مَلْبُوسًا، نُظِرَ: إِنْ تَخَرَّقَ أَوْ ذَهَبَتْ قُوَّتُهُ لِمُقَارَبَةِ الِانْمِحَاقِ، لَمْ يُجْزِئْهُ، كَالطَّعَامِ الْمَعِيبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ أَجْزَأَهُ، كَالطَّعَامِ الْعَتِيقِ، لَا يُجْزِئُ الْمُرَقَّعُ إِنْ رُقِّعَ لِلتَّخَرُّقِ

فصل

وَالْبِلَى، إِنْ خِيطَ فِي الِابْتِدَاءِ مُرَقَّعًا لِزِينَةٍ وَغَيْرِهَا أَجْزَأَهُ، وَلَوْ كَسَاهُ ثَوْبًا لَطِيفًا، مُهَلْهَلَ النَّسْجِ غَيْرَ بَالٍ فِي جِنْسِهِ، لَكِنَّ مِثْلَهُ إِذَا لُبِسَ لَا يَدُومُ، إِلَّا بِقَدْرِ مَا يَدُومُ الثَّوْبُ الْبَالِي، قَالَ الْإِمَامُ: يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ لِضَعْفِ النَّفْعِ فِيهِ، وَأَمَّا الْجِنْسُ فَيُجْزِئُ الْمُتَّخِذُ مِنْ صُوفٍ وَشَعْرٍ وَقُطْنٍ وَكِتَّانٍ وَقَزٍّ وَإِبْرَيْسِمٍ، سَوَاءً كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ رَجُلًا لَا يَحِلُّ لَهُ لُبْسُهُ، أَوِ امْرَأَةً، وَفِي الرَّجُلِ وَجْهُ تَضْعِيفٍ، وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ جِنْسٍ، الْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ وَالْمُتَوَسِّطُ، وَلِلْقَاضِي حُسَيْنٍ احْتِمَالٌ فِي اشْتِرَاطِ الْكُسْوَةِ الْغَالِبَةِ فِي الْبَلَدِ، كَالطَّعَامِ، وَفِي الدِّرْعِ وَالْمِكْعَبِ وَهُوَ الْمَدَاسُ وَالنَّعْلُ وَالْجَوَارِبُ وَالْخُفُّ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَالتِّبَّانُ وَهُوَ سَرَاوِيلُ قَصِيرَةٌ لَا تَبْلُغُ الرُّكْبَةَ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ لِعَدَمِ اسْمِ الْكُسْوَةِ، وَالثَّانِي: الْإِجْزَاءُ، لِإِطْلَاقِ اسْمِ اللُّبْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْمَنْعِ فِي الْخُفِّ وَالنَّعْلِ وَالْجَوَارِبِ، وَلَا تُجْزِئُ الْمِنْطَقَةُ وَالْخَاتَمُ قَطْعًا، وَكَذَا التِّكَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» لِلرُّويَانِيِّ: طَرْدُ الْخِلَافِ فِيهَا، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَيُجْزِئُ قَمِيصُ اللُّبْدِ فِي بَلَدٍ جَرَتْ عَادَةُ غَالِبِ النَّاسِ أَوْ نَادِرِهِمْ بِلُبْسِهِ. قُلْتُ: قَالَ الدَّارِمِيُّ: فَإِنْ دَفَعَ مَا لَا يَعْتَادُ لُبْسَهُ كَجُلُودٍ وَنَحْوِهَا، لَمْ يُجْزِئْهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِيمَنْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ كُلُّ مُكَلَّفٍ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، سَوَاءٌ فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إِخْرَاجِهَا، أُخْرِجَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ. فَصْلٌ الْعَبْدُ يُكَفِّرُ عَنِ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا بِالصَّوْمِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِنْ قُلْنَا يَمْلِكُ بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ التَّمْلِيكَ، لَمْ يَمْلِكْ إِخْرَاجَ الْكَفَّارَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ مَلَّكَهُ الطَّعَامَ أَوِ الْكُسْوَةَ لِيُخْرِجَهُ فِي

الْكَفَّارَةِ، أَوْ مَلَّكَهُ مُطْلَقًا ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ أَوِ الْكُسْوَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهُ عَبْدًا لِيُعْتِقَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبَنَاهُ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهُ عَبْدًا، وَأَذِنَ فِي إِعْتَاقِهِ مُتَبَرِّعًا، فَلِمَنِ الْوَلَاءُ فِيهِ؟ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: لِلسَّيِّدِ، لِقُصُورِ الْعَبْدِ عَنِ اسْتِحْقَاقِ حُقُوقِ الْوَلَاءِ مِنَ الْإِرْثِ وَالْوِلَايَةِ. وَالثَّانِي، يُوقَفُ. فَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ، بَانَ أَنَّ الْوَلَاءَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ رَقِيقًا، فَلِسَيِّدِهِ. وَالثَّالِثُ: لِلْعَبْدِ، فَعَلَى هَذَا، إِنْ أُذِنَ لَهُ فِي الْإِعْتَاقِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَقَعَ عَنْهَا، وَثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَلَاءَ لِلسَّيِّدِ، وَقَعَ الْعِتْقُ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَأَنَّ الْمَلِكَ انْقَلَبَ إِلَيْهِ، وَفِي وَجْهٍ وَقَوْلٍ: يَقَعُ عَنِ الْعَبْدِ، وَيُجْزِئُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَيَخْتَصُّ التَّعَذُّرُ بِالْوَلَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ فِي الْوَلَاءِ، فَوَجْهَانِ: قَالَ الْقَفَّالُ: تُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ: يُتَوَقَّفُ فِي الْوُقُوعِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، تَبَعًا لِلْوَلَاءِ، فَإِذَا قُلْنَا فِي هَذِهِ التَّفَارِيعِ، يَقَعُ الْعِتْقُ عَنِ الْكَفَّارَةِ فَأَذِنَ السَّيِّدُ فِي الْإِعْتَاقِ فِي كَفَّارَةٍ مُرَتَّبَةٍ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ لِضَعْفِ مِلْكِهِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُوسِرًا، وَلِهَذَا يُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِ، وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ أَمْوَالًا عَظِيمَةً. وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُكَاتَبُ عَنْ كَفَّارَتِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَصَحَّحْنَا تَبَرُّعَاتِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ، فَقَدْ يَعْجِزُ، فَيَرِقُّ، فَيَكُونُ الْوَلَاءُ مَوْقُوفًا، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ كَفَّرَ السَّيِّدُ عَنِ الْعَبْدِ بِإِطْعَامٍ، أَوْ كُسْوَةٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ بِإِذْنِهِ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ بِتَفْرِيعِهِ، وَإِذَا كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، فَهَلْ يُسْتَقْبَلُ بِهِ؟ أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، سَبَقَ فِي الْكَفَّارَاتِ. وَحَيْثُ يَحْتَاجُ، فَلِلسَّيِّدِ مَنْعُ الْأَمَةِ مِنَ الصَّوْمِ، لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الِاسْتِمْتَاعَ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَهُ مَنْعُ الْعَبْدِ عَنِ الصَّوْمِ إِنْ كَانَ

فصل

يَضْعُفُ بِهِ عَنِ الْخِدْمَةِ، أَوْ يَنَالُهُ ضَرَرٌ، وَإِلَّا فَلَا مَنْعَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى هَذَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْخِدْمَةِ، كَمَا لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فِي تَرَدُّدَاتِهِ، وَحَيْثُ احْتَاجَ إِلَى الْإِذْنِ، فَصَامَ بِلَا إِذْنٍ، أَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ صَلَّى الْجُمْعَةَ بِلَا إِذْنٍ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ بِالْإِطْعَامِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ، لِأَنَّ التَّكْفِيرَ عَنْهُ فِي الْحَيَاةِ يَتَضَمَّنُ دُخُولَهُ فِي مِلْكِهِ، وَالتَّكْفِيرَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَسْتَدْعِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَيِّتِ مَلِكٌ مُحَقَّقٌ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ وَالْحُرُّ سَوَاءٌ، هَذَا مَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ، عَلَى الْأَصَحِّ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَشْكَالِ الْوَلَاءِ. فَصْلٌ فِي الْحُرِّ يَمُوتُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، فَتَخْرُجُ مِنْ تَرِكَتِهِ، سَوَاءً أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا، وَسَبِيلُهَا سَبِيلُ الدُّيُونِ، وَذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ وَجْهًا: أَنَّهُ إِنْ أَوْصَى بِهَا، حُسِبَتْ مِنَ الثُّلُثِ، وَوَجْهًا: أَنَّهَا مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا وَفَتِ التَّرِكَةُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّ، قُضِيَتْ جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ تَفِ، وَتَعَلَّقَ بَعْضُهَا بِالْعَيْنِ، وَبَعْضُهَا بِالذِّمَّةِ، قَدَّمَ التَّعَلُّقَ بِالْعَيْنِ، سَوَاءً اجْتَمَعَ النَّوْعَانِ، أَوِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا، وَإِنْ اجْتَمَعَا، وَتَعَلَّقَ الْجَمِيعُ بِالْعَيْنِ أَوِ الذِّمَّةِ، فَهَلْ يُقَدَّمُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؟ أَمِ الْآدَمِيِّ؟ أَمْ يَسْتَوِيَانِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، سَبَقَتْ فِي مَوَاضِعَ، أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَلَا تَجْرِي هَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلْسٍ، إِذَا اجْتَمَعَ النَّوْعَانِ، بَلْ تُقَدَّمُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّ، وَتُؤَخَّرُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، مَا دَامَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةً أَعْتَقَ عَنْهُ الْوَارِثُ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى

الْوَصِيُّ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمَيِّتِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْإِعْتَاقُ، أَطْعَمَ مِنَ التَّرِكَةِ، وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةَ تَنْجِيزٍ، جَازَ الْإِطْعَامُ وَالْكُسْوَةُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَكَذَا الْإِعْتَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْوَاجِبُ مِنَ الْخِصَالِ أَقَلُّهَا قِيمَةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرِكَةٌ فَتَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِالْإِطْعَامِ أَوِ الْكُسْوَةِ عَنْهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ تَبَرَّعَ بِهِمَا الْوَارِثُ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لَا، لِبُعْدِ الْعِبَادَاتِ عَنِ النِّيَابَةِ، وَإِنْ تَبَرَّعَ الْأَجْنَبِيُّ بِالْإِعْتَاقِ فِي كَفَّارَةِ التَّنْجِيزِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِعِلَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: سُهُولَةُ التَّكْفِيرِ بِغَيْرِ إِعْتَاقٍ، وَلَا يَعْتِقُ لِمَا فِيهِ مِنْ عُسْرِ إِثْبَاتِ الْوَلَاءِ، وَالثَّانِيَةُ: فِيهِ إِضْرَارٌ بِأَقَارِبِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِجِنَايَةِ عَتِيقِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ وَارِثًا، جَازَ عَلَى الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، وَفِي الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ، لِلْوَارِثِ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالْإِعْتَاقِ، وَكَذَا لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ، بِنَاءً عَلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى، وَفِي صَوْمِ الْوَلِيِّ وَالْأَجْنَبِيِّ خِلَافٌ، سَبَقَ فِي الصِّيَامِ، وَإِذَا أَوْصَى بِأَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ فِي كَفَّارَةِ التَّنْجِيزِ وَزَادَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى قِيمَةِ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَضْعَفُهَا: يَتَعَيَّنُ الْإِعْتَاقُ، وَتُحْسَبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالثَّانِي: تُحْسَبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ تَحْصُلُ بِلُزُومِهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَفَّى الثُّلُثُ بِقِيمَةِ عَبْدٍ مُجْزِئٍ، أَعْتَقَ عَنْهُ، وَإِلَّا بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَعَدَلَ إِلَى الْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ. وَالثَّالِثُ: تُحْسَبُ قِيمَةُ أَقَلِّهَا قِيمَةً مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالزِّيَادَةُ إِلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْعَبْدِ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ وَفَّى ثُلُثُ الْبَاقِي مَضْمُومًا إِلَى الْأَقَلِّ الْمَحْسُوبِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِقِيمَةِ عَبْدٍ، أَعْتَقَ عَنْهُ، وَإِلَّا بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَعَدَلَ إِلَى الْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ. فَرْعٌ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ، إِنْ كَانَ مُعْسِرًا، كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَوَجْهَانِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: قَوْلَانِ، مَنْصُوصٌ وَمُخَرَّجٌ.

الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ لَا يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ، بَلْ يُطْعِمُ وَيَكْسُو، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ بِالْإِعْتَاقِ لِتَضَمُّنِهِ الْوِلَايَةَ وَالْإِرْثَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، وَقِيلَ: فِي تَكْفِيرِهِ بِالْعِتْقِ قَوْلَانِ، كَإِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَخَرَّجَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ يُكَفَّرُ بِالصَّوْمِ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الْحِنْثُ الْأَصْلُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْبَرِّ وَالْحِنْثِ، اتِّبَاعُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْيَمِينُ، وَقَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّقْيِيدُ وَالتَّخْصِيصُ، بِنِيَّةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ، أَوْ بِاصْطِلَاحٍ خَاصٍّ، أَوْ قَرِينَةٍ، وَالصُّوَرُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْبَابِ لَا تَتَنَاهَى، لَكِنْ تَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَنْوَاعٍ تَغْلِبُ وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهَا، وَيُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، وَفِيهِ أَنْوَاعٌ: الْأَوَّلُ: الدُّخُولُ وَالْمُسَاكَنَةُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ، حَنِثَ بِالْحُصُولِ فِي عَرْصَةِ الدَّارِ، وَأَبْنِيَتِهَا مِنَ الْبُيُوتِ وَالْغُرَفِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ صَعِدَ سَطْحَهَا، بِأَنْ تَسَوَّرَ جِدَارَهَا، أَوْ جَاءَ مِنْ دَارِ الْجَارِ لَمْ يَحْنَثْ، إِنْ كَانَ السَّطْحُ غَيْرَ مُحَوَّطٍ، وَلَا عَلَيْهِ سُتْرَةٌ، فَإِنْ كَانَ فَوَجْهَانِ، الْأَصَحُّ وَظَاهِرُ النَّصِّ: لَا يَحْنَثُ أَيْضًا، كَمَا لَوْ حَصَلَ عَلَى الْجِدَارِ، وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ التَّحْوِيطُ مِنَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ، حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبٍ، فَلَا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ. هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ السَّطْحُ مُسَقَّفًا، فَإِنْ كَانَ مُسَقَّفًا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ حَنِثَ قَطْعًا إِذَا كَانَ يَصْعَدُ إِلَيْهِ مِنَ الدَّارِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَبْنِيَةِ الدَّارِ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَخْرُجَنَّ مِنَ الدَّارِ، فَهَلْ يَبِرُّ بِصُعُودِ السَّطْحِ، وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ خَارِجًا حَتَّى يُفَارِقَ السَّطْحَ، وَأَصَحُّهُمَا نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هُوَ

فِي الدَّارِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كَانَ خَارِجًا وَيُؤَيِّدُهُ: أَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ حَكَى عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ: لَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الدَّارِ، فَصَعِدَ سَطْحَهَا، حَنِثَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي الْخُرُوجِ أَيْضًا إِلَى كَوْنِ السَّطْحِ مُحَوَّطًا أَوْ غَيْرَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ، فَدَخَلَ الطَّاقَ الْمَضْرُوبَ خَارِجَ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ، عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: دَخَلَ الدَّارَ، وَالثَّانِي: يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ مِنَ الدَّارِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا، فَلَوْ دَخَلَ الدِّهْلِيزَ خَلْفَ الْبَابِ، أَوْ بَيْنَ الْبَابَيْنِ حَنِثَ، لِأَنَّهُ مِنَ الدَّارِ، وَحَكَى الْفُورَانِيُّ نَصًّا أَنَّ دَاخِلَ الدِّهْلِيزِ لَا يَحْنَثُ، وَحَمَلُوهُ عَلَى الطَّاقِ خَارِجَ الْبَابِ، وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى إِثْبَاتِهِ قَوْلًا فِي الدِّهْلِيزِ، وَقَالَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: دَخَلَ الدِّهْلِيزَ وَلَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَجَعَلَ الْمُتَوَلِّي الدَّرْبَ الْمُخْتَصَّ بِالدَّارِ أَمَامَ الْبَيْتِ، إِذَا كَانَ دَاخِلًا فِي حَدِّ الدَّارِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهَا بَابٌ كَالطَّاقِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَابٌ، فَهُوَ مِنَ الدَّارِ مُسَقَّفًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. فَرْعٌ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ، وَهُوَ فِيهَا، لَا يَحْنَثُ بِالْمُكْثِ، وَحُكِيَ قَوْلٌ، وَوَجْهٌ أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ نُصَّ فِي حَرْمَلَةَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ وَهُوَ خَارِجٌ، لَا يَحْنَثُ بِتَرْكِ الدُّخُولِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ، أَوْ لَا يَتَطَهَّرُ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ، أَوْ لَا يَتَوَضَّأُ وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ، فَاسْتَدَامَ النِّكَاحُ وَالطَّهَارَةُ وَالْوُضُوءُ لَا يَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ وَهُوَ لَابِسٌ، فَلَمْ يَنْزِعْ، أَوْ لَا يَرْكَبْ وَهُوَ رَاكِبٌ فَلَمْ يَنْزِلْ، حَنِثَ بِالِاسْتِدَامَةِ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى لُبْسًا وَرُكُوبًا، وَلِهَذَا يَصْلُحُ أَنْ

يُقَالَ: لَبِسْتُ شَهْرًا وَرَكِبْتُ لَيْلَةً، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: دَخَلْتُ شَهْرًا أَوْ تَزَوَّجْتُ شَهْرًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: سَكَنْتُ أَوْ أَقَمْتُ شَهْرًا وَلَوْ حَنِثَ بِاسْتِدَامَةِ اللُّبْسِ ثُمَّ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ، فَاسْتَدَامَ، لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، لِأَنَّ الْيَمِينَ الْأُولَى انْحَلَّتْ بِالِاسْتِدَامَةِ الْأُولَى، وَهَذِهِ يَمِينٌ أُخْرَى، وَقَدْ حَنِثَ فِيهَا، وَاسْتِدَامَةُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ قِيَامٌ وَقُعُودٌ وَاسْتِقْبَالٌ، وَهَلِ اسْتِدَامَةُ التَّطَيُّبِ بِطِيبٍ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا. وَلِهَذَا لَوْ تَطَيَّبَ، ثُمَّ أَحْرَمَ، وَاسْتَدَامَ، لَا يَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَذُكِرَ الْوَجْهَانِ: فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ، وَهُوَ فِي خِلَالِ الْوَطْءِ، فَلَمْ يَنْزِعْ، أَوْ أَنْ لَا يَصُومَ أَوْ لَا يُصَلِّي وَهُوَ شَارِعٌ فِيهِمَا، فَلَمْ يَتْرُكْ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ إِذَا حَلَفَ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَغْصِبُ، لَمْ يَحْنَثْ بِاسْتِدَامَةِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُسَافِرُ وَهُوَ فِي السَّفَرِ، فَوَقَفَ، أَوْ أَخَذَ فِي الْعَوْدِ فِي الْحَالِ، لَمْ يَحْنَثْ فِي الْعَوْدِ، وَكَأَنَّ الصُّورَةَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ ذَلِكَ السَّفَرِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُسَافِرٌ أَيْضًا. فَرْعٌ إِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ، حَنِثَ بِالْحُصُولِ فِيهَا، سَوَاءً دَخَلَهَا مِنَ الْبَابِ أَوْ مِنْ ثُقْبٍ فِي الْجِدَارِ، أَوْ كَانَ فِي الدَّارِ نَهْرٌ خَارِجٌ فَطَرَحَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَحَمَلَهُ، أَوْ سَبَحَ، أَوْ رَكِبَ سَفِينَةً فَدَخَلَتِ السَّفِينَةُ الدَّارَ وَنَزَلَ مِنَ السَّطْحِ. وَفِي صُورَةِ السَّطْحِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَسَوَاءً دَخَلَهَا رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا. وَلَوْ أَدْخَلَ فِي الدَّارِ يَدَهُ أَوْ رَأْسَهُ أَوْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا لَوْ مَدَّ رِجْلَيْهِ فَأَدْخَلَهُمَا الدَّارَ وَهُوَ قَاعِدٌ خَارِجَهَا، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ إِذَا وَضَعَهُمَا فِي الدَّارِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا، أَوْ حَصَلَ فِي الدَّارِ مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَخْرُجُ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ، أَوْ رِجْلَيْهِ وَهُوَ قَاعِدٌ فِيهَا، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ شَجَرَةٌ مُنَشَّرَةُ الْأَغْصَانِ، فَتَعَلَّقَ بِبَعْضِهَا، فَإِنْ حَصَلَ فِي مُحَاذَاةِ الْبُنْيَانِ بِحَيْثُ صَارَتْ مُحِيطَةً بِهِ عَالِيَةً

عَلَيْهِ، حَنِثَ. وَإِنْ حَصَلَ فِي مُحَاذَاةِ سُتْرَةِ السَّطْحِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَلَفَ لَا يَدْخُلُ أَوْ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا، فَاسْمُ الْبَيْتِ يَقَعُ عَلَى الْمَبْنِيِّ مِنْ طِينٍ أَوْ آجُرٍّ وَمَدَرٍ وَحَجَرٍ، وَعَلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ خَشَبٍ وَصُوفٍ وَوَبَرٍ وَشَعَرٍ وَجِلْدٍ وَأَنْوَاعِ الْخِيَامِ، فَإِنْ نَوَى نَوْعًا مِنْهَا، حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَطْلَقَ، حُمِلَ عَلَى أَيِّ بَيْتٍ كَانَ مِنْهَا، إِنْ كَانَ الْحَالِفُ بَدَوِيًّا، وَإِنْ كَانَ قَرَوِيًّا فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ وَظَاهِرُ النَّصِّ: يَحْنَثُ أَيْضًا. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَتْ قَرْيَتُهُ قَرِيبَةً مِنَ الْبَادِيَةِ، حَنِثَ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ الْبِيَعِ، وَالْكَنَائِسِ، وَبُيُوتِ الْحَمَّامِ، وَالْغَارِ فِي الْجَبَلِ، وَالْكَعْبَةِ، وَالْمَسَاجِدِ، عَلَى الْمَذْهَبِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْإِيوَاءِ وَالسَّكَنِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْبَيْتِ إِلَّا بِتَقْيِيدٍ، وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ الْجَمِيعَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَحَكَى الْمُتَوَلِّي فِي الْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ وَجْهًا. وَلَوْ دَخَلَ دِهْلِيزَ دَارٍ، أَوْ صَحْنَهَا، أَوْ صِفَتَهَا، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الْمَيْلُ إِلَى الْحِنْثِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ بَيْتٌ بِمَعْنَى الْإِيوَاءِ. قُلْتُ: وَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ بَيْتِ الرَّحَى عَلَى الصَّحِيحِ، ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثَةُ: حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ، وَلَا يُقِيمُ فِيهَا، وَهُوَ عِنْدَ الْحَلِفِ فِيهَا، فَمَكَثَ سَاعَةً بِلَا عُذْرٍ، حَنِثَ، وَإِذَا مَكَثَ، فَسَوَاءٌ أَخَرَجَ أَهْلَهُ وَمَتَاعَهُ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى سُكْنَى نَفْسِهِ، لَا أَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ. فَلَوْ خَرَجَ وَتَرَكَ فِيهَا أَهْلَهُ وَمَتَاعَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَسْكُنُ دَارًا، فَانْتَقَلَ إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ، دُونَ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، حَنِثَ. وَلَوْ مَكَثَ لِعُذْرٍ، بِأَنْ أُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ، أَوْ مُنِعَ مِنَ الْخُرُوجِ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ لَوْ خَرَجَ، أَوْ كَانَ مَرِيضًا، أَوْ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ

يُخْرِجُهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ مَرِضَ، وَعَجَزَ بَعْدَ الْحَلِفَ، فَفِي الْحِنْثِ الْخِلَافُ فِي حِنْثِ الْمُكْرَهِ. وَقَدْ تَخْرُجُ سَائِرُ الصُّوَرِ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ. فَإِنْ وَجَدَ الْمَرِيضُ مَنْ يُخْرِجُهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِخْرَاجِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، حَنِثَ. وَإِنْ مَكَثَ الْحَالِفُ مُشْتَغِلًا بِأَسْبَابِ الْخُرُوجِ، بِأَنِ انْتَهَضَ لِجَمْعِ الْمَتَاعِ، وَيَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالْخُرُوجِ، وَيَلْبَسُ ثَوْبَ الْخُرُوجِ، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاكِنًا، كَمَا لَوْ خَرَجَ فِي الْحَالِ ثُمَّ عَادَ لِنَقْلِ مَتَاعٍ، أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ عِيَادَةٍ أَوْ عِمَارَةٍ، فَإِنَّ الْأَصْحَابَ قَالُوا: لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ فَارَقَهَا، وَبِمُجَرَّدِ الْعُودِ لَا يَصِيرُ سَاكِنًا. وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَبِيتَ فِيهَا لَيْلَةً لِحِفْظِ مَتَاعٍ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِابْنِ كَجٍّ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَلَوْ خَرَجَ فِي الْحَالِ ثُمَّ اجْتَازَ بِهَا، بِأَنْ دَخَلَ مِنْ بَابٍ، وَخَرَجَ مِنْ آخَرَ، فَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فِيهَا سَاعَةً بِلَا غَرَضٍ، حَنِثَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِالتَّرَدُّدِ، لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ بِهِ مَسْكَنًا قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ عَادَ مَرِيضًا مَارًّا فِي خُرُوجِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ قَعَدَ عِنْدَهُ حَنِثَ، وَلَوْ خَرَجَ فِي الْحَالِ ثُمَّ دَخَلَ، أَوْ كَانَ خَارِجًا حِينَ حَلَفَ، ثُمَّ دَخَلَ لَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ مَا لَمْ يَمْكُثْ، فَإِنْ مَكَثَ حَنِثَ، إِلَّا أَنْ يَشْتَغِلَ بِحَمْلِ مَتَاعٍ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ. الرَّابِعَةُ: فِي الْحَلِفَ عَلَى الْمُسَاكَنَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمُسَاكَنَةُ: أَنْ يَكُونَا فِي بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ حُجْرَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَمَدْخَلُهُمَا وَاحِدٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَرَادَ بِالْحُجْرَةِ: الصَّحْنُ، فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي دَارٍ، فَلَا مُسَاكَنَةَ، سَوَاءً كَانَتِ الدَّارَانِ كَبِيرَتَيْنِ، أَوْ صَغِيرَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا كَبِيرَةٌ وَالْأُخْرَى صَغِيرَةٌ، كَحُجْرَةٍ لَطِيفَةٍ بِجَنْبِ دَارٍ، وَسَوَاءً كَانَتَا فِي دَرْبٍ نَافِذٍ أَوْ غَيْرِ نَافِذٍ. فَإِنْ سَكَنَا فِي بَيْتَيْنِ مِنْ خَانٍ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ، أَوْ مِنْ دَارٍ كَبِيرَةٍ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ: لَا مُسَاكَنَةَ، سَوَاءً كَانَ الْبَيْتَانِ مُتَلَاصِقَيْنِ أَوْ مُتَفَرِّقَيْنِ، وَالثَّانِي: بَلَى. وَالثَّالِثُ: تَثْبُتُ

الْمُسَاكَنَةُ فِي الدَّارِ دُونَ الْخَانِ، لِأَنَّهَا تُعَدُّ مَسْكَنًا لِوَاحِدٍ، وَالْخَانُ يُبْنَى لِسُكْنَى جَمَاعَةٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي الْخَانِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَيْتِ بَابٌ وَغُلِّقَ، كَالدُّورِ فِي الدَّرْبِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّارِ الْكَبِيرَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ مِنْهَا بَابٌ وَغُلِّقَ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا، أَوْ سَكَنَا فِي صِفَتَيْنِ مِنْهَا، أَوْ فِي بَيْتٍ وَصِفَةٍ، فَهُمَا مُتَسَاكِنَانِ [فِي الْعَادَةِ. وَلَوْ أَقَامَا فِي بَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ صَغِيرَةٍ، فَهُمَا مُتَسَاكِنَانِ] وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَابٌ وَغُلِّقَ، لِمُقَارَبَتِهِمَا وَكَوْنِهِمَا فِي الْأَصْلِ مَسْكَنًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْخَانِ الصَّغِيرِ، وَهَكَذَا فَصَّلَ الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ وَجْهَيْنِ فِي بَيْتَيِ الدَّارِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَرَأَى الْأَصَحَّ حُصُولَ الْمُسَاكَنَةِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الدَّارِ، وَالْآخَرُ فِي حُجْرَةٍ مُنْفَرِدَةِ الْمَرَافِقِ وَبَابُهَا فِي الدَّارِ، فَلَا مُسَاكَنَةَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ فِي حُجْرَتَيْنِ مُنْفَرِدَتَيِ الْمَرَافِقِ فِي دَارٍ. وَالْمِرْفَقُ الْمُسْتَحَمُّ وَالْمَطْبَخُ، وَالْمَرْقَى وَغَيْرُهَا، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي الْحُجْرَةِ فِي الْخَانِ خِلَافًا وَإِنْ كَانَ الْمَرْقَى فِي الْخَانِ. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُسَاكِنُ زَيْدًا، فَإِمَّا أَنْ يُقَيِّدَ الْمُسَاكَنَةَ بِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَفْظًا، بِأَنْ يَقُولَ: فِي هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ هَذِهِ الدَّارِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُقَيِّدَ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُقَيِّدَ، فَيَحْنَثُ بِتَسَاكُنِهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ كَانَا فِيهِ عِنْدَ الْحَلِفَ، فَفَارَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ مَكَثَا فِيهِ بِلَا عُذْرٍ، حَنِثَ. فَإِنْ بُنِيَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ مِنْ طِينٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مَدْخَلٌ، أَوْ أَحْدَثَا مَدْخَلًا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ لِاشْتِغَالِهِ بِرَفْعِ الْمُسَاكَنَةِ، وَرَجَّحَهُ الْبَغَوِيُّ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَحْنَثُ لِحُصُولِ الْمُسَاكَنَةِ إِلَى تَمَامِ الْبِنَاءِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ. فَإِنْ

خَرَجَ أَحَدُهُمَا فِي الْحَالِ فَبُنِيَ الْجِدَارُ، ثُمَّ عَادَ، لَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِالْمُسَاكَنَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُقَيِّدَهَا لَفْظًا، فَيَنْظُرُ، إِنْ نَوَى مَوْضِعًا مُعَيَّنًا مِنْ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ أَوْ دَرْبٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أَوْ بَلَدٍ، فَالْمَذْهَبُ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْيَمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا نَوَى. وَقِيلَ: إِنْ كَانَا يَسْكُنَانِ بَيْتًا مِنْ دَارٍ مُتَّحِدَةِ الْمَرَافِقِ، وَنَوَى أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ، حُمِلَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلَا جَرَى ذِكْرُ تِلْكَ الْمُسَاكَنَةِ، كَقَوْلِ صَاحِبِهِ: سَاكِنِي فِي هَذَا الْبَيْتِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَتُحْمَلُ الْيَمِينُ عَلَى الدَّارِ وَفِي الْبَلَدِ وَجْهٌ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُسَاكَنَةً. وَقِيلَ: يَجِيءُ هَذَا الْوَجْهُ فِي الْمَحَلَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مَوْضِعًا، وَأَطْلَقَ الْمُسَاكَنَةَ، حَيْثُ بِالْمُسَاكَنَةِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَحَكَى الْمُتَوَلِّي قَوْلًا أَنَّهُ إِذَا أَطْلَقَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ وَحُجْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، حُمِلَتِ الْيَمِينُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ الْحَاصِلِ، فَإِنْ كَانَا فِي دَرْبٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا الدَّرْبَ، وَإِنْ كَانَا فِي مَحَلَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا الْمَحَلَّةَ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَا عِنْدَ الْحَلِفَ فِي بَيْتَيْنِ مِنْ خَانٍ، فَلَا مُسَاكَنَةَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى مُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ يُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهُ. وَإِنْ كَانَا فِي بَيْتٍ مِنَ الْخَانِ، فَهَلْ يَكْفِي مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا ذَلِكَ الْبَيْتَ، أَمْ يُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهُ الْخَانَ؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. ثُمَّ سَوَاءً نَوَى مَوْضِعًا مُعَيَّنًا أَوْ أَطْلَقَ، فَالْقَوْلُ فِي أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْمُسَاكَنَةِ مُسَاكَنَةٌ، وَفِي الْحَائِلِ الْمَبْنِيِّ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى. وَالِاعْتِبَارُ بِالِانْتِقَالِ بِالْبَدَنِ، دُونَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ كَمَا سَبَقَ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَلْفَاظُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: حَلَفَ، فَقَالَ: لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ أَوِ الْجَرَّةِ، حَنِثَ بِمَا

شَرِبَ مِنْ مَائِهَا مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَلَوْ قَالَ: لَأَشْرَبَنَّ مِنْ مَائِهَا، بَرَّ بِمَا شَرِبَ وَإِنْ قَلَّ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ هَذَا النَّهْرِ، أَوْ لَأَشْرَبَنَّ مِنْهُ، فَالْحُكْمُ كَالْإِدَاوَةِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ أَوِ الْحَبِّ أَوِ الْمَصْنَعِ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يُمْكِنُ شُرْبُ جَمِيعِهِ وَلَوْ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِشُرْبِ جَمِيعِهِ. وَمَتَى بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ، لَمْ يَحْنَثْ. قَالَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ: سِوَى الْبَلَلِ الَّذِي يَبْقَى فِي الْعَادَةِ. وَلَوْ قَالَ: لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ أَوِ الْحُبِّ، لَمْ يَبِرَّ إِلَّا بِشُرْبِ الْجَمِيعِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَشْرَبُ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ أَوِ الْبَحْرِ أَوِ الْبِئْرِ الْعَظِيمَةِ، فَهَلْ يَحْنَثُ بِشُرْبِ بَعْضِهِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَعَامَّةُ الْأَصْحَابِ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ كَمَسْأَلَةِ الْإِدَاوَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَصْعَدُ السَّمَاءَ، لِأَنَّ الْحِنْثَ فِيهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. وَلَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ أَوِ الْبَحْرِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبِرُّ بِشُرْبِ بَعْضِهِ وَإِنْ قَلَّ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَبِرُّ بِبَعْضِهِ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ أَمْ قُبَيْلَ الْمَوْتِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يُحْسَنُ الِانْتِظَارُ فِيمَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ. وَقِيلَ: لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ أَصْلًا، لِأَنَّ الْبَرَّ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَلَوْ حَلَفَ: لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ، فَفِي انْعِقَادِ يَمِينِهِ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ: الِانْعِقَادُ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْكَمُ بِالْحِنْثِ فِي الْحَالِ، أَمْ قَبْلَ الْمَوْتِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ غَدًا، وَفَرَّعْنَا عَلَى انْعِقَادِ الْيَمِينِ، فَهَلْ يَحْنَثُ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ، أَمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْغَدِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يُرَجِّحَ هُنَا الثَّانِي. وَعَلَى هَذَا، فَهَلْ يَحْنَثُ قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْغَدِ، أَمْ قَبْلَ ذَلِكَ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَيَأْتِي فِي نَظِيرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَصْعَدُ السَّمَاءَ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ

يَمِينُهُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرِ الْحِنْثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا أَمْسِ، وَهُوَ صَادِقٌ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، بِخِلَافِ صُورَةِ الِاسْتِشْهَادِ، لِأَنَّ الْحَلِفَ هُنَاكَ مُحْتَمَلُ الْكَذِبِ. فَرْعٌ قَالَ: لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ، وَلَا مَاءَ فِيهَا، أَوْ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا وَهُوَ مَيِّتٌ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ يَحْنَثُ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ، وَالثَّانِي: قُبَيْلَ الْمَوْتِ، وَالثَّالِثُ: لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ، وَالرَّابِعُ: يَحْنَثُ فِي الْقَتْلِ دُونَ الشُّرْبِ. وَلَوْ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا وَهُوَ يَظُنُّهُ حَيًّا وَكَانَ مَيِّتًا، فَفِي الْكَفَّارَةِ خِلَافٌ بِنَاءً عَلَى يَمِينِ النَّاسِي. فَرْعٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا آكُلُ خُبْزَ الْكُوفَةِ، أَوْ خُبْزَ بَغْدَادَ، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ بَعْضِهِ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ. فَرْعٌ قَالَ: لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ. فَانْصَبَّ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَ، أَوْ مَاتَ الْحَالِفُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِمْكَانِ، حَنِثَ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَقَوْلَانِ كَالْمُكْرَهِ. وَلَوْ قَالَ: لَأَشْرَبَنَّ مِنْهُ، فَصَبَّهُ فِي حَوْضٍ، ثُمَّ شَرِبَ مِنْهُ مِنْ مَوْضِعٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ، بَرَّ، وَإِنْ حَلَفَ: لَا يَشْرَبُ مِنْهُ، فَصَبَّهُ فِي حَوْضٍ وَشَرِبَ مِنْهُ، حَنِثَ. وَكَذَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، فَخُلِطَ بِلَبَنِ غَيْرِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ هَذِهِ

التَّمْرَةَ، فَخَلَطَهَا بِصَبْرَةٍ، لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِأَكْلِ جَمِيعِ الصَّبْرَةِ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَشْرَبُ مَاءً فُرَاتًا أَوْ مِنْ مَاءٍ فُرَاتٍ، حُمِلَ عَلَى الْمَاءِ الْعَذْبِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. وَإِنْ قَالَ: مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ، حُمِلَ عَلَى النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَشْرَبُ مَاءَ الْفُرَاتِ، أَوْ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ، فَسَوَاءً أَخَذَ الْمَاءَ بِيَدِهِ، أَوْ فِي إِنَاءٍ فَشَرِبَ أَوْ كَرِعَ فِيهِ، حَنِثَ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ نَهْرِ كَذَا، فَشَرِبَ مِنْ سَاقِيَةٍ تَخْرُجُ مِنْهُ، أَوْ مِنْ بِئْرٍ مَحْفُورَةٍ بِقُرْبِ النَّهْرِ، يَعْلَمُ أَنَّ مَاءَهَا مِنْهُ، حَنِثَ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَشْرَبُ مِنْ نَهْرِ كَذَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَاءَ، فَشَرِبَ مِنْ سَاقِيَةٍ تَخْرُجُ مِنْهُ، حَنِثَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ أَخَذَ الْمَاءَ فِي إِنَاءٍ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْجَرَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يُعْتَادُ الشُّرْبُ مِنْهُ، فَجَعَلَ مَاءَهُ فِي كُوزٍ وَشَرِبَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: لَا آكُلُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ، أَوْ لَا أَلْبَسُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ، لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِأَكْلِهِمَا أَوْ لُبْسِهِمَا [سَوَاءً لَبَسَهُمَا] مَعًا، أَوْ لَبَسَ أَحَدَهُمَا وَنَزَعَهُ، ثُمَّ لَبِسَ الْآخَرَ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَا أَكَلْتُهُمَا أَوْ لَا لَبَسْتُهُمَا، لَمْ يَبِرَّ إِلَّا بِأَكْلِهِمَا وَلُبْسِهِمَا. وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَعَمْرًا، وَلَا آكُلُ اللَّحْمَ وَالْعِنَبَ، لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا إِذَا أَكَلَهُمَا، أَوْ كَلَّمَهُمَا، إِلَّا إِذَا نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ تَجْعَلُهُمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا آكُلُهُمَا، وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَلَا عَمْرًا، وَلَا آكُلُ اللَّحْمَ وَلَا الْعِنَبَ، حَنِثَ بِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُمَا يَمِينَانِ تَنْحَلُّ إِحْدَاهُمَا بِالْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى. فَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ أَحَدَهُمَا، أَوْ قَالَ: وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَلَمْ يَقْصِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ، فَيَحْنَثُ إِذَا كَلَّمَ أَحَدَهُمَا، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَلَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ الْآخَرِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَكَذَا فِي الْإِثْبَاتِ إِذَا قَالَ: لَأَلْبَسَنَّ هَذَا الثَّوْبَ، وَهَذَا الثَّوْبَ، وَهَذَا فَهُمَا يَمِينَانِ، لِوُجُودِ

حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ حُكْمُهَا، وَفِي هَذَا تَوَقُّفٌ. وَلَوْ أَوْجَبَ حَرْفُ الْعَطْفِ كَوْنَهُمَا يَمِينَيْنِ، لَا كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُهُمَا، لَأُوجِبَ فِي قَوْلِهِ: لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَعَمْرًا وَلَا آكُلُ اللَّحْمَ وَالْعِنَبَ كَوْنُهُمَا يَمِينَيْنِ، لَا كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ هَذَيْنِ وَلَا آكُلُ هَذَيْنِ. فَرْعٌ قَالَ: لَا آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ بَعْضِهِ. وَلَوْ قَالَ: لَآكُلَنَّهُ، لَمْ يَبِرَّ إِلَّا بِأَكْلِ جَمِيعِهِ. فَلَوْ بَقِيَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مَا يُمْكِنُ الْتِقَاطُهُ وَأَكْلُهُ، لَمْ يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا آكُلُ مَا عَلَى هَذَا الطَّبَقِ مِنَ التَّمْرِ، فَأَكَلَ مَا عَلَيْهِ إِلَّا تَمْرَةً، لَا يَحْنَثُ وَإِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَرْكِ بَعْضِ الطَّعَامِ لِلِاحْتِشَامِ مِنِ اسْتِيفَائِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَآكُلَنَّ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ، فَتَرَكَ حَبَّةً، لَمْ يَبِرَّ، وَإِنْ قَالَ: لَا آكُلُهَا، فَتَرَكَ حَبَّةً، لَمْ يَحْنَثْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الرَّأْسَ أَوِ الرُّءُوسَ، أَوْ لَا يَشْتَرِيهَا، حُمِلَ عَلَى الَّتِي تَمَيَّزُ عَنِ الْأَبْدَانِ وَتُبَاعُ مُفْرَدَةً، وَهِيَ رُءُوسُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَفِي رُءُوسِ الْإِبِلِ وَجْهٌ شَاذٌّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، فَطَرَّدَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا تُبَاعُ فِيهِ إِلَّا رُءُوسُ الْغَنَمِ، لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِغَيْرِهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، فَإِنْ أَكَلَ رَأْسَ طَيْرٍ، أَوْ حُوتٍ، أَوْ ظَبْيٍ، أَوْ صَيْدٍ آخَرَ، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْمَشْهُورِ. فَإِنْ كَانَتْ رُءُوسُ الصَّيْدِ وَالْحِيتَانِ تُبَاعُ مُفْرَدَةً فِي بَلَدٍ، حَنِثَ بِأَكْلِهَا هُنَاكَ. وَهَلْ يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ؟ وَجْهَانِ رَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالرُّويَانِيُّ الْمَنْعَ، وَالْأَقْوَى الْحِنْثُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ. وَهَلْ يُعْتَبَرُ نَفْسُ الْبَلَدِ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ الْعُرْفُ، أَمْ كَوْنُ الْحَالِفِ مِنْ أَهْلِهِ؟ وَجْهَانِ. هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ قَصَدَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مَا يُسَمَّى رَأْسًا، حَنِثَ بِرَأْسِ السَّمَكِ وَالطَّيْرِ. وَإِنْ قَصَدَ نَوْعًا خَاصًّا، لَمْ يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ.

فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ، حُمِلَ عَلَى مَا يُزَايِلُ بَايَضَهُ وَهُوَ حَيٌّ، لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ، فَلَا يَحْنَثُ بِبَيْضِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ، وَيَحْنَثُ بِبَيْضِ الدَّجَاجِ، وَالنَّعَامِ، وَالْإِوَزِّ، وَالْعَصَافِيرِ، وَقِيلَ: لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِبَيْضِ الدَّجَاجِ، وَقِيلَ: بِالدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ. وَقَالَ الْإِمَامُ: الطَّرِيقَةُ الْمُرْضِيَةُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِمَا يُفْرَدُ بِالْأَكْلِ فِي الْعَادَةِ، دُونَ بَيْضِ الْعَصَافِيرِ وَالْحَمَامِ وَنَحْوِهَا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ خِصْيَةِ الشَّاةِ، لِأَنَّهَا لَا تُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَإِنْ خَرَجَتِ الْبَيْضَةُ وَهِيَ مُنْعَقِدَةٌ مِنَ الدَّجَاجَةِ، فَأَكَلَهَا، حَنِثَ، وَإِنْ أُخْرِجَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَأَكَلَهَا، فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْحِنْثُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ، حَنِثَ بِأَيِّ خُبْزٍ كَانَ، سَوَاءٌ فِيهِ خُبْزُ الْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَالذَّرَّةِ، وَالْبَاقِلَاءِ، وَالْأَرُزِّ، وَالْحُمُّصِ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ خُبْزٌ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ غَيْرَ مَعْهُودِ بَلَدِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا، حَنِثَ بِأَيِّ ثَوْبٍ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودَ بَلَدِهِ وَذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِخُبْزِ الْأَرُزِّ إِلَّا فِي طَبَرِسْتَانَ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ، وَنَسَبَهُ إِلَى الصَّيْدَلَانِيِّ، وَهِيَ نِسْبَةٌ بَاطِلَةٌ، وَغَلَطَ فِي النَّقْلِ، بَلِ الصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الصَّيْدَلَانِيُّ أَيْضًا. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيَحْنَثُ بِخُبْزِ الْبَلُّوطِ أَيْضًا، وَيَحْنَثُ بِأَكْلِ الْأَقْرَاصِ وَالرُّغْفَانِ وَخُبْزِ الْمِلَّةِ وَالْمُشَحَّمِ وَغَيْرِهِ، وَسَوَاءً أَكَلَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ أَوْ جَعَلَهُ ثَرِيدًا. لَكِنْ لَوْ صَارَ فِي الْمَرْقَةِ كَالْحَسْوِ،

فَتَحَسَّاهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَسَوَاءً ابْتَلَعَهُ بَعْدَ مَضْغٍ، أَوِ ابْتَلَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ، فَيَحْنَثُ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنْ مَضَغَهُ وَلَمْ يَبْتَلِعْهُ، لَمْ يَحْنَثْ، سَوَاءً أَدْرَكَ طَعْمَهُ أَمْ لَا. وَلَوْ أَكَلَ جَوْزَنِيقًا، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ، أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ لَوْ نُزِعَ مِنْهُ الْحَشْوُ صَارَ خُبْزًا، وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. قُلْتُ: وَالرُّقَاقُ وَالْبُقْسُمَاطُ وَالْبَسِيسَةُ. . . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ أَوْ لَا يَشْتَرِيهِ، لَمْ يَحْنَثْ بِشَحْمِ الْبَطْنِ وَشَحْمِ الْعَيْنِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِشَحْمِ الظَّهْرِ وَالْجَنْبِ، وَهُوَ الْأَبْيَضُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ الْأَحْمَرُ، لِأَنَّهُ لَحْمٌ سَمِينٌ. وَلِهَذَا يَحْمَرُّ عِنْدَ الْهُزَالِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الشَّحْمَ، حَنِثَ بِشَحْمِ الْبَطْنِ، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّحْمِ قَطْعًا، وَلَا بِشَحْمِ الظَّهْرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي زَيْدٍ وَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ عَرَبِيًّا، فَشَحْمُ الظَّهْرِ شَحْمٌ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهُ شَحْمًا، وَإِنْ كَانَ عَجَمِيًّا، فَهُوَ لَحْمٌ فِي حَقِّهِ. وَفِي شَحْمِ الْعَيْنِ وَجْهَانِ. وَيَدْخُلُ فِي الْيَمِينِ عَلَى اللَّحْمِ لَحْمُ النِّعَمِ، وَالْوَحْشِ، وَالطَّيْرِ الْمَأْكُولِ كُلِّهِ. وَفِيمَا لَا يُؤْكَلُ كَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالذِّئْبِ، وَالْحِمَارِ، وَغَيْرِهَا وَجْهَانِ، رَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالرُّويَانِيُّ الْمَنْعَ، وَالْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ الْحِنْثَ. قُلْتُ: الْمَنْعُ أَقْوَى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ السَّمَكِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَلْيَةَ لَيْسَتْ بِلَحْمٍ وَلَا شَحْمٍ. وَقِيلَ: لَحْمٌ. وَقِيلَ: شَحْمٌ، وَالسَّنَامُ كَالْأَلْيَةِ.

وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الْأَلْيَةِ، لَمْ يَحْنَثْ بِالسَّنَامِ، وَكَذَا الْعَكْسُ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الدَّسَمِ، تَنَاوَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْأَلْيَةِ وَالسَّنَامِ وَالْأَدْهَانِ كُلِّهَا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي اللَّحْمِ الْأَمْعَاءُ وَالطِّحَالُ وَالْكِرْشُ وَالْكَبِدُ وَالرِّئَةُ، وَلَا يَدْخُلُ الْمُخُّ قَطْعًا وَقَدْ يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ، وَلَا يَدْخُلُ الْقَلْبُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ الرَّأْسِ وَالْخَدِّ وَاللِّسَانِ وَالْأَكَارِعِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ لَحْمَ بَقَرٍ، حَنِثَ بِلَحْمِ الْجَامُوسِ وَبِالْبَقْرِ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ. وَقِيلَ: فِي الْوَحْشِيِّ وَجْهَانِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ الْحِمَارَ، فَرَكِبَ حِمَارَ الْوَحْشِ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِمَارَيْنِ جِنْسٌ فِي الرِّبَا أَمْ جِنْسَانِ وَقَدْ سَبَقَ فِي الرِّبَا وَجْهَانِ فِي أَنَّ الْجَرَادَ هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ اللُّحُومِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِمَا الْحِنْثُ بِأَكْلِهِ فِي يَمِينِ اللَّحْمِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ [بِعَدَمِ] الْحِنْثِ، لِعَدَمِ إِطْلَاقِ الِاسْمِ لُغَةً وَعُرْفًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ مَيْتَةً، لَمْ يَحْنَثْ بِالْمُذَكَّاةِ وَإِنْ حَلَّهَا الْمَوْتُ لِلْعُرْفِ. وَهَلْ يَحْنَثُ بِأَكْلِ السَّمَكِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لِلْحَدِيثِ أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِلْعُرْفِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ دَمًا، لَا يَحْنَثُ بِالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الزُّبْدَ، لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ السَّمْنِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ السَّمْنَ، لَا يَحْنَثُ بِالزُّبْدِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ، لَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ، وَيَدْخُلُ

فِي اللَّبَنِ لَبَنُ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدِ وَالْحَلِيبِ وَالرَّائِبِ وَالْمَاسِتِ وَالشِّيرَازِ وَالْمَخِيضِ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الشِّيرَازِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِهِ، وَفِي الْمَخِيضِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، فَإِنْ أَكَلَ الزُّبْدَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنْ كَانَ اللَّبَنُ ظَاهِرًا فِيهِ، حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَلَا. وَلَا يَحْنَثُ بِالسَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْمَصْلِ وَالْأَقْطِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرِيُّ: يَحْنَثُ بِكُلِّ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ اللَّبَنِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ السَّمْنَ، لَا يَحْنَثُ بِالْأَدْهَانِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الدُّهْنِ: لَمْ يَحْنَثْ بِالسَّمْنِ عَلَى الْأَصَحِّ. السَّابِعَةُ: حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الْجَوْزَ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: يَحْنَثُ بِالْجَوْزِ الْهِنْدِيِّ، قَالَ: وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ التَّمْرَ، لَمْ يَحْنَثْ بِالْهِنْدِيِّ، لِأَنَّ الْجَوْزَ الْهِنْدِيَّ قَرِيبٌ مِنَ الْجَوْزِ الْمَعْرُوفِ طَبْعًا وَطَعْمًا، بِخِلَافِ التَّمْرِ الْهِنْدِيِّ. وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْهِنْدِيِّ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ لَا يَحْنَثُ بِالْهِنْدِيِّ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الْخِيَارَ، لَا يَحْنَثُ بِهَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ: خِيَارُ شَنْبَرْ. الثَّامِنَةُ: كَمَا أَنَّ الْأَعْيَانَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، كَذَلِكَ الْأَفْعَالُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَا يَتَنَاوَلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالشُّرْبُ لَيْسَ بِأَكْلٍ، وَكَذَا الْعَكْسُ، فَإِذَا حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ، فَشَرِبَ مَاءً أَوْ غَيْرَهُ، أَوْ حَلَفَ: لَا يَشْرَبُ، فَأَكَلَ طَعَامًا، لَا يَحْنَثُ. وَاللَّبَنُ وَالْخَلُّ وَبَاقِي الْمَائِعَاتِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُهَا، فَأَكَلَهَا بِخُبْزٍ، حَنِثَ، أَوْ شَرِبَهَا لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ حَلَفَ:

لَا يَشْرَبُهَا، فَالْحُكْمُ بِالْعَكْسِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ سَوِيقًا، فَاسْتَفَّهُ، أَوْ تَنَاوَلَهُ بِمِلْعَقَةٍ أَوْ بِإِصْبَعٍ مَبْلُولَةٍ، حَنِثَ. وَلَوْ مَاثَهُ فِي الْمَاءِ وَشَرِبَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَشْرَبُ السَّوِيقَ، فَالْحُكْمُ بِالْعَكْسِ. وَلَوْ كَانَ السَّوِيقُ خَاثِرًا، بِحَيْثُ يُؤْخَذُ بِالْمَلَاعِقِ، فَتَحَسَّاهُ، فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشُرْبٍ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَطْعَمُ أَوْ لَا أَتَنَاوَلُ، دَخَلَ فِي الْيَمِينِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ جَمِيعًا. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ السُّكَّرَ، حَنِثَ بِنَفْسِ السُّكَّرِ، دُونَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، إِلَّا إِذَا نَوَى. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي التَّمْرِ وَالْعَسَلِ. ثُمَّ إِنِ ابْتَلَعَ السُّكَّرَ بِلَا مَضْغٍ، فَقَدْ أَكَلَهُ، كَمَا لَوْ أَكَلَ الْخُبْزَ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَإِنْ مَضَغَهُ وَازْدَرَدَهُ مَمْضُوغًا، حَنِثَ أَيْضًا، وَإِنْ وَضَعَهُ فِي فَمِهِ فَذَابَ وَنَزَلَ، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُسَمَّى أَكْلًا لِلسُّكَّرِ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الْعِنَبَ وَالرُّمَّانَ، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ عَصِيرِهِمَا وَشُرْبِهِ. وَلَوِ امْتَصَّهُمَا، وَرَمَى الثُّفْلَ، لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ آكِلًا. حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ السَّمْنَ، فَأَكَلَهُ وَهُوَ جَامِدٌ وَحْدَهُ، حَنِثَ، وَإِنْ شَرِبَهُ ذَائِبًا، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ أَكَلَهُ بِخُبْزٍ وَهُوَ جَامِدٌ أَوْ ذَائِبٌ، حَنِثَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَخَالَفَ فِيهِ الِاصْطَخْرِيُّ. وَإِنْ جَعَلَهُ فِي عَصِيدَةٍ أَوْ سَوِيقٍ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ وَنُصَّ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ خَلًّا، فَأَكَلَهُ سِكْبَاجًا، لَا يَحْنَثُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافٍ،

بَلْ إِنْ كَانَ السَّمْنُ ظَاهِرًا فِي الْعَصِيدَةِ وَالسَّوِيقِ يُرَى جِرْمُهُ، حَنِثَ وَهَذَا مُرَادُهُ بِنَصِّ السَّمْنِ، وَكَذَا حُكْمُ الْخَلِّ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا بِلَوْنِهِ، وَطَعْمِهِ، بِأَنْ أَكَلَ مَرْقَةً وَهِيَ حَامِضَةٌ وَإِنْ كَانَ السَّمْنُ أَوِ الْخَلُّ مُسْتَهْلَكًا، لَمْ يَحْنَثْ. وَهَذَا مُرَادُهُ بِنَصِّ الْخَلِّ. وَصَوَّرُوا ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَكَلَ لَحْمَ السِّكْبَاجِ أَوْ مَا فِيهِ مِنْ سَلْقٍ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ وَجْهَيْنِ أَوْ قَوْلَيْنِ فِيهِمَا. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْرَبُ، لَا يَحْنَثُ بِمُجَرَّدِ الذَّوْقِ، وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَذُوقُ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، حَنِثَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِتَضَمُّنِهُمَا الذَّوْقَ. وَإِنْ أَدْرَكَ طَعْمَ الشَّيْءِ بِالْمَضْغِ وَالْإِمْسَاكِ فِي الْفَمِ، ثُمَّ مَجَّهُ وَلَمْ يَنْزِلْ إِلَى حَلْقِهِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ، كَمَا لَا يُفْطِرُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَحْنَثُ، لِأَنَّ الذَّوْقَ إِدْرَاكُ الطَّعْمِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَذُوقُ، فَأُوجِرَ فِي حَلْقِهِ حَتَّى صَارَ فِي جَوْفِهِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَطْعَمُ كَذَا فَأَوْجَرَهُ، حَنِثَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: لَا جَعَلْتُهُ لِي طَعَامًا. التَّاسِعَةُ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْفَاكِهَةَ، حَنِثَ بِأَكْلِ الْعِنَبِ، وَالرُّمَّانِ، وَالرُّطَبِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالْكُمِّثْرَى، وَالْمِشْمِشِ، وَالْخَوْخِ، وَالْأَجَاصِ، وَالْأُتْرُجِّ، وَالنَّارِنْجِ، وَاللَّيْمُونِ، وَالنَّبْقِ، وَالْمَوْزِ، وَالتِّينِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَالْجَزَرِ، وَيَحْنَثُ بِالْبِطِّيخِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، لِأَنَّ لَهُ نُضْجًا وَإِدْرَاكًا، وَيَدْخُلُ فِي اسْمِ الْفَاكِهَةِ الرُّطَبُ وَالْيَابِسُ، كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالتِّينِ الْيَابِسِ، وَمَفْلَقِ الْخَوْخِ

وَالْمِشْمِشِ، وَهَلْ يَحْنَثُ بِلُبِّ الْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ وَغَيْرِهِمَا؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ يَابِسِ الْفَاكِهَةِ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الثِّمَارَ، حَنِثَ بِالرَّطْبِ دُونَ الْيَابِسَاتِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَحْنَثُ بِالْيَابِسِ فِي يَمِينِ الْفَاكِهَةِ أَيْضًا. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. الْعَاشِرَةُ: حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ، ثُمَّ حَلَفَ: لَيَأْكُلَنَّ مَا فِي كُمِّ زَيْدٍ، فَإِذَا هُوَ بَيْضٌ، فَجَعَلَهُ فِي النَّاطِفِ وَأَكَلَهُ كُلَّهُ، لَا يَحْنَثُ فِي وَاحِدَةٍ مِنَ الْيَمِينَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَكْلِ جَمِيعِهِ. فَرْعٌ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا النَّوْعِ: الرُّطَبُ لَيْسَ بِتَمْرٍ، وَالْعِنَبُ لَيْسَ بِزَبِيبٍ، وَعَصِيرُ الْعِنَبِ لَيْسَ بِعِنَبٍ، وَعَصِيرُ التَّمْرِ وَدُبْسُهُ لَيْسَ بِتَمْرٍ، وَالسِّمْسِمُ لَيْسَ بِشَيْرَجٍ، وَكَذَا الْعُكُوسُ. وَالرُّطَبُ لَيْسَ بِبُسْرٍ وَلَا بَلَحٍ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الرُّطَبَ، فَأَكَلَ الْمُنْصَفَ، نُظِرَ، إِنْ أَكَلَ النِّصْفَ الَّذِي أَرَطَبَ، حَنِثَ قَطْعًا، وَإِنْ أَكَلَ الْجَمِيعَ، حَنِثَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَخَالَفَ فِيهِ الِاصْطَخْرِيُّ، وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ. وَإِنْ أَكَلَ النِّصْفَ الَّذِي لَمْ يُرَطَّبْ، لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الْبُسْرَ، فَأَكَلَ الْمُنْصَفَ، فَفِيهِ هَذَا التَّفْصِيلُ، وَالْحُكْمُ بِالْعَكْسِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ بُسْرَةً وَلَا رَطْبَةً، فَأَكَلَ مُنْصِفًا، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ طَعَامًا، تَنَاوَلَ اللَّفْظُ الْقُوتَ وَالْأَدَامَ وَالْفَاكِهَةَ وَالْحَلْوَاءَ. وَفِي الدَّوَاءِ وَجْهَانِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ قُوتًا، حَنِثَ بِأَكْلِ مَا يُقْتَاتُ مِنَ الْحُبُوبِ، وَيَحْنَثُ بِالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَاللَّحْمِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْتَاتُهَا، وَحَلًّا فَوَجْهَانِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ إِدَامًا، حَنِثَ بِكُلِّ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ، سَوَاءً كَانَ مِمَّا يُصْطَبَغُ بِهِ، كَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ وَالشِّيرَجِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَالْمُرَبَّى، أَوْ لَا يُصْطَبَغُ بِهِ كَاللَّحْمِ وَالْجُبْنِ وَالْبَقْلِ وَالْبَصَلِ وَالْفُجْلِ وَالثِّمَارِ، وَكَذَا التَّمْرُ وَالْمِلْحُ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا.

وَاسْمُ الْمَاءِ يَتَنَاوَلُ الْعَذْبَ وَالْمِلْحَ، وَمِيَاهُ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَكَذَا مَاءُ الْبَحْرِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ. فَلَوْ حَلَفَ: لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْجَمْدِ وَالثَّلْجِ، وَيَحْنَثْ بِشُرْبِ مَائِهِمَا. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الْجَمْدَ وَالثَّلْجَ، لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِ مَائِهِمَا. وَالثَّلْجُ لَيْسَ بِجَمْدٍ، وَكَذَا الْعَكْسُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ مِمَّا طَبَخَهُ زَيْدٌ، فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْإِيقَادِ إِلَى الْإِدْرَاكِ، أَوْ وَضَعَ الْقِدْرَ فِي التَّنُّورِ بَعْدَ سَجْرِهِ، فَإِنْ أَوْقَدَ زَيْدٌ تَحْتَهُ حَتَّى أَدْرَكَ، أَوْ وَضَعَهَا فِي التَّنُّورِ فَأَكَلَ مِنْهُ، حَنِثَ، سَوَاءً وَجَدَ نَصْبَ الْقِدْرِ وَتَقْطِيعَ اللَّحْمِ، وَصَبَّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَجَمَعَ التَّوَابِلَ، وَسَجَّرَ التَّنُّورَ مِنْهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَوْ أَوْقَدَ، أَوْ وَضَعَ فِي التَّنُّورِ مَعَ غَيْرِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِالطَّبْخِ، وَكَذَا لَوْ أَوْقَدَ هَذَا سَاعَةً، وَهَذَا سَاعَةً. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ جَلَسَ الْحَاذِقُ بِالطَّبْخِ قَرِيبًا، وَاسْتَخْدَمَ صَبِيًّا فِي الْإِيقَادِ، وَقَلَّلَ أَوْ كَثَّرَ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، إِذْ يُضَافُ الطَّبْخُ هُنَا إِلَى الْأُسْتَاذِ. وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ مَا خَبَزَهُ فُلَانٌ، فَالِاعْتِبَارُ بِإِلْصَاقِهِ إِلَى التَّنُّورِ، لَا بِالْعَجْنِ وَسَجْرِ التَّنُّورِ وَتَقْطِيعِ الرُّغْفَانِ وَبَسْطِهَا. قُلْتُ: وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ ثَرِيدًا، لَمْ يَحْنَثْ بِخُبْزٍ غَيْرِ مَثْرُودٍ فِي مَرَقٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. النَّوْعُ الثَّالِثُ: فِي الْعُقُودِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، أَوْ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، أَوْ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، لَمْ يَحْنَثْ بِمَا مَلَكَهُ بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ رَجَعَ إِلَيْهِ بَرْدٌ بِعَيْبٍ أَوْ بِإِقَالَةٍ وَإِنْ جَعَلْنَا الْإِقَالَةَ بَيْعًا، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى بَيْعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِمَا خَلَصَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ

وَإِنْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا. وَيَحْنَثُ بِمَا مَلَكَهُ بِالتَّوْلِيَةِ وَالْإِشْرَاكِ وَالسِّلْمِ، لِأَنَّهَا بُيُوعٌ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا مَلَكَهُ بِالصُّلْحِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَدْخُلُ دَارًا اشْتَرَاهَا زَيْدٌ، لَمْ يَحْنَثْ بِدَارٍ مَلَكَ بَعْضَهَا بِالشُّفْعَةِ. وَلَا يَحْنَثُ بِمَ اشْتَرَاهُ لِزَيْدٍ وَكِيلُهُ، وَيَحْنَثُ بِمَا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ. وَلَوِ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ ثُمَّ بَاعَهُ، فَأَكَلَهُ، حَنِثَ، لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّ زَيْدًا اشْتَرَاهُ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ بَعْضَهُ وَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ وَلَوْ أَكَلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ جُزْءٍ إِلَّا وَقَدْ وَرَدَ عَلَيْهِ شِرَاءُ زَيْدٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ. وَقِيلَ: إِنْ أَكَلَ النِّصْفَ فَمَا دُونَهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَ أَكْثَرَ مِنْهُ، حَنِثَ، لِأَنَّا نَتَحَقَّقُ أَنَّهُ أَكَلَ مِمَّا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَا آكُلُ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، وَقَوْلِهِ: طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ. وَخَصَّ الْبَغَوِيُّ الْأَوْجُهَ بِمَا إِذَا قَالَ: مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، وَقَطَعَ بِعَدَمِ الْحِنْثِ فِيمَا إِذَا قَالَ: طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، قَالَ: إِلَّا أَنْ يُرِيدَ [أَنْ] لَا يَأْكُلَ طَعَامَهُ أَوْ مِنْ طَعَامِهِ، فَيَحْنَثُ بِالْمُشْتَرَكِ. وَلَوِ اشْتَرَى زِيدٌ طَعَامًا، وَعَمْرٌو طَعَامًا، وَخُلِطَا، فَأَكَلَ الْحَالِفُ مِنَ الْمُخْتَلِطِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا يَحْنَثُ وَإِنْ أَكَلَ الْجَمِيعَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ بِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ. وَالثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ الِاصْطَخْرِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إِنْ أَكَلَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، حَنِثَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَهُوَ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْقِدْرَيْنِ. وَالثَّالِثُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّهُ إِنْ أَكَلَ قَلِيلًا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا اشْتَرَاهُ عَمْرٌو، كَعَشْرِ حَبَّاتٍ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَعِشْرِينَ

حَبَّةٍ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَ قَدْرًا صَالِحًا، كَالْكَفِّ وَالْكَفَّيْنِ، حَنِثَ، لِأَنَّا نَتَحَقَّقُ أَنَّ فِيهِ مِمَّا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ. فَرْعٌ قَالَ: لَا أَسْكُنُ دَارًا لِزَيْدٍ، فَسَكَنَ دَارًا لَهُ فِيهَا حِصَّةٌ قَلِيلَةٌ، أَوْ كَثِيرَةٌ، لَا يَحْنَثُ. نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» . فَرْعٌ فِي تَعْلِيقَةِ إِبْرَاهِيمِ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ طَعَامَ زَيْدٍ، فَأَكَلَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، حَنِثَ، وَقَدْ سَبَقَ عَنِ الْبَغَوِيِّ مَا يُوَافِقُهُ، قَالَ: وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ زَيْدٍ، أَوْ لَا يَرْكَبُ دَابَّتَهُ، فَلَبِسَ أَوْ رَكِبَ مُشْتَرِكًا، لَمْ يَحْنَثْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَلَفَ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يَبِيعُ، فَوَكَّلَ مَنْ بَاعَ وَاشْتَرَى لَهُ، أَوْ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ، فَأَمَرَ مَنْ ضَرَبَهُ، أَوْ حَلَفَ الْأَمِيرُ أَوِ الْقَاضِي: لَا يَضْرِبُ، فَأَمَرَ الْجَلَّادَ فَضَرَبَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَذَكَرَ الرَّبِيعُ أَنَّ الْحَالِفَ إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَوَلَّى الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، أَوِ الضَّرْبَ بِنَفْسِهِ كَالسُّلْطَانِ، أَوْ كَانَ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَا يَعْتَادُ الْحَالِفُ فِعْلَهُ، أَوْ لَا يَجِيءُ مِنْهُ، كَالْبِنَاءِ وَالتَّطْيِينِ، حَنِثَ إِذَا أَمَرَ بِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذَا قَوْلًا آخَرَ، وَأَثْبَتُ قَوْلَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ جَعْلِهِ قَوْلًا، وَلَوْ حَلَفَ: لَا يُزَوِّجُ، أَوْ لَا يُطَلِّقُ، أَوْ لَا يَعْتِقُ، فَوَكَّلَ وَعَقَدَ الْوَكِيلُ، فَكَالتَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ. وَلَوْ فَوَّضَ الطَّلَاقَ إِلَى زَوْجَتِهِ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ أَنَّهُ يَحْنَثُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ فِي التَّوْكِيلِ، لِأَنَّهُ فَوَّضَهُ إِلَى مَنْ لَا يَمْلِكُهُ، وَكَأَنَّهُ هُوَ الْمُطَلَّقُ. فَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا، أَوْ إِنْ شِئْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَفَعَلَتْ، أَوْ شَاءَتْ، حَنِثَ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهَا مُجَرَّدُ صِفَةٍ، وَهُوَ الْمُطَلَّقُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَتَزَوَّجُ، أَوْ لَا يَنْكِحُ، فَوَكَّلَ مَنْ قَبِلَ لَهُ نِكَاحَ امْرَأَةٍ، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا

الْمُتَوَلِّي. أَحَدُهُمَا: لَا، كَالْبَيْعِ، وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ هُنَا سَفِيرٌ مَحْضٌ، وَلِهَذَا يَجِبُ تَسْمِيَةُ الْمُوَكِّلِ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ قَبِلَ لِغَيْرِهِ نِكَاحًا، فَمُقْتَضَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْحِنْثُ، وَمُقْتَضَى الثَّانِي الْمَنْعُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي، فَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ فِيهِمَا، حَنِثَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ الَّذِي أَطْلَقَهُ جَمَاعَةٌ، وَقِيلَ: لَا يَحْنَثُ، وَقِيلَ: إِنْ صَرَّحَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُوَكَّلِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ نَوَاهُ وَلَمْ يُصَرِّحْ، حَنِثَ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ عَبْدًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، لَمْ يَحْنَثْ بِتَكْلِيمِ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ وَكِيلُهُ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ امْرَأَةً تَزَوَّجَهَا زَيْدٌ، فَكَلَّمَ مَنْ تَزَوَّجَهَا لِزَيْدٍ وَكِيلُهُ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، فِيمَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَتَزَوَّجُ، فَتَزَوَّجَ وَكِيلُهُ لَهُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يُكَلِّمُ زَوْجَةَ زَيْدٍ، حَنِثَ بِتَكْلِيمِ مَنْ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ بِلَا خِلَافٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الصُّوَرِ فِيمَنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى أَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يُفْعَلَ بِإِذْنِهِ، أَوْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يَأْمُرَ بِهِ، فَيَحْنَثُ إِذَا أَمَرَ بِهِ فَفُعِلَ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ مَعَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ لِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى الْآخَرِ مَجَازٌ. وَفِي هَذَا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ جَمِيعًا، وَهُوَ بَعِيدٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ جَمِيعًا، فَيُقَالُ: إِذَا نَوَى أَنْ لَا يَسْعَى فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، حَنِثَ بِمُبَاشَرَتِهِ، وَبِالْأَمْرِ بِهِ، لِشُمُولِ الْمَعْنَى وَإِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى إِرَادَةِ الْمَجَازِ فَقَطْ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ حَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ فِي جَوَازِ إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ، فَأَمَرَ غَيْرَهُ، فَحَلَقَهُ، فَقِيلَ: يَحْنَثُ لِلْعُرْفِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْخِلَافُ، كَالْبَيْعِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَبِيعُ مِنْ زَيْدٍ، فَبَاعَ مِنْ وَكِيلِهِ، أَوْ وَكَّلَ مَنْ بَاعَ مِنْ زَيْدٍ، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَبِيعُ لِزَيْدٍ مَالًا، فَبَاعَ مَالَهُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ بِحَجْرٍ، أَوِ امْتِنَاعِ الْحَاكِمِ، حَنِثَ. وَإِنْ بَاعَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، لَمْ يَحْنَثْ، لِفَسَادِ الْبَيْعِ. فَلَوْ وَكَّلَ زَيْدٌ وَكِيلًا فِي بَيْعِ مَالِهِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ، فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ الْحَالِفَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، نُصَّ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي حِنْثِ النَّاسِي. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ أَذِنَ لِوَكِيلِهِ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْهُ، حَنِثَ، لِأَنَّهُ بَاعَ لِزَيْدٍ يَعْنِي إِذَا عَلِمَ، أَوْ قُلْنَا: يَحْنَثُ النَّاسِي، وَإِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ عَنْ نَفْسِهِ، فَبَاعَ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبِعْ لِزَيْدٍ، بَلْ لِوَكِيلِهِ وَإِنْ أَطْلَقَ الْإِذْنَ فِي التَّوْكِيلِ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ مَنْ يُوكِّلُهُ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ، أَمْ وَكِيلُ الْوَكِيلِ؟ وَلَوْ قَالَ: لَا يَبِيعُ لِي زَيْدٌ مَالًا، فَوَكَّلَ الْحَالِفُ رَجُلًا فِي الْبَيْعِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ، فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ زَيْدًا، فَبَاعَ، حَنِثَ الْحَالِفُ، سَوَاءً عَلِمَ زَيْدٌ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ الْيَمِينَ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ زَيْدٍ، وَقَدْ فَعَلَهُ زَيْدٌ بِاخْتِيَارِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَلَفَ لَا يَبِيعُ، فَبَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا، أَوْ لَا يَهَبُ، فَوَهَبَ هِبَةً فَاسِدَةً، لَمْ يَحْنَثْ، وَتَنْزِلُ أَلْفَاظُ الْعُقُودِ عَلَى الصَّحِيحِ. هَذَا إِذَا أَطْلَقَ الْيَمِينَ، فَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إِلَى مَا لَا يَقْبَلُهُ، بِأَنْ حَلَفَ: لَا يَبِيعُ الْخَمْرَ، أَوِ الْمُسْتَوْلِدَةَ، أَوْ مَالَ زَوْجَتِهِ، أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، ثُمَّ أَتَى بِصُورَةِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ لَا يَتَلَفَّظَ بِلَفْظِ الْعَقْدِ مُضَافًا إِلَى مَا ذَكَرَهُ، حَنِثَ، وَإِنْ أَطْلَقَ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الْبَيْعَ هُوَ السَّبَبُ الْمُمَلَّكُ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْخَمْرِ، أَوِ الْمُسْتَوْلِدَةِ، أَوْ مَالِ زَوْجَتِهِ، أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، ثُمَّ أَتَى بِصُورَةٍ يَحْنَثُ بِصُورَةِ الْبَيْعِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِغَيْرِهِ حَكَاهُ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ»

وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَسَيَأْتِي خِلَافٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّهُ هَلْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ لَفْظِ الْعِبَادَاتِ كَصَوْمٍ وَصَلَاةٍ عَلَى الصَّحِيحِ؟ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَحُجَّ، يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ، لِأَنَّهُ مُنْعَقِدٌ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهِ كَالصَّحِيحِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا، لَمْ يَحْنَثْ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، ذَكَرَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. وَقَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَحْنَثُ. الرَّابِعَةُ: إِذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ، حَنِثَ بِكُلِّ تَمْلِيكٍ فِي الْحَيَاةِ خَالٍ عَنِ الْعِوَضِ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالرُّقْبَى وَالْعُمْرَى، لِأَنَّهَا أَنْوَاعٌ خَاصَّةٌ مِنَ الْهِبَةِ، وَقِيلَ: لَا يَحْنَثُ بِمَا سِوَى الْهِبَةِ. وَقِيلَ: يَحْنَثُ بِالرُّقْبَى وَالْعُمْرَى دُونَ الصَّدَقَةِ، حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ تَخْتَلِفَانِ اسْمًا وَمَقْصُودًا وَحُكْمًا. أَمَّا الِاسْمُ، فَلِأَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ لَا يُقَالُ: وَهَبَ لَهُ، وَأَمَّا الْمَقْصُودُ، فَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْهِبَةُ لِاكْتِسَابِ الْمَوَدَّةِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَيَأْكُلُ الْهِبَةَ وَالْهَدِيَّةَ. هَذَا فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى الزَّكَاةَ، أَوْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، فَلَا يَحْنَثُ، كَمَا لَوْ أَدَّى دَيْنًا. وَعَنِ الْقَفَّالِ تَرْدِيدُ جَوَابٍ فِيهِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَا يَحْنَثُ بِالْإِعَارَةِ، إِذْ لَا تَمْلِيكَ فِيهَا، وَلَا بِالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَحْنَثُ وَلَا بِالضِّيَافَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: يَحْنَثُ بِالْوَصِيَّةِ. وَفِي الضِّيَافَةِ وَجْهٌ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّيْفَ يَمْلِكُ مَا يَأْكُلُهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَلَا يَحْنَثُ بِالْوَقْفِ عَلَيْهِ إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِيهِ لِلْوَاقِفِ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَإِنْ قُلْنَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، حَنِثَ. وَقِيلَ: فِيهِ خِلَافٌ. وَلَوْ قَالَ الْحَالِفُ لِرَجُلٍ: وَهَبْتُكَ كَذَا فَلَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتِمَّ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ

يُقَالُ: وَهَبَهُ كَذَا، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَخَرَجَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا أَعْمَرَهُ أَوْ أَرْقَبَهُ، وَلَمْ نُصَحِّحِ الْعَقْدَيْنِ. وَلَوْ تَمَّ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي الْهِبَةِ، لَكِنْ لَمْ تُقْبَضْ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُتَوَلِّي: يَحْنَثُ لِأَنَّ الْهِبَةَ حَصَلَتْ، وَالْمُتَخَلِّفُ الْمِلْكُ. وَعِنْدَ الْبَغَوِيِّ: لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْهِبَةِ لَمْ يَحْصُلْ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ لَا يَحْنَثُ، وَصَحَّحَهُ آخَرُونَ غَيْرُ الْبَغَوِيِّ، مِنْهُمُ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَتَصَدَّقُ، فَتَصَدَّقَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، يَحْنَثُ، لِشُمُولِ الِاسْمِ، وَسَوَاءً تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ أَوْ غَنِيٍّ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ دَفَعَ إِلَى ذِمِّيٍّ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ لَا قِرْبَةَ فِيهِ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ، وَيَحْنَثُ بِالْإِعْتَاقِ دُونَ الْإِعَارَةِ وَالضِّيَافَةِ، وَفِي الْهِبَةِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِهَا كَعَكْسِهِ. وَأَصَحُّهُمَا، لَا. وَالصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ تَتَدَاخَلَانِ تَدَاخُلَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَكُلُّ صَدَقَةٍ هِبَةٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ. وَلَوْ وَقَفَ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُبْنَى عَلَى الْأَقْوَالِ فِي مِلْكِ الْوَقْفِ لِمَنْ هُوَ؟ إِنْ قُلْنَا: لِلْوَاقِفِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى، حَنِثَ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجْهَانِ، كَالْهِبَةِ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَبِرُّ فُلَانًا، دَخَلَ فِي الْيَمِينِ جَمِيعُ التَّبَرُّعَاتِ مِنَ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْإِعَارَةِ وَالضِّيَافَةِ وَالْوَقْفِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، فَيَحْنَثُ بِأَيِّهَا وُجِدَ وَلَوْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَبْدَهُ، فَأَعْتَقَهُ، حَنِثَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَأَبْرَأَهُ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ الزَّكَاةَ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يُعْتِقُ عَبْدًا فَكَاتَبَهُ، وَعُتِقَ بِالْأَدَاءِ، لَمْ يَحْنَثْ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَضْمَنُ لِفُلَانٍ مَالًا، فَكَفَلَ بَدَنَ مَدْيُونِهِ، لَمْ يَحْنَثْ.

الْخَامِسَةُ: حَلَفَ: لَا مَالَ لَهُ، حَنِثَ بِكُلِّ مَالٍ حَتَّى ثِيَابِ بَدَنِهِ، وَدَارِهِ الَّتِي يَسْكُنُ فِيهَا، وَعَبْدِهِ الَّذِي يَخْدِمُهُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ حَالٌّ عَلَى مَلِيءٍ مُقِرٍّ، حَنِثَ، كَالْوَدِيعَةِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَخَرَجَ فِيهِ وَجْهٌ مِنْ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ: لَا زَكَاةَ فِي الدَّيْنِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ عَلَى مُعْسِرٍ، أَوْ جَاحِدٍ، حَنِثَ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ. وَقِيلَ: فِي الْجَاحِدِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: إِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ، حَنِثَ قَطْعًا، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ آبِقٌ، أَوْ مَالٌ ضَالَّةٌ، أَوْ مَغْصُوبٌ، أَوْ مَسْرُوقٌ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهَا، فَفِي الْحِنْثِ وَجْهَانِ، لِتَعَارُضِ أَصْلِ بَقَائِهَا، وَعَدَمِ الْحِنْثِ. وَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ حَاضِرًا، وَالْمَالِكُ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِزَاعِ مِنْهُ، أَوْ عَلَى بَيْعِهِ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ، حَنِثَ قَطْعًا، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي. وَلَوْ كَانَ لَهُ مُدَبَّرٌ أَوْ مُعَلَّقٌ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَصَّى بِهِ، حَنِثَ، لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْمُكَاتَبِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُقَالُ: الْأَظْهَرُ، وَقِيلَ: قَطْعًا، وَيَحْنَثُ بِأُمِّ الْوَلَدِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ رَقَبَتَهَا لَهُ، وَلَهُ مَنَافِعُهَا، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا. وَلَوْ كَانَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةً بِوَصِيَّةٍ أَوْ إِجَارَةٍ، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يَحْنَثْ بِالْمَوْقُوفِ إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْوَاقِفِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ، فَكَالْمُسْتَوْلِدَةِ. وَلَوْ كَانَ قَدْ جَنَى عَلَيْهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا، أَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ، حَنِثَ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، وَلَمْ يَقْتَصَّ وَلَمْ يَعْفُ، قَالَ فِي «الْبَيَانِ» يُحْتَمَلُ أَنْ يُبْنَى عَلَى أَنَّ مُوجَبَ الْعَمْدِ مَاذَا؟ إِنْ قُلْنَا: الْقَوْدُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْدُ أَوِ الْمَالُ، حَنِثَ، وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي هَذَا. قُلْتُ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِأَنْ لَا حِنْثَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَكَوْنُ الْمَالِ مَرْهُونًا لَا يَمْنَعُ الْحِنْثَ، وَكَذَا عَدَمُ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يَحْنَثُ بِالْأُجْرَةِ الْمَقْبُوضَةِ إِذَا لَمْ تَنْقَضِ الْمُدَّةُ، وَغَلَّطَهُ ابْنُ كَجٍّ. فَرْعٌ [حَلَفَ] لَا مِلْكَ لَهُ، حَنِثَ بِالْآبِقِ وَالْمَغْصُوبِ، وَإِنْ [كَانَ] لَهُ زَوْجَةٌ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يُبْنَى عَلَى أَنَّ النِّكَاحِ هَلْ هُوَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ، أَوْ عَقْدُ حِلِّ؟ فَإِنْ قُلْنَا: تَمْلِيكٌ، حَنِثَ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا حِنْثَ إِذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ، لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الزَّوْجَةُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِالْكَلْبِ وَالسِّرْجِينَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَلَا بِالزَّيْتِ النَّجِسِ إِذَا لَمْ نُجِزْ بَيْعَهُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا رَقِيقَ لَهُ، أَوْ لَا عَبْدَ لَهُ، أَوْ لَا أَمَةَ لَهُ، وَلَهُ مُكَاتَبٌ، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَيَحْنَثُ بِمُدَبَّرٍ قَطْعًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الرَّابِعُ فِي الْإِضَافَاتِ وَالصِّفَاتِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ أَوْ بَيْتَهُ، أَوْ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَهُ، أَوْ لَا يَرْكَبُ دَابَّتَهُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: مُطْلَقُ الْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ مُقْتَضَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ، كَانَ إِقْرَارًا بِمِلْكِهِ. فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا مَسْكَنُهُ، لَا يُقْبَلُ، وَقَدْ تُضَافُ الدَّارُ وَالْبَيْتُ إِلَى الْإِنْسَانِ بِجِهَةِ أَنَّهَا مَسْكَنُهُ، لَكِنَّهُ مَجَازٌ، وَلِهَذَا يَصِحُّ نَفْيُ الْإِضَافَةِ مَعَ إِثْبَاتِ السُّكْنَى، فَيُقَالُ: هَذِهِ الدَّارُ لَيْسَتْ مِلْكَ زَيْدٍ، لَكِنَّهَا مَسْكَنُهُ. إِذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِدُخُولِ دَارٍ يَسْكُنُهَا زَيْدٌ بِإِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ الْمَسْكَنَ، وَيَحْنَثُ بِدُخُولِ دَارٍ يَمْلِكُهَا وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ مَسْكَنَهُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ مَسْكَنَ فُلَانٍ، حَنِثَ بِدُخُولِ مَسْكَنِهِ الْمَمْلُوكِ وَالْمُسْتَأْجَرِ. وَفِي الْمَغْصُوبِ وَجْهَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ سُكْنَاهُ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الْحِنْثُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَفِي دُخُولِ دَارِهِ الَّتِي لَا يَسْكُنُهَا أَوْجُهٌ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَحْنَثُ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ سَكَنَهُ وَلَوْ يَوْمًا، حَنِثَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَلَوْ أَرَادَ مَسْكَنَهُ الْمَمْلُوكَ، لَمْ يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ بِحَالٍ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، وَقَدْ وَقَفَ زَيْدٌ عَلَى غَيْرِهِ دَارًا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ قُلْنَا: الْوَقْفُ مِلْكٌ لِلْوَاقِفِ، حَنِثَ بِدُخُولِهَا، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ دَخَلَ دَارًا مَوْقُوفَةً عَلَى زَيْدٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَقْفُ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، حَنِثَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلَوْ دَخَلَ دَارًا لِمُكَاتَبِ زَيْدٍ، لَمْ يَحْنَثْ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ دَارَ الْمُكَاتَبِ، حَنِثَ بِدُخُولِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ مَالِكٌ نَافِذُ التَّصَرُّفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، فَبَاعَهَا زَيْدٌ، ثُمَّ دَخَلَهَا، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ دَارَ زَيْدٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ أَوْ أَجِيرَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ، فَكَلَّمَ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنِ الْعَبْدِ وَانْقِطَاعِ الْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، أَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ سَيِّدَ [هَذَا] الْعَبْدِ، أَوْ زَوْجَ هَذِهِ االْمَرْأَةِ، فَكَلَّمَ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ، لَمْ يَحْنَثْ. فَلَوِ اشْتَرَى زَيْدٌ بَعْدَ مَا بَاعَهَا دَارًا أُخْرَى، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: إِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الْأَوْلَى بِعَيْنِهَا، لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَيَّ دَارٍ تَكُونُ فِي مِلْكِهِ، حَنِثَ بِالثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَيَّ دَارٍ جَرَى عَلَيْهَا مِلْكُهُ، حَنِثَ بِأَيَّتِهَا دَخَلَ.

هَذَا كُلُّهُ إِذَا قَالَ: دَارَ زَيْدٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَا أَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ هَذِهِ، فَبَاعَهَا زَيْدٌ، ثُمَّ دَخَلَهَا، فَيَحْنَثُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى عَيْنِ تِلْكَ الدَّارِ، وَوَصَفَهَا بِإِضَافَةٍ قَدْ تَزُولُ، فَغَلَبَ التَّعْيِينُ كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ زَوْجَةَ زَيْدٍ هَذِهِ، أَوْ عَبْدَهُ هَذَا، فَكَلَّمَهُمَا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، يَحْنَثُ. وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ لَحْمَ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، وَأَشَارَ إِلَى شَاةٍ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِهَا، فَيَجِيءُ فِيهَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْبَقَرَةَ وَهِيَ شَاةٌ، لِأَنَّ الْعُقُودَ يُرَاعَى فِيهِ شُرُوطٌ وَتَعَبُّدَاتٌ لَا يُعْتَبَرُ مِثْلُهَا فِي الْأَيْمَانِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا هَذَا، فَبَدَّلَ اسْمَهُ، وَاشْتَهَرَ بِالِاسْمِ الْمُبَدَّلِ، ثُمَّ كَلَّمَهُ، حَنِثَ اعْتِبَارًا بِالتَّعْيِينِ. الثَّالِثَةُ: حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَدَخَلَهَا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ عَتِيقٍ أَوْ مُحْدَثٍ، وَذَلِكَ الْبَابُ بِحَالِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، فَلَوْ قُلِعَ الْبَابُ، وَحُوِّلَ إِلَى مَنْفَذٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: تُحْمَلُ الْيَمِينُ عَلَى الْمَنْفَذِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدُّخُولِ، فَإِنْ دَخَلَ مِنْهُ، حَنِثَ، وَإِنْ دَخَلَ مِنَ الْمَنْفَذِ الْمُحَوَّلِ إِلَيْهِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَالثَّانِي: يُحْمَلُ عَلَى الْبَابِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْخَشَبِ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُ حَقِيقَةٌ، فَيَحْنَثُ بِدُخُولِ الْمَنْفَذِ الْمُحَوَّلِ إِلَيْهِ دُونَ الْأَوَّلِ. وَالثَّالِثُ: يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْإِشَارَةَ وَقَعَتْ إِلَيْهِمَا، فَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ مَنْفَذٍ آخَرَ، وَإِنْ نُصِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْبَابُ، وَلَا بِدُخُولِ الْمَنْفَذِ الْأَوَّلِ، هَذَا إِذَا أَطْلَقَ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بَعْضَ هَذِهِ الْمَحَامِلِ، حُمِلَ عَلَيْهِ، وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ، وَلَوْ قَلَعَ الْبَابَ، وَلَمْ يُحَوَّلْ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، حَنِثَ بِدُخُولِ ذَلِكَ الْمَنْفَذِ عَلَى الْأَصَحِّ وَيُعَبَّرُ عَنِ الْخِلَافِ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَنْفَذِ، أَمْ بِالْبَابِ الْمَنْصُوبِ عَلَيْهِ؟ قَالَ الْمُتَوَلِّي: بِنَاءً عَلَيْهِ لَوْ قَالَ: لَا أَدْخُلُ هَذَا الْبَابَ، وَقُلْنَا: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَابِ

الْمَنْصُوبِ. فَنُقِلَ إِلَى دَارٍ أُخْرَى، فَدَخَلَهَا مِنْهُ، حَنِثَ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ: لَا أَدْخُلُ مِنْهُ حَيْثُ نُصِبَ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَدْخُلُ بَابَ هَذِهِ الدَّارِ، وَلَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ بَابِهَا، فَفُتِحَ بَابٌ جَدِيدٌ، فَدَخَلَهَا مِنْهُ، حَنِثَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَدْخُلُهَا مِنْ بَابِهَا، فَتَسَلَّقَ وَنَزَلَ مِنَ السَّطْحِ، لَمْ يَحْنَثْ. الرَّابِعَةُ: حَلَفَ: لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ عَبْدِ زِيدٍ، وَلَا يَدْخُلُ دَارَهُ، لَا يَحْنَثُ بِالدَّابَّةِ وَالدَّارِ الْمَجْعُولَيْنِ بِاسْمِ الْعَبْدِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ: فَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ دَابَّةً أَوْ دَارًا، بُنِيَ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَمْلِكُ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، حَنِثَ، وَإِلَّا، فَلَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَا يَحْنَثُ وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ لِأَنَّ مِلْكَهُ نَاقِصٌ، وَالسَّيِّدُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِزَالَتِهِ، فَكَأَنَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَصَارَ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ زَيْدٍ وَرَكِبَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ زَيْدٍ، فَرَكِبَ دَابَّةً مَلَّكَهَا زَيْدٌ لِعَبْدِهِ، إِنْ قُلْنَا: لَمْ يَمْلِكْ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِلَّا فَيَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ الْعَبْدِ، فَعُتِقَ وَرَكِبَ دَابَّةً يَمْلِكُهَا، فَقَطَعَ الْغَزَالِيُّ بِالْحِنْثِ، وَابْنُ كَجٍّ بِالْمَنْعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَرْكَبُ دَابَّةَ حُرٍّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ قَالَ: لَا أَرْكَبُ دَابَّةَ هَذَا، حَنِثَ، وَإِنْ قَالَ: دَابَّةَ عَبْدٍ، فَلَا، وَإِنْ قَالَ: دَابَّةَ هَذَا الْعَبْدِ، فَلْيَكُنْ عَلَى خِلَافٍ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الْعَبْدَ، فَعُتِقَ، ثُمَّ كَلَّمَهُ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَرْكَبُ سَرْجَ هَذِهِ الدَّابَّةِ، فَرَكِبَ السَّرْجَ الْمَعْرُوفَ بِهَا، حَنِثَ وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ أُخْرَى، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا إِذَا حَلَفَ عَلَى دَارٍ أَوْ خَانٍ مَنْسُوبٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعْرِيفِ، كَخَانِ أَبِي يَعْلَى عِنْدَنَا، وَكَدَارِ الْعَقِيقِيِّ بِدِمَشْقَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَلَفَ: لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا مَنَّ بِهِ فُلَانٌ عَلَيَّ، أَوْ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، فَلَبِسَ ثَوْبًا وَهَبَهُ لَهُ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ، حَنِثَ. وَلَوْ لَبِسَ مَا بَاعَهُ إِيَّاهُ بِمُحَابَاةٍ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِي نَقْصِ الثَّمَنِ لَا بِالثَّوْبِ. وَكَذَا لَوْ

بَاعَهُ ثَوْبًا ثُمَّ أَبْرَأَهُ مِنْ ثَمَنِهِ، فَلَبِسَهُ، أَوْ أَبْدَلَ الْمَوْهُوبَ، أَوِ الْمُوصَى بِهِ بِغَيْرِهِ، أَوْ بَاعَهُ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الْأَيْمَانَ تُبْنَى عَلَى الْأَلْفَاظِ، لَا عَلَى الْقُصُودِ الَّتِي لَا يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، وَلِهَذَا لَوْ مَنَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَحَلَفَ: لَا يَشْرَبُ لَهُ مَاءً مِنْ عَطَشٍ، فَشَرِبَهُ مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ، أَوْ أَكَلَ لَهُ طَعَامًا، أَوْ لَبِسَ لَهُ ثَوْبًا، لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُهُ، وَإِنْ كَانَ يَقْصِدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَضْعِ الِامْتِنَاعَ مِنْ جَمِيعِ هَذَا. السَّادِسَةُ: حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةٍ، أَوْ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا، فَلَبِسَ ثَوْبًا خِيطَ بِغَزْلِهَا، لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا سُدَاهُ مِنْ غَزْلِهَا، وَاللُّحْمَةُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ: لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ مِنْ غَزْلِهَا، حَنِثَ، بِخِلَافِ الْخَيْطِ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ. فَرْعٌ يُرَاعَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَنَظَائِرِهِمَا فِي تَنَاوُلِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِذَا قَالَ: لَا أَلْبَسُ مَا مُنَّ بِهِ عَلَيَّ، فَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِلُبْسِ مَا تَقَدَّمَتِ الْمِنَّةُ بِهِ بِالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا يَمُنُّ بِهِ فِيمَا بَعْدُ. وَإِذَا قَالَ: لَا أَلْبَسُ مَا غَزَلَتْهُ فُلَانَةُ، فَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِمَا غَزَلَتْهُ مِنْ قَبْلُ دُونَ مَا تَغْزِلُهُ فِيمَا بَعْدُ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ مَا يُمَنُّ بِهِ، أَوْ مَا تَغْزِلُهُ، حَنِثَ بِمَا تَحْدُثُ الْمِنَّةُ بِهِ وَغَزْلُهُ دُونَ مَا سَبَقَ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ مِنْ غَزْلِهَا، دَخَلَ فِيهِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ. السَّابِعَةُ: حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا، حَنِثَ بِلُبْسِ الْقَمِيصِ وَالرِّدَاءِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْجُبَّةِ وَالْقَبَاءِ وَنَحْوِهَا، وَسَوَاءٌ الْمَخِيطُ وَغَيْرُهُ، وَالْقُطْنُ وَالْكَتَّانُ وَالصُّوفُ وَالْإِبْرَيْسَمُ، وَسَوَاءً لَبِسَهُ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُعْتَادَةِ

أَوْ بِخِلَافِهَا، بِأَنِ ارْتَدَى أَوِ اتَّزَرَ بِالْقَمِيصِ، أَوْ تَعَمَّمَ بِالسَّرَاوِيلِ، وَلَا يَحْنَثُ بِلُبْسِ الْجُلُودِ وَمَا يُتَّخَذُ مِنْهَا، وَلَا بِلُبْسِ الْحُلِيِّ وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَلَا بِوَضْعِ الثَّوْبِ عَلَى الرَّأْسِ، وَلَا بِأَنْ يَفْرِشَهُ وَيَرْقُدَ عَلَيْهِ. وَلَوْ تَدَثَّرَ بِهِ، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى لُبْسًا، وَلَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ حُلِيًّا، حَنِثَ بِالسُّوَارِ وَالْخَلْخَالِ وَالطَّوْقِ وَالدُّمْلُجِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْمُتَّخَذِ مِنْ شَبَهٍ أَوْ حَدِيدٍ، وَيَحْنَثُ بِمِخْنَقَةِ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذَهَبٌ، وَلَا يَحْنَثُ بِتَقَلُّدِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى. وَفِي الْمِنْطَقَةِ الْمُحَلَّاةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا مِنْ حُلِيِّ الرَّجُلِ، وَيَحْنَثُ بِلُبْسِ الْخَرَزِ وَالسَّبَجِ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ قَوْمٍ يَعْتَادُونَ التَّحَلِّيَ بِهِمَا، كَأَهْلِ السَّوَادِ. وَفِي غَيْرِهِمْ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ غَيْرُ الْبَدَوِيِّ: لَا يَدْخُلُ بَيْتًا، فَدَخَلَ بَيْتَ شَعْرٍ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ شَيْئًا، حَنِثَ بِلُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْجُلُودِ وَفِي الدِّرْعِ وَالْخُفِّ وَالنَّعْلِ وَالْجَوْشَنِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَحْنَثُ، وَقَدْ يَطَّرِدُ الْخِلَافُ فِي الْحُلِيِّ وَالْقَلَنْسُوَةِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ قَمِيصًا، فَارْتَدَى أَوِ اتَّزَرَ بِقَمِيصٍ، حَنِثَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ فَتَقَهُ وَقَطَعَهُ وَارْتَدَى، أَوِ اتَّزَرَ بِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، لِفَوَاتِ اسْمِ الْقَمِيصِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ هَذَا الْقَمِيصَ، فَارْتَدَى بِهِ أَوِ اتَّزَرَ، أَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ هَذَا الرِّدَاءَ، فَاتَّزَرَ بِهِ، أَوْ تَعَمَّمَ، حَنِثَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِتَعَلُّقِ الْيَمِينِ بِعَيْنِ الْقَمِيصِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، وَكَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً، فَفَتَقَهُ وَاتَّخَذَ مِنْهُ نَوْعًا آخَرَ، بِأَنْ جَعَلَ الْقَمِيصَ رِدَاءً، أَوِ الرِّدَاءَ جُبَّةً أَوْ تِكَكًا، أَوِ الْخُفَّ نَعْلًا، ثُمَّ لَبِسَ الْمُتَّخَذَ، حَنِثَ عَلَى الْأَصَحِّ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ لَا يَلْبَسُهُ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ. فَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الثَّوْبَ، بَلْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ هَذَا الْقَمِيصَ، أَوْ هَذَا الرِّدَاءَ، فَفَتَقَهُ، وَاتَّخَذَ مِنْهُ نَوْعًا آخَرَ

وَلَبِسَهُ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا: لَا يَحْنَثُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي نَظَائِرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْنَثُ، فَأَعَادَ الْهَيْئَةَ الْأُولَى، فَفِي الْحِنْثِ الْوَجْهَانِ فِي الدَّارِ تُعَادُ بَعْدَ الِانْهِدَامِ بِذَلِكَ النَّقْصِ. وَلَوْ كَانَ قَالَ فِي يَمِينِهِ: لَا أَلْبَسُ هَذَا الْقَمِيصَ، أَوِ الثَّوْبَ قَمِيصًا، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ أَوِ الرِّدَاءَ رِدَاءً، فَإِنْ تَقَمَّصَ بِالْقَمِيصِ، أَوِ ارْتَدَى بِالرِّدَاءِ، حَنِثَ، وَإِنْ اتَّزَرَ بِالْقَمِيصِ أَوْ تَعَمَّمَ بِالرِّدَاءِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَا لَوِ اتَّخَذَ مِنَ الْقَمِيصِ غَيْرَ قَمِيصٍ، وَمِنَ الرِّدَاءِ غَيْرَ رِدَاءٍ، ثُمَّ لَبِسَهُمَا، وَلَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُهُ وَهُوَ قَمِيصٌ، فَارْتَدَى بِهِ، أَوْ تَعَمَّمَ أَوِ اتَّزَرَ، حَنِثَ، لِأَنَّهُ لَبِسَ وَهُوَ قَمِيصٌ، وَإِنْ اتَّخَذَ مِنْهُ غَيْرَ الْقَمِيصِ وَلَبِسَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. فَرْعٌ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ هَذَا الْقَمِيصَ، فَاتَّخَذَ مِنْهُ غَيْرَهُ وَلَبِسَهُ، يَجْرِيَانِ فِي صُوَرٍ. مِنْهَا: لَوْ أَشَارَ إِلَى صَبْرَةِ حِنْطَةٍ، وَقَالَ: لَا آكُلُ هَذِهِ، حَنِثَ بِأَكْلِهَا عَلَى هَيْئَتِهَا، وَبِأَكْلِهَا بَعْدَ الطَّحْنِ وَالْعَجْنِ وَالْخَبْزِ وَالطَّبْخِ. وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ حِنْطَةً، لَمْ يَحْنَثْ بِالْخُبْزِ وَالْعَجِينِ وَالدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ، وَيَحْنَثُ بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ نِيئَةً وَمَقْلِيَّةً وَمَطْبُوخَةً وَمَبْلُولَةً. وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ هَذِهِ الْحِنْطَةَ، حَنِثَ بِأَكْلِهَا نِيئَةً فَقَطْ، وَمَطْبُوخَةً، وَهَلْ يَحْنَثُ بِأَكْلِ دَقِيقِهَا وَسَوِيقِهَا وَعَجِينِهَا وَخُبْزِهَا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ بَعْضُهُمْ، لِزَوَالِ اسْمِ الْحِنْطَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ زَرَعَهَا وَأَكَلَ حَشِيشَهَا. أَوْ قَالَ: لَا آكُلُ هَذَا الْبَيْضَ، فَصَارَ فَرْخًا فَأَكَلَهُ، فَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، إِلَّا أَنَّ هُنَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهَا. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ، حَنِثَ بِأَكْلِ كُلِّ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا. وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ هَذَا الدَّقِيقَ، فَأَكَلَ عَجِينَهُ أَوْ خُبْزَهُ، أَوْ هَذَا الْعَجِينَ، فَأَكَلَ خُبْزَهُ، فَعَلَى الْخِلَافِ.

وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: لَا آكُلُ هَذَا الْحَيَوَانَ، فَذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ، حَنِثَ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ هَكَذَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ هَذَا الْغَزْلَ، فَلَبِسَ ثَوْبًا نُسِجَ مِنْهُ، حَنِثَ. وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ لَحْمَ هَذِهِ السَّخْلَةِ أَوِ الْخَرُوفِ، فَصَارَ كَبْشًا فَذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ، فَمَنْ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْحِنْطَةِ: يَحْنَثُ، قَالَ هُنَا: يَحْنَثُ، وَمَنْ قَالَ هُنَاكَ: لَا يَحْنَثُ، قَالَ هُنَا: وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَحْنَثُ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ، فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَصِيرِهِ شَابًّا، أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَصِيرِهِ شَيْخًا. وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ هَذَا وَأَشَارَ إِلَى عَبْدٍ فَعُتِقَ، ثُمَّ كَلَّمَهُ، حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ هَذَا الْعَبْدَ، فَعُتِقَ، فَهُوَ كَمَسْأَلَةِ السَّخْلَةِ. وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: لَا آكُلُ هَذَا الرُّطَبَ، فَصَارَ تَمْرًا، أَوْ هَذَا الْبُسْرَ فَصَارَ رُطَبًا، أَوِ الْعِنَبَ فَصَارَ زَبِيبًا، أَوْ لَا أَشْرَبُ هَذَا الْعَصِيرَ، فَصَارَ خَمْرًا، أَوْ هَذَا الْخَمْرَ فَصَارَ خَلًّا، أَوْ لَا آكُلُ هَذَا التَّمْرَ، فَاتَّخَذَ مِنْهُ عَصِيدَةً، ثُمَّ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَفِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَذَكَرَ الصَّيْدَلَانِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَصَّ عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ فِي مَسْأَلَةِ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ، وَعَلَى الْحِنْثِ فِي الصَّبِيِّ وَالسَّخْلَةِ. فَقِيلَ: قَوْلَانِ: وَقِيلَ: بِتَقْرِيرِ النَّصَّيْنِ. وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَسْأَلَةَ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ تَبَدُّلُ الِاسْمِ، وَفِي السَّخْلَةِ وَالصَّبِيِّ تَبَدُّلُ الصِّفَةِ، وَتَبَدُّلُ الصِّفَةِ لَا يُسْقِطُ الْحِنْثَ، وَالثَّانِي: أَنَّ التَّبَدُّلَ فِي الْأَوَّلِ بِمُعَالَجَةٍ، بِخِلَافِ الثَّانِي. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ الْخَاتَمَ، فَجَعَلَهُ فِي غَيْرِ الْخِنْصَرِ مِنْ أَصَابِعِهِ، فَعَنِ الْمُزَنِيِّ فِي «الْجَامِعِ» أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَتَابَعَهُ الْبَغَوِيُّ، وَقَاسَهُ عَلَى مَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ الْقَلَنْسُوَةَ، فَجَعَلَهَا فِي رِجْلِهِ، وَالَّذِي حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَحْنَثُ. الثَّامِنَةُ: حَلَفَ: لَا يَخْرُجُ فُلَانٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَأَذِنَ بِحَيْثُ لَمْ

يَسْمَحِ الْمَأْذُونُ لَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ وَخَرَجَ، فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْإِذْنَ وَالرِّضَى قَدْ حَصَلَ. وَقِيلَ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ مَنْصُوصٌ وَمُخَرَّجٌ: أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَهُوَ مَخَرَّجٌ مِنْ مَسْأَلَةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَذِنَ وَخَرَجَتْ وَهِيَ جَاهِلَةٌ بِالْإِذْنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْإِذْنِ لِيُثْبِتَهُ عِنْدَ التَّنَازُعِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ بِيَمِينِهَا فِي إِنْكَارِ الْإِذْنِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُصَدَّقُ، كَمَا لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ التَّعْلِيقِ. ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْوَرَعُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَعُدُّهَا مُطَلَّقَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَلِّقَهَا، لِأَنَّا حَكَمْنَا بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَكَيْفَ تَنْكِحُ غَيْرَهُ؟ بَلْ إِنْ كَانَ عَلَّقَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ، فَالْوَرَعُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ الْمُعَلِّقُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، وَأَرَادَ إِمْسَاكَهَا، رَاجَعَهَا، وَإِلَّا، طَلَّقَهَا لِتَحِلَّ لِلْأَزْوَاجِ، فَإِنْ رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ، فَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَنْكِحَهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَإِذَا نَكَحَهَا بَعْدَ زَوْجٍ، كَانَتْ عِنْدَهُ بِطَلْقَةٍ، فَإِنْ طَلَّقَهَا، لَمْ تَحِلَّ إِلَّا بِزَوْجٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِالْخُرُوجِ شَيْءٌ، وَقَدْ طَلَّقَهَا بَعْدَهُ ثَلَاثًا، وَالزَّوْجُ الثَّانِي قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّلَاثِ لَا أَثَرَ لَهُ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَخْرُجُ فُلَانٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَخَرَجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، حَنِثَ، وَإِنْ خَرَجَ بِإِذْنِهِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِذْنٍ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ، لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إِذْنِي أَوْ إِلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، إِنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ خَرَجَتْ بِالْإِذْنِ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ

عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ حَتَّى آذَنَ لَكِ، أَوْ إِلَى أَنْ آذَنَ لَكِ أَوْ إِلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَحُكِيَ قَوْلٌ أَوْ وَجْهٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالْقَفَّالِ، أَنَّهُ لَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِخُرُوجِهَا بِالْإِذْنِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ لَابِسَةً لِلْحَرِيرِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ غَيْرَ لَابِسَةٍ، لَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، حَتَّى لَوْ خَرَجَتْ بَعْدَهُ لَابِسَةً طُلِّقَتْ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ تَعَلَّقَتْ بِخُرْجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْأُولَى. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ غَيْرَ لَابِسَةٍ لِلْحَرِيرِ أَوْ لَابِسَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ لَابِسَةً تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ الْغَزَالِيِّ: لَوْ قَالَ إِنْ خَرَجْتِ بِلَا خُفٍّ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ بِخُفٍّ، لَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْإِذْنِ بِفَرْقٍ ضَعِيفٍ، فَالْوَجْهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا خَرَجْتِ، أَوْ كُلَّ وَقْتٍ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ مَرَّةً بِالْإِذْنِ، لَمْ تَنْحَلَّ الْيَمِينُ، لِأَنَّهَا صِيغَةُ تَكْرَارٍ. فَلَوْ قَالَ: أَذِنْتُ لَكِ فِي الْخُرُوجِ كُلَّمَا أَرَدْتِ، أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنْ تَجْدِيدِ الْإِذْنِ لِكُلِّ خَرْجَةٍ. وَلَوْ قَالَ: مَتَى خَرَجْتِ، أَوْ مَتَى مَا، أَوْ مَهْمَا، أَوْ أَيُّ وَقْتٍ، أَوْ أَيُّ حِينٍ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيَغُ لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَفِي «الرَّقْمِ» لِلْعَبَّادِيِّ: إِلْحَاقُ مَتَى مَا، وَمَهْمَا بِ «كُلَّمَا» وَهُوَ خِلَافُ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» . وَلَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَلْزَمِ التَّكْرَارُ أَيْضًا، بَلْ مَعْنَاهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ خَرَجْتِ، قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ وَإِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ كَمَا صَوَّرْنَا، ثُمَّ أَذِنَ لَهَا فِي الْخُرُوجِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الْإِذْنِ، وَخَرَجَتْ بَعْدَهُ، نُصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ وُجِدَ، فَزَالَ حُكْمُ الْيَمِينِ، وَالْمَنْعُ بَعْدَهُ لَا يُفِيدُ. وَرَأَى أَبُوبَكْرٍ الْفَارِسِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ تَنْزِيلَ النَّصِّ عَلَى مَا إِذَا قَالَ فِي التَّعْلِيقِ: حَتَّى آذَنَ لَكِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ إِذْنَهُ غَايَةَ الْيَمِينِ، وَقَدْ حَصَلَ الْإِذْنُ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: بِغَيْرِ إِذْنِي أَوْ إِلَّا بِإِذْنِي،

فَإِذَا رَجَعَ، ثُمَّ خَرَجَتْ، فَهَذَا خُرُوجٌ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا وُجِدَ بَعْدَ الْيَمِينِ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: قَوْلُهُ: إِلَّا بِإِذْنِي مُحْتَمِلٌ أَيْضًا لِلْغَايَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إِذْنِي لِغَيْرِ عِيَادَةٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ لِعِيَادَةٍ، ثُمَّ عَرَضَتْ حَاجَةٌ فَاشْتَغَلَتْ بِهَا، لَمْ تُطَلَّقْ. وَإِنْ خَرَجَتْ لِعِيَادَةٍ وَغَيْرِهَا. فَالْمَذْكُورُ فِي «الشَّامِلِ» مَنْسُوبًا إِلَى نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ الْأَصَحُّ. وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ لِغَيْرِ عِيَادَةٍ مَا هُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْهَا، لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا هُوَ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مَا يُغَايِرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، فَمَجْمُوعُ الْعِيَادَةِ وَالْحَاجَةِ الْأُخْرَى يُغَايِرُ مُجَرَّدَ الْعِيَادَةِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَإِنْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا لِعِيَادَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ، لِأَنَّهُ يَصْدُقُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ تَخْرُجْ لِلْعِيَادَةِ بَلْ لَهَا وَلِغَيْرِهَا. النَّوْعُ الْخَامِسُ فِي الْكَلَامِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ فَتَنَحَّ عَنِّي، أَوْ قُمْ أَوِ اخْرُجْ، أَوْ شَتَمَهُ، أَوْ زَجَرَهُ، حَنِثَ، سَوَاءً عَقَّبَ هَذَا لِلْيَمِينِ مُتَّصِلًا أَمْ فَصَلَهُ، لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ. وَقِيلَ: لَا يَحْنَثُ إِذَا وَصَلَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ تَأْكِيدُ الْيَمِينِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا، فَقَوْلَانِ: الْجَدِيدُ: لَا يَحْنَثُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَقِيلَ: الْقَدِيمُ إِنَّمَا هُوَ إِذَا نَوَى بِيَمِينِهِ الْمُكَاتَبَةَ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِي الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ، لَمْ يَحْنَثْ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ طَرَّدَهُمَا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ. وَيَجْرِيَانِ فِي الْإِشَارَةِ بِالرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَلَا فَرْقَ عَلَى الْجَدِيدِ بَيْنَ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ وَالنَّاطِقِ، وَإِنَّمَا أُقِيمَتْ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقَامَ النُّطْقِ لِلضَّرُورَةِ.

فَرْعٌ هِجْرَانُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَاسَلَهُ، فَهَلْ يَزُولُ الْإِثْمُ؟ نُظِرَ إِنْ كَانَتْ مُوَاصَلَتُهُمَا قَبْلَ الْهُجْرَانِ بِالْمُكَاتَبَةِ أَوِ الْمُرَاسَلَةِ، ارْتَفَعَ الْإِثْمُ، وَإِلَّا فَإِنْ تَعَذَّرَ الْكَلَامُ لِغَيْبَةِ أَحَدِهِمَا، فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ أَنْ يُهَاجِرَهُ، فَهَلْ يَحْنَثُ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَأَطْلَقَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ الْإِثْمُ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إِنَّمَا تَرْفَعَ الْإِثْمَ إِذَا خَلَتْ عَنِ الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ، وَإِلَّا، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَلَّمَهُ بِالشَّتْمِ وَالْإِيذَاءِ، فَإِنَّهُ لَا تَزُولُ بِهِ الْمُهَاجَرَةُ، بَلْ هُوَ زِيَادَةُ وَحْشَةٍ، وَتَأْكِيدٌ لِلْمُهَاجَرَةِ، وَلَا يَحْنَثُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ. قُلْتُ: تَحْرِيمُ الْمُهَاجَرَةِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمُهَاجَرَةُ لِحُظُوظِ النُّفُوسِ وَتَعَنُّتَاتِ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَهْجُورُ مُبْتَدِعًا أَوْ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ، فَلَا تَحْرُمُ مُهَاجَرَتُهُ أَبَدًا، وَكَذَا إِذَا كَانَ فِي الْمُهَاجَرَةِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، فَلَا تَحْرِيمَ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَرَى لِلسَّلَفِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَزُولُ التَّحْرِيمُ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» : وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ وَالرَّمْزُ كَالْمُكَاتَبَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْحِنْثِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يُكَلِّمُهُ، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ، حَنِثَ، لِأَنَّ السَّلَامَ كَلَامٌ، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ، فَإِنْ قَصَدَهُ بِالسَّلَامِ حَنِثَ. قَالَ فِي «الْبَيَانِ» وَيَجِيءُ أَنْ لَا يَحْنَثُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ السَّمْنَ، فَأَكَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ، لَا يَحْنَثُ وَإِنْ اسْتَثْنَى لَفْظًا، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ اسْتَثْنَاهُ بِالنِّيَّةِ،

لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، حَنِثَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَأْمُومِينَ، فَفِيهِ هَذَا التَّفْصِيلُ. وَلَوْ صَلَّى الْحَالِفُ خَلْفَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَسَبَّحَ لِسَهْوِهِ، أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ قَرَأَ آيَةً، فَهِمَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مِنْهَا مَقْصُودَهُ، فَإِنْ قَصَدَ الْقِرَاءَةَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِلَّا، فَيَحْنَثُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَلَفَ: لَا يَتَكَلَّمُ حَنِثَ بِتَرْدِيدِ الشِّعْرِ مَعَ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الشِّعْرَ كَلَامٌ، وَلَا يَحْنَثُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ اسْمَ الْكَلَامِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ. وَقِيلَ: يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْجُنُبِ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْكَلَامِ، وَلَا يَحْنَثُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: قَالَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ «التَّلْخِيصِ» : لَوْ قَرَأَ التَّوْرَاةَ الْمَوْجُودَةَ الْيَوْمَ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّا نَشُكُّ أَنَّ الَّذِي قَرَأَهُ مُبَدَّلٌ أَمْ لَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الثَّالِثَةُ: حَلَفَ: لَيُثْنِيَنَّ عَلَى اللَّهِ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ، فَطَرِيقُ الْبَرِّ أَيَقُولُ: لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ زَادَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ فِي آخِرِهِ: فَلَكَ الْحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى فَصَوَّرَ الْمُتَوَلِّي الْمَسْأَلَةَ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَأُثْنِيَنَّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَجَلِّ الثَّنَاءِ، أَوْ أَعْظَمِهِ، وَزَادَ فِي أَوَّلِ الذِّكْرِ سُبْحَانَكَ وَلَوْ قَالَ: لَأَحْمَدَنَّ اللَّهَ بِمَجَامِعِ الْحَمْدِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: بِأَجَلِّ التَّحَامِيدِ، فَطَرِيقُ الْبَرِّ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ وَلَوْ قَالَ: لَأُصَلِّيَنَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَطَرِيقُ الْبَرِّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كُلَّمَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ وَكُلَّمَا سَهَا عَنْ ذِكْرِهِ الْغَافِلُونَ. ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ.

فصل

قُلْتُ: أَمَّا الصُّورَتَانِ الْأُولَيَانِ، فَذَكَرَهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَلَيْسَ لَهُمَا دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ. وَمَعْنَى «يُوَافِي نِعَمَهُ» أَيْ: يُلَاقِيهَا، فَتَحْصُلُ مَعَهُ، «وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ» بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ، أَيْ: يُسَاوِي مَزِيدَ نِعَمِهِ وَمَعْنَاهُ: يَقُومُ لِشُكْرِ مَا زَادَ مِنَ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَدْ ذَكَرَهَا عَنْ إِبْرَاهِيمِ الْمَرْوَزِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ يَسْتَأْنِسُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَلَعَلَّهُ أَوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَهَا، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ أَنَّ أَفْضَلَ مَا يُقَالُ عَقِيبَ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِلَى آخِرِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ، فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَى آخِرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ حَلَفَ: لَا يُصَلِّي، فَهَلْ يَحْنَثُ بِالتَّحَرُّمِ بِالصَّلَاةِ أَمْ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَرْكَعَ؟ أَمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الصَّلَاةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا الْأَوَّلُ. وَلَوْ أَفْسَدَهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ، حَنِثَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يَحْنَثُ عَلَى الثَّالِثِ، وَلَا عَلَى الثَّانِي إِنْ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ، وَلَا يَجِيءُ الثَّانِي إِذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ. وَلَوْ أَحْرَمَ مَعَ إِخْلَالِهِ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ لِعَدَمِ انْعِقَادِهَا. وَلَوْ حَلَفَ: مَا صَلَّيْتُ وَقَدْ أَتَى بِصُورَةِ صَلَاةٍ فَاسِدَةٍ، لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا، وَصَلَّى، حَنِثَ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الصَّلَاةَ الْمُجَزَّئَةَ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُصَلِّي صَلَاةً، لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَفْرُغَ. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِسُجُودِ الشُّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ وَالطَّوَافِ، وَيَحْنَثُ بِالصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ، حَيْثُ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَصُومُ، فَهَلْ يَحْنَثُ بِأَنْ يُصْبِحَ صَائِمًا، أَوْ بِأَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ التَّطَوُّعِ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَمْ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُتِمَّ؟ فِيهِ الْخِلَافُ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِالْفَرَاغِ، فَهَلْ نَتَبَيَّنُ اسْتِنَادَ الْحِنْثِ إِلَى الْأَوَّلِ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْحَجِّ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَحْنَثُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ، أَمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ. وَعَلَى قِيَاسِ الثَّانِي اشْتِرَاطُ الرُّكُوعِ لِكَوْنِهِ مُعْظَمَ الرَّكْعَةِ يَجِيءُ وَجْهٌ ثَالِثٌ بِاشْتِرَاطِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَأَمَّا الِاعْتِكَافُ فَيَحْنَثُ بِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِيءَ خِلَافٌ فِي اشْتِرَاطِ سَاعَةٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُ لَحْظَةٍ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَقْرَأُ حَنِثَ بِمَا قَرَأَهُ وَلَوْ بَعْضَ آيَةٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - النَّوْعُ السَّادِسُ فِي تَأْخِيرِ الْحِنْثِ وَتَقْدِيمِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: حَلَفَ: لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا، فَلَا يَخْفَى الْبَرُّ إِنْ أَكَلَ غَدًا، وَالْحِنْثَ إِنْ أَخَّرَهُ عَنِ الْغَدِ مَعَ الْإِمْكَانِ. فَلَوْ تَلِفَ الطَّعَامُ قَبْلَ الْغَدِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِإِتْلَافِ أَجْنَبِيٍّ، فَقَدْ فَاتَ الْبَرُّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَيَخْرُجُ حِنْثُهُ عَلَى قَوْلِي الْمُكْرَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ الْمَنْصُوصُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَحْنَثُ، فَهَلْ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ لِحُصُولِ الْيَأْسِ، أَمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْغَدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ، فَقَطَعَ ابْنُ كَجٍّ بِالثَّانِي. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْسِرًا يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ، جَازَ أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ الْغَدِ عَنْ كَفَّارَتِهِ إِنْ قُلْنَا: يَحْنَثُ قَبْلَ الْغَدِ. قُلْتُ: وَمِنْ فَوَائِدِهِ لَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ أَوْ أَعْسَرَ، وَقُلْنَا: يُعْتَبَرُ فِي الْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْنَثُ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، فَهَلْ يَحْنَثُ إِذَا مَضَى مِنَ الْغَدِ زَمَنُ إِمْكَانِ الْأَكْلِ أَمْ قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ وَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، فَقِيلَ: هُوَ كَتَلَفِ الطَّعَامِ، فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنْ لَا حِنْثَ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِي كَلَامَ ابْنِ كَجٍّ وَالْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ زَمَنَ الْبَرِّ وَالْحِنْثَ. وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مَجِيءِ الْغَدِ وَقَبْلَ إِمْكَانِ الْأَكْلِ، فَهُوَ كَتَلَفِ الطَّعَامِ بَعْدَ مَجِيءِ الْغَدِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّفْصِيلِ، وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنْ لَا حِنْثَ. أَمَّا إِذَا تَلَفَ الطَّعَامُ أَوْ بَعْضُهُ بَعْدَ مَجِيءِ الْغَدِ، فَيَنْظُرُ، إِنْ كَانَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَكْلِ، فَهُوَ كَتَلَفِ الطَّعَامِ قَبْلَ الْغَدِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ. وَإِنْ تَلَفَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ، أَوْ مَاتَ الْحَالِفُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ، فَالْمَذْهَبُ الْحِنْثُ، لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنَ الْبَرِّ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: لَآكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ، وَتَمَكَّنَ مِنْ أَكْلِهِ وَلَمْ يَأْكُلْهُ حَتَّى تَلَفَ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ قَطْعًا. فَعَلَى هَذَا هَلْ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ، أَمْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ أَتْلَفَ الْحَالِفُ الطَّعَامَ قَبْلَ الْغَدِ بِأَكْلِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، أَوْ أَتْلَفَ بَعْضَهُ، حَنِثَ، وَهَلْ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ، أَمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْغَدِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ، هُمَا لَوْ تَلِفَ. وَلَوْ قَالَ: لَآكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ قَبْلَ غَدٍ، فَتَلَفَ قَبْلَ الْغَدِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ، حَنِثَ. وَهَلْ يَكُونُ حِنْثُهُ فِي الْحَالِ، أَمْ إِذَا جَاءَ أَوَّلُ الْغَدِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْدَلَانِيُّ. وَلَوْ قَالَ: لَآكُلَنَّهُ الْيَوْمَ، فَيُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْغَدِ.

الثَّانِيَةُ: قَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ، وَمَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ، نُظِرَ، إِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَفْعَلْ، حَنِثَ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَعَلَى قَوْلِي الْإِكْرَاهُ، كَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ وَالْمَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ غَدًا، وَمَاتَ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ أَوْ بَعْدَ مَجِيئِهِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَمَنْ أَثْبَتَ الْقَوْلَيْنِ إِذَا لَمْ يُقَيِّدْ بِالْغَدِ، أُثْبِتُهُمَا هُنَا، وَمَنْ قَطَعَ بِالْمَنْعِ، قَطَعَ بِالْمَنْعِ هُنَا أَيْضًا. وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ جَاءَ الطَّرِيقَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي مَسْأَلَةِ الطَّعَامِ وَمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ: لَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ، لَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَا عِنْدَ التَّقْيِيدِ بِالْغَدِ، لِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ بِالدَّفْعِ إِلَى الْوَرَثَةِ. وَلَوْ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ غَدًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَآكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا، فَطَرِيقُ الْبَرِّ وَالْحِنْثِ ظَاهِرٌ، وَمَوْتُ صَاحِبِ الْحَقِّ هُنَا كَتَلَفِ الطَّعَامِ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْقَضَاءِ، فَعَلَى قَوْلِي الْإِكْرَاهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ، فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ السَّابِقَانِ. فَإِنْ حَنِثْنَاهُ، فَهَلْ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ أَمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْغَدِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَمَوْتُ الْحَالِفِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ وَبَعْدَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّعَامِ. فَإِنْ حَنِثْنَاهُ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ كَوْنُ وَقْتِ الْحِنْثِ دَخَلَ وَهُوَ مَيِّتٌ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْيَمِينُ، وَكَانَتْ فِي الْحَيَاةِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا مُتَعَدِّيًا، فَتَلَفَ بِهَا إِنْسَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، يَجِبُ الضَّمَانُ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ. وَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، فَقَدْ فَوَّتَ الْبَرَّ، فَيَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ الْقَضَاءَ عَنِ الْغَدِ، وَهُوَ كَإِتْلَافِ الطَّعَامِ قَبْلَ الْغَدِ وَلَوْ أَبْرَأَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْإِبْرَاءُ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ، فَقَبِلَ، حَنِثَ لِتَفْوِيتِهِ الْبَرَّ بِاخْتِيَارِهِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْيَمِينِ: لَا يَمْضِي الْغَدُ، وَحَقُّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ،

لَمْ يَحْنَثْ، لِبَقَاءِ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَإِمْكَانِ قَضَائِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْتَاجُ الْإِبْرَاءُ إِلَى قَبُولٍ، سَقَطَ الدَّيْنُ. وَفِي الْحِنْثِ قَوْلَا الْإِكْرَاهِ، لِفَوَاتِ الْبَرِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَالْهِبَةُ فِي الْعَيْنِ وَالصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ، كَالْإِبْرَاءِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ. وَلَوْ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ غَدًا إِلَّا أَنْ تَشَاءَ أَنْ أُؤَخِّرَهُ، فَإِنْ قَضَاهُ غَدًا، بَرَّ، سَوَاءً شَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَمْ لَا. وَإِنْ لَمْ يُقْضِهِ فِي الْغَدِ، فَإِنْ شَاءَ صَاحِبُهُ تَأْخِيرَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الْغَدِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ، حَنِثَ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ أَنْ أُؤَخِّرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، فَالْحِنْثُ عَلَى قَوْلِي الْإِكْرَاهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ، فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ. وَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ الْغَدِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ مَشِيئَتَهُ، لَمْ يَحْنَثْ فِي الْحَالِ، لِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ يَقْضِ، حَنِثَ حِينَئِذٍ. وَلَوْ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ إِلَى الْغَدِ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ تَأْخِيرَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الْقَضَاءَ عَلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْغَدِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يَشَأْ صَاحِبُ الْحَقِّ تَأْخِيرَهُ، حَنِثَ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَيُطَلِّقَنَّ زَوْجَتَهُ غَدًا، فَطَلَّقَهَا الْيَوْمَ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ الثَّلَاثَ، فَالْبَرُّ مُمْكِنٌ، وَإِنْ اسْتَوْفَاهُ، فَقَدْ فَوَّتَ الْبَرَّ، فَيَحْنَثُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ عَنْ نَذْرٍ، فَحَلَفَ لَيُصَلِّينَّهَا غَدًا، فَصَلَّاهَا الْيَوْمَ، حَنِثَ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: لَأَقْضِيَّنَ حَقَّكَ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَوْ مَعَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَوْ عِنْدَ الِاسْتِهْلَالِ، أَوْ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَقَعُ عَلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنَ الشَّهْرِ، وَلَفْظَتَا «عِنْدَ» وَ «مَعَ» تَقْتَضِيَانِ الْمُقَارَنَةَ. فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ، حَنِثَ، فَيَنْبَغِي أَنْ

يُعِدَّ الْمَالَ وَيَتَرَصَّدَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَيَقْضِيهِ فِيهِ، وَحَكَى الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَجْهًا أَنَّ لَهُ فَسْخَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَيَوْمِهَا، لِأَنَّ اسْمَ رَأَسِ الْهِلَالِ وَالشَّهْرِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا أَخَذَ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَتَأَخَّرَ الْفَرَاغُ لِكَثْرَةِ الْمَالِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَبِمِثْلِهِ أُجِيبَ فِيمَا لَوِ ابْتَدَأَ حِينَئِذٍ بِأَسْبَابِ الْقَضَاءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، كَحَمْلِ الْمِيزَانِ. وَلَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ عَنِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى لِلشَّكِّ فِي الْهِلَالِ، فَبَانَ كَوْنُهَا مِنَ الشَّهْرِ، فَفِي الْحِنْثِ قَوْلَا حِنْثِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ. وَلَوْ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ أَوَّلَ الشَّهْرِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ. وَلَوْ قَالَ: أَوَّلَ الْيَوْمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلَوْ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ، أَوْ إِلَى رَمَضَانَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ تَقْدِيمَ الْقَضَاءِ عَلَى رَأْسِ الشَّهْرِ، وَعَلَى رَمَضَانَ. وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِهِ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ إِلَى حِينٍ، لَمْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ، بَلْ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: لَأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ، فَمَتَى قَضَاهُ، بَرَّ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ مَعَ التَّمَكُّنِ. وَلَوْ قَالَ: إِلَى زَمَانٍ أَوْ دَهْرٍ أَوْ حِقْبٍ، أَوْ أَحْقَابٍ، فَكَذَلِكَ، وَجَمِيعُ الْعُمْرِ مُهْلَةٌ لَهُ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُكَ حِينًا أَوْ دَهْرًا أَوْ زَمَانًا أَوْ حِقَبًا، بَرَّ بِأَدْنَى زَمَانٍ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ حِينٍ، طِلِّقَتْ إِذَا مَضَى لَحْظَةٌ. وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ: طَالِقٌ بَعْدَ حِينٍ تَعْلِيقٌ، فَيَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ مَا يُسَمَّى حِينًا. وَقَوْلُهُ: لَأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ، وَعُدَّ، وَالْوَعْدُ لَا يَخْتَصُّ بِأَوَّلِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَلَوْ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ إِلَى مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ، لَمْ يَتَقَدَّرْ أَيْضًا، وَهُوَ كَالْحِينِ. فَلَوْ قَالَ: إِلَى أَيَّامٍ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ: يُحْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ نِيَّةٌ.

وَقَالَ آخَرُونَ، مِنْهُمُ الْمُحَامِلِيُّ: هُوَ كَالْحِينِ، لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. يُقَالُ: أَيَّامُ الْعَدْلِ، وَأَيَّامُ الْفِتْنَةِ، فَلَا يَتَقَدَّرُ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا أَيَّامُ الْفِتْنَةِ وَنَحْوَهُ، فَتَخْرُجُ بِالْقَرِينَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. النَّوْعُ السَّابِعُ فِي الْخُصُومَاتِ وَنَحْوِهَا فِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: حَلَفَ لَا يَرَى مُنْكَرًا إِلَّا رَفَعَهُ إِلَى الْقَاضِي، فَلَهُ أَحْوَالٌ. إِحْدَاهَا: أَنْ يُعَيِّنَ الْقَاضِي فَيَقُولُ: إِلَى الْقَاضِي فُلَانٍ، فَإِذَا رَأَى مُنْكَرًا، لَا يَلْزَمُهُ الْمُبَادَرَةُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، بَلْ لَهُ مُهْلَةٌ مُدَّةَ عُمُرِهِ وَعُمُرِ الْقَاضِي، فَمَتَى رَفَعَهُ إِلَيْهِ، بَرَّ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّفْعِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِ مَعَ صَاحِبِ الْمُنْكَرِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَحْضُرَ وَحْدَهُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَيُخْبِرَهُ أَوْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا بِذَلِكَ فَيُخْبِرُهُ، أَوْ يَكْتُبَ بِهِ كِتَابًا (إِلَيْهِ) ، فَإِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ التَّمَكُّنِ، حَنِثَ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الرَّفْعِ لِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ، أَوْ جَاءَ إِلَى بَابِ الْقَاضِي فَحُجِبَ، فَفِيهِ قَوْلَا حِنْثِ الْمُكْرَهِ. وَلَوْ بَادَرَ بِالرَّفْعِ، فَمَاتَ الْقَاضِي قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ فَطَرِيقَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فِيهِ الْقَوْلَانِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يَحْنَثُ قَطْعًا وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ. وَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ فِي صُورَةِ الْمُبَادَرَةِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْقَاضِي، قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا كَفَّارَةَ بِلَا خِلَافٍ. فَلَوْ عُزِلَ ذَلِكَ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ وَهُوَ قَاضٍ، أَوْ تَلَفَّظَ بِهِ لَمْ يَبَرَّ بِالرَّفْعِ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعْزُولٌ، وَلَا يَحْنَثْ. وَإِنْ كَانَ تَمَكَّنَ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَلِيَ ثَانِيًا، وَالْيَمِينُ عَلَى التَّرَاخِي. فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يُوَلَّى، تَبَيَّنَّا الْحِنْثَ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ الْقَاضِي، وَذَكَرَ الْقَضَاءَ تَعْرِيفًا لَهُ، بَرَّ بِالرَّفْعِ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعْزُولٌ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَهَلْ يَبَرُّ بِالرَّفْعِ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعْزُولٌ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ قَالَ:

لَا أَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ هَذِهِ فَبَاعَهَا، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ تَغْلِيبًا لِلْعَيْنِ، فَلَا يَحْنَثُ هُنَا تَغْلِيبًا لِلْعَيْنِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: إِلَّا رَفَعْتُهُ إِلَى قَاضٍ، فَيَبِرُّ بِالرَّفْعِ إِلَى أَيِّ قَاضٍ كَانَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَغَيْرِهِ. الثَّالِثَةُ: يَقُولُ: إِلَّا رَفَعْتُهُ إِلَى الْقَاضِي، وَلَا يُعَيِّنُ أَحَدًا بِلَفْظِهِ وَلَا بِنِيَّتِهِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِقَاضِي الْبَلَدِ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا، بَلْ يَبَرُّ بِالرَّفْعِ إِلَى أَيِّ قَاضٍ كَانَ، وَالصَّحِيحُ اخْتِصَاصُهُ بِقَاضِي الْبَلَدِ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ. وَهَلْ يَتَعَيَّنُ قَاضِي الْبَلَدِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ، أَمْ يَقُومُ مَقَامَهُ مَنْ يَنْصِبُ بَعْدَهُ؟ وَجْهَانِ وَيُقَالُ: قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، حَتَّى لَوْ عُزِلَ الْأَوَّلُ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ يَبَرُّ بِالرَّفْعِ إِلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. فَإِذَا قُلْنَا: يَتَعَيَّنُ قَاضِي الْبَلَدِ فِي الْحَالِ، فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، هَلِ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْيَمِينِ، أَمْ بِحَالِ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضِيَانِ، وَجَوَّزْنَاهُ، فَيَرْفَعُ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. وَلَوْ رَأَى الْمُنْكَرَ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي الْمَرْفُوعِ إِلَيْهِ، قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَا مَعْنَى لِلرَّفْعِ إِلَيْهِ وَهُوَ يُشَاهِدُهُ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنَّمَا يَحْصُلُ الْبَرُّ بِأَنْ يُخْبِرَهُ [بِهِ] . وَلَوْ رَأَى الْمُنْكَرَ بَعْدَ اطِّلَاعِ الْقَاضِي عَلَيْهِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فَاتَ الْبَرَّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ أَجَابَ الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ يَبَرُّ بِالْإِخْبَارِ وَصُورَةِ الرَّفْعِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ. وَلَوْ لَمْ يَرَ الْحَالِفُ مُنْكَرًا حَتَّى مَاتَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَفِي حَالِ تَعْيِينِ الْقَاضِي. وَلَوْ لَمْ يَرَ مُنْكَرًا حَتَّى مَاتَ الْقَاضِي، فَكَذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ رَآهُ بَعْدَ عَزْلِهِ، فَإِنْ نَوَى الرَّفْعَ إِلَيْهِ فِي حَالِ الْقَضَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَصَدَ عَيْنَهُ، فَلْيُخْبِرْهُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَرْفَعُ مُنْكَرًا إِلَى الْقَاضِي فُلَانٍ، حَنِثَ بِالرَّفْعِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَاضٍ. فَلَوْ رَفَعَ بَعْدَ الْعَزْلِ، عَادَ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ. وَإِنْ قَالَ: إِلَى الْقَاضِي، فَهَلْ يُحْمَلُ

عَلَى قَاضِي الْبَلَدِ حِينَئِذٍ، أَمْ يَحْنَثُ بِالرَّفْعِ إِلَى مَنْ يُنَصَّبُ بَعْدَ عَزْلِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَلَفَ: لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرَانِ، أَحَدُهُمَا: فِي حَقِيقَةِ الْمُفَارَقَةِ، وَالْقَوْلِ فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي افْتِرَاقِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَنِ الْمَجْلِسِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْعَادَةِ. فَإِنْ فَارَقَ الْحَالِفُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ مُخْتَارًا، حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ. وَلَوْ فَارَقَهُ الْغَرِيمُ وَفَرَّ مِنْهُ، فَقِيلَ قَوْلَانِ كَالْمُكْرَهِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ سَوَاءً تَمَكَّنَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِهِ وَمَنْعِهِ أَوْ مِنْ مُتَابَعَتِهِ أَمْ لَا، بَلْ لَوْ كَانَتْ مُفَارَقَتُهُ بِإِذْنِ الْحَالِفِ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْغَرِيمِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: يَحْنَثُ إِنْ أَذِنَ لَهُ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يَحْنَثُ إِنْ أَمْكَنَهُ مَنْعُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: يَحْنَثُ إِنْ أَمْكَنَهُ مُتَابَعَتُهُ، لِأَنَّهُ بِالْمُقَامِ مُفَارِقٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ: وَلَوْ كَانَا يَتَمَاشَيَانِ، فَمَشَى الْغَرِيمُ، وَوَقَفَ الْحَالِفُ، فَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْفَارِقَةَ حَصَلَتْ بِحَرَكَةِ الْغَرِيمِ، لَا بِسُكُونِ الْحَالِفِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي أَجَابَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبَاهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ أَنَّهُ إِذَا مَضَى أَحَدُهُمَا فِي مَشْيِهِ وَوَقَفَ الْآخَرُ، حَنِثَ الْحَالِفُ، لِأَنَّهُ إِنْ وَقَفَ الْغَرِيمُ، فَقَدْ فَارَقَهُ الْحَالِفُ بِمَشْيِهِ، وَإِنْ وَقَفَ الْحَالِفُ فَقَدْ فَارَقَهُ بِالْوُقُوفِ لِأَنَّ الْحَادِثَ هُوَ الْوُقُوفُ، فَنَسَبَ الْمُفَارَقَةَ إِلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَا سَاكِنَيْنِ، فَابْتَدَأَ الْغَرِيمُ بِالْمَشْيِ، لِأَنَّ الْحَادِثَ هُنَاكَ الْمَشْيُ، وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا حِنْثَ بِمُفَارَقَةِ الْغَرِيمِ. فَلَوْ فَارَقَ الْحَالِفُ مَكَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ. أَمَّا إِذَا قَالَ: لَا تُفَارِقْنِي حَتَّى أَسْتَوْفِيَ مِنْكَ حَقِّي أَوْ حَتَّى تُوَفِّيَنِي حَقِّي، فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى فِعْلِ الْغَرِيمِ. فَإِنْ فَارَقَهُ الْغَرِيمُ مُخْتَارًا، حَنِثَ الْحَالِفُ، سَوَاءً كَانَتْ مُفَارَقَتُهُ بِإِذْنِهِ أَمْ دُونَ إِذْنِهِ. وَقِيلَ: إِنْ فَرَّ مِنْهُ، فَفِي حِنْثِهِ الْقَوْلَانِ فِي

الْمُكْرَهِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي الْفِرَارِ. فَإِنْ فَارَقَهُ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، خَرَجَ الْحِنْثُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ طَرِيقًا قَاطِعًا بِالْحِنْثِ، وَأَنَّ الِاخْتِيَارَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ فَرَّ الْحَالِفُ مِنَ الْغَرِيمِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَيَجِيءُ وَجْهٌ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْغَرِيمَ مُتَابَعَتُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، حَنِثَ. وَلَوْ قَالَ: لَا افْتَرَقْتُ أَنَا وَأَنْتَ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ، أَوْ لَا تَفْتَرِقُ لَا أَنَا وَلَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ فَالْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَأَيُّهُمَا فَارَقَ الْآخَرَ مُخْتَارًا، حَنِثَ الْحَالِفُ. فَإِنْ فَارَقَ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، فَفِيهِ الْخِلَافُ. وَلَوْ قَالَ: لَا افْتَرَقْنَا حَتَّى أَسْتَوْفِيَ، أَوْ لَا نَفْتَرِقُ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُفَارِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ. وَأَصَحُّهُمَا: يَحْنَثُ بِمُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: افْتَرَقَا. فَرْعٌ النَّظَرُ الثَّانِي فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، فَإِذَا قَالَ: لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ، ثُمَّ أَبْرَأَهُ وَفَارَقَهُ، حَنِثَ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْبَرَّ بِاخْتِيَارِهِ، وَهَلْ يُحْكَمُ بِالْحِنْثِ بِنَفْسِ الْإِبْرَاءِ، أَمْ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ؟ يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي نَظَائِرِهِ. وَلَوْ أَفْلَسَ الْغَرِيمُ، فَمَنَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ فَفَارَقَهُ، فَفِيهِ قَوْلَا حِنْثِ الْمُكْرَهِ. وَإِنْ فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ، حَنِثَ. وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ وَاجِبًا كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أُصَلِّي الْفَرْضَ، حَنِثَ. وَلَوْ أَحَالَهُ الْغَرِيمُ عَلَى رَجُلٍ، أَوْ أَحَالَ هُوَ عَلَى الْغَرِيمِ غَرِيمًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، ثُمَّ فَارَقَهُ، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْبِنَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ اسْتِيفَاءٌ أَمِ اعْتِيَاضٌ؟ إِنْ قُلْنَا: اسْتِيفَاءٌ، لَمْ يَحْنَثْ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْحِنْثِ بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ اسْتِيفَاءَ حَقِيقَةٍ وَحَيْثُ جَعَلْنَاهَا اسْتِيفَاءً، فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا كَالِاسْتِيفَاءِ فِي

الْحُكْمِ، لَكِنْ لَوْ نَوَى أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ وَعَلَيْهِ حَقٌّ، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ أَخَذَ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ، وَفَارَقَهُ، حَنِثَ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا ذَكَرْنَا، وَسَوَاءً كَانَتْ قِيمَةُ الْعِوَضِ مِثْلَ حَقِّهِ، أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ، وَإِنَّمَا اسْتَوْفَى بَدَلَهُ. وَإِنْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ وَكِيلِ الْغَرِيمِ، أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ تَبَرَّعَ بِهِ، وَفَارَقَهُ، حَنِثَ إِنْ كَانَ قَالَ: حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي. وَلَوِ اسْتَوْفَى ثُمَّ فَارَقَهُ، ثُمَّ وَجَدَ مَا اسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا، لَمْ يَحْنَثْ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ، بِأَنْ كَانَ حَقُّهُ الدَّرَاهِمَ، فَخَرَّجَ الْمَأْخُوذَ نُحَاسًا أَوْ مَغْشُوشًا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ، حَنِثَ، وَإِلَّا، فَعَلَى قَوْلِي النَّاسِي وَالْجَاهِلِ. فَرْعٌ حَلَفَ الْغَرِيمُ: لَيَقْضِيَنَّ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ، أَوْ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَقَّهُ، فَالْقَوْلُ فِي مُفَارَقَتِهِ مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا وَفِي الْحَوَالَةِ وَالْمُصَالَحَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يُعْطِيهِ حَقَّهُ، فَأَعْطَاهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ. وَلَوْ قَالَ: لَا يَأْخُذُ وَلَا يَسْتَوْفِي، فَأَخَذَ، حَنِثَ، سَوَاءً كَانَ الْمُعْطِي مُكْرَهًا أَوْ مُخْتَارًا. فَلَوْ كَانَ الْأَخْذُ مُكْرَهًا، فَفِيهِ الْخِلَافُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَلَفَ عَلَى الضَّرْبِ، تَعَلَّقَتِ الْيَمِينُ بِمَا يُسَمَّى ضَرْبًا، وَلَا يَكْفِي وَضْعُ الْيَدِ وَالسَّوْطِ وَرَفْعُهُمَا، وَلَا الْعَضُّ وَالْقَرْصُ وَنَتْفُ الشَّعْرِ. وَفِي الْوَكْزِ وَاللَّكْزِ وَاللَّطْمِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ

ضَرْبٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِيلَامُ، وَلِهَذَا يُقَالُ: ضَرَبَهُ وَلَمْ يُؤْلِمْهُ، بِخِلَافِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْإِيلَامُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا الزَّجْرُ، وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِيلَامٍ، وَالْيَمِينُ تَتَعَلَّقُ بِالِاسْمِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْإِيلَامُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. قُلْتُ: وَلَوْ ضَرَبَ مَيِّتًا، لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ ضَرَبَ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونًا أَوْ سَكْرَانَ، حَنِثَ، لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلضَّرْبِ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ حَلَفَ: لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةَ خَشَبَةٍ، أَوْ لَيَجْلِدَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَإِنْ شَدَّ مِائَةَ سَوْطٍ وَضَرَبَهُ بِهَا، فَقَدْ وَفَّى بِمُوجَبِ اللَّفْظِ، وَإِنْ ضَرَبَهُ بِعِثْكَالٍ عَلَيْهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، حَصَلَ الْبَرُّ إِنْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْجَمِيعَ أَصَابَ بَدَنَهُ. وَفِي الْمُرَادِ بِإِصَابَةِ الْجَمِيعِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُلَاقِيَ جَمِيعَ الْقُضْبَانِ بَدَنَهُ أَوْ مَلْبُوسَهُ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَنْكَبِسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، بِحَيْثُ يَنَالُهُ ثِقَلُ الْجَمِيعِ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ الْبَعْضِ حَائِلًا بَيْنَ بَدَنِهِ وَبَيْنَ الْبَعْضِ، كَالثِّيَابِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا لَا يَمْنَعُ تَأَثُّرَ الْبَشَرَةِ بِالضَّرْبِ. وَالثَّانِي: لَا يَكْفِي الِانْكِبَاسُ، بَلْ يُشْتَرَطُ مُلَاقَاةُ الْجَمِيعِ بَدَنَهُ أَوْ مَلْبُوسَهُ، وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ الْجَمِيعُ، لَمْ يَبَرَّ. وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَنَصَّ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَيَدْخُلَنَّ الدَّارَ الْيَوْمَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ، فَلَمْ يَدْخُلْ، وَمَاتَ زَيْدٌ وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ شَاءَ أَمْ لَا: أَنَّهُ يَحْنَثُ، فَقِيلَ بِتَقْرِيرِ النَّصَّيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ

فصل

الضَّرْبَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي الِانْكِبَاسِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لَا أَمَارَةَ لَهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا. وَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ هُنَا، وَيَحْنَثُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ. قُلْتُ: هَكَذَا صَوَّرَ الْجُمْهُورُ مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا شَكَّ، وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي أَنَّهُ إِذَا شَكَّ، حَنِثَ، وَإِنَّمَا لَا يَحْنَثُ عَلَى الْمَنْصُوصِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِصَابَةُ الْجَمِيعِ، وَهَذَا حَسَنٌ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، لِأَنَّ بَعْدَ هَذَا الضَّرْبِ شَكَّ فِي الْحِنْثِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَحْنَثُ، فَالْوَرَعُ أَنْ يَحْنَثَ نَفْسُهُ، فَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ حَلَفَ: لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ مَرَّةٍ فَضَرَبَهُ مَرَّةً بِالْعِثْكَالِ أَوْ بِالْمِائَةِ الْمَشْدُودَةِ، لَمْ يَبَرَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْرِبْهُ إِلَّا مَرَّةً. وَلَوْ حَلَفَ: لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ، لَمْ يَبَرَّ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ حَلَفَ: لَيَضْرِبَنَّهُ بِالسَّوْطِ، لَمْ يَبَرَّ بِالْعَصَا وَالشَّمَارِيخِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَوْطٍ. وَلَوْ قَالَ: مِائَةُ سَوْطٍ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَبَرُّ بِعِثْكَالٍ عَلَيْهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، وَإِنَّمَا يَبَرُّ بِأَنْ يَجْمَعَ مِائَةَ سَوْطٍ وَيَشُدَّهَا وَيَضْرِبَهُ بِهَا دُفْعَةً، أَوْ خَمْسِينَ وَيَضْرِبُهُ دُفْعَتَيْنِ، أَوْ سَوْطَيْنِ وَيَضْرِبُهُ بِهِمَا خَمْسِينَ مَرَّةً، بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ إِصَابَةَ الْجَمِيعِ عَلَى مَا سَبَقَ وَقِيلَ: يَبَرُّ بِالْعِثْكَالِ، كَمَا فِي لَفْظِ الْخَشَبَةِ. فَصْلٌ فِي حِنْثِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَالْمُكْرَهِ. فَإِذَا وُجِدَ الْقَوْلُ أَوِ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ أَوِ النِّسْيَانِ أَوِ الْجَهْلِ، سَوَاءً كَانَ الْحَلِفُ

فصل

بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا يَحْنَثُ. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ أَبُو حَامِدٍ الْقَاضِي وَالشَّيْخُ وَابْنُ كَجٍّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: لَا حِنْثَ قَطْعًا. وَقِيلَ: النَّاسِي أَوْلَى بِالْحِنْثِ مِنَ الْمُكْرَهِ. وَقِيلَ: عَكْسُهُ. وَقِيلَ: الْجَاهِلُ أَوْلَى بِالْحِنْثِ مِنَ النَّاسِي. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَحْنَثُ فِي الطَّلَاقِ دُونَ الْيَمِينِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا حِنْثَ، لَمْ تَنْحَلَّ الْيَمِينُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ الدَّارَ طَائِعًا وَلَا مُكْرَهًا وَلَا نَاسِيًا، حَنِثَ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ فَانْقَلَبَ فِي نَوْمِهِ وَحَصَلَ فِي الدَّارِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حُمِلَ قَهْرًا وَأُدْخِلَ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ كَالْمُكْرَهِ وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى دُخُولِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَ، وَلِهَذَا لَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ حُمِلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَكِنْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بَلْ أُدْخِلَ. وَلَوْ حُمِلَ بِأَمْرِهِ. حَنِثَ كَمَا لَوْ رَكِبَ دَابَّةً وَدَخَلَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِذَا وُجِدَ بِالْإِكْرَاهِ أَوِ النِّسْيَانِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ شَيْءٌ سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ عَلَى مُفَارَقَةِ الْغَرِيمِ. وَمِنْ صُوَرِ الْفِعْلِ جَاهِلًا أَنْ يَدْخُلَ دَارًا لَا يَعْرِفُ أَنَّهَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا، أَوْ حَلَفَ: لَا يُسَلِّمُ عَلَى زَيْدٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِي ظُلْمَةٍ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ زَيْدٌ. فَصْلٌ حَلَفَ: لَا يُسَلِّمُ عَلَى زَيْدٍ، فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِيهِمْ، فَفِي الْحِنْثِ قَوْلَا حِنْثِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فِيهِمْ

وَنَوَى السَّلَامَ عَلَيْهِ مَعَهُمْ، حَنِثَ، وَفِيهِ مَا حَكَيْنَا عَنِ الْبَيَانِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ، فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ وَقَصَدَهُ، فَأَمَّا إِذَا اسْتَثْنَاهُ بِلَفْظِهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ إِلَّا عَلَى زَيْدٍ، فَلَا يَحْنَثُ. وَإِنْ اسْتَثْنَاهُ بِنِيَّتِهِ، لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، حَنِثَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ عَلَى زَيْدٍ، فَدَخَلَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ فَاسْتَثْنَاهُ بِقَلْبِهِ، وَقَصَدَ الدُّخُولَ عَلَى غَيْرِهِ، حَنِثَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّلَامِ، أَنَّ الدُّخُولَ فِعْلٌ لَا يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، فَلَا يَنْتَظِمُ أَنْ يَقُولَ: دَخَلْتُ عَلَيْكُمْ إِلَّا عَلَى فُلَانٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَّا عَلَى فُلَانٍ. وَلَوْ دَخَلَ بَيْتًا فِيهِ زَيْدٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ فِيهِ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَا الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي. وَلَوْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَأَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ، وَإِنْ دَخَلَ لِشُغْلٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِي الْبَيْتِ، فَأَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ لِانْضِمَامِ قَصْدِ الشُّغْلِ إِلَى الْجَهْلِ. قَالَ الْإِمَامُ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَخَرَّجَ الرَّبِيعُ قَوْلًا، وَجَعَلَهُ كَالنَّاسِي. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْبَيْتِ، وَقَصَدَ الدُّخُولَ لِشُغْلٍ، فَقِيلَ: يَحْنَثُ قَطْعًا. وَقِيلَ: هُوَ كَمَا لَوْ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ وَاسْتَثْنَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ فِي بَيْتٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ زَيْدٌ، فَإِنْ خَرَجَ الْحَالِفُ فِي الْحَالِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِلَّا، فَقِيلَ: لَا يَحْنَثُ، وَقِيلَ: فِيهِ خِلَافٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ هَلْ هِيَ دُخُولٌ؟ وَأَجَابَ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إِنْ جُعِلَتْ دُخُولًا كَانَا كَالدَّاخِلَيْنَ مَعًا، فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا عَلَى الْآخَرِ. قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ حَسَنٌ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فصل

فَصْلٌ فِي أُصُولٍ تَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ صَبِيٍّ، وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا مُكْرَهٍ وَفِي السَّكْرَانِ الْخِلَافُ فِي طَلَاقِهِ، وَتَنْعَقِدُ يَمِينُ الْكَافِرِ. وَمَنْ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ الدَّارَ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا. فَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتَاقٍ، لَمْ تُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ، وَيُدَيَّنُ، وَيَلْحَقُ بِهِمَا الْإِيلَاءُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْآدَمِيِّ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ، قَبْلَ قَوْلِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ زَيْدًا، أَوْ مَنْ سِوَى زَيْدٍ، أَوْ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا، وَنَوَى طَعَامًا بِعَيْنِهِ، تَخَصَّصَتِ الْيَمِينُ بِمَا نَوَى، فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهِ. فَرْعٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا أَدْرِي عَلَى مَاذَا بَنَى الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَسَائِلَ الْأَيْمَانِ، إِنْ اتَّبَعَ اللُّغَةَ، فَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ بِرُءُوسِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ، وَإِنْ اتَّبَعَ الْعُرْفَ، فَأَهْلُ الْقُرَى لَا يَعُدُّونَ الْخِيَامَ بُيُوتًا. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرَوِيِّ وَالْبَدَوِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَتَبَّعَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ تَارَةً، وَذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِهَا وَشُمُولِهَا، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَتَارَةً يَتَّبِعُ الْعُرْفَ إِذَا اسْتَمَرَّ وَاطَّرَدَ. فَرْعٌ اللَّفْظُ الْخَاصُّ فِي الْيَمِينِ لَا يُعَمَّمُ بِالسَّبَبِ وَالنِّيَّةِ وَالْعَامِّ، وَقَدْ يَتَخَصَّصُ. مِثَالُ الْأَوَّلِ، إِذَا مَنَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِمَا نَالَ مِنْهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُ لَكَ مَاءً مِنْ عَطَشٍ، انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَاءِ مِنْ عَطَشٍ خَاصَّةً. فَلَا يَحْنَثُ بِطَعَامِهِ وَثِيَابِهِ، وَإِنْ نَوَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا تَقْتَضِي مَا نَوَاهُ. وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ مَا نَوَى

بِجِهَةٍ يُتَجَوَّزُ بِهَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْنَثُ بِكُلِّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ مَالِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَنَا بِاللَّفْظِ، وَيُرَاعَى عُمُومُهُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، وَخُصُوصُهُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ عَامًّا، وَعِنْدَهُ الِاعْتِبَارُ بِالسَّبَبِ دُونَ اللَّفْظِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعَامِّ فَتَارَةً يَكُونُ بِالنِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُ أَحَدًا وَنَوَى زَيْدًا. وَتَارَةً بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا آكُلُ الرُّءُوسَ، وَتَارَةً بِعُرْفِ الشَّرْعِ كَمَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: لَا أُصَلِّي عَلَى الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ. فَرْعٌ يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ بِحَقِيقَتِهِ، وَقَدْ يُصْرَفُ إِلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، وَقَالَ: أَرَدْتُ مَا يَسْكُنُهُ دُونَ مَا يَمْلِكُهُ، فَيُقْبَلُ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ إِذَا حَلَفَ بِطَلَاقٍ وَعِتَاقٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، وَتَارَةً لِكَوْنِ الْمَجَازِ مُتَعَارَفًا وَكَوْنِ الْحَقِيقَةِ بَعِيدَةً، وَمَثَّلَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِمَا إِذَا حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، تُحْمَلُ الْيَمِينُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ ثَمَرِهَا دُونَ الْوَرَقِ وَالْأَغْصَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مُتَعَارَفَةً، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ، يُحْمَلُ عَلَى لَحْمِهَا، فَلَا يَحْنَثُ بِلَبَنِهَا وَلَحْمِ وَلَدِهَا. فَرْعٌ قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ، وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ وَنَوَى التَّأْكِيدَ، فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ نَوَى بِالثَّانِي يَمِينًا أُخْرَى، أَوْ أَطْلَقَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةٌ أَمْ كَفَّارَتَانِ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ كَفَّارَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَإِنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ، لَا دَخَلْتُ الدَّارَ، لَا دَخَلْتُ الدَّارَ، فَإِنْ نَوَى التَّأْكِيدَ، فَيَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا إِنْ أَطْلَقَ، أَوْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ عَلَى الْمَذْهَبِ. فَرْعٌ قَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ عَلَى الْمَمْلُوكِ الْمُضَافِ يَعْتَمِدُ الْمَالِكَ دُونَ الْمَمْلُوكِ، وَالْمَعْقُودَةُ عَلَى غَيْرِ الْمَمْلُوكِ الْمُضَافِ يَعْتَمِدُ الْمُضَافَ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبِيدَ فُلَانٍ وَلَا عَبْدَ لَهُ، ثُمَّ مَلَكَ عَبِيدًا وَكَلَّمَهُمْ، حَنِثَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ، بَنِيهِ وَلَا ابْنَ لَهُ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ بَنُونُ فَكَلَّمَهُمْ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ الْيَمِينِ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ، ذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ يَحْنَثُ إِذَا كَلَّمَ وَاحِدًا، كَمَا إِذَا قَالَ: لَا آكُلُ الْخُبْزَ يَحْنَثُ بِمَا أَكَلَ مِنْهُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يُكَلِّمُ نَاسًا حُمِلَ عَلَى ثَلَاثَةٍ. فَرْعٌ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ النَّكِرَةِ لِمُغَايَرَتِهِمَا، فَإِذْ قَالَ: لَا يَدْخُلُ دَارِي أَحَدٌ، أَوْ لَا يَلْبَسُ ثَوْبِي أَحَدٌ، دَخَلَ فِي الْيَمِينِ غَيْرُ الْحَالِفِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْحَالِفُ، لِأَنَّهُ صَارَ مُعَرَّفًا بِإِضَافَةِ الدَّارِ أَوِ الْقَمِيصِ إِلَيْهِ، قَالُوا: لَوْ عَرَّفَ نَفْسَهُ بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ بِأَنْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ هَذَا الْقَمِيصَ أَحَدًا، أَوْ عَرَّفَ غَيْرَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ أَحَدٌ، أَوْ لَا يَلْبَسُ قَمِيصَهُ أَحَدٌ، لَمْ يَدْخُلِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ صَارَ مُعَرَّفًا. وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَا يَقْطَعُ هَذِهِ الْيَدَ أَحَدٌ، وَأَشَارَ إِلَى يَدِهِ، لَمْ يَدْخُلْ هُوَ، وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ، وَالسَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ فِي غَيْرِهَا مَا ذَكَرُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ

فصل

الصُّورَةُ الْأُولَى عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ هَلْ يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْخِطَابِ. قُلْتُ: الْوَجْهُ الْجَزْمُ بِكُلِّ مَا ذَكَرُوهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَفِي كُتُبِهِمْ أَنَّ كَلِمَةَ «أَوْ» إِذَا دَخَلَتْ بَيْنَ نَفْيَيْنِ، اقْتَضَتِ انْتِفَاءَهُمَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) ، وَإِذَا دَخَلَتْ بَيْنَ إِثْبَاتَيْنِ، اقْتَضَتْ ثُبُوتَ أَحَدِهِمَا، فَإِذَا قَالَ: لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ، فَأَيَّتُهُمَا دَخَلَهَا، حَنِثَ، وَإِنْ قَالَ: لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ أَوْ هَذِهِ، بَرَّ بِدُخُولِ إِحْدَاهُمَا. وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا دَخَلَتْ بَيْنَ نَفْيَيْنِ، كَفَى لِلْبَرِّ أَنْ لَا يَدْخُلَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَلَا يَضُرُّ دُخُولُ الْأُخْرَى، كَمَا أَنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ بَيْنَ إِثْبَاتَيْنِ، كَفَى لِلْبَرِّ أَنْ يَدْخُلَ إِحْدَاهُمَا، وَلَا يَضُرُّ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْأُخْرَى. وَلَوْ قَالَ: لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَبَدًا، وَلَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ الْأُخْرَى الْيَوْمَ، فَإِنْ دَخَلَ الْأُخْرَى الْيَوْمَ، بَرَّ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا الْيَوْمَ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْأُخْرَى، بَرَّ أَيْضًا. وَفِي «الْإِقْنَاعِ» لِلْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ. إِنْ أَكَلْتُ خُبْزًا أَوْ لَحْمًا يَرْجِعُ إِلَى مُرَادِهِ مِنْهُمَا، فَيَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِهِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ. حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى دَارٍ، فَانْهَدَمَتْ، حَنِثَ بِدُخُولِهِ عَرْصَتَهَا. وَلَوْ قَالَ: لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَانْهَدَمَتْ، نُظِرَ إِنْ بَقِيَتْ أُصُولُ الْحِيطَانِ وَالرُّسُومِ، حَنِثَ، وَإِنْ صَارَتْ فَضَاءً، فَدَخَلَهَا، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَجَعَلَهُ الْإِمَامُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ قَالَ: لَا آكُلُ هَذِهِ الْحِنْطَةَ، فَأَكَلَ دَقِيقَهَا.

وَكَذَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ دَارًا أَوْ بَيْتًا، فَدَخَلَ عَرْصَةً كَانَتْ دَارًا أَوْ بَيْتًا. وَلَوْ جُعِلَتِ الدَّارُ مَسْجِدًا، أَوْ بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا، لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهِ، وَلَوْ أُعِيدَتِ الدَّارُ بِغَيْرِ الْآلَةِ الْأُولَى، فَدَخَلَهَا، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أُعِيدَتْ بِتِلْكَ الْآلَةِ فَوَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الْحِنْثُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَشُمُّ الرَّيْحَانَ، حَنِثَ بِشَمِّ الضَّيْمَرَانِ دُونَ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْيَاسَمِينِ وَالنَّرْجِسِ وَالْمَرْزَنْجُوشِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا فِيمَا إِذَا ذَكَرَ الرَّيْحَانَ مُعَرَّفًا، فَأَمَّا إِذَا نَكَّرَهُ، فَقَالَ: لَا أَشُمُّ رَيْحَانًا، فَيَحْنَثُ بِهَا كُلِّهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ، وَمِنْ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَلَا يَحْنَثُ مُطْلَقًا بِمَا بَعْدَ الضَّيْمَرَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَشُمُّ مَشْمُومًا، حَنِثَ بِشَمِّ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَا يَحْنَثُ بِشَمِّ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالْعُودِ وَالصَّنْدَلِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَشُمُّ الْوَرْدَ وَالْبَنَفْسَجَ، فَشَمَّهُمَا بَعْدَ الْجَفَافِ، فَوَجْهَانِ وَلَا يَحْنَثُ بِشَمِّ دُهْنِهِمَا. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَسْتَخْدِمُ زَيْدًا، فَخَدَمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ الْحَالِفُ ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ، سَوَاءٌ فِيهِ عَبْدُهُ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَتَسَرَّى فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: أَنَّ التَّسَرِّيَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: سَتْرُ الْجَارِيَةِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَالْوَطْءُ وَالْإِنْزَالُ، وَالثَّانِي: يَكْفِي السَّتْرُ وَالْوَطْءُ، وَالثَّالِثُ: يَكْفِي الْوَطْءُ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَ جُنُبًا،

حَنِثَ. وَإِنْ حَلَفَ: لَيَقْرَأَنَّ، فَقَرَأَهُ جُنُبًا، بَرَّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَقْرَأَ فَقَرَأَ جُنُبًا، لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّذْرِ التَّقَرُّبُ، وَالْمَعْصِيَةُ لَا يُتَقَرَّبُ بِهَا. وَلَوْ حَلَفَ: لَيَقْرَأَنَّ جُنُبًا، بَرَّ بِالْقِرَاءَةِ جُنُبَا، وَإِنْ عَصَى وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَقْرَأَ جُنُبًا، لَغَا نَذْرَهُ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا أُصَلِّي عَلَى هَذَا الْمُصَلَّى، فَفَرَشَ فَوْقَهُ ثَوْبًا وَصَلَّى عَلَيْهِ، فَإِنْ نَوَى أَنَّهُ لَا يُبَاشِرُهُ بِقَدَمَيْهِ وَجَبْهَتِهِ وَثِيَابِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِلَّا فَيَحْنَثُ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أُصَلِّي فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى عَلَى حَصِيرٍ فِيهِ، وَإِنْ عَلَّقَ بِهِ الطَّلَاقَ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ أَنِّي لَا أُبَاشِرُهُ، دِينَ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا شَهْرًا، فَوَلَّاهُ ظَهْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا زَيْدُ افْعَلْ كَذَا، حَنِثَ، وَلَوْ أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، وَقَالَ: يَا جِدَارُ افْعَلْ كَذَا، لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ إِفْهَامَ زَيْدٍ. وَكَذَا لَوْ أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ وَتَكَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ: يَا زَيْدُ وَلَا يَا جِدَارُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا، فَرَقَّعَ ثَوْبَهُ بِرُقْعَةِ كِرْبَاسٍ مِنْ غَزْلِهَا، حَنِثَ، وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ: لَا يَحْنَثُ وَتِلْكَ الرُّقْعَةُ تَبْعٌ. قُلْتُ: قَوْلُ أَبِي عَاصِمٍ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى لَابِسًا ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ تَعَمَّمَ بِعِمَامَةٍ، نُسِجَتْ مِنْ غَزْلِهَا، حَنِثَ إِنْ حَلَفَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ حَلَفَ بِالْفَارِسِيَّةِ، فَلَا، وَإِنْ الْتَحَفَ بِلِحَافٍ مِنْ غَزْلِهَا، لَمْ يَحْنَثْ. قُلْتُ: يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي التَّدَثُّرِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يَفْعَلُ كَذَا، فَفَعَلَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ، فَفِي الْحِنْثِ قَوْلَانِ.

فَرْعٌ فِي «الْمُبْتَدَأِ» فِي الْفِقْهِ لِلْقَاضِي الرُّويَانِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا أَدْخُلُ حَانُوتَ فُلَانٍ، فَدَخَلَ الْحَانُوتَ الَّذِي يُعْمَلُ فِيهِ وَهُوَ مِلْكُ غَيْرِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ: وَالْفَتْوَى أَنَّهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا الَّذِي يَسْكُنُهُ وَيَعْمَلُ فِيهِ. وَلَوْ قِيلَ لَهُ: كَلِّمْ زَيْدًا الْيَوْمَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُهُ، انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْأَبَدِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْيَوْمَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَلَاقٍ وَقَالَ: أَرَدْتُ الْيَوْمَ، لَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ قَبُولُهُ فِي الْحُكْمِ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَرْعٌ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَسُلْطَانِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ إِنْ أَرَادَ الْقُدْرَةَ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَقْدُورَ، فَلَا، وَبِهِ نَقُولُ نَحْنُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَرَحْمَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أَرَادَ إِرَادَةَ النِّعْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَيَمِينٌ، وَإِنْ أَرَادَ الْفِعْلَ، فَلَا. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهَا أَوْ تَبُولَ، حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَلَوْ قَالَ: حَتَّى أَقْتُلَهَا أَوْ تُرْفَعَ مَيِّتَةً، حُمِلَ عَلَى أَشَدِّ الضَّرْبِ، وَيَظْهَرُ عَلَى أَصْلِنَا الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَيْضًا. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الْخَيْمَةَ، فَقُلِعَتْ وَنُصِبَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَدَخَلَهَا، حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَجْلِسُ عَلَى هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ أَوِ الْحَائِطِ، فَأُعِيدَ بِنَاؤُهُمَا بَعْدَ النَّقْضِ، فَجَلَسَ عَلَى الْمُعَادِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى مِقَصٍّ أَوْ سَيْفٍ [أَوْ] سِكِّينٍ فَكُسِرَ وَأُعِيدَتِ الصَّنْعَةُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ نَزَعَ مِسْمَارَ الْمِقَصِّ وَنِصَابَ السِّكِّينِ، وَأُعِيدَ مِسْمَارٌ آخَرُ، وَنِصَابٌ آخَرُ، حَنِثَ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَقْرَأُ

فِي الْمُصْحَفِ فَجُعِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقُلِّبَتْ أَوْرَاقُهُ، فَقَرَأَ فِيهِ، حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ، فَزِيدَ فِيهِ، فَدَخَلَ الزِّيَادَةَ، حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَكْتُبُ بِهَذَا الْقَلَمِ، فَكَسَرَهُ، ثُمَّ بَرَاهُ وَكَتَبَ بِهِ، لَمْ يَحْنَثْ وَبِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ نَقُولُ إِلَّا [فِي] مَسْأَلَةِ الْقَلَمِ. قُلْتُ: فِي مُوَافَقَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ زِيَادَةِ الْمَسْجِدِ، نُظِرَ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِدُخُولِهَا، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا حَالَةَ الْحَلِفَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ: إِنَّا نُخَالِفُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْقَلَمِ، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ مَذْهَبُنَا فِيهَا كَمَا ذَكَرُوهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ تَعْلِيقِهِ: وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ بِهَذَا الْقَلَمِ وَهُوَ مَبْرِيٌّ فَكَسَرَهُ، ثُمَّ بَرَاهُ وَكَتَبَ بِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُنْبُوبَةُ وَاحِدَةً، لِأَنَّ الْقَلَمَ اسْمٌ لِلْمَبْرِيِّ دُونَ الْقَصَبَةِ، وَإِنَّمَا تُسَمَّى الْقَصَبَةُ قَبْلَ الْبَرْيِ قَلَمًا مَجَازًا، لِأَنَّهَا سَتَصِيرُ قَلَمًا، قَالَ: وَكَذَا إِذَا قَالَ: لَا أَقْطَعُ بِهَذَا السِّكِّينِ، فَأَبْطَلَ حَدَّهَا، وَجَعَلَهُ فِي ظَهْرِهَا، وَقَطَعَ بِهَا لَمْ يَحْنَثْ. قَالَ: وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَسْتَنِدُ إِلَى هَذَا الْحَائِطِ، فَهُدِمَ، ثُمَّ بُنِيَ وَاسْتَنَدَ، إِنْ بُنِيِ بِتِلْكَ الْآلَةِ، حَنِثَ، وَإِنْ أُعِيدَ بِغَيْرِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا، لَمْ يَحْنَثْ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ زَيْدٍ، فَكَسْبُهُ مَا يَتَمَلَّكُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، الْعُقُودِ دُونَ مَا يَرِثُهُ. وَلَوْ كَسَبَ شَيْئًا وَمَاتَ، فَوَرِثَهُ الْحَالِفُ وَأَكَلَهُ، حَنِثَ، وَلَوِ انْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ بِشِرَاءٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَكَ أَنْ لَا تُفَرِّقَ، وَيُشْتَرَطُ لِكَسْبِهِ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي مِلْكِهِ. وَأَنَّ الْحَلْوَاءَ كُلُّ حُلْوٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ حَامِضٌ، كَالْخَبِيصِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ دُونَ الْعِنَبِ وَالْإِجَاصِ وَالرُّمَّانِ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي إِطْلَاقِ الْحُلْوِ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ الْعَسَلُ وَالسُّكَّرُ فَالْحَلْوَاءُ غَيْرُ الْحُلْوِ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الصَّوَابُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: كَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. قَالَ الْعَبَّادِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الرَّقْمِ: لَوْ حَلَفَ عَلَى الْحَلْوَاءِ، دَخَلَ فِيهِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْفَانِيذِ وَالسُّكَّرِ وَالْعَسَلِ وَالدَّبْسِ وَالْقَنْدِ، وَفِي اللَّوْزِينَجِ وَالْجَوْزِينَجِ وَجْهَانِ، وَأَنَّ الشِّوَاءَ يَقَعُ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً دُونَ السَّمَكِ الْمَشْوِيِّ، وَأَنَّ الطَّبِيخَ يَقَعُ عَلَى اللَّحْمِ يُجْعَلُ فِي الْمَاءِ وَيُطْبَخُ، وَعَلَى مَرْقَتِهَا [وَ] عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الشَّحْمِ، وَلَوْ طُبِخَ عَدَسٌ أَوْ أُرْزٌ بِوَدْكٍ فَهُوَ طَبِيخٌ، وَإِنْ طُبِخَ بِزَيْتٍ أَوْ سَمْنٍ، فَلَيْسَ بِطَبِيخٍ. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّ الْكُلَّ طَبِيخٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَذَكَرَ الْعَبَّادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الْمَرَقَ، فَهُوَ مَا يُطْبَخُ بِاللَّحْمِ أَيِّ لَحْمٍ كَانَ، وَفِيمَا يُطْبَخُ بِالْكِرْشِ وَالْبُطُونِ وَالشَّحْمِ وَجْهَانِ. وَإِذَا حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الْمَطْبُوخَ، حَنِثَ بِمَا طُبِخَ بِالنَّارِ أَوْ أُغْلِيَ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْمَشْوِيِّ. وَالطَّبَاهِجَةُ مَشْوِيَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْغَدَاءَ: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى الزَّوَالِ، وَالْعَشَاءَ: مِنَ الزَّوَالِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَالسَّحُورَ: مَا بَيْنَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ. وَمِقْدَارُ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ أَنْ يَأْكُلَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ شَبَعِهِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَيَأْتِيَنَّهُ غُدْوَةً، فَهِيَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَالضَّحْوَةُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ حِينِ تَزُولُ كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَالصَّبَاحُ

مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى ارْتِفَاعِ الضُّحَى، وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي كَوْنِ الْعَشَاءِ مِنَ الزَّوَالِ، وَفِي مِقْدَارِ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، وَفِي امْتِدَادِ الْغُدْوَةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَفِي أَنَّ الضَّحْوَةَ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي تَحِلُّ فِيهَا الصَّلَاةُ. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يُكَلِّمُهُ، فَنَبَّهَهُ مِنَ النَّوْمِ، حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ وَهَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَلَوْ دَقَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ حَنِثَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ عِلْمِهِ بِهِ وَجَهْلِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُهُ الْيَوْمَ وَلَا غَدًا، لَمْ تَدْخُلِ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ فِي الْيَمِينِ، وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُهُ الْيَوْمَ وَغَدًا، دَخَلَتْ، وَالصَّوَابُ التَّسْوِيَةُ. قُلْتُ: يَعْنِي فِي عَدَمِ الدُّخُولِ وَهَذَا إِذَا لَمْ يَنْوِ مُوَاصَلَةَ الْهِجْرَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُهُ يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ، فَالْيَمِينُ عَلَى يَوْمَيْنِ، فَلَوْ كَلَّمَهُ فِي الثَّالِثِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَلَوْ قَالَ: يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ، فَالْيَمِينُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَيَهْدِمَنَّ هَذِهِ الدَّارَ، فَهَدَمَ سُقُوفَهَا، بَرَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَبْقَى مَا يُسَمَّى دَارًا. وَلَوْ حَلَفَ: لَيَهْدِمَنَّ هَذَا الْحَائِطَ الْيَوْمَ، أَوْ لَيَنْقُضَنَّهُ، اشْتَرَطَ هَدْمَهُ، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ مَا يُسَمَّى حَائِطًا. وَلَوْ حَلَفَ: لَيَكْسِرَنَّهُ، لَمْ يُشْتَرَطْ مَا يُزِيلُ اسْمَ الْحَائِطِ. فَرْعٌ حَلَفَ: لَا يَزُورُهُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا، فَشَيَّعَ جِنَازَتَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَفِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يَدْخُلُ دَارَهُ صُوفًا، فَأَدْخَلَ دَارَهُ كَبْشًا عَلَيْهِ صُوفٌ، أَوْ لَا يُدْخِلُهَا بَيْضًا، فَأَدْخَلَهَا دَجَاجَةً، فَبَاضَتْ فِي الْحَالِ،

لَمْ يَحْنَثْ. وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يَقْعُدُ مَعَهُ تَحْتَ سَقْفٍ، فَقَعَدَا تَحْتَ أَزْجٍ حَنِثَ، وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا يُفْطِرُ، فَمُطْلَقُ هَذَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا يَحْنَثُ بِالرِّدَّةِ وَالْجُنُونِ وَالْحَيْضِ وَدُخُولِ اللَّيْلِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب القضاء

كِتَابُ الْقَضَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِي التَّوْلِيَةِ وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي التَّوْلِيَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْقَضَاءُ وَالْإِمَامَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ قَامَ بِهِ مَنْ يَصْلُحُ، سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ، أَثِمُوا، وَأَجْبَرَ الْإِمَامُ أَحَدَهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: لَا يُجْبَرُ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، ثُمَّ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ تَحْرُمُ تَوْلِيَتُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّوَلِّي وَالطَّلَبُ، وَأَمَّا مَنْ يَصْلُحُ، فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَيَّنَ لِلْقَضَاءِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَطْلُبَهُ وَيُشْهِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الْإِمَامِ إِنْ كَانَ خَامِلًا، وَلَا يُعْذَرُ بِأَنْ يَخَافَ مَيْلَ نَفْسِهِ وَخِيَانَتَهَا، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْبَلَ وَيَحْتَرِزَ، فَإِنِ امْتَنَعَ، عَصَا، وَهَلْ يُجْبَرُ؟ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِيَامِ بِسَائِرِ فَرُوضِ الْكِفَايَةِ عِنْدَ التَّعَيُّنِ، فَإِنْ قِيلَ: امْتِنَاعُهُ مِنْ هَذَا الْوَاجِبِ الْمُتَعَيِّنِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ كَبِيرَةً، فَيَفْسُقُ بِهِ، وَيَخْرُجُ عَنِ الْأَهْلِيَّةِ، فَكَيْفَ يُوَلَّى وَيُجْبَرُ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ أَوَّلًا، فَإِذَا تَابَ، وُلِّي. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَا يَفْسُقُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ غَالِبًا إِلَّا مُتَأَوِّلًا، وَهَذَا لَيْسَ بِعَاصٍ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَصْلُحُ، فَذَلِكَ الْغَيْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلَحَ، وَأَوْلَى مِنْهُ، وَإِمَّا مِثْلَهُ، وَإِمَّا دُونَهُ فَإِنْ كَانَ أَصْلَحَ مِنْهُ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى هَلْ تَنْعَقِدُ لِلْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ لِلْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَالْأَصَحُّ الِانْعِقَادُ، لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ خَارِجَةٌ عَنْ شَرْطِ الْإِمَامَةِ. وَفِي الْقَضَاءِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ، وَأَوْلَى

بِالِانْعِقَادِ، فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ لِلْمَفْضُولِ الْقَضَاءَ حُرِّمَتْ تَوْلِيَتُهُ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَالْقَبُولُ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، جَازَ الْقَبُولُ. وَأَمَّا الطَّلَبُ، فَمَكْرُوهٌ، وَقِيلَ: حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَا يَتَوَلَّى، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ مِثْلُهُ، فَلَهُ الْقَبُولُ، وَلَا يَلْزَمُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَرُبَّمَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ وَأَمَّا الطَّلَبُ، فَإِنْ كَانَ خَامِلَ الذِّكْرِ، وَلَوْ تَوَلَّى، اشْتَهَرَ وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِعِلْمِهِ، اسْتُحِبَّ لَهُ الطَّلَبُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يُسْتَحَبُّ. وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِعِلْمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كِفَايَةٌ وَلَوْ وُلِّي، حَصَلَتْ كِفَايَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُسْتَحَبُّ، وَقِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ كِفَايَةٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَبَ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ: الْأَوْلَى تَرْكُهُ، ثُمَّ كَمَا يُكْرَهُ الطَّلَبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يُكْرَهُ الْقَبُولُ، وَلَوْ وُلِّي بِلَا طَلَبٍ، وَعَلَى هَذَا حُمِلَ امْتِنَاعُ السَّلَفِ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ دُونَهُ، فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ تَوْلِيَةَ الْمَفْضُولِ، فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهَا، اسْتُحِبَّ لَهُ الْقَبُولُ. وَفِي الْوُجُوبِ الْوَجْهَانِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الطَّلَبُ إِذَا وَثِقَ بِنَفْسِهِ، وَهَكَذَا حَيْثُ اسْتَحْبَبْنَا الطَّلَبَ وَالتَّوَلِّيَ أَوْ أَبَحْنَاهُمَا، فَذَلِكَ عِنْدَ الْوُثُوقِ، وَغَلَبَةِ الظَّنِّ بِقُوَّةٍ النَّفْسِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوْفِ، فَيَحْتَرِزُ. فَرْعٌ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَاضٍ مُتَوَلٍّ فَإِنْ كَانَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِجَوْرٍ أَوْ جَهْلٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا وَالطَّالِبُ يَرُومُ عَزْلَهُ، فَالطَّلَبُ حَرَامٌ، وَالطَّالِبُ مَجْرُوحٌ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قُلْتُ: وَسَوَاءً كَانَ فَاضِلًا أَوْ مَفْضُولًا إِذَا صَحَّحْنَا تَوْلِيَةَ الْمَفْضُولِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ حُكْمُ الطَّلَبِ بِلَا بَذْلٍ، فَلَوْ بَذَلَ مَالًا لِيَتَوَلَّى، فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الْقَاصِّ وَآخَرُونَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ، وَالصَّحِيحُ تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ، فَلَهُ بَذْلُ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الْآخِذَ ظَالِمٌ بِالْأَخْذِ، وَهَذَا كَمَا إِذَا تَعَذَّرَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا بِبَذْلِ مَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَحَبًّا، جَازَ لَهُ بَذْلُ الْمَالِ لِيَتَوَلَّى، وَيَجُوزُ لَهُ الْبَذْلُ بَعْدَ التَّوْلِيَةِ لِئَلَّا يُعْزَلَ، وَالْآخِذُ ظَالِمٌ بِالْأَخْذِ، وَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ لِعَزْلِ قَاضٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الْقُضَاةِ، فَمُسْتَحَبٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْلِيصِ النَّاسِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ أَخْذَهُ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ، وَإِنْ كَانَ بِصِفَتِهِمْ فَحَرَامٌ. فَإِنْ فَعَلَ، وَعُزِلَ الْأَوَّلُ، وَوُلِّيَ الْبَاذِلُ، قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: تَوْلِيَتُهُ بَاطِلَةٌ، وَالْمَعْزُولُ عَلَى قَضَائِهِ، لِأَنَّ الْعَزْلَ بِالرِّشْوَةِ حَرَامٌ، وَتَوْلِيَةُ الْمُرْشِي وَالرَّاشِي حَرَامٌ، وَلْيَكُنْ هَذَا عِنْدَ تَمَهُّدِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ، فَأَمَّا عِنْدَ الضَّرُورَاتِ، وَظُهُورِ فَرْعِ طُرُقِ الْفِتَنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ الْعَزْلِ وَالتَّوْلِيَةِ جَمِيعًا، كَتَوْلِيَةِ الْبُغَاةِ. فَرْعٌ طُرُقُ الْأَصْحَابِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي تَعَيُّنِ الشَّخْصِ لِلْقَضَاءِ وَعَدَمِ تَعَيُّنِهِ إِلَى الْبَلَدِ وَالنَّاحِيَةِ لَا غَيْرَ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ طَلَبُ الْقَضَاءِ بِبَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَ بِهَا صَالِحٌ، وَلَا قَبُولُهُ إِذَا وُلِّيَ وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَامِ بِسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْمُحْوِجَةِ إِلَى السَّفَرِ، كَالْجِهَادِ وَتَعَلُّمِ الْعِلْمَ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ تِلْكَ يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِهَا، وَالْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ، وَعَمَلُ الْقَضَاءِ لَا غَايَةَ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي صِفَاتِ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَفِيهَا فَصْلَانِ: الْأَوَّلُ: فِي صِفَاتِ الْقَاضِي وَلَهُ ثَمَانِيَةُ شُرُوطٍ أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ،

وَالثَّانِي: الذُّكُورَةُ، وَالثَّالِثُ: الِاجْتِهَادُ، فَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ جَاهِلٍ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَطُرُقِهَا الْمُحْتَاجِ إِلَى تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ لِمَنْ عَلِمَ أُمُورًا أَحَدُهَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِجَمِيعِهِ، بَلْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَلَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يُنَازِعُ ظَاهِرَ كَلَامِهِ فِيهِ. الثَّانِي: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا جَمِيعُهَا، بَلْ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْأَحْكَامِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهَا الْعَامَّ وَالْخَاصَّ، وَالْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ، وَالْمُجْمَلَ وَالْمُبَيَّنَ، وَالنَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَمِنْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرُ وَالْآحَادُ، وَالْمُرْسَلُ وَالْمُتَّصِلُ، وَحَالُ الرُّوَاةِ جَرْحًا وَتَعْدِيلًا. الثَّالِثُ: أَقَاوِيلُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِجْمَاعًا وَاخْتِلَافًا. الرَّابِعُ: الْقِيَاسُ فَيَعْرِفُ جَلِيَّهُ وَخَفِيَّهُ، وَتَمْيِيزَ الصَّحِيحِ مِنَ الْفَاسِدِ. الْخَامِسُ: لِسَانُ الْعَرَبِ لُغَةً وَإِعْرَابًا، لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِهَذِهِ الْجِهَةِ يَعْرِفُ عُمُومَ اللَّفْظِ وَخُصُوصَهُ وَإِطْلَاقَهُ وَتَقْيِيدَهُ، وَإِجْمَالَهُ وَبَيَانَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبَحُّرُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، بَلْ يَكْفِي مَعْرِفَةُ جُمَلٍ مِنْهَا، وَزَادَ الْغَزَالِيُّ تَخْفِيفَاتٍ ذَكَرَهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَتَبُّعِ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَفَرُّقِهَا وَانْتِشَارِهَا، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ مُصَحَّحٌ وَقَعَتِ الْعِنَايَةُ فِيهِ بِجَمِيعِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَيَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ مَوَاقِعَ كُلِّ بَابٍ، فَيُرَاجِعُهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْبَابِ. قُلْتُ: لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْعِبِ الصَّحِيحَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَلَا مُعْظَمَهُ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، بَلْ مَعْرِفَتُهُ ضَرُورِيَّةٌ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى اطِّلَاعٍ. وَكَمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثٍ حُكْمِيٍ لَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ. وَأَمَّا مَا فِي كِتَابَيِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فَكَثْرَتُهُ وَشُهْرَتُهُ غَنِيَّةٌ عَنِ التَّصْرِيحِ بِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ضَبْطُ جَمِيعِ مَوَاضِعِ الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ،

بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يُفْتِي فِيهَا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ وَافَقَ بَعْضَ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا الْأَوَّلُونَ بَلْ تَوَلَّدَتْ فِي عَصْرِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. وَمِنْهَا: أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ أَجَمَعَ السَّلَفُ عَلَى قَبُولِهِ أَوْ تَوَاتَرَتْ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ رُوَاتِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ فِي عَدَالَةِ رُوَاتِهِ بِتَعْدِيلِ إِمَامٍ مَشْهُورٍ عُرِفَتْ صِحَّةُ مَذْهَبِهِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. قُلْتُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا أَطْبَقَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، وَشَذَّ مَنْ شَرَطَ فِي التَّعْدِيلِ اثْنَيْنِ، وَقَوْلُهُ: تَوَاتَرَتْ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ يَعْنِي مَعَ ضَبْطِهِمْ. وَلَوْ قَالَ: أَهْلِيَّةُ رُوَاتِهِ كَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ الْعَدَالَةَ وَالضَّبْطَ. وَقَوْلُهُ: أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى قَبُولِهِ يَعْنِي عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا يَكْفِي عَمَلُهُمْ عَلَى وَفْقِهِ، فَقَدْ يَعْمَلُونَ عَلَى وَفْقِهِ بِغَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهَا: أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الْعُلُومِ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الشَّرْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ، وَعَدَّ الْأَصْحَابُ مِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةَ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَكْفِي اعْتِقَادٌ جَازِمٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى طُرُقِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبِأَدِلَّتِهِمُ الَّتِي يُحَرِّرُونَهَا. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْبَصَرُ، فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَةُ أَعْمَى وَفِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» لِلرُّويَانِيِّ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْخُصُومَ وَالشُّهُودَ. الْخَامِسُ: التَّكْلِيفُ، فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَةُ الصَّبِيِّ. السَّادِسُ: الْعَدَالَةُ فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَةُ فَاسِقٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَوْ عَلَى الْكُفَّارِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْوِلَادَةِ مِنْ نَصْبِ حَاكِمٍ بَيْنَ أَهْلِ

الذِّمَّةِ، فَهُوَ تَقْلِيدُ رِئَاسَةٍ وَزَعَامَةٍ لَا تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ بَلْ بِالْتِزَامِهِمْ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ نَاطِقًا سَمِيعًا، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَخْرَسَ لَا تُعْقَلُ إِشَارَتُهُ، وَكَذَا إِنْ عُقِلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا، فَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا صِيحَ بِهِ، جَازَ تَقْلِيدُهُ. الثَّامِنُ: الْكِفَايَةُ، فَلَا يَصِحُّ قَضَاءُ مُغَفَّلٍ اخْتَلَّ رَأْيُهُ وَنَظَرُهُ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِمَا. وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُحْسِنَ الْكِتَابَةَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ وَافِرَ الْعَقْلِ حَلِيمًا مُتَثَبِّتًا ذَا فِطْنَةٍ وَتَيَقُّظٍ، كَامِلَ الْحَوَّاسِّ وَالْأَعْضَاءِ، عَالِمًا بِلُغَةِ الَّذِينَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ، بَرِيئًا مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالطَّمَعِ، صَدُوقَ اللَّهْجَةِ، ذَا رَأْيٍ وَوَفَاءٍ، وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ جَبَّارًا يَهَابُهُ الْخُصُومُ، فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَّةِ، وَلَا ضَعِيفًا يَسْتَخِفُّونَ بِهِ، وَيَطْمَعُونَ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ قُرَشِيًّا. وَرِعَايَةُ الْعِلْمِ وَالتُّقَى أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ النَّسَبِ. فَرْعٌ إِنْ عَرَفَ الْإِمَامُ أَهْلِيَّتَهُ وَلَّاهُ، وَإِلَّا فَيَبْحَثُ عَنْ حَالِهِ، فَلَوْ وَلَّى مَنْ لَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ الشُّرُوطُ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ، أَثِمَ الْمُوَلِّي وَالْمُتَوَلِّي وَلَمْ يُنَفَّذْ قَضَاؤُهُ وَإِنْ أَصَابَ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ. قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَكِنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ مُتَعَذِّرٌ فِي عَصْرِنَا لِخُلُوِّ الْعَصْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ، فَالْوَجْهُ تَنْفِيذُ قَضَاءِ كُلِّ مَنْ وَلَّاهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ فَاسِقًا لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ النَّاسِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّا نُنَفِّذُ قَضَاءَ قَاضِي الْبُغَاةِ لِمِثْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَهَذَا حَسَنٌ، لَكِنْ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ قَاضِيَ الْبُغَاةِ إِذَا كَانَ مِنْهُمْ، وَبَغْيُهُمْ لَا يُوجِبُ فِسْقًا كَبَغْيِ أَصْحَابِ

مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَازَ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ أَوْجَبَ الْفِسْقَ، كَبَغْيِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ، لَمْ يَجُزْ. قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ بَعْضِ الشُّرُوحِ مَشْهُورٌ، قَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرُهُ، فَفِي «الْمُهَذَّبِ» أَنَّ قَاضِيَ الْبُغَاةِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ دَمَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَمَالَهُمْ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ الْعَدَالَةُ وَالِاجْتِهَادُ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلَا مُجْتَهِدٍ، وَقَدْ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» بِمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ، فَقَالَ: إِنْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ، فَوَلَّى سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ فَاسِقًا، أَوْ مُقَلِّدًا، نُفِّذَ قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذُكِرَ أَنَّ الْقَاضِيَ الْعَادِلَ إِذَا اسْتَقْضَاهُ أَمِيرٌ بَاغٍ، أَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَنُفِّذَ قَضَاؤُهُ، فَقَدْ سُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ ذَلِكَ لِمَنِ اسْتَقْضَاهُ زِيَادٌ، فَقَالَتْ: إِنْ لَمْ يَقْضِ لَهُمْ خِيَارُكُمْ قَضَى شِرَارُكُمْ. فَرْعٌ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ الْقَضَاءَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَكَذَا حُكْمُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ بِالِاجْتِهَادِ أَصْلًا، بَلْ يَتَّبِعُونَ النُّصُوصَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا أَخَذُوا بِقَوْلِ سَلَفِهِمْ، كَالشِّيعَةِ، فَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِي فَحْوَى الْكَلَامِ، وَيَبْنُونَ الْأَحْكَامَ عَلَى عُمُومِ النُّصُوصِ وَإِشَارَاتِهَا، جَازَ تَقْلِيدُهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ. الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْمُفْتِي: وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعِ إِلَّا وَاحِدٌ يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ فَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَحِلُّ التَّسَارُعُ إِلَيْهِ، فَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ مُشَاهَدَتِهِمُ الْوَحْيَ يُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْفَتْوَى، وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ مَا أَمْكَنَ. ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي ثَلَاثِ

جُمَلٍ، إِحْدَاهَا فِي الْمُفْتِي، فَيُشْتَرَطُ إِسْلَامُهُ وَبُلُوغُهُ وَعَدَالَتُهُ، فَالْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَيْضًا التَّيَقُّظُ وَقُوَّةُ الضَّبْطِ، فَلَا يُقْبَلُ مِمَّنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، فَلَوْ عَرَفَ الْعَامِّيُّ مَسْأَلَةً أَوْ مَسَائِلَ بِدَلِيلِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا، وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ وَيَأْخُذَ بِقَوْلِهِ فِيهَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ نَقْلِيًّا جَازَ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسِيًّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَالْعَالِمُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ غَايَةَ الِاجْتِهَادِ كَالْعَامِّيِّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمَوْتُ الْمُجْتَهِدِ هَلْ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يُقَلَّدَ وَيُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ؟ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ، بَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ كَمَا يُعْمَلُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَطَلَ قَوْلُهُ بِمَوْتِهِ، لَبَطَلَ الْإِجْمَاعُ بِمَوْتِ الْمُجْمِعِينَ، وَلَصَارَتِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، وَلِأَنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ، فَلَوْ مَنَعْنَا تَقْلِيدَ الْمَاضِينَ، لَتَرَكْنَا النَّاسَ حَيَارَى. وَبَنَوْا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ مَنْ عَرَفَ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ، وَتَبَحَّرَ فِيهِ، لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَيَأْخُذَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ؟ فَعَلَى الصَّحِيحِ يَجُوزُ. هَكَذَا صَوَّرُوا الْفَرْعَ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِذَا كَانَ الْمَأْخَذُ مَا ذَكَرْنَا، فَسَوَاءٌ الْمُتَبَحِّرُ وَغَيْرُهُ، بَلِ الْعَامِّيُّ إِذَا عَرَفَ حُكْمَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ فَأَخْبَرَ بِهِ، وَأَخَذَ غَيْرُهُ بِهِ تَقْلِيدًا لِلْمَيِّتِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: هَذَا الِاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَحِّرًا رُبَّمَا ظَنَّ مَا لَيْسَ مَذْهَبًا لَهُ مَذْهَبَهُ، لِقُصُورِ فَهْمِهِ وَقِلَّةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَظَانِّ الْمَسْأَلَةِ وَاخْتِلَافِ نُصُوصِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ، وَالْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا، وَالرَّاجِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَاسِيَّمَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّذِي لَا يَكَادُ يَعْرِفُ مَا يُفْتَى بِهِ مِنْهُ إِلَّا أَفْرَادٌ، لِكَثْرَةِ انْتِشَارِهِ، وَاخْتِلَافِ نَاقِلِيهِ فِي النَّقْلِ وَالتَّرْجِيحِ. فَإِنْ فُرِضَ هَذَا فِي مَسَائِلَ صَارَتْ كَالْمَعْلُومَةِ عِلْمًا قَطْعِيًّا عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، كَوُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي

مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَوُجُوبِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، وَصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ بِلَا صَوْمٍ، وَعَدَمِ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْبَائِنِ الْحَامِلِ، وَوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهَذَا حَسَنٌ مُحْتَمَلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا جَوَّزْنَا الْفَتْوَى إِخْبَارًا عَنْ مَذْهَبِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إِمَامٍ مُعَيَّنٍ، كَفَى إِطْلَاقُ الْجَوَابِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى صَاحِبِ الْمَذْهَبِ. فَرْعٌ لَيْسَ لِمُجْتَهِدٍ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا لَا لِيَعْمَلَ بِهِ، وَلَا لِيُفْتِيَ بِهِ، وَلَا إِذَا كَانَ قَاضِيًا لِيَقْضِيَ بِهِ، سَوَاءٌ خَافَ الْفَوْتَ لِضِيقِ وَقْتٍ أَمْ لَا. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَهُ التَّقْلِيدُ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ لِيَعْمَلَ بِهِ، لَا لِيُفْتِيَ، وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْقَضَاءِ وَأَوْلَى. وَفِي «الشَّامِلِ» وَ «التَّهْذِيبِ» طَرَدَ قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي الْقَضَاءِ. وَصُورَةُ الضِّيقِ فِيهِ: أَنْ يَتَحَاكَمَ مُسَافِرَانِ وَالْقَافِلَةُ تَرْتَحِلُ، وَمَنْ قَالَ بِهِ، فَقِيَاسُهُ طَرَدُهُ فِي الْفَتْوَى. فَرْعٌ هَلْ يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ إِذَا وَقَعَتِ الْحَادِثَةُ مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ سُئِلَ عَنْهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَمْ يَعْتَمِدُ اجْتِهَادَهُ الْأَوَّلَ؟ وَجْهَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الْقِبْلَةِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا لُزُومُ التَّجْدِيدِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِدَلِيلِ الْأُولَى، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ مَا قَدْ يُوجِبُ رُجُوعَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا، لَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعًا، وَإِنْ تَجَدَّدَ مَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ، لَزِمَهُ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ الْمَنْسُوبُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ. أَحَدُهَا: الْعَوَامُّ وَتَقْلِيدُهُمُ الشَّافِعِيَّ مَثَلًا مُفَرَّعٌ عَلَى تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَقَدْ سَبَقَ. وَالثَّانِي: الْبَالِغُونَ لِرُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا وَإِنَّمَا يُنْسَبُ هَؤُلَاءِ إِلَى الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ جَرَوْا عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالِ الْأَدِلَّةِ وَتَرْتِيبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَوَافَقَ اجْتِهَادُهُمُ اجْتِهَادَهُ وَإِذَا خَالَفَ أَحْيَانًا لَمْ يُبَالُوا بِالْمُخَالَفَةِ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْمُتَوَسِّطُونَ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، لَكِنَّهُمْ وَقَفُوا عَلَى أُصُولِ الْإِمَامِ فِي الْأَبْوَابِ وَتَمَكَّنُوا مِنْ قِيَاسِ مَا لَمْ يَجِدُوهُ مَنْصُوصًا لَهُ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ مُقَلِّدُونَ لَهُ تَفْرِيعًا عَلَى تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، وَهَكَذَا مَنْ يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمْ مِنَ الْعَوَامِّ تَقْلِيدًا لَهُ، وَالْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مُقَلِّدُونَ، وَقَدْ نَجِدُ مَا يُخَالِفُ هَذَا فَإِنَّ أَبَا الْفَتْحِ الْهَرَوِيَّ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ يَقُولُ فِي الْأُصُولِ: مَذْهَبُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ لَهُ، فَإِنْ وَجَدَ مُجْتَهِدًا قَلَّدَهُ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ، وَوَجَدَ مُتَبَحِّرًا فِي مَذْهَبٍ، فَإِنَّهُ يُفْتِيهِ عَلَى مَذْهَبِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَامِّيُّ لَا يَعْتَقِدُ مَذْهَبَهُ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يُقَلِّدُ الْمُتَبَحِّرَ فِي نَفْسِهِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ مُتَبَحِّرَانِ فِي مَذْهَبٍ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي قِيَاسِ أَصْلِ مَذْهَبِ إِمَامِهِمَا، وَمِنْ هَذَا يَتَوَلَّدُ وُجُوهُ الْأَصْحَابِ، فَنَقُولُ: أَيُّهُمَا يَأْخُذُ الْعَامِّيُّ؟ فِيهِ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا نَصَّ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ، أَلْحَقَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْحُكْمِ، فَهَلْ يَسْتَنْبِطُ الْمُتَبَحِّرُ الْعِلَّةَ وَيُعَدِّي الْحُكْمَ بِهَا، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: لَا، وَالْأَشْبَهُ

بِفِعْلِ الْأَصْحَابِ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ الْحُكْمَ، ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي عِلَّتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَطْرُدُ الْحُكْمَ فِي فُرُوعِ عِلَّتِهِ. فَرْعٌ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ إِذَا نَصَّ الْإِمَامُ فِي وَاقِعَةٍ عَلَى حُكْمٍ، وَفِي أُخْرَى شَبَهِهَا عَلَى خِلَافِهِ لَا يَجُوزُ نَقْلُ قَوْلِهِ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى وَتَخْرِيجُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ لَا يُجْعَلُ قَوْلًا لَهُ إِلَّا إِذَا لَمْ يُحْتَمَلْ كَقَوْلِهِ: ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِي الشِّقْصِ مِنَ الدَّارِ، فَيُقَالُ: قَوْلُهُ فِي الْحَانُوتِ كَذَلِكَ وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُ مَا قَالَهُ، لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قِيَاسُ أَصْلِهِ أَوْ قِيَاسُ قَوْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ قَوْلُهُ. فَرْعٌ لِلْمُفْتِي أَنْ يُشَدِّدَ فِي الْجَوَابِ بِلَفْظٍ مُتَأَوَّلٍ عِنْدَهُ زَجْرًا وَتَهْدِيدًا فِي مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ. قُلْتُ: الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا: إِذَا رَأَى الْمُفْتِي الْمَصْلَحَةَ أَنْ يَقُولَ لِلْعَامِّيِّ مَا فِيهِ تَغْلِيظٌ وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ ظَاهِرَهُ، وَلَهُ فِيهِ تَأْوِيلٌ، جَازَ زَجْرًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، فَقَالَ: لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَسَأَلَهُ آخَرُ فَقَالَ: لَهُ تَوْبَةٌ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا الْأَوَّلُ، فَرَأَيْتُ فِي عَيْنَيْهِ إِرَادَةَ الْقَتْلِ فَمَنَعْتُهُ، أَمَّا الثَّانِي، فَجَاءَ

مِسْكِينًا قَدْ قَتَلَ، فَلَمْ أُقَنِّطْهُ، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَكَذَا إِنْ سَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنْ قَتَلْتُ عَبْدِي، فَهَلْ عَلَيَّ قِصَاصٌ، فَوَاسِعٌ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قَتَلْتَهُ قَتَلْنَاكَ، فَعَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَهُ مَعَانٍ وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى إِطْلَاقِهِ مَفْسَدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمُسْتَفْتِي، فَيَلْزَمُهُ سُؤَالُ الْمُفْتِي عِنْدَ حُدُوثِ مَسْأَلَتِهِ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ مَنْ عَرَفَ عِلْمَهُ وَعَدَالَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعِلْمَ، بَحَثَ عَنْهُ بِسُؤَالِ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعَدَالَةَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ، وَأَشْبَهُهُمَا الِاكْتِفَاءُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ، بِخِلَافِ الْبَحْثِ عَنِ الْعِلْمِ، فَلَيْسَ الْغَالِبُ مِنَ النَّاسِ الْعِلْمَ، ثُمَّ ذَكَرَ احْتِمَالَيْنِ فِي أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْبَحْثُ، يَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ، أَمْ يَكْفِي إِخْبَارُ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ؟ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. قُلْتُ: الِاحْتِمَالَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ تُعْرَفِ الْعَدَالَةُ، هُمَا فِيمَنْ كَانَ مَسْتُورًا وَهُوَ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَلَمْ يُخْتَبَرْ بَاطِنُهُ وَهُمَا وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا غَيْرُهُ، أَصَحُّهُمَا الِاكْتِفَاءُ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ يَعْسُرُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى غَيْرِ الْقُضَاةِ، فَيَعْسُرُ عَلَى الْعَوَامِّ تَكْلِيفُهُمْ بِهَا، وَهَذَا الْخِلَافُ كَالْخِلَافِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِحُضُورِ الْمَسْتُورِينَ. أَمَّا الِاحْتِمَالَانِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِعَدْلٍ، فَهُمَا مُحْتَمَلَانِ، وَلَكِنَّ الْمَنْقُولَ خِلَافُهُمَا، فَالَّذِي قَالَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ مَنِ اسْتَفَاضَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَقِيلَ: لَا يَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ وَلَا التَّوَاتُرُ، بَلْ إِنَّمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ: أَنَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ وَالشُّهْرَةَ بَيْنَ الْعَامَّةِ لَا وُثُوقَ بِهَا، فَقَدْ يَكُونُ أَصْلُهَا التَّلْبِيسَ، وَأَمَّا التَّوَاتُرُ فَلَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى مَعْلُومٍ مَحْسُوسٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَيْهَا إِخْبَارٌ مِنْهُ بِأَهْلِيَّتِهِ

لِأَنَّ الصُّورَةَ فِيمَنْ وُثِقَ بِدِينِهِ. وَيَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ مَنْ أَخْبَرَ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ بِأَهْلِيَّتِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: نَقْبَلُ فِي أَهْلِيَّتِهِ خَبَرَ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مَعْرِفَةٌ يُمَيِّزُ بِهَا الْمُلْتَبِسَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ خَبَرُ آحَادِ الْعَامَّةِ لِكَثْرَةِ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّلْبِيسِ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا وَجَدَ مُفْتِيَيْنِ فَأَكْثَرَ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فَيَسْأَلَ أَعْلَمَهُمْ؟ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: نَعَمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالْقَفَّالُ؛ لِأَنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ، فَيَسْأَلُ مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَيَعْمَلُونَ بِقَوْلِ مَنْ سَأَلُوهُ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَعْلَمُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنِ الْأَعْلَمِ إِذَا لَمْ يَعْتَقِدِ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمْ بِزِيَادَةِ عِلْمٍ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، فَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ سُؤَالِ آحَادِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ وُجُودِ أَفَاضِلِهِمُ الَّذِينَ فَضْلُهُمْ مُتَوَاتِرٌ، وَقَدْ يُمْنَعُ هَذَا. وَعَلَى الْجُمْلَةِ: الْمُخْتَارُ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ. فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ أَوْرَعِ الْعَالِمِينَ، وَأَعْلَمِ الْوَرِعِينَ، فَإِنْ تَعَارَضَا قدَّمَ الْأَعْلَمَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ وَإِذَا اسْتَفْتَى وَأُجِيبَ، فَحَدَثَتْ لَهُ تِلْكَ الْحَادِثَةُ ثَانِيًا، فَإِنْ عَرَفَ اسْتِنَادَ الْجَوَابِ إِلَى نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ ثَانِيًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُقَلَّدُ مَيِّتًا وَجَوَّزْنَاهُ، وَإِنْ عَرَفَ اسْتِنَادَهُ إِلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ

أَوْ شَكَّ وَالْمُقَلِّدُ حَيٌّ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَحْتَاجُ إِلَى السُّؤَالِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُهُ عَلَى جَوَابِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ ثَانِيًا. فَرْعٌ لَوِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ جَوَابُ مُفْتِيَيْنِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْبَحْثَ وَتَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ اعْتَمَدَهُ، وَإِلَّا فَأَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: يَتَخَيَّرُ، وَيَأْخُذُ بِقَوْلِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَغْلَظِ الْجَوَابَيْنِ، وَالثَّالِثُ: بِأَخَفِّهِمَا، وَالرَّابِعُ: بِقَوْلِ مَنْ يَبْنِي قَوْلَهُ عَلَى الْأَثَرِ دُونَ الرَّأْيِ، وَالْخَامِسُ: بِقَوْلِ مَنْ سَأَلَهُ أَوَّلًا. قُلْتُ: وَحُكِيَ وَجْهٌ سَادِسٌ أَنَّهُ يَسْأَلُ ثَالِثًا، فَيَأْخُذُ بِفَتْوَى مَنْ وَافَقَهُ. وَهَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ مِنَ التَّخْيِيرِ هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي أَوَّلِ «الْمَجْمُوعِ» عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ فَرْضَهُ أَنْ يُقَلِّدَ عَالِمًا وَقَدْ حَصَلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَقْلَ الرُّويَانِيُّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ مَنْ سَأَلَ مُفْتِيًا وَلَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى فَتْوَاهُ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ ثَانِيًا وَثَالِثًا لِتَسْكُنَ نَفْسُهُ، أَمْ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى جَوَابِ الْأَوَّلِ وَالْقِيَاسُ فِي وَجْهِ الثَّانِي. الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَيَجُوزُ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَسْأَلَ بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِرَسُولٍ ثِقَةٍ يَبْعَثُهُ، وَبِالرُّقْعَةِ، وَيَكْفِي تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ لُغَتَهُ. قُلْتُ: لَهُ اعْتِمَادُ خَطِّ الْمُفْتِي إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يَقْبَلُ خَبَرَهُ أَنَّهُ خَطُّهُ، أَوْ كَانَ يَعْرِفُ خَطَّهُ وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنْ آدَابِ الْمُسْتَفْتِي أَنْ لَا يَسْأَلَ الْمُفْتِيَ وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ مَشْغُولٌ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَمَامِ الْفِكْرِ، وَأَنْ لَا يَقُولَ إِذَا أَجَابَهُ: هَكَذَا قُلْتُ أَنَا، وَأَنْ لَا يُطَالِبَ بِالدَّلِيلِ، فَإِنْ أَرَادَ مَعْرِفَتَهُ، سَأَلَ عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَإِذَا سَأَلَ فِي رُقْعَةٍ، فَلْيَكُنْ كَاتِبُهَا حَاذِقًا، لِيُبَيِّنَ مَوَاضِعَ السُّؤَالِ، وَيُنْقِطَ مَوَاضِعَ الِاشْتِبَاهِ، وَلْيَتَأَمَّلِ الْمُفْتِي الرُّقْعَةَ كَلِمَةً كَلِمَةً، وَلْيَكُنِ اعْتِنَاؤُهُ بِآخِرِ الْكَلَامِ أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ السُّؤَالِ، وَلْيَتَثَبَّتْ فِي الْجَوَابِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً، وَأَنْ يُشَاوِرَ مَنْ فِي مَجْلِسِهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا لَا يَحْسُنُ إِظْهَارُهُ. وَلَهُ أَنْ يُنْقِطَ مِنَ الرُّقْعَةِ مَوَاضِعَ الْإِشْكَالِ، وَأَنْ يُصْلِحَ مَا فِيهَا مِنْ خَطَأٍ وَلَحْنٍ فَاحِشٍ، وَإِذَا رَأَى فِي آخِرِ بَعْضِ السُّطُورِ بَيَاضًا، شَغَلَهُ بِخَطِّهِ، لِئَلَّا يُلْحَقَ فِيهِ بَعْدَ جَوَابِهِ شَيْءٌ، وَلْيُبَيِّنِ الْمُفْتِي بِخَطِّهِ، وَلْيَكُنْ قَلَمُهُ بَيْنَ قَلَمَيْنِ. وَلَوْ كَتَبَ مَعَ الْجَوَابِ حُجَّةً مِنْ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَلَا بَأْسَ، وَلَا يَعْتَادُ ذِكْرَ الْقِيَاسِ، وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ. فَإِنْ تَعَلَّقَتِ الْفَتْوَى بِقَاضٍ، فَحَسَنٌ أَنْ يُومِئَ إِلَى الطَّرِيقِ لِلِاجْتِهَادِ، وَإِذَا رَأَى فِي الْفَتْوَى جَوَابَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى، لَمْ يُفْتِ مَعَهُ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الرُّقْعَةِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَا يَحْبِسُهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِخَطِّ غَيْرِ الْمُفْتِي. فَرْعٌ مَتَّى تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ، دَارَ الْمُقَلِّدُ مَعَهُ، وَعَمِلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَوْلِهِ الثَّانِي، وَلَا يَنْقُضُ مَا مَضَى، وَلَوْ نَكَحَ الْمُجْتَهِدُ امْرَأَةً، ثُمَّ خَالَعَهَا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ رَأَى الْخُلْعَ فَسْخًا، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: يَلْزَمُهُ مُفَارَقَتُهَا، وَأَبْدَى تَرَدُّدًا فِيمَا لَوْ فَعَلَ الْمُقَلِّدُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ كَذَلِكَ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُقَلِّدِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ مُجْتَهِدٌ لِلْمُقَلِّدِ وَالصُّورَةُ هَذِهِ:

أَخْطَأَ بِكَ مَنْ قَلَّدْتَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَلَّدَهُ أَعْلَمَ مِنَ الثَّانِي، أَوِ اسْتَوَيَا، فَلَا أَثَرَ لِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَعْلَمَ، فَالْقِيَاسُ أَنَّا إِنْ أَوْجَبْنَا تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ، وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ لَهُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي زَعَمَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ الْقِيَاسُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، بَلِ الْوَجْهُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِ الثَّانِي، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، وَقَدْ لَخَّصَ الصَّيْمَرِيُّ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِتَفْصِيلٍ حَسَنٍ، فَقَالُوا: إِذَا أَفْتَى، ثُمَّ رَجَعَ، فَإِنْ عَلِمَ الْمُسْتَفْتِي رُجُوعَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِالْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ، وَكَذَا إِذَا نَكَحَ بِفَتْوَاهُ، أَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى نِكَاحٍ بِفَتْوَاهُ، ثُمَّ رَجَعَ، لَزِمَهُ فِرَاقُهَا، كَنَظِيرِهِ فِي الْقِبْلَةِ. وَإِنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ قَبْلَ الرُّجُوعِ، فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، لَزِمَ الْمُسْتَفْتِي نَقْضَ عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يُعْمَلُ خِلَافُ هَذَا لِأَصْحَابِنَا، وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبَا الْمُسْتَصْفَى وَ «الْمَحْصُولِ» ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمُخَالَفَةِ هَذَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو ابْنُ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي إِنَّمَا يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إِمَامٍ مُعَيَّنٍ، فَرَجَعَ لِكَوْنِهِ تَيَقَّنَ مُخَالَفَةَ نَصِّ إِمَامِهِ، وَجَبَ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ اجْتِهَادِيًّا؛ لِأَنَّ نَصَّ إِمَامِهِ فِي حَقِّهِ كَنَصِّ الشَّارِعِ فِي حَقِّ الْمُسْتَقِلِّ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَفْتِي بِرُجُوعِهِ. فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ فِي حَقِّهِ، وَيَلْزَمُ الْمُفْتِي إِعْلَامُهُ بِرُجُوعِهِ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَكَذَا بَعْدَهُ حَيْثُ يَجِبُ النَّقْضُ، وَإِذَا عَمِلَ بِفَتْوَاهُ فِي إِتْلَافٍ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ أَخْطَأَ، وَخَالَفَ الْقَاطِعَ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنْ كَانَ أَهْلًا لِلْفَتْوَى ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ مُقَصِّرٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى

قَوْلَيِ الْغُرُورِ أَوْ يُقْطَعَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِتْلَافُ، وَلَا أَلْجَأَ إِلَيْهِ بِإِلْزَامٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ مَذْهَبٌ مُدَوَّنٌ، وَإِذَا دُوِّنَتِ الْمَذَاهِبُ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ؟ إِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْأَعْلَمِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الثَّانِيَ أَعْلَمُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، بَلْ يَجِبُ وَإِنْ خَيَّرْنَاهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ أَيْضًا، كَمَا لَوْ قَلَّدَ فِي الْقِبْلَةِ هَذَا أَيَّامًا، وَهَذَا أَيَّامًا. وَلَوْ قَلَّدَ مُجْتَهِدًا فِي مَسَائِلَ، وَآخَرَ فِي مَسَائِلَ أُخْرَى، وَاسْتَوَى الْمُجْتَهِدَانِ عِنْدَهُ أَوْ خَيَّرْنَاهُ، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْأَوَّلَيْنِ الْجَوَازُ، وَكَمَا أَنَّ الْأَعْمَى إِذَا قُلْنَا: لَا يَجْتَهِدُ فِي الْأَوَانِي وَالثِّيَابِ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي الثِّيَابِ وَاحِدًا، وَفِي الْأَوَانِي آخَرَ، لَكِنِ الْأُصُولِيُّونَ مَنَعُوا مِنْهُ لِمَصْلَحَةٍ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِيمَا إِذَا اخْتَارَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مَا هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَسَّقَ بِهِ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يُفَسَّقُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قُلْتُ: قَدِ اسْتَقْصَى الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْبَابَ، فَاسْتَوْعَبَ وَأَجَادَ، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ أَنَا هَذَا الْبَابَ فِي أَوَّلِ شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» وَجَمَعْتُ فِيهِ مِنْ مَجْمُوعَاتِ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَمُتَفَرِّقَاتِهَا هَذَا الْمَذْكُورَ هُنَا مَعَ مِثْلِهِ أَوْ أَمْثَالِهِ، وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهُ هُنَا نُبَذًا أُشِيرُ إِلَيْهَا، وَلَا أَلْتَزِمُ تَرْتِيبِهِ. فَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعَلِّمِ وَالْمُفْتِي الرِّفْقُ بِالْمُتَعَلِّمِ وَالْمُسْتَفْتِي، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْفَهْمِ عَنْهُ، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ آدَابَ الْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ فِي أَوَّلِ شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» وَذَكَرْتُ فِيهِ مَا لَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، قَالَ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ الْمُفْتِينَ، فَمَنْ صَلُحَ لَهَا، أَقَرَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَصْلُحْ، مَنَعَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَعُودَ، وَيُوَاعِدُهُ عَلَى

الْعَوْدِ، وَطَرِيقُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ الْمَشْهُورِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ عَنْ حَالِهِ، وَيَعْتَمِدُ خَبَرَهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي مَعَ شُرُوطِهِ السَّابِقَةِ مُتَنَزِّهًا عَنْ خَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ، فَقِيهَ النَّفْسِ، سَلِيمَ الذِّهْنِ، رَصِينَ الْفِكْرِ، حَسَنَ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَسَوَاءٌ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَالْمَرْأَةُ وَالْأَعْمَى وَالْأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ أَوْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي كَالرَّاوِي فِي أَنَّهُ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْقَرَابَةُ وَالْعَدَاوَةُ، وَجَرُّ النَّفْعِ، وَدَفْعُ الضُّرَّ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ الشَّرْعِ بِمَا لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِشَخْصٍ، فَكَانَ كَالرَّاوِي لَا كَالشَّاهِدِ وَفَتْوَاهُ لَا يَرْتَبِطُ بِهَا إِلْزَامٌ بِخِلَافِ حُكْمِ الْقَاضِي. قَالَ: وَوَجَدْتُ عَنْ صَاحِبِ «الْحَاوِي» إِنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا نَابَذَ فِي فَتْوَاهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا، صَارَ خَصْمًا مُعَانِدًا، تُرَدُّ فَتْوَاهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَيُقْبَلُ فَتَاوَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْخَوَارِجِ، وَمَنْ لَا يُكَفَّرُ بِبِدْعَتِهِ وَلَا بِفِسْقِهِ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ هَذَا ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الشُّرَاةُ وَهُمْ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَسُبُّونَ السَّلَفَ، فَفَتَاوِيهِمْ مَرْدُودَةٌ، وَأَقَاوِيلُهُمْ سَاقِطَةٌ. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى وَهُوَ قَاضٍ، فَهُوَ كَغَيْرِهِ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ الْفَتْوَى هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَفِي الْأَحْكَامِ وَجْهَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُكْرَهُ فَتْوَاهُ فِي الْأَحْكَامِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَنْ يَعْرِفَ مِنَ الْحِسَابِ مَا يَصِحُّ بِهِ الْمَسَائِلُ الْحِسَابِيَّةُ الْفِقْهِيَّةُ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَصَاحِبُهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي الْمُنْتَسِبِ إِلَى مَذْهَبِ إِمَامٍ كَمَا سَبَقَ أَنْ يَكُونَ فَقِيهَ النَّفْسِ، حَافِظًا مَذْهَبَ إِمَامِهِ، ذَا خِبْرَةٍ بِقَوَاعِدِهِ، وَأَسَالِيبِهِ وَنُصُوصِهِ، وَقَدْ قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْأُصُولِيَّ الْمَاهِرَ الْمُتَصَرِّفَ فِي الْفِقْهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفَتْوَى بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، وَلَوْ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ لَزِمَهُ أَنْ

يَسْتَفْتِيَ فِيهَا. وَيَلْتَحِقُ بِهِ الْمُتَصَرِّفُ الْبَحَّاثُ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْخِلَافِ وَفُحُولِ الْمُنَاظِرِينِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِإِدْرَاكِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ اسْتِقْلَالًا، لِقُصُورِ آلَتِهِ، وَلَا مِنْ مَذْهَبِ إِمَامٍ لِعَدَمِ حِفْظِهِ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ. وَإِذَا اسْتَفْتَى الْعَامِّيُّ عَمَّا لَمْ يَقَعْ، لَمْ يَجِبْ جَوَابُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي فَتْوَاهُ، وَمَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَفْتَى، وَتَسَاهُلُهُ قَدْ يَكُونُ بِأَنْ لَا يَتَثَبَّتَ وَيُسْرِعَ بِالْجَوَابِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَلَا بَأْسَ بِالْإِسْرَاعِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنِ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُسَارَعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ تَسَاهُلُهُ بِأَنْ تَحْمِلَهُ أَغْرَاضٌ فَاسِدَةٌ عَلَى تَتَبُّعِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الْمَكْرُوهَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالشُّبْهَةِ طَلَبًا لِلتَّرْخِيصِ عَلَى مَنْ يَرُومُ نَفْعَهُ، أَوِ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ يَرُومُ ضُرَّهُ، وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَلَا وُثُوقَ بِهِ. وَأَمَّا إِذَا صَحَّ قَصْدُهُ، فَاحْتَسَبَ فِي طَلَبِ حِيلَةٍ لَا شُبْهَةَ فِيهَا، وَلَا تَجُرُّ إِلَى مَفْسَدَةٍ، لِيُخَلِّصَ بِهَا الْمُسْتَفْتِيَ مِنْ وَرِيطَةِ يَمِينٍ وَنَحْوِهَا، فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَعَلَّهُ يَحْمِلُ [مَا جَاءَ] عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ هَذَا. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْتِيَ فِي كُلِّ حَالٍ تُغَيِّرُ خُلُقَهُ وَتَشْغَلُ قَلْبَهُ وَتَمْنَعُهُ التَّثَبُّتَ وَالتَّأَمُّلَ؛ كَحَالَةِ الْغَضَبِ أَوِ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالْفَرَحِ الْغَالِبِ، وَالنُّعَاسِ، وَالْمَلَالَةِ، وَالْمَرَضِ الْمُقْلِقِ، وَالْحَرِّ الْمُزْعِجِ، وَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَتَى أَحَسَّ بِشُغْلِ قَلْبِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ الِاعْتِدَالِ، لَمْ يُفْتِ، فَإِنْ أَفْتَى فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إِدْرَاكِ الصَّوَابِ، صَحَّتْ فَتْوَاهُ، وَإِنْ كَانَ مُخَاطِرًا. وَالْأَوْلَى لِلْمُتَصَدِّي لِلْفَتْوَى أَنْ يَتَبَرَّعَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَهُ كِفَايَةٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. ثُمَّ إِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ أُجْرَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِزْقٌ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ أُجْرَةٍ

مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْتَفْتِينَ كَالْحَاكِمِ. وَاحْتَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ فِي حِيلَةٍ، فَقَالَ: يَقُولُ لِلْمُسْتَفْتِي: يَلْزَمُنِي أَنْ أُفْتِيَكَ قَوْلًا، وَلَا يَلْزَمُنِي أَنْ أَكْتُبَ لَكَ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى الْكِتَابَةِ جَازَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنَ الْأُجْرَةِ إِلَّا قَدْرَ أُجْرَةِ كِتَابَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَتْوًى، لِئَلَّا يَكُونَ آخِذًا زِيَادَةً بِسَبَبِ الْإِفْتَاءِ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا: وَلَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى أَنْ جَعَلُوا لَهُ رِزْقًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِيَتَفَرَّغَ لِفَتَاوِيهِمْ، جَازَ. وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ، فَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا بِخِلَافِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ حُكْمُهُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَرَّمَ قَبُولُهَا إِنْ كَانَتْ رِشْوَةً عَلَى أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا يُرِيدُ، كَمَا فِي الْحَاكِمِ وَسَائِرِ مَا لَا يُقَابَلُ بِالْأَعْوَاضِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْرِضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِتَدْرِيسِ الْعِلْمِ أَوْ لِلْفَتْوَى فِي الْأَحْكَامِ مَا يُغْنِيهِ عَنِ التَّكَسُّبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ كَالْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالْوَصَايَا وَنَحْوِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ اللَّافِظِ أَوْ نَازِلًا مَنْزِلَتَهُمْ فِي الْخِبْرَةِ بِمُرَادِهِمْ فِي الْعَادَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُفْتِي وَالْعَامِلِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ ذَاتِ الْوَجْهَيْنِ أَوِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُفْتِيَ أَوْ يَعْمَلَ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، بَلْ عَلَيْهِ فِي الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَعْمَلَ بِالْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا إِنْ عَلِمَهُ، وَإِلَّا فَبِالَّذِي رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجَّحَ أَحَدَهُمَا. وَلَا عَلِمَ السَّابِقَ، لَزِمَهُ الْبَحْثُ عَنْ أَرْجَحِهِمَا، فَيَعْمَلُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّرْجِيحِ، اشْتَغَلَ بِهِ مُتَعَرِّفًا ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَمَآخِذِهِ وَقَوَاعِدِهِ، وَإِلَّا فَلْيَنْقُلْهُ عَنِ الْأَصْحَابِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ تَرْجِيحٌ بِطَرِيقٍ، تَوَقَّفَ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فَيَتَعَرَّفُ أَرْجَحُهُمَا بِمَا سَبَقَ إِلَّا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالتَّأَخُّرِ إِلَّا إِذَا وَقَعَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَنْصُوصًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْآخِرُ مُخَرَّجًا، فَالْمَنْصُوصُ هُوَ

الرَّاجِحُ الْمَعْمُولُ بِهِ غَالِبًا، كَمَا إِذَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى. وَلَوْ وَجَدَ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّرْجِيحِ خِلَافًا لِلْأَصْحَابِ فِي الْأَرْجَحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْوَجْهَيْنِ، فَلْيَعْتَمِدْ مَا صَحَّحَهُ الْأَكْثَرُ، وَالْأَعْلَمُ وَالْأَوْرَعُ، فَإِنْ تَعَارَضَ أَعْلَمُ وَأَوْرَعُ، قُدِّمَ الْأَعْلَمُ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ عَنْ أَحَدٍ تَرْجِيحٌ، اعْتَبَرَ صِفَاتِ النَّاقِلِينَ لِلْقَوْلَيْنِ، وَالْقَائِلِينَ لِلْوَجْهَيْنِ فَمَا رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ مُقَدَّمٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ الْجِيزَيُّ وَحَرْمَلَةُ، كَذَا نَقَلَهُ الْخَطَابِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَصْحَابِنَا، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْبُوْيِطِيَّ، وَزِدْتُهُ أَنَا لِكَوْنِهِ أَجَلَّ مَنِ الرَّبِيعِ، وَأَقْدَمَ مِنَ الْمُزَنِيِّ، وَأَخَصَّ بِالشَّافِعِيِّ مِنْهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: وَيَتَرَجَّحُ أَيْضًا مَا وَافَقَ أَكْثَرَ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ. وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجْهَيْنِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الْمُخَالِفُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْجَحُ، فَلَوْ لَمْ يَطَّلِعِ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَعْنًى مُخَالِفٍ لَمَا خَالَفَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُوَافِقَ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ نَجِدْ مُرَجِّحًا مِمَّا سَبَقَ. وَلَوْ تَعَارَضَ جَزْمُ مُصَنِّفَيْنِ، فَهُوَ كَتَعَارُضِ الْوَجْهَيْنِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْبَحْثِ كَمَا سَبَقَ، وَيُرَجَّحُ أَيْضًا بِالْكَثْرَةِ، فَإِذَا جَزَمَ مُصَنِّفَانِ بِشَيْءٍ، وَجَزَمَ ثَالِثٌ مُسَاوٍ لِأَحَدِهِمَا بِخِلَافِهِمَا، رَجَّحْنَاهُمَا عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَقْلَ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ لِنُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَقَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ، وَوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَتْقَنُ وَأَثْبَتُ مِنْ نَقْلِ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ غَالِبًا إِنْ لَمْ يَكُنْ دَائِمًا وَهَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ بِهِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَهُ فِي بَابِهِ وَمَظِنَّتِهِ، وَالْآخِرُ جَاءَ مُسْتَطْرَدًا فِي بَابٍ آخَرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي اخْتَصَرْتُهُ وَهَذَّبْتُهُ مُحَصِّلٌ لَكَ جَمِيعَ

مَا ذَكَرْتُهُ وَلَا أَقُولُ هَذَا تَبَجُّحًا بَلْ نَصِيحَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَمُنَاصَحَةً لِلدِّينِ، وَهُمَا وَاجِبَانِ عَلَيَّ وَعَلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَقْتَصِرَ فِي جَوَابِهِ عَلَى قَوْلِهِ: فِيهِ قَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ، أَوْ خِلَافُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ جَوَابًا صَحِيحًا لِلْمُسْتَفْتِي، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ، وَهُوَ بَيَانُ مَا يُعْمَلُ بِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَجْزِمَ بِمَا هُوَ الرَّاجِحُ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الرَّاجِحُ، انْتَظَرَ ظُهُورَهُ، أَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِفْتَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ، كَمَا فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى كَانَ قَوْلَانِ قَدِيمٌ وَجَدِيدٌ، فَالْعَمَلُ عَلَى الْجَدِيدِ إِلَّا فِي نَحْوِ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً قَدْ أَوْضَحْتُهَا مُفَصَّلَةً فِي أَوَّلِ شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَيَتَرَتَّبُ بِهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَإِذَا كَانَ فِي رُقْعَةِ الِاسْتِفْتَاءِ مَسَائِلُ، فَحَسَنٌ أَنْ يُرَتَّبَ الْجَوَابُ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ لَمْ يُطْلَقِ الْجَوَابُ، فَإِنَّهُ خَطَأٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْجَوَابَ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرُّقْعَةِ تَعَرُّضٌ لَهُ، بَلْ يَذْكُرُ جَوَابَ مَا فِي الرُّقْعَةِ فَإِنْ أَرَادَ الْجَوَابَ عَلَى خِلَافِ مَا فِيهَا، فَلْيَقُلْ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَا، فَجَوَابُهُ كَذَا، وَإِذَا كَتَبَ الْجَوَابَ، أَعَادَ نَظَرَهُ فِيهِ وَتَأَمَّلَهُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ بِالْإِفْتَاءِ فِي الرُّقْعَةِ، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: فَالْعَادَةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنْ يَكْتُبَ فِي النَّاحِيَةِ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَوْ كَتَبَ وَسَطَ الرُّقْعَةِ، أَوْ فِي حَاشِيَتِهَا، فَلَا عَتَبَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْتُبُ فَوْقَ الْبَسْمَلَةِ بِحَالٍ. وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِفْتَاءِ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَيُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَحْمَدَهُ، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُ:

لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي الْآيَةَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتُبَ فِي أَوَّلِ فَتْوَاهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوِ اللَّهُ الْمُوَفِّقُ، أَوْ حَسْبُنَا اللَّهُ، أَوْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، نَقَلَ ذَلِكَ الصَّيْمَرِيُّ عَنْ كَثِيرِينَ، قَالَ: وَحَذَفَهُ آخَرُونَ. قَالَ: وَلَا يَدَعُ أَنْ يَخْتِمَ جَوَابَهُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَوْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَنَحْوَهُ. قَالَ: وَلَا يَقْبُحُ أَنْ يَقُولَ: الْجَوَابُ عِنْدَنَا، أَوِ الَّذِي عِنْدَنَا، أَوِ الَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ كَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ قَالَ: وَإِذَا كَانَ السَّائِلُ قَدْ أَغْفَلَ الدُّعَاءَ لِلْمُجِيبِ، أَوِ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ الْفَتْوَى، أَلْحَقَ الْمُفْتِي ذَلِكَ بِخَطِّهِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ، وَيَكْتُبُ بَعْدُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَنَحْوَهُ: كَتَبَهُ فُلَانٌ، أَوْ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، فَيَنْتَسِبُ إِلَى مَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْ قَبِيلَةٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، ثُمَّ يَنْتَسِبُ إِلَى الْمَذْهَبِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ أَوِ الْحَنَفِيُّ وَنَحْوُهُمَا، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَإِنْ كَانَتِ الْفَتْوَى تَتَعَلَّقُ بِالسُّلْطَانِ، دَعَا لَهُ، فَقَالَ: وَعَلَى السُّلْطَانِ أَوْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ، أَوْ أَصْلَحَهُ، أَوْ سَدَّدَهُ، أَوْ شَدَّ أَزْرَهُ، وَلَا يَقُولُ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ السَّلَفِ. وَقَدْ نَقَلَ النَّحَّاسُ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهِيَةِ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَيُشْبِهُهَا فِي آخِرِ كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» . وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصِرَ جَوَابَهُ، وَيَكُونَ بِحَيْثُ يُفْهَمُ لِلْعَامَّةِ فَهْمًا جَلِيًّا، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا: وَإِذَا سُئِلَ عَمَّنْ قَالَ: أَنَا أَصْدَقُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَوِ الصَّلَاةُ لَغْوٌ وَنَحْوَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ، فَلَا يُبَادِرْ بِقَوْلِهِ: هَذَا

حَلَالُ الدَّمِ، أَوْ عَلَيْهِ الْقَتْلُ، بَلْ يَقُولُ: إِنْ ثَبَتَ هَذَا بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ، اسْتَتَابَهُ السُّلْطَانُ، فَإِنْ تَابَ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَإِلَّا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا وَأَشْبَعَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَإِنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا يُكَفَّرُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ قَالَ: يُسْأَلُ الْقَائِلُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ كَذَا، فَالْجَوَابُ كَذَا، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ كَذَا، فَالْجَوَابُ كَذَا. وَإِذَا سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ أَوْ قَلَعَ سِنًّا أَوْ عَيْنًا، احْتَاطَ فِي الْجَوَابِ، فَيَذْكُرُ الشُّرُوطَ الَّتِي يَجِبُ بِاجْتِمَاعِهَا الْقِصَاصُ، وَإِذَا سُئِلَ عَمَّنْ فَعَلَ مَا يَقْتَضِي تَعْزِيرَهُ، ذَكَرَ مَا يُعَزَّرُ بِهِ، فَيَقُولُ: ضَرَبَهُ السُّلْطَانُ مَا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يُزَادُ عَلَى كَذَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْصِقَ الْجَوَابَ بِآخِرِ الِاسْتِفْتَاءِ، وَلَا يَدَعَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةً مَخَافَةَ أَنْ يَزِيدَ السَّائِلُ شَيْئًا يُفْسِدُ الْجَوَابَ. وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُ الْجَوَابِ وَرَقَةً مُلْصَقَةً، كَتَبَ عَلَى مَوْضِعِ الْإِلْصَاقِ، وَإِذَا ضَاقَ آخِرُ الْوَرَقَةِ عَنِ الْجَوَابِ، لَمْ يَكْتُبْهُ فِي وَرَقَةٍ أُخْرَى، بَلْ فِي ظَهْرِ هَذِهِ أَوْ حَاشِيَتِهَا. وَأَيُّهُمَا أَوْلَى؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، ثَالِثُهَا: هُمَا سَوَاءٌ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ حَاشِيَتَهَا أَوْلَى، وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ فِي فَتْوَاهُ مَعَ الْمُسْتَفْتِي أَوْ خَصْمِهِ، وَوُجُوهُ الْمَيْلِ مَعْرُوفَةٌ. وَمِنْهَا أَنْ يَكْتُبَ مَا لَهُ دُونَ مَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْلِمَ أَحَدَهُمَا مَا يَدْفَعُ بِهِ حُجَّةَ صَاحِبِهِ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْجَوَابَ خِلَافُ غَرَضِ الْمُسْتَفْتِي، وَأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِكِتَابَتِهِ فِي وَرَقَتِهِ، اقْتَصَرَ عَلَى مُشَافَهَتِهِ بِالْجَوَابِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّقَاعِ أَنْ يُقَدِّمَ الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ، كَالْقَاضِي وَهَذَا فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْإِفْتَاءُ، فَإِنْ تَسَاوَوْا وَجَهِلَ السَّابِقَ، أَقْرَعَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمَرْأَةِ، وَالْمُسَافِرِ الَّذِي شَدَّ رَحْلَهُ وَيَتَضَرَّرُ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رُفْقَتِهِ إِلَّا إِذَا كَثُرَ الْمُسَافِرُونَ وَالنِّسَاءُ بِحَيْثُ يَتَضَرَّرُ غَيْرُهُمْ تَضَرُّرًا ظَاهِرًا، فَيُقَدِّمُ حِينَئِذٍ بِالسَّبْقِ، ثُمَّ الْقَرْعَةِ، ثُمَّ لَا

يُقَدِّمُ أَحَدًا إِلَّا فِي فُتْيَا وَاحِدَةٍ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِذَا سُئِلَ عَنْ مِيرَاثٍ، فَالْعَادَةُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي الْوَرَثَةِ عَدَمُ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَمْنَعُ الْإِرْثَ، بَلِ الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَطْلَقَ الْأُخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ: مِنْ أَبَوَيْنِ أَوْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ، وَإِذَا سُئِلَ عَنِ الْمِنْبَرِيَّةِ وَهِيَ زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ وَبِنْتَانِ، لَا يَقُولُ: لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَلَا التُّسُعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، بَلْ يَقُولُ: لَهَا الثُّمُنُ عَائِلًا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، أَوْ لَهَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَذْكُورِينَ مَنْ لَا يَرِثُ أَفْصَحَ بِسُقُوطِهِ، فَقَالَ: وَسَقَطَ فُلَانٌ، فَإِنْ كَانَ سُقُوطُهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، قَالَ: وَسَقَطَ فُلَانٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِحَالٍ. قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ الِاحْتِرَازِ فِي جَوَابِ الْمُنَاسَخَاتِ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَحَسَنٌ أَنْ يَقُولَ: تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ إِنْ كَانَا. قَالُوا: وَإِذَا رَأَى فِي الرُّقْعَةِ فَتْوَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْإِفْتَاءِ، وَخَطُّهُ مُوَافِقٌ لِمَا عِنْدَهُ، كَتَبَ تَحْتَهُ: الْجَوَابُ صَحِيحٌ، أَوْ: جَوَابِي مِثْلُ هَذَا، أَوْ: بِهَذَا أَقُولُ. وَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْجَوَابَ بِعِبَارَةٍ أَخْصَرَ مِنْ عِبَارَةِ السَّابِقِ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا خَطُّ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: لَمْ يُفْتِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِلْخَطَأِ، بَلْ يَضْرِبُ عَلَيْهِ، وَيَنْهَرُ الْمُسْتَفْتِي، وَيُعَرِّفُهُ قُبْحَ مَا فَعَلَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ أَهْلِ الْفَتْوَى. وَإِنْ رَأَى فِيهَا اسْمَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَلَهُ الِامْتِنَاعُ خَوْفًا مِمَّا قُلْنَاهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْمُرَ صَاحِبَهَا بِإِبْدَالِهَا، فَإِنْ أَبَى، أَجَابَهُ شِفَاهًا، وَإِذَا خَافَ فِتْنَةً مِنَ الضَّرْبِ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَكُنْ فُتْيَاهُ خَطَأً، امْتَنَعَ مِنَ الْإِفْتَاءِ مَعَهُ.

وَهَلْ يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَتَخَيَّرَ وَيُقَلِّدَ أَيَّ مَذْهَبٍ شَاءَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إِلَى مَذْهَبٍ، بُنِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي أَنَّ الْعَامِّيَّ هَلْ لَهُ مَذْهَبٌ أَمْ لَا؟ أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ لِعَارِفِ الْأَدِلَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ شَاءَ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْقَفَّالِ لَهُ مَذْهَبٌ، فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَسِبًا، بُنِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ، حَكَاهُمَا ابْنُ بَرْهَانٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْعَامِّيَّ هَلْ يَلْزَمُهُ التَّقَيُّدُ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ؟ أَحَدُهُمَا: لَا، فَعَلَى هَذَا هَلْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ أَمْ يَبْحَثَ عَنْ أَسَدِّ الْمَذَاهِبِ، فَيُقَلِّدَ أَهْلَهُ وَجْهَانِ، كَالْبَحْثِ عَنِ الْأَعْلَمِ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ أَبُو الْحَسَنِ إِلْكِيَا: يَلْزَمُهُ. وَهُوَ جَارٍ فِي كُلِّ مَنْ يَبْلُغُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ سَائِرِ الْعُلُومِ، لِئَلَّا يَتَلَقَّطُ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ بِخِلَافِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ تَكُنْ مَذَاهِبَ مُدَوَّنَةً، فَيَتَلَقَّطُ رُخَصَهَا. فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَخْتَارَ مَذْهَبًا يُقَلِّدُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لَهُ التَّمَذْهُبُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي، وَلَا بِمَا وَجَدَ عَلَيْهِ أَبَاهُ، هَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّمَذْهُبُ بِمَذْهَبٍ، بَلْ يَسْتَفْتِي مَنْ شَاءَ، أَوْ مَنِ اتَّفَقَ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَلَقُّطٍ لِلرُّخَصِ. وَلَعَلَّ مَنْ مَنَعَهُ لَمْ يَثِقْ بِعَدَمِ تَلَقُّطِهِ. وَإِذَا اسْتَفْتَى وَأَفْتَاهُ الْمُفْتِي، فَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا بِإِلْزَامِهِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُهُ إِذَا أَخَذَ فِي الْعَمَلِ

بِهِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِحَّتُهُ، قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى الْأَوْجُهِ، وَالْمُخْتَارُ مَا نَقَلَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُفْتٍ آخَرُ، لَزِمَهُ بِمُجَرَّدِ فَتْوَاهُ، وَإِنْ لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ آخَرُ لَمْ يَلْزَمْهُ بِمُجَرَّدِ إِفْتَائِهِ، إِذْ لَهُ أَنْ يُسْأَلَ غَيْرَهُ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يُخَالِفُهُ، فَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي اخْتِلَافِ الْمُفْتِيَيْنِ، وَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَبْدَأَ مِنَ الْمُفْتِيَيْنِ بِالْأَسَنِّ الْأَعْلَمِ وَبِالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى فَإِنْ أَرَادَ جَمْعَهُمْ فِي رُقْعَةٍ، وَإِنْ أَرَادَ إِفْرَادَهُمْ فِي رِقَاعٍ، بَدَأَ بِمَنْ شَاءَ، وَتَكُونُ رُقْعَةُ الِاسْتِفْتَاءِ وَاسِعَةً، وَيَدْعُو فِي الْوَرَقَةِ لِمَنْ يَسْتَفْتِيهِ، وَيَدْفَعُ الْوَرَقَةَ إِلَى الْمُفْتِي مَنْشُورَةً، وَيَأْخُذُهَا مَنْشُورَةً، فَيُرِيحُهُ مِنْ نَشْرِهَا وَطَيِّهَا. وَإِذَا لَمْ يَجِدْ صَاحِبُ الْوَاقِعَةِ مُفْتِيًا فِي بَلَدِهِ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا مَنْ يَنْقُلُ حُكْمَهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: هَذِهِ مَسْأَلَةُ فَتْرَةِ الشَّرِيعَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَالصَّحِيحُ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَنْ لَا تَكْلِيفَ وَلَا حُكْمَ فِي حَقِّهِ أَصْلًا، فَلَا يُؤَاخَذُ إِذَا صَاحَبَ الْوَاقِعَةَ شَيْءٌ بِصُنْعِهِ. فَهَذَا آخِرُ النُّبَذِ الَّتِي يَسَّرَ اللَّهُ الْكَرِيمُ إِلْحَاقَهَا وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ طَوِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْمُخْتَصَرِ فَهِيَ قَصِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذَكَرْتُهُ فِي شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» ، وَمَوْضِعُ بَسْطُهَا وَالزِّيَادَاتُ وَالْفُرُوعُ هُنَاكَ. وَهَذَا الْفَصْلُ مِمَّا يَكْثُرُ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ، فَلِهَذَا بَسَطْنَاهُ أَدْنَى بَسْطٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْقَاضِي فِي الِاسْتِخْلَافِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَلَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلِقَ التَّوْلِيَةَ، وَلَا يَنْهَاهُ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِمَا تَوَلَّاهُ، كَقَضَاءِ بَلْدَةٍ صَغِيرَةٍ، فَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ كَقَضَاءِ بَلْدَتَيْنِ أَوْ بَلَدٍ كَبِيرٍ، فَلَهُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ، وَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الْمُمْكِنِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْقِيَاسُ فِيمَا إِذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَدْرِ

الْمُسْتَخْلَفِ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْجَمِيعِ، وَقَطَعَ ابْنُ كَجٍّ بِالْجَوَازِ فِي الْكُلِّ عِنْدَ مُطْلَقِ الْإِذْنِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ، فَإِنْ كَانَ مَا فَوَّضَهُ إِلَيْهِ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا النَّهْيُ كَالْعَدَمِ، وَالْأَقْرَبُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا بُطْلَانُ التَّوْلِيَةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَإِمَّا اقْتِصَارُهُ عَلَى الْمُمْكِنِ، وَتَرْكِ الِاسْتِخْلَافِ. قُلْتُ: هَذَا أَرْجَحُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ الْعَامِّ، أَمَّا فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، كَتَحْلِيفِ وَسَمَاعِ بَيِّنَةٍ، فَقَطَعَ الْقَفَّالُ بِجَوَازِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ. فُرُوعٌ أَحَدُهَا: يُشْتَرَطُ فِي الَّذِي يَسْتَخْلِفُهُ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ: فَإِنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرًا خَاصًّا، كَفَاهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ حَتَّى إِنَّ نَائِبَ الْقَاضِي فِي الْقُرَى إِذَا كَانَ الْمُفَوَّضَ إِلَيْهِ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ وَنَقْلُهَا دُونَ الْحُكْمِ، كَفَاهُ الْعِلْمُ بِشُرُوطِ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ. الثَّانِي: قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي «التَّجْرِبَةِ» : نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْمَبْسُوطِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ الشَّافِعِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُخَالِفُهُ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَعْمَلُ بِاجْتِهَادِهِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ عَلَى النَّائِبِ أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادَهُ، وَيَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ الْمُنِيبِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إِذَا جَوَّزْنَا تَوْلِيَةَ الْمُقَلِّدِ لِلضَّرُورَةِ، فَاعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ فِي حَقِّهِ كَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِخِلَافِ اعْتِقَادِ مُقَلِّدِهِ،

فَلَوْ خَالَفَ وَشَرَطَ الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ عَلَى النَّائِبِ الشَّافِعِيِّ الْحُكْمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَهُ الْحُكْمُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْإِمَامَانِ دُونَ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَهَذَا حُكْمٌ مِنْهُ بِصِحَّةِ الِاسْتِخْلَافِ، لَكِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَصَاحِبَا «الْمُهَذِّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمْ: لَوْ قَلَّدَ الْإِمَامُ رَجُلًا الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ بِمَذْهَبٍ عَيْنِهِ، بِطَلَ التَّقْلِيدُ. وَمُقْتَضَى هَذَا بُطْلَانُ الِاسْتِخْلَافِ هُنَاكَ، وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَنَفِيَّ لَوْ وَلَّى شَافِعِيًّا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَا عَلَى غَائِبٍ، صَحَّتِ التَّوْلِيَةُ، وَلَغَا الشَّرْطُ، فَيَقْضِي بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يُرَاعَى الشَّرْطُ هَنَاكَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ لَمْ تَجْرِ صِيغَةُ الشَّرْطِ، بَلْ قَالَ الْإِمَامُ: قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ، فَاحْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، صَحَّ التَّقْلِيدُ، وَلَغَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ، قَالَ: وَلَوْ قَالَ: لَا تَحْكُمْ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ، جَازَ، وَقَدْ قَصَرَ عَمَلَهُ عَلَى بَاقِي الْحَوَادِثِ، وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَا تَقْضِ فِيهِمَا بِقِصَاصٍ أَنَّهُ يَلْغُو أَمْ يَكُونُ مَنْعًا لَهُ فِي الْحُكْمِ فِي الْقِصَاصِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. الثَّالِثُ: حَيْثُ مَنَعْنَا الِاسْتِخْلَافَ، فَاسْتَخْلَفَ فَحُكْمُ الْخَلِيفَةِ بَاطِلٌ، لَكِنْ لَوْ تَرَاضَى خَصْمَانِ بِحُكْمِهِ، كَانَ كَالْمُحَكِّمِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي إِنْفَاذُ حُكْمِهِ، بَلْ يَسْتَأْنِفُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ، فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، فَحُكْمُهُ بَاطِلٌ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ إِنْفَاذُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا نَصَّبَ الْإِمَامُ قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، نُظِرَ إِنْ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِطَرَفٍ مِنْهُ، أَوْ بِزَمَانٍ، أَوْ جَعَلَ أَحَدَهُمَا قَاضِيًا فِي الْأَمْوَالِ، وَالْآخِرَ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ، جَازَ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَكَذَا لَوْ وَلَّاهُمَا عَلَى أَنْ يَحْكُمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي يَرْفَعُهَا الْمُتَخَاصِمَانِ إِلَيْهِ، وَإِنْ عَمَّمَ وِلَايَتَهُمَا مَكَانًا وَزَمَانًا وَحَادِثَةً، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِمَا الِاجْتِمَاعَ

فِي الْحُكْمِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ يَكْثُرُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَتَتَعَطَّلُ الْحُكُومَاتُ، وَإِنْ أَثْبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ الِاسْتِقْلَالَ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَلَّاهُمَا مَعًا، بَطَلَتْ تَوْلِيَتُهُمَا، وَإِنْ وَلَّاهُمَا مُتَعَاقِبَيْنِ، صَحَّتْ تَوْلِيَةُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَأَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، الْوَكِيلَيْنِ وَالْوَصِيَّيْنِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي إِجَابَةِ دَاعِي الْقَاضِيَيْنِ يُجَابُ مَنْ سَبَقَ دَاعِيهِ، فَإِنْ جَاءَا مَعًا أُقْرِعَ، وَإِنْ تَنَازَعَا فِي اخْتِيَارِ الْقَاضِيَيْنِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ يُقْرَعُ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ دُونَ الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا، حَضَرَا عِنْدَ أَقْرَبِ الْقَاضِيَيْنِ إِلَيْهِمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُقْرِعُ، وَقِيلَ: يُمْنَعَانِ مِنَ التَّخَاصُمِ حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى أَحَدِهِمَا. وَإِنْ أَطْلَقَ نَصَّبَ قَاضِيَيْنِ، وَلَمْ يَشْرُطِ اجْتِمَاعَهُمَا، وَلَا اسْتِقْلَالَهُمَا، قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : يُحْمَلُ عَلَى إِثْبَاتِ الِاسْتِقْلَالِ تَنْزِيلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى مَا يَجُوزُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّوْلِيَةُ بَاطِلَةٌ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالِاسْتِقْلَالِ. قُلْتُ: قَوْلُ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُحَكِّمَ الْخَصْمَانِ رَجُلًا غَيْرَ الْقَاضِي، وَهَلْ لِحُكْمِهِ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارٌ، قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَعَمْ، وَخَالَفَهُمُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، فَرَجَّحَا الْمَنْعَ، وَقِيلَ الْقَوْلَانِ فِي الْأَمْوَالِ فَقَطْ، فَأَمَّا النِّكَاحُ وَاللَّعَّانُ، وَالْقِصَاصُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ وَغَيْرُهَا، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا التَّحْكِيمُ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَمِيعِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَلَا يُجْزِئُ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَذْهَبِ، إِذْ لَيْسَ لَهَا طَالِبٌ مُعَيَّنٌ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ مَا يَقْضِي ذَهَابَ بَعْضِهِمْ إِلَى طَرْدِ الْخِلَافِ فِيهَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ الْقَوْلَانِ فِي التَّحْكِيمِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مَخْصُوصَانِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجُزْ، وَقِيلَ: هُمَا إِذَا كَانَ

قَاضٍ وَإِلَّا فَيَجُوزُ قَطْعًا وَالْمَذْهَبُ طَرْدُهُمَا فِي الْحَالَيْنِ، فَإِذَا جَوَّزْنَا التَّحْكِيمَ اشْتُرِطَ فِي الْمُحَكِّمِ صِفَاتُ الْقَاضِي، وَلَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ إِلَّا عَلَى مَنْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ حَتَّى لَا تُضْرَبَ دِيَةُ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِذَا لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ، وَلَا يَكْفِيَ رِضَى الْقَاتِلِ، وَقِيلَ: يَكْفِي، وَالْعَاقِلَةُ تَبَعٌ لَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: الْخِلَافُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِنَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْجَانِي، ثُمَّ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ عَلَيْهَا ابْتِدَاءً لَمْ تُضْرَبْ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِرِضَاهُمْ قَطْعًا وَهَذَا حَسَنٌ. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْمُتَحَاكِمَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا الْقَاضِي نَفْسَهُ، فَإِنْ كَانَ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ رِضَا الْآخَرِ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ نَصٍّ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَلْيَكُنْ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ إِنْ جَازَ، فَالْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ نَائِبُ الْقَاضِي. قَالَ: وَيُشْتَرَطُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَوْنُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ بِحَيْثُ يَجُوزُ لِلْمُحَكَّمِ أَنْ يَحْكُمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ابْنَهُ أَوْ أَبَاهُ، لَمْ يَجُزْ. وَلَيْسَ لِلْمُحَكَّمِ الْحَبْسُ، بَلْ غَايَتُهُ الْإِثْبَاتُ وَالْحُكْمُ وَقِيلَ: يَحْبِسُ وَهُوَ شَاذٌّ وَهَلْ يُلْزِمُ حُكْمَهُمَا بِنَفْسِ الْحُكْمِ كَحُكْمِ الْقَاضِي أَمْ لَا يُلْزِمُهُ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمَا بَعْدَ الْحُكْمِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا الْأَوَّلُ، وَمَتَى رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ، امْتَنَعَ الْحُكْمُ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِيَ شَاهِدِينَ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: عَزَلْتُكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنْ أَحَسَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ فَرَجَعَ، فَفِي تَمْكِينِهِ مِنَ الرُّجُوعِ وَجْهَانِ خَرَّجَهُمَا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا جَوَّزْنَا التَّحْكِيمَ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، فَخَطَبَ امْرَأَةً، وَحَكَّمَا رَجُلًا فِي التَّزْوِيجِ، كَانَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتِيَارُ الْأُسْتَاذَيْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَبِي طَاهِرٍ الزِّيَادَيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَشَايِخِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ

خَاصٌّ مِنْ نَسِيبٍ أَوْ مُعْتِقٍ، وَشُرِطَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ قَاضٍ، وَحَكَى صَاحِبُ الْعُدَّةِ الْقَاضِي أَبُو الْمَكَارِمِ الطَّبَرَيُّ ابْنُ أُخْتِ الرُّويَانِيِّ وَجْهَيْنِ فِي اشْتِرَاطِهِ. وَلْيَكُنْ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُفَرَّقُ فِي التَّحْكِيمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ أَمْ لَا، وَإِذَا رُفِعَ حُكْمُ الْمُحَكِّمِ إِلَى الْقَاضِي، لَمْ يَنْقُضْهُ إِلَّا بِمَا يُنْقِضُ قَضَاءَ غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي أَحْكَامٍ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْلِيَةِ. يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ نَصْبُ الْقَاضِي فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَنَاحِيَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ قَاضٍ، فَإِنْ عَرَفَ حَالَ مَنْ يُوَلِّيهِ عَدَالَةً وَعِلْمًا، فَذَاكَ، وَإِلَّا أَحْضَرَهُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ لِيَعْرِفَ عِلْمَهُ، وَيَسْأَلَ عَنْ سِيرَتِهِ جِيرَانَهُ وَخُلَطَاءَهُ، فَلَوْ وَلَّى مَنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهُ، لَمْ تَنْعَقِدْ تَوْلِيَتُهُ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَوْنَهُ بِصِفَةِ الْقُضَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ نَصْبَ الْقَاضِي إِلَى وَالِي الْإِقْلِيمِ وَأَمِيرِ الْبَلْدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَجْعُولُ إِلَيْهِ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَكَيْلٌ مَحْضٌ، وَكَذَا لَوْ فَوَّضَ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتِيَارَ قَاضٍ، ثُمَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَالِدَهُ وَلَا وَلَدَهُ، كَمَا لَا يَخْتَارُ نَفْسَهُ. وَلَوْ قَالَ لِأَهْلِ بَلَدٍ: اخْتَارُوا رَجُلًا مِنْكُمْ، وَقَلَّدُوهُ الْقَضَاءَ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُشْتَرَطُ فِي التَّوْلِيَةِ تَعْيِينُ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ مِنْ قَرْيَةٍ، أَوْ بَلْدَةٍ، أَوْ نَاحِيَةٍ، وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَوْلَى، فَلَوْ قَالَ: وَلَيْتَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَوْ مَنْ رَغِبَ فِي الْقَضَاءِ بِبَلْدَةِ كَذَا مِنْ عُلَمَائِهَا، لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ قَالَ: فَوَّضْتُ الْقَضَاءَ إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَهَذَا نَصْبُ قَاضِيَيْنِ. وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْقَاضِي الْمَاوَرْدِيِّ: إِنَّ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ تَنْعَقِدُ بِمَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْوِكَالَةُ، وَهُوَ الْمُشَافَهَةُ بِاللَّفْظِ، وَالْمُرَاسَلَةُ، وَالْمُكَاتَبَةُ عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَيَجِئُ فِي الْمُرَاسَلَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ خِلَافٌ كَمَا سَبَقَ فِي الْوِكَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ الصِّحَّةَ كَمَا ذَكَرَهُ. وَفِيهِ أَنَّ صَرِيحَ اللَّفْظِ: وَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ، وَاسْتَخْلَفْتُكَ، وَاسْتَنَبْتُكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّفْوِيضَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ: اقْضِ بَيْنَ النَّاسِ، أَوِ احْكُمْ بِبَلْدَةِ كَذَا، وَهُوَ

مُلْحَقٌ بِالصَّرَائِحِ، كَمَا فِي الْوِكَالَةِ. وَفِيهِ أَنَّ الْكِنَايَاتِ: اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ فِي الْقَضَاءِ، أَوْ رَدَدْتُهُ إِلَيْكَ، أَوِ اعْتَمَدْتُ، أَوْ فَوَّضْتُ، أَوْ وَكَّلْتُ، أَوْ أَسْنَدْتُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يُلْحِقُهَا بِالصَّرَائِحِ وَلَا يَكَادُ يَتَّضِحُ فَرْقٌ بَيْنَ: وَلَّيْتُكُ الْقَضَاءَ، وَفَوَّضْتُهُ إِلَيْكَ. قُلْتُ: الْفَرْقُ وَاضِحٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَّيْتُكَ مُتَعَيَّنٌ لِجَعْلِهِ قَاضِيًا، وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ تَوْكِيلُهُ فِي نَصْبِ قَاضٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ أَنْ عِنْدَ الْمُشَافَهَةِ يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ عَلَى الْفَوْرِ، وَفِي الْمُرَاسَلَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ لَا يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْوَكَالَةِ خِلَافٌ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ، وَأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْفَوْرُ فَلْيَكُنْ هَكَذَا هُنَا. فَرْعٌ يَجُوزُ تَعْمِيمُ التَّوْلِيَةِ وَتَخْصِيصُهَا، إِمَّا فِي الْأَشْخَاصِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ بَيْنَ سُكَّانِ مَحَلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ، أَوْ فِي خُصُومَاتِ شَخْصَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، أَوْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ بَيْنَ مَنْ يَأْتِيهِ فِي دَارِهِ أَوْ فِي مَسْجِدِهِ مِنَ الْخُصُومِ، وَإِمَّا فِي الْحَوَادِثِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ فِي الْأَنْكِحَةِ دُونَ الْأَمْوَالِ أَوْ عَكْسِهِ، أَوْ فِي قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ، وَإِمَّا فِي طَرَفِ الْحُكْمِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ بِالْإِقْرَارِ دُونَ الْبَيِّنَةِ أَوْ عَكْسِهِ، وَإِمَّا فِي الْأَمْكِنَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِمَّا فِي الْأَزْمِنَةِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ سَنَةً أَوْ يَوْمًا مُعَيَّنًا، أَوْ يَوْمًا سَمَّاهُ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ إِذَا قَالَ: وَلَّيْتُكَ سَنَةً، بَطَلَتِ التَّوْلِيَةُ كَمَا فِي الْإِمَامَةِ،

وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ كَالْوَكَالَةِ، وَلَوْ كَانَ كَالْإِمَامَةِ لَمَا جَازَ بَاقِي التَّخْصِيصَاتِ. وَمَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ مُطْلَقًا، اسْتَفَادَ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالتَّحْلِيفَ، وَفَصْلَ الْخُصُومَاتِ بِحُكْمٍ بَاتٍّ أَوْ إِصْلَاحٍ عَنْ تَرَاضٍ، وَاسْتِيفَاءَ الْحُقُوقِ وَالْحَبْسَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالتَّعْزِيرِ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَتَزْوِيجَ مَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ حَاضِرٌ، وَالْوَلَايَةَ فِي مَالِ الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ وَالسُّفَهَاءِ وَالنَّظَرَ فِي الضَّوَالِّ وَفِي الْوَقْفِ حِفْظًا لِلْأُصُولِ، وَإِيصَالًا لِلْغَلَّاتِ إِلَى مَصَارِفِهَا بِالْفَحْصِ عَنْ حَالِ الْمُتَوَلِّي إِذَا كَانَ لَهَا مُتَوَلٍّ، وَبِالْقِيَامِ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَعُمُّ نَظَرُهُ فِي الْوُقُوفِ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ؛ لِأَنَّ الْخَاصَّةَ سَتَنْتَهِي إِلَى الْعُمُومِ. وَالنَّظَرُ فِي الْوَصَايَا وَتَعْيِينُ الْمَصْرُوفِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ بِالْقِيَامِ بِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ، وَبِالْفَحْصِ عَنْ حَالِهِ إِنْ كَانَ، وَالنَّظَرُ فِي الطُّرُقِ، وَالْمَنْعُ مِنَ التَّعَدِّي فِيهَا بِالْأَبْنِيَةِ وَإِشْرَاعِ مَا لَا يَجُوزُ إِشْرَاعُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ: وَنَصْبُ الْمُفْتِينَ وَالْمُحْتَسِبِينَ وَأَخْذُ الزَّكَوَاتِ. وَفَصَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ أَمْرَ الزَّكَوَاتِ، فَقَالَ: إِذَا أَقَامَ الْإِمَامُ لَهَا نَاظِرًا خَرَجَتْ عَنْ عُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَطَّرِدَ هَذَا التَّفْصِيلُ، فِي الْمُحْتَسِبِينَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِقَامَةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ نَصْبُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ بِالتَّوْلِيَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْعَزْلِ وَالِانْعِزَالِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: إِذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ عَمِيَ أَوْ خَرِسَ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الضَّبْطِ وَالِاجْتِهَادِ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ، وَكَذَا لَوْ

فَسَقَ عَلَى الْأَصَحِّ، فَلَوْ زَالَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَفِي عَوْدِ وَلَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، الْأَصَحُّ، لَا يَعُودُ، وَقَطَعَ السَّرَخْسِيُّ بِعَوْدِهَا فِي صُورَةِ الْإِغْمَاءِ. وَلَوْ أُخْبِرَ الْإِمَامُ بِمَوْتِ الْقَاضِي أَوْ فِسْقِهِ، فَوَلَّى قَاضِيًا، ثُمَّ بَانَ خِلَافُهُ، لَمْ يَقْدَحْ فِي تَوْلِيَةِ الثَّانِي. الثَّانِيَةُ: فِي الْحَالِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ عَزْلُهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ، فَلِلْإِمَامِ عَزْلُهُ، قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : وَيَكْفِي فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ خَلَلٌ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، لَمْ يَجُزْ عَزْلُهُ، وَلَوْ عَزَلَهُ لَمْ يَنْعَزِلْ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ صَالِحٌ، نُظِرَ إِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ جَازَ عَزْلُهُ وَانْعَزَلَ الْمَفْضُولُ بِالْعَزْلِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْعَزْلِ بِهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ تَسْكِينِ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهَا، فَلِلْإِمَامِ عَزْلُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ عَزَلَهُ، نُفِّذَ عَلَى الْأَصَحِّ مُرَاعَاةً لِطَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَمَتَى كَانَ الْعَزْلُ فِي مَحَلِّ النَّظَرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْإِمَامِ فِيهِ، وَيُحْكَمُ بِنُفُوذِهِ. وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَوْلِيَةَ قَاضٍ بَعْدَ قَاضٍ هَلْ هِيَ عَزْلٌ لِلْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ، وَلْيَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ قَاضِيَانِ. فَرْعٌ هَلْ يَنْعَزِلُ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ خَبَرُ الْعَزْلِ؟ قِيلَ: قَوْلَانِ كَالْوَكِيلِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ قَبْلَهُ، لِعِظَمِ الضَّرَرِ فِي نَقْضِ أَقْضِيَتِهِ، ثُمَّ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا عَزَلَهُ لَفْظًا، أَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْتَ مَعْزُولٌ، أَوْ عَزَلْتُكَ، فَأَمَّا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ: إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا، فَأَنْتَ مَعْزُولٌ، فَلَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَهُ الْكِتَابُ قَطْعًا، وَإِنْ كَتَبَ إِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي فَأَنْتَ

مَعْزُولٌ، لَمْ يَنْعَزِلْ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ إِنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ انْعَزَلَ، وَكَذَا إِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِعْلَامُهُ بِصُورَةِ الْحَالِ. وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي أُمِّيًّا وَجَوَّزْنَاهُ، فَقُرِئَ عَلَيْهِ، فَالِانْعِزَالُ أَوْلَى. فَرْعٌ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ، كَالْوَكِيلِ وَفِي «الْإِقْنَاعِ» لِلْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ لَا يَنْعَزِلُ إِلَّا بِعِلْمِ مَنْ قَلَّدَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيمَنْ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ، فَيَنْعَزِلُ بِهِ كُلُّ مَأْذُونٍ لَهُ فِي شُغْلٍ مُعَيَّنٍ، كَبَيْعٍ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ، وَسَمَاعِ شَهَادَةٍ فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَأَمَّا مَنِ اسْتَخْلَفَهُ فِي الْقَضَاءِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: يَنْعَزِلُ كَالْوَكِيلِ، وَالثَّانِي: لَا، لِلْحَاجَةِ، وَأَصَحُّهَا يَنْعَزِلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مَأْذُونًا لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي هَذَا لِحَاجَتِهِ، وَقَدْ زَالَتْ بِزَوَالِ وَلَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ لَمْ يَنْعَزِلْ إِنْ كَانَ قَالَ: اسْتَخْلِفْ عَنِّي فَامْتَثَلَ، وَإِنْ قَالَ: اسْتَخْلِفْ عَنْ نَفْسِكَ، أَوْ أَطْلَقَ، انْعَزَلَ، وَلَوْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ نَائِبًا عَنِ الْقَاضِي، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْقَاضِيَ هَلْ لَهُ عَزْلُ خَلِيفَتِهِ. فَرْعٌ الْقُوَّامُ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْأَوْقَافِ جَعَلَهُمُ الْغَزَالِيُّ كَالْخُلَفَاءِ، وَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُمْ لَا يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ، لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ أَبْوَابُ الْمَصَالِحِ وَهُمْ كَالْمُتَوَلِّي مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ. فَرْعٌ الْقُضَاةُ وَالْوُلَاةُ لَا يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَانْعِزَالِهِ لِشِدَّةِ

الضَّرَرِ فِي تَعْطِيلِ الْحَوَادِثِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إِذَا قَالَ الْقَاضِي بَعْدَ الِانْعِزَالِ: كُنْتُ حَكَمْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَهَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ مَعَ آخَرَ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: نَعَمْ، وَالصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ مَعَ غَيْرِهِ أَنَّ حَاكِمًا جَائِرَ الْحُكْمِ حَكَمَ بِكَذَا، وَلَمْ يُضِفْ إِلَى نَفْسِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ شَهِدَتِ الْمُرْضِعَةُ بِرَضَاعٍ مُحَرِّمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِعْلَهَا. وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَوَجَبَ الْبَيَانُ، لِيَزُولَ اللَّبْسُ، وَالْوَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، قُبِلَتْ وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَعْرُوفُ، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَإِنْ عَلِمَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَضَافَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُمَا إِذَا عَلِمَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قُبِلَ قَطْعًا لِجَوَازِ إِرَادَةِ غَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ لَوْ شَهِدَ الْمَعْزُولُ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِكَذَا، وَشَهِدَ مَعَهُ آخَرُ أَنَّ الْمَعْزُولَ حَكَمَ بِهِ، وَجَبَ أَنْ نَقْبَلَ، لِأَنَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا نَعْتَنِي إِلَّا بِتَصْحِيحِ الصِّيغَةِ. قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ شَهِدَ الْمَعْزُولُ أَنَّهُ مِلْكُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ حُكْمِي بِكَذَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى فِعْلِهِ، وَقَوْلُ الْقَاضِي فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ: حَكَمْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا، كَقَوْلِ الْمَعْزُولِ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ قَبْلَ الْعَزْلِ: حَكَمْتُ بِكَذَا، فَيُقْبَلُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فِي الْحَالِ وَحَتَّى لَوْ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ: نِسَاءُ الْقَرْيَةِ طَوَالِقُ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى حُجَّةٍ.

فَرْعَانِ ذَكَرَهُمَا الْهَرَوِيُّ، أَحَدُهُمَا: قَالَ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ: الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ هَذَا الْأَمِينِ دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ أَيَّامَ قَضَائِي لِيَحْفَظَهُ لِزَيْدٍ، وَقَالَ الْأَمِينُ: إِنَّهُ لِعَمْرٍو، وَمَا قَبَضْتُهُ مِنْكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ، وَإِنْ وَافَقَهُ عَلَى الْقَبْضِ مِنْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدَانِ بِحُكْمِ الْقَاضِي هُمَا اللَّذَانِ شَهِدَا عِنْدَهُ، وَحَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا، لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى فِعْلِ الْقَاضِي. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ: وَعَلَى هَذَا تَفَقَّهْتُ، وَأَدْرَكْتُ الْقُضَاةَ. الْخَامِسَةُ: لَيْسَ عَلَى الْقَاضِي تَتَبُّعُ أَحْكَامِ الْقَاضِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا السَّدَادُ، وَلَهُ التَّتَبُّعُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ احْتِيَاطًا. وَإِذَا جَاءَهُ مُتَظَلِّمٌ عَلَى الْقَاضِي الْمَعْزُولِ، وَطَلَبَ إِحْضَارَهُ، لَمْ يُسَارِعْ إِلَى إِجَابَتِهِ، فَقَدْ يَقْصِدُ ابْتِذَالَهُ، بَلْ يَسْأَلُهُ عَمَّا يُرِيدُ مِنْهُ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ عَيْنًا، أَوْ دَيْنَ مُعَامَلَةٍ، أَوْ إِتْلَافًا أَوْ غَصْبًا، أَحْضَرَهُ، وَفَصَلَ خُصُومَتَهُمَا، كَغَيْرِهِمَا. وَلَوْ قَالَ: أَخَذَ مِنِّي كَذَا عَلَى سَبِيلِ الرِّشْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ، أَوْ أَخَذَ مِنِّي مَالًا بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَدَفَعَهُ إِلَى فُلَانٍ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخْذَ كَالْغَصْبِ، وَأَمَّا فُلَانٌ الَّذِي ادَّعَى الدَّفْعَ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ: أَخَذْتُهُ بِحُكْمِ الْمَعْزُولِ لِي، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَا قَوْلُ الْمَعْزُولِ لَهُ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى حُكْمِ الْمَعْزُولِ لَهُ أَيَّامَ قَضَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةً، انْتَزَعَ مِنْهُ الْمَالَ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُ لِي، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْآخِذُ مِنَ الْمُدَّعِي لِحُكْمِ الْمَعْزُولِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُتَظَلِّمُ لِلْآخِذِ، بَلْ قَالَ: حَكَمَ عَلَيَّ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ وَنَحْوِهُمَا، فَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ وَجْهًا أَنَّ دَعْوَاهُ لَا تُسْمَعُ، وَلَا يُصْغَى إِلَيْهِ وَهَذَا الْوَجْهُ خَطَأٌ لَا نَعْرِفُهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَصْحَابِ، بَلِ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنْ دَعَوَاهُ مَسْمُوعَةً، وَبَيِّنَتُهُ مَحْكُومٌ بِهَا، وَلَكِنْ هَلْ يَحْضُرُ الْمَعْزُولُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا:

نَعَمْ كَغَيْرِهِ، وَالثَّانِي: لَا يُحْضِرْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ بِمَا يَدَّعِيهِ، أَوْ عَلَى إِقْرَارِ الْمَعْزُولِ بِمَا يَدَّعِيهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ جَرَيَانُ أَحْكَامِهِ عَلَى الصَّوَابِ، فَيَكْفِي هَذَا الظَّاهِرُ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقَامُ فِي غَيْبَتِهِ، وَيُحْكَمُ بِهَا لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنْ يَكُونَ إِحْضَارُهُ ثَبَتَ فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي شُهُودًا يَعْرِفُ الْقَاضِيَ بِهِمْ أَنَّ لِدَعْوَاهُ أَصْلًا وَحَقِيقَةً، ثُمَّ إِذَا حَضَرَ الْمَعْزُولُ ادَّعَى الْمُدَّعِي، وَشَهِدَ الشُّهُودُ فِي وَجْهِهِ، فَإِنْ أُحْضِرَ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَأَقَرَّ، طُولِبَ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالرُّويَانِيُّ كَالْمُوَدِّعِ وَسَائِرِ الْأُمَنَاءِ، وَقِيلَ: يُصَدَّقُ بِلَا يَمِينٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ، وَالْإِصْطَخْرِيُّ، وَصَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ، وَالْبَغَوِيُّ. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ فِي مَالٍ أَوْ دَمٍ حَتَّى إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَتَلَ ظُلْمًا بِالْحُكْمِ جَرَى الْخِلَافُ فِي أَنَّ إِحْضَارَهُ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَأَنَّهُ إِذَا أَنْكَرَ هَلْ يُحَلَّفُ؟ وَلَوِ ادَّعَى عَلَى نَائِبِ الْمَعْزُولِ فِي الْقَضَاءِ، فَهُوَ كَالدَّعْوَى عَلَى الْمَعْزُولِ، وَأَمَّا أُمَنَاؤُهُ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ فَلَوْ حُوسِبَ بَعْضُهُمْ فَبَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: أَخَذْتُ هَذَا الْمَالَ أُجْرَةَ عَمَلِي، فَصَدَّقَهُ الْمَعْزُولُ، لَمْ يَنْفَعْهُ تَصْدِيقُهُ، بَلْ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَهَلْ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي أُجْرَةِ الْمِثْلِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، بَلْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِجَرَيَانِ ذِكْرِ الْأُجْرَةِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَجَّانًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يُسَمِّ أُجْرَةً، هَلْ يَسْتَحِقُّهَا؟ فَرْعٌ لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْقَاضِي الْبَاقِي عَلَى قَضَائِهِ، نُظِرَ إِنِ ادَّعَى مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ، حَكَمَ بَيْنَهُمَا خَلِيفَتُهُ أَوْ قَاضٍ آخَرُ، وَإِنِ ادَّعَى ظُلْمًا فِي الْحُكْمِ، وَأَرَادَ تَغْرِيمَهُ، لَمْ يُمْكِنْ، وَلَا يَحْلِفُ الْقَاضِي وَلَا تُغْنِي

إِلَّا الْبَيِّنَةُ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى عَلَى الشَّاهِدِ أَنَّهُ شَهِدَ بِالزُّورِ، وَأَرَادَ تَغْرِيمَهُ، لِأَنَّهُمَا أَمِينَانِ شَرْعًا. وَلَوْ فَتَحَ بَابَ تَحْلِيفِهِمَا لَتَعَطَّلَ الْقَضَاءُ، وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَالَ لِلْقَاضِي: قَدْ عُزِلْتَ، فَأَنْكَرَ وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ التَّحْلِيفُ فِي جَمِيعِ هَذَا كَسَائِرِ الْأُمَنَاءِ إِذَا ادُّعِيَتْ خِيَانَتُهُمْ. الْبَابُ الثَّانِي فِي جَامِعِ آدَابِ الْقَضَاءِ فِيهِ أَطْرَافٌ الْأَوَّلُ: فِي آدَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَهِيَ عَشْرَةٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكْتُبَ الْإِمَامُ كِتَابَ الْعَهْدِ لِمَنْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ، وَيَذْكُرَ فِيهِ مَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إِلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَيَعِظُهُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ يَبْعَثُهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ بَعِيدًا لَا يَنْتَشِرُ الْخَبَرُ إِلَيْهِ، فَلْيُشْهِدْ شَاهِدَيْنِ عَلَى التَّوْلِيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ وَيَقْرَآنِهِ، أَوْ يَقْرَؤُهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ قَرَأَ غَيْرُ الْإِمَامِ، فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَنْظُرَ الشَّاهِدَانِ فِيهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ الشَّاهِدَانِ مَعَهُ، فَيُخْبِرَانِ بِالْحَالِ هُنَاكَ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَيْسَ هَذَا عَلَى قَوَاعِدِ الشَّهَادَاتِ، إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ قَاضٍ يُؤَدِّي عِنْدَهُ الشَّهَادَةَ. وَلَوْ أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ، كَفَى، فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّهُودِ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَرِيبًا يَنْتَشِرُ الْخَبَرُ إِلَيْهِ وَيَسْتَفِيضُ، فَإِنْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ يَخْرُجَانِ مَعَهُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَفِي الِاكْتِفَاءِ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ كَالْوَكَالَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَأَصَحُّهُمَا الِاكْتِفَاءُ، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنِ الْخُلَفَاءِ الْإِشْهَادُ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَطْلَقَ الْوَجْهَيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْبَلَدِ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ خِلَافٌ، وَيَكُونَ التَّعْوِيلُ عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ مُجَرَّدِ الْكِتَابَةِ بِغَيْرِ اسْتِفَاضَةٍ، وَلَا إِشْهَادٌ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي اعْتِمَادِهِ وَجْهَيْنِ.

الْأَدَبُ الثَّانِي: إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى بَلَدِ قَضَائِهِ، سَأَلَ عَنْ حَالِ مَنْ فِيهِ الْعُدُولِ وَالْعُلَمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ، سَأَلَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَى عِلْمٍ بِحَالِ الْبَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ، سَأَلَ حِينَ يَدْخُلُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. قُلْتُ: قَالَ الْأَصْحَابُ: فَإِنْ تَعَسَّرَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ فَالْخَمِيسُ، وَإِلَّا فَالسَّبْتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَنْ يَنْزِلَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ أَوِ النَّاحِيَةِ، لِئَلَّا يَطُولَ الطَّرِيقُ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَإِذَا دَخَلَ، فَإِنْ رَأَى أَنْ يَشْتَغِلَ فِي الْحَالِ بِقِرَاءَةِ الْعَهْدِ، فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَهُ، وَيَأْمُرَ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمًا فَأَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ عَلَى حَسَبِ صِغَرِ الْبَلَدِ أَوْ كِبَرِهِ أَنَّ فُلَانًا جَاءَ قَاضِيًا، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ يَوْمَ كَذَا لِقِرَاءَةِ الْعَهْدِ، فَمَنْ أَحَبَّ، فَلْيَحْضُرْ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا، قَرَأَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شُهُودٌ شَهِدُوا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَيَسْتَحْضِرُ النَّاسُ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الشُّهُودِ وَالْمُزَكَّيْنَ سِرًّا وَعَلَانِيَةً. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيَتَسَلَّمُ دِيوَانَ الْحُكْمِ وَهُوَ مَا كَانَ عِنْدَ الْقَاضِي قَبْلَهُ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ، وَحُجَجِ الْأَيْتَامِ وَالْأَوْقَافِ، وَحُجَجِ غَيْرِهِمُ الْمُودَعَةِ فِي الدِّيوَانِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، وَقَدِ انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ النَّظَرَ فِي الْأُمُورِ نَظَرَ أَوَّلًا فِي الْمَحْبُوسِينَ هَلْ يَسْتَحِقُّونَهُ أَمْ لَا؟ وَيَأْمُرُ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ لِلنَّظَرِ فِيهِمْ مَنْ يُنَادِي يَوْمًا فَأَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ فِي الْمَحْبُوسِينَ يَوْمَ كَذَا، فَمَنْ لَهُ مَحْبُوسٌ، فَلْيَحْضُرْ، وَيَبْعَثُ إِلَى الْحَبْسِ أَمِينًا لِيَكْتُبَ اسْمَ كُلِّ مَحْبُوسٍ وَمَا حُبِسَ بِهِ، وَمَنْ حُبِسَ لَهُ فِي رُقْعَةٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُ يَبْعَثُ أَمِينَيْنِ وَهُوَ أَحْوَطُ. فَإِذَا جَلَسَ فِي الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَحَضَرَ النَّاسُ، صُبَّتِ الرِّقَاعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَأْخُذُ رُقْعَةً

وَيَنْظُرُ فِي الِاسْمِ الْمُثْبَتِ فِيهَا، وَيَسْأَلُ عَنْ خَصْمِهِ فَمَنْ قَالَ: أَنَا خَصْمُهُ بَعَثَ مَعَهُ ثِقَةً إِلَى الْحَبْسِ لِيَأْخُذَ بِيَدِهِ وَيُحْضِرَهُ، وَهَكَذَا يَحْضُرُ مِنَ الْمَحْبُوسِينَ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ الْمَجْلِسَ يَحْتَمِلُ النَّظَرَ فِي أَمْرِهِمْ وَفِي «أَمَالِي» السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ لِلِابْتِدَاءِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ الْمَحْبُوسُ وَخَصْمُهُ، سَأَلَ الْمَحْبُوسَ عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِ، وَجَوَابُهُ يُفْرَضُ عَلَى وُجُوهٍ، مِنْهَا أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّهُ حُبِسَ بِحَقٍّ، فَإِنْ كَانَ مَا حُبِسَ بِهِ مَالًا، أُمِرَ بِأَدَائِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا مُعْسِرٌ، فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي التَّفْلِيسِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَلَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ، رُدَّ إِلَى الْحَبْسِ، وَإِنْ أَدَّى أَوْ ثَبَتَ إِعْسَارُهُ نُودِيَ عَلَيْهِ، فَلَعَلَّ لَهُ خَصْمًا آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ خُلِّيَ، وَإِنْ كَانَ مَا حُبِسَ بِهِ حَدًّا، أُقِيمَ عَلَيْهِ، وَخُلِّيَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: شَهِدْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ، فَحَبَسَنِي الْقَاضِي لِيَبْحَثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، فَفِي جَوَازِ الْحَبْسِ بِهَذَا السَّبَبِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُحْبَسُ بِهِ، أَطْلَقَهُ، وَإِلَّا رَدَّهُ، وَبَحَثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: حُبِسْتُ بِخَمْرٍ أَوْ كَلْبٍ أَتْلَفْتُهُ عَلَى ذَمِّيٍّ، وَهَذَا الْقَاضِي لَا يَعْتَقِدُ التَّغْرِيمَ بِذَلِكَ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُمْضِيهِ، وَالثَّانِي: يَتَوَقَّفُ، وَيَسْعَى فِي اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى شَيْءٍ. وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: حُبِسْتُ ظُلْمًا، فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ مَعَهُ، فَعَلَى الْخَصْمِ الْبَيِّنَةُ، وَيُصَدَّقُ الْمَحْبُوسُ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ خَصْمًا غَائِبًا، فَقِيلَ: يُطْلَقُ قَطْعًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُطْلَقُ حُبِسَ، أَوْ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ، وَيُكْتَبُ إِلَى خَصْمِهِ فِي الْحُضُورِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أُطْلِقَ حِينَئِذٍ، وَإِنْ قَالَ: لَا خَصْمَ لِي أَصْلًا، أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي فِيمَ حُبِسْتُ، نُودِيَ عَلَيْهِ لِطَلَبِ الْخَصْمِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ، حُلِّفَ وَأُطْلِقَ قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : وَفِي مُدَّةِ الْمُنَادَاةِ لَا يُحْبَسُ، وَلَا يُخَلَّى بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يُرْتَقَبُ، وَحَيْثُ أَطْلَقَ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ مَظْلُومٌ لَا يُطَالِبُ بِكَفِيلٍ عَلَى الْأَصَحِّ.

فَرْعٌ لَوْ كَانَ قَدْ حَبَسَهُ الْأَوَّلُ تَعْزِيرًا قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَطْلَقَهُ الثَّانِي، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِهَذَا، فَإِنْ بَانَتْ جِنَايَتُهُ عِنْدَ الثَّانِي، وَرَأَى إِدَامَةَ حَبْسِهِ، فَالْقِيَاسُ الْجَوَازُ. فَرْعٌ فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْمَحْبُوسِينَ، نَظَرَ فِي الْأَوْصِيَاءِ، فَإِذَا حَضَرَ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ وَصِيٌّ، بَحَثَ الْحَاكِمُ عَنْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَصْلُ الْوِصَايَةِ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّ الْقَاضِي الْمَعْزُولَ نَفَّذَ وِصَايَتَهُ، وَأَطْلَقَ تَصَرُّفَهُ، قَرَّرَهُ، وَلَمْ يَعْزِلْهُ إِلَّا أَنْ يَطْرَأَ فِسْقُهُ وَنَحْوُهُ وَيَنْعَزِلَ، فَيَنْزِعَ الْمَالَ مِنْهُ، وَإِنْ شَكَّ فِي عَدَالَتِهِ فَوَجْهَانِ، قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُقِرُّ الْمَالَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْأَمَانَةُ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَنْتَزِعُهُ حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ ضَعِيفًا، أَوْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِحِفْظِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، ضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ يُعِينُهُ، وَالثَّانِي تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ، فَإِنْ قَالَ: فَرَّقْتُ مَا أَوْصَى بِهِ، نُظِرَ إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِمُعَيَّنِينَ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، لِأَنَّهُمْ يُطَالِبُونَ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصَلَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا أَمْضَى تَصَرُّفَهُ وَلَمْ يُضَمِّنْهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، ضُمِّنَهُ لِتَعِدِيهِ بِالتَّفْرِيقِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَوْ فَرَّقَ الثُّلُثَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرُ الْوَصِيِّ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَضِيعَ، نُظِرَ إِنْ كَانَتِ الْوِصَايَةُ لِمُعَيَّنِينَ، وَقَعَ الْمَوْقِعُ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَإِلَّا فَيُضَمَّنُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ ثُمَّ بَعْدَ الْأَوْصِيَاءِ يَنْظُرُ فِي أُمَنَاءِ الْقَاضِي الْمَنْصُوبِينَ عَلَى الْأَطْفَالِ

، وَتَفْرِقَةِ الْوَصَايَا، فَمَنْ تَغَيَّرَ حَالُهُ بِفِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَوْصِيَاءِ وَمَنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، أَقَرَّهُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ وَيُوَلِّيَ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْأَوْصِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَمِينَ يُوَلَّى مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْوَصِيِّ. فَرْعٌ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ وَالْمُتَوَلِّينَ لَهَا، وَفِي اللُّقَطِ وَالضَّوَالِّ، فَمَا لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ لِلْمُلْتَقِطِ، أَوْ يَجُوزُ وَلَمْ يَخْتَرْ تَمَلُّكَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ، حَفِظَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، أَوْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِكِ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ مَعْزُولَةً عَنْ أَمْثَالِهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَخْلِطَهَا بِمِثْلِهَا فَإِذَا ظَهَرَ الْمَالِكُ، غُرِمَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَرْعٌ لِيُقَدِّمْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَإِنْ عَرَضَتْ حَادِثَةٌ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِهَذِهِ الْمُهِمَّاتِ اسْتَخْلَفَ مَنْ يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ فِيمَا هُوَ فِيهِ. الْأَدَبُ الثَّالِثُ: يُرَتِّبُ الْقَاضِي بَعْدَ الْمَذْكُورَاتِ أَمْرَ الْكُتَّابِ وَالْمُزَكِّينَ وَالْمُتَرْجِمِينَ، أَمَّا الْكُتَّابُ فَلِلْحَاجَةِ إِلَى كِتَابَةِ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ، وَالْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَفَرَّغُ لَهَا غَالِبًا. وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَا يَكْتُبُهُ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَغَيْرِهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَدْلًا. وَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَجْهٌ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَدَالَةَ لَيْسَا بِشَرْطٍ بَلْ مُسْتَحَبَّانِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُمْضِي مَا كَتَبَهُ حَتَّى يَقِفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا وَافِرَ الْعَقْلِ، عَفِيفًا عَنِ الْأَطْمَاعِ، جَيِّدَ الْخَطِّ،

ضَابِطًا لِلْحُرُوفِ، وَأَنْ يُجْلِسَهُ الْقَاضِي بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُمْلِيَ عَلَيْهِ، وَيُشَاهِدَ مَا يَكْتُبُهُ. وَأَمَّا الْمُزَكُّونَ فَسَيَأْتِي فِيهِمْ فَصْلٌ مُفْرَدٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُتَرْجِمُونَ، فَلِلْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقَاضِيَ لُغَتَهُ مِنْ خَصْمٍ أَوْ شَاهِدٍ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُتَرْجِمِ التَّكْلِيفُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ إِلَى الْقَاضِي قَوْلًا لَا يَعْرِفُهُ، فَأَشْبَهَ الشَّاهِدُ وَالْمُزَكِّي بِخِلَافِ الْكَاتِبِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ شَرَطْنَا الْعَدَدَ فِيهِ وَفِي الْمُزَكِّي. قَالَ الْأَصْحَابُ: فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، قُبِلَتِ التَّرْجَمَةُ مِنْ رَجُلَيْنِ أَوْ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَانْفَرَدَ الْإِمَامُ بِاشْتِرَاطِ رَجُلَيْنِ، وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالْعِتْقُ وَسَائِرُ مَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِرَجُلَيْنِ، فَيُشْتَرَطُ فِي تَرْجَمَتِهِ رَجُلَانِ، وَفِي الزِّنَا هَلْ يَكْفِي رَجُلَانِ أَمْ يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ؟ قَوْلَانِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، وَقِيلَ: يَكْفِي رَجُلَانِ قَطْعًا، وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ أَعْجَمِيَّيْنِ فَهَلْ يَكْفِي لَهُمَا مُتَرْجِمَانِ أَمْ يُشْتَرَطُ لِكُلٍّ مُتَرْجِمَانِ؟ قَوْلَانِ كَشُهُودِ الْفَرْعِ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْعِبَادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَرْجِمُ أَعْمَى عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ يُفَسِّرُ اللَّفْظَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَايَنَةٍ وَإِشَارَةٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا كَانَ بِالْقَاضِي صَمَمٌ وَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ يُسْمِعُهُ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ كَالْمُتَرْجِمِ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْمُسْمِعَ لَوْ غَيَّرَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ، وَالْحَاضِرُونَ بِخِلَافِ الْمُتَرْجِمِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْخَصْمَانِ أَصَمَّيْنِ، اشْتُرِطَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يَعْتَنِي اعْتِنَاءَهُمَا، وَإِنْ كَانَا سَمِيعَيْنِ، فَلَا. فَأَمَّا إِسْمَاعُ الْخَصْمِ مَا يَقُولُهُ الْقَاضِي، وَمَا يَقُولُهُ الْخَصْمُ، فَحَكَى الرُّويَانِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَإِذَا شَرَطْنَا الْعَدَدَ. اشْتُرِطَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ يَقُولُ كَذَا، وَمَنْ مَنَعَ، قَالَ: لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ مُحَقَّقَةٍ، وَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَدَدُ، اشْتُرِطَتِ الْحُرِّيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ، كَهِلَالِ رَمَضَانَ،

وَلَا يُسَلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الرِّوَايَاتِ وَلِيَجْرِيَ الْخِلَافُ فِي لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ مَعَ بُعْدِهِ مِنَ الْمُتَرْجِمِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الِاكْتِفَاءُ بِإِسْمَاعِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْمَالِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُتَرْجِمِ. فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْقَاضِي كِفَايَةً، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَتَفَرَّغَ لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ وَجَدَهَا وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ. وَيُسْتَحَبُّ تَرْكُ الْأَخْذِ، وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا مَعَ رِزْقِ الْقَاضِي لِثَمَنِ وَرَقِ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ، وَلِأُجْرَةِ الْكَاتِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ أَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِمَا هُوَ أَهَمُّ، فَإِنْ أَتَى الْمُدَّعِي بِوَرَقَةٍ تَثْبُتُ فِيهَا خُصُومَتُهُ وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ، وَبِأُجْرَةِ الْكَاتِبِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، لَكِنْ يُعْلِمُهُ الْقَاضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُثْبِتْ مَا جَرَى، فَقَدْ تُنْسَى شَهَادَةُ الشُّهُودِ وَحُكْمُ نَفْسِهِ. وَلْيَكُنْ رِزْقُ الْقَاضِي بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَا الْإِمَامُ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْخَيْلِ وَالْغِلْمَانِ، وَالدَّارِ الْوَاسِعَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِأَنَّهُ قَدْ بَعُدَ الْعَهْدُ بِزَمَنِ النُّبُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ النَّصْرِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ وَالْهَيْبَةِ فِي الْقُلُوبِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ الْإِمَامُ الْيَوْمَ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُطَعْ، وَتَعَطَّلَتِ الْأُمُورُ. وَلَوْ رَزَقَ الْإِمَامُ الْقَاضِيَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ رَزَقَهُ أَهْلُ وِلَايَتِهِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَالَّذِي خَرَّجَهُ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْأَذَانِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رِزْقُ الْمُؤَذِّنِ

مِنْ مَالِ الْإِمَامِ، أَوْ أَحَدِ الرَّعِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُورِثُ تُهْمَةً وَمَيْلًا فِي الْمُؤَذِّنِ بِخِلَافِ الْقَاضِي، وَكَمَا يَرْزُقُ الْإِمَامُ الْقَاضِيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يَرْزُقُ أَيْضًا مَنْ يَرْجِعُ مَصْلَحَةُ عَمَلِهِ إِلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَمِيرِ وَالْمُفْتِي وَالْمُحْتَسِبِ، وَإِمَامِ الصَّلَاةِ وَالْمُؤَذِّنِ، وَمَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَالْقَاسِمِ، وَكَاتِبِ الصُّكُوكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، لَمْ يُعَيِّنْ قَاسِمًا وَلَا كَاتِبًا لِئَلَّا يُغَالِيَ بِالْأُجْرَةِ وَأَلْحَقَ بِهَؤُلَاءِ الْمُقَوِّمَ، وَفِي الْمُتَرْجِمِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَهَؤُلَاءِ، وَالثَّانِي: لَا، كَالْوَكِيلِ. قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ وَأَبُو زَيْدٍ، وَعَلَى هَذَا فَمُؤْنَةُ مَا يُتَرْجِمُ بِهِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُسْمِعُ كَالْمُتَرْجِمِ، فَفِي مُؤْنَتِهِ الْوَجْهَانِ، وَهُمَا جَارِيَانِ فِي الْمُزَكِّي، وَالْقَوْلُ فِي الشَّاهِدِ يَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْأَدَبُ الرَّابِعُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فَسِيحًا بَارِزًا نَزِهًا لَا يُؤْذِي فِيهِ حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ وَرِيحٌ وَغُبَارٌ وَدُخَانٌ، فَيَجْلِسُ فِي الصَّيْفِ حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ، وَكَذَا فِي الشِّتَاءِ وَزَمَنِ الرِّيَاحِ، وَاسْتَحَبَّ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ جُلُوسِهِ مُرْتَفِعًا كَدِكَّةٍ وَنَحْوِهَا لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَى النَّاسِ، وَعَلَيْهِمُ الْمُطَالَبَةُ، وَحَسَنٌ أَنْ يُوَطَّأَ لَهُ الْفِرَاشُ، وَمَوْضِعُ الْوِسَادَةِ، لِيَعْرِفَهُ الدَّاخِلُ، وَيَكُونَ أَهِيبَ عِنْدَ الْخُصُومِ، وَأَرْفَقَ بِالْقَاضِي لِئَلَّا يَمَلَّ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَتَّكِئُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُتَّخَذَ الْمَسْجِدُ مَجْلِسًا لِلْقَضَاءِ، فَإِنِ اتُّخِذَ، كُرِهَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ يُنَزَّهُ عَنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَحُضُورِ الْحُيَّضِ وَالْكُفَّارِ وَالْمَجَانِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَحْضُرُونَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي: لَا يُكْرَهُ كَمَا لَا يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالْإِفْتَاءِ، وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْكَرَاهَةَ، فَهِيَ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ أَشَدُّ، وَكَرَاهَةُ اتِّخَاذِهِ مَجْلِسًا لِلْقُضَاةِ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، فَإِنِ ارْتَكَبَهَا لَمْ يُمَكَّنِ الْخُصُومَ مِنْ

فصل

الِاجْتِمَاعِ فِيهِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَنَحْوِهَا، بَلْ يَقْعُدُونَ خَارِجَهُ، وَيَنْصِبُ مَنْ يُدْخِلُ خَصْمَيْنِ خَصْمَيْنِ، وَلَوِ اتَّفَقَتْ قَضِيَّةٌ أَوْ قَضَايَا وَقْتَ حُضُورِهِ فِي الْمَسْجِدِ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَا بَأْسَ بِفَصْلِهَا، وَإِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ وَلَا زَحْمَةَ، كُرِهَ أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ فِي أَوْقَاتِ خَلْوَتِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. الْأَدَبُ الْخَامِسُ: يُكْرَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي كُلِّ حَالٍ يَتَغَيَّرُ فِيهِ خُلُقُهُ وَكَمَالُ عَقْلِهِ لِغَضَبٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ شِبَعٍ مُفْرِطَيْنِ أَوْ مَرَضٍ مُؤْلِمٍ، وَخَوْفٍ مُزْعِجٍ، وَحُزْنٍ وَفَرَحٍ شَدِيدَيْنِ، وَغَلَبَةِ نُعَاسٍ أَوْ مَلَالٍ أَوْ مُدَافَعَةِ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ، أَوْ حُضُورِ طَعَامٍ يَتُوقُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ وَالْبَغَوَيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْغَضَبُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَظَاهِرُ كَلَامِ آخَرِينَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَلَوْ قَضَى فِي هَذِهِ الْحَالِ، نَفَذَ. فَصْلٌ إِذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ نَكَلَ، فَحَلِفَ الْمُدَّعِي، ثُمَّ يَسْأَلُ الْمُدَّعِي الْقَاضِيَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَهُ أَوْ نَكَلَ، وَحَلِفَ الْمُدَّعِي، لَزِمَهُ إِجَابَتُهُ. وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ، وَسَأَلَ الْقَاضِي الْإِشْهَادَ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ أَيْضًا فِي الْأَصَحِّ، وَلَوْ حَلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ سَأَلَهُ الْإِشْهَادَ لِيَكُونَ حُجَّةً لَهُ، فَلَا يُطَالِبُهُ مَرَّةً أُخْرَى، لَزِمَهُ إِجَابَتُهُ، وَسَأَلَهُ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا بِمَا جَرَى لِيَحْتَجَّ بِهِ إِذَا احْتَاجَ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قِرْطَاسٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ الطَّالِبُ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِجَابَتُهُ وَإِنْ كَانَ فَهَلْ يَجِبُ أَمْ يُسْتَحَبُّ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: الِاسْتِحْبَابُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِالشُّهُودِ لَا بِالْكِتَابِ، وَإِنْ طَلَبَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِمَا ثَبَتَ، لَزِمَهُ الْحُكْمُ، فَيَقُولُ: حَكَمْتُ لَهُ بِهِ، أَوْ أَنْفَذْتُ الْحُكْمَ بِهِ، أَوْ أَلْزَمْتُ خَصْمَهُ الْحَقَّ، وَإِذَا حَكَمَ، فَطَلَبَ الْإِشْهَادَ عَلَى حُكْمِهِ، لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ، وَإِنْ طَلَبَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهِ سِجِّلًّا، فَعَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابَةِ

الْمَحْضَرِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ يَجِبُ التَّسْجِيلُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالْوُقُوفِ وَأَمْوَالِ الْمَصَالِحِ. فَلَا يَجِبُ فِي الْحَالِّ وَالْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ، وَسَوَاءٌ أَوْجَبْنَا الْكِتَابَةَ أَمِ اسْتَحْبَبْنَاهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الْمَكْتُوبِ، وَأَنَّهُ كَيْفَ يُضْبَطُ وَيُحْفَظُ، أَمَّا الْأَوَّلُ، فَالْمَكْتُوبُ مَحْضَرٌ وَسِجِلٌّ، أَمَّا الْمَحْضَرُ، فَصُورَتُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حَضَرَ الْقَاضِي فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَأَحْضَرَ مَعَهُ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ، وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهِمَا مَا يُفِيدُ التَّمْيِيزَ، وَهَذَا إِذَا عَرَفَهُمَا الْقَاضِي. وَيُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ التَّعَرُّضُ لِحِلْيَتِهِمَا طُولًا وَقِصَرًا فِي الْقَدِّ، وَسُمْرَةً وَشُقْرَةً فِي الْوَجْهِ، وَيَصِفُ مِنْهُمَا الْحَاجِبَ وَالْعَيْنَ وَالْفَمَ وَالْأَنْفَ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمَا، كَتَبَ: حَضَرَ رَجُلٌ ذَكَرَ أَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَأَحْضَرَ مَعَهُ رَجُلًا ذَكَرَ هَذَا الْمُحْضِرُ أَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، وَلَا بُدَّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِحِلْيَتِهِمَا، ثُمَّ يَكْتُبُ: وَادَّعَى عَلَيْهِ كَذَا مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ بِصِفَتِهِمَا، فَأَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَى، فَإِنْ أَنْكَرَ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً كَتَبَ، فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي فُلَانًا وَفُلَانًا شَاهِدَيْنِ، وَسَأَلَ الْقَاضِي اسْتِمَاعَ شَهَادَتِهِمَا، فَسَمِعَهَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَتُهُمَا، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَحْضَرًا بِمَا جَرَى، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي تَارِيخِ كَذَا، وَيُثْبِتُ عَلَى رَأْسِ الْمَحْضَرِ عَلَامَتَهُ مِنَ الْحَمْدَلَةِ وَغَيْرِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْهِمَ الشَّاهِدَيْنِ فَيَكْتُبَ: وَأَحْضَرَ عَدْلَيْنِ شَهِدَا لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي كِتَابٌ فِيهِ خَطُّ الشَّاهِدَيْنِ، كَتَبَ تَحْتَ خَطِّهِمَا: شَهِدَا عِنْدِي بِذَلِكَ، وَأَثْبَتَ عَلَامَتَهُ فِي رَأْسِ الْكِتَابِ، وَاكْتَفَى بِهِ عَنِ الْمَحْضَرِ، جَازَ، وَإِنْ كَتَبَ الْمَحْضَرَ وَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الْكِتَابَ، جَازَ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ مَحْضَرٍ يَذْكُرُ تَحْلِيفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَأَمَّا السِّجِلُّ، فَصُورَتُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ فُلَانٌ الْقَاضِي بِمَوْضِعِ كَذَا فِي تَارِيخِ كَذَا أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ كَذَا، فَأَقَرَّ فُلَانٌ لِفُلَانٍ، أَوْ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَقَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا عِنْدَهُ، أَوْ بِيَمِينِهِ

بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ، وَأَنْفَذَهُ بِسُؤَالِ الْمَحْكُومِ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ: ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا فِي كِتَابٍ هَذِهِ نُسْخَتُهُ، وَيَنْسَخُ الْكِتَابَ إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ يَكْتُبُ: وَإِنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ. وَكَيْفِيَّةُ التَّعَرُّضِ لِنَسَبِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَحِلْيَتِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَحْضَرِ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ ابْنَ خَيْرَانَ لَمْ يُجَوِّزْ لِلْقَاضِي التَّسْجِيلَ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَدَاعِيَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا امْرَأَةً، وَاحْتَاجَ إِلَى إِثْبَاتِ الْحِلْيَةِ، فَلْيَكُنِ النَّظَرُ لِذَلِكَ، كَالتَّحَمُّلِ لِلشَّهَادَةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ كَيْفَ يَضْبُطُ وَيَحْفَظُ، فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ الْمَحَاضِرَ وَالسِّجِلَّاتِ نُسْخَتَيْنِ يَدْفَعُ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ إِحْدَاهُمَا غَيْرَ مَخْتُومَةٍ، وَتُحْفَظُ الْأُخْرَى فِي دِيوَانِ الْقَضَاءِ مَخْتُومَةً، وَيَكْتُبُ عَلَى رَأْسِهَا اسْمَ الْخَصْمَيْنِ، وَيَضَعُهَا فِي خَرِيطَةٍ أَوْ قِمَطْرٍ، وَهُوَ السَّفَطُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الْمَحَاضِرُ وَالسِّجِلَّاتُ، وَيَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ، خَتَمَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ خَتَمَهُ أَمِينٌ وَهُوَ يَنْظُرُ، ثُمَّ أَمَرَ بِحَمْلِهِ إِلَى مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يَدْعُو بِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَيَنْظُرُ فِي الْخَتْمِ، وَيَفُكُّهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَفُكُّهُ أَمِينُهُ وَهُوَ يَنْظُرُ وَيَضَعُ فِيهِ كُتُبَ الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا ذَكَرْنَا، وَهَكَذَا يَفْعَلُ حَتَّى يَمْضِيَ الْأُسْبُوعُ، فَإِنْ كَثُرَتْ، جَعَلَهَا إِضْبَارَةً وَكَتَبَ عَلَيْهَا: خُصُومَاتُ أُسْبُوعِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا وَسِجِلَّاتُهُ، وَيَعْزِلُهَا. وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ تَرَكَهَا حَتَّى يَمْضِيَ شَهْرٌ، ثُمَّ يَعْزِلُهَا، فَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ، جَمَعَهَا، وَكَتَبَ عَلَيْهَا: كُتُبُ سَنَةِ كَذَا. لِيَسْهُلَ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَجْعَلُهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَإِذَا احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا تَوَلَّى أَخْذَهُ بِنَفْسِهِ، وَنَظَرَ أَوَّلًا إِلَى خَتْمِهِ وَعَلَامَاتِهِ. فَرْعٌ قَالَ الْهَرَوِيُّ: إِنْ أَوْجَبْنَا التَّسْجِيلَ عَلَى الْقَاضِي، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ

فصل

الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ. وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمُ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَنْعِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ الْمُفْتِي لِيَكْتُبَ الْفَتْوَى. الْأَدَبُ السَّادِسُ: يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي الْمُشَاوَرَةُ وَإِنَّمَا يُشَاوِرُ الْعُلَمَاءَ الْأُمَنَاءَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ لِيَذْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ دَلِيلَهُ فَيَتَأَمَّلُهَا الْقَاضِي وَيَأْخُذُ بِأَرْجَحِهَا عِنْدَهُ، ثُمَّ الَّذِينَ يُشَاوِرُهُمْ إِنْ شَاءَ أَقْعَدَهُمْ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَقْعَدَهُمْ نَاحِيَةً، فَإِذَا احْتَاجَ اسْتَدْعَاهُمْ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْمُشَاوَرَةُ تَكُونُ عِنْدَ اخْتِلَافِ وُجُوهِ النَّظَرِ، وَتَعَارُضِ الْآرَاءِ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الْمَعْلُومُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعِ [أَوْ] قِيَاسٍ جَلِيٍّ، فَلَا مُشَاوَرَةَ فِيهِ وَإِذَا حَضَرَ الْمُسْتَشَارُونَ، فَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ مَا عِنْدَهُمْ إِذَا سَأَلَهُمْ وَلَا يَبْتَدِئُونَ بِالِاعْتِرَاضِ وَالرَّدِّ عَلَى حُكْمِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ حُكْمًا يَجِبُ نَقْضُهُ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْجُمْهُورُ يُوَجَّهُ بِأَنَّهُمْ بِانْتِظَارِهِ أَوْلَى كَمَا فِي الصَّلَاةِ. [الْأَدَبُ] السَّابِعُ: يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَوَلَّى الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ، بَلْ يُوَكِّلُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ، فَإِنْ عَرَفُوهُ بِوِكَالَتِهِ أَبْدَلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَكِّلُهُ، عَقَدَ بِنَفْسِهِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ وَقَعَتْ خُصُومَةٌ لِمُعَامَلَةٍ، أَنَابَ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ، وَلَا يَخْتَصَّ هَذَا الْحُكْمُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَلْ يَعُمُّ الْإِجَارَةَ وَسَائِرَ الْمُعَامَلَاتِ، بَلْ نُصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ وَلَا أَمْرِ ضَيْعَتِهِ، وَيَكِلُ إِلَى غَيْرِهِ لِيَتَفَرَّغَ قَلْبُهُ. فَصْلٌ يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي الرِّشْوَةُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ عِوَضٍ مِنَ الْخُصُومِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ:

لَوْ قَالَ لِلْخَصْمَيْنِ: لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا حَتَّى تَجْعَلَا لِي رِزْقًا، جَازَ، وَمِثْلُهُ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا نَحْوَ مَا نَقَلَ الْهَرَوِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخَصْمِ أُجْرَةً مِثْلَ عَمَلِهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ وَجَوَّزَهُ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَأَمَا بَاذِلُ الرِّشْوَةِ، فَإِنْ بَذَلَهَا لِيَحْكُمَ لَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، [أَوْ يَتْرُكَ الْحُكْمَ بِحَقٍّ] حَرُمَ عَلَيْهِ الْبَذْلُ، وَإِنْ كَانَ لِيَصِلَ إِلَى حَقِّهِ، فَلَا يَحْرُمُ كَفِدَاءِ الْأَسِيرِ. قُلْتُ: وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمُرْتَشِي وَالرَّاشِي، فَلَهُ حُكْمُ مُوَكِّلِهِ مِنْهُمَا، فَإِنْ وَكَّلَا، حَرُمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْآخِذِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ فَالْأَوْلَى أَنْ يَسُدَّ بَابَهَا وَلَا يَقْبَلَهَا، ثُمَّ إِنَّ كَانَ لِلْمُهْدِي خُصُومَةٌ فِي الْحَالِ، حَرُمَ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، وَهَدِيَّتُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، كَهَدِيَّةِ مَنْ عَادَتُهُ أَنْ يُهْدَى [لَهُ] قَبْلَ الْوِلَايَةِ لِقَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ وَلَا يَحْرُمُ قَبُولُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي تَحْرِيمِهَا وَجْهًا وَهُوَ [مُقْتَضَى] إِطْلَاقِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَادَةٌ بِالْهَدِيَّةِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ، فَإِنْ زَادَ الْمُهْدِي عَلَى الْقَدْرِ الْمَعْهُودِ، صَارَتْ هَدِيَّتُهُ كَهَدِيَّةِ مَنْ لَمْ يُعْهَدْ مِنْهُ الْهَدِيَّةُ، وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِأَنَّ الْقَبُولَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَلَهُ الْأَخْذُ وَالتَّمَلُّكُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهَا أَوْ يَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَحَيْثُ قُلْنَا بِالتَّحْرِيمِ، فَقَبِلَهَا، لَمْ يُمَلَّكْهَا عَلَى الْأَصَحِّ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَهَا، قِيلَ: يَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، جَعَلَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ.

فَرْعٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّشْوَةَ حَرَامٌ مُطْلَقًا، وَالْهَدِيَّةُ جَائِزَةٌ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَيُطْلَبُ الْفَرْقُ بَيْنَ حَقِيقَتَيْهِمَا مَعَ أَنَّ الْبَاذِلَ رَاضٍ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ: أَنَّ الرِّشْوَةَ هِيَ الَّتِي يُشْرَطُ عَلَى قَابِلِهَا الْحُكْمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوْ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْحُكْمِ بِحَقٍّ، وَالْهَدِيَّةُ: هِيَ الْعَطِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ. وَالثَّانِي قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : الْمَالُ إِمَّا يُبْذَلُ لِغَرَضٍ آجِلٍ فَهُوَ قُرْبَةٌ وَصَدَقَةٌ، وَإِمَّا لِعَاجِلٍ، وَهُوَ إِمَّا مَالٌ، فَهُوَ هِبَةٌ بِشَرْطِ ثَوَابٍ، أَوْ لِتَوَقُّعِ ثَوَابٍ، وَإِمَّا عَمَلٌ، فَإِنْ كَانَ عَمَلًا مُحَرَّمًا، أَوْ وَاجِبًا مُتَعَيَّنًا، فَهُوَ رِشْوَةٌ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَإِجَارَةٌ أَوْ جَعَالَةٌ، وَإِمَّا لِلتَّقَرُّبِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَى الْمَبْذُولِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ بِمُجَرَّدِ نَفْسِهِ، فَهَدِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ لِيَتَوَسَّلَ بِجَاهِهِ إِلَى أَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ، فَإِنْ كَانَ جَاهُهُ بِالْعِلْمِ أَوِ النَّسَبِ، فَهُوَ هَدِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ بِالْقَضَاءِ وَالْعَمَلِ، فَهُوَ رِشْوَةٌ. [الْأَدَبُ] الثَّامِنُ: فِي تَأْدِيبِهِ الْمُسِيئِينَ عَمَّنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ فِي مَجْلِسِهِ مِنَ الْخُصُومِ بِأَنْ صَرَّحَ بِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ، أَوْ ظَهَرَ مِنْهُ مَعَ خَصْمِهِ لَدَدٌ، أَوْ مُجَاوَزَةُ حَدٍّ، زَجَرَهُ وَنَهَاهُ، فَإِنْ عَادَ، هَدَّدَهُ وَصَاحَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ، عَزَّرَهُ بِمَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُهُ مِنْ تَوْبِيخٍ وَإِغْلَاظِ الْقَوْلِ، أَوْ ضَرْبٍ وَحَبْسٍ، وَلَا يَحْبِسُهُ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ اللَّدَدِ، وَعَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَفِي «يَتِيمَةِ الْيَتِيمَةِ» أَنَّهُ إِنَّمَا يَضْرِبُهُ بِالدِّرَّةِ دُونَ السِّيَاطِ إِذِ الضَّرْبُ بِالسِّيَاطِ مِنْ شَأْنِهِ الْحُدُودُ. وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، بَلِ الضَّرْبُ بِالسِّيَاطِ جَائِزٌ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَعْزِيرِ الْقَاضِي شَاهِدَ الزُّورِ حَيْثُ قَالَ: عَزَّرَهُ وَلَمْ يَبْلُغْ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا. وَمِثَالُ اللَّدَدِ أَنْ تَتَوَجَّهَ الْيَمِينُ عَلَى الْخَصْمِ، فَيَطْلُبُ يَمِينَهُ، ثُمَّ يَقْطَعُهَا عَلَيْهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، ثُمَّ يُحْضِرُهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا، وَيَفْعَلُ كَذَلِكَ، وَكَذَا

لَوْ أَحْضَرَ رَجُلًا، وَادَّعَى عَلَيْهِ وَقَالَ: لِي بَيِّنَةٌ وَسَأُحْضِرُهَا، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَانِيًا وَثَالِثًا إِيذَاءً وَتَعَنُّتًا. وَلَوِ اجْتَرَأَ خَصْمٌ عَلَى الْقَاضِي وَقَالَ: أَنْتَ تَجُورُ أَوْ تَمِيلُ، أَوْ ظَالِمٌ، جَازَ أَنْ يُعَزِّرَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ، وَالْعَفْوُ أَوْلَى إِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى ضَعْفِهِ، وَالتَّعْزِيرُ أَوْلَى إِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ، عَزَّرَهُ الْقَاضِي بِمَا يَرَاهُ مِنْ تَوْبِيخٍ وَضَرْبٍ وَحَبْسٍ، وَشَهَّرَ حَالَهُ، وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهِ فِي سُوقِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ، أَوْ قَبِيلَتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ قَبِيلَةٌ، أَوْ مَسْجِدِهِ تَحْذِيرًا لِلنَّاسِ مِنْهُ، وَتَأْكِيدًا لِأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزُّورِ بِإِقْرَارِ الشَّاهِدِ إِنْ تَيَقَّنَ الْقَاضِي، بِأَنْ شَهِدَ أَنَّ فَلَانًا زِنَى بِالْكُوفَةِ يَوْمَ كَذَا، وَقَدْ رَآهُ الْقَاضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ بِبَغْدَادَ. هَكَذَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ [هَلْ] يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، وَلَا يَكْفِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ، فَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ بَيِّنَةَ زُورٍ. [الْأَدَبُ] التَّاسِعُ: لَا يُنَفَّذُ قَضَاءُ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ، وَلَا لِمَمْلُوكِهِ الْقِنِّ وَغَيْرِ الْقِنِّ، وَلَا لِشَرِيكِهِ فِيمَا لَهُ فِيهِ شِرْكٌ، وَلَا لِشَرِيكِ مَكَاتِبِهِ فِيمَا لَهُ فِيهِ شِرْكٌ، وَلَا يَقْضِي لِأَحَدٍ مِنْ أُصُولِهِ وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا فُرُوعِهِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَلَا لِمَمْلُوكِ أَحَدِهِمْ، وَلَا لِشَرِيكِهِ، فَإِنْ فَعَلَ، لَمْ يُنَفَّذْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ لَهُمْ بِعِلْمِهِ، لَمْ يُنَفَّذْ قَطْعًا، وَإِنْ جَوَّزْنَا قَضَاءَهُ بِعِلْمِهِ لِلْأَجَانِبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، كَمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ وَفَصَّلَ الْبَغَوِيُّ الْحُكْمَ لِلْوَلَدِ وَعَلَيْهِ، فَقَالَ: لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ ابْنَهُ عَلَى نَفْيِ مَا يُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِلْخُصُومَةِ لَا حُكْمَ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي

عَلَى ابْنِهِ، وَلَا يَسْمَعَ بَيِّنَةَ الدَّفْعِ مِنَ ابْنِهِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ ابْنِهِ؟ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَعْدِيلَهُ، فَإِنْ عَدَّلَهُ شَاهِدَانِ، فَالْمُتَّجِهُ أَنَّهُ يَقْضِي، وَلَوْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِ أَبُوهُ وَابْنُهُ، هَلْ لَهُ الْحُكْمُ لِأَحَدِهِمَا؟ وَجْهَانِ فِي «الْمُهَذَّبِ» أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَمَتَى وَقَعَتْ لَهُ خُصُومَةٌ، أَوْ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُمْنَعُ حُكْمُهُ لَهُمْ، قَضَى فِيهَا الْإِمَامُ، أَوْ قَاضِي بَلْدَةٍ أُخْرَى، أَوْ نَائِبِهِ، وَفِي النَّائِبِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ، لِأَنَّهُمَا كَنَفْسِهِ. قَالَ: وَلَوْ جَعَلَ الْإِمَامُ إِلَى رَجُلٍ أَنْ يَخْتَارَ قَاضِيًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ وَالِدَهُ وَلَا وَلَدَهُ، كَمَا لَا يَخْتَارُ نَفْسَهُ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي مَسَائِلِ التَّزْكِيَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَزْكِيَةُ وَلَدٍ وَلَا وَالِدٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَا يَقْضِي عَلَى عَدُوِّهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَجَوَّزَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ» لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُكْمِ ظَاهِرَةٌ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. فَرْعٌ تَوَلَّى وَصِيُّ الْيَتِيمِ الْقَضَاءَ هَلْ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَحْكُمَ لَهُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ. [الْأَدَبُ] الْعَاشِرُ: فِيمَا يُنْقَضُ مِنْ قَضَائِهِ وَقَضَاءِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِقَوَاعِدَ، إِحْدَاهَا الْأُصُولُ الَّتِي يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي، وَيُفْتِي بِهَا الْمُفْتِي كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَقَدْ يُقْتَصَرُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُقَالُ: الْإِجْالمَاعُ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَالْقِيَاسُ يُرَدُّ إِلَى أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فِيهِمْ، فَقَوْلَانِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَالْجَدِيدُ

لَيْسَ بِحُجَّةٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَفَّالُ الْقَوْلَانِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قِيَاسٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ وَلَوْ ضَعِيفٌ احْتُجَّ بِهِ قَطْعًا، وَرُجِّحَ عَلَى الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ فِي الْجَمِيعِ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، وَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ، وَتَرْكُ الْقِيَاسِ، وَفِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَهُوَ كَقَوْلِ آحَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، لَكِنْ لَوْ تَعَارَضَ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا وَافَقَ قَوْلَ صَحَابِيٍّ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: قَدْ تَمِيلُ نَفْسُ الْمُجْتَهِدِ إِلَى الْمُوَافِقِ وَيُرَجَّحُ عِنْدَهُ. قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي «اللُّمَعِ» وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ بِالْجَزْمِ بِالْأَخْذِ بِالْمُوَافِقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنِ انْتَشَرَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يُخَالِفَهُ غَيْرُهُ، فَعَلَى الْجَدِيدِ هُوَ كَاخْتِلَافِ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَعَلَى الْقَدِيمِ هُمَا حُجَّتَانِ تَعَارَضَتَا، فَإِنِ اخْتُصَّ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِكَثْرَةِ عَدَدٍ، أَوْ بِمُوَافَقَةِ أَحَدِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَرَجَّحَ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ فِي غَيْرِ عَلِيٍّ وَأَلْحَقَ الْجُمْهُورُ بِهِمْ عَلِيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَلْحَقْهُ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ، وَكَانُوا فِي حُكْمِهِمْ وَفَتْوَاهُمْ يَتَشَاوَرُونَ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انْتَقَلَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَتَفَرَّقَتِ الصَّحَابَةُ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، أَوْ وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا أَحَدُهُمَا، وَفِي الْآخَرِ الْآخَرُ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَلَوْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرُ، وَفِي الْآخَرِ عُثْمَانُ أَوْ عَلَيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَهَلْ يَسْتَوِيَانِ، أَمْ يُرَجَّحُ طَرَفُ الشَّيْخَيْنِ؟ وَجْهَانِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ مِثْلُهُمَا فِي تَعَارُضِ الشَّيْخَيْنِ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي وَجْهٍ، وَيُقَدَّمُ طَرَفُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَجْهٍ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُوَافِقَهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَيَقُولُوا بِمَا قَالَهُ، فَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ انْقِرَاضُ عَصْرِ

الْمُجْمِعِينَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدُهُمْ مِنَ الرُّجُوعِ، بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ مَعَ قَوْلِ سَائِرِ الْمُجْتَمِعِينَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْكُتُوا، فَلَا يُصَرِّحُوا بِمُوَافَقَتِهِ وَلَا مُخَالَفَتِهِ فَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ حُجَّةٌ، لِأَنَّهُمْ لَوْ خَالَفُوهُ، لَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ، لَكِنْ هَلْ هُوَ إِجْمَاعٌ أَمْ حَجَّةٌ غَيْرُ إِجْمَاعٍ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ أَمَارَاتُ الرِّضَى مِمَّنْ سَكَتَ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فَإِجْمَاعٌ بِلَا خِلَافٍ، قَالُوا: وَالْأَصَحُّ هُنَا اشْتِرَاطُ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فِي كَوْنِهِ حَجَّةً أَوْ إِجْمَاعًا، وَهَلْ يُفَرَّقُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً وَإِجْمَاعًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مُجَرَّدَ فَتْوًى، أَوْ حُكْمًا مِنْ إِمَامٍ أَوْ قَاضٍ؟ فِيهِ طَرُقٌ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِنْ كَانَ فَتْوًى، فَحُجَّةٌ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا، فَلَا؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْإِمَامِ لَيْسَ مِنَ الْأَدَبِ، وَلَعَلَّ السُّكُوتَ لِذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَكْسَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَصْدُرُ عَنْ مُشَاوَرَةٍ وَمُرَاجَعَةٍ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا فَرْقَ، وَكَانُوا يَعْتَرِضُونَ عَلَى الْإِمَامِ كَغَيْرِهِ، فَقَدْ خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَدِّ، وَعُمْرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُشْرِكَةِ. وَمُخْتَصَرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَالثَّانِي حُجَّةٌ وَإِجْمَاعٌ، وَالثَّالِثُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَالرَّابِعُ مِنَ الْمُفْتِي حُجَّةٌ، وَمِنَ الْحَاكِمِ لَا، الْخَامِسُ عَكْسُهُ هَذَا إِذَا نُقِلَ السُّكُوتُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُنْقَلْ قَوْلٌ وَلَا سُكُوتٌ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِهَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى السُّكُوتِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ عَدَمَ النَّقْلِ كَنَقْلِ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأَصْحَابِ فِي تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ، وَالْأَقْرَبُ إِلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقِيَاسَ نَوْعَانِ جَلِيٌّ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الْجَلِيُّ، فَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مُوَافَقَةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ بِحَيْثُ يَنْتَفِي احْتِمَالُ مُفَارَقَتِهِمَا، أَوْ يَبْعُدُ، وَذَلِكَ كَظُهُورِ الْتِحَاقِ الضَّرْبِ بِالتَّأْفِيفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وَمَا فَوْقَ الذَّرَّةِ بِالذَّرَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) الْآيَةَ، وَ [مَا فَوْقَ] النَّقِيرِ بِالنَّقِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) وَنَظَائِرِهِ، فَإِنَّ فُرُوعَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَوْلَى مِنَ الْأُصُولِ، وَبَعْضُ الْأَصْحَابِ لَا يُسَمِّي هَذَا قِيَاسًا، وَيَقُولُ: هَذِهِ الْإِلْحَاقَاتُ مَفْهُومَةٌ مِنَ النَّصِّ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا إِلْحَاقُ الْعَمْيَاءِ بِالْعَوْرَاءِ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ وَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ بِالْفَأْرَةِ، وَغَيْرِ السَّمْنِ بِالسَّمْنِ فِي حَدِيثِ (الْفَأْرَةُ تَقَعُ بِالسَّمْنِ إِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا) وَالْغَائِطِ بِالْبَوْلِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» وَمِنَ الْجَلِيِّ مَا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ كَحَدِيثِ «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ» وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) وَأَمَّا غَيْرُ الْجَلِيِّ فَمَا لَا يُزِيلُ احْتِمَالَ الْمُفَارَقَةِ وَلَا يُبْعِدُهُ كُلَّ الْبُعْدِ، فَمِنْهُ مَا الْعِلَّةُ فِيهِ مُسْتَنْبَطَةٌ، كَقِيَاسِ الْأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الطُّعْمِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: هُوَ مِنَ الْجَلِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَمِنْهُ قِيَاسُ الشَّبَهِ، وَهُوَ أَنْ يُشْبِهَ الْحَادِثَةَ أَصْلَيْنِ إِمَّا فِي الْأَوْصَافِ بِأَنْ يُشَارِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي وَالْأَوْصَافِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ، وَإِمَّا فِي الْأَحْكَامِ كَالْعَبْدِ يُشَارِكُ الْحُرَّ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَالْمَالِ فِي بَعْضِهَا، فَيُلْحَقُ بِمَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَرُبَّمَا سُمِّيَ قِيَاسُ الشَّبَهِ خَفِيًّا وَالَّذِي قَبْلَهُ غَيْرُ الْجَلِيِّ وَاضِحًا، وَرُبَّمَا خُصَّ الْجَلِيُّ بِبَعْضِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا كَانَ الْفَرْعُ فِيهِ أَوْلَى بِحُكْمِ الْأَصْلِ. قُلْتُ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَأَنَّهُ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَسَائِلُ الْفُرُوعِيَّةُ الِاجْتِهَادِيَّةُ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِيهَا طَرِيقَانِ أَشْهَرُهُمَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْمُحِقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، وَالْمُجْتَهِدُ مَأْمُورٌ بِإِصَابَتِهِ، وَالذَّاهِبُ إِلَى غَيْرِهِ مُخْطِئٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، فَالْمُخْطِئُ مَغْدُورٌ غَيْرُ آثِمٍ، بَلْ مَأْجُورٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ، فَأَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ، فَأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي «اللُّمَعِ» قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَأْثَمُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَفِيمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا - وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ -: يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَى بِهِ إِلَى الْخَطَأِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكِ الطَّرِيقَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَالثَّانِي يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَعَلَى الِاجْتِهَادِ جَمِيعًا. وَإِذَا قُلْنَا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَهَلْ نَقُولُ: الْحُكْمُ وَالْحَقُّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مَا ظَنَّهُ، أَمِ الْحَقُّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٍ إِلَّا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ بِمَا ظَنَّهُ لَا بِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ؟ وَجْهَانِ، اخْتَارَ الْغَزَالِيُّ الْأَوَّلَ، وَبِالثَّانِي قَطَعَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، وَحَكَوْهُ عَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَالدَّارِكِيِّ. فَرْعٌ مَتَى حَكَمَ الْقَاضِي بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فِي حُكْمِهِ، فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالَفَ قَطْعِيًّا كَنَصِّ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ ظَنًّا مُحْكَمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوْ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَيَلْزَمُهُ نَقْضُ حُكْمِهِ. وَهَلْ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ تَعْرِيفُ الْخَصْمَيْنِ صُورَةَ الْحَالِ لِيَتَرَافَعَا إِلَيْهِ، فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ؟ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَلْزَمُهُ إِنْ عَلِمَا أَنَّهُ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، فَإِنْ تَرَافَعَا إِلَيْهِ، نُقِضَ، وَقَالَ سَائِرُ الْأَصْحَابِ: يَلْزَمُهُ وَإِنْ عَلِمَا أَنَّهُ بَانَ [لَهُ] الْخَطَأُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُمَا قَدْ

يَتَوَهَّمَانِ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ وَإِنْ بَانَ الْخَطَأُ. هَذَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُبَادِرُ إِلَى تَدَارُكِهِ إِذَا بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، وَمَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ سَبَقَ حُكْمُ ضَمَانِهِ. الْحَالُ الثَّانِي: إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ، وَأَنَّهُ الصَّوَابُ، فَلْيَحْكُمْ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَخَوَاتِ الْحَادِثَةِ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا، وَلَا يَنْقُضُ مَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلًا، بَلْ يُمْضِيهِ، ثُمَّ مَا نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ نَفْسِهِ نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَمَا لَا، فَلَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَنْقُضُهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ، وَلَهُ تَتَبُّعُ قَضَاءِ نَفْسِهِ لِيَنْقُضَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَنْصُوبُ لِلْقَضَاءِ قَبْلَهُ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، نَقَضَ أَحْكَامَهُ كُلَّهَا، وَإِنْ أَصَابَ فِيهَا، لِأَنَّهَا صَدَرَتْ مِمَّنْ لَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ، هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْجُمَلِيُّ فِيمَا يُنْقَضُ وَلَا يُنْقَضُ. ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي صُوَرٍ، مِنْهَا لَوْ قَضَى قَاضٍ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمَفْقُودِ زَوْجُهَا بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَوَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا وَظَاهِرُ النَّصِّ، نَقْضُهُ، لِمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ حَيًّا فِي الْمَالِ، فَلَا يُقَسَّمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَلَا يُجْعَلُ مَيِّتًا فِي النِّكَاحِ. وَالثَّانِي: لَا يُنْقَضُ كَغَيْرِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِيَّاتِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَرُبَ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِي نَقْضِ حُكْمِ مَنْ قَضَى بِحُصُولِ الْفُرْقَةِ فِي اللِّعَانِ بِأَكْثَرِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَمَّنْ نَكَحَ أُمَّهُ وَوَطِئَهَا، وَمِنْهَا حُكْمُ الْحَنَفِيِّ بِبُطْلَانِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالْعَرَايَا بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي يُجَوِّزُهُ، وَفِي ذَكَاةِ الْجَنِينِ، وَمَنْعِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ، وَصِحَّةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، أَوْ حُكْمِ غَيْرِهِ بِصِحَّةِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَثُبُوتِ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ بَعْدَ حَوْلَيْنِ، وَصِحَّةِ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَالْمُتْعَةِ، وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَبِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْأَطْرَافِ، وَجَرَيَانِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَرَدِّ الزَّوَائِدِ مَعَ الْأَصْلِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَفِي نَقْضِ هَذِهِ

فصل

الْأَحْكَامِ وَجْهَانِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: الْأَصَحُّ لَا نَقْضَ، لِأَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْأَدِلَّةُ مُتَقَارِبَةٌ، وَمَنْ نَقَضَ، قَالَ: فِيهَا نُصُوصٌ وَأَقْيِسَةٌ جَلِيَّةٌ، وَيُنْقَضُ قَضَاءُ مَنْ حَكَمَ بِالِاسْتِحْسَانِ الْفَاسِدِ. فَرْعٌ مَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ لَوْ كُتِبَ بِهِ إِلَيْهِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ وَلَا يُنَفِّذُهُ، وَأَمَّا مَا لَا يُنْقَضُ وَيَرَى غَيْرُهُ أَصْوَبَ مِنْهُ، فَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنْهُ، وَلَا يُنَفِّذُهُ؛ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ خَطَأً. وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: لَا أُحِبُّ تَنْفِيذَهُ. وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِتَجْوِيزِ التَّنْفِيذِ، وَقَدْ صَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ بِنَقْلِ الْخِلَافِ، فَقَالَ: إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ حُكْمُ قَاضٍ قَبْلَهُ، فَلَمْ يَرَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي النَّقْضَ، لَكِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُعْرِضُ عَنْهُ، وَأَصَحُّهُمَا: يُنَفِّذُهُ، وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ تَغَيُّرًا لَا يَقْتَضِي النَّقْضَ، وَتَرَافَعَ خُصَمَاءُ الْحَادِثَةِ إِلَيْهِ فِيهَا، فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ الْأَوَّلَ، وَإِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ مِنْهُ. فَرْعٌ إِذَا اسْتُقْضِيَ مُقَلِّدٌ لِلضَّرُورَةِ، فَحَكَمَ بِمَذْهَبِ غَيْرِ مُقَلَّدِهِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْأُصُولِ: إِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ بَلْ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مُقَلَّدِهِ، نُقِضَ حُكْمُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ، لَمْ يُنْقَضْ. فَصْلٌ حُكْمُ الْقَاضِي ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مِمَّا لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذٌ لِمَا قَامَتْ بِهِ حُجَّةٌ، فَيُنَفَّذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، فَلَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ زُورٍ بِظَاهِرَيِ الْعَدَالَةِ، لَمْ يَحْصُلْ بِحُكْمِهِ الْحِلُّ بَاطِنًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ

مَالًا أَوْ نِكَاحًا أَوْ غَيْرَهُمَا، فَإِنْ كَانَ نِكَاحًا، لَمْ يَحِلَّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ، وَيَلْزَمُهَا الْهَرَبُ وَالِامْتِنَاعُ مَا أَمْكَنَهَا، فَإِنْ أُكْرِهَتْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهَا، فَإِنْ وَطِئَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ زَانٍ وَيُحَدُّ، وَخَالَفَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرُّويَانِيُّ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْعَلُهَا مَنْكُوحَةً بِالْحُكْمِ، وَذَلِكَ شُبْهَةٌ لِلْخِلَافِ فِي الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ الطَّلَاقَ، حُلَّ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا إِنَّ تَمَكَّنَ، لَكِنْ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ وَالْحَدِّ وَيَبْقَى التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَبْقَى النَّفَقَةُ لِلْحَيْلُولَةِ، وَلَوْ تَزَوَّجَتِ الْآخَرَ، فَالْحِلُّ مُسْتَمِرٌّ لِلْأَوَّلِ، فَإِنْ وَطِئَهَا الثَّانِي جَاهِلًا بِالْحَالِ، فَهُوَ وَطْءُ شُبْهَةٍ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي عَالِمًا، أَوْ نَكَحَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ وَوَطِئَ، فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يُحَدُّ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْعِدَّةِ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ لِمَا سَبَقَ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْإِنْشَاءَاتُ كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَفَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعَيْبِ، وَالتَّسْلِيطِ عَلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ تَرَتَّبَتْ عَلَى أَصْلٍ كَاذِبٍ، بِأَنْ فُسِخَ بِعَيْبٍ قَامَتْ بِشَهَادَةِ زُورٍ، فَهُوَ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ تَرَتَّبَتْ عَلَى أَصْلٍ صَادِقٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَحَلِّ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، نُفِّذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، نُفِّذَ ظَاهِرًا، وَفِي الْبَاطِنِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ: النُّفُوذُ مُطْلَقًا لِتَتَّفِقَ الْكَلِمَةُ، وَيَتِمَّ الِانْتِفَاعُ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ. وَالثَّالِثُ: إِنِ اعْتَقَدَهُ الْخَصْمُ أَيْضًا، نُفِّذَ بَاطِنًا، وَإِلَّا فَلَا، هَذِهِ الْأَوْجُهُ تُشْبِهُ الْأَوْجُهَ فِي اقْتِدَاءِ الشَّافِعِيِّ بِالْحَنَفِيِّ وَعَكْسِهِ، فَإِنْ مَنَعْنَا النُّفُوذَ بَاطِنًا مُطْلَقًا، أَوْ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ

فصل

لَمْ يَحِلَّ لِلشَّافِعِيِّ الْأَخْذُ بِحُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، أَوْ بِالتَّوْرِيثِ بِالرَّحِمِ إِذَا لَمْ نَقُلْ بِهِ نَحْنُ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَمْنَعُهُ الْقَاضِي لِاعْتِقَادِ الْمَحْكُومِ لَهُ أَمْ لَا، لِاعْتِقَادِ نَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. وَمَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ، فَقَدْ يَقُولُ لَا يُنَفَّذُ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا. فَرْعٌ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ كَشَافِعِيٍّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ؟ وَجْهَانِ فِي «التَّهْذِيبِ» . قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْقَبُولُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ لِلْقَاضِي رَجُلَانِ: كَانَتْ بَيْنَنَا خُصُومَةٌ فِي كَذَا، فَحَكَمَ الْقَاضِي فُلَانٌ بَيْنَنَا بِكَذَا، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ بَيْنَنَا بِاجْتِهَادِكَ، وَنَرْضَى بِحُكْمِكَ، فَهَلْ يُجِيبُهُمَا أَمْ يَتَعَيَّنُ إِمْضَاءُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ، الصَّحِيحُ الثَّانِي. فَصْلٌ فِي آدَابٍ مَنْثُورَةٍ. يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ أَصْدِقَاءَهُ الْأُمَنَاءَ، وَيَلْتَمِسَ مِنْهُمْ أَنْ يُطْلِعُوهُ عَلَى عُيُوبِهِ لِيَسْعَى فِي إِزَالَتِهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا فِي مَسِيرِهِ إِلَى مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ فِي طَرِيقِهِ، وَعَلَى الْقَوْمِ إِذَا دَخَلَ، وَأَنْ يَدْعُوَ إِذَا جَلَسَ، وَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ، وَأَنْ يَقُومَ عَلَى رَأْسِهِ أَمِينٌ يُنَادِي هَلْ مِنْ خَصْمٍ؟ وَيُرَتِّبُ النَّاسَ، وَيُقَدِّمُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ حَصِينًا لِمَكَانِ النِّسَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَيِّنَ لِلْقَضَاءِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ عَلَى حَسَبِ حَاجَةِ النَّاسِ وَدَعَاوِيهِمْ، وَأَنْ يُعَيِّنَ وَقْتًا مِنَ النَّهَارِ، فَإِنْ حَضَرَ خَصْمَانِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، سَمِعَ كَلَامَهُمَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَلَاةٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ عَلَى

طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، فَيُؤَخِّرُهُ قَدْرَ مَا يَفْرَغُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي دِرَّةٌ يُؤَدِّبُ بِهَا إِذَا احْتَاجَ، وَيَتَّخِذُ سِجْنًا لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي التَّعْزِيرِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُمَاطِلِ. وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْحَبْسِ. قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: إِذَا اسْتَشْعَرَ الْقَاضِي مِنَ الْمَحْبُوسِ الْفِرَارَ مِنَ الْحَبْسِ، فَلَهُ نَقْلُهُ إِلَى حَبْسِ الْجَرَائِمِ، وَلَوْ دَعَا الْمَحْبُوسُ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فِيهِ، لَمْ يُمْنَعْ إِنْ كَانَ فِي الْحَبْسِ مَوْضِعٌ خَالٍ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ، أُجْبِرَتِ الْأُمَةُ، وَلَا تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ الْحُرَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى، وَالزَّوْجَةُ الْأَمَةُ تُجْبَرُ إِنْ رَضِيَ سَيِّدُهَا. وَلَوْ قَالَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ: أَنَا أُلَازِمُهُ بَدَلًا عَنِ الْحَبْسِ، مُكِّنَ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْغَرِيمُ: تَشُقُّ عَلَيَّ الطِّهَارَةُ وَالصَّلَاةُ بِسَبَبِ مُلَازَمَتِهِ، فَاحْبِسْنِي، فَيُحْبَسُ. وَسَبَقَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْأَبَ هَلْ يُحْبَسُ بِدَيْنِ وَلَدِهِ، وَقِيَاسُ حَبْسِهِ أَنْ يُحْبَسَ الْمَرِيضُ وَالْمُخَدِّرَةُ وَابْنُ السَّبِيلِ مَنْعًا لَهُمْ مِنَ الظُّلْمِ. وَعَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْعِبَادِيِّ أَنَّهُمْ لَا يُحْبَسُونَ، بَلْ يُوكَلُ بِهِمْ لِيَتَرَدَّدُوا وَيَتَمَحَّلُوا. قَالَ: وَلَا يُحْبَسُ أَبُو الطِّفْلِ وَلَا الْوَكِيلُ وَالْقَيِّمُ فِي دَيْنٍ لَمْ يَجِبْ بِمُعَامَلَتِهِمْ، وَلَا يُحْبَسُ الصَّبِيُّ وَلَا الْمَجْنُونُ، وَلَا الْمَكَاتَبُ بِالنُّجُومِ، وَلَا الْعَبْدُ الْجَانِي، وَلَا سَيِّدُهُ لِيُؤَدِّيَ أَوْ يَبِيعَ، بَلْ يُبَاعُ عَلَيْهِ إِذَا وُجِدَ رَاغِبٌ وَامْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعِ وَالْفِدَاءِ، وَنَقَلَ الْهَرَوِيُّ وَجْهَيْنِ فِي حَبْسِ كُلِّ غَرِيمٍ قَدَرْنَا عَلَى مَالِهِ، وَتَمَكَّنَّا مِنْ بَيْعِهِ. وَأُجْرَةُ السَّجَّانِ عَلَى الْمَحْبُوسِ وَأُجْرَةُ الْوَكِيلِ عَلَى مَنْ وُكِّلَ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، وَصُرِفَ إِلَى جِهَةٍ أَهَمَّ مِنْ هَذِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَلْحَقْتُ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً تَتَعَلَّقُ بِالْحَبْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الطَّرَفُ الثَّانِي فِي مُسْتَنَدِ قَضَائِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ، إِحْدَاهَا: يَقْضِي بِالْحُجَّةِ بِلَا شَكٍّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةٌ، وَعَلِمَ صِدْقَ الْمُدَّعِي، فَهَلْ يَقْضِي بِعِلْمِهِ؟ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ قَطْعًا، وَأَشْهَرُهُمَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، وَهُوَ يُفِيدُ ظَنًّا، فَالْقَضَاءُ بِالْعِلْمِ أَوْلَى، وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُ مِنَ التُّهْمَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي وَصَحَّ [لَدَيَّ] كَذَا، لَزِمَهُ قَبُولُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَمْ يَبْحَثْ عَمَّا ثَبَتَ بِهِ وَصَحَّ، وَالتُّهْمَةُ قَائِمَةٌ، وَسَوَاءٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَا عَلِمَهُ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ وَمَكَانِهَا، وَمَا عَلِمَهُ فِي غَيْرِهِمَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ، فَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُسْتَنَدُهُ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ، أَمَّا إِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ تُعْرَفُ عَدَالَتُهُمَا، فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ وَيُغْنِيهِ عِلْمُهُ بِهَا عَنْ تَزْكِيَتِهِمَا، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ لِلتُّهْمَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِالْمُدَّعَى فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ. قَضَى، وَذَلِكَ قَضَاءٌ بِإِقْرَارٍ لَا بِعِلْمِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ عِنْدَهُ سِرًّا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَقِيلَ: يَقْضِي قَطْعًا. وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ وَاحِدٌ، فَهَلْ يُغْنِيهِ عِلْمُهُ عَنِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ عَلَى قَوْلِ الْمَنْعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَإِذَا قُلْنَا: يَقْضِي بِعِلْمِهِ، فَذَلِكَ فِي الْمَالِ قَطْعًا وَكَذَا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَلَا يَقْضِي بِخِلَافِ عِلْمِهِ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَبْرَأَهُ عَمَّا ادَّعَاهُ، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، أَوْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَبْلَهُ حَيٌّ، أَوْ رَآهُ قَبْلَهُ غَيْرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ سَمِعَ مُدَّعِي الرِّقِّ بِعِتْقِهِ، وَمُدَّعِي النِّكَاحِ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا، وَتَحَقَّقَ كَذِبَ الشُّهُودِ، امْتَنَعَ مِنَ الْقَضَاءِ قَطْعًا. وَكَذَا إِذَا عَلِمَ فِسْقَ الشُّهُودِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَصْحَابَ مَثَّلُوا الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا وَقَدْ رَآهُ الْقَاضِي أَقْرَضَهُ ذَلِكَ، أَوْ سَمِعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ بِذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ

رُؤْيَةَ الْإِقْرَاضِ، وَسَمَاعَ الْإِقْرَارِ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ بِثُبُوتِ الْمَحْكُومِ بِهِ وَقْتَ الْقَضَاءِ، فَيَدُلُّ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْعِلْمِ الظَّنَّ الْمُؤَكَّدَ لَا الْيَقِينَ. الثَّانِيَةُ: إِذَا رَأَى الْقَاضِي وَرَقَةً فِيهَا ذِكْرُ حُكْمِهِ لِرَجُلٍ، وَطَلَبَ مِنْهُ إِمْضَاءَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ، نُظِرَ إِنْ تَذَكَّرَهُ أَمْضَاهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِي أَمَالِي أَبِي الْفَرَجِ الرَّزَّازِ إِنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ، لَمْ يَعْتَمِدْهُ قَطْعًا لِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ، وَكَذَا الشَّاهِدُ لَا يَشْهَدُ بِمَضْمُونِ خَطِّهِ إِذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ، فَلَوْ كَانَ الْكِتَابُ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ، وَبَعْدَ احْتِمَالِ التَّزْوِيرِ وَالتَّحْرِيفِ، كَالْمَحْضَرِ وَالسِّجِلِّ الَّذِي يَحْتَاطُ فِيهِ الْقَاضِي عَلَى مَا سَبَقَ، فَالصَّحِيحُ وَالْمَنْصُوصُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِهِ أَيْضًا مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ، لِاحْتِمَالِ التَّحْرِيفِ، وَكَذَا الشَّاهِدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَشْهَدُ، وَفِيهِمَا وَجْهٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَتَدَاخَلْهُ رِيبَةٌ. وَفِي جَوَازِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ اعْتِمَادًا عَلَى الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَلَا تَكْفِيهِ رِوَايَةُ السَّمَاعِ بِخَطِّهِ أَوْ خَطِّ ثِقَةٍ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ، لِعَمَلِ الْعُلَمَاءِ بِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَبَابُ الرِّوَايَةِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ شَيْخٌ بِالْإِجَازَةِ، وَعَرَفَ خَطَّهُ، جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ تَفْرِيعًا عَلَى اعْتِمَادِ الْخَطِّ، فَيَقُولُ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ كِتَابَةً، أَوْ فِي كِتَابَةٍ، أَوْ كَتَبَ إِلَيَّ وَهَذَا عَلَى تَجْوِيزِ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمَنَعَهَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ. قُلْتُ: وَقَدْ مَنَعَهَا أَيْضًا الْمَاوَرْدِيُّ فِي «الْحَاوِي» وَنَقَلَ هُوَ مَنْعَهَا عَنِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ أَظْهَرُ قَوْلَيْهِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ صِحَّةُ الْإِجَازَةِ، وَجَوَازُ الرِّوَايَةِ بِهَا، وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا. ثُمَّ هِيَ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ قَدْ لَخَّصْتُهَا بِفُرُوعِهَا وَأَمْثِلَتِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي «الْإِرْشَادِ» فِي مُخْتَصَرِ عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهَا هُنَا رُمُوزًا إِلَى مَقَاصِدِهَا تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ،

وَهُوَ جَوَازُهَا. الْأَوَّلُ: إِجَازَةُ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، كَأَجَزْتُكَ رِوَايَةَ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أَوْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فَهْرَسَتِي وَهَذِهِ أَعْلَى أَنْوَاعِهَا. الثَّانِي: إِجَازَةُ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، كَأَجَزْتُكَ مَسْمُوعَاتِي أَوْ مَرْوِيَّاتِي وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ كَالْأَوَّلِ، فَتَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِهِ، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَقِيلَ بِمَنْعِهِ مَعَ قَبُولِ الْأَوَّلِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُجِيزَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ بِوَصْفِ الْعُمُومِ، كَأَجَزْتُ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كُلَّ أَحَدٍ أَوْ مَنْ أَدْرَكَ زَمَانِي وَنَحْوَهُ، فَالْأَصَحُّ أَيْضًا جَوَازُهَا، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَاحِبُهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحُفَّاظِ. وَنَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الَّذِينَ أَدْرَكُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ كَانُوا يَمِيلُونَ إِلَى جَوَازِهَا. الرَّابِعُ: إِجَازَةُ مَجْهُولٍ أَوْ لِمَجْهُولٍ، كَأَجَزْتُكَ كِتَابَ السُّنَنِ وَهُوَ يَرْوِي كُتُبًا مِنَ السُّنَنِ، أَوْ أَجْزْتُ لِزَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُنَاكَ جَمَاعَةٌ كَذَلِكَ، فَهَذِهِ بَاطِلَةٌ. فَإِنْ أَجَازَ لِمُسَمَّيْنَ مُعَيَّنِينَ لَا يَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ وَلَا أَنْسَابَهُمْ وَلَا عَدَدَهُمْ، صَحَّتْ، كَمَا لَوْ سَمِعُوا مِنْهُ فِي مَجْلِسِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ. الْخَامِسُ: الْإِجَازَةُ لِمَعْدُومٍ، كَأَجَزْتُ لِمَنْ يُولَدُ لِفُلَانٍ أَوْ لِفُلَانٍ، وَمَنْ يُولَدُ لَهُ، فَالصَّحِيحُ بُطْلَانُهَا، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَجَوَّزَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ. وَالْإِجَازَةُ لِلطِّفْلِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ صَحِيحَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَنَقَلَهُ الْخَطِيبُ عَنْ شُيُوخِهِ كَافَّةً. السَّادِسُ: إِجَازَةُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجِيزُ، وَلَمْ يَتَحَمَّلْهُ بِوَجْهٍ لِيَرْوِيَهُ الْمُجَازُ لَهُ إِذَا تَحَمَّلَهُ الْمُجِيزُ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ قَطْعًا. السَّابِعُ: إِجَازَةُ الْمَجَازِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْحِفَاظُ الْأَعْلَامُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمِ الدَّارَقُطْنِيُّ

وَأَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَإِذَا كَتَبَ الْإِجَازَةَ، اسْتَحَبَّ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَا، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْكِتَابَةِ مَعَ قَصْدِ الْإِجَازَةِ، صَحَّتْ كَالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ مَعَ سُكُوتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا رَأَى بِخَطِّ أَبِيهِ أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَوْ أَدَّيْتُ إِلَى فُلَانٍ كَذَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ وَالْأَدَاءِ اعْتِمَادًا عَلَى خَطِّ أَبِيهِ إِذَا وَثِقَ بِخَطِّهِ وَأَمَانَتِهِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَضَابِطُ وُثُوقِهِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ وَجَدَ فِي تِلْكَ التَّذْكِرَةِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا لَا يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِهِ، بَلْ يُؤَدِّيهِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ بِأَنَّ خَطَرَهُمَا عَظِيمٌ وَعَامٌّ، وَلِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِهِ، وَيُمْكِنُ التَّذَكُّرُ فِيهِمَا، وَخَطُّ الْمُوَرِّثِ لَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ يَقِينٌ، فَجَازَ اعْتِمَادُ الظَّنِّ فِيهِ حَتَّى لَوْ وَجَدَ بِخَطِّ نَفْسِهِ أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَوْ أَدَّيْتُ إِلَى فُلَانٍ دَيْنَهُ، لَمْ يَجُزْ الْحَلِفُ حَتَّى يَتَذَكَّرَ قَالَهُ فِي «الشَّامِلِ» . فَرْعٌ قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يُثْبِتَ حِلْيَةَ الْمُقِرِّ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ، لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى التَّذَكُّرِ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا ذِكْرُ التَّارِيخِ، وَمَوْضِعُ التَّحَمُّلِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ حِينَئِذٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. الثَّالِثَةُ: شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّكَ حَكَمْتَ لِزَيْدٍ بِكَذَا، وَهُوَ لَا يَذْكُرُهُ، لَمْ يُحْكَمْ بِقَوْلِهِمَا إِلَّا أَنْ يَشْهَدَا بِالْحَقِّ بَعْدَ تَجْدِيدِ دَعْوَى، وَعَنِ ابْنِ الْقَاضِي تَخْرِيجُ قَوْلِ: إِنَّهُ يُمْضِي الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّكَ تَحَمَّلْتَ الشَّهَادَةَ فِي وَاقِعَةِ كَذَا، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ، لَمْ

يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ، وَهَذَا بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ لَوْ نَسِيَ، جَازَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ الرِّوَايَةَ مِمَّنْ سَمِعَهَا مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهَا وَجْهٌ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ وَعَلَى الصَّحِيحِ الْفَرْقُ مَا سَبَقَ أَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَلِهَذَا يُقْبَلُ مِنَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، وَمِنَ الْفَرْعِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَتَذَكَّرِ الْقَاضِي فَحَقُّهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ، وَلَا يَقُولَ: لَمْ أَحْكُمْ. وَهَلْ لِلْمُدَّعِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ تَحْلِيفُ الْخَصْمِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حُكْمَ الْقَاضِي؟ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى حُكْمِهِ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا، وَأَمْضَى حُكْمَ الْأَوَّلِ إِلَّا إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ الْأَوَّلَ أَنْكَرَ حُكْمَهُ، وَكَذَّبَهُمَا، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ تَوَقَّفَ، فَوَجْهَانِ، أَوْفَقُهُمَا لِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمَا، وَقَالَ الْأَوْدَنِيُّ وَصَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» : لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ يُورِثُ تُهْمَةً وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ تَوَقَّفَا فِي الشَّهَادَةِ، لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ. الرَّابِعَةُ: ادَّعَى عَلَى الْقَاضِي أَنَّكَ حَكَمْتَ لِي بِكَذَا. قَالَ الْأَصْحَابُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى قَاضٍ آخَرَ، وَيُحَلِّفَهُ كَمَا لَا يَحْلِفُ الشَّاهِدُ إِذَا أَنْكَرَ الشَّهَادَةَ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّا إِنْ قُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْإِقْرَارِ، فَلَهُ تَحْلِيفُهُ لِيَحْلِفَ الْمُدَّعِي إِنْ نَكَلَ، هَذَا إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ قَاضٍ، فَإِنِ ادَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ عِنْدَ قَاضٍ، فَنَقَلَ الْإِمَامُ أَنَّهُ يَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ، وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ. وَلَا يُحَلَّفُ إِنْ قُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْإِقْرَارِ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، حُلِّفَ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: سَمَاعُ الدَّعْوَى عَلَى الْقَاضِي مَعْزُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ حُكْمٌ لَيْسَ عَلَى قَوَاعِدِ الدَّعَاوَى الْمُلْزِمِةِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا التَّدَرُّجُ إِلَى إِلْزَامِ الْخَصْمِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ،

فَلْيُقِمْهَا فِي وَجْهِ الْخَصْمِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْمَعَ عَلَى الْقَاضِي بَيِّنَةً، وَلَا يُطَالِبَ بِيَمِينٍ، كَمَا لَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّكَ شَاهِدِي. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي التَّسْوِيَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: لِيُسَوِّ الْقَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ، وَفِي الْقِيَامِ لَهُمَا، وَالنَّظَرِ فِيهِمَا وَالِاسْتِمَاعِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ، فَلَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيُسَوِّي فِي جَوَابِ سَلَامِهِمَا، فَإِنْ سَلَّمَا، أَجَابَهُمَا مَعًا، وَإِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: يَصْبِرُ حَتَّى يُسَلِّمَ الْآخَرُ، فَيُجِيبَهُمَا: وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا إِذَا طَالَ الْفَصْلُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ لِلْآخَرِ: سَلِّمْ، فَإِذَا سَلَّمَ، أَجَابَهُمَا، وَكَأَنَّهُمُ احْتَمَلُوا هَذَا الْفَصْلَ مُحَافَظَةً عَلَى التَّسْوِيَةِ، وَحَكَى الْإِمَامُ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا لَهُ تَرَكَ الْجَوَابِ مُطْلَقًا وَاسْتَبْعَدَهُ. وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ، فَيُجْلِسُ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ إِنْ كَانَا شَرِيفَيْنِ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ الْأَوْلَى عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا، فَالصَّحِيحُ - وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ - أَنَّهُ يَرْفَعُ الْمُسْلِمَ فِي الْمَجْلِسِ، وَالثَّانِي: يُسَوِّي. وَيُشْبِهُ أَنْ يَجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْإِكْرَامِ، ثُمَّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. الثَّانِيَةُ: لِيُقْبِلْ عَلَيْهِمَا بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَلَا يُمَازِحُ أَحَدَهُمَا، وَلَا يُضَاحِكُهُ، وَلَا يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَلَا يُسَارُّهُ، وَلَا يَنْهَرُهُمَا، وَلَا يَصِيحُ عَلَيْهِمَا إِذَا لَمْ يَفْعَلَا مَا يَقْتَضِي التَّأْدِيبَ، وَلَا يَتَعَنَّتُ الشُّهُودَ بِأَنْ يَقُولَ: لِمَ تَشْهَدُونَ؟ وَمَا هَذِهِ الشَّهَادَةُ؟ وَلَا يُلَقِّنُ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى بِأَنْ يَقُولَ: ادَّعِ عَلَيْهِ كَذَا، وَلَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ، وَلَا يُجْرِي الْمَسَائِلَ إِلَى النُّكُولِ عَلَى الْيَمِينِ، وَكَذَا لَا يُلَقِّنُ الشَّاهِدَ الشَّهَادَةَ، وَلَا يُجَرِّئُهُ إِذَا مَالَ إِلَى التَّوَقُّفِ، وَلَا يُشَكِّكُهُ وَلَا يَمْنَعُهُ إِذَا أَرَادَ الشَّهَادَةَ. هَذَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَمَّا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْقَاضِي

يُرْشِدُ إِلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَا هُوَ مُوَضَّحٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِذَا كَانَ يَدَّعِي دَعْوَى غَيْرَ مُحَرَّرَةٍ، قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تُبَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةُ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ، وَتَعْرِيفُ الشَّاهِدِ كَيْفِيَّةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ قَالَ فِي الْعُدَّةِ: أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، وَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِفْسَارِ بِأَنْ يَدَّعِيَ دَرَاهِمَ، فَيَقُولُ: أَهِيَ صِحَاحٌ أَمْ مَكْسُورَةٌ؟ وَيُسْتَحَبُّ إِذَا أَرَادَ الْحُكْمَ أَنْ يُجْلِسَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ، وَيَقُولَ: قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْكَ بِكَذَا، وَرَأَيْتُ الْحُكْمَ عَلَيْكَ. لِيَكُونَ أَطْيَبَ لِقَلْبِهِ، وَأَبْعَدَ عَنِ التُّهْمَةِ، وَنَصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ يَنْدُبُهُمَا إِلَى الصُّلْحِ بَعْدَ ظُهُورِ وَجْهِ الْحُكْمِ، وَيُؤَخِّرُ الْحُكْمَ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ إِذَا سَأَلَهُمَا، فَجَعَلَاهُ فِي حِلٍّ مِنَ التَّأْخِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى التَّحْلِيلِ لَمْ يُؤَخِّرْ. الثَّالِثَةُ: إِذَا جَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْكُتَ حَتَّى يَتَكَلَّمَا، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لِيَتَكَلَّمِ الْمُدَّعِي مِنْكُمَا، وَأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي إِذَا عَرَفَهُ: تَكَلَّمْ، وَلَوْ خَاطَبَهُمَا بِذَلِكَ الْأَمِينُ الْوَاقِفُ عَلَى رَأْسِهِ، كَانَ أَوْلَى، فَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي، طَالَبَ خَصْمَهُ بِالْجَوَابِ، وَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يُطَالِبُهُ بِالْجَوَابِ حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْجَوَابِ إِنْ أَقَرَّ بِالْمُدَّعَى، فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْكُمُ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: اخْرُجْ مِنْ حَقِّهِ، أَوْ كَلَّفْتُكَ الْخُرُوجَ مِنْ حَقِّهِ، أَوْ أَلْزَمْتُكَ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا. وَهَلْ يَثْبُتُ الْمُدَّعَى بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ، أَمْ يَفْتَقِرُ ثُبُوتُهُ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يَفْتَقِرُ كَالثُّبُوتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَصَحُّهُمَا لَا؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِقْرَارِ عَلَى وُجُوبِ الْحَقِّ جَلِيَّةٌ، وَالْبَيِّنَةُ تَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ. هَكَذَا ذُكِرَتِ الْمَسْأَلَةُ وَلَا يَظْهَرُ الْخِلَافُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي ثُبُوتِ الْمُدَّعَى بِهِ فِي نَفْسِهِ، فَمَعْلُومٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِقْرَارِ، فَكَيْفَ عَلَى الْحُكْمِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ؟ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُطَالَبَةَ وَالْإِلْزَامَ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ لِلْمُدَّعِي الطَّلَبَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَلِلْقَاضِي الْإِلْزَامُ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَسْكُتَ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ،

وَقِيلَ: لَا يَقُولُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّلْقِينِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ، وَأَقَامَهَا، فَذَاكَ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُقِيمُهَا، وَأُرِيدُ يَمِينَهُ، مُكِّنَ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فَحَلَّفَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ سُمِعَتْ، وَإِنْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي حَاضِرَةٌ، وَلَا غَائِبَةٌ، سُمِعَتْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَعْرِفْ، أَوْ نَسِيَ، ثُمَّ عَرَفَ أَوْ تَذَكَّرَ، وَقِيلَ: لَا يَسْمَعُ لِلْمُنَاقِضَةِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ لِكَلَامِهِ تَأْوِيلًا، كَكُنْتُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا. وَلَوْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ لَا بَيِّنَةَ لِي حَاضِرَةٌ، وَقِيلَ: كَقَوْلِهِ لَا حَاضِرَةٌ وَلَا غَائِبَةٌ، فَيَكُونُ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ: شُهُودِي عَبِيدٌ أَوْ فَسَقَةٌ، ثُمَّ أَتَى بِعُدُولٍ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ إِنْ مَضَى زَمَانٌ يُمْكِنُ فِيهِ الْعِتْقُ وَالِاسْتِبْرَاءُ. فَرْعٌ حَكَى الْهَرَوِيُّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ بِفَرَاغِ الْمُدَّعِي مِنَ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ، أَوْ أَشَارَ إِلَى بِنَائِهِمَا عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْبَيِّنَةِ أَمْ كَالْإِقْرَارِ؟ . الرَّابِعَةُ: إِذَا ازْدَحَمَ جَمَاعَةُ مُدَّعِينَ، فَإِنْ عَرَفَ السَّبْقَ، قَدَّمَ الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ، وَالِاعْتِبَارُ سَبْقُ الْمُدَّعِي دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ جَاءُوا مَعًا، أَوْ جُهِلَ السَّبْقُ، أَقْرَعَ، فَإِنْ كَثُرُوا وَعَسُرَ الْإِقْرَاعُ، كَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ فِي رِقَاعٍ، وَصُبَّتْ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي لِيَأْخُذَهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَيَسْمَعَ دَعْوَى مَنْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَتِّبَ ثِقَةً يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُ يَوْمَ قَضَائِهِ لِيَعْرِفَ تَرْتِيبَهُمْ، وَلَوْ قَدَّمَ الْأَسْبَقُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، جَازَ، وَالْمُفْتِي وَالْمُدَرِّسُ يُقَدَّمَانِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ أَيْضًا بِالسَّبَقِ أَوْ بِالْقُرْعَةِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي يُعَلِّمُهُ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَالِاخْتِيَارُ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيمِ مَنْ شَاءَ. وَلَا يُقَدِّمُ الْقَاضِي مُدَّعِيًا بِشَرَفٍ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ،

أَحَدُهُمَا: إِذَا كَانَ فِي الْمُدَّعِينَ مُسَافِرُونَ مُسْتَوْفِزُونَ وَقَدْ شَدُّوا الرِّحَالَ لِيَخْرُجُوا، وَلَوْ أُخِّرُوا لَتَخَلَّفُوا عَنْ رُفْقَتِهِمْ، فَإِنْ قَلُّوا، قُدِّمُوا عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِلَّا فَلَا، بَلْ يُعْتَبَرُ السَّبْقُ بِالْقُرْعَةِ. وَالثَّانِي لَوْ كَانَ فِي الْحَاضِرِينَ نِسْوَةٌ، وَرَأَى الْقَاضِي تَقْدِيمَهُنَّ لِيَنْصَرِفْنَ، قَدَّمَهُنَّ عَلَى الصَّحِيحِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْثُرْنَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ مُدَّعِيًا، أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ. ثُمَّ تَقْدِيمُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرْأَةِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى الصَّحِيحِ، بَلْ هُوَ رُخْصَةٌ لِجَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْعِرُ كَلَامُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيمُ الْمُسَافِرِ عَلَى الْمُقِيمِينَ، وَالْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ، فَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، وَكَذَا النِّسْوَةُ، فَالرُّجُوعُ فِيهِمْ إِلَى السَّبْقِ أَوِ الْقُرْعَةِ. فَرْعٌ الْمُقَدَّمُ بِالسَّبَقِ أَوِ الْقُرْعَةِ لَا يُقَدَّمُ إِلَّا فِي دَعْوَى وَاحِدَةٍ، لِئَلَّا يُطَوِّلَ عَلَى الْبَاقِينَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ دَعْوَى أُخْرَى، فَلْيَحْضُرْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، أَوْ يَنْتَظِرْ فَرَاغَ الْقَاضِي مِنْ حُكُومَاتِ سَائِرِ الْحَاضِرِينَ، وَحِينَئِذٍ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ الثَّانِيَةُ إِنْ لَمْ يَضْجَرِ الْقَاضِي، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ عَلَى الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ الدَّعْوَى الْأُولَى أَوْ عَلَى غَيْرِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأُولَى مَسْمُوعَةٌ إِذَا اتَّحَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : تُسْمَعُ إِلَى ثَلَاثِ دَعَاوَى، وَمِنْهُمْ مَنْ

أَطْلَقَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُسْمَعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى ثَانٍ وَثَالِثٍ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لِلْمُدَّعِي وَقَدْ تَعَدَّدَ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ هُنَا وَجْهَيْنِ غَرِيبَيْنِ ضَعِيفَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُقَدَّمَ بِدَعْوَى لَا تُسْمَعُ مِنْهُ الثَّانِيَةُ إِلَّا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَإِنْ فَرَغَ الْقَاضِي مِنْ دَعَاوَى الْحَاضِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَرْفِيهُهُ. الثَّانِي: لَا يُسْمَعُ عَلَى الْوَاحِدِ إِلَّا دَعْوَى شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْمُقَدَّمُ بِالسَّفَرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقَدَّمَ إِلَّا بِدَعْوَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّمَ بِجَمِيعِ دَعَاوِيهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ تَقْدِيمِهِ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ عَنْ رُفْقَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا عَرَفَ أَنَّ لَهُ دَعَاوَى، فَهُوَ كَالْمُقِيمِينَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَهُ بِالْجَمِيعِ يَضُرُّ غَيْرَهُ، وَتَقْدِيمَهُ بِدَعْوَى لَا يُحَصِّلُ الْغَرَضُ. قُلْتُ: الْأَرْجَحُ أَنَّ دَعَاوِيَهُ إِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً، أَوْ ضَعِيفَةً بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بِالْبَاقِينَ إِضْرَارًا بَيِّنًا، قُدِّمَ بِجَمِيعِهَا، وَإِلَّا فَيُقَدَّمُ بِوَاحِدَةٍ، لِأَنَّهَا مَأْذُونٌ فِيهَا، وَقَدْ يَقْنَعُ بِوَاحِدَةٍ، وَيُؤَخِّرُ الْبَاقِيَ إِلَى أَنْ يَخُصَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ، وَزَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي، نُظِرَ إِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا إِلَى الدَّعْوَى، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِ الْآخَرِ: إِنِّي كُنْتُ الْمُدَّعِيَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ ثُمَّ يَدَّعِي إِنْ شَاءَ. وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ وَتَنَازَعَا، سَأَلَ الْعَوْنَ، فَمَنْ أَحْضَرَهُ الْعَوْنُ فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَدَّعِي الْآخَرُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمَا أَنَّهُ أَحْضَرَ الْآخَرَ لِيَدَّعِيَ عَلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَوَى الطَّرَفَانِ أَقْرَعَ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ ادَّعَى، وَقِيلَ: يُقَدِّمُ الْقَاضِي أَحَدَهُمَا بِاجْتِهَادِهِ. السَّادِسَةُ: قَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقَاضِي. أَمَّا الْقَاضِي، فَلَا يَحْضُرُ وَلِيمَةَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي حَالِ خُصُومَتِهِمَا وَلَا وَلِيمَتَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا فِي إِكْرَامِهِ، فَيَمِيلُ [إِلَيْهِ] قَلْبُهُ، وَأَمَّا وَلِيمَةُ غَيْرِ الْخَصْمَيْنِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهَا، وَالثَّانِي: تَجِبُ إِذَا أَوْجَبْنَاهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ: لَا تَحْرُمُ وَلَا تَجِبُ، بَلْ تُسْتَحَبُّ بِشَرْطِ التَّعْمِيمِ، فَإِنْ كَثُرَتْ وَقَطَعَتْهُ عَنِ الْحُكْمِ، تَرَكَهَا فِي حَقِّ

الْجَمِيعِ، وَلَا يَخُصُّ بَعْضَ النَّاسِ، لَكِنْ لَوْ كَانَ يَخُصُّ بَعْضَ النَّاسِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ بِإِجَابَةِ وَلِيمَةٍ، فَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالِاسْتِمْرَارِ، وَتُكْرَهُ إِجَابَتُهُ إِلَى دَعْوَةٍ اتُّخِذَتْ لِأَجْلِ الْقَاضِي خَاصَّةً أَوْ لِلْأَغْنِيَاءِ وَدُعِيَ فِيهِمْ، وَلَا يُكْرَهُ إِلَى مَا اتُّخِذَ لِلْجِيرَانِ وَهُوَ مِنْهُمْ، أَوْ لِلْعُلَمَاءِ وَدُعِيَ فِيهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِجَابَةَ غَيْرِ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ مِنَ الدَّعَوَاتِ مُسْتَحَبَّةٌ، وَظَاهِرُ مَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ ثُبُوتُ الِاسْتِحْبَابِ فِي حَقِّ الْقَاضِي أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْبَابُ فِي الْوَلِيمَةِ آكَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الِاسْتِحْبَابَ بِالْوَلِيمَةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ. فَرْعٌ لَا يُضَيِّفُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُضَيِّفَهُمَا مَعًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَنَعَهُ أَبُو إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضِّيَافَةِ صَاحِبُهُ، وَأَنَّهُ تَبَعٌ، وَهَذَا يَشْكُلُ بِسَائِرِ وُجُوهِ التَّسْوِيَةِ. السَّابِعَةُ: لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِأَحَدِهِمَا، وَأَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ عَمَّنْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُمَا. الثَّامِنَةُ: يَعُودُ الْمَرْضَى وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَيَزُورُ الْقَادِمِينَ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِيعَابُ، فَعَلَ الْمُمْكِنَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ، وَيَخُصُّ بِهِ مَنْ عَرَفَهُ، وَقَرُبَ مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: هُوَ كَإِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ يَعُمُّ الْجَمِيعَ أَوْ يَتْرُكُ الْجَمِيعَ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّوَابُ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. هَكَذَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَفِي أَمَالِي أَبِي الْفَرَجِ أَنَّهُ لَا يَعُودُ الْخَصْمَ، وَلَا يَزُورُهُ إِذَا قَدِمَ، لَكِنْ يَشْهَدُ جِنَازَتَهُ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِي الْبَحْثِ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ وَتَزْكِيَتِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْأُولَى: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ شُهُودًا مُعَيَّنِينَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ غَيْرِهِمْ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ. الثَّانِيَةُ: إِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ، نُظِرَ إِنْ عَرَفَ فِسْقَهُمْ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَحْثٍ، وَإِنْ عَرَفَ عَدَالَتَهُمْ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّعْدِيلِ، وَإِنْ طَلَبَهُ الْخَصْمُ وَفِيهِ وَجْهٌ سَبَقَ فِي الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ، لَمْ يَجُزْ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ وَالْحُكْمُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِزْكَاءِ وَالتَّعْدِيلِ، سَوَاءٌ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ أَوْ سَكَتَ. وَلَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِعَدَالَتِهِمَا، وَلَكِنْ قَالَ: أَخْطَأَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا بِلَا بَحْثٍ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ لَحَقِّهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِعَدَالَتِهِمَا، وَأَصَحُّهُمَا لَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ وَالتَّعْدِيلِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ فَاسِقٍ وَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمُ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ يَتَضَمَّنُ تَعْدِيلَهُ، وَالتَّعْدِيلُ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ صَدَّقَهُمَا فِيمَا شَهِدَا بِهِ، قَضَى الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ بِالْحَقِّ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الْبَحْثِ عَنْ حَالِهِمَا، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ فَصَدَّقَهُ، وَلَوْ شَهِدَ مَعْلُومَا الْعَدَالَةِ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا شَهِدَا بِهِ قُبِلَ حُكْمُ الْقَاضِي، فَهَلْ يَسْتَنِدُ الْحُكْمُ إِلَى الْإِقْرَارِ دُونَ الشَّهَادَةِ أَمْ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْهَرَوِيُّ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ بَعُدَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا، فَقَدْ مَضَى الْحُكْمُ مُسْتَنِدًا إِلَى الشَّهَادَةِ، سَوَاءٌ وَقَعَ إِقْرَارُهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَالِ إِلَى الْمَشْهُودِ لَهُ أَمْ قَبْلَهُ، وَفِيمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْخَصْمُ لِلشَّاهِدِ قَبْلَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ مَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيَّ فَأَنْتَ عَدْلٌ صَادِقٌ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِقْرَارًا، لَكِنَّهُ تَعْدِيلٌ لِلشَّاهِدِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّعْدِيلِ.

فَرْعٌ إِذَا جَهِلَ الْقَاضِي إِسْلَامَ الشَّاهِدِ، لَمْ يَقْنَعْ بِظَاهِرِ الدَّارِ، بَلْ يَبْحَثُ عَنْهُ، وَيَكْفِي فِيهِ قَوْلُ الشَّاهِدِ. وَلَوْ جَهِلَ حُرِّيَّتَهُ بَحَثَ أَيْضًا، وَلَا يَكْفِي فِيهِ قَوْلُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّ الِاسْتِزْكَاءَ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا إِلَّا إِذَا طَلَبَهُ الْخَصْمُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. فَرْعٌ قَالَ فِي الْعُدَّةِ: إِذَا اسْتَفَاضَ فِسْقُ الشَّاهِدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ، وَيُجْعَلُ الْمُسْتَفِيضُ كَالْمَعْلُومِ. الثَّالِثَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي مُزَكُّونَ وَأَصْحَابُ مَسَائِلَ، فَالْمُزَكُّونَ [هُمُ] الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِمْ لِيُبَيِّنُوا حَالَ الشُّهُودِ، وَأَصْحَابُ الْمَسَائِلِ هُمُ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمْ إِلَى الْمُزَكِّينَ، لِيَبْحَثُوا وَيَسْأَلُوا، وَرُبَّمَا فُسِّرَ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ فِي لَفْظِ الشَّافِعِيِّ بِالْمُزَكِّينَ، ثُمَّ الْمُخْبِرُونَ عَنْ فِسْقِ الشُّهُودِ وَعَدَالَتِهِمْ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَنْ نَصَبَهُ الْحَاكِمُ لِلْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مُطْلَقًا أَوْ فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ، فَيَسْمَعُ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمَا، وَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنْهَاهُ إِلَى الْقَاضِي. وَالثَّانِي مَنْ يَشْهَدُ بِالْعَدَالَةِ أَوِ الْفِسْقِ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَشْهَدُ أَصَالَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَالَ فَيَشْهَدُ، وَقَدْ لَا يَعْرِفُ فَيَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِالْبَحْثِ لِيَعْرِفَ فَيُشْهِدَ، كَمَا يُوَكِّلُ الْقَاضِي بِالْغَرِيبِ الَّذِي يَدَّعِي الْإِفْلَاسَ مَنْ يَبْحَثُ عَنْهُ وَيُخَالِطُهُ، لِيَعْرِفَ إِفْلَاسَهُ فَيَشْهَدَ، وَأَمَّا الثَّانِي، فَهُوَ شَاهِدُ فَرْعٍ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ إِلَّا عِنْدَ غَيْبَةِ الْأَصْلِ، أَوْ تَعَذُّرِ حُضُورِهِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُنَازَعُ فِيهِ. وَإِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ الْبَحْثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، كَتَبَ اسْمَ الشَّاهِدِ، وَكُنْيَتَهُ إِنِ اشْتَهَرَ بِهَا، وَوَلَاءَهُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، وَاسْمَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَحِلْيَتَهُ وَحِرْفَتَهُ وَسُوقَهُ وَمَسْجِدَهُ، لِئَلَّا يُشْتَبَهُ بِغَيْرِهِ،

فَإِنْ كَانَ مَشْهُودًا وَحَصَلَ التَّمْيِيزُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، كَفَى، وَيَكْتُبُ أَيْضًا اسْمَ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ شَهَادَتَهُ لَهُ، أَوْ عَلَيْهِ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ عَدَاوَةٍ. وَفِي قَدْرِ الْمَالِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَكْتُبُهُ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تَتَجَزَّأُ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَذْكُرُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الشَّاهِدِ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ، وَأَمَّا دَعْوَى الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تَتَجَزَّأُ، فَقَدْ حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ وَبَنَى عَلَيْهِمَا أَنَّهُ لَوْ عُدِّلَ، وَقَدْ شَهِدَ بِمَالٍ قَلِيلٍ، ثُمَّ شَهِدَ فِي الْحَالِ بِمَالٍ كَثِيرٍ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ تَزْكِيَةٍ وَيَكْتُبُ إِلَى كُلِّ مُزَكٍّ كِتَابًا، وَيَدْفَعُهُ إِلَى صَاحِبِ مَسْأَلَةٍ، وَيُخْفِي كُلَّ كِتَابٍ عَنْ غَيْرِ مَنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَغَيْرِ مَنْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ احْتِيَاطًا، ثُمَّ إِذَا وَقَفَ الْقَاضِي عَلَى مَا عِنْدَ الْمُزَكِّينَ، فَإِنْ كَانَ جُرْحًا لَمْ يُظْهِرْهُ، وَقَالَ لِلْمُدَّعِي: زِدْنِي فِي الشُّهُودِ، وَإِنْ كَانَ تَعْدِيلًا، عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، ثُمَّ حَكَى الْأَصْحَابُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الْحُكْمَ بِقَوْلِ الْمُزَكِّينَ، أَمْ بِقَوْلِ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ؟ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: بِقَوْلِ الْمُزَكِّينَ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ شُهُودٌ عَلَى شَهَادَةٍ، فَكَيْفَ تُقْبَلُ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ؟ وَإِنَّمَا هُمْ رُسُلٌ وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمَسْأَلَةِ وَاحِدًا، فَإِنْ عَادَ بِالْجُرْحِ، تَوَقَّفَ الْقَاضِي، وَإِنْ عَادَ بِالتَّعْدِيلِ، دَعَا مُزَكِّيَيْنِ لِيَشْهَدَا عِنْدَهُ بِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ، وَيُشِيرَا إِلَيْهِ، وَيَأْمَنُ بِذَلِكَ مِنَ الْغَلَطِ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ. قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنَّمَا يَحْكُمُ بِقَوْلِ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ، وَيُبْنَى عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِقَوْلِ الْمُزَكِّينَ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً عَلَى شَهَادَةٍ تُقْبَلُ لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْمُزَكِّيَ لَا يُكَلَّفُ الْحُضُورَ، وَقَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ أَصَحُّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِمَا. قَالُوا: وَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَعْتَمِدُ الْقَاضِي قَوْلَ اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ، فَإِنْ وَصَفَاهُ بِالْفِسْقِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ، وَإِنْ وَصَفَاهُ بِالْعَدَالَةِ أَحْضَرَ الشَّاهِدَيْنِ لِيَشْهَدَا بِعَدَالَتِهِ، وَيُشِيرَا إِلَيْهِ

وَإِذَا تَأَمَّلْتَ كَلَامَ الْأَصْحَابِ، فَقَدْ تَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِي هَذَا خِلَافٌ مُحَقَّقٌ، بَلْ إِنْ وَلِيَ صَاحِبُ الْمَسْأَلَةِ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ، فَحُكْمُ الْقَاضِي مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا يَعْتَبِرُ الْعَدَدَ؛ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْبَحْثِ، بَحَثَ وَوَقَفَ عَلَى حَالِ الشَّاهِدِ، وَشَهِدَ بِمَا وَقَفَ عَلَيْهِ، فَالْحُكْمُ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ، لَكِنْ يَعْتَبِرُ الْعَدَدَ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِمُرَاجَعَةِ مُزَكِّيَيْنِ، فَصَاعِدًا وَبِأَنْ يُعْلِمَهُ بِمَا عِنْدَهُمَا، فَهُوَ رَسُولٌ مَحْضٌ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهِمَا فَلْيَحْضُرَا وَيَشْهَدَا. وَكَذَا لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، لَأَنَّ الشَّاهِدَ الْفَرْعَ لَا يُقْبَلُ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ. فَرْعٌ مَنْ نَصَّبَ حَاكِمًا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ اعْتَبَرَ فِيهِ صِفَاتِ الْقُضَاةِ، وَمَنْ شُهِرَ بِالْعَدَالَةِ أَوِ الْفِسْقِ، اشْتَرَطَ فِيهِ صِفَاتِ الشُّهُودِ، وَيُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ وَأَسْبَابِهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ الْمُعَدِّلُ خَبِيرًا بِبَاطِنِ حَالِ مَنْ يُعَدِّلُهُ لِصُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ وَنَحْوِهَا، قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : وَيَلْزَمُ الْقَاضِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْمُزَكِّيَ خَبِيرٌ بِبَاطِنِ الشَّاهِدِ فِي كُلِّ تَزْكِيَةٍ إِلَّا إِذَا عَلِمَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُزَكِّي إِلَّا بَعْدَ الْخِبْرَةِ، ثُمَّ ظَاهِرُ لَفْظِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتِبَارُ التَّقَادُمِ فِي الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاخْتِبَارُ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: شِدَّةُ الْفَحْصِ وَالْإِمْعَانِ تَقُومُ مَقَامَ التَّقَادُمِ فِي الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ. وَيُمْكِنُ الِاخْتِبَارُ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَلَيْسَ ذِكْرُ التَّقَادُمِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ، بَلْ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْبَاطِنَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَيُوَضِّحُ هَذَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ بِالْبَحْثِ، لِيَعْرِفَ حَالَ الشَّاهِدِ فَيُزَكِّيَهُ، وَلَوِ اعْتَبَرْنَا التَّقَادُمَ لَطَالَتِ الْمُدَّةُ، وَتَضَرَّرَ الْمُتَدَاعِيَانِ بِالتَّأْخِيرِ الطَّوِيلِ. أَمَّا الْجَرْحُ، فَيَعْتَمِدُ فِيهِ الْمُعَايَنَةِ أَوِ السَّمَاعِ، فَالْمُعَايَنَةُ أَنْ يَرَاهُ يَزْنِي أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَالسَّمَاعُ بِأَنْ يَسْمَعَهُ يَقْذِفُ، أَوْ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِزِنًا أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ، فَإِنْ سَمِعَ مِنْ

غَيْرِهِ، نُظِرَ إِنْ بَلَغَ الْمُخْبِرُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ جَازَ الْجَرْحُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَبْلُغِ التَّوَاتُرَ، لَكِنِ اسْتَفَاضَ، جَازَ الْجَرْحُ أَيْضًا، صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَلَا يَجُوزُ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَى خَبَرِ عَدَدٍ يَسِيرٍ، لَكِنْ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِمْ بِشَرْطِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ فِي أَنَّ الْحُكْمُ بِقَوْلِ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِيهِ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ خَبَرَ وَاحِدٍ مِنَ الْجِيرَانِ إِذَا وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ صِدْقُهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ سَبَبِ رُؤْيَةِ الْجُرْحِ أَوْ سَمَاعِهِ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، فَيَقُولُ مَثَلًا: رَأَيْتُهُ يَزْنِي، وَسَمِعْتُهُ يَقْذِفُ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَقُولُ فِي الِاسْتِفَاضَةِ: اسْتَفَاضَ عِنْدِي. وَالثَّانِي - هُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الشَّامِلِ» -: لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ حَالَهُ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَنَيْتَ شَهَادَتَكَ؟ كَمَا فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَهَذَا أَقِيسُ وَيُحْكَى عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. وَلَا يُجْعَلُ الْجَارِحُ بِذِكْرِ الزِّنَى قَاذِفًا لِلْحَاجَةِ، كَمَا لَا يُجْعَلُ الشَّاهِدُ قَاذِفًا، فَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ، فَلْيَكُنْ كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَى هَلْ يُجْعَلُونَ قَذَفَةً؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَوِ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ قَاذِفًا، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي شَهَادَتِهِ بِالْجَرْحِ، فَإِنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْهُمَا وَهِيَ فِي حَقِّهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَوْ مُتَعَيَّنَةٌ فَهُوَ مَعْذُورٌ بِخِلَافِ شُهُودِ الزِّنَى، فَإِنَّهُمْ مَنْدُوبُونَ إِلَى السَّتْرِ، فَهُمْ مُقَصِّرُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِعَدَالَتِهِ مَنْ يَحْصُلُ بِخَبَرِهِ الِاسْتِفَاضَةُ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِبَاطِنِ مَنْ يَعْدِلُونَ، لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَجُوزَ لَهُ تَعْدِيلُهُ بِذَلِكَ، وَتُقَامُ خِبْرَتُهُمْ مَقَامَ خِبْرَتِهِ، كَمَا أُقِيمَ فِي الْجَرْحِ رُؤْيَتُهُمْ مَقَامَ رُؤْيَتِهِ.

فَرْعٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُزَكُّونَ وَافِرِي الْعُقُولِ لِئَلَّا يُخْدَعُوا وَبُرَآءَ مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ فِي النَّسَبِ وَالْمَذْهَبِ وَيَجْتَهِدُ فِي إِخْفَاءِ أَمْرِهِمْ لِئَلَّا يُشْهَرُوا فِي النَّاسِ بِالتَّزْكِيَةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْمُزَكِّي؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ. فَرْعٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَكِّيَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ الْآخَرَ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَعَنْ كِتَابِ حَرْمَلَةَ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ، وَعَدَّلَهُمَا آخَرَانِ لَا يَعْرِفُهُمَا الْقَاضِي، وَزَكَّى الْآخَرَيْنِ مُزَكِّيَانِ لِلْقَاضِي، جَازَ. وَلَوْ زَكَّى وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِبَادِيُّ وَغَيْرُهُ. فَرْعٌ لَا تَثْبُتُ الْعَدَالَةُ بِمُجَرَّدِ رُقْعَةِ الْمُزَكِّي عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يُعْتَمَدُ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا سَبَقَ، وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ لِلِاعْتِمَادِ عَلَى الرُّقْعَةِ، قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» تَفْرِيعًا عَلَى الْأَوَّلِ: يَكْفِي رَسُولَانِ مَعَ الرُّقْعَةِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُ الْمُشَافَهَةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ إِنْ كَانَ الْقَاضِي يَحْكُمُ بِشَهَادَةِ الْمُزَكِّينَ، فَأَمَّا إِنْ وَلِيَ بَعْضُهُمُ الْحُكْمَ بِالْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ، فَلْيَكُنْ كِتَابُهُ كَكِتَابِ الْقَاضِيَ إِلَى الْقَاضِي، وَلْيَكُنِ الرَّسُولَانِ كَالشَّاهِدِينَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِيَ. فَرْعٌ لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ فِي

الْعُدَّةِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَدْلٌ. وَقِيلَ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: عَدْلٌ عَلِيٌّ وَلِيٌّ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» وَالْمُخْتَصَرِ لَكِنْ تَأَوَّلَهُ الْأَوَّلُونَ أَوْ جَعَلُوهُ تَأْكِيدًا لَا شَرْطًا. وَلَا يَحْصُلُ التَّعْدِيلُ بِقَوْلِهِ: لَا أَعْلَمُ مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا، أَوْ لَا أَعْلَمُ مِنْهُ مَا تَرِدُ بِهِ الشَّهَادَةُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا ارْتَابَ الْقَاضِي بِالشُّهُودِ، أَوْ تَوَهَّمَ غَلَطَهُمْ لِخِفَّةِ عَقْلٍ وَجَدَهَا فِيهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَهُمْ، وَيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ وَقْتِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَامًا وَشَهْرًا وَيَوْمًا وَغُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً، وَمَكَانَ مَحَلَّةٍ وَسِكَّةٍ، وَدَارٍ وَصِفَةٍ، وَيَسْأَلُ أَتَحَمَّلَ وَحْدَهُ أَمْ مَعَ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ كَتَبَ شَهَادَتَهُ أَمْ لَا، وَأَنَّهُ كَتَبَ قَبْلَ فُلَانٍ أَمْ بَعْدَهُ، وَكَتَبُوا بِحِبْرٍ أَمْ بِمِدَادٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِيَسْتَدِلَّ عَلَى صِدْقِهِمْ إِنِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَيَقِفُ إِنْ لَمْ تَتَّفِقْ. وَإِذَا أَجَابَهُ أَحَدُهُمْ، لَمْ يَدَعْهُ يَرْجِعُ إِلَى الْبَاقِينَ حَتَّى يَسْأَلَهُمُ الْقَاضِي لِئَلَّا يُخْبِرَهُمْ بِجَوَابِهِ وَمَتَى اتَّفَقُوا عَلَى الْجَوَابِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلتَّفْصِيلِ، وَرَأَى أَنْ يَعِظَهُمْ، وَيُحَذِّرَهُمْ عُقُوبَةَ شَهَادَةِ الزُّورِ، فَعَلَ، فَإِنْ أَصَرُّوا، وَجَبَ الْقَضَاءُ إِذَا وَجَدَ شُرُوطَهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يَبْقَى مِنْ رِيبَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيهِمْ خِفَّةً وَلَا رِيبَةً، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُهُمْ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَضًّا مِنْهُمْ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: يُفَرِّقُهُمْ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ فَرَّقَهُمْ، بِمَسْأَلَةِ الْخَصْمِ، فَلَا بَأْسَ، ثُمَّ إِنَّ التَّفْرِيقَ وَالِاسْتِفْصَالَ جَعَلَهُ الْغَزَالِيُّ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَّلَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ قَبْلَ الِاسْتِزْكَاءِ، فَإِنِ اطَّلَعَ عَلَى عَوْرَةٍ، اسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِزْكَاءِ وَالْبَحْثِ عَنْ حَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ، فَإِنْ عَرَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ، حَكَمَ، وَإِلَّا فَحِينَئِذٍ يَسْتَزْكِي، وَهَلْ هَذَا التَّفْرِيقُ وَالِاسْتِفْصَالُ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ الصَّحِيحُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالْبَغَوِيُّ، وَعَامَّةُ الْأَصْحَابِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلَفْظِ «الْمُخْتَصَرِ» أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَالثَّانِي وَاجِبٌ،

قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ. قَالَا: وَلَوْ تَرَكَهُ وَقَضَى مَعَ الِارْتِيَابِ، لَمْ يُنَفَّذْ. وَالثَّالِثُ: إِنْ سَأَلَ الْخَصْمَ وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا. الْخَامِسَةُ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ عَلَى بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ، لِزِيَادَةِ عِلْمِ الْجَارِحِ، فَلَوِ انْعَكَسَ الْأَمْرُ بِأَنْ قَالَ الْمُعَدِّلُ: قَدْ عَرَفْتُ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَارِحُ، لَكِنَّهُ تَابَ مِنْهُ، وَحَسُنَتْ حَالُهُ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ مَعَ الْمُعَدِّلِ هُنَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، كَذَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَقَوْلُ الْوَاحِدِ لَا يُقْبَلُ فِي الْجَرْحِ فَضْلًا عَنْ تَقْدِيمِهِ. السَّادِسَةُ: عُدِّلَ الشَّاهِدُ، ثُمَّ شَهِدَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَطُلِ الزَّمَانُ، حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ، وَلَا يَطْلُبُ تَعْدِيلَهُ ثَانِيًا، وَإِنْ طَالَ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا يَطْلُبُ تَعْدِيلَهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ يُغَيِّرُ الْأَحْوَالَ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي طُولِهِ وَقِصَرِهِ. السَّابِعَةُ: شَهَادَاتُ الْمُسَافِرِينَ وَالْمُجْتَازِينَ مِنَ الْقَوَافِلِ، كَشَهَادَةِ غَيْرِهِمْ فِي الْحَاجَةِ إِلَى التَّعْدِيلِ، فَإِنْ عَدَّلَهُمَا مُزَكِّيَانِ فِي الْبَلَدِ، أَوْ عَدَّلَ مُزَكِّيَانِ اثْنَيْنِ مِنَ الْقَافِلَةِ، ثُمَّ هُمَا عَدَّلَا الشَّاهِدِينَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَإِلَّا فَلَا. الثَّامِنَةُ: سَأَلَ الْقَاضِي عَنِ الشُّهُودِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، فَعُدِّلُوا ثُمَّ عَادَ إِلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: لَهُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ إِنْ جَوَّزْنَا الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ، وَخَالَفَهُ أَبُو عَاصِمٍ وَآخِرُونَ، وَقَالُوا: الْقِيَاسُ مَنْعُهُ، كَمَا لَوْ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ خَارِجَ وِلَايَتِهِ. التَّاسِعَةُ: عُدِّلَ شَاهِدٌ، وَالْقَاضِي يَتَحَقَّقُ فِسْقَهُ بِالتَّسَامُعِ، قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَلَا يَقْضِي. الْعَاشِرَةُ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ عَلَى الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، وَمَنْعُ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى.

