رمي الجمرات في ضوء الكتاب والسنة وآثار الصحابة رضي الله عنهم

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه رسالة مختصرةٌ، محررةٌ، في ((رمي الجمرات في ضوء الكتاب والسنة)) بيَّنت فيها كل ما يحتاجه الحاج في رمي الجمرات في يوم العيد وأيام التشريق، وقرنت كل مسألة بدليلها من الكتاب والسنة، أو الإجماع، أومن أقوال الصحابة - رضي الله عنهم -. وقد ذكرت في متن هذه الرسالة القول الصحيح الراجح بدليله، وذكرت في الحواشي المسائل الخلافية، وبيَّنت الراجح منها؛ ليستفيد من ذلك طالب العلم وغيره. وقد استفدت كثيراً من تقريرات وترجيحات سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى. وقد قسمت البحث إلى أربعة مباحث على النحو الآتي: المبحث الأول: مفهوم رمي الجمرات: لغة واصطلاحاً. المبحث الثاني: سبب مشروعية رمي الجمرات. المبحث الثالث: رمي جمرة العقبة وآدابه. المبحث الرابع: رمي الجمرات أيام التشريق وآدابه. والله أسأل أن يجعل هذا العمل القليل نافعاً، مباركاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل،

والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله على عبده، ورسوله، وخليله، وأمينه على وحيه، محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر في ضحى يوم الإثنين 18/ 7/1429هـ‍

المبحث الأول: مفهوم رمي الجمرات: لغة، واصطلاحا

المبحث الأول: مفهوم رمي الجمرات: لغة، واصطلاحاً: الرمي لغة: هو القذف والدفع. وهو في الاصطلاح: دفع الحصى الصغار بِقُوَّةٍ إلى موضع الرمي داخل حوض الجمرة. الجمرات، لغة: الجمرة: الحصاة الصغيرة، وجمعها جمرات، وجمار (¬1). قال الإمام ابن الأثير رحمه الله: (( ... الجمار: وهي الأحجار الصغار، ومنه سمِّيت جمار الحج للحصى التي يُرمَى بها، وأما موضع الجمار بمنىً فسُمِّيَ جمرة؛ لأنها تُرمى بالجمار، وقيل: لأنها مجمع الحصى التي يُرمى بها، من الجمرة: وهي اجتماع القبيلة على من نَاوَأها، وقيل: سُمِّيت به من قولهم: أجمر: إذا أسرع (¬2). وقال العلامة أحمد الفيُّومي رحمه الله: ((الجمرة هي مجتمع الحصى بمنى، فكلُّ كومةٍ من الحصى جمرة، والجمع: جمرات، وجمرات منى ثلاث ... )) (¬3). وعلى هذا فاشتقاق الجمرة: من التجمّر: وهو التجمّع؛ لاجتماع الحصى في الموضع الذي يُرمى فيه. أو سُمِّيت الجمرة من التجمّع لاجتماع الحجاج عندها يرمونها، والعلم عند الله تعالى (¬4). الجمرة في الاصطلاح: هي مجتمع الحصى الذي تحت العمود ¬

(¬1) لسان العرب، لابن منظور، باب الراء، فصل الجيم، 4/ 146. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، مادة (جمر)، 1/ 292. (¬3) المصباح المنير، للفيومي، مادة (جمر)، 1/ 108. (¬4) انظر: أضواء البيان، 5/ 298.

الشاخص الذي يقع وسط الحوض في الجمرة الصغرى، والجمرة الوسطى، ويقع الحوض في جهة جمرة العقبة الغربية الجنوبية (¬1)،فإذا وقع الحصى داخل الحوض تحت العمود الشاخص أجزأَ عند العلماء، وهو الموضع الذي رمى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) وقد أصبح حوض الجمرة الكبرى: جمرة العقبة من جميع الجهات بعد التوسعة السعودية الجديدة في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز وفقه الله تعالى.

المبحث الثاني: سبب مشروعية الرمي وحكمته

المبحث الثاني: سبب مشروعية الرمي وحكمته وردت أحاديث تدل على أن أوَّل من رمى الجمار إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ (¬1) في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض))، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون)) (¬2)، وغير ذلك من الحكم (¬3). ¬

(¬1) ساخ في الأرض: أي غاص فيها. (¬2) ابن خزيمة، بنحوه، برقم 2967، والحاكم، 1/ 466، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 37. (¬3) وذكر شيخنا ابن باز رحمه الله في مجموع فتاويه، 17/ 310 - 313 حكماً أخرى هي: 1 - اقتداءً بأبينا إبراهيم الخليل - عليه السلام - حين اعترض له الشيطان في هذه المواقف، وبنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حين شرع ذلك لأمته في حجة الوداع. 2 - إقامة ذكر الله تعالى: ((إنما جعل الطواف بالبيت، والسّعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) [أحمد، 40/ 408]، وتقدم تخريجه. 3 - التقيّد بالعدد سبعة له حكمة عظيمة، وهو التذكر بما شرع الله من هذا العدد: ترمى بسبع حصيات: كالطواف سبعاً، والسعي سبعاً. 4 - الدين الإسلامي دين امتثال لأمر الله، حتى ولو خفيت الحكمة. 5 - رمي الجمار يشعر المسلم بالتواضع والخضوع في امتثال الأمر، كما أنه يعوِّد المسلم على النظام والترتيب في المواعيد. 6 - الاحتفاظ بالحصيات وعدم وضعها في غير موضعها يشعر المسلم بأهمية المحافظة على ما شرع ربه وعدم الإسراف، ووضع الأمور في مواضعها من غير تبذير ولا زيادة. 7 - الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان. 8 - غاية في تحقير المرجوم، والمسلم يرجم الجمار لكن الأصل لرجم إبراهيم - عليه السلام - أن رجم الشيطان [رمي الجمرات للشريف، ص 26].

المبحث الثالث: رمي جمرة العقبة وآدابه

المبحث الثالث: رمي جمرة العقبة وآدابه إذا وصل الحاج إلى منى يوم النحر فالأفضل أن يعمل الآتي: أولاً: يقطع التلبية عند جمرة العقبة؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن أسامة كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: ((لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة)) (¬1)، وسُمِّيت جمرة العقبة؛ لأنها في عقبة مأزم منى، وخلفها من ناحية الشام وادٍ فيه بايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة، وهي ملاصقة للجبل، وبجانبها طريق مع الجبل يسمى العقبة، والعقبة: هي الطريق مع الجبل، ولهذا سميت بالعقبة (¬2). ثانياً: يستحب له أن يجعل منى عن يمينه، والكعبة عن يساره، وجمرة العقبة أمامه، ثم يرميها بسبع حصيات متعاقبات، يرفع يده مع كل حصاة، ويكبر مع كل حصاة، ويتأكد بأن الرمي يقع في الحوض داخل المرمى؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، فعن عبد الرحمن بن يزيد: ((أنه حجَّ مع عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات [يُكبِّر مع كل حصاة]، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1543، 1544، ومسلم، برقم 1281، 1282، وتقدم تخريجه في أحكام التلبية. (¬2) وقد أزيل طرف الجبل المتّصل بجمرة العقبة بناءً على فتوى مفتي البلاد السعودية في عصره، العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، بتاريخ 1/ 9/ 1375هـ، وأنشئت الطرقات بين جمرة العقبة والجبل، كما هو مشاهد الآن. [انظر: فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، 5/ 150 - 151].

ثالثا: وقت رمي جمرة العقبة

يمينه، ثم قال: ((هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة))، وفي رواية: أن عبد الرحمن بن يزيد كان مع ابن مسعود - رضي الله عنه - حين رمى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي حتى إذا حاذى الشجرة اعترضها، فرمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم قال: ((من ها هنا - والذي لا إله غيره - قام الذي أُنزلت عليه سورة البقرة))، وفي لفظ: ((أنه لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع، وقال هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة)) (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: (( ... ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يُكبِّر مع كل حصاة منها، حصى الخذف، رمى من بطن الوادي ... )) (¬2). ثالثاً: وقت رمي جمرة العقبة، هذه الجمرة الوحيدة التي يستحب للحاج أن يرميها ضُحىً يوم النحر (¬3)، أما بقية الأيام فلا تُرمَى ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الحج، باب رمي الجمار من بطن الوادي، برقم 1747، وباب رمي الجمار بسبع حصيات، برقم 1748، وباب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره، برقم 1749، وباب يكبر مع كل حصاة، برقم 1750، ومسلم كتاب الحج، باب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي، وتكون مكة عن يساره، ويكبر مع كل حصاة، برقم 1296. (¬2) مسلم، برقم 1218، وتقدم تخريجه. (¬3) أول وقت رمي جمرة العقبة وآخره على النحو الآتي: أولاً: أول وقت رمي جمرة العقبة: أجمع العلماء على أن من رمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس أجزأه ذلك، بل قال الإمام ابن المنذر في كتابه الإجماع، ص 72: ((وأجمعوا على أنه إن رمى جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس أنه يجزئ)). واختلفوا في أول الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: أول وقت رمي جمرة العقبة بعد منتصف الليل [وقيده بعضهم بعد غروب القمر، كما صحّ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها]، وبهذا قال الشافعي، وأحمد، وعطاء، وابن أبي ليلى، وعكرمة بن خالد، كما ذكره ابن قدامة في المغني، 5/ 295، وقال النووي في شرح المهذب: ((وبه قال عطاء، وأحمد، وهو مذهب أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وابن أبي مليكة، وعكرمة بن خالد، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ((أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمِّ سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت)) [أبو داود، برقم 1942، والنسائي، برقم 3066]، وقال ابن حجر في بلوغ المرام: ((إسناده على شرط مسلم، وقال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، 3/ 263: ((إسناده حسن)). [وانظر: أضواء البيان للشنقيطي، 5/ 276، فقد نقل عن الإمام النووي تصحيحه في شرح المهذب، ثم قال الشنقيطي: ((ولا يخفى أن رواية أبي داود المذكورة ظاهرها الصحة)). قال شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله: ((لا يجوز رمي جمرة العقبة قبل منتصف الليل من ليلة النحر، وكذلك طواف الإفاضة))، وقال رحمه الله: ((الصحيح أن رمي جمرة العقبة في النصف الأخير من ليلة النحر مجزئ للضعفة وغيرهم، ولكن يشرع للمسلم القوي أن يجتهد حتى يرمي في النهار اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس)) [مجموع فتاوى ابن باز، 16/ 143، وكان يفتي كثيراً: بأنه يجوز الرمي بعد منتصف الليل، والأفضل بعد غروب القمر، ولكن الأفضل للأقوياء أن يرموا بعد طلوع الشمس، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال شيخنا ابن باز رحمه الله: ((وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)) [أخرجه أحمد، برقم 2082، 089، و2507، و2841، و3003، و3192، و3203، وأبو داود، برقم 1940، والنسائي، 5/ 271، برقم 3064 والترمذي، برقم 893] ضعيف لانقطاعه بين الحسن العرني وابن عباس، وعلى فرض صحته فهو محمول على الندب جمعاً بين الأحاديث، كما نبَّه على ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله)). [انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 16/ 143، 175، 222، 17/ 292، 294، 296، 377، 25/ 231]. وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: (( ... ولرمي هذه الجمرة [أي جمرة العقبة] وقتان: وقت فضيلة، ووقت إجزاء؛ فأما وقت الفضيلة فبعد طلوع الشمس، قال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما رماها ضحى ذلك اليوم، وقال جابر - رضي الله عنه -: ((رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحىً، وأما بعد فإذا زالت الشمس)) [رواه مسلم، برقم 314 - (1299)] إلى أن قال: ((لأن رميها بعد طلوع الشمس يجزئ بالإجماع، وكان أولى. وحديث ابن عباس: ((لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)) [أبو داود، برقم 1940، وغيره، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 545]، وكذا حديثه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم ضعفاء أهله بغلس ويأمرهم - يعني - لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس)) [أخرجه أبو داود، برقم 1941، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 546] يحمل إذا كان صحيحاً على الاستحباب كما تقدم. وأما وقت الجواز فأوله نصف الليل من ليلة النحر، ... ثم استدل بحديث عائشة رضي الله عنها في رمي صفية رضي الله عنها قبل الفجر، وبحديث أسماء، وأنها نزلت من مزدلفة بعد غروب القمر، ثم رمت قبل صلاة الفجر، وقال: لأنه وقتٌ للدفع من مزدلفة، فكان وقتاً للرمي، ثم قال في الأخبار في الرمي بعد طلوع الشمس: ((والأخبار المتقدمة محمولة على الاستحباب)). [المغني، 5/ 294 - 295]. القول الثاني: ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن رمي جمرة العقبة يبتدئ من بعد طلوع الشمس، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، واحتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم ... )) [مسلم، برقم 1218، والبيهقي بلفظه، 5/ 125]، وبحديث ابن عباس، وفيه: (( ... لا ترموا الجمرة حتى تطلع المشس)) [أبو داود، برقم 1940، والنسائي، 5/ 271، والترمذي، برقم 893، وتقدم الحكم عليه]. القول الثالث: أول وقت رمي جمرة العقبة للضعفة بعد طلوع الفجر، ولغير الضعفة بعد طلوع الشمس، وهو قول لبعض أهل العلم، واختاره ابن القيم في زاد المعاد، 2/ 252، قال ابن القيم رحمه الله: ((وفي المسألة ثلاثة مذاهب: أحدها: الجواز بعد نصف الليل مطلقاً للقادر والعاجز، كقول الشافعي وأحمد رحمهما الله: [قال شيخنا رحمه الله تعليقاً على هذا المذهب: وهذا هو الصواب، لكن بعد نصف الليل، والأقوياء الأفضل لهم تأخير الرمي إلى بعد طلوع الشمس]. والثاني: لا يجوز إلا بعد طلوع الفجر، كقول أبي حنيفة رحمه الله، والثالث: لا يجوز لأهل القدرة إلا بعد طلوع الشمس، كقول جماعة من أهل العلم، والذي دلت عليه السنة إنما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر، لا نصف الليل، وليس مع من حدَّه بالنصف دليل، والله أعلم)) [زاد المعاد، 2/ 252]. ويرى العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أنه لا يدفع أحد من مزدلفة، ولا يرمي إلا بعد أن يصلي الفجر ما لم يكن ضعيفاً، أو صاحب ضعيف، ومع ذلك لو دفع بعد نصف الليل فإنه لا يأثم، والمسألة من باب الأفضلية [الشرح الممتع، 7/ 361]. ثانياً: آخر وقت رمي جمرة العقبة يمتد إلى غروب الشمس يوم النحر، قال الإمام ابن قدامه في المغني، 5/ 295: ((قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقتٍ لها، وإن لم يكن مستحباً لها))؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسأل يوم النحر بمنى، فيقول: ((لا حرج))، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ فقال: ((اذبح ولا حرج))، وقال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: ((لا حرج)) [البخاري، برقم 1735، بلفظه، ومسلم، برقم 1307]. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، 3/ 569 في قوله: ((رميت بعدما أمسيت)) أي بعد دخول المساء، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتدَّ الظلام، فلم يتعيَّن لكون الرمي المذكور كان بالليل))، فإن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرمِ جمرة العقبة، فقد اختلف العلماء على قولين: القول الأول: يجوز الرمي ليلاً، وهو قول عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، وبه قال الإمام مالك وأصحابه، والإمام الشافعي، ومحمد بن المنذر، ويعقوب، واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: 1 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسأل يوم النحر بمنىً فيقول: ((لا حرج))، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ فقال: ((إذبح ولا حرج))، وقال: رميت بعدما أمسيتُ؟ فقال: ((لا حرج)) [البخاري، برقم 1735]، قالوا: فقد صرّح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن من رمى بعدما أمسى لا حرج عليه، واسم المساء يصدق بجزء من الليل [أضواء البيان للشنقيطي، 5/ 282]. 2 - ما روى مالك في الموطأ في كتاب الحج، باب الرخصة في رمي الجمار، 1/ 409، عن نافع مولى ابن عمر: ((أن ابنة أخٍ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة، فتخلفت هي وصفية حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئاً))، قال العلامة عبد المحسن بن حمد العباد البدر في كتابه تبصير الناسك، ص 145: ((بإسناد صحيح))، فقال أصحاب هذا القول: فقد أمر ابن عمر زوجته صفية بنت أبي عبيد وابنة أخيها برمي الجمرة بعد الغروب، ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك، وذلك يدل على أنه علم من النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الرمي ليلاً جائز. [أضواء البيان للشنقيطي، 5/ 285]. القول الثاني: لا يجوز الرمي ليلاً، بل إن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرمِ، فإنه يؤخر رمي جمرة العقبة حتى تزول الشمس من الغد ثم يرميها، وبهذا قال أبو حنيفة، وهو مذهب الإمام أحمد، قال الإمام ابن قدامه في المغني، 5/ 295: ((فإن أخرها إلى الليل لم يرمِ حتى تزول الشمس من الغد، وبهذا قال أبو حنيفة وإسحاق ... ))، وردّ أصحاب هذا القول على من استدل بحديث: ((رميت بعدما أمسيت)) فقالوا: إن مراد السائل بقوله: ((بعدما أمسيت)) يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل، قالوا: والدليل الواضح على ذلك: أن حديث ابن عباس المذكور فيه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسأل يوم النحر بمنى ... الحديث، فتصريحه بقوله: ((يوم النحر)) يدل على أن سؤاله وقع في النهار، والرمي بعد الإمساء وقع في النهار؛ لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 3/ 569: ((رميت بعدما أمسيت)) أي بعد دخول المساء))، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتدّ الظلام لم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل))، وقال ابن منظور في لسان العرب: ((المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب، وقال بعضهم إلى نصف الليل)). فأجاب أصحاب القول الأول بأجوبة منها: الجواب الأول: أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حرج)) بعد قول السائل رميت بعدما أمسيت؟ يشمل لفظه نفي الحرج عمن رمى بعدما أمسى، وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل. الجواب الثاني: أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور ما هو أعم من يوم النحر، وهو صادق قطعاً بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق، ومعلوم أن الرمي فيها لا يكون إلا بعد الزوال، فقول السائل في بعض أيام التشريق: رميت بعدما أمسيت؛ لا ينصرف إلا إلى الليل، لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم، فلا يسأل عنه صحابي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل أ