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ هُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» قَوْلًا عَنْ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا كَانَ لِلدَّعْوَى اتِّصَالٌ بِحَاضِرٍ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابِ، وَفِي الْبَابِ أَطْرَافٌ: الْأَوَّلُ: فِي الدَّعْوَى، وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهَا عَلَى الْحَاضِرِ مِنْ بَيَانِ الْمُدَّعَى وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ وَقَوْلِهِ: إِنِّي مُطَالِبٌ بِالْمَالِ. وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: لِي عَلَيْكَ كَذَا وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ، وَأَنْ يَدَّعِيَ جُحُودَهُ، فَإِنْ قَالَ: هُوَ مُقِرٌّ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ وَلَغَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِجُحُودِهِ وَلَا إِقْرَارِهِ، فَهَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَمُ جُحُودَهُ فِي غَيْبَتِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ، فَجُعِلَتِ الْغَيْبَةُ كَالسُّكُوتِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِيمَا إِذَا أَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، لِيَكْتُبَ الْقَاضِي بِهِ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ الْغَائِبِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ، وَأَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَيْنِهِ لِيُوَفِّيَهُ الْقَاضِي تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ وَيُوَفِّيهِ، سَوَاءً قَالَ: هُوَ مُقِرٌّ، أَوْ جَاحِدٌ، وَهَلْ عَلَى الْقَاضِي لِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ أَنْ يَنْصِبَ مُسَخَّرًا يُنْكِرُ عَلَى الْغَائِبِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لِتَكُونَ الْبَيِّنَةُ عَلَى إِنْكَارِ مُنْكِرٍ، وَأَصَحُّهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ قَدْ يَكُونُ مُقِرًّا، فَيَكُونُ إِنْكَارُ الْمُسَخَّرِ كَذِبًا. وَمُقْتَضَى هَذَا التَّوْجِيهِ أَنْ لَا يَجُوزَ نَصْبُ الْمُسَخَّرِ، لَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْعِبَادِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ نَصَّبَ وَإِلَّا فَلَا.

الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي التَّحْلِيفِ، فَيُحَلِّفُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ عَلَى الْغَائِبِ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ وَتَعْدِيلِهَا أَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا اعْتَاضَ وَلَا اسْتَوْفَى، وَلَا أَحَالَ عَلَيْهِ هُوَ، وَلَا أُخِذَ مِنْ جِهَتِهِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ، فَيُحَلِّفُهُ عَلَى ثُبُوتِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ، وَوُجُوبِ تَسْلِيمِهِ، وَكَذَا يَحْلِفُ مَعَ الْبَيِّنَةِ [الْوَارِثُ] إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَيْتًا لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ حَاضِرٌ، فَإِنْ كَانَ حَلَفَ بِسُؤَالِ الْوَارِثِ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ الطَّرْسُوسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِي الدَّعْوَى مَعَ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، لَكِنَّ هَذَا التَّحْلِيفَ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ. وَمَنْ قَالَ بِالِاسْتِحْبَابِ قَالَ: لِأَنَّ تَدَارُكَ التَّحْلِيفِ بَاقٍ، وَالْوُجُوبُ فِي الْمَيْتِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَوْلَى لِعَجْزِهِمْ عَنِ التَّدَارُكِ، لَكِنَّ الْخِلَافَ مُطَّرِدٌ فِيهِمْ، حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْعِبَادِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَبَنَى عَلَى هَذَا مَا لَوْ أَقَامَ قَيِّمٌ طِفْلٍ بَيِّنَةً عَلَى قَيِّمِ طِفْلٍ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا التَّحْلِيفَ، انْتَظَرْنَا حَتَّى يَبْلُغَ الْمُدَّعَى لَهُ، فَيُحَلَّفَ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِحْبَابِ، قَضَى بِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْيَمِينِ هُنَا التَّعَرُّضُ لِصِدْقِ الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هُنَا كَامِلَةٌ وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ. إِذَا لَمْ يَدَّعِ بِنَفْسِهِ، بَلِ ادَّعَى وَكِيلُهُ عَلَى غَائِبٍ لَا يُحَلَّفُ، بَلْ يُعْطَى الْمَالَ إِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَاكَ مَالٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاضِرًا، وَقَالَ لِلْمُدَّعِي بِالْوِكَالَةِ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ: أَبْرَأَنِي مُوَكِّلُكَ الْغَائِبُ، وَأَرَادَ التَّأْخِيرَ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكَّلُ، فَيَحْلِفَ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ، بَلْ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْحَقِّ، ثُمَّ يُثْبِتُ الْإِبْرَاءَ مِنْ بَعْدُ إِنْ كَانَتْ لَهُ حُجَّةٌ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى وَلِيُّ الصَّبِيِّ دَيْنًا لِلصَّبِيِّ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إِنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيَّ مِنْ

جِنْسِ مَا تَدَّعِيهِ قَدْرَ دَيْنِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ بَلْ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا أَثْبَتَهُ الْوَلِيُّ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، حَلَّفَهَ. وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ: أَبْرَأَنِي مُوَكِّلُكُ الْغَائِبُ، فَاحْلِفْ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَهُ تَحْلِيفُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يُخَالِفُهُ وَلَا يُحَلِّفُ الْوَكِيلَ وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَنْ يُحَلِّفَ الْقَاضِي وَكِيلَ الْمُدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْإِبْرَاءِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ نِيَابَةً عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ لَوْ حَضَرَ كَمَا نَابَ عَنْهُ فِي تَحْلِيفِ مَنْ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ. فَرْعٌ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ كَالْحَاضِرِ وَهَلْ يَكْفِي يَمِينٌ أَمْ يُشْتَرَطُ يَمِينَانِ إِحْدَاهُمَا لِتَكْمُلَ الْحُجَّةُ، وَالثَّانِي لِنَفْيِ الْمُسْقِطَاتِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. فَرْعٌ تَعَلَّقَ بِرَجُلٍ وَقَالَ: أَنْتَ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ، وَلِي عَلَيْهِ كَذَا، وَأَدَّعِي عَلَيْكَ وَأُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فِي وَجْهِكَ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ وَكِيلٌ، وَأَرَادَ أَنْ لَا يُخَاصِمَ، فَلْيَعْزِلْ نَفْسَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ أَنِّي وَكِيلٌ وَلَا يَقُولُ: لَسْتُ بِوَكِيلٍ فَيَكُونَ مُكَذِّبًا لِبَيِّنَةٍ قَدْ تَقُومُ بِالْوَكَالَةِ، وَهَلْ لِلْمُدَّعِي إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى وِكَالَةِ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لِيَسْتَغْنِيَ عَنْ ضَمِّ الْيَمِينِ إِلَى الْبَيِّنَةِ، وَلِيَكُونَ الْقَضَاءُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقٌّ لَهُ، فَكَيْفَ يُقَامُ بَيِّنَةٌ بِهَا قَبْلَ دَعْوَاهُ.

الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، فَالْقَاضِي بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ قَدْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَيُنْهِي الْأَمْرَ إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ لِيَحْكُمَ وَيَسْتَوْفِيَ، وَقَدْ يُحَلِّفُهُ كَمَا سَبَقَ، وَيَحْكُمُ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي قَدْ يَكُونُ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ يُمْكِنُ أَدَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ فَيُؤَدَّى، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَيَسْأَلُ الْمُدَّعِي الْقَاضِيَ إِنْهَاءَ الْحُكْمِ إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ، فَيُجِيبُهُ إِلَيْهِ. وَلِلْإِنْهَاءِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُشْهِدَ عَلَى حُكْمِهِ عَدْلَيْنِ يَخْرُجَانِ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ كِتَابًا أَوَّلًا، ثُمَّ يَشْهَدُ، وَصُورَةُ الْكِتَابِ: حَضَرَ فُلَانٌ، وَادَّعَى عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ الْمُقِيمِ بِبَلَدِ كَذَا، وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ وَهُمَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقَدْ عُدِّلَا عِنْدِي، وَحَلَّفْتُ الْمُدَّعِيَ، وَحَكَمْتُ لَهُ بِالْمَالِ، فَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكَ فِي ذَلِكَ فَأَجَبْتُهُ، وَأَشْهَدْتُ بِذَلِكَ فُلَانًا وَفُلَانًا. وَلَا يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَا ذِكْرُ أَصْلِ الْإِشْهَادِ، وَلَا تَسْمِيَةُ شُهُودِ الْحَقِّ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكْتُبَ: شَهِدَ عِنْدِي عُدُولٌ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَصِفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ تَعْدِيلًا لَهُمْ، ذَكَرَهُ فِي الْعُدَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَصْلِ الشَّهَادَةِ، فَيَكْتُبُ: حَكَمْتُ بِكَذَا بِحُجَّةٍ أَوْجَبَتِ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْكُمُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَقَدْ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ إِذَا جَوَّزْنَاهُ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ يَدْفَعُ بِهَا الْقَاضِيَ قَدْحَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَفِي فَحْوَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ مَانِعٌ مِنْ إِبْهَامِ الْحُجَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ بَابِ الطَّعْنِ وَالْقَدْحِ عَلَى الْخَصْمِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتِمَ الْكِتَابَ وَيَدْفَعَ إِلَى الشَّاهِدَيْنِ نُسْخَةً غَيْرَ مَخْتُومَةٍ لِيُطَالِعَاهَا، وَيَتَذَاكَرَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ نَقْشَ خَاتَمِهِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَأَنْ يُثْبِتَ اسْمَ نَفْسِهِ، وَاسْمَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ فِي بَاطِنِ الْكِتَابِ، وَفِي الْعُنْوَانِ أَيْضًا. وَأَمَّا الْإِشْهَادُ، فَإِنْ أَشْهَدَهُمَا أَنَّهُ حَكَمَ بِكَذَا، وَلَا كِتَابَ، شَهِدَا بِهِ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ أَنْشَأَ الْحُكْمَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ

يُشْهِدْهُمَا، وَإِنْ كَتَبَ، ثُمَّ أَشْهَدَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ أَوْ يُقْرَأَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمَا ثُمَّ يَقُولُ لَهُمَا: اشْهَدَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ، أَوْ عَلَى حُكْمِي الْمُبَيَّنِ فِيهِ، وَفِي «الشَّامِلِ» أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانٍ، أَجَزَأَ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِمَا، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَنْظُرَ الشَّاهِدَانِ وَقْتَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِمَا فِي الْكِتَابِ، فَلَوْ لَمْ يَقْرَأِ الْكِتَابَ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَعْلَمَا مَا فِيهِ، قَالَ الْقَاضِي: أُشْهِدُكُمَا عَلَى أَنَّ هَذَا كِتَابِي أَوْ مَا فِيهِ خَطِّي، لَمْ يَكْفِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا عَلَى حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُكْتَبُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِحَقِيقَةٍ. وَلَوْ قَالَ: أُشْهِدُكُمَا عَلَى أَنَّ مَا فِيهِ حُكْمِي، أَوْ عَلَى أَنِّي قَضَيْتُ بِمَضْمُونِهِ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَكْفِي حَتَّى يُفَصِّلَ مَا حَكَمَ بِهِ، وَالثَّانِي: يَكْفِي لِإِمْكَانِ مَعْرِفَةِ التَّفْصِيلِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: أَشْهَدْتُكَ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْقُبَالَةِ وَأَنَا عَالِمٌ بِهِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّهُ يَكْفِي، حَتَّى إِذَا سَلَّمَ الْقُبَالَةَ إِلَى الشَّاهِدِ، وَحِفْظَهَا الشَّاهِدُ، وَأَمِنَ التَّحْرِيفَ، جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ، وَقَطَعَ الصَّيْمَرِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْإِقْرَارِ أَيْضًا حَتَّى يَقْرَأَهُ وَيُحِيطَ بِمَا فِيهِ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الشَّاهِدَ هَلْ يَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَضْمُونِ الْقُبَالَةِ مُفَصَّلًا. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مُبْهَمًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ بِلَا خِلَافٍ كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ الْمُبْهَمَةِ، ثُمَّ سَوَاءٌ شَهِدَ كَذَا أَوْ كَذَا، فَإِنَّمَا يَشْهَدُ إِذَا كَانَ الْكِتَابُ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ، وَأَمِنَ التَّصَرُّفَ. فَرْعٌ التَّعْوِيلُ عَلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكِتَابِ التَّذَكُّرُ، وَمِنَ الْخَتْمِ الِاحْتِيَاطُ، وَإِكْرَامُ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، فَلَوْ ضَاعَ الْكِتَابُ، أَوِ امَّحَى

أَوِ انْكَسَرَ الْخَتْمُ، وَشَهِدَا بِمَضْمُونِهِ الْمَضْبُوطِ عِنْدَهُمَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَقُضِيَ بِهَا، فَلَوْ شَهِدَا بِخِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ، عُمِلَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَا يَكْفِي الْكِتَابُ الْمُجَرَّدُ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِذَا وَثِقَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِالْخَطِّ وَالْخَتْمِ، كَفَى، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَيُشْتَرَطُ إِشْهَادُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، فَلَا يُقْبَلُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ إِنْ تَعَلَّقَتِ الْحُكُومَةُ بِمَالٍ، وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكِتَابُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، كَفَى شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِنَا: يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ، وَأَنَّهُ لَوْ كَتَبَ بِالزِّنَى وَجَوَّزْنَا كِتَابَ الْقَاضِي إِلَى قَاضٍ فِي الْعُقُوبَاتِ هَلْ يَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ أَمْ يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى. فَرْعٌ إِذَا وَصَلَ كِتَابُ الْقَاضِي وَحَامِلُهُ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الْآخَرِ، أَحْضَرَ الْخَصْمَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالْمُدَّعَى، اسْتَوْفَاهُ، وَإِلَّا فَيَشْهَدُ الشَّاهِدَانِ أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي فُلَانٍ وَخَتْمُهُ حَكَمَ فِيهِ لِفُلَانٍ بِكَذَا عَلَى هَذَا وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَأَشْهَدَنَا بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَقُولُوا: أَشْهَدَنَا بِهِ، جَازَ، وَلَا يَكْفِي ذِكْرُهُمَا الْكِتَابَ وَالْخَتْمَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِحُكْمِهِ. ثُمَّ فِي «التَّهْذِيبِ» وَالرَّقْمِ أَنَّ الْقَاضِيَ إِنَّمَا نَقَضَ الْخَتْمَ بَعْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَتَعْدِيلِهِمْ، وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُ يَفْتَحُ الْكِتَابَ أَوَّلًا ثُمَّ يَشْهَدُونَ. وَيُوَافِقُ هَذَا قَوْلَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَصْحَابِ أَنَّ الشُّهُودَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ، ثُمَّ يَشْهَدُونَ لِيَقِفُوا عَلَى مَا فِيهِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُخْرَقْ، وَلَيْسَ هَذَا خِلَافًا فِي الْجَوَازِ، وَكَيْفَ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْخَتْمَ مِنْ أَصْلِهِ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، فَكَمَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا لَا خَتْمَ عَلَيْهِ تُقْبَلُ عَلَى الْمَفْضُوضِ خَتْمُهُ، وَسَوَاءٌ فَضَّهُ الْقَاضِي أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَدَبِ وَالِاحْتِيَاطِ.

فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُطْلِقَ فَيَكْتُبَ إِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ إِلَى مُعَيَّنٍ، فَشَهِدَ شَاهِدَا الْحُكْمِ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ، قَبِلَ شَهَادَتَهُمَا وَأَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ: وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ؛ اعْتِمَادًا عَلَى الشَّهَادَةِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْكَاتِبُ وَشَهِدَا عَلَى حُكْمِهِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ، وَشَهِدَا عِنْدَ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، قَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَمْضَى الْحُكْمَ. وَالْعَزْلُ وَالْجُنُونُ وَالْعَمَى وَالْخَرَسُ كَالْمَوْتِ. وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إِلَى خَلِيفَتِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي، أَوْ عُزِلَ، تَعَذَّرَ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْقَبُولُ وَالْإِمْضَاءُ إِنْ قُلْنَا: يَنْعَزِلُ بِانْعِزَالِ الْأَصْلِ، وَلَوِ ارْتَدَّ الْقَاضِي الْكَاتِبُ أَوْ فَسَقَ، ثُمَّ وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، فَوَجْهَانِ، قَطَعَ ابْنُ الْقَاصِّ وَصَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَآخَرُونَ بِأَنَّ الْكِتَابَ إِنْ كَانَ بِالْحُكْمِ الْمُبْرَمِ، أُمْضِيَ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ الْحَادِثَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ، وَإِنْ كَانَ بِسَمَاعِ الشَّهَادَةِ، لَمْ يُقْبَلْ وَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ، كَمَا لَوْ فَسَقَ الشَّاهِدُ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَأَطْلَقَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ كِتَابُهُ إِذَا فَسَقَ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَابْنِ الصَّبَّاغِ. فَرْعٌ شُهُودُ الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ يُشْتَرَطُ ظُهُورُ عَدَالَتِهِمْ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَهَلْ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ بِتَعْدِيلِ الْكَاتِبِ إِيَّاهُمْ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: نَعَمْ لِلْحَاجَةِ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ تَعْدِيلٌ قَبْلَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ كَتَعْدِيلِ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِمْ، فَلَوْ ثَبَتَ بِهِ عَدَالَتُهُمْ لَثَبَتَتْ بِقَوْلِهِمْ، وَالشَّاهِدُ لَا يُزَكِّي نَفْسَهُ. فَرْعٌ يَنْبَغِي أَنْ يُثْبِتَ الْقَاضِي فِي الْكِتَابِ اسْمَ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَكُنْيَتَهُمَا، وَاسْمَ أَبَوَيْهِمَا، وَجَدَّيْهِمَا، وَحِلْيَتَهُمَا، وَصَنْعَتَهُمَا،

وَقَبِيلَتَهُمَا لِيَسْهُلَ التَّمْيِيزُ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا ظَاهِرَ الصِّيتِ، وَحَصَلَ الْإِعْلَامُ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا، اكْتُفِيَ بِهِ. وَإِذَا أَثْبَتَ الْأَوْصَافَ كَمَا ذَكَرْنَا، فَحُمِلَ الْكِتَابُ إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَأَحْضَرَ الْحَامِلُ عِنْدَهُ مَنْ زَعَمَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ، نُظِرَ إِنْ شَهِدَ شُهُودُ الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ عَلَى عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ حَكَمَ عَلَيْهِ، طُولِبَ بِالْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَيْنِهِ، لَكِنْ شَهِدُوا عَلَى مَوْصُوفٍ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ، فَأَنْكَرَ الْمُحْضَرُ أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَنَكَلَ الْمُحْضَرُ، حُلِّفَ الْمُدَّعِي، وَتَوَجَّهَ لَهُ الْحُكْمُ. وَلَوْ قَالَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ اسْمِي وَنَسَبِي، وَلَكِنْ أَحْلِفُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، فَحَكَى الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ عَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ الْيَمِينُ هَكَذَا، كَمَا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ قَرْضًا، فَأَنْكَرَ، وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ، وَاخْتَارَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَفَرَّقَا بِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى لَيْسَ بِحُجَّةِ، وَهُنَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَقَّ عَلَيْهِ إِنْ ثَبَتَ كَوْنُهُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، لَكِنْ لَسْتُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، لَزِمَهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وُجِدَ بِأَنْ عَرَفَهُ الْقَاضِيَ، أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَأُحْضِرَ الْمُشَارِكُ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ، طُولِبَ بِهِ، وَخَلُصَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَنْكَرَ بَعَثَ الْحَاكِمُ إِلَى الْكَاتِبِ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْإِشْكَالِ، لِيُحْضِرَ الشَّاهِدَيْنِ، وَيَطْلُبَ مِنْهُمَا مَزِيدَ صِفَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَإِنْ ذَكَرَا مَزِيدًا، كَتَبَ إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَإِلَّا وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى تَنْكَشِفَ. وَلَوْ أَقَامَ الْمُحْضِرُ بَيِّنَةً عَلَى مَوْصُوفٍ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كَانَ هُنَاكَ وَقَدْ مَاتَ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحُكْمِ، فَقَدْ وَقَعَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ، فَإِنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ الْمَحْكُومُ

فصل

لَهُ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ عَاصَرَهُ حَصَلَ الْإِشْكَالُ عَلَى الْأَصَحِّ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَثْبَتَ الْقَاضِي اسْمَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَنَسَبَهُ وَصِفَتَهُ كَمَا سَبَقَ، أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: حَكَمْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ مَثَلًا، فَالْحُكْمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ مُبْهَمٌ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِإِشَارَةٍ وَلَا وَصْفٍ كَامِلٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا اسْتَقْصَى الْوَصْفَ، فَظَهَرَ اشْتِرَاكٌ عَلَى النُّدُورِ، حَتَّى لَوِ اعْتَرَفَ رَجُلٌ فِي بَلَدِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ وَأَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِالْكِتَابِ، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ لِبُطْلَانِهِ فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْحَقِّ، فَيُؤَاخَذَ بِهِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاصِّ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ الْكِتَابُ، أَحْضَرَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ، أَخَذَهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ رَفَعَ نَسَبَهُ وَذَكَرَ صِفَتَهُ أَمْ لَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ كَمَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنَّهُ أَبْهَمَ فِي الْكِتَابِ اسْمَ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ يَقْبَلُ الشَّهَادَةَ، وَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، لِمَا سَبَقَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِقَوْلِ الشُّهُودِ لَا بِالْكِتَابِ. فَصْلٌ سَبَقَ أَنَّ لِإِنْهَاءِ حُكْمِ الْقَاضِي إِلَى قَاضٍ آخَرَ طَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْمُكَاتَبَةُ وَسَبَقَ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْمُشَافَهَةُ، وَتُتَصَوَّرُ مِنْ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَجْتَمِعَ الْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ، وَقَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ فِي غَيْرِ الْبَلَدَيْنِ، وَيُخْبِرُهُ بِحُكْمِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْتَقِلَ الَّذِي حَكَمَ إِلَى بَلَدِ الْغَائِبِ، وَيُخْبِرُهُ، فَفِي الْحَالَيْنِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا يَمْضِي حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ إِخْبَارَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ، كَإِخْبَارِ الْقَاضِي بَعْدَ الْعَزْلِ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَحْضُرَ قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ فِي بَلَدِ الَّذِي حَكَمَ فَيُخْبِرَهُ، فَإِذَا عَادَ إِلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، فَهَلْ يُمْضِيهِ، إِنْ قُلْنَا: يَقْضِي بِعِلْمِهِ فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي: سَمِعْتُ الْبَيِّنَةَ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِذَا عَادَ إِلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَا فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِمَا، بِأَنْ وَقَفَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي طَرَفِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: حَكَمْتُ بِكَذَا فَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِ إِمْضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الشَّهَادَةِ وَالْكِتَابِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضِيَانِ وَجَوَّزْنَاهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: حَكَمْتُ بِكَذَا فَإِنَّهُ يُمْضِيهِ، وَكَذَا إِذَا قَالَهُ الْقَاضِي لِنَائِبِهِ فِي الْبَلَدِ وَبِالْعَكْسِ. وَلَوْ خَرَجَ الْقَاضِي إِلَى قَرْيَةٍ لَهُ فِيهَا نَائِبٌ، فَأَخْبَرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِحُكْمِهِ أَمْضَاهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ مَحَلُّ وِلَايَتِهِمَا، وَلَوْ دَخَلَ النَّائِبُ الْبَلَدَ، فَقَالَ لِلْقَاضِي: حَكَمْتُ بِكَذَا لَمْ يَقْبَلْهُ، وَلَوْ قَالَ لَهُ الْقَاضِي: حَكَمْتُ بِكَذَا فِي إِمْضَائِهِ إِيَّاهُ، إِذَا عَادَ إِلَى قَرْيَتِهِ الْخِلَافُ [فِي] الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ. فَرْعٌ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِحَقٍّ، وَشَافَهَ بِهِ وَالِيًا غَيْرَ قَاضٍ لِيَسْتَوْفِيَهُ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي مَحَلِّ وِلَايَةِ الْقَاضِي، وَكَذَا خَارِجَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ كَاتَبَ الْقَاضِي وَالِيًا غَيْرَ قَاضٍ، فَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ وَقَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ نَظَرَ الْقُضَاةِ وَتَوْلِيَةَ مَنْ يَرَاهُ، جَازَتْ مُكَاتَبَتُهُ، كَمَا تَجُوزُ مُكَاتَبَةُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا، أَوْ كَانَ، وَلَمْ يُفَوَّضْ إِلَيْهِ نَظَرُ الْقُضَاةِ، لَمْ تَجُزْ مُكَاتَبَتُهُ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ يَخْتَصُّ بِالْقُضَاةِ.

فصل

فَصْلٌ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الطَّرَفِ أَنَّ الْقَاضِيَ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ قَدْ يَحْكُمُ، وَيُنْهِيهِ إِلَى حَاكِمٍ آخَرَ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى السَّمَاعِ وَيُنْهِيهِ، وَفَرَغْنَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ مُقَدَّمَةً فِيمَا يَمْتَازُ بِهِ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَلَى الثَّانِي وَفِي فُرُوعٍ تَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ. اعْلَمْ أَنَّ صِيَغَ الْحُكْمِ فِي قَوْلِهِ: حَكَمْتُ عَلَى فُلَانٍ لِفُلَانٍ بِكَذَا وَأَلْزَمْتُهُ، لِمَا سَبَقَ فِي الْأَدَبِ الْخَامِسِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي، فَلَوْ قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي كَذَا بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، أَوْ صَحَّ، فَهَلْ هُوَ حُكْمٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ تَحْقِيقِ الشَّيْءِ جَزْمًا وَأَصَحُّهُمَا لَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ قَبُولُ الشَّهَادَةِ، وَاقْتِضَاءُ الْبَيِّنَةِ صِحَّةُ الدَّعْوَى، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: سَمِعْتُ الْبَيِّنَةَ وَقَبِلْتُهَا وَلِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْإِلْزَامُ، وَالثُّبُوتُ لَيْسَ بِإِلْزَامٍ. وَأَمَّا مَا يُكْتَبُ [عَلَى] ظُهُورِ الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ وَهُوَ: صَحَّ وُرُودُ هَذَا الْكِتَابِ عَلَيَّ، فَقَبِلْتُهُ قَبُولَ مِثْلِهِ، وَأَلْزَمْتُ الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ، فَلَيْسَ بِحُكْمٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ تَصْحِيحُ الْكِتَابِ، وَإِثْبَاتُ الْحُجَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُلْزِمَ الْقَاضِي الْمَيِّتَ بِمُوجَبِ إِقْرَارِهِ فِي حَيَاتِهِ؟ وَجْهَانِ. وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَا يَحْكُمُ بِهِ، وَمَنْ يَحْكُمُ لَهُ، لَكِنْ قَدْ يُبْتَلَى الْقَاضِي بِظَالِمٍ يُرِيدُ مَا لَا يَجُوزُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مُلَايَنَتِهِ، فَرُخِّصَ لَهُ دَفْعُهُ بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ أَسْعَفَهُ بِمُرَادِهِ. مِثَالُهُ: أَقَامَ خَارِجٌ بَيِّنَةً وَدَاخِلٌ بَيِّنَةً، وَالْقَاضِي يَعْلَمُ فِسْقَ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُلَايَنَتِهِ، وَطَلَبَ الْحُكْمَ بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، فَيَكْتُبُ: حَكَمْتُ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ فُلَانٍ الدَّاخِلِ، وَفُلَانٍ الْخَارِجِ، وَقَرَّرْتُ الْمَحْكُومَ بِهِ فِي يَدِ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَسَلَّطْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَكَّنْتُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ

الْمُقَدَّمَةُ، فَإِذَا لَمْ يَحْكُمِ الْقَاضِي، وَأَنْهَى مَا جَرَى مِنَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ بِالْكِتَابِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ كِتَابَ نَقْلِ الشَّهَادَةِ، وَكِتَابَ التَّثْبِيتِ، أَيْ: تَثْبِيتِ الْحُجَّةِ. وَيَنُصُّ عَلَى الْحُجَّةِ، فَيَذْكُرُ أَنَّهُ قَامَتْ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، أَوْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَحَلَفَ الْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا يَنُصُّ عَلَى الْحُجَّةِ، لِيَعْرِفَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْحُجَّةَ، فَقَدْ لَا يَرَى بَعْضَ تِلْكَ الْحُجَّةِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ لِيَقْضِيَ بِهِ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ؟ قَالَ فِي الْعُدَّةِ: لَا يَجُوزُ وَإِنْ جَوَّزْنَا الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُحْكَمْ بِهِ هُوَ كَالشَّاهِدِ وَالشَّهَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِالْكِتَابَةِ. وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ جَوَازُهُ، وَيَقْضِي بِهِ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ إِذَا جَوَّزْنَا الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ. وَإِذَا كَتَبَ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، فَلْيُسَمِّ الشَّاهِدَيْنَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَبْحَثَ عَنْ حَالِهِمَا وَيُعَدِّلَهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ بَلَدِهِمَا أَعْرَفُ بِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعَلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ الْبَحْثُ وَالتَّعْدِيلُ. إِذَا عُدِّلَ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ اسْمَ الشَّاهِدَيْنِ؟ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَا، وَالْقِيَاسُ الْجَوَازُ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ، اسْتَغْنَى عَنْ تَسْمِيَةِ الشُّهُودِ، وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهَلْ يَأْخُذُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِتَعْدِيلِ الْكِتَابِ أَمْ لَهُ الْبَحْثُ وَإِعَادَةُ التَّعْدِيلِ؟ لَفْظُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي الثَّانِي، وَالْقِيَاسُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي جَعَلَهُ الْقِيَاسُ هُوَ الصَّوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا حَاجَةَ فِي هَذَا الْقِسْمِ إِلَى تَحْلِيفِ الْمُدَّعِي، وَالْقَوْلُ فِي إِشْهَادِ الْقَاضِي، وَفِي أَدَاءِ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَفِي دَعْوَى الْخَصْمِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الِاسْمِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْقَسَمِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا عَدَّلَ الْكَاتِبُ شُهُودَ الْحَقِّ، فَجَاءَ الْخَصْمُ بِبَيِّنَتِهِ عَلَى جَرْحِهِمْ

سُمِعَتْ، وَيُقَدَّمُ عَلَى التَّعْدِيلِ، وَإِنِ اسْتَمْهَلَ الْبَيِّنَةَ الْجَرْحُ أُمْهِلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتَنِي، أَوْ قَضَيْتَ الْحَقَّ وَاسْتَمْهَلَ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى بَلَدِهِمْ وَأَجْرَحَهُمْ، فَإِنِّي لَا أَتَمَكَّنُ مِنْ جَرْحِهِمْ إِلَّا هُنَاكَ، أَوْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ أُخْرَى هُنَاكَ دَافِعَةٌ، لَمْ يُمْهَلْ، بَلْ يُؤْخَذُ الْحَقُّ مِنْهُ، فَإِذَا أَثْبَتَ جَرْحًا أَوْ دَفْعًا، اسْتُرِدَّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كِتَابُ الْحُكْمِ وَكِتَابُ نَقْلِ الشَّهَادَةِ. وَفِي الْعُدَّةِ أَنَّهُ لَوْ سَأَلَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ إِحْلَافَ الْخَصْمِ أَنَّهُ لَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَقَدْ حَضَرَ الْخَصْمُ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَلَوْ سَأَلَ إِحْلَافَهُ عَلَى عَدَالَتِهِمْ لَمْ يُجِبْهُ، وَكَفَى تَعْدِيلُ الْحَاكِمِ إِيَّاهُمْ، وَأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى قَضَاءَ الدَّيْنِ، وَسَأَلَ إِحْلَافَهُ: أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِهِ، لَمْ يُحَلَّفْ؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ أَحْلَفَهُ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي مِثْلِهِ فِي دَعْوَى الْإِبْرَاءِ أَنَّهُ يُحَلِّفُهُ: أَنَّهُ لَمْ يُبَرِّئْهُ فَحَصَلَ وَجْهَانِ. فَرْعٌ فِي مُشَافَهَةِ الْقَاضِي قَاضِيًا بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فَإِذَا نَادَى قَاضٍ مِنْ طَرَفِ وِلَايَتِهِ قَاضِيًا مِنْ طَرَفِ وِلَايَتِهِ: إِنِّي سَمِعْتُ الْبَيِّنَةَ بِكَذَا، أَوْ جَوَّزْنَا قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ، فَقَالَ ذَلِكَ قَاضٍ لِقَاضٍ، هَلْ لِلْمَقُولِ لَهُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ؟ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَإِنْهَاءَ الْحَالِ إِلَى قَاضٍ آخَرَ هَلْ هُوَ نَقْلٌ كَشَهَادَةِ الشُّهُودِ كَنَقْلِ الْفُرُوعِ شَهَادَةَ الْأُصُولِ، أَمْ حُكْمٌ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَحْكُمُ بِالْفَرْعِ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ. وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ كَمَا فِي الْحُكْمِ الْمُبْرَمِ، وَهَذَا أَرْجَحُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ، وَقَالُوا أَيْضًا: كِتَابُ السَّمَاعِ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْكَاتِبِ وَبَيْنَ الَّذِي بَلَغَهُ الْكِتَابُ بِحَيْثُ يُقْبَلُ فِي مِثْلِهَا الشَّهَادَةُ عَلَى

الشَّهَادَةِ، وَهَذَا نَصُّهُ فِي «عُيُونِ الْمَسَائِلِ» وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ لِخَلِيفَتِهِ: اسْمَعْ دَعْوَى فُلَانٍ وَبَيِّنَتَهُ، وَلَا تَحْكُمْ بِهِ حَتَّى تُعَرِّفَنِي، فَفَعَلَ هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ؟ الْقِيَاسُ أَنَّهُ كَإِنْهَاءِ أَحَدِ الْقَاضِيَيْنِ فِي الْبَلَدِ إِلَى الْآخَرِ، لِإِمْكَانِ حُضُورِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ، لَكِنَّ الْأَشْبَهَ هُنَا الْجَوَازُ، وَبِهِ أَجَابَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ مَعَ تَوَقُّفٍ فِيهِ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِي الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ الْغَائِبِ عَلَى غَائِبٍ. الْغَيْبَةُ وَالْحُضُورُ إِنَّمَا تَتَعَاقَبَانِ الْأَعْيَانَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ دَعْوَى نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ رَجْعَةٍ، أَوْ إِثْبَاتِ وِكَالَةٍ، فَلَا يُوصَفُ الْمُدَّعِي بِغَيْبَةٍ وَلَا حُضُورٍ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا. وَمَتَى ادَّعَى عَيْنًا، فَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً مُشَارًا إِلَيْهَا، سُلِّمَتْ إِلَى الْمُدَّعِي إِذَا تَمَّتْ حُجَّتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً، فَلَهَا حَالَانِ الْأُولَى أَنْ تَكُونَ غَائِبَةً عَنِ الْبَلَدِ، فَهِيَ إِمَّا عَيْنٌ يُؤْمَنُ فِيهَا الِاشْتِبَاهُ وَالِاخْتِلَاطُ، كَالْعَقَارِ وَعَبْدٍ وَفَرَسٍ مَعْرُوفَيْنِ، وَإِمَّا غَيْرِهَا، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ يَسْمَعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، وَيَحْكُمُ وَيَكْتُبُ إِلَى قَاضِي بَلَدِ ذَلِكَ الْمَالِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَيَعْتَمِدُ فِي الْعَقَارِ عَلَى ذِكْرِ الْبُقْعَةِ وَالسِّكَّةِ وَالْحُدُودِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِحُدُودِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَدَّيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لِلْقِيمَةِ عَلَى الْأَصَحِّ لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ دُونَهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي كَغَيْرِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا فَهَلْ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنِهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ؟ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا نَعَمْ، كَمَا يَسْمَعُ عَلَى الْخَصْمِ الْغَائِبِ اعْتِمَادًا عَلَى الْحِلْيَةِ وَالصِّفَةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَالْعَقَارِ. وَالثَّانِي: لَا، لِكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَبِهَذَا قَالَ الْمُزَنِيُّ، وَرَجَّحَهُ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْكَرَابِيسِيِّ، وَالْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ الْقَاصِّ، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَبِهِ أَفْتَى الْقَفَّالُ. فَإِذَا قُلْنَا بِهِ، فَهَلْ يَحْكُمُ لِلْمُدَّعِي بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ؟ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَالْعَقَارِ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَعَ خَطَرِ الِاشْتِبَاهِ وَالْجَهَالَةِ

بِعِيدٌ. وَالْحَاصِلُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَالِغَ الْبَيِّنَةَ وَلَا يَحْكُمَ، وَالثَّانِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يَحْكُمُ، وَالثَّالِثُ يَسْمَعُ وَيَحْكُمُ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ، وَطَرَدُوهَا فِي جَمِيعِ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ، وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: مَا لَا يُؤَمَنُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ ضَرْبَانِ مَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ بِالصِّفَاتِ وَالْحُلِيِّ كَالْحَيَوَانِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ لِكَثْرَةِ أَمْثَالِهِ كَالْكِرْبَاسِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَقَطَعَا فِي الْكِرْبَاسِ وَنَحْوِهِ [بِأَنَّهُ] لَا تَرْتَبِطُ الدَّعْوَى وَالْحُكْمُ بِالْعَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَالِغَ الْمُدَّعِي فِي الْوَصْفِ بِمَا يُمْكِنُ الِاسْتِقْصَاءِ وَالتَّعَرُّضِ لِلثَّبَاتِ. وَبِمَاذَا يَضْبِطُ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ، أَحَدُهُمَا لِتَعَرُّضِ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي السَّلَمِ، وَالثَّانِي يَتَعَرَّضُ لِلْقِيمَةِ، وَتَكْفِي عَنْ ذَلِكَ الصِّفَاتُ، قَالُوا: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الرُّكْنَ فِي تَعْرِيفِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ذِكْرُ الصِّفَاتِ وَذِكْرُ الْقِيمَةِ مُسْتَحَبٌّ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ، الرُّكْنُ الْقِيمَةُ، وَذِكْرُ الصِّفَاتِ مُسْتَحَبٌّ، ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْمَالِ بِمَا جَرَى عِنْدَهُ مِنْ مُجَرَّدِ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ مَعَ الْحُكْمِ إِنْ جَوَّزْنَا الْحُكْمَ الْمُبْرَمَ، فَإِنْ أَظْهَرَ الْخَصْمُ هُنَاكَ عَبْدًا آخَرَ بِالِاسْمِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي يَدِهِ، أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَقَدْ صَارَ الْقَضَاءُ مُبْهَمًا، وَانْقَطَعَتِ الْمُطَالَبَةُ فِي الْحَالِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِدَافِعٍ، فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ كِتَابَ حُكْمٍ، وَجَوَّزْنَاهُ، حَلَفَ الْمُدَّعِي أَنَّ هَذَا الْمَالَ هُوَ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ، وَتَسَلَّمَ إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاصِّ فِي كِتَابِ آدَابِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ كِتَابَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، انْتَزَعَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ الْمَالَ، وَبَعَثَهُ إِلَى الْكَاتِبِ، لِيَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى عَيْنِهِ، وَفِي طَرِيقِهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ: يُسَلَّمُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِبَدَنِهِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ: يَكْفُلُهُ قِيمَةَ الْمَالِ، فَإِنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ، وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى عَيْنِهِ

وَسَلَّمَ بِهِ، كَتَبَ الْقَاضِي بِذَلِكَ إِبْرَاءَ الْكَفِيلِ وَإِلَّا فَعَلَى الْمُدَّعِي الرَّدُّ، وَمُؤْنَتُهُ، وَيَخْتِمُ الْعَيْنَ عِنْدَ تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ بِخَتْمٍ لَازِمٍ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا، جَعَلَ فِي عُنُقِهِ الْقِلَادَةَ، وَيَخْتِمُ عَلَيْهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخَتْمِ أَنْ لَا يُبَدَّلَ الْمَأْخُوذُ بِمَا لَا يَسْتَرِيبُ الشُّهُودُ فِي أَنَّهُ لَهُ، وَأَخْذُ الْكَفِيلِ وَاجِبٌ، وَالْخَتْمُ مُسْتَحَبٌّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ كَانَ لِلْمُدَّعِي جَارِيَةٌ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَالْعَبْدِ، وَالثَّانِي: لَا تُبْعَثُ أَصْلًا، وَالثَّالِثُ: تُسَلَّمُ إِلَى أَمِينٍ فِي الرُّفْقَةِ لَا إِلَى الْمُدَّعِي، وَهَذَا حَسَنٌ. قُلْتُ: هَذَا الثَّالِثُ هُوَ الصَّحِيحُ أَوِ الصَّوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الشُّهُودَ إِذَا شَهِدُوا عَلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الْكَاتِبِ، سَلَّمَهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَقَدْ تَمَّ الْحُكْمُ لَهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ إِبْرَاءَ الْكَفِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَفِي «الْفُرُوقِ» لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَخْتِمُ عَلَى رَقَبَتِهِ خَتْمًا ثَانِيًا، وَيَكْتُبُ بِأَنِّي حَكَمْتُ بِهِ لِفُلَانٍ، وَيُسَلِّمُهُ إِلَى الْمَكْتُوبِ لَهُ، لِيَرُدَّهُ إِلَى الْقَاضِي الثَّانِي، فَيَقْرَأُ الْكِتَابَ، وَيُطْلِقُ الْكَفِيلَ، وَيُسَلِّمُ الْعَبْدَ إِلَى الْمُدَّعِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْقَاضِيَ بَعْدَ الِانْتِزَاعِ يَبِيعُهُ لِلْمُدَّعِي، وَيَقْبِضُ مِنْهُ الثَّمَنَ، وَيَضَعُهُ عِنْدَ عَدْلٍ، أَوْ يَكْفُلُهُ بِالثَّمَنِ، فَإِنَّ سُلِّمَ لِلْمُدَّعِي بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الْقَاضِي الْكَاتِبِ، كَتَبَ بِرَدِّ الثَّمَنِ، أَوْ بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ، وَبَانَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَيُسَلَّمُ الثَّمَنُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا بَيْعٌ يَتَوَلَّاهُ الْقَاضِي لِلْمَصْلَحَةِ، كَمَا يَبِيعُ الضَّوَالَّ، وَحَكَى الْفُورَانِيُّ بَدَلَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ الْمَالَ، وَيَأْخُذُ الْقِيَمَ وَيَدْفَعُهَا إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَزْعُمُهُ مِلْكًا لَهُ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّ هَذِهِ الْقِيمَةَ، سَوَاءً ثَبَتَ الْمَالُ لِلْمُدَّعِي أَمْ لَا.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ غَائِبَةً عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ دُونَ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا أُمِرَ بِإِحْضَارِهِ لِتَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَيْنِهَا، وَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَى صِفَتِهَا هَذَا [هُوَ] الْجَوَابُ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ وَجْهٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ، هَلْ تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ عَنِ الْمَجْلِسِ؟ ثُمَّ إِنَّمَا يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ مَا يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ بِتَيَسُّرٍ فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ، كَالْعَقَارِ، فَيَحُدُّهُ الْمُدَّعِي وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْحُدُودِ، فَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ: نَعْرِفُ الْعَقَارَ بِعَيْنِهِ، وَنَعْرِفُ الْحُدُودَ، بَعَثَ الْقَاضِي مَنْ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنِهِ، أَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الدَّعْوَى، حَكَمَ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ كَانَ الْعَقَارُ مَشْهُورًا لَا يَشْتَبِهُ، فَلَا حَاجَةَ لِلتَّحْدِيدِ، وَأَمَّا مَا يَعْسُرُ إِحْضَارُهُ كَشَيْءٍ ثَقِيلٍ، وَمَا أُثْبِتَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ رُكِّبَ فِي الْجِدَارِ، وَأَوْرَثَ قَلْعُهُ ضَرَرًا، فَيَصِفُهُ الْمُدَّعِي، وَيَحْضُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُ، أَوْ يَبْعَثُ مَنْ يَسْمَعُ الشَّهَادَةَ عَلَى عَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَصْفُهُ حَضَرَ الْقَاضِي عِنْدَهُ، أَوْ بَعَثَ مَنْ يَسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى عَيْنِهِ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُدَّعَى لَوْ كَانَ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي حَكَمَ بِهِ دُونَ الْإِحْضَارِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الصُّورَةَ كَالْمُسْتَثْنَاةِ عَنْ صُورَةِ وُجُوبِ الْإِحْضَارِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إِنْ أَرَادَ بِهِ الْعَبْدَ الْمَعْرُوفَ بَيْنَ النَّاسِ، فَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَقَارِ الْمَعْرُوفِ وَالْعَبْدِ الْمَشْهُورِ الْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ، فَأَمَّا إِنِ اخْتَصَّ الْقَاضِي بِمَعْرِفَتِهِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِ الْمُدَّعِي، وَحَكَمَ بِعِلْمِهِ تَفْرِيعًا عَلَى جَوَازِهِ، فَهُوَ قَرِيبٌ أَيْضًا، وَإِنْ حَكَمَ بِالْبَيِّنَةِ فَالْبَيِّنَةُ تَقُومُ عَلَى الصِّفَةِ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعِ الْبَيِّنَةَ [بِالصِّفَةِ] ، وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ الْحُكْمُ وَمَتَى أَوْجَبْنَا الْإِحْضَارَ، فَذَلِكَ إِذَا اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِاشْتِمَالِ يَدِهِ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْعَيْنِ، وَإِنْ أَنْكَرَ اشْتِمَالَ يَدِهِ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ كَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا هَلَكَتْ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي

أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً حِينَ أَنْكَرَ، كُلِّفَ إِحْضَارَهَا وَحُبِسَ، وَلَا يُطْلَقُ إِلَّا بِالْإِحْضَارِ، أَوْ بِأَنْ يَدَّعِيَ التَّلَفَ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِيمَةُ، وَتُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى التَّلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ خِلَافَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ لِلضَّرُورَةِ، وَقِيلَ: لَا يُطْلَقُ إِلَّا بِالْإِحْضَارِ، أَوْ بَيِّنَةِ التَّلَفِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ الْمُدَّعِي أَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ لِيُطَالِبَ بِهَا، أَوْ تَالِفَةٌ لِيُطَالِبَ بِقِيمَتِهَا فَادَّعَى عَلَى التَّرَدُّدِ، وَقَالَ: غَصَبَ مِنِّي كَذَا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَقِيمَتُهُ، فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يُسْمَعُ دَعْوَاهُ، لِعَدَمِ الْجَزْمِ، بَلْ يَدَّعِي الْعَيْنَ، وَيَحْلِفُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُنْشِئُ دَعْوَى الْقِيمَةِ، وَيَحْلِفُ عَلَيْهَا، وَأَصَحُّهُمَا وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْقَضَاءِ: يُسْمَعُ لِلْحَاجَةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْعَيْنِ، وَلَا قِيمَتِهَا، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ سَلَّمَ ثَوْبًا إِلَى دَلَّالٍ لِيَبِيعَهُ فَطَالَبَهُ بِهِ، فَجَحَدَ، فَلَمْ يَدْرِ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَبَاعَهُ فَيُطَالِبُهُ بِالثَّمَنِ، أَمْ تَلِفَ فَيُطَالِبُهُ بِالْقِيمَةِ، أَمْ هُوَ بَاقٍ لِيُطَالِبَهُ بِالْعَيْنِ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَدَّعِي الْعَيْنَ فِي دَعْوَى، وَالْقِيمَةَ فِي أُخْرَى، وَالثَّمَنَ فِي أُخْرَى، وَعَلَى الثَّانِي يَدَّعِي أَنَّ عَلَيْهِ رَدَّ الثَّوْبِ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ قِيمَتَهُ، وَيَحْلِفُ الْخَصْمُ يَمِينًا وَاحِدَةً أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الثَّوْبِ وَلَا ثَمَنُهُ وَلَا قِيمَتُهُ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ عَبْدًا بِصِفَةِ كَذَا، فَمَاتَ الْعَبْدُ اسْتَحَقَّ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ قِيمَتَهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَالْمَالُ فِي الْبَلَدِ، كَمَا وَصَفْنَا أُحْضِرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ أَيْضًا، وَأُخِذَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ لِيَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى عَيْنِهِ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا، وَالْمُدَّعِي بِبَلْدَةٍ أُخْرَى، فَقِيَاسُ مَا سَبَقَ أَنَّا إِنْ قُلْنَا: تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بِالْمَالِ الْغَائِبِ، وَيُحْكَمُ بِهِ، فَالْقَاضِي يَحْكُمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ إِلَّا السَّمَاعَ، فَإِذَا سَمِعَ الْبَيِّنَةَ، أَمَرَ بِنَقْلِ الْمُدَّعِي إِلَى مَجْلِسِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْخَصْمِ.

فَرْعٌ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ، كُلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِحْضَارَهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا يَبْعَثُهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ عَلَى يَدِ الْمُدَّعَى، وَلَا يُكَلَّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِحْضَارَ لِلْمَشَقَّةِ، كَمَا يُكَلَّفُ الْحُضُورَ هُنَاكَ وَلَا يُكَلَّفُهُ هُنَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: فَحَيْثُ أَمَرَ الْمُدَّعِي هُنَا بِالْإِحْضَارِ، فَمُؤْنَةُ الْإِحْضَارِ عَلَيْهِ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لِلْمُدَّعِي، وَإِلَّا فَعَلَى الْمُدَّعَى مُؤْنَةُ الْإِحْضَارِ وَالرَّدِّ جَمِيعًا، وَحَيْثُ يَبْعَثُهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ إِلَى بَلَدِ الْكَاتِبِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ لِلْمُدَّعِي، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى مَوْضِعٍ بِمُؤْنَاتِهِ، وَتَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الْإِحْضَارِ إِنْ تَحَمَّلَهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لِلْمُدَّعِي، فَقِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمُؤْنَةِ الْإِحْضَارِ عَلَى الْمُدَّعِي عَلَيْهِ. وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ أَنَّ الْقَاضِيَ يُنْفِقُ عَلَى النَّقْلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، اقْتَرَضَ، فَإِنْ ثَبَتَ الْمَالُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَزِمَهُ رَدُّ الْقَرْضِ بِظُهُورِ تَعَدِّيهِ، وَإِلَّا كُلِّفَ الْمُدَّعِي رَدَّهُ لِظُهُورِ تَعَنُّتِهِ، ثُمَّ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ: إِذَا نَقَلَ الْمُدَّعِي الْمَالَ إِلَى بَلَدِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ لَهُ، لَزِمَ الْمُدَّعِي مَعَ مُؤْنَةِ الرَّدِّ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمُدَّةِ الْحَيْلُولَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ فِي مُدَّةِ تَعَطُّلِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِذَا أَحْضَرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْبَلَدِ، فَاقْتَضَى سُكُوتُهُمُ الْمُسَامَحَةَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الِاقْتِضَاءِ الْغَزَالِيُّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ زِيَادَةُ الضَّرَرِ هُنَاكَ. الطَّرَفُ الْخَامِسُ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَسْمَعَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ، وَلَا يَحْكُمَ إِلَّا بِحَضْرَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَكِنَّ هَذَا الْأَصْلَ قَدْ يُتْرَكُ لِأَسْبَابٍ. وَتَفْصِيلُهَا أَنْ يُقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَصْمُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْخُلْدِ، وَإِمَّا لَا، فَإِنْ كَانَ نُظِرَ إِنْ كَانَ ظَاهِرًا يَتَأَتَّى

فصل

إِحْضَارُهُ، فَهَلْ يَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِهِ أَمْ لَا، أَمْ يَجُوزُ سَمَاعُهَا دُونَ الْحُكْمِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ الْمَنْعُ مِنْهُمَا، وَأُجْرِي الْخِلَافُ فِي الْحَاضِرِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ هَلْ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، وَيَحْكُمُ بِغَيْرِ سُؤَالِهِ وَمُرَاجَعَتِهِ، وَالْمَنْعُ هُنَا أَظْهَرُ وَأَوْلَى. وَإِنْ تَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ بِتَوَارِيهِ أَوْ بِعُذْرِهِ جَازَ سَمَاعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَنَعَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَهَلْ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي كَمَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي عَلَى غَائِبٍ؟ وَجْهَانِ، وَقَطَعَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ بِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ قَادِرٌ عَلَى الْحُضُورِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ، فَإِنْ غَابَ إِلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، جَازَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً، فَهُوَ كَالْحَاضِرِ، وَفِي ضَبْطِ الْبَعِيدَةِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَالْقَرِيبَةُ دُونَهَا، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْقَرِيبَةَ مَا يُمْكِنُ الْمُبَكِّرُ الرُّجُوعَ مِنْهَا إِلَى مَسْكَنِهِ لَيْلًا، فَإِنْ زَادَتْ فَبَعِيدَةٌ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُتَمَرِّدِ وَكِيلٌ نَصَّبَهُ بِنَفْسِهِ، فَهَلْ يَتَوَقَّفُ التَّحْلِيفُ عَلَى طَلَبِهِ؟ جَوَابَانِ لِأَبِي الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ: لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ وَظِيفَةِ الْوَكِيلِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لِلْغَائِبِ وَكَيْلٌ. فَصْلٌ مَنْ أَتَى الْقَاضِيَ مُسْتَعْدِيًا عَلَى خَصْمٍ لِيُحْضِرَهُ، فَلِخَصْمِهِ حَالَانِ. الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ بِالْبَلَدِ وَظَاهِرًا يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ، فَيَجِبُ إِحْضَارُهُ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُحْضِرُ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ فِي دَارِهِ لَا فِي مَجْلِسِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ. ثُمَّ الْإِحْضَارُ قَدْ يَكُونُ بِخَتْمٍ مِنْ طِينٍ رَطْبٍ أَوْ غَيْرِهِ يَدْفَعُهُ إِلَى الْمُدَّعِي، لِيَعْرِضَهُ عَلَى الْخَصْمِ. وَلْيَكُنْ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ: أَجِبِ الْقَاضِيَ فَلَانًا، وَقَدْ يَكُونُ بِشَخْصٍ مِنَ الْأَعْوَانِ الْمُرَتَّبِينَ عَلَى بَابِ الْقَاضِي، وَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَى الطَّالِبِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ بَعْثَ الْخَتْمَ، فَلَمْ يُجِبْ، بَعَثَ إِلَيْهِ الْعَوْنَ، وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي امْتِنَاعُهُ بِلَا عُذْرٍ، أَوْ ثَبَتَ سَوَادٌ بِهِ بِكَسْرِ الْخَتْمِ وَنَحْوِهِ، اسْتَعَانَ عَلَى إِحْضَارِهِ بِأَعْوَانٍ

السُّلْطَانُ، فَإِذَا حَضَرَ عَزَّرَهُ بِمَا يَرَاهُ، وَتَكُونُ مُؤْنَةُ الْمُحْضَرِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لِامْتِنَاعِهِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمُدَّعِي، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنِ اخْتَفَى بَعَثَ مَنْ يُنَادِي عَلَى بَابِ دَارِهِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ إِلَى ثَلَاثٍ سَمَّرَ بَابَ دَارِهِ، أَوْ خَتَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَسَأَلَ الْمُدَّعِي التَّسْمِيرَ أَوِ الْخَتْمَ، أَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّارَ دَارُهُ، وَإِذَا عُرِفَ لَهُ مَوْضِعٌ قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: يَبْعَثُ الْقَاضِي جَمَاعَةً مِنَ النِّسْوَةِ وَالصِّبْيَانِ وَالْخِصْيَانِ يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَيُفَتِّشُونَ. وَمَتَّى كَانَ لِلْمَطْلُوبِ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنَ الْحُضُورِ، لَمْ يُكَلَّفْ، بَلْ يُبْعَثُ إِلَيْهِ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، أَوْ يَأْمُرُهُ بِنَصْبِ وَكِيلٍ لِيُخَاصِمَ عَنْهُ، فَإِنْ وَجَبَ تَحْلِيفُهُ، بَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ يُحَلِّفُهُ، وَالْعُذْرُ كَالْمَرَضِ، أَوْ حَبْسِ ظَالِمٍ، أَوِ الْخَوْفِ مِنْهُ، وَفِي الْمَرْأَةِ الْمُخَدَّرَةِ خِلَافٌ سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ خَارِجَ الْبَلَدِ، فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ وِلَايَةِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُحْضِرَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ نَائِبٌ، لَمْ يُحْضِرْهُ، بَلْ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ وَيَكْتُبُ إِلَيْهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُ إِحْضَارُهُ إِذَا طَلَبَ الْخَصْمُ، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، ذَكَرَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي «الْأَمَالِي» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهُمَا - وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ -: يُحْضِرُهُ قَرُبَتِ الْمَسَافَةُ أَمْ بَعُدَتْ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى بَلَدِ الْمَطْلُوبِ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَعْدِي، وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَحْضَرَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى، أَحْضَرَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يُحْضِرُهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَاكِمٌ، فَكَذَا لَا يُحْضِرُهُ إِذَا كَانَ (هُنَاكَ) مَنْ يَتَوَسَّطُ وَيُصْلِحُ بَيْنَهُمَا، بَلْ يَكْتُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَوَسَّطَ وَيُصْلِحَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَحِينَئِذٍ يُحْضِرُهُ، وَحَيْثُ قُلْنَا: يُحْضِرُ الْخَارِجَ عَنِ الْبَلَدِ، فَذَكَرَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُحْضِرُهُ إِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى

فصل

مَا يَدَّعِيهَ، فَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ حُجَّةٌ فَيَتَضَرَّرَ الْخَصْمُ بِالْإِحْضَارِ، لَكِنْ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ حُجَّةٌ، وَيَقْصِدُ تَحْلِيفَهُ لَعَلَّهُ يَنْزَجِرُ فَيُقِرَّ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِمَا ذَكَرَهُ، لَكِنْ قَالُوا: يَبْحَثُ الْقَاضِي عَنْ جِهَةِ دَعْوَاهُ، فَقَدْ يُرِيدُ مُطَالَبَتَهُ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ، كَذِمِّيٍّ أَرَادَ مُطَالَبَةَ مُسْلِمٍ بِضَمَانِ خَمْرٍ، بِخِلَافِ الْحَاضِرِ فِي الْبَلَدِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَحْثِ فِي إِحْضَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُضُورِ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ وَلَا مُؤْنَةٌ. فَرْعٌ لَوِ اسْتَعْدَى عَلَى امْرَأَةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْبَلَدِ هَلْ يُحْضِرُهَا، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَمْنُ الطَّرِيقِ وَنِسْوَةٌ ثِقَاتٌ، وَهَلْ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهَا مَحْرَمًا لَهَا لِتَحْضُرَ مَعَهُ؟ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَجْهَانِ الْأَصَحُّ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهَا مَحْرَمًا أَوْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ. فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ عَلَى غَائِبٍ دَيْنٌ، وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ، فَعَلَى الْقَاضِي تَوْفِيَتُهُ مِنْهُ إِذَا طَالَبَ الْمُدَّعِي، وَإِذَا وَفَّى هَلْ يُطَالِبُ الْمُدَّعِيَ بِكَفِيلٍ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ فَقَدْ يَكُونُ لِلْغَائِبِ دَافِعٌ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَمَّ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الدَّافِعِ. فَصْلٌ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزٌ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْعُقُوبَاتِ، وَفِي الْعُقُوبَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْمَشْهُورُ ثَالِثُهَا إِنْ كَانَتْ لِآدَمِيٍّ، كَقِصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ، جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ حَدًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَلَا، فَإِنْ جَوَّزْنَا، كَتَبَ إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، لِيَأْخُذَهُ بِالْعُقُوبَةِ

فصل

ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ كِتَابِ الْحُكْمِ، وَكِتَابِ النَّقْلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْفُورَانِيُّ: الْخِلَافُ فِي كِتَابِ النَّقْلِ، فَأَمَّا كِتَابُ الْحُكْمِ فَيُقْبَلُ قَطْعًا فِي الْعُقُوبَتَيْنِ. فَصْلٌ إِذَا سَمِعَ الْقَاضِيَ بَيِّنَةً، فَعُزِلَ، ثُمَّ وَلِيَ ثَانِيًا، لَمْ يَحْكُمْ بِالسَّمَاعِ الْأَوَّلِ لِبُطْلَانِهِ بِالْعَزْلِ، بَلْ تَجِبُ الِاسْتِعَادَةُ، وَلَوْ خَرَجَ عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، ثُمَّ عَادَ، فَلَهُ الْحُكْمُ بِالسَّمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى الصَّحِيحِ لِبَقَاءِ وِلَايَتِهِ. وَلَوْ سَمِعَ الشَّهَادَةَ عَلَى غَائِبٍ، فَقَدِمَ قَبْلَ الْحُكْمِ، لَمْ تَجِبْ الِاسْتِعَادَةُ، لَكِنْ يُخَيَّرُ وَيُمَكِّنُ مِنَ الْجَرْحِ، وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الْحُكْمِ، فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، وَجَرْحِ الشُّهُودِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُؤَرِّخَ الْجَارِحُ فِسْقَهُ بِيَوْمِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ احْتُمِلَ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَبُلُوغُ الصَّبِيِّ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، أَوْ بَعْدَ الْحُكْمِ كَقُدُومِ الْغَائِبِ. فَصْلٌ الْمَرْأَةُ الْمُخَدَّرَةُ هَلْ تُكَلَّفُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحُكْمِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، قَالَهُ الْقَفَّالُ كَغَيْرِهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ حَضَرَ الْقَاضِي دَارَهَا، لِيَحْكُمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا، أَوْ بَعَثَ نَائِبًا كَانَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دُخُولِ دَارِهَا، وَيَطْلُبَ إِخْرَاجَهَا، وَأَصَحُّهُمَا لَا كَالْمَرِيضِ، وَسَبِيلُ الْقَاضِي فِي حَقِّهَا كَمَا سَبَقَ فِي الْمَرِيضِ، فَعَلَى هَذَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِذَا حَضَرَ دَارَهَا نَائِبُ الْقَاضِي، تَكَلَّمَتْ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ إِنِ اعْتَرَفَ الْخَصْمُ أَنَّهَا خَصْمُهُ، أَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ مَحَارِمِهَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي ادَّعَى عَلَيْهَا، وَإِلَّا تَلَفَّفَتْ بِمِلْحَفَةٍ، وَخَرَجَتْ مِنَ السِّتْرِ، ثُمَّ مَنْ لَا تَخْرُجُ أَصْلًا إِلَّا لِضَرُورَةٍ فَهِيَ مُخَدَّرَةٌ، وَمَنْ لَا تَخْرُجُ إِلَّا نَادِرًا لِعَزَاءٍ، أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ حَمَّامٍ مُخَدَّرَةٌ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ.

فصل

وَيَكْفِي أَنْ لَا تَصِيرَ مُتَبَذِّلَةً بِكَثْرَةِ الْخُرُوجِ لِلْحَاجَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ، كَشِرَاءِ الْخُبْزِ وَالْقُطْنِ، وَبَيْعِ الْغَزْلِ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ إِنَّمَا يَتَحَتَّمُ حُضُورُ الْمُخَدَّرَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِلتَّحْلِيفِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ، فَيُقْنَعُ فِيهِ بِالتَّوْكِيلِ مِنَ الْمُخَدَّرَةِ وَغَيْرِهَا. فَصْلٌ الْقَاضِي يُزَوِّجُ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا إِذَا كَانَتْ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْتَوْطِنَةً مَحَلَّ وِلَايَتِهِ، أَمْ غَيْرَهَا، وَلَا يُزَوِّجُ خَارِجَةً عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ رَضِيَتْ. وَلَا يَكْفِي حُضُورُ الْخَاطِبِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَكَمَ بِحَاضِرٍ عَلَى غَائِبٍ، لَأَنَّ الْمُدَّعِيَ حَاضِرٌ، وَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لِيَتِيمٍ غَائِبٍ عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ مَالٌ حَاضِرٌ، فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، لَأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ تَرْتَبِطُ بِمَالِهِ، ثُمَّ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ الْغَائِبِ يَكُونُ بِالْحِفْظِ وَالتَّعَهُّدِ، وَإِذَا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ أَتَى بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ بِشَرْطِ الْغِبْطَةِ اللَّائِقَةِ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ فِي مَالِ كُلِّ غَائِبٍ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا، وَخِيفَ هَلَاكُهُ، بَاعَهُ، وَإِنْ حَصَلَتِ الصِّيَانَةُ بِالْإِجَارَةِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ الْغَائِبِ لِلِاسْتِنْمَاءِ، وَأَنْ يَنْصِبَ قَيِّمًا كَذَلِكَ، وَأَنْ يَتَصَرَّفَ لِلتِّجَارَةِ، وَطَلَبِ الْفَائِدَةِ كَتَصَرُّفِهِ فِي أَمْوَالِ الْحَاضِرِينَ؟ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْقَيِّمِ يَرْتَبِطُ بِالْمَالِ وَالْمَالِكِ جَمِيعًا، فَلَوْ جَازَ النَّصْبُ بِحُضُورِ الْمَالِ، جَازَ لِقَاضِي بَلَدِ الْيَتِيمِ بِحُضُورِ الْمَالِكِ، وَحِينَئِذٍ يَتَمَانَعُ تَصَرُّفَاهُمَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُلَاحِظَ مَكَانَ الْيَتِيمِ دُونَ الْمَالِ، وَلَهُ نَصْبُ الْقَيِّمِ لِلْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَلِلْقَاضِي إِقْرَاضُ مَالِ الْغَائِبِ لِيَحْفَظَهُ بِحِفْظِهِ

فصل

فِي الذِّمَّةِ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ فِي الْحَجْرِ فِي إِقْرَاضِ مَالِ الصَّبِيِّ. وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَالِكٌ، وَحَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَصْرِفَ ثَمَنَهُ إِلَى الْمَصَالِحِ، وَأَنَّ لَهُ حِفْظَهُ. قُلْتُ: هَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ مُتَعَيَّنٌ، وَقَدْ قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَلَا نَعْرِفُ خِلَافَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ كِتَابُ قَاضِي الْبُغَاةِ مَقْبُولٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَعَنِ الْقَدِيمِ مَنْعُهُ، أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا فِي غَيْرِ مُحَلِّ وِلَايَتِهِ، وَالَّذِي يَسْتَمِرُّ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاصِّ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ وَلَا يُشْهِرُ فِي غَيْرِ مُحَلِّ وِلَايَتِهِ، وَأَمَّا الْكِتَابُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَلَوْ حَكَمَ الْقَاضِي بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا وَكِيلُ رَجُلٍ فِي وَجْهِ وَكِيلٍ آخَرَ، فَحَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: كُنْتُ عَزَلْتُ وَكِيلِي قَبْلَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، لَمْ يَنْفَعْهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزٌ. وَلَوْ حَضَرَ الْمُدَّعِي، وَقَالَ: كُنْتُ عَزَلْتُ وَكِيلِي، وَقُلْنَا بِانْعِزَالِ الْوَكِيلِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ، لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلْغَائِبِ بَاطِلٌ. وَإِذَا أَرَادَ شُهُودَ كِتَابٍ، حُكْمِي التَّخَلُّفُ فِي الطَّرِيقِ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ قَاضٍ وَشُهُودٌ، فَصَاحِبُ الْكِتَابِ إِمَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاهِدَيْنِ يَحْضُرَانِ مَعَهُ وَيَشْهَدَانِ عِنْدَ الْقَاضِي الَّذِي يَقْصِدُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَعْرِضَ الْكِتَابَ عَلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي يَتَخَلَّفُونَ فِيهِ، لِيَشْهَدُوا عِنْدَهُ بِهِ، فَيَضْمَنَهُ، وَيَكْتُبَ بِهِ إِلَى الْقَاضِي الَّذِي يَقْصِدَهُ. وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّفُ حَيْثُ لَا قَاضٍ وَلَا شُهُودٌ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، بَلْ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ إِلَى مَوْضِعٍ فِيهِ قَاضٍ وَشُهُودٌ، فَإِنْ طَلَبُوا أُجْرَةَ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُمْ إِلَّا نَفَقَتُهُمْ، وَكَذَا دَوَابُّهُمْ بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَبُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ

عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ، حَيْثُ لَا يُكَلَّفُونَ الْخُرُوجَ، وَالْقَنَاعَةَ بِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِشْهَادِ غَيْرِهِمْ، وَإِذَا أَلْزَمَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ الْخَصْمَ بِالْحَقِّ، فَطَلَبَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِقَبْضِهِ، فَهَلْ عَلَى الْقَاضِي إِجَابَتُهُ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: نَعَمْ، لِئَلَّا يُطَالَبَ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إِنَّمَا يُطَالَبُ بِإِلْزَامِ مَا حَكَمَ بِهِ، وَثَبَتَ عِنْدَهُ، وَيَكْفِي لِلِاحْتِيَاطِ إِشْهَادُ الْمُدَّعِي عَلَى قَبْضِهِ الْحَقَّ. وَلَوْ طَالَبَهُ بِتَسْلِيمِ الْكِتَابِ الَّذِي ثَبَتَ الْحَقُّ بِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ، وَكَذَا مِنْ لَهُ كِتَابٌ بِدَيْنٍ، وَاسْتَوْفَاهُ، أَوْ بِعَقَارٍ فَبَاعَهُ، لَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إِلَى الْمُسْتَوْفَى مِنْهُ، وَإِلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ اسْتِحْقَاقٌ فَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب القسمة

كِتَابُ الْقِسْمَةِ قَدْ يَتَوَلَّاهَا الشُّرَكَاءُ بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ مَنْصُوبٌ لِلْقَاضِي أَوْ لَهُمْ، وَيُشْتَرَطُ فِي مَنْصُوبِ الْقَاضِي الْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ، وَالتَّكْلِيفُ وَالذُّكُورَةُ، وَالْعِلْمُ بِالْمِسَاحَةِ وَالْحِسَابِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ لِلتَّقْوِيمِ؟ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ فِي أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي مَنْصُوبِ الشُّرَكَاءِ الْعَدَالَةُ وَالْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ لَهُمْ، كَذَا أَطْلَقُوهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي تَوْكِيلِ الْعَبْدِ فِي الْقِسْمَةِ الْخِلَافُ فِي تَوْكِيلِهِ فِي الْبَيْعِ. وَلَوْ حَكَّمَ الشُّرَكَاءُ رَجُلًا لِيَقْسِمَ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي التَّحْكِيمِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَهُوَ كَمَنْصُوبِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ فِي سَهْمِ الْمَصَالِحِ مَالٌ يَتَفَرَّعُ لِمُؤْنَةِ الْقَاسِمِينَ، لَزِمَ الْإِمَامُ أَنْ يَنْصُبَ فِي كُلِّ بَلَدٍ قَاسِمًا، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلِ الْكِفَايَةُ بِوَاحِدٍ، زَادَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَإِلَّا فَلَا يُعَيِّنُ قَاسِمًا لِئَلَّا يُغَالِيَ فِي الْأُجْرَةِ، وَلِئَلَّا يُوَاطِئَهُ بَعْضُهُمْ، فَيَحِيفَ، بَلْ يَدَعُ النَّاسَ لِيَسْتَأْجِرُوا مَنْ شَاءُوا، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي الْقِسْمَةِ تَقْوِيمٌ، كَفَى قَاسِمٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ قَوْلَانِ ثَانِيهُمَا يُشْتَرَطُ اثْنَانِ، وَإِنْ كَانَ تَقْوِيمٌ، اشْتُرِطَ اثْنَانِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْصُبَ قَاسِمًا، لِجَعْلِهِ حَاكِمًا فِي التَّقْوِيمِ، وَيَعْتَمِدُ فِي التَّقْوِيمِ عَدْلَيْنِ، وَهَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِمَعْرِفَتِهِ فِي التَّقْوِيمِ؟ قَوْلَانِ، كَقَضَائِهِ بِعِلْمِهِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ تَخْمِينٌ مُجَرَّدٌ، وَلَوْ فَوَّضَ الشُّرَكَاءُ الْقِسْمَةَ إِلَى وَاحِدٍ بِالتَّرَاضِي، جَازَ قَطْعًا.

فَرْعٌ الْقَاسِمُ الْمَنْصُوبُ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ يَدُرُّ رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَدُرَّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَإِذَا لَمْ يَكْفِ مُؤْنَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَأُجْرَتُهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ، سَوَاءٌ طَلَبَ جَمِيعُهُمُ الْقِسْمَةَ أَمْ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ: عَلَى الطَّالِبِ وَحْدَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ إِنِ اسْتَأْجَرَ الشُّرَكَاءُ قَاسِمًا، وَسَمَّوْا لَهُ أُجْرَةً، وَأَطْلَقُوا، فَتِلْكَ الْأُجْرَةُ تُوَزَّعُ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ قَوْلَانِ ثَانِيهِمَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَيَجْرِي الطَّرِيقَانِ فِيمَا لَوِ اسْتَأْجَرُوهُ اسْتِئْجَارًا فَاسِدًا، فَقَسَمَ، أَنَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ كَيْفَ تُوَزَّعُ؟ وَفِيمَا لَوْ أَمَّرُوا قَاسِمًا فَقَسَمَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أُجْرَةً، وَقُلْنَا: تَجِبُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَفِيمَا لَوْ أَمَّرَ الْقَاضِي قَاسِمًا فَقَسَمَ قَسْمَ إِجْبَارٍ. وَلَوِ اسْتَأْجَرُوا قَاسِمًا، وَسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ أُجْرَةً الْتَزَمَهَا، فَلَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا الْتَزَمَ، هَذَا إِذَا اسْتَأْجَرُوا جَمِيعًا بِأَنْ قَالُوا: اسْتَأْجَرْنَاكَ لِتَقْسِمَ بَيْنَنَا كَذَا بِدِينَارٍ عَلَى فُلَانٍ، وَدِينَارَيْنِ عَلَى فُلَانٍ مَثَلًا أَوْ وَكَّلُوا وَكِيلًا عَقَدَ لَهُمْ كَذَلِكَ، فَلَوِ اسْتَأْجَرُوا فِي عُقُودٍ مُتَرَتِّبَةٍ، فَعَقْدٌ وَاحِدٌ لِإِفْرَازِ نَصِيبِهِ، ثُمَّ الثَّانِي كَذَلِكَ، ثُمَّ الثَّالِثُ، فَقَدْ جَوَّزَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ، وَقَالَ: هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِقْلَالُ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ بِاسْتِئْجَارِ الْقَاسِمِ لِإِفْرَازِ نَصِيبِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ إِفْرَازَ نَصِيبِهِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِينَ تَرَدُّدًا وَتَقْرِيرًا وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِرِضَاهُمْ، لَكِنْ يَجُوزُ انْفِرَادُ أَحَدِهِمْ بِرِضَى الْبَاقِينَ فَيَكُونُ أَصْلًا وَوَكِيلًا وَلَا حَاجَةَ إِلَى عَقْدِ الْبَاقِينَ، وَحِينَئِذٍ إِنْ فَصَلَ مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِالتَّرَاضِي، فَذَاكَ، وَإِنْ أَطْلَقَ، عَادَ الْخِلَافُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّوْزِيعِ.

فصل

فَرْعٌ إِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ طِفْلًا، نُظِرَ إِنْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ غِبْطَةٌ لَهُ، فَعَلَى الْوَلِيِّ طَلَبُ الْقِسْمَةِ، وَبَدَلُ حِصَّتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ مِنْ مَالِ الطِّفْلِ وَإِلَّا فَلَا يَطْلُبُهَا، وَإِنْ طَلَبَهَا الشَّرِيكُ الْآخَرُ وَأُجِيبَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْأُجْرَةُ عَلَى الطَّالِبِ خَاصَّةً، فَذَاكَ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَى الْجَمِيعِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى الطَّالِبِ لِئَلَّا يَجْحَفَ بِالصَّبِيِّ بِلَا غِبْطَةٍ، وَأَصَحُّهُمَا تُؤْخَذُ حِصَّةُ الصَّبِيِّ مِنْ مَالِهِ. فَصْلٌ لِلْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ حَالَانِ: الْأُولَى أَنْ يَعْظُمَ ضَرَرُ قِسْمَتِهَا، فَإِنْ طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ، لَمْ يُجْبَرْ، وَفِي ضَبْطِ الضَّرَرِ الْمَانِعِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ سَبَقَتْ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ، فَلَا يُكْسَرُ جَوْهَرٌ نَفِيسٌ، وَلَا يُقْطَعُ ثَوْبٌ رَفِيعٌ، وَلَا يُقْسَمُ زَوْجَا خُفٍّ، وَمِصْرَاعَا بَابٍ إِنْ طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا، فَلَوْ تَرَاضَوْا بِقِسْمَةِ ذَلِكَ، وَطَلَبُوهَا مِنَ الْقَاضِي، فَإِنْ بَطَلَتِ الْمَنْفَعَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، لَمْ يُجِبْهُمْ، وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوا بِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ، وَإِنْ نَقَصَتْ كَسَيْفٍ يُكْسَرُ، لَمْ يُجِبْهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ، لَكِنْ لَا يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يُبْطِلُ الْقِسْمَةَ مَنْفَعَتُهُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ، كَطَاحُونَةٍ وَحَمَّامٍ صَغِيرَيْنِ إِذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا لَا يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى أَصَحِّ الْأَوْجُهِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا. فَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ، وَأَمْكَنَ جَعْلُ الطَّاحُونَةِ طَاحُونَتَيْنِ، وَالْحَمَّامِ حَمَّامَيْنِ، أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ، فَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْدَاثِ بِئْرٍ أَوْ مُسْتَوْقَدٍ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا إِجْبَارَ، لِتَعَطُّلِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى الْإِحْدَاثِ، وَأَصَحُّهُمَا: يُجْبَرُ لِيُسْرِ التَّدَارُكِ. وَإِنْ تَضَرَّرَ أَحَدُهُمَا بِالْقِسْمَةِ دُونَ الْآخَرِ كَدَارٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، لِأَحَدِهِمَا عُشْرُهَا، وَلِلْآخَرِ بَاقِيهَا، وَلَوْ قُسِّمَتْ، لَمْ يَصْلُحِ الْعُشْرُ لِلسَّكَنِ، وَيَصْلُحِ الْبَاقِي، فَإِنْ

طَلَبَ الْقِسْمَةَ صَاحِبُ الْعُشْرِ، لَمْ يُجْبَرِ الْآخَرُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ طَلَبَهَا الْآخَرُ، أُجْبِرَ صَاحِبُ الْعُشْرِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعُشْرِ مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَبِهِ، وَالْآخَرُ مَعْذُورٌ. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الدَّارِ لِوَاحِدٍ، وَنِصْفُهَا لِخَمْسَةٍ، فَطَلَبَ صَاحِبُ النِّصْفِ إِفْرَازَ نَصِيبِهِ، أُجِيبَ إِلَيْهِ، وَالْبَاقُونَ إِنِ اخْتَارُوا الْقِسْمَةَ، قَسَمَ، وَإِنْ كَانَ الْعُشْرُ لَا يَصْلُحُ لِلسَّكَنِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ فَائِدَةً لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ، وَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الشُّيُوعِ، جَازَ فَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمُ الْقِسْمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يُجْبَرِ الْبَاقُونَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ تَضُرُّ الْجَمِيعَ، وَلَوْ طَلَبَ الْخَمْسَةُ أَوَّلًا إِفْرَازَ النِّصْفِ، لِيَكُونَ بَيْنَهُمْ شَائِعًا، أُجِيبُوا إِلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ بَيْنَ عَشَرَةٍ، فَطَلَبَ خَمْسَةٌ الْقِسْمَةَ، لِيَكُونَ النِّصْفُ بَيْنَهُمْ يُجَابُونَ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَعْظُمَ ضَرَرُ الْقِسْمَةِ، فَقَدْ لَا يَنْقَسِمُ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ مَنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ، وَقَدْ يَنْقَسِمُ بِلَا رَدٍّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ، وَتُسَمَّى قِسْمَةَ الْمُتَشَابِهَاتِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَتُسَمَّى قِسْمَةَ التَّعْدِيلِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. الْأَوَّلُ: قِسْمَةُ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَإِنَّمَا تَجْرِي فِي الْحُبُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالْأَدْهَانِ وَسَائِرِ الْمِثْلِيَّاتِ، وَفِي الدَّارِ الْمُتَّفِقَةِ الْأَبْنِيَةِ، وَالْأَرْضِ الْمُتَشَابِهَةِ الْأَجْزَاءَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، فَتُعْدَلُ الْأَنْصِبَاءُ فِي الْمَكِيلِ بِالْكَيْلِ، وَالْمَوْزُونِ بِالْوَزْنِ، وَالْأَرْضُ الْمُتَسَاوِيَةُ تُجَزَّأُ أَجْزَاءً مُتَسَاوِيَةً بِعَدَدِ الْأَنْصِبَاءِ إِنْ تَسَاوَتْ، بِأَنْ كَانَتْ لِثَلَاثَةٍ أَثْلَاثًا، فَتُجْعَلُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ مُتَسَاوِيَةٍ، ثُمَّ تُؤْخَذُ ثَلَاثُ رِقَاعٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَيُكْتَبُ عَلَى كُلِّ رُقْعَةٍ اسْمُ شَرِيكٍ أَوْ جُزْءٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَيُمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِحَدٍّ أَوْ جِهَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَتُدْرَجُ فِي بَنَادِقَ مُتَسَاوِيَةٍ وَزْنًا وَشَكْلًا مَنْ طِينٍ مُجَفَّفٍ أَوْ شَمْعٍ، وَتُجْعَلُ فِي حَجْرِ مِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْكِتَابَةَ وَالْإِدْرَاجَ، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا كَانَ أَوْلَى، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ رُقْعَةٍ عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ إِنْ كُتِبَ

فِي الرِّقَاعِ أَسْمَاءُ الشُّرَكَاءِ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ، أَخَذَهُ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ أُخْرَى عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي يَلِي الْأَوَّلَ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ أَخَذَهُ، وَيُعَيَّنُ الْبَاقِي لِلثَّالِثِ. وَإِنْ كُتِبَ فِي الرِّقَاعِ أَسْمَاءُ الْأَجْزَاءِ أُخْرِجَتْ رُقْعَةٌ بَاسِمِ زَيْدٍ، ثُمَّ أُخْرَى بَاسِمِ عَمْرٍو، وَيُتَعَيَّنُ الثَّالِثُ لِلثَّالِثِ، وَيُعَيَّنُ مَنْ يُبْتَدِئُ بِهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَالْإِجْزَاءِ مَنُوطٌ بِنَظَرِ الْقَاسِمِ، فَيَقِفُ أَوَّلًا عَلَى أَيِّ طَرَفٍ شَاءَ وَيُسَمِّي أَيَّ شَرِيكٍ شَاءَ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَنْصِبَاءُ مُخْتَلِفَةً، بِأَنْ كَانَ لِزَيْدٍ نِصْفٌ، وَلِعَمْرٍو ثُلُثٌ، وَلِلثَّالِثِ سُدُسٌ، جَزَّأَ الْأَرْضَ عَلَى أَقَلِّ السِّهَامِ وَهُوَ السُّدُسُ، فَيَجْعَلُهَا سِتَّةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُثْبِتَ اسْمَ الشُّرَكَاءِ فِي رِقَاعٍ، وَتَخْرُجُ الرِّقَاعُ عَلَى الْأَجْزَاءِ، وَقَالَ فِي الْعِتْقِ: يُكْتَبُ عَلَى رُقْعَتَيْنِ: رِقٌّ، وَعَلَى رُقْعَتَيْنِ: حُرِّيَّةٌ، وَتَخْرُجُ عَلَى أَسْمَاءِ الْعَبِيدِ، وَلَمْ يَقُلْ تُكْتَبُ أَسْمَاءُ الْعَبِيدِ، وَفِيهِمَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: فِيهِمَا قَوْلَانِ، فَفِي قَوْلٍ يُثْبِتُ اسْمَ الشُّرَكَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَفِي قَوْلٍ يُثْبِتُ الْأَجْزَاءَ هُنَا، وَالرِّقَّ وَالْحُرِّيَّةَ هُنَاكَ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: الْفَرْقُ، فَفِي الْعِتْقِ يَسْلُكُ مَا شَاءَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَهُنَا لَا يُثْبِتُ الْأَجْزَاءَ عَلَى الرِّقَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَثْبَتَهَا وَأَخْرَجَ الرِّقَاعَ عَلَى الْأَسْمَاءِ رُبَّمَا خَرَجَ لِصَاحِبِ السُّدُسِ الْجُزْءُ الثَّانِي أَوِ الْخَامِسُ، فَيُفَرَّقُ مِلْكُ مَنْ لَهُ النِّصْفُ أَوِ الثُّلُثُ، وَأَيْضًا قَالَ فِي «الْمُهَذَّبِ» : لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ رُبَّمَا خَرَجَ السَّهْمُ الرَّابِعُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ، فَيَقُولُ: آخُذُهُ وَسَهْمَيْنِ قَبْلَهُ، وَيَقُولُ الْآخَرَانِ: بَلْ خُذْهُ وَسَهْمَيْنِ بَعْدَهُ، فَيُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ، ثُمَّ هَلْ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْجَوَازِ أَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ؟ وَجْهَانِ، أَرْجَحُهُمَا: الثَّانِي وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، وَسَنُوَضِّحُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ تَفْرِيقِ الْمِلْكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي «الْمُهَذَّبِ» فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا نُبَالِي بِقَوْلِ الشُّرَكَاءِ بَلْ يُتَّبَعُ نَظَرُ الْقَاسِمِ كَمَا فِي الْجُزْءِ الْمَبْدُوءِ بِهِ، وَاسْمُ الشَّرِيكِ الْمَبْدُوءُ بِهِ، فَإِنْ أَثْبَتَ أَسْمَاءَ الشُّرَكَاءِ فَقِيلَ: يُثْبِتُ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ

رِقَاعٍ، وَيَأْمُرُ بِإِخْرَاجِ رُقْعَةٍ عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِ السُّدُسِ أَخَذَهُ، وَأُخْرِجَتْ رُقْعَةٌ عَلَى الْجُزْءِ الثَّانِي، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ عَمْرٍو، أَخَذَهُ مَعَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ، تَعَيَّنَتِ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ لِزَيْدٍ، وَإِنْ خَرَجَ اسْمُ زَيْدٍ، أَخَذَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَالرَّابِعَ، وَتَعَيَّنَ الْآخَرَانِ لِعَمْرٍو، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ زَيْدٍ أَوَّلًا، أَخَذَ الثَّلَاثَةَ الْأُولَى، ثُمَّ يُخْرِجُ رُقْعَةً، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ عَمْرٍو، أَخَذَ الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ، وَيُعَيَّنُ السَّادِسُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ. وَإِنْ خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِ السُّدُسِ، أَخَذَ الرَّابِعَ، وَتَعَيَّنَ الْبَاقِيَانِ لِعَمْرٍو، وَإِنْ خَرَجَ اسْمُ عَمْرٍو أَوَّلًا، لَمْ يَخْفَ الْحُكْمُ. وَقِيلَ: تُثْبَتُ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سِتِّ رِقَاعٍ، اسْمُ زَيْدٍ فِي ثَلَاثٍ، وَعَمْرٍو فِي ثِنْتَيْنِ، وَالثَّالِثُ فِي رُقْعَةٍ، وَيُخْرَجُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَيْسَ فِي هَذَا إِلَّا أَنَّ اسْمَ زَيْدٍ يَكُونُ أَسْرَعَ خُرُوجًا لَكِنْ سُرْعَةُ الْخُرُوجِ لَا تُوجِبُ حَيْفًا؛ لِأَنَّ السِّهَامَ مُتَسَاوِيَةٌ، فَالْوَجْهُ تَجْوِيزُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ. وَإِنْ أَثْبَتَ الْأَجْزَاءَ فِي الرِّقَاعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهَا فِي سِتِّ رِقَاعٍ، وَحِينَئِذٍ فَالتَّفْرِيقُ الْمَحْذُورُ لَوْ لَزِمَ إِنَّمَا يُلْزَمُ إِذَا خَرَجَ أَوَّلًا اسْمُ صَاحِبِ السُّدُسِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، بِأَنْ يَبْدَأَ بِاسْمِ صَاحِبِ النِّصْفِ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَوَّلُ بِاسْمِهِ، فَلَهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَإِنْ خَرَجَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ، فَيُعْطَى مَعَهُ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَإِنْ خَرَجَ الثَّالِثُ، فَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ فِيهِ، وَيَخْرُجُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَوَّلُ أَوِ الثَّانِي، فَلَهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ. وَإِنْ خَرَجَ الْخَامِسُ، فَلَهُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ، ثُمَّ أُهْمِلَ بَاقِي الِاحْتِمَالَاتِ، وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا خَرَجَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ الثَّالِثُ، فَهُوَ لَهُ مَعَ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ، وَإِنْ خَرَجَ الرَّابِعُ، فَهُوَ لَهُ مَعَ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ، وَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ، وَإِنْ خَرَجَ الْخَامِسُ، فَهُوَ لَهُ مَعَ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ، وَيَتَعَيَّنُ السَّادِسُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ،

وَإِنْ خَرَجَ السَّادِسُ، فَهُوَ لَهُ مَعَ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ. وَإِذَا أَخَذَ زَيْدٌ حَقَّهُ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّ الْآخَرِينَ، أَخْرَجَ رُقْعَةً أُخْرَى بِاسْمِ أَحَدِهِمَا، فَلَا يَقَعُ تَفْرِيقٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُبْدَأَ (بِصَاحِبِ السُّدُسِ، فَإِنْ خَرَجَ بِاسْمِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ دَفَعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِاسْمِ أَحَدِ الْجُزْئَيْنِ، فَلَا يَقَعُ تَفْرِيقٌ. وَإِنْ خَرَجَ لَهُ الثَّالِثُ دَفَعَ إِلَيْهِ وَيُعَيَّنُ) الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَالثَّلَاثَةُ الْآخِرَةُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ. وَإِنْ خَرَجَ لَهُ الرَّابِعُ، دُفِعَ إِلَيْهِ، وَتَعَيَّنَ الْأَخِيرَانِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَالثَّلَاثَةُ الْأُولَى لِصَاحِبِ النِّصْفِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُبْدَأَ بِصَاحِبِ الثُّلُثِ، فَإِنْ خَرَجَ لَهُ الْأَوَّلُ أَوِ الثَّانِي، دُفِعَا إِلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ لَهُ الْخَامِسُ أَوِ السَّادِسُ دُفِعَا إِلَيْهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِاسْمِ أَحَدِ الْآخَرِينَ، وَإِنْ خَرَجَ الثَّالِثُ، فَلَهُ الثَّالِثُ وَالثَّانِي، وَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ، وَالثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ، وَإِنْ خَرَجَ الرَّابِعُ، فَلَهُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ، وَتَعَيَّنَ السَّادِسُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ، وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ. فَرْعٌ كَيْفِيَّةُ إِدْرَاجِ الرِّقَاعِ وَإِخْرَاجِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ لَا يَخْتَصُّ بِقِسْمَةِ الْمُتَشَابِهَاتِ، بَلْ هِيَ فِي قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ إِذَا عُدِّلَتِ الْأَجْزَاءُ بِالْقِيمَةِ كَذَلِكَ. فَرْعٌ كَمَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ بِالرِّقَاعِ الْمُدْرَجَةِ فِي الْبَنَادِقِ تَجُوزُ بِالْأَقْلَامِ وَالْعِصِيِّ وَالْحَصَى وَنَحْوِهَا.

فصل

فَرْعٌ إِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مِنْ نَوْعِ الْقِسْمَةِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ قِسْمَةُ الْمُتَشَابِهَاتِ، أُجْبِرَ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأَنْصِبَاءُ مُتَسَاوِيَةً، أَمْ مُتَفَاوِتَةً، وَفِي الْمُتَفَاوِتَةِ وَجْهٌ لِابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَصْلٌ إِذَا قَسَمَ قَاسِمُ الْقَاضِي بِالْإِجْبَارِ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ غَلَطًا أَوْ حَيْفًا، نُظِرَ إِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَزْعُمُ بِهِ الْحَيْفَ أَوِ الْغَلَطَ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ بَيَّنَهُ، لَمْ يُمْكِنْ تَحْلِيفُ الْقَاسِمِ، كَمَا لَا يَحْلِفُ (الْقَاضِي) أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْ، وَالشَّاهِدُ أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، لَكِنْ إِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ، سُمِعَتْ وَنُقِضَتِ الْقِسْمَةُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: وَطَرِيقُهُ أَنْ يَحْضُرَ قَاسِمَيْنِ حَاذِقَيْنِ لِيَنْظُرَا، وَيَمْسَحَا، وَيَعْرِفَا الْحَالَ، وَيَشْهَدَا. وَأَلْحَقَ أَبُو الْفَرَجِ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ مَا إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَلْفَ ذِرَاعٍ. وَمَسَحْنَا مَا أَخَذَهُ، فَإِذَا هُوَ سَبْعُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَلَوْ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ، وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الشَّرِيكِ، مُكِّنَ مِنْهُ، فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي، نُقِضَتِ الْقِسْمَةُ، وَلَوْ حَلَفَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ، وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي لِنُكُولِ بَعْضِهِمْ، قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّ النَّاكِلِينَ دُونَ الْحَالِفِينَ وَلَا يُطَالَبُ الشَّرِيكُ بِإِقَامَةِ بَيِّنَةِ أَنَّ الْقِسْمَةَ الْجَارِيَةَ عَادِلَةٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الصَّوَابُ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا أَنَّ (عَلَى) الشَّرِيكِ الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا عَادِلَةٌ، وَلَا بَيِّنَةَ عَلَى مُدَّعِي الْغَلَطِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ قَالَ مُدَّعِي الْغَلَطِ: إِنَّ الْقَاسِمَ الَّذِي قَسَمَ لَا يُحْسِنُ الْقِسْمَةَ وَالْمِسَاحَةَ وَالْحِسَابَ، فَالْأَصْلُ

فصل

مَا يَقُولُهُ: وَعَلَى صَاحِبِهِ الْبَيِّنَةُ. وَإِنْ قَالَ: سَهَا، فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَوِ اعْتَرَفَ الْقَاسِمُ بِالْغَلَطِ أَوِ الْحَيْفِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الشُّرَكَاءُ، انْتَقَضَتِ الْقِسْمَةُ، وَإِلَّا فَلَا تُنْتَقَضُ وَعَلَيْهِ رَدُّ الْأُجْرَةِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَاضِي: غَلِطْتُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ تَعَمَّدْتُ الْحَيْفَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَحْكُومُ لَهُ، اسْتَرَدَّ الْمَالَ، وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَى الْقَاضِي الْغُرْمُ. أَمَّا إِذَا جَرَتِ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي بِأَنْ نَصَبَا قَاسِمًا، أَوِ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا غَلَطًا، فَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرِ الرِّضَى بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوِ ادَّعَى الْغَلَطَ فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُ وَتَرَاضَيَا بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ إِفْرَازٌ، فَالْإِفْرَازُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ التَّفَاوُتِ، فَتُنْقَضُ الْقِسْمَةُ إِنْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَيَحْلِفُ الْخَصْمُ إِنْ لَمْ تَقُمْ، وَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ، فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْجَوَابُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمَا تَرَاضَيَا لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّهَا قِسْمَةُ عَدْلٍ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَا أَجْرَ لِلْغَلَطِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ، كَمَا لَا أَثَرَ لِلْغَبْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ. كَأَنَّهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى الْجَوَابِ الْأَصَحِّ. فَصْلٌ إِذَا قُسِّمَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ ظَهَرَ دَيْنٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ إِفْرَازٌ، فَهِيَ صَحِيحَةٌ، ثُمَّ تُبَاعُ الْأَنْصِبَاءُ فِي الدَّيْنِ إِنْ لَمْ يُوَفُّوهُ، وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، فَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ وَجْهَانِ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْوَارِثِ التَّرِكَةَ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَأَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ وَلَا دَيْنَ فِي الظَّاهِرِ، ثُمَّ ظَهَرَ. فَالْأَصَحُّ صِحَّةُ التَّصَرُّفِ فَفِي الْقِسْمَةِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ، فَالْقِسْمَةُ الْجَارِيَةُ صَحِيحَةٌ، فَإِنْ وَفَّوُا الدَّيْنَ، اسْتَمَرَّتْ صِحَّتُهَا، وَإِلَّا

نُقِضَتْ وَبِيعَتِ التَّرِكَةُ فِي الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْهُ، فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ، وَلَوْ جَرَتْ قِسْمَةٌ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَقْسُومِ، نُظِرَ إِنِ اسْتُحِقَّ جُزْءٌ شَائِعٌ كَالثُّلُثِ، فَبَطَلَتِ الْقِسْمَةُ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَفِي الْبَاقِي طَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا:. يَبْطُلُ فِيهِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَبْطُلُ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْقِسْمَةِ تَمْيِيزُ الْحُقُوقِ، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ يَصِيرُ الْمُسْتَحِقُّ شَرِيكَ كُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ كَانَ شَرِيكًا، وَانْفِرَادُ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ بِالْقِسْمَةِ مُمْتَنِعٌ، وَإِنِ اسْتُحِقَّ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، نُظِرَ إِنِ اخْتُصَّ الْمُسْتَحَقُّ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا، أَوْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ، بَطَلَتِ الْقِسْمَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقَّانِ مَنْ نَصِيبِهِمَا، سَوَاءٌ بَقِيَتِ الْقِسْمَةُ فِي الْبَاقِي عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ. وَلَوْ ظَهَرَتْ وَصِيَّةٌ بَعْدَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُرْسَلَةً، فَهُوَ كَظُهُورِ دَيْنٍ عَلَى التَّرِكَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بِجُزْءٍ شَائِعٍ أَوْ مُعَيَّنٍ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ ظُهُورِ الدَّيْنِ وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَدَعْوَى الْغَلَطِ لَا تَخْتَصُّ بِقِسْمَةِ الْمُتَشَابِهَاتِ، بَلْ تَعُمُّ أَنْوَاعَ الْقِسْمَةِ. النَّوْعُ الثَّانِي: قِسْمَةُ التَّعْدِيلِ وَالْمُشْتَرَكِ الَّذِي تُعَدَّلُ سِهَامُهُ بِالْقِيمَةِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُعَدُّ شَيْئًا وَاحِدًا، وَإِلَى مَا يُعَدُّ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، أَمَّا الْأَوَّلُ، فَكَالْأَرْضِ تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهَا لِاخْتِلَافِهَا فِي قُوَّةِ الْإِنْبَاتِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْمَاءِ، وَفِي أَنَّ بَعْضَهَا يُسْقَى بِالنَّهْرِ، وَبَعْضَهَا بِالنَّاضِحِ فَيَكُونُ ثُلُثُهَا لِجَوْدَتِهَا كَثُلُثَيْهَا بِالْقِيمَةِ مَثَلًا، فَيُجْعَلُ هَذَا سَهْمًا، وَهَذَا سَهْمًا إِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَنْصِبَاءُ، كَنِصْفٍ وَثُلُثٍ وَسُدُسٍ، جُعِلَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، وَإِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا هَذِهِ الْقِسْمَةَ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: نَعَمْ، إِلْحَاقًا لِلتَّسَاوِي فِي الْقِيمَةِ، بِالتَّسَاوِي فِي الْأَجْزَاءِ (عَلَى هَذَا) هَلْ

تُوَزَّعُ أُجْرَةُ الْقَاسِمِ بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ أَمْ بِحَسَبِ الْمَأْخُوذِ مِنْهَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْكَثِيرِ أَكْثَرُ، وَكَمَا يَجْرِي الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا اخْتَلَفَتِ الصِّفَاتُ تَجْرِي فِيمَا إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، كَالْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ بَعْضُهُ نُخْلٌ، وَبَعْضُهُ عِنَبٌ، وَالدَّارُ الْمَبْنِيُّ بَعْضُهَا بِالْآجُرِّ، وَبَعْضُهَا بِالْخَشَبِ وَالطِّينِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ قِسْمَةُ الْجَيِّدِ وَحْدَهُ، وَقِسْمَةُ الرَّدِيءِ وَحْدَهُ، فَإِنْ أَمْكَنَ لَمْ يُجْبَرْ كَمَا لَوْ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي أَرْضَيْنِ تُمْكِنُ قِسْمَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِالْأَجْزَاءِ، لَا يَجْرِي الْإِجْبَارُ عَلَى التَّعْدِيلِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُعَدُّ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا وَهُوَ ضَرْبَانِ عَقَارٌ وَغَيْرُهُ، أَمَّا الْعَقَارُ، فَإِذَا اشْتَرَكَا فِي دَارَيْنِ أَوْ حَانُوتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيِ الْقِيمَةِ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ بِأَنْ يُجْعَلَ لِهَذَا دَارٌ وَلِهَذَا دَارٌ، أَوْ حَانُوتٌ وَحَانُوتٌ، لَمْ يُجْبَرِ الْمُمْتَنِعُ، سَوَاءٌ تَجَاوَرَ الْحَانُوتَانِ وَالدَّارَانِ، أَمْ تَبَاعَدَا، لِشِدَّةِ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ بِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ وَالْأَبْنِيَةِ. وَلَوِ اشْتَرَكَا فِي دَكَاكِينَ صِغَارٍ مُتَلَاصِقَةٍ لَا تَحْتَمِلُ آحَادُهَا الْقِسْمَةَ، وَيُقَالُ لَهَا: الْعَضَايِدُ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَسَّمَ أَعْيَانًا، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا كَالْمُتَفَرِّقَةِ وَكَالدُّوْرِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ لِلْحَاجَةِ، وَكَالْخَانِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى بُيُوتٍ وَمَسَاكِنَ، هَكَذَا صَوَّرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَصَوَّرَهَا صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» فِيمَا إِذَا احْتَمَلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْقِسْمَةَ وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهَا أَعْيَانًا وَالْآخَرُ قِسْمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَأَمَّا الْأَقْرِحَةُ، فَإِنْ كَانَتْ

مُتَفَرِّقَةً، فَهِيَ كَالدُّورِ. وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَاوِرَةً، فَفِي «الشَّامِلِ» أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ جَعَلَهَا كَالْقِرَاحِ الْوَاحِدِ الْمُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ قَالَ: إِنَّمَا يَكُونُ كَالْقِرَاحِ الْوَاحِدِ إِذَا اتَّحَدَ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ، فَإِنْ تَعَدَّدَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَفَرَّقَتْ، قَالَ: وَهَذَا أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الضَّرْبُ الثَّانِي غَيْرُ الْعَقَارِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي عَبِيدٍ أَوْ دَوَابَّ، أَوْ أَشْجَارٍ، أَوْ ثِيَابٍ وَنَحْوِهَا، فَلَهَا حَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ عَدَدًا وَقِيمَةً، كَعَبْدَيْنِ مُتَسَاوِيَيِ الْقِيمَةِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، وَكَثَلَاثِ دَوَابَّ، أَوْ أَثْوَابٍ مُتَسَاوِيَةِ الْقِيمَةِ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَتِهَا أَعْيَانًا، لِقِلَّةِ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ فِيهَا بِخِلَافِ الدُّورِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هِيَ كَالدُّورِ، وَقِيلَ: يُخَيَّرُ فِي الْعَبِيدِ وَفِي غَيْرِهَا الْخِلَافُ. وَإِنْ لَمْ تُمْكِنِ التَّسْوِيَةُ فِي الْعَدَدِ كَثَلَاثَةِ أَعْبُدٍ لِرَجُلَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمْ يُسَاوِي الْآخَرِينَ فِي الْقِيمَةِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْإِجْبَارِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْقِيمَةِ، فَهُنَا قَوْلَانِ، وَهُمَا كَالْقَوْلَيْنِ فِي الْأَرْضِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ لَا تُرْفَعَ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الْأَعْيَانِ، كَعَبْدَيْنِ بَيْنَ اثْنَيْنِ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةٌ، وَقِيمَةُ الْآخَرِ مِائَتَانِ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ لِيَخْتَصَّ مَنْ خَرَجَتْ (لَهُ) قُرْعَةُ الْخَسِيسِ بِالْخَسِيسِ، وَيَكُونُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ رُبُعُ النَّفِيسِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا إِجْبَارَ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ، الْأَصَحُّ لَا إِجْبَارَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَرْتَفِعُ بِالْكُلِّيَّةِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَعْيَانُ أَجْنَاسًا، كَعَبْدٍ وَثَوْبٍ، وَحِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ، وَدَابَّةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ أَنْوَاعًا كَعَبْدَيْنِ تُرْكِيٍّ وَهِنْدِيٍّ، وَثَوْبَيْنِ

إِبْرِيسَمٍ وَكَتَّانٍ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقْسَمَ أَجْنَاسًا وَأَنْوَاعًا لَا يُجْبَرُ الْآخَرُ وَإِنَّمَا يُقْسَمُ كَذَلِكَ بِالتَّرَاضِي. وَلَوِ اخْتَلَطَتِ الْأَنْوَاعُ وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ كَتَمْرٍ جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ، فَلَا قِسْمَةَ إِلَّا بِالتَّرَاضِي هَذَا مَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَطَرَدَ السَّرَخْسِيُّ الْخِلَافَ فِي الْإِجْبَارِ عِنْدَ اخْتِلَافِ النَّوْعِ، وَزَادَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فَأَجْرَيَاهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا عَرْصَةٌ وَثُلُثُهَا بِالْمِسَاحَةِ نَصِفٌ بِالْقِيمَةِ، لِقُرْبِهِ مِنَ الْمَاءِ فَهِيَ قِسْمَةُ تَعْدِيلٍ، وَفِيهَا الْخِلَافُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يُجْبَرُ عَلَيْهَا قَطْعًا وَلَا يُبَالِي بِهَذَا التَّفَاوُتِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنِ الْأَصْحَابِ. فَرْعٌ اللَّبِنَاتُ إِنْ تَسَاوَتْ قَوَالِبُهَا، فَقِسْمَتُهَا قِسْمَةُ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَيُجْبَرُ قَطْعًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قَوَالِبُهَا، فَقِسْمَةُ تَعْدِيلٍ، وَفِيهَا الْخِلَافُ. فَرْعٌ دَارٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، لَهَا عُلُوٌّ وَسُفْلٌ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهَا عُلُوًّا وَسُفْلًا، أَجْبَرَ الْآخَرَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَ الْعُلُوَّ لِوَاحِدٍ، وَالسُّفْلَ لِآخَرَ لَا يُجْبَرُ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْقِسْمَةُ سُفْلًا وَعُلُوًّا، جُعِلَ السُّفْلُ لِأَحَدِهِمَا وَالْعُلُوُّ لِلْآخَرِ مِنْ جُمْلَةِ قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ، وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقْسَمَ السُّفْلُ، وَيُتْرَكَ

فصل

الْعُلُوُّ مَشَاعًا، لَمْ يُجْبَرِ الْآخَرُ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَقْتَسِمَانِ الْعُلُوَّ بَعْدَهُ، فَيَقَعُ مَا فَوْقَ هَذَا لِذَاكَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: قِسْمَةُ الرَّدِّ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الْأَرْضِ بِئْرٌ أَوْ شَجَرٌ، أَوْ فِي الدَّارِ بَيْتٌ لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، فَيَضْبِطُ قِيمَةَ مَا اخْتُصَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ بِهِ، وَيَقْسِمُ الْأَرْضَ وَالدَّارَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ يَأْخُذُ ذَلِكَ الْجَانِبَ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ، وَهَذِهِ لَا إِجْبَارَ عَلَيْهَا قَطْعًا وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَبْدَانِ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةٌ، وَالْآخِرُ خَمْسُمِائَةٍ، وَاقْتَسَمَا عَلَى أَنْ يَرُدَّ آخِذُ النَّفِيسِ مِائَتَيْنِ لِيَسْتَوِيَا وَقِيلَ فِي الْإِجْبَارِ قَوْلٌ مُخْرِجٌ حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ وَهُوَ غَلَطٌ. وَلَوْ تَرَاضَيَا بِقَسْمِ الرَّدِّ، جَازَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا النَّفِيسَ وَيَرُدَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحَكِّمَا الْقُرْعَةَ لِيَرُدَّ مَنْ خَرَجَ لَهُ النَّفِيسُ. فَصْلٌ قِسْمَةُ الْمُتَشَابِهَاتِ هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَمْ إِفْرَازُ حَقٍّ؟ قَوْلَانِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ: الْأَظْهَرُ كَوْنُهَا بَيْعًا، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْأَظْهَرُ كَوْنُهَا إِفْرَازًا، قَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَهَذَا يُوَافِقُهُ جَوَابُ الْأَصْحَابِ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ تَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. قُلْتُ: أَشَارَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» إِلَى اخْتِيَارِ الْإِفْرَازِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى الْإِفْرَازِ هَذَا كَلَامُهُ، فَالْمُخْتَارُ تَرْجِيحُ الْإِفْرَازِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا جَرَتِ الْقِسْمَةُ إِجْبَارًا، فَإِنْ جَرَتْ

بِالتَّرَاضِي فَبِيعَ قَطْعًا. وَقِيلَ الْقَوْلَانِ فِي الْحَالَيْنِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالْأَصَحُّ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا بَيْعٌ لَا يُمْكِنُ إِطْلَاقُهُ فِي كُلِّ مَا حَصَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، بَلِ النِّصْفُ الَّذِي صَارَ فِي يَدِهِ، كَانَ نِصْفُهُ لَهُ، وَنِصْفُهُ لِصَاحِبِهِ، فَالْقِسْمَةُ إِفْرَازٌ فِيمَا كَانَ لِصَاحِبِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا قِسْمَةُ التَّعْدِيلِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا بِيعٌ، وَقِيلَ فِيهِ الْقَوْلَانِ، وَقِسْمَةُ الرَّدِّ بَيْعٌ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: بَيْعٌ فِيمَا يُقَابِلُ الْمَرْدُودَ، وَفِيمَا سِوَاهُ الْخِلَافُ فِي قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ، فَاقْتَسَمَا رِبَوِيًّا، وَجَبَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ تَجُزْ قِسْمَةُ الْمَكِيلِ وَزْنًا وَلَا الْعَكْسُ، وَلَا يَجُوزُ قِسْمَةُ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ، وَمَا أَثَّرَتْ فِيهِ النَّارُ بِتَعْقِيدِ الْأَجْزَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِفْرَازٌ جَازَ كُلُّ ذَلِكَ. وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الْجِصِّ وَالنُّورَةِ كَيْلًا وَوَزْنًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَلَا تُقْسَمُ الثِّمَارُ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ خَرْصًا إِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ، كَمَا لَا تُبَاعُ خَرْصًا، وَإِنْ قُلْنَا: إِفْرَازٌ، فَإِنْ كَانَتْ رُطَبًا وَعِنَبًا، جَازَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَمَا، فَلَا؛ لِأَنَّ الْخَرْصَ لَا يَدْخُلُ غَيْرَهُمَا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْضٌ مَزْرُوعَةٌ، فَأَرَادَا قِسْمَةَ الْأَرْضِ وَحْدَهَا، جَازَ، وَإِنْ طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا أُجْبِرَ الْآخَرُ، وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلٍ: الْقِسْمَةُ بَيْعُ وَجْهٍ مَذْكُورٍ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ أَرَادَا قِسْمَةَ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا لَمْ يَجُزْ إِنِ اشْتَدَّ الْحَبُّ. أَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهَا إِفْرَازًا، فَلِأَنَّهُ قِسْمَةُ مَجْهُولٍ وَمَعْلُومٍ، وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا فَلِأَنَّهُ بَيْعُ طَعَامٍ وَأَرْضٍ بِطَعَامٍ وَأَرْضٍ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَذْرًا بَعْدُ، وَإِنْ كَانَ قَصِيلًا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مَشَاهَدْ. وَإِنْ أَرَادَا قِسْمَةَ مَا فِيهَا وَحْدَهُ، فَكَذَا الْحُكْمُ إِنْ لَمْ يَنْبُتْ، أَوِ اشْتَدَّ الْحُبُّ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ

فصل

قَصِيلًا، جَازَ. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْأَرْضِ، وَمَا فِيهَا أَوْ قِسْمَةَ مَا فِيهَا وَحْدَهُ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ وَالْحَالُ حَالُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ بِالتَّرَاضِي، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَصَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» : لَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ، وَلَمْ يُوَجِّهُوهُ بِمُقْنِعٍ. فَرْعٌ اقْتَسَمَا، ثُمَّ تَقَابَلَا، إِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ، صَحَّتِ الْإِقَالَةُ، وَعَادَ الشُّيُوعُ، وَإِلَّا فَهِيَ لَاغِيَةٌ. فَرْعٌ قِسْمَةُ الْمِلْكِ عَنِ الْوَقْفِ إِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، لَا يَجُوزُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِفْرَازٌ، جَازَتْ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَدٌّ، أَوْ كَانَ رَدٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْوَقْفِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الْمِلْكِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِإِزَائِهِ جُزْءًا مِنَ الْوَقْفِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قِسْمَةُ الْوَقْفِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَغْيِيرَ شَرْطِ الْوَاقِفِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ الْإِفْرَازِ لِيَرْغَبُوا فِي الْعِمَارَةِ وَلَا يَتَوَاكَلُوا، وَهَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ وَحْدَهُ، وَخَصَّصَهُ بِقَوْلِنَا: الْمِلْكُ فِي الْمَوْقُوفِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، قَالَ: فَلَوِ انْقَرَضَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ، وَصَارَ الْوَقْتُ لِلْبَطْنِ الثَّانِي، انْتَقَضَتِ الْقِسْمَةُ. فَصْلٌ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا التَّرَاضِي عِنْدَ إِخْرَاجِ الْقُرْعَةِ وَلَا

فصل

بَعْدَهَا، وَإِذَا تَرَاضَيَا بِقَاسِمٍ يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا، فَهَلْ يُشْتَرَطُ الرِّضَى بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ أَمْ يَكْفِي الرِّضَى الْأَوَّلُ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الِاشْتِرَاطُ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْمُعْتَبِرُونَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ الْمَنْصُوصُ، وَفِي قِسْمَةِ الرَّدِّ يُشْتَرَطُ الرِّضَى بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَعَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ وَجْهٌ أَنَّهُ يَلْزَمُ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا اشْتَرَطْنَا «الرِّضَى» بَعْدَ خُرُوجِهَا، فَصِيغَتُهُ أَنْ يَقُولَا: رَضِينَا بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ، أَوْ بِمَا أَخْرَجَتِ الْقُرْعَةُ، أَوْ بِمَا جَرَى، وَلَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الْبَيْعِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ، وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا بَيْعٌ، اشْتُرِطَ لَفْظُ الْبَيْعِ أَوِ التَّمْلِيكِ، وَقِيلَ: لَا يَكْفِي قَوْلُهُمَا رَضِينَا بِهَذَا أَوْ بِمَا جَرَى، بَلْ يُشْتَرَطُ تَلَفُّظُهُمَا بِالْقِسْمَةِ بِأَنْ يَقُولَا: تَقَاسَمْنَا أَوْ رَضِينَا بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ لِيُؤَدِّيَ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَحَيْثُ وَجَبَ الرِّضَى، فَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الرِّضَى بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ. فَصْلٌ تُقْسَمُ الْمَنَافِعُ كَمَا تُقْسَمُ الْأَعْيَانُ، وَطَرِيقُ قِسْمَتِهَا الْمُهَايَأَةُ مُيَاوَمَةً أَوْ مُشَاهَرَةً أَوْ مُسَانَهَةً، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ، فَلَا إِجْبَارَ عَلَى الْمُهَايَأَةِ بِحَالٍ، وَكَذَا لَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَزْرَعَ هَذَا بَعْضَ الْأَرْضِ وَذَاكَ بَعْضَهَا، أَوْ يَسْكُنَ هَذَا بَعْضَ الدَّارِ وَذَاكَ بَعْضَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْسِمَ الْأَرْضَ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ فَلَا إِجْبَارَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْعَيْنُ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ، كَالْقَنَاةِ وَالْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ وَالْحَمَّامِ، فَإِنِ اتَّفَقَا فِيهَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ، فَذَاكَ، ثُمَّ قَدْ يَتَّفِقَانِ عَلَى مَنْ يَبْدَأُ، وَقِيلَ: يَتَنَازَعَانِ، فَيُقْرَعُ، وَإِنْ طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ، فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ، كَمَا فِي

قِسْمَةِ الْأَعْيَانِ، وَلِئَلَّا يُعَطِّلَ عَلَى شَرِيكِهِ مُضَارَّةً، فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ بِالْقُرْعَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُجْبَرُ. وَلَوْ رَضِيَا بِالْمُهَايَأَةِ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُبْتَدِئُ بِالِانْتِفَاعِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ نَوْبَتِهِ، مُكِّنَ، فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ، غَرِمَ نِصْفَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ نَوْبَتِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا إِجْبَارَ عَلَى الْمُهَايَأَةِ مُكِّنَ، وَغَرِمَ نِصْفَ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْإِجْبَارِ لَمْ يُمَكَّنْ، بَلْ يَسْتَوْفِي الْأُجْرَةَ مُدَّتَهُ، وَإِنِ اسْتَوْفَى الْأَوَّلُ نَوْبَتَهُ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ مِنْ أَنْ يَنْتَفِعَ، وَيَسْتَوْفِيَ نَوْبَتَهُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْإِجْبَارِ، فَهُوَ مُضَيِّعٌ حَقَّ نَفْسِهِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا إِجْبَارَ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَهُ نِصْفُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَكَذَا لَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ، أَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ نَوْبَةِ الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا إِجْبَارَ وَأَصَرَّا عَلَى النِّزَاعِ فِي الْمُهَايَأَةِ، فَهَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي الْعَيْنَ عَلَيْهِمَا قَطْعًا لِلنِّزَاعِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا، وَعَلَى هَذَا هَلْ يُتْرَكَانِ حَتَّى يَصْطَلِحَا وَلَا يُؤَجَّرَ عَلَيْهِمَا، أَمْ يُؤَجَّرَ وَتُوَزَّعُ الْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالْبَغَوِيُّ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ اثْنَانِ أَرْضًا، وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُهَايَأَةَ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ الْخِلَافُ فِي الْإِجْبَارِ، وَإِنْ أَرَادَ قِسْمَتَهَا فَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ. ثُمَّ إِذَا اقْتَسَمَا، وَحَدَثَ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا عَيْبٌ، فَلَهُ الْفَسْخُ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لِشَرِيكِهِ الْفَسْخُ أَيْضًا. وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا هَذِهِ الْقِسْمَةَ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ، حُكِيَ فِي إِجْبَارِهِ وَجْهَانِ. فَرْعٌ إِذَا جَرَتِ الْمُهَايَأَةُ فِي عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَالِكَيْنِ، أَوْ فِيمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ

فصل

بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِ بَاقِيهِ، فَالْأَكْسَابُ الْعَامَّةُ، وَالْمُؤَنُ الْعَامَّةُ، كَالنَّفَقَةِ تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ، وَفِي الْأَكْسَابِ النَّادِرَةِ، كَمَا يَقْبَلُهُ بِهِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَفِي الْمُؤَنِ النَّادِرَةِ، كَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَالْحَجَّامِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ وَمَوَاضِعَ، وَالْأَظْهَرُ دُخُولُهَا أَيْضًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي الْكِسْوَةِ إِلَى قَدْرِ النَّوْبَةِ حَتَّى تَبْقَى عَلَى الِاشْتِرَاكِ إِنْ جَرَتِ الْمُهَايَأَةُ مُيَاوَمَةً. فَرْعٌ لَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي الْحَيَوَانِ اللَّبُونِ لِيَحْلُبَ هَذَا يَوْمًا، وَهَذَا يَوْمًا، وَلَا فِي الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ، لِيَكُونَ ثَمَرُهَا لِهَذَا عَامًا وَلِهَذَا عَامًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفَاوُتِ الظَّاهِرِ. قُلْتُ: طَرِيقُهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يُبِيحَ كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ لِصَاحِبِهِ مُدَّةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ جَمَاعَةٌ فِي أَيْدِيهِمْ دَارٌ أَوْ أَرْضٌ، طَلَبُوا مِنَ الْقَاضِي قِسْمَتَهَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ أَقَامُوا بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُمْ، أَجَابَهُمْ إِلَى الْقِسْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يُقِيمُوهَا، فَطَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يُجِيبُهُمْ، فَرُبَّمَا كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ بِإِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ، فَإِذَا قَسَمَهَا رُبَّمَا ادَّعَوْا مِلْكَهَا مُحْتَجِّينَ بِقِسْمَةِ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: يُجِيبُهُمْ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، لَكِنْ يَكْتُبُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَسَمَ بَيْنَهُمْ بِدَعْوَاهُمْ، لِئَلَّا يَتَمَسَّكُوا بِقِسْمَتِهِ. وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْيِيدِ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلَيْنِ، فَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيِّ: الثَّانِي، وَعِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَطَبَقَتِهِ: الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَ الثَّانِي، قَالَ: وَلَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْقَوْلُ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

هَذَا فِي الْعَقَارِ، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَالْعَقَارِ أَيْضًا، وَقِيلَ: يُقْسَمُ قَطْعًا بِلَا بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ يَتَأَبَّدُ ضَرَرُهُ، فَيُخَصُّ بِالِاحْتِيَاطِ، وَلِهَذَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَلَوْ طَلَبَ بَعْضُهُمُ الْقِسْمَةَ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُونَ، وَاتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَى الْمِلْكِ، فَهَلْ يَقْسِمُ الْقَاضِي؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَإِذَا شَرَطْنَا الْبَيِّنَةَ، قُبِلَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ حَيْثُ يَكُونُ خَصْمٌ تُرَدُّ عَلَيْهِ لَوْ حَصَلَ نُكُولٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: تُقْبَلُ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْبَارِ وَالْقَاسِمُ عَلَى وِلَايَتِهِ، فَقَوْلُهُ: قَسَمْتُ مَقْبُولٌ، كَقَوْلِ الْحَاكِمِ: حَكَمْتُ وَهُوَ فِي وِلَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَهَلْ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ؟ وَجْهَانِ الْأَصَحُّ الْمَنْعُ، وَالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ - تُسْمَعُ إِنْ لَمْ يَطْلُبْ أُجْرَةً. وَإِذَا تَقَاسَمَا، ثُمَّ تَنَازَعَا فِي بَيْتٍ أَوْ قِطْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: هَذَا مِنْ نَصِيبِي وَلَا بَيِّنَةَ تَحَالَفَا، وَنُقِضَتِ الْقِسْمَةُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فَإِنِ اخْتُصَّ أَحَدُهُمَا بِالْيَدِ فِيمَا تَنَازَعَا فِيهِ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا اطَّلَعَ أَحَدُهُمَا عَلَى عَيْبٍ بِنَصِيبِهِ، فَلَهُ فَسْخُ الْقِسْمَةِ. فَرْعٌ الدُّيُونُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي ذِمَمِ النَّاسِ أَطْلَقَ مُطْلِقُونَ، مِنْهُمْ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» أَنَّهُ يُمْتَنَعُ قِسْمَتُهَا، وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: إِنْ أَذِنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ فِي قَبْضِ مَا عَلَى زَيْدٍ عَلَى أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ إِذَا قَبَضَ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا الْمَنْعُ، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا فِي ذِمَّةِ زَيْدٍ لِهَذَا، وَمَا فِي ذِمَّةِ عَمْرٍو لِهَذَا، فَطَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَالثَّانِي

وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إِنْ جُعِلَتْ بَيْعًا فَهَذَا بَيْعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةٍ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّةٍ أُخْرَى، وَإِنْ جُعِلَتْ إِفْرَازًا فَإِفْرَازُ مَا فِي الذِّمَّةِ مُمْتَنِعٌ لِعَدَمِ قَبْضِهِ، وَلَا يَدْخُلُ الْإِجْبَارُ فِي قِسْمَةِ الدُّيُونِ بِحَالٍ، وَالْقَوْلُ فِي قِسْمَةِ الْجِدَارِ وَعَرْضِهِ مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الشهادات

كِتَابُ الشَّهَادَاتِ فِيهِ سِتَّةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِيمَا يُفِيدُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَلَهَا شُرُوطٌ، مِنْهَا التَّكْلِيفُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا مَنْ فِيهِ رِقٌّ، وَلَا كَافِرٍ مَا، سَوَاءٌ شَهِدَ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ الْعَدَالَةُ. فَالْمَعَاصِي صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ فِيهَا صَغِيرَةٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَفِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِحَدٍّ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سَنَةٍ، وَهَذَا أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ لَهُمْ، وَهُمْ إِلَى تَرْجِيحَ الْأَوَّلِ أَمْيَلُ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَوْفَقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ، وَالثَّالِثُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي «الْإِرْشَادِ» وَغَيْرِهِ: كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ، فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ. وَالرَّابِعُ قَالَ أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ: الْكَبِيرَةُ كُلُّ فِعْلٍ نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ وَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَرْكُ فَرِيضَةٍ تَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْكَذِبُ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالْيَمِينِ، هَذَا مَا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الضَّبْطِ. وَفَصَّلَهُ جَمَاعَةٌ، فَعَدُّوا مِنَ الْكَبَائِرِ الْقَتْلَ وَالزِّنَى وَاللِّوَاطَ، وَشُرْبَ قَلِيلِ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةَ، وَالْقَذْفَ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، وَغَصْبَ الْمَالِ - وَشَرَطَ الْهَرَوِيُّ فِي الْمَغْصُوبِ كَوْنَهُ نِصَابًا - وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكْلَ الرِّبَا وَمَالِ الْيَتِيمِ، وَعُقُوقَ

الْوَالِدَيْنِ، وَالْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْدًا، وَكِتْمَانَ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ. وَأَضَافَ إِلَيْهَا صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، وَالْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ، وَقَطْعَ الرَّحِمِ، وَالْخِيَانَةَ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، وَتَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا، أَوْ تَأْخِيرَهَا عَنْهُ بِلَا عُذْرٍ، وَضَرْبَ مُسْلِمٍ بِلَا حَقٍّ، وَسَبَّ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ، وَالدِّيَاثَةَ وَالْقِيَادَةَ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالسِّعَايَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَمَنْعَ الزَّكَاةِ، وَتَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَنِسْيَانَ الْقُرْآنِ، وَإِحْرَاقَ الْحَيَوَانِ، وَامْتِنَاعَهَا مَنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ، وَالْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُقَالُ: الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ. وَمِمَّا عُدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ الظِّهَارُ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ بِلَا عُذْرٍ، وَلِلتَّوَقُّفِ مَجَالٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْخِصَالِ، كَقَطْعِ الرَّحِمِ، وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى إِطْلَاقِهِمَا، وَنِسْيَانِ الْقُرْآنِ، وَإِحْرَاقِ مُطْلَقِ الْحَيَوَانِ. وَقَدْ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» إِلَى مِثْلِ هَذَا التَّوَقُّفِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَجْهٌ أَنَّ تَرْكَ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ كَبِيرَةً، وَلَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَةٌ حَتَّى يَعْتَادَهُ. قُلْتُ: قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُقْرِئُهَا رَجُلٌ، ثُمَّ نَسِيَهَا» لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ. وَمِنَ الْكَبَائِرِ السِّحْرُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَهُ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَنَقَلَ الْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ «مَجْمُوعَةٍ» أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - قَالَ:

الْوَطْءُ فِي الْحَيْضِ كَبِيرَةٌ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ النَّمِيمَةَ كَبِيرَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : وَمِنَ الصَّغَائِرِ النَّظَرُ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ، وَالْغِيبَةُ، وَالْكَذِبُ الَّذِي لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ، وَالْإِشْرَافُ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ، وَهِجْرَةُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَكَثْرَةُ الْخُصُومَاتِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَالسُّكُوتُ عَلَى الْغِيبَةِ وَالنِّيَاحَةُ وَالصِّيَاحُ وَشَقُّ الْجَيْبِ فِي الْمُصِيبَةِ، وَالتَّبَخْتُرُ فِي الْمَشْيِ، وَالْجُلُوسُ مَعَ الْفُسَّاقِ إِينَاسًا لَهُمْ، وَالصَّلَاةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِدْخَالُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينَ وَالنَّجَاسَاتِ إِلَيْهِ، وَإِمَامَةُ قَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ لِعَيْبٍ فِيهِ، وَالْعَبَثُ فِي الصَّلَاةِ، وَالضَّحِكُ (فِيهَا) ، وَتَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةَ، وَالْكَلَامُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَالتَّغَوُّطُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَفِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَمَّامِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: وَكَثْرَةُ خُصُومَاتِ الْمُحِقِّ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ مَعْصِيَةً إِذَا رَاعَى حَدَّ الشَّرْعِ. وَتَخَطِّي الرِّقَابِ، فَإِنَّهُ مَعْدُودٌ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ لَا مُحَرَّمٌ وَكَذَا الْكَلَامُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ عَلَى الْأَظْهَرِ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ تَخَطِّيَ الرِّقَابِ حَرَامٌ لِلْأَحَادِيثِ فِيهِ، وَالصَّوَابُ فِي الْخُصُومَاتِ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، وَأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِدْخَالَهُ الصِّبْيَانَ إِذَا لَمْ يَغْلِبْ تَنْجِيسُهُمْ إِيَّاهُ، وَالْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَفِي كَوْنِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ مَكْرُوهَةً أَوْ مُحَرَّمَةً خِلَافٌ سَبَقَ. وَمِنَ الصَّغَائِرِ الْقُبْلَةُ لِلصَّائِمِ الَّذِي يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ، وَالْوِصَالُ فِي الصَّوْمِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالِاسْتِمْنَاءُ وَكَذَا مُبَاشَرَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَالرَّجْعِيَّةِ، وَالْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَمُسَافَرَةُ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ، وَلَا نِسْوَةٍ

ثِقَاتٍ، وَالنَّجْشُ وَالِاحْتِكَارُ، وَالْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَكَذَا السَّوْمُ وَالْخِطْبَةُ، وَبَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَالتَّصْرِيَةُ، وَبَيْعُ الْمَعِيبِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِهِ، وَاتِّخَاذُ الْكَلْبِ الَّذِي لَا يَحِلُّ اقْتِنَاؤُهُ، وَإِمْسَاكُ الْخَمْرِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَبَيْعُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ، وَكَذَا الْمُصْحَفُ وَسَائِرُ كُتُبِ الْعِلْمِ، وَاسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَشْبَاهُ هَذِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَالَ الْأَصْحَابُ: يُشْتَرَطُ فِي الْعَدَالَةِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، فَمَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَاحِدَةً، فَسَقَ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَأَمَّا الصَّغَائِرُ، فَلَا يُشْتَرَطُ اجْتِنَابُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُصِرَّ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَصَرَّ كَانَ الْإِصْرَارُ كَارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، وَهَلِ الْإِصْرَارُ السَّالِبُ لِلْعَدَالَةِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الصَّغَائِرِ، أَمِ الْإِكْثَارُ مِنَ الصَّغَائِرِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَيُوَافِقُ الثَّانِيَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَنْ غَلَبَتْ طَاعَتُهُ مَعَاصِيَهُ، كَانَ عَدْلًا، وَعَكْسُهُ فَاسِقٌ، وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْمُخْتَصَرِ» يُوَافِقُهُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَضُرُّ الْمُدَاوِمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الصَّغَائِرِ إِذَا غَلَبَتِ الطَّاعَاتُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَضُرُّ. فَرْعٌ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ: مُبَاحٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَمَالَ الْحَلِيمِيُّ إِلَى تَحْرِيمِهِ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ قِمَارٌ أَوْ فُحْشٌ أَوْ إِخْرَاجُ صَلَاةٍ عَنْ وَقْتِهَا عَمْدًا، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ الْمُقَارَنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ قِمَارًا إِذَا شُرِطَ الْمَالُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ أَخْرَجَ

أَحَدُهُمَا لِيَبْذُلَهُ إِنْ غُلِبَ، وَيُمْسِكَهُ إِنْ غَلَبَ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَلَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَةٌ، لَكِنَّهُ عَقَدَ مُسَابَقَةً عَلَى غَيْرِ آلَةِ قِتَالٍ، فَلَا يَصِحُّ. وَلَوْ لَمْ تَخْرُجِ الصَّلَاةُ عَنِ الْوَقْتِ عَمْدًا، لَكِنْ شَغَلَهُ اللَّعِبُ بِهِ حَتَّى خَرَجَ وَهُوَ غَافِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ ذَلِكَ مِنْهُ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَثُرَ مِنْهُ، فُسِّقَ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَرَكَهَا نَاسِيًا مِرَارًا؛ لِأَنَّهُ هُنَا شَغَلَ نَفْسَهُ بِمَا فَاتَتْ بِهِ الصَّلَاةُ هَكَذَا ذَكَرُوهُ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْصِيةِ الْغَافِلِ اللَّاهِي، ثُمَّ قِيَاسُهُ الطَّرْدُ فِي شَغْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَأَشَارَ الرُّويَانِيُّ إِلَى وَجْهٍ أَنَّهُ يُفَسَّقُ وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، وَفِي «الْمُهَذَّبِ» اشْتِرَاطُ التَّكَرُّرِ فِي إِخْرَاجِهَا عَنِ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا وَهُوَ خِلَافُ مَا سَبَقَ أَنَّ إِخْرَاجَ الْفَرِيضَةِ عَنِ الْوَقْتِ عَمْدًا كَبِيرَةٌ. وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ فَفِي وَجْهٍ مَكْرُوهٌ وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ، فَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: هُوَ صَغِيرَةٌ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، قَالَ فِي «الْأُمِّ» وَأَكْرَهَ اللَّعِبَ بِالْحَزَّةِ وَالْقَرَقَ، فَالْحَزَّةُ: قِطَعُ خَشَبٍ يُحْفَرُ فِيهَا حُفَرٌ فِي ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ يُجْعَلُ فِيهَا حَصًى صِغَارٌ يُلْعَبُ بِهَا وَقَدْ تُسَمَّى الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْقَرَقُ: أَنْ يُخَطَّ فِي الْأَرْضِ خَطٌّ مُرَبَّعٌ، وَيُجْعَلُ فِي وَسَطِهِ خَطَّانِ كَالصَّلِيبِ، وَيُجْعَلُ عَلَى رُءُوسِ الْخُطُوطِ حَصًى صِغَارٌ يُلْعَبُ بِهَا. وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ رَأَيْتُهَا بِخَطِّ الرُّويَانِيِّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ، وَضَبَطَهَا بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ، قَالَ فِي «الشَّامِلِ» اللَّعِبُ بِهِمَا كَالنَّرْدِ وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ كَالشِّطْرَنْجِ. فَرْعٌ اتِّخَاذُ الْحَمَامِ لِلْفَرْخِ وَالْبَيْضِ، أَوِ الْأُنْسِ، أَوْ حَمْلُ الْكُتُبِ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَأَمَّا اللَّعِبُ بِهَا بِالتَّطْيِيرِ وَالْمُسَابَقَةِ، فَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ،

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِمُجَرَّدِهِ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ قِمَارٌ وَنَحْوُهُ رُدَّتْ. فَرْعٌ غِنَاءُ الْإِنْسَانِ قَدْ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ صَوْتِهِ، وَقَدْ يَقَعُ بِآلَةٍ، أَمَّا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ فَمَكْرُوهٌ وَسَمَاعُهُ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَا مُحَرَّمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ فَأَشَدُّ كَرَاهَةً، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ تَحْرِيمَهُ وَهَذَا هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي سَبَقَ فِي أَنَّ صَوْتَهَا هَلْ هُوَ عَوْرَةٌ، فَإِنْ كَانَ فِي السَّمَاعِ مِنْهَا خَوْفُ فِتْنَةٍ، فَحَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا السَّمَاعُ مِنْ صَبِيٍّ يُخَافُ مِنْهُ الْفِتْنَةُ، وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ وَجْهًا أَنَّهُ يَحْرُمُ كَثِيرُ السَّمَاعِ دُونَ قَلِيلُهُ، وَوَجْهٌ أَنَّهُ يَحْرُمُ مُطْلَقًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ. وَأَمَّا الْحُدَاءُ، وَسَمَاعُهُ، فَمُبَاحَانِ، وَأَمَّا تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَمَسْنُونٌ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ، فَقَالَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : لَا بَأْسَ بِهَا وَعَنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْجِيزَيِّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلِ الْمَكْرُوهُ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الْمَدِّ وَفِي إِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ حَتَّى تَتَوَلَّدَ مِنَ الْفَتْحَةِ أَلْفٌ، وَمِنَ الضَّمِّ وَاوٌ، وَمِنَ الْكَسْرَةِ يَاءٌ، أَوْ يُدْغِمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِدْغَامِ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، فَلَا كَرَاهَةَ، وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ أَفْرَطَ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا أَفْرَطَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، فَهُوَ حَرَامٌ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ «الْحَاوِي» فَقَالَ: هُوَ حَرَامٌ يُفَسَّقُ بِهِ الْقَارِئُ، وَيَأْثَمُ الْمُسْتَمِعُ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ لَهْجَةِ التَّقْوِيمِ، وَهَذَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالْكَرَاهَةِ. وَيُسَنُّ تَرْتِيلُ الْقِرَاءَةِ وَتَدَبُّرُهَا، وَالْبُكَاءُ عِنْدَهَا، وَطَلَبُ الْقِرَاءَةِ

مِنْ حَسَنِ الصَّوْتِ، وَالْجُلُوسُ فِي حِلَقِ الْقِرَاءَةِ وَلَا بَأْسَ بِتَرْدِيدِ الْآيَةِ لِلتَّدَبُّرِ، وَلَا بِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَلَا بِإِدَارَتِهَا وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ قِطْعَةً، ثُمَّ الْبَعْضُ قِطْعَةً بَعْدَهَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا كُلَّهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ النَّفَائِسِ فِي «آدَابِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُغَنِّيَ بِبَعْضِ آلَاتِ الْغِنَاءِ مِمَّا هُوَ مِنْ شِعَارِ شَارِبِي الْخَمْرِ وَهُوَ مُطْرِبٌ كَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالصَّنْجِ وَسَائِرِ الْمَعَازِفِ وَالْأَوْتَارِ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ وَاسْتِمَاعُهُ. وَفِي الْيَرَاعِ وَجْهَانِ صَحَّحَ الْبَغَوِيُّ التَّحْرِيمَ وَالْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْيَرَاعِ كُلُّ قَصَبٍ بَلِ الْمِزْمَارُ الْعِرَاقِيُّ وَمَا يُضْرَبُ بِهِ الْأَوْتَارُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ تَحْرِيمُ الْيَرَاعِ، وَهُوَ هَذِهِ الزَّمَّارَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الشَّبَّابَةُ وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّوْلَعِيُّ كِتَابًا فِي تَحْرِيمِ الْيَرَاعِ مُشْتَمِلًا عَلَى نَفَائِسَ، وَأَطْنَبَ فِي دَلَائِلِ تَحْرِيمِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الدُّفُّ، فَضَرْبُهُ مُبَاحٌ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِمَا، فَأَطْلَقَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا تَحْرِيمَهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: حَلَالٌ: وَحَيْثُ أَبَحْنَاهُ هُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ جُلَاجِلُ، فَإِنْ كَانَ، فَالْأَصَحُّ حِلُّهُ أَيْضًا. وَلَا يَحْرُمُ ضَرْبُ الطُّبُولِ إِلَّا الْكُوبَةَ، وَهُوَ طَبْلٌ طَوِيلٌ مُتَّسِعُ الطَّرَفَيْنِ ضَيِّقُ الْوَسَطِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْتَادُ ضَرْبَهُ الْمُخَنَّثُونَ، وَالطُّبُولُ الَّتِي تُهَيَّأُ لِمَلَاعِبِ الصِّبْيَانِ إِنْ لَمْ تَلْحَقْ بِالطُّبُولِ الْكِبَارِ، فَهِيَ كَالدُّفِّ، وَلَيْسَتْ كَالْكُوبَةِ بِحَالٍ، وَالضَّرْبُ بِالصَّفَّاقَتَيْنِ حَرَامٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ الْمُخَنَّثِينَ،

وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ الْكُوبَةِ. وَفِي تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ عَلَى الْوَسَائِدِ وَجْهَانِ، قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِأَنَّ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامَ، وَالرَّقْصُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، قَالَ الْحَلِيمِيُّ: لَكِنَّ الرَّقْصَ الَّذِي فِيهِ تَثَنٍّ وَتَكَسُّرٌ يُشْبِهُ أَفْعَالَ الْمُخَنَّثِينَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. فَرْعٌ إِنْشَاءُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ وَاسْتِمَاعُهُ جَائِزٌ، فَلَوْ هَجَا الشَّاعِرُ فِي شِعْرِهِ وَلَوْ بِمَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَلَيْسَ إِثْمُ حَاكِي الْهَجْوِ كَإِثْمِ مُنْشَئِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيضُ هَجْوًا كَالتَّصْرِيحِ، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَيْسَ التَّعْرِيضُ هَجْوًا، وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ إِذَا كَانَ يَفْحُشُ وَيُشَبِّبُ بِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ يَصِفُ أَعْضَاءً بَاطِنَةً، فَإِنْ شَبَّبَ بِجَارِيَتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ مُعَيَّنَةً، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يُرِيدُ مَنْ تَحِلُّ لَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ إِذَا ذَكَرَ جَارِيَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ بِمَا حَقُّهُ الْإِخْفَاءُ، لِسُقُوطِ مُرُوءَتِهِ. وَلَوْ كَانَ يُشَبِّبُ بِغُلَامٍ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ يَعْشَقُهُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: يُفَسَّقُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الذُّكُورِ بِالشَّهْوَةِ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ اعْتِبَارُ التَّعْيِينِ فِي الْغُلَامِ كَالْمَرْأَةِ. وَإِنْ كَانَ يَمْدَحُ النَّاسَ وَيُطْرِي، نُظِرَ إِنْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى ضَرْبِ مُبَالَغَةٍ، جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَكَانَ كَذِبًا مَحْضًا، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهُ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ إِنْ كَثُرَ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ، وَالصَّيْدَلَانِيُّ: لَا يَلْحَقُ بِالْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الْكَاذِبَ يُوهِمُ الْكَذِبَ صِدْقًا بِخِلَافِ الشَّاعِرِ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَهَذَا حَسَنٌ بَالِغٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عَلَى قِيَاسِهِ: إِنَّ التَّشْبِيبَ بِالنِّسَاءِ وَالْغِلْمَانِ بِغَيْرِ تَعْيِينٍ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ وَإِنْ كَثُرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيبَ صَنْعَةٌ، وَغَرَضُ الشَّاعِرِ تَحْسِينُ الْكَلَامِ لَا تَحْقِيقُ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لَوْ سَمَّى امْرَأَةً لَا يَدْرِي مَنْ هِيَ.

فَرْعٌ مَا حَكَمْنَا بِإِبَاحَتِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَدْ يَقْتَضِي الْإِكْثَارُ مِنْهُ رَدَّ الشَّهَادَةِ، لِكَوْنِهِ خَارِمًا لِلْمُرُوءَةِ فَمَنْ دَاوَمَ عَلَى اللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْمُرُوءَةِ، وَكَذَا مَنْ دَاوَمَ عَلَى الْغِنَاءِ أَوْ سَمَاعِهِ وَكَانَ يَأْتِي النَّاسَ وَيَأْتُونَهُ، أَوِ اتَّخَذَ جَارِيَةً أَوْ غُلَامًا لِيَتَغَنَّيَا لِلنَّاسِ، وَكَذَا الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الرَّقْصِ، وَضَرْبِ الدُّفِّ، وَكَذَا إِنْشَادُ الشِّعْرِ، وَاسْتِنْشَادُهُ إِذَا أَكْثَرَ مِنْهُ، فَتَرَكَ بِهِ مُهِمَّاتِهِ، كَانَ خَارِمًا لِلْمُرُوءَةِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، قَالَ: وَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّاعِرُ يَكْتَسِبُ بِشِعْرِهِ. وَالْمَرْجِعُ فِي الْمُدَاوَمَةِ وَالْإِكْثَارِ إِلَى الْعَادَةِ، وَيَخْتَلِفُ الْأَمْرُ فِيهِ بِعَادَاتِ النَّوَاحِي وَالْبِلَادِ، وَيُسْتَقْبَحُ مَنْ شَخْصٍ قَدْرٌ لَا يُسْتَقْبَحُ مَنْ غَيْرِهِ، وَلِلْأَمْكِنَةِ فِيهِ أَيْضًا تَأْثِيرٌ، فَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ فِي الْخَلْوَةِ مِرَارًا لَا يَكُونُ كَاللَّعِبِ بِهِ فِي سُوقٍ مَرَّةً عَلَى مَلَإٍ مِنَ النَّاسِ، وَهَلْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: لَمَّا اسْتَمَرَّتِ الْعَادَةُ أَنَّ الشَّاعِرَ يَكْتَسِبُ بِشِعْرِهِ وَعَدَّ صَنْعَةَ الْغَنَاءِ حِرْفَةً وَمَكْسَبًا، فَالِاشْتِغَالُ بِهِ مِمَّنْ يَلِيقُ بِحَالِهِ، لَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْمُرُوءَةِ؟ وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ مَا ذَكَرْتُهُ فِي الشَّاعِرِ يَكْتَسِبُ بِشِعْرِهِ لِابْنِ الْقَاصِّ. فَرْعٌ مَا حَكَمْنَا بِتَحْرِيمِهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، كَالنَّرْدِ وَسَمَاعِ الْأَوْتَارِ، وَلُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالْجُلُوسِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهَا، هَلْ هُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ فَتُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِمَرَّةٍ أَمْ مِنَ الصَّغَائِرِ، فَيُعْتَبَرُ الْمُدَاوَمَةُ وَالْإِكْثَارُ؟ وَجْهَانِ يَمِيلُ كَلَامُ الْإِمَامِ إِلَى أَوَّلِهِمَا، وَالْأَصَحُّ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ، وَزَادَ الْإِمَامُ، فَقَالَ: يُنْظَرُ إِلَى عَادَةِ الْبَلَدِ وَالْقُطْرِ، فَحَيْثُ يَسْتَعْظِمُونَ النَّرْدَ وَسَمَاعَ الْأَوْتَارِ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ

الْإِقْدَامَ فِي مِثْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جَسُورِ مُنْحَلٍّ عَنْ رِبْقَةِ الْمُرُوءَةِ، فَتَسْقُطُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَحَيْثُ لَا يَسْتَعْظِمُونَهُ لَا يَكُونُ مُطْلَقُ الْإِقْدَامِ مُشْعِرًا بِتَرْكِ الْمُبَالَاةِ، وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ النَّظَرُ فِي أَنَّهُ صَغِيرَةٌ أَمْ كَبِيرَةٌ. فَرْعٌ الْخَمْرُ الْعَيْنِيَّةُ لَمْ يَشُبْهَا مَاءٌ وَلَا طُبِخَتْ بِنَارٍ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَنْ شَرِبَهَا عَامِدًا عَالِمًا بِحَالِهَا، حُدَّ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، سَوَاءٌ شَرِبَ قَدْرًا يُسْكِرُهُ أَمْ لَا، قَالَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ: وَكَذَا حُكْمُ بَائِعِهَا وَمُشْتَرِيهَا فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمَا، وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِإِمْسَاكِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ التَّخَلُّلُ أَوِ التَّخْلِيلُ، وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَسَائِرِ الْأَنْبِذَةِ، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهَا الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ، حُدَّ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ شَرِبَ قَلِيلًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ كَالْحَنَفِيِّ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: يُحَدُّ، وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَالثَّانِي: تُرَدُّ وَيُحَدُّ، وَالثَّالِثُ: لَا تُرَدُّ وَلَا يُحَدُّ، وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ لِلْأَصَحِّ بِأَنَّ الْحَدَّ إِلَى الْإِمَامِ، فَاعْتُبِرَ اعْتِقَادُهُ، وَالشَّهَادَةُ تَعْتَمِدُ اعْتِقَادَ الشَّاهِدِ، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ جَارِيَةً وَوَطِئَهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يَزْنِي بِهَا، فَبَانَ أَنَّهَا مِلْكَهُ، فُسِّقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ يَعْتَقِدُهَا جَارِيَتَهُ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ، وَالنَّبِيذُ يَحْتَاجُ إِلَى زَجْرٍ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ لِسُقُوطِ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِ. وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَعْتَقِدِ التَّحْرِيمَ، وَأَمَّا إِذَا شَرِبَهُ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُحَدُّ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّ مَنْ نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ وَوَطِئَ، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إِنِ اعْتَقَدَ الْحِلَّ، وَتُرَدُّ إِنِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ، وَلَكِنْ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ

لَا تُرَدُّ شَهَادَةُ مُسْتَحِلِّ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالْمُفْتِي بِهِ وَالْعَامِلِ بِهِ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الْفَيَّاضِ مِثْلَهُ. قُلْتُ: قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: قَالَ فِي «الْأُمِّ» إِذَا أَخَذَ مِنَ النِّثَارِ فِي الْفَرَحِ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُحِلُّ ذَلِكَ، وَأَنَا أَكْرَهُهُ. قَالَ فِي «الْأُمِّ» : وَمَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَحْضُرُ الدَّعْوَةَ بِغَيْرِ دُعَاءٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا يَسْتَحِلُّ صَاحِبُ الطَّعَامِ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مُحَرَّمًا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ دَعْوَةَ رَجُلٍ مِنَ الرَّعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَةَ سُلْطَانٍ، أَوْ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالسُّلْطَانِ فَهَذَا طَعَامٌ عَامٌّ، فَلَا تَأْثِيرَ بِهِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ تَكَرُّرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ شُبْهَةٌ حَتَّى يَمْنَعَهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ، فَإِذَا تَكَرَّرَ، صَارَ دَنَاءَةً، وَقِلَّةَ مُرُوءَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْمُرُوءَةُ، وَهِيَ التَّوَقِّي عَنِ الْأَدْنَاسِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا مُرُوءَةَ لَهُ، فَمَنْ تَرَكَ الْمُرُوءَةَ لَبِسَ مَا لَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ بِأَنْ لَبِسَ الْفَقِيهُ الْقَبَاءَ وَالْقَلَنْسُوَةَ وَيَتَرَدَّدُ فِيهِمَا فِي بَلَدٍ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْفُقَهَاءُ بِلُبْسِهِمَا فِيهِ، أَوْ لَبِسَ التَّاجِرُ ثَوْبَ الْجَمَّالَ، أَوْ تَعَمَّمَ الْجَمَّالُ وَتَطَلَّسَ، وَرَكِبَ بَغْلَةً مُثْمِنَةً، وَطَافَ فِي السُّوقِ، وَاتَّخَذَ نَفْسَهُ ضُحْكَةً، وَمِنْهُ الْمَشْيُ فِي السُّوقِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الشَّخْصُ سُوقِيًّا مِمَّنْ يَلِيقُ بِهِ مِثْلُهُ، وَكَذَا مَدُّ الرَّجُلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْأَكْلُ فِي السُّوقِ وَالشُّرْبُ مِنْ سِقَايَاتِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ سُوقِيًّا، أَوْ شَرِبَ لِغَلَبَةِ عَطَشٍ، وَمِنْهُ أَنْ يُقْبِّلَ امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، أَوْ يَحْكِي مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ، أَوْ يُكْثِرُ مِنَ الْحِكَايَاتِ الْمُضْحِكَةِ، أَوْ يَخْرُجُ عَنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْمُعَامِلِينَ، وَيُضَايِقُ فِي الْيَسِيرِ

الَّذِي لَا يُسْتَقْصَى فِيهِ، وَمِنْهُ الْإِكْثَارُ عَلَى اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ وَالْغِنَاءُ عَلَى مَا سَبَقَ. وَمِنْهُ أَنْ يَتَبَذَّلَ الرَّجُلُ الْمُعْتَبَرُ نَفْسَهُ بِنَقْلِ الْمَاءِ وَالْأَطْعِمَةِ إِلَى بَيْتِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ شُحٍّ، فَإِنْ فَعَلَهُ اسْتِكَانَةً، وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ التَّارِكِينَ لِلتَّكَلُّفِ، لَمْ تَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الْمُرُوءَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ يَلْبَسُ مَا يَجِدُ وَيَأْكُلُ حَيْثُ يَجِدُ لِتَقَلُّلِهِ وَبَرَاءَتِهِ مِنَ التَّكَلُّفِ الْمُعْتَادِ، وَهَذَا يُعْرَفُ بِتَنَاسُبِ حَالِ الشَّخْصِ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَظُهُورِ مَخَايِلِ الصِّدْقِ فِيمَا يُبْدِيهِ، وَقَدْ يُؤَثِّرُ فِيهِ الزِّيُّ وَاللُّبْسَةُ. وَفِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ كَحَجَّامٍ وَكَنَّاسٍ وَدَبَّاغٍ وَقَيِّمِ حَمَّامٍ وَحَارِسٍ وَنَخَّالٍ وَإِسْكَافٍ وَقَصَّابٍ وَنَحْوِهِمْ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْقَبُولُ، وَفِي الْحَائِكِ الْوَجْهَانِ، وَقِيلَ: (يُقْبَلُ قَطْعًا) وَقِيلَ: يُقْبَلُ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُبَاشَرَةِ نَجَاسَةٍ أَوْ قَذَرٍ كَالْحَائِكِ وَالنَّخَّالِ وَالْحَارِسِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَفِي الصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَبُولُ قَطْعًا، لَكِنْ مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَمِنْ سَائِرِ الْمُحْتَرِفَةِ كَذِبًا وَخُلْفًا فِي الْوَعْدِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْوَجْهَانِ فِي أَصْحَابِ الْحِرَفِ هُمَا فِيمَنْ يَلِيقُ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ صَنْعَةَ آبَائِهِ، فَأَمَّا غَيْرُهُ، فَتَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ بِهَا، وَهَذَا حَسَنٌ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يُقَالَ: الْإِسْكَافُ وَالْقَصَّابُ إِذَا اشْتَغَلَا بِالْكَنْسِ، بَطَلَتْ مُرُوءَتُهُمَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ. قُلْتُ: لَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِهَذَا الْقَيْدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَيَّدَ بِصَنْعَةِ آبَائِهِ، بَلْ يَنْظُرُ هَلْ يَلِيقُ بِهِ هُوَ أَمْ لَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ النَّجَاسَةَ إِنَّمَا يَجْرِي فِيهِمِ الْخِلَافُ إِذَا حَافَظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَاتَّخَذُوا لَهَا ثِيَابًا طَاهِرَةً، وَإِلَّا فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ بِالْفِسْقِ. فَرْعٌ مَنْ تَرَكَ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ، وَتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَحْيَانًا، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَمَنِ اعْتَادَ تَرْكَهَا، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتَهَاوُنِهِ بِالدِّينِ وَإِشْعَارِ

هَذَا بِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالْمُهِمَّاتِ، وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ فِي غَيْرِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتِيِ الْفَجْرِ وَجْهَانِ أَنَّهُ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِاعْتِيَادِ تَرْكِهَا. فَرْعٌ نُصَّ أَنَّ مُسْتَحِلَّ الْأَنْبِذَةِ إِنْ أَدَامَ الْمُنَادَمَةَ عَلَيْهَا، وَالْحُضُورَ مَعَ أَهْلِ السَّفَهِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِطَرْحِهِ الْمُرُوءَةَ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الطَّوَّافِينَ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَسَائِرِ السُّؤَالِ إِلَّا أَنْ يُكْثِرَ الْكَذِبَ فِي دَعْوَى الْحَاجَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ، أَوْ يَأْخُذَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، فَيُفَسَّقُ. وَمُقْتَضَى الْوَجْهِ الذَّاهِبِ إِلَى رَدِّ شَهَادَةِ أَصْحَابِ الْحِرَفِ رَدُّ شَهَادَتِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى خِسَّتِهِ. الشَّرْطُ السَّادِسُ الِانْفِكَاكُ عَنِ التُّهْمَةِ، وَلِلتُّهْمَةِ أَسْبَابٌ، الْأَوَّلُ أَنْ يَجُرَّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعَ بِهَا ضُرًّا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَلَا لِمُكَاتَبِهِ بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَارِثِ لِمُورِثِهِ، وَلَا الْغَرِيمِ لِلْمَيِّتِ، وَالْمُفْلِسِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِغَرِيمِهِ الْمُوسِرِ، وَكَذَا الْمُعْسِرِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَا الْإِبْرَاءِ، وَلَا الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، وَلَا الْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ فِي مَحَلِّ تَصَرُّفِهِمَا، وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الدَّارُ بَيْنَنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِالنِّصْفِ لِشَرِيكِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِشَرِيكِهِ بِبَيْعِ الشِّقْصِ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي مِنْ شَرِيكِهِ، لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شُفْعَةٌ بِأَنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: تُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ شَهِدَ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّ زَيْدًا جَرَحَ مُوَرِّثَهُ، لَمْ يُقْبَلْ لِلتُّهْمَةِ. وَلَوْ شَهِدَ بِمَالٍ آخَرَ لِمُوَرِّثِهِ الْمَجْرُوحِ، أَوِ الْمَرِيضِ إِنْ يَشْهَدْ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، قُبِلَتْ قَطْعًا، وَكَذَا قَبْلَهُ عَلَى الْأَصَحِّ.

فَرْعٌ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَضَاءِ لِأَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُودِعِ لِلْمُودَعِ إِذَا نَازَعَهُ فِي الْوَدِيعَةِ أَجْنَبِيٌّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدِيمُ الْيَدَ لِنَفْسِهِ، وَيُقْبَلُ لِلْأَجْنَبِيُّ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْمُرْتَهِنِ لَا يُقْبَلُ لِلرَّاهِنِ، وَيُقْبَلُ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَإِنَّ شَهَادَةَ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِالْعَيْنِ لِأَجْنَبِيٍّ لَا تُقْبَلُ لِفِسْقِهِ، وَلِتُهْمَتِهِ بِدَفْعِ الضَّمَانِ، وَمُؤْنَةٍ لِرَدٍّ، فَإِنْ شَهِدَ بَعْدَ الرَّدِّ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ شَهِدَ بَعْدَ التَّلَفِ، لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الضَّمَانَ، وَإِنَّ شَهَادَةَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا بَعْدَ الْقَبْضِ لَا تُقْبَلُ لِلْأَجْنَبِيِّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّ شَهَادَةَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً صَحِيحًا بَعْدَ الْإِقَالَةِ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ، لَا تُقْبَلُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَبْقِي لِنَفْسِهِ الْغَلَّاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْمِلْكَ مِنْ تَارِيخٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْبَيْعِ. وَلَوْ شَهِدَ بَعْدَ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوِ الْمَجْلِسِ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، وَتَرْجِعُ الْفَوَائِدُ إِلَى الْبَائِعِ أَمْ حِينَهُ وَلَا يَرْجِعُ. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِمَيِّتٍ دَيْنٌ عَلَى شَخْصٍ، فَشَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ لِرَجُلٍ بِأَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ، ثُمَّ شَهِدَ الْغَرِيمَانِ لِآخَرَ بِأَنَّهُ ابْنُهُ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْغَرِيمَيْنِ، لِأَنَّهُمَا يَنْقُلَانِ مَا عَلَيْهِمَا لِلْأَخِ إِلَى الْآخَرِ بِخِلَافَ مَا لَوْ تَقَدَّمَتْ شَهَادَةِ الْغَرِيمَيْنِ، وَأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَارِثِينَ عَلَى مَوْتَ الْمُوَرِّثَ، وَلَا شَهَادَةُ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى الْمُوصِي، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْغَرِيمَيْنِ عَلَى مَوْتِ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، لِأَنَّهُمَا لَا يَنْتَفِعَانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى نَقْلِ الْحَقِّ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَةُ الْمُوَرِّثِ، فَكَأَنَّهُ هُوَ، وَلَوْ شَهِدَ شُهُودٌ بِقَتْلِ الْخَطَإِ، فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنَ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ الْقَتْلِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ ضَرَرَ التَّحَمُّلِ. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى مُفْلِسٍ بَدَيْنٍ، فَشَهِدَ غُرَمَاؤُهُ الْآخَرُونَ

بِفِسْقِهِمَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْهُ ضَرَرَ الْمُزَاحِمَةِ. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ لِاثْنَيْنِ بِوَصِيَّةٍ مِنْ تَرِكَةٍ، فَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِوَصِيَّةٍ لِلشَّاهِدَيْنِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ الْأَرْبَعَةُ، لِتُهْمَةِ الْمُوَاطَأَةِ، بِوَصِيَّةٍ لِلشَّاهِدَيْنِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا لَا تُقْبَلُ الْأَرْبَعَةُ، لِتُهْمَةِ الْمُوَاطَأَةِ، وَالصَّحِيحُ قَبُولِ الشَّهَادَتَيْنِ، لِانْفِصَالِ كُلِّ شَهَادَةٍ عَنِ الْأُخْرَى، وَلَا يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ نَفْعًا، وَلِهَذَا قُلْنَا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِ الْقَافِلَةِ لِبَعْضٍ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ إِذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَخَذَ مَالِي فُلَانٌ، وَلَمْ يَقُلْ: أَخَذَ مَالَنَا. السَّبَبُ الثَّانِي: الْبَعْضِيَّةُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَصْلٍ وَلَا فَرْعٍ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاصِّ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهَا تُقْبَلُ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَلَا تُقْبَلُ لِمُكَاتَبِ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ، وَمَا دُونَهُمَا. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا قَذَفَ ضُرَّةَ أُمِّهِمَا أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ خَالَعَهَا، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا قَوْلَانِ، الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: الْقَبُولُ. وَلَوِ ادَّعَتِ الطَّلَاقَ، فَشَهِدَ لَهَا ابْنَاهَا، لَمْ يُقْبَلْ، وَلَوْ شَهِدَا حِسْبَةً ابْتِدَاءً، قُبِلَتْ، وَكَذَا فِي الرَّضَاعِ، وَلَوْ شَهِدَ الْأَبُ مَعَ ثَلَاثَةٍ عَلَى زَوْجَةِ ابْنِهِ بِالزِّنَى، فَإِنْ سَبَقَ مِنْ الِابْنِ قَذْفٌ، فَطُولِبَ بِالْحَدِّ، فَحَاوَلَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ لِدَفْعِهِ، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ أَوْ لَمْ يُطَالِبْ بِالْحَدِّ، وَشَهِدَ الْأَبُ حِسْبَةً، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. فَرْعٌ فِي يَدِ زَيْدٍ عَبْدٌ ادَّعَى شَخْصٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ عَمْرٍو (بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ عَمْرٌو) مِنْ زَيْدٍ صَاحِبِ الْيَدِ وَقَبَضَهُ، وَطَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَشَهِدَ ابْنَاهُ لِلْمُدَّعِي بِمَا يَقُولُهُ، فَقَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ، أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهَا إِثْبَاتَ الْمِلْكِ لِأَبِيهِمَا، وَأَظْهَرُهُمَا الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحَالِ الْمُدَّعِي وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ. فَرْعٌ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ، وَعَكْسُهُ، سَوَاءٌ شَهِدَ بِمَالٍ أَوْ

عُقُوبَةٍ، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْوَالِدِ بِقِصَاصٍ أَوْ حَدِّ قَذْفٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ شَهِدَ لِوَلَدٍ، أَوْ وَالِدٍ وَأَجْنَبِيٍّ، قُبِلَتْ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الْأَصَحِّ أَوِ الْأَظْهَرِ. فَرْعٌ فِي حَبْسِ الْوَالِدَيْنِ بِدَيْنِ الْوَلَدِ أَوْجُهٌ، الْأَصَحُّ الْمَنْعُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَإِلَيْهِ صَارَ مُعْظَمُ أَئِمَّتِنَا، وَالثَّالِثُ: يُحْبَسُ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ، وَلَا يُحْبَسُ فِي دُيُونِهِ، حَكَاهُ الْإِمَامُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَاصِّ، وَقَدْ سَبَقَ الْوَجْهَانِ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ. فَرْعٌ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ قَطْعًا، وَفِي قَوْلٍ: لَا، وَفِي قَوْلِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ لَهَا دُونَ عَكْسِهِ. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهَا بِزِنًى؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى خِيَانَتِهَا فِرَاشَهُ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْعَدَاوَةُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ أَنْ تَبْلُغَ حَدًّا يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ، وَيَفْرَحُ لِمُصِيبَتِهِ، وَيَحْزَنُ لِمَسَرَّتِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدُهُمَا، فَيُخَصُّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى الْآخَرِ. وَإِنْ أَفْضَتِ الشَّهَادَةُ إِلَى ارْتِكَابِ مَا يُفَسَّقُ بِهِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَلَوْ عَادَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَبَالَغَ فِي خُصُومَتِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، وَسَكَتَ عَنْهُ، ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّا لَوْ لَمْ نَقْبَلْهَا لَاتَّخَذَ الْخُصُومُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِسْقَاطِ الشَّهَادَةِ. هَكَذَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ، وَذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَقْذُوفِ عَلَى قَاذِفِهِ قَبْلَ طَلَبِ

الْحَدِّ مَقْبُولَةٌ، وَبَعْدَهُ لَا تُقْبَلُ، لِظُهُورِ الْعَدَاوَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ بَعْدَ الطَّلَبِ، ثُمَّ عَفَا وَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، لَمْ تُقْبَلْ كَالْفَاسِقِ إِذَا شَهِدَ، ثُمَّ تَابَ وَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، وَأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ قَبْلَ الطَّلَبِ، ثُمَّ طَلَبَ قَبْلَ الْحُكْمِ، لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِ، كَمَا لَوْ فُسِّقَ الشَّاهِدُ قَبْلَ الْحُكْمِ، لَكِنْ فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَوَّرَ الْعَدَاوَةَ الْمُوجِبَةَ لِلرَّدِّ فِيمَا إِذَا قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا، أَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ مَالَهُ، فَيُقَالُ: يَصِيرَانِ عَدُوَّيْنِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَاكْتَفَى بِالْقَذْفِ دَلِيلًا عَلَى الْعَدَاوَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِطَلَبِ الْحَدِّ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَعَلَّ الْقَفَّالَ أَرَادَ غَيْرَ صُورَةِ الْقَذْفِ، ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ الْحُكْمُ غَيْرُ مَنُوطٍ بِأَنْ يَطْلُبَ الْمَقْذُوفُ الْحَدَّ، بَلْ بِأَنْ يُظْهِرَ الْعَدَاوَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ، فَقَذَفَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ. فَرْعٌ الْعَدَاوَاتُ الدِّينِيَّةُ لَا تُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ، بَلْ يُقْبَلُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ وَالسُّنِّيِّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ، وَكَذَا مَنْ أَبْغَضَ الْفَاسِقَ لِفِسْقِهِ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ عَالَمٌ نَاقِدٌ: لَا تَسْمَعُوا الْحَدِيثَ مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ مُخَلِّطٌ، أَوْ لَا تَسْتَفْتُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْفَتْوَى، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا نَصِيحَةٌ لِلنَّاسِ، نَصَّ عَلَيْهِ. فَرْعٌ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ إِذْ لَا تُهْمَةَ. فَرْعٌ الْعَصَبِيَّةُ أَنْ يُبْغِضَ الرَّجُلَ لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا

دُعَاءُ النَّاسِ، وَتَآلُفُهُمْ لِلْإِضْرَارِ بِهِ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِ، اقْتَضَى رَدَّ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ، وَمُجَرَّدُ هَذَا لَا يَقْتَضِيهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ وَعِتْرَتَهُ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ، وَشَهَادَتُهُمْ لَهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِصَدِيقِهِ وَأَخِيهِ وَإِنْ كَانَ يَصِلُهُ وَيَبَرُّهُ. فَرْعٌ فِي شَهَادَةِ الْمُبْتَدَعِ. جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، لَكِنِ اشْتَهَرَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَكْفِيرُ الَّذِينَ يَنْفُونَ عِلْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْمَعْدُومِ، وَيَقُولُونَ: مَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ حَتَّى يَخْلُقَهَا، وَنَقَلَ الْعِرَاقِيُّونَ عَنْهُ تَكْفِيرَ النَّاهِينَ لِلرُّؤْيَةِ وَالْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَتَأَوَّلَهُ الْإِمَامُ، فَقَالَ: ظَنِّي أَنَّهُ نَاظَرَ بَعْضَهُمْ، فَأَلْزَمَهُ الْكُفْرَ فِي الْحِجَاجِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَفَّرَهُمْ. قُلْتُ: أَمَّا تَكْفِيرُ مُنْكِرِي الْعِلْمِ بِالْمَعْدُومِ أَوْ بِالْجُزْئِيَّاتِ، فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَأَمَّا مَنْ نَفَى الرُّؤْيَةَ أَوْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَالْمُخْتَارُ تَأْوِيلُهُ، وَسَنَنْقُلُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ نَصِّهِ فِي الْأُمِّ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ حَسَنٌ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَآخَرُونَ تَأْوِيلَاتٍ مُتَعَارِضَةً، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْمِلَّةِ، وَتَحَتُّمَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ. وَهَكَذَا تَأَوَّلُوا مَا جَاءَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يُلْحِقُوهُمْ بِالْكُفَّارِ فِي الْإِرْثِ وَالْأَنْكِحَةِ، وَوُجُوبِ قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ مَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُكَفِّرُهُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْأُمِّ» وَ «الْمُخْتَصَرِ» عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ وَهُمْ قَوْمٌ يَرَوْنَ جَوَازَ

شَهَادَةِ أَحَدِهِمْ لِصَاحِبِهِ إِذَا سَمِعَهُ يَقُولُ: لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا، فَيُصَدِّقُهُ بِيَمِينٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَيَشْهَدُ لَهُ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ هَذَا نَصُّهُ. وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ ثَلَاثُ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ جَرَتْ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ، وَقُبِلَتْ شَهَادَةُ جَمِيعِهِمْ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْقَاصِّ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْقُضَاةُ ابْنُ كَجٍّ، وَأَبُو الطَّيِّبِ، وَالرُّويَانِيُّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُمْ مُصِيبُونَ فِي زَعْمِهِمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ مَا يُسْقِطُ الثِّقَةَ بِقَوْلِهِمْ، وَقَبِلَ هَؤُلَاءِ شَهَادَةَ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ وَالسَّلَفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ عَنِ اعْتِقَادٍ لَا عَنْ عَدَاوَةٍ وَعِنَادٍ، قَالُوا: وَلَوْ شَهِدَ خَطَّابِيٌ وَذَكَرَ فِي شَهَادَتِهِ مَا يَقْطَعُ احْتِمَالَ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ الْمُدَّعِي بِأَنْ قَالَ: سَمِعْتُ فُلَانًا يُقِرُّ بِكَذَا لِفُلَانٍ، أَوْ رَأَيْتُهُ أَقْرَضَهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وَفُرْقَةٌ مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ حَمَلُوا النَّصَّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ فِي الْفُرُوعِ، وَرَدُّوا شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ كُلِّهِمْ، وَقَالُوا: هُمْ بِالرَّدِّ أَوْلَى مِنَ الْفَسَقَةِ. وَفِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ تَوَسَّطُوا، فَرَدُّوا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مَنْ أَنْكَرَ إِمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ، وَمِنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَرَدَّ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ شَهَادَةَ الَّذِينَ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ، وَيَقْذِفُونَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَإِنَّهَا مُحْصَنَةٌ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَعَلَى هَذَا جَرَى الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَفِي «الرَّقْمِ» أَنَّ شَهَادَةَ الْخَوَارِجِ مَرْدُودَةٌ لِتَكْفِيرِهِمْ أَهْلَ الْقِبْلَةِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ مَا قَالَتْهُ الْفِرْقَةُ الْأُولَى وَهُوَ قَبُولُ شَهَادَةِ الْجَمِيعِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْأُمِّ» : ذَهَبَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ إِلَى أُمُورٍ تَبَايَنُوا فِيهَا تَبَايُنًا شَدِيدًا، وَاسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ

مِنْ بَعْضِ مَا تَطُولُ حِكَايَتُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مُتَقَادِمًا، مِنْهُ مَا كَانَ فِي عَهْدِ السَّلَفِ إِلَى الْيَوْمَ، فَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ يُقْتَدَى بِهِ، وَلَا مِنْ بَعْدِهِمْ (مِنَ) التَّابِعِينَ رَدَّ شَهَادَةَ أَحَدٍ بِتَأْوِيلٍ، وَإِنْ خَطَّأَهُ وَضَلَّلَهُ، وَرَآهُ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، فَلَا تُرَدُّ شَهَادَةُ أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنَ التَّأْوِيلِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ يَحْتَمِلُهُ، وَإِنْ بَلَغَ فِيهِ اسْتِحْلَالَ الْمَالِ وَالدَّمِ. هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَبَيَانُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ تَكْفِيرِ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ قَاذِفَ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) كَافِرٌ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَلَنَا وَجْهٌ (أَنَّ) الْخَطَّابِيَّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ بَيَّنَ مَا يَقْطَعُ، لِاحْتِمَالِ اعْتِمَادِهِ، وَقَوْلِ صَاحِبِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: الْغَفْلَةُ، وَكَثْرَةُ الْغَلَطِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُغَفَّلِ الَّذِي لَا يَحْفَظُ، وَلَا يَضْبِطُ، فَإِنْ شَهِدَ مُفَسِّرًا، وَبَيَّنَ وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَمَكَانَهُ، فَزَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْ شَهَادَتِهِ، قُبِلَتْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ كَثُرَ غَلَطُهُ وَنِسْيَانُهُ، وَأَمَّا الْغَلَطُ الْيَسِيرُ، فَلَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ قَالَ الْإِمَامُ: وَمُعْظَمُ شَهَادَاتِ الْعَوَامِّ يَشُوبُهَا جَهْلٌ وَغِرَّةٌ، فَيَحُوجُ إِلَى الِاسْتِفْصَالِ كَمَا سَبَقَ فِي آدَابِ الْقَضَاءِ. السَّبَبُ الْخَامِسُ: أَنْ يَدْفَعَ بِالشَّهَادَةِ عَنْ نَفْسِهِ عَارَ الْكَذِبِ، فَإِنْ شَهِدَ فَاسِقٌ، وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ، ثُمَّ تَابَ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ، فَشَهَادَتُهُ الْمُسْتَأْنَفَةُ مَقْبُولَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ أَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ الَّتِي رُدَّتْ، لَمْ تُقْبَلْ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: تُقْبَلُ. وَلَوْ شَهِدَ كَافِرٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ كَمُلَ فَأَعَادَهَا، قُبِلَتْ، لِعَدَمِ تُهْمَتِهِمْ بِدَفْعِ الْعَارِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ، فَإِنْ كَانَ يُخْفِي فِسْقَهُ، وَالرَّدُّ يُظْهِرُهُ، فَيَسْعَى فِي دَفْعِ الْعَارِ بِإِعَادَةِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ كَانَ مُعْلَنًا بِفِسْقِهِ حِينَ شَهِدَ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ

الْمُعَادَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يُقْبَلُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الْوَجْهَانِ إِذَا أَصْغَى الْقَاضِي إِلَى شَهَادَتِهِ مَعَ ظُهُورِ فِسْقِهِ، ثُمَّ رَدَّهَا. وَفِي الْإِصْغَاءِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا - وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْإِمَامُ -: لَا يُصْغِي، كَشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ. وَلَوْ كَانَ الْكَافِرُ يَسْتَتِرُ بِكُفْرِهِ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَعَادَهَا، لَمْ تُقْبَلْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِعَدَاوَةٍ، فَزَالَتْ، وَأَعَادَهَا، لَمْ تُقْبَلْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ شَهِدَ لِمُكَاتَبِهِ بِمَالٍ، أَوْ لِعَبْدِهِ بِنِكَاحٍ، فَرُدَّتْ فَأَعَادَهَا بَعْدَ عِتْقِهِمَا، وَأَجَابَ ابْنُ الْقَاصِّ هُنَا بِالْقَبُولِ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنَ الشُّفَعَاءِ بِعَفْوِ شَفِيعٍ ثَالِثٍ قَبْلَ عَفْوِهِمَا، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا، ثُمَّ عَفَوَا، وَأَعَادَاهَا، وَفِيمَا شَهِدَ اثْنَانِ لِمُورِّثِهِمَا بِجِرَاحَةٍ غَيْرِ مُنْدَمِلَةٍ، فَرُدَّتْ، ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الِانْدِمَالِ، وَلَوْ شَهِدَ فَرْعَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِفِسْقِ الْأَصْلِ، فَقَدْ صَارَتْ شَهَادَةً مَرْدُودَةً. فَلَوْ تَابَ، وَشَهِدَ بِنَفْسِهِ، وَأَعَادَ الْفَرْعَانِ شَهَادَتَهُمَا عَلَى شَهَادَتِهِ، أَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ فَرْعَانِ آخَرَانِ، لَمْ تُقْبَلْ، وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَةُ الْفَرْعَيْنِ، لِفِسْقِهِمَا، لَمْ تَتَأَثَّرْ بِهِ شَهَادَةُ الْأَصْلِ. السَّبَبُ السَّادِسُ: الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمُبَادَرَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا تَجُوزُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَضَرْبٌ يَجُوزُ، وَتُسَمَّى الشَّهَادَةُ عَلَى هَذَا الثَّانِي عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَرَةِ شَهَادَةَ حِسْبَةٍ، فَحَيْثُ لَا يَجُوزُ، فَالْمُبَادِرُ مُتَّهَمٌ، فَلَا تُقْبِلُ شَهَادَتَهُ، وَالْمُبَادَرَةُ أَنْ يَشْهَدَ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، فَإِنْ شَهِدَ بَعْدَ دَعْوَى قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ لِلتُّهْمَةِ، وَإِذَا رَدَدْنَاهَا، فَفِي مَصِيرِهِ مَجْرُوحًا وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ لَا، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو عَاصِمٍ، وَظَاهِرُ هَذَا كَوْنُ الْخِلَافِ فِي سُقُوطِ عَدَالَتِهِ مُطْلَقًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا سَعْدٍ الْهَرَوِيَّ، قَالَ: الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُبَادَرَةَ مِنَ الصَّغَائِرِ، أَمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ

يُفْهِمُ كَلَامُهُ اخْتِصَاصَ الْخِلَافِ بِرَدِّ تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَحْدَهَا إِذَا أَعَادَهَا، فَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَإِذَا قُلْنَا: يَصِيرُ مَجْرُوحًا لَا يُشْتَرَطُ اسْتِبْرَاءُ حَالِهِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ أُخْرَى تُقْبَلُ، فَأَشْعَرَ كَلَامُهُ بِاخْتِصَارِ الْخِلَافِ. فَرْعٌ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنِ احْتَبَى وَجَلَسَ فِي زَاوِيَةٍ مُحْتَبِيًا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَلَا تُحْمَلُ عَلَى الْحِرْصِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَحَكَى الْفُورَانِيُّ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ، وَهُوَ شَاذٌّ، قَالَ: وَعَلَى الْمَشْهُورِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْبِرَ الْخَصْمُ أَنِّي شَهِدْتُ عَلَيْكَ لِئَلَّا يُبَادِرَ إِلَى تَكْذِيبِهِ، فَيُعَزِّرَهُ الْقَاضِي. وَلَوْ قَالَ رَجُلَانِ لِثَالِثٍ: تَوَسَّطْ بَيْنَنَا لِنَتَحَاسَبَ وَنَتَصَادَقَ، فَلَا تَشْهَدْ عَلَيْنَا بِمَا يَجْرِي، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ، وَهُوَ مَا تَمَحَّضَ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى -، أَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لَا يَتَأَثَّرُ بِرِضَى الْآدَمِيِّ، فَمِنْهُ الطَّلَاقُ، وَأَمَّا الْخُلْعُ، فَأَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ الْمَنْعَ فِيهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: يُقْبَلُ فِي الْفُرَاقِ دُونَ الْمَالِ، قَالَ: وَلَا أُبْعِدُ ثُبُوتَهُ تَبَعًا، وَلَا إِثْبَاتَ الْفِرَاقِ دُونَ الْبَيْنُونَةِ، وَمِنْهُ الْعِتْقُ وَالِاسْتِيلَادُ دُونَ التَّدْبِيرِ، وَيُقْبَلُ فِي الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّى النَّجْمَ الْأَخِيرَ، شَهِدَ بِالْعِتْقِ. وَفِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْمِلْكِ. وَمِنْهُ الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ، وَالصَّحِيحُ قَبُولُهَا فِيهِ، وَمِنْهُ الْوَصِيَّةُ وَالْوَقْفُ إِذَا كَانَا لِجِهَةٍ عَامَّةٍ، فَإِنْ كَانَ لِجِهَةٍ خَاصَّةٍ، فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنِ الْجُمْهُورِ لِتَعَلُّقِهِ بِحُظُوظٍ خَاصَّةٍ، وَمِنْهُ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ وَفِي النَّسَبِ وَجْهٌ، وَمِنْهُ بَقَاءُ الْعِدَّةِ وَانْقِضَاؤُهَا، وَتَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَذَا الزَّكَوَاتُ وَالْكَفَّارَاتُ،

وَالْبُلُوغُ وَالْإِسْلَامُ، وَالْكُفْرُ وَالْحُدُودُ الَّتِي هِيَ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَى، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَكَذَا السَّرِقَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ فِي الْحُدُودِ السَّتْرُ. وَمِنْهُ الْإِحْصَانُ وَالتَّعْدِيلُ. وَأَمَّا مَا هُوَ حَقٌّ آدَمِيٌّ، كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْبُيُوعِ، وَالْأَقَارِيرِ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبُ الْحَقِّ بِالْحَقِّ، أَخْبَرَهُ الشَّاهِدُ حَتَّى يَدَّعِيَ وَيَسْتَشْهِدَهُ فَلْيَشْهَدْ، وَقِيلَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي الدِّمَاءِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: تُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ أَيْضًا، وَقِيلَ: تُقْبَلُ إِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَحِقُّ بِالْحَقِّ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا. فَرْعٌ مَا قُبِلَتْ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ هَلْ يُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَى الْحِسْبَةِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْقَفَّالُ فِي الْفَتَاوَى؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ غَنِيَّةٌ عَنِ الدَّعْوَى. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: تُسْمَعُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ لَا تُسَاعِدُ، وَقَدْ يُرَادُ اسْتِخْرَاجُ الْحَقِّ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَرْعٌ شُهُودُ الْحِسْبَةِ يَجِيئُونَ إِلَى الْقَاضِي، وَيَقُولُونَ: نَشْهَدُ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا، فَأَحْضِرْهُ لِنَشْهَدَ عَلَيْهِ، فَإِنِ ابْتَدَءُوا، وَقَالُوا: فُلَانٌ زَنَى فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَفِي الْفَتَاوَى: أَنَّهُ لَوْ جَاءَ رَجُلَانِ، وَشَهِدَا بِأَنَّ فُلَانًا أَخُو فُلَانَةٍ مِنَ الرَّضَاعِ، لَمْ يَكْفِ حَتَّى يَقُولَا: وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِطَلَاقٍ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ آخَرَانِ يَشْهَدَانِ بِأُخُوَّةٍ بَيْنَ الْمُتَنَاكِحِينَ، لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، إِذْ لَا فَائِدَةَ لَهَا فِي الْحَالِ، وَلَا بِكَوْنِهِمَا قَدْ يَتَنَاكَحَانِ بَعْدُ، وَأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ إِنَّمَا

فصل

تُسْمَعُ إِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَسْتَرِقُّهُ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ تُفْهِمُكَ أَنَّ شَهَادَةَ الْحِسْبَةِ إِنَّمَا تُسْمَعُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَلَوْ جَاءَ عَبْدَانِ لِرَجُلٍ، فَقَالَا: إِنَّ سَيِّدَنَا أَعْتَقَ أَحَدَنَا، وَقَامَتْ بَيِّنَةٌ بِمَا يَقُولَانِ، سُمِعَتْ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعِتْقِ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْ تَقَدَّمَ الدَّعْوَى. فَصْلٌ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ إِنْ لَمْ يَعْقِلِ الْإِشَارَةَ مَرْدُودَةٌ، وَكَذَا إِنْ عَقِلَهَا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّاهِدِ سِوَى الشُّرُوطِ السِّتَّةِ كَوْنُهُ نَاطِقًا، وَذَكَرَ الصَّيْمَرِيُّ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، زَادَ شَرْطٌ ثَامِنٌ. فَصْلٌ فِي أُمُورٍ لَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ. وَفِيهَا خِلَافٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ. مِنْهَا شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ وَعَكْسُهُ مَقْبُولَةٌ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَقْبُولَةٌ فِي جِنْسٍ مَا حُدَّ وَفِي غَيْرِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا. فَصْلٌ فِي التَّوْبَةِ. قَدْ سَبَقَ أَنَّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمَعْصِيَةٍ تُقْبَلُ إِذَا تَابَ، وَظَهَرَ إِعْرَاضُهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: التَّوْبَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى تَوْبَةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهِيَ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا الْإِثْمُ، وَإِلَى تَوْبَةٍ فِي الظَّاهِرِ، وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِهَا عَوْدُ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَاتِ، أَمَّا الْأُولَى، فَهِيَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلٍ، وَيَتْرُكَ فِعْلَهُ فِي الْحَالِ، وَيَعْزِمَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ مَالِيٌّ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلَا لِلْعِبَادِ، كَقُبْلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَمُبَاشَرَتِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى ذَلِكَ، وَإِنْ

تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ مَالِيٌّ، كَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَالْغَصْبِ، وَالْجِنَايَاتِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَجَبَ مَعَ ذَلِكَ تَبْرِئَةُ الذِّمَّةِ عَنْهُ، بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ أَمْوَالَ النَّاسِ إِنْ بَقِيَتْ، وَيَغْرَمُ بَدَلَهَا إِنْ لَمْ تَبْقَ، أَوْ يَسْتَحِلَّ الْمُسْتَحَقُّ، فَيُبَرِّئُهُ وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ الْمُسْتَحِقُّ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَأَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا إِنْ كَانَ غَصَبَهُ مِنْهُ هُنَاكَ، فَإِنْ مَاتَ، سَلَّمَهُ إِلَى وَارِثِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ، دَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ تُرْضَى سِيرَتُهُ وَدِيَانَتُهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ، تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنِيَّةِ الْغَرَامَةِ لَهُ إِنْ وَجَدَهُ، ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» وَالْغَزَالِيُّ فِي غَيْرِ كُتُبِهِ الْفِقْهِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، نَوَى الْغَرَامَةَ إِذَا قَدِرَ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، فَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمَغْفِرَةُ. قُلْتُ: ظَوَاهِرُ السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمُطَالَبَةِ بِالظُّلَامَةِ وَإِنْ مَاتَ مُعْسِرًا عَاجِزًا إِذَا كَانَ عَاصِيًا بِالْتِزَامِهَا، فَأَمَّا إِذَا اسْتَدَانَ فِي مَوَاضِعَ يُبَاحُ لَهُ الِاسْتِدَانَةُ، وَاسْتَمَرَّ عَجْزُهُ عَنِ الْوَفَاءِ حَتَّى مَاتَ، أَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا خَطَأً، وَعَجَزَ عَنْ غَرَامَتِهِ حَتَّى مَاتَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا مُطَالَبَةَ فِي حَقِّهِ فِي الْآخِرَةِ، إِذْ لَا مَعْصِيَةَ مِنْهُ، وَالْمَرْجُوُّ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُعَوِّضُ صَاحِبَ الْحَقِّ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ: وَتُبَاحُ الِاسْتِدَانَةُ لِحَاجَةٍ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَلَا سَرَفٍ إِذَا كَانَ يَرْجُو الْوَفَاءَ مِنْ جِهَةٍ، أَوْ سَبَبٍ ظَاهِرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ حَقٌّ لَيْسَ بِمَالِيٍّ، فَإِنْ كَانَ حَدًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَهُ، وَيُقِرَّ بِهِ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ، فَإِنْ ظَهَرَ، فَقَدْ فَاتَ

السَّتْرُ، فَيَأْتِي الْإِمَامَ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِلَّا إِذَا تَقَادَمَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ، وَقُلْنَا: يَسْقُطُ الْحَدُّ. وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْعِبَادِ، كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، فَيَأْتِي الْمُسْتَحِقُّ، وَيُمَكِّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَحِقُّ، وَجَبَ فِي الْقِصَاصِ أَنْ يُعْلِمَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي قَتَلْتُ أَبَاكَ، وَلَزِمَنِي الْقِصَاصُ، فَإِنْ شِئْتَ، فَاقْتَصَّ، وَإِنْ شِئْتَ فَاعْفُ. وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ سَبَقَ فِي كُتُبِ اللِّعَانِ خِلَافٌ فِي وُجُوبِ إِعْلَامِهِ، وَقَطَعَ الْعَبَّادِيُّ وَغَيْرُهُ هُنَا بِأَنَّهُ يَجِبُ إِعْلَامُهُ، كَالْقِصَاصِ. وَأَمَّا الْغِيبَةُ إِذَا لَمْ تَبْلُغِ الْمُغْتَابَ، فَرَأَيْتُ فِي فَتَاوَى الْحَنَّاطِيِّ أَنَّهُ يَكْفِيهِ النَّدَمُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَإِنْ بَلَغَتْهُ، أَوْ طَرَدَ طَارِدٌ قِيَاسَ الْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ فِيهَا، فَالطَّرِيقُ أَنْ يَأْتِيَ الْمُغْتَابَ وَيَسْتَحِلَّ مِنْهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ لِمَوْتِهِ، أَوْ تَعَسَّرَ لِغَيْبَتِهِ الْبَعِيدَةِ، اسْتَغْفَرَ اللَّهَ - تَعَالَى - وَلَا اعْتِبَارَ بِتَحْلِيلِ الْوَرَثَةِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَّاطِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْعَبَّادِيُّ: وَالْحَسَدُ كَالْغِيبَةِ وَهُوَ أَنْ يَهْوَى زَوَالَ نِعْمَةِ الْغَيْرِ، وَيُسَرُّ بِبَلِيَّتِهِ، فَيَأْتِي الْمَحْسُودَ وَيُخْبِرُهُ بِمَا أَضْمَرَهُ وَيَسْتَحِلُّهُ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ هَذِهِ الْخَصْلَةَ. وَفِي وُجُوبِ الْإِخْبَارِ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِضْمَارِ بِعِيدٌ. قُلْتُ: الْمُخْتَارُ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِخْبَارُ الْمَحْسُودِ، بَلْ لَا يُسْتَحَبُّ، وَلَوْ قِيلَ: يُكْرَهُ لَمْ يَبْعُدْ. وَهَلْ يَكْفِي الِاسْتِحْلَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ الْمَجْهُولَةِ، أَمْ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهَا لِلْعَافِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ قَصَّرَ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ وَمَظْلَمَةٍ، وَمَاتَ الْمُسْتَحِقُّ، وَاسْتَحَقَّهُ وَارِثٌ بَعْدَ وَارِثٍ، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُوَفِّهِمْ، فَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ أَرْجَحُهَا - وَبِهِ أَفْتَى الْحَنَّاطِيُّ - أَنَّهُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَوَّلًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ مَنْ وَرَثَتِهِ، أَوْ وَرَثَةِ وَرَثَتِهِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَالثَّالِثُ

ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» : أَنَّهُ يُكْتَبُ الْأَجْرُ لِكُلِّ وَارِثٍ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ لِمَنْ بَعْدَهُ، وَلَوْ دَفَعَ إِلَى بَعْضِ الْوَارِثِينَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ إِلَيْهِ، خَرَجَ عَنْ مَظْلِمَةِ الْجَمِيعِ فِيمَا سَوَّفَ وَمَطَلَ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ فِي الظَّاهِرِ، فَالْمَعَاصِي تَنْقَسِمُ إِلَى فِعْلِيَّةٍ وَقَوْلِيَّةٍ، أَمَّا الْفِعْلِيَّةُ، كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ، فَإِظْهَارُ التَّوْبَةِ مِنْهَا لَا يَكْفِي فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وُعَوْدِ الْوِلَايَةِ، بَلْ يُخْتَبَرُ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهَا أَنَّهُ قَدْ أَصْلَحَ عَمَلَهُ وَسَرِيرَتَهُ، وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِي تَوْبَتِهِ، وَفِي تَقْدِيرِ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْجُهٌ: الْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَالثَّانِي: سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَنَسَبُوهُ إِلَى النَّصِّ، وَالثَّالِثُ: لَا يَتَقَدَّرُ بِمُدَّةٍ إِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ حُصُولُ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْأَشْخَاصِ، وَأَمَارَاتِ الصِّدْقِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَالْعَبَّادِيِّ وَالْغَزَالِيِّ. وَأَمَّا الْقَوْلِيَّةُ، فَمِنْهَا الْقَذْفُ، وَيُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ مِنْهُ الْقَوْلُ، كَمَا أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الرِّدَّةِ بِكَلِمَتِيِ الشَّهَادَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّوْبَةُ مِنْهُ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ، فَأَخَذَ الْإِصْطَخْرِيُّ بِظَاهِرِهِ، وَشَرَطَ أَنْ يَقُولَ: كَذَبْتُ فِيمَا قَذَفْتُ، وَلَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُكَلَّفُ أَنْ يَقُولَ: كَذَبْتُ، فَرُبَّمَا كَانَ صَادِقًا، فَكَيْفَ نَأْمُرُهُ بِالْكَذِبِ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ: الْقَذْفُ بَاطِلٌ وَإِنِّي نَادِمٌ عَلَى مَا فَعَلْتُ، وَلَا أَعُودُ إِلَيْهِ، أَوْ يَقُولُ: مَا كُنْتُ مُحِقًّا فِي قَذْفِي، وَقَدْ تُبْتُ مِنْهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْقَذْفُ عَلَى سَبِيلِ السَّبِّ وَالْإِيذَاءِ، وَالْقَذْفُ عَلَى صُورَةِ الشَّهَادَةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ، إِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ شَهِدَ، فَإِنْ لَمْ نُوجِبْ، فَلَا حَاجَةَ بِالشَّاهِدِ إِلَى التَّوْبَةِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي هَذَا الْإِكْذَابِ كَوْنُهُ عِنْدَ الْقَاضِي. ثُمَّ إِذَا تَابَ بِالْقَوْلِ، فَهَلْ يَسْتَبْرِئُ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ إِذَا كَانَ عَدْلًا قَبْلَ الْقَذْفِ؟ يُنْظَرُ إِنْ

كَانَ الْقَذْفُ عَلَى صُورَةِ الشَّهَادَةِ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ قَذْفَ سَبٍّ وَإِيذَاءٍ، اشْتُرِطَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِرَاطَ التَّوْبَةِ بِالْقَوْلِ فِي الْقَذْفِ مُشْكِلٌ، وَإِلْحَاقَهُ بِالرِّدَّةِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ كَلِمَتِيِ الشَّهَادَةِ مُطَّرِدٌ فِي الرِّدَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، ثُمَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرُوهُ فِي الْقَذْفِ أَنْ يُشْتَرَطَ التَّوْبَةُ بِالْقَوْلِ فِي سَائِرِ الْمَعَاصِي الْقَوْلِيَّةِ، كَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» بِذَلِكَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ، فَقَالَ: التَّوْبَةُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ: كَذَبْتُ فِيمَا فَعَلْتُ وَلَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهِ. فُرُوعٌ لَوْ قَذَفَ وَأَتَى بِبَيِّنَةٍ عَلَى زِنَى الْمَقْذُوفِ، فَوَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْذِفَ، ثُمَّ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ مَجِيءَ الشُّهُودِ، وَالصَّحِيحُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ صِدْقَهُ قَدْ تَحَقَّقَ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوِ اعْتَرَفَ الْمَقْذُوفُ، وَكَذَا لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَلَاعَنَ، وَسَوَاءٌ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَكَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرُهُ حَتَّى لَوْ قَذَفَ عَبْدَ نَفْسِهِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَيَكْفِي تَحْرِيمُ الْقَذْفِ سَبَبًا لِلرَّدِّ، وَشَاهِدُ الزُّورِ يَسْتَبْرِئُ، كَسَائِرِ الْفَسَقَةِ فَإِذَا ظَهَرَ صَلَاحُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَمَنْ غَلِطَ فِي شَهَادَةٍ لَا يُشْتَرَطُ اسْتِبْرَاؤُهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ وَاقِعَةِ الْغَلَطِ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا. قُلْتُ: التَّوْبَةُ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْمُهِمَّةِ، وَقَوَاعِدِ الدِّينِ، وَأَوَّلُ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) فَالتَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صِفَتُهَا، وَتَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ وَإِنْ كَانَ مُلَابِسًا ذَنْبًا آخَرَ مُصِرًّا عَلَيْهِ، وَلَوْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ، ثُمَّ فَعَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى، لَمْ تَبْطُلِ التَّوْبَةُ، بَلْ هُوَ مُطَالَبٌ بِالذَّنْبِ

الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَلَوْ تَكَرَّرَتِ التَّوْبَةُ، وَمُعَاوَدَةُ الذَّنْبِ، صَحَّتْ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَقِّ فِي الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» : وَالْقَتْلُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْقَاتِلِ نَفْسَهُ لِيُقْتَصَّ مِنْهُ، فَإِذَا نَدِمَ، صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَكَانَ مَنْعُهُ الْقِصَاصَ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ مَعْصِيَةً مُجَدَّدَةً، وَلَا يَقْدَحُ فِي التَّوْبَةِ، بَلْ يَقْتَضِي تَوْبَةً مِنْهَا. وَمَنْ تَابَ عَنْ مَعْصِيَةٍ ثُمَّ ذَكَرَهَا قَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجِبُ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ النَّدَمِ عَلَيْهَا كُلَّمَا ذَكَرَهَا إِذْ لَوْ لَمْ يَنْدَمْ، لَكَانَ مُسْتَهِينًا بِهَا، وَذَلِكَ يُنَافِي النَّدَمَ. وَاخْتَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ ذَكَرَهَا بِلَا نَدَمٍ الِاسْتِهَانَةُ، بَلْ قَدْ يَذْكُرُ، وَيَعْرِضُ عَنْهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا لَمْ يُجَدِّدِ التَّوْبَةَ كَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً جَدِيدَةً، وَالتَّوْبَةُ الْأُولَى صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْمَاضِيَةَ لَا يَنْقُضُهَا شَيْءٌ بَعْدَ فَرَاغِهَا، قَالَ: فَيَجِبُ تَجْدِيدُ تَوْبَةٍ عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَتَجِبُ تَوْبَةُ مَنْ تَرَكَ التَّوْبَةَ إِذَا حَكَمْنَا بِوُجُوبِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ، فَلَيْسَ إِسْلَامُهُ تَوْبَةً عَنْ كُفْرِهِ، وَإِنَّمَا تَوْبَتُهُ نَدَمُهُ عَلَى كُفْرِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُؤْمِنَ وَلَا يَنْدَمَ عَلَى كُفْرِهِ، بَلْ تَجِبُ مُقَارَنَةُ الْإِيمَانِ لِلنَّدَمِ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ وِزْرُ الْكُفْرِ يَسْقُطُ بِالْإِيمَانِ، وَالنَّدَمُ عَلَى الْكُفْرِ بِالْإِجْمَاعِ، هَذَا مَقْطُوعٌ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ ضُرُوبِ التَّوْبَةِ، فَقَبُولُهُ مَظْنُونٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ وَتَابَ عَنْ كُفْرِهِ، صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، وَإِنِ اسْتَدَامَ مَعَاصِيَ أُخَرَ، هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَنَّ الْقَبُولَ مَظْنُونٌ هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَصْحَابِنَا: هُوَ مَقْطُوعٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل

فَصْلٌ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُمَا كَانَا عَبْدَيْنِ، أَوْ كَافِرَيْنِ، أَوْ صَبِيَّيْنِ، أَوِ امْرَأَتَيْنِ، نَقَضَ حُكْمَهُ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ، فَوَجَدَ النَّصَّ خِلَافَهُ، وَلَوْ بَانَ ذَلِكَ لِقَاضٍ آخَرَ نَقَضَهُ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شَهَادَةِ الْعَبْدِ، فَكَيْفَ نُقِضَ (الْحُكْمُ) فِي مَحَلِّ الِاخْتِلَافِ وَالِاجْتِهَادِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الصُّورَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ لَا يَعْتَقِدُ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَحَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ ظَنَّهُمَا حُرَّيْنِ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ نَاقِصٌ فِي الْوِلَايَاتِ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، فَكَذَا الشَّهَادَةُ. وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ حَكَمَ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، نُقِضَ حُكْمُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ: قَطْعًا. وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ، ثُمَّ فُسِّقَا قَبْلَ أَنْ نَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ نَحْكُمْ بِهَا قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ يَخْفَى غَالِبًا، فَرُبَّمَا كَانَا فَاسِقَيْنِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ. وَلَوِ ارْتَدَّا قَبْلَ الْحُكْمِ، لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهَا تُوقِعُ رِيبَةً، وَقِيلَ: لَا يُؤَثِّرُ حُدُوثُهَا بَعْدَ شَهَادَتِهِمَا. وَقَالَ الدَّارِكِيُّ: إِنِ ارْتَدَّ إِلَى كُفْرٍ يَسْتَسِرُّ أَهْلُهُ بِهِ، فَكَالْفِسْقِ، وَإِلَّا فَلَا يُؤَثِّرُ. وَلَوْ شَهِدَا فِي حَدٍّ أَوْ مَالٍ، ثُمَّ مَاتَا أَوْ جُنَّا أَوْ عَمِيَا، أَوْ خَرِسَا، لَمْ يَمْنَعْ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا، لِأَنَّهَا لَا تُوهِمُ رِيبَةً فِيمَا مَضَى. وَيَجُوزُ وُقُوعُ التَّعْدِيلِ بَعْدَ حُدُوثِهَا. وَلَوْ فَسَقَ الشَّاهِدَانِ، أَوِ ارْتَدَّا بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا، وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، فَهُوَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَالِ، بَلْ يُسْتَوْفَى. فَرْعٌ قَالَ الْقَاضِي بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ: قَدْ بَانَ لِي أَنَّهُمَا كَانَا

فَاسِقَيْنِ، وَلَمْ تَظْهَرْ بَيِّنَةٌ بِفِسْقِهِمَا، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : إِذَا لَمْ يُتَّهَمْ فِي قَضَائِهِ بِعِلْمِهِ مُكِّنَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَكْرَهَنِي السُّلْطَانُ عَلَى الْحُكْمِ بِقَوْلِهِمَا، وَكُنْتُ أَعْرِفُ فِسْقَهُمَا، قُبِلَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةِ الْإِكْرَاهِ، وَلَوْ بَانَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ كَانَا وَالِدَيْنِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، أَوْ وَلَدَيْنِ، أَوْ عَدُوَّيْنِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، نُقِضَ الْحُكْمُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةِ قَوْلُ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَكْفِي الْحُكْمُ بِهِ إِلَّا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَإِنْ قُلْنَا عَلَى وَجْهٍ: إِنَّ الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ، فَلَيْسَ فِيهِ اكْتِفَاءٌ بِشَاهِدٍ، بَلْ يُشْتَرَطُ مَعَهُ الْيَمِينُ. ثُمَّ الشَّهَادَاتُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ، الْأَوَّلُ: الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَى، فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ، وَتَثْبُتُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى بِرَجُلَيْنِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ، وَلَا يَثْبُتُ اللِّوَاطُ وَإِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيَثْبُتُ الْقَذْفُ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَنَقَلَ أَبُو عَاصِمٍ قَوْلًا قَرِيبًا فِي اشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ. فَرْعٌ سَبَقَ فِي السَّرِقَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى أَنْ يَذْكُرُوا الَّتِي زَنَى بِهَا، وَأَنْ يَذْكُرُوا الزِّنَى مُفَسَّرًا، فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَا أَدْخَلَ ذَكَرَهُ، أَوْ قَدْرَ الْحَشَفَةِ مِنْهُ فِي فَرْجِ فُلَانَةٍ عَلَى سَبِيلِ الزِّنَى. وَلَا يَكْفِي إِطْلَاقُهُ الزِّنَى، فَقَدْ يَظُنُّونَ الْمُفَاخَذَةَ زِنًى، وَقَدْ تَكُونُ الْمَوْطُوءَةُ جَارِيَةَ ابْنِهِ، أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ مَا لَوِ ادَّعَتْ وَطْءَ شُبْهَةٍ، وَطَلَبَتِ الْمَهْرَ، فَإِنَّهُ يَكْفِي الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَطْءِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَوْلُهُمْ: رَأَيْنَا ذَلِكَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الْمَالُ، فَلَمْ يَلْزَمْ هَذَا الِاحْتِيَاطُ، وَقَدْ

وَقَعَ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّاهِدَ يَقُولُ: رَأَيْنَا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ زِيَادَةُ بَيَانٍ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ. فَرْعٌ هَلْ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الْفَرْجِ لِتَحَمُّلِ شَهَادَةِ الزِّنَى أَوْ وِلَادَةٍ، أَوْ عَيْبٍ بَاطِنٍ أَمْ لَا، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ النَّظَرِ (إِلَيْهِ) اتِّفَاقًا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ سَبَقَتْ فِي أَوَّلِ النِّكَاحِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ الْجَوَازُ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَالثَّالِثُ: الْمَنْعُ فِي الزِّنَى دُونَ غَيْرِهِ، وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ مَالٌ، فَإِنْ كَانَ عُقُوبَةً، لَمْ تَثْبُتْ إِلَّا بِرَجُلَيْنِ سَوَاءٌ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَحَدِّ الشُّرْبِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَتْلِ الرِّدَّةِ، وَحَقُّ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، أَوِ الطَّرَفِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ. وَالتَّعْزِيرُ كَالْحَدِّ، وَلَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عُقُوبَةٍ، فَهُوَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا رَجُلَانِ، وَذَلِكَ كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ، وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ، وَالْبُلُوغِ وَالْإِيلَاءِ، وَالظِّهَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَالْمَوْتِ، وَالْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ، وَالْوَلَاءِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَجَرْحِ الشُّهُودِ وَتَعْدِيلِهِمْ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْإِحْصَانِ، وَالْكَفَالَةِ وَالشَّهَادَةِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ غَيْرِ رَمَضَانَ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ إِنِ اشْتَرَطْنَا فِيهِمَا الشَّهَادَةَ، وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَكَذَا الْكِتَابَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: تَثْبُتُ الْكِتَابَةُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَمِنْهُ الْوَكَالَةُ وَالْوِصَايَةُ وَإِنْ كَانَتَا مِنَ الْمَالِ، لِأَنَّهُمَا وِلَايَةٌ وَسَلْطَنَةٌ. وَمِنْهُ الْقِرَاضُ، وَكَذَا الشَّرِكَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: تَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. النَّوْعٍ الثَّانِي: مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَتَخْتَصُّ النِّسَاءُ بِمَعْرِفَتِهِ غَالِبًا، فَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ، وَذَلِكَ كَالْوِلَادَةِ، وَالْبَكَارَةِ، وَالثِّيَابَةِ، وَالرَّتْقِ، وَالْقَرْنِ، وَالْحَيْضِ، وَالرَّضَاعِ،

وَعَيْبِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَرَصٍ وَغَيْرِهِ تَحْتَ الْإِزَارِ، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، وَكَذَا اسْتِهْلَالُ الْوَلَدِ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَكُلُّ هَذَا النَّوْعِ لَا يَقْبَلُ فِيهِ إِلَّا أَرْبَعَ نِسْوَةٍ أَوْ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالْعَيْبُ فِي وَجْهِ الْحُرَّةِ وَكَفَّيْهَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِرَجُلَيْنِ، وَفِي وَجْهِ الْأَمَةِ وَمَا يَبْدُو مِنْهَا فِي الْمِهْنَةِ يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَالُ. قَالَ: وَالْجِرَاحَةُ عَلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ لَا يُلْحَقُ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ غَالِبًا، هَكَذَا قَالَهُ، لَكِنْ جِنْسُ الْعَيْبِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا، لَكِنْ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى الْعَيْبِ الْخَاصِّ، وَكَذَا هَذِهِ الْجِرَاحَةُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ إِلْحَاقُ الْجِرَاحَةِ عَلَى فَرْجِهَا بِالْعُيُوبِ تَحْتَ الثِّيَابِ، وَعَجَبٌ مِنَ الْبَغَوِيِّ كَوْنُهُ ذَكَرَ خِلَافَ هَذَا، وَتَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا هُوَ مَالٌ أَوِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَالٌ، كَالْأَعْيَانِ وَالدُّيُونِ، وَالْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ، فَيَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ وَبِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ بِنِسْوَةٍ مُنْفَرِدَاتٍ، فَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ الْبَيْعُ وَالْإِقَالَةُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَالْحِوَالَةُ، وَالضَّمَانُ، وَالصُّلْحُ، وَالْقَرْضُ وَالشُّفْعَةُ وَالْمُسَابَقَةُ، وَخُيُولُ الْمُسَابَقَةِ، وَالْغَصْبُ، وَالْإِيلَاءُ، وَالْوَصِيَّةُ بِمَالٍ، وَالْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ، وَوَطْءُ الشُّبْهَةِ، وَالْجِنَايَاتُ الَّتِي لَا تُوجِبُ إِلَّا الْمَالَ، كَقَتْلِ الْخَطَأِ وَقَتْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَقَتْلِ الْحُرِّ الْعَبْدَ، وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ، وَالْوَالِدِ الْوَلَدَ، وَالسَّرِقَةِ الَّتِي لَا قَطْعَ فِيهَا، وَكَذَا حُقُوقُ الْأَمْوَالِ، وَالْعُقُودُ كَالْخِيَارِ، وَشَرْطُ الرَّهْنِ وَالْأَجْلِ (وَ) فِي الْأَجَلِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّهُ ضَرْبُ سَلْطَنَةٍ، وَمِنْهُ قَبْضُ الْأَمْوَالِ، مِنْهَا نُجُومُ الْكِتَابَةِ، وَفِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ رَجُلَانِ، لِتَعَلُّقِ الْعِتْقِ بِهِ، وَمِنْهُ الرَّهْنُ وَالْإِبْرَاءُ عَلَى الصَّحِيحِ

فِيهِمَا، وَمِنْهُ طَاعَةُ الزَّوْجَةِ لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ، وَقَتْلُ الْكَافِرِ لِاسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ، وَإِدْمَانُ الصَّيْدِ لِتَمَلُّكِهِ، وَعَجْزُ الْمُكَاتَبِ عَنِ النُّجُومِ، وَمِنْهُ الْوَقْفُ، وَفِي ثُبُوتِهِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَابِ الرَّابِعِ فِي ثُبُوتِهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَلَوْ مَاتَ سَيِّدُ الْمُدَبَّرِ، فَادَّعَى الْوَارِثُ أَنَّهُ كَانَ رَجَعَ عَنِ التَّدْبِيرِ، وَقُلْنَا: يَجُوزُ الرُّجُوعُ، ثَبَتَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَلَوِ ادَّعَى رِقَّ شَخْصٍ، أَوِ ادَّعَى جَارِيَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ، ثَبَتَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَوْ تَوَافَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَقَالَ الزَّوْجُ: طَلَّقْتُكِ عَلَى كَذَا، وَقَالَتْ: بَلْ مَجَّانًا، ثَبَتَتْ دَعْوَاهُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُكَ بِكَذَا، فَقَالَ: مَجَّانًا. وَلَوْ تَوَافَقَا عَلَى النِّكَاحِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَهْرِ أَوْ صِفَتِهِ، أَوْ عَلَى الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ، أَوْ صِفَتِهِ، ثَبَتَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ تَوَافَقَ السَّيِّدُ وَالْعَبْدُ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ النُّجُومِ أَوْ صِفَتِهَا، وَالْإِقْرَارُ بِكُلِّ مَا يَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَفَسْخُ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَفَسْخُ الطَّلَاقِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِرَجُلَيْنِ. فَرْعٌ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ كَالْمَرْأَةِ فِي الشَّهَادَةِ. فَرْعٌ لَوْ شَهِدَ بِالسَّرِقَةِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ثَبَتَ الْمَالُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْقَطْعُ، وَحُكِيَ قَوْلٌ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِقَتْلِ الْعَمْدِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ الدِّيَةَ كَمَا لَا يُثْبِتُ الْقِصَاصَ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى صَدَاقٍ فِي نِكَاحٍ، ثَبَتَ الصَّدَاقُ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ، أَوْ عِتْقَ عَبْدِهِ عَلَى الْوِلَادَةِ، فَشَهِدَ بِالْوِلَادَةِ أَرْبَعُ

فصل

نِسْوَةٍ ثَبَتَتِ الْوِلَادَةِ دُونَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَكَذَا لَوْ عَلَّقَهُمَا عَلَى الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ، فَشَهِدَ بِهِمَا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ثَبَتَ الْغَصْبُ وَالْإِتْلَافُ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّا إِذَا أَثْبَتْنَا هِلَالَ رَمَضَانَ بِعَدْلٍ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقَيْنِ بِرَمَضَانَ، وَلَا بِحُلُولِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ بِهِ، هَذَا إِذَا تَقَدَّمَ التَّعْلِيقُ، فَلَوْ ثَبَتَ الْغَصْبُ أَوَّلًا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ، ثُمَّ جَرَى التَّعْلِيقُ، فَقَالَ لَهَا: إِنْ كُنْتِ غُصِبْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدْ ثَبَتَ غَصْبُهَا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَعَ الطَّلَاقُ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ هَكَذَا فِي التَّعْلِيقِ بِرَمَضَانَ، وَحَكَى الْإِمَامُ عَنْ حِكَايَةِ شَيْخِهِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ. فَصْلٌ إِذَا ادَّعَى عَلَى إِنْسَانٍ مَالًا، وَشَهِدَ لَهُ بِهِ اثْنَانِ، نُظِرَ إِنْ كَانَ عَيْنًا وَطَلَبَ الْمُدَّعِي الْحَيْلُولَةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُزَكَّى الشَّاهِدَانِ، أُجِيبَ إِلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا يُجَابُ، وَقِيلَ: يُجَابُ إِنْ كَانَ الْمَالُ مِمَّا يُخَافُ تَلَفُهُ أَوْ تَعَيُّبُهُ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا وَنَحْوَهُ فَلَا، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، لَمْ يُسْتَوْفَ قَبْلَ التَّزْكِيَةِ، وَقِيلَ: يُسْتَوْفَى وَيُوقَفُ، حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَلَوْ طَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، نَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُ، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَتَّهِمُهُ (بِحِيلَةٍ) حَجَرَ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يَضِيعَ مَالُهُ بِالتَّصَرُّفَاتِ وَالْأَقَارِيرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ لِلْحَجْرِ، لَكِنْ قَالُوا: هَلْ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، فِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا نَعَمْ،

فَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَلِلْمُدَّعِي مُلَازَمَتُهُ إِلَى أَنْ يُعْطِيَهُ كَفِيلًا وَأُجْرَةَ مَنْ يَبْعَثُهُ الْقَاضِي مَعَهُمَا لِلتَّكْفِيلِ عَلَى الْمُدَّعَى، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى قِصَاصًا، أَوْ حَدَّ قَذْفٍ، حُبِسَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِبَدَنِهِ، فَيُحْتَاطُ لَهُ. قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: سَوَاءٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يُحْبَسُ فِي حُدُودِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَمَّا فِي دَعْوَى النِّكَاحِ، فَتُعَدَّلُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَتُمْنَعُ مِنَ الِانْتِشَارِ وَالْخُرُوجِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ هَلْ يُؤْخَذُ مِنْهَا كَفِيلٌ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ: فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُزَوَّجَةً، لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ لِعَبْدٍ بِأَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ، وَطَلَبَ الْعَبْدُ الْحَيْلُولَةَ قَبْلَ التَّزْكِيَةِ، أَجَّلَهُ الْقَاضِي، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، وَيُؤَجِّرُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَمَا فَضَلَ فَمَوْقُوفٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيِّدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ، أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى سَيِّدِهِ إِنْ بَانَ جَرْحُ الشُّهُودِ وَاسْتَمَرَّ الرِّقُّ، وَكَذَا الْأَعْيَانُ الْمُنْتَزَعَةُ يُؤَجِّرُهَا، وَهَلْ تَتَوَقَّفُ الْحَيْلُولَةُ عَلَى طَلَبِ الْعَبْدِ؟ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ: لَا، بَلْ إِذَا رَأَى الْحَاكِمُ الْحَيْلُولَةَ، فَعَلَهَا. وَفِي الْأَمَةِ تَتَحَتَّمُ الْحَيْلُولَةُ احْتِيَاطًا لِلْبُضْعِ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ الطَّلَاقَ، وَأَقَامَتْ شَاهِدَيْنِ، فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ التَّزْكِيَةِ، وَالْوَجْهَانِ فِي اشْتِرَاطِ طَلَبِ الْعَبْدِ لِلْحَيْلُولَةِ جَارِيَانِ فِي انْتِزَاعِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهَا وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ فِي أَنَّ إِجَارَةَ الْعَبْدِ هَلْ تَفْتَقِرُ إِلَى طَلَبِ السَّيِّدِ أَوِ الْعَبْدِ، أَمْ يُؤَجِّرُهُ بِغَيْرِ طَلَبِهِمَا؟ وَالثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ، فَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا، وَطَلَبَ الِانْتِزَاعَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِآخَرَ هَلْ يُجَابُ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ وَحْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَفِي الشَّاهِدَيْنِ تَمَّتِ

الْحُجَّةُ، وَهَلْ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ بِشَاهِدٍ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ، وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ تَعْدِيلًا، ثُمَّ تَكْفِيلًا إِنْ لَمْ يَعْدِلْ، وَفِي دَعْوَى الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ هَلْ يُحَالُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ أَنَّ الْحَيْلُولَةَ وَالْحَبْسَ قَبْلَ التَّعْدِيلِ يَتَعَيَّنَانِ إِلَى ظُهُورِ الْأَمْرِ لِلْقَاضِي بِالتَّزْكِيَةِ أَوِ الْجَرْحِ، وَلَا تُقَدَّرُ لَهُ مُدَّةٌ، وَالْحَيْلُولَةُ وَالْحَبْسُ بِشَاهِدٍ إِذَا قُلْنَا بِهِ لَا يُزَادَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا حَيْلُولَةَ وَلَا حَبْسَ إِذَا كَانَ الشَّاهِدُ الْآخَرُ غَائِبًا لَا يَحْضُرُ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ إِذَا كَانَ قَرِيبًا، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ. فَرْعٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِذَا حَالَ الْقَاضِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، أَوِ انْتَزَعَ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ بَعْدَ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَقَبْلَ التَّزْكِيَةِ، لَمْ يُنَفَّذْ تَصَرُّفُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فِيهِ، لَكِنْ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِالْمَوْقُوفِ لِآخَرَ أَوْ أَوْصَى بِهِ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، انْتَظَرْنَا مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ آخِرًا، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ وَجْهَيْنِ فِي نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ، وَصَوَّرَهُ فِيمَا إِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَجْرِ الْحَيْلُولَةَ، حَصَلَ الْخِلَافُ، وَإِنْ أَرَادَ التَّلَفُّظَ بِالْحَجْرِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِاشْتِرَاطِ الْحَجْرِ الْقَوْلِيِّ فِي امْتِنَاعِ التَّصَرُّفِ، قَالَ: وَإِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، وَحَصَلَ التَّعْدِيلُ، وَالْقَاضِي يَنْظُرُ فِي وَجْهِ الْحُكْمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ النَّظَرِ، فَإِنْ حَجَرَ لَمْ يُنَفَّذْ تَصَرُّفُهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَقَبْلَ الْحَيْلُولَةِ وَالِانْتِزَاعِ لَا يُنَفَّذُ تَصَرُّفُ الْمُدَّعِي، وَيُنَفَّذُ تَصَرُّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ طَلَبَ الْمُدَّعِي شَرْطٌ فِي الْوَقْفِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ.

فَرْعٌ الثَّمَرَةُ وَالْغَلَّةُ الْحَادِثَانِ بَعْدَ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَقَبْلَ التَّعْدِيلِ تَكُونُ لِلْمُدَّعِي وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْأَوَّلِ وَ (شَهَادَةِ) الثَّانِي لَا يَكُونُ لِلْمُدَّعِي إِلَّا إِذَا أَرَّخَ الثَّانِي مَا شَهِدَ بِهِ بِيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوَّلًا أَوْ بِمَا قَبْلَهُ، فَإِنِ اسْتَخْدَمَ السَّيِّدُ الْعَبْدَ الْمُدَّعِيَ لِلْعِتْقِ بَيْنَ شَهَادَةِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي عَلَى قَوْلِنَا لَا يُحَالُ بَيْنَهُمَا وَشَهِدَ الثَّانِي هَكَذَا لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مُسْتَنَدِ عِلْمِ الشَّاهِدِ، وَحُكْمِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا. فِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ. الْأَوَّلُ: فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِبْصَارِ، وَالْأَصْلُ فِي الشَّهَادَةِ الْبِنَاءُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ، لَكِنْ مِنَ الْحُقُوقِ مَا لَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ فِيهِ، فَأُقِيمَ الظَّنُّ الْمُؤَكَّدُ فِيهِ مَقَامَ الْيَقِينِ، وَجُوِّزَتِ الشَّهَادَةُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ كَمَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَسَّمَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْمَشْهُودَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: مَا يَكْفِي فِيهِ السَّمَاعُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِبْصَارِ، وَمَوْضِعُ بَيَانِهِ الطَّرَفُ الثَّانِي. الثَّانِي: مَا يَكْفِي فِيهِ الْإِبْصَارُ وَهُوَ الْأَفْعَالُ، كَالزِّنَى، وَالشُّرْبِ، وَالْغَصْبِ، وَالْإِتْلَافِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالرَّضَاعِ، وَالِاصْطِيَادِ، وَالْأَحْيَاءِ، وَكَوْنِ الْمَالِ فِي يَدِ الشَّخْصِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الرُّؤْيَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا وَبِفَاعِلِهَا، فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الشَّهَادَةِ فِيهَا عَلَى السَّمَاعِ مِنَ الْغَيْرِ، وَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الْأَصَمِّ. الثَّالِثُ: مَا يَحْتَاجُ إِلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مَعًا، كَالْأَقْوَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِهَا وَمُشَاهَدَةِ قَائِلِهَا، وَذَلِكَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَالْبَيْعِ، وَجَمِيعِ الْعُقُودِ، وَالْفُسُوخِ، وَالْإِقْرَارِ بِهَا، فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الْأَصَمِّ الَّذِي

لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِبْصَارِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّحَمُّلُ اعْتِمَادًا عَلَى الصَّوْتِ، فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ تَتَشَابَهُ وَيَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا التَّخْيِيلُ وَالتَّلْبِيسُ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَى شَهَادَتِهِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِالْبُصَرَاءِ بِخِلَافِ الْوَطْءِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ اعْتِمَادًا عَلَى صَوْتِهَا بِالْإِجْمَاعِ لِلضَّرُورَةِ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ يَجُوزُ بِالظَّنِّ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ الَّتِي يَطَأَهَا كَمَا لَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ ضَرُورَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ وَجْهُ أَنَّ الْعَمَى لَا يَقْدَحُ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ مَعَ ضَعْفِهِ جَارٍ فِي الشَّهَادَةِ، وَالصَّوَابُ الْمَنْعُ. وَيُسْتَثْنَى عَنْ هَذَا صُورَةُ الضَّبْطَةِ وَهِيَ أَنْ يَضَعَ رَجُلٌ فَمَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَيَدَ الْأَعْمَى عَلَى رَأْسِهِ، فَيُنْظَرُ إِنْ سَمِعَهُ يُقِرُّ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ لِرَجُلٍ مَعْرُوفِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ بِمَالٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَعْمَى، وَلَا يَزَالُ يَضْبِطُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ عِنْدَ الْقَاضِي، فَيَقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ عَلَى الصَّحِيحِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: لَا يَقْبَلُ سَدًّا لِلْبَابِ مَعَ عُسْرِ ذَلِكَ. وَتُقْبَلُ رِوَايَةُ الْأَعْمَى مَا سَمِعَهُ حَالَ الْعَمَى عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ إِذَا حَصَلَ الظَّنُّ الْغَالِبُ بِضَبْطِهِ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ الْمَنْعَ، فَأَمَّا مَا سَمِعَهُ قَبْلَ الْعَمَى، فَتُقْبَلُ رِوَايَتُهُ فِي الْعَمَى بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً تَحْتَاجُ إِلَى الْبَصَرِ وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ، نُظِرَ إِنْ تَحَمَّلَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ يُقِرُّ لِرَجُلٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ بَعْدَمَا عَمِيَ، وَيُقْبَلَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ، وَكَذَا لَوْ عَمِيَ وَيَدُ الْمُقِرِّ فِي يَدِهِ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ لِمَعْرُوفِ الِاسْمِ وَالنِّسَبِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَيَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى تَرْجَمَةِ الْأَعْمَى عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ عَمِيَ الْقَاضِي بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَتَعْدِيلِهَا، فَفِي نُفُوذِ قَضَائِهِ فِي تِلْكَ

فصل

الْوَاقِعَةِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا لَا، لِانْعِزَالِهِ بِالْعَمَى، كَمَا لَوِ انْعَزَلَ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ إِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْإِشَارَةِ، كَمَا لَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ، وَأَمَّا شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِيمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، فَسَيَأْتِي فِي الطَّرَفِ الثَّانِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ إِذَا شَاهَدَ فِعْلَ إِنْسَانٍ، أَوْ سَمِعَ قَوْلَهُ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، شَهِدَ عَلَيْهِ عِنْدَ حُضُورِهِ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ غَيْبَتِهِ وَمَوْتِهِ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ دُونَ جَدِّهِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: يُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنْ عَرَفَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ جَازَ، وَكَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى مَجْهُولٍ، فَلَا تَصِحُّ كَمَا سَبَقَ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ لَمْ يَكْتُبْ إِلَّا أَنِّي حَكَمْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، فَالْحُكْمُ بَاطِلٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ نَسَبَهُ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى رَفْعِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا بِمَا عَرَفَ، لَكِنَّ الشَّهَادَةَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - لَا تُفِيدُ، وَقَالَ الْإِمَامُ: لَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ إِلَّا بِاسْمِهِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِاسْمِ أَبِيهِ، لَكِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْمِ قَدْ لَا تَنْفَعُ فِي الْغَيْبَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَشْهَدُ بِمَا لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِهِ. وَلَوْ سَمِعَ اثْنَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَ هَذَا الرَّجُلَ فِي بَيْعِ دَارِهِ، وَأَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ، شَهِدَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْبَيْعِ، وَلَمْ يَشْهَدْ بِالْوِكَالَةِ. وَكَتَبَ الْقَفَّالُ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى شَاهِدَيِ الْوِكَالَةِ، وَكَأَنَّهُمَا أَشْهَدَاهُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ حَضَرَ عَقْدَ نِكَاحٍ زَعَمَ الْمُوجِبُ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمَخْطُوبَةِ، أَوْ وَكِيلُ وَلِيِّهَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ وَلِيًّا وَلَا وَكِيلًا، أَوْ عَرَفَ الْوِلَايَةَ أَوِ الْوِكَالَةَ، وَلَمْ يَعْرِفْ رِضَى الْمَرْأَةِ وَهِيَ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا، لَمْ يَشْهَدْ عَلَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، لَكِنْ يَشْهَدُ أَنَّ

فُلَانًا أَنْكَحَ فُلَانَةً فُلَانًا، وَقِيلَ: فُلَانٌ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَرْأَةَ بِنَسَبِهَا لَمْ يَشْهَدْ إِلَّا أَنَّ فُلَانًا قَالَ: زَوَّجْتُ فُلَانَةً فُلَانًا، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ دُونَ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، شَهِدَ عَلَيْهِ حَاضِرًا لَا غَائِبًا، فَإِنْ مَاتَ أُحْضِرَ لِيُشَاهِدَ صُورَتَهُ، وَيَشْهَدَ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِنْ دُفِنَ، لَمْ يُنْبَشْ، وَقَدْ تَعَذَّرَتِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، هَكَذَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَتَابَعَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، لَكِنِ اسْتَثْنَى الْغَزَالِيُّ مَا إِذَا اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ بِحَيْثُ يَتَغَيَّرُ مَنْظَرُهُ وَهَذَا احْتِمَالٌ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَظْهَرُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ قَوْلَهُ: إِنَّهُ فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ، لَكِنْ لَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ، ثُمَّ سَمِعَ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ، وَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي غَيْبَتِهِ عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، كَمَا لَوْ عَرَفَهُمَا عِنْدَ التَّحَمُّلِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ عَدْلَانِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ أَوْ بَعْدَهُ: هُوَ فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَهُمَا، وَيَشْهَدَ عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ مِنْ عَدْلَيْنِ، وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ كَمَا أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ تَارَةً تَقَعُ الشَّهَادَةُ عَلَى عَيْنِهِ، وَتَارَةً عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَكَذَلِكَ الْمَشْهُودُ لَهُ، فَتَارَةً يَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ لِهَذَا، وَتَارَةً لِفُلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ، وَكَذَا عِنْدَ غَيْبَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ (أَنَّ لِهَذَا) عَلَى فُلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا، فَقَالَ الْخَصْمُ: لَسْتُ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّ فَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ عَلَى الْمُدَّعِي بَيِّنَةَ أَنَّ اسْمَهُ فُلَانٌ، وَنَسَبَهُ مَا ذَكَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ حَلَّفَهُ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ الِاسْمُ وَالنَّسَبُ، فَادَّعَى أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِيهِمَا، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، فَإِنْ أَقَامَهَا احْتَاجَ إِلَى إِثْبَاتِ

زِيَادَةٍ يَمْتَازُ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إِذَا بَلَغَ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ، وَأَحْضَرَ مَنْ زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَلْتَكُنِ الصُّورَةُ فِيمَا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَى هَذَا الْحَاضِرِ كَذَا، وَاسْمُهُ وَنَسَبُهُ كَذَا، أَوْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَى مَنِ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ كَذَا وَهُوَ هَذَا الْحَاضِرُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، فَيَسْتَفِيدُ بِهَا مُطَالَبَةَ الْحَاضِرِ إِنِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، أَوْ يُقِيمُ بَيِّنَةً أُخْرَى عَلَى الِاسْمِ وَالنَّسَبِ إِنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ يُطَالِبُهُ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَدَّعِي عَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْبِطَ الدَّعْوَى بِحَاضِرٍ. وَفِي الْفَتَاوَى أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ أَحْضَرَ رَجُلًا عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا أَقَرَّ لِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ بِكَذَا وَأَنَا ذَلِكَ الْمُقَرُّ لَهُ، فَقَالَ الرَّجُلٍ: نَعَمْ أَقْرَرْتُ، لَكِنْ هُنَا أَوْ بِمَوْضِعٍ آخَرَ رَجُلٌ آخَرُ بِهَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، وَإِنَّمَا أَقْرَرْتُ لَهُ، لَزِمَهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، فَإِذَا أَقَامَهَا، سُئِلَ ذَلِكَ الْآخَرُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ، دَفَعَ الْمُقَرَّ بِهِ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَهُوَ لِلْمُدَّعِي، وَإِنْ قَالَ: هُنَاكَ (رَجُلٌ) آخَرُ بِهَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَأَنَا أَقْرَرْتُ لِأَحَدِهِمَا، لَا أَعْلَمُ عَيْنَهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِرَجُلٍ آخَرَ سُئِلَ ذَلِكَ الْآخَرُ، فَإِنْ قَالَ: لَا شَيْءَ لِي عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ إِلَى الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، فَقَالَ: هِيَ لِأَحَدِكُمَا، وَلَا أَدْرِي أَنَّهَا لِأَيِّكُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَيْسَتْ لِي، فَإِنَّهَا تَكُونُ لِلْآخَرِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْآخَرُ، فَهُوَ كَمَا فِي صُورَةِ الْوَدِيعَةِ إِذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: هِيَ لِي، وَقَدْ حَكَيْنَا فِي الْوَكَالَةِ فِيمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ بِنَاءً عَلَى اسْمٍ وَنَسَبٍ ذَكَرَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ وَكَيْلُهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَكَّلَهُ عِنْدَ الْقَاضِي هُوَ فُلَانُ ابْنُ (فُلَانٍ) وَحَكَيْنَا عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ يَكْتَفِي الْقُضَاةُ فِيهَا بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَتَسَاهَلُونَ

فصل

فِي الْبَحْثِ وَالِاسْتِزْكَاءِ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي سَعْدٍ الْهَرَوِيِّ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِيهَا بِمُعَرِّفٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ هُنَا حَيْثُ احْتِيجَ إِلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ. فَصْلٌ الْمَرْأَةُ الْمُتَنَقِّبَةُ لَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا اعْتِمَادًا عَلَى الصَّوْتِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْأَعْمَى اعْتِمَادًا عَلَى الصَّوْتِ، وَكَذَا الْبَصِيرُ فِي الظُّلْمَةِ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ صَفِيقٍ، وَالْحَائِلُ الرَّقِيقُ لَا يَمْنَعُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِذَا لَمْ يَجُزِ التَّحَمُّلُ بِالصَّوْتِ، فَإِنْ عَرَفَهَا مُتَنَقِّبَةً بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا أَوْ بِعَيْنِهَا لَا غَيْرَ، جَازَ التَّحَمُّلُ، وَلَا يَضُرُّ النِّقَابُ، وَيَشْهَدُ عِنْدَ الْأَدَاءِ بِمَا يَعْلَمُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا، فَلْتَكْشِفْ عَنْ وَجْهِهَا لِيَرَاهَا الشَّاهِدُ وَيَضْبِطَ حِلْيَتَهَا وَصُورَتَهَا، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَدَاءِ، وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا حِينَئِذٍ. وَلَا يَجُوزُ التَّحَمُّلُ بِتَعْرِيفِ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ، فَإِنْ قَالَ عَدْلَانِ يَشْهَدَانِ: هَذِهِ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ تُقِرُّ بِكَذَا، فَهُمَا شَاهِدَا الْأَصْلِ، وَالَّذِي يَسْمَعُ مِنْهُمَا شَاهِدُ فَرْعٍ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ. وَلَوْ سَمِعَهُ مِنْ عَدْلٍ وَاحِدٍ، شَهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ تَكُونُ عَلَى الِاسْمِ وَالنَّسَبِ دُونَ الْعَيْنِ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَفِي وَجْهٍ ثَانٍ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكْفِيهِ لِتُحْمَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا مُعَرِّفٌ وَاحِدٌ سُلُوكًا بِهِ مَسْلَكَ الْإِخْبَارِ، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْهُمُ الْقَاضِي شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَمُّلُ إِذَا سَمِعَ مِنْ عَدْلَيْنِ أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ، وَيَشْهَدُ عَلَى اسْمِهَا وَنَسَبِهَا عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَهَذَا مَا سَبَقَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِالسَّمَاعِ مِنْ عَدْلَيْنِ، وَوَجْهٌ عَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْرِفُ نَسَبَ امْرَأَةٍ، وَلَا يَعْرِفُ

عَيْنَهَا، فَدَخَلَ دَارَهَا وَفِيهَا نِسْوَةٌ سِوَاهَا، فَقَالَ لِابْنِهَا الصَّغِيرِ: أَيَّتُهُنَّ أُمُّكَ، أَوْ لِجَارِيَتِهَا أَيَّتُهُنَّ سَيِّدَتُكِ، فَأَشَارَا إِلَى امْرَأَةٍ، فَسَمِعَ إِقْرَارَهَا، جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ أَقَرَّتْ بِكَذَا، حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْهُ، وَلَمْ يُجْعَلْ قَوْلُ شَاهِدَيْنِ عَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ كَإِخْبَارِ الصَّغِيرِ وَالْجَارِيَةِ، وَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ وَقْعًا فِي الْقَلْبِ وَأَثْبَتُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ جَوَازُ التَّحَمُّلِ عَلَى كَشْفِ الْوَجْهِ لَا عَلَى الْمُعَرِّفِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّتْ تَحْتَ نِقَابٍ، وَرُفِعَتْ إِلَى الْقَاضِي وَالْمُتَحَمِّلُ مُلَازِمُهَا أَمْكَنَ الشَّهَادَةُ عَلَى عَيْنِهَا، وَقَدْ يَحْضُرُ قَوْمٌ يُكْتَفَى بِإِخْبَارِهِمْ فِي التَّسَامُعِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي التَّسَامُعِ طُولُ الْمُدَّةِ كَمَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَيُخْبِرُونَ عَنِ اسْمِهَا وَنَسَبِهَا، فَيَتَمَكَّنُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى اسْمِهَا وَنَسَبِهَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ تَحَمَّلَا الشَّهَادَةَ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يَعْرِفَانِهَا أَنَّ امْرَأَةً حَضَرَتْ يَوْمَ كَذَا مَجْلِسَ كَذَا، فَأَقَرَّتْ لِفُلَانٍ بِكَذَا، وَشَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحَاضِرَةَ، يَوْمَئِذٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ هِيَ هَذِهِ، ثَبَتَ الْحَقُّ بِالتَّبْيِينِ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّ أَقَرَّ بِكَذَا وَقَامَتْ أُخْرَى عَلَى (أَنَّ) الْحَاضِرَ هُوَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، ثَبَتَ الْحَقُّ. وَإِذَا اشْتَمَلَ التَّحَمُّلُ عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ، وَجَبَ أَنْ يُجَوَّزَ مُطْلَقًا، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَا يُفِيدُ جَوَازَ التَّحَمُّلِ عَلَى الْعَيْنِ، أَوْ عَلَى الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، أَوْ لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْإِثْبَاتُ، فَذَاكَ لِشَيْءٍ آخَرَ. وَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا، لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَسَمَاعِ كَلَامِهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، فَإِنْ خَافَ فِتْنَةً، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا بِلَا خِلَافٍ فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَنْظُرُ الْخَائِفُ لِلتَّحَمُّلِ؛ لِأَنَّ فِي غَيْرِهِ غِنْيَةً، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، نَظَرَ وَاحْتَرَزَ.

فَرْعٌ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى عَيْنِ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ بِحَقٍّ، وَأَرَادَ الْمُدَّعِي أَنْ يُسَجِّلَ لَهُ الْقَاضِي، فَالتَّسْجِيلُ عَلَى الْعَيْنِ مُمْتَنِعٌ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُسَجِّلَ بِالْحِلْيَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّسْجِيلِ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ مَا لَمْ يَثْبُتَا، وَلَا يَكْفِي فِيهِمَا قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَلَا إِقْرَارُ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الشَّخْصِ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، فَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى نَسَبِهِ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ بُنِيَ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْحِسْبَةِ هَلْ تُقْبَلُ فِي النَّسَبِ، إِنْ قَبِلْنَاهَا - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَثْبَتَ الْقَاضِي النَّسَبَ، وَسَجَّلَ، وَإِنْ لَمْ نَقْبَلْهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، فَقَالَ: الطَّرِيقُ هُنَا أَنْ يَنْصُبَ الْقَاضِي مَنْ يَدَّعِي عَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ دَيْنًا، أَوْ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ زَيْدٍ، أَوْ يَدَّعِي عَلَى زَيْدٍ، وَيَقُولُ: هَذِهِ بِنْتُهُ، وَتَرَكْتُهُ عِنْدَهَا، وَيُنْكِرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ النَّسَبَ، فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَتَجُوزُ هَذِهِ الْحِيلَةُ لِلْحَاجَةِ، وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ بِأَنَّ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ كَالْعَدَمِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ بِنَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، وَكَيْفَ يَأْمُرُ الْقَاضِي بِهَا. لَكِنَّ الْوَجْهَ أَنْ يُقَالَ: وُكَلَاءُ الْمَجْلِسِ يَتَفَطَّنُونَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا نَصَبُوا مُدَّعِيًا لَمْ يَفْحَصِ الْقَاضِي، وَلَمْ يُضَيِّقْ، بَلْ يَسْمَعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةَ لِلْحَاجَةِ. وَلَوْ أَمَرَ الْمُدَّعِي الَّذِي ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ بِالْبَيِّنَةِ أَنْ يَنْقُلَ الدَّعْوَى عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الدَّعْوَى عَلَى بِنْتِ زَيْدٍ لِيُنْكِرَ، فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّسَبِ، كَانَ أَقْرَبَ مِنْ نَصْبِ مُدَّعٍ جَدِيدٍ، وَأَمْرِهِ بِدَعْوَى بَاطِلَةٍ. فَرْعٌ عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ: شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى امْرَأَةٍ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَعْرِفَةِ عَيْنِهَا، صَحَّتْ شَهَادَتُهُمْ فَإِنْ سَأَلَهُمُ الْحَاكِمُ هَلْ تَعْرِفُونَ عَيْنَهَا؟ فَلَهُمْ أَنْ يَسْكُتُوا، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا يَلْزَمُنَا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا. الطَّرَفُ الثَّانِي فِيمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ وَهُوَ الِاسْتِفَاضَةُ،

فَمِنْهُ النَّسَبُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِالتَّسَامُعِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ ابْنُ فُلَانٍ، أَوْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ إِذَا عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا بِنْتُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنَ الْأُمِّ بِالتَّسَامُعِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ قَطْعًا كَالْأَبِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ إِمْكَانُ رُؤْيَةِ الْوِلَادَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي صِفَةِ التَّسَامُعِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسْمِعَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ بِنَسَبِهِ، فَيَنْسُبُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوِ الْقَبِيلَةِ، وَالنَّاسُ يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ التَّكَرُّرُ، وَامْتِدَادُ مُدَّةِ السَّمَاعِ، قَالَ كَثِيرُونَ: نَعَمْ، وَبِهَذَا أَجَابَ الصَّيْمَرِيُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بَلْ لَوْ سَمِعَ انْتِسَابَ الشَّخْصِ، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ لَا يُرْتَابُ فِي صِدْقِهِمْ، فَأَخْبَرُوهُ بِنَسَبِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، جَازَ لَهُ الشَّهَادَةُ. وَرَأَى ابْنُ كَجٍّ الْقَطْعَ بِهَذَا، وَبِهِ أَجَابَ الْبَغَوِيُّ فِي انْتِسَابِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَلَيْسَتِ الْمُدَّةُ مُقَدَّرَةً بِسُنَّةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُعْتَبَرُ مَعَ انْتِسَابِ الشَّخْصِ وَنِسْبَةِ النَّاسِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُمَا مَا يُورِثُ تُهْمَةً وَرِيبَةً، فَلَوْ كَانَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ حَيًّا وَأَنْكَرَ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا جَازَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَيِّتًا، وَلَوْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ النَّسَبِ هَلْ يَمْنَعُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ لِاخْتِلَالِ الظَّنِّ. فَرْعٌ يَثْبُتُ الْمَوْتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، وَهَلْ يَثْبُتُ بِهَا الْوَلَاءُ وَالْعِتْقُ وَالْوَقْفُ وَالزَّوْجِيَّةُ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَابْنُ الْقَاصِّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرِيُّ: نَعَمْ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا، وَبِهِ أَفْتَى الْقَفَّالُ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ

فصل

تَجْدِيدُ شُهُودِ كُتُبِ الْوَقْفِ إِذَا خَافَ انْقِرَاضَ الْأُصُولِ، قَالَ فِي الْعُدَّةِ: هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، لَكِنَّ الْفَتْوَى الْجَوَازُ لِلْحَاجَةِ. قُلْتُ: الْجَوَازُ أَقْوَى وَأَصَحُّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ الْمُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِفَاضَةِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقَعُ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ الْقَوِيُّ بِخَبَرِهِمْ، وَيُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْغَزَالِيُّ وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالثَّانِي: يَكْفِي عَدْلَانِ، اخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ، وَالثَّالِثُ: يَكْفِي خَبَرُ وَاحِدٍ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ، حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِطَ الْعَدَالَةَ وَلَا الْحُرِّيَّةَ وَالذُّكُورَةَ. فَرْعٌ لَوْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِآخَرَ: هَذَا ابْنِي وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ، أَوْ قَالَ: أَنَا ابْنُ فُلَانٍ، وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَلَى النَّسَبِ، وَكَذَا لَوِ اسْتَلْحَقَ صَبِيًّا، أَوْ بَالِغًا وَسَكَتَ، لَأَنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ كَالْإِقْرَارِ. وَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَجْهٌ، أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عِنْدَ السُّكُوتِ إِلَّا إِذَا تَكَرَّرَ عِنْدَهُ الْإِقْرَارُ وَالسُّكُوتُ، وَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِذَلِكَ، بَلْ يَشْهَدُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ (عَلَى) الْإِقْرَارِ، وَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ. فَصْلٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ تَنْبَنِي عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ وَهِيَ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ

وَالتَّسَامُحُ، فَأَمَّا الْيَدُ فَلَا تُفِيدُ بِمُجَرَّدِهَا جَوَازَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ، لَكِنْ إِذَا رَأَى الشَّيْءَ فِي يَدِهِ، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْيَدِ، وَشَرَطَ الْبَغَوِيُّ لِذَلِكَ أَنْ يَرَاهُ فِي يَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَحَكَى الْإِمَامُ قَوْلًا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ بِمُجَرَّدِ الْيَدِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا التَّصَرُّفُ الْمُجَرَّدُ، فَكَالْيَدِ الْمُجَرَّدَةِ لَا يُفِيدُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ، فَإِنِ اجْتَمَعَ يَدٌ وَتَصَرُّفٌ فَإِنْ قَصُرَتِ الْمُدَّةُ، فَهُوَ كَالْيَدِ الْمُجَرَّدَةِ، وَإِنْ طَالَتْ، فَفِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ لَهُ بِالْمِلْكِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، صَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنِ اخْتِيَارِ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْقَطْعُ بِهِ، فَلَوِ انْضَمَّ إِلَى الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ الِاسْتِفَاضَةُ، وَنِسْبَةُ النَّاسِ الْمِلْكَ إِلَيْهِ جَازَتِ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ بِلَا خِلَافٍ. وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ قَوْلًا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ حَتَّى يُعْرَفَ سَبَبُهُ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الِاسْتِفَاضَةُ وَحْدَهَا، فَهَلْ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ بِهَا؟ وَجْهَانِ أَقْرَبُهُمَا إِلَى إِطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ الْجَوَازُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ نَصِّهِ فِي حَرْمَلَةَ، وَاخْتَارَهَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ الْجَوَابُ فِي «الرَّقْمِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَازَ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ بِالِاسْتِفَاضَةِ مَشْهُورَةٌ فِي الْمَذْهَبِ، فَلَعَلَّ مَنْ لَا يَكْتَفِي بِهِ يَكْتَفِي بِانْضِمَامِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ إِلَيْهِ، أَوْ يَعْتَبِرُهُمَا جَمِيعًا، لَكِنْ لَا يَعْتَبِرُ طُولَ الْمُدَّةِ فِيهِمَا، وَإِذَا انْضَمَّا إِلَى الِاسْتِفَاضَةِ، وَإِلَّا فَهُمَا كَافِيَانِ إِذَا طَالَتِ الْمُدَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يَبْقَى لِلِاسْتِفَاضَةِ أَثَرٌ، وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى الْيَدِ أَوِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ أَنْ لَا يَعْرِفَ لَهُ مُنَازِعًا فِيهِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ مُنَازَعَةَ مَنْ لَا حُجَّةَ مَعَهُ هَلْ تَمْنَعُ؟ فَرْعٌ طُولُ مُدَّةِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعَادَةِ، وَقِيلَ: أَقَلُّهَا سُنَّةٌ،

وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَاصِمٍ أَنَّهُ إِنْ زَادَتْ عَلَى عَشَرَةٍ، فَطَوِيلَةٌ، وَفِيمَا دُونَهَا وَجْهَانِ، وَالْقَوْلُ فِي عَدَدِ الْمُخْبِرِينَ هُنَا وَامْتِدَادِ الْمُدَّةِ كَمَا سَبَقَ فِي النَّسَبِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِ السَّامِعِ صِدْقُ الْمُخْبِرِينَ. فَرْعٌ ذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَقَدْ يُنَازَعُ فِيهِ، لَامِكَانِ مُشَاهَدَةِ الْيَدِ. فَرْعٌ لَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لِفُلَانٍ، وَكَذَا فِي النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ، بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِأَنَّهُ لَهُ، وَبِأَنَّهُ ابْنُهُ؛ لِأَنَّ قَدْ يَعْلَمُ خِلَافَ مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّاسِ، لَكِنْ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَاصِمٍ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ بِالْمِلْكِ، وَآخَرُ بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَتَصَرَّفَ فِيهِ بِلَا مُنَازِعٍ، تَمَّتِ الشَّهَادَةُ. وَقَالَ الشَّارِحُ لِكَلَامِهِ: هَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ السَّبَبِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ سَوَاءٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالتَّصَرُّفِ الْعَقَارُ وَالثَّوْبُ وَالْعَبْدُ وَغَيْرُهَا إِذَا مَيَّزَ الشُّهُودَ بِهِ عَنْ أَمْثَالِهِ. فَرْعٌ التَّصَرُّفُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ مِنَ السُّكْنَى، وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ، وَالْبَيْعِ وَالْفَسْخِ بَعْدَهُ وَالرَّهْنِ، وَفِي مُجَرَّدِ الْإِجَارَةِ وَجْهَانِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ تَكَرَّرَتْ قَدْ تَصْدُرُ مِمَّنِ اسْتَأْجَرَ مُدَّةً طَوِيلَةً وَمِنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَلْيُجْرَ هَذَا الْخِلَافُ فِي الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَصْدُرُ

مِنْ مُسْتَعِيرٍ، وَالْأَوْفَقُ لِإِطْلَاقِ الْأَصْحَابِ الِاكْتِفَاءُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ صُدُورُهَا مِنَ الْمَالِكِينَ، وَلَا يَكْفِي التَّصَرُّفُ مُدَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ ظَنًّا. فَرْعٌ لَا يَثْبُتُ الدَّيْنُ بِالِاسْتِفَاضَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى فِيمَا يَشْهَدُ فِيهِ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورُ: تُقْبَلُ إِلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُ إِنَّمَا تُقْبَلُ إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَعْيِينٍ وَإِشَارَةٍ بِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ الْأَدْنَى، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ نَسَبِهِ الْأَعْلَى وَصُوَرٍ أَيْضًا فِي النَّسَبِ الْأَدْنَى بِأَنْ يَصِفَ الشَّخْصَ، فَيَقُولَ: الرَّجُلُ الَّذِي اسْمُهُ كَذَا، وَكُنْيَتُهُ كَذَا، وَمُصَلَّاهُ وَمَسْكَنُهُ كَذَا، هُوَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، ثُمَّ يُقِيمُ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً أُخْرَى أَنَّهُ الَّذِي اسْمُهُ كَذَا، وَكُنْيَتُهُ كَذَا إِلَى آخَرِ الصِّفَاتِ، وَصُورَتُهُ فِي الْمِلْكِ أَنْ يَشْهَدَ الْأَعْمَى بِدَارٍ مَعْرُوفَةٍ أَنَّهَا لِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْوَجْهُ الْقَائِلُ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ، مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا سَمِعَ مِنْ عَدَدٍ يُمْكِنُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ السَّمَاعُ مِنْ جَمْعٍ كَبِيرٍ، فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ، وَمَعْرِفَةِ حَالِ الْمُخْبِرِينَ. فَرْعٌ مَا جَازَتِ الشَّهَادَةُ بِهِ اعْتِمَادًا عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ، جَازَ الْحَلِفُ عَلَيْهِ اعْتِمَادًا عَلَيْهَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْحَلِفُ عَلَى خَطِّ الْأَبِ دُونَ الشَّهَادَةِ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا. أَمَّا الْأَدَاءُ، فَوَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْكِتْمَانُ حَرَامٌ، وَيَجِبُ الْأَدَاءُ عَلَى مُتَعَيِّنٍ لِلشَّهَادَةِ، مُتَحَمِّلٍ لَهَا قَصْدًا، دُعِيَ مِنْ دُونِ مَسَافَةِ الْعَدْوَى، عَدْلٌ، لَا عُذْرَ لَهُ، فَهَذِهِ

خَمْسَةُ قُيُودٍ. الْأَوَّلُ: التَّعْيِينُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعَةِ إِلَّا شَاهِدَانِ بِأَنْ لَمْ يَتَحَمَّلْ سِوَاهُمَا، أَوْ مَاتَ الْبَاقُونَ، أَوْ جُنُّوا، أَوْ فُسِّقُوا، أَوْ غَابُوا، لَزِمَهُمَا الْأَدَاءُ، فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ، وَقَالَ لِلْمُدَّعِي: احْلِفْ مَعَ الشَّاهِدِ، عَصَا، وَكَذَا الشَّاهِدَانِ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ لَوِ امْتَنَعَا، وَقَالَ لِلْمُوْدَعِ: احْلِفْ عَلَى الرَّدِّ، عَصَيَا؛ لِأَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِشْهَادِ التَّوَرُّعَ عَنِ الْيَمِينِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعَةِ إِلَّا شَاهِدٌ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، لَزِمَهُ الْأَدَاءُ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا فِي لُزُومِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُ فِي انْدِفَاعِ بَعْضِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعَةِ شُهُودٌ، فَالْأَدَاءُ عَلَيْهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا فَعَلَهُ اثْنَانِ مِنْهُمْ، سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ طَلَبَ الْأَدَاءَ مِنَ اثْنَيْنِ، فَفِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ عَلَيْهِمَا وَجْهَانِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ، وَلَيْسَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمْنَا مِنْ حَالِهِمْ رَغْبَةً أَوْ إِبَاءً. الْقَيْدُ الثَّانِي: كَوْنُهُ مُتَحَمِّلًا عَنْ قَصْدٍ، أَمَّا مَنْ سَمِعَ الشَّيْءَ، أَوْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، فَالْأَصَحُّ الْمُوَافِقُ لِإِطْلَاقِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ أَيْضًا، لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ وَشَهَادَةٌ عِنْدِهِ، وَالثَّانِي: لَا، لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: أَنْ يُدْعَى لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَمَتَى كَانَ الْقَاضِي فِي الْبَلَدِ فَالْمَسَافَةُ قَرِيبَةٌ، وَكَذَا لَوْ دُعِيَ إِلَى مَسَافَةٍ يَتَمَكَّنَّ الْمُبَكِّرُ إِلَيْهَا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِهِ، وَإِنْ دُعِيَ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ تَجِبِ الْإِجَابَةُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا لَمْ تَجِبْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّاهِدَ يَلْزَمُهُ الْحُضُورُ إِلَى الْقَاضِي لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الشَّاهِدِ إِلَّا أَدَاءُ الشَّهَادَةِ إِنِ اجْتَمَعَ هُوَ وَالْقَاضِي. الْقَيْدُ الرَّابِعُ: كَوْنُ الشَّاهِدِ عَدْلًا، فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، وَدُعِيَ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ نُظِرَ إِنْ كَانَ فِسْقُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا، حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ

يَشْهَدَ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ، كَشُرْبِ النَّبِيذِ، لَزِمَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَرَى التَّفْسِيقَ بِهِ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ. وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ (فِي) الْفِسْقِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ يَجِبُ مُطْلَقًا فِي الْفِسْقِ الْخَفِيِّ، وَفِي الظَّاهِرِ وَجْهَانِ، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِيَ يُرَتِّبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْتَقِدُهُ الشَّاهِدُ، كَالْبَيْعِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شُفْعَةُ الْجِوَارِ، وَالشَّاهِدُ لَا يَعْتَقِدُهَا. وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَدْلًا وَالْآخِرُ فَاسِقًا فِسْقًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمِ الْعَدْلَ الْأَدَاءُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. الْقَيْدُ الْخَامِسُ: عَدَمُ الْعُذْرِ، كَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، فَالْمَرِيضُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الْحُضُورُ لَا يُكَلَّفُ أَنْ يَحْضُرَ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي إِلَيْهِ، بِأَنْ يَسْمَعَ شَهَادَتَهُ، وَالْمَرْأَةُ الْمُخَدَّرَةُ كَالْمَرِيضِ، وَفِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ أَدَبِ الْقَضَاءِ، وَغَيْرُ الْمُخَدِّرَةِ يَلْزَمُهَا الْحُضُورُ وَالْأَدَاءُ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِيهِ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ الْحُضُورُ عِنْدَ الْقَاضِي الْجَائِرِ وَالْمُتَعَنِّتِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَرُدَّ شَهَادَتَهُ جَوْرًا وَتَعَنُّتًا فَيُعَيَّرُ بِذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا عَدَالَةُ الْقَاضِي وَجَمْعُهُ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْطٌ سَادِسٌ. قُلْتُ: الرَّاجِحُ الْوُجُوبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُ الْوُجُوبِ لَمْ يُرْهِقِ الْقَاضِي إِرْهَاقًا، بَلْ إِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ أَوْ حَمَّامٍ، أَوْ عَلَى طَعَامٍ، فَلَهُ التَّأْخِيرُ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ، وَلَا يُمْهِلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَلَوْ شَهِدَ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ

فصل

بِعِلَّةِ الْفِسْقِ، ثُمَّ طَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يَشْهَدَ لَهُ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ، لَزِمَهُ الْإِجَابَةُ وَلَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي عَلَى الصَّحِيحِ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَلَوْ دُعِيَ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَمِيرٍ أَوْ وَزِيرٍ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا تَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ الْقَاضِي، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَصِلُ بِهِ إِلَى الْحَقِّ. قُلْتُ: قَوْلُ ابْنِ كَجٍّ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِذَا امْتَنَعَ الشَّاهِدُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ وُجُوبِهِ حَيَاءً مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: يَعْصِي، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي قَبُولُ شَهَادَتِهِ فِي شَيْءٍ أَصْلًا حَتَّى يَتُوبَ، وَيُوَافِقُ هَذَا مَا قِيلَ: إِنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ قَالَ لِلْقَاضِي: عِنْدَ فُلَانٍ شَهَادَةٌ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ أَدَائِهَا، فَأَحْضِرْهُ لِيَشْهِدَ، لَمْ يُجِبْهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ بِالِامْتِنَاعِ بِزَعْمِهِ، فَلَا يُنْتَفَعُ بِشَهَادَتِهِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ هَذَا عَلَى مَا إِذَا قَالَ: هُوَ مُمْتَنِعٌ بِلَا عُذْرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ، فَفَرْضُ كِفَايَةٍ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، لِتَوَقُّفِ الِانْعِقَادِ عَلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ مِنْهُ، أَثِمُوا. وَلَوْ طَلَبَ مِنَ اثْنَيْنِ التَّحَمُّلَ، وَهُنَاكَ غَيْرُهُمَا، لَمْ يَتَعَيَّنَا بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْأَقَارِيرِ، فَهَلِ التَّحَمُّلُ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ طَرْدَ الْخِلَافِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِذَا قُلْنَا بِالِافْتِرَاضِ، فَذَلِكَ إِذَا حَضَرَ الْمُحَمَّلُ، أَمَّا إِذَا دُعِيَ لِلتَّحَمُّلِ فَقِيلَ: تَجِبُ الْإِجَابَةُ أَيْضًا، وَالْأَصَحُّ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ، وَالْبَغَوِيُّ، وَأَبُو الْفَرَجِ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحَمَّلُ مَعْذُورًا بِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ، أَوْ كَانَتِ امْرَأَةً مُخَدَّرَةً إِذَا

أَثْبَتْنَا لِلتَّخْدِيرِ أَثَرًا وَكَذَا إِذَا دَعَاهُ الْقَاضِي لِيُشْهِدَهُ عَلَى أَمْرٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ لَزِمَهُ الْإِجَابَةُ. فَرْعٌ إِنْ تَطَوَّعَ الشَّاهِدُ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَإِنْ طَمِعَ فِي مَالٍ، فَهُوَ إِمَّا رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِمَّا مَنْ مَالِ الْمَشْهُودِ لَهُ، فَأَمَّا الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ أَنَّ الشَّاهِدَ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَرَزَقَهُ الْإِمَامُ مِنْ مَالِهِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقَاضِي، وَأَمَّا مَالُ الْمَشْهُودِ لَهُ، فَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَخْذُ أُجْرَةٍ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِوَضًا، وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ يَسِيرٌ لَا أُجْرَةَ لِمِثْلِهِ. وَأَمَّا إِتْيَانُ الْقَاضِي وَالْحُضُورُ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَلَدِ فَلَا يَأْخُذْ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ نَائِبُهُ مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى، فَمَا فَوْقَهَا، فَلَهُ طَلَبُ نَفَقَةِ الْمَرْكُوبِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَكَذَا نَفَقَةُ الطَّرِيقِ، وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ أَعْطَاهُ شَيْئًا لِيَصْرِفَهُ فِي نَفَقَةِ الطَّرِيقِ، وَأُجْرَةُ الْمَرْكُوبِ هَلْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ، وَيَمْشِيَ، وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ أَعْطَى فَقِيرًا شَيْئًا وَقَالَ: اشْتَرِ لَكَ بِهِ ثَوْبًا، هَلْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى غَيْرِ الثَّوْبِ، وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ فِيهِمَا، فَهَذَا مَا قِيلَ: إِنَّ الشَّاهِدَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَكْثَرُهُمْ لِمَا سِوَى هَذَا، لَكِنْ فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ الشَّاهِدَ لَوْ كَانَ فَقِيرًا يَكْسِبُ قُوتَهُ يَوْمًا يَوْمًا وَكَانَ فِي صَرْفِ الزَّمَانِ إِلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ كَسْبِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَدَاءُ إِلَّا إِذَا بَذَلَ لَهُ الْمَشْهُودُ (لَهُ) قَدْرَ كَسْبِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، هَذَا حُكْمُ الْأَدَاءِ. فَلَوْ طَلَبَ الشَّاهِدُ أُجْرَةً لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَكَذَا إِنْ تَعَيَّنَ عَلَى الْأَصَحِّ، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: هَذَا إِذَا دُعِيَ لِيَتَحَمَّلَ، فَأَمَّا إِذَا أَتَاهُ الْمُحَمَّلُ، فَلَيْسَ لِلتَّحَمُّلِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - أُجْرَةٌ، وَلَيْسَ

فصل

لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا، وَمُقْتَضَى قَوْلِنَا: لَهُ طَلَبُ الْأُجْرَةِ إِذَا دُعِيَ لِلتَّحَمُّلِ أَنْ يَطْلُبَ الْأُجْرَةَ إِذَا دُعِيَ لِلْأَدَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاضِي مَعَهُ فِي الْبَلَدِ أَمْ لَا، كَمَا لَا فَرْقَ فِي التَّحَمُّلِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّظَرُ إِلَى الْأُجْرَةِ مُطْلَقًا لَا إِلَى أُجْرَةِ الْمَرْكُوبِ وَنَفَقَةِ الطَّرِيقِ خَاصَّةً، ثُمَّ هُوَ يَصْرِفُ الْمَأْخُوذَ إِلَى مَا يَشَاءُ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَوْنُ الْأَدَاءِ فَرْضًا عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّحَمُّلِ مَعَ تَعَيُّنِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضَعِيفٌ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ الْأَصْحَابِ كَمَا سَبَقَ، فَإِنْ فَرَضَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الرُّكُوبِ فِي الْبَلَدِ، فَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَالْوُجُوبُ ظَاهِرٌ حِينَئِذٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ كِتَابَةُ الصُّكُوكِ هَلْ هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ السَّرَخْسِيُّ، فَإِنْ قُلْنَا: مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ فَرْضٌ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهَا شَخْصٌ، فَلَهُ طَلَبُ الْأُجْرَةِ. وَإِنْ تَعَيَّنَ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، هَذَا إِذَا لَمْ يُرْزَقِ الْكَاتِبُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِكِتَابَةِ الصُّكُوكِ، فَإِنْ رُزِقَ لِذَلِكَ، فَلَا أُجْرَةَ. فَصْلٌ فِي آدَابِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ مَنْقُولَةٌ مِنْ مُخْتَصَرِ الصَّيْمَرِيِّ يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ، وَبِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الضَّبْطِ، وَتَمَامِ الْفَهْمِ، كَجُوعٍ وَعَطِشٍ، وَهَمٍّ وَغَضَبٍ، كَمَا لَا يَقْضِي فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِذَا أَتَاهُ مَنْ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، كَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ أُتِيَ بِكِتَابٍ أُنْشِئَ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ، فَكَذَلِكَ، وَتَبَيَّنَ فَسَادُهُ، وَإِنْ أُنْشِئَ عَلَى مُخْتَلَفٍ (فِيهِ) بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُهُ، فَهَلْ يُعْرِضُ عَنْهُ أَمْ يَشْهَدُ لِيُؤَدِّيَ وَيُحْكُمَ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ؟ وَجْهَانِ سَبَقَا، وَإِذَا رَأَى

كَلِمَةً مَكْرُوهَةً أَوْ مُعَادَةً، فَلَا بَأْسَ بِالضَّرْبِ عَلَيْهَا لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَسْبِقْهُ بِالشَّهَادَةِ أَحَدٌ، وَإِنْ أَغْفَلَ الْكَاتِبُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، أُلْحِقَ بِهِ، وَإِنْ رَأَى سَطْرًا نَاقِصًا شَغَلَهُ بِخَطٍّ أَوْ خَطَّيْنِ، وَإِذَا قَرَأَ الْكِتَابَ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ (مَثَلًا) ، وَقَالَ: عَرَفْتُمَا مَا فِيهِ؟ أَشْهَدُ عَلَيْكُمَا بِهِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ أَوْ أَجَلْ أَوْ بَلَى، كَفَى لِلتَّحَمُّلِ. وَلَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ الْمُحَمَّلُ: الْأَمْرُ إِلَيْكَ أَوْ إِنْ شِئْتَ، أَوْ كَمَا تَرَى، أَوِ اسْتَخِرِ اللَّهَ - تَعَالَى - وَإِذَا سَمِعَ إِقْرَارًا بِدَيْنٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَقُولُ وَلَا يَكْتُبُ: أَشْهَدَنِي بِذَلِكَ، وَيَكْتُبُ الشَّاهِدُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي تَحَمَّلَ فِيهِ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ اسْمَ الْجَدِّ، وَأَنْ يَتَخَطَّى إِلَى جَدٍّ أَعْلَى لِشُهْرَتِهِ بِهِ، وَلَا يَكْتُبُ الْكُنْيَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الشُّهُودِ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَيُمَيَّزَ بِالْكُنْيَةِ، وَقَدْ يُسْتَحَبُّ الِاسْتِعَانَةُ بِمَا يُفِيدُ التَّذَكُّرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ أَدَبِ الْقَضَاءِ، وَإِذَا أَشْهَدَهُ الْقَاضِي عَلَى شَيْءٍ قَدْ سُجِّلَ بِهِ كَتَبَ الشَّهَادَةَ عَلَى إِنْفَاذِ الْقَاضِي مَا فِيهِ، أَوْ حَكَمَ بِمَا فِيهِ، وَلَا يَكْتُبُ الشَّهَادَةَ عَلَى إِقْرَارِهِ يَعْنِي إِذَا حَضَرَ الْإِنْشَاءَ، وَالْأَوْلَى فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ أَنْ يُقَرِّرَ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَوَّلًا بِأَنْ يَقُولَ: مَا الَّذِي لَكَ عَلَى هَذَا؟ فَإِذَا قَالَ: كَذَا مُؤَجَّلًا قَرَّرَ الْمَدِينَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ الْمَدِينَ أَوَّلًا قَدْ يُنْكِرُ صَاحِبُ الْأَجَلِ، وَفِي السَّلَمِ يُقَرِّرُ الْمُسْلَمَ أَوَّلًا خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْكِرَهُ الْمُسْلِمُ لَوْ أَقَرَّ أَوَّلًا، وَيُطَالِبُهُ بِالْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ. وَإِذَا أَتَى الْقَاضِيَ شَاهِدٌ لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ أَقْعَدَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مُثْبَتَةً فِي كِتَابٍ أَخَذَهُ وَتَأَمَّلَهُ، فَإِذَا سَأَلَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ، اسْتَأْذَنَ الْقَاضِيَ، لِيُصْغِيَ إِلَيْهِ، وَلَوْ شَهِدَ قَبْلَ اسْتِئْذَانِ الْقَاضِي وَسُؤَالِهِ، صَحَّتْ عَلَى الصَّحِيحِ،

لَكِنْ لَوْ شَهِدَ قَبْلَ اسْتِئْذَانِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: كُنْتُ ذَاهِلًا لَمْ أَسْمَعْ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ: يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِي الْجُمْلَةِ، فَمَا ثَبَتَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ثَبَتَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ إِلَّا عُيُوبَ النِّسَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَمَا لَا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَا يُقْضَى بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ فِي الْأَمْوَالِ قَطْعًا، وَلَا فِيمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسْوَةِ مُنْفَرِدَاتٍ عَلَى الْأَصَحِّ. ثُمَّ هَلِ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَحْدَهُ، وَالْيَمِينُ مُؤَكِّدَةٌ أَمْ بِهَا وَحْدَهَا، وَهُوَ مُؤَكِّدٌ، أَمْ بِهِمَا؟ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا الثَّالِثُ، فَلَوْ رَجَعَ الشَّاهِدُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، غَرِمَ، أَوْ بِالثَّانِي، فَلَا، أَوْ بِالثَّالِثِ، غَرِمَ النِّصْفَ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي بَعْدَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَتَعْدِيلِهِ، وَجَوَّزَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقْدِيمَ الْيَمِينِ عَلَى شَهَادَتِهِ. كَمَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى الرَّجُلِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيَجِبُ أَنْ يَتَعَرَّضَ الْحَالِفُ فِي الْيَمِينِ لِصِدْقِ الشَّاهِدِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهُ إِنَّ شَاهِدِي لَصَادِقٌ، وَإِنِّي مُسْتَحِقٌّ لِكَذَا، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ أَخَّرَ تَصْدِيقَ الشَّاهِدِ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الِاسْتِحْقَاقِ، جَازَ، وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُضَايَقُ فِيهِ. وَلَوْ فُسِّقَ الشَّاهِدُ بَعْدَ الْقَضَاءِ، لَمْ يُنْقَضِ الْحُكْمُ، وَإِنْ فُسِّقَ قَبْلَهُ، صَارَ كَأَنْ لَا شَاهِدَ، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا مَضَى، وَلَوْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعِي مَعَ شَاهِدِهِ، وَطَلَبَ يَمِينَ الْخَصْمِ، فَلَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ حَلَفَ، سَقَطَتِ الدَّعْوَى. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ شَاهِدِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً، فَيُسْمَعُ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَرَادَ الْمُدَّعِي يَمِينَ الرَّدِّ مُكِّنَ مِنْهَا

فصل

عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِيمَا لَوِ ادَّعَى مَالًا وَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعِي يَمِينَ الرَّدِّ، ثُمَّ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا، وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ يَمِينَ الرَّدِّ، فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَحْلِفَ، أَوْ يُقِرَّ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ حَقُّ الْمُدَّعِي، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِسْقَاطِهَا، لَكِنَّ التَّقْصِيرُ مِنْهُ حَيْثُ لَمْ يَحْلِفْ مَعَ شَاهِدِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْبَسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ نَحْوَ هَذَا. وَلَوْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الْحَلْفِ مَعَ شَاهِدِهِ وَاسْتِحْلَافِهِ الْخَصْمَ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، نَقَلَ الْمَحَامِلِيُّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَمِينَ صَارَتْ فِي جَانِبِ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يَعُودَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَيَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى، وَيُقِيمَ الشَّاهِدَ، فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ مَعَهُ. فَصْلٌ جَارِيَةٌ وَوَلَدُهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يَسْتَرِقُّهُمَا، فَقَالَ آخَرُ: هَذِهِ مُسْتَوْلَدَتِي وَالْوَلَدُ مِنِّي عَلَّقَتْ بِهِ فِي مِلْكِي، فَإِنْ أَقَامَ بِذَلِكَ شَاهِدَيْنِ ثَبَتَ مَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ أَقَامَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ رَجُلًا وَحَلَفَ مَعَهُ، ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَوْلَدَةِ حُكْمُ الْمَالِ، فَيُسَلَّمُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَاتَ، حُكِمَ بِعِتْقِهَا بِإِقْرَارِهِ، وَهَلْ يُحْكَمُ لَهُ بِالْوَلَدِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي مِلْكَهُ، بَلْ نَسَبَهُ وَحُرِّيَّتَهُ، وَهُمَا لَا يَثْبُتَانِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، فَيَبْقَى الْوَلَدُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ. وَهَلْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي، فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِقْرَارِ وَاللَّقِيطِ فِي اسْتِلْحَاقِ عَبْدِ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ تَبَعًا لَهَا، فَيُنْتَزَعُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَكُونُ حُرًّا نِسْبِيًّا بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ شَخْصٌ ادَّعَى أَنَّهُ رَقِيقُهُ، فَادَّعَى آخِرُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ، وَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَأَقَامَ شَاهِدًا وَحَلَفَ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْهُ، وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ عُتِقَ عَلَى الْمُدَّعِي بِإِقْرَارِهِ، فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: (فِي) قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ وَالِانْتِزَاعِ قَوْلَانِ، كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ

فصل

بِمِلْكٍ مُتَقَدِّمٍ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْعِتْقِ بِالْقَبُولِ وَالِانْتِزَاعِ، كَمَا نُصَّ عَلَيْهِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُنَا يَدَّعِي مِلْكًا، وَحُجَّتُهُ تَصْلُحُ لِإِثْبَاتِهِ، وَالْعِتْقُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ. وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي فِي صُورَةِ الِاسْتِيلَادِ لِصَاحِبِ الْيَدِ: اسْتَوْلَدْتُهَا أَنَا فِي مِلْكِكَ، ثُمَّ اشْتَرَيْتُهَا مَعَ الْوَلَدِ، فَعِتْقُ الْوَلَدِ عَلَيَّ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ حُجَّةً نَاقِصَةً، فَالْعِتْقُ الْآنَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمِلْكِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ النَّاقِصَةُ، فَيَكُونُ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ. هَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِمْ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَانْفَرَدَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فَحَكَيَا عَنِ الْأَصْحَابِ وَالْمُزَنِيِّ وَالنَّصُّ أَشْيَاءُ مُنْكَرَةٌ مُحَوَّلَةٌ عَنْ وَجْهِهَا، وَفِي «الْمُخْتَصَرِ» التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهَا، وَكَذَا كَتَبَ الْأَصْحَابُ. فَصْلٌ ادَّعَى وَرَثَةُ مَيِّتٍ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا لِمُوَرِّثِهِمْ، فَإِنَّمَا يُحْكَمُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا ثَبَتَ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الْمَوْتُ وَالْوِرَاثَةُ وَالْمَالُ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي لَا مَدْخَلَ فِيهِمَا لِلشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، بَلْ لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ أَوْ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَالُ، فَيَدْخُلُهُ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ، فَإِنْ حَضَرَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ وَهُمْ كَامِلُونَ، وَأَقَامُوا شَاهِدًا وَحَلَفُوا مَعَهُ اسْتَحَقُّوا، وَالْمَأْخُوذُ تَرِكَةٌ يُقْضَى مِنْهَا دُيُونُ الْمَيِّتِ وَوَصَايَاهُ، وَإِنِ امْتَنَعَ جَمِيعُهُمْ وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، فَهَلْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَحْلِفَ؟ ذَكَرْنَا فِي التَّفْلِيسِ فِيهِ قَوْلَيْنِ، الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ الْمَنْعُ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ كَانَ أَوْصَى لِرَجُلٍ، وَلَمْ يَحْلِفِ الْوَرَثَةُ، هَلْ يَحْلِفُ الْمُوصَى لَهُ؟ فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعَيْنٍ وَادَّعَاهَا فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ، وَيُقْطَعَ بِالْجَوَازِ، فَإِنْ حَلَفَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ دُونَ بَعْضٍ، أَخَذَ الْحَالِفُ نَصِيبَهُ وَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ، وَنَصَّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّهُمَا لَوِ ادَّعَيَا دَارًا إِرْثًا، فَصَدَّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ شَارَكَهُ الْمُكَذِّبُ، فَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ مِنَ الصُّلْحِ هُنَا قَوْلًا أَنَّ مَا أَخَذَهُ الْحَالِفُ يُشَارِكُهُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ يَثْبُتُ عَلَى الشُّيُوعِ. وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنْ لَا شَرِكَةَ هُنَا، كَمَا نُصَّ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ صُورَةَ الصُّلْحِ مُصَوَّرَةٌ فِي عَيْنٍ، وَأَعْيَانُ التَّرِكَةِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَالْمُصَدِّقُ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَالصُّورَةُ هُنَا فِي دَيْنٍ، وَالدَّيْنُ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالْقَبْضِ، فَالَّذِي أَخَذَهُ الْحَالِفُ يَتَعَيَّنُ لِنَصِيبِهِ بِالْقَبْضِ، فَلَمْ يُشَارِكْهُ الْآخَرُ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ صُورَةُ الصُّلْحِ فِي دَيْنٍ، لَمْ تَثْبُتِ الشَّرِكَةُ. وَلَوْ فُرِضَ شَاهِدُ وَيَمِينُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ فِي عَيْنٍ، تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ أَنَّ الثُّبُوتَ هُنَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا الشَّرِكَةَ لَمَلَّكْنَا النَّاكِلَ بِيَمِينِ غَيْرِهِ وَهُنَاكَ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِقْرَارُ الْمُصَدِّقِ بِأَنَّهُ إِرْثٌ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَلَا فِي صُورَةِ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَشَارَ فِي «الْوَسِيطِ» إِلَى تَخْرِيجِ خِلَافٍ فِي مَسْأَلَةِ الصُّلْحِ بِمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا لِغَيْرِهِ، وَهَلْ يُقْضَى مَنْ نَصِيبِ الْحَالِفِ جَمِيعُ الدَّيْنِ أَمْ بِالْحِصَّةِ؟ قَالَ فِي «الشَّامِلِ» يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْغَرِيمَ هَلْ يَحْلِفُ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا قَضَاءُ حِصَّتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، بُنِيَ عَلَى أَنَّ مَنْ يَحْلِفُ مِنَ الْوَرَثَةِ هَلْ يُشَارِكُ الْحَالِفَ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ قَضَى الْجَمِيعُ، لِأَنَّا أَعْطَيْنَاهُ حُكْمَ التَّرِكَةِ وَإِلَّا فَبِالْحِصَّةِ. هَذَا حُكْمُ نَصِيبِ الْحَالِفِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْلِفْ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا كَامِلَ الْحَالِ، وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، ذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ حَقَّهُ يَبْطُلُ بِالنُّكُولِ، وَلَوْ مَاتَ، لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ أَنْ يَحْلِفَ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ مَا يُنَازَعُ فِيهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ أَرَادَ وَارِثُهُ أَنْ يُقِيمَ شَاهِدًا آخَرَ لِيَحْلِفَ مَعَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَيْضًا، لَكِنْ هَلْ يُضَمُّ هَذَا الشَّاهِدُ إِلَى الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ، لِيُحْكَمَ بِالْبَيِّنَةِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ

جَارِيَانِ فِيمَا لَوْ أَقَامَ مُدَّعٍ شَاهِدًا فِي خُصُومَةٍ، ثُمَّ مَاتَ، فَأَقَامَ وَارِثُهُ شَاهِدًا آخَرَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الدَّعْوَى، وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْوَرَثَةُ شَاهِدًا، وَحَلَفَ مَعَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَاتَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ أَوْ يَنْكِلَ، كَانَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَحْلِفَ، لَكِنْ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَةِ الدَّعْوَى وَالشَّاهِدِ؟ فِيهِ التَّرَدُّدُ الْمَذْكُورُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي لَمْ يَحْلِفْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَائِبًا، نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَجْنُونِ أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَعَامَّةُ الْأَصْحَابِ: الْمُرَادُ أَنَّا نَمْتَنِعُ مِنَ الْحُكْمِ فِي نَصِيبِهِ، وَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يُفِيقَ، فَيَحْلِفَ أَوْ يَنْكِلَ، وَلَا يُؤْخَذُ نَصِيبُهُ وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ نَصِيبُهُ وَيُوقَفُ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْهِ أَنَّ الْحَيْلُولَةَ هَلْ تَثْبُتُ بِشَاهِدٍ؟ وَالصَّبِيُّ وَالْغَائِبُ كَالْمَجْنُونِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَاضِرُ الَّذِي لَمْ يَشْرَعْ فِي الْخُصُومَةِ، أَوْ لَمْ يَشْعُرْ بِالْحَالِ، كَالْمَجْنُونِ فِي بَقَاءِ حَقِّهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي النَّاكِلِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ نَصِيبُ الْمَعْذُورِينَ، فَإِذَا زَالَ عُذْرُهُمْ حَلَفُوا وَأَخَذُوا نَصِيبَهُمْ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَةِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى لَا عَنْ جِهَةِ الْإِرْثِ، بِأَنْ قَالَ: أَوْصَى لِي وَلِأَخِي الْغَائِبِ أَوِ الصَّبِيِّ أَبُوكَ بِكَذَا، أَوِ اشْتَرَيْتُ مَعَ أَخِي الْغَائِبِ مِنْكَ كَذَا، وَأَقَامَ شَاهِدًا، وَحَلَفَ مَعَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ يَحْتَاجَانِ إِلَى تَجْدِيدِ الدَّعْوَى وَإِعَادَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ شَاهِدٍ آخَرَ، وَلَا يُؤْخَذُ نَصِيبُهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى فِي الْمِيرَاثِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَيِّتُ، وَكَذَلِكَ يُقْضَى دَيْنُهُ مِنَ الْمَأْخُوذِ، وَفِي غَيْرِ الْمِيرَاثِ الدَّعْوَى وَأَلْحَقَ الْأَشْخَاصُ،

فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ أَوْ وِلَايَةٍ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمِيرَاثِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَةِ الشَّهَادَةِ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُ الشَّاهِدِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَقْدَحُ وَلِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْغَائِبِ إِذَا زَالَ عُذْرُهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا؛ لِأَنَّهُ قَدِ اتَّصَلَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ، فَلَا أَثَرَ لِلتَّغَيُّرِ، وَالثَّانِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ: لَا يَحْلِفُونَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ اتَّصَلَ بِشَهَادَتِهِ فِي حَقِّ الْحَالِفِ فَقَطْ، وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَ الشَّاهِدُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا، وَلَوْ مَاتَ الْغَائِبُ أَوِ الصَّبِيُّ، فَلِوَارِثِهِ أَنْ يَحْلِفَ وَيَأْخُذَ حِصَّتَهُ، فَإِنْ كَانَ وَارِثُهُ هُوَ الْحَالِفُ، لَمْ تُحْسَبْ يَمِينُهُ الْأُولَى. وَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى وَرَثَةِ رَجُلٍ أَنَّ مُوَرِّثَكُمْ أَوْصَى لِي وَلِأَخِي، أَوْ وَلِأَجْنَبِيٍّ بِكَذَا، وَأَقَامَ شَاهِدًا، وَحَلَفَ مَعَهُ، وَأَخَذَ نَصِيبَهُ، لَمْ يُشَارِكْهُ الْآخَرُ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ أَنَّ مَنْ يَحْلِفُ مِنَ الْوَرَثَةِ عَلَى دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ لِلْمُوَرِّثِ يَحْلِفُ عَلَى الْجَمِيعِ لَا عَلَى حِصَّتِهِ فَقَطْ، سَوَاءٌ حَلَفَ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، وَكَذَا الْغَرِيمُ وَالْمُوصَى لَهُ إِذَا قُلْنَا: يَحْلِفَانِ، وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِ إِشْعَارٌ بِخِلَافِهِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا أَقَامَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ شَاهِدًا وَاحِدًا، وَحَلَفَ مَعَهُ، فَأَمَّا إِذَا أَقَامَ بَعْضُهُمْ شَاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ الْمُدَّعَى كُلَّهُ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ مِنَ الْوَرَثَةِ، أَوْ بَلَغَ صَبِيُّهُمْ، أَوْ عَقَلَ مَجْنُونُهُمْ، أَخَذَ نَصِيبَهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَجْدِيدِ الدَّعْوَى وَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَيَنْتَزِعُ الْقَاضِي بَعْدَ تَمَامِ الْبَيِّنَةِ نَصِيبَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْغِبْطَةِ كَيْلَا يَضِيعَ عَيْنَ مَالِهِ، وَأَمَّا نَصِيبُ الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا انْتَزَعَهَا، وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الِانْتِزَاعَ وَاجِبٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنْ سَبَقَ فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ حَمَلَ الْمَغْصُوبَ إِلَى الْقَاضِي وَالْمَالِكُ غَائِبٌ، فَفِي وُجُوبِ قَبُولِهِ وَجْهَانِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ ذَلِكَ الْخِلَافُ هُنَا مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ

فصل

كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، فَفِي انْتِزَاعِ نَصِيبِ الْغَائِبِ وَجْهَانِ جَارِيَانِ فِيمَنْ أَقَرَّ لِغَائِبٍ بِدَيْنٍ، وَحَمَلَهُ إِلَى الْقَاضِي، هَلْ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، وَالْأَصَحُّ فِي الصُّورَتَيْنِ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَحَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ فِي مَسْأَلَتِنَا عَنِ النَّصِّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَبَقَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ أَحَدَ الْوَارِثِينَ لَا يَنْفَرِدُ بِقَبْضِ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ، وَلَوْ قَبَضَ شَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ، وَقَالُوا هُنَا: يَأْخُذُ الْحَاكِمُ نَصِيبَهُ، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا غَيْبَةَ الشَّرِيكِ عُذْرًا فِي تَمْكِينِ الْحَاضِرِ مِنَ الِانْفِرَادِ، وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَى لَهُ وَلِفُلَانٍ بِكَذَا، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَفُلَانٌ غَائِبٌ أَوْ صَبِيٌّ، لَمْ يُؤْخَذْ نَصِيبُ فُلَانٍ بِحَالٍ، وَإِذَا حَضَرَ وَبَلَغَ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّعْوَى فِي الْإِرْثِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ لِلْوَارِثِ الْغَائِبِ وَكِيلٌ وَقَدْ أَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ، قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: يَقْبِضُ الْوَكِيلُ نَصِيبَ الْغَائِبِ دُونَ الْقَاضِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، قَبَضَ الْقَاضِي، وَيُؤَجَّرُ لِئَلَّا تَفُوتَ الْمَنَافِعُ. فَصْلٌ هَلْ يَثْبُتُ الْوَقْفُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِيهِ لِلْوَاقِفِ أَوِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَنَعَمْ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى، فَوَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ كَالْعِتْقِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ سَلَمَةَ، وَالْعِرَاقِيُّونَ يَمِيلُونَ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ، وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَقْوَى فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَجَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ. وَلَوِ ادَّعَى وَرَثَةُ مَيِّتٍ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ غَصَبَ هَذِهِ الدَّارَ، وَقَالُوا: كَانَتْ

لِأَبِينَا وَقَفَهَا عَلَيْنَا وَعَلَى فُلَانٍ، تَثْبُتُ دَعْوَى الْغَصْبِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَيَثْبُتُ بِهِمَا أَيْضًا الْوَقْفُ إِنْ أَثْبَتْنَاهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِلَّا فَيَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِمْ. وَلَوْ مَاتَ عَنْ بَنِينَ، فَادَّعَى ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ أَبَاهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّارَ، وَأَنْكَرَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ، فَأَقَامُوا شَاهِدًا لِيَحْلِفُوا مَعَهُ تَفْرِيعًا عَلَى ثُبُوتِ الْوَقْفِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فَلِدَعْوَاهُمْ صُورَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَدَّعُوا وَقَفَ تَرْتِيبٍ، فَيَقُولُوا: وَقَفَ عَلَيْنَا وَبَعْدَنَا عَلَى أَوْلَادِنَا وَعَلَى الْفُقَرَاءِ، فَلَهُمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَنْ يَحْلِفُوا جَمِيعًا، فَيَثْبُتُ الْوَقْفُ، وَلَا حَقَّ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ فِي الدَّارِ، فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُدَّعُونَ، أَخَذَ الْبَطْنُ الثَّانِي الدَّارَ وَقْفًا، وَهَلْ يَأْخُذُونَهُ بِيَمِينٍ أَمْ بِلَا يَمِينٍ؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ قَوْلَانِ، الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: بِلَا يَمِينٍ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَإِذَا انْتَهَى الِاسْتِحْقَاقُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ عَادَ الْخِلَافُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَأْخُذُونَ بِيَمِينٍ مَكَانَ الْحَقِّ بَعْدَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِلْفُقَرَاءِ، نُظِرَ إِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، كَفُقَرَاءِ قَرْيَةٍ وَمَحَلَّةٍ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ فَهَلْ يَبْطُلُ الْوَقْفُ وَتَعُودُ الدَّارُ إِرْثًا، أَمْ يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ بِلَا يَمِينٍ أَمْ يُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ بِنَاءً عَلَى تَعَذُّرِ مَصْرِفِهِ كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ يَأْخُذُونَ بِلَا يَمِينٍ وَتَسْقُطُ هُنَا لِتَعَذُّرِهَا وَلَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ بَعْدَ صِحَّتِهِ وَوُجُودِ الْمَصْرَفِ بِخِلَافِ الْمُنْقَطِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْحَالِفِينَ، صُرِفَ نُصِيبُهُ إِلَى الْآخَرِينَ، فَإِنْ مَاتَ آخَرُ، صُرِفَ الْجَمِيعُ إِلَى الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَطْنِ الثَّانِي إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ أَخْذُ الْآخِرِينَ يَكُونُ بِلَا يَمِينٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ كَالْبَطْنِ الثَّانِي.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَنْكِلُوا جَمِيعًا عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَالدَّارُ تَرِكَةٌ يُقْضَى مِنْهَا الدَّيْنُ وَالْوَصِيَّةُ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَيَكُونُ حِصَّةُ الْمُدَّعِينَ وَقْفًا بِإِقْرَارِهِمْ، وَحِصَّةُ سَائِرِ الْوَرَثَةِ طَلْقًا لَهُمْ، فَإِذَا مَاتَ الْمُدَّعُونَ، لَمْ يُصْرَفْ نَصِيبُهُمْ إِلَى أَوْلَادِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْوَقْفِ إِلَّا بِيَمِينٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ وَقْفًا بِلَا يَمِينٍ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَوْلَادُ أَنْ يَحْلِفُوا وَيَأْخُذُوا جَمِيعَ الدَّارِ وَقْفًا، فَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ حَقٍّ، فَإِذَا أَبْطَلَ آبَاؤُهُمْ حَقَّهُمْ بِالنُّكُولِ، فَلَهُمْ أَنْ لَا يُبْطِلُوا حَقَّهُمْ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: لَوْ لَمْ يَحْلِفُوا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا وَقْفًا، أَمْ قُلْنَا: حِصَّةُ الْأَوَّلِينَ تَبْقَى وَقْفًا، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا، وَهَلْ يَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي حَيَاةِ الْأَوَّلِينَ إِذَا نَكَلُوا؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِبُطْلَانِ حَقِّهِمْ، وَتَعَذُّرِ الصَّرْفِ إِلَيْهِمْ بِنُكُولِهِمْ، كَمَا لَوْ مَاتُوا، وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَطْنِ الثَّانِي شَرْطُهُ انْقِرَاضُ الْأَوَّلِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْلِفَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَإِذَا حَلَفَ وَاحِدٌ، وَنَكَلَ اثْنَانِ، أَخَذَ الْحَالِفُ الثُّلُثَ وَقْفًا، وَأَمَّا الْبَاقِي، فَهُوَ تَرِكَةٌ تُقْضَى مِنْهَا الدُّيُونُ وَالْوَصَايَا، فَمَا فَضَلَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : يُقَسَّمُ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَمَا خَصَّ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةَ كَانَ وَقْفًا عَلَى النَّاكِلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ مُعْتَرِفٌ لَهُمَا بِذَلِكَ. وَالْأَصَحِّ وَبِهِ قَطَعَ الْمَحَامِلِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُنْكِرِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ وَاللَّذَيْنِ نَكَلَا دُونَ الْحَالِفِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِانْحِصَارِ حَقِّهِ فِيمَا أَخَذَ، ثُمَّ حِصَّةُ النَّاكِلَيْنِ تَكُونُ وَقْفًا بِإِقْرَارِهِمَا، فَإِذَا مَاتَ النَّاكِلَانِ وَالْحَالِفُ حَيٌّ، فَنُصِيبُهُمَا لِلْحَالِفِ عَلَى مَا شَرَطَ الْوَاقِفُ بِإِقْرَارِهِمَا، وَفِي اشْتِرَاطِ يَمِينِهِ الْوَجْهَانِ، فَإِذَا مَاتَ الْحَالِفُ، فَالِاسْتِحْقَاقُ لِلْبَطْنِ الثَّانِي، وَفِي حَلِفِهِمُ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مَيِّتًا عِنْدَ مَوْتِ النَّاكِلَيْنِ، فَأَرَادَ أَوْلَادُهُمَا أَنْ يَحْلِفُوا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي أَوْلَادِ الْجَمِيعِ إِذَا نَكَلُوا، الْأَظْهَرُ لَهُمُ الْحَلِفُ، وَفِي نَصِيبِ الْحَالِفِ الْمَيِّتِ

قَبْلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُصْرَفُ إِلَى النَّاكِلَيْنِ، فَعَلَى هَذَا فِي حَلِفِهِمَا الْخِلَافُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَحْلِفَانِ، فَنَكَلَا سَقَطَ هَذَا الْوَجْهُ، وَالثَّانِي: يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ ظَاهِرُ إِشَارَتِهِ فِي «الْأُمِّ» لِأَنَّهُمَا أَبْطَلَا حَقَّهُمَا بِنُكُولِهِمَا، وَصَارَا كَالْمَعْدُومَيْنِ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ وَقْفٌ تَعَذَّرَ مَصْرَفُهُ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَبْطُلُ أَمْ يَبْقَى، وَإِذَا بَقِيَ فَهَلْ يُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ أَمْ كَيْفَ حَالُهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْوَقْفِ بِتَفْرِيعِهِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا، وَيُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا زَالَ التَّعَذُّرُ بِمَوْتِ النَّاكِلَيْنِ، صُرِفَ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَيَجِيءُ فِي حَلِفِ أَقْرَبِ النَّاسِ إِذَا قُلْنَا: يُصْرَفُ إِلَيْهِمِ الْخِلَافُ. فَرْعٌ إِذَا تَصَادَقَتِ الْوَرَثَةُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ وَقْفُ أَبِيهِمْ، ثَبَتَ الْوَقْفُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَاهِدٍ وَيَمِينٍ. فَرْعٌ ادَّعَوْا عَلَى رَجُلٍ دَارًا فِي يَدِهِ أَنَّهُ وَقَفَهَا عَلَيْهِمْ، أَوْ عَلَى وَرَثَةٍ أَنَّ مُوَرِّثَهُمْ وَقَفَهَا عَلَيْهِمْ وَأَقَامُوا شَاهِدًا نُظِرَ: أَحَلَفُوا مَعَ شَاهِدِهِمْ، أَمْ نَكَلُوا، أَمْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ، وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ، وَتَجِيءُ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ حَيْثُ جَعَلْنَا كُلَّ الْمُدَّعَى أَوْ بَعْضَهُ تَرِكَةً هُنَاكَ، تُرِكَ هُنَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَدَّعُوا وَقْفَ تَشْرِيكٍ، فَيَقُولُ الْبَنُونُ الثَّلَاثَةُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ: هُوَ وَقْفٌ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلَادِنَا وَأَوْلَادِ أَوْلَادِنَا مَا تَنَاسَلْنَا،

فَإِذَا انْقَرَضْنَا، فَعَلَى الْفُقَرَاءِ، فَأَقَامُوا بِذَلِكَ شَاهِدًا، وَإِنْ حَلَفُوا مَعَهُ أَخَذُوا الدَّارَ وَقْفًا، ثُمَّ إِذَا حَدَثَ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ، فَمُقْتَضَى الْوَقْفِ شَرِكَتُهُ، فَيُوقَفُ رُبُعُ الْغَلَّةِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ، فَيُصْرَفَ إِلَيْهِ إِنْ حَلَفَ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْبَطْنَ الثَّانِيَ هَلْ يَحْتَاجُونَ إِلَى يَمِينٍ إِذَا حَلَفَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ، بَلْ جَزَمُوا بِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْيَمِينِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِلَّا السَّرَخْسِيَّ، فَحَكَى فِيهِ وَجْهًا. ثُمَّ إِنَّ الرُّبُعَ الْمَوْقُوفَ هَلْ يُوقَفُ فِي يَدِ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، أَمْ يُنْتَزَعُ، وَيَجْعَلُهُ فِي يَدِ أَمِينٍ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، فَإِنْ نَكَلَ بَعْدَ بُلُوغِهِ صُرِفَ الْمَوْقُوفُ إِلَى الثَّلَاثَةِ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُولَدْ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَحُكِيَ وَجْهٌ أَوْ تَخْرِيجٌ أَنَّ نَصِيبَ الْمَوْلُودِ وَقْفٌ تَعَذَّرَ مَصْرَفُهُ، فَيَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ لَهُ، فَكَيْفَ يَأْخُذُونَهُ بِامْتِنَاعِهِ بِالْيَمِينِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالنُّكُولِ، لَمْ يَسْتَحِقَّهَا. فَأَمَّا رَقَبَةُ الْوَقْفِ وَغَلَّتُهَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ، فَمُقْتَضَى الشَّرْطِ أَنْ يَسْتَغْرِقَهَا الثَّلَاثَةُ الْحَالِفُونَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ تَجْدِيدُ يَمِينٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَكَأَنَّ الْمَوْلُودَ لَمْ يَكُنْ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْحَالِفِينَ فِي صِغَرِ الْوَلَدِ وُقِفَ مِنْ يَوْمِ مَوْتِهِ لِلْوَلَدِ ثُلُثُ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقِّينَ صَارُوا ثَلَاثَةً فَإِنْ بَلَغَ وَحَلَفَ، أَخَذَ الرُّبُعَ وَالثُّلُثَ الْمَوْقُوفَيْنَ، وَإِنْ نَكَلَ صَرَفَ الرُّبُعَ إِلَى الِابْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، وَصَرَفَ الثُّلُثَ إِلَى الْبَاقِينَ خَاصَّةً، وَيَعُودُ فِيهِ التَّخْرِيجُ السَّابِقُ. وَلَوْ بَلَغَ الْوَلَدُ مَجْنُونًا أَدَمْنَا الْوَقْفَ طَمَعًا فِي إِفَاقَتِهِ، فَإِنْ وُلِدَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيقَ وُقِفَ لَهُ الْخُمُسُ، وَلِلْمَوْلُودِ الْخُمُسُ مِنْ يَوْمِ وِلَادَةِ الْوَلَدِ، فَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، وَبَلَغَ وَلَدُهُ وَحَلَفَا، أَخَذَ الْمَجْنُونُ الرُّبُعَ مِنْ يَوْمِ وِلَادَتِهِ إِلَى يَوْمِ وِلَادَةِ وَلَدِهِ، وَالْخُمُسَ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَأَخَذَ وَلَدُهُ الْخُمُسَ مِنْ يَوْمَئِذٍ. وَلَوْ مَاتَ الْمَجْنُونُ فِي جُنُونِهِ

بَعْدَمَا وُلِدَ وَلَدٌ لَهُ، فَالْقِلَّةُ الْمَوْقُوفَةُ لِوَرَثَتِهِ إِذَا حَلَفُوا، وَيُوقَفُ لِوَلَدِهِ مِنْ يَوْمِ ثُبُوتِهِ رُبُعُ الْغَلَّةِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعُونَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلًا، فَإِنْ نَكَلُوا عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَلِمَنْ حَدَّثَ بَعْدَهُمْ أَيَحْلِفُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْأَوَّلِينَ بِتَلَقِّي الْوَقْفِ مِنَ الْوَاقِفِ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، أَخَذَ الْحَالِفُ نَصِيبَهُ، وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ هِيَ مَقْبُولَةٌ فِي غَيْرِ الْعُقُوبَاتِ، كَالْأَمْوَالِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْبَيْعِ، وَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَالْفُسُوخِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالرَّضَاعِ، وَالْوِلَادَةِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ سَوَاءٌ حَقُّ الْآدَمِيِّ، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالزَّكَاةِ وَوَقْفِ الْمَسَاجِدِ، وَالْجِهَاتِ الْعَامَّةِ. وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ، فَالْمَذْهَبُ الْقَبُولُ فِي الْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْمَنْعِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: وَالْإِحْصَانُ كَالْحَدِّ. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ آخَرَيْنِ أَنَّ الْحَاكِمَ حَدَّ فُلَانًا، قُبِلَتْ بِلَا خِلَافٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَإِنَّهُ إِسْقَاطُ حَدٍّ عَنْهُ، ثُمَّ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةُ أَطْرَافٍ: (الْأَوَّلُ) فِي تَحَمُّلِهَا وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّحَمُّلُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ عِنْدَ الْأَصْلِ شَهَادَةً جَازِمَةً بِحَقٍّ ثَابِتٍ، وَلِمَعْرِفَتِهِ أَسْبَابٌ، أَحَدُهَا أَنْ يَسْتَرْعِيَهُ الْأَصْلُ، فَيَقُولُ: أَنَا شَاهِدٌ بِكَذَا، وَأَشْهَدْتُكَ عَلَى شَهَادَتِي، أَوْ يَقُولُ: أُشْهِدُكَ أَوِ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِكَذَا، أَوْ يَقُولُ: إِذَا اسْتُشْهِدْتَ عَلَى شَهَادَتِي، فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي أَنْ تَشْهَدَ، أَمَّا إِذَا سَمِعَ إِنْسَانًا يَقُولُ: لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَوِ اشْهَدْ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، لَا عَلَى صُورَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَتَسَاهَلُونَ فِي إِطْلَاقِ ذَلِكَ

عَلَى عِدَّةٍ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: عِنْدِي شَهَادَةٌ بِكَذَا فَلَوْ قَالَ: عِنْدِي شَهَادَةٌ مَجْزُومَةٌ أَوْ شَهَادَةٌ أُثْبِتُهَا أَوْ لَا أَتَمَارَى فِيهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَأَوْفَقُهُمَا لِإِطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ: الْمَنْعُ أَيْضًا. وَيُشْتَرَطُ تَعَرُّضُ الْأَصْلِ لِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ قَالَ: أَعْلَمُ، أَوْ أَخْبُرُ، أَوْ أَسْتَيْقِنُ، لَمْ يَكْفِ كَمَا لَوْ أَتَى الشَّاهِدُ عِنْدَ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْكُمُ بِهَا، قَالَ الْإِمَامُ: وَأَبْعَدَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، فَأَقَامَ اللَّفْظَ الَّذِي لَا تَرَدُّدَ فِيهِ مَقَامَ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ فِي الِاسْتِرْعَاءِ: أُشْهِدُكَ عَلَى شَهَادَتِي، وَعَنْ شَهَادَتِي، لَكِنَّهُ أَتَمُّ، فَقَوْلُهُ: أُشْهِدُكَ عَلَى شَهَادَتِي تَحْمِيلٌ، وَقَوْلُهُ: عَنْ شَهَادَتِي إِذْنٌ فِي الْأَدَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَدِّهَا عَنِّي، وَلِإِذْنِهِ أَثَرٌ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ بَعْدَ التَّحَمُّلِ: لَا تُؤَدِّ عَنِّي امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِرْعَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِرْعَاءُ، لَمْ يَخْتَصَّ التَّحَمُّلُ بِمَنِ اسْتَرْعَاهُ. السَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْمَعَهُ يَشْهَدَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَصَدَّى لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي إِلَّا تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ، وَلِلْقَاضِي أَيْضًا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ، وَالشَّهَادَةُ عِنْدَ الْمُحَكَّمِ كَالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي سَوَاءٌ جَوَّزْنَا التَّحْكِيمَ أَمْ لَا، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنَّمَا تَجُوزُ إِذَا جَوَّزْنَاهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْمُحَكَّمِ إِلَّا وَهُوَ جَازِمٌ بِثُبُوتِ الْمَشْهُودِ بِهِ.

السَّبَبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبَ الْوُجُوبِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، أَوْ قَرْضٍ، أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ، فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الْقَاضِي، وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ اسْتِرْعَاءٌ؛ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ إِلَى السَّبَبِ يَقْطَعُ احْتِمَالَ الْوَعْدِ وَالتَّسَاهُلِ، هَذَا مَا يُوجَدُ لِعَامَّةِ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ وَجْهًا أَنَّ الْإِسْنَادَ إِلَى السَّبَبِ لَا يَكْفِي لِلتَّحَمُّلِ، وَوَجْهًا أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْقَاضِي لَا تَكْفِي أَيْضًا، بَلْ يُشْتَرَطُ الِاسْتِرْعَاءُ، وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ. فَرْعٌ إِذَا قَالَ: عَلَيَّ لِفُلَانٍ أَلْفٌ، فَوَجْهَانِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَدْرِ، بَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ قَرِينَةٌ تُشْعِرُ بِالْوُجُوبِ بِأَنْ يُسْنِدَهُ إِلَى سَبَبٍ، فَيَقُولَ: مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، أَوْ يَسْتَرْعِيَهُ، فَيَقُولَ: فَاشْهَدْ عَلَيَّ بِهِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ كَافٍ لِلتَّحَمُّلِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ، وَلِهَذَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْفَاسِقِ وَالْمُغَفَّلِ وَالْمَجْهُولِ دُونَ شَهَادَتِهِمْ. فَرْعٌ الْفَرْعُ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ يُبَيِّنُ جِهَةَ التَّحَمُّلِ، فَإِنِ اسْتَرْعَاهُ الْأَصْلُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا شَهِدَ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ، بَيَّنَ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ أَنَّهُ أَسْنَدَ الْمَشْهُودَ بِهِ إِلَى سَبَبٍ، قَالَ الْإِمَامُ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ

الْجَهْلُ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعْلَمُ، وَوَثِقَ بِهِ الْقَاضِي، جَازَ أَنْ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ: أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ بِكَذَا، وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ ثَبَتَ هَذَا الْمَالُ، وَهَلْ أَخْبَرَكَ بِهِ الْأَصْلُ؟ هَذَا إِذَا لَمْ يُبَيِّنِ السَّبَبَ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي صِفَاتِ شَاهِدِ الْأَصْلِ، وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ. لَا يَصِحُّ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ فَاسِقٍ، أَوْ كَافِرٍ، أَوْ عَبْدٍ، أَوْ صَبِيٍّ، أَوْ عَدُوٍّ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَيِ الشَّهَادَةَ، فَلَوْ تَحَمَّلَ وَالْأَصْلُ بِصِفَاتِ الشُّهُودِ، ثُمَّ طَرَأَ مَا يَمْنَعُ قَبُولَهَا، أَوِ الْوُصُولَ إِلَيْهَا، نُظِرَ إِنْ كَانَ الطَّارِئُ مَوْتًا أَوْ غَيْبَةً أَوْ مَرَضًا، لَمْ يُؤَثِّرْ، وَإِنْ عَرَضَ فِسْقٌ أَوْ عَدَاوَةٌ أَوْ رِدَّةٌ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَا دَامَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ بِالْأَصْلِ، فَإِنْ زَالَتْ هَلْ يَشْهَدُ الْفَرْعُ بِالتَّحَمُّلِ الْأَوَّلِ، أَمْ يُشْتَرَطُ تَحَمُّلٌ جَدِيدٌ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ. وَلَوْ حَدَثَ الْفِسْقُ، أَوِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ، وَقَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ، وَلَوْ طَرَأَ عَلَى الْأَصْلِ جُنُونٌ، فَقِيلَ: تَبْطُلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ كَالْفِسْقِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ: لَا أَثَرَ لَهُ، كَالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقِعُ رِيبَةً فِيمَا مَضَى، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ عَمِيَ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يُؤَثِّرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يُؤَثِّرْ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا، لَمْ يَشْهَدِ الْفَرْعُ، بَلْ يَنْتَظِرُ زَوَالَهُ؛ لِأَنَّهُ قَرِيبُ الزَّوَالِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْجَوَازُ كَذَلِكَ فِي (كُلِّ) مَرَضٍ يُتَوَقَّعُ زَوَالُهُ، كَتَوَقُّعِ زَوَالِ الْإِغْمَاءِ. قُلْتُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْمَرَضَ لَا يُلْحَقُ بِالْإِغْمَاءِ، وَإِنْ تَوَقَّعَ زَوَالَهُ قَرِيبًا؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا أَثَرَ لِحُدُوثِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ الْفَرْعُ فِي غَيْبَةِ الْأَصْلِ، ثُمَّ حَضَرَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، لَمْ يُؤَثِّرْ، وَإِنْ حَضَرَ

قَبْلَهُ، امْتَنَعَ الْقَضَاءُ، لِحُصُولِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَكَذَا لَوْ كَذَّبَ الْأَصْلُ الْفَرْعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ، امْتَنَعَ الْقَضَاءُ، وَالتَّكْذِيبُ بَعْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ. وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالْفَرْعِ، ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ الْأَصْلَ كَذَّبَ الْفَرْعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ، فَالْقَضَاءُ مَنْقُوضٌ. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي سَبَقَ حُكْمُ صِفَةِ الْأَصْلِ، أَمَّا الْفَرْعُ، فَلَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ، وَهُوَ عَبْدٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ فَاسِقٌ، أَوْ أَخْرَسُ، صَحَّ تَحَمُّلُهُ، كَتَحَمُّلِ الْأَصْلِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، ثُمَّ الْأَدَاءُ يَكُونُ بَعْدَ زَوَالِهَا. فَرْعٌ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إِلَّا مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتِ الْأُصُولُ أَوْ بَعْضُهُمْ نِسَاءً، وَكَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي وِلَادَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مَالٍ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ تُثْبِتُ الْأَصْلَ لَا مَا شَهِدَ بِهِ الْأَصْلُ، وَنَفْسُ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا فِي الْوِلَادَةِ وَهُوَ شَاذٌّ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي عَدَدِ شُهُودِ الْفَرْعِ، فَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ، وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ الثَّانِي، فَقَدْ تَمَّ النِّصَابُ، وَلَوْ شَهِدَ فَرْعٌ عَلَى أَصْلٍ، وَفَرْعٌ آخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الثَّانِي، لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا، وَلَوْ شَهِدَ فَرْعَانِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ مَعًا، فَفِي قَبُولِهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ، وَخَالَفَهُمُ الْبَغَوِيُّ، وَالسَّرَخْسِيُّ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ مَعًا، فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُمَا عَلَى أَيِّهِمَا، وَيَحْلِفَ مَعَهُ، وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا شَهِدَ الْفُرُوعُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى

شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِ الْمَنْعِ فِي الِاثْنَيْنِ يُشْتَرَطُ سِتَّةٌ يَشْهَدُ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَعَلَى الْأَظْهَرِ يَكْفِي اثْنَانِ لِلْجَمِيعِ، وَعَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ فِي قَبُولِ النِّسَاءِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْوِلَادَةِ هَلْ يَكْفِي شَهَادَةُ أَرْبَعٍ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعٍ، أَمْ يُشْتَرَطُ سِتَّ عَشْرَةَ، لِيَشْهَدَ كُلُّ أَرْبَعٍ عَلَى وَاحِدَةٍ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةِ الْفُرُوعِ فُرُوعٌ، وَشَرْطُنَا أَنْ يَشْهَدَ فَرْعَانِ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ، وَجَبَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ فَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ الْأَرْبَعَةِ اثْنَانِ، فَيَجْتَمِعُ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ شَهَادَتُهُمْ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِسِتَّةَ عَشَرَ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. وَإِذَا أَجْرَيْنَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَلْ تَثْبُتُ الشَّهَادَةُ عَلَى شُهُودِ الزِّنَى بِأَرْبَعَةٍ، أَمْ يَكْفِي اثْنَانِ؟ قَوْلَانِ كَالْقَوْلَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى، فَإِنِ اكْتَفَيْنَا بِاثْنَيْنِ، وَجَوَّزْنَا شَهَادَةَ فَرَعَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ مَعًا، كَفَى اثْنَانِ، وَإِنْ شَرَطْنَا لِكُلِّ أَصْلٍ اثْنَيْنِ، اشْتُرِطَ ثَمَانِيَةٌ، وَإِنْ شَرَطْنَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى أَرْبَعَةً، فَإِنْ جَوَّزْنَا شَهَادَةَ فَرْعَيْنِ عَلَى الْأَصْلَيْنِ مَعًا، كَفَى أَرْبَعَةٌ عَلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنْ شَرَطْنَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ أَصْلٍ فَرْعَانِ، اشْتَرَطْنَا هُنَا سِتَّةَ عَشَرَ كُلَّ أَرْبَعَةٍ عَلَى أَصْلٍ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي أَنَّ شَهَادَةَ الْفُرُوعِ مَتَى تُسْمَعُ. وَإِنَّمَا تُسْمَعُ إِذَا تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ، أَوْ تَعَسَّرَ، وَقِيلَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ، كَالرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ وَاسِعٌ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَجُوِّزَتْ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا. فَمِنْ وُجُوهِ التَّعَذُّرِ الْمَوْتُ وَالْعَمَى، وَمِنَ التَّعَسُّرِ الْمَرَضُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُمْكِنَهُ الْحُضُورُ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَنَالَهُ بِالْحُضُورِ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَيُلْحَقُ خَوْفُ الْغَرِيمِ وَسَائِرُ مَا تُتْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ بِالْمَرَضِ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي الْأَعْذَارِ الْخَاصَّةِ دُونَ مَا يَعُمُّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ، كَالْمَطَرِ وَالْوَحَلِ الشَّدِيدِ، وَلَا يُكَلَّفُ

فصل

الْقَاضِي أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَ شَاهِدِ الْأَصْلِ، أَوْ يَبْعَثَ نَائِبَهُ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِابْتِذَالِ. وَمِنْهَا: الْغَيْبَةُ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنْ كَانَتْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ وَجْهَيْنِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ الْأَصْلُ بُكْرَةً لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ إِلَى أَهْلِهِ لَيْلًا، لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَةُ الْفَرْعِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ مَسَافَةَ الْعَدْوَى، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فَهُوَ مَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ وَأَصَحُّهُمَا، سْمَعُ. فَصْلٌ يَجِبُ عَلَى الْفُرُوعِ تَسْمِيَةُ الْأُصُولِ وَتَعْرِيفُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِمْ، وَلَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُمْ مَا لَمْ يُعْرَفُوا. وَلَوْ وَصَفُوهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَلَمْ يُسَمُّوهُمْ بِأَنْ قَالُوا: نَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَوْ عُدُولٍ، لَمْ يَكْفِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَعْرِفُ جُرْحَهُمْ لَوْ سَمَّوْهُمْ، وَلِأَنَّهُ يَنْسَدُّ بَابُ الْجَرْحِ عَلَى الْخَصْمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ تَزْكِيَةُ شُهُودِ الْأَصْلِ، بَلْ لَهُمْ إِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ الْقَاضِي يَبْحَثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ وَجْهًا فِي اشْتِرَاطِهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ الْفُرُوعُ: أَشْهِدْنَا عَلَى شَهَادَتِهِ، وَكَانَ عَدْلًا إِلَى الْيَوْمِ أَوْ إِلَى أَنْ مَاتَ تَفْرِيعًا عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ لَوْ فُسِّقَ الْأَصْلُ، ثُمَّ تَابَ، لَمْ يَكُنْ لِلْفَرْعِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ إِلَّا بِإِشْهَادٍ جَدِيدٍ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ إِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ تَزْكِيَةُ الْأَصْلِ، فَلَوْ زَكَّوْهُمْ وَهُمْ بِصِفَاتِ الْمُزَكِّينَ، فَالْمَذْهَبُ - وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ - أَنَّهُ تُقْبَلُ تَزْكِيَتُهُمْ، وَتَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ، وَالْمَعْرُوفُ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ فِي وَاقِعَةٍ، وَزَكَّى أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ عَدَالَةُ الثَّانِي، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا عَلَى وَجْهَيْنِ بِالتَّخْرِيجِ، وَالْمَذْهَبُ الْفَرْقُ أَنَّ تَزْكِيَةَ الْفُرُوعِ الْأُصُولَ مِنْ تَتِمَّةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ

شَرَطَ بَعْضُهُمُ التَّعَرُّضَ لَهَا، فَقُبِلَتْ وَهُنَاكَ قَامَ الشَّاهِدُ الْمُزَكَّى بِأَحَدِ شَطْرَيِ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَامُهُ بِالثَّانِي، وَلَا يُشْتَرَطْ أَنْ يَتَعَرَّضَ الْفُرُوعُ فِي شَهَادَتِهِمْ، لِصِدْقِ الْأُصُولِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعِي مَعَ شَاهِدِهِ حَيْثُ يَتَعَرَّضُ لِصِدْقِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ السَّادِسُ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ رُجُوعُ الشُّهُودِ عَنِ الشَّهَادَةِ إِمَّا أَنْ يَقَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِمَّا بَعْدَهُ. الْحَالَةُ الْأَوْلَى قَبْلَهُ، فَيَمْتَنِعُ مِنَ الْقَضَاءِ ثُمَّ إِنِ اعْتَرَفُوا بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ، فَهُمْ فَسَقَةٌ يَسْتَتِرُونَ، وَإِنْ قَالُوا: غَلِطْنَا، لَمْ يُفَسَّقُوا، لَكِنْ لَا تُقْبَلُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ إِنْ أَعَادُوهَا، وَإِنْ كَانُوا شَهِدُوا بِالزِّنَى فَرَجَعُوا، وَاعْتَرَفُوا بِالتَّعَمُّدِ، فُسِّقُوا وَحُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ، وَإِنْ قَالُوا: غَلِطْنَا، فَفِي حَدِّ الْقَذْفِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ، وَأَصَحُّهُمَا يَجِبُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَكَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَثْبُتُوا، فَعَلَى هَذَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا حَدَّ، فَلَا تُرَدُّ، وَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ لِلْقَاضِي بَعْدَ الشَّهَادَةِ: تَوَقَّفْ فِي الْقَضَاءِ، وَجَبَ التَّوَقُّفُ، فَإِنْ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ: اقْضِ، فَنَحْنُ عَلَى شَهَادَتِنَا، فَفِي جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، فَعَلَى هَذَا هَلْ تَجِبُ إِعَادَةُ الشَّهَادَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُمْ جَزَمُوا بِهَا، وَالشَّكُّ الطَّارِئُ زَالَ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَرُجُوعُهُمْ إِمَّا قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ وَإِمَّا بَعْدُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، نُظِرَ إِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي مَالٍ اسْتُوْفِيَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي قِصَاصٍ، أَوْ حَدِّ الْقَذْفِ، لَمْ يَسْتَوْفِ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ بِخِلَافِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَثَّرُ بِالشُّبْهَةِ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضِّيقِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي حُدُودِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَمْ تُسْتَوْفَ،

وَقِيلَ: كَالْقِصَاصِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعُقُودِ، أُمْضِيَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: النِّكَاحُ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَحَيْثُ قُلْنَا بِالِاسْتِيفَاءِ، بَعْدَ الرُّجُوعِ، فَاسْتَوْفَى، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ رَجَعُوا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ، أَمَّا إِذَا رَجَعُوا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ، فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ. ثُمَّ قَدْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ فِيمَا يَتَعَذَّرُ تَدَارُكُهُ وَرَدُّهُ، وَقَدْ تَكُونُ فِيمَا لَا يَتَعَذَّرُ، فَهُمَا ضَرْبَانِ الْأَوَّلُ الْمُتَعَذَّرُ وَهُوَ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: الْعُقُوبَاتُ، فَإِذَا شَهِدُوا بِالْقَتْلِ، فَاقْتُصَّ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعُوا، وَقَالُوا: تَعَمَّدْنَا قَتْلَهُ، فَعَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ، أَوِ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ مُوَزَّعَةٌ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، كَمَا سَبَقَ فِي الْجِنَايَاتِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ شَهِدُوا بِالرِّدَّةِ فَقُتِلَ، أَوْ بِزِنَى الْمُحْصَنِ فَرُجِمَ، أَوْ عَلَى بَكْرٍ، فَجُلِدَ وَمَاتَ مِنْهُ، أَوْ بِسَرِقَةٍ أَوْ قَطْعٍ فَقُطِعَ، أَوْ بِقَذْفٍ أَوْ شُرْبٍ فَجُلِدَ وَمَاتَ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعُوا. وَيُحَدُّونَ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى وَحَدِّ الْقَذْفِ أَوْ لَا، ثُمَّ يُقْتَلُونَ، وَهَلْ يُرْجَمُونَ أَوْ يُقْتَلُونَ بِالسَّيْفِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ هُنَا صُوَرٌ إِحْدَاهَا: لَوْ رَجَعَ الْقَاضِي دُونَ الشُّهُودِ، وَقَالَ: تَعَمَّدْتُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، أَوِ الدِّيَةُ الْمُغْلَّظَةُ وَبِكَمَالِهَا، وَلَوْ رَجَعَ الْقَاضِي وَالشُّهُودُ جَمِيعًا، لَزِمَهُمُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَالُوا: أَخْطَأْنَا، أَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ، فَالدِّيَةُ مُنَصَّفَةٌ، عَلَيْهِمَا نِصْفُهَا، وَعَلَيْهِ نِصْفُهَا، هَكَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يَجِبَ كَمَالُ الدِّيَةِ عِنْدَ رُجُوعِهِ وَحْدَهُ، كَمَا لَوْ رَجَعَ بَعْضُ الشُّهُودِ، وَلَوْ رَجَعَ وَلِيُّ الدَّمِ وَحْدَهُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَلَوْ رَجَعَ مَعَ الشُّهُودِ، فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ أَنَّ الْقِصَاصَ أَوْ كَمَالَ الدِّيَةِ عَلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ، وَهُمْ مَعَهُ كَالْمُمْسِكِ مَعَ الْقَاتِلِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ أَنَّهُمْ مَعَهُ، كَالشَّرِيكِ لِتَعَاوُنِهِمْ عَلَى الْقَتْلِ، لَا كَالْمُمْسِكِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمْ كَالْمُحِقِّينَ، فَعَلَى هَذَا

عَلَى الْجَمِيعِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ، نِصْفُهَا عَلَى الْوَلِيِّ، وَنِصْفُهَا عَلَى الشُّهُودِ، وَلَوْ رَجَعَ الْقَاضِي مَعَهُمْ، فَالدِّيَةُ مُثَلَّثَةٌ، ثُلُثُهَا عَلَى الْقَاضِي، وَثُلُثٌ عَلَى الْوَلِيِّ، وَثُلُثٌ عَلَى الشُّهُودِ، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَجِبَ كَمَالُ الدِّيَةِ عَلَى الْوَلِيِّ إِذَا رَجَعَ وَحْدَهُ. قُلْتُ: لَمْ يُرَجِّحِ الرَّافِعِيُّ وَاحِدًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، بَلْ حَكَى اخْتِلَافَ الْإِمَامِ وَالْبَغَوِيِّ فِي الصَّحِيحِ، وَالْأَصَحُّ مَا صَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْقَطْعُ بِهِ، فَهُوَ الْأَصَحُّ نَقْلًا وَدَلِيلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: هَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْمُزَكِّي الرَّاجِعِ قِصَاصٌ وَضَمَانٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَثْنَى عَلَى الشَّاهِدِ، وَالْحُكْمُ يَقَعُ بِالشَّاهِدِ، فَكَانَ كَالْمُمْسِكِ مَعَ الْقَاتِلِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّزْكِيَةِ أَلْجَأَ القَّاضِىَ إِلَى الْحُكْمِ الْمُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ، وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ دُونَ الْقِصَاصِ، قَالَ الْقَفَّالُ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا قَالَ الْمُزَكِّيَانِ: عَلِمْنَا كَذِبَ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنْ قَالَا: عَلِمْنَا فِسْقَهُمَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَكُونَانِ صَادِقَيْنَ مَعَ الْفِسْقِ، وَطَرَدَ الْإِمَامُ الْخِلَافَ فِي الْحَالَيْنِ. الثَّالِثَةُ: مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الشُّهُودِ الرَّاجِعِينَ هُوَ فِيمَا إِذَا قَالُوا: تَعَمَّدْنَا، فَلَوْ قَالُوا: أَخْطَأْنَا، وَكَانَ الْجَانِي أَوِ الزَّانِي غَيْرَهُ، فَلَا قِصَاصَ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً، وَتَكُونُ فِي مَالِهِمْ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُمْ لَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ، فَإِنْ صَدَقَهُمُ الْعَاقِلَةُ، فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَقَدْ يَرَى الْقَاضِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ تَعْزِيزُ الشُّهُودِ لِتَرْكِهِمُ التَّحْفِيظَ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُ شَاهِدَيِ الْقَتْلِ: تَعَمَّدْتُ وَلَا أَدْرِي أَتَعَمَّدَ صَاحِبِي أَمْ لَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: تَعَمَّدْتُ وَقَالَ صَاحِبُهُ: أَخْطَأْتُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى

وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ شَرِيكَ الْمُخْطِئِ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَقِسْطُ الْمُخْطِئِ مِنَ الدِّيَةِ يَكُونُ مُخَفَّفًا، وَقِسْطُ الْمُتَعَمِّدِ يَكُونُ مُغَلَّظًا. وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: تَعَمَّدْتُ، وَأَخْطَأَ صَاحِبِي، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاعْتِرَافِهِمَا بِالْعَمْدِيَّةِ، وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَيْهِمَا مُغْلِظَةً. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: تَعَمَّدْتُ وَأَخْطَأَ صَاحِبِي، أَوْ قَالَ: وَلَا أَدْرِي أَتَعَمَّدَ صَاحِبِي أَمْ أَخْطَأَ، وَصَاحِبُهُ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ، فَلَا قِصَاصَ، وَلَوْ قَالَ: تَعَمَّدْتُ وَتَعَمَّدَ صَاحِبِي، وَصَاحِبُهُ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. وَلَوْ قَالَ: تَعَمَّدْتُ وَلَا أَعْلَمَ حَالَ صَاحِبِي، وَقَالَ صَاحِبُهُ مِثْلَهُ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: تَعَمَّدْتُ، لَزِمَهُمَا الْقِصَاصُ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: تَعَمَّدْتُ أَنَا وَصَاحِبِي، وَقَالَ الْآخَرُ: أَخْطَأْتُ أَوْ أَخْطَأْنَا مَعًا، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الثَّانِي، وَيَلْزَمُ الْأَوَّلَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: تَعَمَّدْتُ وَتَعَمَّدَ صَاحِبِي، وَقَالَ صَاحِبُهُ: تَعَمَّدْتُ وَأَخْطَأَ هُوَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ إِلَّا بِشَرِكَةِ مُخْطِئٍ. وَلَوْ رَجَعَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ، وَأَصَرَّ الْآخَرُ، وَقَالَ الرَّاجِعُ: تَعَمَّدْتُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: تَعَمَّدْتُ، فَلَا. الرَّابِعَةُ: مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الشُّهُودِ الرَّاجِعِينَ فِيمَا إِذَا قَالُوا: تَعَمَّدْنَا، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِنَا، فَإِنْ قَالُوا: تَعَمَّدْنَا، وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ، فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِهِمْ، كَمَنْ رَمَى سَهْمًا إِلَى رَجُلٍ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ قَصَدَهُ، وَلَكِنْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ يَبْلُغُهُ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَيْهِمْ

لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ، فَالَّذِي قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ لَا يُوجِبُ قِصَاصًا، وَمَالَ الْإِمَامُ إِلَى وُجُوبِهِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا شَاذًّا مَأْخُوذًا، مِمَّا لَوْ ضُرِبَ الْمَرِيضُ ضَرْبًا يَقْتُلُ الْمَرِيضَ دُونَ الصَّحِيحِ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَرَضَهُ، وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَتَجِبُ فِي مَالِ الشُّهُودِ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إِلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُمُ الْعَاقِلَةُ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْقَفَّالُ: حَالَّةٌ لِتَعَمُّدِهِمْ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. فَرْعٌ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ، وَقَالُوا: أَخْطَأْنَا، وَادَّعَوْا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَعْرِفُ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا، وَأَنَّ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ، فَأَنْكَرَتِ الْعَاقِلَةُ الْعِلْمَ، فَلَيْسَ لِلشُّهُودِ تَحْلِيفُهُمْ، وَأَنَّمَا يُطَالِبُ الْعَاقِلَةَ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَهُمْ تَحْلِيفَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا لَغَرِمُوا. النَّوْعُ الثَّانِي: غَيْرُ الْعُقُوبَاتِ، فَمِنْهُ الْإِبْضَاعُ فَإِذَا شَهِدُوا بِطَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَضَاعٍ مُحَرِّمٍ، أَوْ لِعَانٍ أَوْ فَسْخٍ بِعَيْبٍ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ جِهَاتِ الْفِرَاقِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَرْتَفِعِ الْفِرَاقُ، لَكِنْ يَغْرَمَانِ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، غَرِمَا مَهْرَ الْمِثْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ: الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَهَلْ يَغْرَمَانِ مَهْرَ الْمِثْلِ أَمْ نِصْفَهُ؟ فِيهِ نَصَّانِ، وَنَصٌّ فِيمَا لَوْ أَفْسَدَتِ امْرَأَةٌ نِكَاحَهُ بِرَضَاعٍ أَنَّهَا تَغْرَمُ نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ، الْمَذْهَبُ وُجُوبُ النِّصْفِ فِي الرَّضَاعِ، وَجَمِيعِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ، وَفِي قَوْلٍ نِصْفُهُ، وَفِي قَوْلٍ نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَفِي قَوْلٍ جَمِيعُهُ، وَقِيلَ: يَجِبُ جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ قَطْعًا، وَقِيلَ: نِصْفُهُ قَطْعًا، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الزَّوْجُ سَلَّمَ إِلَيْهَا الصَّدَاقَ، غَرِمَ الشُّهُودُ جَمِيعَ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ اسْتِرْدَادِ شَيْءٍ، وَإِلَّا فَنَصِفُهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا مُفَوَّضَةً، وَشَهِدَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْفَرْضِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ وَالْمُتْعَةِ، ثُمَّ رَجَعَا فَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُمَا

يَغْرَمَانِ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ نِصْفَهُ، كَمَا فِي غَيْرِ التَّفْوِيضِ، وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ يَغْرَمَانِ الْمُتْعَةَ الَّتِي غَرِمَهَا الزَّوْجُ وَلَوْ شَهِدَا بِطَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، ثُمَّ رَجَعَا، فَلَا غُرْمَ إِذَا لَمْ يَفُوتَا شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ حَتَّى انْقَضَّتِ الْعِدَّةُ، الْتَحَقَ بِالْبَائِنِ، وَوَجَبَ الْغُرْمُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لَا لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ الرِّجْعَةِ، وَأَطْلَقَ ابْنُ كَجٍّ فِي وُجُوبِ الْغُرْمِ بِالرُّجُوعِ عَنْ شَهَادَةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَجْهَيْنِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْغُرْمَ فِي الْحَالِ، فَغَرِمُوا، ثُمَّ رَاجَعَهَا الزَّوْجُ، فَهَلْ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ، فِيهِ احْتِمَالَانِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِالرَّدِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ شَهِدَ بِطَلَاقٍ، وَقَضَى بِهِ، ثُمَّ رَجَعَا، وَقَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوْجَةِ رَضَاعٌ مُحَرَّمٌ، أَوْ شَهِدَا بِأَنَّهُ طَلَّقَهَا الْيَوْمَ، وَرَجَعَا، ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَمْسِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، إِذْ لَمْ يَفُوتَا، فَإِنْ غَرِمَا قَبْلَ الْبَيِّنَةِ اسْتَرَدَّا، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهَا زَوْجَةُ فُلَانٍ بِأَلْفٍ، وَحَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا غُرْمَ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ غَرِمَا مَا نَقَصَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ الْأَلْفُ دُونَهُ، قَالَ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْرَمَا مَا نَقَصَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَطْلَقَهُ ابْنُ كَجٍّ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِأَلْفٍ، وَمَهْرُهَا أَلْفَانِ، فَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَالْبَغَوِيُّ: عَلَيْهِمَا أَلْفٌ وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرْأَةِ أَلْفٌ، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: عَلَيْهِمَا مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفُهُ قَبْلَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرَا عِوَضًا، وَأَمَّا الْأَلْفُ، فَهُوَ مَحْفُوظٌ عِنْدَهُ لِلْمَرْأَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَدَّعِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ، فَهُوَ فِي يَدِهَا.

فَرْعٌ وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الْعِتْقُ، فَإِذَا شَهِدَا بِعِتْقِ عَبْدٍ، وَقَضَى بِهِ الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا، غَرِمَا قِيمَةَ الْعَبْدِ، وَلَمْ يُرَدَّ الْعِتْقُ، سَوَاءٌ كَالْمَشْهُودِ بِعِتْقِهِ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا، أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ مُعَلَّقًا عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَلَوْ شَهِدَا بِتَدْبِيرِ عَبْدٍ، أَوِ اسْتِيلَادِ جَارِيَةٍ، ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، لَمْ يَغْرَمَا فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَزُلْ، فَإِذَا مَاتَ، غَرِمَا بِالرُّجُوعِ السَّابِقِ، وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَا بِتَعْلِيقِ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ بِصِفَةٍ، ثُمَّ رَجَعَا وَفِيهِمَا وَجْهٌ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا بِمَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَلَوْ شَهِدَا بِكِتَابَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَا، وَأَدَّى النُّجُومَ، وَعَتَقَ ظَاهِرًا، فَفِيمَ يَغْرَمَانِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: كُلَّ الْقِيمَةِ، وَالثَّانِي: مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ وَالنُّجُومِ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ هُوَ دُونَ الْقِيمَةِ، فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ كَمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِأَلِفٍ، وَمَهْرُهَا أَلْفَانِ. فَرْعٌ وَمِنْهُ أَنَّهُ إِذَا شَهِدَا أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ جِهَةٍ عَامَّةٍ، ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، غَرِمَا قِيمَتَهُ، وَلَا يُرَدُّ الْوَقْفُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَةً. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يَتَعَذَّرُ تَدَارُكُهُ وَهُوَ الْأَمْوَالُ أَعْيَانُهَا وَدُيُونُهَا، فَإِذَا شَهِدُوا لِرَجُلٍ بِمَالٍ، ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، لَمْ يُنْقَضِ الْحُكْمُ، وَلَمْ يُرَدَّ الْمَالُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى فِي «الْعُدَّةِ» وَجْهًا أَنَّهُ يُنْقَضُ، وَيُرَدُّ الْمَالُ وَهُوَ شَاذٌّ، وَهَلْ يَغْرَمُونَ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْإِمَامِ وَغَيْرِهِمْ: نَعَمْ، وَقِيلَ: لَا يَغْرَمُونَ قَطْعًا، وَقِيلَ: يَغْرَمُونَ الدَّيْنَ دُونَ الْعَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ الْغُرْمُ مُطْلَقًا.

فصل

فَصْلٌ شَهِدُوا عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَقَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِهِ وَالسَّرَايَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا، لَزِمَهُمْ قِيمَةُ نِصْفِ الْمَشْهُودِ (عَلَيْهِ) وَفِي قِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْخِلَافُ فِي غُرْمِ الْمَالِ. شُهُودُ قَتْلِ الْخَطَإِ إِذَا رَجَعُوا بَعْدَ غُرْمِ الْعَاقِلَةِ هَلْ يَغْرَمُونَ؟ فِيهِ الْخِلَافُ. وَلَوْ حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْفَرْعِ. ثُمَّ رَجَعُوا غَرِمُوا، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ، وَقَالُوا: كَذِبْنَا، غَرِمُوا أَيْضًا، وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ، فَالْغُرْمُ عَلَى شُهُودِ الْفَرْعِ، لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ إِشْهَادَ الْأُصُولِ، وَيَقُولُونَ: كَذِبْنَا فِيمَا قُلْنَا، وَالْحُكْمُ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ. وَحَيْثُ وَجَبَ عَلَى الرَّاجِحِ عُقُوبَةٌ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ حَدِّ قَذْفٍ، دَخَلَ التَّعْزِيزُ فِيهَا، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ عُقُوبَةٌ، وَاعْتَرَفَ بِالتَّعَمُّدِ، عُزِّرَ. فَصْلٌ الرُّجُوعُ الْمُغَرِّمُ إِمَّا أَنْ يُوجَدَ وَالْمَحْكُومُ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى الْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ فِي الْبَابِ، وَإِمَّا أَكْثَرُ عَدَدًا، فَإِنْ كَانُوا عَلَى الْحَدِّ بِأَنْ حُكِمَ فِي الْعِتْقِ أَوِ الْقَتْلِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَا، لَزِمَهُمَا الْغُرْمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا، لَزِمَهُ النِّصْفُ، وَكَذَا لَوْ رُجِمَ فِي الزِّنَى بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، فَرَجَعُوا جَمِيعًا، فَعَلَيْهِمُ الدِّيَةُ أَرْبَاعًا، وَإِنْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ، فَعَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنْهَا، وَإِنْ زَادُوا عَلَى الْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ بِأَنْ شَهِدَ الْقَتْلَ أَوِ الْحَدَّ ثَلَاثَةٌ، أَوْ بِالزِّنَى خَمْسَةٌ، فَإِنْ رَجَعَ الْجَمِيعُ، فَالْغُرْمُ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ رَجَعَ الْبَعْضُ، نُظِرَ، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى الشَّهَادَةِ الْحَدُّ الْمُعْتَبَرُ بِأَنْ رَجَعَ مِنَ الثَّلَاثَةِ فِي الْقَتْلِ

وَاحِدٌ، أَوْ مِنَ الْخَمْسَةِ فِي الزِّنَى وَاحِدٌ فَلَا غُرْمَ عَلَى الرَّاجِعِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْإِصْطَخْرِيُّ، وَابْنُ الْحَدَّادِ. وَالثَّانِي: يَغْرَمُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْعَدَدِ، قَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ. وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِلَا خِلَافٍ، كَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ، وَفِي «الْفُرُوقِ» لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ إِنِ اعْتَرَفَ بِالتَّعَمُّدِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَثْبُتْ مِنَ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ إِلَّا بَعْضُهُمْ بِأَنْ رَجَعَ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَوِ الْخَمْسَةِ اثْنَانِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا غُرْمَ هُنَاكَ وُزِّعَ الْغُرْمُ هُنَا عَلَى الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ، وَحِصَّةُ مَنْ نَقَصَ مِنَ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ تُوَزَّعُ عَلَى مَنْ رَجَعَ بِالسَّوِيَّةِ، فَفِي صُوَرِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ نِصْفُ الْغُرْمِ عَلَى الرَّاجِعِينَ، وَإِنْ قُلْنَا: يَغْرَمُ هُنَاكَ وُزِّعَ هُنَا عَلَى جَمِيعِ الشُّهُودِ، فَعَلَى الِاثْنَيْنِ الرَّاجِعَيْنِ مِنَ الثَّلَاثَةِ ثُلُثَا الْغُرْمِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ جَمِيعُ الشُّهُودِ ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا بِأَنْ كَانَ رَضَاعًا أَوْ نَحْوَهُ، فَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا نُظِرَ إِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ، كَرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فِي رَضَاعٍ أَوْ مَالٍ، فَإِذَا رَجَعُوا، فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْغُرْمِ، وَعَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ رُبُعُهُ، وَإِنْ زَادُوا عَلَى الْعَدَدِ، فَالْمَشْهُودُ بِهِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَثْبُتُ بِالنِّسْوَةِ مُنْفَرِدَاتٍ، كَالرَّضَاعِ، فَإِذَا شَهِدَ بِهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَرَجُلٌ، وَرَجَعُوا، فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الْغُرْمِ، وَعَلَيْهِنَّ ثُلُثَاهُ، وَإِنْ رَجَعَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ، وَكَذَا لَوْ رَجَعَ امْرَأَتَاهُ، وَعَلَى الثَّانِي عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِمَا ثُلُثُ الْغُرْمِ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ، ثُمَّ رَجَعُوا، فَعَلَيْهِ سُدُسُ الْغُرْمِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ سُدُسِهِ، وَإِنْ رَجَعَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ سِتٍّ، فَمَا دُونَهُنَّ، فَلَا غُرْمَ عَلَى الْأَصَحِّ لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ، وَعَلَى الثَّانِي يَجِبُ عَلَى مَنْ رَجَعَ حِصَّتُهُ، وَإِنْ رَجَعَ مَعَ سَبْعٍ، فَعَلَى الْأَصَحِّ عَلَيْهِمْ رُبُعُ الْغُرْمِ، لِبُطْلَانِ رُبُعِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ رَجَعَ مَعَ ثَمَانٍ فَنِصْفُهُ، وَمَعَ تِسْعٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَيَكُونُ عَلَى الذَّكَرِ ضِعْفُ مَا عَلَى الْمَرْأَةِ، وَعَلَى الثَّانِي عَلَيْهِمْ قَدْرُ حِصَّتِهِمْ لَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا، وَلَوْ رَجَعَ النِّسْوَةُ وَحْدَهُنَّ. فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْغُرْمِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ فِي الثَّانِي.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَثْبُتُ بِالنِّسْوَةِ مُنْفَرِدَاتٍ، كَالْمَالِ إِذَا أَوْجَبْنَا الْغُرْمَ فِيهِ بِالرُّجُوعِ، فَشَهِدَ رَجُلٌ وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَرَجَعُوا، فَهَلْ عَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْغُرْمِ أَمْ ثُلُثُهُ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ، فَإِنْ قُلْنَا بِهِ، فَرَجَعَ النِّسْوَةُ، فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْغُرْمِ، وَلَوْ رَجَعَتِ امْرَأَتَانِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا عَلَى الْأَصَحِّ لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ، عَلَيْهِمَا رُبُعُ الْغُرْمِ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ، وَرَجَعُوا، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْغُرْمِ، وَعَلَيْهِنَّ نِصْفُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى الثَّانِي عَلَيْهِ سُدُسُهُ، وَعَلَيْهِنَّ الْبَاقِي وَلَوْ رَجَعَ وَحْدَهُ، فَعَلَيْهِ النِّصْفُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى الْآخَرِ إِنَّمَا عَلَيْهِ السُّدُسُ، وَلَوْ رَجَعْنَ دُونَهُ، فَعَلَيْهِنَّ النِّصْفُ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي الْآخَرِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، وَإِذَا عَلَّقْنَا نِصْفَ الْغُرْمِ بِرُجُوعِ الرَّجُلِ، فَرَجَعَ مَعَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَعَلَيْهِ النِّصْفُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِنَّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتَيْنِ إِلَّا نِصْفُ الْغُرْمِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ يَتِمُّ بِهِ ذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ النِّصْفِ، وَلَوْ رَجَعَ مَعَ تِسْعِ نِسْوَةٍ، لَزِمَهُ النِّصْفُ، وَعَلَيْهِنَّ الرُّبُعُ، لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ عَلَيْهِ نِصْفٌ، وَعَلَيْهِنَّ تِسْعَةُ أَعْشَارِ النِّصْفِ الْآخَرِ، وَإِنْ رَجَعَ ثَمَانِ نِسْوَةٍ لَا غَيْرَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِنَّ، وَعَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ النِّصْفِ. فَرْعٌ هَلْ يَتَعَلَّقُ الْغُرْمُ بِشُهُودِ الْإِحْصَانِ مَعَ شُهُودِ الزِّنَى، وَبِشُهُودِ الصِّفَةِ مَعَ شُهُودِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ؟ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَقِيلَ: إِنْ شَهِدُوا بِالْإِحْصَانِ بَعْدَ شَهَادَةِ الزِّنَى غَرِمُوا، وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ غَرَّمْنَاهُمْ، فَقَالُوا: تَعَمَّدْنَا، لَزِمَهُمُ الْقِصَاصُ، كَشُهُودِ

الزِّنَى. وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ الْغُرْمِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى شُهُودِ الزِّنَى وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: اعْتِبَارُ النَّصَابَيْنِ، فَعَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ ثُلُثُ الْغُرْمِ، وَالْآخَرِينَ ثُلُثَاهُ، وَالثَّانِي يُوَزَّعُ نِصْفَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْجِنْسَيْنِ، كَالْقَاضِي مَعَ الشُّهُودِ، وَإِذَا غَرَّمْنَا شُهُودَ الصِّفَةِ، غَرِمُوا النِّصْفَ قَطْعًا. فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى، وَاثْنَانِ بِالْإِحْصَانِ، وَرَجَعُوا كُلُّهُمْ بَعْدَ الرَّجْمِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ لَا يَغْرَمُونَ، فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الزِّنَى، وَإِلَّا فَعَلَى الْجَمِيعِ أَثْلَاثًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَمُنَاصَفَةً عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَى، وَوَاحِدٌ مِنْ شَاهِدَيِ الْإِحْصَانِ، فَإِنْ لَمْ نُغَرِّمْ شُهُودَ الْإِحْصَانِ، فَعَلَى الرَّابِعِ مِنْ شُهُودِ الزِّنَى رُبُعُ الْغُرْمِ، وَإِنْ غَرَّمْنَاهُمْ، فَإِنْ نَصَّفْنَا، فَعَلَيْهِ ثُمُنُ الْغُرْمِ، عَلَى الْآخَرِ رُبُعٌ، وَإِنْ ثَلَّثْنَا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسُهُ، وَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ لَا غَيْرَ، فَفِيمَا عَلَيْهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى وَالْإِحْصَانِ جَمِيعًا، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ لَمْ نُغَرِّمْ شُهُودَ الْإِحْصَانِ، فَعَلَيْهِ رُبُعُ الْغُرْمِ، وَإِنْ غَرَّمْنَاهُمْ، فَقَدْ بَقِيَ هُنَا مَنْ تَقُومُ بِهِ بِحُجَّةِ الْإِحْصَانِ، فَإِنْ غَرَّمْنَا الرَّابِعَ مَعَ ثَبَاتِ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، لَزِمَهُ الرُّبُعُ أَيْضًا، كَمَا لَوْ رَجَعُوا كُلُّهُمْ، وَإِنْ لَمْ نُغَرِّمْهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِحْصَانِ، وَأَمَّا بِسَبَبِ الزِّنَى، فَإِنْ نَصَّفْنَا، فَعَلَيْهِ ثُمُنُ الْغُرْمِ، وَإِنْ ثَلَّثْنَا، فَسُدُسُهُ، وَإِنْ رَجَعَ ثَلَاثَةٌ وَبَقِيَ وَاحِدَةٌ، فَقَدْ بَطَلَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ حُجَّةِ الزِّنَى، وَنِصْفُ حُجَّةِ الْإِحْصَانِ، فَإِنْ لَمْ نُغَرِّمْ شُهُودَ الْإِحْصَانِ، لَزِمَهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْغُرْمِ، وَإِنْ غَرَّمْنَاهُمْ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ إِنْ نَصَّفْنَا لِلرُّجُوعِ عَنِ الزِّنَى ثُمُنُ الْغُرْمِ، وَعَنِ الْإِحْصَانِ نِصْفُ سُدُسِهِ بِتَوْزِيعِ نِصْفِ غُرْمِ الْإِحْصَانِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ ثَلَّثْنَا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ لِلرُّجُوعِ عَنْ شَهَادَةِ الزِّنَى سُدُسُ الْغُرْمِ تَوْزِيعًا لِلثُّلُثَيْنِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ، وَعَنِ الْإِحْصَانِ ثُلُثُ سُدُسِهِ تَوْزِيعًا لِنِصْفِ غُرْمِ الْإِحْصَانِ عَلَى الرَّاجِعِينَ. وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى،

وَاثْنَانِ مِنْهُمْ بِالْإِحْصَانِ، ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ، فَإِنْ لَمْ نُغَرِّمْ شُهُودَ الْإِحْصَانِ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ، فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ غَرَّمْنَاهُمْ، فَهَلْ يَغْرَمُ شَاهِدُ الْأَصْلِ هُنَا زِيَادَةً؟ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، عَادَ الْخِلَافُ، فَإِنْ نَصَّفْنَا فَعَلَى اللَّذَيْنِ شَهِدَا بِالْإِحْصَانِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْغُرْمِ: النِّصْفُ بِشَهَادَةِ الْإِحْصَانِ، وَالرُّبُعُ بِالزِّنَى، وَعَلَى الْآخَرِينَ الرُّبُعُ، وَإِنْ ثَلَّثْنَا، فَعَلَى شَاهِدَيِ الْإِحْصَانِ ثُلُثَانِ، وَعَلَى الْآخَرِينَ ثُلُثٌ، وَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ نُغَرِّمْ شُهُودَ الْإِحْصَانِ، فَعَلَيْهِ رُبُعُ الْغُرْمِ، وَإِنْ غَرَّمْنَاهُمْ، فَإِنْ كَانَ الرَّاجِعُ مِنْ شَاهِدَيِ الْإِحْصَانِ، فَإِنْ نَصَّفْنَا، لَزِمَهُ ثُمُنُ الْغُرْمِ، وَإِنْ ثَلَّثْنَا، فَالسُّدُسُ. وَلَوْ شَهِدَ ثَمَانِيَةٌ بِالزِّنَى وَالْإِحْصَانِ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا غُرْمَ عَلَى الْأَصَحِّ لِبَقَاءِ الْحُجَّتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ رَجَعَ ثَانٍ وَثَالِثٌ وَرَابِعٌ، فَإِنْ رَجَعَ خَامِسٌ، فَقَدْ بَطَلَتْ حُجَّةُ الزِّنَى، وَلَمْ تَبْطُلْ حُجَّةُ الْإِحْصَانِ، فَإِنْ لَمْ نُغَرِّمْ شُهُودَ الْإِحْصَانِ، فَعَلَى الْخَمْسَةِ رُبُعُ الْغُرْمِ لِبُطْلَانِ رُبُعِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ غَرَّمْنَاهُمْ، فَلَا غُرْمَ هُنَا لِشَهَادَةِ الْإِحْصَانِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِبَقَاءِ حُجَّتِهِ، وَيَغْرَمُ الرَّاجِعُونَ رُبُعَ غُرْمِ الزِّنَى وَهُوَ السُّدُسُ إِنْ ثَلَّثْنَا، وَالثُّمُنُ إِنْ نَصَّفْنَا، وَإِنْ رَجَعَ سِتَّةٌ، لَزِمَهُ نِصْفُ غُرْمِ الزِّنَى، وَهُوَ الثُّلُثُ إِنْ ثَلَّثْنَاهُ، وَالرُّبُعُ إِنْ نَصَّفْنَاهُ، وَإِنْ رَجَعَ سَبْعَةٌ، بَطَلَتِ الْحُجَّتَانِ، وَلَا يَخْفَى قِيَاسُهُ. شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ عَنْ مِائَةٍ وَآخَرُ عَنْ مِائَتَيْنِ، وَثَالِثٌ عَنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَالرَّابِعُ عَنِ الْجَمِيعِ، فَالْبَيِّنَةُ بَاقِيَةٌ بِتَمَامِهَا فِي مِائَتَيْنِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ غُرْمُهُمَا، وَيَجِبُ عَنِ الْأَرْبَعَةِ غُرْمُ الْمِائَةِ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا بِاتِّفَاقِهِمْ، وَعَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِائَةِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِالرُّجُوعِ عَنْهَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حِصَّتُهُ

فصل

فِيمَا رَجَعَ عَنْهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ رُبُعُ الْمِائَةِ، وَعَلَى الثَّانِي خَمْسُونَ، وَعَلَى الثَّالِثِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، وَعَلَى الرَّابِعِ مِائَةٌ. فَصْلٌ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، ثُمَّ بَانَ كَوْنُهُمَا كَافِرَيْنِ، أَوْ عَبْدَيْنِ، أَوْ صَبِيَّيْنِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يُنْقَضُ حُكْمُهُ، وَكَذَا لَوْ بَانَا فَاسِقَيْنِ عَلَى الْأَظْهَرِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَمَعْنَى نَقْضِهِ أَنَّا نَتَبَيَّنُ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا ظَنَّهُ وَحَكَمَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ طَلَاقًا أَوْ عِتْقًا أَوْ عَقْدًا فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ لَا طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ وَلَا عَقْدٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَاتَتْ، فَقَدْ مَاتَتْ وَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ مَاتَ وَهُوَ رَقِيقٌ لَهُ، وَيَجِبُ ضَمَانُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ قَتْلًا أَوْ قَطْعًا أَوْ حَدًّا اسْتَوْفَى وَتَعَذَّرَ التَّدَارُكُ، فَضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاضِي عَلَى الْأَظْهَرِ، وَفِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى قَوْلٍ كَمَا سَبَقَ فِي ضَمَانِ الْوُلَاةِ. وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْقَاضِي، لِتَفْرِيطِهِ بِتَرْكِ الْبَحْثِ التَّامِّ عَلَى حَالِ الشُّهُودِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: اسْتَوْفَيْتُ حَقِّي، وَلَا عَلَى الشُّهُودِ، لِأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ زَاعِمُونَ صِدْقَهُمْ بِخِلَافِ الرَّاجِعِينَ. وَإِذَا غَرِمَتِ الْعَاقِلَةُ أَوْ بَيْتُ الْمَالِ، فَهَلْ يَثْبُتُ الرُّجُوعُ عَلَى الشُّهُودِ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي بَابِ ضَمَانِ الْوُلَاةِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: وَكَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى شَهَادَتِهِمْ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: يَرْجِعُ الْغَارِمُ عَلَى الْمُزَكِّينَ، وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِمُ الضَّمَانُ بِخِلَافِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْمُزَكِّينَ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ الشُّهُودِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ، وَمَفْهُومُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَغْرِيمُ الْمُزَكِّينَ أَوَّلًا، ثُمَّ لَا رُجُوعَ

لَهُمْ عَلَى الْقَاضِي، وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الشُّهُودِ إِذَا قُلْنَا بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ، وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْلِيقِ الضَّمَانِ بِالْقَاضِي بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي حَدِّ اللَّهِ - تَعَالَى أَوْ قِصَاصٍ - وَسَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ اسْتَوْفَاهُ الْمُدَّعِي أَوِ الْقَاضِي بِنَفْسِهِ، أَوْ فَوَّضَ اسْتِيفَاءَهُ بِإِذْنِ الْمُدَّعِي إِلَى شَخْصٍ، وَسَبَقَ فِي إِذْنِ الْقَاضِي عَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ الْمُدَّعِيَ إِنِ اسْتَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلَّقُ الضَّمَانُ بِالْقَاضِي إِذَا بَاشَرَ الِاسْتِيفَاءَ أَوْ فَوَّضَهُ إِلَى غَيْرِهِ بِإِذْنِ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالًا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عِنْدَ الْمَحْكُومِ لَهُ انْتُزِعَ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، أُخِذَ مِنْهُ ضَمَانُهُ، وَقِيلَ: إِنْ تَلَفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَلَا ضَمَانَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِتْلَافِ حَيْثُ قُلْنَا: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ فِيهِ بِأَنَّ الْإِتْلَافَ إِنَّمَا يُضْمَنُ إِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي، وَحُكْمُ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ عَنِ التَّعَدِّي، وَأَمَّا الْمَالُ، فَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِ إِنْسَانٍ بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ مَضْمُونًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَعَدٍّ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ مُعْسِرًا أَوْ غَائِبًا، فَلِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْقَاضِي لِيَغْرَمَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ خَالِصِ مَالِهِ فِي قَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَدَلَ نَفْسٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِلَةِ، ثُمَّ الْقَاضِي يَرْجِعُ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ إِذَا ظَفِرَ بِهِ مُوسِرًا، وَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الشُّهُودِ؟ جَعَلَهُ الْإِمَامُ عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا فِي الْإِتْلَافَاتِ، وَيَجِيءُ أَنْ يُقَالَ عَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ: إِنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ يَتَخَيَّرُ فِي تَغْرِيمِ الْقَاضِي، وَتَغْرِيمِ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الدعوى والبينات

كِتَابُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ فِيهِ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى تَدُورُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الدَّعْوَى وَجَوَابُهَا، وَالْيَمِينُ، وَالْبَيِّنَةُ وَالنُّكُولُ، فَهَذِهِ خَمْسَةٌ، وَالسَّادِسُ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأُصُولِ، وَالسَّابِعُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ، وَإِلْحَاقِ الْقَائِفِ. الْأَوَّلُ فِي الدَّعْوَى، وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا فِي أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مَتَى يَحْتَاجُ إِلَى الْمُرَافَعَةِ وَالدَّعْوَى، كَالْحَقِّ إِذَا كَانَ عُقُوبَةً كَالْقَصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، اشْتُرِطَ رَفْعُهُ إِلَى الْقَاضِي، لِعِظَمِ خَطَرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَالًا، فَهُوَ عَيْنٌ، أَوْ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَإِنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِرْدَادِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِ فِتْنَةٍ أُشْغِلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنَ الرَّفْعِ. وَأَمَّا الدَّيْنُ فَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ مُقِرًّا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنَ الْأَدَاءِ طَالَبَهُ لِيُؤَدِّيَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي تَعْيِينِ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ، فَإِنْ تَلِفَ عِنْدَهُ وَجَبَ ضَمَانُهُ، فَإِنِ اتَّفَقَا جَاءَ خِلَافَ التَّقَاصِّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ تَحْصِيلٌ مِنْهُ بِالْقَاضِي، وَإِمَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ كَانَ مُنْكِرًا، وَلَا بَيِّنَةَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ إِنْ ظَفَرَ بِهِ، وَلَا يَأْخُذَ غَيْرَ الْجِنْسِ مَعَ ظَفْرِهِ بِالْجِنْسِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا غَيْرَ الْجِنْسِ، جَازَ الْأَخْذُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْحَقِّ بِالْقَاضِي بِأَنْ كَانَ مُقِرًّا مُمَاطِلًا، أَوْ مُنْكِرًا عَلَيْهِ وَلَهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ كَانَ يَرْجُو إِقْرَارَهُ لَوْ

حَضَرَ عِنْدَ الْقَاضِي وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، فَهَلْ يَسْتَقِلُّ بِالْأَخْذِ أَمْ يَجِبُ الرَّفْعُ إِلَى الْقَاضِي؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا جَوَازُ الِاسْتِقْلَالِ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ هِنْدٍ، وَلِأَنَّ فِي الْمُرَافَعَةِ مَشَقَّةً وَمُؤْنَةً، وَتَضْيِيعَ زَمَانٍ. وَمَتَى جَازَ لِلْمُسْتَحِقِّ الْأَخْذُ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَى الْمَالِ إِلَّا بِكَسْرِ الْبَابِ، وَنَقْبِ الْجِدَارِ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَضْمَنُ مَا فَوَّتَهُ، كَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الصَّائِلِ إِلَّا بِإِتْلَافِ مَالِهِ، فَأَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُ، وَقِيلَ: يَضْمَنُ وَهُوَ شَاذٌّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ فَلَهُ تَمَلُّكُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّمَلُّكُ. وَقِيلَ: يَتَمَلَّكُ قَدْرَ حَقِّهِ، وَيَسْتَقِلُّ بِالْمُعَاوَضَةِ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا يَسْتَقِلُّ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَ أَخْذِهِ الْجِنْسَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ هَلْ يَرْفَعُهُ إِلَى الْقَاضِي لِيَبِيعَهُ، أَمْ يَسْتَقِلُّ بِبَيْعِهِ؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ الِاسْتِقْلَالُ، هَذَا إِنْ كَانَ الْقَاضِي جَاهِلًا بِالْحَالِ، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْآخِذِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الرَّفْعَ إِلَى الْقَاضِي، فَهَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ، أَوْ يُفَوِّضَهُ إِلَى غَيْرِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ. وَفِي طَرِيقَةٍ عِنْدَ الرَّفْعِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَبِيعُهُ الْقَاضِي بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، وَهَذَا يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَجْوِيزِ الْبَيْعِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْبَيِّنَةِ. وَالثَّانِي: يُوَاطِئُ رَجُلًا يُقِرُّ لَهُ بِالْحَقِّ،

وَيَمْتَنِعُ مِنَ الْأَدَاءِ، وَيُقِرُّ لَهُ الْأَخْذَ بِالْمَالِ حَتَّى يَبِيعَهُ الْقَاضِي، وَهَذَا إِرْشَادٌ إِلَى الْكَذِبِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَيَضْعُفُ وُجُوبُ الرَّفْعِ. ثُمَّ عِنْدَ الْبَيْعِ إِنْ كَانَ الْحَقُّ مِنْ جِنْسِ نَقْدِ الْبَلَدِ بِيعَ الْمَأْخُوذُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ ظَفَرَ بِثَوْبٍ وَالدَّيْنُ حِنْطَةٌ بِيعَ الثَّوْبُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِهِ حِنْطَةً. وَحَكَى الْإِمَامُ عَنْ مُحَقِّقِي الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَ الْحِنْطَةِ بِالثَّوْبِ، وَلَا يُوَسَّطُ النَّقْدُ بَيْنَهُمَا، وَهَلْ يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مَضْمُونًا عَلَى الْآخِذِ حَتَّى لَوْ تَلِفَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَوِ التَّمَلُّكِ، يَتْلَفُ مِنْ ضَمَانِهِ أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِغَرَضِهِ، كَالْمُسْتَامِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يُسَلِّطْهُ. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ نُبَادِرَ إِلَى الْبَيْعِ بِحَسِبِ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ قَصُرَ فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ ضَمِنَ النُّقْصَانَ، وَلَوِ انْخَفَضَتِ الْقِيمَةُ، وَارْتَفَعَتْ، وَتَلِفَ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْأَكْثَرِ، وَلَوِ اتَّفَقَ رَدُّ الْعَيْنِ، لَمْ يَضْمَنْ نَقْصَ الْقِيمَةِ كَالْغَاصِبِ، وَلَوْ بَاعَهُ وَتَمَلَّكَ ثَمَنَهُ، ثُمَّ قَضَى الْمُسْتَحِقُّ دَيْنَهُ، فَفِيمَا عُلِّقَ عَنِ الْإِمَامِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ قِيمَةَ الْمَأْخُوذِ، كَمَا إِذَا ظَفِرَ الْمَالِكُ بِغَيْرِ جِنْسِ الْمَغْصُوبِ مِنْ مَالِ الْغَاصِبِ، فَأَخَذَهُ، وَبَاعَهُ، ثُمَّ رَدَّ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ، فَإِنَّ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَرُدَّ قِيمَةَ مَا أَخَذَهُ وَبَاعَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرُدَّ شَيْئًا وَلَا يُعْطِيَ شَيْئًا. فَرْعٌ لَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ الْمَأْخُوذَةِ، فَإِنِ انْتَفَعَ لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. فَرْعٌ لَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ إِذَا أَمْكَنَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، فَإِنْ زَادَ فَالزِّيَادَةُ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ بِأَنْ لَمْ يَظْفَرْ إِلَّا بِمَتَاعٍ يَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى

قَدْرِ حَقِّهِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ قَدْرَ حَقِّهِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا، فَكَذَا الزِّيَادَةُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَكُونُ مَضْمُونًا لَمْ يَضْمَنِ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَصَحِّ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَجَزَّأُ بَاعَ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ، وَسَعَى فِي رَدِّ الْبَاقِي إِلَيْهِ بِهِبَةٍ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى بَيْعِ الْبَعْضِ بِمَا هُوَ حَقُّهُ، بَاعَهُ وَسَعَى فِي رَدِّ الْبَاقِي إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بَاعَ الْجَمِيعَ، وَأَخَذَ مِنْ ثَمَنِهِ قَدْرَ حَقِّهِ، وَحَفِظَ الْبَاقِي إِلَى أَنْ يَرُدَّهُ. فَرْعٌ حَقُّهُ دَرَاهِمُ صِحَاحٌ، فَظَفِرَ بِمُكَسَّرَةٍ، فَلَهُ أَخْذُهَا، وَتَمَلُّكُهَا بِحَقِّهِ، وَلَوِ اسْتَحَقَّ مُكَسَّرَةً، فَظَفِرَ بِصِحَاحٍ، فَالْمَذْهَبُ جَوَازُ الْأَخْذِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَقِيلَ: فِيهِ الْخِلَافُ فِي اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ، وَإِذَا أَخَذَهَا فَلَيْسَ لَهُ تَمَلُّكُهَا، وَلَا يَشْتَرِي بِهَا مُكَسَّرَةً لَا مُتَفَاضِلًا لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّبَا، وَلَا مُتَسَاوِيًا لِأَنَّهُ يُجْحِفُ بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ، لَكِنْ يَبِيعُ صِحَاحَ الدَّرَاهِمِ بِدَنَانِيرَ، وَيَشْتَرِي بِهَا دَرَاهِمَ مُكَسَّرَةً وَيَتَمَلَّكُهَا. فَرْعٌ شَخْصَانِ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا لَهُ عَلَيْهِ، فَفِي حُصُولِ التَّقَاصِّ أَقْوَالٌ مَشْهُورَةٌ فِي كِتَابِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْصُلُ التَّقَاصُّ، فَجَحَدَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَهَلْ لِلْآخَرِ جَحْدُهُ، لِيَحْصُلَ التَّقَاصُّ لِلضَّرُورَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. فَرْعٌ كَمَا يَجُوزُ الْأَخْذُ مِنْ مَالِ الْغَرِيمِ الْجَاحِدِ، أَوِ الْمُمَاطِلِ يَجُوزُ الْأَخْذُ مِنْ مَالِ غَرِيمِ الْغَرِيمِ، بِأَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو دَيْنٌ، وَلِعَمْرٍو عَلَى

بَكْرٍ مِثْلُهُ، يَجُوزُ لِزَيْدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ بَكْرٍ بِمَالِهِ عَلَى عَمْرٍو، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ رَدُّ عَمْرٍو، وَإِقْرَارُ بَكْرٍ وَلَا جُحُودُ بَكْرٍ اسْتِحْقَاقَ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو. فَرْعٌ جَحَدَ دَيْنَهُ، وَلَهُ عَلَيْهِ صَكٌّ بِدَيْنٍ آخَرَ قَدْ قَبَضَهُ، وَشُهُودُ الصَّكِّ لَا يَعْلَمُونَ الْقَبْضَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ: لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ، وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، وَيَقْبِضَهُ بِدَيْنِهِ الْآخَرِ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي سَعْدٍ وَلَوْ حَدَثَتْ مِنَ الْمَأْخُوذِ زِيَادَةٌ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ حَيْثُ جَوَّزَ أَوْ قَبِلَ بَيْعَهُ، فَهِيَ عَلَى مِلْكِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَدِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيُحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِقُوَّةِ جَانِبِهِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ مُسْتَنْبَطَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا الْآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ. وَالثَّانِي: الْمُدَّعِي مَنْ لَوْ سَكَتَ خُلِّيَ وَلَمْ يُطَالَبْ بِشَيْءٍ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ لَا يُخَلَّى وَلَا يَكْفِيهِ السُّكُوتُ، فَإِذَا ادَّعَى زِيدٌ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ عَمْرٍو، أَوْ عَيْنًا فِي يَدِهِ فَأَنْكَرَ فَزِيدٌ هُوَ الَّذِي لَوْ سَكَتَ تَرَكَ، وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُ خِلَافَ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ عَمْرٍو، وَفَرَاغُ يَدِهِ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ، وَعَمْرٌو هُوَ الَّذِي لَا يَتْرُكُ، وَيُوَافِقُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ، فَزَيْدٌ مُدَّعٍ بِمُقْتَضَى الْقَوْلَيْنِ وَعَمْرٌو مُدَّعًى عَلَيْهِ. وَلَا يَخْتَلِفُ مُوجِبُهُمَا غَالِبًا، وَقَدْ يَخْتَلِفُ كَمَا إِذَا أَسْلَمَ زَوْجَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: أَسْلَمْنَا مَعًا، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ، وَقَالَتْ: بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَلَا نِكَاحَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمُدَّعِي مَنْ لَوْ سَكَتَ تُرِكَ، فَالْمَرْأَةُ مُدَّعِيَةٌ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ،

فصل

لِأَنَّهُ لَا يُتْرَكُ لَوْ سَكَتَ؛ لِأَنَّهَا تَزْعُمُ انْفِسَاخَ النِّكَاحِ، فَيَحْلِفُ وَيَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ، فَالزَّوْجُ مُدَّعٍ؛ لِأَنَّ مَا يَزْعُمُهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَهِيَ مُدَّعًى عَلَيْهَا، فَتَحْلِفُ وَيَرْتَفِعُ النِّكَاحُ. وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَسْلَمَتْ قَبْلِي، فَلِيَ النِّكَاحُ وَلَا مَهْرَ، وَقَالَتْ: بَلْ أَسْلَمْنَا مَعًا، وَهُمَا بِحَالِهِمَا، فَقَوْلُهُ فِي الْفِرَاقِ يَلْزَمُهُ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَعَلَى الثَّانِي قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُتْرَكُ بِالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَزْعُمُ سُقُوطَ الْمَهْرِ، فَإِذَا سَكَتَتْ وَلَا بَيِّنَةَ جُعِلَتْ نَاكِلَةً، وَحَلَفَ وَسَقَطَ الْمَهْرُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَالْأُمَنَاءُ الَّذِينَ يُصَدَّقُونَ فِي الرَّدِّ بِيَمِينِهِمْ مُدَّعُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ الرَّدَّ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، لَكِنِ اكْتُفِيَ مِنْهُمْ بِالْيَمِينِ، وَلِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا أَيْدِيَهُمْ، لِغَرَضِ الْمَالِكِ، وَقَدِ ائْتَمَنَهُمْ، فَلَا يَحْسُنُ تَكْلِيفُهُمْ بِنِيَّةِ الرَّدِّ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَهُمْ مُدَّعًى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الَّذِي لَوْ سَكَتَ تُرِكَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ: وَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ فِي الْمُنَازَعَةِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا فِي صُورَةِ التَّحَالُفِ، هَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ فِي حَدِّ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ، وَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُلْزِمَةً. الْأَوَّلُ الْعِلْمُ بِالْمُدَّعَى بِهِ، فَإِنْ كَانَ نَقْدًا اشْتُرِطَ ذِكْرُ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَإِنِ اخْتَلَفَ الصِّحَاحُ وَالْمُكَسَّرَةُ بَيْنَ أَنَّهَا صِحَاحٌ أَوْ مُكَسَّرَةٌ، وَمُطْلَقُ الدِّينَارِ يَنْصَرِفُ إِلَى الدِّينَارِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ وَزْنِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ نَقْدٍ، نُظِرَ إِنْ كَانَ عَيْنًا وَهِيَ مِمَّا تُضْبَطُ بِالصِّفَةِ، كَالْحُبُوبِ وَالْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ، وَصَفَهَا بِصِفَاتِ السَّلَمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْقِيمَةِ فِي الْأَصَحِّ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً كَفَى الضَّبْطُ بِالصِّفَاتِ إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَوَّمَةً، اشْتُرِطَ ذِكْرُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا الْوَاجِبُ عِنْدَ التَّلَفِ. وَإِنِ ادَّعَى سَيْفًا مُحَلًّى، اشْتُرِطَ ذِكْرُ قِيمَتِهِ، وَيُقَوِّمُهُ بِالذَّهَبِ إِنْ كَانَ مُحَلًّى بِالْفِضَّةِ، وَبِالْفِضَّةِ

إِنْ كَانَ مُحَلًّى بِالذَّهَبِ، فَإِنْ كَانَ مُحَلًّى بِهِمَا، قَوَّمَهُ بِأَحَدِهِمَا لِلضَّرُورَةِ، وَفِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ يَدَّعِي مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ نَقْدِ كَذَا قِيمَتُهَا كَذَا دِينَارًا. أَوْ دِينَارًا مِنْ نَقْدِ كَذَا قِيمَتُهُ كَذَا دِرْهَمًا. هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَلَى أَنَّ الْمَغْشُوشَ مُتَقَوَّمٌ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مِثْلِيًّا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ التَّعَرُّضُ لِلْقِيمَةِ، وَفِي الْعَقَارِ يُتَعَرَّضُ لِلنَّاحِيَةِ وَالْبَلْدَةِ، وَالْمَحَلَّةِ وَالسِّكَّةِ، وَتُبَيَّنُ الْحُدُودُ، وَيُسْتَثْنَى مِنِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ صُوَرٌ: إِحْدَاهَا: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ إِذَا طَلَبَ مُعَيَّنًا، فَأَمَّا مَنْ حَضَرَ لِيُعَيِّنَ، وَيَفْرِضَ لَهُ الْقَاضِي، كَالْمُفَوِّضَةِ تَطْلُبُ الْفَرْضَ عَلَى قَوْلِنَا: لَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ، وَالْوَاهِبُ يَطْلُبُ الثَّوَابَ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِعْلَامُ. الثَّانِيَةُ: قَالَ: أَدِّعِي أَنَّ مُوَرِّثَكَ أَوْصَى لِي بِثَوْبٍ، أَوْ بِشَيْءٍ تُسْمَعُ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ، فَكَذَا دَعْوَاهَا، وَأَلْحَقَ مُلْحِقُونَ دَعْوَى الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ بِدَعْوَى الْوَصِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَازَعُ كَلَامُهُ فِيهِ، وَيَصِحُّ دَعْوَى الْإِبْرَاءِ عَنِ الْمَجْهُولِ إِنْ صَحَّحْنَا الْإِبْرَاءَ عَنِ الْمَجْهُولِ. الثَّالِثَةُ: ادَّعَى أَنَّ لَهُ طَرِيقًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَادَّعَى حَقَّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْلَامِ قَدْرِ الطَّرِيقِ وَالْمَجْرَى، وَيَكْفِي لِصِحَّةِ الدَّعْوَى تَحْدِيدُ الْأَرْضِ الَّتِي يَدَّعِي فِيهَا الطَّرِيقَ وَالْمَجْرَى، وَكَذَا لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ: يُشْتَرَطُ إِعْلَامُ قَدْرِ الطَّرِيقِ وَالْمَجْرَى، وَقَالَ: وَكَذَا لَوْ بَاعَ بَيْتًا مِنْ دَارٍ، وَسَمَّى لَهُ طَرِيقًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَهُ لَا يَصِحُّ، قَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ هَذَا الْإِعْلَامُ فِي الدَّعْوَى، لَكِنْ يُؤْخَذُ عَلَى الشُّهُودِ إِعْلَامُ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ بِالذِّرَعَانِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَعْلَى شَأْنًا، فَإِنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِقُوَّةِ

إِيجَابِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الدَّعْوَى. وَلَوْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي وَرَقَةً، وَحَرَّرَ فِيهَا دَعْوَاهُ، وَقَالَ: أَدَّعِي مَا فِيهَا، وَأَدَّعِي ثَوْبًا بِالصِّفَاتِ الْمَكْتُوبَةِ فِيهَا، فَفِي الِاكْتِفَاءِ بِهِ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى وَجْهَانِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: كَوْنُهَا مُلْزَمَةٌ، فَلَوْ قَالَ: وَهَبَ لِي كَذَا أَوْ بَاعَ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ حَتَّى يَقُولَ: وَيَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إِلَيَّ لِأَنَّهُ قَدْ يَهِبُ وَيَبِيعُ، وَيَنْقُضُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ هَكَذَا نَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ أَنَّهُ يَقُولُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ: لِي فِي ذِمَّتِهِ كَذَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنَ الْأَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَتَعَرَّضُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ فِي الْحَالِ، وَكَانَ هَذَا إِذَا قَصَدَ بِالدَّعْوَى تَحْصِيلَ الْمُدَّعَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَى دَفْعَ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِي وَهُوَ يَمْنَعْنِيهَا، صَحَّتِ الدَّعْوَى، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: هِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنَازِعَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِهِ، وَإِذَا ادَّعَى وَلَمْ يَقُلْ لِلْقَاضِي: مُرْهُ بِالْخُرُوجِ عَنْ حَقِّي، أَوْ سَلْهُ جَوَابَ دَعْوَايَ، فَهَلْ يُطَالِبُهُ الْقَاضِي؟ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: الْأَصَحُّ نَعَمْ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ الْغَرَضُ مِنَ الْحُضُورِ وَإِنْشَاءِ الدَّعْوَى، قَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ: الْأَصَحُّ لَا؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَلَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِاقْتِرَاحِهِ كَالْيَمِينِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلَى هَذَا الثَّانِي طَلَبُ الْجَوَابِ شَرْطٌ آخَرُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى، وَسَوَاءٌ شَرَطْنَا هَذَا الِاقْتِرَاحَ، أَمْ لَمْ نَشْرُطْهُ فَاقْتَرَحَهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ

يُقَالَ: يُغْنِي ذَلِكَ عَنْ قَوْلِهِ: وَيَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إِلَيَّ، وَأَنَّ مَنْ شَرْطَهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الِاقْتِرَاحُ الْمَذْكُورُ. فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يُعْرَفَ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ أَوْ مُعَامَلَةٌ، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ طَبَقَاتِ النَّاسِ، فَتَصِحُّ دَعْوَى دَنِيءٍ عَلَى شَرِيفٍ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنْ شَهِدَتْ قَرَائِنُ الْحَالِ بِكَذِبِ الْمُدَّعِي لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى دَعْوَاهُ، مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ الدَّنِيءُ اسْتِئْجَارَ الْأَمِيرِ أَوِ الْفَقِيهِ لِعَلَفِ الدَّوَابِّ، أَوْ كَنْسِ بَيْتِهِ، وَمِثْلُهُ دَعْوَى الْمَعْرُوفِ بِالتَّعَنُّتِ، وَجَرِّ ذَوِي الْأَقْدَارِ إِلَى الْقُضَاةِ، وَتَحْلِيفِهِمْ لِيَفْتَدُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ. فَرْعٌ ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا، وَقَامَ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِشَيْءٍ، أَوْ قَالَا: نَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ مَالًا، وَلَا نَعْلَمُ قَدْرَهُ، فَفِي سَمَاعِ شَهَادَتِهِمَا هَكَذَا وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَيَرْجِعُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمُبْهَمٍ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ شَهِدَا بِغَصْبِ عَبْدٍ، أَوْ ثَوْبٍ، وَلَمْ يَصِفَاهُ. فَرْعٌ عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ: ادَّعَى دَرَاهِمَ مَجْهُولَةً لَا يَسْمَعُ الْقَاضِي دَعْوَاهُ، وَيَقُولُ لَهُ: بَيِّنِ الْأَقَلَّ الَّذِي تَتَحَقَّقُهُ، وَإِنِ ادَّعَى ثَوْبًا وَلَمْ يَصِفْهُ أَيْضًا، لَمْ يُصْغَ إِلَيْهِ، بَلْ لَوْ قَالَ: هُوَ كِرْبَاسٌ وَلَمْ يَصِفْ، أَمْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ

بِالْأَقَلِّ وَهَذَا فِيهِ إِرْشَادٌ وَتَلْقِينٌ، ثُمَّ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ فِي قَدْرِ الدَّرَاهِمِ مُسْتَقِيمٌ، لَكِنَّ الْأَخْذَ بِالْأَقَلِّ مِنْ صِفَةِ ثَوْبٍ عَيَّنَهُ لَا وَجْهَ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي تَحْلِيفَ الْمُدَّعِي عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَا ادَّعَاهُ، لَمْ يُجِبْهُ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ حُجَّةٍ بَعْدَ قِيَامِ حُجَّةٍ، وَلِأَنَّهُ كَطَعْنٍ فِي الشُّهُودِ، وَإِنِ ادَّعَى إِبْرَاءً أَوْ قَضَاءً فِي الدَّيْنِ، أَوْ بَيْعًا، أَوْ هِبَةً وَإِقْبَاضًا فِي الْعَيْنِ، نُظِرَ إِنِ ادَّعَى حُدُوثَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى نَفْيِ مَا يَقُولُهُ إِنْ مَضَى زَمَانُ إِمْكَانِهِ، وَإِلَّا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِ. وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ جَرَى قَبْلَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ، فَإِنْ لَمْ يَحْكُمِ الْقَاضِي بَعْدَ حَلِفِ الْمُدَّعِي عَلَى نَفْيِهِ، وَإِنْ حَكَمَ لَمْ يُحَلِّفْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: الشُّهُودُ فَسَقَةٌ، أَوْ كَذَبَةٌ، وَالْمُدَّعِي يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَهَلْ لَهُ تَحْلِيفُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ؟ وَجْهَانِ، وَطَرْدًا فِي كُلِّ صُورَةٍ ادَّعَى مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْخَصْمُ لِنَفْعِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُدَّعَى عَيْنَ حَقٍّ لَهُ، بِأَنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إِنَّكَ أَقْرَرْتَ لِي بِكَذَا، أَوْ قَالَ وَقَدْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَى: إِنَّ الْمُدَّعِيَ حَلَّفَنِي مَرَّةً، وَأَرَادَ تَحْلِيفَهُ، أَوْ قَذَفَهُ، فَطَلَبَ الْحَدَّ، فَادَّعَى زِنَى الْمَقْذُوفِ، وَأَرَادَ تَحْلِيفَهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ التَّحْلِيفَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ الْأَصْحَابِ: إِنَّ دَعْوَى الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحَةٌ، وَإِنَّ جَوَابَ الْأَكْثَرِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَذْفِ التَّحْلِيفُ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مَيِّتًا، وَأَرَادَ الْقَاذِفُ تَحْلِيفَ الْوَارِثِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ زِنَى مُوَرِّثِهِ حَلَفَ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَحْكِيَّةٌ عَنِ النَّصِّ، لَكِنْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يُحَلِّفُهُ إِذَا ادَّعَى فِسْقَ الشُّهُودِ، أَوْ كَذِبَهُمْ، وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْقَاضِي وَالشُّهُودِ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعًا لِارْتِفَاعِ مَنْصِبَيْهِمَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَادَّعَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ

بَاعَهُ الْعَيْنَ الْمَدْعَاةَ، أَوْ بَاعَهَا لِبَائِعِهِ، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنَ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، فَأَنْكَرَ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُدَّعٍ فِيمَا ذَكَرَهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْهَلَ لِيَأْتِيَ بِهَا أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: يَوْمٌ فَقَطْ. وَلَوِ ادَّعَى الْإِبْرَاءَ وَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ، وَقَالَ: حَلِّفُوهُ أَنَّهُ لَمْ يُبَرِّئْنِي، حَلَّفْنَاهُ، وَلَا يُكَلَّفُ تَوْفِيَةَ الدَّيْنِ أَوَّلًا، وَعَنِ الْقَاضِي وَجْهٌ أَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الدَّيْنُ أَوَّلًا، ثُمَّ إِنْ شَاءَ حَلَّفَهُ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى جَدِيدَةٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَيْسَ كَمَا لَوْ قَالَ لِوَكِيلِ الْمُدَّعِي: أَبْرَأَنِي مُوَكِّلُكَ حَيْثُ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهُ، وَلَا يُؤَخَّرُ إِلَى حُضُورِ الْمُوَكِّلِ وَحَلِفِهِ، لِعَظَمِ الضَّرَرِ فِي التَّأْخِيرِ وَهُنَا الْحَلِفُ مُتَيَسِّرٌ فِي الْحَالِ. وَلَوْ قَالَ: إِنَّهُ أَبْرَأَنِي مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى، فَهَلْ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يُبَرِّئْهُ؟ وَجْهَانِ اخْتَارَ الْقَفَّالُ وَالْغَزَالِيُّ الْمَنْعَ، وَادَّعَى الرُّويَانِيُّ أَنَّ الْمَذْهَبَ التَّحْلِيفُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا دَعْوَى لَهُ عَلَيْهِ بَرِئَ. فَرْعٌ مُدَّعِي الدَّفْعِ إِنْ قَالَ: قَضَيْتُ أَوْ أَبْرَأَنِي فَذَاكَ، وَإِنْ أَطْلَقَ وَقَالَ: لِي بَيِّنَةٌ دَافِعَةٌ وَاسْتَفْسَرَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مَا لَيْسَ بِدَافِعٍ دَافِعًا إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ مَعْرِفَتَهُ، وَإِنَّ عَيَّنَ جِهَةً، وَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ عَلَيْهَا، وَادَّعَى عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمُهْلَةِ بِلَا جِهَةٍ أُخْرَى وَاسْتَمْهَلَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجَابَ، وَإِنِ ادَّعَى فِي الْمُدَّةِ جِهَةً أُخْرَى وَجَبَ أَنْ تُسْمَعَ. الْخَامِسَةُ: الدَّعْوَى أَنْوَاعٌ، مِنْهَا دَعْوَى الدَّمِ، وَيُشْتَرَطُ تَفْصِيلُهَا كَمَا سَبَقَ فِي الْقَسَامَةِ، وَأَمَّا دَعْوَى النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَسَائِرِ الْعُقُودِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ نَكَحَ امْرَأَةً، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى

يَقُولَ: نَكَحْتُهَا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ، فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنِ اكْتَفَى فِي دَعْوَى النِّكَاحِ بِالْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ التَّعَرُّضَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ، كَمَا يُكْتَفَى فِي دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِالْإِطْلَاقِ، وَحَمَلُوا النَّصَّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالتَّأْكِيدِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: إِنِ ادَّعَى ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَجَبَ التَّفْصِيلُ، وَإِنِ ادَّعَى دَوَامَهُ فَلَا؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ لَا تُعْتَبَرُ فِي الدَّوَامِ، وَأَخَذَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَأَوْجَبُوا التَّفْصِيلَ وَالتَّعَرُّضَ لِلشُّرُوطِ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا؛ لِأَنَّ الْفُرُوجَ يُحْتَاطُ لَهَا كَالدِّمَاءِ، وَالْوَطْءُ الْمُسْتَوْفَى لَا يُتَدَارَكُ كَالدَّمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى نَفْسَ الْمَالِ فَإِنَّمَا اكْتُفِيَ بِالْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَهُ لَا تَنْحَصِرُ، فَيَشُقُّ ضَبْطُهَا، وَإِنْ كَانَ عَقْدًا عَلَى مَالٍ كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَهِبَةٍ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُشْتَرَطُ التَّفْصِيلُ، وَذِكْرُ الشُّرُوطِ كَالنِّكَاحِ، وَالثَّانِي: إِنْ تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِجَارِيَةٍ اشْتُرِطَ احْتِيَاطًا الْبِضْعُ، وَإِلَّا فَلَا، وَالثَّالِثُ وَهُوَ أَصَحُّهَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنِ النَّصِّ: لَا يُشْتَرَطُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَالُ وَهُوَ أَخَفُّ شَأْنًا، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِشْهَادُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ. وَأَمَّا التَّعَرُّضُ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ لِعَدَمِ مَانِعِ النِّكَاحِ، كَالرِّدَّةِ وَالْعِدَّةِ وَالرِّضَاعِ، فَلَا يُشْتَرَطُ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا، وَلِكَثْرَتِهَا، فَإِنْ شَرَطْنَا التَّفْصِيلَ فِي النِّكَاحِ، فَيَقُولُ: نَكَحْتُهَا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ. وَيُشْتَرَطُ وَصْفُ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ بِالْعَدَالَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيَاسُهُ وُجُوبِ التَّعَرُّضِ لِسَائِرِ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْأَوْلِيَاءِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الشَّاهِدَيْنِ وَالْوَلِيِّ، وَالْغَرَضُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَخْلُ عَنْ وَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِرِضَا الْمَرْأَةِ إِنْ كَانَ رِضَاهَا شَرْطًا، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، اشْتُرِطَ التَّعَرُّضُ لِلْعَجْزِ عَنِ الطَّوْلِ، وَلِخَوْفِ الْعَنَتِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ شَرْطَنَا التَّفْصِيلَ فِي دَعْوَى الْبَيْعِ، قَالُوا: يَقُولُ: تَعَاقَدْنَا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَنَحْنُ جَائِزَا التَّصَرُّفِ، وَتَفَرَّقْنَا عَنْ تَرَاضٍ، وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى النِّكَاحِ

التَّفْصِيلُ إِنْ قُلْنَا بِاشْتِرَاطِهِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولُوا بَعْدَ تَفْصِيلِ النِّكَاحِ: وَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ فَارَقَهَا، أَوْ وَهِيَ الْيَوْمَ زَوْجَتُهُ، وَالْإِقْرَارُ بِالنِّكَاحِ يَكْفِي فِيهِ الْإِطْلَاقُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقِرُّ إِلَّا عَنْ تَحَقُّقٍ، وَقِيلَ: فِي اشْتِرَاطِ التَّفْصِيلِ فِيهِ الْخِلَافُ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهَا، لَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَقُولُوا: وَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ فَارَقَهَا، وَلِتَكُنِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ إِذَا أَوْجَبْنَا التَّفْصِيلَ فِي الْبَيْعِ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا فِي النِّكَاحِ، وَنَقَلُوا فِي اشْتِرَاطِ تَقْيِيدِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ الْمُدَّعَيَيْنِ بِالصِّحَّةِ وَجْهَيْنِ، وَبِالِاشْتِرَاطِ أَجَابَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَجِيزِ» وَقَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : الْوَجْهُ الْقَطْعُ بِاشْتِرَاطِهِ فِي النِّكَاحِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْوَجْهَيْنِ مُفَرَّعَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَفْصِيلُ الشَّرَائِطِ، وَإِيرَادُ الْهَرَوِيِّ يَقْتَضِي اطِّرَادَهُمَا مَعَ اشْتِرَاطِ التَّفْصِيلِ لِيَتَضَمَّنَ ذِكْرُ الصِّحَّةِ نَفْيَ الْمَانِعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ تَارَةً تَكُونُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَتَارَةً عَلَى وَلِيِّهَا الْمُجْبَرِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ تَزْوِيجِ الْوَلِيَّيْنِ الْمَرْأَةَ بِشَخْصٍ، وَسَبَقَ هُنَاكَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ قَالُوا: لَوِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَبْقَ نِكَاحِهِ، وَعِلْمَ الْمَرْأَةِ بِهِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَهَا بِهِ هَلْ يُقْبَلُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُمَا عَلَيْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ سُمِعَتْ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ سَمَاعِ دَعْوَى النِّكَاحِ عَلَيْهَا أَبَدًا فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَا اقْتِصَارًا عَلَى الْأَظْهَرِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَعْوَى الْمَرْأَةِ النِّكَاحَ إِنِ اقْتَرَنَ بِهَا حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، كَصَدَاقٍ وَنَفَقَةٍ، وَقَسَمٍ وَمِيرَاثٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، سُمِعَتْ، وَإِنْ تَمَحَّضَتْ دَعْوَى الزَّوْجِيَّةِ، سُمِعَتْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ سُمِعَتْ، نُظِرَ، إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَصَرَّ عَلَى السُّكُوتِ، أَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ، فَهَلْ يَكُونُ إِنْكَارُهُ طَلَاقًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا،

فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ طَلَاقٌ سَقَطَ مَا ادَّعَتْهُ، وَلَهَا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَلَوْ رَجَعَ عَنِ الْإِنْكَارِ، وَقَالَ: غَلِطْتُ فِي الْإِنْكَارِ، لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ إِنْكَارُهُ طَلَاقًا، فَإِنْكَارُهُ كَسُكُوتِهِ، فَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ قَبِلْنَا رُجُوعَهُ، وَسَلَّمْنَا الزَّوْجَةَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَحَلَفَ الرَّجُلُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إِذَا لَمْ نَجْعَلِ الْإِنْكَارَ طَلَاقًا. وَإِنِ انْدَفَعَ النِّكَاحُ ظَاهِرًا حَتَّى يُطَلِّقَهَا أَوْ يَمُوتَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَوْ يُفْسَخُ بِإِعْسَارِهِ، أَوِ امْتِنَاعِهِ إِذَا جَعَلْنَا الِامْتِنَاعَ مَعَ الْقُدْرَةِ مُمْكِنًا مِنَ الْفَسْخِ وَلِيَكُنْ هَذَا مُفَرَّعًا عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ بِنَفْسِهَا، أَمَّا إِذَا أَحْوَجْنَاهَا إِلَى الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي، فَمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ النِّكَاحُ كَيْفَ يَفْسَخُ أَوْ يَأْذَنُ فِي الْفَسْخِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفِقَ الْحَاكِمُ بِهِ حَتَّى يَقُولَ: إِنْ كُنْتُ نَكَحْتُهَا، فَهِيَ طَالِقٌ، لِيُحِلَّ لَهَا النِّكَاحُ، وَإِنْ نَكَلَ الرَّجُلُ، حَلَفَتْ هِيَ، وَاسْتَحَقَّتِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ. فَرْعٌ امْرَأَةٌ تَحْتَ رَجُلٍ ادَّعَى آخَرُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَيْهَا لَا عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْيَدِ، فَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، لَمْ يُقَدِّمْ بَيِّنَةَ مَنْ هِيَ تَحْتَهُ، بَلْ هِيَ كَاثْنَيْنِ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى نِكَاحِ خَلِيَّةٍ، فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَتَا مُؤَرَّخَتَيْنِ بِتَارِيخٍ وَاحِدٍ، أَوْ مُطَلَّقَتَيْنِ، فَقَدْ تَعَارَضَتَا وَلَا يَجِيءُ قَوْلَا الْقِسْمَةِ وَالْقُرْعَةِ، وَإِنْ كَانَتَا مُؤَرَّخَتَيْنِ بِتَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، قُدِّمَتِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي سَبَقَ تَارِيخُهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ هَذَا التَّعَارُضُ فِي مَالٍ، فَإِنَّ فِي التَّرْجِيحِ بِالسَّبْقِ قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ فِي الْأَمْوَالِ غَالِبٌ دُونَ النِّكَاحِ. وَلَوْ

قَامَتِ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالنِّكَاحِ، فَبَيِّنَةُ النِّكَاحِ أَوْلَى، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ وَاحِدٍ بِأَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ كَذَا، وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ بِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَلَوْ أَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا إِذَا زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ لِشَخْصَيْنِ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ سَبْقَ نِكَاحِهِ. فَرْعٌ ادَّعَتْ ذَاتُ وَلَدٍ أَنَّهَا مَنْكُوحَتُهُ، وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، وَسَمِعْنَا دَعْوَى النِّكَاحِ مِنْهَا، فَإِنْ أَنْكَرَ النِّكَاحَ وَالنَّسَبَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ قَالَ: هَذَا وَلَدِي مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ هَذَا وَلَدِي، لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالنِّكَاحِ، وَإِنْ قَالَ: هُوَ وَلَدِي مِنْهَا وَجَبَ الْمَهْرُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ، فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالْمَهْرُ وَالْكِسْوَةُ، فَإِنْ قَالَ: كَانَ نِكَاحَ تَفْوِيضٍ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْضِ إِنْ لَمْ يَجْرِ دُخُولٌ، وَإِنْ جَرَى، فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ بِالدُّخُولِ، فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ادَّعَى رِقَّ بَالِغٍ، فَقَالَ الْبَالِغُ: أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعِي اسْتَخْدَمَهُ قَبْلَ الْإِنْكَارِ، وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ، أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ جَرَى عَلَيْهِ الْبَيْعُ مِرَارًا، وَتَدَاوَلَهُ الْأَيْدِي أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مَنْ غَيْرِهِ، وَحَلَفَ عَلَى نَفْيِ الرِّقِّ، فَهَلْ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ؟ فِيهِ كَلَامٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي. فَإِنْ قَالَ الْبَالِغُ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ: إِنَّكَ أَعْتَقْتَنِي أَوْ أَعْتَقَنِي مَنْ بَاعَنِي لَكَ، طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوِ ادَّعَى رِقَّ صَغِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، لَمْ يُصَدَّقْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ، نُظِرَ إِنِ اسْتَنَدَتْ إِلَى النِّقَاطِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: تُقْبَلُ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِالرِّقِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ اسْتِنَادُهَا إِلَى الِالْتِقَاطِ، صُدِّقَ وَحُكِمَ

لَهُ، كَمَا لَوِ ادَّعَى الْمِلْكَ فِي دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ فِي يَدِهِ، فَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا فَأَنْكَرَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِرِقِّهِ، وَلَا أَثَرَ لِإِنْكَارِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْبَالِغِ، وَإِذَا حَكَمْنَا لَهُ بِرِقِّهِ فِي الصَّغِيرِ، فَبَلَغَ، وَأَنْكَرَ الرِّقَّ، فَالْأَصَحُّ اسْتِمْرَارُ الرِّقِّ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ، وَالثَّانِي: يُصَدَّقُ مُنْكِرُ الرِّقِّ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَلَا فَرْقَ فِي جَرَيَانِ الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الصَّغِيرِ مِلْكَهُ وَيَسْتَخْدِمَهُ، ثُمَّ يَبْلُغُ وَيُنْكِرُ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَجَرَّدَ الِاسْتِخْدَامُ إِلَى الْبُلُوغِ، ثُمَّ يَدَّعِي مِلْكَهُ، وَيُنْكِرُ الْمُسْتَخْدَمُ، وَالْيَدُ عَلَى الْبَالِغِ الْمُسْتَرَقِّ، وَإِنْ لَمْ يُغْنِ عَنِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ إِنْكَارِهِ، فَهِيَ غَيْرُ سَاقِطَةٍ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يَجُوزُ اعْتِمَادُهَا فِي الشِّرَاءِ إِنْ سَكَتَ الْمُسْتَرَقُّ اكْتِفَاءً بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْحُرَّ لَا يُسْتَرَقُّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ مَعَ سُكُوتِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ مَعَ إِنْكَارِهِ الرِّقَّ، بَلْ يُسْأَلُ، فَإِنْ أَقَرَّ، اشْتُرِيَ. الثَّامِنَةُ: فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: لَا، إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلْزَامٌ وَمُطَالَبَةٌ فِي الْحَالِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَالثَّالِثُ: تُسْمَعُ إِنْ كَانَ لَهُ نِيَّةٌ لِيَسْتَحِلَّ فَيَأْمَنَ غَيْبَتَهَا وَمَوْتَهَا، وَإِلَّا فَلَا، أَوْ فِي دَعْوَى الْأَمَةِ الِاسْتِيلَادَ وَالرَّقِيقِ التَّدْبِيرَ، وَتَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ نَاجِزَةٌ، وَالثَّانِي: عَلَى الْخِلَافِ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، الِاسْتِيلَادُ أَوْلَاهُمَا بِالْقَبُولِ، وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي التَّدْبِيرِ إِذَا لَمْ نُجَوِّزِ الرُّجُوعَ عَنْهُ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ فَإِنْكَارُهُ رُجُوعٌ يُبْطِلُ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ سَمَاعُ دَعْوَى الِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ، وَتَعْلِيقُ الْعِتْقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ ادُّعِيَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ قَبْلَ الْمَحَلِّ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ: لَا يَلْزَمُنِي دَفْعُ شَيْءٍ إِلَيْكَ الْآنَ، وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: لَا شَيْءَ عَلَيَّ مُطْلَقًا، قَالَ الْقَفَّالُ: فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ هَلْ يُوصَفُ قَبْلَ الْحُلُولِ بِالْوُجُوبِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ. التَّاسِعَةُ: سَلَّمَ ثَوْبًا أَوْ غَيْرَهُ إِلَى دَلَّالٍ لِيَبِيعَهُ، فَجَحَدَهُ، وَشَكَّ فِي بَقَاءِ الثَّوْبِ، فَلَا يَدْرِي أَيُطَالِبُ بِالْعَيْنِ أَمْ بِالْقِيمَةِ، فَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الشَّكِّ، فَيَقُولُ: لِي عِنْدَهُ كَذَا، فَإِنْ بَقِيَ، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ، وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى الْجَزْمُ، فَيُفْرَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُطَالَبَةِ دَعْوَى بِرَأْسِهَا، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا بَيِّنَةَ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ نَكَلَ، وَرُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى التَّرَدُّدِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى عَلَى التَّرَدُّدِ، أَمْ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ؟ وَجْهَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُفْرَدُ لِكُلِّ مَطْلَبٍ دَعْوَى، فَادَّعَى مَا رَآهُ أَقْرَبَ، وَنَكَلَ الْخَصْمُ، فَنُكُولُهُ يُؤَكِّدُ ظَنَّ الْمُدَّعِي بِكَذِبِهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ بِذَلِكَ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمِ اسْتِدْلَالًا بِنُكُولِهِ عَلَى كَذِبِهِ، كَمَا يُسْتَدَلُّ بِخَطِّ أَبِيهِ، وَأُجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا أَنْكَرَ الْمُودَعُ التَّلَفَ، وَتَأَكَّدَ ظَنُّهُ بِنُكُولِ الْمُودَعِ هَلْ يَحْلِفُ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ ثَوْبًا، فَقَالَ: كَانَ فِي يَدِي وَهَلَكَ، فَأَغْرَمُ لَكَ الْقِيمَةَ، فَقَالَ الْمُدَّعِي لِلْحَاكِمِ: قَدْ أَقَرَّ بِالثَّوْبِ، فَحَلَّفَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إِلَيَّ، حَلَّفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ قُنِعَ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى بَقَاءِ الثَّوْبِ طُولِبَ بِالْعَيْنِ. الْبَابُ الثَّانِي فِي جَوَابِ الدَّعْوَى جَوَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِقْرَارٌ، أَوْ إِنْكَارٌ، فَإِنْ سَكَتَ، وَأَصَرَّ عَلَى

فصل

السُّكُوتِ، جُعِلَ كَالْمُنْكِرِ النَّاكِلِ، فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَهُوَ كَالْإِنْكَارِ. وَالْكَلَامُ فِي الْإِقْرَارِ وَصِيغَتِهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ، وَقَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لِي عَنْ دَعْوَاكَ مُخْرَجٌ، لَيْسَ بِإِقْرَارٍ، لِاحْتِمَالِ الْخُرُوجِ بِالْإِنْكَارِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لَكَ، لَيْسَ بِإِقْرَارٍ لِلْمُخَاطَبِ بِمَا دَعَاهُ، لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ الِاسْتِهْزَاءِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا ادَّعَيْتَ، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ لَكَ مِنَ الْحَقِّ عِنْدِي مَا يُسْتَحَقُّ لَهُ أَكْثَرُ مِمَّا ادَّعَيْتَ، وَكَمَا لَا يَكُونُ قَوْلُهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لَكَ إِقْرَارٌ لِلْمُخَاطَبِ، لَا يَكُونُ إِقْرَارًا لِفُلَانٍ أَيْضًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ بِالْحَقِّ الْحُرْمَةَ. فَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ أَكْثَرُ مِمَّا ادَّعَيْتَ، فَهَذَا إِقْرَارٌ لِفُلَانٍ، إِلَّا أَنَّهُ يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِمَا دُونَهُ فِي الْقَدْرِ تَنْزِيلًا عَلَى كَثْرَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الرَّغْبَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ: الْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُؤَدَّى، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى حَيْثُ يَكُونُ حَقًّا، فَأَمَّا أَنَا فَبَرِيءٌ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلِ الْبَابِ هِيَ سِتٌّ، الْأُولَى: ادَّعَى عَلَيْهِ عَشَرَةً، فَقَالَ: لَا يَلْزَمُنِي الْعَشَرَةُ، فَلَيْسَ بِجَوَابٍ تَامٍّ، بَلِ التَّامُّ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهِ «وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا» ، أَوْ «وَلَا بَعْضُهَا» ، وَكَذَا يَحْلِفُ إِنْ حَلَفَ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الْعَشَرَةِ مُدَّعٍ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، فَاشْتُرِطَ مُطَابَقَةُ الْإِنْكَارِ وَالْيَمِينِ دَعْوَاهُ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يُكَلَّفُ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَقُولَ: «وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا» ، وَإِنَّمَا يُكَلَّفُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا حَلَّفَهُ الْقَاضِي عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَشَرَةُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا، فَحَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعَشَرَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، لَمْ تَلْزَمْهُ الْعَشَرَةُ بِتَمَامِهَا، لَكِنَّهُ نَاكِلٌ عَمَّا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَلِلْمُدَّعِي

أَنْ يَحْلِفَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَا دُونَهَا بِقَلِيلٍ، وَيَأْخُذَهُ، وَلَوْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ مُطْلَقِ الْيَمِينِ، وَأَرَادَ الْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ عَلَى بَعْضِ الْعَشَرَةِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ عَرَضَ الْقَاضِي عَلَيْهِ الْيَمِينَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَعَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى بَعْضِهَا، وَإِنْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَحْدَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحَلِفُ عَلَى بَعْضِهَا، بَلْ يَسْتَأْنِفُ الدَّعْوَى لِلْبَعْضِ الَّذِي يُرِيدُ الْحَلِفَ عَلَيْهِ، وَحَيْثُ جَوَّزْنَا لِلْمُدَّعِي الْحَلِفَ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى عَقْدٍ، فَإِنْ أَسْنَدَهُ، بِأَنْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: نَكَحَنِي بِخَمْسِينَ وَطَالَبْتُهُ بِهِ، وَنَكَلَ الزَّوْجُ، لَمْ يُمْكِنْهَا الْحَلِفُ عَلَى أَنَّهُ نَكَحَهَا بِبَعْضِ الْخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ مَا ادَّعَتْهُ أَوَّلًا. وَإِذَا ادَّعَى أَنَّ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدِكَ مِلْكِي يَلْزَمُكَ تَسْلِيمُهَا إِلَيَّ، فَإِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، يَحْلِفُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ إِيَّاهَا، كَفَاهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْهَا. الثَّانِيَةُ: إِذَا ادَّعَى مَالًا وَأَسْنَدَهُ إِلَى جِهَةٍ بِأَنْ قَالَ: أَقْرَضْتُكَ كَذَا، وَطَالَبَهُ بِبَدَلِهِ، أَوْ قَالَ: غَصَبْتَ عَبْدِي، فَتَلِفَ عِنْدَكَ، فَعَلَيْكَ كَذَا ضَمَانًا، أَوْ مَزَّقْتَ ثَوْبِي، فَعَلَيْكَ كَذَا أَرْشًا، أَوِ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ كَذَا، وَأَقْبَضْتُكَ ثَمَنَهُ، أَوِ اشْتَرَيْتَ مِنِّي كَذَا، فَعَلَيْكَ ثَمَنُهُ، وَطَالَبَهُ بِالْمُدَّعَى، فَلَيْسَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي الْجَوَابِ لِتِلْكَ الْجِهَةِ، بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا، وَلَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ، وَكَذَا يَكْفِيهِ فِي جَوَابِ طَالِبِ الشُّفْعَةِ: لَا شُفْعَةَ لَكَ عِنْدِي، أَوْ لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ هَذَا الشِّقْصِ إِلَيْكَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي الْإِقْرَاضِ وَالْغَصْبِ وَغَيْرِهِمَا، وَيَعْرِضُ مَا يُسْقِطُ الْحَقَّ مِنْ أَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ، فَلَوْ

نَفَى الْإِقْرَاضَ وَنَحْوَهُ كَانَ كَاذِبًا، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِهِ، وَادَّعَى الْمُسْقَطَ طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَدْ يَعْجَزُ عَنْهَا، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى قَبُولِ الْجَوَابِ الْمُطْلَقِ، وَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: طَلَّقْتَنِي، فَقَالَ: أَنْتِ زَوْجَتِي، كَفَاهُ وَإِذَا اقْتَصَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْجَوَابِ الْمُطْلَقِ، وَأَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى الْحَلِفِ، حَلَفَ عَلَى مَا أَجَابَ، وَلَمْ يُكَلَّفِ التَّعَرُّضَ لِنَفْيِ الْجِهَةِ الْمِدَّعَاةِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْجِهَةِ الْمُدَّعَاةِ بَعْدَ الْجَوَابِ الْمُطْلَقِ، جَازَ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ تَعَرَّضَ فِي الْجَوَابِ لِلْجِهَةِ، فَقَالَ: مَا بَايَعْتُكَ، أَوْ مَا أَقْرَضْتَنِي، أَوْ مَا مَزَّقْتُ، فَالْجَوَابُ صَحِيحٌ، إِنْ حَلَفَ عَلَى وَفْقِ الْجَوَابِ، فَذَاكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي الْحَلِفِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَهَلْ يُمْكِنُ، كَمَا لَوْ أَجَابَ كَذَلِكَ، أَمْ لَا لِيُطَابِقَ الْيَمِينُ الْإِنْكَارَ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مَرْهُونٌ، أَوْ مُسْتَأْجَرٌ، وَادَّعَاهُ مَالِكُهُ، كَفَاهُ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُهُ، وَلَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لِلْمِلْكِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ نُقِلَ فِي «الْوَسِيطِ» عَنِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ يَصْدُقُ الشُّهُودُ، وَلَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لِإِجَارَةٍ أَوْ رَهْنٍ، وَلَوِ اعْتَرَفَ بِالْمِلْكِ، وَادَّعَى رَهْنًا أَوْ إِجَارَةً، وَكَذَّبَهُ الْمُدَّعِي، فَمَنِ الْمُصَدَّقُ مِنْهُمَا؟ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي بَابِ اخْتِلَافِ الْمُتَرَاهِنَيْنِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُ الْيَدِ فَذَاكَ، وَإِنْ صَدَّقَ الْمَالِكُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - احْتَاجَ مُدَّعِي الرَّهْنِ أَوِ الْإِجَارَةِ إِلَى الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ تُوَافِقْهُ بَيِّنَةٌ، وَخَافَ جَحُودَ الرَّاهِنِ لَوِ اعْتَرَفَ لَهُ بِالْمِلْكِ، فَمَا حِيلَتُهُ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْقَفَّالُ: حِيلَتُهُ تَفْصِيلُ الْجَوَابِ، فَيَقُولُ: إِنِ ادَّعَيْتَ مِلْكًا مُطْلَقًا فَلَا يَلْزَمُنِي التَّسْلِيمُ، وَإِنِ ادَّعَيْتَ مَرْهُونًا عِنْدِي، فَاذْكُرْهُ لِأُجِيبَ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يُقْبَلُ الْجَوَابُ الْمُرَدَّدُ، بَلْ حِيلَتُهُ أَنْ يَجْحَدَ مِلْكَهُ

إِنْ جَحَدَ صَاحِبُهُ الدَّيْنَ وَالرَّهْنَ، وَعَلَى عَكْسِهِ لَوِ ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ، وَخَافَ الرَّاهِنُ جَحُودَ الرَّهْنِ لَوِ اعْتَرَفَ بِالدَّيْنِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَفْصِلُ، فَيَقُولُ: إِنِ ادَّعَيْتَ أَلْفًا لِي عِنْدَكَ بِهِ كَذَا رَهْنًا فَحَتَّى أُجِيبَ، وَإِنِ ادَّعَيْتَ أَلْفًا، فَلَا يَلْزَمُنِي. وَعَلَى الثَّانِي صَارَتِ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِالْجُحُودِ، فَلِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ يَجْحَدَهُ، وَيُجْعَلُ هَذَا بِذَاكَ، وَيَشْتَرِطُ التَّسَاوِي، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْفُورَانِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَفْصِلُ الْجَوَابَ أَبَدًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِقْرَارًا بِشَيْءٍ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَلْفًا، فَيَقُولُ: إِنِ ادَّعَيْتَ عَنْ ثَمَنِ كَذَا فَحَتَّى أُجِيبَ، وَإِنِ ادَّعَيْتَ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَا يَلْزَمُنِي. فَرْعٌ ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا صَدَاقًا يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْهَا، قِيلَ لِلْقَفَّالِ: هَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ: هَلْ هِيَ زَوْجَتُكَ؟ فَقَالَ: مَا لِلْقَاضِي وَلِهَذَا السُّؤَالُ! لَكِنْ لَوْ سَأَلَ، فَقَالَ: نَعَمْ، قَضَى عَلَيْهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ نَكَحَهَا بِكَذَا، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ. الثَّالِثَةُ: إِذَا ادَّعَى عَقَارًا أَوْ مَنْقُولًا عَلَى إِنْسَانٍ، وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَيْسَ هُوَ لِي، نُظِرَ، أَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ أَمْ يُضِيفُهُ إِلَى مَجْهُولٍ أَمْ إِلَى مَعْلُومٍ؟ فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، أَوْ أَضَافَهُ إِلَى مَجْهُولٍ بِأَنْ قَالَ: هُوَ لِرَجُلٍ لَا أَعْرِفُهُ، أَوْ أُسَمِّيهِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهُمَا: يُسَلَّمُ الْمَالُ إِلَى الْمُدَّعِي، إِذْ لَا مُزَاحِمَ لَهُ، وَالثَّانِي: تَنْصَرِفُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ، وَيَنْتَزِعُ الْحَاكِمُ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ، أَخَذَهُ، وَإِلَّا حَفِظَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهُ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْصَرِفُ، وَلَا يُنْتَزَعُ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِمُعَيَّنٍ قُبِلَ، وَانْصَرَفَتِ الْخُصُومَةُ إِلَى ذَلِكَ

الْمُعَيَّنِ، وَإِلَّا فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَوْ يُحَلِّفُهُ، وَهَلْ يُمْكِنُ مِنْ أَنْ يَعُودَ، فَيَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ فِي الْجَوَابِ: نِصْفُهُ لِي، وَلَا أَدْرِي لِمَنِ النِّصْفُ الْآخَرُ، فَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ، وَأَمَّا إِذَا أَضَافَهُ إِلَى مَعْلُومٍ، فَالْمُضَافُ إِلَيْهِ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَنْ تَتَعَذَّرُ مُخَاصَمَتُهُ، وَتَحْلِيفُهُ بِأَنْ قَالَ: هُوَ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ عَلَى ابْنِي الطِّفْلِ، أَوْ هُوَ مِلْكٌ لَهُ، فَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ أَنَّ الْخُصُومَةَ تَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْلِيفِ الْوَلِيِّ وَلَا طِفْلِهِ، وَلَا تُغْنِي إِلَّا الْبَيِّنَةُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَإِذَا قَضَى لَهُ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ كَتَبَ صُورَةَ الْحَالِ فِي السِّجِلِّ، لِيَكُونَ الطِّفْلُ عَلَى حُجَّتِهِ إِذَا بَلَغَ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِذَا قَالَ: هُوَ لِابْنِي الطِّفْلِ، أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِ، لَمْ تَسْقُطِ الدَّعْوَى، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَخَذَهُ وَإِلَّا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ هُوَ قَيِّمَ الطِّفْلِ. قُلْتُ: اخْتَارَ فِي «الْمُحَرَّرِ» قَوْلَ الْبَغَوِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ لَا تَتَعَذَّرُ مُخَاصَمَتُهُ وَتَحْلِيفُهُ، كَشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ، وَغَائِبٌ، فَالْحَاضِرُ يُرَاجَعُ، فَإِنْ صَدَّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ انْصَرَفَتِ الْخُصُومَةُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الثَّلَاثَةُ السَّابِقَةُ فِي الْإِقْرَارِ، وَرَابِعَةٌ حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: ادْعُهُ لِنَفْسِكَ، فَتَكُونُ الْخَصْمَ، أَوْ لِمَنْ يُصَدِّقُكَ، فَيَكُونُ هُوَ الْخَصْمَ، فَإِنِ امْتَنَعْتَ، جَعَلْنَاكَ نَاكِلًا وَحَلَّفْنَا الْمُدَّعِيَ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْغَائِبُ، فَإِذَا أَضَافَ الْمُدَّعِي إِلَى غَائِبٍ، فَفِي انْصِرَافِ الْخُصُومَةِ عَنْهُ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا - وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ - يَنْصَرِفُ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ قَالَ: لَيْسَ لِي، وَإِنَّمَا هُوَ لِفُلَانٍ، فَلَا،

فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْصَرِفُ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، فَلَهُ تَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ إِذَا عَادَ الْغَائِبُ، وَصَدَّقَ الْمُقِرَّ، رُدَّ الْمَالُ عَلَيْهِ بِلَا حُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ بِإِقْرَارِ صَاحِبِ الْيَدِ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْمُدَّعِي الْخُصُومَةَ مَعَهُ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى الْحَاضِرِ، أَخَذَ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ أَيْضًا، وَهَلْ هُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْحَاضِرِ الَّذِي تَجْرِي الْخُصُومَةُ مَعَهُ، أَمْ عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّ الْمَالَ بِمُقْتَضَى الْإِقْرَارِ لَهُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي مَعَ الْبَيِّنَةِ إِلَى الْيَمِينِ، وَيُثْبِتُ الْقَاضِي فِي السِّجِلِّ أَنَّهُ قَضَى لَهُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَمَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ، لِيَكُونَ الْغَائِبُ عَلَى حُجَّتِهِ، وَإِذَا عَادَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، قَضَى لَهُ لِتَرَجُّحِ جَانِبِهِ بِالْيَدِ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا، أُقِرَّ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُدَّعِي، فَإِنِ الْتَمَسَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يُزِيدَ فِي السِّجِلِّ أَنَّ الْغَائِبَ قَدِمَ، وَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ، أَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: تَنْصَرِفُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، وَقَفَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، قُضِيَ لَهُ بِالْمَالِ، وَهَلْ هُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ، وَيَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْيَمِينِ، أَمْ عَلَى الْحَاضِرِ الَّذِي تَجْرِي الْخُصُومَةُ مَعَهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا؟ وَجْهَانِ، رَجَّحَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ الثَّانِي، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى وَأَلْيَقُ بِالْوَجْهِ الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَقُمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّ الْمَالَ لِلْغَائِبِ، فَإِنْ أَقَامَهَا، نُظِرَ إِنِ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَةِ الْغَائِبِ، وَأَثْبَتَ الْوَكَالَةَ فَبَيَّنَتُهُ عَلَى أَنَّ الْمَالَ لِلْغَائِبِ مَسْمُوعَةٌ مُرَجَّحَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي. وَإِنْ لَمْ يُثْبِتِ الْوَكَالَةَ، فَذَكَرَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ، فَعَلَى هَذَا الْحُكْمِ كَمَا لَوْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً. وَالثَّانِي: تُسْمَعُ، وَالثَّالِثُ: إِنِ اقْتَصَرَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ، لَمْ تُسْمَعْ، وَإِنْ تَعَرَّضَتْ مَعَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي يَدِ الْمُدَّعَى

عَلَيْهِ بِعَارِيَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، سُمِعَتْ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَادَّعَى لِنَفْسِهِ حَقًّا لَازِمًا، كَرَهْنٍ وَإِجَارَةٍ، وَتَعَرَّضَتِ الْبَيِّنَةُ لِذَلِكَ، فَفِي السَّمَاعِ وَجْهَانِ. وَإِذَا سَمِعْنَا بَيِّنَتَهُ لِصَرْفِ الْيَمِينِ عَنْهُ، حُكِمَ لِلْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ، فَإِنْ رَجَعَ الْغَائِبُ، وَأَعَادَ الْبَيِّنَةَ، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ سَمِعْنَاهَا لِعُلْقَةِ الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ، فَهَلْ تُقَدَّمُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ، أَمْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَيَكُونُ فَائِدَةُ بَيَّنَتِهِ صَرْفَ الْيَمِينِ عَنْهُ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، وَالَّذِي يُفْتَى بِهِ - وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ - أَنَّ الْمُدَّعِيَ إِذَا أَضَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى الْغَائِبِ خُصُومَةً مَعَهُ، وَأُخْرَى مَعَ الْغَائِبِ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، انْصَرَفَتِ الْخُصُومَةُ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِيمَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقْرَارِ لِلْغَائِبِ، وَبَنَوْا عَلَى انْصِرَافِ الْخُصُومَةِ عَنْهُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الْبَيِّنَةِ، وَالْقَضَاءُ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ بِلَا خِلَافٍ، وَهِيَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْغَائِبِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، فَلَا يُحْكَمُ لِلْغَائِبِ بِالْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي أَقَامَهَا الْحَاضِرُ عَلَى أَنَّهُ لِلْغَائِبِ، فَإِنْ تَعَرَّضَ الشُّهُودُ مَعَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي رَهْنِ الْحَاضِرِ، وَإِجَارَتِهِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِلْغَائِبِ أَيْضًا، وَتُرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ عَلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، لِقُوَّتِهَا بِالْيَدِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا تُسْمَعُ، فَعَلَى هَذَا تَعْمَلُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي. فَرْعٌ مَتَى حَكَمْنَا بِانْصِرَافِ الْخُصُومَةِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لِحَاضِرٍ أَوْ لِغَائِبٍ أَوْ مَجْهُولٍ عَلَى وَجْهٍ، فَهَلْ لِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُهُ؟ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ، هَلْ يُغَرَّمُ الْقِيمَةَ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ، إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، حَلَّفَهُ، فَلَعَلَّهُ يُقِرُّ فَيُغَرَّمُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَإِنْ قُلْنَا: النُّكُولُ وَرَدُّ الْيَمِينِ، كَالْإِقْرَارِ، لَمْ يُحَلِّفْهُ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ

حَلَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْكُلُ، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي، وَيَأْخُذُ الْقِيمَةَ، وَكَأَنَّ الْعَيْنَ تَالِفَةٌ. وَهَلْ يَسْتَرِدُّ الْعَيْنَ مِنَ الْمُقَرِّ لَهُ وَفَاءً بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ؟ وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ، وَأَخَذَهَا بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَانِيًا، أَوْ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِهِ، ثُمَّ سُلِّمَتْ لَهُ الْعَيْنُ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ يَمِينِهِ بَعْدَ نُكُولِ الْمُقِرِّ لَهُ، لَزِمَهُ رَدُّ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْحَيْلُولَةِ وَقَدْ زَالَتْ. فَرْعٌ ادَّعَى أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ عَلَيَّ، وَقَالَ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ: هِيَ مِلْكٌ لِفُلَانٍ، وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، انْتَقَلَتِ الْخُصُومَةُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ طَلَبُ الْقِيمَةِ مِنَ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْوَقْفَ، وَلَا يُعْتَاضُ عَنْهُ، كَذَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. وَكَانَ لَا يَبْعُدُ طَلَبُ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ وَالْحَيْلُولَةِ فِي الْحَالِ كَالْإِتْلَافِ. وَلَوْ رَجَعَ الْغَائِبُ وَكَذَّبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إِقْرَارِهِ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِيمَنْ أَضَافَ إِلَى جَاحِدٍ، فَكَذَّبَهُ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُقِرُّ لَهُ الْحَاضِرُ أَوِ الْغَائِبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ بَيِّنَةً عَلَى الْمِلْكِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُ الْمُقِرِّ لِيُغَرِّمَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ اسْتَقَرَّ بِالْبَيِّنَةِ، وَخَرَجَ الْإِقْرَارُ عَنْ أَنْ تَكُونَ الْحَيْلُولَةُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَبْدًا مِنْ رَجُلٍ، فَادَّعَاهُ آخَرُ، نُظِرَ إِنْ سَاعَدَهُ الْمُشْتَرِي، وَأَقَرَّ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ، وَإِنِ اسْتَحْلَفَ، فَنَكَلَ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي، وَأَخْذَ الْمَالَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ، لِتَقْصِيرِهِ بِالنُّكُولِ، وَحَلِفُ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِهِ كَإِقْرَارِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفْرَضَ فِي هَذَا الْخِلَافِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ.