رابعا: الحلق أو التقصير، والحلق أفضل

الجمار الثلاث إلا بعد الزوال فعن جابر - رضي الله عنه - قال: ((رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ضحىً وأما بعدُ فإذا زالت الشمس))، هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري معلقاً: ((رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ضحىً، ورمى بعد ذلك بعد الزوال)) (¬1)، وجمرة العقبة هي الأخيرة مما يلي مكة (¬2). ثم ينحر هديه، أو يذبحه إن كان عليه هدي. رابعاً: الحلق أو التقصير، والحلق أفضل إذا فرغ الحاج من ذبح هديه أو نحره لمن كان له هدي حلق رأسه أو قصَّره، والحلق أفضل للرجل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بالرحمة والمغفرة للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين مرة واحدة؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رحم الله المحلقين))، قالوا: والمقصرين يا ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب الحج، باب رمي الجمار، قبل الحديث رقم 1746، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي، برقم 314 – (1299). (¬2) جمرة العقبة لها خصائص اختصت بها على سائر الجمرات على النحو الآتي: 1 - ترمى يوم النحر. 2 - صباحاً. 3 - ترمى من أسفلها. 4 - لا يوقف عندها للدعاء. 5 - تستقبل حال الرمي. 6 - أحد ما يحلّ به الحاج. 7 - قطع الحاج التلبية إذا رماها. [فتاوى العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله، 6/ 15].

رسول الله، قال: ((رحم الله المحلّقين))، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: ((رحم الله المحلقين))،قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: ((والمقصرين)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((اللهم اغفر للمحلقين))، قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: ((اللهم اغفر للمحلقين))، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: ((اللهم اغفر للمحلقين))، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: ((والمقصِّرين)) (¬2). أما المرأة فليس عليها إلا التقصير تأخذ من كل قرن قدر الأنملة أو أقل. وبعد رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير يباح للمحرم كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ويُسمَّى هذا التحلل الأول (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم،1727،ومسلم، واللفظ له، في كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم 318 – (1301). (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم 1728، ومسلم، واللفظ له، في كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم 1302. (¬3) مسائل مهمة في التحلل على النحو الآتي: المسألة الأولى: اختلف العلماء رحمهم الله: هل الحلق نسك أم لا؟ على قولين: القول الأول: الحلق والتقصير نسك لا بد من فعله في الحج، والعمرة، فهو واجب من واجبات الحج، وواجب من واجبات العمرة، يثاب على فعله، ويستحق العقاب من تركه [قاله ابن تيميه في شرح العمدة، 2/ 541]، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، 5/ 304: ((والحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة، في ظاهر مذهب أحمد، وقول الخرقي، وهو قول مالكٍ، وأبي حنيفة، والشافعي))، وبيَّن الإمام ابن قدامة أن هذا القول هو الأصح؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به، فروى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحل))، [البخاري، برقم 1623، ومسلم برقم 1211]، وعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أحلوا من إحرامكم بطوافٍ بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصِّروا)) [البخاري، برقم 1466، ومسلم، برقم 1005] وأمره يقتضي الوجوب؛ ولأن الله تعالى وصفهم به، بقوله سبحانه: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [سورة الفتح: 27]، ولو لم يكن من المناسك لما وصفهم به، كاللبس، وقتل الصيد؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترحَّم على المحلقين ثلاثاً، وعلى المقصرين مرة، ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل، كالمباحات؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعلوه في جميع حججهم وعمرهم، ولم يخلَّوا به، ولو لم يكن نسكاً لما داوموا عليه، بل لم يفعلوه إلا نادراً؛ لأنه لم يكن من عاداتهم فيفعلوه عادة، ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله ... )) [المغني لابن قدامه، 5/ 305 – 306 بتصرف]. وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان، 5/ 588: ((التحقيق أن الحلق نسك، وأنه أفضل من التقصير)). القول الثاني: الحلق والتقصير ليس بنسك، وإنما هو إطلاق من محظور كان محرَّماً عليه بالإحرام، فأطلق فيه عند الحل، كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام، وهذا القول رواية عن أحمد، فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه، ويحصل الحلُّ بدونه، ووجه ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحل من العمرة قبله، فروى أبو موسى قال: قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: (بمَ أهللتَ؟) قال: قلت: لبيك بإهلالٍ كإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أحسنت))، فأمرني فطفت بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم قال لي: ((أحلّ)) [البخاري، برقم 1609، ومسلم، برقم 1221]. وعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سعى بين الصفا والمروة، قال: ((من كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة)) [مسلم، برقم 1218]، وعن سراقه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قدمتم فمن تطوَّف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حلَّ إلا من كان معه هدي)) [أخرجه أحمد، برقم 15419، وأبو داود، برقم 1801،والدارِمِي، برقم 1857، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 1573]؛ ولأن ما كان محرماً في الإحرام إذا أبيح كان إطلاقاً من محظور، كسائر محرّماته [المغني، 5/ 306]. والصواب أن الحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة، وواجب من واجبات الحج، وواجب من واجبات العمرة، وعلى من تركه دمٌ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا القول: ((واعلم أن هذا القول غلط على المذهب ليس عن أحمد ما يدل على هذا، بل كلامه كله دليل على أن الحلق من المناسك [شرح العمدة، 2/ 541]. وقال العلامة الشنقيطي: ((وأظهر القولين عندي: أن الحلق نسك)) [أضواء البيان، 5/ 288] وقال العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع: 7/ 366: ((والصواب: أنه نسك، وعبادة وقربة لله، والدليل على هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((دعا للمحلقين والمقصرين))، ولا يدعو إلا بشيء مطلوب شرعاً. ونقل ابن مفلح في الفروع، 6/ 57 اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه نُسُكٌ، ويحلُ قبله، وذكر جماعة على أنه نسك في حلّه قبله روايتين. المسألة الثانية: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في مسألة التحلل من الحج على أقوال: القول الأول: التحلل الأول يحصل بمجرد رمي جمرة العقبة، فيحل له كل شيء إلا النساء، وبه قال الإمام أحمد في رواية عنه، والإمام مالك، وعطاء، وأبو ثور؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حلَّ له كلُّ شيءٍ إلا النساء)) [أبو داود، برقم 1978، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 554]، وقول ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((إذا رميتم الجمرة فقد حلَّ لكم كلُّ شيء إلا النساء))،فقال له رجل: يا ابن عباس والطيب؟ فقال: ((أما أنا فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُضمِّخُ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟))،وهذا لفظ ابن ماجه، وأما لفظ النسائي، فقال: ((فعن ابن عباس قال: ((إذا رمى الجمرة فقد حلَّ له كلُّ شيء إلا النساء)) قيل: والطيبُ؟ قال: ((أما أنا فقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتضمَّخ بالمسك، أفطيب هو؟)) [ابن ماجه، كتاب المناسك، باب ما يحل للرجل إذا رمى جمرة العقبة، برقم 3041، والنسائي، كتاب مناسك الحج، باب ما يحل للمحرم بعد رمي الجمار، برقم 3084، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 53، وفي صحيح النسائي، 2/ 364]، وأخرجه أحمد، 5/ 276، برقم: 3204، وقال محققو المسند، 5/ 276: ((صحيح لغيره، رجاله ثقات رجال الشيخين غير الحسن بن عبد العزيز فمن رجال مسلم، وهو ثقة إلا أنه لم يسمع من ابن عباس))، ورواه أحمد أيضاً مرفوعاً4/ 5، برقم 2090، ولكن فيه الحسن العرني كذلك، وله شاهد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((طيبت رسول الله بيدي بذريرة لحجة الوداع للحلِّ والإحرام: حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت))، [أحمد، 43/ 190، برقم 26078، وقال محققو المسند، 43/ 190: ((إسناده صحيح على شرط الشيخين))، وقال الإمام النسائي ... عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لحرمه حين أحرم، ولحلِّه بعدما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت)) [النسائي، برقم 2686، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 2/ 256] قال الألباني في إرواء الغليل، 4/ 238، عن إسناد الإمام أحمد، وإسناد النسائي هذا: ((وإسنادهما صحيح على شرط الشيخين)) [وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 239]. وقد رجّح هذا القول الإمام ابن قدامه في المغني، 5/ 310، فقال: ((وعن أحمد أنه إذا رمى جمرة العقبة، فقد حلَّ، وإذا وطئ بعد جمرة العقبة فعليه دم، ولم يذكر الحلق، وهذا يدل على أن الحِلَّ بدون الحلق [يعني التحلل الأول]، وهذا قول عطاء، ومالك، وأبي ثور، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لقوله: [- صلى الله عليه وسلم -] في حديث أم سلمة رضي الله عنها: ((إن هذا يوم رُخِّص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلُّوا – يعني من كل ما حُرمتم منه - إلا النساء .. )) [أبو داود، برقم 1969، في كتاب المناسك، باب الإفاضة في الحج، وقال الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 560: ((حسن صحيح)). قال شيخنا ابن باز في مجموع الفتاوى، 17/ 316: (( ... التحلل الأول يحصل برمي جمرة العقبة عند جمع من أهل العلم، وهو قولٌ قويٌ، وإنما الأحوط هو تأخير التحلل الأول حتى يحلق المحرم، أو يقصرّ، أو يطوف الإفاضة، ويسعى إن كان عليه سعي بعد رمي جمرة العقبة، ومتى فعل الثلاثة المذكورة حلّ التحلّل كله، والله ولي التوفيق)). القول الثاني: التحلل الأول لا يحصل إلا برمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير، فإذا فعل ذلك حلَّ له كله شيء إلا النساء، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي، والإمام أحمد في الرواية الأخرى، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، 5/ 307: (( ... المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق حلَّ له كلُّ ما كان محظوراً بالإحرام إلا النساء، هذا الصحيح من مذهب أحمد رحمه الله، نصَّ عليه، في رواية جماعة، فيبقى ما كان محرماً عليه من النساء: من الوطء، والقبلة، واللمس، لشهوة، وعقد النكاح، ويحلُّ له ما سواه، هذا قول ابن الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم، وطاوس، والنخعي، وعبيد بن الحسن، وخارجة بن زيد، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما)). وعن أحمد أنه يحلُّ له كل شيء إلا الوطء في الفرج، لأنه أغلظ المحرمات، ويُفسدُ النسك بخلاف غيره))، وقال المرداوي في الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف، 9/ 213: ((وظاهر كلام أبي الخطاب، وابن شهاب، وابن الجوزي ... حلُّ العقدِ، وقاله الشيخ تقي الدين، وذكره عن أحمد، وعنه إلا الوطء في الفرج))، وفي الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص 175: ((يحلُّ للمحرم بعد التحلل الأول كلُّ شيء حتى عقد النكاح، وهذا منصوص أحمد إلا النساء)). وقال ابن قدامة في المغني، 5/ 309: ((وظاهر كلام الخرقي ها هنا: أن الحلَّ إنما يحصلُ بالرمي والحلق معاً، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول الشافعي، وأصحاب الرأي))، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء)) [أحمد، 42/ 40، برقم 2503، قال محققو المسند، 42/ 40: ((صحيح دون قوله: ((وحلقتم))، وهذا إسناد ضعيف لضعف حجاج بن أرطأة))، وقال الألباني في إرواء الغليل، 4/ 235، برقم 1046: ((وضعيف بزيادة ((وحلقتم))، قال ابن قدامه في المغني، 5/ 310: ((وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما؛ ولأنهما نسكان يتعقبهما الحلُّ فكان حاصلاً بهما، كالطواف والسعي في العمرة))، وأما التحلل الثاني فيحصل بالطواف بالبيت والسعي لمن كان عليه سعي. قال العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، 7/ 365: ((الذي يظهر لي أنه لا يحل إلا بعد الرمي والحلق، والدليل قول عائشة رضي الله عنها: ((كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)) [البخاري، برقم 259، ومسلم برقم 1189]، ولو كان يحل بالرمي لقالت: ولحله قبل أن يحلق، فهي رضي الله عنها جعلت الحلَّ ما بين الطواف والذي قبله، والذي قبله هو الرمي، والنحر، والحلق، ولا سيما وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن معي الهدي فلا أحل حتى أنحر)) [البخاري، برقم 1566، ومسلم، برقم 1229]، فالصواب أنه لا يحل التحلل الأول

فإذا تحلل التحلل الأول: استحب له أن يتطيب؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ((كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)) (¬1). ويستحب له أن يتنظف ويلبس أحسن ثيابه. ثم يطوف طواف الإفاضة، ويسعى إن كان عليه سعيٌ. ثم يرجع الحاج إلى منى بعد طواف الإفاضة والسعي ممن عليه سعيٌ، فيبيت بها ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، إن أراد التأخر. ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1539، ومسلم، برقم 1189، وتقدم تخريجه في الإحرام.

المبحث الرابع: رمي الجمرات أيام التشريق وآدابه

المبحث الرابع: رمي الجمرات أيام التشريق وآدابه أولاً: الرمي أيام التشريق واجب من واجبات الحج عند جماهير العلماء، للأدلة الآتية: الدليل الأول: حديث جابر - رضي الله عنه - قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: ((لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)) (¬1). الدليل الثاني: رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام التشريق الجمار الثلاث بعد الزوال، وقد قال: ((خذوا عني مناسككم لعلِّي لا أراكم بعد عامي هذا)) (¬2). الدليل الثالث: أمر الله تعالى بذكره في أيام التشريق، فقال - عز وجل -: {وَاذْكُرُوا الله فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (¬3)،فالحجاج مأمورون بذكر الله في منى، وليس في منى ذكر ينفرد به الحج إلا ذكر الجمار؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، ترفعه: ((إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) (¬4). ¬

(¬1) مسلم، برقم 1218، وتقدم تخريجه. (¬2) البيهقي في السنن الكبرى، 5/ 125. (¬3) البقرة، الآية: 203. (¬4) أحمد، برقم 2451، 40/ 408، ورقم 24268، ورقم 25080، وأبو داود، برقم 1888، والترمذي، برقم 902، وابن خزيمة، 4/ 222، برقم 2738، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح))، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ص148، وحسن إسناده الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، 3/ 218، وقال الأعظمي في تحقيقه لصحيح ابن خزيمة، 4/ 222: ((إسناده صحيح))، وتقدم تخريجه في واجبات الحج.

قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: ((اعلم أن الرمي في أيام التشريق واجب يجبر بدم عند جماهير العلماء، على اختلافٍ بينهم في تعدد الدماء فيه، وعدم تعددها، ولا خلاف بينهم أنه ليس بركن؛ لأن الحج يتمّ قبله، ويتحلّل صاحبه التحلّل الأصغر، والأكبر، فيحلُّ له كل شيء حرم عليه بالإحرام، فحجّه تام إجماعاً قبل رمي أيام التشريق، ولكن رميها واجب يجبر بدم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها، وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)) (¬1) (¬2). وكان شيخنا رحمه الله يفتي كثيراً: أن من ترك رميَ الجمار فعليه دم؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الحج يجبر بدم لفقراء الحرم بمكة (¬3) (¬4). ¬

(¬1) مسلم بنحوه، برقم 1218. (¬2) وقد ذكر العلماء شروطاً لصحة الرمي منها الشروط الآتية: الشرط الأول: أن يكون المرمي به حصى؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفعله. الشرط الثاني: أن يكون الرمي مقصوداً بفعله، فلو رمى في الهواء لا يقصد رمي الجمرة فوقعت الحصاة في المرمى لم يجزه؛ لأنه لم يقصده، ولو رمى إنساناً فوقعت الحصاة في ثوبه فنفضها فوصلت إلى المرمى لم تجزه، فلا بد من نية مطلق الرمي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات)). الشرط الثالث: وقوع الحصى في المرمى في الحوض في مجتمع الحصى. الشرط الرابع: غلبة الظن أو العلم بوقوع الحصى في المرمى. الشرط الخامس: تفريق الرميات، فلو رماها دفعة واحدة لا تجزئ، وتعتبر واحدة فقط. الشرط السادس: ترتيب رمي الجمرات، فيبدأ بالصغرى، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله: ((لتأخذوا عني مناسككم)) انظر: كتاب رمي الجمرات وما يتعلق به من أحكام، للدكتور شرف بن علي الشريف، ص 61 - 72. (¬3) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 16/ 173، 17/ 369، 379، 23/ 460. (¬4) قال الحافظ بن حجر في الفتح، 3/ 579 في حكم رمي الجمار أيام التشريق: ((وقد اختلف فيه: فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم، وعند المالكية سنة مؤكدة، فيجبر، وعندهم رواية: أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه ... )). وقال العلامة الشنقيطي، في أضواء البيان، 5/ 293: ((اعلم أن الرمي في أيام التشريق واجب يجبر بدم عند جماهير العلماء على اختلاف بينهم في تعدد الدماء ... )).

ثانيا: وقت الرمي أيام التشريق: أوله وآخره على النحو الآتي:

ثانياً: وقت الرمي أيام التشريق: أوله وآخره على النحو الآتي: 1 - أول وقت الرمي أيام التشريق: بعد الزوال، ومن رمى قبل الزوال فلا يصح رميه، بل رميه باطل، وتجب عليه الإعادة في أيام التشريق بعد الزوال، فإن انتهت أيام التشريق ولم يعد، فإنه يجب عليه دم، لجبر هذا النقص، للأدلة الآتية: الدليل الأول: رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الزوال، قال جابر - رضي الله عنه -: ((رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ضُحىً، ورمى بعد ذلك بعد الزوال))، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: ((رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضُحىً، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس)) (¬1). فهذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قدوتنا وأسوتنا، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً} (¬2). قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لحديث جابر: ((المراد بيوم النحر ¬

(¬1) البخاري معلقا مجزوماً به، كتاب الحج، باب رمي الجمار، قبل الحديث رقم 1746، وأخرجه مسلم موصولاً في كتاب الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي، برقم 1299. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 21.

الدليل الثاني: أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ عنه مناسك الحج

جمرة العقبة؛ فإنه لا يشرع فيه غيرها بالإجماع، وأما أيام التشريق الثلاثة فيرمي كل يوم منها بعد الزوال، وهذا المذكور في جمرة يوم النحر سنة باتفاقهم، وعندنا يجوز تقديمهُ من نصف ليلة النحر، وأما أيام التشريق فمذهبنا، ومذهب مالك، وأحمد، وجماهير العلماء أنه لا يجوز الرمي في الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال؛ لهذا الحديث الصحيح ... )) (¬1). الدليل الثاني: أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ عنه مناسك الحج، فنعمل كما عمل - صلى الله عليه وسلم -،فعن جابر - رضي الله عنه -،قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: ((لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلِّي لا أحجّ بعد حجَّتي هذه)) هذا لفظ مسلم، ولفظ البيهقي: ((خذوا عني مناسككم لعلّي لا أراكم بعد عامي هذا))،ولفظ النسائي قال جابر: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة وهو على بعيره، وهو يقول: ((يا أيها الناس خذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلّي لا أحج بعد عامي هذا)) (¬2)،ولفظ ابن ماجه: (( ... لتأخذ أمتي نسكها ¬

(¬1) وتمام كلام النووي، 9/ 53: (( ... وقال طاوس، وعطاء: يجزئه في الأيام الثلاثة قبل الزوال، وقال أبو حنيفة، وإسحاق بن راهويه، يجوز في اليوم الثالث قبل الزوال، دليلنا: أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى كما ذكرنا، وقال: ((لتأخذوا مناسككم))، واعلم أن رمي جمار أيام التشريق يشترط فيه الترتيب، وهو أن يبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة ... )) [شرح النووي، 9/ 54]، وقال الحافظ ابن حجر، في الفتح، 3/ 580: ((وفيه دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور، وخالف فيه عطاء وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقاً، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، وقال إسحاق إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه)). (¬2) مسلم، برقم 1297، والبيهقي، 5/ 125، والنسائي، برقم 3062.

الدليل الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما

فإني لا أدري لعلي لا ألقاها بعد عامي هذا)) (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله: ((لتأخذوا مناسككم ... )) فهذه اللام لام الأمر، ومعناه خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي: من الأقوال، والأفعال، والهيئات، هي أمور الحج وصفته، وهي مناسككم، فخذوها عني، واقبلوها، واحفظوها، واعملوا بها، وعلِّموها الناس، وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج، وهو نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)) فيه إشارة إلى توديعهم، وإعلامهم بقرب وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين، وبهذا سميت حجة الوداع، والله أعلم)) (¬3). الدليل الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمار إذا زالت الشمس)) (¬4). الدليل الرابع: حديث عائشة رضي الله عنها حين ذكرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الإفاضة، قالت: (( ... ثم رجع إلى منى فمكث بها لياليَ أيام ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الوقوف بجمع، برقم 3023، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 47. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة وكذلك بعرفة، برقم 785. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 9/ 50. (¬4) الترمذي، كتاب الحج باب ما جاء في الرمي بعد الزوال، برقم 898، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 463.