قُلْتُ: هَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الْمُتَنَازِعَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَكَذَا نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، تَحْرِيرُ الْمَذْهَبِ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي الِاسْتِحْقَاقَ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَخَذَ الْمَالَ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي مُنَازَعَتِهِ لِلْمُدَّعِي بِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِبَائِعِي، وَلَا بِأَنَّهُ مِلْكِي بِأَنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ - وَهُوَ سَاكِتٌّ - فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ قَطْعًا، وَإِنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ ظَالِمٌ بِاعْتِرَافِهِ، وَأَصَحُّهُمَا الرُّجُوعُ مَهْمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْخُصُومَةِ، أَوِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ الْيَدِ، ثُمَّ بَانَ خِلَافُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ: بِعْنِي هَذِهِ الدَّارَ، فَإِنَّهَا مِلْكُكَ، ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَلَا يَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ كَانَ الْمَوْجُودُ مُجَرَّدَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ إِقْرَارًا لِلْبَائِعِ بِالْمِلْكِ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ تَضَمَّنَهُ الشِّرَاءُ، فَبَطَلَ بِبُطْلَانِ الْمُبَايَعَةِ، وَالْإِقْرَارُ الْمُسْتَقِلُّ بِخِلَافِهِ وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فِي الظَّاهِرِ، فَقَالَ: أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَأَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى رِقِّهِ، أَوْ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالرِّقِّ لَهُ، أَوْ لِلَّذِي بَاعَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا حَلَفَ حَكَمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ، ثُمَّ أَطْلَقَ ابْنُ الْحَدَّادِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَفَصَّلَ أَكْثَرُهُمْ، فَقَالُوا: إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي مُنَازَعَتِهِ بِأَنَّهُ رَقِيقٌ رَجَعَ، وَإِنْ صَرَّحَ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. فُرُوعٌ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي سَعْدٍ الْهَرَوِيِّ: أَقَرَّ الْمُشْتَرِي لِلْمُدَّعِي بِالْمِلْكِ، ثُمَّ أَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لِلْمُدَّعِي، لِيَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، لَمْ يُمَكَّنْ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِغَيْرِهِ بِلَا وَكَالَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ، كَيْفَ وَالْمُدَّعِي لَوْ أَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْبَيِّنَةِ

فصل

بِالْإِقْرَارِ، وَلَهُ تَحْلِيفُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَقَرَّ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ، فَهَلْ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي يَمِينَ الرَّدِّ، إِنْ قُلْنَا: النُّكُولُ وَالْيَمِينُ كَالْإِقْرَارِ، فَنَعَمْ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، فَلَا. وَلَوِ ادَّعَى الْمُسْتَرَقُّ الْمَبِيعُ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، أَوِ اعْتَرَفَ بِهِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَرَادَ الْمُشْتَرِي إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، مُكِّنَ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِكُلِّ أَحَدٍ إِثْبَاتُهَا، وَإِذَا ثَبَتَتْ ثَبَتَ الرُّجُوعُ، وَلَا يَكْفِي فِي الرُّجُوعِ بَيِّنَةٌ بِمُطْلَقِ الْحُرِّيَّةِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَهُ. وَلَوْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا أَقَرَّ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى إِقْرَارِ الْبَائِعِ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْمُدَّعِي قُبِلَتْ، وَثَبَتَ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَانَ إِقْرَارُ الْبَائِعِ مِنْ قَبْلُ لَغَا إِقْرَارُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ أَقَامَ مُدَّعِي الِاسْتِحْقَاقِ الْبَيِّنَةَ، وَأَخَذَ الْعَيْنَ، ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَ اشْتَرَاهَا مِنْ هَذَا الْمُدَّعِي سُمِعَتْ، يُرَدُّ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ، وَتَكُونُ الْعَيْنُ لِلْمُشْتَرِي بِالْمُبَايَعَةِ السَّابِقَةِ. فَصْلٌ جَارِيَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ، فَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْيَدِ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً، أَوْ حَلَفَ بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَحُكِمَ لَهُ بِهَا فَأَخَذَهَا، فَوَطِئَهَا، ثُمَّ قَالَ: كَذِبْتُ فِي دَعْوَايَ وَيَمِينِي، وَالْجَارِيَةُ لِمَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهَا وَمَهْرُهَا، وَأَرْشُ نَقْصِهَا إِنْ نَقَصَتْ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِنَّهَا كَانَتْ زَانِيَةً؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ مَا يَقُولُ. وَإِنْ أَوْلَدَهَا، ثُمَّ كَذَّبَ نَفْسَهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إِبْطَالِ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَالِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْأُمِّ مَعَ الْمَهْرِ، وَلَيْسَ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ، فَإِنْ مَاتَ عَتَقَتْ وَوَلَاؤُهَا مَوْقُوفٌ، فَإِنْ وَافَقَتْهُ الْجَارِيَةُ فِي الرُّجُوعِ لَمْ يَبْطُلِ الِاسْتِيلَادُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ أَنْكَرَ وَحَلَفَ، وَأَوْلَدَ الْجَارِيَةَ، ثُمَّ عَادَ، وَقَالَ: كُنْتُ مُبْطِلًا

فِي الْإِنْكَارِ، وَالْجَارِيَةُ لِلْمُدَّعِي، فَالْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ، وَالْجَارِيَةِ، وَالِاسْتِيلَادِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي طَرَفِ الْمُدَّعِي. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْعَبْدِ فِيهِ، كَالْحَدِّ، وَالْقَصَاصِ، فَالدَّعْوَى فِيهِ يَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ، وَالْجَوَابُ بِطَلَبٍ مِنْهُ، وَمَا لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَهُوَ الْأَرْشُ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ، فَالدَّعْوَى فِيهِ تَتَوَجَّهُ عَلَى السَّيِّدِ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ لِلسَّيِّدِ، وَلَوْ وُجِّهَتِ الدَّعْوَى عَلَى الْعَبْدِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ - الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَعَلَى هَذَا هَلْ لِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُهُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْأُرُوشَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرَّقَبَةِ هَلْ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ أَيْضًا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ سَيَأْتِيَانِ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَلَا طِلْبَةَ فِي الْحَالِ، وَلَا إِلْزَامَ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُتَوَقَّعُ فِيمَا بَعْدُ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، فَإِنْ سَمِعْنَاهَا فَلَهُ تَحْلِيفُ الْعَبْدِ، فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّعَلُّقَ بِالرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ وَإِنْ جُعِلَتْ كَالْبَيِّنَةِ، فَلَا تُؤَثِّرُ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَالرَّقَبَةُ حَقُّ السَّيِّدِ. وَقِيلَ: لَهُ التَّعَلُّقُ بِالرَّقَبَةِ إِنْ جَعَلْنَاهَا كَالْبَيِّنَةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي «التَّهْذِيبِ» فِي بَابِ مُدَايَنَةِ الْعَبِيدِ: أَنَّ الدَّعْوَى مَسْمُوعَةٌ عَلَى الْعَبْدِ إِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، وَكَذَا إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَقُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ فَلَا، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ إِشْكَالٌ، وَالْمُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ لِإِثْبَاتِ الْأَرْشِ فِي ذِمَّتِهِ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِهِ بِالرَّقَبَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا وَلَمْ يُحَلِّفْهُ، وَطَلَبَ كَفِيلًا مِنْهُ لِيَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِعْطَاءُ كَفِيلٍ، وَإِنِ اعْتَادَ الْقُضَاةُ خِلَافَهُ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ:

الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ، وَطَلَبَ كَفِيلًا إِلَى أَنْ يَعْدِلَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُطَالَبُ بِهِ فَإِنِ امْتَنَعَ حُبِسَ لِامْتِنَاعِهِ لَا لِثُبُوتِ الْحَقِّ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَلْزَمُهُ إِعْطَاءُ الْكَفِيلِ، لَكِنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُطَالِبَهُ إِذَا رَأَى اجْتِهَادَهُ إِلَيْهِ، وَخَافَ هَرَبَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الضَّمَانِ قَوْلٌ: إِنَّ كَفَالَةَ الْبَدَنِ بَاطِلَةٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْيَمِينِ فِيهِ أَطْرَافٌ: الْأَوَّلُ فِي نَفْسِ الْحَلِفِ، وَصِيَغُ الْأَيْمَانِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي مَوْضِعِهَا، وَالْمَقْصُودُ الْآنَ بَيَانُ قَاعِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ لِلتَّغْلِيظِ مَدْخَلًا فِي الْأَيْمَانِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الدَّعَاوَى مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأَوْلَى التَّغْلِيظُ يَقَعُ بِوُجُودِهِ، أَحَدُهَا التَّغْلِيظُ اللَّفْظِيُّ، وَهُوَ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: التَّعْدِيدُ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِاللِّعَانِ وَالْقَسَامَةِ، وَوَاجِبٌ فِيهِمَا، الثَّانِي: زِيَادَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، بِأَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ، أَوْ وَاللَّهِ الطَّالِبُ الْغَالِبُ، الْمُدْرِكُ الْمُهْلِكُ، الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَهَذَا الضَّرْبُ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى: «اللَّهِ» كَفَى، وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْحَالِفِ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) الْآيَةَ، وَأَنْ يُحْضَرَ الْمُصْحَفُ، وَيُوضَعَ فِي حِجْرِ الْحَالِفِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَائِمًا زِيَادَةً فِي التَّغْلِيظِ. وَالْوَجْهُ

الثَّانِي: التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ، وَالثَّالِثُ: التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ، وَهُمَا مُفَصَّلَانِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ. وَهَلِ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ مُسْتَحَبٌّ أَمْ وَاجِبٌ لَا يُعْتَدُّ بِالْحَلِفِ فِي غَيْرِهِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ قَطْعًا، وَالتَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ كَالْمَكَانِ، وَرَأَى الْإِمَامُ طَرْدَ الْخِلَافِ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي مِنَ التَّغْلِيظِ اللَّفْظِيِّ، وَمِنْ وُجُوهِ التَّغْلِيظِ الْمَذْكُورَةِ فِي اللِّعَانِ التَّغْلِيظُ بِحُضُورِ جَمْعٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: الْأَيْمَانُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِثْبَاتِ حَدٍّ أَوْ دَفْعِهِ يَكُونُ التَّغْلِيظُ فِيهَا بِالْجَمْعِ، كَمَا هُوَ فِي اللِّعَانِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ هُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ التَّغْلِيظُ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ، أَمْ يُغَلِّظُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْخَصْمُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجْرِيَا، سَوَاءٌ قُلْنَا بِالِاسْتِحْبَابِ أَوْ بِالْإِيجَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَجْرِي التَّغْلِيظُ فِي دَعْوَى الدَّمِ وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ، وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ، وَالْعِتْقِ وَالْحَدِّ، وَالْوَلَاءِ وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَكُلِّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَالُ حَتَّى يَجْرِيَ فِي الْوِلَادَةِ وَالرِّضَاعِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ قَبُولُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيهَا مُنْفَرِدَاتٌ لِقِلَّةِ خَطَرِهَا، بَلْ لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهَا غَالِبًا، وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ فِي الْوَكَالَةِ، وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَيَجْرِي التَّغْلِيظُ فِي كَثِيرِهَا وَهُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مَائَتَا دِرْهَمٍ، وَأَمَّا قَلِيلُهَا وَهُوَ مَا دُونَ ذَلِكَ فَلَا تَغْلِيظَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَرَى الْقَاضِي التَّغْلِيظَ لِجُرْأَةِ الْحَالِفِ، فَلَهُ التَّغْلِيظُ. وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ وَجْهٌ غَرِيبٌ أَنَّ الْمَالَ الْوَاجِبَ بِجِنَايَةٍ عَمْدًا وَخَطَأً يُغَلَّظُ فِيهِ وَإِنْ قَلَّ.

الثَّالِثَةُ: مَا جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ يَسْتَوِي فِيهِ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ، وَقَدْ يَقْتَضِي الْحَالُ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ مِثْلَ إِنِ ادَّعَى عَبْدٌ عَلَى سَيِّدِهِ عِتْقًا أَوْ كِتَابَةً فَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا، غُلِّظَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ نَكَلَ غُلِّظَ عَلَى الْعَبْدِ بِكُلِّ حَالٍ، وَالْوَقْفُ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا تَغْلِيظَ فِيهِ إِلَّا إِذَا بَلَغَ نِصَابًا، وَكَذَا مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي إِنْ أَثْبَتْنَاهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ نُثْبِتْهُ بِهِمَا، غُلِّظَ كَالْعِتْقِ، وَفِي وَجْهٍ مَا غُلِّظَ مِنْ طَرَفٍ غُلِّظَ مِنَ الْآخَرِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الْخُلْعَ عَلَى مَالٍ، وَأَنْكَرْتُهُ حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ بِقَوْلِهِ، وَتُصَدَّقُ الزَّوْجَةُ فِي إِنْكَارِ الْمَالِ بِيَمِينِهَا، وَيُنْظَرُ فِي التَّغْلِيظِ إِلَى قِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، فَإِنْ رُدَّتِ الْيَمِينُ، وَحَلَفَ الزَّوْجُ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْمَالُ، وَإِنِ ادَّعَتْ هِيَ الْخُلْعَ، وَأَنْكَرَ، غُلِّظَ عَلَيْهِ، [لِأَنَّ مَقْصُودَهُ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحَ، وَإِنْ نَكَلَ، فَحَلَفَتْ غُلِّظَ] ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الْفِرَاقُ. الرَّابِعَةُ: مَنْ بِهِ مَرَضٌ أَوْ زَمَانَةٌ، لَا يُغَلَّظُ عَلَيْهِ فِي الْمَكَانِ لِعُذْرِهِ، وَكَذَا الْحَائِضُ، إِذْ لَا يُمْكِنُهَا اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُخَدَّرَةُ فِي إِحْضَارِهَا مَجْلِسَ الْحُكْمِ خِلَافٌ سَبَقَ، فَإِنْ أُحْضِرَتْ، فَكَالرَّجُلِ فِي التَّغْلِيظِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَحْضُرُ، بَلْ يَبْعَثُ الْقَاضِي مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا، فَإِنِ اقْتَضَى الْحَالُ تَحْلِيفَهَا، فَهَلْ يُغَلَّظُ عَلَيْهَا بِالْمَكَانِ، وَتُكَلَّفُ حُضُورَ الْجَامِعِ أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ أَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمُتَابِعُوهُ وَالْغَزَالِيُّ. فَرْعٌ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ، وَكَانَ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَحْلِفَ يَمِينًا مُغَلَّظَةً، فَإِنْ قُلْنَا: التَّغْلِيظُ وَاجِبٌ، غُلِّظَ [وَيَحْنَثُ] ، وَإِنِ امْتَنَعَ جُعِلَ نَاكِلًا، وَإِنْ قُلْنَا: مُسْتَحَبٌّ، لَمْ يُغَلَّظْ.

عَلَيْهِ إِتْلَافُ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، فَإِنْ قَالَ فِي الْجَوَابِ: مَا أَتَلَفْتُ، يَحْلِفُ. الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْيَمِينِ مُطَابِقَةً لِلْإِنْكَارِ، فَإِنِ ادَّعَى كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُنِي شَيْءٌ، حَلَفَ كَذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ وُقُوعُهَا بَعْدَ تَحْلِيفِ الْقَاضِي، فَلَوْ حَلَفَ قَبْلَهُ، لَمْ يُعْتَدَّ [بِهِ] ، فَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ فِي تَحْلِيفِهِ: قُلْ: بِاللَّهِ، فَقَالَ: بِالرَّحْمَنِ، لَمْ يَكُنْ مُجِيبًا، وَكَانَ نُكُولًا. وَلَوْ قَالَ: قُلْ: بِاللَّهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ، أَوْ تَاللَّهِ، فَهَلْ هُوَ نُكُولٌ كَالصُّورَةِ الْأُولَى أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِالِاسْمِ الَّذِي حَلَّفَهُ بِهِ؟ وَجْهَانِ، وَيَجْرِيَانِ فِيهِمَا لَوْ غُلِّظَ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ، فَامْتَنَعَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهِ، وَفِيمَا لَوْ أَرَادَ التَّغْلِيظَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَامْتَنَعَ، فَقَالَ الْقَفَّالُ فِي امْتِنَاعِهِ مِنَ التَّغْلِيظِ اللَّفْظِيِّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ نَاكِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَدُّ اجْتِهَادِ الْقَاضِي، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ نَاكِلٌ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمَكَانِيِّ وَالزَّمَانِيِّ دُونَ اللَّفْظِيِّ. الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلِفِ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، سَوَاءٌ كَانَ يُثْبِتُهُ أَمْ يَنْفِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ حَالَ نَفْسِهِ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى إِثْبَاتِهِ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ، حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ، وَقَدْ يُخْتَصَرُ، فَيُقَالُ: الْيَمِينُ عَلَى الْبَتِّ إِلَّا إِذَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا، فَأَنْكَرَ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، فَإِنِ ادَّعَى إِبْرَاءً أَوْ قَضَاءً، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَلَوِ ادَّعَى وَارِثٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّ لِمُوَرِّثِي عَلَيْكَ كَذَا، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أَبْرَأَنِي، أَوْ قَضَيْتُهُ، حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِإِبْرَاءِ الْمُوَرِّثِ وَقَبْضِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: غَصَبَهَا مِنِّي أَبُوكَ أَوْ بَائِعُكَ، فَأَنْكَرَ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ

لِغَصْبِهِ، وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى وَارِثِ الْمَيِّتِ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ، لَمْ يَكْفِ ذِكْرُ الدَّيْنِ وَوَصْفُهُ، بَلْ يُذْكَرُ مَعَ ذَلِكَ مَوْتُ مَنْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنَ التَّرِكَةِ مَا يَفِي بِجَمِيعِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ دَيْنَهُ عَلَى مُوَرِّثِهِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَا يَحْلِفُ الْمُنْكِرُ فِيهِ عَلَى الْعِلْمِ يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِلْعِلْمِ، فَيَقُولُ: غَصَبَ مِنِّي مُوَرِّثُكَ كَذَا، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ غَصَبَهُ، ثُمَّ إِذَا تَعَرَّضَ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْوَارِثُ الدَّيْنَ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ أَنْكَرَ مَوْتَ مَنْ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ أَمْ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلَاعُهُ عَلَيْهِ، أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ تَعَهُّدِهِ حَاضِرًا أَمْ غَائِبًا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَنْكَرَ حُصُولَ التَّرِكَةِ عِنْدَهُ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ أَنْكَرَ الدَّيْنَ، وَحُصُولَ التَّرِكَةِ مَعًا وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْيِ التَّرِكَةِ وَحْدَهُ، وَأَرَادَ الْمُدَّعِي تَحْلِيفَهُ عَلَى نَفْيِ التَّرِكَةِ، وَنَفْيِ الْعِلْمِ بِالدَّيْنِ جَمِيعًا، حَلَفَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي إِثْبَاتِ الدَّيْنِ، فَلَعَلَّهُ يَظْفَرُ بِوَدِيعَةٍ لِلْمَيِّتِ أَوْ دَيْنٍ فَيَأْخُذُ مِنْهُ حَقَّهُ. وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّ عَبْدَكَ جَنَى عَلَيَّ بِمَا يُوجِبُ كَذَا، وَأَنْكَرَ فَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ أَمْ عَلَى الْبَتِّ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ مَالُهُ، وَفِعْلُهُ كَفِعْلِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّ بَهِيمَتَكَ أَتْلَفَتْ لِي زَرْعًا أَوْ غَيْرَهُ حَيْثُ يَجِبُ الضَّمَانُ، فَأَنْكَرَ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهُ لَا ذِمَّةَ لَهَا، وَالْمَالِكُ لَا يَضْمَنُ بِفِعْلِ الْبَهِيمَةِ، بَلْ بِتَقْصِيرِهِ فِي حِفْظِهَا وَهُوَ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْحَالِفِ، وَلَوْ نَصَبَ الْبَائِعُ وَكِيلًا لِيَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ، فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: إِنَّ مُوَكِّلَكَ أَذِنَ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَتَرْكِ حَقِّ الْجِنْسِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ، فَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ، أَمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؟ قَوْلَانِ، اخْتِيَارُ أَبِي زَيْدٍ الْبَتُّ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَى الْمَبِيعِ. قُلْتُ: نَفْيُ الْعِلْمِ أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ طَلَبَ الْبَائِعُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، فَادَّعَى حُدُوثَ عَجْزٍ عَنْهُ، وَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: أَنْتَ عَالِمٌ بِهِ، فَأَنْكَرَ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَبْقِي بِيَمِينِهِ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ، وَلَوْ مَاتَ عَنِ ابْنٍ فِي الظَّاهِرِ، فَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَخُوكَ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَنَا، فَأَنْكَرَ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ رَابِطَةٌ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ حَالِفٌ فِي نَفْسِهِ، هَكَذَا ذَكَرَ الصُّورَتَيْنِ ابْنُ الْقَاصِّ، وَنَازَعَهُ آخَرُونَ، وَقَالُوا: يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. قُلْتُ: نَفْيُ الْعِلْمِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ مَا حَلَفَ فِيهِ عَلَى الْبَتِّ لَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِهِ الْيَقِينُ، بَلْ يَجُوزُ الْبَتُّ بِنَاءً عَلَى ظَنٍّ مُؤَكَّدٍ يَحْصُلُ مِنْ خَطِّهِ أَوْ خَطِّ أَبِيهِ، أَوْ نُكُولِ خَصْمِهِ. فَرْعٌ لَوِ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَتِّ حَيْثُ يَكُونُ الْيَمِينُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ، فَقَدْ مَالَ عَنِ الْعَدْلِ. فَرْعٌ النَّظَرُ فِي الْيَمِينِ إِلَى نِيَّةِ الْقَاضِي الْمُسْتَحْلِفِ وَعَقِيدَتِهِ، وَأَمَّا النِّيَّةُ وَالتَّوْرِيَةُ وَالتَّأْوِيلُ عَلَى خِلَافِ قَصْدِ الْقَاضِي لَا يُغْنِي، وَلَا يَدْفَعُ إِثْمَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، وَلَوِ اسْتَثْنَى، أَوْ وَصَلَ بِاللَّفْظِ شَرْطًا بِقَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ الْحَاكِمُ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ سَمِعَهُ عَزَّرَهُ، وَأَعَادَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَصَلَهُ بِكَلَامٍ لَمْ يَفْهَمْهُ الْقَاضِي مَنَعَهُ مِنْهُ، وَأَعَادَ الْيَمِينَ

عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ: كُنْتُ أَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا وَقْتَهَ، وَأَمَّا الْعَقِيدَةُ، فَإِذَا ادَّعَى حَنَفِيٌّ عَلَى شَافِعِيٍّ شُفْعَةَ الْجَارِ، وَالْقَاضِي يَرَى إِثْبَاتَهَا، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَمَلًا بِاعْتِقَادِهِ، بَلْ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْقَاضِي، وَيَلْزَمُهُ فِي الظَّاهِرِ مَا أَلْزَمَهُ الْقَاضِي، وَهَلْ يَلْزَمُهُ فِي الْبَاطِنِ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِهِمْ: نَعَمْ، وَالثَّانِي: لَا، وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» أَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ بَاطِنًا، فَلَوْ حَلَّفَهُ الْمُجْتَهِدُ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ لَمْ يَأْثَمْ. قُلْتُ: هَذَا إِذَا حَلَّفَهُ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ، أَمَّا إِذَا حَلَفَ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً، أَوْ حَلَّفَهُ غَيْرُ الْقَاضِي مِنْ قَاهِرٍ، أَوْ خَصْمٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، فَالِاعْتِبَارُ بِنِيَّةِ الْحَالِفِ بِلَا خِلَافٍ، وَيَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ قَطْعًا، سَوَاءٌ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِطَلَاقٍ وَعَتَاقٍ وَغَيْرِهِمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنِ الْأَصْحَابِ ذَكَرَاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي الْحَالِفِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ، وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ دَعْوَى لَوْ أَقَرَّ لِمَطْلُوبِهَا أُلْزِمَ بِهِ، فَإِذَا أَنْكَرَ، حَلَفَ عَلَيْهِ، وَقُبِلَ مِنْهُ، وَيُسْتَثْنَى عَنْ هَذَا الضَّبْطِ صُوَرٌ، فَنَذْكُرُهَا مَعَ مَا يَدْخُلُ فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ، إِحْدَاهَا: يُجْزِئُ التَّحْلِيفُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْئَةِ، وَفِي الْإِيلَاءِ، وَفِي الْعِتْقِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَالْوَلَاءِ، وَالنَّسَبِ، وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا بِطَلَبِ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَقًّا لِلْمُدَّعِي، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، بِأَنْ قَذَفَهُ، فَطَلَبَ حَدَّ الْقَذْفِ، فَقَالَ الْقَاذِفُ: حَلِّفُوهُ أَنَّهُ لَمْ يَزِنِ

فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْلِفُ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ حَلَفَ أُقِيمَ عَلَى الْقَاذِفِ، وَإِنْ نَكَلَ، وَحَلَفَ الْقَاذِفُ، سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ، وَلَا يَثْبُتُ بِحَلِفِهِ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمَقْذُوفِ. وَلَوِ ادَّعَى سَرِقَةَ مَالِهِ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ لِلْمَالِ، وَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَاسْتَحَقَّ الْمَالَ، وَلَا يَقْطَعُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَثْبُتُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا، وَادَّعَى شُبْهَةً بِأَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ، وَقَالَ: ظَنَنْتُهَا تَحِلُّ لِي، وَهُوَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، حَلَفَ وَسَقَطَ بِحَلِفِهِ الْحَدُّ، وَلَزِمَ الْمَهْرُ، وَتُسْمَعُ الدَّعْوَى. وَيَجْرِي التَّحْلِيفُ فِي الْقَصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَكَذَا فِي الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ الْمُوجِبَيْنِ لِلتَّعْزِيرِ. الثَّانِيَةُ: ادَّعَى عَلَى الْقَاضِي أَنَّهُ ظَلَمَهُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ عَلَى الشَّاهِدِ أَنَّهُ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوِ الْغَلَطَ، أَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا يُسْقِطُ شَهَادَتَهُ، لَمْ يَحْلِفَا لِارْتِفَاعِ مَنْصِبِهِمَا عَنِ التَّحْلِيفِ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَفِي أَوَّلِ أَدَبِ الْقَضَاءِ، وَلَوِ ادَّعَى عَلَى الْمَعْزُولِ أَنَّهُ حَكَمَ أَيَّامَ قَضَائِهِ عَلَيْهِ ظُلْمًا، وَأَنْكَرَ، فَقَدْ سَبَقَ وَجْهَانِ فِي أَنَّهُ يَحْلِفُ أَمْ يُصَدَّقُ بِلَا يَمِينٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، هَذَا فِي دَعْوَى تَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ، وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ، كَدَعْوَى مَالٍ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ كَسَائِرِ النَّاسِ فِي الْخُصُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ يَحْكُمُ فِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي خَلِيفَتُهُ، أَوْ قَاضٍ آخَرُ. الثَّالِثَةُ: الصَّبِيُّ إِذَا ادَّعَى الْبُلُوغَ بِالِاحْتِلَامِ فِي وَقْتِ الْإِمْكَانِ، صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ، كَمَا سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ، وَمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَقَالَ: أَنَا صَبِيٌّ بَعْدُ وَهُوَ مُحْتَلِمٌ، لَمْ يَحْلِفْ، وَتُوقَفُ الْخُصُومَةُ حَتَّى يَبْلُغَ، وَإِنْ وَقَعَ فِي السَّبْيِ مَنْ أَنْبَتَ، وَقَالَ: اسْتَنْبَتُّ الشَّعْرَ بِالْعِلَاجِ، وَأَنَا غَيْرُ

بَالِغٍ، بُنِيَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْحَجْرِ أَنَّ إِنْبَاتَ الْعَانَةِ نَفْسُ الْبُلُوغِ أَمْ عَلَامَتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَلَا حَاصِلَ لِكَلَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَالْمَنْصُوصُ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَحْلِفُ وَهُوَ مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَدَّعِي الصَّبِيَّ، وَتَحْلِيفُ مَنْ يَدَّعِي الصَّبِيَّ لَا وَجْهَ لَهُ، كَمَا سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالْقَفَّالُ: هَذَا التَّحْلِيفُ احْتِيَاطٌ وَاسْتِظْهَارٌ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَصَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ، وَنَفَى الْخِلَافَ فِيهِ، وَاعْتَمَدُوا فِي تَحْلِيفِهِ الْإِنْبَاتَ، وَقَالُوا: كَيْفَ نَتْرُكُ الدَّلِيلَ الظَّاهِرَ بِزَعْمٍ مُجَرَّدٍ؟ فَإِذَا حَلَفَ أُلْحِقَ بِالصِّبْيَانِ، وَحُقِنَ دَمُهُ، وَإِنْ نَكَلَ فَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَالثَّانِي: يُخَلَّى، وَالثَّالِثُ: يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَالرَّابِعُ: يُحْبَسُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ بُلُوغُهُ، ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الِاسْتِعْجَالِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَتَلْنَاهُ. الرَّابِعَةُ: ادَّعَى رَجُلٌ دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ، أَوْ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ، وَلِلْمَيِّتِ وَصِيٌّ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ، فَأَنْكَرَ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ حُكِمَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْوَصِيِّ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لَمْ يُمْكِنْ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّحْلِيفِ أَنْ يُقِرَّ، وَالْوَصِيُّ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، فَلَا مَعْنَى لِتَحْلِيفِهِ، فَلَوْ كَانَ وَارِثًا حَلَفَ بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ، وَقَيِّمُ الْقَاضِي كَالْوَصِيِّ. فَرْعٌ عَلَى إِنْسَانٍ حَقٌّ لِرَجُلٍ، فَطَلَبَهُ بِهِ رَجُلٌ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُسْتَحِقِّ، وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً، وَأَرَادَ تَحْلِيفَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَرَفَ بِالْوَكَالَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الْحَقِّ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَسَبَقَ فِي الْوَكَالَةِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ، وَعَلَى هَذَا لَهُ تَحْلِيفُهُ، وَإِنَّ

لَهُ تَحْلِيفَهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّسْلِيمُ بِاعْتِرَافِهِ إِذَا قُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْبَيِّنَةِ. فَرْعٌ هَلْ لِلْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إِقَامَةُ بَيِّنَةٍ عَلَى وَكَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْخَصْمِ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ اشْتِرَاطُهُ، وَغَيْرِهِ مَنْعُهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّ الْإِمَامَ حَكَى عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْخَصْمُ غَائِبًا، نَصَبَ الْحَاكِمُ مُسَخَّرًا عَنْهُ، كَانَ الْمُرَادُ هُنَا إِذَا كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ، وَهُنَاكَ إِذَا كَانَ غَائِبًا، وَالْأَصَحُّ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى حُضُورِهِ، وَلَا إِلَى نَصْبِ مُسَخَّرٍ، وَلَوْ وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، اسْتَغْنَى عَنْ حُجَّةٍ يُقِيمُهَا إِنْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ هَلْ يَقْضِي بِعِلْمِهِ؟ الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فَائِدَةُ الْيَمِينِ وَحُكْمُهَا، وَهُوَ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ، وَالْمُطَالَبَةُ فِي الْحَالِ، لَا سُقُوطُ الْحَقِّ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بَعْدَ حَلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، سُمِعَتْ، وَقُضِيَ بِهَا، وَكَذَا لَوْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَنَكَلَ، ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ وَقْتَ التَّحْلِيفِ لِلْبَيِّنَةِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ حِينَئِذٍ: لَا بَيِّنَةَ لِي حَاضِرَةٌ وَلَا غَائِبَةٌ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي الطَّرَفِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ أَدَبِ الْقَضَاءِ مَضْمُومَةً إِلَى مَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا بَيِّنَةَ لِي، وَفِيهِمَا خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ السَّمَاعُ أَيْضًا، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي حَاضِرَةٌ، ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً سُمِعَتْ، فَلَعَلَّهَا حَضَرَتْ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ وَلَا أُقِيمُهَا، بَلْ أَرَدْتُ يَمِينَهُ، أَجَابَهُ الْقَاضِي، وَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُ، بَلْ يَقُولُ: أَحْضِرِ الْبَيِّنَةَ.

فَرْعٌ أَقَامَ الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ شُهُودًا، ثُمَّ قَالَ: كَذَبَ شُهُودِي، أَوْ شَهِدُوا مُبْطِلِينَ، فَلَا شَكَّ فِي سُقُوطِ بَيِّنَتِهِ، وَامْتِنَاعِ الْحُكْمِ، وَفِي بُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ، كَمَا لَوْ كَذَّبَ نَفْسَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةً أُخْرَى، وَأَصَحُّهَمَا: لَا، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ وَالشُّهُودِ مُبْطِلِينَ لِشَهَادَتِهِمْ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) وَبُنِيَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَا لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شُهُودًا، فَزَعَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَقَرَّ بِأَنَّ شُهُودَهُ كَذَبَةٌ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدًا، وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ هَلْ يُمْكِنُ، وَيَحْكُمُ بِشَاهِدِهِ وَيَمِينِهِ؟ إِنْ قُلْنَا: هَذَا الْإِقْرَارُ لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الدَّعْوَى، فَلَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِينَئِذٍ الطَّعْنُ فِي الشُّهُودِ، وَإِخْرَاجُ شَهَادَتِهِمْ عَنْ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا، وَجَرْحُ الشُّهُودِ، وَالطَّعْنُ فِيهِمْ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِمَالٍ، وَإِنْ قُلْنَا: يُبْطِلُهَا، مُكِّنَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِينَئِذٍ إِسْقَاطُ الدَّعْوَى بِالْمَالِ، فَهُوَ كَادِّعَاءِ الْإِبْرَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. فُرُوعٌ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ: أَقَامَ شَاهِدَيْنِ فِي حَادِثَةٍ، وَكَانَا اسْتَبَاعَا الدَّارَ مِنْهُ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مِلْكُهُ، وَأَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ بِأَنَّ شَاهِدَيِ الْمُدَّعِي قَالَا: لَا شَهَادَةَ لَنَا فِي ذَلِكَ سَأَلَهُمَا الْحَاكِمُ: مَتَى قَالَ ذَلِكَ شَاهِدَا الْمُدَّعِي؟ فَإِنْ قَالَا: قَالَاهُ أَمْسِ، أَوْ مِنْ شَهْرٍ، لَمْ تَنْدَفِعْ شَهَادَتُهُمَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ لَا يَكُونَانِ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ يَصِيرَانِ. وَإِنْ قَالَا: قَالَا حِينَ تَصَدَّيَا لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ،

فصل

انْدَفَعَتْ شَهَادَتُهُمَا. وَلَوْ أَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِشَاهِدَيْنِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَقَرَّ بِأَنَّ شَاهِدَيْهِ شَرِبَا الْخَمْرَ وَقْتَ كَذَا، فَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ رَدَّ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ قَصَرَتْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُمَا شَرِبَا الْخَمْرَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ وَقْتٍ، سُئِلَ الْمُدَّعِي عَنْ وَقْتِهِ، وَحُكِمَ بِمَا يَقْتَضِيهِ تَعْيِينُهُ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً، ثُمَّ قَالَ لِلْقَاضِي: لَا تَحْكُمُ بِشَيْءٍ حَتَّى تُحَلِّفَهُ، بَطَلَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُعْتَرِفِ بِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا. قُلْتُ: هَذَا مُشْكَلٌ، فَقَدْ يَقْصِدُ تَحْلِيفَهُ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، وَيُظْهِرَ إِقْدَامَهُ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي قَدْحًا فِي الْبَيِّنَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَبْطُلَ الْبَيِّنَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَقَالَ لِلْحَاكِمِ: قَدْ حَلَّفَنِي مَرَّةً عَلَى هَذَا بِطَلَبِهِ، فَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيفِي، فَإِنْ حَفِظَ الْقَاضِي مَا قَالَهُ لَمْ يُحَلِّفْهُ، وَمَنَعَ الْمُدَّعِيَ مِمَّا طَلَبَ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهُ حَلَّفَهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، لِمَا سَبَقَ أَنَّ الْقَاضِيَ مَتَى تَذَكَّرَ حُكْمَهُ أَمْضَاهُ، وَإِلَّا فَلَا يَعْتَمِدُ بَيِّنَةً، وَعَنِ ابْنِ الْقَاصِّ جَوَازُ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فِيهِ، حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ وَمُقْتَضَاهُ الطَّرْدُ فِي كُلِّ بَابٍ، وَإِنْ قَالَ: حَلَّفَنِي عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ وَأَطْلَقَ، وَأَرَادَ تَحْلِيفَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَوَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ بِالْمَنْعِ، إِذْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ حَلَّفَهُ عَلَى أَنَّهُ مَا حَلَّفَهُ، وَهَكَذَا فَيَدُورُ الْأَمْرُ، وَلَا يَنْفَصِلُ، وَأَصَحُّهُمَا - وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ - يُمَكَّنُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتِمَلٌ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وَلَا يُسْمَعُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْمُدَّعِي، لِئَلَّا

يَتَسَلْسَلَ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَقَامَهَا وَتَخَلَّصَ عَنِ الْخُصُومَةِ، وَإِنِ اسْتَمْهَلَ لِيُقِيمَ، فَقِيَاسُ الْبَيِّنَاتِ الدَّوَافِعِ أَنْ يُمْهَلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ لَا يُمْهَلُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، حَلَفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مَا حَلَّفَهُ، ثُمَّ يَطْلُبُ الْمَالَ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَقَطَتِ الدَّعْوَى. فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ يَمِينَ الْأَصْلِ لَا يَمِينَ التَّحْلِيفِ الْمَرْدُودَةَ عَلَيْهِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهَا الْآنَ فِي دَعْوَى أُخْرَى. وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي فِي جَوَابِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: حَلَّفَنِي مَرَّةً عَلَى أَنِّي مَا حَلَّفْتُهُ، وَأَرَادَ تَحْلِيفَهُ، لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَلَوِ ادَّعَى مَالًا عَلَى رَجُلٍ، فَأَنْكَرَ وَحَلَفَ، ثُمَّ قَالَ الْمُدَّعِي بَعْدَ أَيَّامٍ: حَلَفْتَ يَوْمَئِذٍ؛ لِأَنَّكَ كُنْتَ مُعْسِرًا لَا يَلْزَمُكَ تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيَّ وَقَدْ أَيْسَرْتَ الْآنَ فَهَلْ يُسْمَعُ لِإِمْكَانِهِ، أَمْ لَا لِئَلَّا يَتَسَلْسَلَ؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُسْمَعُ إِلَّا إِذَا تَكَرَّرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ إِنَّمَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي يَمِينَهُ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ، وَلَمْ يُقْلِعْ عَنِ الْمُخَاصَمَةِ، لَمْ يُحَلِّفْهُ الْقَاضِي، وَلَوْ حَلَفَ لَمْ يُعْتَدَّ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: لَا يَتَوَقَّفُ التَّحْلِيفُ عَلَى طَلَبِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ تَحْلِيفِهِ بِالدَّعْوَى السَّابِقَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنَ الْيَمِينِ، فَإِنْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَنِ الْيَمِينِ، سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْيَمِينِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَهُ اسْتِئْنَافُ الدَّعْوَى وَتَحْلِيفُهُ. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي النُّكُولِ إِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَاسْتُحْلِفَ، فَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، بَلْ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمُدَّعِي، تَحَوَّلَ الْيَمِينُ إِلَيْهِ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، عَرَّفَ الْقَاضِي، وَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ النُّكُولُ بِأَنْ

يَعْرِضَ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعَ، وَفَسَّرَ الْعَرْضَ بِأَنْ يَقُولَ: قُلْ وَاللَّهِ، وَالِامْتِنَاعُ بِأَنْ يَقُولَ: لَا أَحْلِفُ، أَوْ أَنَا نَاكِلٌ، قَالَ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ: قُلْ: وَاللَّهِ لَيْسَ أَمْرًا جَازِمًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بَيَانُ وَقْتِ الْيَمِينِ الْمُعْتَمَدِ بِهَا عَلَى الْمُدَّعِي، وَلَوْ قَالَ: أَتَحْلِفُ بِاللَّهِ، وَقَالَ: لَا، فَلَيْسَ بِنُكُولٍ، وَلَوْ بَدَرَ حِينَ سَمِعَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَحَلَفَ، لَمْ يُعْتَدَّ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِنْجَازٌ لَا اسْتِحْلَافٌ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: احْلِفْ، فَقَالَ: لَا أَحْلِفُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَيْسَ بِنُكُولٍ، وَقَالَ الْإِمَامُ: نُكُولٌ وَهُوَ أَوْضَحُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: قُلْ: بِاللَّهِ، وَقَوْلِهِ: احْلِفْ بِاللَّهِ، وَلَوِ اسْتُحْلِفَ فَلَمْ يَحْلِفْ، وَلَا تَلَفَّظَ بِأَنَّهُ نَاكِلٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ، فَسُكُوتُهُ نُكُولٌ، كَمَا أَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْجَوَابِ فِي الِابْتِدَاءِ يُجْعَلُ كَالْإِنْكَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ إِنْ صَرَّحَ بِالنُّكُولِ، لَمْ يُشْتَرَطْ حُكْمُ الْقَاضِي بِأَنَّهُ نَاكِلٌ، وَإِنْ سَكَتَ حَكَمَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ نَاكِلٌ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ رَدَّ الْيَمِينِ، وَقَوْلُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي: احْلِفْ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: حَكَمْتُ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَاكِلٌ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِأَنَّهُ نَاكِلٌ بِالسُّكُوتِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ كَوْنُ السُّكُوتِ لِدَهْشَةٍ وَغَبَاوَةٍ وَنَحْوِهِمَا، وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالِاسْتِحْبَابُ فِيمَا إِذَا سَكَتَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِيمَا إِذَا صَرَّحَ بِالنُّكُولِ، وَلَوْ تَفَرَّسَ فِيهِ سَلَامَةَ جَانِبٍ، شَرَحَ لَهُ حُكْمَ النُّكُولِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَحْ، وَحَكَمَ بِأَنَّهُ نَاكِلٌ، وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَمْ أَعْرِفِ النُّكُولَ، فَفِي نُفُوذِ الْحُكْمِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ أَصَحُّهُمَا النُّفُوذُ. وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَسْأَلَ وَيَعْرِفَ قَبْلَ أَنْ يَنْكِلَ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ أَنْ يَعُودَ فَيَحْلِفَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ نَاكِلٌ، أَوْ قَالَ لِلْمُدَّعِي: احْلِفْ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحَلِفُ، وَإِنْ أَقْبَلْ عَلَيْهِ لِيُحَلِّفَهُ، وَلَمْ يُقْبِلْ بَعْدَ مَا حَلَفَ، فَهَلْ هُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: احْلِفْ؟ وَجْهَانِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَهُ

فصل

الْحَلِفُ حَتَّى لَوْ هَرَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ نَاكِلٌ، وَقَبْلَ أَنْ يَعْرِضَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ، وَكَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا عَادَ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمُقْتَضَاهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ التَّصْرِيحِ بِالنُّكُولِ، وَبَيْنَ السُّكُوتِ حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الْيَمِينِ فِي الْحَالَيْنِ إِلَّا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ، أَوْ بَعْدَ عَرْضِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَفِي التَّصْرِيحِ احْتِمَالٌ، وَحَيْثُ مَنَعْنَاهُ الْعَوْدَ إِلَى الْحَلِفِ، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ رَضِيَ، فَلَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعَدُوهُمَا، فَلَوْ رَضِيَ بِأَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَلَمْ يَحْلِفْ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَعُودَ إِلَى يَمِينِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِرِضَاهُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَرْعٌ نَقَلَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي: أَتَحْلِفُ أَنْتَ؟ كَقَوْلِهِ: احْلِفْ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْحَلِفِ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ: وَعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ. فَصْلٌ الْمُدَّعِي إِذَا رُدِّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ قَدْ يَحْلِفُ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ، فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ الْمُدَّعَى، وَهَلْ يَمِينُهُ بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَالْبَيِّنَةِ، أَمْ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا الثَّانِي، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالْأَدَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءِ بَعْدَ مَا حَلَفَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ قُلْنَا: يَمِينُهُ كَالْبَيِّنَةِ، سُمِعَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، فَلَا، لِكَوْنِهِ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ بِالْإِقْرَارِ،

وَهَلْ يَجِبُ الْحَقُّ بِفَرَاغِ الْمُدَّعِي مِنَ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِالْحَقِّ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْهَرَوِيُّ، الْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ، أَمَّا إِذَا امْتَنَعَ الْمُدَّعِي مِنَ الْحَلِفِ، فَيَسْأَلُهُ الْقَاضِي عَنِ امْتِنَاعِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّلْ بِشَيْءٍ أَوْ قَالَ: لَا أُرِيدُ الْحَلِفَ، فَهَذَا نُكُولٌ يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ الْيَمِينِ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْخَصْمِ وَمُلَازَمَتُهُ، وَهَلْ يَتَمَكَّنُ مِنِ اسْتِئْنَافِ الدَّعْوَى، وَتَحْلِيفِهِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي، أَمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَنْفَعُهُ بَعْدَهُ إِلَّا الْبَيِّنَةُ؟ وَجْهَانِ، الَّذِي ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالْهَرَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ الْأَوَّلُ، وَبِالثَّانِي قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، وَهُوَ أَحْسَنُ وَأَصَحُّ، لِئَلَّا تَتَكَرَّرَ دَعْوَاهُ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنْ ذَكَرَ الْمُدَّعِي لِامْتِنَاعِهِ سَبَبًا، فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ آتِيَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ أَسْأَلَ الْفُقَهَاءَ، أَوْ أَنْظُرَ فِي الْحِسَابِ، تُرِكَ وَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ مِنَ الْيَمِينِ وَهَلْ تُقَدَّرُ مُدَّةُ الْإِمْهَالِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِئَلَّا تَطُولَ مُدَافَعَتُهُ، وَالثَّانِي: لَا تَقْدِيرَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ، فَلَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَى أَنْ يَشَاءَ كَالْبَيِّنَةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إِذَا امْتَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْيَمِينِ أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: قِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ فِي امْتِنَاعِ الْمُدَّعِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ أَيْضًا، وَامْتَنَعَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ مِنْ هَذَا الْإِلْحَاقِ فَارِقِينَ بِأَنَّ امْتِنَاعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَثْبَتَ لِلْمُدَّعِي حَقَّ الْحَلِفِ، وَالْحُكْمَ بِيَمِينِهِ، فَلَا يُؤَخِّرُ حَقَّهُ بِالسُّؤَالِ، وَامْتِنَاعُ الْمُدَّعِي لَا يُثْبِتُ حَقًّا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَضُرُّ السُّؤَالُ. وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَ اسْتُحْلِفَ: أَمْهِلُونِي لِأَنْظُرَ فِي الْحِسَابِ، أَوْ أَسْأَلَ الْفُقَهَاءَ، فَهَلْ يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَمْ لَا يُمْهَلُ شَيْئًا إِلَّا بِرِضَا الْمُدَّعِي؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِقْرَارِ، أَوِ الْيَمِينِ بِخِلَافِ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ فِي طَلَبِ حَقِّهِ وَتَأْخِيرِهِ، وَلَوِ اسْتَمْهَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

فصل

فِي ابْتِدَاءِ الْجَوَابِ لِيَنْظُرَ فِي الْحِسَابِ، وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى آخَرِ الْمَجْلِسِ إِنْ شَاءَ. وَلَوْ عَلَّلَ الْمُدَّعِي امْتِنَاعَهُ بِعُذْرٍ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ عَادَ بَعْدَ مُدَّةٍ لِيَحْلِفَ، مُكِّنَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْقَاضِي نُكُولَ خَصْمِهِ، أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَا لَوْ أَثْبَتَ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ نُكُولَ خَصْمِهِ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ، وَكَذَا لَوْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جَوَابِ وَكِيلِ الْمُدَّعِي، ثُمَّ حَضَرَ الْمُوَكَّلُ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ دَعْوَى، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا لِيَحْلِفَ مَعَهُ، فَلَمْ يَحْلِفْ، فَهُوَ كَمَا لَوِ ارْتَدَّتِ الْيَمِينُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَحْلِفْ، فَإِنْ عَلَّلَ امْتِنَاعَهُ بِعُذْرٍ، عَادَ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّهُ عَلَى خِيَرَتِهِ أَبَدًا، أَمْ لَا يُزَادُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؟ وَإِنْ لَمْ يُعَلِّلْ بِشَيْءٍ، أَوْ صَرَّحَ بِالنُّكُولِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالَيُّ وَالْبَغَوِيُّ أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنَ الْحَلِفِ، وَلَيْسَ لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ، وَاسْتَمَرَّ الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ هُنَاكَ، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْحَلِفِ مَعَ شَاهِدِهِ، وَاسْتُحْلِفَ الْخَصْمُ، انْقَلَبَتِ الْيَمِينُ مِنْ جَانِبِهِ إِلَى جَانِبِ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعُودَ وَيَحْلِفَ إِلَّا إِذَا اسْتَأْنَفَ الدَّعْوَى فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَأَقَامَ الشَّاهِدَ، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَنْفَعُهُ إِلَّا بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ. فَصْلٌ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلَا يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُقَرَّرُ فِي الْمَذْهَبِ، لَكِنْ قَدْ يَتَعَذَّرُ رَدُّ الْيَمِينِ، وَحِينَئِذٍ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يَقُولُ بِالْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ، وَبَيَانُهُ بِصُوَرٍ، إِحْدَاهَا طُولِبَ صَاحِبُ الْمَالِ بِالزَّكَاةِ، فَقَالَ: بَادَلْتُ بِالنِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَوْ دَفَعْتُ الزَّكَاةَ إِلَى سَاعٍ آخَرَ، أَوْ غَلِطَ الْخَارِصُ فِي الْخَرْصِ، أَوْ أَصَابَ الثَّمَرَ جَائِحَةٌ، وَاتَّهَمَهُ السَّاعِي، فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ إِيجَابًا أَوِ اسْتِحْبَابًا عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يُطَالَبْ

بِشَيْءٍ إِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِحْبَابِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْإِيجَابِ، فَإِنِ انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ، وَقُلْنَا بِامْتِنَاعِ النَّقْلِ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَيَتَعَذَّرُ الرَّدُّ عَلَى السَّاعِي وَالسُّلْطَانِ، وَفِيمَا يَفْعَلُ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ إِذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، وَالثَّانِي: يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ، أَوْ يَحْلِفُ فَيُتْرَكُ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى صُورَةِ الْمُدَّعِي بِأَنْ قَالَ: أَدَّيْتُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، أَوْ إِلَى سَاعٍ آخَرَ، أُخِذْتَ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى صُورَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ: مَا تَمَّ حَوْلِي أَوِ الَّذِي فِي يَدِي لِفُلَانٍ الْمَكَاتَبِ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ. وَالرَّابِعُ - وَهُوَ الْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ - يُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَكَيْفَ سَبِيلُهُ؟ وَجْهَانِ قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: هُوَ حُكْمٌ بِالنُّكُولِ، وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَسَبَبُهُ الضَّرُورَةُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ حُكْمًا بِالنُّكُولِ، لَكِنْ مُقْتَضَى مِلْكِ النِّصَابِ وَمُقْتَضَى الْحَوْلِ الْوُجُوبُ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ دَافِعٌ، أَخَذْنَا الزَّكَاةَ. الثَّانِيَةُ: إِذَا مَاتَ ذِمِّيٌّ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ، فَهَلْ عَلَيْهِ قِسْطُ مَا مَضَى، أَمْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؟ قَوْلَانِ سَبَقَا، فَلَوْ غَابَ ذِمِّيٌّ، ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ، فَلَيْسَ عَلَيَّ جِزْيَةٌ، أَوْ لَيْسَ تَمَامُهَا، وَقَالَ عَامِلُ الْجِزْيَةِ: بَلْ أَسْلَمْتُ بَعْدَهَا، فَعَلَيْكَ تَمَامُ الْجِزْيَةِ، حَلَفَ الَّذِي أَسْلَمَ اسْتِحْبَابًا فِي وَجْهٍ، وَإِيجَابًا فِي وَجْهٍ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْإِيجَابِ فَنَكَلَ، فَهَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ، أَمْ لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ، أَمْ يُحْبَسُ لِيُقِرَّ، فَيُؤْخَذَ مِنْهُ، أَوْ يَحْلِفُ فَيُتْرَكُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَقَيَّدَ ابْنُ الْقَاصِّ بِمَا إِذَا غَابَ، ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا، وَصَادَفْنَاهُ مُسْلِمًا بَعْدَ السَّنَةِ، وَادَّعَى أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ تَمَامِهَا، وَكَتَمَ إِسْلَامَهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكْتُمْهُ.

الثَّالِثَةُ: وَلَدُ الْمُرْتَزِقَةِ إِذَا ادَّعَى الْبُلُوغَ بِالِاحْتِلَامِ، وَطَلَبَ إِثْبَاتَ اسْمِهِ فِي الدِّيوَانِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُصَدِّقُهُ بِلَا يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَكَيْفَ نُحَلِّفُهُ وَهُوَ صَبِيٌّ؟ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَجَبَ تَصْدِيقُهُ، وَأَصَحُّهُمَا: يَحْلِفُ عِنْدَ التُّهْمَةِ، فَإِنْ نَكَلَ، لَمْ يَثْبُتِ اسْمُهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ بُلُوغُهُ، وَيَقْرُبَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ مِنَ الْمُرَاهِقِينَ إِذَا ادَّعَى الِاحْتِلَامَ، وَطَلَبَ سَهْمَ الْمُقَاتِلَةِ، أُعْطِيَ إِنْ حَلَفَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يُعْطَى، ثُمَّ قِيلَ: هُوَ إِعْطَاءٌ بِلَا يَمِينٍ؛ لِأَنَّ احْتِلَامَهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْهُ، فَصُدِّقَ فِيهِ، كَمَا تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ فِي الْحَيْضِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ شُهُودَ الْوَقْعَةِ تَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُمُ السَّهْمَ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُعْطَى، قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: وَهُوَ قَضَاءٌ بِالنُّكُولِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا لَمْ يُعْطَ؛ لِأَنَّ حُجَّتَهُ فِي الْإِعْطَاءِ الْيَمِينُ وَلَمْ تُوجَدْ. الرَّابِعَةُ: مَاتَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَادَّعَى الْقَاضِي، أَوْ مَنْصُوبُهُ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ وَجَدَهُ فِي تَذْكِرَتِهِ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَنَكَلَ، فَهَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْمَالُ، أَمْ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ، أَوْ يَحْلِفَ، أَمْ يُتْرَكُ لَكِنْ يَأْثَمُ إِنْ كَانَ مُعَانِدًا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَيَجْرِي فِيمَا لَوِ ادَّعَى وَلِيُّ صَبِيٍّ مَيِّتٍ عَلَى وَارِثِهِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَأَنْكَرَ الْوَارِثُ، وَنَكَلَ. وَلَوِ ادَّعَى وَلِيُّ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ، فَفِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْوَلِيِّ أَوْجُهٌ، أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَوْفِي، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْحَقِّ لِغَيْرِ الْحَالِفِ بِعِيدٌ. وَالثَّالِثُ: إِنِ ادَّعَى ثُبُوتَهُ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ رُدَّتْ، وَإِلَّا فَلَا، وَأُجْرِيَ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا هَلْ يَحْلِفُ مَعَهُ، وَفِيمَا لَوِ ادُّعِيَ عَلَى الْوَلِيِّ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ

الصَّبِيِّ هَلْ يَحْلِفُ الْوَلِيُّ إِذَا أَنْكَرَ. وَالْوَصِيُّ وَالْقَيِّمُ فِي ذَلِكَ كَالْوَلِيِّ، وَيَجْرِي فِي قَيِّمِ الْمَسْجِدِ وَالْوَقْفِ إِذَا ادَّعَى لِلْمَسْجِدِ أَوْ لِلْوَقْفِ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَنَكَلَ. وَتَحْلِيفُ الْوَلِيِّ وَالصَّبِيِّ سَبَقَ لَهُمَا ذِكْرٌ فِي آخِرِ كِتَابِ الصَّدَاقِ، ثُمَّ مَيْلُ الْأَكْثَرِينَ إِلَى تَرْجِيحِ الْمَنْعِ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا بَأْسَ بِوَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَقَدْ رَجَّحَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ، وَبِهِ أَجَابَ السَّرَخْسِيُّ فِي «الْأَمَالِي» ، فَإِنْ مَنَعْنَا رَدَّ الْيَمِينِ إِلَى الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ، انْتَظَرْنَا بُلُوغَ الصَّبِيِّ، وَإِفَاقَةَ الْمَجْنُونِ، وَكَتَبَ الْقَاضِي الْمَحْضَرَ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَتَصِيرُ الْيَمِينُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْبُلُوغِ، وَالْإِفَاقَةِ، وَيَعُودُ فِي قَيِّمِ الْمَسْجِدِ وَالْوَقْفِ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّهُ يُقْضَى بِالنُّكُولِ، أَمْ يُحْبَسُ لِيَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَالْأَصَحُّ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ أَنْ لَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ، بَلْ يُحْبَسُ لِيَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنَ الصُّوَرِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ أَصْلٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلَمْ يَظْهَرْ دَافِعٌ. وَلَوِ ادَّعَى قَيِّمُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، حَلَفَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ هَذَا الْمَالِ، وَلَكِنْ لَا يَقُولُ إِلَيَّ، وَقَيِّمُهُ يَقُولُ فِي الدَّعْوَى: يَلْزَمُكَ تَسْلِيمُهُ إِلَيَّ. الْخَامِسَةُ: لِلْقَاذِفِ أَنْ يُحَلِّفَ الْمَقْذُوفَ أَنَّهُ لَمْ يَزْنِ كَمَا سَبَقَ، فَإِنْ نَكَلَ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْقَاذِفِ، فَإِنْ حَلَفَ انْدَفَعَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَقِيلَ: يَسْقُطُ بِنُكُولِهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا يُرَدُّ الْيَمِينُ، حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْبَيِّنَةِ أَمَّا صِفَةُ الشُّهُودِ، فَسَبَقَ بَيَانُهَا فِي الشَّهَادَاتِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ حُكْمِ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَتَعَارُضُهُمَا قَدْ يَقَعُ فِي الْأَمْلَاكِ، وَقَدْ يَقَعُ فِي غَيْرِهَا، كَالْعُقُودِ، وَالْمَوْتِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَيَشْتَمِلُ الْبَابُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ:

الْأَوَّلُ فِي الْأَمْلَاكِ، فَإِذَا تَعَارَضَتَا فِيهِ، فَإِمَّا أَنْ يَفْقِدَ أَسْبَابَ الرُّجْحَانِ، وَإِمَّا لَا، الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ يَفْقِدَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَإِمَّا فِي أَيْدِيهِمَا، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا إِذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجْحَانِ. الْحَالَةُ الْأُولَى: إِذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا إِنِ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ، وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَنَّهُ لَوِ اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِبَيِّنَةٍ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، قُضِيَ لَهُ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً، تَعَارَضَتَا، وَفِيهِمَا قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: يَسْقُطَانِ، فَكَأَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ فَيُصَارُ إِلَى التَّحْلِيفِ، وَالثَّانِي: يُسْتَعْمَلَانِ، فَيَنْتَزِعُ الْعَيْنَ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ. ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: تُقَسَّمُ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ بَيْنَهُمَا، وَالثَّانِي: تُوقَفُ إِلَى تَبَيُّنِ الْأَمْرِ أَوْ يَصْطَلِحَا، وَالثَّالِثُ: يُقْرَعُ، فَيَأْخُذُهَا مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَهَلْ يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى يَمِينٍ؟ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا لَا، وَالْقُرْعَةُ مُرَجِّحَةٌ لِبَيِّنَتِهِ، وَالثَّانِي نَعَمْ، وَالْقُرْعَةُ تَجْعَلُ أَحَدَهُمَا أَحَقَّ بِالْيَمِينِ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ أَنَّ شُهُودَهُ شَهِدُوا بِالْحَقِّ، ثُمَّ يُقْضَى لَهُ، ثُمَّ قِيلَ الْقَوْلَانِ فِي الْأَصْلِ فِيمَا إِذَا لَمْ تَتَكَاذَبِ الْبَيِّنَتَانِ صَرِيحًا، فَإِنْ تَكَاذَبَتَا سَقَطَتَا قَطْعًا، وَالْأَشْهَرُ طَرْدُهُمَا فِي الْحَالَيْنِ، وَصَرِيحُ التَّكَاذُبِ أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بِتَأْوِيلٍ، بِأَنْ شَهِدَتْ إِحْدَاهُمَا بِقَتْلِهِ فِي وَقْتٍ، وَالْأُخْرَى بِجِنَايَةٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِتَأْوِيلٍ، فَلَيْسَ تَكَاذُبًا بِأَنْ شَهِدَتْ هَذِهِ أَنَّهُ مِلْكُ زَيْدٍ، وَهَذِهِ أَنَّهُ مِلْكُ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَلِمَتْ سَبَبًا، كَشِرَاءٍ وَوَصِيَّةٍ، وَاسْتَصْحَبَ حُكْمُهُ، أَوْ شَهِدَتْ هَذِهِ بِأَنَّهُ أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ، وَهَذِهِ أَنَّهُ

أَوْصَى بِهِ لِعَمْرٍو، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِيصَاءَ مَرَّتَيْنِ، وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ، فَإِنْ أَمْكَنَ قُسِّمَ قَطْعًا، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَقْطَتَا قَطْعًا وَإِلَّا اسْتُعْمِلَتَا قَطْعًا، كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ. وَقِيلَ: يَبْقَى قَوْلُ التَّوْقِيفِ، وَقِيلَ: لَا تَجْتَمِعُ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بَلْ مَوْضِعُ الْقِسْمَةِ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ، وَالْقُرْعَةُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ، فَلَوْ تَنَازَعَا فِي زَوْجِيَّةِ امْرَأَةٍ، أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً، وَتَعَارَضَتَا، فَقَوْلُ السُّقُوطِ بِحَالِهِ، وَلَا مَجَالَ لِلْقِسْمَةِ، وَلَا لِلْقُرْعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجِيءُ الْوَقْفُ عَلَى الصَّحِيحِ لَوْ أَقَرَّ صَاحِبُ الْيَدِ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَمَا أَقَامَا الْبَيِّنَتَيْنِ، إِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ، قَبْلَ إِقْرَارِهِ، وَحُكِمَ بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ الْمُقِرُّ لَهُ كَصَاحِبِ يَدٍ، فَتُرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ يَدَهُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ مُسْتَحَقَّةُ الْإِزَالَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ قَبْلَ تَمَامِ الْبَيِّنَتَيْنِ قَبْلَ إِقْرَارِهِ قَطْعًا، وَصَارَ الْمُقِرُّ لَهُ صَاحِبَ يَدٍ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ فِي يَدِهِمَا وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ، فَإِنْ أَقَامَتَا بَيِّنَتَيْنِ، فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا - وَبِهِ قَالَ الْفُورَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ - يَجِيءُ الْقَوْلَانِ فِي السُّقُوطِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ أَسْقَطْنَا بَقِيَ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا كَمَا كَانَ، وَإِنِ اسْتَعْمَلْنَا فَعَلَى قَوْلِ الْقِسْمَةِ يُجْعَلُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَجِيءُ الْوَقْفُ، وَفِي الْقُرْعَةِ وَجْهَانِ، وَالثَّانِي - وَبِهِ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ - يُجْعَلُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ تَرَجَّحَتْ فِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَالْحَاصِلُ لِلْفَتْوَى مِنَ الطَّرِيقَيْنِ بَقَاءُ الْمَالِ فِي يَدِهِمَا كَمَا كَانَ، وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لَهُ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ، حَكَمَ الْقَاضِي لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ الْمَالُ فِي يَدِهِمَا أَيْضًا، كَمَا كَانَ، لَكِنْ لَا لِجِهَةِ السُّقُوطِ، وَلَا بِالتَّرْجِيحِ بِالْيَدِ، ثُمَّ قَالَ الْأَئِمَّةُ:

مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوَّلًا، وَتَعَرَّضَ شُهُودُهُ لِلْكُلِّ، لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ يَدٍ فِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَقُلْنَا: بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ لَا تُسْمَعُ ابْتِدَاءً كَمَا سَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ هُنَا غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْبَيِّنَةِ لِلنِّصْفِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، ثُمَّ إِذَا أَقَامَ الثَّانِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكُلِّ سُمِعَتْ، وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ فِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ، فَيَحْتَاجُ الْأَوَّلُ إِلَى إِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ لِلنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَقَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي الْإِعَادَةِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ دُونَ الْآخَرِ، قُضِيَ لَهُ بِالْكُلِّ، سَوَاءٌ شَهِدَ شُهُودُهُ بِالْكُلِّ، أَمْ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُدَّعٍ فِي نِصْفٍ، وَمُدَّعًى عَلَيْهِ فِي نِصْفٍ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْيِ مَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ، وَلَا يَتَعَرَّضُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي يَمِينِهِ، لِإِثْبَاتِ مَا فِي يَدِهِ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ لِصَاحِبِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَمِنْهُ خِلَافٌ سَبَقَ فِي بَابِ التَّحَالُفِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا تُرِكَ الْمَالُ فِي يَدِهِمَا كَمَا كَانَ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، قَضَى لِلْحَالِفِ بِالْكُلِّ، ثُمَّ إِنْ حَلَفَ الَّذِي بَدَأَ الْقَاضِي بِتَحْلِيفِهِ، وَنَكَلَ الْآخَرُ بَعْدَهُ، حَلَفَ الْأَوَّلُ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ. وَإِنْ نَكَلَ الْأَوَّلُ، وَرَغِبَ الثَّانِي فِي الْيَمِينِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ يَمِينُ النَّفْيِ لِلنِّصْفِ الَّذِي ادَّعَاهُ صَاحِبُهُ، وَيَمِينُ الْإِثْبَاتِ لِلنِّصْفِ الَّذِي ادَّعَاهُ هُوَ، فَهَلْ يَكْفِيهِ الْآنَ يَمِينٌ وَاحِدٌ يَجْمَعُ فِيهَا النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ يَمِينٍ لِلنَّفْيِ، وَأُخْرَى لِلْإِثْبَاتِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، فَيَحْلِفُ أَنَّ الْجَمِيعَ لَهُ، وَلَا حَقَّ لِصَاحِبِهِ فِيهِ، أَوْ يَقُولُ: لَا حَقَّ لَهُ فِي النِّصْفِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِي.

فَرْعٌ ادَّعَى نِصْفَ دَارٍ، وَادَّعَى آخَرُ كُلَّهَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً، وَالدَّارُ فِي يَدِ ثَالِثٍ، تَعَارَضَتَا فِي النِّصْفِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ، سَقَطَتَا فِي النِّصْفِ الَّذِي فِيهِ التَّعَارُضُ، وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: فِيهِ قَوْلَا تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ بَعَّضْنَاهَا سُلِّمَ ذَلِكَ النِّصْفُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ، وَإِلَّا بَطَلَتْ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ أَيْضًا، وَصَارَ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَالثَّانِي - وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ -: يُسَلَّمُ إِلَيْهِ النِّصْفُ قَطْعًا، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ، سُلِّمَ النِّصْفُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ، وَيُقَسَّمُ النِّصْفُ الْآخَرُ إِنْ قُلْنَا بِالْقِسْمَةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقُرْعَةِ أَوْ بِالْوَقْفِ، أُقْرِعَ فِي النِّصْفِ أَوْ وُقِفَ، وَلَوْ تَدَاعَيَا كَذَلِكَ، وَالدَّارُ فِي يَدِهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي النِّصْفِ فِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ، فَإِنْ أَقَامَ مُدَّعِي الْكُلِّ بَيِّنَةً، قُضِيَ لَهُ الْكُلُّ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً بِمَا يَدَّعِيهِ، بَقِيَتِ الدَّارُ فِي يَدِهِمَا كَمَا كَانَتْ. وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْكُلَّ، وَالْآخَرُ الثُّلُثَ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ ثَالِثٍ، فَعَلَى قَوْلِ السُّقُوطِ تَسْقُطَانِ فِي الثُّلُثِ. وَهَلْ تَبْطُلُ بَيِّنَةُ الْكُلِّ فِي الثُّلُثَيْنِ؟ فِيهِ الطَّرِيقَانِ السَّابِقَانِ، وَعَلَى الِاسْتِعْمَالِ تَجْرِي الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً بِمَا يَدَّعِي، فَلِمُدَّعِي الثُّلُثِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِمُدَّعِي الْكُلِّ. دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى زَيْدٌ نِصْفَهَا، فَصَدَّقَهُ، وَعَمْرٌو نِصْفَهَا، فَكَذَّبَهُ صَاحِبُ الْيَدِ وَزَيْدٌ مَعًا، وَلَمْ يَدَّعِهِ أَحَدٌ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ، فَالنِّصْفُ

الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُكَذِّبُ هَلْ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْ يُوقَفُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ، أَمْ يَنْتَزِعُهُ وَيُحْفَظُ إِلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، حَكَاهَا الْفُورَانِيُّ. قُلْتُ: أَقْوَاهَا الثَّالِثُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا وَآخَرُ ثُلُثَيْهَا، وَآخَرُ نِصْفَهَا، وَرَابِعٌ ثُلُثَهَا، وَهِيَ فِي يَدِ خَامِسٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، فَلَا تَعَارُضَ فِي الثُّلُثِ الَّذِي يَخْتَصُّ مُدَّعِي الْكُلِّ بِدَعْوَاهُ، وَفِي الْبَاقِي يَقَعُ التَّعَارُضُ، فَالسُّدُسُ الزَّائِدُ عَلَى النِّصْفِ يَتَعَارَضُ فِيهِ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْكُلِّ، وَمُدَّعِي الثُّلْثَيْنِ، وَفِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ يَتَعَارَضُ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ مُدَّعِي النِّصْفِ. وَفِي الثُّلُثِ الْبَاقِي تَتَعَارَضُ بَيِّنَاتُ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ، سَقَطَتِ الْبَيِّنَاتُ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّا الثُّلُثُ، فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ فِي تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُسَلَّمُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ قَسَمْنَا، فَالسُّدُسُ الزَّائِدُ عَلَى النِّصْفِ بَيْنَ مُدَّعِي الْكُلِّ، وَمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، وَالسُّدُسُ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ لَهُمَا وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ أَثْلَاثًا، وَالثُّلُثُ الْبَاقِي لِلْأَرْبَعَةِ أَرْبَاعًا، فَيُجْعَلُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا لِحَاجَتِنَا إِلَى عَدَدٍ يَنْقَسِمُ سُدُسُهُ عَلَى اثْنَيْنِ وَعَلَى ثَلَاثَةٍ، فَيُضْرَبُ اثْنَيْنِ فِي سِتَّةٍ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ، فَلِمُدَّعِي الْكُلِّ ثُلُثُهَا وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ، وَنِصْفُ السُّدْسِ الزَّائِدِ عَلَى النِّصْفِ هُوَ ثَلَاثَةٌ، وَثُلُثُ السُّدُسِ الزَّائِدِ وَهُوَ اثْنَانِ، وَرُبُعُ الثُّلُثِ الْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، فَالْجُمْلَةُ عِشْرُونَ وَهِيَ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ الدَّارِ، وَلِمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ ثَلَاثَةٌ مِنَ السُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى النِّصْفِ، وَسَهْمَانِ مِنَ السُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى النِّصْفِ، وَسَهْمَانِ مِنَ السُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الثُّلُثِ الْبَاقِي، فَالْجُمْلَةُ ثَمَانِيَةٌ هِيَ تُسْعَا الدَّارِ، وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ سَهْمَانِ مِنَ السُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الثُّلُثِ الْبَاقِي، وَلِمُدَّعِي الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ

مِنَ الثُّلُثِ الْبَاقِي، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقُرْعَةِ، أَقْرَعَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مَرَّةً فِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى النِّصْفِ بَيْنَ مُدَّعِي الْكُلِّ، وَمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ، وَأُخْرَى فِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ مُدَّعِي الْكُلِّ، وَمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ، وَأُجْرِيَ فِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مُدَّعِي النِّصْفِ، وَأُجْرِيَ فِي الثُّلُثِ بَيْنِ الْأَرْبَعَةِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَقْفِ تَوَقَّفْنَا، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً، جُعِلَتْ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ تُرَجِّحُ فِي الرُّبُعِ الَّذِي فِي يَدِهِ الْيَدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي الرُّبُعِ الَّذِي فِي يَدِهِ، فَإِذَا حَلَفُوا كَانَتْ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا أَيْضًا. فَرْعٌ دَارٌ فِي يَدِ ثَلَاثَةٍ، ادَّعَى أَحَدُهُمْ نِصْفَهَا، وَآخَرُ ثُلُثَهَا، وَثَالِثٌ سُدُسَهَا، وَلَا بَيِّنَةَ، جُعِلَتْ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مُدَّعِيَ السُّدُسِ لَا يَدَّعِي غَيْرَهُ، فَكَيْفَ يُعْطَى الثُّلُثَ، فَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ صُورَةَ النَّصِّ فِيمَا إِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ فِي جَمِيعِهَا إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ يَقُولُ: النِّصْفُ مِلْكِي، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ، وَهُوَ فِي يَدِي عَارِيَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ، وَالْآخَرَانِ يَقُولَانِ نَحْوَ ذَلِكَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْيَدِ فِي الثُّلُثِ، وَتَبْقَى الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمْ كَمَا كَانَتْ، ثُمَّ جَعَلَ نِصْفَ الثُّلُثِ الَّذِي فِي يَدِ مُدَّعِي السُّدُسِ لِذَلِكَ الْغَائِبِ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ، فَأَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ لِي مِنْهَا كَذَا، فَلَا يُعْطَى لِمُدَّعِي السُّدُسِ إِلَّا السُّدُسُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ نِزَاعٌ، وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيِّنَةً عَلَى مَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ، حُكِمَ لِمُدَّعِي الثُّلُثِ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ بَيِّنَةً وَيَدًا، وَلِمُدَّعِي السُّدُسِ بِالسُّدُسِ لِمِثْلِ ذَلِكَ، وَفِيمَا يُحْكَمُ بِهِ لِمُدَّعِي النِّصْفِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الثُّلُثِ يَدًا وَبَيِّنَةً، وَفِي السُّدُسِ الْبَاقِي بَيِّنَةً،

وَالْآخَرَانِ لَا يَدَّعِيَانِهِ، وَالثَّانِي بِالثُّلُثِ وَنِصْفِ السُّدُسِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ أَجَابَ ابْنُ كَجٍّ وَالْقَفَّالُ، ثُمَّ مُدَّعِي الثُّلُثِ، وَمُدَّعِي السُّدِسِ لَا يَحْتَاجَانِ إِلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَكِنْ مُدَّعِي النِّصْفِ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَتِهَا لِلسُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَيُتَصَوَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ مِنْ جِهَتِهِمْ فِيمَا إِذَا أَقَامَ مُدَّعِي النِّصْفِ، ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرَانِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْفَرْعِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفْرَضَ مِنْ مُدَّعِي السُّدُسِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ السُّدُسَ لِلْغَائِبِ مَعَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ السُّدُسَ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَقَرَّ بِمَا فِي يَدِهِ لِلْغَائِبِ يَجُوزُ لَهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ لِلْغَائِبِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. فَرْعٌ دَارٌ فِي يَدِ ثَلَاثَةٍ ادَّعَى أَحَدُهُمْ كُلَّهَا، وَآخَرُ نِصْفَهَا، وَالثَّالِثُ ثُلُثَهَا، وَأَقَامَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ دُونَ الثَّالِثِ، فَلِمُدَّعِي الْكُلِّ الثُّلُثُ بِالْبَيِّنَةِ وَبِالْيَدِ، وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ كَذَلِكَ، ثُمَّ لِمُدَّعِي الْكُلِّ أَيْضًا نِصْفُ مَا فِي يَدِ الثَّالِثِ بِبَيِّنَتِهِ السَّلِيمَةِ عَنِ الْمُعَارِضِ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ تَتَعَارَضُ بَيِّنَتُهُ وَبَيِّنَةُ مُدَّعِي النِّصْفِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّالِثِ فِي هَذَا السُّدُسِ، وَفِي بُطْلَانِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِيمَا سِوَى هَذَا السُّدُسِ الطَّرِيقَانِ السَّابِقَانِ فِي تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ، لَمْ يَجِبِ الْإِقْرَاعُ وَالتَّوَقُّفُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَسْمِ، قُسِّمَ بَيْنَهُمَا هَذَا السُّدُسُ بِالسَّوِيَّةِ، فَيَصِيرُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ النِّصْفُ وَنِصْفُ سُدُسٍ، وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ الْبَاقِي هَكَذَا أَوْرَدَ الْمَسْأَلَةَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَتَعَارَضَ الْبَيِّنَتَانِ، وَهُنَاكَ مَا يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا، فَيُعْمَلُ بِالرَّاجِحَةِ، وَلِلرُّجْحَانِ أَسْبَابٌ: أَحَدُهَا أَنْ تَخْتَصَّ إِحْدَاهُمَا

بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ، وَفِيهِ صُوَرٌ إِحْدَاهَا: لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ، وَالْآخَرُ شَاهِدًا، وَحَلَفَ مَعَهُ، فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يَتَعَادَلَانِ، وَأَظْهَرُهُمَا: يُرَجَّحُ الشَّاهِدَانِ؛ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَبْعَدُ عَنْ تُهْمَتِهِ بِالْكَذِبِ فِي يَمِينِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَعَ صَاحِبِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ يَدٌ، فَهَلْ يُرَجَّحُ صَاحِبُ الْيَدِ، أَمْ صَاحِبُ الشَّاهِدَيْنِ، أَمْ يَتَعَادَلَانِ؟ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا الْأَوَّلُ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ الْأَوَّلَيْنِ قَوْلَيْنِ. الثَّانِيَةُ: لَوْ زَادَ عَدَدُ الشُّهُودِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ زَادَ وَرَعُهُمْ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ، وَقِيلَ قَوْلَانِ، وَفِي الرِّوَايَةِ يَثْبُتُ التَّرْجِيحُ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: هِيَ كَالشَّهَادَةِ، وَالْمَذْهَبُ الْفَرْقُ؛ لِأَنَّ لِلشَّهَادَةِ نِصَابًا فَيُتَّبَعُ وَلَا ضَبْطَ لِلرِّوَايَةِ، فَيُعْمَلُ بِأَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ. الثَّالِثَةُ: أَقَامَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَالْآخَرُ رَجُلَيْنِ، فَلَا يُرَجَّحُ الرَّجُلَانِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، السَّبَبُ الثَّانِي: الْيَدُ، فَإِذَا ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَأَقَامَ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، رَجَحَتْ بَيِّنَةُ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي سَمَاعِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبَ الْمِلْكِ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ إِرْثٍ وَغَيْرِهِمَا؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لِأَنَّهُمَا رُبَّمَا اعْتَمَدَا ظَاهِرَ الْيَدِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ، فَإِنَّهَا تُسْمَعُ مُطْلَقَةً مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا يَدًا سَابِقَةً، وَلَا فَرْقَ فِي تَرْجِيحِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ بَيْنَ أَنْ يُبَيِّنَ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ سَبَبَ الْمِلْكِ أَوْ يُطْلِقَا، وَلَا بَيْنَ إِسْنَادِ الْبَيِّنَتَيْنِ،

وَإِطْلَاقِهِمَا إِذَا سَمِعْنَا بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ مُطْلَقَةً. وَلَوْ تَعَرَّضْنَا لِلسَّبَبِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَّفِقَ السَّبَبَانِ أَوْ يَخْتَلِفَا، وَلَا بَيْنَ أَنْ يُسْنَدَ الْمِلْكُ إِلَى شَخْصٍ، بِأَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْ زَيْدٍ، أَوْ يُسْنَدَ إِلَى شَخْصَيْنِ وَفِيمَا إِذَا أُسْنِدَ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِثَالِثٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَدَّعِي الِانْتِقَالَ مِنْهُ. فَرْعٌ مَتَّى تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ، لَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يُقِيمَهَا قَبْلَ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إِنَّمَا تُقَامُ عَلَى خَصْمٍ، وَقِيلَ: تُسْمَعُ لِغَرَضِ التَّسْجِيلِ. الثَّانِي: يُقِيمُهَا بَعْدَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَقَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً، فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي جَانِبِهِ الْيَمِينُ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهَا مَا دَامَتْ كَافِيَةً، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ لِدَفْعِ الْيَمِينِ كَالْمُودِعِ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَى الرَّدِّ وَالتَّلَفِ، وَإِنْ كَفَتْهُ الْيَمِينُ. الثَّالِثُ: يُقِيمُهَا بَعْدَ أَنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ، لَكِنْ قَبْلَ أَنْ يَعْدِلَهَا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا تُسْمَعُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا بَعْدُ، وَأَصَحُّهُمَا تُسْمَعُ، وَيُحْكَمُ بِهَا؛ لِأَنَّ يَدَهُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ مُعَرَّضَةٌ لِلزَّوَالِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدِهَا. الرَّابِعُ: يُقِيمُهَا بَعْدَ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَتَعْدِيلِهَا، فَقَدْ أَقَامَهَا فِي أَوَانِ إِقَامَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا حَتَّى قَضَى الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي، وَسَلَّمَ الْمَالَ إِلَيْهِ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يُسْنَدِ الْمِلْكَ إِلَى مَا قَبْلَ إِزَالَةِ الْيَدِ، فَهُوَ الْآنَ مُدَّعٍ خَارِجٌ، وَإِنْ أَسْنَدَهُ، وَاعْتَذَرَ بِغَيْبَةِ الشُّهُودِ وَنَحْوِهَا، فَهَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وَهَلْ تُقَدَّمُ بِالْيَدِ الْمُزَالَةِ بِالْقَضَاءِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا أُزِيلَتْ، لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ، فَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْحُكْمِ لِلْمُدَّعِي، وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ، وَقُدِّمَتْ عَلَى الصَّحِيحِ لِبَقَاءِ الْيَدِ حِسًّا.

فَرْعٌ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْلِفَ الدَّاخِلُ مَعَ بَيِّنَتِهِ، لِيُقْضَى لَهُ؟ وَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا لَا يَحْلِفُ الْخَارِجُ مَعَ بَيِّنَتِهِ، وَبَنَوُا الْخِلَافَ عَلَى خِلَافٍ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ لِلدَّاخِلِ بِالْيَدِ، أَمْ بِالْبَيِّنَةِ الْمُرَجَّحَةِ بِالْيَدِ، إِنْ قُلْنَا بِالْيَدِ، حَلَفَ، وَإِلَّا فَلَا. فَرْعٌ إِذَا أَطْلَقَ الْخَارِجُ دَعْوَى الْمِلْكِ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً، وَقَالَ الدَّاخِلُ: هُوَ مِلْكِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، فَالدَّاخِلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعَ بَيِّنَتِهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ، وَلِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُقَدَّمٌ، فَهُنَا أَوْلَى، وَلَوْ قَالَ الْخَارِجُ: هُوَ مِلْكِي وَرِثْتُهُ مِنْ أَبِي، وَقَالَ الدَّاخِلُ: مِلْكِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْ أَبِيكَ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، وَلَوِ انْعَكَسَتِ الصُّورَةُ، فَقَالَ الْخَارِجُ: هُوَ مِلْكِي، اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً، وَأَقَامَ الدَّاخِلُ بَيِّنَةً أَنَّهُ مِلْكُهُ، فَالْخَارِجُ أَوْلَى لِزِيَادَةِ عِلْمِ بَيِّنَتِهِ، وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، وَخُفِيَ التَّارِيخُ، فَالدَّاخِلُ أَوْلَى، ثُمَّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَهِيَ أَنْ يُطْلِقَ الْخَارِجُ، وَيَقُولُ الدَّاخِلُ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ، لَا تُزَالُ يَدُ الدَّاخِلِ قَبْلَ إِقَامَتِهِ الْبَيِّنَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: تُزَالُ، وَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إِلَى الْمُدَّعِي؛ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ كَانَ لَهُ، ثُمَّ يُثْبِتُ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الشِّرَاءِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إِذَا كَانَتْ حَاضِرَةً، فَالتَّأْخِيرُ إِلَى إِقَامَتِهَا سَهْلٌ، فَلَا مَعْنَى لِلِانْتِزَاعِ وَالرَّدِّ، فَلَوْ زَعَمَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ غَائِبَةٌ لَمْ يَتَوَقَّفْ، بَلْ يُؤْمَرُ فِي الْحَالِ بِالتَّسْلِيمِ، ثُمَّ إِنْ أَثْبَتَ مَا يَدَّعِيهِ اسْتَرَدَّ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى دَيْنًا، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أَبْرَأَنِي، وَأَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ، لَا يُكَلَّفُ تَوْفِيَةَ الدَّيْنِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي يُكَلَّفُ، ثُمَّ إِنْ أَثْبَتَ مَا يَقُولُ اسْتَرَدَّ.

فصل

فَصْلٌ مَنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِرَجُلٍ، ثُمَّ ادَّعَاهَا، لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ إِلَّا أَنْ تَذْكُرَ تَلَقِّيَ الْمِلْكَ مِنْهُ، وَلَوْ أُخِذَتْ مِنْهُ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ ادَّعَاهَا هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ التَّلَقِّي؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤَاخَذًا بِالْبَيِّنَةِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ وَأَطْلَقَ، سُمِعَتْ. فُرُوعٌ أَكْثَرُهَا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. أَقَامَ الْخَارِجُ بَيِّنَةً أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ مِلْكِي غَصَبَهَا مِنِّي الدَّاخِلُ، أَوْ قَالَ: أَجَّرْتُهَا لَهُ، أَوْ أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ، وَأَقَامَ الدَّاخِلُ بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكَهُ، فَهَلْ يُقَدَّمُ الْخَارِجُ أَمِ الدَّاخِلُ؟ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ: الْخَارِجُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَصَحَّحَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَبِهِ أَجَابَ الْهَرَوِيُّ، وَخَالَفَهُمُ الْبَغَوِيُّ، فَصَحَّحَ تَقْدِيمَ الدَّاخِلِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَنَكَلَ الدَّاخِلُ عَنِ الْيَمِينِ، فَحَلَفَ الْخَارِجُ، وَحُكِمَ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ الدَّاخِلُ بِبَيِّنَةٍ، سُمِعَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ أَقَامَهَا بَعْدَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَقِيلَ: لَا تُسْمَعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْإِقْرَارِ، وَلَوْ تَنَازَعَا شَاةً مَذْبُوحَةً فِي يَدِ أَحَدِهِمَا رَأْسُهَا وَجِلْدُهَا وَسَوَاقِطُهَا، وَفِي يَدِ الْآخَرِ بَاقِيهَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً أَنَّ الشَّاةَ لَهُ، قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّ الشَّاتَيْنِ لَهُ، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ الَّتِي فِي يَدِهِ، لِاعْتِقَادِ بَيِّنَتِهِ بِالْيَدِ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً أَنَّ الَّتِي فِي يَدِ الْآخَرِ مِلْكُهُ قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمَا فِي يَدِ الْآخَرِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: اشْتِمَالُ أَحَدِهِمَا عَلَى زِيَادَةِ تَارِيخٍ، فَإِذَا أُرِّخَتَا، نُظِرَ إِنِ اتَّفَقَ تَارِيخُهُمَا، فَلَا تَرْجِيحَ، وَإِنِ اخْتَلَفَ، بِأَنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ

زَيْدٍ أَنَّهُ مَلَكَهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَبَيِّنَةُ عَمْرٍو أَنَّهُ مَلَكَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَهَلْ تَتَعَارَضَانِ، أَمْ يُقَدَّمُ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا؟ طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ التَّقْدِيمُ، وَيَطَّرِدُ الْخِلَافُ فِي بَيِّنَتَيْ شَخْصَيْنِ تَنَازَعَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ إِذَا اخْتَلَفَ تَارِيخُهُمَا، وَفِيمَا إِذَا تَعَارَضَتَا مَعَ اخْتِلَافِ التَّارِيخِ لِسَبَبِ الْمِلْكِ، بِأَنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ زَيْدٍ مُنْذُ سَنَةٍ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ عَمْرٍو مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَلَوْ نَسَبَا الْعَقْدَيْنِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَأَقَامَ هَذَا بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ زَيْدٍ مُنْذُ سَنَةٍ، وَذَاكَ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ زَيْدٍ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَالسَّابِقُ أَوْلَى بِلَا خِلَافٍ، وَطَرَدُوا الْخِلَافَ أَيْضًا فِيمَا إِذَا تَنَازَعَا أَرْضًا مَزْرُوعَةً، فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا أَرْضُهُ زَرَعَهَا، وَالْآخَرُ أَنَّهَا مِلْكُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الزَّرْعِ تُثْبِتُ الْمِلْكَ مِنْ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ سَبْقَ التَّارِيخِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِزَمَانٍ مَعْلُومٍ حَتَّى لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ مَلَكَهُ مُنْذُ سُنَّةٍ، وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ أَنَّهُ مَلَكَهُ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ كَانَ فِيهِ الْخِلَافُ، فَإِنْ رَجَّحْنَا بِسَبْقِ التَّارِيخِ، حَكَمْنَا بِهَا لِصَاحِبِ السَّبْقِ، وَلَهُ الْأُجْرَةُ وَالزِّيَادَاتُ الْحَادِثَةُ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَإِنْ لَمْ نُرَجِّحْ بِهِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَصْلِ التَّعَارُضِ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهَا مُؤَرَّخَةً، وَالْأُخْرَى مُطْلَقَةً، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فَتَتَعَارَضَانِ، وَقِيلَ: تُقَدَّمُ الْمُؤَرَّخَةُ. وَلَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً، فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَالْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَهُوَ الَّذِي نَتَجَهَا، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي سَبْقِ التَّارِيخِ، وَطَرَدُوهُ فِي كُلِّ بَيِّنَتَيْنِ أَطْلَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْمِلْكَ، وَنَصَّتِ الْأُخْرَى عَلَى سَبَبِهِ مِنْ إِرْثٍ وَشِرَاءٍ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ النِّتَاجِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ لَهُ، وَالَّتِي سَبَقَ تَارِيخُهَا لَا تُثْبِتُ ابْتِدَاءَ مِلْكِهِ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ يَقْتَضِي اطِّرَادَ الطَّرِيقَيْنِ فِيمَا لَوْ تَنَازَعَا ثَمَرَةً وَحِنْطَةً،

فصل

فَشَهِدَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَنَّهَا حَدَّثَتْ مَنْ شَجَرَتِهِ، أَوْ بَذْرَتِهِ، وَلَا يَقْتَضِي جَرَيَانُ الْقَطْعِ فِيمَا لَوْ تَعَرَّضَتْ إِحْدَاهُمَا لِلشِّرَاءِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ ابْتِدَاءَ مِلْكِهِ، ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَصْلِهَا مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ ثَالِثٍ، فَلَوْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَقَامَتْ بَيِّنَتَانِ مُخْتَلِفَتَا التَّارِيخِ، فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ أَسْبَقَ تَارِيخًا، قُدِّمَتْ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَسْبَقَ، فَإِنْ لَمْ نَجْعَلْ سَبْقَ التَّارِيخِ مُرَجِّحًا، قُدِّمَ الدَّاخِلُ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُرَجِّحًا، فَهَلْ يُقَدَّمُ الدَّاخِلُ أَمِ الْخَارِجُ، أَمْ يَتَسَاوَيَانِ؟ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ. فَصْلٌ ادَّعَى دَارًا، أَوْ عَبْدًا، أَوْ نَحْوَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَشَهِدَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِالْمِلْكِ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، أَوْ بِالْأَمْسِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْحَالِ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ، وَلَا يُحْكَمُ بِهَا، وَنَقَلَ الْبُوَيْطِيُّ أَنَّهَا تُسْمَعُ، وَيُحْكَمُ بِهَا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا الْمَنْعُ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى الْيَدَ، وَشَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ أَمْسِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمِلْكِ فِي الْحَالِ، أَوْ يَقُولَ: كَانَ مِلْكَهُ وَلَمْ يَزَلْ، أَوْ لَا أَعْلَمُ لَهُ مُزِيلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ فِي الْحَالِ اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ مَا عَرَفَهُ مِنْ قَبْلُ، كَشِرَاءٍ وَإِرْثٍ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنِ احْتَمَلَ زَوَالَهُ، فَلَوْ صَرَّحَ فِي شَهَادَتِهِ أَنَّهُ يَعْتَمِدُ الِاسْتِصْحَابَ، فَوَجْهَانِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يُقْبَلُ، كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الرِّضَاعِ عَلَى امْتِصَاصِ الثَّدْيِ، وَحَرَكَةِ الْحُلْقُومِ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، تُقْبَلُ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ سِوَاهُ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي أَزَالَ مُلْكَهُ، أَمْ لَا، لَمْ يُقْبَلْ قَطْعًا؛ لِأَنَّهَا صِيغَةُ مُرْتَابٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ أَقَرَّ أَمْسِ لِلْمُدَّعِي بِالْمِلْكِ، قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ، وَاسْتُدِيمَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ الشَّاهِدُ بِالْمِلْكِ

فِي الْحَالِ وَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِئَلَّا تَبْطُلَ فَائِدَةُ الْأَقَارِيرِ. وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: كَانَ مِلْكُكَ أَمْسِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ مِلْكُهُ أَمْسِ، وَأَصَحُّهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يُؤَاخَذُ، فَيُنْتَزَعُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَمْسِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ تَحْقِيقٍ، وَالشَّاهِدُ قَدْ يَتَسَاهَلُ وَيُخَمِّنُ، فَلَوْ أَسْنَدَ الشَّهَادَةَ إِلَى تَحْقِيقٍ، بِأَنْ قَالَ الشَّاهِدُ: هُوَ مِلْكُهُ بِالْأَمْسِ، اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَمْسِ، أَوْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَمْسِ، قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ، وَلَوْ قَالَ: كَانَ فِي يَدِكَ أَمْسِ، فَهَلْ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ الصَّبَّاغِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِذَا عَرَفْتَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الشَّاهِدُ إِلَى التَّعَرُّضِ لَهُ عَلَى قَوْلِنَا: لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ السَّابِقِ، فَكَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا: الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ السَّابِقَةِ لَا تُسْمَعُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ الشَّاهِدُ لِزِيَادَةٍ، فَيَقُولُ: كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي، وَأَخَذَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْهُ، أَوْ غَصَبَهُ، أَوْ قَهَرَهُ عَلَيْهِ، أَوْ بَعَثَ الْعَبْدَ فِي شُغْلٍ، فَأَبَقَ مِنْهُ، فَاعْتَرَضَهُ هَذَا، وَأَخَذَهُ، فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَيُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي، وَيُجْعَلُ صَاحِبَ يَدٍ. فَرْعٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ قَالُوا: وَلَا نَعْلَمُ زَوَالَ مِلْكِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: يَحْلِفُ الْمُدَّعِي مَعَ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ غَاصِبٌ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: هَذَا غَرِيبٌ. فَرْعٌ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا آخَرَانِ، وَأَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ،

فصل

غَصَبَهَا مِنْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ أَقَرَّ بِهَا لَهُ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَثَبَتَ الْمِلْكُ وَالْغَصْبُ بِالْبَيِّنَةِ الْأُولَى، وَيَلْغُو إِقْرَارُ الْغَاصِبِ لِغَيْرِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. فَصْلٌ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي لَا تُوجِبُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ، وَلَكِنَّهَا تُظْهِرُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ سَابِقًا عَلَى إِقَامَتِهَا، لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ السَّبْقُ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ، يَكْفِي لِصِدْقِ الشُّهُودِ لَحْظَةٌ لَطِيفَةٌ، وَلَا يُقَدَّرُ مَا لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، فَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِمِلْكِ دَابَّةٍ أَوْ شَجَرَةٍ، لَمْ يَسْتَحِقَّ النِّتَاجَ وَالثَّمَرَةَ الْحَاصِلَيْنِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَالثَّمَرَةُ الظَّاهِرَةُ عِنْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَبْقَى لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَفِي الْحَمْلِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ إِقَامَتِهَا وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ الْمُدَّعِي تَبَعًا لِلْأُمِّ، كَمَا فِي الْعُقُودِ، وَالثَّانِي: لَا، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ لِغَيْرِ مَالِكِ الْأُمِّ بِوَصِيَّةٍ. وَمُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا، فَادَّعَاهُ مُدَّعٍ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ، لِاحْتِمَالِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ مِنَ الْمُشْتَرِي إِلَى الْمُدَّعِي، وَتَكُونُ الْمُبَايَعَةُ صَحِيحَةً مُصَادِفَةً مَحَلَّهَا، لَكِنِ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ ثُبُوتُ الرُّجُوعِ، بَلْ لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي أَوْ وَهَبَ، وَانْتَزَعَ الْمَالَ مِنَ الْمُتَّهِبِ أَوِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الرُّجُوعُ أَيْضًا، وَسَبَبُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي عُهْدَةِ الْعُقُودِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا مُعَامَلَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمُدَّعِي، وَلَا انْتِقَالَ مِنْهُ، فَيُسْتَدَامُ الْمِلْكُ الْمَشْهُودُ بِهِ إِلَى مَا قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ إِذَا كَانَ دَعْوَى الْمُدَّعِي مِلْكًا سَابِقًا وَفَاءً بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَحُمِلَ مَا أَطْلَقَهُ

فصل

الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، وَحَكَى الْهَرَوِيُّ وَجْهًا أَنَّ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ يَقْتَضِي سَبْقَ الْمِلْكِ حَتَّى يَكُونَ النِّتَاجُ لِلْمُدَّعِي. فَرْعٌ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُشْتَرِي إِذَا اسْتَحَقَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ، وَانْتَزَعَ مِنْهُ، وَلَمْ يَظْفَرْ بِبَائِعِهِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْأَوَّلَ بِالثَّمَنِ؟ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُطَالِبُهُ. فَصْلٌ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا، فَشَهِدَ الشُّهُودُ بِالْمِلْكِ، وَذَكَرُوا سَبَبَهُ، لَمْ يَضُرَّ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُدَّعِي تَقْدِيمَ بَيِّنَتِهِ بِذِكْرِ السَّبَبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذِكْرَ السَّبَبِ مُرَجِّحٌ، لَمْ يَكْفِ لِلتَّرْجِيحِ تَعَرُّضُهُمْ لِلسَّبَبِ أَوَّلًا، لِوُقُوعِهِ قَبْلَ الدَّعْوَى وَالِاسْتِشْهَادِ، بَلْ يَدَّعِي الْمِلْكَ وَسَبَبَهُ، ثُمَّ يُعِيدُونَ الشَّهَادَةَ، فَحِينَئِذٍ تُرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ، وَقِيلَ: لَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَتَكْفِي الشَّهَادَةُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَاقِعَةً بَعْدَ الدَّعْوَى وَالِاسْتِشْهَادِ، وَلَوِ ادَّعَى الْمِلْكَ، وَذَكَرَ سَبَبَهُ، وَشَهِدُوا بِالْمِلْكِ، وَلَمْ يُذْكُرُوا السَّبَبَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمَقْصُودِ، وَلَا تَنَاقُضَ، وَلَوِ ادَّعَى الْمِلْكَ وَسَبَبُهُ، وَذَكَرَ الشُّهُودُ سَبَبًا آخَرَ، فَالصَّحِيحُ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِمْ، لِلتَّنَاقُضِ، وَقِيلَ: تُقْبَلُ عَلَى أَصْلِ الْمِلْكِ، وَيَلْغُو السَّبَبُ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفٍ عَنْ ثَمَنٍ، وَآخَرُ بِأَلْفٍ عَنْ قَرْضِ، وَالدَّعْوَى مُطْلَقَةٌ، فَقَدْ سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا شَيْءٌ، وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الثَّانِي عَلَى ضَعْفِهِ ثُبُوتُ الْأَلْفِ.

فَرْعٌ فِي يَدِهِ دَارٌ حَكَمَ لَهُ حَاكِمٌ بِمِلْكِهَا، فَادَّعَى خَارِجٌ انْتِقَالَ الْمِلْكِ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَشَهِدُوا بِانْتِقَالِهِ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، وَلَمْ يُبَيِّنُوهُ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، فَأَفْتَى فِيهَا فُقَهَاءُ هَمْدَانَ بِسَمَاعِ الدَّعْوَى، وَالْحُكْمِ بِهَا لِلْخَارِجِ، كَمَا لَوْ عَيَّنُوا السَّبَبَ، وَكَذَا أَفْتَى الْمَاوَرْدِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، قَالَ: وَمَيْلِي إِلَى أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ مَا لَمْ يُبَيِّنُوا، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الِانْتِقَالِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ بِأَنَّ فُلَانًا وَارِثٌ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ جِهَةَ الْإِرْثِ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْعُقُودِ، وَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: إِذَا قَالَ الْمُكْرِي: أَكَرَيْتُكَ هَذَا الْبَيْتَ شَهْرَ كَذَا بِعَشَرَةٍ، فَقَالَ: اكْتَرَيْتُ جَمِيعَ الدَّارِ بِالْعَشَرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا، ثُمَّ يُفْسَخُ الْعَقْدُ أَوْ يَنْفَسِخُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَابِ التَّحَالُفِ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةُ مِثْلِ مَا سَكَنَ فِي الدَّارِ أَوِ الْبَيْتِ، فَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً دُونَ الْآخَرِ، قُضِيَ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، فَقَوْلَانِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ، لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى زِيَادَةٍ وَهِيَ اكْتِرَاءُ جَمِيعِ الدَّارِ، وَأَظْهَرُهُمَا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: يَتَعَارَضَانِ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيِ التَّعَارُضِ، وَإِنْ قُلْنَا: بِالسُّقُوطِ، تَحَالَفَا، وَإِنْ قُلْنَا: بِالِاسْتِعْمَالِ، جَازَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي الْيَمِينِ مَعَهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَقَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: لَا يُقْرَعُ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ عِنْدَ تَسَاوِي الْجَانِبَيْنِ، وَلَا تُسَاوِي؛ لِأَنَّ جَانِبَ الْمُكْرِي أَقْوَى لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَأَمَّا الْوَقْفُ وَالْقِسْمَةُ، فَلَا يَجِبَانِ هَكَذَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَنَقَلَ الْمَاسَرْجِسِيُّ قَوْلًا أَنَّهُ تَجِيءُ الْقِسْمَةُ فِي الْمِلْكِ، وَالْوَقْفِ فِي الْأُجْرَةِ. وَلَوِ اخْتَلَفَا وَالزِّيَادَةُ فِي جَانِبِ الْمُكْرِي، بِأَنْ قَالَ: أَكْرَيْتُكَ بِعِشْرِينَ،

قَالَ: بَلْ بِعَشَرَةٍ، فَقَوْلُ التَّعَارُضِ بِحَالِهِ، وَعَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ سُرَيْجٍ: بَيِّنَةُ الْمُكْرِي رَاجِحَةٌ لِلزِّيَادَةِ. وَيَطَّرِدُ مَا ذَكَرَهُ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا كَانَ فِي بَيِّنَةِ أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ، وَلَوْ وُجِدَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ قَالَ: أَكْرَيْتُكَ هَذَا الْبَيْتَ بِعِشْرِينَ، فَقَالَ: بَلْ جَمِيعَ الدَّارِ بِعَشَرَةٍ، فَلِابْنِ سُرَيْجٍ رَأْيَانِ، الصَّحِيحُ مِنْهُمَا: الرُّجُوعُ إِلَى التَّعَارُضِ، وَالثَّانِي: الْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَيُجْعَلُ جَمِيعُ مَكْرِيٍّ بِعِشْرِينَ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَالشُّهُودِ، ثُمَّ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ: هَذَا إِذَا كَانَتِ الْبَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً، أَوِ اتَّفَقَ تَارِيخُهُمَا، فَإِنِ اخْتَلَفَ بِأَنْ شَهِدَتْ إِحْدَاهُمَا أَنَّ كَذَا مَكْرِيٌّ مِنْ سَنَةٍ مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ، وَالْأُخْرَى مَنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ، فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ تُقَدَّمُ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ السَّابِقَ صَحِيحٌ، وَلَا مُخَالَفَةَ، وَالثَّانِي تُقَدَّمُ الْمُتَأَخِّرَةُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ نَاسِخٌ، وَرُبَّمَا تَخَلَّلَتْ إِقَالَةً، قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَغَيْرُهُ: مَوْضِعُ الْقَوْلَيْنِ إِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُجْرَ إِلَّا عَقْدٌ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ، تَعَارَضَتَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي يَدِهِ دَارٌ جَاءَ رَجُلَانِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنِّي اشْتَرَيْتُهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ بِكَذَا، وَسَلَّمْتُ الثَّمَنَ، وَطَالَبَهُ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ، فَإِنْ أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا، سُلِّمَتِ الدَّارُ إِلَيْهِ، وَهَلْ يَحْلِفُ الْآخَرُ؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ: إِنْ قُلْنَا: إِتْلَافُ الْبَائِعِ كَآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَلَا، وَإِنْ قُلْنَا: كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، وَأَثْبَتْنَا الْخِيَارَ، فَأَجَازَ، وَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْبَائِعِ قِيمَتَهَا، بُنِيَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِلثَّانِي بَعْدَ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ هَلْ يُغَرَّمُ فَيَحْلِفُ أَمْ لَا؟ فَلَا وَقَدْ سَبَقَ نَظَائِرُهُ، وَلِلْآخَرِ أَنْ يَدَّعِيَ الثَّمَنَ فَإِنَّهُ كَهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي زَعْمِهِ، وَإِنْ

أَنْكَرَ مَا ادَّعَيَا وَلَا بَيِّنَةَ، حَلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَمِينًا، وَبَقِيَتِ الدَّارُ فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً، سُلِّمَتِ الدَّارُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ تَحْلِيفُهُ لِتَغْرِيمِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْهَا عَلَيْهِ، إِنَّمَا أُخِذَتْ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَهُ دَعْوَى الثَّمَنِ، وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتَا مُؤَرَّخَتَيْنِ بِتَارِيخٍ مُخْتَلِفٍ، قُدِّمَ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا، وَإِنْ لَمْ تَكُونَا كَذَلِكَ، فَلَهُ حَالَانِ، الْأُولَى أَنْ يَسْتَمِرَّ صَاحِبُ الْيَدِ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَيَتَعَارَضَانِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ سَقَطَتَا، وَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَهَلْ لَهُمَا اسْتِرْدَادُ الثَّمَنِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، هَذَا إِذَا لَمْ تَتَعَرَّضِ الْبَيِّنَةُ لِقَبْضِ الْمَبِيعِ، فَإِنْ تَعَرَّضَتْ، فَلَا رُجُوعَ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ اسْتَقَرَّ بِالْقَبْضِ، وَلَيْسَ عَلَى الْبَائِعِ عُهْدَةُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ، فَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِيءُ الْوَقْفُ، وَالْأَصَحُّ مَجِيئُهُ، فَتُنْزَعُ الدَّارُ مِنْ يَدِهِ وَالثَّمَنَانِ، وَيُوقَفُ الْجَمِيعُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقُرْعَةِ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، سُلِّمَتْ إِلَيْهِ الدَّارُ بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ، وَاسْتَرَدَّ الْآخَرُ الثَّمَنَ الَّذِي أَدَّاهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقِسْمَةِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ، وَلَهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَسَخَا اسْتَرَدَّا جَمِيعَ الثَّمَنِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَإِنْ أَجَازَ اسْتَرَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ نِصْفَ الثَّمَنِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَاءً عَلَى الْأَظْهَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِجَازَةَ بِالْقِسْطِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجِيزَ أَحَدُهُمَا، وَيَفْسَخَ الْآخَرُ، وَيَسْتَرِدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ. ثُمَّ إِنْ سَبَقَتِ الْإِجَازَةُ الْفَسْخَ، رَجَعَ الْمُجِيزُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ الْمَرْدُودَ، وَيَضُمَّهُ إِلَى مَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَجَازَ، رَضِيَ بِالنِّصْفِ، وَإِنْ سَبَقَ الْفَسْخُ الْإِجَازَةَ، فَهَلْ لِلْمُجِيزِ أَخْذُ الْجَمِيعِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّا نُفَرِّعُ عَلَى قَوْلِ الْقِسْمَةِ، فَلَا يَأْخُذُ إِلَّا مَا اقْتَضَتْهُ، وَالْمَرْدُودُ يَعُودُ إِلَى الْبَائِعِ، وَأَصَحُّهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ

بَيِّنَتَهُ قَامَتْ بِالْجَمْعِ، وَقَدْ زَالَ الْمُزَاحِمُ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ قَوْلًا: أَنَّ الْبَيِّعَيْنِ مَفْسُوخَانِ، وَرُوِيَ بَاطِلَانِ، وَهُوَ مَعْنَى مَفْسُوخَانِ هُنَا، وَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى قَوْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَامْتَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ جَعْلِهِ قَوْلًا، مِنْهُمْ مَنْ غَلَّظَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ تَخْرِيجٌ لَهُ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصَدِّقَ صَاحِبُ الْيَدِ أَحَدَهُمَا، فَعَلَى قَوْلِ السُّقُوطِ تُسَلَّمُ الدَّارُ لِلْمُصَدَّقِ، وَكَأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ وَلَا بَيِّنَةَ، وَعَلَى قَوْلِ الِاسْتِعْمَالِ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُقَدَّمُ الْمُصَدَّقُ، وَكَأَنَّهُ نَقَلَ إِلَيْهِ يَدَهُ، فَصَارَ مَعَهُ يَدٌ وَبَيِّنَةٌ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ لِاتِّفَاقِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى إِسْقَاطِ يَدِهِ، وَانْتِزَاعِ الْمَالِ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَقْوَالِ، وَالْيَدُ الْمُزَالَةُ لَا يُرَجَّحُ بِهَا، فَعَلَى هَذَا هُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُصَدَّقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. ثُمَّ إِنَّ الْأَصْحَابَ لَمْ يُفَرِّقُوا فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْبَيِّنَتَانِ مُخْتَلِفَتَيِ التَّارِيخِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا مُطْلَقَتَيْنِ أَوْ مُتَّحِدَتَيِ التَّارِيخِ أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً، وَالْأُخْرَى مُؤَرَّخَةً، بَلْ صَرَّحُوا بِالتَّسْوِيَةِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا الْفَرَجِ الزَّازَ اسْتَدْرَكَ، فَقَالَ: هَذَا إِذَا لَمْ يُقَدَّمِ الْمُؤَرَّخَةَ عَلَى الْمُطْلَقَةِ، فَإِنْ قَدَّمْنَاهَا قَضَيْنَا لِصَاحِبِهَا وَلَا تَجِيءُ الْأَقْوَالُ. عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَاصِمٍ: لَوْ تَعَرَّضَتْ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ، لِكَوْنِ الدَّارِ مِلْكَ الْبَائِعِ وَقْتَ الْبَيْعِ، أَوْ لِكَوْنِهَا مِلْكَ الْمُشْتَرِي الْآنَ كَانَتْ مُقَدَّمَةً، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا. وَلَوْ ذَكَرَتْ إِحْدَاهُمَا، نَقْدَ الثَّمَنِ دُونَ الْأُخْرَى كَانَتْ مُقَدَّمَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ سَابِقَةً، أَمْ مَسْبُوقَةً؛ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لِلنَّقْدِ

يُوجِبُ التَّسْلِيمَ، وَالْأُخْرَى لَا تُوجِبُ لِبَقَاءِ حَقِّ الْحَبْسِ لِلْبَائِعِ، فَلَا تَكْفِي الْمُطَالَبَةُ بِالتَّسْلِيمِ. فَرْعٌ فِي يَدِهِ دَارٌ جَاءَ اثْنَانِ يَدَّعِيَانِهَا، قَالَ أَحَدُهُمَا: اشْتَرَيْتُهَا مِنْ زَيْدٍ وَهِيَ مِلْكُهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: اشْتَرَيْتُهَا مِنْ عَمْرٍو وَهِيَ مِلْكُهُ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً بِمَا يَقُولُهُ، فَهُمَا مُتَعَارِضَتَانِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ، فَكَأَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ، وَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَمِينًا، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ فَفِي مَجِيءِ قَوْلِ الْوَقْفِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَيَجِيءُ قَوْلَا الْقُرْعَةِ وَالْقِسْمَةِ وَالتَّفْرِيعِ كَمَا سَبَقَ، إِلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ الْقِسْمَةِ إِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا فَسْخَ الْعَقْدِ، وَالْآخَرُ إِجَازَتَهُ لَا يَكُونُ لِلْمُجِيزِ أَخْذُ النِّصْفِ الْآخَرِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْفَسْخُ أَوِ الْإِجَازَةُ إِذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ بَيْنَ شَخْصَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ يَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَنْ يَدَّعِي الْمُجِيزُ الشِّرَاءَ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَأْخُذُهُ، وَحَيْثُ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ عَلَى قَوْلِ الْقِسْمَةِ، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ تَتَعَرَّضِ الْبَيِّنَةُ لِقَبْضِ الْمَبِيعِ، وَلَا اعْتَرَفَ بِهِ الْمُدَّعِي، وَإِلَّا فَإِذَا جَرَى الْقَبْضُ، اسْتَقَرَّ الْعَقْدُ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ لَيْسَ عَلَى الْبَائِعِ عُهْدَتُهُ، وَإِنَّمَا شَرْطُنَا فِي صُورَةِ الْفَرْعِ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ: وَهِيَ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّ مَنِ ادَّعَى مَالًا فِي يَدِ شَخْصٍ، وَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْ فُلَانٍ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ حَتَّى يَقُولَ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ وَهُوَ مِلْكُهُ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ أَنْ يَقُولَ: وَتَسَلَّمْتُهُ مِنْهُ، أَوْ سَلَّمَهُ إِلَيَّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُسَلِّمُ مَا يَمْلِكُهُ، وَفِي دَعْوَى الشِّرَاءِ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ وَأَنْتَ تَمْلِكُهُ، وَيُكْتَفَى بِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، وَكَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ فِي الشَّهَادَةِ: اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، أَوِ اشْتَرَاهُ وَتَسَلَّمَهُ مِنْهُ، أَوْ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ شُهُودًا عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ فُلَانٍ وَآخَرَيْنِ

أَنَّ فُلَانًا كَانَ يَمْلِكُهُ إِلَى أَنْ بَاعَهُ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ إِذَا أَقَامَ شُهُودًا بِالشِّرَاءِ وَقْتَ كَذَا، وَآخِرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَرْعٌ أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعَيَيْنِ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ، وَكَانَ يَمْلِكُهَا، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ مُقِيمِ الْبَيِّنَةِ الْأُولَى، حُكِمَ بِبَيِّنَةِ الثَّانِي، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ الْمُقِيمُ الْبَيِّنَةَ: وَأَنْتَ تَمْلِكُهَا، كَمَا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: لِصَاحِبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ كَمَا أَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَارٌ فِي يَدِهِ جَاءَ اثْنَانِ، قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، وَكَانَتْ مِلْكِي بِكَذَا، فَأَدِّ الثَّمَنَ، فَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا، طُولِبَ بِالثَّمَنَيْنِ، وَإِنْ أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا، طُولِبَ بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ، وَحَلَفَ لِلْآخَرِ، وَإِنْ أَنْكَرَ مَا ادَّعَيَاهُ، وَلَا بَيِّنَةَ حَلَفَ لَهُمَا يَمِينَيْنِ، وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً قُضِيَ لَهُ، وَحَلَفَ لِلْآخَرِ، وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، نُظِرَ إِنْ أُرِّخَتَا تَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لَزِمَهُ الثَّمَنَانِ، لِإِمْكَانِ الْجَمِيعِ، وَإِنِ اتَّحَدَ تَارِيخُهُمَا بِأَنْ أُرِّخَتَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، أَوْ زَوَالِهَا، تَعَارَضَتَا، لِامْتِنَاعِ كَوْنِهِ مِلْكًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِهَذَا وَحْدَهُ، وَلِذَاكَ وَحْدَهُ، فَعَلَى قَوْلِ السُّقُوطِ كَأَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ، وَعَلَى الْقُرْعَةِ يُقْرَعُ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، قُضِيَ لَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَلِلْآخَرِ تَحْلِيفُهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَرَفَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهُ، وَعَلَى الْقِسْمَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ الثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ، وَكَأَنَّ الدَّارَ لَهُمَا وَبَاعَاهُ بِثَمَنَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ، وَفِي مَجِيءِ الْوَقْفِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَالْمَذْهَبُ مَجِيئُهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةٌ، وَالْأُخْرَى مُؤَرَّخَةٌ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُمَا كَمُخْتَلِفَتَيِ التَّارِيخِ، فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنَانِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا كَمُتَّحِدَتَيِ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ

بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا الْيَقِينُ، وَبِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ الْقَطَّانِ، فَعَلَى هَذَا يَعُودُ خِلَافُ التَّعَارُضِ وَفِيهِ طَرِيقٌ ثَانٍ وَهُوَ الْقَطْعُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: إِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى الْإِقْبَاضِ مَعَ الْبَيْعِ، وَجَبَ الثَّمَنَانِ قَطْعًا، وَلَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَيَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ كَمَا لَوْ قَامَتَا عَلَى الْبَيِّعَيْنِ، فَيُنْظَرُ أَقَامَتَا عَلَى الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا، أَمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشِّرَاءِ مِنْ زَيْدٍ فِي وَقْتٍ، وَمِنْ عَمْرٍو كَذَلِكَ، وَقِيلَ: يَجِبُ الثَّمَنَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ مُطْلَقًا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُمَا إِذَا أُرِّخَتَا تَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَلْزَمُهُ الثَّمَنَانِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا زَمَنٌ يُمْكِنُ فِيهِ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ الِانْتِقَالُ مِنَ الْمُشْتَرِي إِلَى الْبَائِعِ الثَّانِي، ثُمَّ الْعَقْدُ الثَّانِي، فَإِنْ عَيَّنَ الشُّهُودُ زَمَنًا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ، لَمْ يَجِبِ الثَّمَنَانِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ بَاعَ فَلَانًا فِي سَاعَةِ كَذَا، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ كَانَ سَاكِنًا تِلْكَ الْحَالَةَ، أَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ قَبِلَ فَلَانًا سَاعَةَ كَذَا، وَآخَرُ أَنَّهُ كَانَ سَاكِنًا تِلْكَ الْحَالَةَ لَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا، فَفِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النَّفْيِ فِي الْمَضَايِقِ، وَأَحْوَالِ الضَّرُورَاتِ، فَإِنْ قَبِلْنَاهَا، جَازَ التَّعَارُضُ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْصُورَ كَالْإِثْبَاتِ فِي إِمْكَانِ الْإِحَاطَةِ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ: بِعْتُكَ كَذَا

وَهُوَ مِلْكِي وَهَكَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَإِذَا قُلْنَا: بِالْقِسْمَةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَقَسَّمَ الثَّمَنَ بِلَا خِيَارٍ لِصَاحِبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ تَمَامُ الْبَيْعِ، وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي عَيْنِ الْبَائِعِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَهُ الْخِيَارُ، فَقَدْ يَرْضَى بِمُعَامَلَةِ وَاحِدٍ دُونَ اثْنَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ، ادَّعَى أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ، وَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ بَاعَهُ إِيَّاهُ بِكَذَا، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْيَدِ مَا ادَّعَيَاهُ، وَلَا بَيِّنَةَ حَلَفَ لَهُمَا يَمِينَيْنِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْعِتْقِ، ثَبَتَ الْعِتْقُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي تَحْلِيفُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِتْلَافُ الْبَائِعِ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ مُتْلَفٌ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، لَكِنْ لَوِ ادَّعَى تَسْلِيمَ الثَّمَنِ، حَلَفَ لَهُ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ، قُضِيَ بِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ تَحْلِيفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَرَفَ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمٌ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَلَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ يُقِرُّ لِأَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ، وَلَا يَحْلِفُ لِلْآخَرِ قَوْلًا وَاحِدًا إِلَّا هَذَا، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً، نُظِرَ إِنِ اخْتَلَفَ تَارِيخُهُمَا، قُضِيَ بِأَسْبَقِهِمَا، وَإِنِ اتَّحَدَ تَعَارَضَتَا، وَفِيهِمَا الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ، فَفِي مَجِيءُ قَوْلِ الْوَقْفِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقُرْعَةِ قُضِيَ لِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقِسْمَةِ، عَتَقَ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَنَصِفُهُ لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَلَهُ الْخِيَارُ، فَإِنْ فَسَخَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعْتِقُ النِّصْفُ الْآخَرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ شَهِدَتْ بِإِعْتَاقِهِ الْجَمِيعَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْكُمْ بِمُوجِبِهَا لِزَحْمَةِ مُدَّعِي الشِّرَاءِ وَقَدْ زَالَتْ، وَقِيلَ: لَا يُعْتَقُ وَإِنْ أَجَازَ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعْسِرًا، لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا،

فَقَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا لَا يَسْرِي؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ قَهْرًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَرِثَ بَعْضَ قَرِيبِهِ، وَأَظْهَرُهُمَا يَسْرِي، لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ أَعْتَقَ بِاخْتِيَارِهِ، وَقِيلَ: لَا يَجْرِي قَوْلُ الْقِسْمَةِ هُنَا تَحَرُّزًا مِنْ تَبْغِيضِ الْحُرِّيَّةِ، وَصَرَّحَ الْمُزَنِيُّ قَوْلًا أَنَّهُ يُقَدِّمُ بَيِّنَةَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَبَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ مُقَدَّمَةٌ وَضَعَّفَ الْأَصْحَابُ هَذَا، وَامْتَنَعُوا مِنْ إِثْبَاتِهِ قَوْلًا قَالُوا: وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ لَوْ ثَبَتَتْ حُرِّيَّتُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الْبَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً، وَالْأُخْرَى مُؤَرَّخَةً، فَهُوَ كَمَا لَوِ اتَّحَدَ تَارِيخُهُمَا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقِيلَ: لَا يَجْرِي هُنَا قَوْلُ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ صِدْقَهُمَا مُمْكِنٌ، بِأَنْ بَاعَهُ صَاحِبُ الْيَدِ لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ، وَتَصْدِيقُ صَاحِبِ الْيَدِ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَتَيْنِ لَا يُوجِبُ الرُّجْحَانَ إِلَّا عِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ كَمَا سَبَقَ. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي التَّدَاعِي وَالتَّعَارُضِ فِي الْمَوْتِ وَالْإِرْثِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: مَاتَ رَجُلٌ عَنِ اثْنَيْنِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: مَاتَ عَلَى دِينِي فَأَرِثُهُ، فَلِلْأَبِ حَالَانِ، الْأُولَى أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالتَّنَصُّرِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ، وَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَاتَ عَلَى مَا كَانَ، فَيُصَدَّقُ النَّصْرَانِيُّ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، نُظِرَ إِنْ أُطْلِقَتَا، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: مَاتَ مُسْلِمًا، وَالْأُخْرَى مَاتَ نَصْرَانِيًّا، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، وَهُوَ انْتِقَالُهُ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، فُقِدِّمَتِ النَّاقِلَةُ عَلَى الْمُسْتَصْحِبَةِ، كَمَا تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ

عَلَى التَّعْدِيلِ، وَكَمَا لَوْ مَاتَ عَنِ ابْنٍ وَزَوْجَةٍ، فَقَالَ الِابْنُ: دَارُهُ هَذِهِ مِيرَاثٌ، وَقَالَتْ: أَصْدَقْنِيهَا أَوْ بَاعَنِيهَا، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، فَبَيَّنَتُهَا أَوْلَى، وَكَمَا لَوِ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولٍ أَنَّكَ عَبْدِي، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِفُلَانٍ، وَأَعْتَقَهُ، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِعِلْمِهَا بِالِانْتِقَالِ مِنَ الرِّقِّ إِلَى الْحُرِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ الْمَسَائِلِ، وَإِنْ قَيَّدْنَا بِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ كَلِمَةً، وَأَقَامَ الْمُسْلِمُ بَيِّنَةً أَنَّهَا كَانَتْ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً بِأَنَّهَا كَانَتِ النَّصْرَانِيَّةَ، تَعَارَضَتَا، فَعَلَى قَوْلِ السُّقُوطِ يَسْقُطَانِ، وَيَصِيرُ كَأَنْ لَا بَيِّنَةَ، فَيُصَدَّقُ النَّصْرَانِيُّ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ، فَعَلَى الْوَقْفِ يُوقَفُ، وَعَلَى الْقُرْعَةِ يُقْرَعُ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ، فَلَهُ التَّرِكَةُ، وَعَلَى الْقِسْمَةِ تُقَسَّمُ، فَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَغَيْرِ الْإِرْثِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا تَجِيءُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ حَتْمًا بِالْخَطَأِ يَقِينًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمُوتُ مُسْلِمًا كَافِرًا، وَفِي غَيْرِ صُورَةِ الْإِرْثِ لَا يَتَحَقَّقُ الْخَطَأُ فِي الْقِسْمَةِ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْمُدَّعَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَيْسَتِ الْقِسْمَةُ حُكْمًا بِأَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا كَافِرًا، بَلْ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ اقْتَضَتْ كَوْنَ جَمِيعِ الْمَالِ لَهُ، وَمُزَاحَمَتِهَا الْأُخْرَى، فَعَمِلْنَا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: وَلَيْسَتِ الْقِسْمَةُ خَطَأً يَقِينًا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَاتَ نَصْرَانِيًّا، فَوَرِثَاهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا. وَلَوْ قُيِّدَتْ بَيِّنَةُ النَّصْرَانِيِّ أَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ النَّصْرَانِيَّةُ، فَهُوَ كَتَقْيِيدِ الْبَيِّنَتَيْنِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْأَبُ مَعْرُوفَ الدِّينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، نُظِرَ إِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِمَا حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ وَجُعِلَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا - وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَجَمَاعَتُهُ -: الْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُجْعَلُ بَيْنَهُمَا، وَلَا أَثَرَ لِلْيَدِ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ كَانَ لِلْمَيِّتِ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، تَعَارَضَتَا، سَوَاءٌ أَطْلَقْنَا

أَوْ قَيَّدْنَا. وَيَجِيءُ فِي الْقِسْمَةِ خِلَافُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَيُصَلِّي عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ، وَيَدْفِنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقُولُ: أُصَلِّي عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ فِي بَيِّنَةِ النَّصْرَانِيِّ أَنْ يُفَسِّرَ كَلِمَةَ التَّنَصُّرِ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّصَارَى، كَقَوْلِهِمْ: (ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) هَلْ يَجِبُ فِي بَيِّنَةِ الْإِسْلَامِ تَفْسِيرُ كَلِمَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَوَهَّمُونَ مَا لَيْسَ بِإِسْلَامٍ إِسْلَامًا؟ وَجْهَانِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْقِسْمَةِ، هَلْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الِاثْنَيْنِ لِلْآخَرِ؟ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ: لَا. وَإِذَا قُلْنَا بِالْقِسْمَةِ: فَمَاتَ عَنِ ابْنٍ وَبِنْتٍ، فَقَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: يُقَسَّمُ مُنَاصَفَةً، وَقَالَ غَيْرُهُ: مُثَالَثَةً، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُمَا كَرَجُلَيْنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا جَمِيعَ دَارٍ، وَالْآخَرُ نِصْفَهَا، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ الْقِسْمَةِ لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَلِلْآخَرِ رُبُعُهَا. ثُمَّ الْمَوْتُ عَلَى كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ يُوجِبُ إِرْثَ الِابْنِ الْمُسْلِمِ، لَكِنَّ الْمَوْتَ عَلَى التَّنَصُّرِ لَا يُوجِبُ بِمَجْرَدَهِ إِرْثَ النَّصْرَانِيِّ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَسْلَمَ ثُمَّ تَنَصَّرَ، وَكَانَ التَّصْوِيرُ فِيمَا إِذَا تَعَرَّضَ الشُّهُودُ لِاسْتِمْرَارِهِ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ حَتَّى مَاتَ، أَوِ اكْتَفَوْا بِاسْتِصْحَابِ مَا عُرِفَ مِنْ دِينِهِ مَضْمُومًا إِلَى الْمَوْتِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشُّهُودُ. فَرْعٌ مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ وَأَخٍ مُسْلِمَيْنِ وَأَوْلَادٍ كَفَرَةٍ، فَقَالَ الْمُسْلِمَانِ: مَاتَ

مُسْلِمًا، وَقَالَ الْأَوْلَادُ: مَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ كَانَ أَصْلُ دِينِهِ الْكُفْرَ، صُدِّقَ الْأَوْلَادُ. وَإِنْ أَقَامُوا بَيِّنَتَيْنِ، فَإِنْ أَطْلَقْنَا قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمَيْنِ، وَإِنْ قَيَّدْنَا فَعَلَى الْخِلَافِ فِي التَّعَارُضِ. وَيَعُودُ خِلَافُ أَبِي إِسْحَاقَ فِي جَرَيَانِ الْقِسْمَةِ، فَإِذَا رَجَّحْنَا طَائِفَةً، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ، كَمَا يُقَسَّمُ لَوِ انْفَرَدُوا. وَإِنْ جَعَلْنَا الْمَالَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقِسْمَةِ، فَالنِّصْفُ لِلزَّوْجَةِ وَلِلْأَخِ، وَالنِّصْفُ لِلْأَوْلَادِ، وَفِيمَا تَأْخُذُ الزَّوْجَةُ مِنَ النِّصْفِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: رُبْعُهُ وَكَأَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ، وَبِهِ قَطَعَ السَّرَخْسِيُّ. وَالثَّانِي: نَصِفُهُ، لِيَكُونَ لَهَا رُبُعُ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ مُعْتَرِفٌ بِهِ، وَالْأَوْلَادُ لَا يَحْجُبُونَهَا بِاتِّفَاقِهِمَا، وَبِهِ قَطَعُ الْإِمَامُ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَرِفَةٌ أَيْضًا بِاسْتِحْقَاقِ الْأَخِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ التَّرِكَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَاتَ نَصْرَانِيٌّ وَلَهُ ابْنَانِ مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌّ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: أَسْلَمْتُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِينَا، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَنَا. وَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: قَبْلَهُ، فَلَا تَرِثُهُ، فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، إِحْدَاهَا: أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ وَلَا يَتَعَرَّضَا لِتَارِيخِ مَوْتِ الْأَبِ، وَلَا لِتَارِيخِ إِسْلَامِ الْمُسْلِمِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ مَوْتِ الْأَبِ كَرَمَضَانَ. وَقَالَ الْمُسْلِمُ: أَسْلَمْتُ فِي شَوَّالٍ، وَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: بَلْ أَسْلَمْتَ فِي شَعْبَانَ، فَفِي الْحَالَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى دِينِهِ، يَحْلِفُ وَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَالِ. وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً قُضِيَ بِهَا. وَإِنْ أَقَامَا

بَيِّنَتَيْنِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ النَّصْرَانِيِّ؛ لِأَنَّهَا نَاقِلَةٌ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي شَعْبَانَ، وَالْأُخْرَى مُسْتَصْحِبَةٌ لِدِينِهِ فِي شَوَّالٍ، فَمَعَ الْأُولَى زِيَادَةُ عِلْمٍ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَارِيخِ إِسْلَامِ الْمُسْلِمِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ فِي رَمَضَانَ، وَلَكِنِ ادَّعَى الْمُسْلِمُ أَنَّ الْأَبَ مَاتَ فِي شَعْبَانَ. وَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَاتَ فِي شَوَّالٍ، صُدِّقَ النَّصْرَانِيُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا تَنْقِلُ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ فِي شَعْبَانَ، وَالْأُخْرَى تَسْتَصْحِبُ الْحَيَاةَ إِلَى شَوَّالٍ. وَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ النَّصْرَانِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّهُمْ عَايَنُوهُ حَيًّا فِي شَوَّالٍ، أَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمِ فِي الْحَالَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ كَلِمَةَ التَّنَصُّرِ فِي نِصْفِ شَوَّالٍ مَثَلًا تَعَارَضَتَا. فَرْعٌ مَاتَ مُسْلِمٌ وَلَهُ ابْنَانِ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْأَبِ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَسْلَمْتُ أَيْضًا قَبْلَهُ. وَقَالَ الْمُتَّفَقُ عَلَى إِسْلَامِهِ: بَلْ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَعَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ أَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْأَبَ مَاتَ فِي رَمَضَانَ. وَقَالَ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ لِحَادِثِ الْإِسْلَامِ: أَسْلَمْتَ فِي شَوَّالٍ. وَقَالَ الْحَادِثُ: بَلْ أَسْلَمْتُ فِي شَعْبَانَ، صُدِّقَ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْحَادِثِ. وَإِنِ اتَّفَقَا أَنَّ الْحَادِثَ أَسْلَمَ فِي رَمَضَانَ، وَقَالَ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ: مَاتَ الْأَبُ فِي شَعْبَانَ. وَقَالَ الْحَادِثُ: بَلْ فِي شَوَّالٍ، فَالْمُصَدَّقُ الْحَادِثُ، وَالْمُقَدَّمُ بَيِّنَةُ قَدِيمِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا يُقَاسُ نَظَائِرُ الصُّورَةِ الْأُولَى، وَصُورَةُ الْفَرْعِ بِأَنْ مَاتَ الْأَبُ حُرًّا، وَأَحَدُ ابْنَيْهِ حُرًّا بِالِاتِّفَاقِ، وَاخْتَلَفَا هَلْ عَتَقَ الْآخَرُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَمْ بَعْدَهُ. وَلَوِ اتَّفَقَا فِي صُورَةِ الْفَرْعِ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا. وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ أَزَلْ مُسْلِمًا أَيْضًا، وَنَازَعَهُ الْأَوَّلُ، فَقَالَ: كُنْتَ نَصْرَانِيًّا، وَإِنَّمَا أَسْلَمْتَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الدَّارِ يَشْهَدُ

لَهُ. وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: لَمْ أَزَلْ مُسْلِمًا، وَكَانَ صَاحِبِي نَصْرَانِيًّا أَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، فَوَجْهَانِ خَرَّجَهُمَا الْقَفَّالُ. أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَحْلِفَانِ، وَيُجْعَلُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْيَدِ يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِيمَا يَقُولُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. فَرْعٌ مَاتَ عَنْ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ، وَابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَقَالَ الْأَبَوَانِ: مَاتَ كَافِرًا، وَقَالَ الِابْنَانِ: مَاتَ مُسْلِمًا، قَالَ ابْنَ سُرَيْجٍ: فِيهِ قَوْلَانِ، أَشْبَهَهُمَا بِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ فِي الِابْتِدَاءِ تَبَعًا لَهُمَا، فَيُسْتَصْحَبُ حَتَّى يُعْلَمَ خِلَافُهُ. وَالثَّانِي: يُوقَفُ الْمَالُ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْأَمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَا، وَالتَّبَعِيَّةُ تَزُولُ بِالْبُلُوغِ وَحُصُولِ الِاسْتِقْلَالِ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنَيْنِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الدَّارِ الْإِسْلَامُ. قُلْتُ: الْوَقْفُ أَرْجَحُ دَلِيلًا، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَبَوَيْنِ، وَأَنْكَرُوا عَلَى صَاحِبِ «التَّنْبِيهِ» تَرْجِيحَهُ قَوْلَ الِابْنَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَهُ زَوْجَةٌ وَابْنٌ مَاتَا، فَاخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَأَخُو الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: مَاتَتْ أَوَّلًا، فَوَرِثْتُهَا أَنَا وَابْنِي، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ، فَوَرِثْتُهُ. وَقَالَ الْأَخُ: مَاتَ الِابْنُ أَوَّلًا، فَوَرِثَتْ مِنْهُ أُخْتِي، ثُمَّ مَاتَتْ، فَأَرِثُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَخِ فِي مَالِ أُخْتِهِ، وَقَوْلُ الزَّوْجِ فِي مَالِ ابْنِهِ. فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا فَهِيَ مِنْ صُوَرِ اسْتِبْهَامِ الْمَوْتِ، فَلَا يُوَرَّثُ مَيِّتٌ مِنْ مَيِّتٍ، بَلْ مَالُ الِابْنِ لِأَبِيهِ، وَمَالُهَا لِلزَّوْجِ وَالْأَخِ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ،

تَعَارَضَتَا، وَجَرَتْ أَقْوَالُ التَّعَارُضِ. هَذَا إِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَاخْتَلَفَا فِي أَنَّ الْآخَرَ مَاتَ قَبْلَهُ أَمْ بَعْدَهُ، صُدِّقَ مَنْ قَالَ: بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ دَوَامُ الْحَيَاةِ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ مَنْ قَالَ: قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ. فَرْعٌ مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ وَأَوْلَادٍ فَقَالُوا لَهَا: كُنْتِ أَمَةً، فَعَتَقَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ ذِمِّيَّةً، فَأَسْلَمْتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَتْ: بَلْ عَتَقْتُ وَأَسْلَمْتُ قَبْلَهُ، فَهُمُ الْمُصَدَّقُونَ. وَإِنْ قَالَتْ: لَمْ أَزَلْ حُرَّةً مَسْلِمَةً، فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا. وَفِي قَوْلٍ: تُصَدَّقُ فِي الْحُرِّيَّةِ دُونَ الْإِسْلَامِ. وَخُرِّجَ قَوْلٌ: أَنَّ الْأَوْلَادَ يُصَدَّقُونَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وِرَاثَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سَيِّدٌ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ قُتِلْتُ، فَأَنْتَ حُرٌّ، وَتَنَازَعَ بَعْدَهُ الْعَبْدُ وَالْوَارِثُ، وَأَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً أَنَّهُ قُتِلَ، وَالْوَارِثُ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ بِالْقَتْلِ. وَالثَّانِي: يَتَعَارَضَانِ، لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا. فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ، فَكَأَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ، فَيَحْلِفُ الْوَارِثُ، وَيَسْتَمِرُّ الرِّقُّ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَسْمِ عَتَقَ نَصْفُهُ، أَوْ بِالْقُرْعَةِ إِنْ خَرَجَتْ لَهُ، وَرَقَّ إِنْ خَرَجَتْ لِلْوَارِثِ، وَلَا يَخْفَى الْوَقْفُ. وَإِذَا قَدَّمْنَا بَيِّنَةَ الْقَتْلِ فَلَا قَصَاصَ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يُنْكِرُهُ. وَإِنْ قَالَ: إِنْ مِتُّ فِي رَمَضَانَ فَعَبْدِي حُرٌّ، وَأَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَاتَ فِي رَمَضَانَ، وَالْوَارِثُ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَاتَ فِي شَوَّالٍ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّعَارُضُ، وَأَظْهَرُهُمَا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ، لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْمَوْتِ فِي رَمَضَانَ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَهِيَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ إِلَى شَوَّالٍ. وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَطَّرِدَ فِي نَظَائِرِهِ الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ وَاللَّاحِقَةُ. وَلَوْ أَقَامَ الْوَارِثُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي شَعْبَانَ، فَالْقِيَاسُ مَجِيءُ الْخِلَافِ وَانْعِكَاسُ الْقَوْلِ الثَّانِي

فصل

وَقَوْلُ الْمُزَنِيِّ. وَلَوْ حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ رَمَضَانَ، ثُمَّ شَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ مَاتَ فِي شَوَّالٍ، فَهَلْ يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَتَانِ مَعًا؟ خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا لَوْ بَانَ فِسْقُ الشُّهُودِ بَعْدَ الْحُكْمِ. فَرْعٌ قَالَ لِسَالِمٍ: إِنْ مِتُّ فِي رَمَضَانَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلِغَانِمٍ: إِنْ مِتُّ فِي شَوَّالٍ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً تَقْتَضِي حُرِّيَّتَهُ، فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا لِلتَّعَارُضِ، وَالثَّانِي: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ سَالِمٍ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ وَهِيَ حُدُوثُ الْمَوْتِ فِي رَمَضَانَ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ غَانِمٍ. فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّعَارُضِ، فَعَلَى السُّقُوطِ يَرِقُّ الْعَبْدَانِ، وَعَلَى الْقِسْمَةِ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ نِصْفَهُ، وَلَوْ قَالَ لِسَالِمٍ: إِنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي فَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ لِغَانِمٍ: إِنْ بَرِئْتُ مِنْهُ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَأَقَامَ سَالِمٌ بَيِّنَةً بِمَوْتِهِ، وَغَانِمٌ بَيِّنَةً بِبُرْئِهِ، فَهَلْ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ سَالِمٍ أَمْ غَانِمٍ، أَمْ يَتَعَارَضَانِ؟ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهُمَا: الثَّالِثُ، فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي التَّعَارُضِ. وَقِيلَ: إِذَا وُجِدَ التَّعَارُضُ فِي مِثْلِ هَذَا غَلَبَتِ الْحُرِّيَّةُ. قُلْتُ: مَعْنَى تَغْلِيبِهَا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِسُقُوطِ الْبَيِّنَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ مَنِ ادَّعَى وِرَاثَةَ شَخْصٍ، وَطَلَبَ تَرِكَتَهُ، أَوْ شَيْئًا مِنْهَا، فَلْيُبَيِّنْ جِهَةَ الْوِرَاثَةِ مِنْ بُنُوَّةٍ أَوْ أُخُوَّةٍ وَغَيْرِهِمَا. وَذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي لِطَلَبِ التَّرِكَةِ ذِكْرُ الْجِهَةِ، بَلْ يُذْكَرُ مَعَهَا الْوِرَاثَةُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَخُوهُ وَوَارِثُهُ، وَإِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِبَاطِنِ حَالِ الْمَيِّتِ أَنَّ هَذَا ابْنُهُ، لَا نَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ، دُفِعَتْ إِلَيْهِ التَّرِكَةُ. وَإِنْ شَهِدَا لِصَاحِبِ فَرْضٍ دُفِعَ إِلَيْهِ فَرْضُهُ، وَلَا يُطَالَبَانِ بِضَمِينٍ. وَذَكَرَ الْفُورَانِيُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ

هُنَا ثَلَاثَةُ شُهُودٍ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي شَهَادَةِ الْإِفْلَاسِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الشُّهُودُ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، أَوْ كَانُوا مَنْ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ، فَالْمَشْهُودُ لَهُ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ، الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَلَا يُعْطَى شَيْئًا فِي الْحَالِ، بَلْ يَبْحَثُ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الْمَيِّتِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي سَكَنَهَا أَوْ طَرَقَهَا، فَيَكْتُبُ إِلَيْهَا الِاسْتِكْشَافَ، أَوْ يَأْمَرُ مَنْ يُنَادِي فِيهَا: إِنَّ فُلَانًا مَاتَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ، فَلْيَأْتِ الْقَاضِي، أَوْ لِيَبْعَثْ إِلَيْهِ. فَإِذَا بَحَثَ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِي مِثْلِهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ هُنَاكَ، لَظَهَرَ وَلَمْ يَظْهَرْ، دَفَعَ الْمَالَ إِلَى الْمَشْهُودِ لَهُ. وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ كَالِابْنِ دُفِعَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يُحْجَبُ كَالْأَخِ، فَلَا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ، فَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضَمِينٌ؟ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجِبُ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ قَطْعًا، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ يُحْجَبُ، وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ: إِنْ كَانَ ثِقَةً مُوسِرًا، لَمْ يَجِبْ، وَإِلَّا فَيَجِبُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ دُفِعَ إِلَيْهِ أَقَلُّ فَرْضِهِ عَائِلًا مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ، فَالزَّوْجَةُ تُعْطَى رُبُعَ الثَّمَنِ عَائِلًا، لِاحْتِمَالِ أَبَوَيْنِ وَبِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ، وَالزَّوْجُ يُعْطَى الرُّبُعَ عَائِلًا، لِاحْتِمَالِ أَبَوَيْنِ وَبِنْتَيْنِ مَعَهُ، وَالْأَبُ السُّدُسَ عَائِلًا عَلَى تَقْدِيرِ أَبَوَيْنِ وَبِنْتَيْنِ وَزَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ عَائِلًا عَلَى تَقْدِيرِ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ، وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ، وَزَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ مَعَهَا. وَلَوْ حَضَرَ مَعَ الزَّوْجَةِ ابْنٌ، أُعْطِيَتْ رُبُعَ الثَّمَنِ غَيْرَ عَائِلٍ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَعُولُ إِذَا كَانَ فِيهَا ابْنٌ. ثُمَّ إِذَا بَحَثَ وَلَمْ يَظْهَرْ غَيْرُ الْمَشْهُودِ لَهُ، أُعْطِيَ تَمَامَ حَقِّهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يُعْطَى تَمَامَ حَقِّهِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِ الْأَخِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْطَ شَيْئًا، لَصَارَ مَحْرُومًا بِالْكُلِّيَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلَا يُؤْخَذُ ضَمِينٌ

لِلْمُتَيَقِّنِ، وَفِي أَخْذِهِ الزِّيَادَةَ الْخِلَافُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ، لَمْ يُعْطَ شَيْئًا قَبْلَ الْبَحْثِ، وَبَعْدَ الْبَحْثِ يُعْطَى عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ فِيمَنْ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ وَهُوَ مِمَّنْ يُحْجَبُ. وَلَوْ قَطَعَ الشُّهُودُ بِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ، فَقَدْ أَخْطَئُوا بِالْقَطْعِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا تَبْطُلُ بِهِ شَهَادَتُهُمْ. وَلَوْ قَالُوا: هَذَا ابْنُهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا كَوْنَهُ وَارِثَهُ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ابْنًا غَيْرَ وَارِثٍ، وَجَعَلَ الْعِرَاقِيُّونَ هَذِهِ الصُّورَةَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنِ الشُّهُودُ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ، أَوْ كَانُوا وَلَمْ يَقُولُوا: لَا وَارِثَ سِوَاهُ، وَقَالُوا: يُنْزَعُ الْمَالُ مِنْ يَدِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَيُدْفَعُ الْمَالُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبَحْثِ الْمَذْكُورِ، وَنَقَلُوا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِيمَا إِذَا شَهِدُوا بِأَنَّهُ أَخُوهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْوِرَاثَةَ، أَنَّهُ لَا يُعْطَى شَيْئًا بَعْدَ الْبَحْثِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَحْجُبُهُ غَيْرُهُ فَقَرَابَتُهُ مُوَرِّثَةٌ وَالْأَخُ يَحْجُبُهُ غَيْرُهُ فَقَرَابَتُهُ غَيْرُ مُوَرِّثَةٍ بِمُجَرَّدِهَا. وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِي الِابْنِ مَا ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَحَكَى فِي الْأَخِ وَجْهَيْنِ، فَحَصَلَ فِيهِمَا وَجْهَانِ. فَرْعٌ لَوْ قَالُوا: لَا نَعْرِفُ لَهُ فِي الْبَلَدِ وَارِثًا سِوَاهُ، لَمْ يُعْطَ شَيْئًا، وَلَا يَصِحُّ الضَّمَانُ الْمَذْكُورُ حَتَّى يُدْفَعَ إِلَيْهِ الْمَالُ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِي الْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ: مِنَ الْأُصُولِ الْمُمَهَّدَةِ أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَبْدَيْنِ. كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ مَالِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ، يَنْحَصِرُ الْعِتْقُ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا، أَقْرَعَ، فَإِنْ عُلِمَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُعْلَمْ عَيْنُهُ، فَهَلْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، أَمْ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ؟ قَوْلَانِ،

أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي، وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ الْأَوَّلُ. وَلَوْ عُلِمَ عَيْنُ السَّابِقِ، ثُمَّ جُهِلَتْ، فَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ نِصْفُهُ. وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدَيْنِ بِالْمَوْتِ، أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِمَا وَمَاتَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثُ مَالِهِ، أَقْرَعَ، سَوَاءٌ وَقَعَ التَّعْلِيقَانِ أَوِ الْوَصِيَّتَانِ مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا. وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّ الْمَرِيضَ أَعْتَقَ سَالِمًا وَبَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَعْتَقَ غَانِمًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثَ مَالِهِ، فَإِنْ أُرِّخَتَا تَارِيخًا مُخْتَلِفًا، عَتَقَ مَنْ أَعْتَقَهُ أَوَّلًا، وَإِنِ اتَّحَدَ تَارِيخُهُمَا، أَقْرَعَ، وَإِنْ أُطْلِقَتْ إِحْدَاهُمَا، فَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يُقْرَعُ، لِاحْتِمَالِ التَّرْتِيبِ وَالْمَعِيَّةِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: احْتِمَالُ التَّرْتِيبِ أَقْرَبُ، وَأَغْلَبُ مِنِ احْتِمَالِ الْمَعِيَّةِ، وَالسَّابِقُ مِنْهُمَا غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَتَعَارَضَتَا، وَأُطْلِقَتَا، عَرَفْنَا أَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ سَابِقٌ، وَلَمْ نَعْرِفْهُ بِعَيْنِهِ، فَيَجِيءُ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، أَمْ يُعْتَقُ مَنْ كُلِّ عَبْدٍ نِصْفُهُ؟ وَمِنْ فُرُوعِ الْقَوْلَيْنِ مَا لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَتَانِ كَذَلِكَ، لَكِنَّ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ سُدُسُ الْمَالِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقُرْعَةِ، فَخَرَجَتْ لِلْعَبْدِ الْخَسِيسِ، عَتَقَ وَعَتَقَ مَعَهُ نِصْفُ الْآخَرِ لِيُكْمِلَ الثُّلُثَ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلنَّفِيسِ، عَتَقَ وَحْدَهُ، وَإِنْ قُلْنَا هُنَاكَ: يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ، فَهَاهُنَا وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَاهُ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلِثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِسُدُسِهِ، أَعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثَيْ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ. وَالثَّانِي: يُعْتَقُ مِنَ النَّفِيسِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَمِنَ الْخَسِيسِ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ سَبَقَ عِتْقُ النَّفِيسِ عَتَقَ كُلُّهُ، وَإِنْ سَبَقَ الْخَسِيسُ فَنَصِفُ النَّفِيسِ بَعْدَهُ حُرٌّ، فَأَحَدُ نِصْفَيْهِ حُرٌّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَالنِّزَاعُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي وَهُوَ قَدْرُ سُدُسِ الْمَالِ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، فَيُعْتَقُ مِنَ النَّفِيسِ رُبُعٌ آخَرُ، وَمِنَ الْخَسِيسِ نِصْفُهُ. وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَتَانِ بِتَعْلِيقِ عِتْقِ عَبْدَيْنِ

فصل

بِالْمَوْتِ أَوْ بِالْوَصِيَّةِ بِإِعْتَاقِهِمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثُ الْمَالِ، وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ أُطْلِقَتِ الْبَيِّنَتَانِ أَوْ أُرِّخَتَا؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَيْنِ بِالْمَوْتِ كَالْوَاقِعَيْنِ مَعًا فِي الْمَرَضِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ، وَالثَّانِي: يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ نِصْفُهُ. فَصْلٌ لَا فَرْقَ فِي شُهُودِ الْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ [بَيْنَ] أَنْ يَكُونُوا أَجَانِبَ، أَوْ مِنْ وَرَثَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. فَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، وَأَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ أَيْضًا، قُبِلْتَ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى، وَتَثْبُتُ بِهَا الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا لِلرُّجُوعِ بَدَلًا يُسَاوِيهِ، فَارْتَفَعَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُمَا، وَلَا نَظَرَ إِلَى تَبْدِيلِ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ قَدْ لَا يَكُونُ أَهْدَى لِجَمْعِ الْمَالِ، وَقَدْ لَا يُوَرَّثُ بِالْوَلَاءِ، وَمُجَرَّدُ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَوْ رُدِّتْ بِهِ الشَّهَادَةُ، لَمَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ قَرِيبٍ لِمَنْ يَرِثُهُ. هَذَا إِذَا كَانَ الْوَارِثَانِ عَدْلَيْنِ، فَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ، لَمْ يَثْبُتِ الرُّجُوعُ بِقَوْلِهِمَا، فَيَحْكُمُ بِعِتْقِ غَانِمٍ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، وَيُعْتَقُ مِنْ سَالِمٍ قَدْرُ مَا يَحْتَمِلُهُ ثُلُثُ الْبَاقِي مِنَ الْمَالِ بَعْدَ غَانِمٍ وَهُوَ الثُّلُثَانِ، وَكَأَنَّ غَانِمًا هَلَكَ أَوْ غُصِبَ مِنَ التَّرِكَةِ. فَإِنْ قَالَ الْوَارِثَانِ: أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلرُّجُوعِ عَنْ عِتْقِ غَانِمٍ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِيمَا لَوْ كَانَتِ الْبَيِّنَتَانِ أَجَانِبَ، فَالْمَذْهَبُ الْقُرْعَةُ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، ثَانِيهِمَا: يُعَتَقُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ نِصْفُهُ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَكِنَّ سَالِمَ سُدُسُ الْمَالِ، فَالْوَارِثَانِ مُتَّهَمَانِ بِرَدِّ الْعِتْقِ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يُثْبِتَا لَهُ بَدَلًا. وَفِي الْبَاقِي الْخِلَافُ فِي تَبْعِيضِ

الشَّهَادَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَبْعِيضَ، وَبِهِ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِيهِ أَيْضًا، وَيُعْتَقُ الْعَبْدَانِ، الْأَوَّلُ بِشَهَادَةِ الْأَجَانِبِ، وَالثَّانِي بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا جَائِزَيْنِ، عَتَقَ مِنْهُ قَدْرُ مَا يَسْتَحِقَّانِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: تُبَعَّضُ، عَتَقَ نِصْفُ الْأَوَّلِ، وَكُلُّ الثَّانِي. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْبَاقِي، فَتَبْقَى الشَّهَادَةُ بِالْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ الْعَبْدَيْنِ، فَيَقْرَعُ كَمَا سَبَقَ، وَهَذَا الْخِلَافُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ وَصِيَّةٌ أُخْرَى. فَإِنْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَقَامَتِ الْبَيِّنَتَانِ لِغَانِمٍ وَسَالِمٍ كَمَا ذَكَرْنَا، قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْوَرَثَةِ بِالرُّجُوعِ عَنْ وَصِيَّةِ غَانِمٍ؛ لِأَنَّ لِلْوَرَثَةِ رَدَّ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، فَلَيْسَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرُّجُوعِ تُهْمَةٌ، فَيُجْعَلُ الثُّلُثُ أَثْلَاثًا بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَعِتْقِ سَالِمٍ، فَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الثُّلُثِ، وَيُعْتَقُ مِنْ سَالِمٍ ثُلُثَاهُ، وَهُوَ ثُلُثُ الثُّلُثِ، هَكَذَا ذَكَرُوهُ، لَكِنْ بِرَدِّ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لَا يُوجِبُ حِرْمَانَ بَعْضِ أَصْحَابِ الْوَصَايَا، بَلْ يُوَزَّعُ عَلَيْهِمُ الثُّلُثُ. وَقَبُولُ شَهَادَةِ الثُّلُثِ تُوجِبُ إِرْقَاقَ غَانِمٍ وَحِرْمَانَهُ، وَهُوَ مَحَلُّ تُهْمَةٍ، لِتَعَلُّقِ الْأَغْرَاضِ بِأَعْيَانِ الْعَبِيدِ. فَإِنْ كَانَ الْوَارِثَانِ فَاسِقَيْنِ عَتَقَ غَانِمٌ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، وَعَتَقَ سَالِمٌ بِإِقْرَارِهِمَا. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ غَانِمٍ سُدُسَ الْمَالِ، وَسَالِمٍ ثُلُثَهُ، قُبِلَ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ وَصِيَّةِ غَانِمٍ، وَأُعْتِقَ سَالِمٌ. فَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ عَتَقَ الْأَوَّلُ، وَعَتَقَ مِنْ سَالِمٍ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْبَاقِي مِنَ الْمَالِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ سَالِمٍ، وَكَأَنَّ الْأَوَّلَ تَلِفَ. وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ نُجِزَ عِتْقُ غَانِمٍ فِي الْمَرَضِ وَوَارِثَانِ أَنَّهُ نُجِزَ عِتْقُ سَالِمٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ثُلُثُ الْمَالِ، نُظِرَ، إِنْ كَذَبَ الْوَارِثَانِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَقَالَا: لَمْ يُعْتِقْ غَانِمًا، وَإِنَّمَا أَعْتَقَ سَالِمًا، عَتَقَ الْعَبْدَانِ [فَإِنْ] لَمْ يَكُونَا جَائِزَيْنِ، عَتَقَ مِنْ سَالِمٍ قَدْرُ حِصَّتِهِمَا، وَاسْتَدْرَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ: قِيَاسُ مَا سَبَقَ أَنْ لَا يُعْتَقَ مِنْ سَالِمٍ إِلَّا قَدْرُ مَا يَحْتَمِلُهُ ثُلُثُ الْبَاقِي مِنَ الْمَالِ بَعْدَ

فصل

عِتْقِ غَانِمٍ، وَكَأَنَّ غَانِمًا تَلِفَ، وَهَذَا حَسَنٌ. وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبَاهُمَا، بَلْ قَالَا: أَعْتَقَ سَالِمًا، وَلَا يُدْرَى هَلْ أَعْتَقَ غَانِمًا أَمْ لَا. فَإِنْ كَانَ الْوَارِثَانِ عَدْلَيْنِ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِيمَا لَوْ كَانَ شُهُودُ الْعَبْدَيْنِ أَجَانِبَ، وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ، عَتَقَ غَانِمٌ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ. وَأَمَّا سَالِمٌ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَتَابَعَهُ كَثِيرُونَ: يُعْتَقُ مِنْهُ نِصْفُهُ إِذَا قُلْنَا: يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ لَوْ كَانَا عَدْلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هَذَا سَهْوٌ، وَصَوَابُهُ أَنْ يُعْتَقَ خُمُسَاهُ، وَذُكِرَ تَوْجِيهُهُ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ. وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ لِغَانِمٍ، وَوَارِثَانِ لِسَالِمٍ كَمَا ذَكَرْنَا، إِلَّا أَنَّ سَالِمًا سُدُسُ الْمَالِ، فَإِنْ كَذَّبَ الْوَارِثَانِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، عَتَقَا جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبَاهُمَا، فَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ شُهُودُ الْعَبْدَيْنِ أَجَانِبَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ، فَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ الْأَوَّلَ حُرٌّ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ، انْحَصَرَ الْعِتْقُ فِيهِ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلثَّانِي، عَتَقَ الْأَوَّلُ بِالشَّهَادَةِ، وَعَتَقَ مِنَ الثَّانِي ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ بِإِقْرَارِ الْوَارِثَيْنِ، قَالَ: وَقِيَاسُ هَذَا أَنْ يُقْرَعَ أَيْضًا إِذَا كَانَ كُلُّ عَبْدٍ ثُلُثَ الْمَالِ وَالْوَارِثَانِ فَاسِقَانِ، وَكَأَنَّ هَذَا جَوَابٌ عَلَى قَوْلِ الْقُرْعَةِ فِيمَا إِذَا كَانَ الشُّهُودُ كُلُّهُمْ أَجَانِبَ، وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ عَلَى قَوْلِ الْقِسْمَةِ. فَصْلٌ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ فُلَانًا الْمَيِّتَ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِالثُّلُثِ، وَآخَرَانِ أَنَّهُ أَوْصَى لِبَكْرٍ بِالثُّلُثِ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ، فَإِنْ قَالَ الْآخَرَانِ: رَجَعَ عَنْ زَيْدٍ، وَأَوْصَى لِبَكْرٍ بِالثُّلُثِ، سُلِّمَ لَهُ الثُّلُثُ، وَيَسْتَوِي فِي شَهَادَةِ الرُّجُوعِ الْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ إِذَا جَرَى ذَكْرُ بَدَلٍ. وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ وَصِيَّةِ بَكْرٍ أَيْضًا، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ لِعَمْرٍو، سُلِّمَ الثُّلُثُ لَهُ. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِزَيْدٍ، وَاثْنَانِ أَنَّهُ أَوْصَى لِبَكْرٍ، ثُمَّ شَهِدَ

اثْنَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إِحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ، فَإِنْ عَيَّنَا الْمَرْجُوعَ عَنْهَا، ثَبَتَ الرُّجُوعُ، وَكَانَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْآخَرِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَيْسَ لِلْآخَرِ إِلَّا السُّدُسُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الثُّلُثُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَصِيَّتَهُ وَقَعَتْ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى. إِنْ لَمْ يُعَيِّنَا الْمَرْجُوعَ عَنْهَا، نَصَّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا. وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِبْهَامُ الشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ يَمْنَعُ قَبُولَهَا، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا، وَقَالَ الْقَفَّالُ: تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَحْتَمِلُ الْإِبْهَامَ، وَيُقَسَّمُ الرُّجُوعُ بَيْنَهُمَا وَكَأَنَّهُ رَدَّ وَصِيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى السُّدُسِ، فَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِالسُّدُسِ، وَأُخْرَى لِعَمْرٍو بِالسُّدُسِ أَيْضًا، وَأُخْرَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إِحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ: لَا يُقْبَلُ شَهَادَةُ الرُّجُوعِ الْمُبْهَمِ، وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ السُّدُسَ الْمُوصَى بِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَفَّالِ: تُقْبَلُ وَكَأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ نِصْفِ كُلِّ وَصِيَّةٍ، فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ سُدُسٍ. الْبَابُ السَّادِسُ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِأَدَبِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَاتِ وَالدَّعَاوَى؛ لِأَنَّهَا يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَغَيْرِهِ فِي إِحْضَارِ الْخَصْمِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، لَكِنْ لَا يُحْضَرُ إِذَا صَعَدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ حَتَّى يَفْرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْيَهُودِيُّ يَحْضُرُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَيُكْسَرُ عَلَيْهِ سَبْتُهُ. شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ غَصَبَ كَذَا، أَوْ سَرَقَهُ غَدْوَةً، وَآخَرَانِ أَنَّهُ غَصَبَهُ، أَوْ سَرَقَهُ عَشِيَّةً، تَعَارَضَتَا وَلَا يُحْكَمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ هَكَذَا، وَآخَرُ هَكَذَا حَيْثُ يَحْلِفُ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَيَأْخُذُ الْغُرْمَ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلَا تَعَارُضَ. شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى إِتْلَافِ ثَوْبٍ قِيمْتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَآخَرُ عَلَى إِتْلَافِ

ذَلِكَ الثَّوْبِ بِعَيْنِهِ، وَقَالَ قِيمَتُهُ ثُمُنُ دِينَارٍ، يَثْبُتُ الْأَقَلُّ وَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الْآخَرِ. وَلَوْ شَهِدَ بَدَلُ الْوَاحِدِ وَالْوَاحِدِ اثْنَانِ وَاثْنَانِ ثَبَتَ الْأَقَلُّ أَيْضًا وَتَعَارَضَتَا فِي الزِّيَادَةِ. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ وَزْنَ الذَّهَبِ الَّذِي أَتْلَفَهُ نِصْفُ دِينَارٍ، وَآخَرَانِ أَنَّ وَزَنَهُ دِينَارٌ، ثَبَتَ الدِّينَارُ؛ لِأَنَّ مَعَ شَاهِدَيْهِ زِيَادَةَ عِلْمٍ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ، فَإِنَّ مَدْرَكَهَا الِاجْتِهَادُ، وَقَدْ يَقِفُ شَاهِدُ الْقَلِيلِ عَلَى عَيْبٍ. وَلَوِ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ وَلَدُ أَمَتِهِ، لَمْ يُقْضَ لَهُ بِهَا، فَقَدْ تَلِدُ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَهَا، فَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ وَلَدُ أَمَتِهِ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ فَنَصَّ أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِمِلْكٍ سَابِقٍ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ. وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الشَّاةَ نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، وَهَذِهِ الثَّمَرَةُ حَصَلَتْ فِي مِلْكِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ فِي مِلْكِهِ، وَلَا يَكْفِي نِتَاجُ شَاتِهِ، وَثَمَرُ شَجَرَتِهِ. وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الْغَزْلَ مِنْ غَزْلِهِ، أَوِ الْفَرْخَ مِنْ بَيْضِهِ، وَالدَّقِيقَ مِنْ حِنْطَتِهِ، أَوِ الْخُبْزَ مِنْ دَقِيقِهِ، كَفَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْنُ مَالِهِ تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ. وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى رِقِّ شَخْصٍ، وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، فَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ وَهُوَ إِثْبَاتُ الرِّقِّ. وَلَوِ ادَّعَى دَيْنًا، وَشَهِدَ بِهِ اثْنَانِ، لَكِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا مُتَّصِلًا بِشَهَادَتِهِ: إِنَّهُ قَضَاهُ، أَوْ أُبْرِئَ مِنْهُ، فَشَهَادَتُهُ بَاطِلَةٌ لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ مَفْصُولًا عَنِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يُؤَثِّرْ. وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يُحَلَّفَ مَعَهُ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ، سُئِلَ: مَتَى قَضَاهُ؟ فَإِنْ قَالَ: قَبْلَ أَنْ شَهِدْتُ،

فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاصِّ. وَذَكَرَ فِيمَا إِذَا شَهِدَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ شَاهِدَانِ، ثُمَّ عَادَ أَحَدُهُمَا، وَقَالَ: قَضَاهُ أَوْ أَبْرَأَهُ بَعْدَ أَنْ شَهِدْتُ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَبْطُلُ، بَلْ يُحْكَمُ بِالدَّيْنِ وَيُؤْخَذُ، إِلَّا أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ شَاهِدِ الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ شَهِدَ عَلَى نَفْسِ الْحَقِّ، وَالْقَضَاءُ وَالْإِبْرَاءُ يُنَافِيَانِهِ، فَبَطَلَتِ الشَّهَادَةُ، وَهُنَا شَهِدَ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَالْقَضَاءُ وَالْإِبْرَاءُ لَا يُنَافِيَانِهِ، فَلَا تَبْطُلُ الشَّهَادَةُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى نَفْسِ الْحَقِّ لَا تَبْطُلُ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ، الْخِلَافُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى أَلْفًا، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلٍ، لَكِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَضَى مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ، فَفِي وَجْهٍ: لَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُمَا إِلَّا فِي خَمْسِمِائَةٍ، لَكِنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ لِبَاقِي الْأَلْفِ مَعَ الشَّاهِدِ الْآخَرِ. وَفِي وَجْهٍ: تَصِحُّ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْأَلْفِ، وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِ الْقَضَاءِ. وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَيَقْرُبْ مِنْهُ قَوْلَانِ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ فَلَانًا وَكَّلَ فُلَانًا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: عَزَلَهُ بَعْدَ أَنْ شَهِدْتُ، فَفِي قَوْلٍ: تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ. وَفِي قَوْلٍ: تَثْبُتُ شَهَادَةُ الْوَكَالَةِ، فَيُعْمَلُ بِهَا، وَالْعَزْلُ لَا يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ. ادَّعَى شَرِيكَانِ فَأَكْثَرُ حَقًّا عَلَى رَجُلٍ فَأَنْكَرَ، يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَمِينًا، فَإِنْ رَضِيَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الْمَنْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِعِتْقِهِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنِ الشَّهَادَةِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ إِلَّا الثُّلُثَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلْأَوَّلِ رَقَّ الثَّانِي، وَيُغَرَّمُ الرَّاجِعَانِ قِيمَةَ

الْأَوَّلِ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ خَرَجَتْ لِلثَّانِي عَتَقَ وَرَقَّ الْأَوَّلُ، وَلَا غُرْمَ عَلَى الرَّاجِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَلَقَّيَاهُ. قَالَ: وَعِنْدِي يُعْتَقُ الثَّانِي بِلَا قُرْعَةٍ، وَعَلَى الرَّاجِعَيْنِ قِيمَةُ الْأَوَّلِ لِلْوَرَثَةِ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِكَذَا، وَآخَرُ أَنَّهُ فَوَّضَهُ إِلَيْهِ، أَوْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، ثَبَتَتِ الْوَكَالَةُ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: وَكَّلْتُكَ بِكَذَا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوَكَالَتِهِ، لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ ثَبَتَ الْبَيْعُ. وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ، وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَأَعْتَقَهُ، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَنَقَدَ الثَّمَنَ، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، تَعَارَضَتَا، وَذِكْرُ الْعِتْقِ لَا يَقْتَضِي تَرْجِيحًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُرَجَّحُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ كَالْقَبْضِ، نَصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى دَابَّةً فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ، وَنَظَرَ الْحَاكِمُ فِي سَنِّهَا، فَإِذَا لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ فَقَطْ، لَمْ يَقْبَلِ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّهَا كَذِبٌ، وَأَنَّ الْمُسَّنَاةَ الْحَائِلَةَ بَيْنَ نَهْرِ شَخْصٍ وَأَرْضِ آخَرَ، يُجْعَلُ بَيْنَهُمَا كَالْجِدَارِ الْحَائِلِ. وَلَوِ ادَّعَى مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى إِنْسَانٍ، فَقَالَ: قَبَضْتُ خَمْسِينَ، لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالْمِائَةِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: قَضَيْتُ مِنْهَا خَمْسِينَ. وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُضِيَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَمَا اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِالْيَدِ عَلَيْهِ حِسًّا أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ بِيَمِينِهِ، وَمَا كَانَ فِي يَدِهِمَا حِسًّا، أَوْ فِي الْبَيْتِ الَّذِي يَسْكُنَانِهِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ تَحْلِيفُ الْآخَرِ، فَإِنْ حَلَفَا جُعِلَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ قُضِيَ لِلْحَالِفِ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي دَوَامِ النِّكَاحِ، أَمْ بَعْدَ الْفِرَاقِ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَا هُمَا أَوْ وَرَثَتُهُمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا وَوَرَثَةُ الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ مَا يَصْلُحُ لِلزَّوْجِ كَالسَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ، أَوْ لِلزَّوْجَةِ

فصل

كَالْحُلِيِّ وَالْغَزْلِ، أَوَّلُهُمَا. وَلَوِ اخْتَلَفَ مَالِكُ الدَّارِ وَسَاكِنُهَا بِالْإِجَارَةِ فِي مَتَاعِ الدَّارِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِي رَفٍّ فِيهَا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مُسَمَّرًا أَوْ مُثَبَّتًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ، وَإِلَّا فَهُوَ بَيْنُهُمَا، نَصَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ تَنَازَعَا أَرْضًا وَلِأَحَدِهِمَا فِيهَا زَرْعٌ أَوْ بِنَاءٌ أَوْ غِرَاسٌ، فَهِيَ فِي يَدِهِ، أَوْ دَابَّةً أَوْ جَارِيَةً حَامِلًا، وَالْحَمْلُ لِأَحَدِهِمَا بِالِاتِّفَاقِ، فَهِيَ فِي يَدِهِ، أَوْ دَارٌ لِأَحَدِهِمَا فِيهَا مَتَاعٌ، فَهِيَ فِي يَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَتَاعُ إِلَّا فِي بَيْتٍ لَمْ يُجْعَلْ فِي يَدِهِ إِلَّا ذَلِكَ الْبَيْتُ، هَكَذَا ذَكَرُوهُ. وَلَوْ تَنَازَعَا عَبْدًا، وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ ثِيَابٌ، لَمْ يُجْعَلْ صَاحِبَ يَدٍ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الثَّوْبِ الْمَلْبُوسِ تَعُودُ إِلَى الْعَبْدِ، لَا إِلَى الْمُدَّعِي. وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ: اسْتَأْجَرْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ سَنَةً فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ، وَقَالَ آخَرُ: اسْتَأْجَرْتُهَا مِنْهُ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً، فَقَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْفُورَانِيُّ، الْمَشْهُورُ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ رَمَضَانَ لِسَبْقِ تَارِيخِهَا. وَالثَّانِي: بَيِّنَةُ شَوَّالٍ؛ لِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا تَقَايَلَا، وَاسْتَأْجَرَ الثَّانِي فِي شَوَّالٍ، وَيَجِيءُ هَذَا فِي بَيِّنَتَيِ الْبَيْعِ عَلَى ضَعْفِهِ. قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذَا ابْنُهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ، وَبَيِّنَةٌ أَنَّ هَذَا الْآخَرَ ابْنُهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ، ثَبَتَ نَسَبُهُمَا، فَلَعَلَّ كُلَّ بَيِّنَةٍ اطَّلَعَتْ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى. فَصْلٌ فِيمَا جُمِعَ مِنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ. أَنَّ الضَّيْعَةَ إِذَا صَارَتْ مَعْلُومَةً بِثَلَاثَةِ حُدُودٍ، جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِهَا، وَهَذَا خِلَافُ مَا سَبَقَ فِي بَابِ

الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ إِطْلَاقِ ابْنِ الْقَاصِّ. قَالَ الْقَفَّالُ: لَكِنْ لَوْ ذَكَرَ الشُّهُودُ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ وَأَخْطَئُوا فِي وَاحِدٍ، لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمْ، فَتَرْكُ الذِّكْرِ خَيْرٌ مِنَ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَخْطَئُوا لَمْ يَكُنْ بِتِلْكَ الْحُدُودِ ضَيْعَةٌ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِذَا غَلِطَ الْمُدَّعِي، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ دَارٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ صَادِقًا. وَإِذَا حَلَفَ كَانَ بَارًّا. وَإِنْ لَمْ يُنْكِرْ، وَقَالَ: لَا أَمْنَعُهُ الدَّارَ الَّتِي يَدَّعِيهَا، سَقَطَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ ذَهَبَ إِلَى الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِهِ لِيَدْخُلَهَا، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَيَقُولُ: هِيَ غَيْرُ مَا ادَّعَيْتَ، فَأَمَّا إِذَا أَصَابَ فِي الْحُدُودِ، فَقَالَ: لَا أَمْنَعُكَ مِنْهَا، فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ إِذَا ذَهَبَ لِيَدْخُلَهَا، فَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ غَلِطَ فِي الْحُدُودِ، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ: لَا أَمْنَعُكَ؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِي يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ صَارَتْ فِي يَدِي وَمِلْكِي، قُبِلَ مِنْهُ، وَلَهُ الْمَنْعُ إِذَا حَلَفَ. وَفِيهِ أَنَّ دَعْوَى الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا تُسْمَعُ إِنْ لَمْ يَشْتَرِ، وَلَمْ يَبِعْ شَيْئًا. وَإِنِ اشْتَرَى ثَوْبًا، وَجَاءَ الْبَائِعُ يُطْلَبُ الثَّمَنَ مِنْ كَسْبِهِ، فَأَنْكَرَ، السَّيِّدُ الْإِذْنَ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّفَهُ عَلَى نَفْيِ الْإِذْنِ، فَإِنْ حَلَفَ فَلِلْعَبْدِ أَنْ يُحَلِّفَهُ مَرَّةً أُخْرَى، لِيَسْقُطَ الثَّمَنُ عَنْ ذِمَّتِهِ. وَإِنْ بَاعَ الْعَبْدُ عَيْنًا لِلسَّيِّدِ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَتَلِفَ فِي يَدِهِ، فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي تِلْكَ الْعَيْنَ فَقَالَ السَّيِّدُ: لَمْ آذَنْ لَهُ فِي الْبَيْعِ، حَلَفَ، فَإِنْ حَلَفَ، حُكِمَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، وَالْعَبْدُ يُحَلِّفُهُ لِإِسْقَاطِهِ الثَّمَنَ عَنْ ذِمَّتِهِ. وَأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى أَلْفًا، وَأَقَامَ بِهِ شَاهِدًا، وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ، فَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَاهِدًا بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ عَلَيْهِ، فَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، فَإِذَا حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى

الْغَائِبِ وَعَلَى الْغَاصِبِ مِنَ الْغَاصِبِ، فَإِنِ ادَّعَى عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ الثَّوْبِ بِصِفَةِ كَذَا، أَوْ قِيمَتِهِ كَذَا، فَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الِانْتِزَاعِ لَزِمَهُ الِانْتِزَاعُ وَالرَّدُّ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ. وَأَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ اشْتَرَاهَا الْمُدَّعِي مِنْ فُلَانٍ، وَهُوَ يَمْلِكُهَا، وَلَمْ يَقُولُوا: هِيَ الْآنَ مِلْكُ الْمُدَّعِي، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ قَوْلَانِ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ مَلَكَهُ أَمْسِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ قَبُولُهَا. وَأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى قِصَاصًا، فَاقْتَصَّ الْحَاكِمُ بِرِوَايَةِ رَاوٍ رَوَى حَدِيثًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي الْوَاقِعَةِ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّاوِي، وَقَالَ: كَذَبْتُ وَتَعَمَّدْتُ، لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْوَاقِعَةِ. وَأَنَّهُ لَوْ غُصِبَ الْمَرْهُونُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، قَالَ الرَّاهِنُ فِي دَعْوَاهُ عَلَى الْغَاصِبِ: لِي ثَوْبٌ كُنْتُ رَهَنْتُهُ عِنْدَ فُلَانٍ، وَغَصَبْتُهُ مِنْهُ، وَيَلْزَمُهُ الرَّدُّ إِلَيَّ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لِي عِنْدَهُ ثَوْبٌ صِفَتُهُ كَذَا، وَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ إِلَيَّ، جَازَ وَلَا بُعْدَ فِي قَوْلِهِ: يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إِلَيَّ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ الرَّاهِنِ. وَلِهَذَا لَوْ نَازَعَهُ رَجُلٌ فِي الْمَرْهُونِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُهُ، وَأَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا دَخَلَ بَلَدًا لَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، إِنَّمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ أَنَّ فُلَانًا حُرُّ الْأَصْلِ إِذَا عُرِفَ حَالُ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَعُرِفَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ الْوِلَادَةَ، كَمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ، وَأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِتَارِيخٍ، تَعَارَضَتَا. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ اخْتِلَافِهِمَا إِذَا ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةً أَوْ مَعِيبَةً، وَأَرَادَ الرَّدَّ وَاسْتِرْدَادَ الثَّمَنِ. وَأَنَّهُ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ شَخْصٍ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، فَادَّعَاهَا آخَرُ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا [مِنْ] رَجُلٍ آخَرَ يَوْمَ كَذَا، وَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ كَانَ يَمْلِكُهَا يَوْمَئِذٍ، لَكِنْ

أَقَامَ بَيِّنَةً أُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَمْلُكُهَا يَوْمَئِذٍ، سُمِعَتَا، وَصَارَتَا كَبَيِّنَةٍ، فَيَحْصُلُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي الْأَوَّلِ. وَأَنَّهُ إِذَا ادَّعَى دَارًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَتَسَلَّمَهَا، فَادَّعَاهَا آخَرُ بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، أَوْ طَوِيلَةٍ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَكَانَ يَمْلِكُهَا يَوْمَئِذٍ، قُضِيَ بِالدَّارِ لِهَذَا الْأَخِيرِ، وَكَانَ كَمَا لَوْ أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ الِانْتِزَاعِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ بِيَدِهِ دَارٌ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ثَالِثٍ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا الثَّالِثُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْيَدِ، فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى الْبَيْعَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى هَذَا بَيِّنَةً، وَعَلَى هَذَا بَيِّنَةً، وَلَا بَأْسَ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَأَنَّ الشُّهُودَ إِذَا أَرَادُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ بِشِرَاءِ دَارٍ، تَبَدَّلَتْ حُدُودُهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ قَالُوا: اشْتَرَى دَارًا مَنْ وَقْتِ كَذَا مِنْ فُلَانٍ، وَهُوَ يَمْلِكُهَا، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يَنْتَهِي أَحَدُ حُدُودِهَا إِلَى كَذَا، وَالْبَاقِي إِلَى كَذَا، ثُمَّ الْمُدَّعِي يُقِيمُ بَيِّنَةً بِكَيْفِيَّةِ التَّبَدُّلِ. وَأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: عَرَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِلْكًا لِفُلَانٍ، وَقَدْ مَاتَ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى وَارِثِهِ، فَأَقِمْ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكِكَ مِنْهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَتَنْدَفِعُ بَيِّنَتُهُ. وَلْيَكُنْ هَذَا جَوَابًا عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِعِلْمِهِ. وَأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَيْسَتِ الدَّارُ فِي يَدِي، وَلَا أَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا، فَقَدْ أَسْقَطَ الدَّعْوَى عَنْ نَفْسِهِ، فَيَذْهَبُ الْمُدَّعِي إِلَى الدَّارِ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ أَحَدٌ فَذَاكَ، وَإِنْ دَفَعَ ادَّعَى عَلَى الدَّفْعِ، فَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: إِنَّهُ يَكْذِبُ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَتْ فِي يَدِي، وَلَا أُحَوِّلُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ. وَأَنَّهُ لَوْ بَاعَ دَارًا، فَقَامَتْ بَيِّنَةُ الْحِسْبَةِ أَنَّ أَبَا الْبَائِعِ وَقَفَهَا، وَهُوَ يَمْلِكُهَا عَلَى ابْنِهِ الْبَائِعِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ الْمَسَاكِينِ، نُزِعَتْ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْغَلَّةُ الْحَاصِلَةُ فِي حَيَاةِ الْبَائِعِ تُصْرَفُ إِلَى الْبَائِعِ إِنْ كَذَّبَ نَفْسَهُ، وَصَدَّقَ الشُّهُودَ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى إِنْكَارِ

فصل

الْوَقْتِ، لَمْ تُصْرَفْ إِلَيْهِ، بَلْ تُوقَفُ، فَإِذَا مَاتَ، صُرِفَتْ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ. وَلَوِ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ وَقَفَ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَيِّنَةِ يُشْعِرُ بِسَمَاعِ دَعْوَاهُ، وَتَحْلِيفِ خَصْمِهِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَكُنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَلَكَهُ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَيْعِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: لَوْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: وَأَنَا لَا أَمْلِكُهُ، ثُمَّ مَلَكْتُهُ بِالْإِرْثِ مِنْ فُلَانٍ، فَإِنْ قَالَ حِينَ بَاعَ: هُوَ مِلْكِي. لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَلَا بَيِّنَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِ: بِعْتُكَ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، حُلِّفَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ بَاعَهُ، وَهُوَ مِلْكُهُ، قَالَ: وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» وَغَلِطَ مَنْ قَالَ غَيْرَهُ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى أَنَّ الْمَبِيعَ وَقْفٌ عَلَيْهِ. فَصْلٌ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ عَشَرَةً، فَقَالَ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ هَذَا الْمَالِ الْيَوْمَ، لَا يُجْعَلُ مُقِرًّا ; لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَثْبُتُ بِالْمَفْهُومِ، وَإِنَّ بَيِّنَتَيِ الْمِلْكِ وَالْوَقْفِ تَتَعَارَضَانِ كَبَيِّنَتَيِ الْمِلْكِ. وَأَنَّهُ لَوْ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَأَخًا وَأُخْتَانِ، فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ الْمَتَاعَ كُلَّهُ لَهُ، جُعِلَ نِصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا لِلزَّوْجِ بِحُكْمِ الْيَدِ، وَالثَّانِي لِلْمَيِّتَةِ، وَيَحْلِفُ الزَّوْجُ عَلَى النِّصْفِ الَّذِي يُجْعَلُ لَهُ بِالْيَدِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً، فَادَّعَتِ الْكُلَّ، فَإِنْ كَانَ الْأَخُ غَائِبًا وَالْأُخْتُ حَاضِرَةً، حَلَفَ لَهَا، فَإِذَا حَضَرَ، حَلَفَ لَهُ، فَإِنْ أَقَامَتِ الْأُخْتُ بَيِّنَةً أَنَّ الْكُلَّ لَهَا وَلِأَخِيهَا، سُمِعَتْ، وَثَبَتَ حَقُّ الْأَخِ. وَأَنَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقَاضِي، لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ إِلَّا بِرِضَا خَصْمِهِ، أَوْ ثُبُوتِ إِعْدَامِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ، أَطْلَقَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ خَصْمُهُ. وَإِذَا

فصل

أَطْلَقَهُ بِرِضَا الْخَصْمِ، فَأَرَادَ إِقَامَةَ بَيِّنَةٍ بِإِعْدَامِهِ، لَمْ تُسْمَعْ ; لِأَنَّهُ لَا حَبْسَ عَلَيْهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اسْتَحَقَّ حَبْسَهُ. وَأَنَّ حَقَّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى سَطْحِهِ، أَوْ أَرْضِهِ، أَوْ طَرْحِ الثَّلْجِ فِي مِلْكِهِ، يَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ إِذَا رَآهُ مُدَّةً طَوِيلَةً بِلَا مَانِعٍ، وَلَا يَكْفِي قَوْلُ الشُّهُودِ: رَأَيْنَا ذَلِكَ سِنِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنَدَ شَهَادَتِهِمْ. فَصْلٌ سُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا دَارًا، فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهَا وَقْفٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً، فَحَكَمَ الْقَاضِي لِمُدَّعِي الْمِلْكِ، ثُمَّ ادَّعَى آخَرُ وَقْفَهَا، فَأَقَامَ مُدَّعِي الْمِلْكِ بَيِّنَةً عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي لَهُ بِالْمِلْكِ، وَأَقَامَ مُدَّعِي الْوَقْفِ بَيِّنَةً بِالْوَقْفِ، فَرَجَّحَ الْحَاكِمُ بَيِّنَةَ الْمِلْكِ ذَهَابًا إِلَى أَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي حُكِمَ بِهِ تَقَدَّمَ عَلَى الْوَقْفِ الَّذِي لَمْ يُحْكَمْ بِهِ، ثُمَّ تَنَازَعَ مُدَّعِي الْمِلْكِ، وَآخَرُ يَدَّعِي وَقْفِيَّتَهَا، فَأَقَامَ مُدَّعِي الْمِلْكِ بَيِّنَةً لِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَتَقْدِيمِ جَانِبِهِ، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً بِأَنَّ الْوَقْفَ الَّذِي يَدَّعِيهِ قُضِيَ بِصِحَّتِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْمِلْكِ، وَبِتَرْجِيحِهِ عَلَى الْوَقْفِ، هَلْ يَرْتَدُّ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يُقَدَّمُ الْحُكْمُ بِالْوَقْفِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمِلْكِ وَيَنْقُضُ الْحُكْمُ بِالْوَقْفِ الْحُكْمَ بِالْمِلْكِ. وَسُئِلَ عَمَّنِ اشْتَرَى ضَيْعَةً، وَبَقِيَتْ فِي يَدِهِ مُدَّةً، فَخَرَجَتْ وَقْفًا وَانْتُزِعَتْ، فَقَالَ: عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِهِ. وَعَنْ رَجُلٍ وَقَفَ مِلْكًا، وَأَقَرَّ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِصِحَّتِهِ، وَلَمْ يُسَمِّ الْحَاكِمَ وَلَا عَيَّنَهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَرَفَعَ الْأَمْرَ إِلَى حَاكِمٍ يَرَى جَوَازَ الرُّجُوعِ، فَهَلْ لَهُ الْحُكْمُ بِنُفُوذِ الرُّجُوعِ؟ قَالَ: لَا. فَصْلٌ فِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

فصل

اشْتَرَيْتُهَا مِنْ زَيْدٍ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي عَلَى إِقْرَارِ زَيْدٍ لَهُ بِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ، فَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى إِقْرَارِ الْمُدَّعِي لِزَيْدٍ بِهَا قُبَيْلَ الْبَيْعِ، وَجُهِلَ التَّارِيخُ، قُرِّرَتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَقَالَ: سَلَّمْتُ إِلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَأَنْكَرَ، وَأَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لَمْ تُسْمَعْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ ; لِأَنَّهَا تَشْهَدُ بِالنَّفْيِ، وَإِنَّمَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بِالنَّفْيِ فِي مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ، كَالْإِعْسَارِ. وَقَدْ يَقَعُ التَّسْلِيمُ فِي غَفْلَةٍ وَلَحْظَةٍ يَسِيرَةٍ. وَأَنَّهَا إِذَا ادَّعَتْ أَنَّهُ نَكَحَهَا وَطَلَّقَهَا، وَطَلَبَتْ نِصْفَ الْمَهْرِ، أَوْ أَنَّهَا زَوْجَةُ فُلَانٍ الْمَيِّتِ، وَطَلَبَتِ الْإِرْثَ، فَمَقْصُودُهُمُ الْمَالُ، فَيَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. فَصْلٌ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى نِكَاحَهَا، فَأَقَرَّتْ بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ مُنْذُ سَنَةٍ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهَا زَوْجَتُهُ نَكَحَهَا مِنْ شَهْرٍ، حُكِمَ لِلْمُقَرِّ لَهُ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهَا النِّكَاحُ الْأَوَّلُ، فَمَا لَمْ يُثْبِتِ الطَّلَاقَ، لَا حُكْمَ لِلنِّكَاحِ الثَّانِي. وَأَنَّهُ لَوْ تَحَاكَمَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ بِكْرٌ إِلَى فَقِيهٍ لِيُزَوِّجَهَا بِهِ، وَجَوَّزْنَا التَّحْكِيمَ فِيهِ، فَقَالَ الْمُحَكَّمُ: حَكَّمْتِنِي لِأُزَوِّجَكِ بِهَذَا، فَسَكَتَتْ؛ كَانَ سُكُوتُهَا إِذْنًا، كَمَا لَوِ اسْتَأْذَنَهَا الْوَلِيُّ فَسَكَتَتْ. وَأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ عِنْدَ الْقَاضِي رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، وَاسْتَدْعَتْ تَزْوِيجَهَا بِهِ، وَقَالَتْ: كُنْتُ زَوْجَةَ فُلَانٍ فَطَلَّقَنِي، أَوْ مَاتَ عَنِّي، لَا يُزَوِّجُهَا مَا لَمْ يَقُمْ حُجَّةٌ بِالطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ. فَصْلٌ عَنِ ابْنِ الْقَاصِّ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْحَلِفَ بِالطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَهِيَ بَائِنٌ مِنْهُ بِثَلَاثٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ: يَكْفِيهِ أَنَّهَا لَمْ تَبِنْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ

قَدْ يَحْلِفُ مُتَأَوِّلًا عَلَى مَذْهَبِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَتَابِعِيهِ أَنَّ الثَّلَاثَ لَا تَقَعُ مَجْمُوعَةً، أَوْ عَلَى تَصْحِيحِ الدَّوْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قَالَ: لَمْ تَبِنْ مِنِّي، حُلِّفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَحْلِفْ بِطَلَاقِهَا، حُلِّفَ عَلَيْهِ. حَكَى الْهَرَوِيُّ عَنِ الْعَبَّادِيِّ أَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ وَدِيعَةً، فَقَالَ: لَا يَلْزَمُنِي دَفْعُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، لَا يَكُونُ هَذَا جَوَابًا ; لِأَنَّ الْمُودِعَ لَا دَفْعَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا يَلْزَمُهُ التَّخْلِيَةُ، وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُنْكِرَ أَصْلَ الْإِيدَاعِ، أَوْ يَقُولَ: هَلَكَ فِي يَدِي، أَوْ رَدَدْتُهُ، وَهَذَا يُخَالِفُ كَلَامَ الْأَصْحَابِ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: مَنْ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ فَقَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالْإِيدَاعِ، فَادَّعَى تَلَفًا أَوْ رَدًّا قَبْلَ الْجُحُودِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ صِيغَةُ جَحْدِهِ إِنْكَارَ أَصْلِ الْوَدِيعَةِ أَمْ قَالَ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ خِلَافٌ، أَوْ يُئَوَّلَ مَا أَطْلَقُوهُ. قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ صَحِيحٌ، وَتَأْوِيلُ كَلَامِهِمْ مُتَعَيِّنٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا إِذَا جَرَى مِنْهُ هَذَا اللَّفْظُ، فَحُكْمُهُ كَذَا ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْنَعُ مِنْهُ بِهَذَا الْجَوَابِ مَعَ طَلَبِ الْخَصْمِ الْجَوَابَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ إِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ أَجِيرُ فُلَانٍ لِحِفْظِ سَفِينَتِهِ هَذِهِ بِدِينَارٍ، وَأَقَامَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَجَّرَهُ إِيَّاهَا بِدِينَارٍ، تَعَارَضَتَا، وَأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ بِالْقَتْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَآخَرَانِ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَنَا، وَلَمْ يَغِبْ عَنَّا، تَعَارَضَتَا، وَقَدْ سَبَقَ مِنْ نَظَائِرِ هَذَا مَا يُخَالِفُهُ. قُلْتُ: يَعْنِي أَنَّ الْبَيِّنَةَ الثَّانِيَةَ شَهِدَتْ بِالنَّفْيِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ شَهَادَةَ النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ إِلَّا فِي مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ، كَالْإِعْسَارِ. هَذَا مُرَادُ الرَّافِعِيِّ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ عَنْ فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ مَا يُوَافِقُهُ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ النَّفْيَ إِذَا كَانَ فِي مَحْصُورٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ، قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ بِهِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الشَّهَادَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدَّعِيَ، وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَرِفَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَدِ، فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: الْمَوْضِعُ الْفُلَانِيُّ مِلْكِي، وَهَذَا يَمْنَعُنِي مِنْهُ تَعَدِّيًا، فَمُرْهُ يُمَكِّنِّي مِنْهُ. وَأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْكَلْبَ وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ وَلَمْ يَلِغْ فِي ذَاكَ وَآخَرَانِ بِضِدِّهِ، تَعَارَضَتَا، فَلَوْ لَمْ يَقُولُوا: لَمْ يَلِغْ فِي ذَلِكَ فَالْإِنَاءَانِ نَجِسَانِ، وَهَذَا شَهَادَةٌ عَلَى إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، وَيُمْكِنُ التَّعَارُضُ بِلَا نَفْيٍ، بِأَنْ يُعَيِّنَا وَقْتًا لَا يُمْكِنُ فِيهِ إِلَّا وُلُوغٌ وَاحِدٌ. قُلْتُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرْتُهَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مُسْتَوْفَاةً مُخْتَصَرَةً، وَفِي هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ فِيهَا مِنْ إِثْبَاتِ التَّعَارُضِ تَصْرِيحٌ بِقَبُولِ شَهَادَةِ النَّفْيِ فِي الْمَحْصُورِ كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ السَّابِعُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ وَإِلْحَاقِ الْقَائِفِ: مَقْصُودُ الْبَابِ الْكَلَامُ فِي الْقَائِفِ وَشَرْطُهُ. أَمَّا الِاسْتِلْحَاقُ وَشُرُوطُهُ فَسَبَقَ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَاللَّقِيطِ. وَفِي الْبَابِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْأَوَّلُ: الْمُسْتَلْحَقُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ أَنَّ الْمَذْهَبَ صِحَّةُ اسْتِلْحَاقِ الْعَبْدِ وَالْعَتِيقِ دُونَ الْمَرْأَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَبَقَ هُنَاكَ جُمَلٌ مِنْ أَرْكَانِهِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُلْحِقُ، وَهُوَ الْقَائِفُ، وَلْيَكُنْ فِيهِ صِفَاتٌ بَعْضُهَا وَاجِبٌ قَطْعًا، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ، فَيَكُونُ مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلًا عَدْلًا، وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ حُرِّيَّتِهِ وَذُكُورَتِهِ، وَأَنَّهُ يَكْفِي وَاحِدٌ، وَنُصَّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ اثْنَانِ. وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مِنْ مُدْلِجٍ، بَلْ يَجُوزُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ وَمِنَ الْعَجَمِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى، وَلَا أَخْرَسَ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ ابْنَ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَأَلْحَقَهُ بِغَيْرِ أَبِيهِ، قُبِلَ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِأَبِيهِ، لَمْ يُقْبَلْ. وَلَوْ كَانَ عَدُوَّ أَحَدِهِمَا، فَأَلْحَقَهُ بِهِ، قُبِلَ. وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِالْآخَرِ، فَلَا ; لِأَنَّهُ

كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعَدُوِّ. وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي قَائِفًا، فَهَلْ يَقْضِي بِعِلْمِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِي الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُجَرَّبًا. وَكَيْفِيَّةُ التَّجْرِبَةِ: أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ، فَإِذَا أَصَابَ فِي الْكُلِّ، صَارَ مُجَرَّبًا، وَقُبِلَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَلْ تَخْتَصُّ التَّجْرِبَةُ بِالْأُمِّ، أَمْ يَجُوزُ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْمَوْلُودُ مَعَ أَبِيهِ فِي رِجَالٍ؟ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الثَّانِي، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، لَكِنَّ الْعَرْضَ مَعَ الْأُمِّ أَوْلَى. وَأَمَّا تَكْرَارُ الْعَرْضِ ثَلَاثًا، فَقَدْ جَعَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَصْحَابُهُ شَرْطًا. وَقِيلَ: يَكْفِي مَرَّةً، وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الثَّلَاثِ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، بِأَقْوَالِهِ عَنْ خِبْرَةٍ لَا عَنِ اتِّفَاقٍ، وَهَذَا قَدْ يَحْصُلُ بِدُونِ الثَّلَاثَةِ. وَإِذَا حَصَلَتِ التَّجْرِبَةُ، اعْتَمَدْنَا إِلْحَاقَهُ، وَلَا تُجَدَّدُ التَّجْرِبَةُ لِكُلِّ إِلْحَاقٍ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْوَلَدُ الْمُلْحَقُ، وَيُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَنَازَعَ اثْنَانِ مَوْلُودًا مَجْهُولًا مِنْ لَقِيطٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَيُعْرَضَ عَلَى الْقَائِفِ كَمَا سَبَقَ فِي اللَّقِيطِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فَأَكْثَرَ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ، فَتَأْتِي بِوَلَدٍ لِزَمَانٍ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُمَا، وَيَدَّعِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا فَيُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ. وَيُتَصَوَّرُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْوَطْءِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا: أَنْ يَطَأَهَا كُلٌّ مِنْهُمَا بِالشُّبْهَةِ بِأَنْ يَجِدَهَا بِفِرَاشِهِ، فَيَظُنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، فَلَوْ كَانَتْ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَوُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، فَوَجْهَانِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ: يُلْحَقُ الْوَلَدُ بِالزَّوْجِ ; لِأَنَّهَا فِرَاشُهُ، وَالْفِرَاشُ أَقْوَى مِنَ الشُّبْهَةِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَنُكِحَتْ، وَوَلَدَتْ تُلْحَقُ بِالثَّانِي وَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنَ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهَا فِرَاشُ الثَّانِي، وَالْأَصَحُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ:

فصل

أَنَّهُ يُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ، وَيَكُونُ لِمَنْ أَلْحَقَهُ بِهِ، بِخِلَافِ صُورَةِ الِاسْتِشْهَادِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الْبَرَاءَةِ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَيَطَأَهَا آخَرُ بِشُبْهَةٍ، أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، بِأَنْ يَنْكِحَهَا فِي الْعِدَّةِ جَاهِلًا بِهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَطَأَهَا اثْنَانِ فِي نِكَاحَيْنِ فَاسِدَيْنِ، وَأَنْ يَطَأَ الشَّرِيكَانِ الْمُشْتَرَكَةَ، وَأَنْ يَطَأَ أَمَتَهُ وَيَبِيعَهَا، فَيَطَأَهَا الْمُشْتَرِي، وَلَا يَسْتَبْرِئُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. فَإِذَا وَطِئَ اثْنَانِ فِي بَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ فِي طُهْرٍ، فَوَلَدَتْهُ لِمَا بَيْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْوَطْأَيْنِ، وَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا، عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْوَطْأَيْنِ حَيْضَةٌ، فَهِيَ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي حُصُولِ الْبَرَاءَةِ عَنِ الْأَوَّلِ، فَيَنْقَطِعُ تَعَلُّقُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ زَوْجًا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَالثَّانِي وَاطِئًا بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، فَلَا يَنْقَطِعُ تَعَلُّقُ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ إِمْكَانَ الْوَطْءِ مَعَ فِرَاشِ النِّكَاحِ قَائِمٌ مَقَامَ نَفْسِ الْوَطْءِ وَالْإِمْكَانُ حَاصِلٌ بَعْدَ الْحَيْضَةِ. وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ زَوْجًا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، فَفِي انْقِطَاعِ تَعَلُّقِهِ بِتَخَلُّلِ الْحَيْضَةِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الِانْقِطَاعُ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إِلَّا بِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُتَنَازِعَانِ وَالْوَاطِئَانِ مُسْلِمَيْنِ وَحُرَّيْنِ، أَوْ مُخْتَلِفَيِ الْحَالِ. فَصْلٌ لَوِ اسْتَلْحَقَ صَبِيًّا فِي يَدِهِ، أَوْ لَا فِي يَدِهِ، فَبَلَغَ وَانْتَفَى مِنْهُ، هَلْ يَنْدَفِعُ نَسَبُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي الْإِقْرَارِ وَاللَّقِيطِ. فَإِنِ اسْتَلْحَقَ بَالِغًا فَأَنْكَرَ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ، وَإِلْحَاقُ الْقَائِفِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. فَلَوْ سَكَتَ الْبَالِغُ، فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ يُلْحِقُهُ الْقَائِفُ، وَهَذَا لَمْ أَجِدْهُ لِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِلَّا وَاحِدٌ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَوِ ادَّعَاهُ اثْنَانِ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، فَسَكَتَ، عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ. فَلَوْ وَافَقَ أَحَدُهُمَا، لَحِقَهُ

فصل

وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَائِفِ بِخِلَافِهِ. وَلَوِ ادَّعَى اثْنَانِ صَبِيًّا مَجْهُولًا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي اللَّقِيطِ. فَصْلٌ ادَّعَى نَسَبَ مَوْلُودٍ عَلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ بِسَبَبِ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: وَطْءُ الشُّبْهَةِ لَا أَثَرَ لَهُ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لِزَوْجٍ، وَالْوَلَدُ مُلْحَقٌ بِالزَّوْجِ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ أَثَرٌ، لَمْ يَكْفِ اتِّفَاقُ الزَّوْجَيْنِ عَلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوَطْءِ ; لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا فِي النَّسَبِ، وَاتِّفَاقُهُمَا لَيْسَ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَإِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي نَسَبَهُ بَالِغًا، وَاعْتَرَفَ بِجَرَيَانِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكْفِيَ. وَإِذَا اسْتَلْحَقَ مَجْهُولًا، وَلَهُ زَوْجَةٌ، فَأَنْكَرَتْ وِلَادَتَهُ، فَهَلْ يَلْحَقُهَا بِاسْتِلْحَاقِهِ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: لَا، لِجَوَازِ كَوْنِهِ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زَوْجَةٍ أُخْرَى. وَلَوِ اسْتَلْحَقَ مَجْهُولًا، وَلَهُ زَوْجَةٌ، فَأَنْكَرَتْ وِلَادَتَهُ، وَاسْتَلْحَقَتْهُ امْرَأَةٌ لَهَا زَوْجٌ، فَأَنْكَرَهُ، فَهَلْ أُمُّهُ الْأُولَى أَمِ الثَّانِيَةُ، أَمْ يُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ فَيُلْحِقُهُ بِإِحْدَاهُمَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ بِحَالِهَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً، فَهَلْ بَيَّنَتُهُ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَتِهَا أَمْ يَتَعَارَضَانِ، أَمْ يُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِالرَّجُلِ لَحِقَهُ وَلَحِقَ زَوْجَتَهُ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِالْمَرْأَةِ لَحِقَهَا دُونَ زَوْجِهَا؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الصَّيْدَلَانِيُّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. فَصْلٌ إِذَا لَمْ يَجِدْ قَائِفًا، أَوْ تَحَيَّرَا، وَأَلْحَقَهُ بِهِمَا، أَوْ نَفَاهُ عَنْهُمَا، وَقَفْنَاهُ حَتَّى يَبْلُغَ، فَإِذَا بَلَغَ أُمِرَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ الْمَيْلِ الَّذِي

فصل

يَجِدُهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ، حُبِسَ لِيَخْتَارَ، وَإِذَا اخْتَارَ، كَانَ اخْتِيَارُهُ كَإِلْحَاقِ الْقَائِفِ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَجِدُ مَيْلًا إِلَى أَحَدِهِمَا، بَقِيَ الْأَمْرُ مَوْقُوفًا، وَلَا عِبْرَةَ بِاخْتِيَارِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَقِيلَ: يُخَيَّرُ الْمُمَيِّزُ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي اللَّقِيطِ. وَلَوْ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَ وَأَلْحَقَهُ بِالْآخَرِ، أَوْ أَلْحَقَهُ بِآخَرَ - قَائِفٌ آخَرُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: إِذَا أَلْحَقَهُ قَائِفٌ بِهَذَا، وَآخَرُ بِذَاكَ، تَعَارَضَا، وَصَارَ كَأَنْ لَا قَائِفَ. وَأَنَّهُ إِذَا رَجَعَ الْقَائِفُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ. وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَهُ قُبِلَ رُجُوعُهُ، لَكِنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ لِسُقُوطِ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. فَرْعٌ إِذَا أَلْحَقَهُ بِهِمَا، قَالَ الْقَفَّالُ: يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الصَّنْعَةَ، فَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ حَتَّى يَمْضِيَ زَمَانٌ يُمْكِنُ التَّعَلُّمُ فِيهِ فَيُمْتَحَنُ حِينَئِذٍ ثُمَّ يُعْتَمَدُ. فَرْعٌ إِذَا كَانَا تَوْأَمَيْنِ، فَأَلْحَقَ الْقَائِفُ أَحَدَهُمَا بِأَحَدِهِمَا، وَالْآخَرَ بِالْآخَرِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَلْحَقَ الْوَاحِدَ بِهِمَا. فَرْعٌ إِذَا انْتَسَبَ الْمَوْلُودُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِمَا، لَغَا، وَأُمِرَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا وَلَوِ اخْتَلَفَ التَّوْأَمَانِ فِي الِانْتِسَابِ، لَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُمَا، فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا إِلَى قَوْلِ الْآخَرِ، قُبِلَ. فَصْلٌ إِذَا وَطِئَا فِي طُهْرٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُمَا، فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا،

وَسَكَتَ الْآخَرُ، أَوْ أَنْكَرَ، فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُخْتَصُّ بِالْمُدَّعِي، كَمَا لَوْ فِي يَدِ اثْنَيْنِ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، يُجْعَلُ لَهُ. وَأَظْهَرُهُمَا: يُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ ; لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا فِي النَّسَبِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِنْكَارِ، وَإِنْ أَنْكَرَاهُ مَعًا، عُرِضَ وَلَا تَضْيِيعَ لِنَسَبِهِ. فَرْعٌ نَفَقَةُ الْوَلَدِ إِلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْقَائِفِ، وَفِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ إِلَى الِانْتِسَابِ، تَكُونُ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا أُلْحِقَ بِأَحَدِهِمَا، رَجَعَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ، وَهَلْ تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي حَالِ الِاجْتِنَانِ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ يُعْلَمُ؟ إِنْ قُلْنَا: يُعْلَمُ، فَنَعَمْ، وَإِلَّا، فَلَا. فَإِذَا أَوْجَبْنَاهَا، فَكَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجًا طَلَّقَ، وَالْآخَرُ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَامِلِ، فَهِيَ عَلَى الْمُطَلِّقِ، وَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَمْلِ، فَعَلَيْهِمَا حَتَّى يَظْهَرَ الْأَمْرُ. وَإِنْ أَوْصَى لِلطِّفْلِ فِي وَقْتِ التَّوَقُّفِ، فَلْيَقْبَلَاهَا جَمِيعًا. فَرْعٌ إِذَا مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْعَرْضِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ، فَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَرْضُ، وَإِلَّا، فَإِنْ دُفِنَ، لَمْ يُنْبَشْ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُعْرَضُ ; لِأَنَّ الشَّبَهَ لَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ. وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّ الْقَائِفَ قَدْ يَبْنِي عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، عُرِضَ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ مَعَ الْوَلَدِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. فَرْعٌ مِنَ الرُّعَاةِ مَنْ يَلْتَقِطُ السِّخَالَ فِي الظُّلْمَةِ، وَيَضَعُهَا فِي وِعَاءٍ، فَإِذَا أَصْبَحَ، أَلْقَى كُلَّ سَخْلَةٍ إِلَى أُمِّهَا، وَلَا يُخْطِئُ لِمَعْرِفَتِهِ. فَقَالَ

كتاب العتق

الْإِصْطَخْرِيُّ: يُعْمَلُ بِقَوْلِ هَذَا الرَّاعِي إِذَا تَنَازَعَا سَخْلَةً، وَالصَّحِيحُ: الْمَنْعُ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْقِيَافَةُ فِي الْآدَمِيِّ لِشَرَفِهِ وَحِفْظِ نَفْسِهِ. فَرْعٌ لَوْ أَلْحَقَهُ قَائِفٌ بِأَحَدِهِمَا بِالْأَشْبَاهِ الظَّاهِرَةِ، وَآخَرُ بِالْآخَرِ بِالْأَشْبَاهِ الْخَفِيَّةِ، كَالْخَلْقِ وَتَشَاكُلِ الْأَعْضَاءِ، فَأَيُّهُمَا أَوْلَى؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَلَوِ ادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ، وَأَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً، تَبِعَهُ نَسَبًا وَدِينًا وَإِنْ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِالذِّمِّيِّ، تَبِعَهُ نَسَبًا لَا دِينًا، وَلَا يَجْعَلُ حَضَانَتَهُ لِلذِّمِّيِّ. وَلَوِ ادَّعَاهُ حُرٌّ وَعَبْدٌ، وَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِالْعَبْدِ، ثَبَتَ النَّسَبُ، وَكَانَ حُرًّا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وُلِدَ مِنْ حُرَّةٍ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. كِتَابُ الْعِتْقِ تَظَاهَرَتِ النُّصُوصُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ، وَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ مَالِكٍ مُطْلَقٍ لَا يُصَادِفُ إِعْتَاقُهُ مُتَعَلِّقَ حَقٍّ لَازِمٍ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَصِحُّ إِعْتَاقُ غَيْرِ مَالِكٍ إِلَّا بِوِكَالَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ، وَلَا إِعْتَاقُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَمَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ. وَفِي الْمَحْجُورِ لِفَلَسٍ وَالرَّاهِنِ وَالْعَبْدِ الْجَانِي خِلَافٌ سَبَقَ فِي التَّفْلِيسِ وَالرَّهْنِ وَالْبَيْعِ، وَالْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ إِعْتَاقُهُ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَا يَصِحُّ إِعْتَاقُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمَوْقُوفَ، وَيَصِحُّ إِعْتَاقُ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ. وَإِذَا أَسْلَمَ عَتِيقُ الْكَافِرِ، فَوَلَاؤُهُ ثَابِتٌ عَلَيْهِ. وَيَصِحُّ الْعِتْقُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، أَمَّا الصَّرِيحُ، فَالتَّحْرِيرُ وَالْإِعْتَاقُ صَرِيحَانِ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ مُحَرَّرٌ، أَوْ أَحْرَرْتُكَ، أَوْ أَنْتَ عَتِيقٌ، أَوْ مُعْتَقٌ، أَوْ أَعْتَقْتُكَ، عَتَقَ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، وَلَا أَثَرَ لِلْخَطَأِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، بِأَنْ يَقُولَ لِلْعَبْدِ: أَنْتِ حُرَّةٌ، أَوْ لِلْأَمَةِ: أَنْتَ حُرٌّ. وَفَكُّ الرَّقَبَةِ صَرِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْكِنَايَةُ كَقَوْلِهِ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ، أَوْ لَا

سَبِيلَ، أَوْ لَا سُلْطَانَ، أَوْ لَا يَدَ، أَوْ لَا أَمْرَ، أَوْ لَا خِدْمَةَ، أَوْ أَزَلْتُ مِلْكِي عَنْكَ، أَوْ حَرَّمْتُكَ، أَوْ أَنْتَ سَائِبَةٌ، أَوْ أَنْتَ لِلَّهِ. وَصَرَائِحُ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتُهُ كُلُّهَا كِنَايَاتٌ فِي الْعِتْقِ. وَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كِنَايَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ، لِاقْتِضَائِهِ التَّحْرِيمَ، كَقَوْلِهِ: حَرَّمْتُكِ. وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُكَ نَفْسَكَ، وَنَوَى الْعِتْقَ، عَتَقَ. فَإِنْ نَوَى التَّمْلِيكَ، فَعَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: بِعْتُكَ نَفْسَكَ. وَلَوْ كَانَتْ أَمَتُهُ تُسَمَّى قَبْلَ جَرَيَانِ الرِّقِّ عَلَيْهَا حُرَّةً، فَقَالَ لَهَا: يَا حُرَّةُ، فَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ لَهُ النِّدَاءُ بِاسْمِهَا الْقَدِيمِ، عَتَقَتْ، وَإِنْ قَصَدَ نِدَاءَهَا، لَمْ تَعْتِقْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: تَعْتِقُ ; لِأَنَّهُ صَرِيحٌ. وَلَوْ كَانَ اسْمُهَا فِي الْحَالِ حُرَّةً، أَوِ اسْمُ الْعَبْدِ حُرٌّ أَوْ عَتِيقٌ، فَإِنْ قَصَدَ النِّدَاءَ، لَمْ يَعْتِقْ. وَكَذَا إِنْ أَطْلَقَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ: أَنَّهُ لَوِ اجْتَازَ بِالْمَكَّاسِ، فَخَافَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمَكْسِ عَنْ عَبْدِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ حُرٌّ لَيْسَ بِعَبْدٍ، وَقَصَدَ الْإِخْبَارَ، لَمْ يَعْتِقْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي خَبَرِهِ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: افْرُغْ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ: أَرَدْتُ: حُرٌّ مِنَ الْعَمَلِ، دِينَ، وَلَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا. وَأَنَّهُ لَوْ زَاحَمَتْهُ امْرَأَةٌ فِي طَرِيقٍ، فَقَالَ: تَأَخَّرِي يَا حُرَّةُ، فَبَانَتْ أَمَتَهُ، لَمْ تَعْتِقْ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدٍ: يَا مَوْلَايَ، فَكِنَايَةٌ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي، فَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْغَزَالِيُّ: هُوَ لَغْوٌ. قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ. فَرْعٌ قَالَ لِعَبْدِ غَيْرِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، فَهَذَا إِقْرَارٌ بِحُرِّيَّتِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْحَالِ. فَلَوْ مَلَكَهُ حَكَمْنَا بِعِتْقِهِ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ: قَدْ أَعْتَقْتُكَ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنْ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْشَاءِ، فَلَغْوٌ،

أَوْ فِي مَعْرِضِ الْإِقْرَارِ، فَيُؤَاخَذُ بِهِ إِنْ مَلَكَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: هُوَ إِقْرَارٌ ; لِأَنَّ «قَدْ» يُؤَكِّدُ مَعْنَى الْمُضِيِّ فِي الْفِعْلِ الْمَاضِي. قَالَ الْإِمَامُ: وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: أُعْتِقُكَ بِلَا «قَدْ» لَا يَكُونُ إِقْرَارًا وَإِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ فِي الْوَضْعِ لِلْمَاضِي، قَالَ: وَعِنْدِي لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَالْوَجْهُ أَنْ يُرَاجَعَ وَيُحْكَمَ بِمُوجَبِ قَوْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يُفَسِّرْ، تُرِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، وَقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُكَ. فَرْعٌ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى عِوَضٍ، قَالَ: وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ عِتْقَكَ إِلَيْكَ، أَوْ حَرَّرْتُكَ، وَنَوَى تَفْوِيضَ الْعِتْقِ إِلَيْهِ، فَأَعْتَقَ نَفْسَهُ فِي الْحَالِ، عَتَقَ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُكَ عَلَى كَذَا، فَقَبِلَ فِي الْحَالِ، أَوْ قَالَ الْعَبْدُ: اعْتِقْنِي عَلَى كَذَا، فَأَجَابَهُ، عَتَقَ، وَعَلَيْهِ مَا الْتَزَمَ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُكَ عَلَى كَذَا إِلَى شَهْرٍ، فَقَبِلَ، عَتَقَ فِي الْحَالِ، وَالْعِوَضُ مُؤَجَّلٌ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، عَتَقَ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُكَ عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي وَلَمْ يُبَيِّنْ مُدَّةً، أَوْ تَخْدِمَنِي أَبَدًا. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي شَهْرًا. أَوْ تَعْمَلَ لِي كَذَا، وَبَيَّنَهُ، فَقَبِلَ، عَتَقَ، وَعَلَيْهِ مَا الْتَزَمَ. وَلَوْ خَدَمَهُ نِصْفَ شَهْرٍ وَمَاتَ، فَلِلسَّيِّدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ فِي تَرِكَتِهِ. فُرُوعٌ. أَكْثَرُهَا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. إِذَا قَالَ: أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الدَّارَ مِنْ عَبِيدِي، أَوْ أَيُّ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِي دَخَلَ أَوَّلًا، فَهُوَ حُرٌّ، فَدَخَلَ اثْنَانِ مَعًا، ثُمَّ ثَالِثٌ، لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. أَمَّا الثَّالِثُ، فَظَاهِرٌ، وَالِاثْنَانِ لَا يُوصَفُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ أَوَّلٌ. وَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ وَالْحَالَةُ

فصل

هَذِهِ: أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ وَحْدَهُ، عَتَقَ الثَّالِثُ. وَلَوْ دَخَلَ وَاحِدٌ لَا غَيْرَ، فَهَلْ يَعْتِقُ؟ وَجْهَانِ فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَلَوْ قَالَ: آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، فَدَخَلَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ بَعْضٍ، لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ يَمُوتَ السَّيِّدُ، فَيَبِينَ الْآخَرُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَضَى الْعَامُ، وَاخْتَلَفَا فِي أَنَّهُ حَجَّ، فَأَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ بِالْكُوفَةِ يَوْمَ النَّحْرِ - عَتَقَ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَأَحَدُكُمَا حُرٌّ، فَجَاءَ الْغَدُ، عَتَقَ أَحَدُهُمَا، وَعَلَيْهِ التَّعْيِينُ. فَلَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا أَوْ أَعْتَقَهُ، أَوْ مَاتَ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، وَجَاءَ الْغَدُ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِهِ، لَمْ يَتَعَيَّنِ الْعِتْقُ ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ حِينَئِذٍ إِعْتَاقَهُمَا، فَلَا يَمْلِكُ إِعْتَاقَ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ بَاعَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ اشْتَرَى مَنْ بَاعَ، وَجَاءَ الْغَدُ وَهُمَا مِلْكُهُ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي عَوْدِ الْحِنْثِ. وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ أَحَدِهِمَا، وَجَاءَ الْغَدُ وَفِي مِلْكِهِ نِصْفُهُ الْآخَرُ، فَإِلَيْهِ التَّعْيِينُ، فَإِنْ عَيَّنَ مَنْ نِصْفُهُ لَهُ، وَقَعَ النَّظَرُ فِي السِّرَايَةِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا جَاءَ الْغَدُ وَأَحَدُكُمَا فِي مِلْكِي فَهُوَ حُرٌّ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ جَاءَ الْغَدُ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِهِ، عَتَقَ. وَإِنْ بَاعَ أَحَدَهُمَا وَنِصْفَ الْآخَرِ، وَجَاءَ الْغَدُ، لَمْ يَعْتِقِ النِّصْفُ الْبَاقِي ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِلْكِهِ. فَصْلٌ فِي خَصَائِصِ الْعِتْقِ الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا عَنِ الطَّلَاقِ، وَهِيَ خَمْسٌ: الْأَوْلَى السِّرَايَةُ، فَمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ مَمْلُوكٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيهِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ لَهُ، فَيَعْتِقُ كُلُّهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ، سَوَاءٌ الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ. وَلَوْ أَضَافَ إِلَى عُضْوٍ مُعَيَّنٍ، كَيَدٍ، وَرِجْلٍ، عَتَقَ كُلُّهُ، كَالطَّلَاقِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ التَّكْمِيلِ إِذَا أَضَافَ الْعِتْقَ إِلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَحْصُلُ فِي الْجُزْءِ الْمُسَمَّى، ثُمَّ يَسْرِي إِلَى الْبَاقِي.

وَالثَّانِي: يَقَعُ عَلَى الْجَمِيعِ دُفْعَةً وَيَكُونُ إِعْتَاقُ الْبَعْضِ عِبَارَةً عَنْ إِعْتَاقِ الْكُلِّ. وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ، فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِحُصُولِهِ دُفْعَةً، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْخِلَافُ بِتَفَارِيعِهِ فِي الطَّلَاقِ. وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ الْحَامِلَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، عَتَقَ الْحَمْلُ أَيْضًا، لَا بِالسِّرَايَةِ، فَإِنَّ السِّرَايَةَ فِي الْأَشْقَاصِ، لَا فِي الْأَشْخَاصِ، بَلْ بِطَرِيقِ التَّبَعِ كَمَا يَتْبَعُهَا فِي الْبَيْعِ، إِلَّا أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِاسْتِثْنَائِهِ، وَالْعِتْقُ لَا يَبْطُلُ لِقُوَّتِهِ. وَلِهَذَا لَوِ اسْتَثْنَى عُضْوًا فِي الْبَيْعِ، بَطَلَ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَمْلَ، عَتَقَ، وَلَمْ يَعْتِقِ الْأُمُّ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّهَا لَا تَتْبَعُهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: تَعْتِقُ بِعِتْقِهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْأُمُّ لِوَاحِدٍ، وَالْحِمْلُ لِآخَرَ، لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِعِتْقِ الْآخَرِ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إِذَا وَلَدْتِ فَوَلَدُكِ حُرٌّ، أَوْ كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ حُرٌّ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، عَتَقَ الْوَلَدُ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا، عَتَقَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكِ الْوَلَدَ حِينَئِذٍ، فَقَدْ مَلَكَ الْأَصْلَ الْمُفِيدَ لِمِلْكِ الْوَلَدِ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ الْحَامِلِ: إِنْ كَانَ أَوَّلُ مَنْ تَلِدِينَهُ ذَكَرًا فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَأَنْتِ حُرَّةٌ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَإِنْ وَلَدَتِ الذَّكَرَ أَوَّلًا، عَتَقَ، وَرَقَّتِ الْأُمُّ وَالْأُنْثَى، وَإِنْ وَلَدَتِ الْأُنْثَى أَوَّلًا، عَتَقَتِ الْأُمُّ وَالذَّكَرُ أَيْضًا، لِكَوْنِهِ فِي بَطْنِ عَتِيقِهِ، وَتَرِقُّ الْأُنْثَى ; لِأَنَّ عِتْقَ الْأُمِّ طَرَأَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا. وَإِنْ وَلَدَتْهُمَا مَعًا، فَلَا عِتْقَ، إِذْ لَا أَوَّلَ فِيهِمَا. وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ وَلَدَتْهُمَا مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا، فَلَا عِتْقَ، لِلشَّكِّ. وَإِنْ عُلِمَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا، وَأَشْكَلَ، فَالذَّكَرُ حُرٌّ بِكُلِّ حَالٍ، وَالْأُنْثَى رَقِيقَةٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَالْأُمُّ مَشْكُوكٌ فِيهَا، فَيُؤْمَرُ السَّيِّدُ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا رَقِيقَةٌ، عَمَلًا بِالْأَصْلِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُقْرَعُ

عَلَيْهَا بِسَهْمِ رِقٍّ وَسَهْمِ عِتْقٍ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ غَلَطٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، لِأَنَّا شَكَكْنَا فِي عِتْقِهَا، وَالْقُرْعَةُ لَا يُثْبِتُ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي تَعْيِينِ مَا تَيَقَّنَّا أَصْلَهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَلَدَتْ فِي صِحَّةِ السَّيِّدِ، فَلَوْ وَلَدَتْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَفِي بِالْجَمِيعِ، لَمْ يَخْتَلِفِ الْجَوَابُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا هَذِهِ الْأَمَةُ وَمَا وَلَدَتْ، أُقْرِعَ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْغُلَامِ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الْغُلَامِ، عَتَقَ وَحْدَهُ إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الْأُمِّ، قُوِّمَتْ حَامِلًا بِالْغُلَامِ يَوْمَ وَلَدَتِ الْجَارِيَةَ إِنْ وَلَدَتْهَا أَوَّلًا، وَيَعْتِقُ مِنْهَا وَمِنَ الْغُلَامِ قَدْرُ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ مِائَةً وَقِيمَةُ الْأُمِّ حَامِلًا بِالْغُلَامِ مِائَتَيْنِ، فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَنِصْفُ الْغُلَامِ وَهُوَ مِائَةٌ، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ النِّصْفَانِ، وَهُوَ مِائَةٌ، وَالْجَارِيَةُ وَهِيَ مِائَةٌ أُخْرَى. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي لِغَيْرِهِ، فَيَعْتِقُ نَصِيبُهُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَةٍ بَاقِيهِ، لَزِمَهُ قِيمَتُهُ لِلشَّرِيكِ، وَعَتَقَ الْبَاقِي عَلَيْهِ وَوَلَاءُ جَمِيعِ الْعَبْدِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ التَّقْوِيمُ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: كَوْنُ الْمُعْتِقِ مُوسِرًا وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يُعَدَّ غَنِيًّا، بَلْ إِذَا كَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَفِي بِقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهُ، وَيُصْرَفُ إِلَى هَذِهِ الْجِهَةِ كُلُّ مَا يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ، فَيُبَاعُ مَسْكَنُهُ وَخَادِمُهُ، وَكُلُّ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِ يَوْمٍ، وَقُوتِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَدَسْتِ ثَوْبٍ يَلْبَسُهُ، وَسُكْنَى يَوْمٍ، وَالِاعْتِبَارُ فِي الْيَسَارِ بِحَالَةِ الْإِعْتَاقِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، ثُمَّ أَيْسَرَ، فَلَا تَقْوِيمَ. وَلَوْ مَلَكَ قِيمَةَ الْبَاقِي، لَكِنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِهِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَاخْتَارَهُ الْأَكْثَرُونَ ; لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا فِي يَدِهِ نَافِذٌ تَصَرُّفُهُ. وَلِهَذَا

لَوِ اشْتَرَى بِهِ عَبْدًا وَأَعْتَقَهُ، نَفَذَ. وَالثَّانِي: لَا يُقَوَّمُ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوسِرٍ، بَلْ لَوْ أُبْرِئَ عَنِ الدَّيْنِ، لَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ أَيْضًا، كَالْمُعْسِرِ يُوسِرُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُضَارِبُ الشَّرِيكُ بِقِيمَةِ نَصِيبِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ، فَإِنْ أَصَابَهُ بِالْمُضَارَبَةِ مَا يَفِي بِقِيمَةِ جَمِيعِ نَصِيبِهِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا اقْتَصَرَ عَلَى حِصَّتِهِ، وَيَعْتِقُ جَمِيعُ الْعَبْدِ إِنْ قُلْنَا: تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، ضَارَبَ الشَّرِيكُ بِقِيمَةِ بَاقِيهِ، إِلَى أَنْ يَعْتِقَ الْجَمِيعُ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ عَبْدٌ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ لِأَحَدِهِمَا: أَعْتِقْ نَصِيبَكَ مِنْهُ عَنِّي عَلَى هَذِهِ الْعَشَرَةِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَأَجَابَهُ، عَتَقَ نَصِيبُهُ عَنِ الْمُسْتَدْعِي، وَلَا سِرَايَةَ ; لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنِ الْعَشَرَةِ بِمَا جَرَى، وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ فِي ذِمَّتِي، فَإِنْ قُلْنَا: الدَّيْنُ يَمْنَعُ التَّقْوِيمَ، لَمْ يُقَوَّمْ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ، فَإِنْ قُلْنَا: السِّرَايَةُ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، عَتَقَ جَمِيعُ الْعَبْدِ، وَيُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، وَتَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، عَتَقَ مِنْ نَصِيبِ الشَّرِيكِ بِالسِّرَايَةِ حِصَّةُ الْخَمْسَةِ، وَهُوَ رُبُعُ الْعَبْدِ، وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى الرِّقِّ، وَلِلشَّرِيكِ الْمُسْتَدْعِي مِنْهُ خَمْسَةٌ فِي ذِمَّتِهِ. وَلَوْ مَلَكَ نِصْفَيْنِ مِنْ عَبْدَيْنِ مُتَسَاوِيَيِ الْقِيمَةِ، فَأَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ بِنِصْفِ قِيمَةِ أَحَدِهِمَا، نُظِرَ، إِنْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا، عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُمَا، وَسَرَى إِلَى نِصْفِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَيَعْتِقُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَهَذَا إِذَا حَكَمْنَا بِالسِّرَايَةِ فِي الْحَالِ. وَقُلْنَا: الْيَسَارُ بِقِيمَةِ بَعْضِ النَّصِيبِ يَقْتَضِي السِّرَايَةَ بِالْقِسْطِ، وَإِنْ أَعْتَقَ مُرَتَّبًا، سَرَى إِلَى جَمِيعِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: الدَّيْنُ يَمْنَعُ السِّرَايَةَ، فَلَا سِرَايَةَ فِي الْعَبْدِ

الثَّانِي، وَإِلَّا فَيَسْرِي، وَمَا فِي يَدِهِ يُصْرَفُ إِلَى الشَّرِيكِ، وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ الشِّقْصَانِ لِشَخْصَيْنِ، صُرِفَ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ. وَلَوْ مَلَكَ الشِّقْصَيْنِ، فَأَعْتَقَهُمَا مَعًا وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا، فَلَا سِرَايَةَ ; لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ. وَإِنْ أَعْتَقَهُمَا مُرَتَّبًا، عَتَقَ كُلُّ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ فِي نَصِيبِهِ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ وَفَاءً بِبَاقِي الَّذِي أَعْتَقَ شِقْصَهُ، ثُمَّ إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّانِي نَفَذَ الْعِتْقُ فِي نَصِيبِهِ، وَلَا سِرَايَةَ ; لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَإِنَّمَا نَفَذَ إِعْتَاقُهُ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّانِي ; لِأَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ، بَلْ هُوَ فِي الذِّمَّةِ. فَرْعٌ أَعْتَقَ شَرِيكٌ نَصِيبَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، نُظِرَ، إِنْ خَرَجَ جَمِيعُ الْعَبْدِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ، وَعَتَقَ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ إِلَّا نَصِيبُهُ، عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَلَا تَقْوِيمَ، وَإِنْ خَرَجَ نَصِيبُهُ وَبَعْضُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَيَجِيءُ فِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي يَسَارِ الْمُعْتِقِ بِبَعْضِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ. وَبِالْجُمْلَةِ الْمَرِيضُ فِي الثُّلُثِ كَالصَّحِيحِ فِي الْكُلِّ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مُعْسِرٌ. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ بِاعْتِبَارِ الثُّلُثِ عَلَى أَنَّ التَّقْوِيمَ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ ; لِأَنَّ الثُّلُثَ يُعْتَبَرُ حَالَةَ الْمَوْتِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ حَالَ إِعْتَاقِهِ، ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا، وَوَفَى عِنْدَ الْمَوْتِ، قُوِّمَ جَمِيعُهُ. وَفِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ نِصْفَيْنِ مِنْ عَبْدَيْنِ مُتَسَاوِيَيِ الْقِيمَةِ، فَأَعْتَقَهُمَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، نُظِرَ، إِنْ خَرَجَا مِنَ الثُّلُثِ، عَتَقَا، سَوَاءٌ أَعْتَقَهُمَا مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ إِلَّا نَصِيبَاهُ، فَإِنْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا، عَتَقَ نَصِيبَاهُ، وَلَا سِرَايَةَ، وَإِنْ أَعْتَقَهُمَا

مُرَتَّبًا، عَتَقَ كُلُّ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَعْتِقْ مِنَ الثَّانِي شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ لَزِمَهُ قِيمَةُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَصَارَ نَصِيبُهُ مِنَ الثَّانِي مُسْتَحَقَّ الصَّرْفِ إِلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ نَصِيبَاهُ، وَنَصِيبُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُمَا مُرَتَّبًا، عَتَقَ جَمِيعُ الْأَوَّلِ، وَلَا يَعْتِقُ مِنَ الثَّانِي إِلَّا نَصِيبُهُ، وَإِنْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ: نَصِيبَاهُ، وَنِصْفُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: يُقْرَعُ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَلَمْ يَعْتِقْ مِنَ الْآخَرِ إِلَّا نَصِيبُهُ ; لِأَنَّ الْقُرْعَةَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْعِتْقِ، وَلَا يُصَارُ إِلَى التَّشْقِيصِ مَعَ إِمْكَانِ التَّكْمِيلِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ إِلَّا أَحَدُ نَصِيبَيْهِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ نَصِيبِهِ، وَهُوَ رُبُعُ كُلِّ عَبْدٍ، وَأَصَحُّهُمَا: يُقْرَعُ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، عَتَقَ مِنْهُ جَمِيعُ نَصِيبِهِ، وَلَا يَعْتِقُ مِنَ الْآخَرِ شَيْءٌ. وَلَوْ أَعْتَقَ النَّصِيبَيْنِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: إِنْ أَعْتَقَهُمَا مُرَتَّبًا، عَتَقَ ثُلُثَا نَصِيبِهِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ ثُلُثُ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ ذَلِكَ الْعَبْدِ، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ سُدُسُ ذَلِكَ الْعَبْدِ، وَنِصْفُ الْعَبْدِ الْآخَرِ. وَإِنْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا وَمَاتَ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، عَتَقَ مِنْهُ ثُلُثَا نَصِيبِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ. فَرْعٌ لَوْ أَوْصَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَا سِرَايَةَ وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ ; لِأَنَّ الْمَالَ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ، وَيَبْقَى الْمَيِّتُ مُعْسِرًا، بَلْ لَوْ كَانَ كُلُّ الْعَبْدِ لَهُ فَأَوْصَى بِإِعْتَاقِ بَعْضِهِ، فَأَعْتَقَ، لَمْ يُسَرَّ. وَكَذَا لَوْ دَبَّرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَقَالَ: إِذَا مُتُّ، فَنَصِيبِي مِنْكَ حُرٌّ، وَإِنْ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ: أَعْتِقُوا نَصِيبِي، وَكَمِّلُوا الْعِتْقَ كَمَّلْنَاهُ،

إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ كُلُّهُ، نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَخْرُجُ. وَهُنَا فَائِدَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: عِنْدِي أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِالتَّكْمِيلِ، لَا يُكَمَّلُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الشَّرِيكِ ; لِأَنَّ التَّقْوِيمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِاخْتِيَارِ الْمُعْتِقِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتِقَ لَوْ كَانَ مُعْسِرًا، ثُمَّ أَيْسَرَ، أَوْ قَالَ: قَوِّمُوهُ عَلَيَّ حَتَّى أَسْتَقْرِضَ، لَا يُجْبَرُ الشَّرِيكُ، وَالْجُمْهُورُ أَطْلَقُوا، وَوَجَّهَهُ الرُّويَانِيُّ بِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثِ. وَإِذَا أَوْصَى بِالتَّكْمِيلِ، فَقَدِ اسْتَبْقَى لِنَفْسِهِ قَدْرَ قِيمَةِ الْعَبْدِ مِنَ الثُّلُثِ، فَكَانَ مُوسِرًا بِهِ. الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ لِصُورَةِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّكْمِيلِ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرُوا نَصِيبَ الشَّرِيكِ، فَأَعْتِقُوهُ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَعْتِقُوهُ إِعْتَاقًا سَارِيًا، فَلَا خَيْرَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَا سِرَايَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ أَعْتَقْنَا نَصِيبَهُ، فَالَّذِي أَتَى بِهِ وَصِيَّةٌ بِمُحَالٍ. وَلَوْ مَلَكَ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ، فَأَوْصَى بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ مِنْهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِ، أَعْتَقَ عَنْهُ النَّصِيبَانِ، وَلَا سِرَايَةَ. وَلَوْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: وَكَمِّلُوا عِتْقَهُمَا، فَإِنْ خَرَجَا مِنَ الثُّلُثِ، كَمَنْ عَتَقَهُمَا، وَإِنْ خَرَجَ الْبَاقِي مِنْ أَحَدِهِمَا، فَطَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ. أَحَدُهُمَا: فِيهِ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ النَّصِيبَيْنِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ إِلَّا نَصِيبَاهُ مَعَ الْبَاقِي مِنْ أَحَدِهِمَا، فَفِي وَجْهٍ: يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَفِي آخَرَ: يُقْرَعُ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، أَعْتَقَ كُلَّهُ، وَأَعْتَقَ مِنَ الْآخَرِ نَصِيبَهُ لَا غَيْرَ. الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْقُرْعَةِ ; لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّكْمِيلَ هُنَا حَيْثُ أَوْصَى بِهِ، فَيُرَاعَى مَقْصُودُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

فَرْعٌ لَوْ كَانَ الشَّرِيكُ مُوسِرًا بِبَعْضِ قِيمَةِ النَّصِيبِ، فَوَجْهَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» : أَنَّهُ يَسْرِي إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي هُوَ مُوسِرٌ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَسْرِي ; لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الِاسْتِقْلَالَ فِي ثُبُوتِ أَحْكَامِ الْأَحْرَارِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ عَبْدٌ، فَأَعْتَقَ اثْنَانِ نَصِيبَهُمَا، وَأَحَدُهُمَا مُوسِرٌ، قُوِّمَ نَصِيبُ الثَّالِثِ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ عِتْقُ نَصِيبِهِ بِاخْتِيَارٍ، فَلَوْ مَلَكَ بَعْضَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، نُظِرَ، إِنْ مَلَكَهُ لَا بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ وَرِثَهُ، لَمْ يَسْرِ، وَإِنْ مَلَكَهُ بِاخْتِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ يُقْصَدُ بِهِ اجْتِلَابُ الْمِلْكِ كَالشِّرَاءِ، وَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ، سَرَى، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّمَلُّكُ غَالِبًا، لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ، فَإِنْ كَانَتْ عَبْدًا، فَاشْتَرَى شِقْصًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَى سَيِّدِهِ، ثُمَّ عَجَّزَهُ سَيِّدُهُ فَصَارَ الشِّقْصُ لَهُ، وَعَتَقَ، لَمْ يَسْرِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. وَإِنْ عَجَّزَ الْمُكَاتَبُ نَفْسَهُ، لَمْ يَسْرِ، لِعَدَمِ اخْتِيَارِ سَيِّدِهِ. وَلَوْ بَاعَ شِقْصًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَى وَارِثِهِ، بِأَنْ بَاعَ ابْنَ أَخِيهِ بِثَوْبٍ وَمَاتَ، وَوَارِثُهُ أَخُوهُ، فَوَجَدَ بِالثَّوْبِ عَيْبًا، فَرَدَّهُ، وَاسْتَرَدَّ الشِّقْصَ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ، فَفِي السِّرَايَةِ وَجْهَانِ ; لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي تَمَلُّكِهِ، لَكِنَّ مَقْصُودَهُ رَدُّ الثَّوْبِ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ هُنَا السِّرَايَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وَجَدَ مُشْتَرِي الشِّقْصِ بِهِ عَيْبًا، فَرَدَّهُ، فَلَا سِرَايَةَ، كَالْإِرْثِ. وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِشِقْصٍ مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَى وَارِثِهِ، بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ جَارِيَةٍ، لَهُ مِنْهَا ابْنٌ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ ابْنِ أَخِيهِ، وَمَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ، فَقَبِلَهَا ابْنُهُ أَوْ أَخُوهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ الشِّقْصُ، وَلَا سِرَايَةَ

عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ بِقَبُولِهِ يَدْخُلُ الشِّقْصُ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ. فَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِشِقْصٍ مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْتِقُ عَلَى وَارِثِهِ، بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِشِقْصٍ مِنْ أَمَةٍ، وَوَارِثُهُ أَخُوهُ مِنْ أَبِيهِ، فَمَاتَ وَقَبِلَ الْوَصِيَّةَ أَخُوهُ، عَتَقَ ذَلِكَ الشِّقْصُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَيَسْرِي إِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ يَفِي ثُلُثُهَا بِقِيمَةِ الْبَاقِي ; لِأَنَّ قَبُولَ وَارِثِهِ كَقَبُولِهِ فِي الْحَيَاةِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ، وَفِيهِ وَقْفَةٌ ; لِأَنَّ الْقَبُولَ حَصَلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا لِابْنِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ صَفْقَةً وَاحِدَةً، عَتَقَ نَصِيبُ الِابْنِ، وَقُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ الشَّرِيكِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِمَحَلِّ السِّرَايَةِ حَقٌّ لَازِمٌ، فَلَوْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ مَرْهُونٌ، سَرَى عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَالِكِ، وَتَنْتَقِلُ الْوَثِيقَةُ إِلَى الْقِيمَةِ. وَلَوْ كَاتَبَا عَبْدًا، ثُمَّ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، فَالصَّحِيحُ أَوِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَسْرِي، وَهَلْ يُقَوَّمُ فِي الْحَالِ أَمْ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ؟ فِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُ تَفَارِيعَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابَةِ. وَلَوْ كَانَ نَصِيبُ شَرِيكِهِ مُدَبَّرًا، قُوِّمَ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ ; لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ كَالْقِنِّ فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْرِي، فَرَجَعَ عَنِ التَّدْبِيرِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَسْرِي، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، ثُمَّ أَيْسَرَ. وَقِيلَ: يَسْرِي، لِزَوَالِ الْمَانِعِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُحْكَمُ بِالسِّرَايَةِ عِنْدَ ارْتِفَاعِ التَّدْبِيرِ، أَمْ يُتَبَيَّنُ اسْتِنَادُهَا إِلَى وَقْتِ الْإِعْتَاقِ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ كَانَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ مُسْتَوْلَدًا، بِأَنِ اسْتَوْلَدَهَا وَهُوَ مُعْسِرٌ، لَمْ يَسْرِ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ السِّرَايَةَ تَتَضَمَّنُ النَّقْلَ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ، وَقِيلَ: يَسْرِي ; لِأَنَّ السِّرَايَةَ كَالْإِتْلَافِ، وَإِتْلَافُ أُمِّ الْوَلَدِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَلَوِ اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُعْسِرٌ، ثُمَّ اسْتَوْلَدَهَا الثَّانِي، ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا، فَفِي السِّرَايَةِ الْوَجْهَانِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يُوَجِّهَ الْإِعْتَاقَ إِلَى مَا يَمْلِكُهُ لِيَعْتِقَ نَصِيبُهُ،

ثُمَّ يَسْرِي، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: أَعْتَقْتُ نَصِيبِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ، أَوِ النِّصْفَ الَّذِي أَمْلِكُهُ، فَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ نَصِيبَ شَرِيكِي، أَوْ نَصِيبُ شَرِيكِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ حُرٌّ، فَهُوَ لَغْوٌ، وَلَوْ أَطْلَقَ فَقَالَ لِعَبْدٍ يَمْلِكُ نِصْفَهُ: أَعْتَقْتُ نِصْفَكَ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى النِّصْفِ الَّذِي يَمْلِكُهُ، أَمْ عَلَى النِّصْفِ شَائِعًا؟ وَجْهَانِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَعْتِقُ جَمِيعُ الْعَبْدِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ لِهَذَا الْخِلَافِ فَائِدَةٌ إِلَّا فِي تَعْلِيقِ طَلَاقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ. وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ يَمْلِكُ نِصْفَهُ، فَإِنْ قَالَ: بِعْتُ النِّصْفَ الَّذِي أَمْلِكُهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ، أَوْ نَصِيبِي مِنْهُ وَهُمَا يَعْلَمَانِهِ، صَحَّ. وَإِنْ أَطْلَقَ وَقَالَ: بِعْتُ نِصْفَهُ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ، أَمْ عَلَى النِّصْفِ شَائِعًا؟ وَجْهَانِ، فَعَلَى الثَّانِي يَبْطُلُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ. وَفِي صِحَّتِهِ فِي نِصْفِ نَصِيبِهِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِنِصْفِهِ الْمُشْتَرَكِ، فَفِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحْمَلُ فِي الْبَيْعِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَبِيعُ مَا لَا يَمْلِكُهُ. وَفِي الْإِقْرَارِ عَلَى الْإِشَاعَةِ أَنَّهُ إِخْبَارٌ، وَاسْتَحْسَنَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ هَذَا، وَصَحَّحَ الْبَغَوِيُّ الْإِشَاعَةَ فِيهِمَا. قُلْتُ: الرَّاجِحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: إِنْ دَخَلْتَ دَارَ زَيْدٍ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ فَنَصِيبِي مِنْكَ حُرٌّ، فَدَخَلَهَا، عَتَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نَصِيبُهُ، وَلَا يُقَوَّمُ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ دُفْعَةً، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: إِنْ كَلَّمْتَ زَيْدًا فَنَصِيبِي مِنْكَ حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ شَتَمْتَهُ، فَنَصِيبِي مِنْكَ حُرٌّ فَشَتَمَهُ. وَكَذَا لَوْ وَكَّلَا رَجُلًا فِي عِتْقِهِ فَأَعْتَقَ كُلَّهُ دُفْعَةً، وَلَا أَثَرَ لِوُقُوعِ التَّعْلِيقَيْنِ أَوِ التَّوْكِيلَيْنِ فِي

وَقْتَيْنِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِوَقْتِ الْوُقُوعِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: إِنْ دَخَلْتِهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، فَدَخَلَتْ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ، وَنَجَّزَ الْآخَرُ عِتْقَهُ بَعْدَ تَعْلِيقِ الْأَوَّلِ بِيَوْمٍ مَثَلًا، فَلَهُ أَحْوَالٌ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ الْمُعَلِّقُ لِدُونِ شَهْرٍ مِنَ التَّعْلِيقِ، فَيَعْتِقُ الْعَبْدُ كُلُّهُ عَلَى الْمُنَجِّزِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَعْتِقَ بِالتَّعْلِيقِ لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ الْعِتْقُ عَلَى التَّعْلِيقِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ مَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ مِنْ أَوَّلِ شُرُوعِهِ فِي لَفْظِ التَّعْلِيقِ بِلَا زِيَادَةٍ، وَمَا لَمْ يَمْضِ شَهْرٌ مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيقِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتِقَ بِالتَّعْلِيقِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ بِأَيَّامٍ، فَيَعْتِقَ جَمِيعُهُ عَلَى الثَّانِي أَيْضًا ; لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالتَّعْلِيقِ إِنَّمَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْتِ بِشَهْرٍ وَإِعْتَاقُ الْمُنَجِّزِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الشَّهْرِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَوْتِ، فَيُؤْخَذُ قِيمَةُ نَصِيبِ الْمُعَلِّقِ مِنَ الْمُنَجِّزِ لِوَرَثَةِ الْمُعَلِّقِ. هَذَا إِنْ قُلْنَا السِّرَايَةُ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، أَوْ قُلْنَا بِالتَّبْيِينِ، وَإِنْ قُلْنَا: تَحْصُلُ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، فَإِذَا سَبَقَ وَقْتَ الْعِتْقِ بِالتَّعْلِيقِ، كَانَ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ عَنِ الْمُعَلِّقِ خِلَافٌ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي تَفْرِيعِ أَقْوَالِ السِّرَايَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ: إِذَا مَاتَ عَلَى رَأْسِ شَهْرٍ مِنْ تَمَامِ صِيغَةِ التَّعْلِيقِ، عَتَقَ جَمِيعُ الْعَبْدِ عَلَى الْمُعَلِّقِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا مَاتَ عَلَى تَمَامِ شَهْرَيْنِ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْمُنَجِّزِ، عَتَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نَصِيبُهُ، وَلَا تَقْوِيمَ، لِوُقُوعِ الْعِتْقَيْنِ مَعًا. فَرْعٌ مَتَى تَثْبُتُ السِّرَايَةُ إِذَا حَكَمْنَا بِهَا؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: بِنَفْسِ

إِعْتَاقِ الشَّرِيكِ، وَالثَّانِي: بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ. وَالثَّالِثُ: مَوْقُوفٌ، فَإِنْ رَأَى الْقِيمَةَ، تَبَيَّنَّا حُصُولَ الْعِتْقِ بِاللَّفْظِ، وَإِنْ فَاتَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْأَقْوَالِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: إِذَا أَوْلَدَ أَمَةً لَهُ نِصْفُهَا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، سَرَى الِاسْتِيلَادُ، وَهَلْ يَسْرِي بِنَفْسِ الْعُلُوقِ أَمْ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، أَمْ يَتَبَيَّنُ كَأَدَائِهَا السِّرَايَةَ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ؟ فِيهِ الْأَقْوَالُ كَالْعِتْقِ. وَعَلَى الْأَقْوَالِ تَلْزَمُ الْمُسْتَوْلِدَ نِصْفُ الْمَهْرِ لِشَرِيكِهِ مَعَ نِصْفِ قِيمَةِ الْأَمَةِ، ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ الْمِلْكُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، وَجَبَ مَعَ ذَلِكَ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ بِالْعُلُوقِ، أَوْ قُلْنَا بِالتَّبَيُّنِ، فَهَلْ يَثْبُتُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَوْ قَبْلَهُ؟ وَجْهَانِ، إِنْ قُلْنَا: بَعْدَهُ، وَجَبَ أَيْضًا نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ قُلْنَا: قَبْلَهُ، فَلَا، وَبِهِ أَجَابَ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ وَطِئَهَا الثَّانِي قَبْلَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا السِّرَايَةَ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ، فَعَلَى الثَّانِي كَمَالُ الْمَهْرِ لِلْأَوَّلِ، وَلِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُهُ، فَيَقَعُ الْمَهْرُ قِصَاصًا. وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، لَزِمَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلَهُ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُهُ، فَيَتَقَاصَّانِ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَوْلَدَ مُعْسِرًا، ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ فِي نِصْفِهِ، وَنِصْفُ الْآخَرِ يَبْقَى قِنًّا. وَهَلْ يَكُونُ الْوَلَدُ كُلُّهُ حُرًّا، أَمْ تُبَعَّضُ حُرِّيَّتُهُ؟ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ سَبَقَا فِي الْغَنَائِمِ. الثَّانِيَةُ: عَبْدٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، لِوَاحِدٍ نِصْفُهُ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ، وَلِلْآخَرِ سُدُسُهُ، فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ، يَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى نَصِيبِ الشَّرِيكَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِبَعْضِ قِيمَةِ الْبَاقِي وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ بِنِسْبَةِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا كَانَ مُوسِرًا بِثُلُثِ الْبَاقِي، قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُلُثُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ

أَعْتَقَ اثْنَانِ مِنْهُمْ نَصِيبَهُمَا مَعًا، أَوْ عَلَّقَا بِشَرْطٍ وَاحِدٍ، أَوْ وَكَّلَا مَنْ أَعْتَقَ عَنْهُمَا دُفْعَةً، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ مُوسِرًا، قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ الثَّالِثِ. وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، قُوِّمَ نَصِيبُ الثَّالِثِ عَلَيْهِمَا، وَكَيْفَ يُقَوَّمُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْقِيمَةُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ، الثَّانِي عَلَى قَدْرِ الْمِلْكَيْنِ، كَنَظِيرِهِ مِنَ الشُّفْعَةِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ ; لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ كَالثَّمَرَةِ، وَهُنَا سَبِيلُهُ سَبِيلُ ضَمَانِ الْمُتْلِفِ، فَيَسْتَوِي الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، كَمَا لَوْ مَاتَ مِنْ جِرَاحَاتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْمَذْهَبُ بِاتِّفَاقِ فِرَقِ الْأَصْحَابِ، إِلَّا الْإِمَامَ، فَرَجَّحَ طَرِيقَ الْقَوْلَيْنِ. الثَّالِثَةُ: إِنْ قُلْنَا: تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بِاللَّفْظِ أَوْ قُلْنَا بِالتَّبَيُّنِ، اعْتُبِرَتْ قِيمَةُ يَوْمِ الْإِعْتَاقِ، وَإِنْ قُلْنَا: بِالْأَدَاءِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ يَوْمُ الْإِعْتَاقِ أَمِ الْأَدَاءِ، أَمْ أَكْثَرُ الْقِيَمِ مِنْ يَوْمِ الْإِعْتَاقِ إِلَى الْأَدَاءِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْأَوَّلُ، وَرَجَّحَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ الثَّانِيَ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ، رَاجَعْنَا الْمُقَوِّمِينَ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ، أَوْ غَابَ، أَوْ تَقَادَمَ الْعَهْدُ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْمُعْتِقُ ; لِأَنَّهُ غَارِمٌ كَالْغَاصِبِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي صَنْعَةٍ لِلْعَبْدِ تَزِيدُ فِي قِيمَتِهِ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى قِيمَتِهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصَّنْعَةُ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ حَاضِرًا وَهُوَ يُحْسِنُ الصَّنْعَةَ، وَلَمْ يَمْضِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ زَمَنٌ يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ فِيهِ، صُدِّقَ الشَّرِيكُ، وَإِنْ مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ التَّعَلُّمُ فِيهِ، أَوْ مَاتَ الْعَبْدُ، أَوْ غَابَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمُصَدَّقَ الْمُعْتِقُ. وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَبْدِ: إِنِّي أُحْسِنُهَا، أَوْ لَا أُحْسِنُهَا، بَلْ يُجَرَّبُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي عَيْبٍ يُنْقِصُ الْقِيمَةَ، نُظِرَ إِنِ ادَّعَى الْمُعْتِقُ عَيْبًا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، بِأَنْ قَالَ: كَانَ أَكْمَهَ أَوْ أَخْرَسَ، وَقَالَ الشَّرِيكُ: بَلْ بَصِيرًا نَاطِقًا، وَقَدْ

غَابَ الْعَبْدُ أَوْ مَاتَ، صُدِّقَ الْمُعْتِقُ بِيَمِينِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي الْمُصَدَّقِ قَوْلَانِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: الطَّرِيقَانِ فِيمَا إِذَا ادَّعَى النَّقْصَ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، أَمَّا إِذَا ادَّعَاهُ فِي الْبَاطِنَةِ، فَقَوْلَانِ كَالصُّورَةِ الْآتِيَةِ، لِتَمَكُّنِ الشَّرِيكِ مِنَ الْبَيِّنَةِ عَلَى سَلَامَةِ الظَّاهِرَةِ. وَإِنِ ادَّعَى حُدُوثَ عَيْبٍ بَعْدَ السَّلَامَةِ، بِأَنْ زَعَمَ ذَهَابَ بَصَرِهِ أَوْ سَرِقَتَهُ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُصَدَّقَ الشَّرِيكُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا يُشَاهَدُ وَيُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ فِيمَا لَا يُشَاهَدُ بِتَصْدِيقِ الشَّرِيكِ لِعُسْرِ إِثْبَاتِهِ بِبَيِّنَةٍ. الرَّابِعَةُ: لَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ قَبْلَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، أُخِذَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ. وَلَوْ أَعْسَرَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ وَمَاتَ مُعْسِرًا، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْإِعْتَاقَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، فَالْقِيمَةُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، لَمْ يَعْتِقْ حِصَّةُ الشَّرِيكِ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: السِّرَايَةُ تَحْصُلُ بِاللَّفْظِ، مَاتَ حُرًّا مَوْرُوثًا، وَأُخِذَتْ مِنَ الْمُعْتِقِ قِيمَةُ حِصَّةِ الشَّرِيكِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّبْيِينِ، لَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، فَإِذَا أَدَّاهَا تَبَيَّنَّا الْعِتْقَ، وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ بِالْأَدَاءِ، سَقَطَتِ الْقِيمَةُ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَعْتِقُ. وَالثَّانِي: تَجِبُ ; لِأَنَّهُ مَالٌ اسْتُحِقَّ فِي الْحَيَاةِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْتِقِ قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، ثُمَّ تَبْيِينُ أَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَفِي التَّهْذِيبِ تَفْرِيعًا عَلَى تَأَخُّرِ السِّرَايَةِ أَنَّهُ يَمُوتُ نِصْفُهُ رَقِيقًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي مُطَالَبَةِ الشَّرِيكِ لَهُ بِقِيمَةِ نَصِيبِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. الْخَامِسَةُ: لَوْ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ نَصِيبَهُ قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ، لَمْ يَنْفُذْ إِنْ قُلْنَا بِالسِّرَايَةِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِئَلَّا يُفَوِّتَ حَقًّا ثَبَتَ لِلْأَوَّلِ، وَنَفَّذَهُ ابْنُ خَيْرَانَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَعَلَى هَذَا فِي نُفُوذِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا

وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ، فَإِنْ نَفَّذْنَا الْبَيْعَ، فَهَلْ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ، وَيَبْذُلَ الْقِيمَةَ كَالشَّفِيعِ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. السَّادِسَةُ: لِلشَّرِيكِ مُطَالَبَةُ الْمُعْتِقِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، أَمَّا عَلَى غَيْرِ التَّأَخِيرِ، فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى التَّأْخِيرِ، فَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالْحَيْلُولَةُ مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَلْزَمُ عَلَى تَنْفِيذِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ أَنْ لَا يَمْلِكَ مُطَالَبَتَهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَإِذَا دَفَعَ الْمُعْتِقُ الْقِيمَةَ، أُجْبِرَ الشَّرِيكُ عَلَى قَبُولِهَا إِنْ وَقَفْنَا الْعِتْقَ عَلَى أَدَائِهَا، وَإِذَا لَمْ نَدْفَعْ، وَلَمْ يُطَالِبْهُ الشَّرِيكُ، فَلِلْعَبْدِ طَلَبُ الدَّفْعِ مِنْ هَذَا، وَالْقَبْضُ مِنْ ذَاكَ، فَإِنِ امْتَنَعَ، طَالَبَهُمَا الْحَاكِمُ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ كَانَ الشَّرِيكُ غَائِبًا، دَفَعَ الْقِيمَةَ إِلَى وَكِيلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، جَعَلَهُ الْقَاضِي عِنْدَ أَمِينٍ، وَلَهُ أَنْ يُقِرَّهَا فِي يَدِ الْمُعْتِقِ إِنْ كَانَ ثِقَةً. السَّابِعَةُ: إِذَا تَعَذَّرَتِ الْقِيمَةُ بِإِفْلَاسٍ أَوْ هَرَبٍ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: يَبْقَى نَصِيبُ الشَّرِيكِ رَقِيقًا، وَيَرْتَفِعُ الْحَجْرُ عَنْهُ، إِذْ لَا وَجْهَ لِتَعْطِيلِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ بِلَا بَدَلٍ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ أَنَّهُ يُثْبِتُ الْعِتْقَ، وَجَعَلَهُ الْغَزَالِيُّ وَجْهًا، فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ إِعْسَارَ الْمُعْتِقِ يَدْفَعُ الْحَجْرَ وَلَوْ عَادَ الْيَسَارُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَعُودُ التَّقْوِيمُ ; لِأَنَّ حَقَّ الْعِتْقِ ارْتَفَعَ بِتَخَلُّلِ الْإِعْسَارِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. الثَّامِنَةُ: إِذَا قُلْنَا: لَا سِرَايَةَ قَبْلَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَوَطِئَهَا الشَّرِيكُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ لِنِصْفِهَا الْحُرِّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلْيُصَوَّرْ فِي وَطْءٍ مُحَرَّمٍ أَوْ فِي مُكْرَهَةٍ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا:

لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَالثَّانِي: يَجِبُ وَيُصْرَفُ إِلَى الْمُعْتِقِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الِانْقِلَابِ إِلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَارِيَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، وَجَبَ لَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ، وَلَا حَدَّ لِلِاخْتِلَافِ فِي مِلْكِهِ. التَّاسِعَةُ: قَالَ لِشَرِيكِهِ: إِذَا أَعْتَقْتَ نَصِيبَكَ فَنَصِيبِي حُرٌّ، أَوْ فَجَمِيعُ الْعَبْدِ حُرٌّ، أَوْ فَنَصِيبِي حُرٌّ بَعْدَ عِتْقِ نَصِيبِكَ، فَإِذَا أَعْتَقَ الْمَقُولُ لَهُ نَصِيبَهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ مُعْسِرًا، عَتَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نَصِيبُهُ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، عَتَقَ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ. ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: السِّرَايَةُ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، سَرَى عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ ; لِأَنَّ السِّرَايَةَ قَهْرِيَّةٌ تَابِعَةٌ لِعِتْقِ نَصِيبِهِ، لَا مَدْفَعَ لَهَا، وَمُوجِبُ التَّعْلِيقِ قَابِلٌ لِلدَّفْعِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّبَيُّنِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا أُدِّيَتِ الْقِيمَةُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَدَاءِ، فَنَصِيبُ الْمُعَلِّقِ عَمَّنْ يَعْتِقُ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا أَعْتَقْتَ نَصِيبَكَ فَنَصِيبِي حُرٌّ مَعَ عِتْقِ نَصِيبِكَ، أَوْ فِي حَالِ عِتْقِ نَصِيبِكَ، وَقُلْنَا: السِّرَايَةُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَعْتِقُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ عَنْهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ، وَصَاحِبُ التَّقْرِيبِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَحَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، وَالثَّانِي وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يَعْتِقُ جَمِيعُهُ عَنِ الْمَقُولِ لَهُ، وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِهِ: مَعَ نَصِيبِكَ ; لِأَنَّ الْمُعَلِّقَ لَا يُقَارِنُ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ، بَلْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بِلَا شَكٍّ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا أَعْتَقْتَ نَصِيبَكَ فَنَصِيبِي حُرٌّ قَبْلَ عِتْقِ نَصِيبِكَ، فَأَعْتَقَ الْمَقُولُ لَهُ نَصِيبَهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ أَوِ الْمُعَلِّقُ مُعْسِرًا، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُنَجِّزِ، وَعَتَقَ عَلَى الْمُعَلِّقِ نَصِيبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِمُوجَبِ التَّعْلِيقِ، وَلَا سِرَايَةَ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَلِّقُ مُوسِرًا، وَقُلْنَا: السِّرَايَةُ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، فَوَجْهَانِ، مَنْ صَحَّحَ الدَّوْرَ اللَّفْظِيَّ، كَابْنِ الْحَدَّادِ يَقُولُ: لَا يَنْفُذُ إِعْتَاقُ الْمَقُولِ لَهُ فِي نَصِيبِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ، لَعَتَقَ نَصِيبُ

الْقَائِلِ قَبْلَهُ، وَلَوْ عَتَقَ لَسَرَى، وَلَوْ سَرَى لَبَطَلَ عِتْقُهُ، فَيَلْزَمُ مِنْ نُفُوذِهِ عَدَمُ نُفُوذِهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: مَهْمَا أَعْتَقْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ، لَمْ يُتَمَكَّنْ مِنْ إِعْتَاقِهِ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الطَّلَاقِ، وَلَوْ صَدَّ هَذَا التَّعْلِيقَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، امْتَنَعَ الْإِعْتَاقُ عَلَيْهِمَا. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَتَى بِعْتَ نَصِيبَكَ، فَنَصِيبِي حُرٌّ قَبْلَهُ، لَمْ يَنْفُذِ الْبَيْعُ، وَالْمُسْتَبْعِدُونَ لِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَانْسِدَادِ بَابِ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ أَوْلَى بِالِاسْتِبْعَادِ هُنَا لِتَضَمُّنِهِ الْحَجْرَ عَلَى الْعَيْنِ، وَمَنْ لَا يُصَحِّحُ الدَّوْرَ - وَهُوَ الْأَصَحُّ - يَقُولُ: يَعْتِقُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ، وَلَا شَيْءَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا لَوْ قَالَ: مَعَ نَصِيبِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ الْعِتْقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ نَفَّذْنَا عِتْقَ الشَّرِيكِ قَبْلَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُنَجِّزِ عَلَيْهِ، وَنَصِيبُ الْمُعَلِّقِ عَلَى الْمُعَلِّقِ. وَإِنْ لَمْ نُنَفِّذْهُ قَالَ الْإِمَامُ: تَدُورُ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا، وَعَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ جَمِيعًا لَوْ أَعْتَقَ الْمُعَلِّقُ نَصِيبَهُ، عَتَقَ وَتَثْبُتُ السِّرَايَةُ إِذَا وُجِدَ شَرْطُهَا. الْعَاشِرَةُ: إِذَا قَالَ الشَّرِيكُ الْمُوسِرُ: أَعْتَقْتَ نَصِيبَكَ، فَعَلَيْكَ قِيمَةُ نَصِيبِي، فَأَنْكَرَ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ؛ قُضِيَ بِهَا، وَمَتَى يَعْتِقُ حِصَّةُ الْمُدَّعِي؟ فِيهِ الْأَقْوَالُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، صُدِّقَ الْمُنْكِرُ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ، رَقَّ نَصِيبُهُ، وَإِنْ نَكَلَ، حُلِّفَ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ، وَاسْتَحَقَّ الْقِيمَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِ نَصِيبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الدَّعْوَى إِنَّمَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْقِيمَةِ، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِلدَّعْوَى عَلَى إِنْسَانٍ بِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا وَظِيفَةُ الْعَبْدِ، لَكِنْ لَوْ شَهِدَ آخَرُ مَعَ هَذَا الْمُدَّعِي، ثَبَتَ الْعِتْقُ بِشَهَادَةِ الْحِسْبَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَأَبْعَدَ بَعْضُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ، فَحَكَمَ بِالْعِتْقِ تَبَعًا لِدَعْوَى الْقِيمَةِ، وَهَلْ يُحْكَمُ بِعِتْقِ

نَصِيبِ الْمُدَّعِي إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي؟ إِنْ قُلْنَا بِتَعْجِيلِ السِّرَايَةِ، فَنَعَمْ، لِاعْتِرَافِهِ بِسِرَايَةِ إِعْتَاقِ الْمُدَّعَى إِلَيْهِ إِلَى نَصِيبِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّأَخُّرِ، لَمْ يَعْتِقْ. وَإِذَا عَتَقَ نَصِيبُهُ، لَمْ يَسْرِ إِلَى نَصِيبِ الْمُنْكِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي مُوسِرًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُنْشِئِ الْعِتْقَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوِ ادَّعَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ نَصِيبِي وَأَعْتَقْتَهُ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، يَعْتِقُ نَصِيبُ الْمُدَّعِي وَلَا يَسْرِي. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَعْتِقُ إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، لَمْ يَعْتِقْ نَصِيبُ الْمُدَّعِي. وَلَوْ صَدَّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الشَّرِيكَ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعْسِرًا، وَأَنْكَرَ، وَحَلَفَ، لَمْ يَعْتِقْ شَيْءٌ مِنَ الْعَبْدِ، فَإِنِ اشْتَرَى الْمُدَّعِي نَصِيبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، عَتَقَ مَا اشْتَرَاهُ، لِاعْتِرَافِهِ بِحُرِّيَّتِهِ، وَلَا يَسْرِي إِلَى الْبَاقِي. وَلَوِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ الْمُوسِرَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّكَ أَعْتَقْتَ نَصِيبَكَ، وَطَالَبَ بِالْقِيمَةِ، وَأَنْكَرَ، صُدِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ بِيَمِينِهِ فِيمَا أَنْكَرَهُ، فَإِذَا حَلَفَا، فَلَا يُطَالَبُ بِالْقِيمَةِ، وَيُحْكَمُ بِعِتْقِ جَمِيعِ الْعَبْدِ إِنْ قُلْنَا بِتَعْجِيلِ السِّرَايَةِ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِتَأَخُّرِ السِّرَايَةِ أَوْ بِالتَّبَيُّنِ، فَالْعَبْدُ رَقِيقٌ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ لِلْآخَرِ: أَعْتَقْتَ نَصِيبَكَ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ الْآخَرِ، حُكِمَ بِعِتْقِ مَا اشْتَرَاهُ، وَلَا يَسْرِي ; لِأَنَّهُ لَمْ يُنْشِئْ إِعْتَاقًا. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا لِعَمْرٍو، وَالْآخَرُ لَزَيْدٍ، صَحَّ، وَلَا عِتْقَ. وَلَوْ بَاعَاهُ لِزَيْدٍ، حُكِمَ بِعِتْقِ نِصْفِهِ ; لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا يَقِينَ فِي وَاحِدٍ مِنَ النِّصْفَيْنِ، لِجَوَازِ كَوْنِهِمَا كَاذِبَيْنِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا، وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُعْسِرِ عَلَى قَوْلِ تَعْجِيلِ السِّرَايَةِ، وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ، وَلَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الْمُوسِرِ، فَإِنِ اشْتَرَاهُ الْمُعْسِرُ، عَتَقَ كُلُّهُ. وَلَوْ طَارَ طَائِرٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنْ كَانَ غُرَابًا، فَنَصِيبِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا، فَنَصِيبِي حُرٌّ، وَلَمْ يُبَيَّنِ الْحَالُ، فَإِنْ كَانَا

مُعْسِرَيْنِ، فَلَا عِتْقَ، فَإِنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ الْآخَرِ، حُكِمَ بِعِتْقِ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ. وَلَوْ بَاعَاهُ لِثَالِثٍ، حُكِمَ بِعِتْقِ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ أَيْضًا، وَلَا رُجُوعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَزْعُمُ أَنَّ نَصِيبَهُ مَمْلُوكٌ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ، وَقَطَعَ بِهِ الْغَزَالِيُّ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهًا أَنَّهُ إِنِ اشْتَرَاهُ عَالِمًا بِالتَّعْلِيقَيْنِ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، ثُمَّ عَلِمَ، فَلَهُ الرَّدُّ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا، فَبَانَ أَنَّ نِصْفَهُ حُرٌّ، فَعَلَى هَذَا يُرَدُّ الْعَبْدُ ; لِأَنَّ نِصْفَهُ حُرٌّ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مَعِيبٌ بِسَبَبِ التَّشْقِيصِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَلَوِ اخْتَلَفَ النَّصِيبَانِ، لَمْ يَعْتِقْ إِلَّا أَقَلُّهُمَا. وَلَوْ تَبَادَلَا النَّصِيبَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُحْنِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، بَلِ اعْتَرَفَا بِالْإِشْكَالِ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعِتْقِ شَيْءٍ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْمُبَادَلَةِ كَالْحُكْمِ قَبْلَهَا. وَإِنْ حَنَّثَ كُلُّ وَاحِدٍ الْآخَرَ، حُكِمَ بِعِتْقِ الْجَمِيعِ، لِاعْتِرَافِ كُلِّ وَاحِدٍ بِعِتْقِ مَا صَارَ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ مَوْقُوفًا. وَإِنْ حَنَّثَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. وَلَمْ يُحَنِّثْهُ الْآخَرُ، حُكِمَ بِعِتْقِ مَا صَارَ لِلْمُحَنِّثِ، وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ، وَلَا يُحْكَمُ بِعِتْقِ نَصِيبِ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِتَعْجِيلِ السِّرَايَةِ، عَتَقَ الْعَبْدُ، لِأَنَّا نَتَحَقَّقُ حِنْثَ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ نَتَمَكَّنْ مِنَ التَّعْيِينِ، فَيَعْتِقُ نَصِيبُهُ، وَيَسْرِي إِلَى الثَّانِي، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَدَّعِيَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ عَلَى الْآخَرِ، وَيُحَلِّفَهُ عَلَى الْبَتِّ أَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَحْصُلُ السِّرَايَةُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْحُكْمُ كَمَا فِي الْمُعْسِرَيْنِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: فَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَأَرَادَ طَلَبَ الْقِيمَةِ، حَلَّفَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا عَلَى قَوْلِ تَعْجِيلِ السِّرَايَةِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا، وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، فَإِنْ قُلْنَا بِتَعْجِيلِ السِّرَايَةِ، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُعْسِرِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الْمُوسِرِ لِلشَّكِّ فِيهِ. وَإِنْ أَخَّرْنَاهَا إِلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ، لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِ شَيْءٍ فِي الْحَالِ، وَلِلْمُعْسِرِ أَنْ يَدَّعِيَ التَّقْوِيمَ عَلَى الْمُوسِرِ وَيُحَلِّفَهُ.

فَرْعٌ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَعْتَقْنَاهُ مَعًا، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، أَوْ كَانَ الْقَائِلُ مُوسِرًا، فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الْحَدَّادِ أَنَّهُ يُحَلَّفُ الْمُنْكِرُ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ الشَّيْخُ: إِنَّمَا يَحْلِفُ عِنْدِي إِذَا قَالَ لِلْمُقِرِّ: أَنْتَ أَعْتَقْتَ نَصِيبَكَ وَأَنَا لَمْ أَعْتِقْ وَأَرَادَ طَلَبَ الْقِيمَةِ فَيُحَلِّفُهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ مَعَهُ لِيَأْخُذَ الْقِيمَةَ ; لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْقِيمَةَ، وَادَّعَى مَا يُسْقِطُهَا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ فِي الْإِعْتَاقِ، فَيُدْفَعُ يَمِينُهُ الْمُسْقِطُ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَمْ تَعْتِقْ نَصِيبَكَ، وَلَا أَنَا أَعْتَقْتُهُ، فَلَا مُطَالَبَةَ بِالْقِيمَةِ، وَلَا يَمِينَ. وَهَلْ يُحْكَمُ بِإِعْتَاقِ جَمِيعِ الْعَبْدِ بِإِقْرَارِ الْمُوسِرِ؟ إِنْ أَثْبَتْنَا السِّرَايَةَ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، فَنَعَمْ، وَإِنْ أَخَّرْنَاهَا، لَمْ يَعْتِقْ نَصِيبُ الْمُنْكِرِ، وَإِذَا حَلَفَ الْمُنْكِرُ فِي التَّصْوِيرِ الْأَوَّلِ أَخَذَ الْقِيمَةَ مِنَ الْمُقِرِّ، وَحُكِمَ بِعِتْقِ جَمِيعِ الْعَبْدِ، وَوَلَاءُ نَصِيبِ الْمُنْكِرِ مَوْقُوفٌ. فَلَوْ مَاتَ الْعَتِيقُ، وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَى الْمُقِرِّ أَخَذَ نِصْفَ مَالِهِ بِالْوَلَاءِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ النِّصْفِ الْآخَرِ قَدْرَ نِصْفِ الْقِيمَةِ الَّذِي غَرِمَهُ لِلْمُنْكِرِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّهُ إِنْ صَدَّقَ، فَالْمُنْكِرُ ظَالِمٌ لَهُ، وَهَذَا مَالُهُ بِالْوَلَاءِ، وَإِنْ كَذَّبَ، فَهُوَ مُقِرٌّ بِإِعْتَاقِ جَمِيعِهِ، فَجَمِيعُ الْمَالِ لَهُ بِالْوَلَاءِ، وَالثَّانِي لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ رَجَعَ الْمُنْكِرُ عَنْ إِنْكَارِهِ، وَصَدَّقَ الْمُقِرَّ، رُدَّ مَا أُخِذَ مِنْهُ. وَإِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ كُلَّهُ، قُبِلَ، وَكَانَ جَمِيعُ الْوَلَاءِ لَهُ، كَمَا لَوْ نَفَى نَسَبًا يَلْحَقُهُ ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ

فَرْعٌ عَبْدٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، شَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّ الثَّالِثَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، فَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ مُعْسِرًا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَحُكِمَ بِعِتْقِ نَصِيبِ الثَّالِثِ، وَرِقِّ الْبَاقِي. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَالْأَصَحُّ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ بِإِثْبَاتِ الْقِيمَةِ، فَلَا يَعْتِقُ نَصِيبُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ لَهُمَا قِيمَةٌ، وَيَعْتِقُ نَصِيبُهُمَا، لِاعْتِرَافِهِمَا بِالسِّرَايَةِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي عِتْقِ نَصِيبِهِ دُونَ الْقِيمَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْحُكْمُ بِعِتْقِ نَصِيبِهِمَا مُفَرَّعٌ عَلَى تَعْجِيلِ السِّرَايَةِ، فَإِنْ أَخَّرْنَاهَا، لَمْ يَعْتِقْ شَيْءٌ مِنَ الْعَبْدِ، لَكِنْ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُمَا، لِاعْتِرَافِهِمَا بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْعِتْقَ عَلَى الثَّالِثِ، هَكَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَصَحَّحَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ تَعَذُّرَ حُصُولِ الْقِيمَةِ بِإِعْسَارٍ وَغَيْرِهِ يَرْفَعُ الْحَجْرَ عَنِ الشَّرِيكِ، وَالتَّعَذُّرُ هُنَا حَاصِلٌ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا قُلْنَا: السِّرَايَةُ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، فَلَهُ حُكْمُ الْأَحْرَارِ فِي الْإِرْثِ وَالشَّهَادَةِ وَالْحَدِّ وَالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْقِيمَةَ، وَإِنْ أَخَّرْنَاهَا إِلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَلَهُ حُكْمُ الْأَرِقَّاءِ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ، وَإِنْ تَوَقَّفْنَا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَعْتَقَ شُرَكَاءُ لَهُ فِي حُبْلَى، وَهُوَ مُوسِرٌ، وَلَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ حَتَّى وَلَدَتْ، عَتَقَ مَعَهَا وَلَدُهَا، تَفْرِيعًا عَلَى السِّرَايَةِ فِي الْحَالِ، فَأَمَّا إِذَا أَخَّرْنَاهَا إِلَى الْأَدَاءِ فَنُصَّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ الْوَلَدُ مَعَهَا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا إِذَا كَانَ حَمْلًا، فَأَمَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: مَعْنَاهُ أَنَّ نَصِيبَ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْ مِنَ الْوَلَدِ مَمْلُوكٌ، فَأَمَّا نَصِيبُ الْمُعْتِقِ فَيَجِبُ أَنْ يَعْتِقَ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ نَصِيبَ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْ مِنَ الْوَلَدِ، لَا يَعْتِقُ بِدَفْعِ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ وَعِتْقِهَا،

وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنَ الْوَلَدِ نَصِيبُ الْمُعْتِقِ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْرِيَ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: وَكَّلَ شَرِيكَهُ فِي عِتْقِ نَصِيبِهِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ لِلْعَبْدِ: نِصْفُكَ حُرٌّ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ نَصِيبِي، قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ نَصِيبَ شَرِيكِي، قُوِّمَ عَلَى الشَّرِيكِ نَصِيبُ الْوَكِيلِ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي «الشَّامِلِ» . قُلْتُ: لَعَلَّ الْأَصَحَّ حَمْلُهُ عَلَى نَصِيبِ الْوَكِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَرِيضٌ لَهُ نِصْفَا عَبْدَيْنِ، قِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا، فَقَالَ: أَعْتَقْتُ نَصِيبِي مِنْ سَالِمٍ وَغَانِمٍ، وَقُلْنَا: السِّرَايَةُ تُعَجَّلُ، عَتَقَ ثُلُثَا نَصِيبِهِ مِنْ سَالِمٍ، فَقَالَ الْوَكِيلُ لِلْعَبْدِ: نِصْفُكَ حُرٌّ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ نَصِيبِي مِنْ سَالِمٍ وَمِنْ غَانِمٍ، وَقُلْنَا: السِّرَايَةُ تُعَجَّلُ، عَتَقَ ثُلُثَا نَصِيبِهِ مِنْ سَالِمٍ وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، وَلَا يَعْتِقُ مِنَ الْآخَرِ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: نَصِيبِي مِنْ هَذَيْنِ حُرٌّ، عَتَقَ ثُلُثَا نَصِيبِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَيُقْرَعُ، وَيَعْتِقُ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، عَتَقَ ثُلُثَا نَصِيبِهِ، وَإِنْ نِصْفَاهُمَا ثُلُثُ مَالِهِ فَقَالَ: أَعْتَقْتُ نَصِيبِي مِنْ سَالِمٍ وَمِنْ غَانِمٍ، عَتَقَ سَالِمٌ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالسِّرَايَةِ، وَلَمْ يَعْتِقْ مِنْ غَانِمٍ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: نَصِيبِي مِنْهُمَا حُرٌّ، عَتَقَ النِّصْفَانِ، وَلَا سِرَايَةَ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَمَةٌ حَامِلٌ مِنْ زَوْجٍ اشْتَرَاهَا زَوْجُهَا وَابْنُهَا الْحُرُّ مَعَهَا وَهُمَا مُوسِرَانِ، فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا لَوْ أَوْصَى مَالِكُهَا بِهِمَا لَهُمَا وَقَبِلَا الْوَصِيَّةَ مَعًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَصَايَا، وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّ الْأَمَةَ تَعْتِقُ عَلَى الِابْنِ، وَالْحَمْلُ يَعْتِقُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُقَوَّمُ.

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ زَيْدًا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنَ الْمُشْتَرِكِ وَهُوَ مُوسِرٌ، وَحَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، فَشَهَادَتُهُمَا تُثْبِتُ عِتْقَ نَصِيبِهِ، وَيُوجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَيَغْرَمَانِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ قَطْعًا ; لِأَنَّ شُهُودَ الْعِتْقِ يَغْرَمُونَ بِالرُّجُوعِ. وَهَلْ يَغْرَمَانِ لَهُ قِيمَةَ نَصِيبِ الشَّرِيكِ الَّتِي غَرِمَهَا؟ قَوْلَانِ ; لِأَنَّ فِي تَغْرِيمِ شُهُودِ الْمَالِ قَوْلَيْنِ سَبَقَا. هَذَا إِذَا صَدَّقَ الشَّرِيكُ الشُّهُودَ، وَأَخَذَ الْقِيمَةَ، وَعَتَقَ جَمِيعُ الْعَبْدِ، إِمَّا بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، وَإِمَّا بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، فَأَمَّا إِذَا كَذَّبَهُمْ، وَقَالَ: لَمْ يُعْتِقْ زَيْدٌ نَصِيبَهُ، فَإِنْ عَجَّلْنَا السِّرَايَةَ، عَتَقَ الْجَمِيعُ، وَلَا يَلْزَمُهُ لِلشَّرِيكِ شَيْءٌ، وَإِنْ أَخَّرْنَاهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ لِيَكْمُلَ الْعِتْقُ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا إِنْ أَصَرَّ عَلَى تَكْذِيبِ الشُّهُودِ، كَمَا لَوْ جَاءَ الْمُكَاتَبُ بِالنَّجْمِ الْأَخِيرِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: هَذَا حَرَامٌ غَصَبْتَ مِنْ فُلَانٍ، يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَرِيكٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَآخَرَانِ عَلَى الشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنَّهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَهُمَا مُوسِرَانِ، فَإِنْ أُرِّخَتِ الْبَيِّنَتَانِ، عَتَقَ كُلُّهُ عَلَى الْأَوَّلِ، إِنْ عَجَّلْنَا السِّرَايَةَ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَإِنْ أَخَّرْنَاهَا إِلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي أَنَّ إِعْتَاقَ الثَّانِي قَبْلَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، هَلْ يُنَفَّذُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا وَهُوَ الْأَصَحُّ، أُخِذَتْ قِيمَةُ نَصِيبِهِ مِنَ الْأَوَّلِ لِيَعْتِقَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَرَّخَا، عَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ، وَلَا تَقْوِيمَ. فَلَوْ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ عَلَى أَحَدِهِمَا، لَمْ يَغْرَمَا شَيْئًا، لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ الْعِتْقَ فِي النِّصْفِ الَّذِي شَهِدَا بِهِ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمَا، أَمْ بِشَهَادَةِ الْآخَرَيْنِ بِالسِّرَايَةِ، فَلَا يُوجِبُ شَيْئًا بِالشَّكِّ، وَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا، فَقِيلَ: الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ يَغْرَمُونَ قِيمَةَ

الْعَبْدِ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَارِيخٌ، فَالْحُكْمُ بِعِتْقِ الْعَبْدِ مُعَلَّقٌ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ، وَيُقَدَّرُ كَأَنَّ الْإِعْتَاقَيْنِ وَقَعَا مَعًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْخَصِيصَةُ الثَّانِيَةُ: الْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ، فَمَنْ مَلَكَ أَبَاهُ، أَوْ أُمَّهُ، أَوْ أَحَدَ أُصُولِهِ مِنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، أَوْ مَلَكَ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا، عَتَقَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ مَلَكَهُ قَهْرًا بِالْإِرْثِ، أَمِ اخْتِيَارًا بِالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَعْتِقُ غَيْرُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ. وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمَا مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ فَعَلَ، فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ. وَلَوْ وَهَبَ لِلصَّبِيِّ قَرِيبَهُ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ. نُظِرَ، إِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُعْسِرًا، فَلِوَلِيِّهِ قَبُولُهُ، وَيَلْزَمُهُ الْقَبُولُ عَلَى الْأَصَحِّ وَظَاهِرِ النَّصِّ، فَإِذَا قَبِلَ، عَتَقَ عَلَى الصَّبِيِّ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْقَرِيبُ بِحَيْثُ يَجِبُ تَعَفُّفُهُ فِي الْحَالِ، لَمْ يَجُزْ لِلْوَلِيِّ الْقَبُولُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَجِبُ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُعْسِرِ، وَإِذَا لَمْ يَقْبَلِ الْوَلِيُّ قَبِلَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلِلصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ الْقَبُولُ، كَذَا ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ، وَلْيَكُنْ هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ. وَلَوْ وُهِبَ لَهُ بَعْضُ الْقَرِيبِ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُعْسِرًا، قَبِلَ الْوَلِيُّ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، زَادَ النَّظَرَ فِي غَرَامَةِ السِّرَايَةِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَقْبَلُ ; لِأَنَّهُ لَوْ قَبِلَ، لَعَتَقَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَسَرَى، وَلَزِمَهُ قِيمَةُ الشَّرِيكِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ. وَالثَّانِي: يَقْبَلُ، وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْرِي. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ الْقَبُولُ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي صِحَّةِ الْقَبُولِ. فَرْعٌ اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَرِيبَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنِهِ أَوْ بِمُحَابَاةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَقَدْ لَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ

كُلِّ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ وَلَا وَصِيَّةٌ، اعْتُبِرَ عِتْقُهُ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِهِ، عَتَقَ، وَإِلَّا، عَتَقَ قَدْرُ الثُّلُثِ، وَإِنْ مَلَكَهُ بِإِرْثٍ، عَتَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى الْأَصَحِّ حَتَّى يَعْتِقَ كُلُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ آخَرُ. وَقِيلَ: مِنَ الثُّلُثِ حَتَّى لَا يَعْتِقَ إِلَّا ثُلُثُهُ، إِذَا لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا آخَرَ. وَلَوْ مَلَكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِرْثُ مِنَ الثُّلُثِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الْوَصَايَا. فَرْعٌ مِنْ قَوَاعِدِ كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا قَهَرَ حَرْبِيًّا، مَلَكَهُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْأَصْحَابُ قَصْدَ الْإِرْقَاقِ، بَلِ اكْتَفَوْا بِصُورَةِ الْقَهْرِ، وَعِنْدِي لَا بُدَّ مِنَ الْقَصْدِ، فَإِنَّ الْقَهْرَ قَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِخْدَامِ، فَلَا يَتَمَيَّزُ قَهْرُ الْإِرْقَاقِ إِلَّا بِالْقَصْدِ، فَإِذَا قَهَرَ عَبْدٌ سَيِّدَهُ الْحَرْبِيَّ، عَتَقَ الْعَبْدُ، وَصَارَ السَّيِّدُ رَقِيقًا لَهُ. وَلَوْ قَهَرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، وَاسْتَرَقَّهَا، مَلَكَهَا، وَجَازَ لَهُ بَيْعُهَا، وَكَذَا لَوْ قَهَرَتْ زَوْجَهَا. وَلَوْ قَهَرَ حَرْبِيٌّ أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ، فَهَلْ لَهُ بَيْعُهُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ ; لِأَنَّ الْقَهْرَ دَائِمٌ، وَبِهَذَا أَفْتَى الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُرَجَّحَ الْأَوَّلُ، وَيُتَّجَهَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَمْلِكُهُ بِالْقَهْرِ، لِاقْتِرَانِ سَبَبِ الْعِتْقِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ. وَيُخَالِفُ الشِّرَاءَ فَإِنَّا صَحَّحْنَاهُ لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إِلَى تَخْلِيصِهِ مِنَ الرِّقِّ. فَرْعٌ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى بَعْضَ قَرِيبِهِ، عَتَقَ عَلَيْهِ، وَسَرَى إِلَى الْبَاقِي، وَفِي مَعْنَاهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ. وَلَوْ وَرِثَ نِصْفَهُ، لَا يَسْرِي،

وَشِرَاءُ الْوَكِيلِ وَقَبُولُهُ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ كَشِرَائِهِ وَقَبُولِهِ لِصُدُورِهِ عَنِ اخْتِيَارِهِ، وَكَذَا قَبُولُ نَائِبِهِ شَرْعًا، حَتَّى لَوْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ ابْنِهِ، فَمَاتَ، وَقَبِلَ الْأَخُ الْوَصِيَّةَ، عَتَقَ الشِّقْصُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَسَرَى إِلَى الْبَاقِي إِنْ وَفَى بِهِ الثُّلُثُ، وَيُنَزَّلُ قَبُولُ وَارِثِهِ مَنْزِلَةَ قَبُولِهِ فِي حَيَاتِهِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى وَارِثِهِ، بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ ابْنِ أَخِيهِ، فَمَاتَ، وَقَبِلَ الْأَخُ الْوَصِيَّةَ، عَتَقَ الشِّقْصُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَسَرَى إِلَى الْبَاقِي إِنْ وَفَى بِهِ الثُّلُثُ، وَيُنَزَّلُ قَبُولُ وَارِثِهِ مَنْزِلَةَ قَبُولِهِ فِي حَيَاتِهِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى وَارِثِهِ، بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ ابْنِ أَخِيهِ، فَمَاتَ، وَقَبِلَ الْأَخُ الْوَصِيَّةَ، عَتَقَ الشِّقْصُ وَلَا سِرَايَةَ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ حَصَلَ لِلْمَيِّتِ أَوَّلًا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْأَخِ إِرْثًا، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي السِّرَايَةِ حَيْثُ يَمْلِكُ بِطَرِيقِ اخْتِيَارٍ يَتَضَمَّنُ الْمِلْكَ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ التَّمَلُّكُ، كَمَا إِذَا بَاعَ ابْنَ أَخِيهِ بِثَوْبٍ وَمَاتَ، وَوَارِثُهُ الْأَخُ، فَرَدَّ الثَّوْبَ بِعَيْبٍ، وَاسْتَرَدَّ الشِّقْصَ، عَتَقَ عَلَيْهِ. وَفِي السِّرَايَةِ الْخِلَافُ. وَلَوْ وُهِبَ لِعَبْدٍ بَعْضُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى سَيِّدِهِ، فَقَبِلَ، وَقُلْنَا: يَصِحُّ قَبُولُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، عَتَقَ الْمَوْهُوبُ عَلَى السَّيِّدِ، وَسَرَى ; لِأَنَّ قَبُولَ الْعَبْدِ كَقَبُولِهِ شَرْعًا. قُلْتُ: هَذَا مُشْكِلٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْرِي ; لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ قَهْرًا كَالْإِرْثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ جَرَحَ عَبْدٌ أَبَاهُ، فَاشْتَرَاهُ الْأَبُ، ثُمَّ مَاتَ بِالْجِرَاحَةِ. إِنْ قُلْنَا: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ، عَتَقَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَعْتِقْ. وَعَلَى هَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ صِحَّةُ الشِّرَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ.

الْخَصِيصَةُ الثَّالِثَةُ: امْتِنَاعُ الْعِتْقِ بِالْمَرَضِ، سَبَقَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تُحْسَبُ مِنَ الثُّلُثِ، وَأَنَّ الْعِتْقَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ وَقَدْ يَنْدَفِعُ لِوُقُوعِهِ فِي الْمَرَضِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ بَعْدَ حَطِّ قَدْرِ الدَّيْنِ، فَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا، لَمْ يَعْتِقْ شَيْءٌ مِنْهُ، فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدٌ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، لَمْ يَعْتِقْ إِلَّا ثُلُثُهُ، وَإِنْ مَاتَ هَذَا الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، مَاتَ، وَثُلُثُهُ حُرٌّ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَهَلْ يَمُوتُ كُلُّهُ رَقِيقًا، أَمْ كُلُّهُ حُرًّا، أَمْ ثُلُثُهُ حُرًّا وَبَاقِيهِ رَقِيقًا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا عِنْدَ الصَّيْدَلَانِيِّ: الْأَوَّلُ، وَبِهِ أَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ فِي مَجْلِسِ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الْمَحْمُودِيِّ، فَرَضِيَهُ وَحَمِدَهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَا يَعْتِقُ يَنْبَغِي أَنْ يَحْصُلَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ هُنَا شَيْءٌ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَوْ وَهَبَ فِي الْمَرَضِ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَأَقْبَضَهُ، وَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ السَّيِّدِ، فَإِنْ قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ، يَمُوتُ رَقِيقًا مَاتَ هُنَا عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ، وَيَلْزَمُهُ مَئُونَةُ تَجْهِيزِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمُوتُ حُرًّا، مَاتَ هُنَا عَلَى مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَعَلَيْهِ تَجْهِيزُهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّالِثِ، وُزِّعَتِ الْمَئُونَةُ عَلَيْهِمَا. الثَّانِي: إِذَا كَانَ لِهَذَا الْعَبْدِ وَلَدٌ مِنْ مُعْتِقِهِ، كَانَ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي أُمِّهِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَمُوتُ حُرًّا، أُنْجِزَ الْوَلَاءُ إِلَى مُعْتِقِ الْأَبِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَعْتِقُ ثُلُثُهُ، أُنْجِزَ وَلَاءُ ثُلُثِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ سِوَاهُ، وَمَاتَ الْعَتِيقُ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، قَالَ الْإِمَامُ: قَالَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ: لَا يَجِبُ مِنَ الثُّلُثِ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ، فَإِذَا لَمْ تَبْقَ إِلَى الْمَوْتِ، لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحِسَابِ، قَالَ: وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِنَا حُكْمُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَحُكْمِهِ لَوْ عَاشَ، أَنْ يُحْسَبَ

مِنَ الثُّلُثِ. وَلَوْ وَهَبَ عَبْدًا، وَأَقْبَضَهُ، وَلَهُ مَالٌ آخَرُ فَتَلِفَ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ قَبْلَ مَوْتِ الْوَاهِبِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ، كَمَا أَنَّ هِبَتَهُ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ كَإِعْتَاقِهِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ. وَلَوْ أَتْلَفَهُ الْمُتَّهِبُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا، حَتَّى إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ، يُحْسَبُ الْمَوْهُوبُ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، يَغْرَمُ الْمَوْهُوبُ لِلْوَرَثَةِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَلِفَ ; لِأَنَّ الْهِبَةَ لَيْسَتْ مُضَمَّنَةً، وَالْإِتْلَافُ مُضَمَّنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلِلْإِمَامِ احْتِمَالٌ فِي إِلْحَاقِ التَّلَفِ بِالْإِتْلَافِ وَعَكْسِهِ. فَرْعٌ أَعْتَقَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ فِرَقُ الْأَصْحَابِ: أَنَّ الْمَيِّتَ يَدْخُلُ فِي الْقُرْعَةِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ أَنْ يُجْعَلَ الْفَائِتُ كَالْمَعْدُومِ، وَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا، وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَجْهًا، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى الْمَيِّتِ، بَانَ أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا مَوْرُوثًا عَنْهُ، وَرَقَّ الْآخَرَانِ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ سَهْمُ الرِّقِّ، لَمْ يُحْسَبْ عَلَى الْوَرَثَةِ، لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَالَ، وَيُحْتَسَبُ بِهِ عَنِ الْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ الثَّوَابَ، وَتُعَادُ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَبْدَانِ، فَأَعْتَقَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْعِتْقِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُ، وَرَقَّ ثُلُثُهُ مَعَ الْعَبْدِ الْآخَرِ. وَلَوْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ أَوَّلًا عَلَى أَحَدِ الْحَيَّيْنِ، فَكَذَلِكَ يَعْتِقُ ثُلُثَاهُ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَقَبْلَ امْتِدَادِ يَدِ الْوَارِثِ إِلَى التَّرِكَةِ، فَالْحُكْمُ كَمَا

لَوْ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، وَلَفْظُ الصَّيْدَلَانِيِّ يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْمَيِّتُ فِي يَدِهِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ امْتِدَادِ يَدِ الْوَارِثِ إِلَى التَّرِكَةِ، وَقَبْلَ الْإِقْرَاعِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُحْسَبُ الْمَيِّتُ عَلَى الْوَارِثِ، حَتَّى لَوْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ، عَتَقَ كُلُّهُ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ دَخَلَ فِي يَدِهِ وَضَمَانِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى التَّرِكَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَسَلَّطْ عَلَى التَّصَرُّفِ. وَلَوْ مَاتَ اثْنَانِ مِنْهُمْ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ عَلَى أَحَدِ الْمَيِّتَيْنِ، صَحَّ عِتْقُ نِصْفِهِ، وَجُعِلَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ، وَهُوَ الْعَبْدُ الْحَيُّ. وَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الرِّقِّ عَلَيْهِ، أَقْرَعْنَا بَيْنَ الْمَيِّتِ الْآخَرِ وَالْحَيِّ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْآخَرِ، أَعْتَقْنَا نِصْفَهُ، وَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الرِّقِّ عَلَيْهِ، لَمْ يُحْسَبْ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَأَعْتَقْنَا ثُلُثَ الْحَيِّ. وَلَوْ قُتِلَ أَحَدُ الْعَبِيدِ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ بَعْدَهُ، دَخَلَ الْقَتِيلُ فِي الْقُرْعَةِ قَطْعًا ; لِأَنَّ قِيمَتَهُ تَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَلِوِرْثَةِ الْآخَرِ قِيمَةُ الْقَتِيلِ، وَإِنْ خَرَجَ لِلْقَتِيلِ، بَانَ أَنَّهُ قُتِلَ حُرًّا، وَعَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَعَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِنْ كَانَ قَاتِلُهُ حُرًّا، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ جَرَحَكَ أَحَدٌ، فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ، فَجَرَحَهُ حُرٌّ، وَمَاتَ بِالْجِرَاحَةِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ ; لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُتَعَيِّنَةٌ فِيهِ، وَهُنَا التَّعْيِينُ بِالْقُرْعَةِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَجْهَانِ ; لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنِ اعْتَقَدَ رِقَّهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ مَنْ عَرَفَهُ رَقِيقًا فَبَانَ عَتِيقًا، فَفِي الْقِصَاصِ قَوْلَانِ. الْخَصِيصَةُ الرَّابِعَةُ: الْقُرْعَةُ، وَفِيهَا طَرَفَانِ: أَحَدُهُمَا فِي مَحَلِّهَا،

وَهُوَ أَنْ يُعْتِقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَبِيدًا دُفْعَةً، وَيَقْصُرُ عَنْهُمْ ثُلُثُ مَالِهِ، وَلَا يُجِيزُ الْوَرَثَةُ عِتْقَهُمْ، فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ لِتَجْتَمِعَ الْحُرِّيَّةُ فِي بَعْضِهِمْ، فَيَعْتِقُ، أَوْ يَقْرُبُ مِنَ الْعِتْقِ. وَفِي الضَّابِطِ قُيُودٌ، أَحَدُهَا: وُقُوعُ الْإِعْتَاقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، فَإِذَا انْتَفَى عَتَقُوا كُلُّهُمْ. الثَّانِي: أَنْ يُعْتِقَهُمْ دُفْعَةً بِأَنْ يُوَكِّلَ بِإِعْتَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ وَكِيلًا، فَيَعْتِقُوا مَعًا، أَوْ يَقُولَ: هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ، أَوْ يَقُولَ لَهُمْ: أَعْتَقْتُكُمْ، أَوْ أَنْتُمْ أَحْرَارٌ، فَإِنْ أَعْتَقَهُمْ أَوَّلًا قُدِّمَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، إِلَى تَمَامِ الثُّلُثِ، كَقَوْلِهِ: سَالِمٌ حُرٌّ، وَغَانِمٌ حُرٌّ، وَفَائِقٌ حُرٌّ، فَلَوْ قَالَ: سَالِمٌ وَغَانِمٌ وَفَائِقٌ أَحْرَارٌ: فَهُوَ مَحَلُّ الْقُرْعَةِ. وَلَوْ قَالَ: سَالِمٌ وَغَانِمٌ وَفَائِقٌ حُرٌّ، فَعَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يُرَاجَعُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ حُرِّيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتُمْ أَحْرَارٌ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ حُرِّيَّةَ الْأَخِيرِ، قُبِلَ، وَلَا قُرْعَةَ، وَإِنْ قَالَ: حُرِّيَّةُ غَيْرِهِ، لَمْ يُقْبَلْ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقْصُرَ عَنْهُمْ ثُلُثُ مَالِهِ، وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ، فَإِنْ وَفَى الثُّلُثُ بِهِمْ، أَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ، عَتَقُوا جَمِيعًا. وَلَوْ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ عَبِيدٍ، وَلَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِهِمْ، وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ، أُقْرِعَ أَيْضًا، وَسَوَاءٌ أَوْصَى بِإِعْتَاقِهِمْ دُفْعَةً، أَوْ قَالَ: أَعْتِقُوا فُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: أَعْتِقُوا فُلَانًا ; لِأَنَّ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَوْتُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا رَتَّبَ الْإِعْتَاقَ الْمُنْجِزُ إِلَّا أَنْ يُقَيِّدَ، فَيَقُولَ: أَعْتِقُوا فُلَانًا ثُمَّ فُلَانًا وَلَوْ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ، فَقَالَ: إِذَا مُتُّ فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ، أَوْ أَعْتَقْتُكُمْ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ رَتَّبَ فَقَالَ: إِذَا مُتُّ، فَفُلَانٌ حُرٌّ، أَقْرَعَ أَيْضًا. وَفِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّعْلِيقِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا قُرْعَةَ، بَلْ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ ثُلُثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، أَوْ أَثْلَاثُ هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يُقْرَعُ،

بَلْ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ لِتَصْرِيحِهِ بِالتَّبْعِيضِ. وَأَصَحُّهُمَا: يُقْرَعُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْوَصَايَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ ثُلُثَكُمْ، أَوْ ثُلُثُكُمْ حُرٌّ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُكُمْ أَمْ كَقَوْلِهِ أَثْلَاثُ هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ، فِيهِ طَرِيقَانِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَضَافَ إِلَى الْمَوْتِ فَقَالَ: ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ أَثْلَاثُ هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ بَعْدَ مَوْتِي، عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ، وَلَا قُرْعَةَ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ يُعْتَبَرُ لِمَعْرِفَةِ الثُّلُثِ فِيمَنْ أَعْتَقَهُ مُنْجَزًا فِي الْمَرَضِ قِيمَةُ يَوْمِ الْإِعْتَاقِ، وَفِيمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ قِيمَةُ يَوْمِ الْمَوْتِ أَقَلَّ، فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ فِي مِلْكِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ يَوْمَ الْقَبْضِ أَقَلَّ، فَمَا نَقَصَ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَدْخُلْ فِي يَدِهِمْ، فَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِمْ، كَالَّذِي يُغْصَبُ، أَوْ يَضِيعُ مِنَ التَّرِكَةِ قَبْلَ قَبْضِهِمْ، وَإِذَا أَنْجَزَ إِعْتَاقَ عَبْدٍ، وَأَوْصَى بِإِعْتَاقِ آخَرَ، قَوَّمْنَا الْمُنْجَزَ حَالَ إِعْتَاقِهِ، وَالْآخَرَ حَالَ الْمَوْتِ، وَبَقِيَّةَ التَّرِكَةِ بِأَقَلِّ الْقِيمَتَيْنِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ، عَتَقَا، وَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا، أَعْتَقْنَا الْمُنْجَزَ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ، أَعْتَقْنَا بِقَدْرِهِ مِنَ الْمُوصَى بِإِعْتَاقِهِ، وَإِنْ نَقَصَ الثُّلُثُ، أَعْتَقْنَا مِنَ الْمُنْجَزِ بِقَدْرِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ فِي الْمَرَضِ عَبْدًا مُبْهَمًا، بِأَنْ قَالَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ حُرٌّ، أَوْ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِأَنْ قَالَ: أَعْتِقُوا أَحَدَهُمْ، فَفِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» لِلرُّويَانِيِّ أَنَّهُ يُكْتَبُ رُقْعَةٌ لِلْعِتْقِ، وَأُخْرَى لِلْوَصِيَّةِ بِإِعْتَاقٍ، وَرُقْعَتَانِ لِلتَّرِكَةِ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ الْعِتْقُ، فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِعَيْنِهِ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُ الْوَصِيَّةُ، فَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِإِعْتَاقِهِ، ثُمَّ يَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ. وَفِي «الشَّامِلِ» أَنَّهُ يُمَيَّزُ الثُّلُثُ بِالْقُرْعَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُمَيَّزُ بَيْنَ الْمُنْجَزِ وَالْآخَرِ.

فَرْعٌ كُلُّ عَبْدٍ مِنَ الْمُنْجَزِ إِعْتَاقُهُمْ عَتَقَ بِالْقُرْعَةِ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ مِنْ يَوْمِ الْإِعْتَاقِ لَا مِنْ يَوْمِ الْقُرْعَةِ، وَيُسَلَّمُ لَهُ مَا كَسَبَهُ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ وَلَا يُحْسَبُ مِنَ الثُّلُثِ، سَوَاءٌ كَسَبَهُ فِي حَيَاةِ الْمُعْتِقِ أَمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ رَقِيقًا مِنْهُمْ فَأَكْسَابُهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ، تُحْسَبُ عَلَى الْوَارِثِ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَأَكْسَابُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ الْقُرْعَةِ لَا تُحْسَبُ عَلَيْهِ، لِحُصُولِهَا عَلَى مِلْكِهِ. فَلَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِائَةٌ، وَكَسَبَ أَحَدُهُمْ مِائَةً، وَأَقْرَعْنَا، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلْكَاسِبِ، عَتَقَ وَفَازَ بِكَسْبِهِ، وَرَقَّ الْآخَرَانِ، وَإِنْ خَرَجَ لِأَحَدِ الْآخَرَيْنِ، عَتَقَ، ثُمَّ تُعَادُ بَيْنَ الْكَاسِبِ وَالْآخَرِ، فَإِنْ خَرَجَتْ لِلْآخَرِ، عَتَقَ ثُلُثُهُ وَبَقِيَ ثُلُثَاهُ مَعَ الْكَاسِبِ، وَكَسْبُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلْكَاسِبِ، وَقَعَ الدَّوْرُ ; لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْضُهُ، وَيَتَوَزَّعُ الْكَسْبُ عَلَى مَا عَتَقَ وَعَلَى مَا رَقَّ، وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ حِصَّةُ مَا عَتَقَ، وَتَزِيدُ التَّرِكَةُ بِحِصَّةِ مَا رَقَّ، وَإِذَا زَادَتِ التَّرِكَةُ، زَادَ مَا عَتَقَ، وَتَزِيدُ حِصَّتُهُ، وَإِذَا زَادَتْ حِصَّتُهُ، نَقَصَتْ حِصَّةُ التَّرِكَةِ. وَطَرِيقُ اسْتِخْرَاجِهِ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ الدَّوْرِيَّةِ مِنَ الْوَصَايَا وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْهُ رُبُعُهُ، وَيَتْبَعُهُ رُبُعُ كَسْبِهِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ مَعَ الْعَبْدِ الْآخَرِ، وَجُمْلَتُهَا ضِعْفُ مَا عَتَقَ، وَلَوْ كَسَبَ أَحَدُهُمْ مِائَتَيْنِ، وَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ الثَّانِيَةُ لِغَيْرِ الْكَاسِبِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، وَالْكَاسِبُ وَكَسْبُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلْكَاسِبِ،

فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ مِنَ الْكَسْبِ شَيْئَانِ ; لِأَنَّ كَسْبَهُ مِثْلَا قِيمَتِهِ، تَبْقَى لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ ضِعْفَ مَا عَتَقَ، وَهُوَ عَبْدَانِ وَشَيْئَانِ فَبَعْدَ الْجَبْرِ أَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ، تَعْدِلُ عَبْدَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْيَاءَ، تُسْقِطُ عَبْدَيْنِ بَعَبْدَيْنِ، يَبْقَى عَبْدَانِ وَشَيْئَانِ فِي مُقَابَلَةِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ خُمُسُ الْعَبْدَيْنِ، وَهُوَ خُمُسَا عَبْدٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ، فَقَدْ عَتَقَ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَبَقِيَ لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ سِتُّونَ، وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ كَسْبِهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ، وَجُمْلَتُهَا مِائَتَانِ وَثَمَانُونَ، وَقَدْ سَبَقَتْ نَظَائِرُ هَذَا فِي الْوَصَايَا. هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَكْسَابِ الْحَاصِلَةِ فِي حَيَاةِ الْمُعْتِقِ، وَلَوْ كَسَبَ أَحَدُهُمْ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ مِائَةً بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلْكَاسِبِ عَتَقَ وَتَبِعَهُ كَسْبُهُ غَيْرَ مَحْسُوبٍ كَمَا لَوْ كَسَبَ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ خَرَجَتْ لِغَيْرِ الْكَاسِبِ، عَتَقَ، وَرَقَّ الْآخَرَانِ، وَلَا تُعَادُ الْقُرْعَةُ لِلْكَسْبِ، بَلْ يَفُوزُ بِهِ الْوَارِثُ لِحُصُولِهِ فِي مِلْكِهِ، وَكَسْبُ مَنْ أُوصِيَ بِإِعْتَاقِهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي لِلْمُوصِي، تَزِيدُ بِهِ التَّرِكَةُ وَالثُّلُثُ، وَكَسْبُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا تَزِيدُ بِهِ التَّرِكَةُ وَلَا الثُّلُثُ بِلَا خِلَافٍ. وَهَلْ هُوَ لِلْوَرَثَةِ أَمْ لِلْعَبْدِ؟ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ الصَّبَّاغِ أَحَدُهُمَا: قَوْلَانِ كَالْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ كَسْبَ الْمُوصَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ لِلْوَرَثَةِ أَوْ لِلْمُوصَى لَهُ؟ وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لِلْوَرَثَةِ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ بِمَوْتِ الْمُوصِي اسْتِحْقَاقًا مُسْتَقِرًّا، وَالْوَصِيَّةُ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، بَلِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، وَإِذَا زَادَتْ قِيمَةُ مَنْ نَجَزَ إِعْتَاقُهُ، كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَالْكَسْبِ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ قَرْعَةُ الْعِتْقِ، تَبِعَتْهُ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مَحْسُوبَةٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيمَنْ أَعْتَقَهُمْ جَارِيَةٌ، فَوَلَدَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ، فَالْوَلَدُ كَالْكَسْبِ،

فَإِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهَا، تَبِعَهَا الْوَلَدُ غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِغَيْرِ مَنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ، أَوِ الَّتِي وَلَدَتْ، وَقَعَ لِلدَّوْرِ. وَلَوْ أَعْتَقَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِائَةٌ، فَبَلَغَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمْ مِائَتَيْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَسَبَ أَحَدُهُمْ مِائَةً. وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَيْنِ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِائَةٌ، فَوَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا وَلَدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَسَبَ أَحَدُهُمْ مِائَةً، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلَّتِي لَمْ تَلِدْ، عَتَقَتْ، وَرَقَّتِ الْوَالِدَةُ وَوَلَدُهَا، وَهُمَا ضِعْفُ مَا عَتَقَ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلْوَالِدَةِ، عَتَقَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَتَبِعَهَا مِنَ الْوَلَدِ مِثْلُهُ، يَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ إِلَّا شَيْئَيْنِ يَعْدِلُ ضِعْفَ مَا أَعْتَقْنَا مَحْسُوبًا، وَهُمَا شَيْئَانِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ يَعْدِلُ ثَلَاثُمِائَةٍ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَالشَّيْءُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مِائَةٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ عَتَقَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَتَبِعَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْوَلَدِ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ رُبُعُهُمَا وَالْجَارِيَةُ الْأُخْرَى، وَجُمْلَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، ضِعْفُ مَا عَتَقَ مِنْهَا. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ الْحَامِلِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ، أَوْ مَا فِي بَطْنِكِ، فَوَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْإِعْتَاقِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ تَعْيِينٌ، فَيُقْرَعُ، فَإِنْ خَرَجَتْ لِلْوَلَدِ، عَتَقَ دُونَ الْأُمِّ، وَإِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِهِ، عَتَقَ مِنْهُ قَدْرُ الثُّلُثِ، وَإِنْ خَرَجَتِ الْأُمُّ، عَتَقَتْ، وَتَبِعَهَا الْوَلَدُ إِنْ وَفَى بِهِمَا الثُّلُثُ، وَإِلَّا، فَيَعْتِقُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَيَتْبَعُهَا مِنَ الْوَلَدِ شَيْءٌ. وَطَرِيقُ اسْتِخْرَاجِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَصَايَا فِيمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَكَسَبَ، وَتَقْوِيمُ الْوَلَدِ بِمَا يَكُونُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَلَدَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ، نُظِرَ إِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ، فَالْوَلَدُ كَكَسْبٍ حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلْأُمِّ، عَتَقَتْ، وَتَبِعَهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ لِغَيْرِ

الْوَالِدَةِ، عَتَقَتْ، وَلَا تُعَادُ الْقُرْعَةُ لِلْوَلَدِ ; لِأَنَّهُ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهَلْ تُحْسَبُ عَلَى الْوَارِثِ حَتَّى تُعَادَ الْقُرْعَةُ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ يُعْرَفُ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، فَهُوَ كَالْحَادِثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَا تُعَادُ، وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَكَالْحَادِثِ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَتُعَادُ، وَأَطْلَقَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ، هَلْ يُحْسَبُ الْوَلَدُ عَلَى الْوَرَثَةِ مِنَ الثُّلُثَيْنِ؟ وَلَوْ نَقَصَتْ قِيمَةُ مَنْ نُجِّزَ، عَتَقَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ، فَإِنْ كَانَ النَّقْصُ فِيمَنْ خَرَجَتْ لَهُ قُرْعَةُ الْعِتْقِ، حُسِبَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِعِتْقِهِ مِنْ يَوْمِ الْإِعْتَاقِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَنْ رَقَّ، لَمْ يُحْسَبْ عَلَى الْوَرَثَةِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ إِلَّا النَّاقِصُ. فَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَرَجَعَ إِلَى خَمْسِينَ، فَقَدْ ذَكَرْنَا طَرِيقَ اسْتِخْرَاجِهِ فِي الْوَصَايَا. وَحَاصِلُهُ أَنْ يَعْتِقَ مِنْهُ الْخُمُسُ. وَلَوْ أَعْتَقَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِائَةٌ، فَعَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمْ إِلَى خَمْسِينَ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلنَّاقِصِ، عَتَقَ وَحْدَهُ ; لِأَنَّهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ مِائَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ لِأَحَدِ الْآخَرَيْنِ، عَتَقَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ وَثُلُثٌ، يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ سُدُسُهُ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ وَالنَّاقِصُ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، ضِعْفُ مَا عَتَقَ ; لِأَنَّ الْمَحْسُوبَ عَلَى الْوَرَثَةِ الْبَاقِي بَعْدَ النَّقْصِ، وَهُوَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِائَةٌ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا، فَعَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا إِلَى خَمْسِينَ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلْآخَرِ، عَتَقَ نِصْفُهُ، وَبَقِيَ لِلْوَرَثَةِ نِصْفُهُ مَعَ الْعَبْدِ النَّاقِصِ، وَهُمَا ضِعْفُ مَا عَتَقَ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلنَّاقِصِ، وَقَعَ الدَّوْرُ، لِأَنَّا نَحْتَاجُ إِلَى إِعْتَاقِ بَعْضِهِ مُعْتَبَرًا بِيَوْمِ الْإِعْتَاقِ، وَإِلَى إِبْقَاءِ ضِعْفِهِ لِلْوَرَثَةِ مُعْتَبَرًا بِيَوْمِ الْمَوْتِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَعْتِقُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ، يَبْقَى خُمُسَاهُ مَعَ الْآخَرِ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ حَدَثَ

النَّقْصُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ، وَقَبْلَ الْإِقْرَاعِ، فَهَلْ يُحْسَبُ عَلَى الْوَرَثَةِ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ الْوَارِثُ مَقْصُورَ الْيَدِ عَنِ التَّرِكَةِ، لَمْ يُحْسَبْ عَلَيْهِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُحْسَبُ عَلَيْهِ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ الْقُرْعَةِ وَالتَّجْرِبَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ فَصْلَانِ: الْأَوَّلُ: فِي كَيْفِيَّةِ الْقُرْعَةِ، قَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ لِلْقُرْعَةِ طَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكْتَبَ أَسْمَاءُ الْعَبِيدِ فِي رِقَاعٍ، ثُمَّ يُخْرَجَ عَلَى الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُكْتَبَ فِي الرِّقَاعِ الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ، وَيُخْرَجَ عَلَى أَسْمَاءِ الْعَبِيدِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَثْبَتَ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ يُقْرَعُ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ أَمِ الثَّانِي، وَأَنَّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْخِلَافِ فِي الْجَوَازِ وَالْأَوْلَوِيَّةِ خِلَافًا، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ قَالُوا فِي الْعِتْقِ: يَسْلُكُ مَا شَاءَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَلَفْظُهُ فِي الْمُخْتَصَرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ أَخْصَرُ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ الرِّقَاعُ صِغَارًا لِيَكُونَ أَخْفَى، وَأَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةً، وَأَنْ تُدْرَجَ فِي بَنَادِقَ، وَتُجْعَلَ فِي حِجْرِ مِنْ لَمْ يَحْضُرْ هُنَاكَ، كَمَا بَيَّنَّا فِي الْقِسْمَةِ، وَأَنَّهُ يُغَطَّى بِثَوْبٍ، وَيُدْخَلُ مَنْ يُخْرِجُهَا الْيَدَ مِنْ تَحْتِهِ. كُلُّ هَذَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنَ التُّهْمَةِ، وَلَا تَتَعَيَّنُ الرِّقَاعُ، بَلْ تَجُوزُ الْقُرْعَةُ بِأَقْلَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَبِالنَّوَى وَالْبَعْرِ، وَذَكَرَ الصَّيْدَلَانِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَعَ بِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، كَدَوَاةٍ وَقَلَمٍ وَحَصَاةٍ، وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي هَذَا ; لِأَنَّ الْمُخْرِجَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَظْهَرُ حَيْفُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْ أَصْلِ الْقُرْعَةِ، وَالتَّمْيِيزُ بِطَرِيقٍ آخَرَ بِأَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ طَارَ غُرَابٌ، فَفُلَانٌ حُرٌّ، أَوْ أَنَّ مَنْ وَضَعَ عَلَى صَبِيٍّ يَدَهُ، فَهُوَ حُرٌّ، أَوْ أَنْ يُرَاجَعَ شَخْصٌ لَا غَرَضَ لَهُ

وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ: فَإِنْ كُنَّا نُعْتِقُ عَبْدًا، وَنَرِقُّ آخَرِينَ، وَرَأَيْنَا إِثْبَاتَ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: يَثْبُتُ الرِّقُّ فِي رُقْعَتَيْنِ، وَالْحُرِّيَّةُ فِي رُقْعَةٍ عَلَى نِسْبَةِ الْمَطْلُوبِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَإِنَّ مَا يَكْثُرُ فَهُوَ أَحْرَى بِسَبْقِ الْيَدِ إِلَيْهِ. وَفِي كَلَامِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ احْتِيَاطًا، وَقَالَ: يَكْفِي رُقْعَةٌ لِلرِّقِّ وَأُخْرَى لِلْحُرِّيَّةِ، ثُمَّ إِذَا أَخْرَجْنَا رُقْعَةً بِاسْمِ أَحَدِهِمْ، فَخَرَجَتْ لِلْحُرِّيَّةِ، انْفَصَلَ الْأَمْرُ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلرِّقِّ، احْتَجْنَا إِلَى إِخْرَاجِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا أَثْبَتْنَا الرِّقَّ وَالْحُرِّيَّةَ، فَقَالَ الْمُخْرِجُ: أُخْرِجُ عَلَى اسْمِ هَذَا، وَنَازَعَهُ الْآخَرُونَ، وَقَالُوا: أَخْرِجْ عَلَى أَسْمَائِنَا، أَوْ أَثْبَتْنَا الْأَسْمَاءَ، وَقَالَ الْمُخْرِجُ: أُخْرِجُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَقَالُوا: أَخْرِجْ عَلَى الرِّقِّ، أَوْ تَنَازَعَ الْوَرَثَةُ وَالْعَبْدُ، فَقَالَ الْوَرَثَةُ: أَخْرِجْ عَلَى الرِّقِّ، وَقَالَ الْعَبْدُ: عَلَى الْحُرِّيَّةِ، فَهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأَصْحَابُ، وَفِيهِ احْتِمَالَانِ، إِنْ أَثْبَتَ الرِّقَّ وَالْحُرِّيَّةَ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَ الْعَبِيدِ أَوَّلًا حَتَّى يَتَعَيَّنَ مَنْ يُعْرَضُ عَلَى الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ وَاحِدٌ، أُخْرِجَتْ رُقْعَةٌ عَلَى اسْمِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَثْبُتَ الْحُرِّيَّةُ عَلَى رُقْعَةٍ، وَالرِّقُّ عَلَى رُقْعَتَيْنِ، وَيُعْطِي الْمُخْرِجُ كُلَّ عَبْدٍ رُقْعَةً، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْقِسْمَةِ أَنَّ تَعْيِينَ مَنْ يُبْدَأُ بِهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَالْأُجَرَاءِ مَنُوطٌ بِنَظَرِ الْقَسَّامِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُنَاطَ هُنَا بِنَظَرِ مُتَوَلِّي الْإِقْرَاعِ مِنْ قَاضٍ أَوْ وَصِيٍّ، فَيَبْدَأُ بِمَنْ شَاءَ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مُضَايَقَاتِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِعْطَاءَ كُلِّ عَبْدٍ رُقْعَةً، لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِقْرَاعِ، بَلْ يَكْفِي الْإِخْرَاجُ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ تَجْزِئَةِ الْعَبِيدِ، وَهِيَ تَقَعُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا، أُقْرِعَ بِإِثْبَاتِ اسْمَيْهِمَا فِي رُقْعَتَيْنِ، وَإِخْرَاجِ أَحَدِهِمَا عَلَى الرِّقِّ أَوِ الْحُرِّيَّةِ، أَوْ بِإِثْبَاتِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فِي رُقْعَتَيْنِ، وَالْإِخْرَاجِ عَلَى اسْمِهِمَا، ثُمَّ إِنِ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمَا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُ، وَرَقَّ بَاقِيهِ مَعَ الْآخَرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا

كَمِائَةٍ وَمِائَتَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْحُرِّيَّةُ لِصَاحِبِ الْمِائَةِ، عَتَقَ، وَرَقَّ الْآخَرُ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلْآخَرِ عَتَقَ نِصْفُهُ، وَرَقَّ بَاقِيهِ مَعَ الْآخَرِ. وَإِنْ أَعْتَقَ عَبِيدًا لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً، وَاسْتَوَتْ قِيمَتُهُمْ، فَإِنْ شَاءَ كَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ وَقَالَ لِلْمُخْرِجِ: أَخْرِجْ رُقْعَةً عَلَى الْحُرِّيَّةِ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ، عَتَقَ، أَوْ قَالَ: أَخْرِجْ فِي الرِّقِّ حَتَّى يَتَعَيَّنَ فِي الْآخَرِ الْحُرِّيَّةُ، وَالْإِخْرَاجُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى فَصْلِ الْأَمْرِ. وَإِنْ شَاءَ كَتَبَ عَلَى الرِّقَاعِ الرِّقَّ فِي رُقْعَتَيْنِ، وَالْحُرِّيَّةَ فِي رُقْعَةٍ، وَقَالَ: أُخْرِجُ عَلَى اسْمِ سَالِمٍ، أَوْ أَشَارَ إِلَى عَيْنِهِ وَقَالَ: عَلَى اسْمِ هَذَا، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَ وَرَقَّ الْآخَرَانِ، وَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الرِّقِّ، رَقَّ، وَأَمَرْنَا بِإِخْرَاجِ رُقْعَةٍ أُخْرَى عَلَى اسْمِ غَانِمٍ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَ، وَرَقَّ الثَّالِثُ، وَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الرِّقِّ فَبِالْعَكْسِ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمْ كَمِائَةٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِمَّا أَنْ نَكْتُبَ أَسْمَاءَهُمْ، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ الْأَوَّلِ، عَتَقَ وَأَخْرَجَ رُقْعَةً أُخْرَى، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ الثَّانِي، عَتَقَ نِصْفُهُ، وَإِنْ خَرَجَ اسْمُ الثَّالِثِ، عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَإِنْ خَرَجَ أَوَّلًا اسْمُ الثَّانِي، عَتَقَ وَرَقَّ الْآخَرَانِ، وَإِنْ خَرَجَ اسْمُ الثَّالِثِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُ، وَرَقَّ بَاقِيهِ وَالْآخَرَانِ، وَإِمَّا أَنْ نَكْتُبَ الرِّقَّ فِي رُقْعَتَيْنِ، وَالْحُرِّيَّةَ فِي رُقْعَةٍ، وَنُخْرِجَ عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَسْوِيَةُ الْأَجْزَاءِ عَدَدًا وَقِيمَةً، كَسِتَّةٍ أَوْ تِسْعَةٍ أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ، قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ جَزَّأْنَاهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَصَنَعْنَا صَنِيعَنَا فِي الثَّلَاثَةِ الْمُتَسَاوِينَ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سِتَّةٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةٌ، وَثَلَاثَةٌ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسُونَ، فَيُضَمُّ إِلَى كُلِّ نَفِيسٍ خَسِيسًا، وَنَجْعَلُهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، وَفِي سِتَّةٍ اثْنَانِ مِنْهُمْ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُمِائَةٍ، وَاثْنَانِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِائَتَانِ، وَاثْنَانِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِائَةٌ، فَنَجْعَلُ اللَّذَيْنِ قِيمَتُهُمَا أَرْبَعُمِائَةٍ جُزْءًا، وَيُضَمُّ إِلَى كُلِّ نَفِيسٍ خَسِيسًا، فَيَسْتَوِي الْأَجْزَاءُ عَدَدًا وَقِيمَةً. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ التَّسْوِيَةُ

بِالْعَدَدِ، وَتَيَسَّرَتْ بِالْقِيمَةِ، كَخَمْسَةٍ قِيمَةُ أَحَدِهِمْ مِائَةٌ، وَقِيمَةُ اثْنَيْنِ مِائَةٌ، وَقِيمَةُ اثْنَيْنِ مِائَةٌ، جَزَّأْنَاهُمْ كَذَلِكَ، وَأَقْرَعْنَا. وَإِنْ أَمْكَنَ التَّسْوِيَةُ بِالْعَدَدِ دُونَ الْقِيمَةِ، كَسِتَّةٍ، قِيمَةُ أَحَدِهِمْ مِائَةٌ، وَقِيمَةُ اثْنَيْنِ مِائَةٌ، وَقِيمَةُ ثَلَاثَةٍ مِائَةٌ، فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: يُجَزَّءُونَ بِالْعَدَدِ، وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٌ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: يُجَزَّءُونَ بِالْعَدَدِ، فَيُجْعَلُ اللَّذَانِ قِيمَتُهُمَا مِائَةٌ جُزْءًا، وَالَّذِي قِيمَتُهُ مِائَةٌ مَعَ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِينَ جُزْءًا، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَيَعْتِقُ قَدْرُ الثُّلُثِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ التَّسْوِيَةُ بِالْعَدَدِ وَلَا بِالْقِيمَةِ، كَثَمَانِيَةٍ، قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: يُجَزَّءُونَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، بِحَيْثُ يَقْرُبُ مِنَ التَّثْلِيثِ، فَيُجْعَلُونَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثَةً وَاثْنَيْنِ، وَيُقْرَعُ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، رَقَّ غَيْرُهُمْ، وَانْحَصَرَ الْعِتْقُ فِيهِمْ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ بِسَهْمَيْ عِتْقٍ وَسَهْمِ رِقٍّ، فَلِمَنْ خَرَجَ لَهُ الرِّقُّ، رَقَّ ثُلُثُهُ، وَعَتَقَ ثُلُثُهُ مَعَ الْآخَرَيْنِ. وَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ أَوَّلًا عَلَى الِاثْنَيْنِ، عَتَقَا، وَتُعَادُ الْقُرْعَةُ بَيْنَ السِّتَّةِ، وَيُجْعَلُ كُلُّ اثْنَيْنِ جُزْءًا، فَإِذَا خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ بِاسْمِ اثْنَيْنِ، أَعَدْنَا الْقُرْعَةَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُ. هَذَا إِذَا كَتَبْنَا فِي الرِّقَاعِ الرِّقَّ وَالْحُرِّيَّةَ، وَإِنْ كَتَبْنَا الْأَسْمَاءَ، فَإِذَا خَرَجَ سَهْمُ اثْنَيْنِ وَعَتَقَا لَمْ تُعَدِ الْقُرْعَةُ بَيْنَ السِّتَّةِ، بَلْ يُخْرَجُ قُرْعَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْمُسَمِّينَ فِيهَا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْعِتْقِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ نُجَزِّئَهُمْ أَرْبَعَةً وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ، لِبُعْدِ هَذِهِ التَّجْزِئَةِ عَلَى التَّثْلِيثِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُرَاعَى التَّثْلِيثُ، بَلْ يُرَاعَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى فَصْلِ الْأَمْرِ، فَيَجُوزُ أَنْ تُكْتَبَ أَسْمَاؤُهُمْ فِي ثَمَانِ رِقَاعٍ، وَيُخْرِجَ

وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الثُّلُثُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلُوا أَرْبَاعًا، ثُمَّ إِنْ شِئْنَا أَثْبَتْنَا اسْمَ كُلِّ اثْنَيْنِ فِي رُقْعَةٍ، فَإِذَا خَرَجَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَا، ثُمَّ يُخْرِجَ رُقْعَةً أُخْرَى، وَيُقْرِعَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ اسْمُهُمَا فِيهَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَإِنْ شِئْنَا أَثْبَتْنَا الرِّقَّ وَالْحُرِّيَّةَ، فَأَثْبَتْنَا الْعِتْقَ فِي وَاحِدَةٍ، وَالرِّقَّ فِي ثَلَاثٍ، فَإِذَا خَرَجَتْ رُقْعَةُ الْعِتْقِ لِاثْنَيْنِ، عَتَقَا، وَيُعِيدُ الْقُرْعَةَ بَيْنَ السِّتَّةِ، فَإِذَا خَرَجَتْ لِاثْنَيْنِ، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَبْعُدُ عَلَى هَذَا أَنْ يَجُوزَ إِثْبَاتُ الْعِتْقِ فِي رُقْعَتَيْنِ، وَالرِّقِّ فِي رُقْعَتَيْنِ، وَيَعْتِقُ الِاثْنَانِ اللَّذَانِ خَرَجَتْ لَهُمَا رُقْعَةُ الْعِتْقِ أَوَّلًا، وَيُقْرَعُ بَيْنَ اللَّذَيْنِ خَرَجَ لَهُمَا رُقْعَتَيِ الْعِتْقِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبِيدُ سَبْعَةً، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُجَزِّئُهُمْ ثَلَاثَةً وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ، وَعَلَى الثَّانِي نُجَزِّئُ كَيْفَ شِئْنَا إِلَى أَنْ يَتِمَّ الثُّلُثُ. وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ فَعَلَى الْأَوَّلِ نُجَزِّئُهُمُ اثْنَيْنِ وَوَاحِدًا وَوَاحِدًا فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِأَحَدِ الْفَرْدَيْنِ، عَتَقَ، ثُمَّ يُعِيدُ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْعِتْقِ، عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَإِنْ خَرَجَ لِلِاثْنَيْنِ، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْعِتْقِ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَثُلُثُ الْآخَرِ. وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ إِثْبَاتِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فِي الرِّقَاعِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يُثْبِتُ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي رُقْعَةٍ، وَيُخْرِجُ بِاسْمِ الْحُرِّيَّةِ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ أَوَّلًا، عَتَقَ، وَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ ثَانِيًا، عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً، قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُجَزِّئُهُمُ اثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَوَاحِدًا، وَعَلَى الثَّانِي لَنَا إِثْبَاتُ أَسْمَائِهِمْ فِي خَمْسِ رِقَاعٍ، ثُمَّ الْقَوْلُ فِي الْإِيجَابِ أَمْ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَالِاحْتِيَاطِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ، وَبِالثَّانِي قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدٍ عَلَى الْإِبْهَامِ، فَقَدْ يُحْتَاجُ إِلَى

تَجْزِئَتِهِمْ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ وَخَمْسَةً وَأَكْثَرَ، فَيُجَزَّءُونَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ دَيْنٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. مَسَائِلُ: الْأُولَى: إِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَبِيدًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ وَمَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، نُظِرَ، إِنِ اسْتَغْرَقَهُمُ الدَّيْنُ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ، فَيُبَاعُونَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهُمْ، أُقْرِعَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالتَّرِكَةِ لِيُصْرَفَ الْعِتْقُ عَمَّا يَتَعَيَّنُ لِلدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ قَدْرَ نِصْفِهِمْ، جَعَلْنَا حُرَّيْنِ، وَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا بِسَهْمِ دَيْنٍ وَسَهْمِ تَرِكَةٍ، ثُمَّ إِنْ شِئْنَا كَتَبْنَا أَسْمَاءَ كُلِّ حُرٍّ فِي رُقْعَةٍ، وَأَخْرَجْنَا رُقْعَةَ الدَّيْنِ أَوِ التَّرِكَةِ. وَإِنْ شِئْنَا كَتَبْنَا الدَّيْنَ فِي رُقْعَةٍ وَالتَّرِكَةَ فِي رُقْعَةٍ، وَأَخْرَجْنَا إِحْدَاهُمَا عَلَى أَحَدِ الْحُرَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرُ الدَّيْنِ ثُلُثَهُمْ، جَزَّأْنَاهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، وَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمْ بِسَهْمِ دَيْنٍ، وَسَهْمَيْ تَرِكَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ الرَّابِعِ، جَزَّأْنَاهُمْ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ، وَأَقْرَعْنَا بِسَهْمِ دَيْنٍ، وَثَلَاثَةِ أَسْهُمِ تَرِكَةٍ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَعَ لِلدَّيْنِ وَالْعِتْقِ وَالتَّرِكَةِ، بِأَنْ يُقْرَعَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِسَهْمِ دَيْنٍ وَسَهْمِ عِتْقٍ وَسَهْمَيْ تَرِكَةٍ، أَوْ يُجَزِّئَهُمْ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ قَدْرَ نِصْفِهِمْ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ، وَيُقْرِعَ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلدَّيْنِ وَسَهْمٍ لِلْعِتْقِ وَسَهْمَيْنِ لِلتَّرِكَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: لَا ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْعِتْقِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَوْ تَلَفَ الْمُعَيَّنُ لِلدَّيْنِ قَبْلَ قَضَائِهِ، انْعَكَسَ الدَّيْنُ عَلَى الْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ، وَكَمَا لَا يُقَسَّمُ شَيْءٌ عَلَى الْوَرَثَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، لَا يَعْتِقُ قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ أَخَفُّ فَلَا يَنْقُصُ بِهِ حَقُّ ذِي حَقٍّ، وَعَلَى هَذَا نَقَلَ الْغَزَالِيُّ أَنَّا نَتَوَقَّفُ فِي تَنْفِيذِ الْعِتْقِ إِلَى أَنْ يُقْضَى الدَّيْنُ. وَفِي التَّهْذِيبِ مَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِالْعِتْقِ فِي الْحَالِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَنْصُوصِ، فَتَعَيَّنَ بَعْضُهُمْ لِلدَّيْنِ؛ يُبَاعُ وَيُقْضَى مِنْهُ الدَّيْنُ، ثُمَّ يُقْرَعُ لِلْعِتْقِ وَحَقِّ الْوَرَثَةِ. وَلَوْ قَالَ الْوَارِثُ: أَقْضِي الدَّيْنَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَأُنْفِذَ الْعِتْقُ فِي الْجَمِيعِ، فَهَلْ يُنَفَّذُ الْعِتْقُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ النُّفُوذِ الدَّيْنُ،

فَإِذَا سَقَطَ بِالْقَضَاءِ، نَفَذَ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الْوَرَثَةُ حَقَّهُمْ مِنْ ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ وَأَجَازُوا عِتْقَ الْجَمِيعِ. وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ مَنَعَ النُّفُوذَ، لَا يَنْقَلِبُ نَافِذًا بِسُقُوطِهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الرَّاهِنُ وَقُلْنَا: لَا يُنَفَّذُ، فَقَالَ: أَنَا أَقْضِي الدَّيْنَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ لِيُنَفَّذَ، فَإِنَّهُ لَا يُنَفَّذُ إِلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ إِعْتَاقًا، وَبُنِيَ الْوَجْهَانِ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ هَلْ يُنَفَّذُ؟ قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ نُفُوذَ الْعِتْقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ لَوْ أَعْتَقَ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ عَبِيدًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، وَمَاتَ، وَأَعْتَقْنَا بَعْضَهُمْ بِالْقُرْعَةِ، وَأَرْقَقْنَا بَعْضَهُمْ، فَظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ مَدْفُونٌ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُخْرِجُ جَمِيعَهُمْ مِنَ الثُّلُثِ، بِأَنْ كَانَ الْمَالُ مِثْلَيْ قِيمَتِهِمْ، حُكِمَ بِعِتْقِهِمْ جَمِيعًا، فَنَدْفَعُ إِلَيْهِمْ أَكْسَابَهُمْ مِنْ يَوْمِ إِعْتَاقِهِمْ، وَلَا يَرْجِعُ الْوَارِثُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ، كَمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صَحِيحٌ، ثُمَّ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، لَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ. وَإِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْضُ مَنْ أَرْقَقْنَاهُمْ، أَعْتَقْنَاهُمْ بِالْقُرْعَةِ، مِثْلَ أَنْ أَعْتَقْنَا وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ ظَهَرَ مَالٌ يَخْرُجُ بِهِ آخَرُ، يُقْرَعُ بَيْنَ اللَّذَيْنِ أَرْقَقْنَاهُمَا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَ. وَلَوْ أَعْتَقْنَا بَعْضَ الْعَبِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ، ثُمَّ ظَهَرَ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا لِلتَّرِكَةِ، فَالْعِتْقُ بَاطِلٌ، فَإِنْ قَالَ الْوَرَثَةُ: نَحْنُ نَقْضِي الدَّيْنَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَاسْتَبْعَدَ الشَّيْخُ بِنَاءَهُمَا عَلَى الْخِلَافِ فِي تَصَرُّفِ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ قَبْلَ الدَّيْنِ، وَقَالَ هُنَاكَ الْوَارِثُ يُنْشِئُ إِعْتَاقًا مِنْ عِنْدِهِ، وَلَا يُمْضِي مَا فَعَلَ الْمَيِّتُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ إِجَازَةَ الْوَارِثِ لِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تَنْفِيذٌ أَمِ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنَ الْوَارِثِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: تَنْفِيذٌ، فَلَهُ تَنْفِيذُ إِعْتَاقِهِ بِقَضَاءِ

الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ، ثُمَّ يَبْتَدِئَ إِعْتَاقًا، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي ظَهَرَ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ، فَهَلْ يُبْطِلُ الْقُرْعَةَ مَنْ أَصْلِهَا؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوِ اقْتَسَمَ شَرِيكَانِ، ثُمَّ ظَهَرَ ثَالِثٌ، فَعَلَى هَذَا يُقْرَعُ الْآنَ لِلدَّيْنِ وَالتَّرِكَةِ وَلَا يُبَالَى بِوُقُوعِ سَهْمِ الدَّيْنِ عَلَى مَنْ وَقَعَتْ لَهُ قُرْعَةُ الْعِتْقِ أَوَّلًا. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا، وَلَكِنْ إِنْ تَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، نَفَذَ الْعِتْقُ، وَإِلَّا فَيُرَدُّ الْعِتْقُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ نِصْفَ التَّرِكَةِ، رَدَدْنَاهُ فِي نِصْفِ مَنْ أَعْتَقْنَا، وَإِنْ كَانَ ثُلُثَهَا، رَدَدْنَا ثُلُثَهُمْ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَبِيدُ سِتَّةً، قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، وَأَعْتَقْنَا اثْنَيْنِ بِالْقُرْعَةِ، فَظَهَرَ دَيْنٌ بِقَدْرِ قِيمَةِ اثْنَيْنِ بِعْنَا مِنَ الْأَرْبَعَةِ اثْنَيْنِ لِلدَّيْنِ كَيْفَ اتَّفَقَ، وَيُقْرَعُ بَيْنَ الْمُعْتَقَيْنِ الْقُرْعَةَ أَوَّلًا بِسَهْمِ رِقٍّ، وَسَهْمِ عِتْقٍ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الرِّقِّ، رَقَّ ثُلُثَاهُ، وَعَتَقَ ثُلُثُهُ مَعَ الْآخَرِ. وَإِنْ ظَهَرَ الدَّيْنُ بِقَدْرِ قِيمَةِ ثَلَاثَةٍ، أُقْرِعَ بَيْنَ اللَّذَيْنِ كَانَ خَرَجَ لَهُمَا الْحُرِّيَّةُ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ الْحُرِّيَّةُ عَتَقَ، وَرَقَّ الْآخَرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَحَدُكُمْ حُرٌّ، أَوِ اثْنَانِ حُرَّانِ، أَوْ أَعْتَقْتُ أَحَدَكُمْ، فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ مُعَيَّنًا فَيُؤْمَرُ بِبَيَانِهِ، وَيُحْبَسُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ هَذَا، عَتَقَ، وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّكَ أَرَدْتَنِي، وَيُحَلِّفَهُ، وَإِنْ نَكَلَ السَّيِّدُ، حَلَفَ هُوَ وَعَتَقَ. وَلَوْ عَيَّنَ وَاحِدًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ هَذَا، بَلْ هَذَا، أُعْتِقَا جَمِيعًا، مُؤَاخَذَةً لَهُ. وَلَوْ قَتَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَيَانًا، بَلْ يَبْقَى الْأَمْرُ بِالْبَيَانِ. فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ الْمَقْتُولَ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. وَلَوْ جَرَى ذَلِكَ فِي إِمَاءٍ، أَوْ أَمَتَيْنِ، ثُمَّ وَطِئَ وَاحِدَةً، لَمْ يَكُنِ الْوَطْءُ بَيَانًا، بَلْ لَوْ بَيَّنَ الْعِتْقَ فِيهَا، تَعَلَّقَ بِهِ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ لِجَهْلِهَا بِأَنَّهَا مُعْتَقَةٌ. وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، قَامَ وَارِثُهُ

مَقَامَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ ; لِأَنَّهُ خَلِيفَتُهُ، وَرُبَّمَا عَلِمَهُ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، فَإِنْ أَقَمْنَاهُ، فَبَيَّنَ أَحَدُهُمْ، عَتَقَ، وَلِغَيْرِهِ تَحْلِيفُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ، أَوْ قَالَ الْوَارِثُ: لَا أَعْلَمُ، فَالصَّحِيحُ أَوِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ. وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ: لَا يُقْرَعُ، بَلْ يُوقَفُ. وَلَوْ قَالَ الْمُعْتِقُ: نَسِيتُ مَنْ أَعْتَقْتُهُ، أُمِرَ بِالتَّذَكُّرِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: يُحْبَسُ عَلَيْهِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ التَّذَكُّرِ، فَفِي بَيَانِ الْوَارِثِ وَالْقُرْعَةِ الْخِلَافُ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ سَمَّى وَاحِدًا وَأَعْتَقَهُ ثُمَّ قَالَ نَسِيتُهُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَنْوِيَ مُعَيَّنًا، فَيُؤْمَرُ بِالتَّعْيِينِ، وَيُوقَفُ عَنْهُمْ، إِلَى أَنْ يُعَيِّنَ، وَيَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا عَيَّنَ أَحَدَهُمْ، عَتَقَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُنَازِعَ فِيهِ إِنْ وَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ مُعَيَّنًا. وَإِذَا قَالَ: نَوَيْتُ هَذَا، عَتَقَ الْأَوَّلُ، وَلَغَا قَوْلَهُ لِلثَّانِي ; لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ فِي الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: نَوَيْتُ هَذَا، بَلْ هَذَا ; لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ. ثُمَّ الْعِتْقُ فِي الْمُبْهَمِ هَلْ يَحْصُلُ عِنْدَ التَّعْيِينِ، أَمْ يُتَبَيَّنُ حُصُولُهُ مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ الْمُبْهَمِ؟ وَجْهَانِ سَبَقَ نَظِيرُهُمَا فِي الطَّلَاقِ، وَخَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ فَعَيَّنَهُ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ إِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ الْعِتْقُ عِنْدَ التَّعْيِينِ، فَلَا ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَقْبَلُ الْعِتْقَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْإِبْهَامُ بَيْنَ عَبْدَيْنِ، فَإِذَا بَطَلَ التَّعْيِينِ فِي الْمَيِّتِ، تَعَيَّنَ الثَّانِي لِلْعِتْقِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى لَفْظٍ. وَإِنْ قُلْنَا الْإِبْهَامُ، صَحَّ تَعْيِينُهُ. وَلَوْ جَرَى ذَلِكَ فِي أَمَتَيْنِ أَوْ إِمَاءٍ، فَهَلْ يَكُونُ الْوَطْءُ تَعْيِينًا لِغَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ؟ وَجْهَانِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَكَوْنُهُ تَعْيِينًا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ. وَإِذَا لَمْ نَجْعَلْهُ تَعْيِينًا، فَعَيَّنَ الْعِتْقَ فِي الْمَوْطُوءَةِ، فَلَا حَدَّ. وَبَنَى الْبَغَوِيُّ حُكْمَ الْمَهْرِ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ يَحْصُلُ عِنْدَ التَّعْيِينِ، أَمْ بِاللَّفْظِ الْمُبْهَمِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، لَمْ يَجِبْ، وَإِلَّا وَجَبَ. وَالْوَطْءُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالْقُبْلَةُ وَاللَّمْسَةُ بِشَهْوَةٍ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَطْءِ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْيِينًا، فَهَذَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَالِاسْتِخْدَامُ مُرَتَّبٌ عَلَى

اللَّمْسِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَعْيِينٍ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا يُوجِبُ طَرْدَ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الِاسْتِخْدَامَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، هَلْ يَكُونُ فَسْخًا أَوْ إِجَازَةً؟ وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ كَالِاسْتِخْدَامِ. وَلَوْ بَاعَ بَعْضَهُمْ، أَوْ وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ أَوْ أَجَّرَهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: فِيهِ الْوَجْهَانِ كَالْوَطْءِ، وَالْإِعْتَاقُ لَيْسَ بِتَعْيِينٍ. ثُمَّ إِنْ عَيَّنَ فِيمَنْ أَعْتَقَهُ، قُبِلَ، وَإِنْ عَيَّنَ فِي غَيْرِهِ، عَتَقَا. وَقَتْلُ السَّيِّدِ أَحَدَهُمْ لَيْسَ تَعْيِينًا، ثُمَّ إِنْ عَيَّنَ فِي غَيْرِ الْمَقْتُولِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ عَيَّنَ فِي الْمَقْتُولِ، لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، لِلشُّبْهَةِ. وَأَمَّا الْمَالُ، فَإِنْ قُلْنَا: الْعِتْقُ يَحْصُلُ عِنْدَ التَّعْيِينِ، لَمْ يَجِبْ، وَإِنْ قُلْنَا: عِنْدَ الْإِبْهَامِ، لَزِمَهُ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ قَتَلَ أَجْنَبِيٌّ أَحَدَهُمْ، فَلَا قِصَاصَ إِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا، ثُمَّ إِنْ عَيَّنَ فِي غَيْرِ الْمَقْتُولِ، لَزِمَهُ الْقِيمَةُ، وَإِنْ عَيَّنَ فِيهِ وَقُلْنَا: الْعِتْقُ يَحْصُلُ عِنْدَ التَّعْيِينِ، فَكَذَلِكَ، كَمَا لَوْ نَذَرَ إِعْتَاقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، فَقُتِلَ. وَإِنْ قُلْنَا: عِنْدَ الْإِبْهَامِ، لَزِمَهُ الدِّيَةُ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ. وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ التَّعْيِينِ، فَهَلْ لِلْوَرَثَةِ التَّعْيِينُ؟ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ لِأَمَتِهِ: أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ حُرٌّ، فَوَلَدَتْ مَيِّتًا، ثُمَّ حَيًّا، لَمْ يَعْتِقِ الْحَيُّ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ انْحَلَّتْ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ رَأَيْتُهُ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، فَرَأَى أَحَدَهُمْ مَيِّتًا، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ، فَإِذَا رَأَى بَعْدَهُ حَيًّا لَا يَعْتِقُ، وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذَا، وَخَالَفَ الْأَوَّلَ. قُلْتُ: إِنْ كَانَتْ حَامِلًا حَالَ التَّعْلِيقِ، صَحَّ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ حَائِلًا فِي الْأَظْهَرِ وَالْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ وَصَّى بِمَا سَتَحْمِلُ وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ قَبْلَ الْمِلْكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ ابْنِي، وَمِثْلُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ، ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَعَتَقَ إِنْ كَانَ صَغِيرًا، أَوْ بَالِغًا وَصَدَّقَهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ،

عَتَقَ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ النِّسَبُ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُ ابْنَهُ، بِأَنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْهُ عَلَى حَدٍّ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ ابْنَهُ، لَغَا قَوْلُهُ، وَلَمْ يَعْتِقْ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ مُحَالًا. هَذَا فِي مَجْهُولِ النَّسَبِ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفَ النِّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ، لَمْ يَلْحَقْهُ، لَكِنْ يَعْتِقُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِتَضَمُّنِهِ الْإِقْرَارَ بِحُرِّيَّتِهِ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ بِنْتِي، قَالَ الْإِمَامُ: الْحُكْمُ فِي حُصُولِ الْفِرَاقِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ كَمَا فِي الْعِتْقِ. الْخَامِسَةُ: قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَعْتَقْتُ أَحَدَكُمَا عَلَى أَلْفٍ، أَوْ أَحَدُكُمَا حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ، لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَقْبَلَا، فَإِنْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ الْأَلْفَ، عَتَقَ أَحَدُهُمَا، وَلَزِمَ السَّيِّدَ الْبَيَانُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَقُمِ الْوَارِثُ مَقَامَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ، أُقْرِعَ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، عَتَقَ بِعِوَضٍ. وَفِي ذَلِكَ الْعِوَضِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: قِيمَتُهُ. وَالثَّانِي: الْمُسَمَّى، قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْعِتْقُ، لَا الْمُعَاوَضَةُ، فَيُحْتَمَلُ إِبْهَامُ الْعِوَضِ تَبَعًا لِلْعِتْقِ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا حُرَّةٌ عَلَى أَلْفٍ، فَقَبِلَتَا، ثُمَّ وَطِئَ إِحْدَاهُمَا، فَهَلْ هُوَ اخْتِيَارٌ لِمِلْكِ الْمَوْطُوءَةِ وَيَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ، وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. السَّادِسَةُ: جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ، زَوَّجَهَا الشَّرِيكَانِ بِابْنِ أَحَدِهِمَا فَأَتَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ، يَعْتِقُ نِصْفُهُ عَلَى الْجَدِّ، وَلَا يَسْرِي إِلَى النِّصْفِ الْآخَرِ إِذَا لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ. السَّابِعَةُ: سَبَقَ فِي النِّكَاحِ أَنَّ مَنْ نَكَحَ أَمَةً غُرَّ بِحُرِّيَّتِهَا، فَأَوْلَدَهَا، انْعَقَدَ الْوَلَدُ حُرًّا، وَيَلْزَمُ الْمَغْرُورَ قِيمَتُهُ لِمَالِكِ الْأَمَةِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهًا أَنَّهُ يَنْعَقِدُ رَقِيقًا، ثُمَّ يَعْتِقُ عَلَى الْمَغْرُورِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ. وَأَنَّا إِذَا قُلْنَا: يَنْعَقِدُ حُرًّا فَلَا قِيمَةَ عَلَى الْمَغْرُورِ، وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. قَالَ الشَّيْخُ: وَفِي الْقَلْبِ مِنْ وُجُوبِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَغْرُورِ

شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ شَيْئًا عَلَى مَالِكٍ، وَإِنَّمَا مَنَعَ دُخُولَ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ يُعْتَدُّ بِهِ، وَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُتَابَعَتِهِمْ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَلَوْ نَكَحَ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَغْرُورًا بِحُرِّيَّتِهَا، فَأَوْلَدَهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْوَلَدِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا ; لِأَنَّهُ إِنِ انْعَقَدَ حُرًّا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَإِنِ انْعَقَدَ رَقِيقًا، عَتَقَ عَلَى الْجَدِّ بِالْقَرَابَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ بِظَنِّ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الْأَبِ رِقًّا يَنْتَفِعُ بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. وَإِنْ وَطِئَهَا عَالِمًا بِالْحَالِ، مَلَكَهُ الْجَدُّ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: يَنْعَقِدُ حُرًّا. فُرُوعٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ: شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ: أَحَدُ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ حُرٌّ، أَوْ أَنَّهُ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَنَّهُ قَالَ: إِحْدَى هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ طَالِقٌ، يُقْبَلُ، وَيُحْكَمُ بِمُقْتَضَى شَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ وَلَدَتِ الْمَزْنِيُّ بِهَا وَلَدًا، وَمَلَكَهُ الزَّانِي لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَعْتِقُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْتَ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَعْتِقُ فِي الْحَالِ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَشَاءَ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَلَوْ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ، لَزِمَ الْوَارِثَ إِعْتَاقُهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ، أَعْتَقَهُ السُّلْطَانُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ مُقَيَّدٌ، فَحَلَفَ بِعِتْقِهِ أَنَّ فِي قَيْدِهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ، وَحَلَفَ بِعِتْقِهِ لَا يُحِلُّهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، فَشَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي شَاهِدَانِ أَنَّ قَيْدَهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ، وَحَكَمَ الْقَاضِي بِعِتْقِهِ، ثُمَّ حَلَّ الْقَيْدَ فَوَجَدَ فِيهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَا شَيْءَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ

بِحَلِّ الْقَيْدِ دُونَ الشَّهَادَةِ، لِتَحَقُّقِ كَذِبِهِمَا. قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ هَذَا الْعَبْدَ، أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ، وَحَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا آخَرَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ مَالِهِ، ثُمَّ رَجَعَ الْأَوَّلَانِ، لَمْ يُرَدَّ الْقَضَاءُ بَعْدَ نُفُوذِهِ، بَلْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلْأَوَّلِ، عَتَقَ، وَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْغُرْمُ لِلرُّجُوعِ، وَيَرِقُّ الثَّانِي، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ التَّرِكَةُ كُلُّهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلثَّانِي، عَتَقَ، وَرَقَّ الْأَوَّلُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاجِعَيْنِ ; لِأَنَّ مَنْ شَهِدَا بِهِ لَمْ يَعْتِقْ، وَاعْتَرَضَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ، وَيُقْرَعَ بَيْنَهُمَا لِمَعْرِفَةِ حَالِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ، أَعْتَقَ أَيْضًا، وَغَرِمَ الرَّاجِعَانِ. فَرْعٌ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ بِعَبْدِ غَيْرِهِ، وَقَبَضَ مَهْرَهَا، وَأَتْلَفَهُ، وَمَاتَ وَلَا مَالَ غَيْرُهَا، وَلَمْ يَدْخُلِ الزَّوْجُ بِهَا، فَأَعْتَقَهَا الْوَارِثُ، نَفَذَ إِعْتَاقُهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: تَقَدَّمَ عَلَى هَذَا فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِذَا أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدَ التَّرِكَةِ، وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ الْوَارِثُ مُعْسِرًا، لَمْ يَنْفُذِ الْعِتْقُ، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي إِعْتَاقِ الرَّاهِنِ، وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يَنْفُذُ، وَيَنْتَقِلُ الدَّيْنُ إِلَى مَالِ الْوَارِثِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْجَانِيَ، هَذَا لَفْظُ الشَّيْخِ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنْهُ أَنَّا إِذَا أَنْفَذْنَا الْعِتْقَ، نَقَلْنَا الدَّيْنَ إِلَى ذِمَّةِ الْوَارِثِ إِذَا

لَمْ يُخْلِفْ سِوَى الْعَبْدِ، قَالَ: وَكُنْتُ أَرَى الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَالدَّيْنُ لَا يَتَحَوَّلُ إِلَى ذِمَّةِ الْوَارِثِ قَطُّ، لَكِنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ مُتْلِفٌ لِلْعَبْدِ، فَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الدَّيْنِ، وَقِيمَةِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَإِذَا أَدَّى الْوَارِثُ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ، تَبَيَّنَ نُفُوذُ الْعِتْقِ، وَإِلَّا بِيعَ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ، وَبَانَ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَنْفُذْ. وَلَوْ بَاعَ الْوَارِثُ التَّرِكَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْغُرَمَاءِ لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: لَا يَنْفُذُ كَالْمَرْهُونِ، وَالثَّانِي: يَنْفُذُ، وَالثَّالِثُ: مَوْقُوفٌ، كَالْعِتْقِ. قَالَ الْإِمَامُ وَيَجِيءُ مِمَّا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ قَوْلٌ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ الْوَارِثِ التَّرِكَةَ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا كَالْجَانِي. قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ تَفْرِيعًا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ أَنَّ الثَّمَنَ يُصْرَفُ إِلَى الْغُرَمَاءِ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ دَفَعَ الثَّمَنَ إِلَى الْوَارِثِ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ، كَانَ لِلْغُرَمَاءِ تَغْرِيمُ الْمُشْتَرِي. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ عِنْدِي الْقَطْعُ بِأَنَّهُمْ لَا يُطَالِبُونَ الْمُشْتَرِيَ. وَأَنَّا إِذَا صَحَّحْنَا الْبَيْعَ، كَانَ كَالْإِعْتَاقِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلُزُومُ الْبَيْعِ بَعِيدٌ، فَإِنَّ بَيْعَ الْجَانِي وَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، لَا يَلْزَمُ، مَعَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْأَرْشِ بِهِ أَضْعَفُ، فَبَيْعُ الْوَارِثِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَلْزَمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ، فَإِنْ قُلْنَا: يَمْنَعُهُ، فَالتَّرِكَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، فَلَا يَصِحُّ التَّصَرُّفُ لِلْوَارِثِ بِحَالٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ نُفُوذُ الْعِتْقِ مِنَ الْوَارِثِ الْمُوسِرِ، وَمَنْعُ الْبَيْعِ. الْفَصْلُ الثَّانِي: ذَكَرْنَا فِي النِّكَاحِ أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، فَلَهَا الْخِيَارُ، فَإِنْ فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، سَقَطَ كُلُّ الْمَهْرِ، وَعَلَى السَّيِّدِ رَدُّهُ إِنْ كَانَ قَبَضَهُ. إِذَا تَقَرَّرَ الْفَصْلَانِ، فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي الْحَالِ فِي فَرْعِ ابْنِ الْحَدَّادِ.

ثُمَّ إِنْ كَانَ الْوَارِثُ مُعْسِرًا، فَلَا خِيَارَ لَهَا ; لِأَنَّهَا لَوْ فَسَخَتْ، لَوَجَبَ رَدُّ مَهْرِهَا، وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ نُفُوذَ الْعِتْقِ مِنَ الْوَارِثِ الْمُعْسِرِ، وَإِذَا لَمْ يَعْتِقْ، فَلَا خِيَارَ، فَفِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ بَقِيَّةٌ وَالْمَسْأَلَةُ دَوْرِيَّةٌ، وَقَدْ سَبَقَ طَرَفٌ مِنْهَا فِي النِّكَاحِ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنْ قُلْنَا: يَنْفُذُ عِتْقُهُ، فَلَهَا الْفَسْخُ، وَإِذَا فَسَخَتْ صَارَ مَهْرُهَا دَيْنًا، فَيُطَالِبُهُ بِهِ الْمُعْتِقُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا الْمَهْرَ لِتَفْوِيتِهِ التَّرِكَةَ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُهَا أَكْثَرَ، لَمْ يُطَالَبْ إِلَّا بِقِيمَتِهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ إِلَّا ذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَتَوَقَّفُ نُفُوذُ الْعِتْقِ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا عِتْقَ وَلَا خِيَارَ، حَتَّى يُرَدَّ الصَّدَاقُ إِلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ دَيْنٌ مَا لَمْ يَفْسَخْ، فَكَيْفَ يَقْضِي الدَّيْنَ قَبْلَ ثُبُوتِهِ. فَرْعٌ مَاتَ عَنِ ابْنٍ حَائِزٍ لِلتَّرِكَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، فَقَالَ الِابْنُ: أَعْتَقَ أَبِي فِي مَرَضِهِ هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى أَحَدِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ هَذَا وَهَذَا، يَعْنِي الْأَوَّلَ وَآخَرَ مَعًا، ثُمَّ قَالَ: بَلْ أَعْتَقَ الثَّلَاثَةَ مَعًا، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: الْأَوَّلُ حُرٌّ بِكُلِّ حَالٍ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي، لِإِقْرَارِهِ الثَّانِيَ، وَيُقْرَعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَإِذَا أَقْرَعْنَا فِي الْمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِلْأَوَّلِ فِيهِمَا لَمْ يَعْتِقْ غَيْرُهُ، وَإِنْ خَرَجَ لِلثَّانِي فِيهِمَا، وَلِلْأَوَّلِ فِي الْأُولَى، وَلِلثَّانِي فِي الثَّانِيَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، عَتَقَا، دُونَ الثَّالِثِ،

وَإِنْ خَرَجَ لِلْأَوَّلِ فِي الْأُولَى، وَلِلثَّالِثِ فِي الثَّانِيَةِ عَتَقَا دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ خَرَجَ لِلثَّانِي فِي الْأُولَى، وَلِلثَّالِثِ فِي الثَّانِيَةِ، عَتَقُوا كُلُّهُمْ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُمْ مُخْتَلِفَةً بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَوَّلِ مِائَةً، وَالثَّانِي الْمَضْمُومِ إِلَيْهِ مِائَتَيْنِ، وَالثَّالِثِ ثَلَاثَمِائَةٍ، فَالْأَوَّلُ حُرٌّ بِكُلِّ حَالٍ، لِإِقْرَارِهِ الْأَوَّلَ، وَهُوَ دُونَ الثَّلَاثَةِ، فَإِذَا أَقْرَعْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي، وَخَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِلْأَوَّلِ، عَتَقَ مِنَ الثَّانِي أَيْضًا نِصْفُهُ، وَإِنْ خَرَجَ السَّهْمُ لِلثَّانِي، عَتَقَ كُلُّهُ. وَإِذَا أَقْرَعْنَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ لِإِقْرَارِهِ الثَّالِثَ فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِلثَّالِثِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُ، وَذَلِكَ ثُلُثُ مَالِهِ، وَإِنْ خَرَجَ لِلثَّانِي، لَمْ يَعْتِقِ الثَّالِثُ، سَوَاءٌ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِي، أَوْ لَمْ تَخْرُجْ ; لِأَنَّهُ ثُلُثُ مَالِهِ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلْأَوَّلِ، فَهُوَ نِصْفُ الثُّلُثِ، فَتُعَادُ الْقُرْعَةُ لِإِكْمَالِ الثُّلُثِ بَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الثَّانِي، رَقَّ الثَّالِثُ، وَلَا يَعْتِقُ مِنَ الثَّانِي إِلَّا مَا عَتَقَ بِالْقُرْعَةِ الْأُولَى، وَهُوَ كُلُّهُ أَوْ نِصْفُهُ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الثَّالِثِ، عَتَقَ ثُلُثُهُ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَوَّلِ ثَلَاثَمِائَةٍ، وَالثَّانِي مِائَتَيْنِ، وَالثَّالِثُ مِائَةً، عَتَقَ مِنَ الْأَوَّلِ ثُلُثَاهُ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِلْأَوَّلِ، لَمْ يُرَدَّ شَيْءٌ، وَإِنْ خَرَجَ لِلثَّانِي، عَتَقَ كُلُّهُ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ خَرَجَ لِلْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، لَمْ يُرَدَّ شَيْءٌ عَلَى مَا عَتَقَ، وَإِنْ خَرَجَ لِلثَّالِثِ، عَتَقَ كُلُّهُ. فَرْعٌ مَاتَ عَنْ ثَلَاثَةِ بَنِينَ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ، قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، فَأَقَرَّ أَحَدُ الْبَنِينَ أَنَّ أَبَاهُ أَعَتَقَ فِي مَرَضِهِ هَذَا الْعَبْدَ، وَأَقَرَّ آخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ مَعَ هَذَا الْآخَرِ، وَأَقَرَّ الثَّالِثُ أَنَّهُ أَعَتَقَ الثَّلَاثَةَ مَعًا، عَتَقَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ أَحَدَ الْبَنِينَ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ، فَنَفَذَ فِي حِصَّتِهِ وَهِيَ ثُلُثُهُ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُومِ إِلَيْهِ، لِإِقْرَارِ الثَّانِي، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِلْأَوَّلِ، عَتَقَ مِنْهُ ثُلُثٌ آخَرُ، وَهُوَ حِصَّةُ الْمُقِرِّ، وَإِنْ خَرَجَ لِلثَّانِي، عَتَقَ ثُلُثُهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْعِتْقِ، عَتَقَ كُلُّهُ. وَإِذَا حَكَمْنَا بِعِتْقِ بَعْضِ

عَبْدٍ، فَلَا سِرَايَةَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبَاشِرُوا الْإِعْتَاقَ، وَلَا أَقَرُّوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَمَنْ أَعْتَقْنَا بَعْضَهُ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْبَنِينَ إِذَا وَقَعَ الْقِسْمَةُ فِي نَصِيبِ ذَلِكَ الْمُقِرِّ، أَوْ صَارَ لَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ، لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ حُرٌّ كُلُّهُ. فَرْعٌ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى مَيِّتٍ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ سَالِمٍ وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، وَقَالَ الْوَارِثُ: أَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ وَهُوَ ثُلُثُهُ، فَإِنْ لَمْ يُكَذِّبِ الْوَارِثُ الشَّاهِدَيْنِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ هَذَا، عَتَقَ الْأَوَّلُ بِمُوجَبِ الْبَيِّنَةِ، وَأُقْرِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي، لِإِقْرَارِ الْوَارِثِ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلْأَوَّلِ، لَمْ يَعْتِقِ الثَّانِي، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلثَّانِي، عَتَقَ، وَلَمْ يَرِقَّ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْعِتْقَ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْوَارِثُ مِنْ إِبْطَالِهِ بِالْإِقْرَارِ، وَقَدْ تُعْمَلُ الْقُرْعَةُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّهُ أَعْتَقَ الثَّانِيَ، وَكَذَّبَ الشُّهُودَ فِي الْأَوَّلِ، عَتَقَا جَمِيعًا، الْأَوَّلُ بِالشَّهَادَةِ، وَالثَّانِي بِالْإِقْرَارِ. وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ بِأَنَّهُ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ هُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ بِأَنَّهُ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ آخَرَ، فَإِنْ كَذَّبَ الْوَارِثَانِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، عَتَقَا عِتْقًا، وَإِلَّا أُقْرِعَ كَمَا سَبَقَ. ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ فِي أَيْدِيهِمْ أَمَةٌ وَوَلَدُهَا، وَهُوَ مَجْهُولُ النَّسَبِ، قَالَ أَحَدُهُمْ: هِيَ أُمُّ وَلَدِي، وَهُوَ وَلَدِي مِنْهَا، وَقَالَ الثَّانِي: هِيَ أُمُّ وَلَدِ أَبِينَا، وَالْوَلَدُ أَخُونَا، وَقَالَ الثَّالِثُ: هِيَ أَمَتِي، وَوَلَدُهَا عَبْدِي، فَالْكَلَامُ فِي أَحْكَامِ الْأَوَّلِ نَسَبُ الْوَلَدِ، فَلَا يَثْبُتُ مِنْ أَبِيهِمْ. وَأَمَّا ثُبُوتُهُ

مِنَ الَّذِي اسْتَلْحَقَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَنِ اسْتَلْحَقَ عَبْدًا مَجْهُولَ النَّسَبِ، لَحِقَهُ، ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا، عَلَى الْأَصَحِّ. الثَّانِي: الْقَائِلُ هِيَ أُمُّ وَلَدِ أَبِينَا، لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا عَلَى الْآخَرَيْنِ، فَلَا يُحَلِّفُهُمَا، لَكِنْ إِنِ ادَّعَتِ الْأَمَةُ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا عَتَقَتْ لِمَوْتِ الْأَبِ، حَلَّفَهُمَا أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ الْأَبَ أَوْلَدَهَا، وَأَمَّا الْآخَرَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، هَذَا يَقُولُ: هِيَ مُسْتَوْلَدَتِي، وَذَلِكَ يَقُولُ: مِلْكِي، فَيُحَلِّفُ كُلُّ وَاحِدٍ الْآخَرَ عَلَى نَفْيِ مَا يَدَّعِيهِ فِي الثُّلُثِ الَّذِي فِي يَدِهِ. الثَّالِثُ: الْقَائِلُ: هِيَ أُمُّ وَلَدِ أَبِينَا، لَا غُرْمَ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا وَلَا عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَدَّعِي الِاسْتِيلَادَ يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ لِلَّذِي يَدَّعِي الْمِلْكَ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مِنَ الْأَمَةِ وَالْوَلَدِ، هَكَذَا عَلَّلُوهُ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الصُّورَةُ فِيمَا إِذَا سَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ لِمُدَّعِي الرِّقِّ مِنْهَا نَصِيبٌ بِالْإِرْثِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ: مُسْتَوْلَدَتِي كَوْنُهَا مُشْتَرَكَةً مِنْ قَبْلُ. وَكَمْ يَغْرَمُ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَارِيَةَ فِي يَدِ مَنْ هِيَ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَدَ عَلَيْهَا لِلْقَائِلِ: مُسْتَوْلَدَةُ أَبِينَا ; لِأَنَّهَا حُرَّةٌ بِزَعْمِهِ، فَتَكُونُ فِي يَدِ الْآخَرَيْنِ. وَأَصَحُّهُمَا فِي يَدِ الثَّلَاثَةِ حُكْمًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ لِمُدَّعِي الرِّقِّ نِصْفُ قِيمَتِهَا وَقِيمَةُ الْوَلَدِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ ثُلُثُ قِيمَتِهِمَا، وَبِهِ أَجَابَ ابْنُ الْحَدَّادِ. الرَّابِعُ: الْوَلَدُ حُرٌّ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: مُسْتَوْلَدَةُ الْأَبِ، وَمَنْ يَقُولُ: مُسْتَوْلَدَتِي، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ نَصِيبُ مُدَّعِي الرِّقِّ وَنَصِيبُهُ مِنَ الْجَارِيَةِ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.

فَرْعٌ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، ثُمَّ غَابَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يَغِبْ وَعَبْدٍ ثَالِثٍ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: يُقْرَعُ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِلَّذِي غَابَ، عَتَقَ، وَتُعَادُ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ، عَتَقَ أَيْضًا. وَإِنْ خَرَجَتْ أَوَّلًا لِلَّذِي لَمْ يَغِبْ، عَتَقَ، وَلَا تُعَادُ ; لِأَنَّ تَعْيِينَ الْقُرْعَةِ كَتَعْيِينِ الْمَالِكِ، وَلَوْ عَيَّنَ الَّذِي لَمْ يَغِبْ لِلْعِتْقِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ وَلِلْآخَرِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، كَانَ صَادِقًا، وَلَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ عِتْقَ الْآخَرِ. وَقَالَ الْمَاسَرْجِسِيُّ: إِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلَّذِي لَمْ يَغِبْ، تُعَادُ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: الثَّانِي الَّذِي حَضَرَ آخِرًا، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ الثَّانِيَةُ لِلَّذِي لَمْ يَغِبْ أَيْضًا، لَمْ يَعْتِقْ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلْآخَرِ، عَتَقَ أَيْضًا، وَمَالَ الْإِمَامُ إِلَى هَذَا، وَرَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْأَوَّلَ. فَرْعٌ لَهُ أَرْبَعُ إِمَاءٍ، فَقَالَ: كُلَّمَا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ، فَوَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ حُرَّةٌ، ثُمَّ وَطِئَ إِحْدَاهُنَّ، عَتَقَتْ إِحْدَاهُنَّ. وَهَلْ تَدْخُلُ الْمَوْطُوءَةُ فِي الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ؟ يُبْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي أَنَّ الْوَطْءَ هَلْ يَكُونُ تَعْيِينًا لِلْمِلْكِ فِي الْمَوْطُوءَةِ وَالْعِتْقِ فِي غَيْرِهَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ وَعَلَيْهِ فَرَّعَ ابْنُ الْحَدَّادِ، فَأَوَّلُ الْوَطْءِ لَا يَتَضَمَّنُ التَّعْيِينَ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِهِ، وَمَا لَمْ

يُوجَدْ، لَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ. فَلَوْ نَزَعَ بِمُجَرَّدِ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ، دَخَلَتِ الْمَوْطُوءَةُ فِي الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ، وَإِنِ اسْتَدَامَ، فَهَلْ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِدَامَةُ التَّعْيِينَ وَإِخْرَاجَ الْمَوْطُوءَةِ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي زَيْدٍ: نَعَمْ، فَيُقْرَعُ بَيْنَ الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي، وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا ; لِأَنَّهُ وَطْءٌ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ بِالِاسْتِدَامَةِ عِتْقٌ آخَرُ فَيُقْرَعُ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ، وَهَذَا كَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ، فَوَطِئَ وَنَزَعَ فِي الْحَالِ، لَا يَلْزَمُهُ مَهْرٌ، وَإِنِ اسْتَدَامَ، فَوَجْهَانِ كَنَظِيرِهِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ. وَإِنْ وَطِئَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ، وَاسْتَدَامَ، عَتَقَ بِكُلِّ وَطْءٍ أَمَةً، فَإِنْ جَعْلَنَا الْوَطْءَ تَعْيِينًا، وَالِاسْتِدَامَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّعْيِينِ، عَتَقَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَالرَّابِعَةُ بِلَا قُرْعَةٍ، وَرَقَّتِ الثَّالِثَةُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا وَطِئَ الْأُولَى فَبِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ ثَبَتَ عِتْقُ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا اسْتَدَامَ، خَرَجَتْ هِيَ عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ، لِتَعَيُّنِهَا لِلْمِلْكِ، وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ تَعَيَّنَتَا لِلْمِلْكِ بِوَطْئِهِمَا فَتَعَيَّنَتِ الرَّابِعَةُ لِلْعِتْقِ، وَبِوَطْءِ الثَّانِيَةِ ثَبَتَ حَقُّ الْعِتْقِ لَهَا ; لِأَنَّ الرَّابِعَةَ عُلِّقَتْ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا اسْتَدَامَ خَرَجَتْ هِيَ عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ وَخَرَجَتِ الثَّالِثَةُ أَيْضًا بِوَطْئِهَا، فَتَعَيَّنَتِ الْأُولَى لِلْعِتْقِ فَإِذَا وَطِئَ الثَّالِثَةَ، لَمْ تَبْقَ إِلَّا هِيَ وَالثَّانِيَةُ، وَاسْتِدَامَةُ الْوَطْءِ فِيهَا إِمْسَاكٌ، فَيُعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنْ جَعْلَنَا الْوَطْءَ تَعْيِينًا، وَلَمْ نَجْعَلِ الِاسْتِدَامَةَ تَعْيِينًا، أُقْرِعَ بَيْنَ الْأُولَى وَالرَّابِعَةِ ; لِأَنَّهُ أَمْسَكَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ بِوَطْئِهِمَا لِلْمِلْكِ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلرَّابِعَةِ، عَتَقَتْ، بِوَطْءِ الثَّانِيَةِ يَسْتَحِقُّ عِتْقٌ آخَرُ، لَكِنْ لَا حَظَّ فِيهِ لِلرَّابِعَةِ ; لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَلَا لِلثَّالِثَةِ ; لِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا بِالْوَطْءِ، فَهُوَ إِذًا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ

الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ، عَتَقَتْ، وَبِوَطْءِ الثَّالِثَةِ يَسْتَحِقُّ عِتْقٌ آخَرُ، وَلَا حَظَّ فِيهِ لِلرَّابِعَةِ، وَلَا لِمَنْ عَتَقَ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، فَإِنْ عَتَقَتِ الْأُولَى، أَقْرَعْنَا بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَإِنْ عَتَقَتِ الثَّانِيَةُ، أَقْرَعْنَا بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ، وَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ الْأُولَى لِلْأُولَى دُونَ الرَّابِعَةِ، عَتَقَتْ، وَبِوَطْءِ الثَّانِيَةِ يَتَرَدَّدُ الْعِتْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّابِعَةِ ; لِأَنَّ الْأَوْلَى عَتَقَتْ، وَالثَّالِثَةَ تَعَيَّنَتْ بِالْوَطْءِ لِلْإِمْسَاكِ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ، عَتَقَتْ، وَبِوَطْءِ الثَّالِثَةِ يَسْتَحِقُّ عِتْقٌ آخَرُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْأُولَى، وَلَا لِمَنْ عَتَقَتْ وَالثَّانِيَةُ وَالرَّابِعَةُ، فَإِنْ عَتَقَتِ الثَّانِيَةُ، أَقْرَعْنَا بَيْنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَإِنْ عَتَقَتِ الرَّابِعَةُ، أَقْرَعْنَا بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَإِذَا قُلْنَا: الْوَطْءُ لَيْسَ بِتَعْيِينٍ، أَقْرَعَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لِاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ لِثَلَاثٍ مِنْهُنَّ، يُقْرَعُ بِوَطْءِ الْأُولَى بَيْنَ الْأَرْبَعِ بِسَهْمِ عِتْقٍ وَثَلَاثَةِ أَسْهُمِ رِقٍّ، فَإِنْ خَرَجَتِ الرَّابِعَةُ، عَتَقَتْ، وَلَا مَهْرَ لَهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا، وَإِنْ خَرَجَتِ الْأُولَى، عَتَقَتْ، وَهَلْ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَطْءِ هَلْ يُوجِبُ مَهْرًا؟ وَإِنْ خَرَجَتْ لِلثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ، عَتَقَتْ، وَلَهَا الْمَهْرُ، لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ حُصُولِ عِتْقِهَا، ثُمَّ يُقْرَعُ لِوَطْءِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي بِسَهْمِ عِتْقٍ، وَسَهْمَيْ رِقٍّ، فَإِنْ خَرَجَتْ لِلرَّابِعَةِ، فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلثَّانِيَةِ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا الْمَهْرَ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ خَرَجَتِ الثَّالِثَةُ، اسْتَحَقَّتْ، وَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ الْحُرِّيَّةُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ، أَقْرَعْنَا لِوَطْءِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِلْأُولَى، فَلَا مَهْرَ لَهَا بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ عِتْقَهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ وَطْئِهَا، وَإِنْ خَرَجَ لِلرَّابِعَةِ، فَكَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا.