الدليل الخامس: حديث ابن عمر رضي الله عنهما،

التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، والثانية فيطيل القيام، ويتضرّع، ويرمي الثالثة، ولا يقف عندها)) (¬1). الدليل الخامس: حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فعن وبَرَة قال: ((سألت ابن عمر رضي الله عنهما، متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه، فأعدتُ عليه المسألة، قال: كُنَّا نتحَيَّن (¬2) فإذا زالت الشمس رمينا)) (¬3). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((قوله: ((متى أرمي الجمار؟)) يعني في غير يوم الأضحى، قوله: ((إذا رمى إمامك فارمه)) يعني الأمير الذي على الحج، وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف الأمير فيحصل له منه ضرر، فلما أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رواه ابن عيينة عن مسعر بهذا الإسناد فقال فيه: ((فقلت له: أرأيت إن أخَّر إمامي)) أي الرمي، فذكر الحديث)) (¬4)، وهذا دليل على أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينتظرون ويترقَّبون زوال الشمس فلا يرمون قبله، ولو كان الرمي جائزاً قبله لم ينتظروا (¬5). الدليل السادس: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فعن نافع: أن عبد الله ¬

(¬1) أبو داود، كتاب المناسك، باب في رمي الجمار، برقم 1973، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 552. (¬2) كنا نتحيّن: أي نطلب الحين: وهو الوقت. (¬3) البخاري، كتاب الحج، باب رمي الجمار، برقم 1746. (¬4) فتح الباري لابن حجر، 3/ 580. (¬5) رمي الجمرات، للدكتور شرف الشريف، ص91.

الدليل السابع: حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -

بن عمر كان يقول: ((لا تُرمى الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس)) (¬1). الدليل السابع: حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أنه قال: ((لا تُرمى الجمرة حتى يميل النهار)) (¬2). الدليل الثامن: حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) (¬3)، وهذا يدلّ على أن جميع العبادات توقيفية لا يقبل منها إلا ما كان مشروعاً، أو أقره الشرع المطهر (¬4). الدليل التاسع: أن الرمي لو كان قبل الزوال في أيام التشريق جائزاً، لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فيه من فعل العبادة في أول وقتها؛ ولما فيه من تطويل الوقت حتى يتسع وقت الدعاء عند الجمرة الأولى والوسطى؛ لأن ابن مسعود ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا بمقدار قراءة سورة البقرة (¬5). الدليل العاشر: أن الرمي لو كان قبل الزوال جائزاً؛ لبادر إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛لما فيه من التَّيسير على أمته، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر أمته بالتيسير، فيقول: ((يسِّروا ولا تُعسِّروا)) (¬6). ¬

(¬1) موطأ الإمام مالك، كتاب الحج، باب رمي الجمار، 1/ 408،برقم 217، والبيهقي في السنن، 5/ 149. (¬2) البيهقي في السنن الكبرى، 5/ 149. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 2697، ومسلم، برقم 1718، وهذا لفظ مسلم، أما لفظ البخاري فهو: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، وتقدم تخريجه. (¬4) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 16/ 144. (¬5) الشرح الممتع لابن عثيمين، 7/ 384. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة، برقم 67، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1734.

و ((ما خُيِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)) (¬1). وقد كان يقول: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)) (¬2). ومعلوم يقيناً أن الحرّ كان شديداً جداً في عام حجة الوداع حتى في وقت الضُّحى بعد ارتفاع الشمس، والدليل على ذلك حديث أم الحصين رضي الله عنها، قالت: ((حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة: أحدهما يقود راحلته والآخر رافعٌ ثوبه على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشمس ... )) وفي لفظ: (( ... والآخر رافع ثوبه يستره من الحرِّ حتى رمى جمرة العقبة)) (¬3)، وحديث جابر - رضي الله عنه -،وفيه: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - نزل في القبة التي ضُرِبَتْ له بِنَمِرة حتى زالت الشمس ... )) (¬4). وهذا يدل على شدّة الحرِّ في أول النهار، ومعلوم عند جميع الناس أن وقت زوال الشمس وبعده بقليل يكون أشدَّ حرّاً من أول النهار، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحكمة من النهي عن الصلاة حتى تزول الشمس هو: أن جهنم حينئذٍ تُسْجَرُ (¬5)، وبعد الزوال يكون الحرُّ في الغالب قد اشتدَّ ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، برقم6404، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في التجاوز في الأمر، برقم 2327. (¬2) مسلم، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم 1828. (¬3) مسلم برقم، 1298، وتقدم تخريجه في محظورات الإحرام. (¬4) مسلم، برقم 1218، وتقدم تخريجه (¬5) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، بَاب إِسْلَامِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، برقم 832.

الدليل الحادي عشر: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بادر بالرمي حين زالت الشمس، فرمى قبل

على الأرض، وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بالإبراد بصلاة الظهر، في شدّة الحرِّ (¬1). فلما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعمَّد أن يؤخِّر الرمي حتى تزول الشمس مع أنه أشقُّ على الناس دلَّ هذا على أن الرمي قبل الزوال في أيام التشريق لا يجوز ولا يجزئ (¬2). الدليل الحادي عشر: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بادر بالرمي حين زالت الشمس، فرمى قبل أن يصلّي الظهر، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - يترقَّب زوال الشمس ليرمي ثم ليصلِّي الظهر، ولو كان الرمي جائزاً قبل الزوال لفعله - صلى الله عليه وسلم - ولو مرة واحدة بياناً للجواز، أو فعله بعض الصحابة، وأقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). حتى في اليوم الثالث عشر يوم النفر لم يرمِ إلا بعد الزوال، وهو يريد أن يصلّي بالمحصب ((الأبطح)) صلاة الظهر، وهذا يدل دلالة قاطعة أنه لو كان جائزاً لعجّل الرمي قبل الزوال، والله تعالى المستعان. الدليل الثاني عشر: عمل جميع الصحابة بلا استثناء في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد مماته، فكلّهم يرمون في حجهم في أيام التشريق بعد الزوال، وقد حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة خلق كثير، بلغ عددهم كما ذكر العلماء: مائة وثلاثين ألفاً (¬4). وقد بيّن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حجة الوداع، أن ¬

(¬1) متفق عليه، البخاري، مواقيت الصلاة، بَاب الإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، برقم 502، مسلم، المساجد ومواضع الصلاة، بَاب اسْتِحْبَابِ الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لِمَنْ يَمْضِي إِلَى جَمَاعَةٍ وَيَنَالُهُ الْحَرُّ فِي طَرِيقِهِ، برقم 1430. (¬2) الشرح الممتع، لابن عثيمين، 7/ 384. (¬3) المرجع السابق، 7/ 385. (¬4) انظر: فتح الملك المعبود في شرح سنن أبي داود، 2/ 105.

لم يثبت عن صحابي واحد أنه أفتى بالرمي قبل الزوال، أو رمى قبل الزوال

أعدادهم كثيرة جداً حيث قال: ((مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين لم يحج، ثم أذَّن في الناس في العاشرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجٌّ فقدم المدينة بشرٌ كثيرٌ كلّهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ... )) إلى أن قال: (( ... فصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدِّ بصري بين يديه: من راكب وما شٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به ... )) (¬1)، وكل هؤلاء عملوا المناسك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: ((خذوا عني مناسككم، لعلي لا أراكم بعد عامي هذا)) (¬2)، فأخذوا عنه ذلك وطبَّقوه وعلَّموه من لم يسمع، وبلّغوه مَنْ بعدهم، فلم يرمِ واحدٌ من هؤلاء الصحابة الجمار أيام التشريق إلا بعد الزوال اقتداء بنبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت عن صحابيٍّ واحدٍ أنه أفتى بالرمي قبل الزوال، أو رمى قبل الزوال لا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بعد وفاته، وحج الناس في زمن الصحابة ثلاثاً وثمانين حَجةً ولم يرمِ واحد منهم قبل الزوال؛ لمدة أربعٍ وثمانين سنةً، بالعام الذي حج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وعمر أنس بن مالك - رضي الله عنه - عشرون سنة، وهو آخر من مات من الصحابة، وقد عُمِّر حيث عاش مائة وثلاث سنين، وتوفي على الصحيح سنة ثلاث وتسعين هـ - رضي الله عنه - وأرضاه ¬

(¬1) مسلم، برقم 1218. (¬2) مسلم بنحوه، برقم 1297، والبيهقي بلفظه، 5/ 125.

الثالث عشر: الذي يظهر: أن الثابت عن عطاء: أنه لا يجيز الرمي قبل الزوال

كما قال الإمام النووي والحافظ ابن حجر، والذهبي رحمهم الله تعالى (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: (( ... والرمي بعد الزوال عند جمهور أهل العلم، والأئمة الأربعة، وخالف بعض التابعين، وهو قول شاذ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم))، ولو كان هناك رخصة لما أخَّرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أن الرمي أول النهار فيه سهولة، وفيه سعة، فلو كان جائزاً لبادر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تتبَّعتُ هذا كثيراً وزمناً طويلاً، فلم أجد عن صحابيٍّ واحدٍ ما يدل على الرمي قبل الزوال: لا من قوله، ولا من فعله، والصواب أن الرمي قبل الزوال لا يجزئ، ولو قال به بعض التابعين، ولو قال به أبو حنيفة في يوم النفر، فهو فاسد، ومن ترك ذلك فعليه دم)) (¬2) (¬3). الثالث عشر: الذي يظهر: أن الثابت عن عطاء: أنه لا يجيز الرمي قبل الزوال، فعن ابن جريج، قال سمعت عطاء يقول: ((لا تُرمى الجمرة حتى تزول الشمس، فعاودته في ذلك فقال ذلك)) (¬4)، فقول عطاء الموافق ¬

(¬1) انظر: تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي، 1/ 127، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 3/ 395 – 406، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 1/ 71 - 72. (¬2) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام لابن حجر، الحديث رقم 781. (¬3) قال الإمام ابن قدامة في المغني، 5/ 328،: ((ولا يرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال، فإن رمى قبل الزوال أعاد، نص عليه أحمد، وروي ذلك عن ابن عمر، وبه قال: مالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وروي عن الحسن وعطاء، إلا أن إسحاق، وأصحاب الرأي رخَّصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال ولا ينفر إلا بعد الزوال، وعن أحمد مثله، ورخص عكرمة في ذلك أيضاً، وقال: طاوس: يرمي قبل الزوال وينفر قبله .. )) ثم رد عليهم رحمه الله بالأدلة المذكورة وانظر: أيضاً كتاب الفروع لابن مفلح، 6/ 60. (¬4) مصنف ابن أبي شيبة، برقم 14782، وقال العلامة عبد المحسن العباد البدر في تنبيهات في الحج على الكتابة المسماة افعل ولا حرج ص42: ((بإسناد صحيح عن ابن جريج)).

الرابع عشر: المحققون العلماء الربانيون

للدليل أولى من غيره. الرابع عشر: المحققون العلماء الرّبّانيُّون، الراسخون في العلم، العالمون بالله، وبعلم الكتاب والسنة، الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬1) كلهم يقولون بعدم جواز الرمي قبل الزوال: * ومنهم هؤلاء الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتَّبعة: الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، إلا أن أبا حنيفة رخَّص في يوم النفر فقط قبل الزوال، ولكن لا ينفر إلا بعد الزوال (¬2)، ولا دليل معه يرحمه الله: لا من كتاب، ولا سنة، ولا قولٍ لصحابي واحد، وإنما مجرد رأي رآه غفر الله له. * وتبع هؤلاء الأئمة علماء الأمة، ولم يخالف في ذلك إلا من شذَّ بقوله، ورأيه، بل المحققون ربما أهملوا القول بالرمي قبل الزوال فلم يذكروا الخلاف؛ لشذوذ هذا القول، إلا عند الحاجة للردّ، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما ذكر الرمي بعد الزوال ولم يذكر الخلاف في مجموع الفتاوى (¬3)، وتلميذه العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، فقد ذكر الرمي بعد الزوال، ولم يشر إلى الخلاف لشذوذه (¬4). * قال شيخ الإسلام والمسلمين ابن تيمية رحمه الله: ((الحاج يرمي الجمرات الثلاث أيام منى الثلاثة بعد الزوال، وهذا من العلم العام الذي ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 28. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 5/ 328. (¬3) مجموع الفتاوى، 26/ 162، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 26/ 140. (¬4) انظر: زاد المعاد، 2/ 287.

* وقال العلامة المحقق محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله

تناقلته الأمة خلفاً عن سلف عن نبيها - صلى الله عليه وسلم - .... ))، ثم ذكر الأدلة على ذلك، ومنها: حديث عائشة - رضي الله عنه -، وحديث ابن عباس - رضي الله عنه -، وحديث جابر - رضي الله عنه -، وحديث ابن عمر - رضي الله عنه - (¬1) (¬2). * وقال العلامة المحقق محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: ((اعلم أن التحقيق أنه لا يجوز الرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال؛ لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -))، ثم ذكر بعض الأدلة التي ذكرتها سابقاً، ثم قال: ((وبهذه النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلم أن قول عطاء، وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال، وترخيص أبي حنيفة في يوم النفر قبل الزوال، وقول إسحاق: إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه، كل ذلك خلاف التحقيق؛ لأنه مخالف لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت المعتضد بقوله: ((خذوا عني مناسككم))؛ ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه: محمد وأبو يوسف، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يخالف ذلك، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق لا مستند له البتة، مع مخالفته للسنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ... )) (¬3). * وقال العلامة الإمام مفتي المملكة العربية السعودية، ورئيس القضاة والشؤون الإسلامية في عصره؛ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله رداً على شخص أفتى بجواز الرمي قبل الزوال في أيام التشريق، فردَّ رحمه الله بردٍ مفيدٍ مُدَعَّمٍ بالأدلة من الكتاب والسنة، والإجماع، وهذا ملخَّصٌ لهذا الرد الموفق: ¬

(¬1) شرح العمدة، لابن تيمية، 2/ 557. (¬2) وقد تقدم تخريج هذه الأدلة قبل صفحات. (¬3) أضواء البيان، 5/ 294 - 295.

أما الكتاب فقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه}

قال رحمه الله ما ملخصه: ((الأوقات التي وقَّتها الله ورسوله للعبادات ليس لأحد من العلماء تغييرها، بتقديم أو تأخيرٍ، أو زيادةٍ أو نقصانٍ؛ فإن التوقيت من الدين، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله [- صلى الله عليه وسلم -])) (¬1). ثم قال: ((والفعل إذا خرج مخرج الامتثال والتفسير كان حكمه الأمر، وهو داخل في عموم قوله، - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم))، ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة على أن الرمي أيام التشريق لا يصح قبل الزوال (¬2). ثم بيَّن رحمه الله: أن: ((الأئمة الأعلام، وجهابذة الإسلام، الذين يحجون على الدوام، ولم يجوِّزوا لأحد حج معهم من الأنام أن يرمي قبل الزوال [ولا فعله أحد منهم بنفسه]، ولم يخالفوا شرع إمام كل إمام)) وإمامهم في عدم تجويز الرمي قبل الزوال، وسيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - وسنته الثابتة من فعله التشريعي، الخارج مخرج الامتثال، والتفسير المقتضي للوجوب، ومن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم)) (¬3)، وبعد أن ساق أدلة كثيرة، نقلية وعقلية قال رحمه الله: ((إذا عُلم هذا فإن رمي الجمرات الثلاث أيام التشريق لا يصح قبل الزوال: بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ¬

(¬1) مجموع فتاوى العلامة ابن إبراهيم، 6/ 116. (¬2) وهذه الأدلة التي ذكرها رحمه الله قد سبق وأن ذكرتها في أول هذا الكلام عن الرمي أيام التشريق. (¬3) مجموع فتاوى ابن إبراهيم، 6/ 114، بتصرف يسير.

وأما السنة فرميه - صلى الله عليه وسلم - بعد الزوال على وجه الامتثال والتفسير المفيد للوجوب

فَانْتَهُوا} (¬1). وأما السنة فرميه - صلى الله عليه وسلم - بعد الزوال على وجه الامتثال والتفسير المفيد للوجوب، كما في حديث جابر، وحديث ابن عمر، وحديث ابن عباس، وحديث عائشة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم)) (¬2) (¬3). وأما الإجماع فأمرٌ معلوم، وقد نُصَّ عليه في بعض كتب الخلاف، والإجماع، ولا يرد عليه ما ذكره هذا الرجل عن طاوس، وعطاء، وغيرهما، فإن هذا لا يُعدُّ خلافاً أبداً، ولا يعتبر خلافاً عند العلماء؛ لأنه لاحظّ له من النظر بتاتاً، بل هو مصادم للنصوص)) (¬4). وقال رحمه الله: ((مَن طاوس وما طاوس؟ ومَن عطاء وما عطاء؟ وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالشمس في رابعة النهار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما حين ناظر من ناظره في متعة الحج، واحتج مناظره بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر (¬5). وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: ((عجبت لقومٍ عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ ¬

(¬1) سورة الحشر: من الآية، 7. (¬2) مسلم، برقم 1218 بنحوه، والبيهقي بلفظه، 5/ 125. (¬3) هذه الأحاديث التي أشار إليها رحمه الله تقدم تخريجها قبل صفحات، وقد خرجها رحمه الله في الفتاوى قبل كلامه هذا. (¬4) مجموع فتاوى ابن إبراهيم، 6/ 110. (¬5) ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 20/ 251،و26/ 276.

عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1).أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعلَّه إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، أفتترك توقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتوقيتٍ سواه؟ أفتقيس قياساً السُّنَّةُ تأباه، وكل من أهل العلم لا يرضاه؟)) (¬2). وقال الإمام العلامة شيخنا ابن باز رحمه الله: (( ... لا يجوز الرمي في الأيام الثلاثة قبل الزوال: ليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر عند أكثر أهل العلم، وهو الحق الذي لا شكّ فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رمى بعد الزوال في الأيام الثلاثة المذكورة، وهكذا أصحابه - رضي الله عنهم -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم)) (¬3)، فالواجب على المسلمين اتباعه في ذلك كما يلزم اتباعه في كل ما شرع الله، وفي ترك كل ما نهى عنه الله ورسوله؛ لقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬4) وقوله - عز وجل -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (¬5) والآيات في هذا المعنى كثيرة)) (¬6). وسمعت شيخنا عبد العزيز ابن باز يقول رحمه الله: ((ولا يجوز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال، وهناك قول شاذ بجواز الرمي قبل الزوال، وقول ¬

(¬1) سورة النور: من الآية، 63. (¬2) فتاوى سماحة العلامة ابن إبراهيم، 6/ 97، وهذا الرد يقع في هذه الفتاوى، 6/ 67 – 118. (¬3) مسلم، برقم 1297 بنحوه، والبيهقي، بلفظه، 5/ 125. (¬4) سورة الحشر: من الآية، 7. (¬5) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬6) فتاوى ابن باز، 17/ 300، 291، 365، 372، 16/ 143.

الخامس عشر: رمي الجمرات عبادة توقيفية في كيفيتها، وفي زمانها، ومكانها لا يجوز القول فيها بالرأي:

شاذ آخر أنه يجوز الرمي قبل الزوال يوم النفر، والقول الصواب أن الرمي بعد الزوال، ومن رمى قبل الزوال فعليه دم، ولا بأس بالرمي في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه، والأفضل بعد الزوال إلى الغروب)) (¬1). وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (( .. يكون وقت الرمي من زوال الشمس إلى غروبها، فلا يجزئ الرمي قبل الزوال ... )) ثم ذكر الأدلة بالتفصيل رحمه الله (¬2). الخامس عشر: رمي الجمرات عبادة توقيفيَّة في كيفيّتها، وفي زمانها، ومكانها، لا يجوز القول فيها بالرأي: والفتوى بغير علم، من القول بالرأي، ومن قال برأيه وترك الدليل، فقد خالف الصواب للأمور الآتية: الأمر الأول: قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لا تَعْلَمُونَ} (¬3)، والقول على الله تعالى بغير علم: أي بغير دليل من كتاب، أو سنة، سواء كان ذلك في أصول الدين، أو فروعه. الأمر الثاني: قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله} (¬4)، فقد جعل سبحانه من شرَّع للناس شيئاً من الدين لم يشرعه الله شريكاً له في تشريعه، ومن أطاعه في ذلك فهو مشرك بالله ¬

(¬1) سمعته رحمه الله أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 1746. (¬2) الشرح الممتع، 7/ 384. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 33. (¬4) سورة الشورى، الآية: 21.

الأمر الثالث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما،

تعالى شرك الطاعة. الأمر الثالث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إِنَّ الله لَا يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ، فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ، وَيُبْقِي فِي النَّاسِ رُؤُوسًا (¬1) جُهَّالًا يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ))، هذا لفظٌ لمسلم، وفي لفظ له: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتَّخذ الناس رؤوساً جُهَّالاً، فَسُئلوا فأفتَوْا بغيرعلم، فَضَلُّوا وأضَلُّوا))، ولفظ البخاري: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يَبْقَ عالمٌ اتَّخذ الناس رؤوساً جُهَّالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علمٍ، فضَلُّوا وأضَلُّوا)) (¬2). الأمر الرابع: ذمّ السلف للرأي المخالف للدليل، والتحذير من القول بالرأي، ومنهم: 1 - قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلُّوا وأضَلُّوا)) (¬3). ¬

(¬1) رؤوس: جمع رأس، وفيه التحذير من اتخاذ الجهال رؤساء. [شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 465]. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، بابٌ: كيف يُقبض العلم، برقم 100، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يذكر من ذم الرأي، وتكلف القياس، برقم 7307، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، برقم 13 - (2673)، ورقم 14 - (2673). (¬3) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 139، برقم 201، والدارمي في سننه، 1/ 47، برقم 121، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1041، برقم 2001، ورقم 2003، و2005.

2 - قال عروة بن الزبير - رضي الله عنه -: ((السنن، السنن، فإن السنن قوام الدين [أزهد الناس في]))

2 - قال عروة بن الزبير - رضي الله عنه -: ((السنن، السنن، فإن السنن قِوام الدين [أزهد الناس في العالم أهله])) (¬1). 3 - قال سهل بن حنيف - رضي الله عنه -: ((اتهموا رأيكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أردَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره لرددته، والله ورسوله أعلم))، وفي لفظ له: ((اتهموا رأيكم على دينكم)) (¬2)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((أي لا تعملوا في أمر الدين بالرّأي المجرَّد الذي لا يستند إلى أصلٍ من الدين)) (¬3). 4 - قال الإمام أحمد - رحمه الله -: ((لا تكاد ترى أحداً نظر في هذا الرأي إلا وفي قلبه دغل)) (¬4). 5 - قال الأوزاعي - رحمه الله -: ((إذا أراد الله - عز وجل - أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط)) (¬5). وقال الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله - بعد أن ساق آثاراً كثيرة في ذم الرأي ما ملخصه: قال أكثر أهل العلم: إن الرأي المذموم المعيب المهجور الذي لا يحل النظر فيه، والاشتغال به: هو الرأي المبتدع، وشبهه من ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1051، برقم 2029، 2030. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب حدثنا عبدان، برقم 3181، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية، برقم 1785. (¬3) فتح الباري، لابن حجر، 13/ 288. (¬4) أخرجه ابن عبد البر في المرجع السابق، 3/ 1054، برقم 2035. (¬5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1073، برقم 2083.

قال جمهور أهل العلم: الرأي المذموم في الآثار المذكورة

أنواع البدع (¬1). وقال جمهور أهل العلم: الرأي المذموم في الآثار المذكورة هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، وردّ الفروع والنوازل بعضها على بعض قياساً دون ردّها على أصولها من الكتاب أو من السنة (¬2)، ثم قال: ((ومن تدبّر الآثار المرويّة في ذمّ الرأي المرفوعة وآثار الصحابة والتابعين في ذلك علم أنه ما ذكرنا)) (¬3)،فرجَّح - رحمه الله - هذا القول ثم قال: و ((ليس أحد من علماء الأمة يثبت حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يردّه، دون ادّعاء نسخ ذلك بأثر أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته، فضلاً عن أن يتخذ إماماً ولزمه اسم الفسق، ولقد عافاهم الله - عز وجل - من ذلك)) (¬4). والحاصل أنه لا يجوز الاعتماد على الرأي، بل يُرجع إلى الكتاب والسنة، أو إلى أحدهما، فإن لم يجد فيرجع إلى الإجماع، فإذا لم يجد الأمور الثلاثة رجع إلى أقوال الصحابة - رضي الله عنهم -، فإن وجد قولاً لأحدهم ولم يخالفه أحد من الصحابة، ولا عُرِفَ نصٌّ يخالفه، واشتهر هذا القول في زمانهم أخذ به؛ لأنه حجة عند جماهير العلماء، فإذا لم يجد قولاً يحتجّ به من أقوال الصحابة، واحتاج إلى القياس رجع إليه بدون تكلّف، بل يستعمله على أوضاعه، ولا يتعسّف في إثبات العلة الجامعة التي هي من أركان القياس، بل إذا لم تكن ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1053. (¬2) انظر: المرجع السابق، 2/ 1054. (¬3) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، 2/ 1062. (¬4) جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1080.

الأمر الخامس: قول العالم الرباني فيما لا يعلم: الله أعلم

العلّة الجامعة واضحة، فليتمسّك بالبراءة الأصلية (¬1). وما أحسن ما قاله الشافعي - رحمه الله -: كل العلوم سوى القرآن مشغلةٌ ... إلا الحديث وعلمَ الفقه في الدين العلمُ ما كان فيه حدَّثنا ... وما سوى ذاك وسواسُ الشياطين وما أحسن ما قاله القائل: العلمُ قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين نصوصٍ وبين رأي فقيه ولله در القائل: وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلافاً له حظ من النظر (¬2) الأمر الخامس: قول العالم الرباني فيما لا يعلم: الله أعلم نصف العلم. مما يدل على خشية العالم لله - عز وجل - أن يردّ علم ما لا يعلمه إلى الله، أو يقول: لا أدري، وقد ثبت عن الصحابة، والتابعين من هذا الكثير، ومن ذلك ما يأتي: 1 - قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((يا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلْيَقُلْ: اللهُ أعْلَمُ؛ فَإنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ: اللهُ أعْلَمُ)). قالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين} (¬3) (¬4). ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 20/ 14، و19/ 176، وإعلام الموقعين لابن القيم، 1/ 30، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 13/ 282. (¬2) انظر: فتاوى محمد بن إبراهيم، 6/ 40، 99. (¬3) البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة ص، باب {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}،6/ 37،برقم 4809، وتفسير سورة لدخان، باب {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}،6/ 46،برقم 4822. (¬4) سورة ص، الآية: 86.