وَإِنْ خَرَجَ لِلثَّالِثَةِ، فَلَهَا الْمَهْرُ، لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا عَتَقَتْ قَبْلَ وَطْئِهَا، ثُمَّ يُقْرَعُ لِوَطْءِ الثَّالِثَةِ بَيْنَ الْبَاقِيَيْنِ بِسَهْمِ عِتْقٍ، وَسَهْمِ رِقٍّ، فَإِنْ بَقِيَتِ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ، فَلَا مَهْرَ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِلثَّالِثَةِ، فَهَلْ لَهَا الْمَهْرُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَإِنْ بَقِيَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، فَلَا مَهْرَ لِمَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ مِنْهُمَا، لِتَقَدُّمِ وَطْئِهَا عَلَى عِتْقِهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَ الْأَرْبَعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً بِثَلَاثَةِ أَسْهُمِ عِتْقٍ، وَسَهْمِ رِقٍّ، فَتُعْتَقُ ثَلَاثٌ، وَتَرِقُّ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَعْرِفَةِ الرِّقِّ وَالْعِتْقِ، وَلَكِنْ لَا يُصْرَفُ بِهِ الْمَهْرُ - وَمَوْضِعِ الْخِلَافِ فِيهِ وَالْوِفَاقِ. وَلَوْ وَطِئَ الْأَرْبَعَ، عَتَقْنَ كُلُّهُنَّ، وَنَحْتَاجُ لِلْمَهْرِ إِلَى الْإِقْرَاعِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بَيْنَ الْأَرْبَعِ مَرَّةً بِسَهْمِ عِتْقٍ، وَثَلَاثَةِ أَسْهُمِ رِقٍّ، ثُمَّ مَرَّةً بَيْنَ ثَلَاثٍ مِنْهُنَّ بِسَهْمِ عِتْقٍ، وَسَهْمَيْ رِقٍّ، ثُمَّ مَرَّةً بَيْنَ الْبَاقِيَتَيْنِ بِسَهْمِ عِتْقٍ، وَسَهْمِ رِقٍّ، وَاسْتِيعَابُ الِاحْتِمَالَاتِ يَطُولُ. وَضَابِطُهُ أَنْ يُنْظَرَ فِي كُلِّ قُرْعَةٍ، فَمَنْ بَانَ أَنَّهَا عَتَقَتْ قَبْلَ وَطْئِهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ، وَفِيمَنْ عَتَقَتْ بِوَطْئِهَا الْوَجْهَانِ. أَمَّا إِذَا قَالَ: كُلَّمَا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ، فَوَاحِدَةٌ مِنْ صَوَاحِبِهَا حُرَّةٌ وَوَطِئَهُنَّ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَطْءُ يُعَيِّنُ الْمِلْكَ فِي الْمَوْطُوءَةِ، عَتَقَتِ الرَّابِعَةُ بِوَطْءِ الْأُولَى، وَالْأُولَى بِوَطْءِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّانِيَةُ بِوَطْءِ الثَّالِثَةِ، وَرَقَّتِ الثَّالِثَةُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعَيِّنُ، عَتَقَ ثَلَاثٌ، وَرَقَّتْ وَاحِدَةٌ، فَيُقْرَعُ لَوَطْءِ الْأُولَى بَيْنَ الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلثَّانِيَةِ، عَتَقَتْ، ثُمَّ يُقْرَعُ لِوَطْءِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، فَإِنْ خَرَجَتْ لِلْأُولَى أَوْ لِلرَّابِعَةِ، عَتَقَتْ. وَإِذَا وَطِئَ الثَّالِثَةَ، عَتَقَتِ الْبَاقِيَةُ مِنَ الثَّلَاثِ وَهِيَ الْأُولَى أَوِ الرَّابِعَةُ، وَإِنْ خَرَجَتِ الثَّانِيَةُ لِلثَّالِثَةِ، عَتَقَتْ. فَإِذَا وَطِئَ الثَّالِثَةَ، عَتَقَتِ الْبَاقِيَةُ مِنْهُنَّ

وَهِيَ الْأُولَى أَوِ الرَّابِعَةُ، وَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ الثَّانِيَةُ لِلثَّالِثَةِ، عَتَقَتْ، فَإِذَا وَطِئَ الثَّالِثَةَ، أُقْرِعَ بَيْنَ الْأُولَى وَالرَّابِعَةِ. وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَلَا يَجِبُ لِمَنْ عَتَقَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ، وَيَجِبُ لِمَنْ بَانَ عِتْقُهَا قَبْلَهُ. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَعْتِقُ الْمَوْطُوءَةُ بِوَطْئِهَا بِحَالٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَاعَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّورَةِ فِيمَا إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ، فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ. فَرْعٌ لَهُ أَرْبَعُ إِمَاءٍ وَعَبِيدٌ، فَقَالَ: كُلَّمَا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ، فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، وَكُلَّمَا وَطِئْتُ اثْنَتَيْنِ، فَعَبْدَانِ حُرَّانِ، وَكُلَّمَا وَطِئْتُ ثَلَاثًا، فَثَلَاثَةٌ، وَكُلَّمَا وَطِئْتُ أَرْبَعًا، فَأَرْبَعَةٌ، فَوَطِئَ الْأَرْبَعَةَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: كُلَّمَا طَلَّقْتُ امْرَأَةً فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، إِلَى آخِرِ التَّصْوِيرِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الطَّلَاقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعْتِقُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَبْدًا. فَرْعٌ اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَبْدًا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ قَدْرَ الثُّلُثِ، بِأَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ، وَاشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي مِائَةً بِمِائَتَيْنِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: وَإِنْ لَمْ يُوَفِّرِ الثَّمَنَ نَفَذَ الْعِتْقُ، وَبَطَلَتِ الْمُحَابَاةُ ; لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ كَالْهِبَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْقَبْضُ حَتَّى جَاءَ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، وَهُوَ الْعِتْقُ، بَطَلَتْ، وَيُمْضَى الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَعَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَقْنَعَ بِهِ. وَإِنْ وَفَّرَ الثَّمَنَ، نَفَذَتِ الْمُحَابَاةُ، وَبَطَلَ الْعِتْقُ ; لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ، اسْتَغْرَقَتِ الثُّلُثَ. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا غَلَطٌ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمُحَابَاةِ بَيْنَ أَنْ يَقْبِضَ أَوْ لَا يَقْبِضَ ; لِأَنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِالْمُعَارَضَةِ، وَالْمُعَارَضَةُ

تَلْزَمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَلَهَا لَوْ حَابَى الْمَرِيضَ وَلَمْ يَقْبِضْ، ثُمَّ أَرَادَ إِبْطَالَهَا، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ، فَالْجَوَابُ نُفُوذُ الْمُحَابَاةِ، وَبُطْلَانُ الْعِتْقِ، لِتَقَدُّمِهَا، قَالُوا: وَقَوْلُهُ: يَلْزَمُ الْبَائِعَ أَنْ يَقْنَعَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، غَلَطٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ إِلَّا بِالزِّيَادَةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُنَفِّذَ الْبَيْعَ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ وَيُنَفِّذَ الْعِتْقَ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَهُ وَيَبْطُلَ الْعِتْقُ. فَرْعٌ جَارِيَةٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ حَامِلٌ مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا، عَتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنَ الْحَمْلِ وَهُوَ مُوسِرٌ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ لِوَقْتٍ يُعْلَمُ وُجُودُهُ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ، وَهُوَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهُوَ حُرٌّ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالسِّرَايَةِ، وَعَلَى الْمُعْتِقِ قِيمَةُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَإِنْ كَانَ بِجِنَايَةٍ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي غِرَّةٌ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ ; لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ، وَعَلَى الْمُعْتِقِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِلشَّرِيكِ. هَكَذَا أَطْلَقَ ابْنُ الْحَدَّادِ، فَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّمَا يَلْزَمُ الْمُعْتِقَ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى قِيمَةِ الْغِرَّةِ، فَإِنْ زَادَ، لَمْ يَلْزَمْ إِلَّا نِصْفُ قِيمَةِ الْغِرَّةِ، وَرَأَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْأَخْذَ بِالْإِطْلَاقِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ بَالِغًا مَا بَلَغَ ; لِأَنَّ انْفِصَالَهُ مَضْمُونًا كَانْفِصَالِهِ حَيًّا ; لِأَنَّ الْغِرَّةَ تُصْرَفُ إِلَى الْوَارِثِ وَقَدْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُعْتِقُ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَجِبُ رِعَايَةُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْغُرْمَيْنِ، أَنْ لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ لِلْمُعْتِقِ، قَالَ الشَّيْخُ: وَهَذَا كُلُّهُ جَوَابٌ عَلَى أَنَّ الشِّرَاءَ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، فَإِنْ

قُلْنَا: يَحْصُلُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَإِذَا وَضَعَتِ الْحَمْلَ، وَقُوِّمَ وَوَصَلَ نِصْفُ الْقِيمَةِ إِلَى الشَّرِيكِ، فَحِينَئِذٍ يَعْتِقُ الْبَاقِي. وَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا بِجِنَايَةٍ، فَنِصْفُهُ حُرٌّ، وَهَلْ يُقَوَّمُ الْبَاقِي عَلَى الْمُعْتِقِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ وُصُولِ الْقِيمَةِ إِلَى الشَّرِيكِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ التَّقْوِيمُ، فَنِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي نِصْفُ غِرَّةٍ. وَإِلَى مَنْ تُصْرَفُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي أَنَّ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، هَلْ يُوَرَّثُ، وَيَجِبُ لِلنِّصْفِ الْمَمْلُوكِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَهَلْ يَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي أَمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ بَدَلَ الرَّقِيقِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. فَرْعٌ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِائَةٌ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَشَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّهُ عَتَقَ فِي مَرَضِهِ هَذَيْنِ، فَأَشَارَ الْوَارِثُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَأَعْتَقَهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ، فَلَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إِبْطَالِ حَقِّ الْآخَرِ مِنَ الْعِتْقِ، لَكِنْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ خَرَجَ الْعِتْقُ لِمَنْ عَيَّنَهُ الْوَارِثُ، عَتَقَ وَرَقَّ الْآخَرُ، وَإِنْ خَرَجَ لِلْآخَرِ، عَتَقَ بِمُقْتَضَى الْقُرْعَةِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الشَّهَادَةُ، وَيَعْتِقُ الْآخَرُ بِإِقْرَارِ الْوَارِثِ. وَإِنْ قَالَ الْوَارِثُ: أَعْتَقَ مُوَرِّثِي هَذَا، وَلَا أَعْلَمُ حَالَ الْآخَرِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، عَتَقَ، دُونَ الْآخَرِ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ الثَّلَاثَةَ دُفْعَةً وَقَالَ الْوَارِثُ: أَعْتَقَ هَذَيْنِ دُونَ ذَاكَ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُقْرَعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ لِلَّذِي أَنْكَرَهُ الْوَارِثُ، عَتَقَ، وَتُعَادُ الْقُرْعَةُ لِإِقْرَارِ الْوَارِثِ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ عَتَقَ بِإِقْرَارِ الْوَارِثِ وَإِنْ خَرَجَتْ

أَوَّلًا لِأَحَدِ الِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَقَرَّ بِإِعْتَاقِهِمَا، عَتَقَ، وَرَقَّ الْآخَرَانِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْخَصِيصَةُ الْخَامِسَةُ: الْوَلَاءُ، وَفِيهِ طَرَفَانِ. الْأَوَّلُ: فِي سَبَبِهِ، وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ عَنْ رَقِيقٍ بِالْحُرِّيَّةِ، فَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا تَنْجِيزًا، أَوْ بِصِفَةٍ، أَوْ دَبَّرَهُ، أَوِ اسْتَوْلَدَهَا، فَعَتَقَا بِمَوْتِهِ، أَوْ عَتَقَ عَلَيْهِ بِأَدَاءِ نُجُومِ الْكِتَابَةِ، أَوِ الْإِبْرَاءِ مِنْهَا، أَوِ الْتَمَسَ مِنْ مَالِكِ عَبْدٍ عِتْقَهُ عَلَى مَالٍ، فَأَجَابَهُ، أَوْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ مُشْتَرَكٍ، وَسَرَى، أَوْ مَلَكَ قَرِيبَهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ، ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ. وَلَوْ بَاعَ عَبْدَ نَفْسِهِ، فَلَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَ دَيْنُهُمَا أَوِ اخْتَلَفَ. فَلَوْ أَعْتَقَ مُسْلِمٌ كَافِرًا أَوْ عَكْسُهُ، ثَبَتَ الْوَلَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَثَا، كَمَا تَثْبُتُ عَلَقَةُ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ الْوَلَاءُ مُخْتَصٌّ بِالْإِعْتَاقِ، فَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ إِنْسَانٌ فَلَا وَلَاءَ لَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَعْتَقَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَعَ الْعِتْقُ عَنِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَلَهُ الْوَلَاءُ دُونَ الْمُعْتِقِ. وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا هِبَتُهُ، وَلَا يُوَرَّثُ، لَكِنْ يُوَرَّثُ بِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَلَى أَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ سَائِبَةً، لَغَا الشَّرْطُ، وَثَبَتَ الْوَلَاءُ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ أَنَّ وَلَاءَهُ لِفُلَانٍ أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ، لَغَا، وَلَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ عَنْهُ، كَمَا لَا يَنْتَقِلُ النَّسَبُ، وَلَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِالْمُوَالَاةِ وَالْحِلْفِ، كَمَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِذَلِكَ، وَكَمَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ عَلَى الْمُعْتَقِ، يَثْبُتُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَحْفَادِهِ، وَعَلَى عَتِيقِهِ وَعَتِيقِ عَتِيقِهِ، وَكَمَا يَثْبُتُ لِلْمُعْتِقِ يَثْبُتُ لِمُعْتِقِ الْأَبِ وَسَائِرِ الْأُصُولِ، وَلِمُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، وَكَمَا يَثْبُتُ عَلَى وَلَدِهِ الْعَتِيقِ، يَثْبُتُ عَلَى وَلَدِ الْعَتِيقَةِ، وَيُسْتَثْنَى مِنِ اسْتِرْسَالِ الْوَلَاءِ عَلَى أَوْلَادِ

الْعَتِيقِ وَأَحْفَادِهِ مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا: إِذَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ مَسَّهُ رِقٌّ وَأُعْتِقَ، فَوَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَلِعَصَبَاتِ مُعْتِقِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا، فَالْمِيرَاثُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِمُعْتِقِ الْأُصُولِ بِحَالٍ، فَإِنَّهُ أُعْتِقَ مُبَاشَرَةً، وَوَلَاءُ الْمُبَاشَرَةِ أَقْوَى. وَصُورَتُهُمْ أَنْ تَلِدَ رَقِيقَةٌ رَقِيقًا مِنْ رَقِيقٍ أَوْ حُرٍّ، وَأُعْتِقَ الْوَلَدُ وَأَبَوَاهُ أَوْ أُمُّهُ. الثَّانِي: مَنْ أَبُوهُ حُرٌّ أَصْلِيٌّ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَأُمُّهُ مُعْتَقَةٌ، هَلْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي الْأُمِّ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ: لَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْأَبِ مُتَيَقَّنَةً، بِأَنْ كَانَ عَرَبِيًّا مَعْلُومَ النَّسَبِ، فَلَا، وَإِنْ كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى ظَاهِرِ الدَّارِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ، فَنَعَمْ، لِضَعْفِ حُرِّيَّةِ الْأَبِ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُعْتَقًا، وَالْأُمُّ حُرَّةً أَصْلِيَّةً، فَالصَّحِيحُ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ لِمَوَالِي الْأَبِ ; لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لِلْحُرِّيَّةِ كَعَكْسِهِ. وَمَنْ لَهُ أُمُّهُ حُرَّةٌ أُصْلِيَّةٌ وَأَبُوهُ رَقِيقٌ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ، فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ، فَهَلْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ لِمَوَالِي الْأَبِ؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: فِيهِ جَوَابَانِ سَمِعْتُهُمَا مِنْ شَيْخِي فِي وَقْتَيْنِ، وَهُمَا مُحْتَمَلَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِثُبُوتِهِ عَلَى الْأَبِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَثْبُتْ أَوَّلًا لِرِقِّهِ. وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ ابْتِدَاءً، فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ. فَرْعٌ مَنْ مَسَّهُ رِقٌّ وَعِتْقٌ، فَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِمُعْتِقِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَسَائِرِ أُصُولِهِ كَمَا سَبَقَ، سَوَاءٌ وُجِدُوا فِي الْحَالِ أَمْ لَا، فَالْمُبَاشِرُ إِعْتَاقُهُ وَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِهِ، ثُمَّ لِعَصَبَتِهِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَأَبَوَاهُ عَتِيقَيْنِ، أَوْ أَبُوهُ عَتِيقٌ، فَوَلَاؤُهُ لِمَوْلَى أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ رَقِيقًا، وَالْأُمُّ مُعْتَقَةً، فَالْوَلَاءُ لِمُعْتِقِهَا، فَإِنْ مَاتَ وَالْأَبُ رَقِيقٌ بَعْدُ، وَرِثَهُ مُعْتِقُ الْأُمِّ، وَإِنْ أُعَتِقَ الْأَبُ فِي حَيَاةِ

الْوَلَدِ؛ انْجَرَّ الْوَلَاءُ مِنْ مَوْلَى الْأُمِّ إِلَى مَوْلَى الْأَبِ. وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ رَقِيقًا، وَعَتَقَ الْجَدُّ، انْجَرَّ مِنْ مَوَالِي الْأُمِّ إِلَى مَوَالِي الْجَدِّ وَلَوْ عَتَقَ الْجَدُّ، وَالْأَبُ رَقِيقٌ، فَفِي انْجِرَارِهِ إِلَى مَوْلَى الْجَدِّ - وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَنْجَرُّ، فَإِنْ أَعْتَقَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ، انْجَرَّ مِنْ مَوْلَى الْجَدِّ إِلَى مَوْلَى الْأَبِ، وَالثَّانِي: لَا يَنْجَرُّ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ الْأَبُ بَعْدَ عِتْقِ الْجَدِّ، فَفِي انْجِرَارِهِ إِلَى مَوَالِي الْجَدِّ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ: لَا يَنْجَرُّ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِالِانْجِرَارِ. قُلْتُ: الِانْجِرَارُ أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا ثَبَتَ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي الْأُمِّ لِرِقِّ الْأَبِ، فَاشْتَرَى الْوَلَدُ أَبَاهُ، ثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ، وَعَلَى إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ الَّذِينَ هُمْ أَوْلَادُ الْأَبِ، وَهَلْ يَجُرُّ وَلَاءَ نَفْسِهِ مِنْ مَوْلَى الْأُمِّ؟ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: لَا ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَاءٌ، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ، عَتَقَ وَكَانَ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ لِبَائِعِهِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إِذَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْجَرُّ، بَقِيَ الْوَلَاءُ مَوْضِعَهُ. وَالثَّانِي: يَنْجَرُّ، وَيَسْقُطُ، وَيَصِيرُ كَحُرٍّ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ خُلِقَ إِنْسَانٌ حُرٌّ مِنْ حُرَّيْنِ، وَكَانَ فِي أَحَدِ أَجْدَادِهِ رَقِيقٌ. وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْغُرُورِ، وَفِي الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ إِذَا أُعْتِقَتْ أُمُّ أُمِّهِ، ثَبَتَ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ لِمُعْتِقِ أُمِّ الْأُمِّ، فَإِذَا أُعْتِقَ أَبُو أُمِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ، انْجَرَّ الْوَلَاءُ إِلَى مَوْلَاهُ، فَإِذَا أُعْتِقَتْ أُمُّ الْأَبِ بَعْدَ ذَلِكَ، انْجَرَّ الْوَلَاءُ مِنْ مَوْلَى أَبِي الْأُمِّ إِلَى مَوْلَى أُمِّ الْأَبِ، فَإِذَا أُعْتِقَ أَبُو أَبِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، انْجَرَّ إِلَى مَوْلَاهُ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَكِنْ أَبَوْهُ رَقِيقٌ،

فَأُعْتِقَ الْأَبُ بَعْدَ عِتْقِ هَؤُلَاءِ، انْجَرَّ إِلَى مَوْلَاهُ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَدَلِيلُهُ أَنَّ جِهَةَ الْأُبُوَّةِ أَقْوَى، وَحَيْثُ أَثْبَتْنَا الْوَلَاءَ لِمَوْلَى الْأُمِّ، فَمَاتَ الْوَلَدُ، أَخَذَ مِيرَاثَهُ، فَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَسْتَرِدَّهُ مَوْلَاهُ، بَلِ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ مَعْنَى الِانْجِرَارِ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْوَلَاءَ لَمْ يَزَلْ فِي جَانِبِ الْأَبِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ مِنْ وَقْتِ عِتْقِ الْأَبِ عَنْ مَوْلَى الْأُمِّ، وَإِذَا انْجَرَّ إِلَى مَوَالِي الْأَبِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، لَمْ يَعُدْ إِلَى مَوَالِي الْأُمِّ، بَلْ يَكُونُ الْمِيرَاثُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَا إِذَا ثَبَتَ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي الْأَبِ فَهَلَكُوا، لَمْ يَصِرْ لِمَوَالِي الْجَدِّ، حَتَّى لَوْ مَاتَ مَنِ انْتَقَلَ وَلَاؤُهُ مِنْ مَوَالِي أَبِيهِ إِلَى مَوَالِي جَدِّهِ حِينَئِذٍ فَمِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ. فَرْعٌ أَعْتَقَ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ بِعَتِيقٍ، فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْإِعْتَاقِ، فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمُعْتِقِ الْأُمِّ، لَا لِمُعْتِقِ الْأَبِ، لِأَنَّا تَيَقَّنَّا وَجُودَهُ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ، فَمُعْتِقُهُ بَاشَرَ إِعْتَاقَهُ بِإِعْتَاقِهَا، وَوَلَاءُ الْمُبَاشَرَةِ مُقَدَّمٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ يَفْتَرِشُهَا، فَوَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِ الْأَبِ، لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ وُجُودَهُ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَالِافْتِرَاشُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ لِلْحُدُوثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَفْتَرِشُهَا، وَوَلَدَتْ لِأَرْبَعِ سِنِينَ مِنَ الْإِعْتَاقِ، فَذَلِكَ. وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لِمُعْتِقِ الْأُمِّ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُزَوَّجَةَ بِرَقِيقٍ، فَوَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْإِعْتَاقِ، فَوَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِ الْأُمِّ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَإِنْ أَعْتَقَ الْأَبُ الْأَبَ، لَمْ يَنْجَرَّ الْوَلَاءُ إِلَى مُعْتِقِ الْأَبِ مِنْ مُعْتِقِ الْأُمِّ ; لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ مُبَاشَرَةً. وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ لَمْ يُفَارِقْهَا الزَّوْجُ،

فَوَلَاؤُهُ لِمَوْلَى الْأُمِّ، فَإِذَا أُعْتِقَ الْأَبُ، انْجَرَّ إِلَى مَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ فَارَقَهَا، فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ الْفِرَاقِ، فَالْوَلَدُ مَنْفِيٌّ عَنِ الزَّوْجِ، وَوَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِ الْأُمِّ أَبَدًا، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ، لَحِقَ الزَّوْجَ، وَوَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِ الْأُمِّ، فَإِذَا أُعْتِقَ الْأَبُ، فَفِي الِانْجِرَارِ إِلَى مَوْلَاهُ قَوْلَانِ. وَلَوْ نَفَى الزَّوْجُ الْمُعْتَقُ وَلَدَ زَوْجَتِهِ الْمُعْتَقَةِ بِلِعَانٍ، فَالْوَلَاءُ فِي الظَّاهِرِ لِمَوْلَى الْأُمِّ، فَإِنْ كَذَّبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَحَكَمْنَا بِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَوْلَاهُ. فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قَدْ مَاتَ بَعْدَ اللِّعَانِ، وَدَفَعْنَا الْمِيرَاثَ إِلَى مَوْلَى الْأُمِّ، اسْتَرْدَدْنَاهُ مِنْهُ بَعْدَ الِاسْتِلْحَاقِ، لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَلَاءٌ. وَلَوْ غُرَّ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ فَنَكَحَهَا وَأَوْلَدَهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا حُرَّةٌ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا أَمَةٌ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا آخَرَ، فَالْوَلَدُ الْأَوَّلُ حُرٌّ، وَالثَّانِي رَقِيقٌ. فَلَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْأَمَةَ، وَالْوَلَدَ الثَّانِيَ، ثُمَّ عَتَقَ الْأَبُ، انْجَرَّ وَلَاءُ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ إِلَى مُعْتِقِ الْأَبِ، وَلَمْ يَنْجَرَّ إِلَيْهِ وَلَاءُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ عَتَقَ بِالْمُبَاشَرَةِ. وَلَوْ نَكَحَهَا عَالِمًا بِأَنَّهَا أَمَةٌ، وَأَوْلَدَهَا، ثُمَّ عَتَقَتْ، وَأَوْلَدَهَا وَلَدًا آخَرَ، فَالثَّانِي حُرٌّ، وَوَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِ الْأَبِ، وَالْأَوَّلُ مَمْلُوكٌ، وَوَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِهِ. الطَّرَفُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الْوَلَاءِ وَهُوَ إِحْدَى جِهَاتِ الْعُصُوبَةِ، وَمَنْ يَرِثُ بِهِ، لَا يَرِثُ إِلَّا بِالْعُصُوبَةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: الْإِرْثُ، وَوِلَايَةُ التَّزْوِيجِ، وَتَحَمُّلُ الدِّيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوَاضِعِهَا. قُلْتُ: وَرَابِعٌ، وَهُوَ التَّقَدُّمُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَإِذَا مَاتَ الْعَتِيقُ، وَلَا وَارِثَ لَهُ بِنَسَبٍ وَلَا نِكَاحٍ، وَرِثَ مُعْتِقُهُ جَمِيعَ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَرِثُ بِالْفَرْضِيَّةِ، وَفَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَخَذَهُ الْمُعْتِقُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُعْتِقُ

حَيًّا، وَرِثَ بِوِلَايَةِ أَقْرَبِ عَصَبَاتِهِ، وَلَا يَرِثُ أَصْحَابَ فُرُوضِهِ، وَلَا مَنْ يَتَعَصَّبُ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْ لِلْمُعْتِقِ عَصَبَةً بِالنَّسَبِ، فَالْمِيرَاثُ لِمُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْهُ، فَلِعَصَبَاتِ مُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْهُمْ، فَلِمُعْتِقِ مُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، ثُمَّ لِعَصَبَتِهِ، وَلَا مِيرَاثَ لِمُعْتِقِ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ إِلَّا لِمُعْتِقِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ. وَلِلْأَصْحَابِ عِبَارَةٌ ضَابِطَةٌ لِمَنْ يَرِثُ بِوَلَاءِ الْمُعْتِقِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُعْتِقُ حَيًّا، قَالُوا: هُوَ ذَكَرٌ يَكُونُ عَصَبَةَ الْمُعْتِقِ لَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ يَوْمَ مَوْتِ الْعَتِيقِ بِصِفَةِ الْعَتِيقِ. وَخَرَّجُوا عَلَيْهَا مَسَائِلَ: مِنْهَا: إِذَا مَاتَ الْعَتِيقُ، وَلِلْمُعْتِقِ ابْنٌ وَبِنْتٌ، أَوْ أَبٌ وَأُمٌّ، أَوْ أَخٌ وَأُخْتٌ، فَالْمِيرَاثُ لِلذَّكَرِ دُونَ الْأُنْثَى، وَلَا يَرِثُ النِّسَاءُ بِوَلَاءِ الْغَيْرِ أَصْلًا، لَكِنْ إِنْ بَاشَرَتِ الْمَرْأَةُ إِعْتَاقًا، أَوْ عَتَقَ عَلَيْهَا مَمْلُوكٌ، فَلَهَا عَلَيْهِ الْوَلَاءُ، كَمَا لِلرَّجُلِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» كَمَا يَثْبُتُ لَهَا الْوَلَاءُ عَلَى عَتِيقِهَا يَثْبُتُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَحْفَادِهِ وَعَتِيقِهِ كَالرَّجُلِ. وَمِنْهَا: لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا، وَمَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، فَوَلَاءُ الْعَتِيقِ لَهُمَا، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَخَلَّفَ ابْنًا، فَوَلَاءُ الْعَتِيقِ لِابْنِ الْمُعْتِقِ، دُونَ ابْنِ ابْنِهِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَنَحْوُهَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكُبَرِ، بِضَمِّ الْكَافِ، أَيِ الْكَبِيرِ فِي الدَّرَجَةِ وَالْقُرْبِ، دُونَ السِّنِّ. وَلَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ عَنْ ثَلَاثَةِ بَنِينَ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ عَنِ ابْنٍ، وَآخَرُ عَنْ أَرْبَعَةٍ، وَالْآخَرُ عَنْ خَمْسَةٍ، فَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْعَشَرَةِ بِالسَّوِيَّةِ، فَإِذَا مَاتَ الْعَتِيقُ، وَرِثُوهُ أَعْشَارًا ; لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ يَوْمَئِذٍ وَرِثُوهُ كَذَلِكَ. وَلَوْ

أَعْتَقَ عَبْدًا، وَمَاتَ عَنْ أَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ وَأَخٍ مِنْ أَبٍ، فَوَلَاءُ عَتِيقِهِ لِلْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا سَبَقَ. فَلَوْ مَاتَ الْأَخُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَخَلَّفَ ابْنًا، وَالْأَخَ الْآخَرَ، فَوَلَاءُ الْعَتِيقِ لِلْأَخِ ; لِأَنَّ الْمُعْتِقَ لَوْ مَاتَ الْآنَ كَانَ عَصَبَةُ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ، دُونَ ابْنِ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. وَمِنْهَا: أَعْتَقَ مُسْلِمٌ عَبْدًا كَافِرًا، وَمَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ: مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ، فَمِيرَاثُهُ لِلِابْنِ الْكَافِرِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي يَرِثُ الْمُعْتِقَ بِصِفَةِ الْكُفْرِ. وَلَوْ أَسْلَمَ الْعَتِيقُ، ثُمَّ مَاتَ، فَمِيرَاثُهُ لِلِابْنِ الْمُسْلِمِ. وَلَوْ أَسْلَمَ الِابْنُ الْكَافِرُ، ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ مُسْلِمًا، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا. فَرْعٌ الَّذِينَ يَرِثُونَ بِوَلَاءِ الْمُعْتَقِ مِنْ عَصَبَاتِهِ، يَتَرَتَّبُونَ تَرَتُّبَ عَصَبَاتِ النَّسَبِ، إِلَّا فِي مَسَائِلَ سَبَقَتْ فِي الْفَرَائِضِ. مِنْهَا: أَخُ الْمُعْتِقِ وَجَدُّهُ، إِذَا اجْتَمَعَا هَلْ يَتَسَاوَيَانِ كَالْإِرْثِ، أَمْ يُقَدَّمُ الْأَخُ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا الثَّانِي، فَيُقَدَّمُ ابْنُ الْأَخِ أَيْضًا، وَيُقَدَّمُ الْأَخُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى الْأَخِ مِنَ الْأَبِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبْنَاءُ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، قُدِّمَ عَلَى الْمَذْهَبِ. فَرْعٌ الِانْتِسَابُ فِي الْوَلَاءِ، قَدْ يَكُونُ بِمَحْضِ الْإِعْتَاقِ، كَمُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، وَمُعْتِقِ مُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، وَقَدْ يَتَرَكَّبُ مِنَ الْإِعْتَاقِ وَالنَّسَبِ، كَمُعْتِقِ الْأَبِ وَأَبِي الْمُعْتِقِ وَمُعْتِقِ أَبِي الْمُعْتِقِ، فَإِنْ تَرَكَّبَ الِانْتِسَابُ، فَقَدْ يَشْتَبِهُ حُكْمُ الْوَلَاءِ وَيُغَالَطُ بِهِ، بِأَنْ قَالَ: اجْتَمَعَ أَبُو الْمُعْتِقِ وَمُعْتِقُ الْأَبِ فَأَيُّهُمَا أَوْلَى؟ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ أَبُو الْمُعْتِقِ، كَانَ لَهُ مُعْتِقٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا وَلَاءَ لِمُعْتِقِ أَبِيهِ أَصْلًا كَمَا سَبَقَ، فَلَا مَعْنَى لِمُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَطَلَبِ

الْأَوْلَوِيَّةِ. وَلَوِ اجْتَمَعَ مُعْتِقُ أَبِي الْمُعْتِقِ، وَمُعْتِقُ الْمُعْتِقِ، فَالْوَلَاءُ لِمُعْتِقِ الْمُعْتِقِ لِأَنَّ وَلَاءَهُ بِجِهَةِ الْمُبَاشَرَةِ. فَرْعٌ اشْتَرَتِ امْرَأَةٌ أَبَاهَا، فَعَتَقَ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْأَبُ عَبْدًا، وَمَاتَ عَتِيقُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ عَصَبَةٌ بِالنَّسَبِ، فَمِيرَاثُ الْعَتِيقِ لِلْبِنْتِ، لَا لِكَوْنِهَا بِنْتَ الْمُعْتِقِ، بَلْ لِأَنَّهَا مُعْتِقَةُ الْمُعْتِقِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ، كَأَخٍ وَابْنِ عَمٍّ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، فَمِيرَاثُ الْعَتِيقِ لَهُ ; لِأَنَّهُ عَصَبَةُ الْمُعْتِقِ بِالنَّسَبِ، وَلَا شَيْءَ لِلْبِنْتِ ; لِأَنَّهَا مُعْتِقَةُ الْمُعْتِقِ، فَتَتَأَخَّرُ عَنْ عَصَبَةِ النَّسَبِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: سَمِعْتُ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: أَخْطَأَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعُمِائَةِ قَاضٍ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهَا أَقْرَبَ. وَلَوِ اشْتَرَى أَخٌ وَأُخْتٌ أَبَاهُمَا، فَعَتَقَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا، وَمَاتَ الْعَتِيقُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، وَخَلَّفَ الْأَخَ وَالْأُخْتَ، فَمِيرَاثُهُ لِلْأَخِ، دُونَ الْأُخْتِ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ الْمُعْتِقِ بِالنَّسَبِ، بَلْ لَوْ كَانَ الْأَخُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْأَبِ، وَخَلَّفَ ابْنًا وَابْنَ ابْنٍ أَوْ كَانَ لِلْأَبِ ابْنُ عَمٍّ بَعِيدٍ، فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْبِنْتِ. وَلَوْ مَاتَ هَذَا الْأَخُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، وَلَمْ يَخْلُفْهُ إِلَّا أُخْتُهُ، فَلَهَا نِصْفُ الْإِرْثِ بِالْأُخُوَّةِ، وَنِصْفُ الْبَاقِي ; لِأَنَّ لَهَا نِصْفَ وَلَاءِ الْأَخِ، لِإِعْتَاقِهَا نِصْفَ أَبِيهِ، فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ. وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ، ثُمَّ الِابْنُ، ثُمَّ الْعَتِيقُ، وَلَمْ يُخَلِّفْ إِلَّا الْبِنْتَ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ أَيْضًا: النِّصْفُ لِأَنَّهَا مُعْتِقَةُ نِصْفِ الْمُعْتَقِ، وَنِصْفُ الْبَاقِي لِوَلَاءِ السِّرَايَةِ، عَلَى نِصْفِ الْأَخِ بِإِعْتَاقِهَا نِصْفَ

أَبِيهِ، فَهِيَ مُعْتِقَةُ نِصْفِ أَبِي مُعْتِقِ مُعْتِقِهِ. وَالرُّبُعُ الْبَاقِي فِي الصُّورَتَيْنِ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ، وَلَمْ يُخَلِّفْ إِلَّا الْبِنْتَ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَجِيزِ» : لَهَا النِّصْفُ بِالْبُنُوَّةِ، وَنِصْفُ الْبَاقِي لِوَلَائِهَا عَلَى نِصْفِ الْأَبِ وَلَمْ يَذْكُرِ الصُّورَةَ فِي «الْوَسِيطِ» وَلَا فِي «النِّهَايَةِ» وَمَفْهُومُهُ انْحِصَارُ حَقِّهَا فِي النِّصْفِ وَالرُّبُعِ، وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو خَلَفٍ السَّلْمِيُّ، فِي صُورَةٍ أُخْرَى - يُنَازِعُ فِي هَذَا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوِ اشْتَرَتْ أُخْتَانِ أَبَاهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، فَعَتَقَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقِي بِالْوَلَاءِ. وَلَوْ مَاتَتْ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، فَلِلْأُخْرَى النِّصْفُ بِالْأُخُوَّةِ، وَنِصْفُ الْبَاقِي بِوَلَائِهِمَا عَلَى نِصْفِ الْأُخْتِ، بِإِعْتَاقِهَا نِصْفَ أَبِيهَا. وَأَمَّا الرُّبُعُ، فَأَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلْيُحْمَلْ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ أُمُّهَا حُرَّةً أَصْلِيَّةً، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً، فَلِمَوَالِي الْأُمِّ وَلَاءُ الْأُخْتَيْنِ، فَإِذَا أَعْتَقْنَا الْأَبَ، جَرَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ نِصْفَ وَلَاءِ أُخْتِهَا إِلَى نَفْسِهَا، وَهَلْ تَجُرُّ وَلَاءَ نَفْسِهَا وَتَسْقُطُ، أَمْ يَبْقَى لِمَوَالِي الْأُمِّ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ، فَإِنْ قُلْنَا: تَبْقَى هِيَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَالرُّبُعُ الْبَاقِي لِمَوَالِي الْأُمِّ، وَإِنْ قُلْنَا: يَجُرُّ وَيَسْقُطُ، فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَلَوْ مَاتَتْ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، وَخَلَّفَتِ الْأُخْرَى، فَلَهَا سَبْعَةُ أَثْمَانِ مَالِهِ، وَالنِّصْفُ بِالْبُنُوَّةِ، وَالرُّبُعُ لِأَنَّهَا مُعْتِقَةُ نِصْفِهِ، وَنِصْفُ الرُّبُعِ الْبَاقِي ; لِأَنَّ لَهَا نِصْفَ وَلَاءِ الْأُخْتِ بِإِعْتَاقِهَا نِصْفَ أَبِيهَا، وَالثُّمُنُ الْبَاقِي لِمَوَالِي الْأُمِّ إِنْ كَانَتْ مُعْتَقَةً عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ نِصْفَ وَلَاءِ الْمَيِّتَةِ يَبْقَى لَهَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْقَى، فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ كَالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ. وَلَوِ اشْتَرَتَا الْأَبَ، وَعَتَقَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا وَمَاتَ الْعَتِيقُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَخَلَّفَ الْبِنْتَيْنِ، فَجَمِيعُ الْمَالِ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا مُعْتِقَتَا مُعْتِقِهِ.

فَرْعٌ أُخْتَانِ أَوْ أَخَوَانِ لَيْسَ عَلَيْهِمَا وَلَاءٌ مُبَاشِرٌ، اشْتَرَتْ إِحْدَاهُمَا أَبَاهُمَا فَعَتَقَ عَلَيْهَا، وَالْأُخْرَى أُمَّهُمَا، فَعَتَقَتْ عَلَيْهَا، وَتُتَصَوَّرُ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا لَوْ غُرَّ عَبْدٌ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ فَنَكَحَهَا وَأَوْلَدَهَا وَلَدَيْنِ، وَفِيمَا لَوْ كَانُوا كُفَّارًا، فَأَسْلَمَ الْوَلَدَانِ، وَاسْتَرْقَقَتَا الْأَبَوَيْنِ، فَوَلَاءُ الْأَبِ لِلَّتِي اشْتَرَتْهُ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَ عَنْهُمَا، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ بِالْبُنُوَّةِ، وَالْبَاقِي لَهَا بِالْوَلَاءِ، وَوَلَاءُ الْأُمِّ لِلَّتِي اشْتَرَتْهَا، فَإِذَا مَاتَتْ عَنْهُمَا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقِي لَهَا بِالْوَلَاءِ، وَلِمُشْتَرِيَةِ الْأَبِ الْوَلَاءُ عَلَى مُشْتَرِيَةِ الْأُمِّ، فَإِذَا مَاتَتْ مُشْتَرِيَةُ الْأُمِّ، وَخَلَّفَتْ مُشْتَرِيَةَ الْأَبِ، فَلَهَا النِّصْفُ بِالْأُخُوَّةِ، وَالْبَاقِي بِالْوَلَاءِ، وَهَلْ لِمُشْتَرِيَةِ الْأُمِّ الْوَلَاءُ عَلَى مُشْتَرِيَةِ الْأَبِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لِمَوْلَى أُمِّهِ إِذَا اشْتَرَى أَبَاهُ، هَلْ يَبْقَى الْوَلَاءُ لِمَوَالِي أُمِّهِ، أَمْ يَسْقُطُ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّهُ يَبْقَى، فَلِمُشْتَرِيَةِ الْأُمِّ الْوَلَاءُ عَلَى مُشْتَرِيَةِ الْأَبِ، فَإِذَا مَاتَتْ، فَالْحُكْمُ كَمَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ، فَلَا وَلَاءَ لَهَا عَلَى مُشْتَرِيَةِ الْأَبِ، وَإِذَا مَاتَتْ، فَلَهَا النِّصْفُ بِالْبُنُوَّةِ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. وَلَوِ اشْتَرَتَا أَبَاهُمَا، ثُمَّ اشْتَرَتْ إِحْدَاهُمَا وَالْأَبُ أَبَا الْأَبِ، وَعَتَقَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقِي لِأَبِيهِ، فَإِنْ مَاتَ الْجَدُّ بَعْدَهُ، فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ بِالْبُنُوَّةِ وَالْبَاقِي نِصْفُهُ لِلَّتِي اشْتَرَتْهُ مَعَ الْأَبِ، وَنِصْفُهُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا، لِإِعْتَاقِهِمَا مُعْتِقَ نِصْفِهِ. وَلَوْ مَاتَتْ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَخَلَّفَتِ الْأُخْرَى، فَعَلَى مَا سَبَقَ. وَلَوِ اشْتَرَتَا أُمَّهُمَا، ثُمَّ الْأُمُّ أَبَاهُمَا وَأَعْتَقَتْهُ، فَلَهُمَا عَلَيْهَا الْوَلَاءُ، وَلَهَا عَلَيْهِمَا ; لِأَنَّهَا مُعْتِقَةُ أَبِيهِمَا،

فَإِنْ مَاتَتْ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ بِالْبُنُوَّةِ، وَالْبَاقِي بِالْوَلَاءِ، فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ بِالْبُنُوَّةِ، وَالْبَاقِي بِالْوَلَاءِ، لِأَنَّهُمَا مُعْتِقَتَا مُعْتِقَهُ، فَإِنْ مَاتَتْ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلِلْأُخْرَى النِّصْفُ بِالْأُخُوَّةِ، وَنِصْفُ الْبَاقِي لِإِعْتَاقِهَا نِصْفَ مُعْتِقِ أَبِيهَا، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. وَلَوِ اشْتَرَتَا أَبَاهُمَا، ثُمَّ اشْتَرَتْ إِحْدَاهُمَا وَالْأَبُ أَخَاهُمَا لِلْأَبِ، فَعَتَقَ نِصْفُهُ عَلَى الْأَبِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَأَعْتَقَتِ الْمُشْتَرِيَةُ بَاقِيَهُ، فَمَاتَ الْأَبُ، وَرِثَهُ أَوْلَادُهُ الثَّلَاثَةُ، فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ بَعْدَهُ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ بِالْأُخُوَّةِ، وَالْبَاقِي نِصْفُهُ لِلْمُشْتَرِي، وَبَاقِيهِ بَيْنَ الْبِنْتَيْنِ، لِأَنَّهُمَا مُعْتِقَتَا الْأَبِ الَّذِي هُوَ مُعْتِقُ نِصْفِ الْأَخِ، فَالْقِسْمَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، لِمُشْتَرِيَةِ الْأَخِ سَبْعَةٌ، وَالْأُخْرَى خَمْسَةٌ. وَلَوْ مَاتَتِ الَّتِي لَمْ تَشْتَرِ الْأَخَ أَوَّلًا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، ثُمَّ الْأَخُ، فَمَالُ الْمَيِّتَةِ أَوَّلًا لِأَبِيهَا، وَمَالُ الْأَبِ لِابْنِهِ وَبِنْتِهِ أَثْلَاثًا، وَمَالُ الْأَخِ نِصْفُهُ لِلْأُخْتِ الْبَاقِيَةِ بِالنَّسَبِ، وَنَصِفُ بَاقِيهِ لَهَا بِإِعْتَاقِهَا نِصْفَهُ، وَالْبَاقِي وَهُوَ الرُّبُعُ لِمُعْتِقَتَيِ الْأَبِ، فَلِهَذِهِ نِصْفُهُ وَنِصْفُهُ لِلْمَيِّتَةِ، فَيَكُونُ لِمَوَالِيهَا، وَهُمْ هَذِهِ الْأُخْتُ، وَمَوَالِي الْأُمِّ إِنْ كَانَتِ الْأُمُّ مُعْتَقَةً، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأُمِّ مَوْلًى، فَلِبَيْتِ الْمَالِ. فَرْعٌ أُخْتَانِ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِمَا، اشْتَرَتَا أُمَّهُمَا، فَعَتَقَتْ، ثُمَّ اشْتَرَتِ الْأُمُّ وَأَجْنَبِيٌّ أَبَاهُمَا وَأَعْتَقَاهُ، فَلِلْأُخْتَيْنِ الْوَلَاءُ عَلَى أُمِّهِمَا، وَلَهَا وَلِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَبِ وَعَلَيْهِمَا، فَإِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ، ثُمَّ الْأَبُ، ثُمَّ إِحْدَاهُمَا، فَأَمَّا الْأُمُّ، فَمَالُهَا لَهُمَا ثُلُثُهُ بِالْبُنُوَّةِ، وَبَاقِيهِ بِالْوَلَاءِ، وَأَمَّا الْأَبُ، فَلَهُمَا

ثُلُثَا مَالِهِ بِالْبُنُوَّةِ، وَبَاقِيهِ لِلْأَجْنَبِيِّ نِصْفُهُ، وَلَهُمَا نِصْفُهُ، لِأَنَّهُمَا مُعْتِقَتَا مُعْتِقَةِ نِصْفِهِ، وَأَمَّا الْأُخْتُ، فَالنِّصْفُ مِنْ مَالِهَا لِلْأُخْرَى بِالْأُخُوَّةِ، وَنِصْفُ الْبَاقِي لِلْأَجْنَبِيِّ ; لِأَنَّهُ أَعْتَقَ نِصْفَ أَبِيهَا، وَالرُّبُعُ الْبَاقِي كَانَ لِلْأُمِّ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَيَكُونُ لِلْأُخْتَيْنِ، لِأَنَّهُمَا مُعْتِقَتَاهَا، فَلِلْأُخْتِ الْبَاقِيَةِ نِصْفُهُ، وَهُوَ الثُّمُنُ، وَيَرْجِعُ الثُّمُنُ الَّذِي هُوَ حِصَّةُ الْمَيِّتَةِ إِلَى مَنْ لَهُ وَلَاؤُهَا وَهُوَ الْأَجْنَبِيُّ وَالْأُمُّ، وَنَصِيبُ الْأُمِّ يَرْجِعُ إِلَى الْحَيَّةِ وَالْمَيِّتَةِ، وَحِصَّةُ الْمَيِّتَةِ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَالْأُمِّ، هَكَذَا يَدُورُ فَلَا يَنْقَطِعُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ: سَهْمَ الدَّوْرِ. وَفِيمَا يُفْعَلُ بِهِ - وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ بِنَسَبٍ وَلَا وَلَاءٍ. وَالثَّانِي: يُقْطَعُ السَّهْمُ الدَّائِرُ وَهُوَ الثُّمُنُ، وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى بَاقِي السِّهَامِ، وَهُوَ سَبْعَةٌ، خَمْسَةٌ لِلْأُخْتِ الْبَاقِيَةِ، وَسَهْمَانِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَزَيَّفَ الْإِمَامُ الْوَجْهَيْنِ وَقَالَ: الْوَجْهُ أَنْ يُفْرَدَ النِّصْفُ، وَلَا يُدْخِلَهُ فِي حِسَابِ الْوَلَاءِ، وَيَنْظُرَ فِي النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْوَلَاءِ، فَيُحَدُّ نِصْفُهُ لِلْأُمِ، وَنِصْفُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَمَالُ الْأُمِّ يَصِيرُ لِلْأُخْتَيْنِ ثُمَّ نَصِيبُ إِحْدَاهُمَا نِصْفُهُ لِلَأُمِّ، وَنِصْفُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَنَصِيبُ الْأُمِّ لِلْأُخْتَيْنِ، فَحَصَلَ أَنَّ لِلْأَجْنَبِيِّ ضِعْفَ مَا لِلْأُخْتِ، فَيُجْعَلُ الْمَالُ سِتَّةً، لِلْأُخْتِ نِصْفُهَا بِالنَّسَبِ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ، لِلْأَجْنَبِيِّ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ، فَجُعِلَ لَهُ الثُّلُثُ، وَلَهَا الثُّلُثَانِ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْغَزَالِيُّ. وَنَقَلَ أَبُو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ أَنَّ سَهْمَ الدَّوْرِ لِبَيْتِ الْمَالِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَإِلَيْهِ يَمِيلُ كَلَامُ ابْنِ اللَّبَّانِ. أَمَّا إِذَا مَاتَتْ إِحْدَى

فصل

الْأُخْتَيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ الْأُمُّ، فَمَالُ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْهَا، وَمَالُ الْأُمِّ لِلْبِنْتِ، نِصْفُهُ بِالْبُنُوَّةِ، وَلَهَا نِصْفُ الْبَاقِي لِإِعْتَاقِهَا نِصْفَ الْأُمِّ، وَنِصْفُهُ الْبَاقِي لِلْأَبِ ; لِأَنَّهُ عَصَبَةُ مُعْتِقَةِ النِّصْفِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يُوَرَّثُ بِالزَّوْجِيَّةِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ السَّائِلُ فِي السُّؤَالِ بَقَاءَ الزَّوْجِيَّةِ أَمَّا إِذَا مَاتَ الْأَبُ أَوَّلًا، ثُمَّ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ، ثُمَّ الْأُمُّ، فَمَالُ الْأَبِ ثُلُثَاهُ لِلْبِنْتَيْنِ بِالْأُبُوَّةِ، وَبَاقِيهِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأَجْنَبِيِّ، وَمَالُ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ ثُلُثُهُ وَلِلْأُخْتِ نِصْفُهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّهُمَا مُعْتِقَتَا أَبِيهِمَا، وَمَالُ الْأُمِّ نِصْفُهُ لِلْبِنْتِ الْبَاقِيَةِ بِالْبُنُوَّةِ، وَلَهَا مِنَ النِّصْفِ الْبَاقِي نِصْفُهُ ; لِأَنَّهَا أَعْتَقَتْ نِصْفَهَا، وَنِصْفُهُ الْبَاقِي حِصَّةُ الْبِنْتِ الْمَيِّتَةِ، فَيَكُونُ لِمَوَالِيهَا، وَهُمُ الْأَجْنَبِيُّ وَالْأُمُّ، فَلِلْأَجْنَبِيِّ نِصْفُهُ، وَهُوَ الثُّمُنُ، وَيَبْقَى ثُمُنٌ يَرْجِعُ إِلَى الْأُخْتَيْنِ، لِإِعْتَاقِهِمَا الْأُمَّ، وَهُوَ سَهْمُ دَوْرٍ، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. أَمَّا إِذَا مَاتَتِ الْبِنْتَانِ أَوَّلًا، فَمَالُهُمَا لِأَبَوَيْهِمَا، فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ بَعْدَهُمَا، فَمَالُهُ لِلْأُمِّ وَالْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ بَعْدَهُ، فَنِصْفُ مَالِهَا لِلْأَجْنَبِيِّ ; لِأَنَّهُ مُعْتِقُ نِصْفِ أَبِي مُعْتِقِهَا، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرْضِيِّينَ قَالُوا: إِنَّمَا يَحْصُلُ الدَّوْرُ فِي الْوَلَاءِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ لِلْمُعْتِقِ ابْنَانِ فَصَاعِدًا، وَأَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ مِنْهُمُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَأَلَّا يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُمْ حَائِزًا لِمَالِ الْمَيِّتِ، فَإِنِ اخْتَلَّ أَحَدُ هَذِهِ الشُّرُوطِ، فَلَا دَوْرَ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ الْعِتْقِ، مِنَ الْوَلَاءِ، وَغَيْرِهِ. شَخْصَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَوْلَى صَاحِبِهِ مِنْ فَوْقَ وَمِنْ أَسْفَلَ، بِأَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا، فَأَعْتَقَ أَبَا الْمُعْتِقِ أُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ، أَعْتَقَهُمَا رَجُلٌ، فَاشْتَرَتَا أَبَاهُمَا،

فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ وَلَاءِ أَبِيهَا، وَلَا وَلَاءَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى ; لِأَنَّ عَلَيْهِمَا وَلَاءَ مُبَاشَرَةٍ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: إِذَا اشْتَرَى مُكَاتَبٌ بَعْضَ أَبِيهِ، عَتَقَ نِصْفُهُ، وَلَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ بِاخْتِيَارِهِ، بَلْ عَتَقَ ضِمْنًا، وَأَنَّهُ إِذَا قَالَ لِمَنْ لَهُ عَبْدٌ مُسْتَأْجَرٌ: أَعْتِقْهُ عَنِّي عَلَى كَذَا، فَأَعْتَقَهُ، نَفَذَ قَطْعًا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، لِقُوَّةِ الْعِتْقِ، وَكَذَا يَجُوزُ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْغَائِبِ إِذَا عُلِمَ حَيَاتُهُ. وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ: إِذَا ادَّعَى عَبْدٌ عَلَى سَيِّدِهِ الْعِتْقَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَحَلَّفَهُ فَلَمَّا أَتَمَّ يَمِينَهُ، قَالَ: قُمْ يَا حُرُّ، عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْحُرِّيَّةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ» وَمِنْهَا الْعِتَاقُ. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ جَارِيَةٌ حَامِلًا، وَالْحَمْلُ مُضْغَةٌ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُ مُضْغَةَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، كَانَ لَغْوًا ; لِأَنَّ إِعْتَاقَ مَا لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ لَغْوٌ. وَلَوْ قَالَ: مُضْغَةُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ حُرٌّ، فَهُوَ إِقْرَارٌ بِأَنَّ الْوَلَدَ انْعَقَدَ حُرًّا، وَتَصِيرُ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِيرَ حَتَّى يُقِرَّ بِوَطْئِهَا ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ وَطْءِ أَجْنَبِيٍّ بِشُبْهَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: لَوْ أَخَذَكَ مُتَغَلِّبٌ، فَقُلْ: أَنَا حُرٌّ، لَا يَعْتِقُ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِكَذِبٍ، وَكَانَ الْقَاضِي يُلَقِّنُ عَبِيدَهُ بِذَلِكَ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقَكَ اللَّهُ، أَوِ اللَّهُ أَعْتَقَكَ، فَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ دُعَاءٌ، وَالثَّانِيَ خَبَرٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدِي لَا يَعْتِقُ فِيهِمَا. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ: يَعْتِقُ فِيهِمَا. وَفِي الزِّيَادَاتِ لِأَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِقُدُومِ زَيْدٍ، فَهُوَ حُرٌّ، فَبَعَثَ بَعْضُ عَبِيدِهِ عَبْدًا آخَرَ لِيُبَشِّرَهُ بِهِ، فَجَاءَ وَقَالَ: عَبْدُكَ فُلَانٌ يُبَشِّرُكَ بِقُدُومِهِ،

وَأَرْسَلَنِي لِأُخْبِرَكَ، فَالْمُبَشِّرُ الْمُرْسِلُ دُونَ الرَّسُولِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنِ اشْتَرَيْتُ عَبْدَيْنِ فِي صَفْقَةٍ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ إِعْتَاقُهُمَا، فَاشْتَرَى ثَلَاثَةً صَفْقَةً، لَزِمَهُ إِعْتَاقُ اثْنَيْنِ، لِوُجُودِ الصِّفَةِ. وَلَوْ وَلَدَتِ الزَّانِيَةُ، فَمَلِكَ الزَّانِي بِهَا ذَلِكَ الْوَلَدَ، لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ، لِانْتِفَاءِ نَسَبِهِ. وَفِي فُرُوعٍ حَكَاهَا الرُّويَانِيُّ عَنْ وَالِدِهِ وَغَيْرِهِ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ مِثْلَ هَذَا الْعَبْدِ، وَأَشَارَ إِلَى عَبْدٍ آخَرَ، يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَعْتِقُ لِعَدَمِ حُرِّيَّةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَيُحْمَلُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْخَلْقِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ مِثْلَ هَذَا، وَلَمْ يَقُلْ: هَذَا الْعَبْدِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْتِقَا، وَالْأَوْضَحُ أَنَّهُمَا لَا يَعْتِقَانِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ هُنَا عِتْقُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدِي حُرٌّ، حُكِمَ بِعِتْقِهِ. وَلَوْ قَالَ: تَظُنُّ أَنَّهُ حُرٌّ، لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حُرًّا لَمْ يَكُنِ الْمَقُولُ لَهُ عَالِمًا بِحُرِّيَّتِهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِعِلْمِهِ، وَالظَّنُّ بِخِلَافِهِ. وَلَوْ قَالَ: تَرَى أَنَّهُ حُرٌّ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَقَعَ، وَأَنْ يَقَعَ، وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي عِتْقِ عَبْدٍ، فَأَعْتَقَ الْوَكِيلُ نِصْفَهُ، فَهَلْ يَعْتِقُ نِصْفُهُ فَقَطْ، أَمْ يَعْتِقُ وَيَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ، أَمْ لَا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ لِمُخَالَفَتِهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ. وَفِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ لِلرُّويَانِيِّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ لِأَحَدِهِمَا: اعْتِقْ نَصِيبَكَ عَنِّي بِكَذَا، فَأَعْتَقَهُ عَنْهُ، فَوَلَاؤُهُ لِلْآمِرِ، وَيُقَوَّمُ نَصِيبُ الشَّرِيكُ عَلَى الْمُعْتِقِ،

دُونَ الْآمِرِ ; لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، وَهُوَ الْعِوَضُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ: أَعْتِقْ نَصِيبَكَ عَنِّي بِكَذَا، فَأَعْتَقَهُ عَنْهُ، فَوَلَاؤُهُ لِلْآمِرِ، وَيُقَوَّمُ نَصِيبُ الْآمِرِ عَلَى الْمُعْتِقِ، حَكَاهُ عَنِ الْقَاضِي الطَّبَرِيِّ. قُلْتُ: الصَّوَابُ فِي الصُّورَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب التدبير

كِتَابُ التَّدْبِيرِ فِيهِ بَابَانِ الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الْمَحَلُّ، وَالصِّيغَةُ، وَالْأَهْلُ. أَمَّا الْمَحَلُّ، فَمَعْلُومٌ، وَأَمَّا الصِّيغَةُ، فَيَنْعَقِدُ التَّدْبِيرُ بِالصَّرِيحِ وَبِالْكِنَايَةِ فَالصَّرِيحُ كَقَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ أَعْتَقْتُكَ، أَوْ حَرَّرْتُكَ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ إِذَا مُتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ عَتِيقٌ، فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ وَلَوْ قَالَ: دَبَّرْتُكَ، أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ صَرِيحٌ، وَيَعْتِقُ إِذَا مَاتَ السَّيِّدُ. وَنُصَّ فِي الْكِتَابَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا، لَا يَكْفِي حَتَّى يَقُولَ: فَإِذَا أَدَّيْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ وَيَنْوِيهِ، وَفِيهِمَا طَرِيقَانِ، فَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: صَرِيحَانِ لِاشْتِهَارِهِمَا فِي مَعْنَيَيْهِمَا، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. وَالثَّانِي: كِنَايَتَانِ، لِخُلُوِّهِمَا عَنْ لَفْظِ الْحُرِّيَّةِ وَالْعِتْقِ، وَالْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ. وَالْكِنَايَةُ كَقَوْلِهِ: خَلَّيْتُ سَبِيلَكَ بَعْدَ مَوْتِي مَعَ نِيَّةِ الْعِتْقِ. وَلَوْ قَالَ: دَبَّرْتُ نِصْفَكَ أَوْ رُبُعَكَ، صَحَّ. وَإِذَا مَاتَ، عَتَقَ ذَلِكَ الْجُزْءُ، وَلَمْ يَسْرِ. وَلَوْ قَالَ: دَبَّرْتُ يَدَكَ أَوْ رِجْلَكَ، فَهَلْ يَصِحُّ وَيَكُونُ كُلُّهُ مُدَبَّرًا، أَمْ يَلْغُو؟ وَجْهَانِ. وَنَصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَسْتَ بِحُرٍّ، لَا يَصِحُّ التَّدْبِيرُ، كَمَا لَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ لَسْتَ بِحُرٍّ، وَلَا الطَّلَاقُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لَسْتِ بِطَالِقٍ.

فَرْعٌ يَصِحُّ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا، وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ بِلَا شَرْطٍ. وَمُقَيَّدًا بِشَرْطٍ فِي الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ قُتِلْتُ، أَوْ مُتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا، أَوْ حَتْفَ أَنْفِي أَوْ فِي سَفَرِي هَذَا، أَوْ فِي هَذَا الشَّهْرِ، أَوْ فِي هَذَا الْبَلَدِ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِنْ مَاتَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، عَتَقَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ، وَمَضَى شَهْرٌ أَوْ يَوْمٌ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ، عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِنْشَاءِ إِعْتَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَهَلْ هَذَا تَدْبِيرٌ مُطْلَقٌ، أَمْ مُقَيَّدٌ، أَمْ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ وَلَا مُقَيَّدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ لَيْسَ بِتَدْبِيرٍ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. الصَّحِيحُ الثَّالِثُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ كَجٍّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالرُّويَانِيُّ، قَالُوا: مَتَى عَلَّقَ الْعِتْقَ بِصِفَةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا مُتُّ وَشِئْتَ الْحُرِّيَّةَ، أَوْ يَشَاءُ فُلَانٌ، أَوْ إِذَا مُتُّ ثُمَّ دَخَلْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إِذَا خَدَمْتَ ابْنِي شَهْرًا، فَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَدْبِيرٍ، بَلْ تَعْلِيقٌ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّدْبِيرِ، بِأَنْ يَقُولَ: إِذَا، أَوْ مَتَى دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ، فَإِذَا دَخَلَ، صَارَ مُدَبَّرًا، وَلَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ فِي الْحَالِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ حُصُولُهُ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، كَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا، فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا تَدْبِيرَ، وَلَغَا التَّعْلِيقُ، إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ فَيَقُولَ: إِذَا دَخَلْتَ الدَّارَ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ إِذَا مُتُّ، ثُمَّ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِنَّمَا يَعْتِقُ حِينَئِذٍ بِالدُّخُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلِلْإِمَامِ احْتِمَالٌ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالدُّخُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذُكِرَ أَنَّ الْقَاضِيَ رَمَزَ إِلَيْهِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، بَلْ مَتَى دَخَلَ، عَتَقَ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ وَدَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الدُّخُولَ قَبْلَهُ. وَلَوْ قَالَ:

إِذَا مُتُّ فَدَخَلْتَ الدَّارَ، أَوْ إِذَا مُتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَعَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ. وَلَوْ قَالَ الشَّرِيكَانِ لِعَبْدِهِمَا: إِذَا مِتْنَا فَأَنْتَ حُرٌّ، لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَمُوتَا، إِمَّا مَعًا، وَإِمَّا مُرَتَّبًا، ثُمَّ إِنْ مَاتَا مَعًا، فَالْحَاصِلُ عِتْقٌ لِحُصُولِ الصِّفَةِ، لَا تَدْبِيرٌ ; لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِمَوْتِهِ وَمَوْتِ غَيْرِهِ. وَالتَّدْبِيرُ: أَنْ يُعَلِّقَ بِمَوْتِ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عِتْقُ تَدْبِيرٍ، لِاتِّصَالِهِ بِالْمَوْتِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ مَاتَا مُرَتَّبًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَيْسَ بِتَدْبِيرٍ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا، صَارَ نَصِيبُ الثَّانِي مُدَبَّرًا، لِتَعَلُّقِ الْعِتْقِ بِمَوْتِهِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا مَاتَ شَرِيكِي فَنَصِيبِي مِنْكَ مُدَبَّرٌ، وَنَصِيبُ الْمَيِّتِ لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا، وَهُوَ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ لِلْوَرَثَةِ، فَلَهُمُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، كَالِاسْتِخْدَامِ وَالْإِجَارَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ بَيْعُهُ ; لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَحِقَّ الْعِتْقِ بِمَوْتِ الشَّرِيكِ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ بَعْدَ مَوْتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَلَيْسَ لِلْوَارِثِ بَيْعُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ إِبْطَالُ تَعْلِيقِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَنْ يُبْطِلَهُ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِشَيْءٍ وَمَاتَ، لَيْسَ لِلْوَارِثِ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُوصِي أَنْ يَبِيعَهُ. وَكَذَا مَنْ أَعَارَ، لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَعِيرُوا دَارِي لِفُلَانٍ بَعْدَ مَوْتِي شَهْرًا، وَجَبَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ، وَلَمْ يَمْلِكِ الْوَارِثُ الرُّجُوعَ عَنْ هَذِهِ الْعَارِيَةِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي الصُّورَتَيْنِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ بَيْعُهُ، وَفِي كَسْبِ الْعَبْدِ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْدُودٌ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لِلْوَارِثِ خَاصَّةً. قَالَ فِي «الْأُمِّ» : وَلَوْ قَالَا لِعَبْدِهِمَا: أَنْتَ حَبِيسٌ عَلَى آخِرِنَا مَوْتًا، فَإِذَا مَاتَ، عَتَقْتَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَا: إِذَا مُتْنَا فَأَنْتَ حُرٌّ، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْمَنْفَعَةَ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ تَكُونُ لِوَرَثَةِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ لِلْآخَرِ،

وَكَذَا الْكَسْبُ، وَكَأَنَّ أَوَّلَهُمَا مَوْتًا أَوْصَى بِهِمَا لِآخِرِهِمَا مَوْتًا. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: إِذَا مُتُّ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِذَا مَاتَ، عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَلَمْ يَسْرِ. فَرْعٌ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّمَا يَعْتِقُ إِذَا شَاءَ عَلَى الْفَوْرِ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ، فَقَالَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ إِنْ شِئْتَ، أَوْ دَبَّرْتُكَ إِنْ شِئْتَ، أَوْ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ، أَوْ فَأَنْتَ حُرٌّ إِذَا مُتُّ، أَوْ مَتَى مُتُّ، فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا إِلَّا بِالْمَشِيئَةِ، وَالصَّحِيحُ اشْتِرَاطُ الْفَوْرِ فِيهَا. فَلَوْ قَالَ: مَتَى شِئْتَ، أَوْ مَهْمَا شِئْتَ، لَمْ يُشْتَرَطِ الْفَوْرُ، وَيَصِيرُ مُدَبَّرًا مَتَى شَاءَ. وَفِي الْحَالَتَيْنِ تُشْتَرَطُ الْمَشِيئَةُ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، كَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا، إِلَّا إِذَا عَلَّقَ صَرِيحًا بِمَشِيئَةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ بِمَشِيئَةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا يَمْنَعُ الِامْتِنَاعُ فِي الْحَيَاةِ مِنَ الْمَشِيئَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. ثُمَّ يُنْظَرُ فِي لَفْظِ التَّعْلِيقِ، فَإِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إِنْ شِئْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنْ شِئْتَ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنَفَى الْإِمَامُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا إِذَا تَأَخَّرَتْ عَنِ الْخِطَابِ، وَاعْتُبِرَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ اتِّصَالِهِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ مَعْنًى وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ الْوَصِيَّةِ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ وَجْهَانِ فِيمَا لَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ وَشِئْتَ بَعْدَ مَوْتِي فَأَنْتَ حُرٌّ، أَنَّ الْمَشِيئَةَ عَلَى التَّرَاضِي، أَمْ يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ؟ وَالصُّورَةُ كَالصُّورَةِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ فَشِئْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَفِي اشْتِرَاطِ اتِّصَالِ الْمَشِيئَةِ بِالْمَوْتِ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ:

الِاشْتِرَاطُ، وَبِهِ أَجَابَ الْأَكْثَرُونَ ; لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَكَلَّمْتُ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، هَلْ يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الْكَلَامِ بِالدُّخُولِ؟ وَلَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ فَمَتَى شِئْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ، لَمْ يُشْتَرَطِ اتِّصَالُ الْمَشِيئَةِ بِالْمَوْتِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ، فَأَنْتَ حُرٌّ إِنْ شِئْتَ، أَوْ إِذَا شِئْتَ، أَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إِذَا مُتُّ إِنْ شِئْتَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْمَشِيئَةُ فِي الْحَالِ، وَتُحْتَمَلُ الْمَشِيئَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُرَاجَعُ وَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَطْلَقْتُ وَلَمْ أَنْوِ شَيْئًا، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ: حَمْلُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِهِ أَجَابَ الْأَكْثَرُونَ. مِنْهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَشَرَطُوا أَنْ تَكُونَ الْمَشِيئَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى الْفَوْرِ، وَمُقْتَضَى مَا سَبَقَ عَنِ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْفَوْرُ. وَالثَّانِي: حَمْلُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ الْمَوْتَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا فَتَكْفِي الْمَشِيئَةُ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، وَيُشْتَرَطُ الْفَوْرُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّالِثُ: تُشْتَرَطُ الْمَشِيئَةُ فِي الْحَيَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقَا، لَمْ يَحْصُلْ يَقَيْنُ الْعِتْقِ، وَلْيَجْرِ هَذَا الْخِلَافُ فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا. أَيُعْتَبَرُ الْكَلَامُ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَمْ قَبْلَهُ؟ قَالَ الْإِمَامُ: وَنَشَأَ مِنْ هَذَا الْمُنْتَهَى إِشْكَالٌ فِيمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ رَأَيْتُ عَيْنًا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَالْعَيْنُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَاصِرَةِ، وَالدِّينَارِ، وَعَيْنِ الْمَاءِ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُعَلِّقُ شَيْئًا، فَهَلْ يَعْتِقُ الْعَبْدُ إِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْهَا؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالْوَجْهُ: أَنَّهُ يَعْتِقُ، وَبِهِ يَضْعُفُ اعْتِبَارُ الْمَشِيئَتَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ لَمْ تَكُنِ الْمَسْأَلَةُ كَالْمَسْأَلَةِ، فَلَا إِلْزَامَ، وَإِنْ كَانَتْ كَهِيَ، فَلْيَحْصُلُ الْعِتْقُ بِالْمَشِيئَةِ فِي الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ

الْمَوْتِ، كَمَسْأَلَةِ الْعَيْنِ، وَهَذَا وَجْهٌ غَيْرُ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ الْأَشْبَهُ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَحْمِلُ جَمِيعَ مَعَانِيهِ، وَلَا يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى كُلِّهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِتَعْيِينِ أَحَدِهَا، وَمَتَى اعْتَبَرَ فِي الْمَشِيئَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ الْفَوْرَ فَأَخَّرَهَا، بَطَلَ التَّعْلِيقُ، وَإِذَا لَمْ تُعْتَبَرْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَنْتَ حُرٌّ مَتَى شِئْتَ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: تُعْرَضُ عَلَيْهِ الْمَشِيئَةُ، فَإِنِ امْتَنَعَ، فَلِلْوَرَثَةِ بَيْعُهُ وَكَذَا لَوْ عُلِّقَ بِدُخُولِ الدَّارِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، يُعْرَضُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ، كَمَا يُقَالُ لِلْمُوصَى لَهُ: اقْبَلْ أَوْ رُدَّ. وَهَلْ لِلْوَرَثَةِ بَيْعُهُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ وَعَرْضُهَا عَلَيْهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْفَرْعِ الْمَاضِي. فَرْعٌ قَالَ: إِنْ شَاءَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَعَبْدِي حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا حَتَّى يَشَاءَا جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ، فَشِئْتَ، فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ، فَهَذَا لَغْوٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ فَدَبِّرُوا هَذَا الْعَبْدَ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، وَمَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ. قَالَ فِي «الْأُمِّ» : لَوْ قَالَ: إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ بَعْدَ مَوْتِي فَأَنْتَ حُرٌّ، لَا يَعْتِقُ إِلَّا بِقِرَاءَةِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا قَرَأْتَ قُرْآنًا عَتَقَ بِقِرَاءَةِ بَعْضِ الْقُرْآنِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْأَهْلُ، فَلَا يَصِحُّ تَدْبِيرُ مَجْنُونٍ، وَلَا صَبِيٍّ لَا يُمَيِّزُ، وَلَا مُمَيِّزٍ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، صَحَّ رُجُوعُهُ بِالْقَوْلِ إِنْ جَوَّزْنَا الرُّجُوعَ عَنِ التَّدْبِيرِ بِالْقَوْلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بِالْقَوْلِ، فَالتَّصَرُّفُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرُّجُوعُ، لَا يَصِحُّ مِنْهُ، لَكِنْ يَقُومُ

الْوَلِيُّ مَقَامَهُ، فَإِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي بَيْعِهِ، بَاعَهُ، وَبَطَلَ التَّدْبِيرُ، وَيَصِحُّ تَدْبِيرُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ كَالْمُمَيِّزِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا، فَرُجُوعُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُمَيِّزِ، وَتَدْبِيرُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ كَإِعْتَاقِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي التَّفْلِيسِ. وَفِي تَدْبِيرِ السَّكْرَانِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ. وَفِي تَدْبِيرِ الْمُرْتَدِّ أَقْوَالٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مِلْكِهِ، إِنْ قُلْنَا: بَاقٍ، صَحَّ تَدْبِيرُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: زَالَ، فَلَا. وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَتَدْبِيرُهُ مَوْقُوفٌ، إِنْ أَسْلَمَ، بَانَ صِحَّتُهُ، وَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا، بَانَ فَسَادُهُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ فِي بُطْلَانِ تَدْبِيرِهِ عَلَى قَوْلِ الْوَقْفِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: الْأَقْوَالُ إِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، فَأَمَّا قَبْلَهُ، فَيَصِحُّ قَطْعًا، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: هِيَ قَبْلَ الْحَجْرِ، فَأَمَّا بَعْدَهُ، فَلَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَقَالَ غَيْرُهُمَا بِطَرْدِ الْأَقْوَالِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي الرِّدَّةِ أَنَّ الْبَغَوِيَّ جَعَلَ الْوَقْفَ أَصَحَّ. وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَشْبَهُ الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَبِهِ أَقُولُ. وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدًا، ثُمَّ ارْتَدَّ، فَثَلَاثُ طُرُقٍ، أَصَحُّهَا وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَالْعِرَاقِيُّونَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَبْطُلُ التَّدْبِيرُ قَطْعًا، فَإِذَا مَاتَ مُرْتَدًّا، عَتَقَ الْعَبْدُ، صِيَانَةً لِحَقِّ الْعَبْدِ عَنِ الضَّيَاعِ، كَحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَكَمَا لَا يَبْطُلُ بَيْعُهُ وَسَائِرُ عُقُودِهِ. وَالثَّانِي: يَبْطُلُ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ، لَنَفَذَ مِنَ الثُّلُثِ، وَمَا نَفَذَ مِنَ الثُّلُثِ، اشْتُرِطَ فِيهِ بَقَاءُ الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَعَلَى هَذَا تَبْطُلُ وَصَايَا الْمُرْتَدِّ. وَالثَّالِثُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: يُبْنَى عَلَى أَقْوَالِ الْمِلْكِ، إِنْ بَقِيَ، فَالتَّدْبِيرُ بَاقٍ، وَإِنْ زَالَ، بَطَلَ. وَإِنْ وَقَفَ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْبُطْلَانِ، فَأَسْلَمَ، عَادَ مِلْكُهُ، وَعَادَ التَّدْبِيرُ عَلَى

الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، كَعَوْدِ الْحِنْثِ، كَمَا لَوْ بَاعَ مُدَبَّرًا، ثُمَّ مَلَكَهُ. وَإِنْ أَبْقَيْنَا التَّدْبِيرَ، عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنَ الثُّلُثِ، وَجُعِلَ الثُّلُثَانِ فَيْئًا، وَفِي وَجْهٍ: يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَرِعَايَةُ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ يُخْتَصُّ بِالْمِيرَاثِ. وَلَوِ ارْتَدَّ الْمُدَبَّرُ، قُتِلَ كَالْقِنِّ، لَكِنْ لَا يَبْطُلُ التَّدْبِيرُ بِالرِّدَّةِ، كَمَا لَا يَبْطُلُ الِاسْتِيلَادُ وَالْكِتَابَةُ بِالرِّدَّةِ. فَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ قَتْلِهِ، عَتَقَ. وَلَوِ الْتَحَقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَسُبِيَ، فَهُوَ عَلَى تَدْبِيرِهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سَيِّدُهُ حَيًّا، فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ، فَوَلَاؤُهُ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُهُ، فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ ذِمِّيًّا، فَفِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ عَتِيقِهِ خِلَافٌ سَبَقَ. وَلَوِ اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى مُدَبَّرٍ مُسْلِمٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُدَبَّرٌ كَمَا كَانَ. فَرْعٌ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ، يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَتَعْلِيقُهُ الْعِتْقَ بِصِفَةٍ، كَمَا يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ، سَوَاءٌ الْكِتَابِيُّ، وَالْمَجُوسِيُّ، وَالْوَثَنِيُّ وَالْحَرْبِيُّ، وَالذِّمِّيُّ، وَلَا يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ حَمْلِ مُدَبَّرِهِ وَمُسْتَوْلَدَتِهِ الْكَافِرَيْنِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ جَرَى التَّدْبِيرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَارِ الْحَرْبِ، وَلَيْسَ لَهُ حَمْلُ مُكَاتَبِهِ الْكَافِرِ قَهْرًا، لِظُهُورِ اسْتِقْلَالِهِ. وَلَوْ دَبَّرَ كَافِرٌ عَبْدًا كَافِرًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْعَبْدُ، فَإِنْ رَجَعَ السَّيِّدُ عَنِ التَّدْبِيرِ بِالْقَوْلِ، وَجَوَّزْنَاهُ، بِيعَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا، فَفِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ فِي «الْأُمِّ» أَحَدُهُمَا: يُبَاعُ عَلَيْهِ، وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ دَفْعًا لِإِذْلَالِهِ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يُبَاعُ، بَلْ يَبْقَى التَّدْبِيرُ، لِتَوَقُّعِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ مِنْ يَدِهِ، وَيُجْعَلُ فِي يَدِ عَدْلٍ، وَيُصْرَفُ كَسْبُهُ إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ مُسْتَوْلَدَتُهُ، فَإِنْ خَرَجَ سَيِّدُهُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَنْفَقَ مِنْ كَسْبِهِ عَلَيْهِ، وَبُعِثَ مَا فَضَلَ إِلَى السَّيِّدِ،

فَإِذَا مَاتَ، عَتَقَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ لِلْوَرَثَةِ، بِيعَ عَلَيْهِمْ. وَلَوْ أَسْلَمَ مُكَاتَبُ الْكَافِرِ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ كَالْمُدَبَّرِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ، بَلْ تَبْقَى الْكِتَابَةُ، لِانْقِطَاعِ سُلْطَةِ السَّيِّدِ وَاسْتِقْلَالِهِ، فَإِنْ عَجَّزَهُ السَّيِّدُ، بِيعَ عَلَيْهِ. فَرْعٌ إِذَا دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَسْرِي وَلَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ، فَإِنْ مَاتَ وَعَتَقَ نَصِيبُهُ، لَمْ يَسْرِ أَيْضًا إِلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ مُعْسِرٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلَّقَ عِتْقَ نَصِيبِهِ بِصِفَةٍ فَوُجِدَتْ وَهُوَ مُوسِرٌ، يَسْرِي. وَفِي قَوْلٍ: يَسْرِي، وَحُكِيَ هَذَا وَجْهًا. وَلَوْ دَبَّرَ بَعْضَ عَبْدِهِ الْخَالِصِ، صَحَّ، وَلَا سِرَايَةَ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَأَوْلَى. الْبَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ التَّدْبِيرِ. وَلَهُ حُكْمَانِ: ارْتِفَاعُهُ، وَسِرَايَتُهُ إِلَى الْوَلَدِ. الْأَوَّلُ: ارْتِفَاعُهُ، وَيَرْتَفِعُ بِخَمْسَةِ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: إِزَالَةُ الْمِلْكِ، فَلِلسَّيِّدِ إِزَالَةُ الْمِلْكِ عَنِ الْمُدَبَّرِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا، وَإِذَا زَالَ الْمِلْكُ عَنْهُ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ، فَهَلْ يَعُودُ التَّدْبِيرُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ لِلْعَبْدِ بِالْعِتْقِ، أَمْ هُوَ تَعْلِيقُ عِتْقٍ بِصِفَةٍ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْجَدِيدِ: وَصِيَّةٌ، وَالثَّانِي وَهُوَ نَصُّهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ: تَعْلِيقٌ بِصِفَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَإِنْ قُلْنَا: وَصِيَّةٌ، لَمْ يَعُدِ التَّدْبِيرُ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ، ثُمَّ بَاعَهُ، ثُمَّ مَلَكَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: تَعْلِيقٌ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي عَوْدِ الْحِنْثِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ، فَحَصَلَ أَنَّ الْمَذْهَبَ

أَنَّهُ لَا يَعُودُ التَّدْبِيرُ. الثَّانِي لَوْ رَجَعَ عَنِ التَّدْبِيرِ بِاللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: رَجَعْتُ عَنْهُ، أَوْ فَسَخْتُهُ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ، أَوْ رَفَعْتُهُ، أَوْ نَقَضْتُهُ، فَإِنْ قُلْنَا: وَصِيَّةٌ، صَحَّ الرُّجُوعُ، وَإِلَّا فَلَا. وَسَوَاءٌ التَّدْبِيرُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ الْخِلَافُ بِالْمُطْلَقِ، وَيُقْطَعُ فِي الْمُقَيِّدِ بِمَنْعِ الرُّجُوعِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقُوا فُلَانًا عَنِّي إِذَا مُتُّ، جَازَ الرُّجُوعُ بِاللَّفْظِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا. وَلَوْ ضَمَّ إِلَى الْمَوْتِ صِفَةً أُخْرَى، بِأَنْ قَالَ: إِذَا مُتُّ، فَدَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِاللَّفْظِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّدْبِيرِ. فَرْعٌ إِذَا وَهَبَ الْمُدَبَّرَ وَلَمْ يَقْبِضْهُ، إِنْ قُلْنَا: التَّدْبِيرُ وَصِيَّةٌ، حَصَلَ الرُّجُوعُ، وَإِنْ قُلْنَا: تَعْلِيقٌ، لَمْ يَحْصُلْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنِ اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ، وَقُلْنَا: يَمْلِكَ بِالْقَبْضِ، انْقَطَعَ التَّدْبِيرُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَبَيَّنُ الْمِلْكُ مِنْ حَيْنِ الْهِبَةِ، قَالَ الْإِمَامُ: فَفِي انْقِطَاعِ التَّدْبِيرِ مِنْ حَيْنِ الْهِبَةِ تَرَدُّدٌ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَقُلْنَا: يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَهَلْ يَبْطُلُ التَّدْبِيرُ قَبْلَ لُزُومِ الْبَيْعِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالَّذِي أَطْلَقَهُ الْبَغَوِيُّ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يُبْطِلُ التَّدْبِيرَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ الْمُدَبَّرِ، أَوْ وَهَبَ وَأَقْبَضَ، بَطَلَ التَّدْبِيرُ فِي النِّصْفِ الْمَبِيعِ، أَوِ الْمَوْهُوبِ وَبَقِيَ فِي الْبَاقِي، وَهَلْ يَبْطُلُ التَّدْبِيرُ فِي الرَّهْنِ؟ قِيلَ: يَبْطُلُ، وَقِيلَ: لَا، وَالْمَذْهَبُ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ وَصِيَّةٌ أَوْ تَعْلِيقٌ؟ وَمُجَرَّدُ الْإِيجَابِ فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، إِنْ جَعَلْنَاهُ وَصِيَّةً، كَانَ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ رُجُوعٌ فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ تَعْلِيقًا، فَلَا أَثَرَ لَهُ، وَلَا يَبْطُلُ التَّدْبِيرُ بِالِاسْتِخْدَامِ وَالتَّزْوِيجِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا جَعَلْنَاهُ

وَصِيَّةً، بَطَلَ بِالْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ. وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، لَكِنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ رُجُوعًا عَنِ التَّدْبِيرِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ وَصِيَّةً، سَوَاءٌ عَزَلَ أَمْ لَا، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنِ اسْتَوْلَدَهَا، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ بُطْلَانُ التَّدْبِيرِ ; لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ أَقْوَى، فَيَرْتَفِعُ بِهِ الْأَضْعَفُ، كَمَا يَرْتَفِعُ النِّكَاحُ بِمِلْكِ الْيَمَيْنِ، وَلِهَذَا لَوْ دَبَّرَ مُسْتَوْلَدَتَهُ، لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ بِجِهَةٍ أَقْوَى مِنَ التَّدْبِيرِ، وَقِيلَ: لَا يَبْطُلُ التَّدْبِيرُ، وَيَكُونُ لِعِتْقِهَا بِالْمَوْتِ سَبَبَانِ. وَقِيلَ: لَا يَبْطُلُ، بَلْ يَدْخُلُ فِي الِاسْتِيلَادِ، كَالْحَدَثِ فِي الْجَنَابَةِ، وَلَوْ كَاتَبَ الْمُدَبَّرَ، فَفِي ارْتِفَاعِ التَّدْبِيرِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ وَصِيَّةٌ، أَمْ تَعْلِيقٌ. إِنْ قُلْنَا: وَصِيَّةٌ، ارْتَفَعَ، وَإِلَّا فَلَا. فَيَكُونُ مُدَبَّرًا مُكَاتَبًا، كَمَا لَوْ دَبَّرَ مُكَاتَبًا، فَإِنْ أَدَّى النُّجُومَ، عَتَقَ بِالْكِتَابَةِ، وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ، عَتَقَ قَدْرُ الثُّلُثِ، وَبَقِيَتِ الْكِتَابَةُ فِي الْبَاقِي، فَإِذَا أَدَّى قِسْطَهُ، عَتَقَ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: يُسْأَلُ عَنْ كِتَابَتِهِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهَا الرُّجُوعَ عَنِ التَّدْبِيرِ، فَفِي ارْتِفَاعِهِ الْقَوْلَانِ، وَإِلَّا، فَهُوَ مُدَبَّرٌ مُكَاتَبٌ قَطْعًا. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْكِتَابَةِ، مَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ الْمُدَبَّرِ بِصِفَةٍ ; لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِهِ ثُمَّ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةٍ، كَانَ رُجُوعًا، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِالصِّفَةِ، وَيَبْقَى التَّدْبِيرُ بِحَالِهِ، كَمَا لَوْ دَبَّرَ الْمُعَلِّقُ عِتْقَهُ بِصِفَةٍ تَجُوزُ، ثُمَّ إِنْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ، عَتَقَ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهَا، عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ. فُرُوعٌ قَالَ: رَجَعْتُ عَنِ التَّدْبِيرِ فِي نِصْفِهِ أَوْ رُبُعِهِ، بَقِيَ التَّدْبِيرُ فِي جَمِيعِهِ،

إِنْ قُلْنَا: لَا يَكْفِي الرُّجُوعُ بِاللَّفْظِ، وَإِلَّا فَيَبْقَى فِي بَاقِيهِ فَقَطْ، نَصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ إِذَا دَبَّرَ، ثُمَّ خَرِسَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، وَلَا كِتَابَةٌ، فَلَا مُطَّلَعَ عَلَى رُجُوعِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ، فَأَشَارَ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، ارْتَفَعَ التَّدْبِيرُ، وَإِنْ أَشَارَ بِنَفْسِ الرُّجُوعِ، فَعَلَى الْخِلَافِ. وَلَوْ دَبَّرَ مُكَاتَبًا، صَحَّ، فَإِنْ أَدَّى النُّجُومَ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، عَتَقَ بِالْكِتَابَةِ وَبَطَلَ التَّدْبِيرُ، وَلَوْ عَجَّزَ نَفْسَهُ. أَوْ عَجَّزَهُ سَيِّدُهُ، بَطَلَتِ الْكِتَابَةُ، وَبَقِيَ التَّدْبِيرُ، وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ: قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالتَّعْجِيزِ، عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ إِنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَتْبَعُهُ وَلَدُهُ وَكَسْبُهُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ مُكَاتَبَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، فَكَمَا لَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ الْكِتَابَةِ بِالْإِعْتَاقِ، فَكَذَا بِالتَّدْبِيرِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْبُطْلَانُ زَوَالَ الْعَقْدِ دُونَ سُقُوطِ أَحْكَامِهِ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: إِنْ لَمْ نُجَوِّزِ الرُّجُوعَ عَنِ التَّدْبِيرِ بِاللَّفْظِ، فَإِنْكَارُ السَّيِّدِ التَّدْبِيرَ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَهَلْ هُوَ رُجُوعٌ؟ وَكَذَا إِنْكَارُ الْمُوصِي الْوَصِيَّةَ، وَالْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ، هَلْ هُوَ رُجُوعٌ؟ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: نَعَمْ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ عُرْضَةٌ لِلْفَسْخِ. وَلَوْ قَالَ: لَسْتَ بِمُدَبَّرٍ، أَوْ لَسْتَ بِوَكِيلٍ، أَوْ لَيْسَ هَذَا مُوصًى بِهِ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِارْتِفَاعِ هَذِهِ الْعُقُودِ، فَكَذَا إِذَا قَالَ: لَمْ أُدَبِّرْ، وَلَمْ أُوكِلْ، وَلَمْ أُوصِ. وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّهُ كَذِبٌ فَلَمْ يُؤَثِّرْ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: تَرْتَفِعُ الْوَكَالَةُ ; لِأَنَّ فَائِدَتَهَا الْعُظْمَى تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ، وَلَا يَرْتَفِعُ التَّدْبِيرُ وَالْوَصِيَّةُ ; لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا غَرَضُ شَخْصَيْنِ، فَلَا يَرْتَفِعَانِ

بِإِنْكَارِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْكَارُ الْبَيْعِ الْجَائِزِ لَيْسَ فَسْخًا، وَفِيهِ احْتِمَالٌ. وَلَوْ أَنْكَرَ الزَّوْجِيَّةَ، فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوِ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، فَأَنْكَرَ، لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُ رَجْعَةً بِالِاتِّفَاقِ. وَإِذَا ادَّعَى عَلَى سَيِّدِهِ التَّدْبِيرَ أَوِ الْعِتْقَ بِصِفَةٍ، سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يُسْمَعُ الْعِتْقُ بِصِفَةٍ، وَفِي التَّدْبِيرِ الْخِلَافُ. وَفِي شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ عَلَى التَّدْبِيرِ الْخِلَافُ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ أَوْلَى ; لِأَنَّ مَوْضِعَ شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ أَنْ يَثْبُتَ لِلَّهِ تَعَالَى حَقٌّ مَجْحُودٌ فَيُثْبِتُهُ الشَّاهِدُ حِسْبَةً، ثُمَّ إِذَا تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى، وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، فَلَهُ إِسْقَاطُ الْيَمِينِ عَنْ نَفْسِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: إِنْ كُنْتُ دَبَّرْتُهُ فَقَدْ رَجَعْتُ عَنْهُ إِذَا جَوَّزْنَا الرُّجُوعَ بِاللَّفْظِ، وَكَذَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ، فَلَهُ الدَّفْعُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَلَوِ ادَّعَى عَلَى الْوَرَثَةِ أَنَّ مُوَرِّثَهُمْ دَبَّرَهُ، وَأَنَّهُ عَتَقَ بِمَوْتِهِ، حَلَفُوا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَلَا يَثْبُتُ التَّدْبِيرُ إِلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَثَبَتَ الرُّجُوعُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ; لِأَنَّهُ مَالٌ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ يَنْفِي الْحُرِّيَّةَ. الرَّابِعُ: مُجَاوَزَةُ الثُّلُثِ، فَعِتْقُ الْمُدَبَّرِ مُعْتَبَرٌ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الدُّيُونِ، فَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِلتَّرِكَةِ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ، وَلَا مَالَ سِوَاهُ، عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَإِنْ كَانَ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ نِصْفَهُ بِيعَ نِصْفُهُ فِي الدَّيْنِ، وَيَعْتِقُ ثُلُثُ الْبَاقِي مِنْهُ. وَفِي تَعْلِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْحِيلَةَ فِي عِتْقِ الْجَمِيعِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ

سِوَاهُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ قَبْلَ مَرَضِ مَوْتِي بِيَوْمٍ، وَإِنْ مُتُّ فَجْأَةً، فَقَبْلَ مَوْتِي بِيَوْمٍ، فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ التَّعْلِيقَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، عَتَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ، فَإِذَا مَاتَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ، أَوِ الشَّهْرِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَرِيضًا، اعْتُبِرَ عِتْقُهُ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا فَرْقَ فِي اعْتِبَارِ التَّدْبِيرِ مِنَ الثُّلُثِ، بَيْنَ أَنْ يَقَعَ التَّدْبِيرُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ كَالْوَصِيَّةِ. فَرْعٌ دَبَّرَ عَبْدًا وَمَاتَ، وَبَاقِي مَالِهِ غَائِبٌ عَنْ بَلَدِ الْوَرَثَةِ، أَوْ دَيْنٌ عَلَى مُعْسِرٍ، فَلَا يَعْتِقُ جَمِيعُ الْمُدَبَّرِ، وَهَلْ يَعْتِقُ ثُلُثُهُ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تَزِيدُ عَلَى الْعَدَمِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْعَبْدُ، لَعَتَقَ ثُلُثُهُ، فَعَلَى هَذَا ثُلُثُ أَكْسَابِهِ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ لَهُ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي. وَأَصَحُّهُمَا: يَعْتِقُ حَتَّى يَصِلَ الْمَالُ إِلَى الْوَرَثَةِ ; لِأَنَّ فِي تَنْجِيزِ الْعِتْقِ تَنْفِيذُ التَّبَرُّعِ قَبْلَ تَسْلِيطِ الْوَرَثَةِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يُوقَفُ الْأَكْسَابُ، فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ، بَانَ أَنَّهُ عَتَقَ، وَأَنَّ الْأَكْسَابَ لَهُ. وَيُقَالُ: الْخِلَافُ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: مُخَرَّجٌ. وَالثَّانِي: مَنْصُوصٌ. فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ مِائَةً، وَالْغَائِبُ مِائَتَانِ، فَحَضَرَ مِائَةٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَعْتِقُ ثُلُثَاهُ، وَعَلَى الثَّانِي: نِصْفُهُ، لِحُصُولِ مِثْلَيْهِ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ حَضَرَتْ مِائَةٌ وَتَلِفَتِ الْمِائَةُ الْأُخْرَى، اسْتَقَرَّ الْعِتْقُ فِي ثُلُثَيْهِ، وَتَسَلَّطَتِ الْوَرَثَةُ عَلَى ثُلُثِهِ وَعَلَى الْمِائَةِ. وَفِي طَرِيقَةِ الصَّيْدَلَانِيِّ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنَ الْمُدَبَّرِ ثُلُثُهُ أَنَّ لِلْوَارِثِ

التَّصَرُّفَ فِي الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ نُقِضَ تَصَرُّفُهُ. وَأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ أَعْتَقَ الثُّلُثَيْنِ وَلَمْ يَحْضُرِ الْغَائِبُ، فَوَلَاءُ الثُّلُثَيْنِ لَهُ. وَإِنْ حَضَرَ، فَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْجَوَابَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ فِيهِ وَجْهًا أَنَّ جَمِيعَ الْوَلَاءِ لِلْمَيِّتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِجَازَةَ الْوَارِثِ تَنْفِيذٌ، أَمِ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ؟ وَاشْتَدَّ إِنْكَارُ الْإِمَامِ عَلَى هَذَا، وَقَالَ: إِعْتَاقُ الْوَرَثَةِ رَدٌّ لِلتَّدْبِيرِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ بِسَبَبِ غَيْبَةِ الْمَالِ، بَلِ الْوَجْهُ التَّوَقُّفُ، فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ، بَانَ نُفُوذُ الْعِتْقِ فِي الْجَمِيعِ، وَلَكِنْ مُسْتَنِدٌ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، أَمْ عِنْدَ حُصُولِ الْقُدْرَةِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ، أَوْجُهُهُمَا الْأَوَّلُ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ بِحَيْثُ يَفِي ثُلُثُهَا بِالْمُدَبَّرِ، لَكِنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، فَأَبْرَأَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ عَنِ الدَّيْنِ بَعْدَ أَيَّامٍ مِنَ الْمَوْتِ، فَيُسْنَدُ الْعِتْقُ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، أَمْ يَتَنَجَّزُ مِنْ وَقْتِ سُقُوطِ الدَّيْنِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ، أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إِنْسَانٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، فَأَبْرَأَ عَنْهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، أَوْ عَنْ ثُلُثِهِ، هَلْ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ عَنِ الثُّلُثِ قَبْلَ وُصُولِ الثُّلُثَيْنِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ، الْأَصَحُّ الْمَنْعُ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ مَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا دَيْنًا عَلَى أَحَدِهِمَا، هَلْ يُبَرَّأُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ نِصْفِهِ؟ وَلَوْ أَوْصَى بِغَيْرِ مَالٍ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ، وَبَاقِي مَالِهِ غَائِبٌ، هَلْ يُسَلَّمُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْعَيْنِ، أَمْ يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْغَائِبِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْوَصَايَا. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَبَعْضُهُ حَاضِرٌ، وَبَعْضُهُ غَائِبٌ، أَوْ عَيْنٌ وَدَيْنٌ دُفِعَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْحَاضِرِ وَالْعَيْنِ، وَمَا حَصَلَ بَعْدَهُ قُسِّمَ كَذَلِكَ. فَرْعٌ إِذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدٍ بِصِفَةٍ، فَوُجِدَتْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِصِفَةٍ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِي الْمَرَضِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فِي مَرَضِ

مَوْتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ إِذَا مَرِضْتُ مَرَضَ الْمَوْتِ، فَأَنْتَ حُرٌّ، اعْتُبِرَ عِتْقُهُ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِنِ احْتَمَلَ وُجُودَهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، فَهَلْ يَعْتِقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، أَمِ الثُّلُثِ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، هَذَا إِنْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ وُجِدَتْ بِاخْتِيَارِهِ، اعْتُبِرَ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَدَخَلَهَا فِي مَرَضِهِ، اعْتُبِرَ الْعِتْقُ مِنَ الثُّلُثِ ; لِأَنَّهُ اخْتَارَ حُصُولَ الْعِتْقِ فِي مَرَضِهِ. وَلَوْ بَاعَ الصَّحِيحَ مُحَابَاةً، وَشَرَطَ الْخِيَارَ، ثُمَّ مَرِضَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَلَمْ يَفْسَخْ حَتَّى مَاتَ، اعْتُبِرَتِ الْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ ; لِأَنَّهُ لَزِمَ الْعَقْدُ فِي الْمَرَضِ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ وَهَبَ فِي الصِّحَّةِ، وَأَقْبَضَ فِي الْمَرَضِ. قُلْتُ: إِنَّمَا يَظْهَرُ هَذَا إِذَا قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، وَتَرَكَ الْفَسْخَ عَامِدًا لَا نَاسِيًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدٍ بِصِفَةٍ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ، فَوُجِدَتْ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ، عَتَقَ إِنِ اعْتَبَرْنَا حَالَ التَّعْلِيقِ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا حَالَ وُجُودِ الصِّفَةِ، فَهُوَ كَإِعْتَاقِ الْمُفْلِسِ. وَلَوْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ، وَهُوَ مَجْنُونٌ، أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، عَتَقَ بِلَا خِلَافٍ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ حَجْرَ الْمَرِيضِ وَالْمُفْلِسِ لِحَقِّ الْغَيْرِ، وَهُوَ الْوَرَثَةُ وَالْغُرَمَاءُ، بِخِلَافِ السَّفَهِ وَالْجُنُونِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ جُنِنْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَجُنَّ، فَفِي الْعِتْقِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ «الْإِفْصَاحِ» وَقَدْ يَخْرُجُ هَذَا فِيمَا لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِصِفَةٍ غَيْرِ الْجُنُونِ، فَوُجِدَتْ فِي الْجُنُونِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ مَرِضْتُ مَرَضًا مَخُوفًا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَرِضَ مَرَضًا مَاتَ فِيهِ، عَتَقَ الْعَبْدُ مِنَ الثُّلُثِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَلَوْ مَرِضَ مَرَضًا مَخُوفًا، وَبَرِئَ مِنْهُ، عَتَقَ مِنْ

رَأْسِ الْمَالِ. وَقِيلَ: لَا يَعْتِقُ أَخْذًا مِنَ الْخِلَافِ فِيمَنْ حُجَّ عَنْهُ، وَهُوَ مَعْضُوبٌ، فَبَرِأَ وَهَذَا ضَعِيفٌ. الْأَمْرُ الْخَامِسُ: جِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ. اعْلَمْ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمُدَبَّرِ، كَهِيَ عَلَى الْقِنِّ، فَإِنْ قَتَلَ، فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ أَوِ الْقِيمَةُ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا يُدَبِّرُهُ، وَإِنْ جَنَى عَلَى طَرَفِهِ، فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ وَالْأَرْشُ، وَيَبْقَى التَّدْبِيرُ بِحَالِهِ. أَمَّا جِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ، فَهُوَ فِيهَا كَالْقِنِّ أَيْضًا، فَإِنْ جَنَى بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ، فَاتَ التَّدْبِيرُ، وَإِنْ جَنَى بِمُوجَبٍ لِلْمَالِ، أَوْ عَفَى عَنِ الْقِصَاصِ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَفْدِيَهُ، وَأَنْ يُسَلِّمَهُ لِيُبَاعَ فِي الْجِنَايَةِ، فَإِنْ فَدَاهُ، بَقِيَ التَّدْبِيرُ. وَهَلْ يَفْدِيهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، أَمْ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَالْأَرْشِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي الْقِنِّ. وَإِنْ سَلَّمَهُ لِلْبَيْعِ، فَبِيعَ جَمِيعُهُ، بَطَلَ التَّدْبِيرُ، فَإِنْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ، فَفِي عَوْدِ التَّدْبِيرِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَإِنْ حَصَلَ الْغَرَضُ بِبَيْعِ بَعْضِهِ، بَقِيَ التَّدْبِيرُ فِي الْبَاقِي. وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ، فَطَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّ حُصُولَ الْعِتْقِ عَلَى الْخِلَافِ فِي نُفُوذِ عِتْقِ الْجَانِي، فَإِنْ نَفَّذْنَاهُ أُخِذَ الْفِدَاءُ مِنْ تَرِكَةِ السَّيِّدِ، وَيَكُونُ الْفِدَاءُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ لِلْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ نُنَفِّذْهُ، فَالْوَارِثُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ، فَيَعْتِقَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ يُسَلِّمَهُ لِلْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ فِي ثُلُثِ الْمَالِ سَعَةٌ، فَإِذَا بِيعَ، بَطَلَ التَّدْبِيرُ. وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَيْعِ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ إِعْتَاقَ الْجَانِي يَنْفُذُ مِنَ الْمُوسِرِ دُونَ الْمُعْسِرِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ وَفَى الثُّلُثُ بِقِيمَةِ الرَّقَبَةِ وَالْفِدَاءِ، لَزِمَ الْوَرَثَةَ تَحْصِيلُ الْعِتْقِ، وَإِلَّا فَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَلَوْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ تَسْتَغْرِقُ ثُلُثَ الرَّقَبَةِ مَثَلًا، وَمَاتَ السَّيِّدُ، فَفَدَاهُ الْوَارِثُ

مِنْ مَالِهِ، فَفِي وَلَاءِ ذَلِكَ الثُّلُثِ وَجْهَانِ، هَلْ هُوَ لِلْوَارِثِ أَوِ الْمُوَرِّثِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِجَازَةَ الْوَارِثِ تَنْفِيذٌ أَمْ عَطِيَّةٌ. وَلَوْ جَنَتْ مُدَبَّرَةٌ، وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ، وَقُلْنَا بِسِرَايَةِ التَّدْبِيرِ إِلَيْهِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبِيعُ الْوَلَدَ مَعَهَا حَذَرًا مِنَ التَّفْرِيقِ، وَلَا يُبَالِي بِفَوَاتِ التَّدْبِيرِ فِيهِ. وَالثَّانِي: يَبِيعُهَا وَحْدَهَا، وَيُحْتَمَلُ التَّفْرِيقُ لِلضَّرُورَةِ، حِفْظًا لِلتَّدْبِيرِ فِي الْوَلَدِ، وَهُوَ كَالْخِلَافِ فِيمَنْ رَهَنَ الْجَارِيَةَ دُونَ الْوَلَدِ، وَاحْتَجْنَا إِلَى بَيْعِهَا لِلدَّيْنِ هَلْ يُبَاعُ مَعَهَا؟ الْحُكْمُ الثَّانِي: السِّرَايَةُ إِلَى الْوَلَدِ يُجَوِّزُ وَطْءَ الْمُدَبَّرَةِ وَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ، لِكَمَالِ الْمِلْكِ، وَنَفَاذِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ أَوْلَدَهَا، صَارَتْ مُسْتَوْلَدَةً، وَبَطَلَ التَّدْبِيرُ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا سَبَقَ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ قَالَ: كُلُّ مُدَبَّرٍ لِي حُرٌّ، هَلْ تَعْتِقُ هِيَ؟ وَلَوْ أَتَتِ الْمُدَبَّرَةُ بِوَلَدٍ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًى، سَرَى التَّدْبِيرُ إِلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمُ الشَّيْخَانِ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَفَّالُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، كَمَا يَتْبَعُ وَلَدُ الْمُسْتَوْلَدَةِ وَالْأُضْحِيَّةُ وَالْهَدْيُ أُمَّهُ. قُلْتُ: بَلِ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَتْبَعُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وَلَدَتِ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ، لَمْ يَتْبَعْهَا الْوَلَدُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَوَلَدُ الْمُوصَى بِهَا لَا يَتْبَعُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يُحْتَمَلُ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا جَعَلْنَا وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرًا، فَمَاتَتْ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، لَمْ يَبْطُلِ التَّدْبِيرُ فِي الْوَلَدِ، كَمَا لَوْ دَبَّرَ عَبْدَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ السَّيِّدِ،

وَكَمَا لَوْ مَاتَتِ الْمُسْتَوْلَدَةُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْوَلَدِ. وَلَوْ رَجَعَ السَّيِّدُ عَنْ تَدْبِيرِ أَحَدِهِمَا بِاللَّفْظِ وَجَوَّزْنَاهُ، أَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا، لَمْ يَبْطُلِ التَّدْبِيرُ فِي الْآخَرِ. وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ لَا يَفِي إِلَّا بِأَحَدِهِمَا، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، كَعَبْدَيْنِ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا، وَالثَّانِي: يُقَسَّمُ الْعِتْقُ عَلَيْهِمَا، لِئَلَّا تَخْرُجَ الْقُرْعَةُ عَلَى الْوَلَدِ فَيَعْتِقَ، وَيَرِقَّ الْأَصْلُ. وَإِذَا قُلْنَا: الْمُعَلَّقُ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ يَتْبَعُهَا الْوَلَدُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ الصِّفَةَ إِذَا وُجِدَتْ فِيهَا وَعَتَقَتْ، عَتَقَ الْوَلَدُ، وَلَا تُعْتَبَرُ الصِّفَةُ فِيهِ. وَلَوْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ مِنْهُ، فَلَا أَثَرَ لَهَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: مُقْتَضَى سِرَايَةِ التَّعْلِيقِ أَنَّ عِتْقَهُ بِنَفْسِ الصِّفَةِ، وَهِيَ دُخُولُ الدَّارِ مَثَلًا، فَعَلَى هَذَا لَا يَعْتِقُ هُوَ بِدُخُولِهَا، وَيَعْتِقُ بِدُخُولِهِ. وَلَوْ بَطَلَ التَّعْلِيقُ فِيهَا بِمَوْتِهَا، بَطَلَ فِي الْوَلَدِ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنْ لَا يَبْطُلَ فِيهِ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي بِعَشْرِ سِنِينَ مَثَلًا، فَإِنَّمَا يَعْتِقُ بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ، فَلَوْ وَلَدَتْ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَهَلْ يَتْبَعُهَا الْوَلَدُ فِي حُكْمِ الصِّفَةِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَقَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَتْبَعُهَا، فَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ كَمَا قَبْلَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا فَرَّعَ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَقِيلَ: يَتْبَعُهَا قَطْعًا لِتَأَكُّدِ سَبَبِ الْعِتْقِ، إِذْ لَيْسَ لِلْوَارِثِ التَّصَرُّفُ فِيهَا، فَأَشْبَهَتِ الْمُسْتَوْلَدَةَ، فَعَلَى هَذَا يَعْتِقُ الْوَلَدُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَوَلَدِ الْمُسْتَوْلَدَةِ. وَأَمَّا وَلَدُ الْمُدَبَّرِ، فَلَا يُؤَثِّرُ تَدْبِيرُ أَبِيهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ. فَرْعٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ، هُوَ فِيمَا إِذَا حَدَثَ بَعْدَ التَّدْبِيرِ، وَانْفَصَلَ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَيَعْتِقُ مَعَهَا الْحَمْلُ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ حَامِلًا، فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهَا

الثُّلُثُ حَامِلًا، عَتَقَ مِنْهَا قَدْرُ الثُّلُثِ، وَكَذَا الْمُعَلَّقُ عِتْقُهَا عَلَى صِفَةٍ لَوْ كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمُدَبَّرَةُ حَامِلًا عِنْدَ التَّدْبِيرِ، فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ يُعْرَفُ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَالْوَلَدُ مُدَبَّرٌ، وَإِلَّا فَفِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الْوَلَدِ الْحَادِثِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ مُدَبَّرٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْرَفُ الْحَمْلُ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْرَفُ وَلَيْسَ هُوَ بِسِرَايَةِ التَّدْبِيرِ بَلِ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا عِنْدَ التَّدْبِيرِ إِذَا وَلَدَتْهُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ التَّدْبِيرِ، فَهُوَ حَادِثٌ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِمَا بَيْنَهُمَا، نُظِرَ، هَلْ لَهَا زَوْجٌ يَفْتَرِشُهَا أَمْ لَا، وَقَدْ سَبَقَتْ نَظَائِرُهُ فِي مَوَاضِعَ. وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ قَدْ فَارَقَهَا قَبْلَ التَّدْبِيرِ، وَوَلَدَتْ لِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْفِرَاقِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُجْعَلُ مَوْجُودًا يَوْمَ التَّدْبِيرِ، كَمَا يُجْعَلُ مَوْجُودًا فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنَ الزَّوْجِ. فَرْعٌ إِذَا ثَبَتَ التَّدْبِيرُ فِي الْحَمْلِ، ثُمَّ انْفَصَلَ، فَرُجُوعُ السَّيِّدِ فِي التَّدْبِيرِ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يَرْفَعُ التَّدْبِيرُ فِي حَقِّ الْآخَرِ. وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ عَنْ تَدْبِيرِ الْحَمْلِ، وَجَوَّزْنَا الرُّجُوعَ بِاللَّفْظِ، ارْتَفَعَ التَّدْبِيرُ فِيهِ، وَبَقِيَ فِي الْأُمِّ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ مَا دَامَ حَمْلًا مَعَ بَقَاءِ التَّدْبِيرِ فِي الْأُمِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ رَجَعَ فِي تَدْبِيرِ الْأُمِّ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: رَجَعْتُ فِي تَدْبِيرِهَا دُونَ الْوَلَدِ، لَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَتْبَعُهَا فِي الرُّجُوعِ، كَمَا يَتْبَعُهَا فِي التَّدْبِيرِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَتْبَعُهَا كَالرُّجُوعِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعِتْقِ، وَلِلْعِتْقِ قُوَّةٌ. وَإِذَا رَجَعَ فِي تَدْبِيرِهَا دُونَ الْوَلَدِ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الرُّجُوعِ، فَهُوَ مُدَبَّرٌ. وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَهَا زَوْجٌ يَفْتَرِشُهَا، لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا ; لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ قَبْلَ الرُّجُوعِ.

فَرْعٌ لَوْ دَبَّرَ الْحَمْلَ وَحْدَهُ، جَازَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الْأُمِّ، فَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ، عَتَقَ الْحَمْلُ دُونَ الْأُمِّ، فَإِنْ بَاعَ الْأُمَّ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ قَصَدَ بِهِ الرُّجُوعَ، حَصَلَ الرُّجُوعُ، وَصَحَّ الْبَيْعُ فِي الْأُمِّ وَالْحَمْلِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ، لَمْ يَحْصُلِ الرُّجُوعُ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْوَلَدِ، وَيَبْطُلُ فِي الْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ بَاعَ حَامِلًا بِحُرٍّ. وَأَصَحُّهُمَا: صِحَّةُ الْبَيْعِ فِيهِمَا، وَحُصُولُ الرُّجُوعِ قَصَدَ أَمْ لَا، كَمَا لَوْ بَاعَ الْمُدَبَّرَ نَاسِيًا لِلتَّدْبِيرِ، صَحَّ الْبَيْعُ وَالرُّجُوعُ. فَرْعٌ لَوْ دَبَّرَ أَمَةً، وَقُلْنَا: وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ، وَجَوَّزْنَا الرُّجُوعَ عَنِ التَّدْبِيرِ بِاللَّفْظِ، فَقَالَ: إِذَا وَلَدَتْ، أَوْ كُلَّمَا وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَدْ رَجَعْتُ فِي تَدْبِيرِهِ، لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ، فَإِذَا وَلَدَتْ، كَانَ مُدَبَّرًا حَتَّى يَرْجِعَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ; لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ التَّدْبِيرِ، وَلَا يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: إِذَا دَبَّرْتُكَ فَقَدْ رَجَعْتُ عَنْ تَدْبِيرِكَ، فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ. فَرْعٌ إِذَا قُلْنَا: وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ، وَتَنَازَعَ السَّيِّدُ وَالْمُدَبَّرَةُ فِيهِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ، فَهُوَ قِنٌّ، وَقَالَتْ: بَعْدَهُ، صُدِّقَ السَّيِّدُ بِيَمِينِهِ. وَلَوْ جَرَى هَذَا الْخِلَافُ مَعَ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، صُدِّقَ الْوَارِثُ أَيْضًا. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَتُسْمَعُ دَعْوَاهَا حِسْبَةً، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِنَّةً، وَادَّعَتْ عَلَى السَّيِّدِ أَنَّكَ دَبَّرْتَ وَلَدِي، سُمِعَتْ. وَلَوْ قَالَتْ: وَلَدْتُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَهُوَ حُرٌّ، وَقَالَ الْوَارِثُ: بَلْ قَبْلَ التَّدْبِيرِ، صُدِّقَ الْوَارِثُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: تُصَدَّقُ هِيَ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَرِفْ لِلْوَرَثَةِ بِيَدٍ وَلَا مِلْكٍ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَبَّرِ مَالٌ، وَقَالَ: كَسَبْتُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ،

فصل

فَهُوَ لِي، وَقَالَ الْوَارِثُ: بَلْ قَبْلَهُ فَهُوَ لِي، صُدِّقَ الْمُدَبَّرُ بِيَمِينِهِ ; لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ، بِخِلَافِ دَعْوَاهَا الْوَلَدَ ; لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ، وَالْحُرُّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَدِ. وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، رَجَحَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرِ، لِاعْتِضَادِهَا بِالْيَدِ. وَلَوْ أَقَامَ الْوَارِثُ بَيِّنَةً أَنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَبَّرِ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، فَقَالَ الْمُدَبَّرُ: كَانَ فِي يَدِي، لَكِنْ كَانَ لِفُلَانٍ فَمَلَكْتُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، صُدِّقَ الْمُدَبَّرُ أَيْضًا، نَصَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ تَنَازَعَ السَّيِّدُ وَالْمُسْتَوْلَدَةُ فِي وَلَدِهَا، هَلْ وَلَدَتْهُ قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ أَمْ بَعْدَهُ، أَوِ الْوَارِثُ وَالْمُسْتَوْلَدَةُ، هَلْ وَلَدَتْهُ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، أَمْ بَعْدَهُ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي تَنَازُعِ السَّيِّدِ وَالْمُدَبَّرَةِ، فَإِذَا قُلْنَا بِسِرَايَةِ الْكِتَابَةِ إِلَى الْوَلَدِ، فَقَالَتِ الْمُكَاتَبَةُ: وَلَدْتُهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَقَالَ السَّيِّدُ: بَلْ قَبْلَهَا، صُدِّقَ السَّيِّدُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُكَاتَبَةُ: لِأَنَّهَا يَثْبُتُ لَهَا الْيَدُ عَلَى نَفْسِهَا وَوَلَدِهَا. وَلَوِ اخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ فِي الْمَالِ، صُدِّقَ الْمُكَاتَبُ كَالْمُدَبَّرِ. فَصْلٌ دَبَّرَ عَبْدًا ثُمَّ مَلَّكَهُ أَمَةً، فَوَطِئَهَا وَأَوْلَدَهَا، فَإِنْ قُلْنَا: الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ، فَالْوَلَدُ لِلسَّيِّدِ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ فَالْجَارِيَةُ لِلْمُدَبَّرِ، وَلَا يُحْكَمُ لِلْوَلَدِ بِحُرِّيَّةٍ ; لِأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ رَقِيقَيْنِ. وَهَلْ يَتْبَعُ الْأُمَّ، وَيَكُونُ رَقِيقًا لِلسَّيِّدِ، أَمْ يَتْبَعُ الْأَبَ، فَيَكُونُ مُدَبَّرًا؟ فَرْعٌ أَمَةٌ لِرَجُلَيْنِ دَبَّرَاهَا، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا، فَهُوَ ابْنُهُ، وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ قِيمَتِهِ، وَنِصْفُ مَهْرِهَا لِشَرِيكِهِ، وَأَخْذُ

قِيمَتِهَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي التَّدْبِيرِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَقُومُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ إِلَّا بِرِضَاهُ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْوَلَاءِ فِيهِ. فَرْعٌ قَوْلُ الْمُدَبَّرِ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ: رَدَدْتُ التَّدْبِيرَ - لَغْوٌ، لَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب الكتابة

كِتَابُ الْكِتَابَةِ لَا يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ، وَحَكَى صَاحِبُ التَّقْرِيبِ قَوْلًا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ إِذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَكَاتِبُوهُمْ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ، كَمَا لَا يَجِبُ التَّدْبِيرُ وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّدْبِ، فَتُسْتَحَبُّ الْإِجَابَةُ إِذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ وَكَانَ أَمِينًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، فَإِنْ فُقِدَ الشَّرْطَانِ، لَمْ يُسْتَحَبَّ، وَلَكِنْ لَا يُكْرَهُ ; لِأَنَّهَا قَدْ تُفْضِي إِلَى الْعِتْقِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: يُكْرَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ فُقِدَتِ الْأَمَانَةُ، وَقَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ، لَمْ يُسْتَحَبَّ، عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ دُونَ الِاسْتِحْبَابِ مَعَ الشَّرْطَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا بِلَا كَسْبٍ، لَمْ يُسْتَحَبَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ طَلَبَ السَّيِّدُ الْكِتَابَةَ، فَامْتَنَعَ الْعَبْدُ، لَمْ يُجْبِرْهُ. وَفِي الْكِتَابَةِ بَابَانِ: الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِ الْكِتَابَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: الصِّيغَةُ، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفٍ مَثَلًا تُؤَدِّيهِ إِلَيَّ فِي نَجْمَيْنِ مَثَلًا أَوْ أَكْثَرَ، فَإِذَا أَدَّيْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَيَقُولُ الْعَبْدُ قَبِلْتُ. وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالْأَدَاءِ، لَكِنْ نَوَاهُ بِقَوْلِهِ: كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا، صَحَّتِ الْكِتَابَةُ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْلِيقِ، وَلَا نَوَاهُ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَحْصُلِ الْعِتْقُ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ مِنَ التَّدْبِيرِ قَوْلًا أَنَّ لَفْظَ الْكِتَابَةِ صَرِيحٌ مُغَنٍّ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالتَّعَلُّقِ وَنِيَّتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي التَّدْبِيرِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ فَقِيهًا، صَحَّتْ كِتَابَتُهُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْلِيقِ أَوْ نِيَّتِهِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ أَنَّ التَّدْبِيرَ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ،

وَالْكِتَابَةُ لَا يَعْرِفُهَا الْعَوَامُّ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى هَذَا: لَوْ كَانَ قَرِيبَ الْإِسْلَامِ، أَوْ جَاهِلًا بِالْأَحْكَامِ لَا يَعْرِفُ التَّدْبِيرَ، لَمْ يَنْعَقِدْ تَدْبِيرُهُ بِمُجَرَّدِ لَفْظَةِ التَّدْبِيرِ، حَتَّى تَنْضَمَّ إِلَيْهِ نِيَّةٌ أَوْ زِيَادَةُ لَفْظٍ. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَ مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ الْكِتَابَةُ عَنِ الْمُخَارَجَةِ، كَفَى، كَقَوْلِهِ: تُعَامِلُنِي أَوْ أَضْمَنُ لَكَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ، أَوْ يَسْتَحِقُّ مِنِّي الْإِيتَاءَ، أَوْ مِنَ النَّاسِ سَهْمَ الرِّقَابِ، فَيَكْفِي عَنْ تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالْأَدَاءِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي قَوْلُهُ: كَاتَبْتُكَ، وَحْدَهُ، كَمَا إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ كَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ عِوَضًا. فَرْعٌ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ، فَقَبِلَ، عَتَقَ فِي الْحَالِ، وَثَبَتَ الْأَلْفُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ، فَقَبِلَتْ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي أَلْفًا، أَوْ أَدَّيْتَ لِي أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ. فَلَوْ أَعْطَاهُ مَنْ مَالِ غَيْرِهِ، هَلْ يَعْتِقُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ، فَعَلَى هَذَا هَلْ سَبِيلُهُ سَبِيلُ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، أَمْ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ؟ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: كِتَابَةٌ فَاسِدَةٌ، رَدَّ السَّيِّدُ مَا أَخَذَ، وَرَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ، وَتَبِعَهُ كَسْبُهُ وَأَوْلَادُهُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ التَّعْلِيقِ. وَإِنْ قُلْنَا: تَعْلِيقٌ، فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَلَا يَتْبَعُهُ الْكَسْبُ وَالْوَلَدُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ مَغْصُوبًا، وَقُلْنَا: تُطَلَّقُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّهَا أَهْلٌ لِلِالْتِزَامِ وَقْتَ الْمُخَاطَبَةِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ.

فَرْعٌ قَالَ لِعَبْدِهِ: بِعْتُكَ نَفْسَكَ بِكَذَا، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، أَوْ قَالَ الْعَبْدُ: بِعْنِي نَفْسِي بِكَذَا، فَقَالَ: بِعْتُكَ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَثَبَتَ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ، وَعَتَقَ فِي الْحَالِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ. وَذَكَرَ الرَّبِيعُ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَثْبَتَهُ قَوْلًا ضَعِيفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ وَقَالَ: هُوَ تَخْرِيجٌ لَهُ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لِلسَّيِّدِ الْوَلَاءُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ سَبَقَ. وَلَوْ أَقَرَّ السَّيِّدُ بِأَنَّهُ بَاعَهُ نَفْسَهُ، فَأَنْكَرَ الْعَبْدُ، عَتَقَ بِالْإِقْرَارِ، وَحَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ نَفْسَكَ بِهَذِهِ الْعَيْنِ، أَوْ بِخَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، فَإِنْ صَحَّحْنَا بَيْعَهُ لَهُ، وَأَثْبَتْنَا الْوَلَاءَ لِلسَّيِّدِ، عَتَقَ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُكَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَعْتِقْ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ بِخَمْرٍ. وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُ لَكَ نَفْسَكَ، أَوْ مَلَّكْتُكَ، فَقَبِلَ، عَتَقَ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِرَقَبَتِهِ، فَقَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ، عَتَقَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى عِوَضٍ، وَبَيْعَ الْعَبْدِ نَفْسَهُ، يُشَارِكَانِ الْكِتَابَةَ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتَضَمَّنُ إِعْتَاقًا بَعِوَضٍ، وَيُفَارِقَانِهَا فِي الشُّرُوطِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُمَا عَقْدَانِ مُسْتَقِلَّانِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْعِوَضُ، وَشُرُوطُهُ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: كَوْنُهُ دَيْنًا مُؤَجَّلًا، إِذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ فِي الْحَالِ فَلَوْ مَلَكَ بَعْضَ شَخْصٍ بَاقِيهِ حُرٌّ، وَكَاتَبَهُ فِي مِلْكِهِ بِدَيْنٍ حَالٍّ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِبَعْضِهِ الْحُرِّ، فَلَا يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ الْبَيْعُ لِمُعْسِرٍ ; لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ

مَظِنَّةُ الْمِلْكِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا آخَرَ. فَلَوْ زَادَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ، فَالصَّحِيحُ الصِّحَّةُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِيهِ بِقَدْرِ الثَّمَنِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَلَوْ أَسْلَمَ إِلَى مُكَاتَبِهِ عَقِبَ الْكِتَابَةِ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ. الثَّانِي: أَنْ يُنَجِّمَ نَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا. وَمَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي كِتَابَةِ الرَّقِيقِ مِنْهُ التَّنْجِيمُ؟ وَجْهَانِ كَالتَّأْجِيلِ، وَهَلْ تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ إِلَى نَجْمَيْنِ قَصِيرَيْنِ، أَوْ إِلَى طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ، بِشَرْطِ أَدَاءِ الْأَكْثَرِ فِي الْقَصِيرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ لِإِمْكَانِ الْقُدْرَةِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ إِلَى مُعْسِرٍ فِي مَالٍ كَثِيرٍ. وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّ النَّادِرَ كَالْمَعْجُوزِ عَنْهُ، كَمَا فِي السَّلَمِ، وَيَجُوزُ جَعْلُ الْعِوَضِ مَنْفَعَةً، كَبِنَاءِ دَارٍ، وَخِيَاطَةٍ، وَخِدْمَةِ شَهْرٍ، كَمَا يَجُوزُ جَعْلُ الْمَنْفَعَةِ ثَمَنًا وَأُجْرَةً وَمَهْرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِخِدْمَةِ شَهْرٍ، أَوْ شَهْرَيْنِ، أَوْ سَنَةٍ، وَيُقَدِّرُ كُلَّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ نَجْمًا، أَوْ كُلَّ شَهْرٍ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ نَجْمٌ وَاحِدٌ، وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ ثَابِتَةٌ فِي الْحَالِ. فَلَوْ شَرَطَ صَرِيحًا كَوْنَ خِدْمَةِ شَهْرٍ نَجْمًا، وَخِدْمَةُ الشَّهْرِ بَعْدَهُ نَجْمًا آخَرَ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ فِي الْأُمِّ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّهْرِ الثَّانِي مُتَعَيِّنَةٌ، وَالْمَنَافِعُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَعْيَانِ لَا يَجُوزُ شَرْطُ تَأْخِيرِهَا. وَلَوِ انْقَطَعَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ الثَّانِيَةِ عَنْ آخِرِ الْأُولَى كَخِدْمَةِ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ يُشْتَرَطُ أَنْ تَتَّصِلَ الْخِدْمَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهَا، كَمَا

أَنَّ عَيْنَ الْمَبِيعِ لَا يَقْبَلُ التَّأْجِيلَ وَتَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ. فَلَوْ كَاتَبَهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى خِدْمَةِ شَوَّالٍ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى دِينَارٍ يُؤَدِّيهِ فِي آخِرِ هَذَا الشَّهْرِ، وَعَلَى خِدْمَةِ الشَّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْمُلْتَزَمَةُ فِي الذِّمَّةِ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ، وَبِنَاءِ جِدَارٍ مَوْصُوفٍ، وَدَارٍ مَوْصُوفَةٍ، فَيَجُوزُ فِيهَا التَّأْجِيلُ. وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى بِنَاءِ دَارَيْنِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَقْتًا مَعْلُومًا، صَحَّ. وَلَوْ قَالَ: كَاتَبْتُكَ عَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ مِنَ الْآنِ، وَعَلَى دِينَارٍ بَعْدَ انْقِضَائِهِ بِيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ، جَازَ. وَلَوْ قَالَ: وَعَلَى دِينَارٍ عِنْدَ انْقِضَائِهِ، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الْجَوَازُ، قَالُوا: وَلَا بَأْسَ بِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ حَالَّةً لِأَنَّ التَّأْجِيلَ يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْخِدْمَةِ فِي الْحَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَاتَبَ عَلَى دِينَارَيْنِ، أَحَدُهُمَا حَالٌّ، وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَجَلَ وَإِنْ أَطْلَقُوا اشْتِرَاطَهُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ فِي الْمَنْفَعَةِ الَّتِي تُقَدَّرُ عَلَى الشُّرُوعِ فِيهَا فِي الْحَالِ. وَلَوْ كَاتَبَ عَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ وَدِينَارٍ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، كَقَوْلِهِ: وَدِينَارٍ بَعْدَ الْعَقْدِ بِيَوْمٍ، جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَعَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ مَوْصُوفٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَدِينَارٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْعَمَلِ فِي الْخِدْمَةِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يَكْفِي إِطْلَاقُ الْخِدْمَةِ، لَكِنْ لَوْ قَالَ: عَلَى مَنْفَعَةِ شَهْرٍ، لَمْ يَصِحَّ، لِاخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ. وَإِذَا كَاتَبَ عَلَى خِدْمَةٍ وَدِينَارٍ، فَمَرِضَ فِي الشَّهْرِ، وَفَاتَتِ الْخِدْمَةُ، انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ فِي قَدْرِ الْخِدْمَةِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَقِيلَ: تَبْطُلُ فِيهِ قَطْعًا ; لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ فِي بَعْضِ الْعَبْدِ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَفِي الْبَاقِي طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ. وَالثَّانِي: قَوْلَانِ.

فَرْعٌ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُكَ عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي، أَوْ عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي أَبَدًا، فَقَبِلَ الْعَبْدُ، عَتَقَ فِي الْحَالِ، وَرَجَعَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي شَهْرًا مِنَ الْآنِ، فَقَبِلَ، عَتَقَ، وَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بِمَرَضٍ وَغَيْرِهِ، فَفِيمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ السَّيِّدُ بِهِ مِنْ أُجْرَةٍ مِثْلِ الْخِدْمَةِ، أَوْ قِيمَةِ الْعَبْدِ قَوْلَانِ، كَالصَّدَاقِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ إِذَا تَلِفَا قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلَوْ قَالَ: كَاتَبْتُكَ عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي أَبَدًا، لَمْ يَعْتِقْ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي شَهْرًا، فَقَبِلَ وَخَدَمَهُ شَهْرًا، عَتَقَ، وَرَجَعَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، وَهُوَ عَلَى السَّيِّدِ بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْخِدْمَةِ ; لِأَنَّهَا كِتَابَةٌ فَاسِدَةٌ، وَإِنْ خَدَمَهُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، لَمْ يَعْتِقْ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: بَيَانُ قَدْرِ الْعِوَضِ وَالْأَجَلِ، فَيُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِ الْعِوَضِ وَصِفَتِهِ، وَأَقْدَارُ الْآجَالِ، وَمَا يُؤَدَّى عِنْدَ حُلُولِ كُلِّ نَجْمٍ. فَإِنْ كَاتَبَ عَلَى نَقْدٍ كَفَى الْإِطْلَاقُ إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ مُنْفَرِدٌ أَوْ غَالِبٌ، وَإِلَّا، فَيُشْتَرَطُ التَّبْيِينُ. وَإِنْ كَاتَبَ عَلَى عَرَضٍ، وَصَفَهُ بِالصِّفَاتِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْمُسَلَّمِ، وَإِنْ كَاتَبَ عَلَى ثَوْبٍ مَوْصُوفٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ نِصْفَهُ بَعْدَ سَنَةٍ، وَنِصْفَهُ بَعْدَ سَنَةٍ، وَنِصْفَهُ الْآخَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ سَنَتَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ النِّصْفَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، تَعَيَّنَ النِّصْفُ الثَّانِي لِلثَّانِيَةِ، وَالْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْأَجَلِ فِيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَسَاوِي الْآجَالِ، وَلَا الْأَقْدَارِ الْمُؤَدَّاةِ فِي آخِرِ الْآجَالِ. وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ نِصْفَهَا أَوْ ثُلُثَهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ خَمْسٍ، وَالْبَاقِي عِنْدَ تَمَامِ الْعَشْرِ، أَوْ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عِنْدَ تَمَامِ

كُلِّ سَنَةٍ عَشَرَةً، جَازَ. وَلَوْ قَالَ: تُؤَدِّي بَعْضَهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ نِصْفِ الْمُدَّةِ، وَالْبَاقِي عِنْدَ تَمَامِهَا، لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ قَالَ: تُؤَدِّيهَا فِي عَشْرِ سِنِينَ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ وَيُوَزَّعُ الْمَالُ عَلَى عَدَدِ السِّنِينَ. وَلَوْ قَالَ: فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا، وَفِي سَنَةٍ كَذَا، فَهَلْ هُوَ مَجْهُولٌ، أَمْ يُحْمَلُ عَلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ؟ وَجْهَانِ، كَنَظِيرِهِ فِي السَّلَمِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: فِي يَوْمِ كَذَا. وَلَوْ قَالَ: فِي وَسَطِ السَّنَةِ، فَهَلْ هُوَ مَجْهُولٌ، أَمْ يُحْمَلُ عَلَى نِصْفِهَا ; لِأَنَّهُ الْوَسَطُ الْحَقِيقِيُّ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: تُؤَدِّيهَا إِلَى عَشْرِ سِنِينَ، لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُ كِتَابَةٌ إِلَى أَجَلٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ قَالَ: كَاتَبْتُكَ عَلَى مِائَةٍ تُؤَدِّيهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، قَسَّطَ كُلَّ شَهْرٍ عِنْدَ انْقِضَائِهِ، جَوَّزَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَمَنَعَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ حِصَّةُ كُلِّ شَهْرٍ. وَلَوْ كَاتَبَ عَلَى دِينَارٍ إِلَى شَهْرٍ، وَدِينَارَيْنِ إِلَى شَهْرٍ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الْأَوَّلَ، عَتَقَ، وَيُؤَدِّي الدِّينَارَيْنِ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَفِي صِحَّةِ الْكِتَابَةِ الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا جَمَعَتِ الصَّفْقَةُ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. فَرْعٌ هَلْ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَوْضِعِ تَسْلِيمِ النُّجُومِ؟ ذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّ فِيهِ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ فِي السَّلَمِ، وَذَكَرَ خِلَافًا فِي أَنَّهُ لَوْ عُيِّنَ مَوْضِعٌ، فَخَرِبَ، هَلْ يُسَلَّمُ فِيهِ، أَمْ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ. فَرْعٌ لَوْ كَاتَبَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ، فَسَدَتِ الْكِتَابَةُ، فَإِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ لِسَيِّدِهِ فَأَعْطَاهُ، عَتَقَ، وَإِنْ أَعْطَاهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، لَمْ يَعْتِقْ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: إِنْ أَدَّيْتَ إِلَيَّ هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِنَّهُ إِذَا أَدَّاهُ، عَتَقَ،

وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْضُ تَعْلِيقٍ، وَهَذِهِ كِتَابَةٌ تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، فَإِذَا وُجِدَ إِذْنُ الْمَالِكِ، وُجِدَ مَا يَقْتَضِي الْمِلْكَ، لَكِنْ يَجِبُ الرَّدُّ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْقِيمَةِ لِفَسَادِ الْكِتَابَةِ. فَرْعٌ إِذَا شَرَطَ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، فَسَدَتِ الْكِتَابَةُ. وَلَوْ كَاتَبَهُ وَبَاعَهُ شَيْئًا بِعِوَضٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ: كَاتَبْتُكَ وَبِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِمِائَةٍ إِلَى شَهْرَيْنِ، تُؤَدِّي نِصْفَهَا فِي آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ، فَإِذَا أَدَّيْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَقَالَ: قَبِلْتُ الْكِتَابَةَ وَالْبَيْعَ، أَوِ الْبَيْعَ وَالْكِتَابَةَ، أَوْ قَبِلْتُهُمَا، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ جَمَعَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ، فَفِي قَوْلٍ: يَصِحَّانِ، وَفِي قَوْلٍ: يَبْطُلَانِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ: يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَفِي الْكِتَابَةِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَيَصِحُّ بِجَمِيعِ الْعِوَضِ فِي قَوْلٍ، وَبِالْقِسْطِ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَيُوَزَّعُ مَا سَمَّاهُ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَقِيمَةِ الثَّوْبِ، فَمَا خَصَّ الْعَبْدَ، لَزِمَهُ فِي النَّجْمَيْنِ، فَإِذَا أَدَّاهُ، عَتَقَ. وَإِنْ قُلْنَا: فَاسِدَةٌ، لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْمَالِ لِيُحَقِّقَ الصِّفَةَ ثُمَّ يَتَرَاجَعَانِ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخَرَّجَ قَوْلٌ: أَنَّهُ إِذَا أَدَّى مَا يَخُصُّ قِيمَتَهُ، عَتَقَ ثُمَّ يَتَرَاجَعَانِ. فَرْعٌ كَاتَبَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ صَفْقَةً، فَقَالَ: كَاتَبْتُكُمْ عَلَى أَلْفٍ إِلَى وَقْتَيْ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَدَّيْتُمْ، فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ، فَالنَّصُّ صِحَّةُ الْكِتَابَةِ. وَلَوْ

اشْتَرَى رَجُلٌ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ، كُلُّ عَبْدٍ لِرَجُلٍ مِنْ مُلَّاكِهِمْ صَفْقَةً، فَالنَّصُّ بُطْلَانُ الْبَيْعِ. وَلَوْ نَكَحَ نِسْوَةً، أَوْ خَالَعَهُنَّ عَلَى عِوَضٍ وَاحِدٍ، فَفِي صِحَّةِ الْمُسَمَّى قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذِهِ الصُّورَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الطُّرُقِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ، فَإِنْ أَفْسَدْنَا هَذِهِ الْكِتَابَةَ، فَأَدَّوُا الْمَالَ، عَتَقُوا بِالتَّعْلِيقِ، وَإِنْ أَدَّ بَعْضُهُمْ حِصَّتَهُ، فَهَلْ يَعْتِقُ؟ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، لِعَدَمِ كَمَالِ الصِّفَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتُمُ الدَّارَ، فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ، فَدَخَلَ بَعْضُهُمْ، لَا يَعْتِقُ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَلِهَذَا يَتَرَاجَعَانِ. وَمُقْتَضَى الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَعْتِقَ كُلُّ وَاحِدٍ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ، ثُمَّ مَنْ عَتَقَ رَجَعَ عَلَى السَّيِّدِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْعِتْقِ ; لِأَنَّ سُلْطَةَ السَّيِّدِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْعِتْقِ، لِتَمَكُّنِهِ مِنْ فَسْخِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنْ صَحَّحْنَا الْكِتَابَةَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وُزِّعَ الْمُسَمَّى عَلَيْهِمْ. ثُمَّ الْمَذْهَبُ تَوْزِيعُهُ عَلَى قِيمَتِهِمْ لَا عَلَى عَدَدِهِمْ، ثُمَّ كُلُّ عَبْدٍ يُؤَدِّي حِصَّتَهُ مِنَ النَّجْمَيْنِ، فَإِذَا أَدَّاهَا، عَتَقَ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عِتْقُهُ عَلَى أَدَاءِ غَيْرِهِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُمْ، أَوْ عَجَزَ، فَهُوَ رَقِيقٌ، وَيَعْتِقُ غَيْرُهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَا يُقَالُ: عُلِّقَ بِأَدَائِهِمْ ; لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الصَّحِيحَةَ يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ، وَلِهَذَا إِذَا أَبْرَأَ السَّيِّدُ الْمُكَاتَبَ، عَتَقَ، وَإِذَا مَاتَ، لَمْ تَبْطُلِ الْكِتَابَةُ، بِخِلَافِ التَّعْلِيقَاتِ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: السَّيِّدُ، وَشَرْطُهُ: كَوْنُهُ مُخْتَارًا، مُكَلَّفًا، أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ، فَلَا تَصِحُّ كِتَابَةُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، وَلَا إِعْتَاقُهُمَا عَلَى مَالٍ، وَلَوْ أَذِنَ فِيهِ الْوَلِيُّ. وَلَا كِتَابَةُ وَلِيِّهِمَا أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَلَا إِعْتَاقُهُ عَبْدَهُمَا

بِمَالٍ. فَلَوْ أَدَّى الْعَبْدُ إِلَى الْوَلِيِّ مَا كَاتَبَهُ عَلَيْهِ، لَمْ يَعْتِقْ لِبُطْلَانِ التَّعْلِيقِ، وَلَا تَصِحُّ كِتَابَةُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، وَلَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إِلَيْهِ، لَا فِي الْحَجْرِ وَلَا بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ. وَحَكَى الْفُورَانِيُّ خِلَافًا فِيمَا لَوْ سَلَّمَ الْمَالَ إِلَيْهِ فِي حَالِ الْحَجْرِ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَجْرُهُ، أَنَّهُ هَلْ يَعْتِقُ بِالتَّسْلِيمِ السَّابِقِ؟ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. فَرْعٌ الْمَرِيضُ إِذَا كَاتَبَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، اعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، ثُمَّ إِنْ كَانَ يَمْلِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِثْلَيْ قِيمَتِهِ، صَحَّتِ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهُ، وَأَدَّى فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ كَاتَبَهُ عَلَى مِثْلَيْ قِيمَتِهِ، عَتَقَ كُلُّهُ ; لِأَنَّهُ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ كَاتَبَهُ عَلَى مِثْلِ قِيمَتِهِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى مِثْلِ قِيمَتِهِ، وَأَدَّى نِصْفَ النُّجُومِ، صَحَّتِ الْكِتَابَةُ فِي نِصْفِهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ السَّيِّدُ، وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ مُكَاتَبٌ، فَإِذَا أَدَّى حِصَّتَهُ مِنَ النُّجُومِ، عَتَقَ. وَهَلْ يُزَادُ فِي الْكِتَابَةِ بِقَدْرِ نِصْفِ مَا أَدَّى، وَهُوَ سُدُسُ الْعَبْدِ؟ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: لَا ; لِأَنَّ الْكِتَابَةَ بَطَلَتْ فِي الثُّلُثَيْنِ، فَلَا تَعُودُ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ دَفِينٌ، أَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فِي الْحَيَاةِ، فَيُعْقَلُ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ يُزَادُ فِي الْكِتَابَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُزَادُ، وَكَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ حُلُولِ النَّجْمِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ حِصَّةُ السُّدُسِ مِنَ النُّجُومِ فِي الْحَالِ، أَمْ يُضْرَبُ لَهُ مِثْلُ الْمُدَّةِ الَّتِي

ضَرَبَهَا الْمَيِّتُ أَوَّلًا؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا إِذَا حَبَسَ السَّيِّدُ الْمُكَاتَبَ مُدَّةً، فَإِذَا زِيدَتِ الْكِتَابَةُ بِقَدْرِ السُّدُسِ، فَأَدَّى نُجُومَهُ، يَزْدَادُ نِصْفُ السُّدُسِ، وَهَكَذَا يُزَادُ نِصْفُ مَا يُؤَدِّي مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى مَا لَا يَقْبَلُ التَّنْصِيفَ. وَإِنْ قُلْنَا لَا يُزَادُ فِي الْكِتَابَةِ، فَالْبَاقِي قِنٌّ، وَلَا يُخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ كَاتَبَ نَصِيبَهُ مِنْ مُشْتَرَكٍ، فَإِنَّ ذَاكَ ابْتِدَاءَ كِتَابَةٍ، وَهُنَا وَرَدَتِ الْكِتَابَةُ عَلَى الْجَمِيعِ، ثُمَّ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إِلَى إِبْطَالِ الْبَعْضِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنْ بَعْضِهِمْ تَخْرِيجَ صِحَّةِ الْكِتَابَةِ فِي الثُّلُثِ عَلَى كِتَابَةِ الْمُشْتَرَكِ. أَمَّا إِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْكِتَابَةَ فِي جَمِيعِهِ، فَيَصِحُّ فِي جَمِيعِهِ، فَإِذَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ، فَوَلَاءُ الْجَمِيعِ لِلْمُوَرَّثِ إِنْ قُلْنَا: إِجَازَتُهُمْ تَنْفِيذٌ، وَإِنْ قُلْنَا: ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ، فَوَلَاءُ الثُّلُثِ لِلْمُوَرَّثِ وَالثُّلُثَيْنِ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ. وَإِنْ أَجَازُوا بَعْضَ الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِجَازَتُهُمْ تَنْفِيذٌ، صَحَّتْ فِيمَا أَجَازُوا، وَحُكْمُ الْبَاقِي مَا سَبَقَ. وَإِنْ قُلْنَا: عَطِيَّةٌ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَبْعِيضِ الْكِتَابَةِ. وَلَوْ كَانَ عَبْدَانِ قِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا، وَكَاتَبَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَحَدَهُمَا، وَبِالْآخَرِ نَسِيئَةً، نُظِرَ، إِنْ حَصَّلَ الثَّمَنَ وَالنُّجُومَ فِي حَيَاتِهِ، فَالْكِتَابَةُ وَالْبَيْعُ صَحِيحَانِ وَإِنْ لَمْ يُحَصِّلْ حَتَّى مَاتَ السَّيِّدُ، وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، صَحَّتِ الْكِتَابَةُ فِي ثُلُثِ هَذَا، وَالْبَيْعُ فِي ثُلُثِ ذَاكَ، فَإِذَا حَصَلَتْ نُجُومُ الثُّلُثِ، وَثَمَنُ الثُّلُثِ، فَهَلْ يُزَادُ فِي الْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، يَقَعُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَصُحِّحَتِ الْكِتَابَةُ فِي نِصْفِ سُدُسٍ، وَكَذَا الْبَيْعُ، وَإِنْ حَصَلَتْ نُجُومُ الثُّلُثِ وَثَمَنُ الثُّلُثِ مَعًا، صُحِّحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي السُّدُسِ. وَلَوْ كَاتَبَهُ فِي الصِّحَّةِ، ثُمَّ أَبْرَأَهُ عَنِ النُّجُومِ فِي الْمَرَضِ، أَوْ

فصل

قَالَ: وَضَعْتُ عَنْهُ النُّجُومَ، أَوْ أَعْتَقْتُهُ، فَإِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، فَإِنِ اخْتَارَ الْعَجْزَ، عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَرَقَّ ثُلُثَاهُ، وَإِنِ اخْتَارَ بَقَاءَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ مِثْلَ الْقِيمَةِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَعْتِقُ ثُلُثُهُ، وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِي الثُّلُثَيْنِ. وَالثَّانِي: لَا يَعْتِقُ ثُلُثُهُ حَتَّى يُسَلِّمَ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَاهُ، إِمَّا بِأَدَاءِ نُجُومِ الثُّلُثَيْنِ، وَإِمَّا بِالْعَجْزِ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النُّجُومِ وَالْقِيمَةِ تَفَاوُتٌ، اعْتُبِرَ خُرُوجُ الْأَقَلِّ مِنْهُمَا مِنَ الثُّلُثِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا جَمِيعَ هَذَا وَوُجُوهَهُ وَطُرُقَ حِسَابِهِ فِي الْوَصَايَا. وَلَوْ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ مُكَاتَبِهِ، أَوْ إِبْرَائِهِ، أَوْ وَضْعِ النُّجُومِ عَنْهُ، نُظِرَ، أَيَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ، أَمْ لَا؟ وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ أَوْ أَبْرَأَهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِنْشَاءِ عِتْقٍ وَإِبْرَاءٍ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ. وَلَوْ كَاتَبَ فِي صِحَّتِهِ، وَقَبَضَ النُّجُومَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ قَبَضَهَا وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، صَحَّ الْقَبْضُ، وَكَانَتِ الْكِتَابَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِمُحَابَاةٍ فِي الصِّحَّةِ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ فِي الْمَرَضِ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي الْمَرَضِ أَنَّهُ قَبَضَ النُّجُومَ فِي الصِّحَّةِ، أَوْ فِي الْمَرَضِ، قُبِلَ إِقْرَارُهُ، وَكَانَ الِاعْتِبَارُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْشَائِهِ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ لِغَيْرِ الْوَارِثِ يَسْتَوِي فِيهِ الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ. فَصْلٌ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْكِتَابَةِ إِسْلَامُ السَّيِّدِ، بَلْ تَصِحُّ كِتَابَةُ الْكَافِرِ كَإِعْتَاقِهِ. وَفِي كِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ مَنْصُوصَةٍ وَمُخَرَّجَةٍ، أَظْهَرُهَا: الْبُطْلَانُ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ. وَالثَّالِثُ: مَوْقُوفٌ عَلَى إِسْلَامِهِ. وَالرَّابِعُ: يَصِحُّ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ. وَالْخَامِسُ: يَصِحُّ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ عَلَيْهِ حَجْرًا، إِمَّا بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَإِمَّا

بِحَجْرِ الْقَاضِي، فَإِذَا صَحَّحْنَاهَا، وَلَمْ نَحْجُرْ عَلَيْهِ، وَقُلْنَا: لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ، فَدَفَعَ الْمُكَاتَبُ النُّجُومَ إِلَيْهِ، عَتَقَ، وَكَانَ لَهُ الْوَلَاءُ، وَيَمْلِكُ النُّجُومَ، لِأَنَّا حَكَمْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْمِ. إِنْ أَبْطَلْنَاهَا، لَمْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ، وَيَعْتِقْ. وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَالْأَدَاءُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا بَانَ بُطْلَانُهَا، وَكَانَ الْعَبْدُ قِنًّا، وَإِنْ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، أَوْ بِحَجْرِ الْقَاضِي، فَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَجْرٌ، وَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، أَوْ تَوَقَّفْنَا، لَمْ يَجُزْ دَفْعُ النُّجُومِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ، بَلْ يَجِبُ دَفْعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْمُرْتَدِّ، لَمْ يَعْتِقْ، وَيَسْتَرِدُّهَا وَيَدْفَعُهَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ تَلِفَتْ وَتَعَذَّرَ الِاسْتِرْدَادُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يَفِي بِالنُّجُومِ، وَدَفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَهُ تَعْجِيزُهُ. ثُمَّ إِنْ مَاتَ السَّيِّدُ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ مَا عَجَّزَهُ، فَهُوَ رَقِيقٌ، وَإِنْ أَسْلَمَ، فَهَلْ يَكْفِي التَّعْجِيزُ؟ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : نَعَمْ ; لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ كَانَ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا أَسْلَمَ، صَارَ الْحَقُّ لَهُ، فَيُعْتَمَدُ بِقَبْضِهِ، فَعَلَى هَذَا يَعْتِقُ إِنْ كَانَ دَفَعَ إِلَيْهِ كُلَّ النُّجُومِ. وَقِيلَ: لَا يَعْتِقُ، وَلَا يَنْقَلِبُ الْقَبْضُ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ صَحِيحًا، لَكِنْ يَبْقَى مُكَاتَبًا، فَيَسْتَأْنِفُ الْأَدَاءَ، وَيُمْهَلُ مُدَّةَ الرِّدَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ كَاتَبَ مُسْلِمٌ عَبْدَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ السَّيِّدُ لَمْ تَبْطُلِ الْكِتَابَةُ، كَمَا لَا يَبْطُلُ بَيْعُهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ النُّجُومِ إِلَيْهِ إِنْ قُلْنَا: زَالَ مِلْكُهُ، وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ الْمُرْتَدَّ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَإِعْتَاقُهُ،

ثُمَّ إِنْ أَدَّى النُّجُومَ فِي رِدَّتِهِ مِنْ أَكْسَابِهِ، أَوْ تَبَرَّعَ بِأَدَائِهَا غَيْرُهُ، عَتَقَ، ثُمَّ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا، وَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، بَقِيَ مُكَاتَبًا، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ، قُتِلَ، وَكَانَ مَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ. وَإِنِ ارْتَدَّ مُكَاتَبٌ، لَمْ تَبْطُلْ كِتَابَتُهُ، فَإِنْ هَلَكَ عَلَى الرِّدَّةِ، كَانَ مَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، وَارْتَفَعَتِ الْكِتَابَةُ. قَالَ فِي «الْأُمِّ» : وَلَا أُجِيزُ كِتَابَةَ السَّيِّدِ الْمُرْتَدِّ، وَالْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ، إِلَّا عَلَى مَا أُجِيزُ عَلَيْهِ كِتَابَةَ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ الْكَافِرَيْنِ الْأَصْلِيَّيْنِ يُتْرَكَانِ عَلَى مَا يَسْتَحِلَّانِ، مَا لَمْ يَتَحَاكَمَا إِلَيْنَا. قَالَ: وَلَوْ لَحِقَ السَّيِّدُ بَعْدَ رِدَّتِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَوَقَفَ الْحَاكِمُ مَالَهُ، تَتَأَدَّى كِتَابَةُ مُكَاتَبِهِ، فَإِنْ عَجَزَ رَدَّهُ إِلَى الرِّقِّ فَإِنْ عَجَّزَهُ ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهُ، فَالتَّعْجِيزُ مَاضٍ، وَيَكُونُ رَقِيقًا لَهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ السَّيِّدُ، فَفِي الِاعْتِدَادِ بِمَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ مَا سَبَقَ. فَرْعٌ تَصِحُّ كِتَابَةُ الذِّمِّيِّ كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ مَجُوسِيًّا، وَكِتَابَةُ الْمُسْتَأْمَنِ، هَذَا إِذَا كَاتَبُوا عَلَى شَرَائِطِ شَرْعِنَا، فَإِنْ كَاتَبَ ذِمِّيٌّ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْعِوَضِ الْمُسَمَّى، فَالْعِتْقُ حَاصِلٌ، وَلَا رُجُوعَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ، حَكَمْنَا بِفَسَادِهَا وَإِبْطَالِهَا، فَإِنْ وُجِدَ الْقَبْضُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَحْصُلِ الْعِتْقُ ; لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ بَعْدَ الْفَسْخِ وَالْإِبْطَالِ. وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ تَرَافَعَا، حَصَلَ الْعِتْقُ، لِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَيَرْجِعُ السَّيِّدُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِقِيمَتِهِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى السَّيِّدِ بِشَيْءٍ لِلْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَلَوْ كَانَ الْمُسَمَّى، لَهُ قِيمَةٌ - رَجَعَ، وَإِنْ قَبَضَ بَعْضَ الْمُسَمَّى فِي الشِّرْكِ، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا، حُكِمَ بِبُطْلَانِ الْكِتَابَةِ، فَلَوِ

اتَّفَقَ قَبْضُ الْبَاقِي بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ إِبْطَالِهَا، حَصَلَ الْعِتْقُ، وَرَجَعَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ، وَلَا يُوَزَّعُ عَلَى الْمَقْبُوضِ وَالْبَاقِي ; لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِالنَّجْمِ الْأَخِيرِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الْإِسْلَامِ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدٌ لِذِمِّيٍّ، أَوِ اشْتَرَى مُسْلِمًا، وَصَحَّحْنَا شِرَاءَهُ، وَأَمْرَنَا بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْهُ، فَكَاتَبَهُ، صَحَّتِ الْكِتَابَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ ; لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْعَبْدِ، فَإِنْ عَجَزَ، أُمِرَ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ، أُمِرَ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ أَدَّى النُّجُومَ قَبْلَ الْإِزَالَةِ، عَتَقَ بِحُكْمِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ. وَلَوْ كَاتَبَ ذِمِّيٌّ عَبْدَهُ، فَأَسْلَمَ الْمُكَاتَبُ، لَمْ تَرْتَفِعِ الْكِتَابَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِقُوَّةِ الدَّوَامِ. فَرْعٌ تَصِحُّ كِتَابَةُ الْحَرْبِيِّ ; لِأَنَّهُ مَالِكٌ، فَإِنْ قَهَرَهُ سَيِّدُهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، ارْتَفَعَتْ، وَصَارَ قِنًّا. وَلَوْ قَهَرَ سَيِّدَهُ، صَارَ حُرًّا، وَعَادَ السَّيِّدُ عَبْدًا لَهُ ; لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ قَهْرٍ، وَكَذَا لَوْ قَهَرَ حُرٌّ حُرًّا هُنَاكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلَ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، ثُمَّ قَهَرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، لَا يَمْلِكُهُ ; لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ حَقٍّ وَإِنْصَافٍ. وَلَوْ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ إِلَيْنَا مُسْلِمًا هَارِبًا مِنْ سَيِّدِهِ، ارْتَفَعَتِ الْكِتَابَةُ، وَصَارَ حُرًّا ; لِأَنَّهُ قَهَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. وَإِنْ خَرَجَ غَيْرَ مُسْلِمٍ، نُظِرَ، إِنْ خَرَجَ بِإِذْنِهِ وَأَمَانِنَا، لِتِجَارَةٍ، وَغَيْرِهَا، اسْتَمَرَّتِ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ خَرَجَ هَارِبًا، بَطَلَتْ، وَصَارَ حُرًّا. ثُمَّ لَا يُمَكَّنُ مِنَ الْإِقَامَةِ عِنْدَنَا إِلَّا بِالْجِزْيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ

لَا يُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ، أُلْحِقَ بِمَأْمَنِهِ، وَإِنْ جَاءَنَا السَّيِّدُ مُسْلِمًا، لَمْ يُتَعَرَّضْ لِمُكَاتَبِهِ هُنَاكَ، وَإِنْ دَخَلَ بِأَمَانٍ مَعَ الْمُكَاتَبِ، وَلَمْ يَقْهَرْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَأَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَكَاتَبَهُ بَعْدَ مَا دَخَلَا، وَأَرَادَ الْعَوْدَ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ الْمُكَاتَبُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ قَهْرًا، كَمَا لَا يُسَافِرُ الْمُسْلِمُ بِمُكَاتَبِهِ، بَلْ يُوَكِّلُ مَنْ يَقْبِضُ النُّجُومَ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ، طُولِبَ بِالْجِزْيَةِ، ثُمَّ إِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ طُولِبَ بِالْجِزْيَةِ أَوْ رُدَّ إِلَى الْمَأْمَنِ، وَإِنْ عَجَّزَ نَفْسَهُ، عَادَ قِنًّا لِلسَّيِّدِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَيَبْقَى الْأَمَانُ فِيهِ، وَإِنِ انْتَقَضَ فِي نَفْسِ سَيِّدِهِ بِعَوْدِهِ ; لِأَنَّ الْمَالَ يَنْفَرِدُ بِالْأَمَانِ. وَلِهَذَا لَوْ بَعَثَ الْحَرْبِيُّ مَالَهُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، ثَبَتَ الْأَمَانُ لِلْمَالِ دُونَ صَاحِبِهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي السَّيِّدِ، فِيمَنْ رَجَعَ وَخَلَّفَ عِنْدَنَا مَالًا. وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ بَعْدَ الْعَوْدِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَفِي مَالِ الْكِتَابَةِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يَبْقَى الْأَمَانُ فِيهِ، فَيُرْسَلُ إِلَى وَرَثَتِهِ ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ وَرِثُوهُ، وَمَنْ وَرِثَ مَالًا، وَرِثَهُ بِحُقُوقِهِ، كَالرَّهْنِ وَالضَّمِينِ. وَالثَّانِي: يَبْطُلُ الْأَمَانُ فِيهِ، وَيَكُونُ قِنًّا ; لِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ لَا أَمَانَ لَهُ. وَإِنْ سُبِيَ السَّيِّدُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، نُظِرَ، إِنْ مُنَّ عَلَيْهِ أَوْ فُدِيَ، أَخَذَ النُّجُومَ، وَهُمَا بِمَا جَرَى فِي أَمَانٍ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ رَجَعَ انْتَقَضَ الْأَمَانُ فِيهِ. وَفِي الْمَالِ إِنْ تَرَكَهُ عِنْدَنَا مَا سَبَقَ، وَإِنِ اسْتَرَقَّ، زَالَ مِلْكُهُ. وَفِي مَالِ الْكِتَابَةِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلَانِ، كَالْمَوْتِ. وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ يَنْتَظِرُ عِتْقَهُ وَمَصِيرَهُ مَالِكًا، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ. وَأَمَّا وَلَاءُ هَذَا الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِ السَّيِّدِ، فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَاءَ كَالْمَالِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ فَيْئًا، فَالْوَلَاءُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَإِنْ تَوَقَّفْنَا، فَكَذَلِكَ نَتَوَقَّفُ فِي الْوَلَاءِ. وَالثَّانِي

وَهُوَ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَسْقُطُ وَلَاؤُهُ ; لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُوَرَّثُ، وَلَا يَنْتَقِلُ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ. وَإِنِ اسْتَرَقَّ السَّيِّدُ قَبْلَ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ جَعَلْنَا مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيْئًا، فَادُّعِيَ عِتْقٌ بِدَفْعِهِ إِلَى الْمُكَاتَبِ، فَفِي الْوَلَاءِ وَجْهَانِ. وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَإِنْ عَتَقَ السَّيِّدُ، دَفَعَ الْمُكَاتَبُ الْمَالَ إِلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ الْوَلَاءُ، وَإِنْ مَاتَ رَقِيقًا، وَصَارَ الْمَالُ فَيْئًا، فَفِي الْوَلَاءِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ الْمُكَاتَبُ فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ: انْصِبُوا مَنْ يَقْبِضُ الْمَالَ لِأُعْتَقَ، أُجِيبَ إِلَيْهِ، وَإِذَا عَتَقَ، فَلْيَكُنْ فِي الْخِلَافِ. وَقِيلَ: يُبْنَى عَلَى أَنَّ مُكَاتِبَ الْمُكَاتَبِ إِذَا عَتَقَ تَفْرِيعًا عَلَى صِحَّةِ كِتَابَتِهِ، يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ، أَوْ يُوقَفُ عَلَى عِتْقِ الْمُكَاتَبِ. وَفِيهِ قَوْلَانِ. إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَالْوَلَاءُ هُنَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَيُوقَفُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُوقَفُ الْمَالُ وَالْوَلَاءُ، فَإِنْ عَتَقَ، فَهُمَا لَهُ، وَإِنْ مَاتَ رَقِيقًا، فَالْمَالُ فَيْءٌ، وَيَسْقُطُ الْوَلَاءُ. فَرْعٌ كَاتَبَ مُسْلِمٌ عَبْدًا كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْحَرْبِ، صَحَّ، فَإِنْ عَتَقَ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْإِقَامَةِ بِدَارِنَا إِلَّا بِجِزْيَةٍ، فَإِنْ كَاتَبَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَأُسِرَ، لَمْ تَبْطُلْ كِتَابَتُهُ ; لِأَنَّهُ فِي أَمَانِ سَيِّدِهِ. وَلَوِ اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى مُكَاتَبٍ مُسْلِمٍ، لَمْ تَبْطُلْ كِتَابَتُهُ، وَكَذَا لَمْ يَبْطُلِ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ، فَإِذَا اسْتَنْقَذَ الْمُسْلِمُونَ مُكَاتَبَهُ، فَهَلْ يُحْسَبُ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْأَسْرِ مِنْ أَجْلِ مَالِ الْكِتَابَةِ؟ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: كَمَا لَوْ حَبَسَهُ السَّيِّدُ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالِاحْتِسَابِ، لِعَدَمِ تَقْصِيرِ السَّيِّدِ. وَهَلْ لِلسَّيِّدِ الْفَسْخُ بِالتَّعْجِيزِ وَهُوَ الْأَسْرُ؟ إِنْ قُلْنَا: يُحْسَبُ، فَلَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ هَلْ يُفْسَخُ بِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ

حَضَرَ الْمُكَاتَبُ، أَوْ يُرْفَعُ الْأَمْرُ إِلَى الْقَاضِي لِيَبْحَثَ هَلْ لَهُ مَالٌ؟ وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ. فَإِذَا فُسِخَتْ، وَخَلُصَ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَكْفِي بِالْكِتَابَةِ، بَطَلَ الْفَسْخُ، وَأَدَّى الْمَالَ وَعَتَقَ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمُكَاتَبُ، وَشَرْطُهُ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا، فَلَا تَصِحُّ كِتَابَةُ مَجْنُونٍ، وَلَا صَبِيٍّ وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا، وَلَا مُكْرَهٍ. وَلَوْ كَاتَبَ الْبَالِغُ لِنَفْسِهِ وَلِأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ، لَمْ يَصِحَّ لَهُمْ. وَفِي صِحَّتِهَا لِنَفْسِهِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ أَوِ الْمَجْنُونَ وَقَالَ فِي كِتَابَتِهِ: إِذَا أَدَّيْتَ كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، عَتَقَ، هَكَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ. ثُمَّ قِيلَ: يَعْتِقُ بِحُكْمِ كِتَابَةٍ فَاسِدَةٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِعِتْقِهِ إِلَّا بِعِوَضٍ. فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا دَفَعَ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَ لِمَا جَرَى - حُكْمُ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ فِي التَّرَاجُعِ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا تَصِحُّ كِتَابَةُ عَبْدٍ مَرْهُونٍ ; لِأَنَّهُ مُرْصَدٌ لِلْبَيْعِ، وَلَا مُسْتَأْجَرٌ ; لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْمَنْفَعَةَ، وَتَصِحُّ كِتَابَةُ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَالْمُدَبَّرِ، وَالْمُسْتَوْلَدَةِ. وَفِي الْمُسْتَوْلَدَةِ وَجْهٌ. وَلَوْ قَبِلَ الْكِتَابَةَ مِنَ السَّيِّدِ أَجْنَبِيٌّ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنِ الْعَبْدِ كَذَا فِي نَجْمَيْنِ، فَإِذَا أَدَّاهَا، عَتَقَ الْعَبْدُ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَخُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ. وَالثَّانِي: لَا، لِمُخَالَفَةِ مَوْضُوعِ الْبَابِ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، فَهَلْ تَجُوزُ حَالَّةً؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْهَا، فَأَدَّى - عَتَقَ الْعَبْدُ بِالصِّفَةِ، وَيَرْجِعُ الْمُؤَدِّي عَلَى السَّيِّدِ بِمَا أَدَّى، وَالسَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ.

فصل

قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا كَاتَبَ بَعْضَ عَبْدِهِ، إِنْ كَانَ بَاقِيهِ حُرًّا، صَحَّتِ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّهَا اسْتَغْرَقَتِ الرَّقِيقَ مِنْهُ، فَإِنْ كَاتَبَ جَمِيعَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، بَطَلَتْ فِي الْحُرِّ مِنْهُ. وَفِي الْبَاقِي قَوْلًا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ يُعْتَقَدُ الرِّقُّ فِي جَمِيعِهِ، فَبَانَ بَعْضُهُ حُرًّا. فَإِنْ قُلْنَا: تَفْسُدُ لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْمُسَمَّى؛ لِتَتَحَقَّقَ الصِّفَةُ، فَإِذَا عَتَقَ اسْتَرَدَّ مِنَ السَّيِّدِ مَا أَدَّى، وَلِلسَّيِّدِ قِسْطُ الْقَدْرِ الَّذِي كَاتَبَهُ مِنَ الْقِيمَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى، أَمْ قِسْطَ الرَّقِيقِ مِنَ الْقِيمَةِ؟ قَوْلَانِ، كَالْبَيْعِ إِذَا أَجَازَهُ فِي الْمَمْلُوكِ. أَمَّا إِذَا كَاتَبَ بَعْضَ عَبْدٍ، وَبَاقِيهِ [رَقِيقٌ] ، فَلِلرَّقِيقِ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ أَيْضًا، فَلَا تَصِحُّ كِتَابَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. فَإِنْ صَحَّحْنَا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيِّدِ مُهَايَأَةٌ، وَكَسَبَ النُّجُومَ فِي نَوْبَتِهِ، فَأَدَّاهَا عَتَقَ الْقَدْرُ الَّذِي كَاتَبَهُ وَسَرَى إِلَى الْبَاقِي. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةٌ، فَكَسْبُهُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَسَبَ مَا يَفِي بِقِسْطِ السَّيِّدِ وَالنُّجُومِ، عَتَقَ، وَإِنْ لَمْ يَكْسِبْ إِلَّا قَدْرَ النُّجُومِ، فَفِي الْعِتْقِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُ نَظِيرَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْهَا، فَهِيَ كِتَابَةٌ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ أَدَّى الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَهَا السَّيِّدُ، عَتَقَ وَالسِّرَايَةُ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا أَدَّى، وَيَرْجِعُ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِسْطِ الْقَدْرِ الْمُكَاتَبِ مِنَ الْقِيمَةِ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِسْطِ مَا سَرَى الْعِتْقُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ بِحُكْمِ الْكِتَابَةِ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي لِغَيْرِهِ، فَإِذَا كَاتَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ، إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْآخَرِ، فَقَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ الْآخَرَ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّرَدُّدِ وَالْمُسَافَرَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِ سَهْمُ الْمُكَاتَبِينَ مِنَ الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، كَمَا يَصِحُّ إِعْتَاقُ بَعْضِهِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ. فَإِنْ أَفْسَدْنَا كِتَابَةَ الشَّرِيكِ، فَلِلسَّيِّدِ إِبْطَالُهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَدَفَعَ الْعَبْدُ إِلَى الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْهُ بَعْضَ كَسْبِهِ، وَإِلَى الَّذِي كَاتَبَ بَعْضَهُ بِحَسَبِ الْمِلْكِ حَتَّى أَدَّى مَالَ الْكِتَابَةِ عَتَقَ، وَيُقَوَّمُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ عَلَى الَّذِي كَاتَبَ بِشَرْطِ يَسَارِهِ، وَيَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ، وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْعَبْدِ بِقِسْطِ الْقَدْرِ الَّذِي كَاتَبَهُ مِنَ الْقِيمَةِ. وَإِنْ دَفَعَ جَمِيعَ مَا كَسَبَهُ إِلَى الَّذِي كَاتَبَهُ حَتَّى تَمَّ قَدْرُ النُّجُومِ فَوَجْهَانِ، وَنَقَلَهُمَا الصَّيْدَلَانِيُّ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ يَتَعَلَّقُ بِحُصُولِ الصِّفَةِ، وَقَدْ حَصَلَتْ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي إِعْطَاءَ مَا تَمْلِكُهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ. وَأُجْرِيَ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَبْدًا، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَأَعْطَاهُ عَبْدًا مَغْصُوبًا، هَلْ يَحْصُلُ الْعِتْقُ؟ [فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَعْتِقُ] فَلِلَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِمَّا أَخَذَهُ الَّذِي كَاتَبَ، ثُمَّ إِنْ أَدَّى الْعَبْدُ تَمَامَ النُّجُومِ مِنْ حِصَّتِهِ مِنَ الْكَسْبِ عَتَقَ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ قُلْنَا: يَعْتِقُ فَيَأْخُذُ نَصِيبَهُ أَيْضًا. وَالتَّرَاجُعُ بَيْنَ الَّذِي كَاتَبَ وَالْعَبْدِ، وَسِرَايَةُ الْعِتْقِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَإِنْ صَحَّحْنَا كِتَابَةَ الشَّرِيكِ، فَدَفَعَ الْعَبْدُ مِنْ كَسْبِهِ إِلَى الَّذِي كَاتَبَهُ حِصَّتَهُ، أَوْ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْهُ مُهَايَأَةٌ، فَدَفَعَ مَا كَسَبَهُ فِي نَوْبَةِ

نَفْسِهِ إِلَى الَّذِي كَاتَبَهُ حَتَّى تَمَّتِ النُّجُومُ عَتَقَ، وَقُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ الشَّرِيكِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ عَنِ النُّجُومِ أَوْ أَعْتَقَهُ. وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ كُلَّ كَسْبِهِ حَتَّى تَمَّ قَدْرُ النُّجُومِ، فَقِيلَ: فِي حُصُولِ الْعِتْقِ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا تَفْرِيعًا عَلَى الْفَسَادِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إِذَا صَحَّتْ، غَلَبَ فِيهَا حُكْمُ الْعَارِضَاتِ. وَفِي الْعَارِضَاتِ تَسَلُّمُ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ كَعَدَمِهِ، وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ، فَالْمُغَلَّبُ فِيهَا حُكْمُ الصِّفَةِ. فَرْعٌ أَذِنَ الشَّرِيكُ فِي كِتَابَةِ نَصِيبِهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْإِذْنِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الشَّرِيكُ بِرُجُوعِهِ حَتَّى كَاتَبَ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بَعْدَ الْعَزْلِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ. وَلَوْ كَاتَبَ نَصِيبَهُ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ، وَجَوَّزْنَاهُ، فَأَرَادَ الْآخَرُ كِتَابَةَ نَصِيبِهِ، هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ. فَرْعٌ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ: كَاتَبْتُهُ بِإِذْنِكَ، فَأَنْكَرَ، فَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: قَدْ أَدَّى الْمَالَ عَتَقَ بِإِقْرَارِهِ، وَقُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ الشَّرِيكِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا. وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِالْأَدَاءِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَتِ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الَّذِي كَاتَبَ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْعَبْدُ. هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ، قَالَ: وَعِنْدَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّدَاعِي بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْمُكَاتَبِ، فَإِذَا ادَّعَى الْمُكَاتَبُ الْإِذْنَ، وَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ صُدَّقَ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُكَاتَبُ، وَثَبَتَتِ الْكِتَابَةُ.

فَرْعٌ إِذَا كَاتَبَ الشَّرِيكَانِ الْعَبْدَ مَعًا، أَوْ وَكَّلَا مَنْ كَاتَبَهُ، أَوْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَكَاتَبَهُ صَحَّتِ الْكِتَابَةُ قَطْعًا إِنِ اتَّفَقَتِ النُّجُومُ جِنْسًا وَأَجَلًا وَعَدَدًا، وَجَعَلَا حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النُّجُومِ بِحَسَبِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعَبْدِ، أَوْ أَطْلَقَا فَإِنَّهَا تُقَسَّمُ كَذَلِكَ. وَإِنِ اخْتَلَفَتِ النُّجُومُ فِي الْجِنْسِ، أَوْ قَدْرِ الْأَجَلِ، أَوِ الْعَدَدِ أَوْ شَرْطِ التَّسَاوِي فِي النُّجُومِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ، أَوْ بِالْعَكْسِ فَفِي صِحَّةِ كِتَابَتِهِمَا الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِكِتَابَةِ نَصِيبِهِ بِإِذْنِ الْآخَرِ. وَقِيلَ: تَبْطُلُ قَطْعًا، فَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِوَاءُ مِلْكِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الَّذِي تَكَاتَبَا فِيهِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. فَرْعٌ مَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ، لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ لِلْقَدْرِ الْمُكَاتَبِ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَوِ الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ وَجْهٌ وَقَوْلٌ، وَمَالَ الرُّويَانِيُّ إِلَى تَفْصِيلٍ حَسَنٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ لَا يَجُوزُ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ فِي الْيَوْمِ نَفْسِهِ. فَرْعٌ إِذَا كَاتَبَاهُ، ثُمَّ عَجَزَ، فَعَجَّزَهُ أَحَدُهُمَا، وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ، وَأَرَادَ الْآخَرُ إِنْظَارَهُ وَإِبْقَاءَ الْكِتَابَةِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَابْتِدَاءِ الْكِتَابَةِ، فَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إِذْنِ الشَّرِيكِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا بِإِذْنِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْجَوَازِ بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ. وَهَلْ يَكُونُ التَّوَافُقُ عَلَى ابْتِدَاءِ الْكِتَابَةِ إِذْنًا فِي إِبْقَائِهَا؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُمَا

فصل

إِذَا تَوَافَقَا فَقَدْ رَضِيَا بِأَحْكَامِهَا. وَمِنْ أَحْكَامِهَا جَوَازُ الْإِنْظَارِ عَنِ الْعَجْزِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَجُعِلَ الْإِرْقَاقُ نَاقِضًا لِمَا جَرَى بِهِ الْإِذْنُ. وَلَوْ كَاتَبَ رَجُلٌ عَبْدَهُ، وَمَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، وَعَجَزَ الْمُكَاتَبُ، فَأَرَقَّهُ أَحَدُهُمَا، وَأَرَادَ الْآخَرُ إِنْظَارَهُ، فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ، وَأَوْلَى بِالْإِبْقَاءِ؛ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ أَوَّلًا مِنْ وَاحِدٍ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَاتَبَ بَعْضَ عَبْدِهِ. فَصْلٌ قَدْ ذَكَرْنَا الْكِتَابَةَ الصَّحِيحَةَ بِأَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا. فَأَمَّا الَّتِي لَا تَصِحُّ، فَتَنْقَسِمُ إِلَى بَاطِلَةٍ وَفَاسِدَةٍ. أَمَّا الْبَاطِلَةُ فَهِيَ الَّتِي اخْتَلَّ بَعْضُ أَرْكَانِهَا، بِأَنْ كَانَ السَّيِّدُ صَبِيًّا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ مُكْرَهًا عَلَى الْكِتَابَةِ، أَوْ كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ، أَوْ كَاتَبَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَبْدَهُمَا، أَوْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ عِوَضٍ، أَوْ ذِكْرُ مَا لَا يُقْصَدُ، وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِ، كَالْحَشَرَاتِ، وَالدَّمِ، أَوِ اخْتَلَّتِ الصِّيغَةُ، بِأَنْ فُقِدَ الْإِيجَابُ أَوِ الْقَبُولُ، أَوْ لَمْ يُوَافِقْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ، فَهِيَ الَّتِي اخْتَلَّتْ صِحَّتُهَا لِشَرْطٍ فَاسِدٍ فِي الْعِوَضِ، بِأَنْ ذَكَرَ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ مَجْهُولًا، أَوْ لَمْ يُؤَجِّلْهُ، أَوْ لَمْ يُنَجِّمْهُ، أَوْ كَاتَبَ بَعْضَ الْعَبْدِ. وَضَبَطَهَا الْإِمَامُ فَقَالَ: إِذَا صَدَرَتِ الْكِتَابَةُ إِيجَابًا وَقَبُولًا مِمَّنْ تَصِحُّ عِبَارَتُهُ، وَظَهَرَ اشْتِمَالُهَا الْمَالِيَّةَ، لَكِنَّهَا لَمْ تَجْمَعْ شَرَائِطَ الصِّحَّةِ، فَهِيَ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ، وَجَعَلَ الصَّيْدَلَانِيُّ الْكِتَابَةَ عَلَى دَمٍ أَوْ مَيْتَةٍ كِتَابَةً فَاسِدَةً، كَالْكِتَابَةِ عَلَى خَمْرٍ.

إِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْكِتَابَةُ الْبَاطِلَةُ لَاغِيَةٌ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ بِالتَّعْلِيقِ، وَهُوَ مِمَّنْ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ ثَبَتَ حُكْمُ التَّعْلِيقِ. وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ، فَإِنَّهَا تُشَارِكُ الصَّحِيحَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ عَلَى الْأَثَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ فَاسِدِهَا وَصَحِيحِهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكِتَابَةِ الْعِتْقُ، وَهُوَ لَا يَبْطُلُ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى فَاسِدٍ. قَالَ الْأَصْحَابُ: تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: التَّعْلِيقُ الْخَالِي عَنِ الْمُعَاوَضَةِ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، أَوْ كَلَّمْتُ فَلَانًا، فَأَنْتَ حُرٌّ. وَمِنْ هَذَا: إِنْ أَدَّيْتَ إِلَيَّ كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِنَّ الْمَالَ لَيْسَ مَذْكُورًا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ، فَهَذَا الْقِسْمُ لَازِمٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ، وَلَا لِلْعَبْدِ، وَلَا لَهُمَا رَفْعُهُ بِالْقَوْلِ، وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ. وَإِذَا وُجِدَتِ الصِّفَةُ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ عَتَقَ، وَكَسْبُهُ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ لِلسَّيِّدِ. وَلَوْ أَبْرَأَهُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ عَنِ الْمَالِ لَمْ يَعْتِقْ، وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَبَيْنَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّعْلِيقُ فِي عَقْدٍ يَغْلِبُ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ الصَّحِيحَةُ، وَسَتَأْتِي أَحْكَامُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثُ: التَّعْلِيقُ فِي عَقْدٍ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَيَغْلِبُ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ، وَهِيَ كَالصَّحِيحَةِ فِي أَحْكَامٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الْعَبْدُ الْمُسَمَّى عَتَقَ بِمُوجِبِ التَّعْلِيقِ، وَلَا يُعْتَقُ بِإِبْرَاءِ السَّيِّدِ، وَلَا بِأَدَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ تَبَرُّعًا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَحْصُلُ بِهِمَا. وَلَوِ اعْتَاضَ عَنِ الْمُسَمَّى لَمْ يُعْتَقْ أَيْضًا.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِالِاكْتِسَابِ، فَيَتَرَدَّدُ وَيَتَصَرَّفُ، فَيُؤَدِّي الْمُسَمَّى وَيُعْتَقُ. وَإِذَا أَدَّى، فَمَا فَضَلَ مِنَ الْكَسْبِ، فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَةَ كَالصَّحِيحَةِ فِي حُصُولِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الْكَسْبِ، وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ جَارِيَةٍ كَكَسْبِهِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَتَقَ تَبِعَهُ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ. وَهَلْ يَتْبَعُ الْمُكَاتَبَةَ كِتَابَةً فَاسِدَةً وَلَدُهَا؟ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: نَعَمْ، كَالْكَسْبِ. وَالثَّانِي: قَوْلَانِ، كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ التَّدْبِيرِ فِي وَلَدِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ. الثَّالِثُ: ذَكَرَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَلَّ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنِ السَّيِّدِ، وَأَنَّ مُعَامَلَتَهُ كَالْمُكَاتَبِ كِتَابَةً صَحِيحَةً. وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُ مَعَ السَّيِّدِ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ، كَمَا فِي الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَلَعَلَّ هَذَا أَقْوَى. فَرْعٌ الْمُكَاتَبُ كِتَابَةً صَحِيحَةً، هَلْ لَهُ السَّفَرُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ؟ فِيهِ نَصَّانِ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْكَسْبِ، وَلِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَلَمْ يُمْنَعِ السَّفَرُ. وَقِيلَ: نَصُّ الْجَوَازِ مَحْمُولٌ عَلَى سَفَرٍ قَصِيرٍ، وَالْمَنْعُ عَلَى طَوِيلٍ. وَقِيلَ: الْجَوَازُ إِذَا لَمْ يَحِلَّ النَّجْمُ، وَالْمَنْعُ إِذَا حَلَّ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَكَاتَبِ كِتَابَةً فَاسِدَةً؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا. فَرْعٌ تُفَارِقُ الْفَاسِدَةُ الصَّحِيحَةَ فِي أُمُورٍ. أَحَدُهَا: إِذَا أَدَّى الْمُسَمَّى فِي الْفَاسِدَةِ، وَعُتِقَ، رَجَعَ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا أَدَّى، وَرَجَعَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْعِتْقِ. وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ يَوْمِ الْعَقْدِ، فَإِنْ هَلَكَ الْمُسَمَّى فِي يَدِ السَّيِّدِ، رَجَعَ الْعَتِيقُ بِثُلُثِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ

عَلَى السَّيِّدِ مِنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ، بِأَنْ كَانَ غَالِبَ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَهُوَ عَلَى أَقْوَالٍ التَّقَاصُّ، وَسَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا حَصَلَ التَّقَاصُّ وَفَضَلَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ رَجَعَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ التَّرَاجُعَ إِذَا كَانَ الْمُسَمَّى مَالًا، فَإِنْ كَانَ خَمْرًا أَوْ نَحْوَهُ، لَمْ يَرْجِعِ الْعَتِيقُ عَلَى السَّيِّدِ بِشَيْءٍ، وَيَرْجِعِ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ. الثَّانِي: لِلسَّيِّدِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، بِخِلَافِ الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ فَسَخَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، لِيَحْكُمَ بِإِبْطَالِهَا أَوْ يَفْسَخَهَا. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مَعِيبًا، لَهُ أَنْ يَفْسَخَ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيَفْسَخَ، وَلَا يُبْطِلُهَا الْقَاضِي بِغَيْرِ طَلَبِ السَّيِّدِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: لَا سَبِيلَ إِلَى إِبْطَالِ الْفَاسِدَةِ بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهَا يَحْصُلُ بِالتَّعْلِيقِ، وَالتَّعْلِيقُ لَا يَصِحُّ إِبْطَالُهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِذَا فَسَخَهَا، أَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِإِبْطَالِهَا، ثُمَّ أَدَّى الْمُسَمَّى لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَعْلِيقًا، فَهُوَ فِي ضِمْنِ مُعَاوَضَتِهِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتِ الْمُعَاوَضَةُ، ارْتَفَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّعْلِيقِ، وَلِيُشْهِدِ السَّيِّدُ عَلَى الْفَسْخِ، فَإِنْ أَدَّى الْمُسَمَّى، وَقَالَ: أَدَّيْتُهُ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَقَالَ السَّيِّدُ: بَلْ بَعْدَهُ، صُدِّقَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْفَسْخِ وَعَلَى السَّيِّدِ الْبَيِّنَةُ. الثَّالِثُ: إِذَا أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ كِتَابَةً فَاسِدَةً لَا عَنْ جِهَةِ الْكِتَابَةِ أَوْ بَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ كَانَ فَسْخًا لِلْكِتَابَةِ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ أَجْزَأَهُ نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: إِذَا عَتَقَ لَا عَنْ جِهَةِ الْكِتَابَةِ، لَا يَتْبَعُهُ الْكَسْبُ وَالْوَلَدُ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ هُنَاكَ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ عَلَى السَّيِّدِ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، وَاسْتَحَقَّ اسْتِتْبَاعَ الْوَلَدِ

وَالْكَسْبِ، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِبْطَالُهُ، وَهُنَاكَ لَا اسْتِحْقَاقَ عَلَى السَّيِّدِ، فَجُعِلَ فَاسِخًا. قَالَ: وَعَرَضْتُ هَذَا عَلَى الْقَفَّالِ، فَاسْتَحْسَنَهُ، وَأَقَرَّنِي عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرَ غَيْرَهُ. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يَتْبَعُهُ الْوَلَدُ وَالْكَسْبُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. الرَّابِعُ: تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَلَا يُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ إِلَى الْوَارِثِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنْ قَالَ: إِنْ أَدَّيْتَ إِلَى وَارِثِي كَذَا بَعْدَ مَوْتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ، عَتَقَ بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِ. الْخَامِسُ: لَا يَجِبُ الْإِيتَاءُ فِي الْفَاسِدَةِ. السَّادِسُ: لَوْ كَاتَبَ أَمَةً كِتَابَةً فَاسِدَةً، وَعَجَزَتْ عَنِ الْأَدَاءِ، فَأَرَقَّهَا، أَوْ فَسَخَ الْكِتَابَةَ قَبْلَ عَجْزِهَا، لَمْ يَجِبْ الِاسْتِبْرَاءُ، بِخِلَافِ الصَّحِيحَةِ. السَّابِعُ: لَوْ عَجَّلَ النُّجُومَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، فَهَلْ يُعْتَقُ كَالصَّحِيحَةِ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تُوجَدْ عَلَى وَجْهِهَا؟ وَجْهَانِ. قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنُ: مَنْ يُلْزِمُ السَّيِّدَ فِطْرَةَ الْمُكَاتَبِ كِتَابَةً فَاسِدَةً. التَّاسِعُ: هَلْ يُصْرَفُ سَهْمُ الْمُكَاتَبِينَ إِلَى الْمُكَاتَبِ كِتَابَةً فَاسِدَةً؟ وَجْهَانِ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الْمَنْعُ. الْعَاشِرُ: الْمُسَافِرَةُ مَمْنُوعَةٌ فِي الْفَاسِدَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، جَائِزَةٌ فِي الصَّحِيحَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا سَبَقَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ. هِيَ خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ: حُصُولُ الْعِتْقِ، وَيَتَعَلَّقُ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِتْقُ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ كُلِّ النُّجُومِ، وَكَذَا بِالْإِبْرَاءِ، وَفِي حُصُولِهِ بِالِاسْتِبْدَالِ عَنِ النُّجُومِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا جَوَّزْنَا الْحَوَالَةَ بِالنُّجُومِ، أَوْ عَلَيْهَا حَصَلَ الْعِتْقُ بِنَفْسِ الْحَوَالَةِ. وَلَوْ أَدَّى بَعْضَ النُّجُومِ، أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِهَا، لَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْهُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْجَمِيعِ، لِلْحَدِيثِ الْحَسَنِ «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَلَوْ كَاتَبَ عَبِيدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَذْهَبَ صِحَّتُهَا، وَأَنَّهُ إِذَا أَدَّى بَعْضُهُمْ حِصَّتَهُ، عَتَقَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْآخَرُونَ شَيْئًا. وَلَوْ كَاتَبَ اثْنَانِ عَبْدَهُمَا مَعًا، فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمَا فِي الْأَدَاءِ، وَلَا يُعْتَقُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا بِأَدَاءِ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ كَاتَبَ إِنْسَانٌ عَبْدًا، وَمَاتَ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ، فَأَدَّى نَصِيبَ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ، لَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ أَدَّى بِإِذْنِهِ، فَفِي عِتْقِهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ: لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ بِجُنُونِ السَّيِّدِ، وَلَا الْعَبْدِ، وَلَا بِإِغْمَائِهِمَا، فَإِنْ جُنَّ السَّيِّدُ، فَعَلَى الْمُكَاتَبِ تَسْلِيمُ النُّجُومِ إِلَى وَلِيِّهِ، فَإِنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ، لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ فَاسِدٌ. وَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِتَقْصِيرِهِ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ شَيْءٌ آخَرُ يُؤَدِّيهِ، فَلِلْوَلِيِّ تَعْجِيزُهُ. وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ، فَهُوَ كَالْجُنُونِ. فَلَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ إِلَيْهِ فِي حَالِ الْحَجْرِ، وَعَجَّزَهُ الْوَلِيُّ، ثُمَّ رُفِعَ الْحَجْرُ عَنْهُ، اسْتَمَرَّ التَّعْجِيزُ. وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمُرْتَدِّ إِذَا

أَخَذَ النُّجُومَ، وَعَجَّزَ الْحَاكِمُ الْمُكَاتَبَ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ حَجْرَ السَّفَهِ أَقْوَى، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ قَطْعًا، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ فِي قَوْلٍ، وَلِأَنَّ حَجْرَ السَّفَهِ لِحِفْظِ مَالِهِ. فَلَوْ حُسِبَ عَلَيْهِ مَا أَخَذَهُ، وَأَتْلَفَهُ فِي حَالِ الْحَجْرِ لَمْ يَحْصُلْ حِفْظُ الْمَالِ، وَحَجْرُ الْمُرْتَدِّ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا أَسْلَمَ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِي مَالِهِ حَقٌّ. وَأَمَّا إِذَا جُنَّ الْمُكَاتَبُ، فَأَدَّى فِي جُنُونِهِ، أَوْ أَخَذَهُ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ أَدَاءٍ مِنْهُ فَيُعْتَقُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ النُّجُومِ مُسْتَحَقٌّ. وَلَوْ أَخَذَهَا الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضٍ مِنَ الْمُكَاتَبِ وَقَعَ مَوْقِعَهُ. هَذَا الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ عَسِرَ وُصُولُ السَّيِّدِ إِلَى حَقِّهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ قَبْضِ مَا يُصَادِفُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَمْكَنَ مُرَاجَعَةُ الْوَلِيِّ فَلَا وَجْهَ لِاسْتِبْدَادِهِ بِالْقَبْضِ. فَلَوِ اسْتَبَدَّ لَمْ يَصِحَّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فَلَوْ أُقْبِضَ الْمَجْنُونُ، لَمْ يَكُنْ لِإِقْبَاضِهِ حُكْمٌ. وَحَكَى قَوْلًا أَوْ وَجْهًا أَنَّ الْكِتَابَةَ تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ الْمُكَاتَبِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. هَذَا فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، أَمَّا الْفَاسِدَةُ، فَهَلْ تَبْطُلُ بِجُنُونِهِمَا وَإِغْمَائِهِمَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهُمَا نَعَمْ كَالشَّرِكَةِ، وَالثَّانِي: لَا كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَأَصَحُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: تَبْطُلُ بِجُنُونِ السَّيِّدِ وَإِغْمَائِهِ، وَبِالْحَجْرِ عَلَيْهِ، لَا بِجُنُونِ الْعَبْدِ وَإِغْمَائِهِ؛ لِأَنَّ الْحَظَّ فِي الْكِتَابَةِ لِلْعَبْدِ لَا لِلسَّيِّدِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ فَأَفَاقَ، وَأَدَّى الْمُسَمَّى عَتَقَ، وَثَبَتَ التَّرَاجُعُ. قَالُوا: وَكَذَا لَوْ أَخَذَ السَّيِّدُ فِي جُنُونِهِ، وَقَالُوا: يُنَصِّبُ السَّيِّدُ مَنْ يَرْجِعُ لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَ بِأَخْذِ السَّيِّدِ هُنَا. وَإِنْ قُلْنَا: يُعْتَقُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ هُنَا التَّعْلِيقُ، وَالصِّفَةُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهَا، بِالْأَدَاءِ مِنَ الْعَبْدِ فَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ قُلْنَا: يَبْطُلُ، فَأَدَّى الْمُسَمَّى لَمْ يُعْتَقْ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالتَّعْلِيقِ فِي الْفَاسِدَةِ يَتْبَعُهَا،

فَإِذَا بَطَلَتْ بَطَلَ التَّعْلِيقُ، كَمَا لَوْ فَسَخَهَا السَّيِّدُ. وَالثَّانِي: يُعْتَقُ، فَعَلَى هَذَا قَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ الْقَطْعُ بِأَنْ لَا تَرَاجُعَ؛ لِأَنَّ التَّرَاجُعَ مُقْتَضَى الْكِتَابَةِ [الْفَاسِدَةِ] وَقَدْ زَالَتْ، وَبَقِيَ التَّعْلِيقُ الْمَحْضُ. وَقِيلَ يَثْبُتُ، قَالَ: وَمَسَاقُهُ أَنْ يَتْبَعَهُ الْكَسْبُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. الثَّالِثَةُ: إِذَا كَاتَبَ الشَّرِيكَانِ مَعًا، ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ. وَهَلْ يَسْرِي إِلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا؟ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: يَسْرِي. وَفِي وَقْتِ السِّرَايَةِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: فِي الْحَالِ، لِئَلَّا تَتَبَعَّضَ الْحُرِّيَّةُ. وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يَثْبُتُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَفِي التَّعْجِيلِ ضَرَرٌ عَلَى السَّيِّدِ؛ لِفَوَاتِ الْوَلَاءِ، وَبِالْمُكَاتَبِ بِانْقِطَاعِ الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ عَنْهُ. فَإِنْ قُلْنَا: تَتَعَجَّلُ السِّرَايَةُ، فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، أَمْ يَسْرِي الْعِتْقُ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: تَنْفَسِخُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ أَقْوَى مِنَ الْكِتَابَةِ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ كُلُّهُ عَلَى الشَّرِيكِ لِلْمُعْتِقِ، وَيَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ. وَالثَّانِي: يَسْرِي الْعِتْقُ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّ الْغَيْرِ، فَعَلَى هَذَا وَلَاءُ النِّصْفِ الْآخَرِ لِلشَّرِيكِ، لَا لِلْمُعْتِقِ حِينَئِذٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُتَعَجَّلُ السِّرَايَةُ، فَأَدَّى نَصِيبَ الْآخَرِ مِنَ النُّجُومِ عَتَقَ عَنِ الْكِتَابَةِ، وَكَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ عَجَزَ، وَعَادَ إِلَى الرِّقِّ ثَبَتَتِ السِّرَايَةُ حِينَئِذٍ، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِنَفْسِ الْعَجْزِ، أَمْ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، أَمْ يَثْبُتُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ حُصُولُ التَّعْلِيقِ مِنْ وَقْتِ الْعَجْزِ، وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ عَلَى قَوْلِنَا بِتَعْجِيلِ السِّرَايَةِ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْعَجْزِ، فَقَدَ [مَاتَ] بَعْضُهُ رَقِيقًا وَبَعْضُهُ حُرًّا. وَهَلْ يُورَثُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي الْفَرَائِضِ. وَلَوْ أَبْرَأَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَالْقَوْلُ

فِي السِّرَايَةِ، وَفِي وَقْتِهَا كَمَا ذَكَرْنَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ. وَلَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنَ النُّجُومِ بِرِضَى صَاحِبِهِ، فَهَلْ يُعْتَقُ نَصِيبُهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: يُعْتَقُ، فَهُوَ كَالْإِعْتَاقِ فِي السِّرَايَةِ وَوَقْتِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى الْقَبْضِ فَلَا يَسْرِي؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي إِنْشَاءِ الْكِتَابَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ إِجْبَارَهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَنَصِيبِي حُرٌّ، فَإِذَا طَلَعَتْ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَسَرَى؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّعْلِيقِ. وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدًا وَمَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، فَعَتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَقُلْنَا: يُعْتَقُ نَصِيبُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَسْرِ؛ لِأَنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى الْقَبْضِ وَابْتِدَاءُ الْكِتَابَةِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ. فَرْعٌ قَالَ الْعَبْدُ لِمَالِكَيْهِ وَقَدْ كَاتَبَاهُ: قَدْ أَعْطَيْتُكُمَا النُّجُومَ، وَأَنْكَرَا، صُدِّقَا بِالْيَمِينِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُصَدِّقِ، وَيُصَدَّقُ الْمُكَذِّبُ بِيَمِينِهِ. وَهَلْ يَسْرِي الْعِتْقُ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمَذْهَبُ: الْمَنْعُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي غَيْرِ النَّجْمِ الْأَخِيرِ كَالِاخْتِلَافِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ الْأَخِيرِ. وَلَوْ قَالَ الْمُكَاتَبُ لِأَحَدِهِمَا: دَفَعْتُ إِلَيْكَ جَمِيعَ النُّجُومِ لِتَأْخُذَ نَصِيبَكَ، وَتَدْفَعَ نَصِيبَ الْآخَرِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: دَفَعْتَ إِلَيَّ نَصِيبِي، وَدَفَعْتَ نَصِيبَ الْآخَرِ إِلَيْهِ بِنَفْسِكَ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ الْقَبْضَ، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ، وَصُدِّقَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَ الْآخَرِ بِيَمِينِهِ، وَصُدِّقَ الْآخَرُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ

نَصِيبَهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا. ثُمَّ يُتَخَيَّرُ الْمُنْكِرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ مِنَ النُّجُومِ مِنَ الْعَبْدِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُقِرِّ نِصْفَ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ مُتَعَلَّقُ حَقِّهِمَا بِالشَّرِكَةِ، وَيَأْخُذُ الْبَاقِي مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِدَفْعِ الْمُشَارَكَةِ عَنْهُ. وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَمَّا طَالَبَ الْمُنْكِرَ بِهِ، فَلَهُ تَعْجِيزُهُ وَإِرْقَاقُ نَصِيبِهِ. ثُمَّ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» أَنَّهُ يُقَوَّمُ مَا أَرَقَّهُ عَلَى الْمُقِرِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ سَلَمَةَ، وَابْنُ خَيْرَانَ إِلَى الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَجَعَلُوا التَّقْوِيمَ عِنْدَ الْعَجْزِ فِي الصُّورَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَامْتَنَعَ الْجُمْهُورُ مِنْ نَقْلِهِ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ هُنَاكَ يَقُولُ: أَنَا حُرٌّ كَامِلُ الْحَالِ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّقْوِيمَ، وَهُنَا يَعْتَرِفُ بِأَنَّ نَصِيبَ الْمُنْكِرِ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ. وَلَوْ قَالَ الْمُكَاتَبُ لِأَحَدِهِمَا: دَفَعْتُ النُّجُومَ إِلَيْكَ لِتَأْخُذَ نَصِيبَكَ وَتَدْفَعَ نَصِيبَ الْآخَرِ إِلَيْهِ، كَمَا صَوَّرْنَا، فَقَالَ فِي الْجَوَابِ: قَدْ فَعَلْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَأَنْتَ عَتِيقٌ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ، وَصُدِّقَ الْمُنْكِرُ بِيَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ بَقِيَ نَصِيبُهُ مُكَاتَبًا، وَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِ حِصَّتِهِ مِنَ الْمُكَاتَبِ، وَبَيْنَ أَخْذِهِ مِنَ الْمُقِرِّ لِإِقْرَارِهِ بِأَخْذِهَا، وَمِنْ أَيِّهِمَا أَخَذَ، عَتَقَ نَصِيبُهُ. ثُمَّ إِنْ أَخَذَهَا مِنَ الْمُكَاتَبِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الشَّرِيكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَخَذَهَا مِنَ الْمُقِرِّ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ. فَإِذَا اخْتَارَ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ، فَلَمْ يَأْخُذْ حِصَّتَهُ مِنَ الْمُقِرِّ، وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى الْمُنْكِرِ، وَعَجَّزَ نَفْسَهُ، فَنِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ، فَيُقَوَّمُ عَلَى الْمُقِرِّ فَيَأْخُذُ الْمُنْكِرُ مِنْهُ قِيمَةَ النِّصْفِ، وَيَأْخُذُ أَيْضًا مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ كَسَبَ النِّصْفَ الَّذِي كَانَ مِلْكَهُ.