2 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أيضا: من علم علما فليقل به

2 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أيضاً: ((مَنْ عَلِمَ علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعمل؛ فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم)) (¬1). 3 - قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أيضاً: ((إن من يُفتي في كل ما يستفتونه لمجنون)) (¬2). 4 - سُئل سعيد بن جبير عن شيء فقال: ((لا أعلم))، ثم قال: ((ويل للذي يقول لما لا يعلم: إني أعلم)) (¬3). 5 - قال مالك: ((ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول: لا أدري؛ فإنه عسى أن يهيأ له خير)) (¬4). 6 - قال ابن وهب، وقال له ابن القاسم: ليس بعد أهل المدينة أحد أعلم بالبيوع من أهل مصر، فقال مالك: ((من أين علموا ذلك؟ قال: منك يا أبا عبد الله، فقال: ما أعلمها أنا، فكيف يعلمونها بي)) (¬5). 7 - عن مالك رحمه الله قال: ((جُنة العالم لا أدري، فإذا أغفلها أُصيبت مقاتلُه)) (¬6). 8 - قال الهيثم بن جميل: سمعتُ مالكاً سُئل عن ثمانٍ وأربعين ¬

(¬1) البخاري، برقم 4821، ومسلم، برقم 39 - 41 (2798). (¬2) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، 2/ 843. (¬3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 836، برقم 1568. (¬4) المرجع السابق، 2/ 839، برقم 1574. (¬5) سير أعلام النبلاء للذهبي، 8/ 76. (¬6) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/ 841، وانظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 77.

9 - قال خالد بن خداش: ((قدمت على مالك بأربعين مسألة، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل))

مسألة فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بـ ((لا أدري)) (¬1). 9 - قال خالد بن خداش: ((قدمت على مالكٍ بأربعين مسألة، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل)) (¬2). 10 - عن ابن وهب، عن مالك، سمع عبد الله بن يزيد بن هُرْمُز يقول: ((ينبغي للعالم أن يُورِّث جُلساءه قول: ((لا أدري)) حتى يكون ذلك أصلاً يفزعون إليه)) (¬3). 11 - وقال ابن وهب: ((لو كتبنا عن مالك: لا أدري؛ لملأنا الألواح)) (¬4). 12 - عن عقبة بن مسلم أنه قال: ((صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهراًً، فكثيراً ما كان يُسأل فيقول: ((لا أدري))، ثم يلتفت إليَّ فيقول: ((تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسراً إلى جهنم)) (¬5). 13 - قال أبو داود: ((قول الرجل فيما لا يعلم: لا أعلم نصف العلم)) (¬6). وهذا كله يؤكد للمفتي، ومعلِّم الناس الخير أهمية قوله: الله أعلم، أو لا أدري لما لا يعلمه، وأن ذلك من الآداب الجميلة التي تدل على خشية الله - عز وجل -. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء، 8/ 77. (¬2) المرجع السابق، 8/ 77. (¬3) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 8/ 77. (¬4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 839، برقم 1576. (¬5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/ 841، برقم 1585. (¬6) المرجع السابق، 2/ 842، برقم 1586، وفي بعض نسخ جامع بيان العلم وفضله أنه من قول أبي الدرداء، 2/ 842، حاشية المحقق. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء، 8/ 77: ((قال ابن عبد البر: صح عن أبي الدرداء: أنَّ لا أدري، نِصف العلم)). انظر: ترتيب المدارك، 1/ 144، 152.

السادس عشر: أدوار الجسور المتكررة حصل بها اليسر والتيسير

السادس عشر: أدوار الجسور المتكررة حصل بها اليسر والتيسير: لا شك أن ما كان يحصل من أضرارٍ في بعض الأوقات عند رمي الجمار، قد زال بحمد الله تعالى، فقد أقيم الدور الثاني بناءً على فتوى مفتي البلاد السعودية في عصره: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، بتاريخ 25/ 6/ 1382هـ (¬1)، ثم أمر خادم الحرمين الشريفين: الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية وفقه الله، بالبدء في إقامة جسورٍ واسعة متكررة فوق الجسر الثاني بعد حج عام 1426هـ، فبدأت الاستفادة بالجسر الأول منها في حج عام 1427هـ، وكُرِّرَت الأدوار المتعددة فوق الجمرات في هوائها، فحصل بذلك التيسير ولله الحمد، مع التنظيم الجديد الذي جعل مساراتٍ للحجاج للذهاب والإياب، فزال ما كان يُخشى من الضرر، فلا حجة بعد ذلك لمن أفتى بالرمي قبل الزوال، كما أنه لا حجة له قبل ذلك؛ لمخالفته للنصوص الشرعية. 2 - آخر وقت الرمي أيام التشريق الثلاثة: تقدم: أن أول وقت رمي الجمرات أيام التشريق الثلاثة بعد الزوال، ولا خلاف بين العلماء أن بقية اليوم وقت للرمي إلى الغروب (¬2) (¬3). ¬

(¬1) انظر: فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، 5/ 155. (¬2) أضواء البيان للشنقيطي، 5/ 299. (¬3) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في نهاية وقت الرمي كلّ يومٍ من أيام التشريق على ثلاثة أقوال: القول الأول: آخر وقت رمي كلّ يومٍ ينتهي بغروب شمس ذلك اليوم، وما بعده قضاء، وقد نقل عن مالك رحمه الله. القول الثاني: ينتهي رمي كلّ يومٍ بطلوع فجر اليوم الذي بعده، وقد نقل عن أبي حنيفة رحمه الله. القول الثالث: نهاية الرمي آخر أيام التشريق، فهي كلها كاليوم الواحد، فمن فاته الرمي قبل غروب شمس ذلك اليوم رماه في اليوم الذي بعده بعد الزوال، وإن أخّرها كلّها إلى آخر بومٍ رماها بعد الزوال بالترتيب، ولا شيء عليه، إلا أنه قد خالف السنة، ونقل عن الشافعية، والحنابلة، وأبي يوسف ومحمد من الحنفية، وسيأتي التفصيل في ذلك في الحواشي الآتية إن شاء اله تعالى. [انظر: رمي الجمرات للدكتور شرف الشريف، ص 69].

والأفضل في رمي الجمار أيام التشريق أن ترمى قبل الغروب

والأفضل في رمي الجمار أيام التشريق أن تُرْمَى قبل الغروب، وكذلك جمرة العقبة من رماها قبل غروب يوم النحر فقد رماها في وقتٍ لها، وإن كان الأفضل أن تُرمى جمرة العقبة ضحى لغير الضعفة. أما الرمي بعد غروب الشمس ليلاً فقد أجازه بعض أهل العلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت ابتداء الرمي بعد الزوال في أيام التشريق ولم يوقِّت انتهاءه، وكذلك جمرة العقبة بعد طلوع الشمس يوم النحر للأقوياء، فالأحوط أن يرمي قبل الغروب حتى يخرج من الخلاف، ولكن لو اضطر إلى ذلك ودعت الحاجة إليه فلا بأس أن يرمي في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل قبل فجر اليوم الذي بعده (¬1) (¬2)، ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى العلامة ابن باز في الحج والعمرة، 5/ 165 و167، وأضواء البيان، 5/ 283، و5/ 299، وانظر: قرار هيئة كبار العلماء في جواز الرمي ليلاً في كتاب توضيح الأحكام من بلوغ المرام، للعلامة عبد الرحمن البسام، 3/ 373، وانظر: آثاراً وأحاديث في جواز الرمي ليلاً في جامع الأصول لابن الأثير، 3/ 278 - 282، والمجموع للإمام النووي، 8/ 240، واللقاء الشهري مع العلامة ابن عثيمين، 10/ 77. (¬2) اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن الرمي في النهار أفضل من بعد الزوال إلى غروب الشمس، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى في النهار ولم يرم بالليل، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - ذُكر عنه أنه رخَّص للرعاة بالرمي في الليل، فاختلف العلماء: فمنهم من قال بجواز الرمي بالليل، وقد نقل عن الحنفية، وابن حزم، وبه قال محمد بن المنذر، وروي عن عروة بن الزبير، والنخعي والحسن. وقال المالكية يجوز قضاءً في القول المشهور عنهم، والقول الثاني توقف. وعند الشافعية وجهان أصحهما الجواز .. وقال الحنابلة وإسحاق، وأحد الوجهين عند الشافية لا يجوز الرمي في الليل، فإن غربت الشمس اليوم وهو لم يرم أخَّر الرمي حتى تزول الشمس، من الغد فيرمي للفائت أولاً ثم يرمي لهذا اليوم بالترتيب ((رمي الجمرات وما يتعلق بها من أحكام، ص 100)) وقد ذكرت أدلة من قال بالجواز في متن هذا البحث. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان 5/ 299: ((الفرع الثالث: في آخر وقت الرمي أيام التشريق: قد علمت أن أول وقت رميها بعد الزوال، ولا خلاف بين العلماء: أن بقية اليوم وقت للرمي إلى الغروب، واختلفوا فيما بعد الغروب: فمنهم من يقول: إن غربت الشمس ولم يرم رمى بالليل، وبعضهم يقول: الليل قضاء، وبعضهم يقول أداء، وقد قدمنا أقوالهم وحججهم في الكلام على رمي جمرة العقبة. ومنهم من يقول لا يرمي بالليل، بل يؤخِّر الرمي حتى تزول الشمس من الغد، كما قدمناه، مع إجماعهم على فوات وقت الرمي بغروب اليوم الثالث عشر من ذي الحجة الذي هو رابع يوم النحر. واعلم: أن هذا الحكم له حالتان: الأولى: حكم الرمي في الليلة التي تلي اليوم الذي فاته فيه الرمي من أيام التشريق. والثانية: الرمي في يوم آخر من أيام التشريق. أما الليل: فقد قدمنا: أن الشافعية، والمالكية، والحنفية كلهم يقولون: يرمي ليلاً، والمالكية بعضهم يقولون الرمي ليلاً قضاءً وهو المشهور عندهم، وبعضهم يتوقف في كونه قضاءً أو أداءً، ... والحنابلة قدمنا أنهم يقولون: لا يرمي ليلاً، بل يرمي من الغد بعد الزوال، وأما رمي يوم من أيام التشريق في يوم آخر منها فلا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في أيام التشريق الثلاثة، هل هي كيوم واحد، فالرمي جميعاً أداء، لأنها وقت للرمي كيوم واحد، أو كل يوم منها مستقل، فإن فات هو وليلته التي بعده فات وقت رميه، فيكون قضاء في اليوم الذي بعده. فعلى القول الأول: لو رمى عن اليوم الأول في الثاني، أو عن الثاني في الثالث، أو عن الأول والثاني في الثالث، فلا شيء عليه، لأنه رمى في وقت الرمي. وعلى الثاني يلزمه دم عن كل يوم فاته رمى فيه إلى الغد عند من يقول بتعدد الدماء: كالشافعية، أو دم واحد عن اليومين عند من يقول بعدم التعدد)) [أضواء البيان، 5/ 299 - 300]. قال الشنقيطي رحمه الله: ((والتحقيق في هذه المسألة: أن أيام التشريق كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي فمن رمى عن يوم منها في يوم آخر منها أجزأه [أي في اليوم الذي يليه]، ولا شيء عليه، كما هو مذهب أحمد، ومشهور مذهب الشافعي، ومن وافقهما)). [أضواء البيان، 5/ 300]. والدليل على ذلك، حديث عاصم بن عدي العجلاني - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رخَّص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر))، وفي لفظ ((رخَّص للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً)) هذان اللفظان لأبي داود، (برقم 1974، 1975) ولفظ النسائي: ((رخص للرعاة أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً)) وفي لفظ: ((رخص للرعاة في البيتوتة يرمون يوم النحر، واليومين اللذين بعده يجمعونهما في أحدها)) (برقم 3068، ورقم 3069)، ولفظ الترمذي: ((أرخص للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً))، وفي لفظ: ((رخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرعاء الإبل في البيتوتة: أن يرمو يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر، فيرمونه في أحدهما، قال مالك: ظننت أنه قال: في الأول منهما ثم يرمون يوم النفر)) (برقم 954، 955) ولفظ ابن ماجه: ((رخص للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً)). وفي لفظ: ((رخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعون رمي يومين بعد النحر فيرمونه في أحدهما .. قال مالك: ظننت أنه قال: في الأول منهما، ثم يرمون يوم النفر)) (برقم 3036،ورقم 3037)،وهذه ألفاظ الحديث في الكتب الستة، وأخرجه أحمد برقم 23774، ورقم 23775، ورقم 23776، 39/ 191 - 194، بألفاظ نحو ما في الكتب الستة، وفسره الإمام مالك في الموطأ 1/ 409، بأن معنى الحديث: أنهم يرمون يوم النحر، ثم لا يرمون اليوم الذي بعده، وهو اليوم الحادي عشر، ثم يرمون اليوم الذي بعده، وهو اليوم الثاني عشر، فيجمعون الرمي اليوم الحادي عشر مع الثاني عشر، وهو يوم النفر الأول، فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الثاني، ثم نفروا مع الناس. وهذا نحو كلام الإمام مالك رحمه الله قال العلامة الشنقيطي، 5/ 301: ((وهذا المعنى الذي فسر به الحديث هو صريح معناه في رواية من روى: أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً)) وحديث عاصم قال فيه الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في صحيح السنن في المواضع المذكورة آنفاً. وقال محققو المسند، 39/ 191: ((إسناده صحيح)). وهذا يدل على أن من فاته الرمي في اليوم الأول رمى في اليوم الذي بعده بعد الزوال ولا شيء عليه، ولكن يرمي بالترتيب لليوم الفائت، ثم يرجع من الجمرة الصغرى ويرمي بالترتيب لليوم الذي بعده كذلك حتى ينتهي بيومه على الترتيب، والله أعلم. [انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 16/ 145، و17/ 374]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله، 5/ 303: ((وبما ذكرنا تعلم أن أيام الرمي كلها كاليوم الواحد، وأن من رمى عن يومٍ في الذي بعده لا شيء عليه؛ لإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للرعاء في ذلك، ولكن لا يجوز تأخير يوم إلى يوم آخر إلا لعذر، فهو وقت له، ولكنه كالوقت الضروري، والله تعالى أعلم))، قلت: ويكون الرمي بعد الزوال لا قبله. قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، 5/ 333 في رمي الجمرات أيام التشريق: ((إذا أخَّر رمي يوم إلى يوم بعده، أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة، ولا شيء عليه، إلا أنه يقدِّم بالنية رمي اليوم الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، وبذلك قال الشافعي، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة: إن ترك حصاة أو حصاتين أو ثلاثاً إلى الغد رماها وعليه لكل حصاة نصف صاع، وإن ترك أربعاً رماها وعليه دم، ولنا أن أيام التشريق وقت للرمي، فإذا أخَّره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شيء، كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته ... والحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخَّرها كالحكم في رمي أيام التشريق في أنها إذا لم ترمَ يوم النحر رميت من الغد، وإنما قلنا يلزمه الترتيب بنيته؛ لأنها عبادات يجب الترتيب فيها مع فعلها في أيامها، فوجب ترتيبها مجموعة، كالصلاتين المجموعتين والفوائت)) [رجح ذلك الشنقيطي في أضواء البيان، 5/ 295]. وقال الشنقيطي رحمه الله: ((وأما رمي جمرة العقبة فقال بعض أهل العلم: إن حكمه مع رمي أيام التشريق كواحد منها، فمن أخّر رميه إلى يوم من أيام التشريق، فهو كمن أخّر يوماً منها إلى يوم، وعليه ففيه الخلاف المذكور، وقال بعض أهل العلم: هو مستقل بوقته دونها؛ لأنه يخالفها في الوقت، والعدد؛ لأنها جمرة واحدة أو ل النهار، وأيام التشريق بعكس ذلك، وله وجه من النظر، والله أعلم)). [أضواء البيان/ 5/ 303]. قلت: تقدم قول ابن قدامة في المغني، 5/ 295: ورمي جمرة العقبة يوم النحر، قال: (( ... فإن أخّرها إلى الليل لم يرمها حتى تزول الشمس من الغد، وبهذا قال أبو حنيفة، وإسحاق، وقال الشافعي، ومحمد بن المنذر، ويعقوب: يرمي ليلاً ... )). وقد تقدم تفصيل ذلك، فيرجع إليه من شاء.

واستدل على جواز الرمي في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه بأدلة:

واستدل على جواز الرمي في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه بأدلة، منها الأدلة الآتية: الدليل الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل أيام منى، فيقول: ((لا حرج))، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن

الدليل الثاني: عن نافع عن ابن عمر أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة

أذبح؟ قال: ((لا حرج))، فقال رجل: رميتُ بعدما أمسيتُ؟ قال: ((لا حرج)) [هذا لفظ النسائي] (¬1)، ولفظ البخاري: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل يوم النحر بمنى ... )) (¬2) الحديث، وقد صرَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من رمى بعدما أمسى لا حرج عليه، واسم المساء يصدق بجزء من الليل (¬3)، وقد تقدم في رمي جمرة العقبة أن المساء يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتدّ الظلام، وقول ابن منظور: ((المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب، وقال بعضهم: إلى نصف الليل)) (¬4). الدليل الثاني: عن نافع عن ابن عمر أن ابنة أخٍ لصفية بنت أبي عُبيدٍ نفست بالمزدلفة، فتخلَّفت هي وصفيَّة حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن ترميا الجمرة حين أتتا، ولم يرَ عليهما شيئاً)) (¬5). وهذا وإن كان في رمي جمرة العقبة؛ فإن رمي جمرة العقبة وقت الرمي فيه أوسع من وقت الرمي في أيام التشريق، فالرمي فيها بالليل من باب أولى (¬6). الدليل الثالث: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رخَّص ¬

(¬1) النسائي، برقم 3067، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 2/ 359، وتقدم تخريجه في رمي جمرة العقبة. (¬2) البخاري، برقم 1735، وتقدم تخريجه في رمي جمرة العقبة. (¬3) أضواء البيان للشنقيطي، 5/ 282. (¬4) انظر: فتح الباري، 3/ 369، وانظر ما تقدم في رمي جمرة العقبة. (¬5) موطأ الإمام مالك، 1/ 409، وتقدم في رمي جمرة العقبة: أن إسناده صحيح. (¬6) تبصير الناسك بأحكام المناسك، للعلامة عبد المحسن العباد، ص 158.

الدليل الرابع: اليوم وقت للرمي والليل يتبعه

للرعاء أن يرموا بالليل)) (¬1). الدليل الرابع: اليوم وقت للرمي، والليل يتبعه في ذلك كليلة النحر تجعل تبعاً ليوم عرفة في حكم الوقوف. الدليل الخامس: تأمل الواقع، والمشاهدة يدلان على أن الوقت من زوال الشمس إلى الغروب لا يكفي لرمي الأعداد الكثيرة من الحجاج. الدليل السادس: الرمي في الليل جائز؛ لأنه فعل من أفعال الحج، فجاز فعله بالليل، كالطواف، والسعي، والوقوف بعرفة (¬2). ثالثاً: صفة رمي الجمرات أيام التشريق الثلاثة: يجب الترتيب (¬3) في رمي الجمار أيام التشريق الثلاثة على النحو الآتي: ¬

(¬1) البيهقي، 5/ 151، وقد ذكر له العلامة الألباني رحمه الله طرقاً وشواهد في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 5/ 622 - 624، ثم قال: ((فالحديث بمجموع هذه الطريق والتي قبلها حسن عندي، ولا سيما وقد قال الحافظ في التلخيص، 2/ 263 في حديث ابن عمر: ((رواه البزار بإسناد حسن، والحاكم، والبيهقي)). (¬2) انظر: رمي الجمرات وما يتعلق به من أحكام، للدكتور الشريف، طبع جامعة أم القرى، ص 101 - 102. (¬3) مسائل في رمي الجمرات على النحو الآتي: المسألة الأولى: يجب الترتيب في رمي الجمرات على الصحيح في أيام التشريق، فيبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات، مثل حصى الخذف، يكبر مع كل حصاة، ثم الجمرة الوسطى، ثم العقبة كذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وقال: ((خذوا عني مناسككم)) [أضواء البيان، 5/ 295، 303، والمغني لابن قدامة، 5/ 329، ومجموع فتاوى ابن باز، 16/ 145، و17/ 377، وذكر شيخنا هنا أنه إن لم يرتب ناسياً أو جاهلاً فذكر في وقت الرمي قبل انقضاء أيام التشريق أعاد، فيبدأ بالجمرة الوسطى، ثم العقبة، حتى يحصل بذلك الترتيب، أما إذا ذكره بعد انتهاء أيام التشريق فنرجو أن لا يكون عليه شيء لأجل الجهل والنسيان، 17/ 377. المسألة الثانية: لا بد من رمي الحصاة بقوة، فلا يكفي طرحها، ولا وضعها باليد في المرمى؛ لأن ذلك ليس برمي في العرف [أضواء البيان، 5/ 296 - 297]، [وانظر: كتاب رمي الجمرات للدكتور الشريف، ص 31 - 32]. المسألة الثالثة: الرمي بالحصى الذي مثل حصى الخذف؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمرة بمثل حصى الخذف)) [مسلم، برقم 1299]، والخذف: الرمي بحصاة أو نحوها بالسبابة والإبهام أو بالسبابتين، وقد حددها فقهاء الحنابلة بأنها أكبر من الحمص، ودون البندق، كما حدّدها بعض فقهاء الشافعية بأنها دون الأنملة [رأس الأصبع] طولاً وعرضاً، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخذف الذي مثَّل بحصاته [رمي الجمرات وما يتعلق به من أحكام، ص 33]، وانظر: المغني لابن قدامة، 5/ 289. المسألة الرابعة: الشك في وقوع الحصى في المرمى [الحوض] قال شيخنا ابن باز رحمه الله: ((من شك هل وقع الحصى في المرجم أم لا فعليه التكميل حتى يتيقَّن)). وقال رحمه الله: ((ولا بد في رمي الجمار من أن يتحقَّق أو يغلب على ظنه أن الحجر وصل إلى الحوض، فإن لم يتحقَّق ذلك، أو يغلب على ظنه أعاد الرمي في الوقت؛ فإن خرج من منى ولم يعد فعليه دم؛ لأنه ترك واجباً، أما إذا تيسَّر له أن يعيد الرمي في أيام منى أعاده مرتَّباً بالنية، ولا شيء عليه)) [مجموع فتاوى ابن باز، 16/ 145، و173، و17/ 177، 309، 379، و30/ 195]. المسألة الخامسة: اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا: يستحب رمي جمرة العقبة راكباً إن أمكن، ورمي أيام التشريق ماشياً في الذهاب والإياب إن أمكن، وهذا من باب السنة. [أضواء البيان، 5/ 308]. المسألة السادسة: إذا رمى النائب عن العاجز ثم زال عذر المستنيب وأيام الرمي باقية، فقال مالك: يقضي كل ما رماه عنه النائب مع لزوم الدم، وقال بعض أهل العلم: لا يلزمه قضاء ما رمى عنه النائب؛ لأن فعل النائب كفعل المنوب عنه، فيسقط به الفرض، ولكن يندب إعادته، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي، وفي المسألة أقوال أخرى، ورجَّح الشنقيطي في أضواء البيان: أنه يرمي جميع ما رمي عنه، ولا شيء عليه؛ لأن الاستنابة إنما وقعت لضرورة العذر، فإذا زال العذر والوقت باقٍ، فعليه أن يباشر فعل العبادة بنفسه [أضواء البيان، 5/ 309 - 310]. [وانظر أيضاً: رمي الجمرات للدكتور شرف الشريف، ص 133]. المسألة السابعة: اختلف العلماء رحمهم الله في القدر الذي يوجب تركه الدم من رمي الجمار على أربعة أقوال: القول الأول: ذهب مالك وأصحابه إلى أن من أخَّر رمي حصاة واحدة من واحدة من الجمرات إلى الليل لذلك اليوم لزمه دم، وما فوق الحصاة أحرى بذلك سواء عندهم في ذلك رمي جمرة العقبة يوم النحر ورمي الثلاثة أيام التشريق، ومعلوم أن من توقَّف من المالكية في كون الرمي ليلاً قضاء يتوقف في وجوب الدم إن رمى ليلاً، ولكن مشهور مذهبه أن الليل قضاء. [أضواء البيان، للشنقيطي، 5/ 304]. القول الثاني: وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى أن الدم يلزمه بترك رمي الجمرات كلها، أو رمى يوماً واحداً من أيام التشريق، وكذلك رمي جمرة العقبة، فرمي جمرة العقبة، ورمي يومٍ من أيامِ التشريق، ورمي الجميع سواء عندهم فيما يلزم في كل واحد منها دم واحد، وما هو أكثر من نصف رمي يوم عندهم كرمي اليوم يلزم فيه دم، فلو رمى جمرة وثلاث حصيات من جمرة وترك الباقي فعليه دم؛ لأنه رمى عشر حصيات، وترك إحدى عشرة حصاة، فإن ترك أقل من نصف رمي يومٍ كأن ترك جمرة واحدة، فلا دم عليه، ولكن عليه الصدقة عندهم، فيلزمه لكل حصاة نصف صاع من بر، أو صاع من تمر، أو شعير إلا أن يبلغ ذلك دماً فينقص ما شاء هكذا يقولون، وليس لهم مستند من النقل، وغاية ما عندهم من الاستدلال: هو أن رمي اليوم الواحد نسك واحد، فمن ترك جمرة في يوم لم يترك نسكاً، وإنما ترك بعض نسك، والدم يلزم عند أبي حنيفة بفوات الرمي في يومه وليلته التي بعده، ولو رماه من الغد في أيام التشريق، وخالفه في ذلك صاحباه. [أضواء البيان، 5/ 304]. القول الثالث: مذهب الشافعي: أنه إن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم من أيام التشريق لزمه دم، وإن ترك ثلاث حصيات من جمرة فما فوقها لزمه دم؛ لأن ثلاث حصيات فما فوقها يقع عليها اسم الجمع، فصار تركها كترك الجمع، وإن ترك حصاة واحدة فثلاثة أقوال عندهم: يجب عليه ثلث دم، والقول الثاني مُدّ، والقول الثالث درهم، وحكم الحصاتين كذلك، قيل: يلزمه ثلثا دم، وقيل: مدان، وقيل: درهمان، فإن ترك الرمي في أيام التشريق كلها فعلى القول المشهور عندهم أنها كيوم واحد، واللازم دم واحد. وقولٍ للشافعية ثانٍ: وهو أن الجمرات الثلاث كلها كالشعرات الثلاث، فلا يكمل الدم في بعضها بل لا يلزم إلا بترك جميعها، بأن يترك رمي يوم، وعليه فإن ترك رمي جمرة من الجمار ففيه الأقوال الثلاثة المشهورة عندهم فيمن حلق شعرة أظهرها مُدّ، والثاني درهم، والثالث: ثلث دم، فإن ترك جمرتين فعلى هذا القياس: وهو لزوم مدين، أو درهمين، أو ثلثي دم، وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة، فعلى أن في الجمرة ثلث دم يلزمه في الحصاة جزء من واحد وعشرين جزءاً من دم، وعلى أن فيها مدّاً، أو درهماً، ففي الحصاة سبع مد، أو سبع درهم ... )) [أضواء البيان للشنقيطي، 5/ 305]. القول الرابع: وهو مذهب الإمام أحمد: أن من أخّر الرمي كله عن أيام التشريق فعليه دم، وعنه في ترك الجمرة الواحدة دم، ولا شيء عنده في الحصاة والحصاتين، وعنه يتصدق بشيء، وعنه أن في الحصاة الواحدة: دماً كقول مالك، وعنه أن في ثلاث حصيات دماً كأحد قولي الشافعي، وفيما دون ذلك كل حصاة كأحد الأقوال عند الشافعي، والعلم عند الله تعالى. [أضواء البيان للشنقيطي، 5/ 303 - 308، وقد ذكر أدلة كل فريق هناك] [وانظر: المغني لابن قدامة، 5/ 380]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: ((فاعلم أن دليلهم في إجماعهم على أن من ترك الرمي كله وجب عليه دم، هو ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه: ((من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً))، وهذا صح عن ابن عباس موقوفاً)). [أضواء البيان، 5/ 306]. ثم قال: أما اختلاف العلماء في لزوم الدم بترك جمرة أو رمي يوم، أو حصاة، أو حصاتين إلى آخر ما تقدم، فهو من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، فمالك مثلاً القائل بأن في الحصاة الواحدة دماً، يقول: الحصاة الواحدة داخلة في أثر ابن عباس المذكور، فمناط لزوم الدم محقق فيها؛ لأنها شيء من نسك، فيتناوله قوله: ((من نسي من نسكه شيئاً أو تركه ... )) إلى آخره؛ لأن لفظة: شيئاً: نكرة في سياق الشرط، فهي صيغة عموم. والذين قالوا: لا يلزم في الحصاة والحصاتين دم، قالوا: الحصاة والحصاتان لا يصدق عليهما نسك، بل هما جزء من نسك، وكذلك الذين قالوا: لا يلزم في الجمرة الواحدة دم، قالوا: رمي اليوم الواحد نسك واحد، فمن ترك جمرة واحدة في اليوم لم يترك نسكاً، وإنما ترك بعض نسك، وكذلك الذين قالوا: لا يلزم إلا بترك الجميع، قالوا: إن الجميع نسك واحد، والعلم عند الله تعالى. [أضواء البيان، 5/ 307 - 308]. المسألة الثامنة: استقبال القبلة في رمي الجمرة الصغرى فيجعلها بين يديه ويرميها بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة، ثم الوسطى كذلك، هذا هو الأفضل، وبعض الفقهاء يطلق فيقول: يستقبل القبلة أثناء رمي الجمرة الصغرى والوسطى، وبيَّن العلامة ابن عثمين رحمه الله أن في هذا صعوبة، ولكن الصحيح أنه يستقبل القبلة، ويجعل الجمرة الصغرى بين يديه، والوسطى كذلك. هذا هو الأفضل. أما العقبة فتقدم الكلام في صفة الرمي لها. [انظر: كتاب رمي الجمرات، وما يتعلق به من أحكام، للدكتور الشريف، ص 119، والمغني لابن قدامة، 5/ 326]. المسألة التاسعة: قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: ((اعلم: أن التحقيق في عدد الحصيات التي ترمى بها كل جمرة: سبع حصيات، وأحوط الأقوال في ذلك قول مالك وأصحابه، ومن وافقهم: أن من ترك حصاة واحدة كمن ترك رمي الجميع، وقال بعض أهل العلم: يجزئه الرمي بخمس أو بست)). [أضواء البيان، 5/ 310]. ومجموع الحصى سبعون حصاة: سبع ترمى بها جمرة العقبة يوم النحر، وثلاث وستون ترمى بها الجمرات الثلاث أيام التشريق الثلاثة في كل يوم إحدى وعشرين حصاة كل جمرة سبع، وقال ابن قدامة في المغني: والأولى أن لا ينقص في الرمي عن سبع حصيات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى بسبع حصيات، فإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس، ولا ينقص أكثر من ذلك، نصَّ عليه، وهو قول مجاهد، وإسحاق، وعنه: إذا رمى بستٍّ ناسياً فلا شيء عليه، ولا ينبغي أن يتعمَّده، فإن تعمَّد ذلك تصدق بشيء، وكان ابن عمر يقول: ما أبالي أرميت بسبعٍ أو ست، وقال ابن عباس: ما أدري رماها النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعٍ أو ست، وعن أحمد: أن عدد السبع شرط، ويشبه مذهب الشافعي، وأصحاب الرأي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى بسبع، وقال أبو حبَّة: لا بأس بما رمى به الرجل من الحصى، فقال عبد الله بن عمرو: صدق أبو حبّة، وكان أبو حبّة بدريّاً، ووجه الرواية الأولى ما روى ابن أبي نجيح، قال: سئل طاوُسٌ عن رجلٍ ترك حصاةً قال: يتصدق بتمرة أو لقمة، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إن أبا عبد الرحمن لم يسمع قول سعدٍ، قال سعد: رجعنا من الحجة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعضنا يقول: رميت بستٍّ، وبعضنا يقول: بسبعٍ، فلم يعب بعضنا على بعض، رواه الأثرم وغيره، ومتى أخلَّ بحصاةٍ واجبة من الأولى لم يصحّ رمي الثانية حتى يكمل الأولى، فإن لم يدرِ من أي الجمار تركه بنى على اليقين ... )) [المغني، 5/ 330]. قال العلامة الشنقيطي رحم