الرَّابِعَةُ: كَاتَبَ عَبْدًا وَمَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، فَهُمَا قَائِمَانِ مَقَامَهُ فِي أَنَّهُمَا إِذَا أَعْتَقَاهُ أَوْ أَبْرَآهُ عَنِ النُّجُومِ عَتَقَ، وَكَذَا لَوِ اسْتَوْفَيَاهَا. وَلَوْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، أَوْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يُعْتَقُ نَصِيبُهُ بِالْإِبْرَاءِ حَتَّى يُبْرِئَهُ الْآخَرُ، أَوْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا فَأَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ النُّجُومِ. وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُبْرِئْهُ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، وَهُنَا أَبْرَأَهُ الِابْنُ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يُبْرِئُهُ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ الِابْنُ نَصِيبَهُ، أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ يُعْتَقُ، وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: مُقْتَضَى سِيَاقِ «الْمُخْتَصَرِ» حُصُولُ قَوْلَيْنِ فِي عِتْقِ نَصِيبِهِ. أَحَدُهُمَا: الْعِتْقُ، وَأَظْهَرُهُمَا: الْمَنْعُ بَلْ يُوقَفُ، فَإِنْ أَدَّى نَصِيبَ الْآخَرِ عَتَقَ كُلُّهُ، وَالْوَلَاءُ لِلْأَبِ وَإِنْ عَجَزَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، عَتَقَ الْآنَ نَصِيبُهُ. ثُمَّ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ وَلَاءُ مَا عَتَقَ، وَالْبَاقِي قِنٌّ لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي، وَبَطَلَتْ كِتَابَةُ الْأَبِ، وَكَانَ وَلَاءُ الْجَمِيعِ لِلِابْنِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ، لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَجْزِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَبْطُلُ بِالْعَجْزِ، وَالْعِتْقُ فِي غَيْرِ الْكِتَابَةِ لَا يَحْصُلُ بِالْإِبْرَاءِ، وَالْمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْأَصْحَابِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الَّذِي أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، أَوْ أَبْرَأَهُ مُعْسِرًا، بَقِيَتِ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، فَإِنْ عَجَزَ عَادَ قِنًّا، وَإِنْ أَدَّى وَعُتِقَ، فَوَلَاؤُهُ لِلْأَبِ. وَأَمَّا وَلَاءُ نَصِيبِ الْأَوَّلِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لِلْأَبِ أَيْضًا. وَقِيلَ: لِلِابْنِ، وَقِيلَ: إِنْ أَعْتَقَهُ فَلَهُ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ فَلِلْأَبِ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَهَلْ يَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ؟ إِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَمْنَعُ

السِّرَايَةَ فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ شَرِيكَانِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ السَّابِقَةَ تَقْتَضِي حُصُولَ الْعِتْقِ بِهَا، وَالْمَيِّتُ لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ، وَالِابْنُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَسْرِي، فَهَلْ يَسْرِي فِي الْحَالِ، أَوْ عِنْدَ الْعَجْزِ؟ قَوْلَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الشَّرِيكَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي فَإِنْ قُلْنَا يَسْرِي فِي الْحَالِ، فَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهَيْنِ فِي انْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ فِيمَا سَرَى الْعِتْقُ إِلَيْهِ، كَمَا حَكَاهُمَا فِي صُورَةِ الشَّرِيكَيْنِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: الِانْفِسَاخُ فِيهِ، وَإِثْبَاتُ وَلَائِهِ لِلْمُعْتِقِ، وَفِي وَلَاءِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لِلْمُعْتِقِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ بَقِيَ رَقِيقًا، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَهُمَا لِأَنَّهُ عَتَقَ بِحُكْمِ كِتَابَةِ الْأَبِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ، وَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِمَا بِالْعُصُوبَةِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ فِيمَا سَرَى إِلَيْهِ، فَوَلَاءُ الْجَمِيعِ لِلْأَبِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ السِّرَايَةَ تَثْبُتُ عِنْدَ الْعَجْزِ، فَإِنْ أَدَّى نَصِيبَ الْآخَرِ عَتَقَ كُلُّهُ، وَوَلَاؤُهُ لِلْأَبِ، وَإِنْ عَجَزَ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ، وَيَكُونُ وَلَاءُ الْجَمِيعِ لَهُ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ وَلَاءَ مَا سَرَى الْعِتْقُ إِلَيْهِ، وَقُوِّمَ عَلَيْهِ لَهُ. وَفِي وَلَاءِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ الْوَجْهَانِ. وَقَدْ يَخْتَصُّ الْوَجْهَانِ بِصُورَةِ الْإِعْتَاقِ. وَفِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ يَكُونُ وَلَاءُ النِّصْفِ لِلْأَبِ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمَا قَطْعًا، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَا سِرَايَةَ، فَنَصِيبُ الْآخَرِ مُكَاتَبٌ كَمَا كَانَ. فَإِنْ عَتَقَ بِأَدَاءٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ، أَوْ إِبْرَاءٍ، فَوَلَاءُ الْجَمِيعِ لِلْأَبِ. وَإِنْ عَجَزَ بَقِيَ نَصِيبُهُ رَقِيقًا. وَفِي وَلَاءِ نَصِيبِ الْأَوَّلِ الْوَجْهَانِ، هَلْ هُوَ لَهُ، أَمْ لَهُمَا؟ وَلَوْ قَبَضَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ نَصِيبَهُ مِنَ النُّجُومِ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ، فَهُوَ فَاسِدٌ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَقَوْلَانِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الشَّرِيكَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ صَحَّحْنَا فَقَالَ الْإِمَامُ: لَا سِرَايَةَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ. وَلَا سِرَايَةَ حَيْثُ حَصَلَ الْعِتْقُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّ الْقَوْلَ فِي عِتْقِ نَصِيبِهِ، وَفِي السِّرَايَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا

إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، أَوْ أَبْرَأَ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ بِلَا فَرْقٍ. وَلِمَنْ قَالَ بِهَذَا أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ مُجْبَرًا عَلَى الْقَبْضِ، وَيَقُولَ: لَهُ الْإِعْتَاقُ وَالْإِبْرَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُمَا، فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُجْبَرُ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَجَزَ عَنْ نَصِيبِ الثَّانِي، قَاسَمَ الْأَوَّلَ فِيمَا أَخَذَ، فَلَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ قَبْضِ مَا عَسَى الثَّانِي أَنْ يُزَاحِمَهُ فِيهِ. فَرْعٌ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَعَبْدًا، فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ أَبَاهُمَا كَاتَبَهُ، فَإِنْ كَذَّبَاهُ صُدِّقَا بِيَمِينِهِمَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِكِتَابَةِ الْأَبِ، فَإِنْ حَلَفَا فَذَاكَ، وَإِنْ نَكَلَا وَحَلَفَ الْعَبْدُ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ ثَبَتَتِ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، ثَبَتَ الرِّقُّ فِي نَصِيبِ الْحَالِفِ، وَتُرَدُّ الْيَمِينُ فِي نَصِيبِ النَّاكِلِ. فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً اشْتُرِطَ رَجُلَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحُرِّيَّةُ لَا الْمَالُ، وَإِنْ صَدَّقَاهُ، أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ، فَالْحُكْمُ مَا سَبَقَ قَبْلَ الْفَرْعِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، فَالْمُكَذِّبُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ. وَأَمَّا نَصِيبُ الْمُصَدِّقِ، فَالصَّحِيحُ ثُبُوتُ الْكِتَابَةِ فِيهِ، وَلَا يَضُرُّ التَّبْعِيضُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ. ثُمَّ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْمُصَدِّقِ عَلَى الْمُكَذِّبِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: شَهَادَتُهُ هَذِهِ تُثْبِتُ لَهُ حُقُوقًا، فَإِنَّ النُّجُومَ مَوْرُوثَةٌ، فَإِنْ شَهِدَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مِنَ النُّجُومِ، فَلَهُ غَرَضٌ فِي السِّرَايَةِ. فَإِنْ نَفَيْنَا السِّرَايَةَ اتَّجَهَ الْقَبُولُ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِأَنَّ نَصِيبَ الْمُصَدِّقِ مُكَاتَبٌ وَالْآخَرِ قِنٌّ، فَنِصْفُ الْكَسْبِ لَهُ، يُصْرَفُ فِي جِهَةِ النُّجُومِ، وَنِصْفُهُ لِلْمُكَذِّبِ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى مُهَايَأَةٍ،

لِيَكْسِبَ يَوْمًا لِنَفْسِهِ، وَيَوْمًا لِلْمُكَذِّبِ، أَوْ يَخْدِمَهُ جَازَ، وَلَا إِجْبَارَ عَلَيْهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا تَقْدِيرَ فِي النَّوْبَتَيْنِ فِي الْمُهَايَأَةِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: يُجَوِّزُ يَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً، فَإِنْ زَادَ كَسْبُهُ فَوَجْهَانِ. وَإِذَا أَدَّى النُّجُومَ، وَفَضَلَ شَيْءٌ مِمَّا كَسَبَ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ لَهُ. ثُمَّ إِنْ أَعْتَقَ الْمُصَدِّقُ نَصِيبَ نَفْسِهِ عَتَقَ. وَفِي سَرَايَتِهِ طَرِيقَانِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: قَوْلَانِ كَمَا لَوْ صَدَّقَاهُ، إِلَّا أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِالسِّرَايَةِ ثَبَتَ هُنَا فِي الْحَالِ، وَلَا يَجِيءُ الْقَوْلُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مُنْكِرٌ الْكِتَابَةَ، فَلَا يُمْكِنُ التَّوَقُّفُ إِلَى الْعَجْزِ، وَقِيلَ: تَثْبُتُ السِّرَايَةُ فِي الْحَالِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ مُنْكِرَ الْكِتَابَةِ يَقُولُ: هُوَ رَقِيقٌ لَهُمَا، فَإِذَا أَعْتَقَ صَاحِبَهُ ثَبَتَتِ السِّرَايَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا سِرَايَةَ، فَوَلَاءُ مَا عَتَقَ هَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا، أَمْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُصَدِّقُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي لِأَنَّ الْمُنْكِرَ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِالْإِنْكَارِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمَا، فَمَاتَ هَذَا الْعَبْدُ، وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ، وَقُلْنَا: إِنَّ مِثْلَهُ يُورَثُ، وُقِفَتْ حِصَّةُ الْمُنْكِرِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالسِّرَايَةِ، فَوَلَاءُ النِّصْفِ الَّذِي سَرَى الْعِتْقُ إِلَيْهِ، لِلْمُعْتِقِ، وَفِي وَلَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْمُصَدِّقُ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا سِرَايَةَ؛ لِأَنَّ مُنْكِرَ الْكِتَابَةِ لَا يَعْتَرِفُ بِعِتْقِ نَصِيبِهِ، وَيَعْتَقِدُ الْإِبْرَاءَ لَغْوًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي السِّرَايَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَدِّقِ مَقْبُولٌ فِي نَصِيبِهِ. فَإِذَا أَتَى بِمَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ، فَالسِّرَايَةُ بَعْدَهُ قَهْرِيَّةٌ، وَإِنْ أَدَّى نَصِيبَ الْمُصَدِّقِ مِنَ النُّجُومِ، فَلَا سِرَايَةَ. وَهَلْ يَكُونُ وَلَاءُ مَا عَتَقَ لَهُمَا، أَمْ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُصَدِّقُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ عَجَّزَهُ الْمُصَدِّقُ عَادَ قِنًّا، وَيَكُونُ الْكَسْبُ الَّذِي فِي يَدِهِ لِلْمُصَدِّقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَذِّبَ أَخَذَ حِصَّتَهُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَكْسَابِهِ، فَقَالَ الْمُصَدِّقُ: كَسَبْتُهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ أَخَذْتَ نَصِيبَكَ،

فَهُوَ لِي، وَقَالَ الْمُكَذِّبُ: بَلْ قَبْلَهَا، وَكَانَ لِلْأَبِ فَوَرِثْنَا صُدِّقَ الْمُصَدِّقُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَسْبِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا قَبَضَ النُّجُومَ فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً تَقَدَّمَ عَلَى هَذَا أَنَّ عِوَضَ الْكِتَابَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا دَيْنًا كَمَا سَبَقَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ نَقْدًا وَعَرَضًا مَوْصُوفًا، وَأَنَّ مَنْ لَهُ دَيْنٌ فَقَبَضَهُ فَوَجَدَهُ دُونَ الْمَشْرُوطِ، فَلَهُ رَدُّهُ، وَطَلَبُ مَا اسْتَحَقَّهُ، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ لَمْ يَمْلِكْهُ إِلَّا أَنْ يَعْتَاضَهُ حَيْثُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ. وَإِنِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ نَظَرَ هَلْ يَرْضَى بِهِ، فَإِنْ رَضِيَ، فَهَلْ نَقُولُ: مَلَكَهُ بِالرِّضَى، أَمْ نَقُولُ: مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ وَتَأَكَّدَ الْمِلْكُ بِالرِّضَى؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَإِنْ رَدَّهُ فَهَلْ نَقُولُ: مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ انْتَقَضَ الْمِلْكُ بِالرَّدِّ، أَمْ نَقُولُ: إِذَا رَدَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَسَائِلُ سَبَقَتْ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا. مِنْهَا: تَصَارَفَا فِي الذِّمَّةِ، وَتَقَابَضَا، وَتَفَرَّقَا، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا، فَرَدَّهُ، إِنْ قُلْنَا: [مَلَكَ] بِالْقَبْضِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ قُلْنَا: تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضٍ. وَمِنْهَا: أَسْلَمَ فِي جَارِيَةٍ، وَقَبَضَ جَارِيَةً، فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً فَرَدَّهَا، هَلْ عَلَى الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا؟ يُبْنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافُ. وَمِنْهَا: قَالَ الْإِمَامُ: الْمَوْصُوفُ فِي الذِّمَّةِ إِذَا قَبَضَهُ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا إِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُهُ بِالرِّضَى، فَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّدَّ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْمِلْكُ مَوْقُوفٌ عَلَى الرِّضَى، وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ

يُقَالَ: الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا فِي شِرَاءِ الْأَعْيَانِ، وَالْأَوْجَهُ: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْفَوْرُ فِيمَا يُؤَدِّي رَدُّهُ إِلَى رَفْعِ الْعَقْدِ إِبْقَاءً لِلْعَقْدِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ وَجَدَ السَّيِّدُ بِالنُّجُومِ الْمَقْبُوضَةِ أَوْ بَعْضِهَا عَيْبًا لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِهِ، أَوْ يَرُدَّهُ، وَيُطَالِبَ بِبَدَلِهِ سَوَاءٌ الْعَيْبُ الْيَسِيرُ وَالْفَاحِشُ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ، فَالْعِتْقُ نَافِذٌ قَطْعًا، وَيَكُونُ رِضَاهُ بِالْعَيْبِ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ. وَهَلْ يَحْصُلُ الْعِتْقُ مَنْ وَقْتِ الْقَبْضِ، أَمْ عِنْدَ الرِّضَى؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. وَإِنْ أَرَادَ الرَّدَّ وَالِاسْتِبْدَالَ، فَرَدَّ فَإِنْ قُلْنَا: نَتَبَيَّنُ بِالرَّدِّ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْقَبْضِ، فَلَا عِتْقَ، وَإِنْ أَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الصِّفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ حَصَلَ الْعِتْقُ حِينَئِذٍ. وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ الْمِلْكُ فِي الْمَقْبُوضِ وَبِالرَّدِّ يَرْتَفِعُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ حَاصِلًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ بِصِفَةِ الْجَوَازِ، فَإِذَا رَدَّ الْعِوَضَ ارْتَدَّ. وَأَصَحُّهُمَا: نَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَحْصُلْ إِذْ لَوْ حَصَلَ لَمْ يَرْتَفِعْ، وَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ هُنَا بِصِفَةِ اللُّزُومِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ. وَلَوْ تَلِفَ عِنْدَ السَّيِّدِ مَا قَبَضَهُ، ثُمَّ عَرَفَ أَنَّهُ كَانَ مَعِيبًا، فَقَدْ قَدَّمَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي عَيْنٍ فَإِنْ رَضِيَ، فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ فَحَوَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ، أَنَّ الرِّضَى كَافٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِنْشَاءِ إِبْرَاءٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ كَالْعِوَضِ فِي الرَّدِّ، وَالرَّدُّ يَكْفِي فِي سُقُوطِ الرِّضَى، فَكَذَا الْأَرْشُ. وَإِنْ طَلَبَهُ تَقَرَّرَ، وَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِالْإِسْقَاطِ. وَأَمَّا النُّجُومُ، فَإِنْ رَضِيَ فَالْحَقُّ نَافِذٌ، وَيَعُودُ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ الرِّضَى أَمْ يَسْتَنِدُ إِلَى الْقَبْضِ؟ وَإِنْ طَلَبَ الْأَرْشَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَحْصُلْ، فَإِذَا أَدَّى

الْأَرْشَ حَصَلَ حِينَئِذٍ، وَإِنْ عَجَزَ فَلِلسَّيِّدِ إِرْقَاقُهُ، كَمَا لَوْ عَجَزَ بِبَعْضِ النُّجُومِ. وَيَجِيءُ الْوَجْهُ الْآخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ بَعْدَ حُصُولِهِ. وَفِي قَدْرِ الْأَرْشِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ قَدْرِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ بِحَسَبِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ قِيمَةِ النُّجُومِ، وَبِهَذَا قَطَعَ السَّرَخْسِيُّ. وَالثَّانِي: مَا نَقَصَ مِنَ النُّجُومِ الْمَقْبُوضَةِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ. وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ تَرْجِيحَ هَذَا الْوَجْهِ، وَأُجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِي كُلِّ عَقْدٍ وَرَدَ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَأَمْثَلُ مِنْهُمَا أَنْ يُقَالَ: يَغْرَمُ السَّيِّدُ مَا قَبَضَ، وَيُطَالِبُهُ بِالْمُسَمَّى بِصِفَاتِهِ الْمَشْرُوطَةِ. أَمَّا إِذَا قَبَضَ النُّجُومَ، فَوَجَدَهَا نَاقِصَةَ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ، فَلَا يُعْتَقُ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ بَقِيَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ السَّيِّدِ أَمْ تَلِفَ فَإِنْ رَضِيَ بِالنَّاقِصِ، فَحِينَئِذٍ يُعْتَقُ بِالْإِبْرَاءِ عَنِ الْبَاقِي. السَّادِسَةُ: إِذَا خَرَجَ بَعْضُ النُّجُومِ مُسْتَحَقًّا، تَبَيَّنَ أَنْ لَا عِتْقَ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَاتَ رَقِيقًا، وَأَنَّ مَا تَرَكَهُ لِلسَّيِّدِ دُونَ الْوَرَثَةِ. وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ عِنْدَ الْأَخْذِ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ قَدْ عُتِقْتَ ثُمَّ بَانَ الِاسْتِحْقَاقُ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِالْحُرِّيَّةِ مُؤَاخَذَةً لَهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، وَهُوَ صِحَّةُ الْأَدَاءِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا وَكَانَ قَدْ قَالَ فِي مُخَاصَمَةِ الْمُدَّعِي: إِنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِلْبَائِعِ فُلَانٍ إِلَى أَنِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ أَنَّهُ هَلْ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ؟ وَجَزَمَ الْبَغَوِيُّ بِالْأَصَحِّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُكَاتَبُ: أَعْتَقْتَنِي بِقَوْلِكَ: أَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ السَّيِّدُ: أَرَدْتُ أَنَّكَ حُرٌّ بِمَا أَدَّيْتَ، وَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحِّ الْأَدَاءُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ بِيَمِينِهِ، وَهَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّ مُطْلَقَ قَوْلِ السَّيِّدِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ بِمَا أَدَّى، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ إِرَادَتَهُ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَقِيَاسُ تَصْدِيقِ السَّيِّدِ أَنَّهُ لَوْ

قِيلَ لِرَجُلٍ: طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، طَلَّقْتُهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي جَرَى طَلَاقٌ، وَقَدْ سَأَلْتُ الْمُفْتِينَ فَقَالُوا: لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ. وَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: بَلْ أَرَدْتَ إِنْشَاءَ الطَّلَاقِ أَوِ الْإِقْرَارَ بِهِ، أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي مِثْلِهِ فِي الْعِتْقِ، وَهَكَذَا قَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ، لَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ هَذَا عِنْدِي غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ جَرَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، فَقَبُولُ قَوْلِهِ فِي دَفْعِهِ مُحَالٌ. وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَمَا اسْتَقَرَّ إِقْرَارٌ بِخِلَافِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحُرِّيَّةِ عَقِيبَ قَبْضِ النُّجُومِ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْقَبْضُ، وَلَمْ تُوجَدِ الْإِشَارَةُ فِي الطَّلَاقِ إِلَى وَاقِعَةٍ، وَإِنَّمَا وُجِدَ سُؤَالٌ مُطْلَقٌ، وَجَوَابٌ مُطْلَقٌ. وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتَ حُرٌّ، إِنَّمَا يُقْبَلُ تَنْزِيلُهُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ بِمُوجِبِ الْقَبْضِ إِذَا رَتَّبَهُ عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنَّ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لَوْ وَجَدَ قَرِينَةً عِنْدَ الْإِقْرَارِ، بِأَنْ كَانَا يَتَخَاصَمَانِ فِي لَفْظَةٍ أَطْلَقَهَا، فَقَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ التَّأْوِيلَ، يُقْبَلُ، وَأَنَّ فِي الصُّورَتَيْنِ لَوِ انْفَصَلَ قَوْلُهُ عَنِ الْقَرَائِنِ لَمْ يُقْبَلِ التَّأْوِيلُ. وَهَذَا تَفْصِيلٌ قَوِيمٌ لَا بَأْسَ بِالْأَخْذِ بِهِ، لَكِنْ قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَنْتَ حُرٌّ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ حُرِّيَّتِهِ أَمِ ابْتِدَاءً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَبْضِ النُّجُومِ، أَوْ غَيْرَ مُتَّصِلٍ؛ لِشُمُولِ الْعُذْرِ. وَمَالَ لِذَلِكَ إِلَى قَبُولِ التَّأْوِيلِ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ. الْحُكْمُ الثَّانِي فِي الْأَدَاءِ. وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ إِيتَاءُ الْمُكَاتَبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى

: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النُّورِ: 33] وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ فِي «الْحِلْيَةِ» أَنَّ الْإِيتَاءَ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَالْإِيتَاءُ: أَنْ يَحُطَّ عَنِ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا مِنَ النُّجُومِ، أَوْ يَبْذُلَ شَيْئًا وَيَأْخُذَ النُّجُومَ، وَالْحَطُّ أَفْضَلُ، وَهَلْ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْبَذْلُ بَدَلٌ عَنْهُ، أَمْ بِالْعَكْسِ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الْأَوَّلُ، وَمَحَلُّ الْإِيتَاءِ الْكِتَابَةُ الصَّحِيحَةُ، وَلَا يَجِبُ فِي الْفَاسِدَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا كَفَى حَطُّ شَيْءٍ مِنَ الْقِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا. وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِعِوَضٍ، أَوْ بَاعَهُ نَفْسَهُ، فَلَا إِيتَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَجْهًا أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ عَقْدٍ عَتَاقَةٌ عَلَى عِوَضٍ، وَلَا يَجِبُ فِي الْإِعْتَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي وَقْتِ وُجُوبِ الْإِيتَاءِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: بَعْدَ الْعِتْقِ كَالْمُتْعَةِ؛ لِيَتَبَلَّغَ بِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: قَبْلَهُ لِيَسْتَعِينَ بِهِ فِي الْأَدَاءِ. وَعَلَى هَذَا، فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ. وَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ، فَمِنْ أَوَّلِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا بَعْدَ الْأَدَاءِ وَحُصُولِ الْعِتْقِ، لَكِنْ يَكُونُ قَضَاءً إِذَا أَوْجَبْنَا التَّقْدِيمَ عَلَى الْعِتْقِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الْإِيتَاءُ إِلَّا فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» : لَا يَتَقَدَّرُ، بَلْ يَكْفِي أَقَلُّ مَا يَتَمَوَّلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ، وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْعِتْقِ، فَيَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ، قَدَّرَهُ الْحَاكِمُ بِالِاجْتِهَادِ، وَنَظَرَ فِيهِ إِلَى قُوَّةِ الْعَبْدِ وَأَكْسَابِهِ. وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ حَالُ السَّيِّدِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ بِرُبْعِ الْعُشْرِ، قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا قُلْنَا: يُقَدِّرُهُ الْحَاكِمُ، فَقَدَّرَ شَيْئًا تَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ وَقْعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى [مَالِ] الْكِتَابَةِ كَفَى، وَإِنْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَا وَقْعَ لَهُ لَا يَكْفِي، وَإِنْ شَكَكْنَا فَخِلَافٌ؛ لِتَعَارُضِ أَصْلِ بَرَاءَةِ السَّيِّدِ وَأَصْلِ

بَقَاءِ وُجُوبِ الْإِيتَاءِ. أَمَّا الْمُسْتَحَبُّ، فَقَدْرُ الرُّبْعِ، وَقِيلَ: الثُّلُثُ، وَإِلَّا فَالسَّبْعُ. وَأَمَّا جِنْسُهُ، فَالْإِيتَاءُ بِالْحَطِّ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ نَفْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا الْبَدَلُ، فَإِنْ كَانَ الْمَبْذُولُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِ [الْكِتَابَةِ] كَبَذْلِ الدَّرَاهِمِ عَنِ الدَّنَانِيرِ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُكَاتَبَ قَبُولُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَشَذَّ الْغَزَالِيُّ بِتَرْجِيحِ اللُّزُومِ. فَلَوْ رَضِيَ بِهِ جَازَ قَطْعًا نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَلَا يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْعِبَادَاتِ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ قَالَ: إِذَا مَنَعْنَا نَقَلَ الزَّكَاةِ، وَانْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ، فَقَدْ نَقُولُ: لَهُمْ أَنْ يَعْتَاضُوا عُرُوضًا عَنْ حُقُوقِهِمْ، فَلَوْ كَانَ الْمَبْذُولُ مِنْ غَيْرِ مَالِ الْكِتَابَةِ، لَكِنْ مِنْ جِنْسِهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ: نَعَمْ، كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعَانَةُ. فَرْعٌ لَوْ مَاتَ السَّيِّدُ بَعْدَ أَخْذِ النُّجُومِ، وَقَبْلَ الْإِيتَاءِ، لَزِمَ الْوَرَثَةَ الْإِيتَاءُ، فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا تَوَلَّاهُ وَلِيُّهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ بَاقِيًا أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْهُ، وَلَا يُزَاحِمُهُ أَصْحَابُ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي عَيْنِهِ، أَوْ هُوَ كَالْمَرْهُونِ بِهِ، هَكَذَا قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْمَبْسُوطِ» . وَإِنْ لَمْ [يَكُنْ بَاقِيًا] فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ وَاجِبَ الْإِيتَاءِ لِضَعْفِهِ يُؤَخَّرُ عَنِ الدُّيُونِ، وَيَحْصُلُ فِي رُتْبَةِ الْوَصِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: بِقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي الِاجْتِهَادِ، فَأَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ فِي رُتْبَةِ الدُّيُونِ وَالزِّيَادَةِ فِي رُتْبَةِ الْوَصِيَّةِ لِضَعْفِهَا. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ مَا يُحْكَمُ بِوُجُوبِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصَايَا، فَإِنْ أَوْصَى بِزِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْوَصَايَا.

إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّجُومِ إِلَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ فِي الْإِيتَاءِ لَمْ يَسْقُطْ وَلَمْ يَحْصُلِ التَّقَاصُّ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ تَعْجِيزُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، لَكِنْ يَرْفَعُ الْمُكَاتَبُ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يَرَى بِرَأْيِهِ وَيَفَصِلَ الْأَمْرَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ جَعَلْنَا الْإِيتَاءَ أَصْلًا، فَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَهُ تَعْجِيزُهُ بِالْبَاقِي إِذَا لَمْ نَجِدْهُ وَإِذَا عَجَّزَهُ سَقَطَ الْإِيتَاءُ، وَارْتَفَعَ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا شُرِّعَ الْإِيتَاءُ لِئَلَّا يَعْجَزَ الْعَبْدُ بِقَدْرِهِ، وَلَا يُفَوِّتَ الْعِتْقَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا عَجَّلَ الْمُكَاتَبُ النُّجُومَ قَبْلَ الْمَحَلِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّيِّدِ ضَرَرٌ فِي الْقَبُولِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِأَنْ كَانَ لَا يَبْقَى بِحَالِهِ إِلَى وَقْتِ الْحُلُولِ كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ، أَلْزَمُهُ لَهُ مُؤْنَةً كَالْحَيَوَانِ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَى حِفْظٍ، أَوْ كَانَ فِي أَيَّامِ فِتْنَةٍ أَوْ غَارَةٍ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ. فَلَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدَ فِي وَقْتِ الْفِتْنَةِ وَالْغَارَةِ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَزُولُ عِنْدَ الْمَحَلِّ. وَلَوْ أَتَى بِالنُّجُومِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ فِي النَّقْلِ مُؤْنَةٌ، أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ أَوْ ذَلِكَ الْبَلَدُ مَخُوفًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِلَّا فَيُجْبَرُ. وَلَوْ أَتَى بِالنَّجْمِ فِي مَحَلِّهِ، وَالسَّيِّدُ غَائِبٌ، قَبَضَ الْقَاضِي عَنْهُ، وَكَذَا يَقْبِضُ عَنْهُ إِذَا امْتَنَعَ وَهُوَ حَاضِرٌ، وَيَعْتِقُ الْمُكَاتَبَ. وَلَوْ أَتَى بِالنَّجْمِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَالسَّيِّدُ غَائِبٌ، قَبَضَ عَنْهُ أَيْضًا إِذَا عَلِمَ أَنَّ السَّيِّدَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي أَخْذِهِ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ لِلْغَائِبِ دَيْنٌ عَلَى حُرٍّ، فَأَذِنَ لَهُ الْحَاكِمُ،

هَلْ يَقْبِضُهُ لِلْغَائِبِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُؤَدِّي غَرَضٌ إِلَّا سُقُوطَ الدَّيْنِ عَنْهُ، وَالنَّظَرُ لِلْغَائِبِ أَنْ يَبْقَى الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْمَلِيءِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَصِيرَ أَمَانَةً عِنْدَ الْحَاكِمِ. فَرْعٌ إِذَا أَتَى الْمُكَاتَبُ بِالنُّجُومِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: هَذَا حَرَامٌ، أَوْ مَغْصُوبٌ، نُظِرَ إِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ لَمْ يَجْبُرْ عَلَى قَبُولِهِ، وَتُسْمَعْ مِنْهُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ فِي إِقَامَتِهَا غَرَضًا ظَاهِرًا، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْحَرَامِ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ كَثِيرُونَ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: إِنَّمَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ إِذَا عَيَّنَ لَهُ مَالِكًا، [أَمَّا] إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ، فَلَا تُتَصَوَّرُ الْبَيِّنَةُ لِلْمَجْهُولِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مَغْصُوبٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَهُ؛ لِظَاهِرِ الْيَدِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ السَّيِّدُ، وَكَانَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فِي وَجْهٍ: لَا يَحْتَاجُ السَّيِّدُ إِلَى بَيِّنَةٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَا تَثْبُتُ [بَيِّنَةُ] السَّيِّدِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ الَّذِي عَيَّنَهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِحَلِفِ الْمُكَاتَبِ حَقُّهُ، ثُمَّ إِذَا حَلَفَ الْمُكَاتَبُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى قَبُولِهِ، أَوْ إِبْرَائِهِ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُمَا، أَخَذَ الْحَاكِمُ تِلْكَ النُّجُومَ، وَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ. وَقِيلَ: فِي إِجْبَارِهِ عَلَى الْأَخْذِ قَوْلَانِ. ثُمَّ إِذَا أَخَذَهُ السَّيِّدُ، نُظِرَ إِنْ عَيَّنَ لَهُ مَالِكًا، أُمِرَ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، مُؤَاخَذَةً لَهُ بِاعْتِرَافِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ. وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنْ مَالِكٌ، بَلِ اقْتُصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: هُوَ مَغْصُوبٌ، أَوْ مَسْرُوقٌ، أَوْ حَرَامٌ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْتَزِعُهُ الْحَاكِمُ وَيَحْفَظُهُ بِبَيْتِ الْمَالِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْتَزِعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لِمُعَيَّنٍ. وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: امْسِكْهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صَاحِبُهُ، وَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ

فِيهِ، فَإِنْ كَذَّبَ نَفْسَهُ، فَقَالَ: هُوَ لِلْمَكَاتَبِ [كَانَ] كَمَا ادَّعَاهُ، قَالَ الْإِمَامُ: فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِحَسَبِهِ. قَالَ: وَإِنْ قُلْنَا: يُزِيلُ الْحَاكِمُ يَدَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَذَّبَ نَفْسَهُ، لَا يُقْبَلُ. فَرْعٌ إِذَا جَاءَ الْمُكَاتَبُ بِالنَّجْمِ عِنْدَ الْمَحَلِّ، وَعَلَى شَرْطِ السَّيِّدِ أَنْ يُبْرِئَهُ فَالشَّرْطُ لَغْوٌ، وَلِلسَّيِّدِ أَخْذُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبْرِئَهُ عَنِ الْبَاقِي، وَإِنْ عَجَّلَ قَبْلَ الْمَحَلِّ عَلَى أَنْ يُبْرِئَهُ عَنِ الْبَاقِي فَأَخَذَهُ وَأَبْرَأَهُ، لَمْ يَصِحِّ الْقَبْضُ، وَلَا الْإِبْرَاءُ. وَلَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ كَذَا، بِشَرْطِ أَنْ تُعَجِّلَ لِيَ الْبَاقِيَ، وَإِذَا عَجَّلْتَ عَلَيَّ كَذَا فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ عَنِ الْبَاقِي، فَعَجَّلَ لَمْ يَصِحِّ الْقَبْضُ وَلَا الْإِبْرَاءُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ لَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ، وَعَلَى السَّيِّدِ رَدُّ الْمَأْخُوذِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَأَشَارَ الْمُزَنِيُّ إِلَى تَرْدِيدِ قَوْلٍ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ وَالْإِبْرَاءِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ اخْتِلَافَ الْقَوْلِ، وَحَمَلُوا التَّجْوِيزَ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَجْرِ شَرْطٌ، فَابْتَدَأَ بِذَلِكَ. وَلَوْ أَنْشَأَ رِضًى جَدِيدًا بِقَبْضِهِ عَمَّا عَلَيْهِ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لِلْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ مَا فِي يَدِهِ عَنْ جِهَةِ الشِّرَاءِ، أَوْ لِلْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِهِ عَنْ جِهَةِ الرَّهْنِ. وَلَوْ أَخَذَ السَّيِّدُ مَا عَجَّلَهُ الْمُكَاتَبُ، وَأَبْرَأَهُ عَنِ الْبَاقِي بِلَا شَرْطٍ، أَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ نَفْسُهُ، فَأَخَذَ السَّيِّدُ مَا مَعَهُ، وَأَبْرَأَهُ عَنِ الْبَاقِي، أَوْ أَعْتَقَهُ، جَازَ. وَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ حِيلَةً يُعْتَقُ بِهَا بِمَا عَجَّلَ، وَيَكُونُ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: طَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: إِذَا عَجَزَتْ نَفْسُكُ، وَأَدَّيْتَ كَذَا، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِذَا وُجِدَتِ الصِّفَاتُ عَتَقَ عَنْ جِهَةِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ تَعْجِيزِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ إِذَا فَسَخَهَا بَعْدَ التَّعْجِيزِ، وَإِذَا عَتَقَ عَنِ الْكِتَابَةِ، كَانَتِ الْأَكْسَابُ لَهُ،

فَيَتَرَاجَعَانِ، فَيَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا أَخَذَهُ، وَالسَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَلَى عِوَضَيْنِ: التَّعْجِيزُ، وَالْمَالُ الْمَذْكُورُ، وَالتَّعْجِيزُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا، فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ. قَالَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» : وَلَوْ لَمْ يُعَلِّقْ هَكَذَا، وَلَكِنْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَأَعْطَاهُ، عَتَقَ، وَلَكِنَّهُ عِوَضٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ، فَيُعْتَقُ بِالصِّفَةِ، وَعَلَيْهِ تَمَامُ قِيمَتِهِ. وَلَوْ عَجَّلَ الْمُكَاتَبُ النَّجْمَ، عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ، وَيُبْرِئَهُ عَنِ الْبَاقِي، فَفَعَلَ السَّيِّدُ ذَلِكَ، عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، وَرَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، وَيَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا دَفَعَ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَنِ النَّصِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَعَذُّرِ تَحْصِيلِ النُّجُومِ عِنْدَ حُلُولِهَا، وَلَهُ أَسْبَابٌ الْأَوَّلُ: الْإِفْلَاسُ، فَإِذَا حَلَّ نَجْمٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ أَدَائِهِ، أَوْ عَنْ بَعْضِهِ، فَلِلسَّيِّدِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ، وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَفَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ شَاءَ رَفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَفْسَخَ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عَجْزُهُ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ فَلِلسَّيِّدِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِطَ إِقْرَارَهُ بِالْعَجْزِ، وَلَا قِيَامَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَدَاءِ ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ. وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا. وَإِذَا رَفَعَ إِلَى الْقَاضِي، فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْكِتَابَةِ، وَحُلُولِ النَّجْمِ عِنْدَهُ. وَمَتَّى فُسِخَتْ، سَلَّمَ لِلسَّيِّدِ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ، لَكِنْ مَا أَخَذَهُ مِنَ الزَّكَاةِ يُسْتَرَدُّ وَيُؤَدِّيهِ. وَهَذَا قَدْ سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا الْفَسْخُ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ لَهُ تَأْخِيرُهُ مَا شَاءَ، كَفَسْخِ الْإِعْسَارِ. وَإِذَا اسْتَنْظَرَهُ الْمُكَاتَبُ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْظِرَهُ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْهَالُ، بَلْ لَهُ

الرُّجُوعُ إِلَى الْفَسْخِ مَتَى بَدَا لَهُ. وَإِذَا طَالَبَهُ بِالْمَالِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِمْهَالِ بِقَدْرِ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الصُّنْدُوقِ وَالدُّكَّانِ وَالْمَخْزَنِ، وَيَزِنُ فَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا، فَقَدْ أَطْلَقَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ لِلسَّيِّدِ الْفَسْخَ، وَلْيُحْمَلْ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّأْخِيرُ إِلَى اسْتِيفَائِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ لَهُ وَدِيعَةٌ وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا، أَوْ عَلَى مُعْسِرٍ، فَلَا. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى السَّيِّدِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ النُّجُومِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي التَّقَاصِّ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، أَدَّاهُ لِيَصْرِفَهُ الْمُكَاتَبُ فِي النُّجُومِ. وَلَوْ حَلَّ النَّجْمُ وَهُوَ نَقْدٌ، وَلِلْمُكَاتَبِ عُرُوضٌ، فَإِنْ أَمْكَنَ بَيْعُهَا عَلَى الْفَوْرِ بِيعَتْ وَلَا فَسْخَ، وَإِنِ احْتَاجَ الْبَيْعُ إِلَى مُدَّةٍ؛ لِكَسَادٍ وَغَيْرِهِ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنْ لَا فَسْخَ. وَرَأَى الْإِمَامُ الْفَسْخَ كَغَيْبَةِ الْمَالِ، وَهَذَا أَصَحُّ، وَضَبَطَ الْبَغَوِيُّ التَّأْخِيرَ لِلْبَيْعِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ: لَا يَلْزَمُ أَكْثَرُ مِنْهَا. السَّبَبُ الثَّانِي: غَيْبَةُ الْمُكَاتَبِ، فَإِذَا حَلَّ النَّجْمُ، وَالْمُكَاتَبُ غَائِبٌ، أَوْ غَابَ بَعْدَ حُلُولِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، فَلِلسَّيِّدِ الْفَسْخُ إِنْ شَاءَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ بِالْحَاكِمِ، وَقِيلَ: لَا يَفْسَخُ بِنَفْسِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَأْخِيرُ الْفَسْخِ لِكَوْنِ الطَّرِيقِ مُخَوِّفًا، أَوِ الْمُكَاتَبِ مَرِيضًا. وَإِذَا فَسَخَ بِنَفْسِهِ، فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يُكَذِّبَهُ الْمُكَاتَبُ، وَإِنْ رَفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ حُلُولُ النَّجْمِ وَتَعَذُّرُ التَّحْصِيلِ، وَيُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُحَلِّفُهُ أَنَّهُ مَا قَبَضَ النُّجُومَ مِنْهُ، وَلَا مِنْ وَكِيلِهِ، وَلَا أَبْرَأَهُ، وَلَا أَحَالَ بِهِ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ. وَذِكْرُ الْحَوَالَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ الْحَوَالَةِ بِالنُّجُومِ. وَلَوْ كَانَ مَالُ الْمُكَاتَبِ حَاضِرًا لَمْ يُؤَدِّ الْحَاكِمُ النُّجُومَ مِنْهُ، وَيُمَكِّنِ السَّيِّدَ مِنَ الْفَسْخِ،

[لِأَنَّهُ] رُبَّمَا عَجَّزَ نَفْسَهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَلَمْ يُؤَدِّ الْمَالَ. وَلَوْ نَظَرَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ حُلُولِ النَّجْمِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي الْإِنْظَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ غَيْرُ مُقَصِّرٍ هُنَا، وَلَكِنْ يَرْفَعُ السَّيِّدُ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْحُلُولِ وَالْغَيْبَةِ، وَيَحْلِفُ مَعَ ذَلِكَ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْإِنْظَارِ، فَيَكْتُبُ الْحَاكِمُ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ الْمُكَاتَبِ لِيُعَرِّفَهُ الْحَالَ، فَإِنْ أَظْهَرَ الْعَجْزَ كَتَبَ بِهِ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ السَّيِّدِ لِيَفْسَخَ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ قَالَ: أُؤَدِّي الْوَاجِبَ، فَإِنْ كَانَ لِلسَّيِّدِ هُنَاكَ وَكِيلٌ سَلَّمَ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ لِلسَّيِّدِ، وَلِلْوَكِيلِ أَيْضًا إِنْ كَانَ وَكِيلًا فِيهِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ لَا فَسْخَ بِالِامْتِنَاعِ عَنِ التَّسْلِيمِ إِلَى الْوَكِيلِ؛ لِاحْتِمَالِ الْعَزْلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَكِيلٌ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِإِيصَالِهِ إِلَيْهِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِغَيْرِهِ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ رُفْقَةٍ تَخْرُجُ، أَوْ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رِفْقَةٍ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَعَلَى السَّيِّدِ الصَّبْرُ إِلَى أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ إِمْكَانِ الْوُصُولِ، فَإِنْ مَضَتْ، وَلَمْ يُوَصِّلْهُ مُقَصِّرًا، فَلِلسَّيِّدِ الْفَسْخُ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ السَّيِّدِ حَاكِمٌ، فَكَتَبَ السَّيِّدُ إِلَى الْعَبْدِ، وَأَعْلَمَهُ بِالْحَالِ، وَأَمَرَهُ بِالتَّسْلِيمِ إِلَى رَجُلٍ، فَامْتَنَعَ فَعِنْدِي أَنَّهُ كَمَا لَوِ امْتَنَعَ بَعْدَ كِتَابِ الْقَاضِي إِذَا وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ فِيهِ وَجْهَيْنِ. قَالَ: وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ سَلَّمَ الْمُكَاتَبُ إِلَى وَكِيلِ السَّيِّدِ، وَبَانَ أَنَّ السَّيِّدَ عَزَلَهُ، هَلْ يَبْرَأُ الْمُكَاتَبُ؟ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْوَجْهَيْنِ مَخْصُوصَانِ بِمَا إِذَا قَالَ الْحَاكِمُ: فُلَانٌ وَكِيلُهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَمَرَهُ، بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ بَرِئَ بِلَا خِلَافٍ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: الِامْتِنَاعُ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُكَاتَبُ مِنْ أَدَاءِ النُّجُومِ

مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ لَهُ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ جَائِزَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبِ؛ وَلِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّعْلِيقَ بِالصِّفَةِ، وَالْعَبْدُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الصِّفَةِ، فَإِذَا عَجَّزَ نَفْسَهُ، فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ، وَإِنْ أَرَادَ الْفَسْخَ فَسَخَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَاضِي. وَهَلْ لِلْمُكَاتَبِ الْفَسْخُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَقَائِهَا، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَالْمُرْتَهِنِ يَفْسَخُ الرَّهْنَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَتَجْوِيزُ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْأَدَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ بَعِيدٌ. الرَّابِعُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ الْعَبْدِ، فَإِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ الْفَسْخَ اشْتُرِطَ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ فَيُثْبِتَ عِنْدَهُ الْكِتَابَةَ، وَحُلُولَ النَّجْمِ، وَيُطَالِبُ بِهِ، وَيُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَقَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ يَبْحَثُ، فَإِنْ وَجَدَ لِلْمُكَاتَبِ مَالًا أَدَّاهُ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لِيُعْتَقَ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الضَّرَرِ لِنَفْسِهِ، فَنَابَ عَنْهُ الْحَاكِمُ بِخِلَافِ الْغَائِبِ الَّذِي لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ. ثُمَّ إِنَّ الْجُمْهُورَ أَطْلَقُوا أَنَّ الْحَاكِمَ يُؤَدِّي عَنْهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يُؤَدِّي إِنْ رَأَى لَهُ مَصْلَحَةً فِي الْحُرِّيَّةِ، وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ يَضِيعُ إِذَا عَتَقَ، لَمْ يُؤَدِّ، وَهَذَا حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ قَلِيلُ النَّفْعِ، مَعَ قَوْلِنَا: إِنَّ لِلسَّيِّدِ إِذَا وَجَدَ مَالًا الِاسْتِقْلَالَ بِأَخْذِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: يَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْأَخْذِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْحَاكِمُ لَهُ مَالًا مَكَّنَ السَّيِّدَ مِنَ الْفَسْخِ، فَإِذَا فَسَخَ عَادَ الْمُكَاتَبُ قِنًّا لَهُ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، فَإِنْ أَفَاقَ وَظَهَرَ لَهُ مَالٌ كَانَ حَصَّلَهُ قَبْلَ الْفَسْخِ، دَفَعَهُ إِلَى السَّيِّدِ، وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ، وَبَعْضِ التَّعْجِيزِ. هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَأَحْسَنَ الْإِمَامُ، فَقَالَ: إِنْ ظَهَرَ الْمَالُ فِي يَدِ السَّيِّدِ رُدَّ التَّعْجِيزُ، وَإِلَّا فَهُوَ مَاضٍ؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ حِينَ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَى حَقِّهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا فَحَضَرَ بَعْدَ الْفَسْخِ. وَإِذَا حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ التَّعْجِيزِ، وَكَانَ السَّيِّدُ جَاهِلًا بِحَالِ الْمَالِ، فَعَلَى الْمُكَاتَبِ رَدُّ مَا أَنْفَقَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَجَدَ السَّيِّدُ لِلْمُكَاتَبِ فِي جُنُونِهِ

مَالًا، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاسْتِقْلَالَ بِأَخْذِهِ، وَحَكَيْنَا عَنِ الْإِمَامِ فِيهِ تَفْصِيلًا. الْخَامِسُ: إِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ تَمَامِ الْأَدَاءِ، انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ، وَمَاتَ رَقِيقًا فَلَا يُورَثُ، وَتَكُونُ أَكْسَابُهُ لِسَيِّدِهِ، وَتَجْهِيزُهُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ خَلَّفَ وَفَاءً بِالنُّجُومِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ حَطَّ عَنْهُ شَيْئًا، أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُسْقِطُ بِهِ مَعْلُومًا. نُصَّ فِي «الْأُمِّ» عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَحْضَرَ الْمُكَاتَبُ الْمَالَ لِيَدْفَعَهُ إِلَى السَّيِّدِ، أَوْ دَفَعَ الْمَالَ إِلَى رَسُولِهِ لِيُوَصِّلَهُ إِلَيْهِ، فَمَاتَ قَبْلَ قَبْضِهِ مَاتَ رَقِيقًا أَيْضًا، وَأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا فِي دَفْعِ النَّجْمِ الْأَخِيرِ إِلَى السَّيِّدِ، وَمَاتَ الْمُكَاتَبُ، فَقَالَ أَوْلَادُهُ الْأَحْرَارُ: دَفَعَ الْوَكِيلُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَمَاتَ حُرًّا، وَكَذَّبَهُ السَّيِّدُ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ. فَإِنْ أَقَامُوا بَيِّنَةً عَلَى الدَّفْعِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ: دَفَعَ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ يَقُولُوا: دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَكُونَ السَّيِّدُ مُعْتَرِفًا بِأَنْ مَاتَ بَعْدَ الطُّلُوعِ. وَأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ وَكِيلُ الْمُكَاتَبِ بِقَبْضِ السَّيِّدِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ شَهِدَ بِهِ وَكِيلُ السَّيِّدِ قُبِلَتْ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْفَسْخِ وَالِانْفِسَاخِ، فَيَحْصُلُ الْفَسْخُ بِقَوْلِ السَّيِّدِ: فَسَخْتُ الْكِتَابَةَ، وَنَقَضْتُهَا، وَرَفَعْتُهَا، وَأَبْطَلْتُهَا، وَعَجَّزْتُ الْمُكَاتَبَ. وَلَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ السَّيِّدُ بَعْدَ حُلُولِ النَّجْمِ مُدَّةً، ثُمَّ أَحْضَرَ الْمُكَاتَبُ الْمَالَ، لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ الِامْتِنَاعُ مِنْ قَبْضِهِ، وَنُصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ لَوْ قَالَ بَعْدَ التَّعْجِيزِ: قَرَّرْتُكَ عَلَى الْكِتَابَةِ لَمْ يُصِرْ مُكَاتَبًا حَتَّى يُجَدِّدَ كِتَابَةً، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْقِرَاضِ مَا يَقْتَضِي خِلَافًا فِيهِ.

قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا كَالْقِرَاضِ فَإِنَّ مُعْظَمَ الِاعْتِمَادِ هُنَا فِي الْعِتْقِ عَلَى التَّعْلِيقِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَصْلُحُ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَطَوَّعَ رَجُلٌ بِأَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى الْقَبُولِ، أَمْ لَهُ الْفَسْخُ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ. وَإِذَا قَبِلَ، فَفِي وُقُوعِهِ عَنِ الْمُكَاتَبِ إِذَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَجْهَانِ، الْقِيَاسُ: الْوُقُوعُ. وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ رَقِيقًا، أَوْ فَسَخَ السَّيِّدُ الْكِتَابَةَ لِعَجْزِهِ رَقَّ كُلُّ مَنْ يُكَاتِبُ عَلَيْهِ وَالِدٌ وَوَلَدٌ، وَصَارُوا جَمِيعًا لِلسَّيِّدِ، وَجَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ لِلسَّيِّدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ فَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ إِذَا قَهَرَ السَّيِّدُ الْمُكَاتَبَ، وَاسْتَعْمَلَهُ مُدَّةً لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. ثُمَّ إِذَا جَاءَ الْمَحَلُّ، هَلْ يَلْزَمُ إِمْهَالُهُ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، أَمْ لَهُ تَعْجِيزُهُ وَالْفَسْخُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بَدَلَ مَنَافِعِهِ. وَلَوْ حَبَسَهُ عَنِ السَّيِّدِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا إِمْهَالَ، وَأَجْرَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا لَوْ أَسَرَ الْكُفَّارُ مُكَاتَبًا مُدَّةً [ثُمَّ] اسْتَنْقَذْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِيمَا إِذَا انْضَمَّ إِلَى النُّجُومِ دُيُونٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ. وَفِيهَا صُوَرٌ. الْأُولَى: كَانَ لِلسَّيِّدِ مَعَ النُّجُومِ دَيْنُ مُعَاوَضَةٍ، أَوْ أَرْشُ جِنَايَةٍ، فَإِنْ تَرَاضَيَا بِتَقْدِيمِ الدَّيْنِ، فَذَاكَ، وَإِنْ تَرَاضَيَا بِتَقْدِيمِ النُّجُومِ عَتَقَ. ثُمَّ الْمَذْهَبُ أَنَّ الدَّيْنَ الْآخَرَ لَا يَسْقُطُ، فَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مَا فِي يَدِهِ وَافِيًا بِالنُّجُومِ دُونَ الدَّيْنِ، فَإِذَا أَدَّاهُ عَنِ النُّجُومِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِلسَّيِّدِ

مَنْعُهُ مِنْ تَقْدِيمِ النُّجُومِ، فَيَأْخُذُ مَا مَعَهُ عَنِ الدَّيْنِ، ثُمَّ يُعَجِّزُهُ. وَهَلْ لَهُ تَعْجِيزُهُ قَبْلَ أَخْذِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَلَوْ دَفَعَ الْمُكَاتَبُ مَا فِي يَدِهِ إِلَى السَّيِّدِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلْجِهَةِ، ثُمَّ قَالَ الْمُكَاتَبُ: قَصَدْتُ النُّجُومَ، وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، أَوْ قَالَ: أُصَدِّقُهُ، وَلَكِنْ قَصَدْتُ أَنَا الدَّيْنَ لَا النُّجُومَ، فَقَالَ الْقَفَّالُ: يُصَدَّقُ الْمُكَاتَبُ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُصَدَّقُ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُنَا إِلَيْهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ. قُلْتُ: قَوْلُ الْقَفَّالِ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نُجُومٌ وَدُيُونٌ لِلسَّيِّدِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَهُوَ كَالْحُرِّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ، وَقُسِّمَ مَالُهُ بَيْنَ أَصْحَابِ الدُّيُونِ. وَهَلْ تَحِلُّ بِالْحَجْرِ الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ؟ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: قَوْلَانِ، كَالْمُفْلِسِ. وَالثَّانِي: تَحِلُّ قَطْعًا؛ لِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي إِبْطَالِ الْأَجَلِ، وَلِهَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا اسْتُرِقَّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ حَلَّ، فَإِنْ قُلْنَا: يَحِلُّ، قُسِّمَ الْمَالُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْحَالِ، وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِالْتِمَاسِ السَّيِّدِ لِلنُّجُومِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، وَالْمُكَاتَبُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِسْقَاطِهَا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ كَانَ مَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ وَافِيًا بِالدُّيُونِ، قُضِيَتْ وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ، فَلَهُ تَقْدِيمُ مَا شَاءَ مِنَ الدُّيُونِ، وَلَهُ تَعْجِيلُ الدُّيُونِ قَبْلَ الْمَحَلِّ، وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ. وَفِي جَوَازِهِ بِإِذْنِهِ الْخِلَافُ فِي تَبَرُّعَاتِهِ بِإِذْنِهِ. وَفِي مَعْنَاهُ مَا إِذَا عَجَّلَ الدُّيُونَ لِلسَّيِّدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ الْخِلَافَ فِي تَعْجِيلِ النُّجُومِ ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ. وَإِذَا قَدَّمَ النُّجُومَ عَتَقَ، وَبَقِيَ دَيْنُ الْأَجَانِبِ عَلَيْهِ، وَلَا

يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ فِي إِعْتَاقِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَحْصُلُ بِالصِّفَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِصِفَةٍ، ثُمَّ جَنَى فَإِنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَمْنَعُ وُقُوعَ الْعِتْقِ بِالتَّعْلِيقِ السَّابِقِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ دَيْنُ الْمُعَامَلَةِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ جَعَلَهُ فِي الْأَرْشِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ صَرَفَهُ فِي النُّجُومِ. وَسَيَظْهَرُ وَجْهُ هَذَا التَّرْتِيبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ تَوَلَّى قِسْمَةَ مَا فِي يَدِهِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يُقَسَّمُ عَلَى قَدْرِ الدُّيُونِ، وَأَصَحُّهُمَا يُقَدَّمُ دَيْنُ الْمُعَامَلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ خَاصَّةً وَلِلْأَرْشِ مُتَعَلَّقٌ آخَرُ، وَهُوَ الرَّقَبَةُ، وَكَذَا حَقُّ السَّيِّدِ بِتَقْدِيرِ الْعَجْزِ يَعُودُ إِلَى الرَّقَبَةِ، وَيُسَوَّى بَيْنَ النَّقْدِ وَالْعَرْضِ، ثُمَّ يُقَدَّمُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى النُّجُومِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مُسْتَقِرٌّ، وَالنُّجُومُ [مُعَرَّضَةٌ] لِلسُّقُوطِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنَّمَا الْأَوَّلُ إِذَا رَضُوا بِالتَّسْوِيَةِ، فَإِنْ عَجَّزَ الْمُكَاتَبُ نَفْسَهُ سَقَطَتِ النُّجُومُ. وَفِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ لِلسَّيِّدِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَسْقُطُ أَيْضًا وَيُصْرَفُ مَا فِي يَدِهِ إِلَى دُيُونِ الْأَجَانِبِ مِنْ مُعَامَلَةٍ وَأَرْشٍ، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِالنَّوْعَيْنِ، فَهَلْ تُقَدَّمَ الْمُعَامَلَةُ أَمِ الْأَرْشُ أَمْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا؟ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَالْغَزَالِيِّ وَنَحْوِهِمَا: الثَّالِثُ. ثُمَّ مَا تَبَقَّى مِنْ دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَمَا تَبَقَّى مِنَ الْأَرْشِ يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ يُبَاعُ فِيهِ. وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ قِسْمَةِ مَا فِي يَدِهِ، انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ، وَسَقَطَتِ النُّجُومُ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ: تَسْقُطُ الْأُرُوشُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ، وَقَدْ فَاتَتْ، وَبِمَا فِي يَدِهِ بِحُكْمِ الْكِتَابَةِ وَقَدْ بَطَلَتْ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُ مَا خَلَّفَهُ إِلَى الْمُعَامَلَةِ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ:

تَبْقَى الْأُرُوشُ وَتَعَلُّقُهَا بِالْمَالِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ سَوَّيْنَا فِي صُورَةِ التَّعْجِيزِ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قَدَّمْنَا [الْأَرْشَ فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قَدَّمْنَا] الْمُعَامَلَةَ، فَهَلْ تُقَدَّمُ هُنَا أَيْضًا، أَمْ يُسَوَّى؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: التَّسْوِيَةُ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِمَا خَلَّفَهُ. فَرْعٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ مَالٌ، أَوْ قُسِّمَ الْمَوْجُودُ، إِمَّا عَلَى الدُّيُونِ جَمِيعًا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِمَّا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّرْتِيبِ، وَبَقِيَتِ النُّجُومُ أَوْ بَعْضُهَا، فَلِلسَّيِّدِ تَعْجِيزُهُ وَرَدُّهُ رَقِيقًا. وَإِنْ بَقِيَتِ الْأُرُوشُ أَوْ بَعْضُهَا فَمُسْتَحِقُّ الْأَرْشِ الْبَاقِي؛ لِعَجْزِهِ لِتُبَاعَ رَقَبَتُهُ فِي حَقِّهِ، وَلَا يُعَجِّزُهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْهُ لَكِنْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُعَجِّزَهُ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِهَذَا. وَقَالَ الْإِمَامُ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُعَجِّزُهُ بِنَفْسِهِ، وَالْوَجْهُ: الرَّفْعُ إِلَى الْقَاضِي. فَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَهُ وَيُبْقِيَ الْكِتَابَةَ، فَهَلْ يَمْتَنِعُ عَلَى مُسْتَحِقِّ الْأَرْشِ التَّعْجِيزُ وَيَلْزَمُهُ قَبُولُ الْفِدَاءِ؟ وَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: لَا وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَأَمَّا صَاحِبُ دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ، فَلَيْسَ لَهُ التَّعْجِيزُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ. وَلَوْ أَمْهَلَهُ السَّيِّدُ وَمُسْتَحِقُّ الْأَرْشِ، ثُمَّ بَدَا لِبَعْضِهِمْ وَأَرَادَ التَّعْجِيزَ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَإِذَا تَحَقَّقَ التَّعْجِيزُ، سَقَطَتِ النُّجُومُ، وَيُبَاعُ فِي الْأَرْشِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ، وَدَيْنُ الْمُعَامَلَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَرْعٌ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ تَقْدِيمُ دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى النُّجُومِ، وَهَلْ يُضَارِبُ السَّيِّدُ مَعَهُمْ بِمَالِهِ مِنْ دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَأَمَّا مَا لِلسَّيِّدِ

عَلَيْهِ مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ، فَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: يَسْتَوِي السَّيِّدُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِيهِ فِي دَوَامِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ التَّعْجِيزِ، فَيُبَاعُ فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَيَسْقُطُ مَا لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكَهُ، وَلَا يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ أَرْشٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ خِلَافٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا عَبْدٌ بِالسَّوِيَّةِ، فَكَاتَبَاهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي الْمَدْفُوعِ. فَلَوْ دَفَعَ إِلَى أَحَدِهِمَا تَمَامَ حِصَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَأْخُوذِ لِشَرِيكِهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ سَبَقَ. وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ تَمَامَ النُّجُومِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَخْذُ حِصَّتِهِ مِمَّا قَبَضَ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ النُّجُومِ بِإِذْنِ الْآخَرِ، عَتَقَ الْعَبْدُ قَطْعًا. وَإِنْ سَلَّمَ إِلَى أَحَدِهِمَا حِصَّتَهُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ بِإِذْنِ الْآخَرِ وَرِضَاهُ بِتَقْدِيمِهِ، فَهَلْ يَصِحُّ الْقَبْضُ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ. وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكُهُ، فَلَا أَثَرَ لِلْإِذْنِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْمَالِ لِيُعْطِيَهُمَا، فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يَزِنَ لِلْآخَرِ أَوَّلًا، فَفَعَلَ، وَأَقْبَضَهُ، لَمْ يُعْتِقْ حَتَّى يَزِنَ لِلْآخَرِ. وَلَوْ هَلَكَ الْبَاقِي قَبْلَ أَنْ يَزِنَ لِلثَّانِي كَانَ الْمَدْفُوعُ بَيْنَهُمَا فَكَذَا هُنَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمْ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْقَبْضُ لَمْ يُعْتَقْ نَصِيبُ الْقَابِضِ، وَلِلْآذِنِ طَلَبُ حِصَّتِهِ مِنَ الْمَقْبُوضِ. ثُمَّ إِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ الْبَاقِيَ عَتَقَ عَلَيْهِمَا، وَإِلَّا فَلَهُمَا التَّعْجِيزُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الْقَبْضُ، اخْتَصَّ الْقَابِضُ بِمَا قَبَضَ، وَعَتَقَ نَصِيبَهُ. ثُمَّ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ

نَصِيبُ الْآخَرِ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ مَا يَفِي بِنَصِيبِ الْآخَرِ، وَأَدَّاهُ عَتَقَ أَيْضًا وَإِلَّا فَلَهُ التَّعْجِيزُ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ الشَّرِيكِ. وَهَلْ يُقَوَّمُ فِي الْحَالِ أَمْ عِنْدَ التَّعْجِيزِ عَنْ نَصِيبِ الْآخَرِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا إِذَا عَتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: يُقَوَّمُ فِي الْحَالِ، فَجَمِيعُ مَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ يَكُونُ لِلشَّرِيكِ الْآذِنِ، وَمَا كَسَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَالشَّرِيكِ الْآذِنِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِنِصْفَيْهِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالتَّعْجِيزِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ هُنَاكَ. هَذِهِ طَرِيقَةُ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ بِنَصِيبِ الشَّرِيكِ الْآذِنِ، فَالَّذِي رَأَيْتُهُ لِلْأَصْحَابِ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا سِرَايَةَ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا نَقُولُ بِعِتْقِ نَصِيبِهِ، بَلْ يُؤَدِّي نَصِيبَ الْآذِنِ، فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَصِيبِ الْآذِنِ، فَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: لَا يُشَارِكُ الْقَابِضَ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَهُ رَضِيَ بِبَقَاءِ حَقِّهِ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ نَصِيبُ الْقَابِضِ. وَفِي السِّرَايَةِ مَا ذَكَرَهُ الْجَمَاهِيرُ. وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّ الْآذِنَ يُشَارِكُهُ؛ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ كَسْبُ عَبْدِهِمَا، وَإِنَّمَا تَبَرَّعَ الْآذِنُ بِالتَّقْدِيمِ لَا بِالتَّمْلِيكِ، وَلَا يَخْلُصُ لَهُ الْمَقْبُوضُ. فَعَلَى هَذَا لَهُمَا تَعْجِيزُهُ وَإِرْقَاقُهُ. فَرْعٌ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُمَا إِذَا كَاتَبَا الْمُشْتَرَكَ، فَادَّعَى أَنَّهُ أَوْفَاهُمَا، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ صُدِّقَ الْمُكَذِّبُ بِيَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ بَقِيَتِ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِهِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُشَارِكَ الْمُصَدِّقَ فِيمَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ، فَيَأْخُذَ نِصْفَهُ، وَيُطَالِبَ الْعَبْدَ بِالْبَاقِي، وَبَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الْمُكَاتَبَ بِتَمَامِ

نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مُتَعَلَّقُ حَقِّهِمَا بِالشَّرِكَةِ. وَقِيلَ: إِذَا جَوَّزْنَا انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا بِكِتَابَةِ نَصِيبِهِ، لَمْ يُشَارِكِ الْمُصَدِّقَ، بَلْ يُطَالِبِ الْمُكَاتَبَ بِجَمِيعِ حَقِّهِ. وَإِنْكَارُهُ قَبْضَ الشَّرِيكِ لَا يَمْنَعُهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ، وَرُبَّمَا قَبَضَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الْمُكَاتَبُ حِصَّتَهُ مِنْهُمَا، أَوْ مِنَ الْعَبْدِ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ، وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ أَيْضًا عَلَى الْمُصَدِّقِ بِمَا الْعَبْدُ وَحْدَهُ عَتَقَ بَاقِيهِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُصَدِّقُ إِنْ أَخَذَ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُصَدِّقِ عَلَى الْمُكَذِّبِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ. السَّادِسَةُ: إِذَا كَاتَبَ عَبِيدًا وَشَرَطَ أَنْ يَتَكَفَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالنُّجُومِ، فَسَدَتِ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النُّجُومِ بَاطِلٌ. وَلَوْ ضَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِلَا شَرْطٍ، لَمْ يَصِحَّ، وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: لَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةُ الْعَقْدِ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدًا بِشَرْطِ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ فُلَانٌ، لَمْ تَصِحِّ الْكِتَابَةُ أَيْضًا، وَلَوْ أَدَّى بَعْضُ الْمُكَاتَبِينَ عَنْ بَعْضٍ بِلَا شَرْطٍ وَلَا ضَمَانٍ، أَوْ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ، فَأَدَّى أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنْ أَدَّى بِإِذْنِهِ، رَجَعَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ أَدَّى قَبْلَ الْعِتْقِ، فَهُوَ تَبَرُّعٌ، وَتَبَرُّعُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ بَاطِلٌ، وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ أَنَّهُ يُؤَدِّي عَنْ غَيْرِهِ، بِأَنْ ظَنَّ أَنَّ كَسْبَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ، وَأَنَّهُ وَكِيلُهُ، فَهُوَ تَبَرُّعٌ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَإِنْ عَلِمَ الْحَالَ، فَهُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ صَحَّحْنَا الْأَدَاءَ لَمْ يَرْجِعِ الْمُؤَدِّي عَلَى السَّيِّدِ، وَيَرْجِعْ عَلَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ إِنْ أَدَّى بِإِذْنِهِ، وَلَا يَرْجِعْ إِنْ أَدَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَتَقَ، فَذَاكَ وَإِلَّا فَيَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى النُّجُومِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ، وَحَقُّ السَّيِّدِ لَهُ بَدَلٌ عِنْدَ التَّعَذُّرِ، وَهُوَ رَقَبَتُهُ، وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحِ الْأَدَاءَ، فَلَا رُجُوعَ لِلْمُؤَدِّي عَلَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ، لَكِنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنَ السَّيِّدِ، فَلَوْ أَدَّى النُّجُومَ، وَعَتَقَ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يَسْتَرِدُّ حِينَئِذٍ، وَنُصَّ

فِيمَا لَوْ جَنَى السَّيِّدُ عَلَى مُكَاتَبِهِ، فَعَفَا عَنِ الْأَرْشِ، وَأَبْطَلْنَا الْعَفْوَ بِنَاءً عَلَى رَدِّ تَبَرُّعَاتِهِ، فَعَتَقَ، أَنَّ لَهُ أَخْذَ الْأَرْشِ. قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: فِي الصُّورَتَيْنِ قَوْلَانِ كَزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ تَبَرُّعِهِ، لَكِنْ وَقَعَ الْعَفْوُ وَالْأَدَاءُ فَاسِدَيْنِ، فَلَا يَنْقَلِبَانِ صَحِيحَيْنِ. وَلَوْ كَاتَبَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدَهُ، ثُمَّ أَدَّى أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنِ انْضَمَّ إِذْنُ الْمُؤَدَّى عَنْهُ إِلَى إِذْنِ سَيِّدِهِ صَحَّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إِقْرَاضًا، وَالْإقْرَاضُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْ أَدَاءَهُ فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ، فَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ الِاسْتِرْدَادِ فَفِيهِ الْخِلَافُ. فَرْعٌ الْمُكَاتَبُونَ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا دَفَعَهُ إِلَى السَّيِّدِ، فَقَالَ مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ: أَدَّيْنَا النُّجُومَ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَقَالَ مَنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ: بَلْ عَلَى أَقْدَارِ الْقِيَمِ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُصَدَّقُ مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ؛ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ. وَالثَّانِي: يُصَدَّقُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلْ إِنْ أَدَّوْا بَعْضَ الْمَالِ بِحَيْثُ لَوْ وُزِّعَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، لَمْ يَخُصَّ أَحَدَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِ، صُدِّقَ قَلِيلُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ أَدَّوُا الْجَمِيعَ، وَادَّعَى قَلِيلُ الْقِيمَةِ أَنَّهُ أَدَّى أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ لِيَكُونَ وَدِيعَةً عِنْدَ السَّيِّدِ أَوْ قَرْضًا عَلَى كَثِيرِ الْقِيمَةِ، فَيُصَدَّقُ كَثِيرُ الْقِيمَةِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا عَلَى التَّفَاضُلِ، وَأَدَّيَا الثَّمَنَ وَاخْتَلَفَا فِي أَنَّهُمَا أَدَّيَا مُتَفَاضِلًا، أَمْ مُتَسَاوِيًا.

السَّابِعَةُ: فِي الِاخْتِلَافِ، وَفِيهِ صُوَرٌ، إِحْدَاهَا: ادَّعَى عَبْدٌ عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّكَ كَاتَبْتَنِي، فَأَنْكَرَ صُدِّقَ السَّيِّدُ بِيَمِينِهِ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى عَلَى وَارِثِهِ بَعْدَهُ، أَنَّ مُوَرِّثَكَ كَاتَبَنِي، صُدِّقَ الْوَارِثُ، وَيَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ: كَاتَبْتُكَ وَأَنَا مَجْنُونٌ، أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيَّ، قَالَ الْعَبْدُ: بَلْ كُنْتَ كَامِلًا، فَإِنْ عُرِفَ لِلسَّيِّدِ جُنُونٌ أَوْ حَجْرٌ صُدِّقَ، وَإِلَّا فَيُصَدَّقُ الْعَبْدُ. وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ: كَاتَبْتُكَ، فَأَنْكَرَ الْعَبْدُ، فَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ أَنَّهُ [إِنْ] لَمْ يَعْتَرِفْ بِأَدَاءِ الْمَالِ عَادَ رَقِيقًا، وَيَكُونُ إِنْكَارُهُ تَعْجِيزًا مِنْهُ. وَإِنْ قَالَ السَّيِّدُ: وَأَدَّيْتَ الْمَالَ وَعَتَقْتَ، فَهُوَ حُرٌّ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ: الَّذِي أَدَّيْتُ إِلَيْكَ لَيْسَ لِي، بَلْ وَدِيعَةٌ لِزَيْدٍ، وَادَّعَاهُ زَيْدٌ صُدِّقَ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي أَدَاءِ الْمَالِ، فَالْمُصَدَّقُ السَّيِّدُ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُكَاتَبُ إِقَامَةَ بَيِّنَةٍ بِالْأَدَاءِ، أُمْهِلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَهَلْ هَذَا الْإِمْهَالُ وَاجِبٌ، أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ. وَلَا تَثْبُتُ الْكِتَابَةُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ التَّعَرُّضُ لِلتَّنْجِيمِ، وَقَدْرِ كُلِّ نَجْمٍ وَوَقْتِهِ، وَيَثْبُتُ الْأَدَاءُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ النَّجْمُ الْأَخِيرُ إِلَّا بِعَدْلَيْنِ؛ لِتَضَمُّنِهِ الْعِتْقَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي «الْكَافِي» أَنَّهُ لَوْ أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَأْتِيَ بِبَيِّنَةِ الْأَدَاءِ، فَأَحْضَرَ شَاهِدًا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ، وَاسْتَنْظَرَ لِيَأْتِيَ بِالثَّانِي أُنْظِرَ ثَلَاثَةً أُخْرَى. الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ النُّجُومِ، أَوْ عَدَدِهَا، أَوْ جِنْسِهَا، أَوْ صِفَتِهَا، أَوْ قَدْرِ الْأَجَلِ، وَلَا بَيِّنَةَ تَحَالَفَا، وَكَيْفِيَّتُهُ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا تَحَالَفَا نُظِرَ إِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْعِتْقُ بِاتِّفَاقِهِمَا، بِأَنْ لَمْ يَقْبِضْ جَمِيعَ

[مَا يَدَّعِيهِ] ، أَوْ قَبَضَ غَيْرَ الْجِنْسِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ، أَمْ يَفْسَخُهَا الْحَاكِمُ إِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ؟ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ حَصَلَ الْعِتْقُ بِاتِّفَاقِهِمَا، بِأَنْ قَبَضَ مَا يَدَّعِيهِ بِتَمَامِهِ، وَزَعَمَ الْمُكَاتَبُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ اسْتَمَرَّ نُفُوذُهُ، وَيَتَرَاجَعَانِ، فَيَرْجِعُ السَّيِّدُ بِقِيمَةِ الْمُكَاتَبِ، وَيَرْجِعُ هُوَ بِمَا أَدَّى، وَقَدْ يَقَعُ فِي التَّقَاصِّ. وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ: كَاتَبْتُكَ عَلَى نَجْمٍ، فَقَالَ: بَلْ عَلَى نَجْمَيْنِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: صُدِّقَ السَّيِّدُ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسَادَ الْعَقْدِ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوِ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي مُفْسِدٍ لِلْبَيْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ أَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً، بِأَنَّهُ كَاتَبَهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ كَذَا عَلَى أَلْفٍ، وَأَقَامَ السَّيِّدُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَاتَبَهُ فِي شَوَّالِ تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى أَلْفَيْنِ، فَإِنِ اتَّفَقَا أَنَّ الْكِتَابَةَ مُتَّحِدَةٌ، فَكُلُّ بَيِّنَةٍ تُكَذِّبُ الْأُخْرَى، فَيَتَسَاقَطَانِ وَيَتَحَالَفَانِ. وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الِاتِّحَادِ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَاتَبَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الْكِتَابَةُ، وَأَحْدَثَ أُخْرَى. الثَّالِثَةُ: وَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ زَوْجَتِهِ الْمُعْتَقَةِ حُرٌّ، وَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِيهَا، فَإِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، انْجَرَّ الْوَلَاءُ إِلَى مَوَالِيهِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْوَلَاءِ. فَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ، فَاخْتَلَفَ مَوْلَاهُ وَمَوْلَى أُمِّ أَوْلَادِهِ، فَقَالَ مَوْلَاهُ: عَتَقَ بِأَدَاءِ النُّجُومِ، ثُمَّ مَاتَ وَجُرَّ وَلَاءُ أَوْلَادِهِ إِلَيَّ، وَأَنْكَرَ مَوَالِيهَا، فَهُمُ الْمُصَدَّقُونَ بِالْيَمِينِ، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. وَهَلْ يَكْفِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، أَوْ شَاهِدٌ

وَامْرَأَتَانِ، أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدَيْنِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ وَيُدْفَعُ مَالُ الْمُكَاتَبِ إِلَى وَرَثَتِهِ الْأَحْرَارِ؛ لِإِقْرَارِ السَّيِّدِ أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا. وَلَوْ أَقَرَّ السَّيِّدُ فِي حَيَاةِ الْمُكَاتَبِ بِأَنَّهُ أَدَّى النُّجُومَ عَتَقَ، وَجَرَّ إِلَيْهِ وَلَاءَ وَلَدِهِ. الرَّابِعَةُ: كَاتَبَ عَبْدَيْنِ فِي صَفْقَتَيْنِ، أَوْ صَفْقَةٍ، وَجَوَّزْنَاهَا، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى نُجُومَ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَنَّهُ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا أُمِرَ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ قَالَ: نَسِيتُهُ أُمِرَ بِالتَّذَكُّرِ، وَلَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا مَا دَامَ حَيًّا، وَقِيلَ: يُقْرَعُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ بَيَّنَ أَحَدُهُمَا فَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فَذَاكَ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَقَالَ: بَلِ اسْتَوْفَيْتَ مِنِّي أَوْ أَبْرَأْتَنِي فَلَهُ تَحْلِيفُ السَّيِّدِ، فَإِنْ حَلَفَ بَقِيَتْ كِتَابَتُهُ إِلَى أَدَاءِ النُّجُومِ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُكَذِّبُ، وَعُتِقَ أَيْضًا. وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ حَلَفَ لَهُمَا إِذَا ادَّعَاهُ. وَإِذَا حَلَفَ، فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يُبْقِيَانِ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَلَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بِأَدَاءِ النُّجُومِ. وَالثَّانِي: تَتَحَوَّلُ دَعْوَى الْمُكَاتَبَيْنِ، فَإِنْ حَلَفَا عَلَى الْأَدَاءِ، أَوْ نَكَلَا بَقِيَا عَلَى الْكِتَابَةِ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ حُكِمَ بِعِتْقِ الْحَالِفِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ مُكَاتَبًا. وَلَوْ بَيَّنَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ الْآخَرُ: تُؤْتِينِي بِالْإِقْرَارِ الَّذِي اتَّهَمْتَهُ وَلَمْ يَقُلِ: اسْتَوْفَيْتَ مِنِّي أَوْ أَبْرَأْتَنِي، قَالَ الْإِمَامُ: فَالْأَصَحُّ أَنَّ دَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي حَقًّا ثَابِتًا، وَإِنَّمَا يَدَّعِي إِخْبَارًا قَدْ يُصَدَّقُ فِيهِ وَقَدْ يُكَذَّبُ، وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُ هَذَا فِي الدَّعَاوَى. وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَهَلْ يَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَهُ فِي الْبَيَانِ؟ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا بَلْ يُقْرَعُ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، فَهُوَ حُرٌّ، وَعَلَى الْآخَرِ أَدَاءُ النُّجُومِ، وَلَهُ تَحْلِيفُ الْوَارِثِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. وَأَظْهَرُهُمَا: يَقُومُ مَقَامَهُ وَلَا قُرْعَةَ، فَإِذَا بَيَّنَ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي بَيَانِ الْمُورَثِ إِلَّا أَنَّ الْوَارِثَ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِنْ قَالَ الْوَارِثُ: لَا أَعْلَمُ الْمُؤَدِّيَ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ تَحْلِيفُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ أَدَّى، فَإِذَا حَلَفَ لَهُمَا،

فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَوْفِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ أَحَدَ غَرِيمَيْهِ أَوْفَاهُ دَيْنَهُ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، وَحَلَفَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي الدَّيْنَيْنِ جَمِيعًا. وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ تَوَقُّفَ الْعِتْقِ عَلَى أَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ إِنِ اسْتَوْفَى الْمَالَانِ، فَقَالَا: نُؤَدِّي مَا عَلَى أَحَدِنَا، أَوِ اخْتَلَفَا، فَقَالَا: نُؤَدِّي الْأَكْثَرَ لِيُعْتَقَ، كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا بِأَدَائِهِ قَدْ أَدَّيَا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، هَكَذَا رَتَّبَ الْجُمْهُورُ الْمَسْأَلَةَ. وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَاتَبَيْنِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْوَارِثِ تَوْفِيَةَ النُّجُومِ إِلَى الْمُورَثِ أَوْ إِبْرَاءَهُ لَهُ، وَأَنْ يُحَلِّفَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِذَا حَلَفَ هَلْ يُقْرَعُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، فَهُوَ حُرٌّ، وَعَلَى الْآخَرِ أَدَاءُ النُّجُومِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقْرَعُ، قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ التَّوَقُّفُ إِلَى الِاصْطِلَاحِ، أَوِ الْبَيَانِ، أَوْ بَيِّنَةٍ، وَيَنْقَدِحُ أَنْ يُقَالَ: لِلْوَارِثِ تَعْجِيزُهُمَا، فَإِنَّهُمَا مُمْتَنِعَانِ مِنَ الْأَدَاءِ وَأَحَدُهُمَا مُكَاتَبٌ، وَحِينَئِذٍ فَأَحَدُهُمَا حُرٌّ، وَالْآخَرُ رَقِيقٌ، فَيُقْرَعُ، وَالْمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْجُمْهُورِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ بَعْضِ نُجُومِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ، فَلَا قُرْعَةَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ بِهِ، بَلْ يُوقَفُ الْأَمْرُ. وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُ الْمُكَاتَبَيْنِ عَلَى الْوَارِثِ الْأَدَاءَ أَوِ الْإِبْرَاءَ، فَأَنْكَرَ حَصَلَ بِإِنْكَارِهِ الْإِقْرَارُ لِلْآخَرِ، قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ فِيمَا إِذَا قَالَ فِي إِنْكَارِهِ: لَسْتَ الْمُؤَدِّيَ. أَمَّا إِذَا قَالَ: لَا أَعْلَمُ وَنَحْوَهُ، فَلَيْسَ مُقِرًّا لِلْآخِرِ بِلَا شَكٍّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فُرُوعٌ مِنْ «التَّهْذِيبِ» لَوْ قَالَ السَّيِّدُ: اسْتَوْفَيْتُ، أَوْ قَالَ الْمُكَاتَبُ: أَلَيْسَ قَدْ أَوْفَيْتُكَ، فَقَالَ: بَلَى، ثُمَّ قَالَ الْمُكَاتَبُ: وَفَّيْتُكَ الْجَمِيعَ. وَقَالَ السَّيِّدُ: الْبَعْضَ فَالْمُصَدَّقُ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ وَضَعَ عَنِ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا مِنَ النُّجُومِ وَاخْتَلَفَا، فَقَالَ السَّيِّدُ: وَضَعْتَ مِنَ النَّجْمِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْمُكَاتَبُ: مِنَ الْأَخِيرِ، أَوْ قَالَ: وَضَعْتُ بَعْضَ النُّجُومِ، فَقَالَ الْمُكَاتَبُ: بَلْ كُلَّهَا، صُدِّقَ السَّيِّدُ بِيَمِينِهِ. وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ لَمْ يَصِحَّ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ قِيمَةَ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ مِنَ الدَّرَاهِمِ صَحَّ. فَلَوْ قَالَ الْمُكَاتَبُ: أَرَدْتَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ، فَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، صُدِّقَ السَّيِّدُ. وَلَوْ وَضَعَ عَنْهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ مَا يُقَابِلُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمَا، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ أَوْصَى بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، وَأَجَازَ الْوَارِثُ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالزِّيَادَةِ فَفِي وَجْهٍ لَا يَصِحُّ، وَيُحْمَلْ عَلَى أَقَلِّ مَا يَتَيَقَّنُ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: تَصَرُّفَاتُ السَّيِّدِ فِي الْمُكَاتَبِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَتَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: فِي صِحَّةِ بَيْعِ السَّيِّدِ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ، وَهِبَتِهِ قَوْلَانِ، الْأَظْهَرُ الْجَدِيدُ: بُطْلَانُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَدَّى النُّجُومَ إِلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ، فَهَلْ يُعْتَقُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَوْ دَفَعَ النُّجُومَ إِلَى مُشْتَرِي النُّجُومِ. وَلَوِ اسْتَخْدَمَهُ الْمُشْتَرِي مُدَّةً لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْمُكَاتَبِ، وَهَلْ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُمْهِلَهُ قَدْرَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؟ قَوْلَانِ كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَهُ السَّيِّدُ أَوْ حَبَسَهُ. وَإِنْ قُلْنَا

بِالْقَدِيمِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ: بَقَاءُ الْكِتَابَةِ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي مُكَاتَبًا، فَإِذَا أَدَّى إِلَيْهِ النُّجُومَ عَتَقَ وَكَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: يُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْبَائِعِ، وَيَكُونُ انْتِقَالُهُ بِالشِّرَاءِ كَانْتِقَالِهِ بِالْإِرْثِ. وَالثَّالِثُ: تَرْتَفِعُ الْكِتَابَةُ بِالْبَيْعِ، فَيَنْتَقِلُ غَيْرَ مُكَاتَبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ قَالَ أَجْنَبِيٌّ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ: أَعْتِقْ مُكَاتِبَكَ عَلَى كَذَا، أَوْ أَعْتِقْهُ عَنِّي عَلَى كَذَا، أَوْ مَجَّانًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَعْتِقْ مُسْتَوْلِدَتَكَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَلَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ بَيْعُ مَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ، وَلَا إِعْتَاقُ عَبِيدِهِ، وَلَا تَزْوِيجُ إِمَائِهِ. الثَّانِيَةُ: لَا يَصِحُّ بَيْعُ السَّيِّدِ نُجُومَ الْكِتَابَةِ الَّتِي عَلَى الْمُكَاتَبِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا الِاسْتِبْدَالُ عَنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ، فَلَوْ بَاعَهَا لَمْ يَجُزْ لِلْمُكَاتَبِ تَسْلِيمُهَا إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَتُهُ بِهَا، وَيَحْصُلُ الْعِتْقُ بِدَفْعِهَا إِلَى السَّيِّدِ. وَهَلْ يَحْصُلُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْمُشْتَرِي؟ قَالَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : نَعَمْ. وَفِي «الْأُمِّ» : لَا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ سُلْطَةً عَلَى الْقَبْضِ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ وَأَظْهَرُهُمَا: لَا لِأَنَّهُ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ، حَتَّى لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ قَالَ عِنْدَ الْبَيْعِ: خُذْهَا مِنْهُ، أَوْ قَالَ لِلْمُكَاتَبِ: ادْفَعْهَا إِلَيْهِ، صَارَ وَكِيلًا، وَعَتَقَ بِقَبْضِهِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَيْعِ، فَلَا. وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ عَرَضَ هَذَا الْفَرْقَ عَلَى ابْنِ سُرَيْجٍ، فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ. وَقَالَ: هُوَ وَإِنْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ، فَإِنَّمَا يَأْذَنُ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ لَا بِالْوِكَالَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُعْتَقُ، فَمَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي يُعْطِيهِ لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ كَتَوْكِيلِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْتَقُ، فَالسَّيِّدُ يُطَالِبُ الْمُكَاتَبَ، وَالْمُكَاتَبُ يَسْتَرِدُّ مِنَ الْمُشْتَرِي.

الثَّالِثَةُ: السَّيِّدُ مَعَهُ فِي الْمُعَامَلَةِ كَأَجْنَبِيٍّ يُبَايِعُهُ، وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ بِالشُّفْعَةِ. فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ عَلَى سَيِّدِهِ دَيْنُ مُعَامَلَةٍ، وَلِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ النُّجُومُ، أَوْ دَيْنُ مُعَامَلَةٍ، فَفِي التَّقَاصِّ الْخِلَافُ الْآتِي فِي الْفَرْعِ عَقِيبَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ فِي التَّقَاصِّ إِذَا ثَبَتَ لِشَخْصَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَيْنٌ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ جِهَتَيْنِ، كَسَلَمٍ وَقَرْضٍ، أَوْ قَرْضٍ وَثَمَنٍ، نُظِرَ هَلْ هُمَا نَقْدَانِ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُمَا جِنْسٌ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَا جِنْسًا، وَاتَّفَقَا فِي الْحُلُولِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: يَحْصُلُ التَّقَاصُّ بِنَفْسِ ثُبُوتِ الدَّيْنَيْنِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الرِّضَى إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْصُلُ التَّقَاصُّ، وَإِنْ رَضِيَا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَالثَّالِثُ: يُشْتَرَطُ فِي التَّقَاصِّ رِضَاهُمَا. وَالرَّابِعُ: يَكْفِي رِضَى أَحَدِهِمَا. وَإِنِ اخْتَلَفَ الدَّيْنَانِ فِي الصِّفَاتِ كَالصِّحَّةِ، وَالْكَسْرِ، وَالْحُلُولِ، وَالتَّأْجِيلِ، أَوْ قَدْرِ الْأَجَلِ، لَمْ يَحْصُلِ التَّقَاصُّ؛ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ، وَلِصَاحِبِ الْحَالِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَيَنْتَفِعَ بِهِ إِلَى أَنْ يَحِلَّ مَا عَلَيْهِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى جَعْلِ الْحَالِ قِصَاصًا عَنِ الْمُؤَجَّلِ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا فِي الْحَوَالَةِ. وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ فِيهِمَا وَجْهًا. وَلَوْ كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ لِأَجَلٍ وَاحِدٍ، فَهَلْ هُمَا كَالْحَالَّيْنِ، أَمْ كَمُؤَجَّلَيْنِ بِأَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؟ وَجْهَانِ أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ الْبَغَوِيِّ: الثَّانِي. وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ: دَرَاهِمَ، وَدَنَانِيرَ، فَلَا مُقَاصَّةَ. وَالطَّرِيقُ: أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا مَا عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ جَعَلَ الْمَأْخُوذَ عِوَضًا عَمَّا عَلَيْهِ، فَيَرُدُّهُ إِلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَبْضِ الْعِوَضِ

الْآخَرِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الدَّيْنَانِ نَقْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَا جِنْسًا، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا تَقَاصَّ وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْأَقْوَالِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَعَلَى الْأَقْوَالِ، وَإِلَّا فَلَا تَقَاصَّ قَطْعًا وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ فَلَا تَقَاصَّ قَطْعًا، وَإِنْ تَرَاضَيَا، بَلْ إِنْ كَانَا عَرْضَيْنِ، فَلْيَقْبِضْ كُلُّ وَاحِدٍ مَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ عِوَضًا عَنِ الْمُسْتَحَقِّ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ عَرْضٍ قَبْلَ الْقَبْضِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَرْضُ مُسْتَحَقًّا بِقَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ، لَا بِعَقْدٍ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَرْضًا، وَالْآخَرُ نَقْدًا، فَإِنْ قَبَضَ مُسْتَحِقُّ الْعَرْضِ الْعَرْضَ، وَرَدَّهُ عِوَضًا عَنِ النَّقْدِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ [جَازَ، وَإِنْ قَبَضَ مُسْتَحِقُّ النَّقْدِ النَّقْدَ، وَرَدَّهُ عِوَضًا عَنِ الْعَرْضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ] لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْضُ مُسْتَحَقًّا بِقَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ. هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَإِذَا حَصَلَ التَّقَاصُّ بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْمُكَاتَبِ، وَبَرِئَ الْمُكَاتَبُ عَنِ النُّجُومِ عَتَقَ كَمَا لَوْ أَدَّاهَا. قُلْتُ: فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَتَقَاصَّانِ، وَلَمْ يَبْدَأْ أَحَدُهُمَا بِتَسْلِيمِ مَا عَلَيْهِ حُبِسَ حَتَّى يُسَلِّمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: إِذَا أَوْصَى السَّيِّدُ بِالْمُكَاتَبِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْقَدِيمِ الَّذِي نُصَحِّحُ بَيْعَهُ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى الْجَدِيدِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ عَجَزَ مُكَاتَبِي، وَعَادَ إِلَى الرِّقِّ، فَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ اعْتِبَارًا بِحَالِ التَّعْلِيقِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ مَلَكْتُ عَبْدَ فُلَانٍ، فَهُوَ حُرٌّ. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورَ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثَمَرَةِ نَخْلَتِهِ، وَحَمْلِ جَارِيَتِهِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ مَلَكْتُ عَبْدَ

فُلَانٍ، فَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَعَجَزَ، وَأَرَادَ الْوَارِثُ إِنْظَارَهُ، فَلِلْمُوصَى لَهُ تَعْجِيزُهُ، وَلْيَأْخُذْهُ وَإِنَّمَا يُعَجِّزُهُ بِالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِالنُّجُومِ الَّتِي عَلَيْهِ صَحَّتْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَقِرَّةً كَمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فِي الْحَالِ، فَإِنْ أَدَّاهَا فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَوَلَاءُ الْمُكَاتَبِ لِلسَّيِّدِ. وَإِنْ عَجَزَ فَلِلْوَارِثِ تَعْجِيزُهُ وَفَسْخُ الْكِتَابَةِ. وَإِنْ أَنْظَرَهُ الْمُوصَى لَهُ، فَهَلْ لِلْمُوصَى لَهُ إِبْرَاؤُهُ عَنِ النُّجُومِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِابْنِ كَجٍّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ. وَلَوْ أَوْصَى لِوَاحِدٍ بِرَقَبَتِهِ إِنْ عَجَزَ وَلِآخَرَ بِالنُّجُومِ صَحَّتِ الْوَصِيَّتَانِ، فَإِنْ أَدَّى الْمَالَ، بَطَلَتِ الْأُولَى. وَإِنْ رَقَّ بَطَلَتِ الثَّانِيَةُ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَا يُعَجِّلُهُ الْمُكَاتَبُ، فَلَمْ يُعَجِّلْ، وَأَدَّى النُّجُومَ فِي مَحَلِّهَا بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى التَّعْجِيلِ لِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، أَمَّا إِنْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً، ثُمَّ أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِفَسَادِ الْكِتَابَةِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: وَتَتَضَمَّنُ الْوَصِيَّةُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ. وَإِنْ كَانَ يُظَنُّ صِحَّتُهَا، فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى مُعْتَقِدًا بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ، وَأَظْهَرُهُمَا: تَصِحُّ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ كَانَ عَالِمًا بِفَسَادِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَةَ [كَالصَّحِيحَةِ فِي حُصُولِ الٌعِتْقِ] وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا، ثُمَّ أَوْصَى بِالْمَبِيعِ وَهُوَ عَالِمٌ بِفَسَادِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَيْسَ كَالصَّحِيحِ. وَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِالْمَبِيعِ جَاهِلًا بِفَسَادِ الْمَبِيعِ، فَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ بَاعَ الْمُكَاتَبَ كِتَابَةً فَاسِدَةً، أَوِ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا، [أَوْ وَهَبَ] ، أَوْ رَهَنَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالْفَسَادِ، فَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَقِيلَ: يَبْطُلُ قَطْعًا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْغَرَرَ. وَالْخِلَافُ

فِي هَذَا [كُلِّهِ] كَالْخِلَافِ فِيمَنْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ ظَانًّا أَنَّهُ حَيٌّ فَكَانَ مَيِّتًا. وَفِي مَعْنَاهَا، مَا إِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ، ثُمَّ بَاعَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْوَكِيلَ اشْتَرَاهُ لَهُ، أَوْ بَاعَ مَالَ الْيَتِيمِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ جَعَلَهُ وَصِيًّا لَهُ، فَبَانَ أَنَّهُ جَعَلَهُ. الْخَامِسَةُ: الْوَصِيَّةُ بِوَضْعِ النُّجُومِ عَنِ الْمُكَاتَبِ صَحِيحَةُ مُعْتَبِرَةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَلَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ النُّجُومِ أَوْ كِتَابَتِهِ، فَمُقْتَضَاهُ وَضْعُ النُّجُومِ. فَلَوْ قَالَ: نَجْمًا مِنْ نُجُومِهِ، فَالِاخْتِيَارُ لِلْوَارِثِ يَضَعُ مَا شَاءَ أَقَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا، أَوَّلَهَا أَوْ آخِرَهَا أَوْ أَوْسَطَهَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، أَوْ مَا خَفَّ وَثَقُلَ. وَلَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ مَا شَاءَ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ، فَشَاءَ وَضْعَ الْجَمِيعِ لَمْ يُوضَعِ الْجَمِيعُ، بَلْ يَبْقَى أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ؛ لِأَنَّ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: ضَعُوا عَنْهُ مَا شَاءَ [فَشَاءَ] الْجَمِيعَ، فَقِيلَ بِوَضْعِ الْجَمِيعِ. وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يَبْقَى شَيْءٌ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ. وَلَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ مَا عَلَيْهِ، أَوْ أَكْثَرَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ وُضِعَ نِصْفُ مَا عَلَيْهِ وَزِيَادَةٌ، وَتَقْدِيرُ الزِّيَادَةِ إِلَى اخْتِيَارِ الْوَارِثِ. وَلَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ أَوْ مَا عَلَيْهِ وَأَكْثَرَ وُضِعَ عَنْهُ الْجَمِيعُ، وَلَغَا ذِكْرُ الزِّيَادَةِ. وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ نُجُومٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَقْدَارِ وَالْآجَالِ، فَقَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ النُّجُومِ أَوْ أَكْبَرَهَا، رُوعِيَ الْقَدْرُ. وَإِنْ قَالَ: أَطْوَلَهَا وَأَقْصَرَهَا رُوعِيَتِ الْمُدَّةُ. وَإِنْ قَالَ: أَوْسَطَ النُّجُومِ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ الْأَوْسَطَ فِي الْقَدْرِ، وَفِي الْأَجَلِ وَفِي الْعَدَدِ، فَإِنِ اخْتَلَفَتِ النُّجُومُ فِيهَا جَمِيعًا، فَلِلْوَرَثَةِ تَعْيِينُ مَا شَاءُوا، فَإِنْ زَعَمَ الْمُكَاتَبُ أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَهُمْ حَلَّفَهُمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقَدْرِ

وَالْأَجْلِ حُمِلَتْ عَلَى الْعَدَدِ، فَإِذَا كَانَ الْعَدَدُ وِتْرًا كَالثَّلَاثَةِ وَالْخَمْسَةِ، فَالْأَوْسَطُ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ شَفْعًا، فَالْأَوْسَطُ اثْنَانِ كَالثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَيُعَيِّنُ الْوَارِثُ أَحَدَهُمَا، هَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْأَوْسَطُ كِلَاهُمَا، فَيُوضَعَانِ، وَهَذَا مُقْتَضَى مَا فِي «التَّهْذِيبِ» . فَرْعٌ أَوْصَى بِكِتَابَةِ عَبْدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَمْ يَرْغَبِ الْعَبْدُ فِي الْكِتَابَةِ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يُكَاتِبُ بَدَلَهُ آخَرَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَزَيْدٍ بِمَالٍ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَلَا يُصْرَفُ إِلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ رَغِبَ فَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ كُوتِبَ ثُمَّ [إِنْ] عَيَّنَ مَالَ الْكِتَابَةِ كُوتِبَ عَلَى مَا عَيَّنَهُ، وَإِلَّا فَعَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَالْعَادَةُ أَنْ يُكَاتَبَ الْعَبْدُ عَلَى مَا فَوْقَ قِيمَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ، فَلَمْ يُجِزِ الْوَارِثُ، فَقِيلَ: كِتَابَةُ الْقَدْرِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ يَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ فِي كِتَابَةِ بَعْضِ الْعَبْدِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُكَاتِبُ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَيَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يُبَالِي بِالتَّبْعِيضِ إِذَا أَفْضَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ، وَإِذَا كُوتِبَ بَعْضُهُ، وَأَدَّى النُّجُومَ عَتَقَ، وَوَلَاؤُهُ لِلْمُوصِي وَالْبَاقِي رَقِيقٌ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ كِتَابَةَ كُلِّهِ، وَعَتَقَ بِأَدَاءِ النُّجُومِ فَوَلَاءُ الْجَمِيعِ لِلْمُوصِي إِنْ جَعَلْنَا الْإِجَازَةَ تَنْفِيذًا، وَإِلَّا فَوَلَاءُ مَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْخَارِجِ مِنَ الثُّلُثِ لِلْوَارِثِ. وَلَوْ قَالَ: كَاتِبُوا أَحَدَ عَبِيدِي لَمْ يُكَاتَبْ أَمَةٌ، وَلَا خُنْثَى مُشْكِلٌ. وَهَلْ يُكَاتَبُ خُنْثَى ظَهَرَتْ ذُكُورَتُهُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: نَعَمْ. وَالثَّانِي: قَوْلَانِ؛ لِبُعْدِهِ عَنِ الْفَهْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَلَوْ قَالَ: كَاتِبُوا إِحْدَى إِمَائِي، لَمْ يُكَاتَبِ الْمُشْكِلُ، فَإِنْ ظَهَرَتْ أُنُوثَتُهَا، فَعَلَى الطَّرِيقَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَحَدَ رَقِيقِي جَازَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، وَجَازَ الْمُشْكِلُ عَلَى الْمَشْهُورِ.

فصل

فَصْلٌ وَأَمَّا تَصَرُّفَاتُ الْمُكَاتَبِ، فَهُوَ كَالْحُرِّ فِي مُعْظَمِهَا، فَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي، وَيُؤَجِّرُ وَيَسْتَأْجِرُ، وَيَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ، وَيَقْبَلُ الْهِبَةَ، وَالْوَصِيَّةَ، وَالصَّدَقَةَ، وَيَصْطَادُ وَيَحْتَطِبُ، وَيُؤَدِّبُ عَبِيدَهُ إِصْلَاحًا لِلْمَالِ، كَمَا يَقْصِدُهُمْ وَيَخْتِنُهُمْ. وَفِي إِقَامَتِهِ الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْحُدُودِ. وَلَوْ أَجَّرَ نَفْسَهُ أَوْ عَبِيدَهُ أَوْ أَمْوَالَهُ، فَعَجَّزَهُ السَّيِّدُ فِي الْمُدَّةِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَزِيدَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ عَلَى مُدَّةِ النُّجُومِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ تَبَرُّعٌ أَوْ خَطَرٌ. هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْجُمَلِيُّ فِيهِ وَفِي تَفْصِيلِهِ صُوَرٌ. إِحْدَاهَا: لَا يَصِحُّ إِعْتَاقُهُ وَلَا إِبْرَاؤُهُ عَنْ دَيْنٍ وَلَا هِبَةٍ مَجَّانًا، وَلَا بِشَرْطِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّ فِي قَدْرِ الثَّوَابِ خِلَافًا، فَقَدْ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِقَلِيلٍ. وَإِنْ شَرَطَ فِيهَا ثَوَابًا مَعْلُومًا، وَلَمْ يَكُنْ [فِيهِ] غَبْنٌ، وَقُلْنَا: هَذِهِ الْهِبَةُ بَيْعٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ الْإِقْبَاضُ، فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى قِيَاسِ الْبُيُوعِ. وَكَذَا إِنْ شَرَطْنَا الْإِقْبَاضَ صَحَّتِ الْهِبَةُ، لَكِنْ لَا يُسَلِّمُهَا حَتَّى يَقْبِضَ الْعِوَضَ. الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يَحِلُّ لَهُ التَّبَسُّطُ فِي الْمَلَابِسِ وَالْمَآكِلِ، وَلَا يُكَلِّفُ فِيهَا التَّقْتِيرَ الْمُفْرِطَ. الثَّالِثَةُ: لَيْسَ لَهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ قِرَاضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخُونُ أَوْ يَمُوتُ فَيَضِيعُ. وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إِقْرَاضًا؛ لِأَنَّهُ أَكْسَابٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَرِضَ، وَلَيْسَ لَهُ تَعْجِيلُ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ.

الرَّابِعَةُ: لَيْسَ لَهُ شِرَاءُ أَحَدٍ مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ لِتَضَمُّنِهِ الْعِتْقَ. فَلَوْ وَهَبَ لَهُ قَرِيبَهُ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَسْبِ لِهِرَمٍ أَوْ زَمَانَةٍ وَعَجَزَ وَكَانَ بِحَيْثُ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، لَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ قَبُولُ الزَّمِنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَإِنْ كَانَ كَسُوبًا يَقُومُ بِكِفَايَةِ نَفْسِهِ اسْتُحِبَّ قَبُولُهُ، إِذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ، ثُمَّ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ لِضَعْفِ مِلْكِهِ، بَلْ يُكَاتِبُ عَلَيْهِ فَيَعْتِقُ بِعِتْقِهِ، وَيَرِقُّ بِرِقِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا غَلَطٌ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ، وَمَا فَضَلَ فَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ فِي أَدَاءِ النُّجُومِ، فَإِنْ مَرِضَ أَوْ عَجَزَ أَنْفَقَ الْمُكَاتِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَلَاحِ مِلْكِهِ، فَإِنْ جَنَى بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا جَنَى عَبْدُهُ لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ تَبْقَى لَهُ يَصْرِفُهَا فِي النُّجُومِ. الْخَامِسَةُ: لَيْسَ لَهُ الشِّرَاءُ بِالْمُحَابَاةِ، وَلَا الْبَيْعُ بِالْغَبْنِ، وَلَا بِالنَّسِيئَةِ. وَلَوِ اسْتَوْثَقَ بَرْهَنٍ وَكَفِيلٍ، فَلَوْ بَاعَ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِمِائَةٍ نَقْدًا، أَوْ مِائَةً نَسِيئَةً جَازَ وَلَوِ اشْتَرَى نَسِيئَةً بِثَمَنِ النَّقْدِ جَازَ، وَلَا يَرْهَنُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ الرَّهْنُ. وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِثَمَنِ نَسِيئَةٍ لَمْ يَجُزْ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّبَرُّعِ، وَذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ فِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» أَنَّهُ يَجُوزُ إِذْ لَا غَبْنَ. وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ «الرَّهْنِ» حِكَايَةُ وَجْهٍ أَنَّ الْمُكَاتَبَ كَوَلِيِّ الطِّفْلِ فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً، وَالرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الْفَرْقُ. السَّادِسَةُ: إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى لَمْ يُسَلِّمْ مَا فِي يَدِهِ حَتَّى يَتَسَلَّمَ الْعِوَضَ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدِ عَنِ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ نَوْعُ غَرَرٍ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ السَّلَمُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ، وَانْتِظَارَ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ سَلَمًا مُؤَجَّلًا. وَقِيلَ: يَجُوزُ [السَّلَمُ حَالًا، وَيُسَلِّمُ رَأْسَ الْمَالِ، ثُمَّ يَتَسَلَّمُ الْمُسَلَّمَ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ] مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْغِبْطَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

فصل

السَّابِعَةُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ، فَلَوْ كَاتَبَهُ، فَأَدَّى الْمَالَ لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ تَعْلِيقَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا يَتَزَوَّجَ، وَلَا يُزَوِّجَ عَبْدَهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُؤَنِ، وَلَا يَتَزَوَّجَ الْمُكَاتَبَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْقُصُهَا. وَلَهُ شِرَاءُ الْجَوَارِي لِلتِّجَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّسَرِّي خَوْفًا مِنْ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ فِي الطَّلْقِ، وَلِضَعْفِ الْمِلْكِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يَبْعُدُ إِجْرَاءُ الْوَجْهَيْنِ فِي وَطْءِ مَنْ يُؤْمَنُ حَبَلُهَا كَمَا فِي الْمَرْهُونَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا غَيْرُ مَرَضِيٍّ. الثَّامِنَةُ: إِذَا لَزِمَ الْمُكَاتَبَ كَفَّارَةُ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ وَطْءٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَوْ يَمِينٍ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ دُونَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَيْسَ بِتَمَامٍ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِجِهَةِ الْكِتَابَةِ. فَرْعٌ جَمِيعُ مَا مَنَعْنَاهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ، فَإِنْ أَذِنَ فَسَنَذْكُرُهُ عَقِيبَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَرْعٌ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ أَوْصَى بِعَيْنٍ أَوْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَمَامٍ. فَصْلٌ تَبَرُّعَاتُ الْمُكَاتَبِ وَتَصَرُّفَاتُهُ الْمُحَظَّرَةُ كَالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَالْإِقْرَاضِ وَالْقِرَاضِ وَالْبَيْعِ بِمُحَابَاةٍ وَبِنَسِيئَةٍ، وَتَعْجِيلِ

الْمُؤَجَّلِ وَنَحْوِهَا، إِنْ جَرَتْ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَمَنْقُولُ الْمُزَنِيِّ وَالْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» صِحَّتُهَا. وَنَقَلَ الرَّبِيعُ قَوْلًا آخَرَ بِالْمَنْعِ. وَنَصَّ أَنَّ اخْتِلَاعَ الْمُكَاتَبِ بِالْإِذْنِ لَا يَجُوزُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: فِي الْجَمِيعِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الصِّحَّةُ. وَقِيلَ: يَصِحُّ مَا سِوَى الْخُلْعِ قَطْعًا، وَلَا يَصِحُّ هُوَ. وَعَنِ ابْنِ سَلَمَةَ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ أَيْضًا. وَلَوْ وُهِبَ لِلسَّيِّدِ أَوْ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فَقَبِلَ لَهُ السَّيِّدُ، أَوْ أَقْرَضَهُ، أَوْ بَاعَهُ نَسِيئَةً أَوْ بِمُحَابَاةٍ أَوْ عَجَّلَ لَهُ دَيْنًا مُؤَجَّلًا غَيْرَ النُّجُومِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا وَهَبَ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ قَطْعًا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ، فَيَجْعَلَ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، فَجَوَازُ الْهِبَةِ أَوْلَى. وَلَوْ وَهَبَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَرَجَعَ عَنِ الْإِذْنِ قَبْلَ إِقْبَاضِ الْمَوْهُوبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِقْبَاضُهُ. وَلَوِ اشْتَرَى قَرِيبَهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَفِي صِحَّتِهِ الْقَوْلَانِ فِي الْهِبَةِ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ يُكَاتِبْ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: الْقَطْعُ [بِالصِّحَةِ] ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَفِيدُ مِنْ أَكْسَابِهِ، وَفِيهِ صِلَةُ الرَّحِمِ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُكَاتَبُ عَبْدَهُ عَنْ سَيِّدِهِ، أَوْ عَنْ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، فَهُوَ كَتَبَرُّعِهِ بِالْإِذْنِ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، لَا يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِتَضَمُّنِهِ الْوَلَاءَ، وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ أَهْلًا لِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ كَالْقِنِّ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، فَلِمَنْ يَكُونُ وَلَاءُ الْعَتِيقِ؟ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ أَهْلًا لِلْوَلَاءِ، وَوَقْفُ الْوَلَاءِ بِعِيدٌ، وَأَظْهَرُهُمَا: يُوقَفُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَالسَّيِّدُ لَمْ يُعْتِقْ، فَإِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ كَانَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ رَقِيقًا كَانَ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ عَجَّزَهُ وَرَقَّ، فَحَكَى الْإِمَامُ أَنَّهُ يَبْقَى التَّوَقُّفُ؛ لِأَنَّهُ يُرْجَى عِتْقُهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ أَنْ يَكُونَ لِلسَّيِّدِ بِلَا تَوَقُّفٍ؛ لِانْقِطَاعِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ جَعَلْنَا الْوَلَاءَ لِلسَّيِّدِ، فَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَفِي انْجِرَارِ الْوَلَاءِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيِّ الطَّبَرِيُّ وَصَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَكَأَنَّ

السَّيِّدَ أَعْتَقَهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ، فَمَاتَ الْعَتِيقُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ وَعَوْدِهِ إِلَى الرِّقِّ، فَهَلْ يُوقَفُ الْمِيرَاثُ أَيْضًا، أَمْ يَكُونُ لِلسَّيِّدِ، أَمْ لِبَيْتِ الْمَالِ؟ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا: الْأَوَّلُ. وَلَوْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْدَهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَهُوَ كَتَنْجِيزِ الْعِتْقِ نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَقَالَهُ الْأَصْحَابُ، فَيَعُودُ الطَّرِيقَانِ فِي صِحَّةِ الْكِتَابَةِ وَالْقَوْلَانِ فِي الْوَلَاءِ تَفْرِيعًا عَلَى الصِّحَّةِ إِذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ. وَإِنْ عَتَقَ الْأَوَّلُ ثُمَّ الثَّانِي، فَوَلَاءُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ. وَفِي نِكَاحِ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلَانِ، كَتَبَرُّعِهِ؛ لِأَنَّهُ يَبْذُلُ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ لَا فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ. وَالثَّانِي. وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا صَحَّ نِكَاحُ الْقِنِّ بِالْإِذْنِ، فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلتَّحْصِينِ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا. وَتَزْوِيجُ الْمُكَاتَبَةِ بِإِذْنِهَا صَحِيحٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا تُزَوَّجُ أَصْلًا لِضَعْفِ مِلْكِ السَّيِّدِ وَنَقْصِهَا، فَلَا يُؤَثِّرُ إِذْنُهَا. وَلَوْ أَذِنَ السَّيِّدُ لِلْمُكَاتَبِ فِي التَّسَرِّي بِجَارِيَةٍ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ أَوْ بِالْكُسْوَةِ، فَقَوْلَانِ وَلَوْ أَذِنَ فِي التَّكْفِيرِ بِالْإِعْتَاقِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. فَرْعٌ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ فَقَبِلَ صَحَّ، وَمَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ. فَإِنْ رَقَّ الْمُكَاتَبُ، صَارَ الْقَرِيبُ لِلسَّيِّدِ، وَعُتِقَ عَلَيْهِ وَلَوِ اشْتَرَى بَعْضَهُ، أَوِ اتَّهَبَهُ، أَوْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِهِ، صَحَّ أَيْضًا. وَإِذَا رَقَّ، عَتَقَ ذَلِكَ الشِّقْصُ عَلَى السَّيِّدِ. وَهَلْ يَسْرِي إِلَى الْبَاقِي؟ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُوسِرًا، يَنْظُرُ إِنْ عَجَّزَ الْمُكَاتَبُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ السَّيِّدِ لَمْ يَسْرِ كَمَا لَوْ وَرِثَ بَعْضَ قَرِيبِهِ، وَإِنْ عَجَّزَهُ السَّيِّدُ، فَوَجْهَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فَسْخُ الْكِتَابَةِ، وَالْمِلْكُ يَحْصُلُ قَهْرًا. وَلَوِ اتَّهَبَ

الْعَبْدُ الْقِنَّ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ بُنِيَ عَلَى أَنَّ اتِّهَابَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، هَلْ يَنْفُذُ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. إِنْ قُلْنَا: لَا، فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنْ خِيفَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَى السَّيِّدِ فِي الْحَالِ، فَإِنِ اتَّهَبَ زَمَنًا وَالسَّيِّدُ مُوسِرٌ، لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ [لِأَنَّ فِيهِ] إِضْرَارًا بِالسَّيِّدِ. وَإِنْ لَمْ تَجِبِ النَّفَقَةُ فِي الْحَالِ؛ لِكَوْنِ الْقَرِيبِ كَسُوبًا، أَوِ السَّيِّدِ فَقِيرًا صَحَّ الْقَبُولُ، وَعُتِقَ الْمَوْهُوبُ عَلَى السَّيِّدِ. وَلَوِ اتَّهَبَ بَعْضَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى السَّيِّدِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَصَحَّحْنَا اتِّهَابَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لُزُومُ النَّفَقَةِ صَحَّ الْقَبُولُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَلَا يَسْرِي؛ لِحُصُولِ الْمِلْكِ قَهْرًا. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَا إِذَا اشْتَرَى الْمَرِيضُ أَبَاهُ بِأَلْفٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرَقٌ فَفِي قَوْلٍ: لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَعَتَقَ، وَبَطَلَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ. وَفِي الثَّانِي: يَصِحُّ، وَلَا يُعْتَقُ وَيُبَاعُ فِي دُيُونِهِمْ. وَفِي «الْوَسِيطِ» وَجْهٌ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيُعْتَقُ وَيَسْرِي، وَيُجْعَلُ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ كَاخْتِيَارِهِ كَمَا جُعِلَ قَبُولُهُ كَقَبُولِهِ. وَلَمْ أَجِدْ هَذَا الْوَجْهَ فِي «النِّهَايَةِ» وَإِذَا صَحَّحْنَا اتِّهَابَ الْقِنِّ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ دَخَلَ الْمَوْهُوبُ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ، قَهْرًا كَمَا لَوِ احْتَطَبَ. وَهَلْ لِلسَّيِّدِ رَدُّهُ بَعْدَ قَبُولِ السَّيِّدِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الرَّشِيدِ قَهْرًا بِعِيدٌ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، كَالْمِلْكِ بِالِاحْتِطَابِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ هَلْ يَنْقَطِعُ مِلْكُهُ مِنْ وَقْتِ الرَّدِّ، أَمْ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ؟ وَجْهَانِ وَفَائِدَتُهُمَا، لَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ عَبْدًا، وَوَقَعَ هِلَالُ شَوَّالٍ بَيْنَ قَبُولِ الْعَبْدِ وَرَدِّ السَّيِّدِ فِي الْفِطْرَةِ.

فَرْعٌ وَهَبَ الْمُكَاتَبُ بَعْضَ ابْنِهِ فَقَبِلَهُ، وَصَحَّحْنَا قَبُولَهُ فَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ عَتَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشِّقْصُ. وَهَلْ يُقَوَّمُ الْبَاقِي عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَمَنَعَهُ الْقَفَّالُ. فَرْعٌ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ ابْنَ سَيِّدِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ بِأَبِي السَّيِّدِ صَحَّ، وَمَلَكَ الْأَبَ، فَإِنْ رَقَّ الْمُكَاتَبُ صَارَ الْأَبُ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ وَلَهُ الْأَرْشُ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَإِنْ نَقَصَ الْعَيْنُ عُشْرَ قِيمَةِ الْأَبِ، رَجَعَ بِعُشْرِ الِابْنِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ، وَيُعْتَقُ ذَلِكَ الْعُشْرُ، وَلَا يُقَوَّمُ الْبَاقِي عَلَى السَّيِّدِ إِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ عَجَّزَ نَفْسَهُ، وَكَذَا إِنْ عَجَّزَهُ سَيِّدُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَرْعٌ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ وَطْءُ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَا بِإِذْنِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. فَلَوْ وَطِئَ، فَلَا حَدَّ وَلَا مَهْرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ مَهْرٌ لَكَانَ لَهُ، فَإِنْ أَوْلَدَهَا، فَالْوَلَدُ نَسِيبٌ، فَإِنْ وَلَدَتْهُ وَهُوَ مُكَاتَبٌ بَعْدُ، فَهُوَ مِلْكُهُ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَمَتِهِ، لَكِنْ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُهُ، وَلَا يُعْتِقُ عَلَيْهِ؛ لِضَعْفِ مِلْكِهِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عِتْقُهُ عَلَى عِتْقِ الْمُكَاتَبِ إِنْ عَتَقَ

عَتَقَ، وَإِلَّا رَقَّ وَصَارَ لِلسَّيِّدِ، وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ مُسْتَوْلَدَةً [لَهُ] فِي الْحَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهَا عُلِّقَتْ بِمَمْلُوكٍ، فَأَشْبَهَتِ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ لَمْ يَثْبُتْ بِالِاسْتِيلَادِ فِي الْمِلْكِ، بَلْ لِمَصِيرِهِ مِلْكًا لِأَبِيهِ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِهِبَةٍ، فَإِنْ عَتَقَ فَفِي مَصِيرِهَا أُمَّ وَلَدٍ قَوْلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ اسْتَقَرَّ الِاسْتِيلَادُ، وَإِنْ عَجَزَ رَقَّتْ مَعَ الْوَلَدِ لِلسَّيِّدِ، فَإِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَلَكَهَا، لَمْ تَصِرْ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ؛ لِأَنَّ بِالْعَجْزِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا عُلِّقَتْ بِرَقِيقٍ، وَأَنْ لَا اسْتِيلَادَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَثْبُتُ فَإِنْ عَجَزَ، ثُمَّ عَتَقَ وَمَلَكَهَا، لَمْ تَصِرْ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ، وَإِنْ أَعْتَقَ بِأَدَاءِ النُّجُومِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: قَوْلَانِ، كَمَا لَوِ اسْتَوْلَدَ مَرْهُونَتَهُ، وَبِيعَتْ ثُمَّ مَلَكَهَا، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعُلُوقَ هُنَا بِمَمْلُوكِ هَذَا كُلِّهِ إِذَا وَلَدَتْ وَهُوَ بَعْدُ مُكَاتَبٌ، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَإِنْ كَانَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعِتْقِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ وَقَعَ فِي الرِّقِّ، وَإِنْ كَانَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ [مِنْ] يَوْمِئِذٍ، فَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَوْلَدَةً. وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّ هَذَا إِذَا وَطِئَ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ الْوَطْءِ لِظُهُورِ الْعُلُوقِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَالْوَلَدِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْوَلَاءِ عَلَى أَبِيهِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى احْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي الرِّقِّ تَغْلِيبًا لِلْحُرِّيَّةِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، فَالِاسْتِيلَادُ عَلَى الْخِلَافِ. وَالثَّانِي: يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ وَطِئَ بَعْدَ [الْحُرِّيَّةِ] أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِرَاشًا قَبْلَ الْحُرِّيَّةِ وَالْفِرَاشُ مُسْتَدَامٌ بَعْدَهَا، وَإِمْكَانُ الْعُلُوقِ بَعْدَهَا قَائِمٌ، فَيُكْتَفَى بِهِ.

الْحُكْمُ الرَّابِعُ: فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ: فَإِذَا كَاتَبَ أَمَةً لَهَا وَلَدٌ، فَالْوَلَدُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، فَإِنْ شَرَطَ دُخُولَهُ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَسَدَتْ، فَإِنْ أَدَّتْ عَتَقَ الْوَلَدُ أَيْضًا بِمُوجِبِ التَّعْلِيقِ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا مَالٌ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ لَهَا، فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ بِعِوَضٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، وَتَيَقَّنَا الْحَمْلَ بِانْفِصَالِهِ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَمْلُ لَا يُعْرَفُ، فَهُوَ كَالْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا. فَإِنْ قُلْنَا: يُعْرَفُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمَا، فَإِذَا عَتَقَتْ عَتَقَ. وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ كِتَابَةٌ، وَإِنْ حَدَثَ الْوَلَدُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ السَّيِّدِ، فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِزِنًا أَوْ نِكَاحٍ، فَهَلْ ثَبَتَتْ لَهُ الْكِتَابَةُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَأَحَبُّهُمَا إِلَى الشَّافِعِيِّ وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : تَثْبُتُ، فَيُعْتَقُ بِعِتْقِ الْأُمِّ بِالْأَدَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءِ أَوِ الْإِعْتَاقِ. وَقَطَعَ أَبُو إِسْحَاقَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ: إِذَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ كَانَ الْآخَرُ سَاقِطًا، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ، وَلَا يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ مِنَ النُّجُومِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْتِزَامٌ. وَلَوْ عَجَزَتِ الْمُكَاتَبَةُ، أَوْ مَاتَتْ، بَطَلَتِ الْكِتَابَةُ، وَكَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا لِلسَّيِّدِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ فَسَخَتِ الْكِتَابَةَ، ثُمَّ عَتَقَتْ لَمْ يُعْتَقِ الْوَلَدُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا لِجِهَةِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُثْبِتُ الْوَلَدُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ فَهُوَ قِنٌّ لِلسَّيِّدِ بَيْعُهُ وَإِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَالْوَطْءُ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ أَمَةً وَلَا يُعْتَقُ بِعِتْقِ الْأُمِّ. وَإِنْ قُلْنَا: يَثْبُتُ، فَحَقُّ الْمِلْكِ فِيهِ لِمَنْ [هُوَ] فِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ لِلسَّيِّدِ كَمَا أَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ فِي الْأُمِّ لَهُ، وَكَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلسَّيِّدِ لَمَا عَتَقَ بِعِتْقِهَا. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ صُوَرٌ.

مِنْهَا: إِذَا قُتِلَ الْوَلَدُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: الْقِيمَةُ لِلسَّيِّدِ وَعَلَى الثَّانِي: لِلْمُكَاتَبِ. وَقِيلَ: لِلسَّيِّدِ أَيْضًا. وَمِنْهَا: كَسْبُ الْوَلَدِ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ، وَمَهْرُ وَطْءِ الشُّبْهَةِ إِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي، فَهِيَ لِلْأُمِّ يَسْتَعِينُ بِهَا فِي كِتَابَتِهَا، وَيُصْرَفُ مَا يَحْصُلُ إِلَيْهَا يَوْمًا يَوْمًا بِلَا تَوَقُّفٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُصْرَفُ إِلَى السَّيِّدِ بِلَا تَوَقُّفٍ، كَمَا تُصْرَفُ إِلَيْهِ الْقِيمَةُ. وَالصَّحِيحُ: التَّوَقُّفُ، فَإِنْ عَتَقَتْ وَعَتَقَ الْوَلَدُ فَهِيَ لَهُ، وَإِلَّا فَلِلسَّيِّدِ. فَلَوْ أَرَقَّتْ نَفْسَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ النُّجُومِ، فَقَالَ الْوَلَدُ: أَنَا أُؤَدِّي نُجُومَهَا مِنْ كَسْبِي لِتَعْتِقَ فَأَعْتَقَ، قَالَ الْإِمَامُ: لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي الْعِتْقِ. وَإِنْ عَجَزَتْ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ كَسْبِ وَلَدِهَا الْمَوْقُوفِ، وَتَسْتَعِينَ [بِهِ] فِي أَدَاءِ النُّجُومِ، فَهَلْ تُجَابُ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: الْمَنْعُ، إِذْ لَا حَقَّ لَهَا فِي كَسْبِهِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ، صُرِفَ الْمَوْقُوفُ إِلَى السَّيِّدِ. وَمِنْهَا: نَفَقَةُ الْوَلَدِ وَهِيَ عَلَى السَّيِّدِ. إِنْ قُلْنَا: يُصْرَفُ الْكَسْبُ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُوقَفُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَيُعَالِجُ جُرْحَهُ، وَيَكْفِي مُؤْنَاتِهِ فَمَا فَضَلَ فَهُوَ الَّذِي يُوقَفُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ أَوْ لَمْ يَفِ بِالنَّفَقَةِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى السَّيِّدِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ. وَقِيلَ: فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَهُ النَّفَقَةَ بِلَا كَسْبٍ إِجْحَافٌ بِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْكَسْبُ لِلْأُمِّ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا. وَمِنْهَا: لَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْوَلَدَ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ، وَإِنَّ الْكَسْبَ يُصْرَفُ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ، أَوْ قُلْنَا: يُوقَفُ وَمَنَعْنَاهَا مِنْ أَخْذِهِ لِأَدَاءِ النُّجُومِ، نَفَذَ إِعْتَاقُهُ، وَإِنْ جَوَّزْنَا لَهَا الِاسْتِعَانَةَ بِالْمَوْقُوفِ، لَمْ يَنْفُذْ

إِعْتَاقُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ حَقُّهَا مِنْ كَسْبِهِ وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لَهَا، لَمْ يَنْفُذْ إِعْتَاقُهُ. فَرْعٌ لَوْ رَقَّ الْوَلَدُ بِرِقِّ الْأُمِّ فَكَسْبُهُ لِلسَّيِّدِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِيهِ لِلسَّيِّدِ، أَمْ لِلْأُمِّ. فَرْعٌ وَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ جَارِيَتِهِ حَقُّ الْمِلْكِ فِيهِ لِلْمُكَاتَبِ قَطْعًا فَيُصْرَفُ كَسْبُهُ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْفُذُ إِعْتَاقُ السَّيِّدِ فِيهِ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَمَتِهِ، وَهِيَ مِلْكُهُ. وَلَوْ وَلَدَتْ أَمَتُهُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًى فَهُمْ عَبِيدُهُ كَسَائِرِ أَكْسَابِهِ، فَكَذَا هَذَا الْوَلَدُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتْبَعُهُ، بَلْ يُتَكَاتَبُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، فَيُعْتَقُ بِعِتْقِهِ، وَيُرَقُّ بِرِقِّهِ. وَإِذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، وَتَبِعَهُ هَذَا الْوَلَدُ وَلَهُ كَسْبٌ، فَكَسْبُهُ لِلْمُكَاتَبِ، لَا لِلْوَلَدِ. وَلَوْ جَنَى هَذَا الْوَلَدُ، وَتَعَلَّقَ الْأَرْشُ بِرَقَبَتِهِ، فَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ، فَلَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ كُلَّهُ وَإِنْ زَادَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْشِ، ثُمَّ يَصْرِفَ قَدْرَ الْأَرْشِ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَ الْبَاقِي، ثُمَّ غَلَّطَ الْإِمَامُ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَفْدِي وَلَدَهُ لِأَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمُكَاتَبِ، وَالْفِدَاءُ كَالشِّرَاءِ وَلَيْسَ لَهُ صَرْفُ الْمَالِ الَّذِي يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ إِلَى غَرَضِ وَلَدِهِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ [تَبَرُّعٌ] ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنْ بَاعَ لَا يَبِيعُ إِلَّا قَدْرَ الْأَرْشِ كَمَا لَا يُبَاعُ مِنَ الْمَرْهُونِ إِذَا جَنَى إِلَّا قَدْرُ الْأَرْشِ. وَإِذَا

فَدَاهُ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، بَلْ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَنْفُذُ إِذَا اشْتَرَاهُ. وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ عَبْدِهَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَوَلَدِ الْمُكَاتَبِ مَنْ جَارِيَتِهِ. فَرْعٌ اِخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ فِي وَلَدِهَا، وَقَالَ: وَلَدَتْهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، فَهُوَ رَقِيقٌ، وَقَالَتْ: بَعْدَهَا، وَقَدْ يُكَاتَبُ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُحْتَمَلٌ، فَإِنْ كَانَ بَيِّنَةٌ قُضِيَ بِهَا. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ أَقَامَ السَّيِّدُ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ قُبِلْنَ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ ضِمْنًا. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، صُدِّقَ السَّيِّدُ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي وَقْتِ الْكِتَابَةِ، فَصُدِّقَ فِيهِ كَأَصْلِهَا. فَرْعٌ زَوَّجَ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ [ثُمَّ كَاتَبَهُ] ثُمَّ بَاعَهَا لَهُ. وَوَلَدَتْ، فَقَالَ السَّيِّدُ: وَلَدَتْ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، فَهُوَ قِنٌّ لِي. وَقَالَ الْمُكَاتَبُ: بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَقَدْ تَكَاتَبَ، صُدِّقَ [الْمُكَاتَبُ] بِيَمِينِهِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ هُنَا يَدَّعِي مِلْكَ الْوَلَدِ كَمَا سَبَقَ أَنَّ وَلَدَ أَمَتِهِ مِلْكُهُ، وَيَدَهُ مُقَرَّةٌ عَلَى هَذَا الْوَلَدِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، وَالْمُكَاتَبَةُ هُنَاكَ لَا تَدَّعِي الْمِلْكَ، بَلْ تَدَّعِي ثُبُوتَ حُكْمِ الْكِتَابَةِ فِيهِ. فَرْعٌ حَكَى الصَّيْدَلَانِيُّ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَوْ أَتَتِ الْمُكَاتَبَةُ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَبْلَ الْكِتَابَةِ، وَالْآخَرُ: بَعْدَهَا، فَهُمَا لِلسَّيِّدِ؛

فصل

لِأَنَّهُ حَمْلٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا لَوْ أَتَتْ بِأَحَدِهِمَا لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ مِلْكِهَا، وَبِالْآخَرِ لِأَكْثَرَ، فَهُمَا لِلسَّيِّدِ. وَإِنَّ أَبَا زَيْدٍ أَفْتَى بِذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ مُؤَوَّلٌ، وَأَنَّ الْحَمْلَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْبَيْعِ كَيْفَ كَانَ، حَتَّى لَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا وَفِي بَطْنِهَا آخَرُ فَبَاعَهَا فَالْوَلَدُ الثَّانِي مَبِيعٌ مَعَهَا، وَالْأَوَّلُ لِلْبَائِعِ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. فَصْلٌ السَّيِّدُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ لِاخْتِلَالِ مِلْكِهِ، فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكِتَابَةِ أَنْ يَطَأَهَا فَسَدَ الْعَقْدُ، فَإِنْ وَطِئَ فَلَا حَدَّ وَإِنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ لِلشُّبْهَةِ، وَفِي قَوْلٍ: يُحَدُّ الْعَالِمُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، لَكِنْ يُعَزَّرُ عَلَى الصَّحِيحِ هُوَ وَهِيَ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ. وَقِيلَ: إِنْ طَاوَعَتْهُ فَلَا مَهْرَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» ، وَإِذَا وَجَبَ الْمَهْرُ، فَلَهَا أَخْذُهُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ حَلَّ عَلَيْهَا نَجْمٌ، وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ، فَعَلَى أَقْوَالٍ التَّقَاصُّ. وَإِنْ عَجَزَتْ قَبْلَ أَخْذِهِ سَقَطَ. وَإِنْ عَتَقَتْ بِالْأَدَاءِ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ. وَلَوْ أَوْلَدَهَا فَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِهِ، وَتَصِيرُ مُسْتَوْلَدَةً. وَهَلْ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْوَلَدِ؟ إِنْ قُلْنَا: وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ قِنٌّ لِلسَّيِّدِ، أَوْ قُلْنَا: يَتَكَاتَبُ وَحَقُّ الْمِلْكِ فِيهِ لِلسَّيِّدِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قُتِلَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْحَقُّ لَهَا لَزِمَهُ لَهَا الْقِيمَةُ، فَإِنْ عَجَزَتْ قَبْلَ الْأَخْذِ سَقَطَتْ، وَإِنْ عَتَقَتْ، أَخَذَتْهَا، وَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ مَا عَجَزَتْ، وَرَقَّتْ فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَكَذَا لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ مَا عَتَقَتْ، فَإِنْ عَجَزَتْ ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ، وَالْأَوْلَادُ الْحَادِثُونَ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًى، يَتْبَعُونَهَا، وَالْحَاصِلُونَ قَبْلَهَا أَرِقَّاءُ لِلسَّيِّدِ. وَإِنْ مَاتَ

السَّيِّدُ قَبْلَ عَجْزِهَا عَتَقَتْ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَتْبَعُهَا كَسْبُهَا. وَهَلْ يُعْتِقُ عَنِ الْكِتَابَةِ أَمْ عَنِ الِاسْتِيلَادِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْمُكَاتَبَ، أَو أَبْرَأَهُ عَنِ النُّجُومِ، فَعَلَى هَذَا الْأَوْلَادُ الْحَادِثُونَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَقَبْلَ الِاسْتِيلَادِ، هَلْ يَتْبَعُونَهَا؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَأُجْرِيَ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ عُلِّقَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ بِصِفَةٍ، فَوُجِدَتْ قَبْلَ أَدَاءِ النُّجُومِ، وَفِيمَا إِذَا تَقَدَّمَ الِاسْتِيلَادُ عَلَى الْكِتَابَةِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَإِذَا اسْتَوْلَدَ ثُمَّ كَاتَبَ وَأَدَّتِ النُّجُومَ، فَالْكَسْبُ الْحَاصِلُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ يَتْبَعُهَا، وَالْحَاصِلُ قَبْلَهَا لِلسَّيِّدِ، وَالْأَوْلَادُ الْحَاصِلُونَ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ يَتْبَعُونَهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ كِتَابَةِ الْمُسْتَوْلَدَةِ وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ خِلَافٌ. فَرْعٌ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ وَطْءُ أَمَةِ مُكَاتَبِهِ أَوْ مُكَاتَبَتِهِ، فَإِنْ وَطِئَ فَلَا حَدَّ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ سَيِّدَهَا، وَيَلْزَمُهُ الْمَهْرُ لِلْمُكَاتَبِ. وَإِنْ أَوْلَدَهَا فَالْوَلَدُ حُرٌّ نَسِيبٌ، وَتَصِيرُ الْأَمَةُ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ. قَالَ فِي «الشَّامِلِ» : يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا لِسَيِّدِهَا لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا وَضَعَتْهُ فِي مِلْكِهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَلِلسَّيِّدِ وَطْءُ بِنْتِ الْمُكَاتَبَةِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَاهُ فَلَيْسَ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَهْرُ فَيُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي الْكَسْبِ. إِنْ قُلْنَا: يُصْرَفُ إِلَى السَّيِّدِ فِي الْحَالِ، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لِلْأُمِّ، فَكَذَا الْمَهْرُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ أَنْفَقَ مِنْهُ عَلَيْهَا، وَوَقَفَ الْبَاقِي، فَإِنْ عَتَقَتْ بِعِتْقِ الْأُمِّ فَهُوَ لَهَا، وَإِنْ عَجَزَتْ، فَهُوَ لِلسَّيِّدِ. وَإِنْ أَوْلَدَهَا صَارَتْ مُسْتَوْلَدَةً، وَالْوَلَدُ حُرٌّ نَسِيبٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْمُسْتَوْلَدَةِ لِأُمِّهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُهَا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْعِتْقِ بِعِتْقِهَا.

وَقَدْ تَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالِاسْتِيلَادِ هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي قَتْلِهَا قَوْلَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ تَجِبُ الْقِيمَةُ لِلْأُمِّ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَبْقَى حَقُّ الْكِتَابَةِ فِيهَا، فَتُعْتَقُ بِعِتْقِ الْأُمِّ، وَيَكُونُ الْكَسْبُ لَهَا إِذَا جَعَلْنَا الْحَقَّ فِيهَا لِلْأُمِّ، فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ عَتَقَتِ الْبِنْتُ بِمَوْتِهِ، وَتُؤْخَذُ الْقِيمَةُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِلْأُمِّ إِذَا جَعَلْنَا الْحَقَّ لَهَا كَمَا فِي الْقَتْلِ. وَأَمَّا قِيمَةُ الْوَلَدِ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبِ. فَرْعٌ الْأَمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ إِذَا كَاتَبَهَا مَالِكَاهَا مَعًا، ثُمَّ وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا، فَحُكْمُ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ وَلُزُومِ الْمَهْرِ عَلَى الْوَاطِئِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَالِكِ الْوَاحِدِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَحِلَّ النَّجْمُ، فَلَهَا الْمَهْرُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ حَلَّ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا مِثْلُ الْمَهْرِ دَفَعَتْهُ إِلَى الَّذِي لَمْ يَطَأْ. وَفِي الْمَهْرِ وَنَصِيبِ الْوَاطِئِ مِنَ النَّجْمِ الَّذِي حَلَّ الْخِلَافُ فِي التَّقَاصِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا شَيْءٌ آخَرُ، فَنِصْفُ النَّجْمِ الَّذِي لِلْوَاطِئِ مَعَ الْمَهْرِ عَلَى الْخِلَافِ فِي التَّقَاصِّ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يُدْفَعُ إِلَى الَّذِي لَمْ يَطَأْ. وَإِنْ عَتَقَتْ قَبْلَ أَخْذِ الْمَهْرِ وَمَصِيرِهِ قِصَاصًا، أَخَذَتْ وَإِنْ عَجَزَتْ بَعْدَ أَخْذِهِ، فَإِنْ بَقِيَ فَهُوَ لِلسَّيِّدَيْنِ، وَإِنْ تَلِفَ تَلِفَ مِنْ مِلْكِهِمَا، وَإِنْ عَجَزَتْ قَبْلَ أَخْذِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا بِقَدْرِ الْمَهْرِ مَالٌ أَخَذَهُ الَّذِي لَمْ يَطَأْ وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الْوَاطِئِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا شَيْءٌ فَلِلَّذِي لَمْ يَطَأْ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْمَهْرِ مِنَ الْوَاطِئِ. وَإِنْ أَجَّلَهَا نُظِرَ إِنِ ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ وَحَلَفَ عَلَيْهِ، فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ لَمْ يَلْحَقْهُ، وَهُوَ كَوَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًى، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الِاسْتِبْرَاءَ وَوَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ، وَيَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِهِ مِنَ الْأَمَةِ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ فِيهِ. ثُمَّ هُوَ مُعْسِرٌ أَوْ مُوسِرٌ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَسْرِ الِاسْتِيلَادُ إِلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ،

فَإِنْ أَدَّتِ النُّجُومَ إِلَيْهِمَا عَتَقَتْ بِالْكِتَابَةِ وَبَطَلَ الِاسْتِيلَادُ. وَإِنْ عَجَزَتْ وَفَسَخَا الْكِتَابَةَ فَنِصْفُهَا قِنٌّ، وَنِصْفُهَا مُسْتَوْلَدٌ. وَإِنْ مَاتَ الْوَاطِئُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْفَسْخِ عَتَقَ نِصْفُهَا، وَبَقِيَتِ الْكِتَابَةُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْفَسْخِ عَتَقَ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي قِنٌّ. وَفِي الْوَلَدِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ. وَالثَّانِي: يَنْعَقِدُ كُلُّهُ حُرًّا؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَقُلْنَا: وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ قِنٌّ لِلسَّيِّدِ لَزِمَ الْوَاطِئَ نِصْفُ قِيمَتِهِ لِلشَّرِيكِ. وَإِنْ قُلْنَا: ثَبَتَ فِيهِ حُكْمُ الْكِتَابَةِ، وَقُلْنَا: الْحَقُّ فِيهِ لِلسَّيِّدِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْحَقُّ لِلْمُكَاتَبَةِ لَزِمَهُ جَمِيعُ قِيمَتِهِ لَهَا، فَإِنْ عَتَقَتْ قَبْلَ أَخْذِهَا أَخَذَتْهَا، وَإِنْ عَجَزَتْ قَبْلَ الْأَدَاءِ أَخَذَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ نَصْفَهَا، وَسَقَطَ النِّصْفُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَنْعَقِدُ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ رَقِيقًا، فَإِنْ قُلْنَا: وَلَدُ الْمُكَاتَبِ قِنٌّ لِلسَّيِّدِ، فَالنِّصْفُ الرَّقِيقُ لِلشَّرِيكِ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَاطِئِ. وَإِنْ قُلْنَا: تَثْبُتُ الْكِتَابَةُ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ، فَالنِّصْفُ الرَّقِيقُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهَا إِنْ عَتَقَتْ عَتَقَ، وَإِلَّا رَقَّ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ. وَهَلْ تَجِبُ قِيمَةُ النِّصْفِ الْحُرِّ عَلَى الْوَاطِئِ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ لِلسَّيِّدِ أَمْ لَهَا؟ إِنْ قُلْنَا: لَهُ لَمْ تَجِبْ وَإِلَّا وَجَبَتْ. ثُمَّ إِنْ عَتَقَتْ عَتَقَ، وَسَلَّمَ لَهَا نِصْفَ الْقِيمَةِ، فَيَأْخُذُهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَخَذَتْهُ، وَإِنْ عَجَزَتْ سَقَطَ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ اسْتَرَدَّهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُوسِرًا، فَيَسْرِي الِاسْتِيلَادُ إِلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَكَانَ الْوَلَدُ كُلُّهُ حُرًّا، وَمَتَّى يَسْرِي؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: قَوْلَانِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ

نَصِيبَهُ مِنَ الْمُكَاتَبِ، فَفِي قَوْلٍ فِي الْحَالِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْعَجْزِ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَسْرِي عِنْدَ الْعَجْزِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالسِّرَايَةِ فِي الْحَالِ، انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَتَبْقَى فِي نَصِيبِ الْوَاطِئِ، وَيَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِي جَمِيعِ الْجَارِيَةِ، وَعَلَى الْوَاطِئِ لِلشَّرِيكِ نِصْفُ مَهْرِهَا، وَنِصْفُ قِيمَتِهَا. وَأَمَّا نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ مِنْهُ، فَفِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ كَمَا لَوِ اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْأَمَةَ الْقِنَّةَ، وَانْعَقَدَ الْوَلَدُ حُرًّا، وَعَلَيْهِ أَيْضًا نِصْفُ الْمَهْرِ لِلْمُكَاتَبَةِ لِبَقَاءِ الْكِتَابَةِ فِي نَصِيبِهِ، وَهَلْ يَجِبُ لَهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ؟ . يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ لِمَنْ هُوَ؟ وَلَوْ أَدَّتْ نَصِيبَ الْوَاطِئِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَسَرَى إِلَى الْبَاقِي وَإِنْ عَجَزَتْ، وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ بَقِيَتْ مُسْتَوْلَدَةً مَحْضَةً. وَإِنْ قُلْنَا بِالسِّرَايَةِ عَنِ الْعَجْزِ، فَأَدَّتِ النُّجُومَ، عَتَقَتْ عَنِ الْكِتَابَةِ، وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا، وَيَبْطُلُ الِاسْتِيلَادُ، وَلَهُ الْمَهْرُ عَلَى الْوَاطِئِ، فَتَأْخُذُهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَخَذَتْهُ، وَتَجِبُ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِلشَّرِيكِ إِنْ قُلْنَا: وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ قِنٌّ لِلسَّيِّدِ، أَوْ قُلْنَا: ثَبَتَتْ فِيهِ صِفَةُ الْكِتَابَةِ، وَحَقُّ الْمِلْكِ فِيهِ لِلسَّيِّدِ. وَإِنْ قُلْنَا: حَقُّ الْمِلْكِ فِيهِ لِلْمُكَاتَبَةِ وَجَبَ جَمِيعُ الْقِيمَةِ لَهَا. وَإِنْ لَمْ تُؤَدِّ النُّجُومَ، وَعَجَزَتْ، لَزِمَ الْوَاطِئَ لِلشَّرِيكِ نِصْفُ مَهْرِهَا، وَنِصْفُ قِيمَتِهَا، وَنِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ. هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي وَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. فَأَمَّا إِذَا وَطِئَاهَا جَمِيعًا، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ عُلُوقٌ، فَحُكْمُ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ مَا سَبَقَ. وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَهْرٌ كَامِلٌ، فَإِنْ عَجَزَتْ، وَرَقَّتْ بَعْدَ قَبْضِ الْمَهْرَيْنَ لَمْ يُطَالِبْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِشَيْءٍ. وَيَقْتَسِمَانِ الْمَهْرَيْنَ [إِنْ] كَانَا بَاقِيَيْنِ. وَإِنْ عَجَزَتْ قَبْلَ أَخْذِهِ سَقَطَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا لَزِمَهُ، وَيَجِيءُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ التَّقَاصُّ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْمَهْرَيْنَ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، إِمَّا لِكَوْنِهَا بِكْرًا عِنْدَ وَطْءِ أَحَدِهِمَا، ثَيِّبًا عِنْدَ الْآخَرِ، وَإِمَّا لِاخْتِلَافِ حَالِهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَغَيْرِهِمَا، فَيَأْخُذُ مُسْتَحِقُّ الْفَضْلِ الْفَضْلَ.

وَإِنْ أَفَضَاهَا أَحَدُهُمَا لَزِمَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلشَّرِيكِ. فَإِنِ افْتَضَّهَا لَزِمَهُ نِصْفُ أَرْشِ الِافْتِضَاضِ مَعَ الْمَهْرِ. وَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ الَّذِي أَفْضَى أَوِ افْتَضَّ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، فَإِنْ حَلَفَا فَذَاكَ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ لِلْحَالِفِ، وَإِنْ حَصَلَ عُلُوقٌ نُظِرَ هَلْ أَتَتْ بِوَلَدٍ، أَمْ بِوَلَدَيْنِ، مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَلَدٌ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَيُنْظَرُ إِنِ ادَّعَيَا الِاسْتِبْرَاءَ، وَحَلَفَا عَلَيْهِ لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ كَوَلَدِ الْمُكَاتَبِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًى، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَا الِاسْتِبْرَاءَ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُمْكِنَ كَوْنُ الْوَلَدِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَطْءِ الْأَوَّلِ وَلِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي، أَوْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَطْءِ أَحَدِهِمَا، فَهُوَ كَمَا لَوِ ادَّعَيَا الِاسْتِبْرَاءَ. وَحُكْمُ الْمَهْرَيْنَ فِي الْحَالَيْنِ، كَمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُلُوقٌ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُمْكِنَ كَوْنُهُ مِنَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، فَيُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ، وَيَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا سِرَايَةَ، وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِي جَمِيعِهَا، فَإِنْ أَدَّتِ النُّجُومَ وَعَتَقَتْ فَلَهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ الْمَهْرُ. وَإِنْ رَقَّتْ فَنِصْفُهَا قِنٌّ لِلثَّانِي، وَنَصِيبُ الْأَوَّلِ يَبْقَى مُسْتَوْلَدًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْآخَرِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهُوَ مِنْ صُوَرِ التَّقَاصِّ. وَهَلْ كُلُّ الْوَلَدِ حُرٌّ أَمْ تَتَبَعَّضُ حُرِّيَّتُهُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَالْوَلَدُ كُلُّهُ حُرٌّ، وَيَسْرِي الِاسْتِيلَادُ مِنْ نَصِيبِهِ إِلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَيَعُودُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَسْرِي فِي الْحَالِ، أَمْ عِنْدَ الْعَجْزِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: فِي الْحَالِ انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِ الثَّانِي، وَبَقِيَتْ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ قُلْنَا: عِنْدَ الْعَجْزِ فَإِذَا عَجَزَتْ وَرَقَّتِ ارْتَفَعَتِ الْكِتَابَةُ

وَهِيَ مُسْتَوْلَدَةٌ لَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَالْحُكْمُ فِيمَا إِذَا أَدَّتِ النُّجُومَ وَعَتَقَتْ عَلَى مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا وَطِئَ أَحَدُهُمَا وَأَوْلَدَهَا، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ عَتَقَتْ بِالْمَوْتِ. وَمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ يَجِبُ لِلشَّرِيكِ عَلَى الَّذِي أَوْلَدَهَا مِنَ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْجَارِيَةِ. وَقِيمَةُ الْوَلَدِ تَجِبُ هُنَا لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ. وَأَمَّا وَطْءُ الثَّانِي فَإِنْ كَانَ بَعْدَمَا حَكَمْنَا بِمَصِيرِ جَمِيعِهَا أُمَّ وَلَدِ الْأَوَّلِ وَجَبَ جَمِيعُ الْمَهْرِ، فَإِنْ بَقِيَتِ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ بَيْنُهُ وَبَيْنَ الْمُكَاتَبَةِ. وَإِنِ ارْتَفَعَتْ فِي نَصِيبِهِ أَيْضًا فَجَمِيعُهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ يَصِيرُ جَمِيعُهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ إِذَا حَصَلَتْ أَخِيرًا انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ، وَعَادَ نِصْفُهُ رَقِيقًا، فَتَكُونُ الْأَكْسَابُ لَهُ، وَالْمَهْرُ مِنَ الْأَكْسَابِ. ثُمَّ ذَلِكَ النِّصْفُ لِلْمُكَاتَبَةِ، إِنْ بَقِيَتْ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ. هَكَذَا ضَبَطَ الْقَوْلَ فِيمَا يَلْزَمُ الثَّانِيَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَطْءَ الثَّانِي إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِمَصِيرِ جَمِيعِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ فَقَدْ وَقَعَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ شُبْهَةِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ زِنًى، وَإِطْلَاقُ وُجُوبِ جَمِيعِ الْمَهْرِ مُصَوَّرٌ فِيمَا إِذَا فُرِضَتْ شُبْهَةٌ أُخْرَى. وَأَطْلَقَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» قَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ الثَّانِيَ جَمِيعُ الْمَهْرِ أَمْ نِصْفُهُ؟ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْأَظْهَرُ: وُجُوبُ جَمِيعِ الْمَهْرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُمْكِنَ كَوْنُهُ مِنَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَيَلْحَقُ الثَّانِيَ وَيَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِهِ، وَلَا سِرَايَةَ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا. وَفِي تَبْعِيضِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْوَلَدِ الْخِلَافُ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا سَرَى الِاسْتِيلَادُ إِمَّا فِي الْحَالِ، وَإِمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا سَبَقَ. وَيَجِبُ عَلَى الثَّانِي هُنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْحَالِ الثَّانِي، وَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ الثَّانِي مُعْسِرًا لَزِمَ الْأَوَّلَ كَمَالُ الْمَهْرِ لِلْمُكَاتَبَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ مُوسِرًا

وَقُلْنَا: السِّرَايَةُ تَحْصُلُ بَعْدَ الْعَجْزِ. وَإِنْ قُلْنَا: تَحْصُلُ فِي الْحَالِ انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ لَهَا. وَأَطْلَقَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَوَّلَ عِنْدَ يَسَارِ الثَّانِي إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُمْكِنَ كَوْنُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَادَّعَيَاهُ، أَوِ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَيُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ فَمَنْ أَلْحَقَهُ بِهِ كَانَ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ الْإِمْكَانُ مِنْهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْقَائِفِ، اعْتُمِدَ انْتِسَابُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ فُرِضَ ذَلِكَ فِي الْأَمَةِ الْقِنَّةِ، وَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِأَحَدِهِمَا لَحِقَهُ، وَثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِهِ، وَلَا سِرَايَةَ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا، لَكِنْ يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ أَيْضًا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهَا مُسْتَوْلَدَةٌ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا سَرَى وَلَا يَلْزَمُهُ لِلشَّرِيكِ قِيمَةُ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ الْجَارِيَةَ مُسْتَوْلَدَتُهُ، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ. وَإِذَا لَمْ نَجِدِ الْقَائِفَ وَالْمُتَدَاعِيَانِ مُوسِرَانِ حُكِمَ بِأَنَّهَا مُسْتَوْلَدَتُهُمَا نِصْفُهَا لِهَذَا، وَنِصْفُهَا لِذَاكَ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالسِّرَايَةِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ وَسَكَتَا عَنْ دَعْوَى الْوَلَدِ وَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِأَحَدِهِمَا ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِهِ، وَيَسْرِي، وَعَلَيْهِ الْغُرْمُ لِلشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هُنَا إِقْرَارٌ يُنَافِي الْغُرْمَ. وَلَوْ لَمْ نَجِدْ قَائِفًا وَاعْتَمَدْنَا انْتِسَابَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَفِي ثُبُوتِ الْغُرْمِ وَجْهَانِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: إِذَا أَتَتْ بِوَلَدَيْنِ وَعَرَفَا حَالَهُمَا، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ هَذَا، وَذَاكَ مِنْ ذَاكَ، وَلَهُ صُورَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: اتَّفَقَا عَلَى

السَّابِقِ مِنْهُمَا، فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، أَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مُوسِرًا صَارَتْ مُسْتَوْلَدَةً لِلْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِ لِلثَّانِي نِصْفُ مَهْرِهَا، وَنِصْفُ قِيمَتِهَا، وَأَمَّا قِيمَةُ الْوَلَدِ، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ قُلْنَا: تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ لَمْ يَجِبْ. وَإِنْ قُلْنَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَجْزِ وَقُلْنَا: لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ وَجَبَتْ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ مَا صَارَ جَمِيعُهَا مُسْتَوْلَدًا لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِالْحَالِ، لَزِمَ الْحَدُّ، وَوَلَدُهُ رَقِيقٌ لِلْأَوَّلِ. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَالْوَلَدُ حُرٌّ وَعَلَيْهِ تَمَامُ الْمَهْرِ، وَتَمَامُ قِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْوَضْعِ، وَيَكُونُ جَمِيعُهُمَا لِلْأَوَّلِ إِنِ ارْتَفَعَتِ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِهِ أَيْضًا. وَإِنْ بَقِيَتْ، فَنِصْفُ الْمَهْرِ لَهُ، وَنِصْفُهُ لِلْمُكَاتَبَةِ، وَنِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْخِلَافِ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ. وَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ جَمِيعُهَا مُسْتَوْلَدًا لِلْأَوَّلِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا يَعْدِلُهُ، وَفِي تَبْعِيضِ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ مَا سَبَقَ، فَإِنْ لَمْ تَتَبَعَّضْ فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِ الثَّانِي لَهُ، وَإِنْ بَقِيَ نَصِيبُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّ السِّرَايَةَ، وَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُ حَقِّهِ. وَعَنِ الْقَفَّالِ فِي ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ الثَّانِي فِي نَصِيبِهِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ شَرِيكٌ نَصِيبِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ، وَقُلْنَا: السِّرَايَةُ تَقِفُ عَلَى الْقِيمَةِ، فَأَعْتَقَ الْآخَرُ نَصِيبِهِ قَبْلَ أَدَائِهَا. وَأَمَّا إِذَا كَانَا مُعْسِرَيْنِ، أَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مُعْسِرًا، فَثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَسْرِ، فَإِذَا أَحْبَلَهَا الثَّانِي ثَبَتَ فِي نَصِيبِهِ أَيْضًا. وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ تَمَامُ الْمَهْرِ لِلْمُكَاتَبَةِ، فَإِنْ عَجَزَتْ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ الْمَهْرِ لِشَرِيكِهِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ فِي تَبْعِيضِ الْحُرِّيَّةِ فِي وَلَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِلَافَ، وَأَنَّا إِذَا لَمْ نَحْكُمْ بِالْحُرِّيَّةِ فِي نِصْفِهِ فَهَلْ هُوَ قِنٌّ لِلْآخَرِ، أَمْ يَتَكَاتَبُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ. وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ

مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ. وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِالتَّبْعِيضِ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا بِحُرِّيَّةِ الْجَمِيعِ، لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ لِلْآخَرِ نِصْفُ قِيمَةِ وَلَدِهِ، وَلَمْ يُجِزِ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمُ الْخِلَافَ فِي تَبْعِيضِ الْحُرِّيَّةِ فِي وَلَدِ كُلِّ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ مُعْسِرًا وَالثَّانِي مُوسِرًا، وَحَكَمُوا بِأَنَّ وَلَدَ الْمُوسِرِ حُرٌّ كُلُّهُ، وَالْخِلَافُ مَخْصُوصٌ بِالْمُعْسِرِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَا فِي السَّابِقِ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: أَنَا أَوْلَدْتُهَا أَوَّلًا وَلَدِي هَذَا، وَاحْتَمَلَ، صِدْقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُمَا مُوسِرَانِ أَوْ مُعْسِرَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُوسِرٌ وَالْآخَرُ مُعْسِرٌ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ حَالَةَ الْإِحْبَالِ. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مُوسِرَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ يَدَّعِي عَلَى الْآخَرِ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَجَمِيعَ قِيمَةِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: وَطِئْتُهَا وَهِيَ مُسْتَوْلَدَتِي، أَوْ يَدَّعِي نِصْفَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَكُلُّ وَاحِدٍ يُقِرُّ لِلْآخَرِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَنِصْفِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا أَوْلَدْتُهَا وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ فَصَارَتْ مُسْتَوْلَدَةً لِي، وَيُقِرُّ أَيْضًا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ، وَمَا يُقِرُّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ يُكَذِّبُهُ فِيهِ الْآخَرُ، فَيَسْقُطُ إِقْرَارُهُ بِهِ، وَتَبْقَى دَعْوَى كُلُّ وَاحِدٍ فِي الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ، فَإِنِ اقْتَضَى الْحَالُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَعْظُمْ أَثَرُ الِاخْتِلَافِ، وَجَاءَ الْكَلَامُ فِي التَّقَاصِّ، وَإِنْ تَفَاوَتَا حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْيِ مَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ. وَقِيلَ: يَتَحَالَفَانِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِذَا حَلَفَ فَلَا شَيْءَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهِيَ مُسْتَوْلَدَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ، وَنَفَقَتُهَا عَلَيْهِمَا، فَإِذَا مَاتَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَالْأَصَحُّ

أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مُسْتَوْلَدَةُ الْآخَرِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: يَعْتِقُ نِصْفُهَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ، وَالرُّويَانِيُّ، وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَهَا وَقَدْ أَوْلَدَهَا وَشَكَكْنَا هَلْ سَرَى إِحْبَالُ شَرِيكِهِ إِلَى نَصِيبِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مُعْسِرَيْنِ، فَلَا ثَمَرَةَ لِلِاخْتِلَافِ، وَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ عَرَفَ السَّابِقُ وَهُمَا مُعْسِرَانِ. وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَوَلَاؤُهُ لِعَصَبَتِهِ. وَإِنْ مَاتَا فَالْوَلَاءُ لِعَصَبَتِهِمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَنَقَلَ الرَّبِيعُ فِي «الْأُمِّ» أَنَّ الْوَلَاءَ مَوْقُوفٌ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ. وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنَ الرَّبِيعِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ حَالَةَ الْمَوْتِ فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ كَوْنِهِمَا مُوسِرَيْنِ أَوْ مُعْسِرَيْنِ لِمَا سَبَقَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِحَالَةِ الْإِحْبَالِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا، وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْيِ مَا يَدَّعِي عَلَيْهِ وَيَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ لِلْمُوسِرِ فِي نَصِيبِهِ، فَلَا مُنَازَعَةَ، وَهُمَا مُتَنَازِعَانِ فِي نَصِيبِ الْمُعْسِرِ، فَنِصْفُ نَفَقَتِهَا عَلَى الْمُوسِرِ، وَنِصْفُهَا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إِنْ مَاتَ الْمُوسِرُ أَوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَوَلَاؤُهُ لِوَرَثَتِهِ، وَإِذَا مَاتَ الْمُعْسِرُ بَعْدَهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ مَاتَ الْمُعْسِرُ أَوَّلًا لَمْ يَعْتِقْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوسِرُ بَعْدَهُ، عَتَقَتْ كُلُّهَا وَوَلَاءُ نِصْفِهَا لِوَرَثَتِهِ وَوَلَاءُ النِّصْفِ الْآخَرِ مَوْقُوفٌ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: هَذَا إِذَا قُلْنَا لَا تَتَوَقَّفُ سِرَايَةُ الِاسْتِيلَادِ عَلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَتَوَقَّفُ هُنَا الْأَدَاءُ، فَتَكُونُ الْجَارِيَةُ هُنَا مُسْتَوْلَدَتَهُمَا، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا بِلَا وَقْفٍ، أَمَّا لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ عَكْسَهُ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ لِلْآخَرِ: أَنْتَ وَطِئْتَ أَوَّلًا، فَسَرَى إِلَى نَصِيبِي وَهُمَا مُوسِرَانِ، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِمَا، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا لِمَنْ يَعْتِقُ نَصِيبُهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْآخَرَ سَبَقَهُ بِالِاسْتِيلَادِ، وَيَعْتِقُ نَصِيبُ الْحَيِّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَدَ أَوَّلًا، ثُمَّ سَرَى إِلَى نَصِيبِهِ، وَعَتَقَ بِمَوْتِهِ، وَوَلَاءُ ذَلِكَ النِّصْفِ

مَوْقُوفٌ، فَإِذَا مَاتَ الْآخَرُ عَتَقَتْ كُلُّهَا وَوَلَاءُ الْكُلِّ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا، وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، فَقَالَ الْمُعْسِرُ: سَرَى إِيلَادُكَ إِلَى نَصِيبِي، وَقَالَ الْمُوسِرُ: أَنْتَ أَوْلَدْتَ أَوَّلًا، وَلَمْ يَسْرِ إِلَى نَصِيبِي تَحَالَفَا، ثُمَّ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ مَاتَ الْمُوسِرُ أَوَّلًا عَتَقَتْ كُلُّهَا. أَمَّا نَصِيبُ الْمُوسِرِ فَبِمَوْتِهِ، وَوَلَاؤُهُ لِعَصَبَتِهِ، وَأَمَّا نَصِيبُ الْمُعْسِرِ فَبِإِقْرَارِهِ، وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ مَاتَ الْمُعْسِرُ أَوَّلًا لَمْ يَعْتِقْ مِنْهَا شَيْءٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُوسِرَ سَبَقَهُ بِالْإِحْبَالِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُعْسِرُ بَعْدَهُ، عَتَقَتْ كُلُّهَا. وَوَلَاءُ نَصِيبِ الْمُوسِرِ لِعَصَبَتِهِ، وَنَصِيبُ الْمُوسِرِ مَوْقُوفٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْحُكْمُ الْخَامِسُ: فِي جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِذَا جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ بِمَا يُوجِبُهُ قِصَاصُ نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ، فَلِمُسْتَحِقِّهِ الْقِصَاصُ. فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ نُظِرَ إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ، وَكَانَ الْوَاجِبُ مِثْلَ قِيمَتِهِ، أَوْ أَقَلَّ طُولِبَ بِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، فَهَلْ يُطَالَبُ بِالْأَرْشِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، أَمْ لَا يُطَالَبُ إِلَّا بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَالْأَرْشِ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا الثَّانِي، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَفْدِيَ بِالْأَقَلِّ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ السَّيِّدُ، وَإِنْ فَدَى بِالْأَرْشِ، وَزَادَ عَلَى الْقِيمَةِ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِهِ. فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ، فَقَوْلَانِ كَتَبَرُّعِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ وَطَلَبَ مُسْتَحِقُّ الْأَرْشِ تَعْجِيزَهُ، عَجَّزَهُ الْحَاكِمُ، ثُمَّ يُبَاعُ كُلُّهُ فِي الْجِنَايَةِ إِنِ اسْتَغْرَقَ الْأَرْشُ قِيمَتَهُ، وَإِلَّا فَيُبَاعُ قَدْرُ الْأَرْشِ، وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِي الْبَاقِي، فَإِذَا أَدَّى حِصَّتَهُ مِنَ النُّجُومِ، عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ. وَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ مَالِهِ وَيَسْتَدِيمَ الْكِتَابَةَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَعَلَى مُسْتَحِقِّ الْأَرْشِ قَبُولُهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ شَيْءٌ سَبَقَ. وَفِيمَا يَفْدِيهِ [بِهِ] قَوْلَانِ، الْجَدِيدُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، وَالْقَدِيمُ بِالْأَرْشِ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَيُسَلِّمَهُ لِلْبَيْعِ إِلَّا إِذَا

مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ، أَوْ بَاعَهُ بِإِذْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِشَرْطِ الْفِدَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ. وَلَوْ أَبْرَأَهُ السَّيِّدُ مِنَ النُّجُومِ، أَوْ أَعْتَقَهُ لَزِمَهُ الْفِدَاءُ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مُتَعَلَّقَ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ، هَذَا إِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَنْفُذُ إِعْتَاقُهُ، وَأَشَارَ ابْنُ كَجٍّ إِلَى خِلَافٍ فِيهِ، كَإِعْتَاقِ الْقِنِّ الْجَانِي، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ صَارَ مُسْتَحِقَّ الْعِتْقِ بِالْكِتَابَةِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ. فَإِذَا أَعْتَقَهُ وَقَعَ الْعِتْقُ عَنِ الْجِهَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ بِخِلَافِ الْقِنِّ، وَفِيمَا يَفْدِيهِ السَّيِّدُ بِهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْأَقَلِّ بِخِلَافِ حَالِ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ بَاقٍ هُنَاكَ وَكَمَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ بِإِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ فِدَاؤُهُ، يَلْزَمُهُ بِإِعْتَاقِهِ فِدَاءُ ابْنِ الْمُكَاتَبِ وَأَبِيهِ إِذَا تَكَاتَبَا عَلَيْهِ وَجَنَيَا؛ لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِإِعْتَاقِهِ. وَلَوْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ بِأَدَاءِ النُّجُومِ، لَزِمَهُ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ، وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ فَدَاؤُهُ، وَفِيمَا يَلْزَمُهُ الطَّرِيقَانِ. وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَاتٍ، وَأَعْتَقَهُ السَّيِّدُ أَوْ أَبْرَأَهُ عَنِ النُّجُومِ لَزِمَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ، فَإِنْ أَدَّى النُّجُومَ وَعَتَقَ، فَضَمَانُ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَأَمَّا الَّذِي يَلْزَمُهُمَا فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَاتُ مَعًا بِأَنْ قَتَلَ جَمَاعَةً بِضَرْبَةٍ، أَوْ هَدَمَ عَلَيْهِمْ جِدَارًا، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، كَالْجِنَايَةِ الْوَاحِدَةِ. وَالْجَدِيدُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَاتِ كُلِّهَا وَقِيمَتُهُ وَالْقَدِيمُ وُجُوبُ الْأُرُوشِ كُلِّهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَاتُ مُتَفَرِّقَةً فَالْقَدِيمُ بِحَالِهِ، وَفِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ أَيْضًا بِحَالِهِ، فَيَجِبُ الْأَقَلُّ مِنَ الْأُرُوشِ كُلِّهَا وَقِيمَتُهُ. وَالثَّانِي: يَجِبُ لِكُلِّ جِنَايَةٍ الْأَقَلُّ مِنْ أَرْشِهَا وَالْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ عَقِبَ كُلِّ جِنَايَةٍ، وَبِالْإِعْتَاقِ فَوْتُ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ أَحْدَثَ لِكُلِّ جِنَايَةٍ مَنْعًا وَلَوْ أَرَادَ الْمُكَاتَبُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ مِمَّا فِي يَدِهِ عَنِ الْجِنَايَاتِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ عَنِ الْجَدِيدِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْأَقَلِّ مِنْ أَرْشِ [كُلِّ] جِنَايَةٍ وَالْقِيمَةِ. وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِمَّا فِي يَدِهِ الْأَقَلُّ

مِنْ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ كُلِّهَا وَمِنْ قِيمَتِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ، وَسَأَلَ الْمُسْتَحِقُّونَ تَعْجِيزَهُ عَجَّزَهُ الْحَاكِمُ وَيُبَاعُ، وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى أَقْدَارِ الْأُرُوشِ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ بَعْضُهُمْ قُسِّمَ عَلَى الْبَاقِينَ، وَإِنِ اخْتَارَ السَّيِّدُ فِدَاءَهُ بَعْدَ التَّعْجِيزِ لَمْ يُبَعْ وَفِيمَا يَفْدِيهِ [بِهِ] الْقَوْلَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى عَبْدِ سَيِّدِهِ أَوْ عَلَى طَرَفِ سَيِّدِهِ، فَلَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَتَلَ السَّيِّدَ فَلِلْوَارِثِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ عَفَا الْمُسْتَحِقُّونَ عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ تَعَلَّقَ الْوَاجِبُ بِمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعَهُ كَأَجْنَبِيٍّ، وَهَلِ الْوَاجِبُ الْأَرْشُ أَمْ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْأَرْشُ وَكَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: فِيهِ الْخِلَافُ فِي هِبَتِهِ لِسَيِّدِهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: لِلسَّيِّدِ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْقَبُولِ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْهِبَةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ إِذَا أَمْكَنَ أَدَاؤُهُ وَأَدَاءُ مَالِ الْكِتَابَةِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ، أَوْ كَانَ لَا يَفِي بِالْأَرْشِ هَلْ لِلسَّيِّدِ تَعْجِيزُهُ بِسَبَبِ الْأَرْشِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَجَّزَهُ سَقَطَ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا عَجَّزَهُ أَجْنَبِيٌّ، فَإِنَّ الْأَرْشَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ، وَيَسْتَفِيدُ رَدَّهُ إِلَى الرِّقِّ الْمَحْضِ وَإِذَا عَجَزَ بِسَبَبِ الْأَرْشِ أَوِ النُّجُومِ وَرَقَّ، فَهَلْ يَسْقُطُ الْأَرْشُ أَمْ يَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَعْتِقَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ، وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ دَيْنٌ، فَمَلَكَهُ هَلْ يَسْقُطُ. وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى طَرَفِ ابْنِ سَيِّدِهِ كَجِنَايَتِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ تُثْبِتُ الْقِصَاصَ لِلسَّيِّدِ، فَإِنْ عَفَا أَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، فَهُوَ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى السَّيِّدِ، وَلَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْمُكَاتَبَ بَعْدَ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ عَنِ النُّجُومِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ سَقَطَ الْأَرْشُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَلَوْ أَدَّى النُّجُومَ فَعَتَقَ لَمْ يَسْقُطِ الْوَاجِبُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا لَا يَسْقُطُ إِذَا جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَأَدَّى النُّجُومَ وَعَتَقَ، ثُمَّ الْوَاجِبُ الْأَرْشُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، هَذَا هُوَ الْمُذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا جَنَى عَبْدُ الْمُكَاتَبِ فَجِنَايَتُهُ إِمَّا عَلَى أَجْنَبِيٍّ وَإِمَّا عَلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ، وَإِمَّا سَيِّدِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَلَهُ الْقِصَاصُ، فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمُكَاتَبُ، وَهَلْ يَفْدِيهِ بِالْأَرْشِ أَمْ بِالْأَقَلِّ؟ قَوْلَانِ، وَقِيلَ بِالْأَقَلِّ قَطْعًا. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَرْشِ، وَكَانَ قَدْرَ قِيَمْتِهِ أَوْ أَقَلَّ فَلَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَسْتَقِلُّ وَفِي جَوَازِهِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ قَوْلَانِ، كَتَبَرُّعِهِ. وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَبْدِ فِيهِ أَوْجُهٌ، الْأَصَحُّ وَظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : يَوْمُ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ وَقْتُ تَعَلُّقِ الْأَرْشِ، وَالثَّانِي: يَوْمُ الِانْدِمَالِ، وَالثَّالِثُ: يَوْمُ الْفِدَاءِ، وَالرَّابِعُ: أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ يَوْمَيِ الْجِنَايَةِ وَالْفِدَاءِ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ بِنَفْسِهِ إِذَا اعْتَبَرْنَا قِيمَتَهُ كَذَلِكَ، هَذَا كُلُّهُ فِي عَبْدِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يَتَكَاتَبْ عَلَيْهِ، أَمَّا مَنْ يُكَاتِبُ عَلَيْهِ كَوَلَدِهِ مِنْ أَمَتِهِ وَوَالِدِهِ وَوَلَدِهِ إِذَا وُهِبَا لَهُ حَيْثُ يَجُوزُ الْقَبُولُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ كَتَبَرُّعِهِ؛ لِأَنَّ فِدَاءَهُ كَشِرَائِهِ. وَلَوْ جَنَى بَعْضُ عَبِيدِ الْمُكَاتَبِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ جَنَى عَبْدُ غَيْرِهِ عَلَى عَبْدِهِ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمِلْكِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ وَالِدَ الْمَقْتُولِ، أَوْ كَانَ فِي عَبِيدِ الْمُكَاتَبِ أَبُوهُ، فَقَتَلَ عَبْدًا لَهُ لَمْ يَقْتَصَّ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمُ ابْنُهُ، فَقَتَلَ

عَبْدًا لَهُ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ ابْنَهُ وَأَبَاهُ إِذَا كَانَا فِي مِلْكِهِ وَجَنَيَا عَلَى عَبْدٍ آخَرَ لَهُ جِنَايَةٌ تُوجِبُ الْمَالَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْأُمِّ» أَمَّا إِذَا جَنَى عَبْدُ الْمُكَاتَبِ [عَلَى الْمُكَاتَبِ] فَلَهُ الِاقْتِصَاصُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً، أَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ، لَمْ يَجِبْ إِذْ لَا يَثْبُتُ لِسَيِّدِهِ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ وَإِنْ جَنَى عَلَى سَيِّدِ سَيِّدِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَيُبَاعُ فِي الْأَرْشِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمُكَاتَبُ. الرَّابِعَةُ: الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُكَاتَبِ إِنْ كَانَتْ عَلَى طَرَفِهِ، فَلَهُ الِاقْتِصَاصُ، وَلَا يُشْتَرَطُ إِذْنُ السَّيِّدِ عَلَى الْمَشْهُورِ، ثُمَّ إِنِ اقْتَصَّ فَذَاكَ وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ ثَبَتَ الْمَالُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ دُونَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْجَمِيعِ إِذَا عَفَا مَجَّانًا، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا، فَإِنْ قُلْنَا: مُوجِبُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَلَكِنَّ مُطْلَقَ الْعَفْوِ يُوجِبُ الْمَالَ ثَبَتَ الْأَرْشُ. وَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَمُطْلَقُ الْعَفْوِ لَا يُوجِبُ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَإِنْ عَفَا مَجَّانًا سَقَطَ الْقِصَاصُ، ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: مُوجِبُ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَإِنْ قُلْنَا: مُطْلَقُ الْعَفْوِ لَا يُوجِبُ الْمَالَ، وَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الْمَالُ إِنْ عَفَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ، كَتَبَرُّعِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ شَيْءٌ وَإِنْ عَفَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا تُوجِبُ الْمَالَ، وَإِنَّمَا تُثْبِتُهُ إِذَا اخْتَارَهُ أَوْ عَفَا مُطْلَقًا عَلَى قَوْلٍ، فَإِذَا عَفَا مَجَّانًا، فَقَدْ تَرَكَ الِاكْتِسَابَ بِالْعَفْوِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ. وَحَيْثُ ثَبَتَ الْمَالُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِهِ فَهُوَ لِلْمُكَاتَبِ يَسْتَعِينُ بِهِ

عَلَى أَدَاءِ النُّجُومِ. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ فِي الْحَالِ أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِانْدِمَالِ؟ قَوْلَانِ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ. وَقِيلَ: يَسْتَحِقُّهُ فِي الْحَالِ قَطْعًا مُبَادَرَةً إِلَى تَحْصِيلِ الْعِتْقِ، فَإِنْ قُلْنَا: تَتَوَقَّفُ عَلَى الِانْدِمَالِ وَقَدْ قُطِعَتْ يَدُهُ، نُظِرَ إِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ، وَعَلَى الْجَانِي الْقِيمَةُ لِلسَّيِّدِ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَإِنِ انْدَمَلَتْ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا أَخَذَ الْمُكَاتَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ النُّجُومَ، فَإِنْ حَلَّ نَجْمٌ وَاتَّحَدَ الْحَقَّانِ جِنْسًا وَصِفَةً، فَفِيهِ أَقْوَالُ التَّقَاصِّ، فَيَأْخُذُ مَنْ لَهُ الْفَضْلُ الْفَضْلَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ حَقَّهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ أَخْذُ الْأَرْشِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ دِيَةِ حُرٍّ أَوْ أَقَلَّ، فَلَهُ أَخْذُ جَمِيعِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَسْرِي إِلَى نَفْسِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَيَعُودُ الْوَاجِبُ إِلَى دِيَةٍ. وَإِذَا أَخَذَ مَالَهُ أَخَذَهُ ثُمَّ انْدَمَلَتِ الْجِرَاحَةُ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْأَرْشُ وَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ الْجَمِيعَ، وَإِنْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ، نُظِرَ إِنْ سَرَتْ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا، فَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بِتَمَامِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ السَّيِّدَ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، وَأَخَذَ أَكْسَابَهُ، وَإِنْ كَانَتِ السِّرَايَةُ بَعْدَ عِتْقِهِ بِأَدَاءِ النُّجُومِ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا فَعَلَيْهِ تَمَامُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الضَّمَانِ بِحَالِ الِاسْتِقْرَارِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَلِلسَّيِّدِ بِالْوَلَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي السَّيِّدَ، فَعَلَيْهِ تَمَامُ الدِّيَةِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا لَوْ جَرَحَ عَبْدَهُ الْقِنَّ ثُمَّ أَعْتَقَهُ، فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْجِنَايَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ هُنَاكَ وَهُنَا مَضْمُونٌ. وَلَوْ حَصَلَ الْعِتْقُ بِالتَّقَاصِّ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَصَلَ بِالْأَدَاءِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّقَاصِّ كَوْنُ الدِّيَةِ إِبِلًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الِابْتِدَاءِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَالتَّقَاصُّ حِينَئِذٍ يَحْصُلُ، ثُمَّ إِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَجَبَ الْفَاضِلُ مِنَ الْإِبِلِ. وَلَوْ عَفَا الْمُكَاتَبُ عَنِ الْمَالِ، وَلَمْ نُصَحِّحْ عَفْوَهُ، ثُمَّ

فصل

عَتَقَ قَبْلَ أَخْذِ الْمَالِ، فَهَلْ لَهُ أَخْذُهُ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ وَقَعَ لَاغِيًا، وَلَوْ جَنَى عَلَى طَرَفِ الْمُكَاتَبِ عَبْدُهُ، فَلَهُ الْقِصَاصُ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً، أَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِ الْمُكَاتَبِ انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ، وَيَمُوتُ رَقِيقًا. ثُمَّ إِنْ قَتَلَهُ السَّيِّدُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْكَفَّارَةُ وَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ أَوِ الْقِيمَةُ، وَلَهُ أَكْسَابُهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ لَا بِالْإِرْثِ. فَرْعٌ جَنَى عَلَى طَرَفِ مُكَاتَبِهِ، وَكَانَ الْأَرْشُ مِثْلَ النُّجُومِ، وَحَكَمْنَا بِالتَّقَاصِّ وَحُصُولِ الْعِتْقِ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ السَّيِّدُ جِنَايَةً أُخْرَى مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَهِيَ جِنَايَةٌ عَلَى حُرٍّ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ حَصَلَ التَّقَاصُّ وَالْعِتْقُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ مَنْ كَانَ عَبْدًا فَعَتَقَ، وَقَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ عَتَقَ. قَالَ الرَّبِيعُ: فِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَةُ حُرٍّ، وَلَا قِصَاصَ لِلشُّبْهَةِ، قَالَ فِي «الْأُمِّ» : لَوْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، فَاخْتَلَفَ هُوَ وَمَنْ جَنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ الْمُكَاتَبُ: كُنْتُ حُرًّا عِنْدَ الْجِنَايَةِ، وَقَالَ الْجَانِي: بَلْ مُكَاتَبًا صُدِّقَ الْجَانِي بِيَمِينِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِلْمُكَاتَبِ. فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ. قَالَ لِمُكَاتَبِهِ: إِنْ عَجَزْتَ عَنِ النُّجُومِ بَعْدَ وَفَاتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ صَحَّ التَّعْلِيقُ، فَإِنْ قَالَ الْمُكَاتَبُ: قَبْلَ الْحُلُولِ عَجَزْتُ لَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُ، وَإِنْ قَالَهُ بَعْدَ الْحُلُولِ، وَوَجَدْنَا لَهُ مَا يَفِي بِالْوَاجِبِ، فَلَا عَجْزَ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ بِدِيُونِ الْمُعَامَلَةِ، وَبِالْبَيْعِ

وَمَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْشَائِهِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُ هَذِهِ السِّلْعَةَ وَهَذَا ثَمَنُهَا قُبِلَ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ قَالَ: بِعْتُهَا، وَتَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِي، فَفِي الْقَبُولِ قَوْلَانِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنِ جِنَايَةٍ، فَهَلْ يُقْبَلُ فِي حَقِّ السَّيِّدِ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: نَعَمْ، وَيُؤَدِّي مِمَّا فِي يَدِهِ كَدَيْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَلْزَمْ إِلَّا قَدْرُ قِيمَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ بِيعَ فِي دَيْنِ الْجِنَايَةِ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ: لَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّطْ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ قَبِلْنَا إِقْرَارَهُ، فَعَجَزَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ، فَهَلْ يُبَاعُ فِيهِ أَمْ لَا يُبَاعُ وَيَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يُعْتَقَ؟ قَوْلَانِ. وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ السَّيِّدِ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِالْجِنَايَةِ، لَكِنْ لَوْ عَجَزَ أُلْزِمَ السَّيِّدُ بِإِقْرَارِهِ، وَلَوْ قَالَ: كَانَ جَنَى قَبْلَ الْكِتَابَةِ، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ أَيْضًا لِخُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ بِالْكِتَابَةِ. وَلَوْ مَاتَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَبْقَى، فَإِنْ لَمْ يُعْتَقْ بِالْأَدَاءِ إِلَى الْوَارِثِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ وَارِثَانِ، لَمْ يُعْتَقْ إِلَّا بِأَدَاءِ حَقِّهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يُعْتَقْ إِلَّا بِالدَّفْعِ إِلَى وَلِيِّهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَصِيَّانِ، لَمْ يُعْتَقْ إِلَّا بِالدَّفْعِ إِلَيْهِمَا إِلَّا إِذَا أَثْبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِقْلَالَ. فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَأَوْصَى بِوَصَايَا، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَصِيًّا فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ، وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا عَتَقَ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْوَصِيِّ وَالْوَرَثَةِ وَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ إِلَى أَحَدٍ قَامَ الْقَاضِي مَقَامَ الْوَصِيِّ، وَلَوْ دَفَعَ إِلَى الْغَرِيمِ لَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ دَفَعَ إِلَى الْوَارِثِ فَإِنْ قَضَى الدُّيُونَ وَالْوَصَايَا عَتَقَ، وَإِلَّا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَلَمْ يَعْتِقْ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِلتَّرِكَةِ بَرِئَ الْمُكَاتَبُ بِالدَّفْعِ إِلَى الْغَرِيمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْصَى بِالنُّجُومِ لِإِنْسَانٍ، عَتَقَ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَوْصَى بِهَا لِلْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ دَفَعَهَا إِلَى مَنْ أَوْصَى إِلَيْهِ،

فَيُفَرِّقُهَا، أَوْ إِلَى الْحَاكِمِ، وَإِنْ أَوْصَى بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا، تَعَيَّنَ صَرْفُهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهَا لِإِنْسَانٍ. وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَى الْوَارِثِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَكَحَ الِابْنُ مُكَاتَبَةَ أَبِيهِ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَالِابْنُ وَارِثٌ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ مَلِكَ زَوْجَتَهُ. وَكَذَا لَوْ مَاتَ السَّيِّدُ وَبِنْتُهُ تَحْتَ مُكَاتَبِهِ فَوَرِثَتْ زَوْجَهَا، وَلَوِ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ زَوْجَتَهُ أَوِ اشْتَرَتِ الْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

كتاب أمهات الأولاد.

كِتَابُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ أَمَتِهِ يَنْعَقِدُ حُرًّا وَتَصِيرُ الْأَمَةُ بِالْوِلَادَةِ مُسْتَوْلَدَةً تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ وَيُقَدَّمُ عِتْقُهَا عَلَى الدُّيُونِ، وَاسْتِيلَادُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، كَاسْتِيلَادِ الصَّحِيحِ فِي النُّفُوذِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ. وَيَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ أَيْضًا بِإِلْقَاءِ مُضْغَةٍ فِيهَا خِلْقَةُ آدَمِيٍّ، إِمَّا لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِمَّا لِلْقَوَابِلِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ مِنَ النِّسَاءِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ وَقُلْنَ: هَذَا أَصْلٌ آدَمِيٌّ وَلَوْ بَقِيَ لَتَصَوَّرَ، لَمْ يَثْبُتِ الِاسْتِيلَادُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْعِدَدِ. فَصْلٌ يَحْرُمُ بَيْعُ الْمُسْتَوْلَدَةِ وَهِبَتُهَا وَرَهْنُهَا وَالْوَصِيَّةُ بِهَا، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ مَيْلُ الْقَوْلِ فِي بَيْعِهَا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ اخْتِلَافُ قَوْلٍ، وَإِنَّمَا مَيْلُ الْقَوْلِ إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِ مَنْ جَوَّزَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَوَّزَهُ فِي الْقَدِيمِ. فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: [لَا] وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالصَّيْدَلَانِيُّ كَالْمُدَبَّرِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يُعْتَقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيُحْتَمَلُ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَقَضَى قَاضٍ بِجَوَازِهِ، فَحَكَى الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ خِلَافٍ بَيْنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، فَقَدِ انْقَطَعَ، وَصَارَ مُجْمَعًا عَلَى مَنْعِهِ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِيهِ وَجْهَيْنِ.

فَرْعٌ أَوْلَادُ الْمُسْتَوْلَدَةِ إِنْ كَانُوا مِنَ السَّيِّدِ فَأَحْرَارٌ، وَإِنْ حَدَثُوا مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًى، فَلَهُمْ حُكْمُ الْأُمِّ، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ بَيْعُهُمْ، وَيُعْتَقُونَ بِمَوْتِهِ وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ قَدْ مَاتَتْ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ. وَلَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْأُمَّ لَمْ يُعْتَقِ الْوَلَدُ، وَكَذَا حُكْمُ الْعَكْسِ كَمَا فِي التَّدْبِيرِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَةَ يُعْتَقُ وَلَدُهَا، وَلَوْ وَلَدَتِ الْمُسْتَوْلَدَةُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ الْأَمَةُ، فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِلسَّيِّدِ كَالْأُمِّ، وَهُوَ كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًى. وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ أَوْ أَمَتَهُ، انْعَقَدَ الْوَلَدُ حُرًّا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلسَّيِّدِ. وَأَمَّا الْأَوْلَادُ الْحَاصِلُونَ قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ بِنِكَاحٍ أَوْ زِنًى، فَلَيْسَ لَهُمْ حُكْمُ الْأُمِّ، بَلْ لِلسَّيِّدِ بَيْعُهُمْ إِذَا وُلِدُوا فِي مِلْكِهِ، وَلَا يُعْتَقُونَ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ حَدَثُوا قَبْلَ ثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْأُمِّ. فَرْعٌ الْمُسْتَوْلَدَةُ فِيمَا سِوَى نَقْلِ الْمِلْكِ فِيهَا كَالْقِنَّةِ، فَلَهُ إِجَارَتُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَوَطْؤُهَا وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى أَوْلَادِهَا التَّابِعِينَ لَهَا، وَقِيمَتُهُمْ إِذَا قُتِلُوا، وَمَنْ غَصَبَهَا، فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ، ضَمِنَهَا كَالْقِنَّةِ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى إِقْرَارِ السَّيِّدِ بِالِاسْتِيلَادِ، وَحُكِمَ بِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَغْرَمَانِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ فِيهَا، وَلَمْ يُفَوِّتَا إِلَّا سَلْطَنَةَ الْبَيْعِ، وَلَا قِيمَةَ لَهَا بِانْفِرَادِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: فَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ وَفَاتَ الْمِلْكُ، فَالَّذِي نَرَاهُ وُجُوبُ الْغُرْمِ عَلَيْهِمَا لِلْوَرَثَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَا بِتَعْلِيقِ الْعِتْقِ، فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، فَحَكَمَتْ بِعِتْقِهِ، فَرَجَعَا غَرِمَا، وَفِي تَزْوِيجِهَا أَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا لِلسَّيِّدِ الِاسْتِقْلَالُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَهَا وَوَطْأَهَا، كَالْمُدَبَّرَةِ.

فصل

وَالثَّانِي قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: لَا يُزَوِّجُهَا إِلَّا بِرِضَاهَا، وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ وَإِنْ رَضِيَتْ، وَعَلَى هَذَا [هَلْ] يُزَوِّجُهَا الْقَاضِي؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ بِشَرْطِ رِضَاهَا، وَرِضَى السَّيِّدِ، وَالثَّانِي: لَا، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي تَزْوِيجِ بِنْتِ الْمُسْتَوْلَدَةِ، فَإِذَا جَوَّزْنَاهُ، فَلَا حَاجَةَ [إِلَى] الِاسْتِبْرَاءِ بِخِلَافِ الْمُسْتَوْلَدَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ، وَابْنُ الْمُسْتَوْلَدَةِ لَا يُجْبِرُهُ السَّيِّدُ عَلَى النِّكَاحِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَذِنَ، فَوَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ فِي «الْكَافِي» تَخْرِيجًا مِنَ الْخِلَافِ فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ وَالصَّوَابُ الْجَوَازُ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا زَنَى رَجُلٌ بِأَمَةٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ زِنًى، ثُمَّ مَلَكَهَا، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ مَلَكَ ذَلِكَ الْوَلَدَ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ، ثُمَّ مَلَكَهَا، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهَا عُلِّقَتْ بِرَقِيقٍ، وَالِاسْتِيلَادُ إِنَّمَا يَثْبُتُ تَبَعًا لِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَلَوْ مَلَكَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ. وَلَكِنْ يُعْتَقُ الْوَلَدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ وَلَدَهُ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَصُورَةُ مِلْكِهَا حَامِلًا أَنْ تَضَعَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ مَلَكَهَا، وَأَنْ لَا يَطَأَهَا بَعْدَ الْمِلْكِ، وَتَلِدَ لِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَأَمَّا إِذَا وَطِئَهَا بَعْدَ الْمِلْكِ، وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْمِلْكِ، فَيُحْكَمُ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ وَثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ وَحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ سَابِقًا عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا اسْتَوْلَدَ أَمَةَ الْغَيْرِ بِشُبْهَةٍ، ثُمَّ مَلَكَهَا، فَيُنْظَرُ إِنْ وَطِئَهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ الْمَمْلُوكَةُ، فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ، وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ، وَإِنْ وَطِئَهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ الْحُرَّةُ أَوْ أَمَتُهُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَفِي ثُبُوتِ

الِاسْتِيلَادِ قَوْلَانِ، وَكَذَا لَوْ نَكَحَ أَمَةَ غِرٍّ بِحُرِّيَّتِهَا فَأَوْلَدَهَا، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَفِي ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ إِذَا مَلَكَهَا الْقَوْلَانِ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوِ اشْتَرَى أَمَةً شِرَاءً فَاسِدًا، وَأَوْلَدَهَا عَلَى ظَنِّ الصِّحَّةِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَدِيمُ: يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ، وَأَظْهَرَهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَعَلَى الْقَدِيمِ يَكُونُ أَوْلَادُهَا الْحَادِثُونَ بَعْدَ مِلْكِهِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًى لَهُمْ حُكْمُهَا، فَيُعْتَقُونَ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَالْحَاصِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا لَيْسَ لَهُمْ حُكْمُهَا. وَإِنْ حَصَلُوا بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْأُمِّ، وَلَوْ مَلَكَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًى، فَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِذَلِكَ الْوَلَدِ حُكْمُ الْأُمِّ بَلْ يَكُونُ قِنًّا لِلْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِحَالِ الْعُلُوقِ. فَرْعٌ سَبَقَ فِي الْكِتَابَةِ إِذَا أَوْلَدَ الشَّرِيكَانِ مُكَاتَبَتَهُمَا، وَالْقِنَّةُ فِي مَعْنَاهَا، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الْمَسْأَلَةَ مَبْسُوطَةً. فَرْعٌ أَوْلَدَ مُرْتَدٌّ أَمَتَهُ صَارَتْ مُسْتَوْلَدَةً إِنْ أَبْقَيْنَا مِلْكَهُ، وَإِنْ أَزَلْنَاهُ لَمْ يَثْبُتِ الِاسْتِيلَادُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ أَسْلَمَ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا أَوْلَدَ أَجْنَبِيَّةً، ثُمَّ مَلَكَهَا، وَإِنْ تَوَقَّفْنَا فِي الْمِلْكِ، فَكَذَا فِي الِاسْتِيلَادِ. فَرْعٌ إِذَا أَسْلَمَتْ مُسْتَوْلَدَةُ كَافِرٍ، أَوِ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهَا، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى بَيْعِهَا، وَأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِعْتَاقِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ يُحَالُ بَيْنَهُمَا، وَتُجْعَلُ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَكَسْبُهَا لَهُ، وَنَفَقَتُهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ رُفِعَتِ الْحَيْلُولَةُ، وَإِنْ مَاتَ، عَتَقَتْ.

وَهَلْ لِلْكَافِرِ تَزْوِيجُهَا إِذَا جَوَّزْنَا تَزْوِيجَ الْمُسْتَوْلَدَةِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْدَلَانِيُّ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْقَفَّالُ؛ لِانْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بِالْمِلْكِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ. قِيلَ: لَا يُزَوِّجُهَا الْقَاضِي أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُزَوِّجُهَا الْقَاضِي إِذَا أَرَادَتْهُ وَالْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ، وَكَذَا يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ تَزْوِيجَهَا، وَإِنْ كَرِهَتْ هِيَ، فَتَصِيرُ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهِيَ أَحَقُّ بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ صَارَ الْأَبُ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا فَيَخَافُ أَنْ يَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ فَلَا يُتْرَكُ عِنْدَهُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا حَضَانَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، كَمَا سَبَقَ فِي الْحَضَانَةِ، وَلَا حَضَانَةَ هُنَا لِلْأَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ الْحُرِّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ دُونَ الِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ الْحُرِّ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَبْنِي ثُبُوتَ الِاسْتِيلَادِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ إِذَا أَوْلَدَ جَارِيَةَ نَفْسِهِ هَلْ يَثْبُتُ؟ وَأَنَّ مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ بَيْتِ الْمَالِ يُحَدُّ وَلَا نَسَبَ، وَلَا اسْتِيلَادَ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِعْفَافُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ مُسْتَوْلَدَتَهُ عَلَى مَالٍ، يَجُوزُ. وَلَوْ بَاعَهَا نَفْسَهَا صَحَّ عَلَى الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ نَفْسَهُ إِعْتَاقٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ. فَرْعٌ إِذَا أَوْلَدَ جَارِيَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ لَزِمَهُ الْحَدُّ فِي قَوْلٍ، وَالتَّعْزِيرُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا نِسْبِيًّا، وَتَصِيرُ هِيَ مُسْتَوْلَدَةً، قَالَ الْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: وَلَا يُتَصَوَّرُ

اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ إِلَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَحْكَامَ الْمُسْتَوْلَدَةِ سَبَقَتْ مُعَرَّفَةً فِي أَبْوَابِهَا فَتَرَكْنَا إِعَادَتَهَا. قَالَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ تَيَسَّرَ الْفَرَاغُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعَشَرَةٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَخْتِمُ الْكِتَابَ بِمَا بَدَأْنَاهُ وَهُوَ حَمْدُ اللَّهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَوَلِيِّ الطَّوْلِ وَالْإِنْعَامِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَسَلِّمْ. قُلْتُ: قَدْ أَحْسَنَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا حَقَّقَهُ وَلَخَّصَهُ، وَأَتْقَنَهُ، وَاسْتَوْعَبَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَيَسَّرَ الِاحْتِوَاءَ عَلَى مُتَفَرِّقَاتِ الْمَذْهَبِ، وَنَفَائِسِ خَفَايَاهُ عَلَى الْمُفْتِينَ وَالطُّلَّابِ. وَاعْلَمْ أَيُّهَا الرَّاغِبُ فِي الْخَيْرَاتِ، وَالْحَرِيصُ عَلَى مَعْرِفَةِ النَّفَائِسِ الْمُحَقَّقَاتِ، وَحَلِّ الْغَوَامِضِ وَالْمُشْكِلَاتِ، وَالتَّبَحُّرِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَذْهَبِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَا تَعْتَمِدُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَتَعْمِدُ إِلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِ الْفَتَاوَى الْغَامِضَاتِ، وَتَثِقُ بِهِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْآرَاءِ الْمُضْطَرِبَاتِ، وَتَحُثُّ عَلَى تَحْصِيلِهِ مَنْ أَرَدْتَ نُصْحَهُ مِنْ أُولِي الرَّغَبَاتِ، أَنَّهُ لَمْ يُصَنَّفْ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يُحَصِّلُ لَكَ مَجْمُوعَ مَا ذَكَرْتُهُ أَكْمَلَ مِنْ كِتَابِ الرَّافِعِيِّ ذِي التَّحْقِيقَاتِ. بَلِ اعْتِقَادِي وَاعْتِقَادُ كُلِّ مُصَنِّفٍ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَاتِ وَلَا الْمُتَأَخِّرَاتِ، فِيمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْمُهِمَّاتِ، وَقَدْ يَسَّرَ اللَّهُ الْكَرِيمُ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ مَعَ ذَلِكَ جُمَلًا مُتَكَاثِرَاتٍ مِنَ الزَّوَائِدِ الْمُتَمِّمَاتِ، وَالنَّوَادِرِ الْمُسْتَجَادَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحَاسِنِ الْمَطْلُوبَاتِ. وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ يُكْثِرَ النَّفْعَ بِهِ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَمَشَايِخِي وَسَائِرِ أَحْبَابِنَا الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ،

لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَقَدْ رَأَيْتُ خَتْمَ الْكِتَابِ بِمَا خَتَمَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ صَحِيحَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَأَوَّلًا وَآخِرًا، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَأَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ شَرَفِ بْنِ مُرِّيٍّ النَّوَوِيُّ: فَرَغْتُ مِنْهُ يَوْمَ الْأَحَدِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِمَنْ نَظَرَ فِيهِ، وَلِصَاحِبِهِ، وَلِمَنْ دَعَا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

§1/1