1 - يبدأ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات عن مكة

1 - يبدأ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات عن مكة وهي التي تلي مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يرفع يده بالرمي مع كل حصاة، ويكبِّر على إثر كل حصاة، ولا بد أن يقع الحصى في الحوض، فإن لم يقع في الحوض لم يجزِ. ثم يتقدم حتى يُسهل في مكان لا يصيبه الحصى فيه ولا يؤذي الناس، فيستقبل القبلة ويرفع يديه ويدعو طويلاً. 2 - يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة، ثم يأخذ ذات الشمال ويتقدَّم حتى يسهل ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً يدعو ويرفع يديه. 3 - ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات يكبِّر مع كل حصاة، ثم ينصرف ولا يقف عندها ولا يدعو؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصياتٍ يُكبِّر عى إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يُسهل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ولا

رابعا: إذا عجز المتمتع والقارن عن الهدي وجب عليه أن يصوم

يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله)) (¬1). ثم يرمي الجمرات في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال كما رماها في الأول تماماً. ويفعل عند الأولى والثانية كما فعل في اليوم الأول من أيام التشريق. وإذا لم يتعجَّل رمى في اليوم الثالث عشر كما رمى في الأول والثاني، ويعمل عند الأولى والثانية كما عمل في اليوم الأول والثاني. رابعاً: إذا عجز المتمتع والقارن عن الهدي وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله، وهو مخيَّر في صيام الثلاثة إن شاء صامها قبل يوم النحر، وإن شاء صامها في أيام التشريق الثلاثة، لحديث عائشة وابن عمر - رضي الله عنهم - قالا: ((لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي)) (¬2)، والأفضل أن يقدم صيام الأيام الثلاثة عن يوم عرفة؛ ليكون يوم عرفة مفطراً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم عرفة مفطراً، فعن ميمونة رضي الله عنها: ((أن الناس شكّوا في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة، فأرسلتُ إليه بحلابٍ (¬3) وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون)) (¬4)، وفي رواية: ((أن أمَّ الفضل أرسلت إليه بقدح لبنٍ ¬

(¬1) البخاري، كتاب الحج، باب إذا رمى الجمرتين يقوم مستقبل القبلة ويعمل، برقم 1751، وباب رفع اليدين عند جمرة الدنيا والوسطى، برقم 1752،وباب الدعاء عند الجمرتين، برقم 1753. (¬2) البخاري، كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق، برقم 1997، 1998. (¬3) الحِلاب: الإناء الذي يجعل فيه اللبن, وقيل هو اللبن المحلوب. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 1989، ومسلم، برقم 1124، وتقدم تخريجه في الوقوف بعرفة.

خامسا: من عجز عن الرمي

وهو واقف على بعيره فشربه)) (¬1). خامساً: من عجز عن الرمي كالكبير، والمريض، والصغير، والمرأة الحامل ونحوهم، جاز أن يُوكِّل من يرمي عنه؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2)، وهؤلاء لا يستطيعون مزاحمة الناس عند الجمرات، وزمن الرمي يفوت، ولا يشرع قضاؤه فجاز لهم أن يوكلوا بخلاف غيره من المناسك (¬3). أما الأقوياء من الرجال والنساء فلا يجوز لهم التوكيل في الرمي، ويجوز للوكيل أن يرمي عن نفسه ثم عن من وكَّله كل جمرة من الجمار الثلاث في موقفٍ واحدٍ، فيرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات عن نفسه، ثم بسبعٍ عن من وكَّله، وهكذا الثانية والثالثة. وهكذا الصبي يجوز أن يرمي عنه وليُّه على التفصيل السابق. وقد رُوِي عن جابر - رضي الله عنه - قوله: ((حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم)) (¬4)، والله أعلم (¬5). والصواب إن شاء الله تعالى أنه يشترط في الوكيل أن يكون حاجاً ذلك العام؛ لأنَّ الرمي بعض أعمال الحج، فلا يصح إلا مِنْ حاجٍّ؛ لأنه ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1988، ومسلم، برقم 1123، وتقدم تخريجه في الوقوف بعرفة. (¬2) سورة التغابن، الآية: 16. (¬3) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 16/ 146، 147، 17/ 300 - 308، 383. (¬4) أحمد في المسند، 3/ 314، وابن ماجه، في كتاب المناسك، باب الرمي عن الصبيان، برقم: 3038، وانظر: تلخيص الحبير، 2/ 270. (¬5) انظر في التوكيل في الرمي مجموع فتاوى ابن باز في الحج والعمرة، 5/ 155، و278، وأضواء البيان، 5/ 308، 309، والمنهج لمريد العمرة والحج، لابن عثيمين، ص 63، وفتاوى ابن تيمية، 26/ 245.

سادسا: من غربت عليه الشمس من اليوم الثاني عشر وهو لم يخرج من منى

لو رمى غير حاج فَرَمْيُهُ عَبَثٌ ولا ينفعه، وإذا لم يصحّ رميه عن نفسه فلا يصحّ عن غيره. ويشترط أيضاً أن يرمي الوكيل عن نفسه أولاً، ثم عن من وكَّله، كل جمرة من الجمار الثلاث في موقف واحد على الصحيح (¬1). سادساً: من غربت عليه الشمس من اليوم الثاني عشر وهو لم يخرج من منى؛ فإنه يلزمه التأخر ويبيت في منى، ويرمي الجمار الثلاث في اليوم الثالث عشر بعد الزوال؛ لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: ((من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفرنَّ حتى يرمي الجمار من الغد)) (¬2)، لكن لو غربت عليه الشمس بمنى في اليوم الثاني عشر بغير اختياره، مثل أن يكون قد ارتحل وركب، ولكن تأخر بسبب زحام السيارات فلا يلزمه التأخر على الصحيح (¬3) (¬4). ¬

(¬1) رمي الجمرات وما يتعلق به من أحكام، للدكتور شرف الشريف، ص 132، 135. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ، 1/ 407، والبيهقي، 5/ 152، وقال عبد القادر الأرنؤوط: ((إسناده صحيح)). انظر: جامع الأصول، 3/ 282. (¬3) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 16/ 150، 174، 17/ 370، 387. (¬4) وقال الشنقيطي رحمه الله في الأضواء، 5/ 312: ((والأظهر عندي أنه لو ارتحل من منى فغربت عليه الشمس، وهو سائر في منى لم يخرج منها: أنه يلزمه المبيت والرمي؛ لأنه يصدق عليه أنه غربت عليه الشمس في منى فلم يتعجل منها في يومين خلافاً للمشهور من مذهب الشافعي، القائل: بأنه يستمر في نفره، ولا يلزمه المبيت والرمي. والأظهر عندي أيضاً أنه لو غربت عليه الشمس وهو في شغل الارتحال أنه يبيت، ويرمي، خلافاً لمن قال يجوز له الخروج منها بعد الغروب؛ لأنها غربت وهو مشتغل بالرحيل، وهما وجهان مشهوران عند الشافعي والعلم عند الله تعالى)).

سابعا: بعد رمي الجمرات في اليوم الثاني عشر من أيام التشريق بعد الزوال إن شاء الحاج تعجل

سابعاً: بعد رمي الجمرات في اليوم الثاني عشر من أيام التشريق بعد الزوال، إن شاء الحاج تعجَّل وطاف طواف الوداع ثم ذهب إلى بلاده، وإن شاء تأخَّر فبات بمنى ليلة الثالث عشر، ورمى الجمار بعد الزوال في اليوم الثالث عشر، وهذا هو الأفضل؛ لقوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (¬1)؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ ورخَّص للناس بالتعجُّلِ، ولم يتعجَّل هو، بل بقي حتى رمى الجمرات الثلاث بعد الزوال من اليوم الثالث عشر، ثم نزل بالأبطح، وصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم نهض إلى مكة؛ ليطوف طواف الوداع (¬2). وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 203. (¬2) انظر: صحيح البخاري، كتاب الحج، باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح، من حديث أنس - رضي الله عنه -، برقم 1763، ورقم 1764.

§1/1